السبت، 20 مايو 2023

الإحسان إلى المحتاج ومعني الاحسان


 

 

المحسنين والإحسان إلى المحتاج من الالوكة

الحمد لله الكريم المنَّان، ذي العطاء والإحسان، خلَق الخلق ليَعبدوه، وأجزَل عليهم النِّعم ليَشكروه، وأنار قلوب المؤمنين بالقرآن، فسبحانه من إله عظيمٍ الشأن، وله الحمد على نعمة الإيمان والقرآن، ولا إله إلا هو الواحد الدَّيَّان، تعالى بمجَده وتقدَّس بكبريائه، وهو الكريم الرحمن، أمَّا بعدُ:

فإن السعادة هدف منشود، ومطلوب جميلٌ يَسعى إليه البشر جميعًا، بل كلُّ مخلوق يسعى لِما فيه راحته وأُنسه، وللسعادة أبواب ومفاتيح تُستجلَب بها، وهي كثيرة؛ فمنها: تقوى الله - عز وجل - ومُراقبته في السرِّ والعلانية، والقيام بما أوجَب الله تعالى من حقوقه وحقوق عباده، وهناك باب من أبواب السعادة وتحصيل الأُنس، يَغفُل عنه كثيرٌ، وهو سهَلُ المنال، قريب المأخذ، وعاقبته جميلة، وأثره سريعٌ، فما هو يا تُرى؟

إنه الإحسان إلى الناس، وتقديم الخدمة لهم بما يُستطاع، فالخلق عيالُ الله، وأحبُّ الخَلق إلى الله أنفعُهم لعياله، والإحسان إلى الخَلق من تمام الإحسان في عبادة الله؛ قال - سبحانه -: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ﴾ [المدثر: 42 - 44].

فسببُ دخولهم سقر، هو تَرْكهم الصلاة وتَرْكهم الإحسان إلى الخَلق بإطعام المسكين، وقد اقتضَت حكمة الله تعالى أن تنوَّعت أرزاق العباد واختَلَفت، والناس متفاوتون من حيث الغنى والفقر؛ ﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ﴾ [الزخرف: 32].

والمسلم إن اغتَنى شكَر، وإن افتقَر صبَر، وعَلِم أنَّ ذلك ابتلاء من الله تعالى له، وليس ذلك إلا للمؤمن، ومن رحمة الله تعالى بالفقراء أن جعَل لهم حقًّا ثابتًا واجبًا في أموال الأغنياء، وهو ما يُخرجونه من زكوات أموالهم، وقد رغَّب الشارع الحكيم في بَذْل المعروف والصَّدقة للمحتاجين، ووعَد على ذلك الأجْرَ الجزيل والعاقبة الحميدة.

عباد الله، إنَّ للفقر لوعته وللعَوز حُرقته، وكم هي مُرَّة تلك الآلام والحسرات التي يَشعر بها ذلك الفقير المُعدم، حين يرمي بطَرْفه صوبَ بيته المتواضع المملوء بالرعيَّة والعيال، وهم جِياع لا يَجدون ما يَسدُّ جَوْعتهم، ومَرضى لا يجدون مَن يعالجهم، كم من مَدين أرْهَق ظهَره ثِقَلُ الدَّيْن، وناء جسدُه عن تحمُّل هذا الهمِّ المُؤرِّق، كم من فقير ضاقَت به الدنيا وانسدَّت في وجهه أبواب الرزق، لولا بقيَّة باقية من الأمل والرجاء فيما عند الله.

إخوة الإيمان، هذه قصة واقعيَّة حكاها النبي - صلى الله عليه وسلم - قصة عظيمة إذا تأمَّلها المسلم وجدَ فيها عِبرة وفائدة كبيرة، حاصلُ هذه القصة أنَّ امرأة كانت عاصية بعيدة عن الله - سبحانه وتعالى - خرَجت ذات يوم، فبينما هي تسير في الطريق إذ رأتْ ذلك الكلب الذي اكتوَى بالظمأ والعطش، رأَت كلبًا معذَّبًا، قد أنهَكَه العطش والظمأ، وقد وقَف على بئر ذات ماءٍ، لا يَدري كيف يَشرب، يَلعق الثَّرى من شدَّة الظمأ، فلمَّا رأتْه تلك المرأة العاصية، أشفَقت عليه ورحمته، فنزَلت إلى البئر وملأَت خُفَّها من الماء، ثم سقَت ذلك الكلب، وأطفَأت ظمأَه وعطشَِه، فنظرَ الله إلى رحمتها بهذا المخلوق، فشكَر لها معروفها، فغفَر ذنوبها، بشربة ماء غُفِرت ذنوبها، وبشربة ماء سُتِرت عيوبها، وبشربة ماء رَضِي عنها ربُّها، إنها الرحمة التي أسكنَها الله القلوب، إنها الرحمة التي يَرحم الله بها الرُّحماء، ويفتح بها أبواب البركات والخيرات من السماء، بُعِث بها سيِّد الأوَّلين والآخرين؛ كما قال ربُّنا في كتابه المبين: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

هي شعار المسلمين ودِثار الأخيار والصالحين، وشأن الموفَّقين المُسدِّدين، كم فرَّج الله بها من هموم، وكم أزالَ الله بها من غموم، إنها الرحمة، إذا أسكنَها الله في قلبك فتَح بها أبواب الخير في وجهك، وسَدَّدك وألْهَمك، وأرْشَدك وكنتَ من المحسنين.

أخي المسلم، من شعائر الإسلام العظيمة إطعامُ الطعام، والإحسان إلى الأرامل والأيتام، والتوسيع عليهم؛ طلبًا لرحمة الله الملك العلاَّم؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، وكالقائم لا يَفتُر، وكالصائم لا يُفطِر))؛ أخرَجه البخاري ومسلم.

الذي يُطعم الأرملة، ويُدخل السرور عليها، ويرحم بُعْدَ زوجها عنها - إحسانًا وحنانًا - كالصائم الذي لا يُفطِر من صيامه، والقائم الذي لا يَفتُر من قيامه، فهنيئًا ثم هنيئًا لأمثال هؤلاء الرُّحماء.

أحوجُ الناس إلى رحمتك يا عبد الله الأيتامُ والمحاويج، فلعلَّك بالقليل من المال تُكَفْكِف دموعهم، وتَجبر كَسْر قلوبهم، فيكفَّ الله نارَ جنَّهم عنك يوم القيامة؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فليَتَّقِيَنَّ أحدُكم النار ولو بشقِّ تمرة))؛ البخاري.

وعن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((على كلِّ مسلم صدقة))، قال: أرأيت إن لَم يجد؟ قال: ((يَعمل بيديه، فينفع نفسه، ويتصدَّق))، قال: أرأيتَ إن لَم يستطع؟ قال: ((يُعين ذا الحاجة الملهوف))، قال: أرأيتَ إن لَم يستطع؟ قال: ((يأمُر بالمعروف أو الخير))، قال: أرأيتَ إن لَم يَفعل؟ قال: ((يُمسك عن الشرِّ؛ فإنها صدقة))؛ مُتفق عليه.

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من عبدٍ أنعَم الله عليه نعمةً، فأسبَغها عليه، ثم جعَل من حوائج الناس إليه، فتبرَّم، فقد عرَّض تلك النعمة للزوال))؛ رواه الطبراني وإسناده جيِّد.

وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن مشى في حاجة أخيه، كان خيرًا له من اعتكافه عشر سنين))؛ رواه الطبراني وإسناده جيِّد.

وعن أبي هريرة أن رجلاً شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه، فقال: ((امسَح رأس اليتيم، وأطعِم المسكين))؛ رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.

فيا مَن رام محبَّة الله ورحمته، ارحَم الضُّعفاء، وأحسِن إلى المحتاجين، ولا تَبخل بشيء من المعروف، ووجوه البر كثيرة؛ ففي الصحيحين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تَطلُع فيه الشمس، تَعدل بين الاثنين صدقة، وتُعين الرجل في دابَّته، فتَحمله عليها، أو تَرفع له عليها متاعه صدقة))، قال: ((والكلمة الطيِّبة صدقة، وكل خُطوة تَمشيها إلى الصلاة صدقة، وتُميط الأذى عن الطريق صدقة)).

اللهمَّ اجعَلنا من المحسنين لعبادك، المُخلصين لوجهك، اللهمَّ اجعَلنا من مفاتيح الخير، ومغاليق الشر، يا كريم يا رحمن.

الخطبة الثانية

أمَّا بعدُ:

فلا يَخلو مجتمع من فقراء ومحتاجين، وما أحوج كلَّ مجتمع إلى وجود أشخاص يتخصَّصون، أو جهات خيريَّة فعَّالة، تَرعى الفقراء والمساكين، وتَطرق أبوابهم؛ لتوصِّل إليهم صدقات المحسنين وأُعطيات الباذلين، وبحمد الله نرى في بلادنا العديد من الجمعيات والهيئات التي أبدَعت في هذا الموضوع، ورَعَت الأُسر والأيتام، وأمدَّتهم بما يحتاجون، وأوصَلت إليهم الفائض من الملابس والولائم والأطعمة في صورة مقبولة، بل وأعانَت الناس في إيصال زكواتهم وفطرتهم، وصَدقاتهم وأُضحيَّاتهم إلى المستحقين، ومع ذلك كله فلا غِنى لكلِّ مسلم عن القيام بواجبه نحو الفقراء والمحاويج.

يا أيها المسلم، هل تفقَّدت جيرانك، وتعاهَدت فقراء حَيِّك؟ ويا إمام المسجد، تفقَّد جماعة مسجدك، وليَكن لك دورٌ فعَّال في إطعام المحتاج، وسَدِّ عَوَز الفقير، ويا أيها الداعية، إن مدَّ يد العون إلى الفقير، وقضاء دَينه، وإشباع عياله - يؤثِّر في قلبه ما لا تؤثِّر الخُطَب الرنَّانة والمواعظ البليغة، ويا معشر المُعلِّمين، لا تَغفُلوا عن فقراء طلاَّبكم؛ إذ إنَّ الصغير لا يُطيق حرَّ الفقر، ويا معشر المسلمين، الصدقات والإحسان إلى المؤمنين والمؤمنات من أعظم الأمور، التي تُفرَّج بها الغموم والكُربات، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.

اللهمَّ أعنَّا على ذِكرك، اللهمَّ فرِّج همَّ المهمومين، ونفِّس كَرْبَ المكروبين، واقضِ الدَّين عن المَدينين، اللهمَّ اغفِر لنا ذنبنا كلَّه؛ دِقَّه وجِلَّه، علانيته وسرَّه، أوَّله وآخرَه.

اللهمَّ اغفِر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أنت أعلمُ به منَّا، أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت.

اللهمَّ وَفِّقنا ووَفِّق ولاتنا وعلماءَنا إلى ما تحبُّ وترضى.

اللهمَّ انصُر مَن قاتَل في سبيلك، اللهمَّ عليك بالكفرة الذين يعادون دينَك، ويقتلون أولياءَك، اللهم فرِّقهم شذَرَ مَذَر.

اللهمَّ أحْصِهم عددًا، واقتُلْهم بَدَدًا، ولا تُبقِ منهم أحدًا؛ فإنهم لا يُعجزونك، اللهمَّ سَلِّط عليهم من جندك، وأنْزِل بهم بأْسَك من حيث لا يَحتسبون، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

وصلَّى اللهمَّ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصَحْبه وسلَّم.

=============================

ما هو الاحسان

الإحسان

أولاً: من القرآن الكريم:

﴿ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 58].

﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195].

﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134].

﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 172].

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [النساء: 125].

﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 13].

﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 83 - 85].

﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 55 - 56].

﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [يونس: 24].

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [هود: 114 - 115].

﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90].

﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ﴾ [النحل: 30].

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].

﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المرسلات: 41 - 44].

ثانيًا من الحديث الشريف:

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِى... قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: ((الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ))؛ صحيح البخاري - (ج 16 / ص 12).

وفي رواية: قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الإِحْسَانُ؟" قَالَ: ((أَنْ تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لاَ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)). قَالَ: "صَدَقْتَ"؛ صحيح مسلم - (ج 1 / ص 122).

وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ))؛ صحيح مسلم - (ج 13 / ص 111).

وعن عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: جَاءَتْنِى امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا، فَسَأَلَتْنِي فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِى شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَأَخَذَتْهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ وَابْنَتَاهَا، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَىْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ))؛ صحيح مسلم - (ج 17 / ص 111).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلاَمَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا))؛ صحيح البخارى - (ج 1 / ص 83).

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((الْعَبْدُ إِذَا نَصَحَ سَيِّدَهُ، وَأَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ))؛ صحيح البخارى - (ج 9 / ص 276).

وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ؟". قَالَ: ((مَنْ أَحْسَنَ فِى الإِسْلاَمِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِى الإِسْلاَمِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ))؛ صحيح البخارى - (ج 23 / ص 18).

ثالثًا الشعر

قال المتنبي:

وَقَيَّدْتُ نَفْسِي فِي ذُرَاكَ مَحَبَّةً ♦♦♦ وَمَنْ وَجَدَ الْإِحْسَانَ قَيْدًا تَقَيَّدَا

قال خليل مطران:

يَا مُحْسِنُونَ جَزَاكُمُ الْمَوْلَى بِمَا

يَرْجُو عَلَى مَسْعَاكُمُ الْمَحْمُودِ

كَمْ رَدَّ فَضْلُكُمُ الْحَيَاةَ لِمَائِتٍ

جُوعًا وَكَمْ أَبْقَى عَلَى مَوْلُودِ

كَمْ يَسَّرَ النَّوْمَ الْهَنِيءَ لِسَاهِدٍ

شَاكٍ وَلَطَّفَ مِنْ أَسَى مَكْمُودِ

كَمْ صَانَ عِرْضًا طَاهِرًا مِنْ رِيبَةٍ

وَنَفَى أَذًى عَنْ عَاثِرٍ مَنْكُودِ

قال أبو الفتح البستي:

إِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ رُتْبَةَ الأَشْرَافِ

فَعَلَيْكَ بِالإِحْسَانِ وَالإِنْصَافِ

وَإِذَا اعْتَدَى خِلٌّ عَلَيْكَ فَخَلِّهِ

وَالدَّهْرَ فَهْوَ لَهُ مُكَافٍ كَافِ

قال المتنبي:

وَلَلتَّرْكُ لِلإِحْسَانِ خَيْرٌ لِمُحْسِنٍ ♦♦♦ إِذَا جَعَلَ الْإِحْسَانَ غَيْرَ رَبِيبِ

قال أحمد الكيواني:

مَنْ يَغْرِسِ الإِحْسَانَ يَجْنِ مَحَبَّةً

دُونَ الْمُسِيءِ الْمُبْعَدِ الْمَصْرُومِ

أَقِلِ الْعِثَارَ تُقَلْ وَلاَ تَحْسُدْ وَلاَ

تَحْقِدْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ بِالْمَعْصُومِ

قال الدميري:

إِذَا كُنْتَ فِي أَمْرٍ فَكُنْ فِيهِ مُحْسِنًا

فَعَمَّا قَلِيلٍ أَنْتَ مَاضٍ وَتَارِكُهْ

فَكَمْ دَحَتِ الأَيَّامُ أَرْبَابَ دَوْلَةٍ

وَقَدْ مَلكَتْ أَضْعَافَ مَا أَنْتَ مَالِكُهْ

قال سفيان بن عيينة:

أَبُنَيَّ إِنَّ الْبِرَّ شَيْءٌ هَيِّنُ ♦♦♦ وَجْهٌ طَلِيقٌ وَكَلاَمٌ لَيِّنُ

قال المتنبي:

وَأَحْسَنُ وَجْهٍ فِي الْوَرَى وَجْهُ مُحْسِنٍ

وَأَيْمَنُ كَفٍّ فِيهِمُ كَفُّ مُنْعِمِ

وَأَشْرَفُهُمْ مَنْ كَانَ أَشْرَفَ هِمَّةً

وَأَكْثَرَ إِقْدَامًا عَلَى كُلِّ مُعْظِمِ

قال إسحق بن إبراهيم الموصلي:

بَانِي الْعُلاَ وَالْمَجْدِ وَالإِحْسَانِ

وَالْفَضْلِ وَالْمَعْرُوفِ أَكْرَمُ بانِ

لَيْسَ الْبِنَاءُ مُشَيَّدًا لَكَ شِيدُهُ

مِثْلَ الْبِنَاءِ يُشَادُ بِالإِحْسَانِ

الْبِرُّ أَكْرَمُ مَا حَوَتْهُ حَقِيبَةٌ

وَالشُّكْرُ أَكْرَمُ مَا حَوَتْهُ يَدَانِ

وَإِذَا الْكَرِيمُ مَضَى وَوَلَّى عُمْرُهُ

كَفِلَ الثَّنَاءُ لَهُ بِعُمْرٍ ثَانِ

قال ابن زنجي:

لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الإِحْسَانِ مُحْقَرَةً ♦♦♦ أَحْسِنْ فَعَاقِبَةُ الإِحْسَانِ حُسْنَاهُ

قال خليل مطران:

مَنْ أَحَبَّ الإِحْسَانَ لَمْ يُرِهِ ♦♦♦ دَهْرُهُ غَيْرَ وَجْهِهِ الْحَسَنِ

قال أبو الفتح البستي:

زِيَادَةُ الْمَرْءِ فِي دُنْيَاهُ نُقْصَانُ

وَرِبْحُهُ غَيْرَ مَحْضِ الْخَيْرِ خُسْرَانُ

أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمُ

فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ

مَنْ جَادَ بِالْمَالِ مَالَ النَّاسُ قَاطِبَةً

إِلَيْهِ وَالْمَالُ لِلإِنْسَانِ فَتَّانُ

أَحْسِنْ إِذَا كَانَ إِمْكَانٌ وَمَقْدِرَةٌ

فَلَنْ يَدُومَ عَلَى الإِنْسَانِ إِمْكَانُ

حَيَّاكَ مَنْ لَمْ تَكُنْ تَرْجُو تَحِيَّتَهُ

لَوْلاَ الدَّرَاهِمُ مَا حَيَّاكَ إِنْسَانُ

=======================

الإحسان إلى الناس ونفعهم

إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلِل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بعد:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.

خَابَ الَّذِي سَارَ عَنْ دُنْيَاهُ مُرْتَحِلاً

وَلَيْسَ فِي كَفِّهِ مِنْ دِينِهِ طَرَفُ

لاَ خَيْرَ لِلْمَرْءِ إِلاَّ خَيْرَ آخِرَةٍ

يَبْقَى عَلَيْهِ فَذَاكَ العِزُّ وَالشَّرَفُ

إخوة الإيمان:

دعونا ننتقل نحن وإيَّاكم الآن بِعُقولنا ومشاعرنا إلى "طيبة" الطيِّبة زمنَ النبوَّة، بينما الصحابة جلوسٌ حول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صدر النهار، ينهلون من فيض خُلقه وعِلمه, قد سُعدوا، وحقَّ لهم ذلك، بينما هم على هذه الحال - وما أطيبها من حالٍ! - إذْ دخَل عليهم قومٌ من قبيلة مُضَر، حافيةٌ أقدامهم، قد لبسوا صوفًا مخرقًا، عباءة أحدِهم تستر بعض جسده، متقلِّدون سيوفهم، بِهم من الفقر وضيق الحال ما لا يَعلمه إلاَّ الله.

ساقَتْهم أقدامُهم إلى أكرمِ الخلق، وأرحمِ الناسِ بالناس، جاؤوا وقد أحسنوا المَجيء، وأفلحوا في الاختيار، كيف لا؟ وقد قصدوا من يلهج إلى مولاه، أن يرزقه حُبَّ المساكين، فلمَّا رآهم - صلوات ربِّي وسلامه عليه - تَمَعَّر وجهه، ثم دخل بيته، وخرج مضطرِبَ الحال، منشغل التفكير، مهمومًا مغمومًا، فأمر بلالاً، فأذَّن وأقام، فصلَّى، ثم خطب، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18] ((تصدَّق رجلٌ مِن ديناره، من درهمِه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تَمره - حتَّى قال: ولو بشقِّ تمرة))، يقول جريرٌ راوي الحديث: "فجاء رجلٌ من الأنصار بِصُرَّة كادت كَفُّهُ تعجز عنها، بل قد عجزت"، قال: "ثُمَّ تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيتُ وجه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتهلَّل كأنه مذهبة".

هنا انفرجت أساريرُ وجهِه - عليه الصَّلاة والسَّلام - وانزاح هَمُّه، وهو يرى أبناء أمَّتِه يشعرون بحاجة إخوانهم، ويهتمُّون لِهَمِّهم، ويرسمون في صورةٍ رائعة شعورَ الجسد الواحد والأمَّة الواحدة، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - بعد أن أتى الأنصاريُّ بالصرَّة التي أثقله حملُها قاعدةً مهمَّة في هذا الدِّين، تدلُّ على سُموِّه وعلوِّه، وعظمته ويُسرِه؛ قال: ((مَن سنَّ في الإسلام سُنَّة حسنةً فله أجرها وأَجْرُ من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووِزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء))؛ والقصة في "صحيح مسلم".

كم في هذا الكلام البليغ من الدَّعوة إلى التنافس في الخير، والتسابق في افتتاح مشروعاته النافعة! وهذا لا يَقتصر على الشؤونِ الدِّينيةِ فقط، بل يشمل الوسائل الدُّنيوية، ومن أمثلة ذلك ما فعله الخليفة الراشدُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مِن وَضْع ديوان الجُنْد، وبعض التراتيب الإداريَّة التي اقتضَتْها مصلحةُ الدولة آنذاك.

معشر الكرام:

ديننا جعل نفع الناس والإحسانَ إليهم عبادةً عظيمة؛ فالله سبحانه أمر بالإحسان في آياتٍ كثيرة، وأخبَر أنَّه يحبُّ المُحسنين، وأنَّه مع المُحسنين وأنه يَجزي المُحسن بالإحسان، وأنه يجزي المحسنين بالحُسنى وزيادة، وأنه لا يضيع أجر المُحسنين، ولا يضيع أجرَ من أحسن عملاً، وورد ذِكْرُ الإحسان في مواضِعَ كثيرةٍ من القرآن الكريم؛ تارة مقرونًا بالإيمان، وتارة مقرونًا بالتَّقوى أو بالعمَل الصَّالِح، كلُّ ذلك مما يدلُّ على فضل الإحسان وعظيم ثوابه عند الله تعالى.

والإحسان يكون إحسانًا إلى الغير، وهو بِمَعنى الإنعام عليه، والإحسان فيما بين العبد وبين ربِّه، وهو أعلى مراتب الدِّين، وقد فسَّره النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأن تعبد الله كأنَّك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ومعنى ذلك أنَّ العبد يعبد الله تعالى على استحضار قربِه منه، وأنه بين يديه كأنَّه يراه، وذلك يوجب الخشيةَ والخوف والتَّعظيم، ويوجب النُّصح في العبادة وتحسينها وإتمامها.

أيُّها المؤمنون:

ونفع الناس والسَّعي في كشف كروبِهم من صفات الأنبياء والرُّسل؛ فالكريم يوسف - عليه السَّلام - مع ما فعله إخوتُه، جهَّزهم بجهازهم، ولَم يبخسهم شيئًا منه، وموسى - عليه السَّلام - لَمَّا ورد ماء مدين وجد عليه أمَّة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتَيْن، رفع الحجر عن البئر، وسقى لهما، حتَّى رويت أغنامهما، وخديجة - رضي الله عنها - تقول في وصف نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "إنَّك لتَصِل الرَّحِم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقِّ".

إخوة الإيمان:

في شكوى الفقير ابتلاءٌ للغني، وفي انكسار الضعيف امتحانٌ للقوي، وفي توجُّع المريض حكمة للصحيح، ومن أجل هذه السُّنة الكونية جاءت السنة الشرعيَّة بالحثِّ على التعاون بين الناس، وقضاء حوائجهم، والسعي في تفريج كروبهم؛ قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "وقد دلَّ العقل والنقل والفطرة وتجاربُ الأمم - على اختلاف أجناسها ومِلَلها ونِحَلها - على أن التقرُّب إلى ربِّ العالَمين، والبِرَّ والإحسانَ إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكلِّ خير، وأنَّ أضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكلِّ شر، فما استُجْلبِت نِعَمُ الله، واستُدفعت نقمه بِمثل طاعته، والإحسان إلى خلقه"؛ اهـ.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشُّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له؛ تعظيمًا لِشَأنه، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا مزيدًا.

أما بعدُ:

فإنَّ خدمة الناس ومُسايرة المستضعفين دليلٌ على طيب المَنْبت، ونقاء الأصل، وصفاء القلب، وحُسن السَّريرة، وربُّنا يرحم مِن عبادِه الرُّحماء، والصَّادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى - صلَّى الله عليه وسلَّم - بيَّن لنا قاعدةً في الإحسان عظيمة بقوله: ((من نفَّس عن مؤمنٍ كربة من كُرَب الدنيا نفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على مُعسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدُّنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه))؛ رواه مسلم.

القاعدة واضحة، والأمر بَيِّن، فالجزاء من جنس العمل.

إخوة الإسلام:

أوَّل المستفيدين من الإحسان هم المُحسنون أنفسُهم، يَجْنون ثَمراتِه؛ عاجلاً في نفوسهم وأخلاقِهم وضمائرهم؛ فيجدون الانشراحَ والسَّكينة والطُّمأنينة.

إنَّ الإحسان كالمِسْك؛ يَنفع حامِلَه وبائعه ومشترِيَه، شَربة ماء مِن بغيٍّ لكلب عقور أثْمرَت دخول جنَّةٍ عرضها السَّماوات والأرض؛ لأنَّ صاحب الثواب غَفور شكورٌ، غنيٌّ حميد، جوَادٌ كريم، فلا تحتَقِرْ - أخي المُحسن - إحسانك وَجُودك وعطاءك، مهما قلَّ.

أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَأْسِرْ قُلُوبَهُمُ

فَطَالَمَا اسْتَأْسَرَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ

وَكُنْ عَلَى الدَّهْرِ مِعْوَانًا لِذِي أَمَلٍ

يَرْجُو نَدَاكَ فَإِنَّ الْحُرَّ مِعْوَانُ

وبعد، عبادَ الله، صلُّوا وسلِّموا.

======================

تعريف الإحسان

قال المصنف رحمه الله:

(المرتبة الثالثة: الإحسان، ركن واحد، وهو: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ).

الشرح الإجمالي:

(المرتبة الثالثة) من مراتب الدين: مرتبة (الإحسان)، والإحسان (ركن واحد)، أي: شيء واحد، ليس فيه تعدد، (وهو)، أي: الإحسان، له: درجتان، إحداهما أكمل من الأخرى، الأولى: درجة المشاهدة، وهي: (أن تعبد الله كأنك تراه)، والمعنى: أن تُقبل على عبادة الله جل وعلا؛ وحالك حال الذي يعبد الله جل وعلا، وهو يشاهد الله جل جلاله، وينظر إليه، وهذا هو المقام الأول، (فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، والمعنى: فإن لم تعبد الله جل وعلا كأنك تشاهده، فاعبده مستحضرًا أنه يراك في كل أعمالك، وأنه بصير عليم بجميع ما تفعله، وهذا هو المقام الثاني، وهو منزلة دون المنزلة الأولى، وهو استحضار العبد مراقبة الله عز وجل له واطلاعه عليه، وهذه درجة المراقبة[1].

الشرح التفصيلي:

لَمَّا فرغ المصنف رحمه الله تعالى من بيان المرتبة الثانية من مراتب الدين، وهي مرتبة الإيمان، بدأ هنا بذكر المرتبة الثالثة من مراتب الدين، وهي مرتبة الإحسان، فقال: (المرتبة الثالثة: الإحسان)، والمصنف قدَّم مرتبتي الإسلام والإيمان، وأخَّر مرتبة الإحسان؛ لأنها أضيق المراتب الثلاث، وأصحابها هم الخُلَّص من عباد الله الصالحين، فالإحسان أعلى المراتب وأعمها من جهة نفسها، وأخصها من جهة أصحابها، كما أن الإيمان: أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه، ولهذا يقال: كل محسن مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا محسنًا، وإذا أُطلق الإحسان فإنه يدخل فيه الإيمان والإسلام، فإن الإسلام والإيمان والإحسان دوائرُ، أوسعها دائرة الإسلام، ثم يليها دائرة الإيمان، ثم أضيقها دائرة الإحسان [2]، فالإسلام يتعلق بالأعمال الظاهرة، والإيمان يتعلق بالأعمال الباطنة، والإحسان يتعلق بطريقة فعل الأعمال الظاهرة والباطنة [3].

والإحسان في اللغة له معنيان:

الأول: إيصال النفع للغير.

والثاني: الإتقان وإجادة الشيء[4].

والإحسان الذي أَمر الله به عباده في كتابه نوعان:

أولهما: الإحسان إلى الخلق بأنواع الإحسان، قال تعالى: ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ [النساء: 36].

والثاني: الإحسان مع الخالق بإيقاع العمل على أكمل وجوهه في الظاهر والباطن؛ بحيث يكون قائمًا به في الباطن والظاهر على أكمل الوجوه، وحقيقته شرعًا: إتقان الاعتقادات الباطنة، والأعمال الظاهرة على مقام المشاهدة أو المراقبة، وهذا هو المعنى المقصود إذا قُرن الإحسان بالإسلام والإيمان، وهو المراد في كلام المصنف هنا [5].

ويتلخص مما سبق ذكره من مراتب الدين الثلاث: أن كل واحد منها إذا أُطلق دلَّ على الآخرين، وإذا اجتمعا استقل كل لفظ بمعناه، فمع الافتراق يكون كل واحد منهما دال على الدين كله، ومع الاقتران يكون الإيمان للاعتقادات الباطنة، والإسلام للأعمال الظاهرة، والإحسان لإتقانهما [6].

قال المصنف: (الإحسان ركن واحد)، ولم يذكر له أركانًا كما ذكر للإسلام والإيمان، وقوله: (الإحسان ركن واحد)، يقصد به أن الإحسان شيء واحد، حقيقته مفردة غير مركبة[7]، كما نص عليه ابن قاسم في حاشيته[8]، وهذا التفسير هو المتعين لتوجيه كلام المصنف؛ لأن حقيقة الركنية لا تصدق عليه، فإن الركن يتعدد ولا يكون منفردًا، والمنفرد هو الشيء نفسه[9]، فالركن لا يكون إلا متعددًا اثنان فأكثر، أما إذا كان واحدًا فهو الشيء نفسه، فإذا ذُكر الركن شيء واحد، فيكون المراد إثبات حقيقته [10].

وأركان الإحسان اثنان:

الأول: أن تعبد الله.

والثاني: أن يكون إيقاع تلك العبادة على مقام المشاهدة أو المراقبة [11].

فالإحسان الذي هو مرتبة من المراتب، هو أن تعبد الله، ويكون إيقاع تلك العبادة على مقام المشاهدة أو المراقبة، وهذا المقام، أي: مقام المراقبة ركن واحد، يعني شيئًا واحدًا، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فمرتبة الإحسان تعظُم بعِظَمِ مراقبة الله جل وعلا، وتَضعُفُ بضَعف مراقبته [12].

قال المصنف: (وهو: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، والمصنف فسَّر الإحسان بما فسره به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، لَما سأله جبريل بحضرة الصحابة، فأجابه عليه الصلاة والسلام بقوله: (الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وهو الإحسان بين العبد وربه، ومعنى قوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، أي: أن تكون عابدًا لله على النحو الذي أمر اللهُ جل وعلا به، وأمر به رسولُه صلى الله عليه وسلم وحالتك أثناء تلك العبادة التي تكون فيها مخلصًا موافقًا للسنة، أن تكون وكأنك ترى الله جل وعلا، فإن لم تكن تراه، فلتعلم أن الله جل وعلا مطلع عليك، عالم بحالك يرى ويبصر ما تعمل، يعلم ظاهر عملك وخفيه، يعلم خلجات صدرك، ويعلم تحركات أركانك وجوارحك [13].

فالإحسان على مرتبتين، واحدة أعلى من الأخرى:

الأولى: مرتبة المشاهدة أو المعاينة: (أن تعبد الله كأنَّك تراه)؛ بأن يبلغ يقين العبد وإيمانه بالله؛ كأنه يُشاهد الله جل جلاله عيانًا؛ لكمال اليقين وكمال الإخلاص، فيعبد ربه عبادة المشاهد للمشهود، بحيث لو كُشفت الحجب لم يزدد عما هو عليه [14]، ومن بلغ هذه المرتبة فقد بلغ غاية الإحسان، فيعبد الله كأنه يراه، والله جل وعلا لا يُرى في الدنيا، وإنما يُرى في الآخرة، ولكن يراه بقلبه؛ حتى كأنه يراه بعينيه، ولذا يُجازى أهل الإحسان بالآخرة بأن يروه سبحانه وتعالى، فلمَّا عبدوه وكأنهم يرونه في الدنيا، جازاهم بأن يروه بأبصارهم في دار النعيم، قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، والزيادة هي: النظر لوجه الله جل وعلا، فلما أحسنوا في الدنيا أعطاهم الله الحسنى، وهي الجنة، وزادهم رؤية الله عز وجل.

الثانية: مرتبة المراقبة: (فإنْ لم تكن تراه، فإنه يراك)، يعني: إذا لم يتحقق شهوده بقلبه، فليعبده عبادة من يعلم أنه مطلع عليه، فالعبد لا يرى ربه، ولكن الله يراه، فينبغي للعبد استحضار مراقبة الله جل وعلا له واطلاعه عليه[15]، فيعبد الله جل وعلا على مقام الإحساس بمراقبة الله للعبد بأن يعلم أن الله يراه، ويعلم حاله، وما تخفيه نفسه، واطلاع الله جل وعلا ورؤيته وعلمه لا يقتصر على حال الإنسان الظاهرة، بل يشمل الظاهر والباطن، فلا يليق بالعبد أن يعصيه، وأن يخالف أمره، وهو يراه ويطلع عليه، وهذا إحسان في العمل على سبيل المراقبة والخوف والرجاء[16]، ولهذا فإن العبد حينما يقترف بعضَ المعاصي، فإنه يبعد عن مرتبة الإحسان، وبعض العلماء يُسمي هذه المرتبة بمقام الإخلاص؛ لأن العبد إذا استحضر في عمله مشاهدة الله إياه، واطلاعه عليه، فإن ذلك يمنعه من الالتفات إلى غير الله وإرادته بالعمل[17]، فيعبد الله لا يبتغي إلا هو سبحانه وتعالى[18].

ومقام المراقبة أقل من مقام المشاهدة، ومقام المشاهدة أعظم المراتب التي يصير إليها العبد المؤمن، وهو أن تكون الأشياء عنده حقَّ اليقين، فإنه إذ انكشفت الحقيقة للقلب، وبلغ العبد في مقام المعرفة إلى حد كأنه يطالع ما اتصف به الرب سبحانه من صفات الكمال ونعوت الجلال، وأحست الروح بالقرب الخاص الذي ليس كقرب المحسوس من المحسوس، حتى يشاهد رفع الحجاب بين روحه وقلبه، وبين ربه، أفضى القلب والروح حينئذ إلى الرب فصار يعبده كأنه يراه [19]، وهذه المشاهدة المقصود بها مشاهدة الصفات لا مشاهدة الذات؛ لأن من الضُّلال من جعل ذلك مدخلًا لمشاهدة الذات كما يزعمون، وهذا من أعظم الباطل والبهتان، وإنما يمكن مشاهدة الصفات، ويُعْنَى بها مشاهدة آثار صفات الله جل وعلا في خلقه[20].

وكلما عظُم مقامُ المشاهدة أو المراقبة، زاد إحسان العمل؛ لأنه إذا راقب ربه، بأن عَلِمَ أن الله جل وعلا مطلعٌ عليه، كأنه يرى الله جل وعلا، فإن هذا يدعوه إلى إحسان العمل، وأن يجعل عمله أحسن ما يكون، وأن يجعل حاله في إقبال قلبه، وإنابته، وخضوعه، وخشوعه، ومراقبته لأحوال قلبه، وتصرُّفات نفسه، يجعل ذلك أكمل ما يكون لحسنه وبهائه؛ لأنه يعلم أن الله جل وعلا مطلع عليه، فيبعث هذا على أمرين:

الأول: الإخلاص لله عز وجل بعبادته، فلا يعبده رياءً ولا سمعة ولا مدحًا، وهو يعتقد أن الله يراه.

والثاني: أن يتقن العبادة ويحسن أداءها، فيصلي صلاة من يشاهده ربه، وهو يرى ربه [21].

وإحسان العمل يتفاوت فيه الناس، ومنه قدر مجزئ يصح معه أن يكون العمل حسنًا، وأن يكون فاعله محسنًا، فكل مسلم عنده قدر من الإحسان لا يصح عمله بدونه، ثم هناك القدر المستحب الآخر الذي يتفاوت الناس فيه بحسب الحال الذي يتحقق به هذه المرتبة.

والقدر المجزئ: أن يكون العمل حسنًا، بمعنى: أن يكون خالصًا صوابًا.

وأما القدر المستحب، فهو أن يكون قائمًا في عمله على مقام المراقبة، أو مقام المشاهدة[22].

[1] ينظر: حاشية ثلاثة الأصول، عبدالرحمن بن قاسم (66).

[2] حاشية ثلاثة الأصول، عبدالرحمن بن قاسم (65).

[3] شرح ثلاثة الأصول، د. عبدالعزيز الريس (88).

[4] ينظر: الصحاح، للجوهري (2 /1543)، ومفردات ألفاظ القرآن، للراغب (236)، وتعليقات على ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالله العصيمي (41).

[5] ينظر: تعليقات على ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالله العصيمي (41).

[6] المصدر السابق.

[7] بلوغ المأمول بشرح الثلاثة الأصول، عصام بن أحمد مامي (291).

[8] حاشية ثلاثة الأصول، عبدالرحمن بن قاسم (66).

[9] ينظر: تعليقات على ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالله العصيمي (41).

[10] التعليقات على القول السديد فيما يجب لله تعالى على العبيد، للشيخ صالح بن عبدالله العصيمي (26).

[11] الشرح الصوتي: (تعليقات على ثلاثة الأصول)، صالح بن عبدالله العصيمي، برنامج مهمات العلم السابع بالمسجد النبوي 1437هـ.

[12] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (168).

[13] المصدر السابق.

[14] بلوغ المأمول بشرح الثلاثة الأصول، عصام بن أحمد مامي (293).

[15] شرح الأصول الثلاثة، عبدالرحمن بن ناصر البراك (33).

[16] بلوغ المأمول بشرح الثلاثة الأصول، عصام بن أحمد مامي (293).

[17] جامع العلوم والحكم، لابن رجب (1 /129)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، الناشر: دار الرسالة، ط. الثالثة: 1412هـــ.

[18] شرح ثلاثة الأصول، د. عبدالعزيز الريس (88).

[19] حاشية ثلاثة الأصول، عبدالرحمن بن قاسم (66).

[20] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (180).

[21] شرح ثلاثة الأصول، صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ (168).

[22] المصدر السابق (179). 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق