الاثنين، 27 نوفمبر 2023

ج19. البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

ج19. البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

الشَّامُ، فَأَقَرَّهُ عَلِيٌّ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمْسَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ قِتَالٍ الْآخَرِ، وَبَعَثَ الْجُيُوشَ إِلَى بِلَادِهِ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى مَكَّةَ، وَتَرَكَ الْعَمَلَ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ السِّيَرَ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عَامِلًا عَلَى الْبَصْرَةِ حَتَّى صَالَحَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ، وَأَنَّهُ كَانَ شَاهِدًا لِلصُّلْحِ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ سَبَبَ خُرُوجِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الْبَصْرَةِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ كَلَّمَ أَبَا الْأَسْوَدِ الدُّئَلِيَّ - وَكَانَ قَاضِيًا عَلَيْهَا - بِكَلَامٍ فِيهِ غَضٌّ مِنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، فَكَتَبَ أَبُو الْأَسْوَدِ إِلَى عَلِيٍّ يَشْكُو إِلَيْهِ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَيَنَالُ مَنْ عِرْضِهِ ; بِأَنَّهُ تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَبَعَثَ عَلِيٌّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَعَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ، وَحَرَّرَ عَلَيْهِ الْقَضِيَّةَ، فَغَضِبَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى عَلِيٍّ أَنِ ابْعَثْ إِلَى عَمَلِكَ مَنْ أَحْبَبْتَ فَإِنِّي ظَاعِنٌ عَنْهُ،

وَالسَّلَامُ. ثُمَّ سَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى مَكَّةَ مَعَ أَخْوَالِهِ بَنِي هِلَالٍ، وَتَبِعَتْهُمْ قَيْسٌ كُلُّهَا، وَقَدْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِمَّا كَانَ اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الْعِمَالَةِ وَالْفَيْءِ، وَلَمَّا سَارَ تَبِعَتْهُ أَقْوَامٌ أُخَرُ، فَلَحِقَهُمْ بَنُو تَمِيمٍ وَأَرَادُوا رَدَّهُمْ وَمَنْعَهُمْ مِنَ الْمَسِيرِ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ بَعْضُ قِتَالٍ، ثُمَّ تَحَاجَزُوا، وَدَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَكَّةَ.

ذِكْرُ مَقْتَلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ وَفِي فَضْلِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ
كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَدِ انْتَقَضَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ، وَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ، وَخَالَفَهُ جَيْشُهُ مَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ، وَنَكَلُوا عَنِ الْقِيَامِ مَعَهُ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ أَهْلِ الشَّامِ وَصَالُوا وَجَالُوا يَمِينًا وَشِمَالًا زَاعِمِينَ أَنَّ الْأَمْرَ لِمُعَاوِيَةَ ; بِمُقْتَضَى حُكْمِ الْحَكَمَيْنِ فِي خَلْعِهِمَا عَلِيًّا وَتَوْلِيَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مُعَاوِيَةَ عِنْدَ خُلُوِّ الْإِمْرَةِ عَنْ أَحَدٍ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الشَّامِ بَعْدَ التَّحْكِيمِ يُسَمُّونَ مُعَاوِيَةَ الْأَمِيرَ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ أَهْلُ الشَّامِ قُوَّةً ضَعُفَ جَأْشُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَوَهَنُوا، هَذَا وَأَمِيرُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَهُوَ أَعْبَدُهُمْ وَأَزْهَدُهُمْ، وَأَعْلَمُهُمْ وَأَخْشَاهُمْ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ خَذَلُوهُ وَتَخَلَّوْا

عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ يُعْطِيهِمُ الْعَطَاءَ الْكَثِيرَ وَالْمَالَ الْجَزِيلَ، فَلَا زَالَ هَذَا دَأْبَهُمْ مَعَهُ حَتَّى كَرِهَ الْحَيَاةَ وَتَمَنَّى الْمَوْتَ ; وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْفِتَنِ وَظُهُورِ الْمِحَنِ، فَكَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: مَاذَا يَحْبِسُ أَشْقَاهَا - أَيْ مَا يَنْتَظِرُ - مَا لَهُ لَا يَقْتُلُ ؟ ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَتُخَضَّبَنَّ هَذِهِ - وَيُشِيرُ إِلَى لِحْيَتِهِ - مِنْ هَذِهِ. وَيُشِيرُ إِلَى هَامَتِهِ. كَمَا قَالَ: الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيِّ، ثَنَا أَبُو الْجَوَّابِ الْأَحْوَصُ بْنُ جَوَّابٍ، ثَنَا عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَتُخَضَّبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ - لِلِحْيَتِهِ مِنْ رَأْسِهِ - فَمَا يَحْبِسُ أَشْقَاهَا ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبُعٍ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَنَّ رَجُلَا فَعَلَ ذَلِكَ لَأَبَرْنَا عِتْرَتَهُ. فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَنْ يُقْتَلَ بِي غَيْرُ قَاتِلِي. فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا تَسْتَخْلِفُ ؟ فَقَالَ: لَا وَلَكِنِّي أَتْرُكُكُمْ كَمَا تَرَكَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: فَمَا تَقُولُ لِرَبِّكَ إِذَا لَقِيتَهُ وَقَدْ تَرَكْتَنَا هَمَلًا ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ اسْتَخْلَفْتَنِي فِيهِمْ مَا بَدَا لَكَ، ثُمَّ قَبَضْتَنِي وَتَرَكْتُكَ فِيهِمْ، فَإِنْ شِئْتَ أَصْلَحْتَهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَفْسَدْتَهُمْ. فِيهِ ضَعْفٌ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ.

طَرِيقٌ أُخْرَى قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ ": ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: جَاءَ رَأْسُ الْخَوَارِجِ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ. فَقَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، وَلَكِنْ مَقْتُولٌ مِنْ ضَرْبَةٍ عَلَى هَذِهِ تُخَضِّبُ هَذِهِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَتِهِ - عَهْدٌ مَعْهُودٌ، وَقَضَاءٌ مَقْضِيٌّ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ " ؟ قُلْتُ: عَاقِرُ النَّاقَةِ. قَالَ: " صَدَقْتَ، فَمَنْ أَشْقَى الْآخِرِينَ ؟ " قُلْتُ: لَا عِلْمَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " الَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذِهِ ". وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى يَافُوخِهِ. قَالَ: فَكَانَ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنَّهُ قَدِ انْبَعَثَ أَشْقَاكُمْ فَيُخَضِّبُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ. يَعْنِي لِحْيَتَهُ مِنْ دَمِ رَأْسِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبُعٍ قَالَ:

سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: لَتُخَضَّبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ فَمَا يَنْتَظِرُ بِي الْأَشْقَى ؟ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرْنَا بِهِ نُبِيرُ عِتْرَتَهُ. قَالَ: إِذًا تَاللَّهِ تَقْتُلُونَ بِي غَيْرَ قَاتِلِي ! قَالُوا: فَاسْتَخْلِفْ عَلَيْنَا. قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَتْرُكُكُمْ إِلَى مَا تَرَكَكُمْ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: فَمَا تَقُولُ لِرَبِّكَ إِذَا أَتَيْتَهُ ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ تَرَكْتَنِي فِيهِمْ مَا بَدَا لَكَ، ثُمَّ قَبَضْتَنِي إِلَيْكَ وَأَنْتَ فِيهِمْ، فَإِنْ شِئْتَ أَصْلَحْتَهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَفْسَدْتَهُمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبُعٍ قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ فَقَالَ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَتُخَضَّبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ. قَالَ: فَقَالَ النَّاسُ: فَأَعْلِمْنَا مَنْ هُوَ، وَاللَّهِ لَنُبِيدَنَّهُ أَوْ لَنُبِيدَنَّ عِتْرَتَهُ. قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَنْ يُقْتَلَ غَيْرُ قَاتِلِي. قَالُوا: إِنْ كُنْتَ قَدْ عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاسْتَخْلِفْ إِذًا. قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَكِلُكُمْ إِلَى مَا وَكَلَكُمْ إِلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، ثَنَا مُحَمَّدٌ - يَعْنِي ابْنَ رَاشِدٍ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ

بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ فَضَالَةَ بْنَ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ - وَكَانَ أَبُو فَضَالَةَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ - قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي عَائِدًا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ مَرَضٍ أَصَابَهُ ثَقُلَ مِنْهُ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَبِي: مَا يُقِيمُكَ بِمَنْزِلِكَ هَذَا ؟ لَوْ أَصَابَكَ أَجَلُكَ لَمْ يَلِكَ إِلَّا أَعْرَابُ جُهَيْنَةَ، تُحْمَلُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَإِنْ أَصَابَكَ أَجَلُكَ وَلِيَكَ أَصْحَابُكَ وَصَلَّوْا عَلَيْكَ. فَقَالَ عَلِيٌّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ إِلَيَّ أَلَّا أَمُوتَ حَتَّى أُؤَمَّرَ ثُمَّ تُخْضَبَ هَذِهِ - يَعْنِي لِحْيَتَهُ - مِنْ دَمِ هَذِهِ. يَعْنِي هَامَتَهُ، قَالَ: فَقُتِلَ وَقُتِلَ أَبُو فَضَالَةَ مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ صِفِّينَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ " عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُكْرَمٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ بِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ: قَالَ: الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبَانٍ الْقُرَشِيُّ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، ثَنَا كُوفِيٌّ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَعْيَنَ. عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَقَدْ وَضَعْتُ رِجْلِي فِي غَرْزِ الرِّكَابِ: لَا تَأْتِ الْعِرَاقَ ; فَإِنَّكَ إِنْ أَتَيْتَهَا أَصَابَكَ بِهَا ذُبَابُ السَّيْفِ. قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ قَالَهَا، وَلَقَدْ قَالَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِي قَبْلَهُ. قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: فَقُلْتُ: تَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ رَجُلًا مُحَارِبًا يُحَدِّثُ بِهَذَا غَيْرَكَ. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِهَذَا

الْإِسْنَادِ، وَلَا نَعْلَمُ رَوَاهُ إِلَّا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي حَرْبٍ، وَلَا رَوَاهُ عَنْهُ إِلَّا ابْنُ عُيَيْنَةَ. هَكَذَا قَالَ، وَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ الطُّرُقِ الْمُتَعَدِّدَةِ خِلَافَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ طَرَفًا مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ: وَقَدْ رُوِّينَا فِي كِتَابِ " السُّنَنِ " بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ فِي إِخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ الْقَاسِمِ الْبَصْرِيُّ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَادَرَائِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ الْوَرَّاقُ، ثَنَا نَاصِحٌ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَلِّمِيُّ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: " مَنْ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ ؟ " قَالَ: عَاقِرُ النَّاقَةِ. قَالَ: " فَمَنْ أَشْقَى الْآخِرِينَ ؟ " قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " قَاتِلُكَ ".
حَدِيثٌ آخَرُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ: رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سِياهٍ، كِلَاهُمَا عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ الْحِمَّانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ " إِنَّ الْأُمَّةَ سَتَغْدِرُ بِكَ بَعْدِي ". قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَعْلَبَةُ بْنُ يَزِيدَ الْحِمَّانِيُّ فِي

حَدِيثِهِ نَظَرٌ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِّينَاهُ بِإِسْنَادٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا ; أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذَبَارِيُّ، أَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ شَوْذَبٍ الْوَاسِطِيُّ بِهَا، ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبَ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْأَزْدِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِنَّ مِمَّا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْأُمَّةَ سَتَغْدِرُ بِكَ بَعْدِي ". قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَإِنْ صَحَّ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فِي خُرُوجِ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ فِي إِمَارَتِهِ ثُمَّ فِي قَتْلِهِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ الْأَقْمَرِ قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَقَالَ: نُبِّئْتُ أَنْ بُسْرًا قَدْ طَلَعَ الْيَمَنَ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَحْسَبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ سَيَظْهَرُونَ عَلَيْكُمْ، وَمَا يَظْهَرُونَ عَلَيْكُمْ إِلَّا بِعِصْيَانِكُمْ إِمَامَكُمْ وَطَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ، وَخِيَانَتِكُمْ وَأَمَانَتِهِمْ، وَإِفْسَادِكُمْ

فِي أَرْضِكُمْ وَإِصْلَاحِهِمْ فِي أَرْضِهِمْ، قَدْ بَعَثْتُ فُلَانًا فَخَانَ وَغَدَرَ، وَبَعَثْتُ فُلَانًا فَخَانَ وَغَدَرَ وَبَعَثَ الْمَالَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، لَوِ ائْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَدَحٍ لَأَخَذَ عِلَاقَتَهُ، اللَّهُمَّ سَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي وَكَرِهْتُهُمْ وَكَرِهُونِي، اللَّهُمَّ فَأَرِحْهُمْ مِنِّي وَأَرِحْنِي مِنْهُمْ. قَالَ: فَمَا صَلَّى الْجُمُعَةَ الْأُخْرَى حَتَّى قُتِلَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.

صِفَةُ مَقْتَلِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ وَالسِّيَرِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، أَنَّ ثَلَاثَةً مِنِ الْخَوَارِجِ ; وَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مُلْجَمٍ الْحِمْيَرِيُّ ثُمَّ الْكِنْدِيُّ حَلِيفُ بَنِي جَبَلَةَ مِنْ كِنْدَةَ، الْمِصْرِيُّ، وَكَانَ أَسْمَرَ حَسَنَ الْوَجْهِ أَبْلَجَ، شَعْرُهُ مَعَ شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ، وَفِي جَبْهَتِهِ أَثَرُ السُّجُودِ. وَالْبُرَكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ. وَعَمْرُو بْنُ بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ أَيْضًا، اجْتَمَعُوا فَتَذَاكَرُوا قَتْلَ عَلِيٍّ إِخْوَانَهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: مَاذَا نَصْنَعُ بِالْبَقَاءِ بَعْدَهُمْ ؟! كَانُوا مِنْ خَيْرِ النَّاسِ وَأَكْثَرَهُمْ صَلَاةً، وَكَانُوا دُعَاةَ النَّاسِ إِلَى رَبِّهِمْ، لَا يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، فَلَوْ شَرَيْنَا أَنْفُسَنَا فَأَتَيْنَا أَئِمَّةَ الضَّلَالَةِ فَقَتَلْنَاهُمْ فَأَرَحْنَا مِنْهُمُ الْبِلَادَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ثَأْرَ إِخْوَانِنَا. فَقَالَ ابْنُ مُلْجَمٍ أَنَا أَكْفِيكُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي

طَالِبٍ. وَقَالَ الْبُرَكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَا أَكْفِيكُمْ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ بَكْرٍ: أَنَا أَكْفِيكُمْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَتَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا أَنْ لَا يَنْكِصَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَنْ صَاحِبِهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ أَوْ يَمُوتَ دُونَهُ، فَأَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ فَسَمُّوهَا، وَاتَّعَدُوا لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ أَنْ يُبَيِّتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ فِي بَلَدِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. فَأَمَّا ابْنُ مُلْجَمٍ فَسَارَ إِلَى الْكُوفَةِ فَدَخَلَهَا، وَكَتَمَ أَمْرَهُ حَتَّى عَنْ أَصْحَابِهِ مِنَ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ هُمْ بِهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي تَيْمِ الرَّبَابِ وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ قَتْلَاهُمْ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ إِذْ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهَا: قَطَامِ بِنْتُ الشِّجْنَةِ. قَدْ قَتَلَ عَلِيٌّ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ أَبَاهَا وَأَخَاهَا، وَكَانَتْ فَائِقَةَ الْجَمَالِ مَشْهُورَةً بِهِ، وَكَانَتْ قَدِ انْقَطَعَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ تَتَعَبَّدُ فِيهِ، فَلَمَّا رَآهَا ابْنُ مُلْجَمٍ سَلَبَتْ عَقْلَهُ، وَنَسِيَ حَاجَتَهُ الَّتِي جَاءَ لَهَا، وَخَطَبَهَا إِلَى نَفْسِهَا، فَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَخَادِمًا وَقَيْنَةً، وَأَنْ يَقْتُلَ لَهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فَهُوَ لَكِ، وَوَاللَّهِ مَا جَاءَ بِي إِلَى هَذِهِ الْبَلْدَةِ إِلَّا قَتْلُ عَلِيٍّ. فَتَزَوَّجَهَا وَدَخَلَ بِهَا، ثُمَّ شَرَعَتْ تُحَرِّضُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَنَدَبَتْ لَهُ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهَا مِنْ تَيْمِ الرَّبَابِ يُقَالُ لَهُ: وَرْدَانُ. لِيَكُونَ مَعَهُ رِدْءًا، وَاسْتَمَالَ ابْنُ مُلْجَمٍ رَجُلًا آخَرَ يُقَالُ لَهُ: شَبِيبُ بْنُ بَجَرَةَ الْأَشْجَعِيُّ الْحَرُورِيُّ. قَالَ لَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ هَلْ لَكَ فِي شَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: قَتْلُ عَلِيٍّ. فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ! لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِدًّا، كَيْفَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ: أَكْمُنُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا خَرَجَ لِصَلَاةِ الْغَدَاةِ شَدَدْنَا عَلَيْهِ فَقَتَلْنَاهُ، فَإِنْ نَجَوْنَا شَفَيْنَا أَنْفُسَنَا وَأَدْرَكْنَا ثَأْرَنَا، وَإِنْ قُتِلْنَا فَمَا

عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا. فَقَالَ: وَيْحَكَ لَوْ غَيْرَ عَلِيٍّ لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ، قَدْ عَرَفْتُ سَابِقَتَهُ فِي الْإِسْلَامِ وَقَرَابَتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا أَجِدُنِي أَنْشَرِحُ صَدْرًا لِقَتْلِهِ. فَقَالَ: أَمَا تَعْلَمُ أَنَّهُ قَتَلَ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ ؟ فَقَالَ: بَلَى قَالَ: فَنَقْتُلُهُ بِمَنْ قَتَلَ مِنْ إِخْوَانِنَا. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ لَأْيٍ. وَدَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَوَاعَدَهُمُ ابْنُ مُلْجَمٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ، وَقَالَ: هَذِهِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَاعَدْتُ أَصْحَابِي يَقْتُلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا فِيهَا صَاحِبَهُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ. ثُمَّ جَاءُوا إِلَى قَطَامِ، وَهِيَ امْرَأَةُ ابْنِ مُلْجَمٍ، فَدَعَتْ لَهُمْ بِعِصَبِ الْحَرِيرِ فَعَصَبَتْهُمْ بِهَا، وَكَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ ; وَهُمُ ابْنُ مُلْجَمٍ وَوَرْدَانُ وَشَبِيبٌ، وَهُمْ مُشْتَمِلُونَ عَلَى سُيُوفِهِمْ، فَجَلَسُوا مُقَابِلَ السُّدَّةِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا عَلِيٌّ، فَلَمَّا خَرَجَ جَعَلَ يُنْهِضُ النَّاسَ مِنَ النَّوْمِ إِلَى الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ. فَثَارَ إِلَيْهِ شَبِيبٌ بِالسَّيْفِ فَضَرَبَهُ فَوَقَعَ فِي الطَّاقِ، فَضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ بِالسَّيْفِ عَلَى قَرْنِهِ، فَسَالَ دَمُهُ عَلَى لِحْيَتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمَّا ضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ قَالَ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، لَيْسَ لَكَ يَا عَلِيُّ وَلَا لِأَصْحَابِكَ. وَجَعَلَ يَتْلُو قَوْلُهُ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [ الْبَقَرَةِ: 207 ] وَنَادَى عَلِيٌّ: عَلَيْكُمْ بِهِ. وَهَرَبَ وَرْدَانُ، فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ فَقَتَلَهُ، وَذَهَبَ شَبِيبٌ فَنَجَا بِنَفْسِهِ وَفَاتَ النَّاسَ، وَمُسِكَ ابْنُ مُلْجَمٍ، وَقَدَّمَ عَلِيٌّ جَعْدَةَ بْنَ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، وَحُمِلَ عَلِيٌّ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَحُمِلَ إِلَيْهِ ابْنُ مُلْجَمٍ، فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ مَكْتُوفٌ،

قَبَّحَهُ اللَّهُ، فَقَالَ لَهُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا ؟ قَالَ: شَحَذْتُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ شَرَّ خَلْقِهِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ: لَا أُرَاكَ إِلَّا مَقْتُولًا بِهِ، وَلَا أُرَاكَ إِلَّا مِنْ شَرِّ خَلْقِهِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ مِتُّ فَاقْتُلُوهُ، وَإِنْ عِشْتُ فَأَنَا أَعْلَمُ كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِي تِحْيَى قَالَ: لَمَّا ضَرَبَ ابْنُ مُلْجَمٍ عَلِيًّا قَالَ لَهُمُ: افْعَلُوا بِهِ كَمَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَلَ بِرَجُلٍ أَرَادَ قَتْلَهُ فَقَالَ " اقْتُلُوهُ ثُمَّ حَرِّقُوهُ ".
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ قَالَتْ لِابْنِ مُلْجَمٍ وَهُوَ وَاقِفٌ: وَيْحَكَ ! لِمَ ضَرَبْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: إِنَّمَا ضَرَبْتُ أَبَاكِ. فَقَالَتْ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: فَلِمَ تَبْكِينَ ؟ وَاللَّهِ لَقَدْ ضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً لَوْ أَصَابَتْ أَهْلَ الْمِصْرِ لَمَاتُوا أَجْمَعِينَ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَمَمْتُ هَذَا السَّيْفَ شَهْرًا، وَلَقَدِ اشْتَرَيْتُهُ بِأَلْفٍ وَسَمَمْتُهُ بِأَلْفٍ.
فَقَالَ جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ مِتَّ نُبَايِعُ الْحَسَنَ ؟ فَقَالَ: لَا آمُرُكُمْ وَلَا أَنْهَاكُمْ، أَنْتُمْ أَبْصَرُ. وَلَمَّا احْتُضِرَ عَلِيٌّ جَعْلَ يُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا يَنْطِقُ بِغَيْرِهَا - وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [ الزَّلْزَلَةِ: 7، 8 ] - وَقَدْ أَوْصَى وَلَدَيْهِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَغَفْرِ الذَّنْبَ،

وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالْحِلْمِ عَنِ الْجَاهِلِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَالتَّثَبُّتِ فِي الْأَمْرِ، وَالتَّعَاهُدِ لِلْقُرْآنِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِشِ، وَوَصَّاهُمَا بِأَخِيهِمَا مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَصَّاهُ بِمَا وَصَّاهُمَا بِهِ، وَأَنْ يُعَظِّمَهُمَا وَلَا يَقْطَعَ أَمْرًا دُونَهُمَا، وَكَتَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ وَصِيَّتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.

وَصُورَةُ الْوَصِيَّةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ; أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، ثُمَّ إِنَّ صِلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أُوصِيكَ يَا حَسَنُ وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ رَبِّكُمْ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " إِنَّ صَلَاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ". انْظُرُوا إِلَى ذَوِي أَرْحَامِكُمْ فَصِلُوهُمْ يُهَوِّنِ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحِسَابَ، اللَّهَ اللَّهَ فِي الْأَيْتَامِ ; فَلَا تُعْفُوا أَفَوَاهَهُمْ وَلَا يُضَيَّعُنَّ بِحَضْرَتِكُمْ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي جِيرَانِكُمْ ; فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُورَثِّهُمْ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ ; فَلَا يَسْبِقَنَّكُمْ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الصَّلَاةِ ; فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ، فَلَا يَخْلُوَنَّ

مِنْكُمْ مَا بَقِيتُمْ ; فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ; فَإِنَّ صِيَامَهُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الزَّكَاةِ ; فَإِنَّهَا تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي ذِمَّةِ نَبِيِّكُمْ ; لَا تُظْلَمَنَّ بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِ نَبِيِّكُمْ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى بِهِمْ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَأَشْرِكُوهُمْ فِي مَعَاشِكُمْ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَإِنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَالَ: " أُوصِيكُمْ بِالضَّعِيفَيْنِ ; نِسَائِكُمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ". الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، لَا تَخَافُنَّ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ يَكْفِكُمْ مَنْ أَرَادَكُمْ وَبَغَى عَلَيْكُمْ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ، وَلَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيُوَلَّى الْأَمْرَ شِرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ، وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّدَابُرَ وَالتَّقَاطُعَ وَالتَّفَرُّقَ، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ حَفِظَكُمُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ، وَحَفِظَ فِيكُمْ نَبِيَّكُمْ، أَسْتَوْدِعُكُمُ اللَّهَ، وَأَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ. ثُمَّ لَمْ يَنْطِقْ إِلَّا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، حَتَّى قُبِضَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَقَدْ غَسَّلَهُ ابْنَاهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَسَنُ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ.
قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مَنْ بَجِيلَةَ، عَنْ مَشْيَخَةِ قَوْمِهِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُلْجَمٍ رَأَى امْرَأَةً مِنْ تَيْمِ الرَّبَابِ يَقُولُ لَهَا: قَطَامِ. كَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ، تَرَى رَأْيَ الْخَوَارِجِ، قَدْ قَتَلَ عَلِيٌّ قَوْمَهَا عَلَى هَذَا

الرَّأْيِ، فَلَمَّا أَبْصَرَهَا عَشِقَهَا فَخَطَبَهَا، فَقَالَتْ: لَا أَتَزَوَّجُكَ إِلَّا عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَعَبْدٍ وَقَيْنَةٍ وَقَتْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا بَنَى بِهَا قَالَتْ لَهُ: يَا هَذَا، قَدْ فَرَغْتُ مِنْ حَاجَتِكَ، فَافْرُغْ مِنْ حَاجَتِي. فَخَرَجَ مُلْبَسًا سِلَاحُهُ، وَخَرَجَتْ فَضَرَبَتْ لَهُ قُبَّةً فِي الْمَسْجِدِ، وَخَرَجَ عَلِيٌّ يَقُولُ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ. فَأَتْبَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى قَرْنِ رَأْسِهِ، فَقَالَ الشَّاعِرُ - قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ ابْنُ مَيَّاسٍ الْمُرَادِيُّ -:
وَلَمْ أَرَ مَهْرًا سَاقَهُ ذُو سَمَاحَةٍ كَمَهْرِ قَطَامٍ بَيِّنًا غَيْرَ مُعْجَمِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَعَبْدٌ وَقَيْنَةٌ
وَقَتْلُ عَلِيٍّ بِالْحُسَامِ الْمُصَمَّمِ فَلَا مَهْرَ أَغْلَى مِنْ عَلِيٍّ وَإِنْ غَلَا
وَلَا قَتْلَ إِلَّا دُونَ قَتْلِ ابْنِ مُلْجَمِ
وَلِابْنِ مَيَّاسٍ فِي قَتْلِهِمْ عَلِيًّا:
وَنَحْنُ ضَرَبْنَا يَا لَكَ الْخَيْرُ حَيْدَرًا أَبَا حَسَنٍ مَأْمُومَةً فَتَفَطَّرَا
وَنَحْنُ خَلَعْنَا مُلْكَهُ مِنْ نِظَامِهِ بِضَرْبَةِ سَيْفٍ إِذْ عَلَا وَتَجَبَّرَا

وَنَحْنُ كِرَامٌ فِي الْهَيَاجِ أَعِزَّةٌ إِذَا الْمَوْتُ بِالْمَوْتِ ارْتَدَى وَتَأَزَّرَا
وَقَدِ امْتَدَحَ ابْنَ مُلْجَمٍ بَعْضُ الْخَوَارِجِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ، وَهُوَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ - وَكَانَ أَحَدَ الْعُبَّادِ مِمَّنْ يَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " - فَقَالَ فِيهِ:
يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانًا
إِنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ أَوْفَى الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانًا
وَأَمَّا صَاحِبُ مُعَاوِيَةَ - وَهُوَ الْبُرَكُ - فَإِنَّهُ حَمَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ خَارِجٌ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، وَقِيلَ: بِخِنْجَرٍ مَسْمُومٍ. فَجَاءَتِ الضَّرْبَةُ فِي وَرْكِهِ فَجَرَحَتْ أَلْيَتُهُ، وَمُسِكَ الْخَارِجِيُّ فَقُتِلَ، وَقَدْ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: اتْرُكْنِي فَإِنِّي أُبَشِّرُكَ بِبِشَارَةٍ. فَقَالَ: وَمَا هِيَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي قَدْ قَتَلَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فَلَعَلَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. قَالَ: بَلَى، إِنَّهُ لَا حَرَسَ مَعَهُ. فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ، وَجَاءَ الطَّبِيبُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: إِنَّ جُرْحَكَ مَسْمُومٌ ; فَإِمَّا أَنْ أَكْوِيَكَ وَإِمَّا أَنْ أَسْقِيَكَ شَرْبَةً فَيَذْهَبُ السُّمُّ، وَلَكِنْ يَنْقَطِعُ نَسْلُكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَمَّا النَّارُ فَلَا طَاقَةَ لِي بِهَا، وَأَمَّا النَّسْلُ فَفِي يَزِيدَ وَعَبْدِ اللَّهِ مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنِي. فَسَقَاهُ شَرْبَةً، فَبَرِأَ مِنْ أَلَمِهِ وَجِرَاحِهِ، وَانْقَطَعَ النَّسْلُ وَسَلِمَ مِنْ ذَلِكَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمِنْ حِينَئِذٍ عُمِلَتِ الْمَقْصُورَةُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَجُعِلَ الْحَرَسُ حَوْلَهَا فِي حَالِ السُّجُودِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَهَا مُعَاوِيَةُ ; لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ.

وَأَمَّا صَاحِبُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - وَهُوَ عَمْرُو بْنُ بَكْرٍ - فَإِنَّهُ كَمَنَ لَهُ لِيَخْرُجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَاتَّفَقَ أَنْ عَرَضَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَغَصٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَّا نَائِبُهُ إِلَى الصَّلَاةِ، وَهُوَ خَارِجَةُ بْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ عَلَى شُرْطَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ الْخَارِجِيُّ فَقَتَلَهُ، وَهُوَ يَعْتَقِدُهُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَلَمَّا أَخَذَ الْخَارِجِيُّ قَالَ: أَرَدْتُ عَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ خَارِجَةَ. فَأَرْسَلَهَا مَثَلًا، ثُمَّ قُتِلَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَالَهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. وَذَلِكَ حِينَ جِيءَ بِالْخَارِجِيِّ فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: قَتَلَ نَائِبَكَ خَارِجَةَ. فَقَالَ الْخَارِجِيُّ: وَاللَّهِ مَا أَرْدْتُ إِلَّا إِيَّاكَ. فَقَالَ عَمْرٌو: أَرَدْتَنِي وَأَرَادَ اللَّهُ خَارِجَةَ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا مَاتَ صَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْحَسَنُ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَدُفِنَ بِدَارِ الْإِمَارَةِ بِالْكُوفَةِ ; خَوْفًا عَلَيْهِ مِنَ الْخَوَارِجِ أَنْ يَنْبُشُوا عَنْ جُثَّتِهِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ حُمِلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَذَهَبَتْ بِهِ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَتْ. فَقَدْ أَخْطَأَ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَلَا يُسِيغُهُ عَقْلٌ وَلَا شَرْعٌ، وَمَا يَعْتَقِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ الرَّوَافِضِ مِنْ أَنَّ قَبْرَهُ بِمَشْهَدِ النَّجَفِ، فَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا أَصْلَ لَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّمَا ذَاكَ قَبْرُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ حَكَاهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْحَافِظِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الطَّلْحِيِّ، عَنْ

مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ الْحَافِظِ، هُوَ مُطَيَّنٌ، أَنَّهُ قَالَ: لَوْ عَلِمَتِ الشِّيعَةُ قَبْرَ هَذَا الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ بِالنَّجَفِ لَرَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ، هَذَا قَبْرُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْبَاقِرَ: كَمْ كَانَ سِنُّ عَلِيٍّ يَوْمَ قُتِلَ ؟ قَالَ: ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً. قُلْتُ: أَيْنَ دُفِنَ ؟ قَالَ: دُفِنَ بِالْكُوفَةِ لَيْلًا، وَقَدْ غُبِّيَ عَنِّي دَفْنُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّهُ كَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ قُتِلَ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عَلِيًّا دُفِنَ قِبْلَيَّ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مِنَ الْكُوفَةِ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ دُفِنَ بِدَارِ الْإِمَارَةِ. وَقِيلَ: بِحَائِطِ جَامِعِ الْكُوفَةِ. وَقَدْ حَكَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ حَوَّلَاهُ فَنَقَلَاهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَفَنَاهُ بِالْبَقِيعِ عِنْدَ قَبْرِ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ أُمِّهِمَا. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا حَمَلُوهُ عَلَى الْبَعِيرِ ضَلَّ مِنْهُمْ، فَأَخَذَتْهُ طَيِّئٌ يَظُنُّونَهُ مَالًا، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الَّذِي فِي الصُّنْدُوقِ مَيِّتٌ، وَلَمْ يَعْرِفُوا مَنْ هُوَ دَفَنُوا الصُّنْدُوقَ بِمَا فِيهِ، فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ أَيْنَ قَبْرُهُ. حَكَاهُ الْخَطِيبُ أَيْضًا.

وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: دَفَنْتُ عَلِيًّا فِي حُجْرَةٍ مِنْ دُورِ آلِ جَعْدَةَ.
وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا حَفَرَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَسَاسَ دَارِ ابْنِهِ يَزِيدَ اسْتَخْرَجُوا شَيْخًا مَدْفُونًا أَبْيَضَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، كَأَنَّمَا دُفِنَ بِالْأَمْسِ، فَهَمَّ بِإِحْرَاقِهِ، ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ، فَاسْتَدْعَى بِقَبَاطِيَّ فَلَفَّهُ فِيهَا، وَطَيَّبَهُ وَتَرَكَهُ مَكَانَهُ. قَالُوا: وَذَلِكَ الْمَكَانُ بِحِذَاءِ بَابِ الْوَرَّاقِينَ مِمَّا يَلِي قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ فِي بَيْتِ إِسْكَافٍ، وَمَا يَكَادُ يَقِرُّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَحَدٌ إِلَّا انْتَقَلَ مِنْهُ
. وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ قَالَ: صُلِّيَ عَلَى عَلِيٍّ لَيْلًا، وَدُفِنَ بِالْكُوفَةِ، وَعُمِّيَ مَوْضِعُ قَبْرِهِ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ قَصْرِ الْإِمَارَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: شَهِدَ دَفْنَهُ فِي اللَّيْلِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِمْ، فَدَفَنُوهُ فِي ظَاهِرِ الْكُوفَةِ وَعَمُّوا قَبْرَهُ ; خِيفَةً عَلَيْهِ مِنِ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ.
وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنْ عَلِيًّا قُتِلَ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ سَحَرًا، وَذَلِكَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ قُتِلَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ

الْأَشْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَدُفِنَ بِالْكُوفَةِ، عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَصَحَّحَهُ الْوَاقِدِيُّ وَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: عَنْ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ.
فَلَمَّا مَاتَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، اسْتَدْعَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بِابْنِ مُلْجَمٍ، فَقَالَ: لَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ: إِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْكَ خَصْلَةً. قَالَ: وَمَا هِيَ ؟ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ عَاهَدْتُ اللَّهَ عِنْدَ الْحَطِيمِ أَنْ أَقْتُلَ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ أَوْ أَمُوتَ دُونَهُمَا، فَإِنْ خَلَّيْتَنِي ذَهَبْتُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، عَلَى أَنِّي إِنْ لَمْ أَقْتُلْهُ أَوْ قَتَلْتُهُ وَبَقِيتُ، فَلَكَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ حَتَّى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِكَ. فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: كَلَّا وَاللَّهَ حَتَّى تُعَايِنَ النَّارَ. ثُمَّ قَدَّمَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ النَّاسُ فَأَدْرَجُوهُ فِي بِوَارِيَّ، ثُمَّ أَحْرَقُوهُ بِالنَّارِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرَجْلَيْهِ وَكُحِلَتْ عَيْنَاهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقْرَأُ سُورَةَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ جَاءُوا لِيَقْطَعُوا لِسَانَهُ فَجَزِعَ، وَقَالَ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ تَمُرَّ عَلَيَّ سَاعَةٌ لَا أَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا. ثُمَّ قَطَعُوا لِسَانَهُ، ثُمَّ قَتَلُوهُ ثُمَّ حَرَقُوهُ فِي قَوْصَرَّةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، ثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ

عُمَرَ قَالَ: ضُرِبَ عَلِيٌّ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، فَمَكَثَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَيْلَةَ السَّبْتِ، وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ، لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهُوَ الثَّبْتُ عِنْدَنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ زَوْجَاتِهِ وَبَنِيهِ وَبَنَاتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:لَمَّا وُلِدَ الْحَسَنُ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ ؟ " فَقُلْتُ: سَمَّيْتُهُ حَرْبًا. فَقَالَ: " بَلْ هُوَ حَسَنٌ ". فَلَمَّا وُلِدَ الْحُسَيْنُ قَالَ: " أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ ؟ " فَقُلْتُ: سَمَّيْتُهُ حَرْبًا. قَالَ: " بَلْ هُوَ حُسَيْنٌ ". فَلَمَّا وُلِدَ الثَّالِثُ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ ؟ " فَقُلْتُ: حَرْبًا. فَقَالَ: " بَلْ هُوَ مُحَسِّنٌ ". ثُمَّ قَالَ: " إِنِّي سَمَّيْتُهُمْ بِاسْمِ وَلَدِ هَارُونَ ; شَبَّرُ وَشَبِيرٌ وَمُشَبِّرٌ ". وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عِيسَى التَّيْمِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: كُنْتُ رَجُلًا أُحِبُّ الْحَرْبَ، فَلَمَّا وُلِدَ الْحَسَنُ هَمَمْتُ أَنْ أُسَمِّيَهُ حَرْبًا. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرِ الثَّالِثَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ عَلِيًّا سَمَّى الْحَسَنَ أَوَّلًا بِحَمْزَةَ وَحُسَيْنًا بِجَعْفَرٍ، فَغَيَّرَ اسْمَيْهِمَا

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَأَوَّلُ زَوْجَةٍ تَزَوَّجَهَا عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَنَى بِهَا بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ الْحَسَنَ وَحُسَيْنًا، وَيُقَالُ: وَمُحَسِّنًا. وَمَاتَ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَوَلَدَتْ لَهُ زَيْنَبَ الْكُبْرَى، وَأُمَّ كُلْثُومٍ الْكُبْرَى، وَهِيَ الَّتِي تَزَوَّجَ بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلِيٌّ عَلَى فَاطِمَةَ حَتَّى تُوُفِّيَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا مَاتَتْ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا بِزَوْجَاتٍ كَثِيرَةٍ ; مِنْهُنَّ مَنْ تُوُفِّيَتْ فِي حَيَاتِهِ وَمِنْهُنَّ مَنْ طَلَّقَهَا وَتُوُفِّيَ عَنْ أَرْبَعٍ، كَمَا سَيَأْتِي.
فَمِنْ زَوْجَاتِهِ أُمُّ الْبَنِينَ بِنْتُ حِزَامٍ وَهُوَ أَبُو الْمُحِلِّ بْنُ خَالِدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْوَحِيدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كِلَابٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ الْعَبَّاسَ وَجَعْفَرًا وَعَبْدَ اللَّهِ وَعُثْمَانَ، وَقَدْ قُتِلَ هَؤُلَاءِ مَعَ أَخِيهِمُ الْحُسَيْنِ بِكَرْبَلَاءَ، وَلَا عَقِبَ لَهُمْ سِوَى الْعَبَّاسِ.
وَمِنْهُنَّ لَيْلَى بِنْتُ مَسْعُودِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مَالِكٍ، مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ وَأَبَا بَكْرٍ. قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ وَقَدْ قُتِلَا بِكَرْبَلَاءَ أَيْضًا. وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ قَتَلَهُ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ يَوْمَ الْمَذَارِ.
وَمِنْهُنَّ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةُ، فَوَلَدَتْ لَهُ يَحْيَى وَمُحَمَّدًا الْأَصْغَرَ.

قَالَهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَلَدَتْ لَهُ يَحْيَى وَعَوْنًا. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَأَمَّا مُحَمَّدٌ الْأَصْغَرُ فَمِنْ أُمِّ وَلَدٍ.
وَمِنْهُنَّ أُمُّ حَبِيبٍ بِنْتُ رَبِيعَةَ بْنِ بُجَيْرِ بْنِ الْعَبْدِ بْنِ عَلْقَمَةَ، وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ مِنَ السَّبْيِ الَّذِينَ سَبَاهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ حِينَ أَغَارَ عَلَى عَيْنِ التَّمْرِ فَوَلَدَتْ لَهُ عُمَرَ - وَقَدْ عُمِّرَ خَمْسًا وَثَمَانِينَ سَنَةً - وَرُقَيَّةَ.
وَمِنْهُنَّ أُمُّ سَعِيدٍ بِنْتُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتِّبِ بْنِ مَالِكٍ الثَّقَفِيِّ، فَوَلَدَتْ لَهُ أُمَّ الْحَسَنِ وَرَمْلَةَ الْكُبْرَى.
وَمِنْهُنَّ ابْنَةُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أَوْسِ بْنِ جَابِرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُلَيْمِ بْنِ كَلْبٍ الْكَلْبِيَّةُ، فَوَلَدَتْ لَهُ جَارِيَةً، فَكَانَتْ تَخْرُجُ مَعَ عَلِيٍّ إِلَى الْمَسْجِدِ وَهِيَ صَغِيرَةٌ، فَيُقَالُ لَهَا: مَنْ أَخْوَالُكِ ؟ فَتَقُولُ: وَهْ وَهْ تَعْنِي بَنِي كَلْبٍ.
وَمِنْهُنَّ أُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، وَأُمُّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُهَا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ; إِذَا قَامَ حَمَلَهَا، وَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا - فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا الْأَوْسَطَ.
وَأَمَّا ابْنُهُ مُحَمَّدٌ الْأَكْبَرُ فَهُوَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ جَعْفَرِ بْنِ قَيْسِ بْنِ

مَسْلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الدُّئِلِ بْنِ حَنِيفَةَ بْنِ لُجَيْمِ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، سَبَاهَا خَالِدٌ أَيَّامَ الصِّدِّيقِ أَيَّامَ الرِّدَّةِ، مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، فَصَارَتْ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا هَذَا، وَمِنَ الشِّيعَةِ مَنْ يَدَّعِي فِيهِ الْإِمَامَةَ وَالْعِصْمَةَ، وَقَدْ كَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ وَلَا أَبُوهُ مَعْصُومٌ، بَلْ وَلَا مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَبِيهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ قَبْلَهُ لَيْسُوا بِوَاجِبِي الْعِصْمَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ لِعَلِيٍّ أَوْلَادٌ كَثِيرَةٌ آخَرُونَ مِنْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ شَتَّى، فَإِنَّهُ مَاتَ عَنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَتِسْعَ عَشْرَةَ سُرِّيَّةً، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمِنْ أَوْلَادِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ أَسْمَاءُ أُمَّهَاتِهِمْ ; أُمُّ هَانِئٍ، وَمَيْمُونَةُ، وَزَيْنَبُ الصُّغْرَى، وَرَمْلَةُ الصُّغْرَى، وَأُمُّ كُلْثُومٍ الصُّغْرَى، وَفَاطِمَةُ، وَأُمَامَةُ، وَخَدِيجَةُ، وَأُمُّ الْكِرَامِ، وَأُمُّ جَعْفَرٍ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَجُمَانَةُ، وَنَفِيسَةُ. قَالَ: ابْنُ جَرِيرٍ فَجَمِيعُ وَلَدِ عَلِيٍّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا وَسَبْعَ عَشْرَةَ أُنْثَى. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَإِنَّمَا كَانَ النَّسْلُ مِنْ خَمْسَةٍ ; وَهُمُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَمُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْعَبَّاسُ ابْنُ الْكِلَابِيَّةِ وَعُمَرُ ابْنُ التَّغْلِبِيَّةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، ثَنَا سُكَيْنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَا حَفْصُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي خَالِدُ بْنُ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ لَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: لَقَدْ قَتَلْتُمُ اللَّيْلَةَ رَجُلًا فِي لَيْلَةٍ نَزَلَ فِيهَا

الْقُرْآنُ، وَرُفِعَ فِيهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَفِيهَا قُتِلَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ فَتَى مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَاللَّهِ مَا سَبَقَهُ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ، وَلَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ يَكُونُ بَعْدَهُ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَبْعَثُهُ فِي السَّرِيَّةِ، جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِهِ، وَاللَّهِ مَا تَرَكَ صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا ثَمَانَمِائَةٍ أَوْ سَبْعَمِائَةٍ أَرْصَدَهَا لِخَادِمٍ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَفِيهِ نَكَارَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ سُكَيْنٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هُبَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: لَقَدْ فَارَقَكُمْ رَجُلٌ بِالْأَمْسِ لَمْ يَسْبِقْهُ الْأَوَّلُونَ بِعِلْمٍ وَلَا يُدْرِكْهُ الْآخِرُونَ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُهُ بِالرَّايَةِ، جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ وَمِيكَائِيلُ عَنْ شِمَالِهِ، لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَفْتَحَ لَهُ. وَرَوَاهُ زَيْدٌ الْعَمِّيُّ وَشُعَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِهِ، وَقَالَ: مَا تَرَكَ إِلَّا سَبْعَمِائَةٍ كَانَ أَرْصَدَهَا يَشْتَرِي بِهَا خَادِمًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: لِقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَأَرْبِطُ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الْجُوعِ، وَإِنَّ صَدَقَتِي الْيَوْمَ لَتَبْلُغُ أَرْبَعِينَ

أَلْفًا. وَرَوَاهُ، عَنْ أَسْوَدَ، عَنْ شَرِيكٍ بِهِ، وَقَالَ: إِنَّ صَدَقَتِي لَتَبْلُغُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.

بَابُ ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَقْرَبُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ نَسَبًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاسْمُهُ شَيْبَةُ بْنُ هَاشِمٍ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيٍّ، وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، أَبُو الْحَسَنِ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَبُوهُ أَخُو أَبِيهِ، وَأُمُّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: وَهِيَ أَوَّلُ هَاشِمِيَّةٍ وَلَدَتْ هَاشِمِيًّا. وَقَدْ أَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ، وَأَبُوهُ هُوَ الْعَمُّ الشَّقِيقُ الرَّفِيقُ أَبُو طَالِبٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ كَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، هُوَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ النَّسَبِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، وَزَعَمَتِ الرَّوَافِضُ أَنَّ اسْمَ أَبِي طَالِبٍ عِمْرَانُ، وَأَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 33 ]. وَقَدْ أَخْطَئُوا فِي ذَلِكَ خَطَأً كَبِيرًا، وَلَمْ يَتَأَمَّلُوا الْقُرْآنَ

قَبْلَ أَنْ يَقُولُوا هَذَا الْبُهْتَانَ مِنَ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِهِمْ لَهُ عَلَى غَيْرِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ بَعْدَهَا قَوْلَهُ تَعَالَى إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [ آلِ عِمْرَانَ: 35 ]. فَذَكَرَ بَعْدَهَا مِيلَادَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ كَثِيرَ الْمَحَبَّةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ بَلْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ، فِي عَرْضِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عَلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟ فَقَالَ: كَانَ آخِرُ مَا قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ " أَمَا لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ " فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [ التَّوْبَةِ: 113: 114 ]. وَنَزَلَتْ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [ الْقَصَصِ: 56 ].

وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ فِي أَوَّلِ الْمَبْعَثِ وَنَبَّهْنَا عَلَى خَطَأِ الرَّافِضَةِ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ أَسْلَمَ، وَافْتِرَائِهِمْ ذَلِكَ بِلَا دَلِيلٍ، وَعَلَى مُخَالَفَتِهِمُ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ.
وَأَمَّا عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ أَسْلَمُ قَدِيمًا، وَهُوَ دُونَ الْبُلُوغِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْهُ وَلَا يَصِحُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْغِلْمَانِ. كَمَا أَنَّ خَدِيجَةَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النِّسَاءِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمَوَالِي.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَصَلَّى عَلِيٌّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ، عَنْ مُسْلِمٍ الْمُلَائِيِّ، عَنْ حَبَّةَ بْنِ جُوَيْنٍ عَنْ عَلِيٍّ وَحَدِيثُ حَبَّةَ لَا يُسَاوِي حَبَّةً.
وَقَدْ رَوَى سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ حَبَّةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: عَبَدْتُ اللَّهَ مَعَ

رَسُولِ اللَّهِ سَبْعَ سِنِينَ قَبْلَ أَنْ يَعْبُدَهُ أَحَدٌ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ أَبَدًا، وَهُوَ كَذِبٌ.
وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ حَبَّةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ أَيْضًا، وَحَبَّةُ ضَعِيفٌ.
وَقَالَ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ: ثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: أَنَا الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ، آمَنْتُ قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَسْلَمْتُ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ. قَالَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَ الثَّالِثَ لَسَمَّيْتُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى - وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ أَسْلَمَ - مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ خَدِيجَةَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ

حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ بِهِ.
وَقَدْ رَوَى عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ كَانَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ، وَأَجْوَدُ مَا فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ خُولِفَ فِيهِ، وَقَدِ اعْتَنَى الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " بِتَطْرِيقِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، فَمَنْ أَرَادَ كَشَفَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ بِهِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ عَلِيٌّ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَصَحِبَ عَلِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةَ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ، وَكَانَ عِنْدَهُ فِي مَنْزِلِهِ وَفِي كَفَالَتِهِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى أَنْ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَخَلَّفَ عَلِيٌّ بَعْدَهُ لِيُؤَدِّيَ مَا كَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَدَائِعِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُعْرَفُ فِي قَوْمِهِ بِالْأَمِينِ، فَكَانُوا يُودِعُونَهُ الْأَمْوَالَ وَالْأَشْيَاءَ النَّفِيسَةَ، ثُمَّ هَاجَرَ عَلِيٌّ بَعْدَ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُ، وَحَضَرَ مَعَهُ مَشَاهِدَهُ كُلَّهَا، وَجَرَتْ لَهُ مَوَاقِفُ شَرِيفَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي مُوَاطِنِ الْحَرْبِ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي السِّيرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا، كَيَوْمِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْأَحْزَابِ وَخَيْبَرَ وَغَيْرِهَا، وَلَمَّا اسْتَخْلَفَهُ عَامَ تَبُوكَ عَلَى أَهْلِهِ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعَدِي. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَزْوِيجَهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُخُولَهُ بِهَا بَعْدَ وَقْعَةِ بِدْرٍ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَلَمَّا رَجَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَكَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: غَدِيرُ خُمٍّ. خَطَبَ النَّاسَ هُنَالِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ". وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ " وَالْمَحْفُوظُ الْأَوَّلُ.
وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبَ هَذِهِ الْخُطْبَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِ عَلِيٍّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ أَمِيرًا هُوَ وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَرَجَعَ عَلِيٌّ، فَوَافَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَدْ كَثُرَتْ فِيهِ الْمَقَالَةُ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ بِسَبَبِ اسْتِرْجَاعِهِ مِنْهُمْ خُلَعًا كَانَ خَلَعَهَا نَائِبُهُ

عَلَيْهِمْ لَمَّا تَعَجَّلَ السَّيْرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَحَبَّ أَنْ يُبَرِّئَ سَاحَةَ عَلِيٍّ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ، وَقَدِ اتَّخَذَتِ الرَّوَافِضُ هَذَا الْيَوْمَ عِيدًا، فَكَانَتْ تَضْرِبُ فِيهِ الطُّبُولَ بِبَغْدَادَ فِي أَيَّامِ بَنِي بُوَيْهٍ فِي حُدُودِ الْأَرْبَعِمِائَةٍ، كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَحْوٍ مَنْ عِشْرِينَ يَوْمًا تُعَلِّقُ الْمُسُوحَ السُّودَ عَلَى أَبْوَابِ الدَّكَاكِينِ وَتُذِرُّ التِّبْنَ وَالرَّمَادَ فِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ، وَتَدُورُ النِّسَاءُ فِي سِكَكِ الْبَلَدِ يَنُحْنَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ صَبِيحَةَ قِرَاءَتِهِمُ الْمَصْرَعَ الْمَكْذُوبَ فِي قَتْلِ الْحُسَيْنِ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ وَكَيْفَ وَقَعَ الْأَمْرُ عَلَى الْجَلِيَّةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ بَنِي أُمَيَّةَ يَعِيبُ عَلَى عَلِيٍّ فِي تَسْمِيَتِهِ أَبَا تُرَابٍ، وَهُوَ اسْمٌ سَمَّاهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ عَلِيًّا غَاضَبَ فَاطِمَةَ، فَرَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَهُ نَائِمًا وَقَدْ لَصِقَ التُّرَابُ بِجِلْدِهِ، فَجَعَلَ يَنْفُضُ عَنْهُ التُّرَابَ وَيَقُولُ: " اجْلِسْ أَبَا تُرَابٍ، اجْلِسْ أَبَا تُرَابٍ ".

حَدِيثُ الْمُؤَاخَاةِ
قَالَ الْحَاكِمُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجُنَيْدُ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقُرَشِيُّ، ثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَمْرٍو وَالْحَنَفِيُّ، ثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُدْرِكٍ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:لَمَّا آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ النَّاسِ آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ. ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: لَمْ نَكْتُبْهُ مِنْ حَدِيثِ مَكْحُولٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَكَانَ الْمَشَايِخُ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ ; لِكَوْنِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَهْلِ الشَّامِ.
قُلْتُ: وَفِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ، وَوَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ " أَنْتَ أَخِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ". وَكَذَلِكَ مَنَّ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَحْدُوجِ بْنِ زَيْدٍ الذُّهْلِيِّ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَعَلِيٍّ نَفْسِهِ، نَحْوَ ذَلِكَ، وَأَسَانِيدُهَا كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ لَا يَقُومُ بِشَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَاءَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو رَسُولِهِ، لَا يَقُولُهَا بَعْدِي إِلَّا كَذَّابٌ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: ثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ الْبَغْدَادِيُّ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ قَادِمٍ،

ثَنَا عَلِيُّ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ التَّيْمِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ عَلِيٌّ تَدْمَعُ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آخَيْتَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ وَلَمْ تُؤَاخِ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنْتَ أَخِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ". ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أَوْفَى.
وَقَدْ شَهِدَ عَلِيٌّ بَدْرًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ " وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ". وَبَارَزَ يَوْمَئِذٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَانَتْ لَهُ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ وَدَفَعَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّايَةَ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً. قَالَهُ الْحَكَمُ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَكَانَتْ تَكُونُ مَعَهُ رَايَةُ الْمُهَاجِرِينَ فِي الْمَوَاقِفِ كُلِّهَا. وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةُ.
وَقَالَ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَطْرَابُلُسِيُّ الْحَافِظُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ

بْنِ أَبِي غَرَزَةَ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ، ثَنَا نَاصِحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَلِّمِيُّ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالُوا:يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ يَحْمِلُ رَايَتَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ " وَمَنْ عَسَى أَنْ يَحْمِلَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ كَانَ يَحْمِلُهَا فِي الدُّنْيَا ; عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنِي عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَنْظَلِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: نَادَى مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ: لَا سَيْفَ إِلَّا ذُو الْفَقَارِ، وَلَا فَتَى إِلَّا عَلِيٌّ. قَالَ الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ: وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَإِنَّمَا تَنَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ وَهَبَهُ لِعَلِيٍّ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى قَالَ: كَانَ لِوَاءُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ السَّلَمِيُّ
لِلِهِ أَيُّ مُذَبِّبٍ عَنْ حُرْمَةٍ أَعْنِي ابْنَ فَاطِمَةَ الْمُعَمَّ الْمُخْوَلَا

جَادَتْ يَدَاكَ لَهُ بِعَاجِلِ طَعْنَةٍ
تَرَكَتْ طُلَيْحَةَ لِلْجَبِينِ مُجَدَّلَا وَشَدَدْتَ شِدَّةَ بَاسِلٍ فَكَشَفْتَهُمْ
بِالْحَقِّ إِذْ يَهْوُونَ أَخْوَلَ أَخْوَلَا وَعَلَلْتَ سَيْفَكَ بِالدِّمَاءِ وَلَمْ تَكُنْ
لِتَرُدَّهُ حَرَّانَ حَتَّى يَنْهَلَا
وَشَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ الْآيَاتَ [ الْفَتْحِ: 18 ]. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ النَّارَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ " لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، لَيْسَ بِفَرَّارٍ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ ". فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، حَتَّى قَالَ عُمَرُ: مَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَعْطَاهَا عَلِيًّا، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ. وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ ; مَالِكٌ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ

سَعْدٍ. أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ وَهُوَ أَرْمَدُ، فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ. وَرَوَاهُ إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ مَوْلَاهُ سَلَمَةَ أَيْضًا، وَحَدِيثُهُ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ فَرْوَةَ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ:بَعْثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِرَايَتِهِ إِلَى بَعْضِ حُصُونِ خَيْبَرَ فَقَاتَلَ ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَكُنْ فَتْحٌ وَقَدْ جَهَدَ، ثُمَّ بَعَثَ الْغَدَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَاتَلَ ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَكُنْ فَتْحٌ وَقَدْ جَهَدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، لَيْسَ بِفَرَّارٍ ". قَالَ: سَلَمَةُ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَهُوَ أَرْمَدُ، فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " خُذْ هَذِهِ الرَّايَةَ فَامْضِ بِهَا حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ " قَالَ سَلَمَةُ: فَخَرَجَ وَاللَّهِ يُهَرْوِلُ بِهَا هَرْوَلَةً، وَإِنَّا لَخَلْفَهُ نَتَّبِعُ أَثَرَهُ حَتَّى رَكَزَ رَايَتَهُ فِي رَجَمٍ مِنْ حِجَارَةٍ تَحْتَ الْحِصْنِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِ يَهُودِيٌّ مِنْ رَأْسِ الْحِصْنِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ عَلِيُّ بْنُ

أَبِي طَالِبٍ قَالَ الْيَهُودِيُّ: عَلَيْتُمْ وَمَنْ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى. قَالَ: فَمَا رَجَعَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ عَطَاءٍ مَوْلَى السَّائِبِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَفِيهِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ يَقُودُهُ وَهُوَ أَرْمَدُ، حَتَّى بَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ.
رِوَايَةُ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، حَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ قَالَ: حَاصَرْنَا خَيْبَرَ، فَأَخْذَ اللِّوَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنَ الْغَدِ عُمَرُ، فَخَرَجَ فَرَجَعَ وَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ، وَأَصَابَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ شِدَّةٌ وَجَهْدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنِّي دَافِعٌ اللِّوَاءَ غَدًا إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لَا يَرْجِعُ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ " قَالَ: وَبِتْنَا طَيِّبَةً أَنْفُسُنَا أَنَّ الْفَتْحَ غَدًا. قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْغَدَاةَ، ثُمَّ قَامَ قَائِمًا، فَدَعَا بِاللِّوَاءِ وَالنَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ، فَدَعَا عَلِيًّا وَهُوَ أَرْمَدُ، فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ اللِّوَاءَ، فَفُتِحَ لَهُ ". قَالَ بُرَيْدَةُ: وَأَنَا فِيمَنْ تَطَاوَلَ لَهَا. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ بِهِ أَطْوَلَ مِنْهُ، ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ

وَرَوْحٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَوْفٍ، عَنْ مَيْمُونٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْكُرْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ بِهِ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ غُنْدَرٍ بِهِ، وَفِيهِ الشِّعْرُ.
رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: وَرَوَاهُ هُشَيْمٌ عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَ سِيَاقَ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ. وَرَوَاهُ كَثِيرٌ النَّوَّاءُ عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَفِيهِ قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا رَمِدْتُ بَعْدَ يَوْمَئِذٍ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَسِيدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا سَيَأْتِي.
رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ". فَقَالَ: " أَيْنَ عَلِيٌّ ؟ " قَالُوا: يَطْحَنُ. قَالَ: وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يَرْضَى أَنْ يَطْحَنَ، فَأَتَى بِهِ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الرَّايَةَ، فَجَاءَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ. وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا

الْوَجْهِ، وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَهُ بِتَمَامِهِ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، ثَنَا أَبُو بَلْجٍ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ: إِنَّى لَجَالِسٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ أَتَاهُ تِسْعَةُ رَهْطٍ، فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، إِمَّا أَنْ تَقُومَ مَعَنَا وَإِمَّا أَنْ يُخَلُّونَا هَؤُلَاءِ. فَقَالَ: بَلْ أَقْوَمُ مَعَكُمْ. قَالَ: وَهُوَ يَوْمَئِذٍ صَحِيحٌ قَبْلَ أَنْ يَعْمَى، قَالَ: وَابْتَدَءُوا فَتَحَدَّثُوا فَلَا نَدْرِي مَا قَالُوا. قَالَ: فَجَاءَ يَنْفُضُ ثَوْبَهُ وَيَقُولُ: أُفْ وَتُفْ، وَقَعُوا فِي رَجُلٍ لَهُ عَشْرٌ، وَقَعُوا فِي رَجُلٍ قَالَ لَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَأَبْعَثَنَّ رَجُلًا لَا يُخْزِيهِ اللَّهُ أَبَدًا، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ". قَالَ: فَاسْتَشْرَفَ لَهَا مَنِ اسْتَشْرَفَ، قَالَ: " أَيْنَ عَلِيٌّ ؟ " قَالُوا: هُوَ فِي الرَّحَا يَطْحَنُ. قَالَ: وَمَا كَانَ أَحَدُكُمْ لِيَطْحَنَ قَالَ: فَجَاءَ وَهُوَ أَرْمَدُ لَا يَكَادُ أَنْ يُبْصِرَ، فَنَفَثَ فِي عَيْنَيْهِ، ثُمَّ هَزَّ الرَّايَةَ ثَلَاثًا، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَجَاءَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ. قَالَ ثُمَّ بَعَثَ فُلَانًا بِسُورَةِ " التَّوْبَةِ "، فَبَعَثَ عَلِيًّا خَلْفَهُ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ، قَالَ: " لَا يَذْهَبُ بِهَا إِلَّا رَجُلٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ ". قَالَ:

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي عَمِّهِ أَيُّكُمْ يُوَالِينِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؟ " فَأَبَوْا. قَالَ: وَعَلِيٌّ مَعَهُ جَالِسٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أُوَالِيكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ: " أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ". قَالَ: فَتَرَكَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَقَالَ: " أَيُّكُمْ يُوَالِينِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؟ " فَأَبَوْا، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أُوَالِيكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَقَالَ: " أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ". قَالَ: وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ خَدِيجَةَ. قَالَ ( وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَهُ، فَوَضَعَهُ عَلَى عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَحَسَنٍ وَحُسَيْنٍ، فَقَالَ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [ الْأَحْزَابِ: 18 ]. قَالَ: وَشَرَى عَلِيٌّ نَفْسَهُ ; لَبِسَ ثَوْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَامَ مَكَانَهُ. قَالَ: وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرُومُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَعَلَيٌّ نَائِمٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يَحْسَبُ أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ قَدِ انْطَلَقَ نَحْوَ بِئْرِ مَيْمُونٍ فَأَدْرِكْهُ. قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَدَخَلَ مَعَهُ الْغَارَ. قَالَ: وَجَعَلَ عَلِيٌّ يُرْمَى بِالْحِجَارَةِ كَمَا كَانَ يُرْمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَضَوَّرُ، وَقَدْ لَفَّ رَأْسَهُ فِي الثَّوْبِ، لَا يُخْرِجُهُ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ كَشَفَ عَنْ رَأْسِهِ، فَقَالُوا: إِنَّكَ لَئِيمٌ، كَانَ صَاحِبُكَ نَرْمِيهِ فَلَا يَتَضَوَّرُ، وَأَنْتَ تَتَضَوَّرُ، وَقَدِ اسْتَنْكَرْنَا ذَلِكَ. قَالَ: وَخَرَجَ يَعْنِي، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالنَّاسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَخْرُجُ مَعَكَ ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا ". فَبَكَى عَلِيٌّ، فَقَالَ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، إِنَّهُ لَا

يَنْبَغِي أَنْ أَذْهَبَ إِلَّا وَأَنْتَ خَلِيفَتِي " قَالَ: وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنْتَ وَلِيِّي فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي ". قَالَ: وَسَدَّ أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ غَيْرَ بَابِ عَلِيٍّ. قَالَ: فَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ جُنُبًا، وَهُوَ طَرِيقُهُ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهُ. قَالَ: وَقَالَ " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَإِنَّ مَوْلَاهُ عَلِيٌّ " قَالَ: وَأَخْبَرَنَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، فَهَلْ حَدَّثَنَا أَنَّهُ سَخِطَ عَلَيْهِمْ بَعْدُ ؟ ! قَالَ: وَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ حِينَ قَالَ: ائْذَنْ لِي لِأَضْرِبَ عُنُقَهُ. يَعْنِي حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ قَالَ: " وَكُنْتُ فَاعِلًا ؟ ! وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ بَعْضَهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ يَحْيَى بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ وَاسْتَغْرَبَهُ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بَعْضَهُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ بِهِ.
رِوَايَةُ عِمْرَانَ: قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ ": ثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الرِّيَاحِيُّ، ثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَأَدْفَعَنَّ الرَّايَةَ إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ". فَبَعَثَ إِلَى عَلِيٍّ وَهُوَ أَرْمَدُ، فَتَفَلَ

فِي عَيْنَيْهِ وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَمَا رَدَّ وَجْهَهُ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمَا اشْتَكَاهُمَا بَعْدُ ". وَرَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبِي مُوسَى الْهَرَوِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ عِمْرَانَ، فَذَكَرَهُ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عَبَّاسٍ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بِهِ.
رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ: فِي ذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ وَحُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: ثَنَا إِسْرَائِيلُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِصْمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الرَّايَةَ فَهَزَّهَا ثُمَّ قَالَ: " مَنْ يَأْخُذُهَا بِحَقِّهَا ؟ " فَجَاءَ فُلَانٌ فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: " أَمِطْ ". ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: " أَمِطْ ". ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي أَكْرَمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ لَأُعْطِيَنَّهَا رَجُلًا لَا يَفِرُّ ". فَجَاءَ عَلِيٌّ، فَانْطَلَقَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْبَرَ وَفَدَكَ، وَجَاءَ بِعَجْوَتِهِمَا وَقَدِيدِهِمَا.

وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، وَقَالَ فِي سِيَاقِهِ:

فَجَاءَ الزُّبَيْرُ فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: " أَمِطْ ". ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: " أَمِطْ ". وَذَكَرَهُ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ أَبِي يَسْمُرُ مَعَ عَلِيٍّ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَلْبَسُ ثِيَابَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَثِيَابَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ سَأَلْتَهُ. فَسَأَلَهُ، فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيَّ وَأَنَا أَرْمَدُ الْعَيْنِ يَوْمَ خَيْبَرَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرْمَدُ الْعَيْنِ. فَتَفَلَ فِي عَيْنِي وَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ " فَمَا وَجَدْتُ حَرًّا وَلَا بَرْدًا مُنْذُ يَوْمَئِذٍ، وَقَالَ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَيْسَ بِفَرَّارٍ " فَتَشَرَّفَ لَهَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِيهَا. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ، زَادَ بَعْضُهُمْ: وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ. وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ بِهِ مُطَوَّلًا.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أُمِّ مُوسَى، قَالَتْ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ:مَا رَمِدْتُ وَلَا صُدِّعْتُ مُنْذُ مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهِي وَتَفَلَ فِي عَيْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ وَأَعْطَانِي الرَّايَةَ.

رِوَايَةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍّ فِي ذَلِكَ: ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ؟ ".
قَالَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَعْدًا، فَقَالَ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا تُرَابٍ ؟ فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثًا قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا، لَأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ - وَخَلَّفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي ؟ " وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ". قَالَ: فَتَطَاوَلْتُ لَهَا. قَالَ: " ادْعُوا لِي عَلِيًّا ". فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ، فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ، وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْهِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ،وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ [ آلِ عِمْرَانَ: 61 ]. دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: " اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي " ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ

وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ " أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى " وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَيُسْتَغْرَبُ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدٍ عَنْ سَعْدٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ الزُّبَيْرِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ - يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - عَنْ سَعْدٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ خَلَّفَ عَلِيًّا، فَقَالَ: أَتُخَلِّفُنِي ؟ قَالَ " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ؟ " وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَعَلِيٍّ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى ؟ " أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُعْفِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا، أَنَّ عَلِيًّا

خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَ ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ، وَعَلِيٌّ يَبْكِي يَقُولُ: تُخَلِّفُنِي مَعَ الْخَوَالِفِ ؟ فَقَالَ " أَوَ مَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا النُّبُوَّةَ ؟ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ الْعَبْدِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَازِمٍ أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، عَنْ مُوسَى بْنُ مُسْلِمٍ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَدِمَ مُعَاوِيَةُ فِي بَعْضِ حِجَّاتِهِ، فَأَتَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَذَكَرُوا عَلِيًّا، فَقَالَ سَعْدُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ، لَأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، سَمِعْتُهُ يَقُولُ " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فِعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ". وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ". إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْوَهْبِيُّ أَبُو سَعِيدٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَجَّ مُعَاوِيَةُ أَخْذَ بِيَدِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، إِنَّا قَوْمٌ قَدْ أَجْفَانَا هَذَا الْغَزْوُ عَنِ الْحَجِّ حَتَّى

كِدْنَا أَنْ نَنْسَى بَعْضَ سُنَنِهِ، فَطُفْ نَطُفْ بِطَوَافِكَ. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ أَدْخَلَهُ دَارَ النَّدْوَةِ، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَوَقَعَ فِيهِ، فَقَالَ: أَدْخَلْتَنِي دَارَكَ، وَأَجْلَسْتَنِي عَلَى سَرِيرِكَ، ثُمَّ وَقَعْتَ فِي عَلِيٍّ تَشْتُمُهُ ؟ ! وَاللَّهِ لَأَنْ يَكُونَ فِي إِحْدَى خِلَالِهِ الثَّلَاثِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَلَأَنْ يَكُونَ لِي مَا قَالَ لَهُ حِينَ غَزَا تَبُوكَ " أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ؟ ". أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَلَأَنْ يَكُونَ لِي مَا قَالَ لَهُ يَوْمَ خَيْبَرَ " لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، لَيْسَ بِفَرَّارٍ ". أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَلَأَنْ أَكُونَ صِهْرَهُ عَلَى ابْنَتِهِ، وَلِي مِنْهَا مِنَ الْوَلَدِ مَا لَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، لَا أَدْخُلُ عَلَيْكَ دَارًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ. ثُمَّ نَفَضَ رِدَاءَهُ ثُمَّ خَرَجَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ خَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ؟ قَالَ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ؟ ". إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُصْعَبٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ مُصْعَبٍ، عَنْ أَبِيهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا.

قَالَ الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ; مِنْهُمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمُعَاوِيَةُ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَجَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَزَيْدُ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَنُبَيْطُ بْنُ شُرَيْطٍ، وَحُبْشِيُّ بْنُ جُنَادَةَ، وَمَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَأَبُو الْفِيلِ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ حَمْزَةَ. وَقَدْ تَقَصَّى الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي تَرْجَمَةِ عَلِيٍّ فِي " تَارِيخِهِ " فَأَجَادَ وَأَفَادَ، وَبَرَزَ عَلَى النُّظَرَاءِ وَالْأَشْبَاهِ وَالْأَنْدَادِ، رَحِمَهُ رَبُّ الْعِبَادِ يَوْمَ التَّنَادِ.
رِوَايَةُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي ذَلِكَ: قَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ أُعْطِيَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ثَلَاثَ خِصَالٍ، لَأَنْ تَكُونَ لِي خَصْلَةٌ مِنْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ حُمْرِ النَّعَمِ. قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: تَزْوِيجُهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسُكْنَاهُ الْمَسْجِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَحِلُّ لِي فِيهِ مَا يَحِلُّ لَهُ، وَالرَّايَةُ يَوْمَ خَيْبَرَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَسِيدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ فِي زَمَانِ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَسُولُ اللَّهِ خَيْرُ النَّاسِ، ثُمَّ خَيْرُ النَّاسِ، أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، وَلَقَدْ أُوتِيَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ ثَلَاثًا لَأَنْ أَكُونَ أُعْطِيتُهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ حُمْرِ النَّعَمِ. فَذَكَرَ هَذِهِ الثَّلَاثَ.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ؟ ". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ". وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. وَرَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ؟ ". قَالَ سَلَمَةُ: وَسَمِعْتُ مَوْلًى لِبَنِي مَوْهِبَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مِثْلَهُ.

تَزْوِيجُ عَلِيٍّ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ:سَمِعَ رَجُلٌ عَلِيًّا عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: أَرَدْتُ أَنْ أَخْطُبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَتَهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ أَنْ لَا

شَيْءَ لِي، ثُمَّ ذَكَرْتُ عَائِدَتَهُ وَصِلَتَهُ، فَخَطَبْتُهَا، فَقَالَ: " هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ ؟ " قُلْتُ: لَا. قَالَ: " فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ الَّتِي أَعْطَيْتُكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا ؟ " قُلْتُ: عِنْدِي. قَالَ: " فَأَعْطِهَا ". فَأَعْطَيْتُهَا فَزَوَّجَنِي، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةً دَخَلْتُ عَلَيْهَا قَالَ: " لَا تُحَدِّثَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَكُمَا ". قَالَ: فَأَتَانَا وَعَلَيْنَا قَطِيفَةٌ أَوْ كِسَاءٌ فَتَحَشْحَشْنَا، فَقَالَ: " مَكَانَكُمَا ". ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، فَدَعَا فِيهِ، ثُمَّ رَشَّهُ عَلَيَّ وَعَلَيْهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ هِيَ ؟ قَالَ: " هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَأَنْتَ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْهَا ". وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ سَلِيطٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَهُ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَفِيهِ أَنَّهُ أَوْلَمَ عَلَيْهَا بِكَبْشٍ مِنْ عِنْدِ سَعْدٍ، وَآصُعٍ مِنَ الذُّرَةِ مِنْ عِنْدِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ دَعَا لَهُمَا بَعْدَ مَا صَبَّ عَلَيْهِمَا الْمَاءَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِمَا، وَبَارِكْ عَلَيْهِمَا، وَبَارِكْ لَهُمَا فِي شَمْلِهِمَا ". يَعْنِي الْجِمَاعَ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا خَطَبَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا: " أَيْ بُنَيَّةَ، إِنَّ ابْنَ عَمِّكِ عَلِيًّا قَدْ خَطَبَكِ، فَمَاذَا تَقُولِينَ ؟ " فَبَكَتْ ثُمَّ قَالَتْ: كَأَنَّكَ يَا أَبَتِ إِنَّمَا دَخَرْتَنِي لِفَقِيرِ قُرَيْشٍ. فَقَالَ: " وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا

تَكَلَّمْتُ فِي هَذَا حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ لِي فِيهِ مِنَ السَّمَاءِ ". فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: رَضِيتُ بِمَا رَضِيَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا، وَاجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " يَا عَلِيُّ، اخْطُبْ لِنَفْسِكَ ". فَقَالَ عَلِيٌّ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَهَذَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ زَوَّجَنِي ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ عَلَى صَدَاقٍ مَبْلَغُهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَاسْمَعُوا مَا يَقُولُ وَاشْهَدُوا. قَالُوا: مَا تَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُهُ ". رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُنْكَرَةٌ وَمَوْضُوعَةٌ أَضْرَبْنَا عَنْهَا ; لَئِلَّا يَطُولُ الْكِتَابُ بِهَا، وَقَدْ أَوْرَدَ مِنْهَا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ طَرَفًا جَيِّدًا فِي " تَارِيخِهِ " مَعَ ضَعْفِهِمَا وَوَضْعِهَا.
وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: مَا كَانَ لَنَا إِلَّا إِهَابُ كَبْشٍ نَنَامُ عَلَى نَاحِيَتِهِ وَتَعْجِنُ فَاطِمَةُ عَلَى نَاحِيَتِهِ. وَفِي رِوَايَةِ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ: وَنَعْلِفُ عَلَيْهِ النَّاضِحَ بِالنَّهَارِ، وَمَا لِي خَادِمٌ عَلَيْهَا غَيْرَهَا.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا عَوْفٌ، عَنْ مَيْمُونٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كَانَ لِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْوَابٌ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ: فَقَالَ يَوْمًا: " سُدُّوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ ". قَالَ: فَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ أُنَاسٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَمَرْتُ بِسَدِّ هَذِهِ الْأَبْوَابِ غَيْرَ بَابِ عَلِيٍّ،

فَقَالَ فِيهِ قَائِلُكُمْ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا سَدَدْتُ شَيْئًا وَلَا فَتَحْتُهُ، وَلَكِنْ أُمِرْتُ بِشَيْءٍ فَاتَّبَعْتُهُ ". وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ عَوْفٍ، عَنْ مَيْمُونٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فَذَكَرَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْحَدِيثُ الطَّوِيلُ، وَفِيهِ سَدُّ الْأَبْوَابِ غَيْرَ بَابِ عَلِيٍّ. وَكَذَا رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرَوَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا فِطْرٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَرْقَمِ الْكِنَانِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ زَمَنَ الْجَمَلِ فَلَقِينَا سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ بِهَا فَقَالَ: ( أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَتَرْكِ بَابِ عَلِيٍّ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ سَعْدٍ: قَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الطَّحَّانُ، ثَنَا غَسَّانُ بْنُ بِشْرٍ الْكَاهِلِيُّ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَدَّ أَبْوَابَ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ وَفَتَحَ بَابَ عَلِيٍّ، فَقَالَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: " مَا أَنَا فَتَحْتُهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ

فَتَحَهُ ". وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ; لِأَنَّ نَفْيَ هَذَا فِي حَقِّ عَلِيٍّ كَانَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لِاحْتِيَاجِ فَاطِمَةَ إِلَى الْمُرُورِ مِنْ بَيْتِهَا إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا، فَجَعَلَ هَذَا رِفْقًا بِهَا، وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَزَالَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ، فَاحْتِيجَ إِلَى فَتْحِ بَابِ الصِّدِّيقِ لِأَجْلِ خُرُوجِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ إِذْ كَانَ الْخَلِيفَةُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى خِلَافَتِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ، ثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: " يَا عَلِيُّ، لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُجْنِبُ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرِي وَغَيْرُكَ ". قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ: قُلْتُ لِضِرَارِ بْنِ صُرَدَ: مَا مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ ؟ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَسْتَطْرِقُهُ جُنُبًا غَيْرِي وَغَيْرُكَ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ سَمِعَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ مِنِّي هَذَا الْحَدِيثَ فَاسْتَغْرَبَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرٍ النَّوَّاءِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِهِ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ، ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي غَنِيَّةَ، عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ عُمَرَ الْهَجَرِيِّ،

عَنْ مَحْدُوجٍ، عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دَجَاجَةَ، أَخْبَرَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى صَرْحَةِ الْمَسْجِدِ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: " أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْمَسْجِدُ لِجُنُبٍ وَلَا لِحَائِضٍ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ، أَلَا هَلْ بَيَّنْتُ لَكُمُ الْأَسْمَاءَ أَنْ تَضِلُّوا ". وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ بِنَحْوِهِ، وَفِي إِسْنَادِهِ غَرَابَةٌ أَيْضًا.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْحَاكِمُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ قَالَ غَزَوْتُ مَعَ عَلِيٍّ إِلَى الْيَمَنِ، فَرَأَيْتُ مِنْهُ جَفْوَةً فَقَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْتُ عَلِيًّا فَتَنَقَّصْتُهُ، فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَغَيَّرُ، فَقَالَ: " يَا بُرَيْدَةُ، أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، ثَنَا الْأَجْلَحُ الْكِنْدِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ بُرَيْدَةَ قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثَيْنِ إِلَى الْيَمَنِ ; عَلَى أَحَدِهِمَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَلَى الْأُخْرَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَقَالَ: " إِذَا الْتَقَيْتُمَا فَعَلِيٌّ عَلَى النَّاسِ، وَإِنِ افْتَرَقْتُمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا عَلَى جُنْدِهِ ". قَالَ: فَلَقِينَا بَنَى زَيْدٍ مِنَ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَاقْتَتَلْنَا، فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَتَلْنَا الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَيْنَا الذُّرِّيَّةَ، فَاصْطَفَى عَلِيٌّ امْرَأَةً مِنَ السَّبْيِ لِنَفْسِهِ. قَالَ بُرَيْدَةُ: فَكَتَبَ مَعِي خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعْتُ إِلَيْهِ

الْكِتَابَ، فَقُرِئَ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا مَكَانُ الْعَائِذِ، بَعَثْتَنِي مَعَ رَجُلٍ وَأَمَرْتَنِي أَنْ أُطِيعَهُ، فَبَلَّغْتُ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقَعُ فِي عَلِيٍّ ; فَإِنَّهُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَهُوَ وَلِيُّكُمْ بَعْدِي ". هَذِهِ اللَّفْظَةُ مُنْكَرَةٌ وَالْأَجْلَحُ شِيَعِيٌّ، وَمَثَلُهُ لَا يُقْبَلُ إِذَا تَفَرَّدَ بِمِثْلِهَا، وَقَدْ تَابَعَهُ فِيهَا مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَحْفُوظُ فِي هَذَا رِوَايَةُ أَحْمَدَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كُنْتُ وَلَيَّهُ فَعَلِيٌّ وَلَيُّهُ ". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مَنْجُوفٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِيَقْبِضَ الْخُمُسَ. قَالَ: فَأَصْبَحَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَقَالَ خَالِدٌ لِبُرَيْدَةَ: أَلَا تَرَى مَا يَصْنَعُ هَذَا ؟ قَالَ: فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ مَا صَنَعَ عَلِيٌّ. قَالَ: وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيًّا، فَقَالَ: " يَا بُرَيْدَةُ، أَتُبْغِضُ عَلِيًّا ؟ " فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " لَا تُبْغِضْهُ وَأَحِبَّهُ ;

فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ". وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ رَوْحٍ بِهِ مُطَوَّلًا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا عَبْدُ الْجَلِيلِ قَالَ:انْتَهَيْتُ إِلَى حَلْقَةٍ فِيهَا أَبُو مِجْلَزٍ وَابْنُ بُرَيْدَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ: حَدَّثَنِي أَبِي بُرَيْدَةُ قَالَ أَبْغَضْتُ عَلِيًّا بُغْضًا لَمْ أُبْغِضْهُ أَحَدًا. قَالَ: وَأَحْبَبْتُ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ لَمْ أُحِبَّهُ إِلَّا عَلَى بُغْضِهِ عَلِيًّا. قَالَ: فَبُعِثَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى خَيْلٍ. قَالَ: فَصَحِبْتُهُ مَا أَصْحَبُهُ إِلَّا عَلَى بُغْضِهِ عَلِيًّا. قَالَ: فَأَصَبْنَا سَبْيًا. قَالَ: فَكَتَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْعَثْ إِلَيْنَا مَنْ يُخَمِّسُهُ. فَبَعَثَ إِلَيْنَا عَلِيًّا. قَالَ: وَفِي السَّبْيِ وَصِيفَةٌ هِيَ مِنْ أَفْضَلِ السَّبْيِ، فَخَمَّسَ وَقَسَمَ، فَخَرَجَ وَرَأَسُهُ يَقْطُرُ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا الْحَسَنِ، مَا هَذَا ؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْوَصِيفَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي السَّبْيِ، فَإِنِّي قَسَمْتُ وَخَمَّسْتُ فَصَارَتْ فِي الْخُمُسِ، ثُمَّ صَارَتْ فِي أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ صَارَتْ فِي آلِ عَلِيٍّ، فَوَقَعْتُ بِهَا. قَالَ: وَكَتَبَ الرَّجُلُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: ابْعَثْنِي ؟ فَبَعَثَنِي مُصَدِّقًا. قَالَ: فَجَعَلْتُ أَقْرَأُ الْكِتَابَ وَأَقُولُ: صَدَقَ. قَالَ: فَأَمْسَكَ يَدِي وَالْكِتَابَ قَالَ: " أَتُبْغِضُ عَلِيًّا " قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " فَلَا تُبْغِضْهُ، وَإِنْ كُنْتَ تُحِبُّهُ فَازْدَدْ لَهُ حُبًّا، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَنَصِيبُ آلِ عَلِيٍّ فِي الْخُمُسِ أَفْضَلُ مِنْ وَصِيفَةٍ ". قَالَ: فَمَا كَانَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ بَعْدَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ عَلِيٍّ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ أَبِي، بُرَيْدَةَ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي الْجَوَّابِ، عَنْ

يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ نَحْوَ رِوَايَةِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ، وَهَذَا غَرِيبٌ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ أَبِي الْجَوَّابِ الْأَحْوَصِ بْنِ جَوَّابٍ بِهِ. وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ الرِّشْكُ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً، وَأَمَرَ عَلَيْهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَحْدَثَ شَيْئًا فِي سَفَرِهِ، فَتَعَاهَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَذْكُرُوا أَمْرَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عِمْرَانُ: وَكُنَّا إِذَا قَدِمْنَا مِنْ سِفْرٍ بَدَأْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ. قَالَ: فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَلِيًّا فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَلِيًّا فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَامَ الثَّالِثُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَلِيًّا فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَامَ الرَّابِعُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَلِيًّا فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرَّابِعِ وَقَدْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، وَقَالَ: " دَعُوا عَلِيًّا، دَعُوا عَلِيًّا، إِنَّ عَلِيًّا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي ". وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَسِيَاقُ التِّرْمِذِيِّ

مُطَوَّلٌ، وَفِيهِ أَنَّهُ أَصَابَ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ. ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ. وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، عَنْ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ شَقِيقٍ الْجَرْمِيِّ وَالْمُعَلَّى بْنِ مَهْدِيٍّ، كُلُّهُمْ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بِهِ.
وَقَالَ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، ثَنَا يُوسُفُ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ رُكَيْنٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ حَمْزَةَ قَالَ سَافَرْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَرَأَيْتُ مِنْهُ جَفْوَةً، فَقُلْتُ: لَئِنْ رَجَعْتُ فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَنَالَنَّ مِنْهُ. قَالَ: فَرَجَعْتُ فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ عَلِيًّا، فَنِلْتُ مِنْهُ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقُولَنَّ هَذَا لِعَلِيٍّ ; فَإِنَّ عَلِيًّا وَلِيُّكُمْ بَعْدِي ".
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ: " أَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي ". وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ،

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبٍ - وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ اشْتَكَى عَلِيًّا النَّاسُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا خَطِيبًا فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَشْكُوا عَلِيًّا، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَخْشَنُ فِي ذَاتِ اللَّهِ ". أَوْ " فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ، أَنَا أَبُو سَهْلِ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَّانُ، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْيَمَنِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَكُنْتُ فِيمَنْ خَرَجَ مَعَهُ، فَلَمَّا أَخَذَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ سَأَلْنَاهُ أَنْ نَرْكَبَ مِنْهَا وَنُرِيحَ إِبِلَنَا - وَكُنَّا قَدْ رَأَيْنَا فِي إِبِلِنَا خَلَلًا - فَأَبَى عَلَيْنَا وَقَالَ: إِنَّمَا لَكُمْ مِنْهَا سَهْمٌ كَمَا لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ وَانْصَفَقَ مِنَ الْيَمَنِ رَاجِعًا أَمَّرَ عَلَيْنَا إِنْسَانًا، فَأَسْرَعَ هُوَ فَأَدْرَكَ الْحَجَّ، فَلَمَّا قَضَى حَجَّتَهُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْجِعْ إِلَى أَصْحَابِكَ حَتَّى تَقْدَمَ عَلَيْهِمْ ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَقَدْ كُنَّا سَأَلْنَا الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ مَا كَانَ عَلِيٌّ مَنَعَنَا إِيَّاهُ فَفَعَلَ، فَلَمَّا جَاءَ عَلِيٌّ عَرَفَ فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ أَنَّهَا قَدْ رُكِبَتْ - رَأَى أَثَرَ الْمَرَاكِبِ - فَذَمَّ الَّذِي أَمَّرَهُ وَلَامَهُ، فَقُلْتُ: أَمَا إِنَّ لِلَّهِ عَلَى إِنْ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ لَأَذْكُرَنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَلَأُخْبِرَنَّهُ مَا لَقِينَا مِنَ الْغِلْظَةِ وَالتَّضْيِيقِ. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ أَنْ أَذْكُرَ لَهُ مَا كُنْتُ حَلَفْتُ عَلَيْهِ، فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ خَارِجًا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآنِي وَقَفَ مَعِي وَرَحَّبَ بِي، وَسَاءَلَنِي وَسَاءَلَتْهُ وَقَالَ: مَتَى قَدِمْتَ ؟ قُلْتُ: قَدَّمْتُ الْبَارِحَةَ. فَرَجَعَ مَعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ فَقَالَ: هَذَا سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ ابْنُ الشَّهِيدِ. قَالَ: " ائْذَنْ لَهُ ". فَدَخَلْتُ فَحَيَّيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَيَّانِي وَسَلَّمَ عَلَيَّ، وَسَاءَلَنِي عَنْ نَفْسِي وَعَنْ أَهْلِي فَأَحْفَى الْمَسْأَلَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَقِينَا مِنْ عَلِيٍّ مِنَ الْغِلْظَةِ وَسُوءِ الصُّحْبَةِ وَالتَّضْيِيقِ ؟ فَانْتَبَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلْتُ أَنَا أُعَدِّدُ مَا لَقِينَا مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي وَسَطِ كَلَامِي ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي، وَكُنْتُ مِنْهُ قَرِيبًا، وَقَالَ: " سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ ابْنُ الشَّهِيدِ، مَهْ بَعْضَ قَوْلِكَ لِأَخِيكَ عَلِيٍّ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ أَخْشَنُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ، أَلَا أَرَانِي كُنْتُ فِيمَا يَكْرَهُ مُنْذُ الْيَوْمِ وَمَا أَدْرِي، لَا جَرَمَ وَاللَّهِ لَا أَذْكُرُهُ بِسُوءٍ أَبَدًا سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نِيَارٍ الْأَسْلَمِيِّ،عَنْ خَالِهِ عَمْرِو بْنِ شَأْسٍ الْأَسْلَمِيِّ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُدَيْبِيَةِ - قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ فِي خَيْلِهِ الَّتِي بَعَثَهُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ، فَجَفَانِي عَلِيٌّ بَعْضَ الْجَفَاءِ، فَوَجَدْتُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِي، فَلَمَّا قَدِمْتُ

الْمَدِينَةَ اشْتَكَيْتُهُ فِي مَجَالِسِ الْمَدِينَةِ وَعِنْدَ مَنْ لَقِيتُهُ، فَأَقْبَلْتُ يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا رَآنِي أَنْظُرُ إِلَى عَيْنَيْهِ نَظَرَ إِلَيَّ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا جَلَسْتُ قَالَ: " أَمَا إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا عَمْرُو لَقَدْ آذَيْتَنِي ". فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أَعُوذُ بِاللَّهِ وَالْإِسْلَامِ أَنْ أُوذِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: " مَنْ آذَى عَلِيًّا فَقَدْ آذَانِي ". وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نِيَارٍ، عَنْ خَالِهِ عَمْرِو بْنِ شَأْسٍ، فَذَكَرَهُ. وَكَذَا رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبَانٍ، عَنِ الْفَضْلِ.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ بِهِ، وَلَفْظُهُ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ آذَى مُسْلِمًا فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ ". وَرَوَى عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الرَّوَاجِنِيُّ عَنْ مُوسَى بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ نَجْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شَأْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَمْرُو، إِنَّهُ مَنْ آذَى عَلِيًّا فَقَدْ آذَانِي ". وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ، ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، ثَنَا قَنَّانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النِّهْمِيُّ،ثَنَا مُصْعَبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ أَنَا وَرَجُلَانِ مَعِي، فَنِلْنَا مِنْ عَلِيٍّ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ فِي

وَجْهِهِ الْغَضَبُ، فَتَعَوَّذْتُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ فَقَالَ: " مَا لَكَمَ وَمَا لِي ! مَنْ آذَى عَلِيًّا فَقَدْ آذَانِي ".
حَدِيثُ غَدِيرِ خُمٍّ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ، الْمَعْنَى، قَالَا: ثَنَا فِطْرٌ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ:جَمَعَ عَلِيٌّ النَّاسَ فِي الرَّحْبَةِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَنْشُدُ اللَّهَ كُلَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ مَا سَمِعَ لَمَّا قَامَ. فَقَامَ ثَلَاثُونَ مِنَ النَّاسِ - قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَقَامَ نَاسٌ كَثِيرٌ - فَشَهِدُوا حِينَ أَخَذَ بِيَدِهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: " أَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ؟ " قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ ". قَالَ: فَخَرَجْتُ كَأَنَّ فِي نَفْسِي شَيْئًا، فَلَقِيتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَمَا تُنْكِرُ ؟ قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذَلِكَ لَهُ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْهُ أَتَمَّ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، ثَنَا أَبُو إِسْرَائِيلَ الْمُلَائِيُّ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَأَنَّ عَلِيًّا انْتَشَدَ النَّاسَ: مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ " ؟ فَقَامَ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا،

فَشَهِدُوا بِذَلِكَ، وَكُنْتُ فِيهِمْ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ: حَدَّثَنَا الْقَوَارِيرِيُّ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ أَرْقَمَ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ:شَهِدْتُ عَلِيًّا فِي الرَّحْبَةِ يُنَاشِدُ النَّاسَ: أَنْشُدُ اللَّهَ مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ". لِمَا قَامَ فَشَهِدَ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَقَامَ اثْنَا عَشَرَ بَدْرِيًّا، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَحَدِهِمْ عَلَيْهِ سَرَاوِيلُ، فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّا سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: " أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجِي أُمَّهَاتُهُمْ ؟ " قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ ".
ثُمَّ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْوَكِيعِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ نِزَارٍ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْعَنْسِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، فَذَكَرَهُ، قَالَ فَقَامَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَقَالُوا: قَدْ رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ حِينَ أَخَذَ بِيَدِهِ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطُّهَوِيُّ، وَاسْمُهُ عِيسَى بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِنْدٍ الْجَمَلِيِّ وَعَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَامِرٍ الثَّعْلَبِيِّ، كِلَاهُمَا، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: غَرِيبٌ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُمَا أَبُو دَاوُدَ الطُّهَوِيُّ.

وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَيْسَانَ الْمَدِينِيُّ سَنَةَ تِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ، ثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ عَمِيرَةَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:شَهِدْتُ عَلِيًّا عَلَى الْمِنْبَرِ يُنَاشِدُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ يَقُولُ مَا قَالَ ؟ فَقَامَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ ". وَرَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عُقْدَةَ الْحَافِظُ الشِّيعِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ الْعَامِرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ فِطْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو ذِي مُرٍّ وَسَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ قَالُوا: سَمِعْنَا عَلِيًّا يَقُولُ فِي الرَّحْبَةِ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ، فَقَامَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَشَهِدُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَأَحِبَّ مَنْ أَحَبَّهُ وَأَبْغِضْ مَنْ أَبْغَضَهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ ". قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ حِينَ فَرَغَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَيُّ أَشْيَاخٍ هُمْ ! وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَكِيمٍ الْأَوْدِيِّ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ

وَعَبْدِ خَيْرٍ قَالَا: ( سَمِعْنَا عَلِيًّا بِرَحْبَةِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: أَنْشُدُ اللَّهَ مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ". فَقَامَ عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ: نَشَدَ عَلِيٌّ النَّاسَ، فَقَامَ خَمْسَةٌ أَوْ سِتَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَهِدُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ".
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ثَنَا حَنَشُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ لَقِيطٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ رِيَاحِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: جَاءَ رَهْطٌ إِلَى عَلَيٍّ بِالرَّحْبَةِ فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مَوْلَانَا. فَقَالَ: كَيْفَ أَكُونُ مَوْلَاكُمْ وَأَنْتُمْ قَوْمٌ عَرَبٌ ؟ قَالُوا: سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ يَقُولُ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَإِنَّ هَذَا مَوْلَاهُ ". قَالَ: رِيَاحٌ: فَلَمَّا مَضَوُا اتَّبَعْتُهُمْ فَسَأَلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالُوا: نَفَرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فِيهِمْ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ حَنَشٍ، عَنْ رِيَاحِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِي الرَّحْبَةِ مَعَ عَلِيٍّ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مَوْلَايَ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: أَبُو أَيُّوبَ، سَمِعْتُ

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ".
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا الرَّبِيعُ - يَعْنِي ابْنَ أَبِي صَالِحٍ الْأَسْلَمِيَّ - حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ الْأَسْلَمِيُّ،سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَنْشُدُ النَّاسَ فَقَالَ: أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا مُسْلِمًا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ مَا قَالَ. فَقَامَ اثْنَا عَشَرَ بَدْرِيًّا فَشَهِدُوا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكِنْدِيِّ، عَنْ زَاذَانَ أَبِي عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا فِي الرَّحْبَةِ وَهُوَ يَنْشُدُ النَّاسَ: مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ وَهُوَ يَقُولُ مَا قَالَ ؟ فَقَامَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ".
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: ثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، ثَنَا شَبَابَةُ، ثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنِي أَبُو مَرْيَمَ وَرَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ". قَالَ: فَزَادَ النَّاسُ بَعْدُ: " اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ ". وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ.

وَقَالَ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، سَمِعْتُ أَبَا الطُّفَيْلِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ أَوْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - شُعْبَةَ الشَّاكُّ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ". قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَأَنَا قَدْ سَمِعْتُهُ قَبْلَ هَذَا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ مَيْمُونِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَأَنَا أَسْمَعُ:نَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: وَادِي خُمٍّ. فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّاهَا بِهَجِيرٍ. قَالَ: فَخَطَبَنَا وَظُلِّلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوْبٍ عَلَى شَجَرَةِ سَمُرٍ مِنَ الشَّمْسِ، فَقَالَ: " أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ - أَوْ: أَلَسْتُمْ تَشْهَدُونَ - أَنِّي أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ ؟ " قَالُوا: بَلَى. قَالَ: " فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَإِنَّ عَلِيًّا مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ عَادِ مَنْ عَادَاهُ وَوَالِ مَنْ وَالَاهُ ". وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَيْمُونِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ ; أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَحَبِيبٌ الْإِسْكَافُ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيُّ، وَأَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ.
وَقَدْ رَوَاهُ مَعْرُوفُ بْنُ خَرَّبُوذَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ قَالَ:

لَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ نَهَى أَصْحَابَهُ عَنْ شَجَرَاتٍ بِالْبَطْحَاءِ مُتَقَارِبَاتٍ أَنْ يَنْزِلُوا حَوْلَهُنَّ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِنَّ فَصَلَّى تَحْتَهُنَّ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ نَبَّأَنِيَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أَنَّهُ لَمْ يُعَمَّرْ نَبِيٌّ إِلَّا مِثْلَ نِصْفِ عُمْرِ الَّذِي مِنْ قَبْلِهِ، وَإِنِّي لَأَظُنُّ أَنْ يُوشِكَ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ، وَإِنِّي مَسْئُولٌ وَأَنْتُمْ مَسْئُولُونَ، فَمَاذَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ " قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ وَجَهَدْتَ، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. قَالَ: " أَلَسْتُمْ تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ جَنَّتَهُ حَقٌّ، وَأَنَّ نَارَهُ حَقٌّ، وَأَنَّ الْمَوْتَ حَقٌّ، وَأَنَّ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ؟ " قَالُوا: بَلَى نَشْهَدُ بِذَلِكَ. قَالَ: " اللَّهُمَّ اشْهَدْ ". ثُمَّ قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ مَوْلَايَ وَأَنَا مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَا أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ ". ثُمَّ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي فَرَطُكُمْ وَإِنَّكُمْ وَارِدُونَ عَلَى الْحَوْضِ، حَوْضٌ أَعْرَضُ مِمَّا بَيْنَ بُصْرَى وَصَنْعَاءَ، فِيهِ آنِيَةٌ عَدَدَ النُّجُومِ، قُدْحَانٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَإِنِّي سَائِلُكُمْ حِينَ تَرِدُونَ عَلَيَّ عَنِ الثَّقَلَيْنِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا ; الثَّقَلُ الْأَكْبَرُ كِتَابُ اللَّهِ، سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَطَرَفٌ بِأَيْدِيكُمْ، فَاسْتَمْسِكُوا بِهِ لَا تَضِلُّوا وَلَا تُبَدِّلُوا، وَعِتْرَتَي أَهْلُ بَيْتِي ; فَإِنَّهُ قَدْ نَبَّأَنِيَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَى الْحَوْضِ ". رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِطُولِهِ مِنْ طَرِيقِ مَعْرُوفٍ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ

ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ:خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلْنَا غَدِيرَ خُمٍّ فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي، فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا قَالَ: " أَلَسْتُ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ؟ " قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " أَلَسْتُ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أُمَّهَاتِكُمْ ؟ ". قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " أَلَسْتُ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ ؟ " قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " أَلَسْتُ، أَلَسْتُ، أَلَسْتُ ؟ " قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هَنِيئًا لَكَ يَا بْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَصْبَحْتَ الْيَوْمَ وَلِيَّ كُلِّ مُؤْمِنٍ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ. وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ السَّامِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُثْمَانَ الْحَضْرَمِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ سَعْدٍ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَهُ طُرُقٌ عَنْهُ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَحُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ وَجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَلَهُ عَنْهُ طُرُقٌ، مِنْهَا - وَهِيَ أَغْرَبُهَا - الطَّرِيقُ الَّتِي قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرَانَ،

أَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، أَنَا أَبُو نَصْرِ حَبْشُونُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَيُّوبَ الْخَلَّالُ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الرَّمْلِيُّ، ثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ الْقُرَشِيُّ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَنْ صَامَ يَوْمَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ كُتِبَ لَهُ صِيَامُ سِتِّينَ شَهْرًا، وَهُوَ يَوْمُ غَدِيرِ خُمٍّ لَمَّا أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: " أَلَسْتُ وَلِيَّ الْمُؤْمِنِينَ ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَخٍ بَخٍ لَكَ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَصْبَحْتَ مَوْلَايَ وَمَوْلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [ الْمَائِدَةِ: 3 ]. وَمَنْ صَامَ يَوْمَ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ كُتِبَ لَهُ صِيَامُ سِتِّينَ شَهْرًا، وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالرِّسَالَةِ. قَالَ: الْخَطِيبُ: اشْتَهَرَ هَذَا الْحَدِيثُ بِرِوَايَةِ حَبْشُونَ، وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَالِمِ بْنِ مِهْرَانَ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ النِّيرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الشَّامِيِّ. قُلْتُ: وَفِيهِ نَكَارَةٌ مِنْ وُجُوهٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ: نَزَلَ فِيهِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ - وَقَدْ وَرَدَ مَثَلُهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيَّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا - وَإِنَّمَا نَزَلَ ذَلِكَ يَوْمَ عَرَفَةَ، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرِ مَنْ ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ وَالْأَسَانِيدُ إِلَيْهِمْ ضَعِيفَةٌ.

حَدِيثُ الطَّيْرِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِيهِ، وَلَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا نَظَرٌ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَيْرٌ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي هَذَا الطَّيْرَ ". فَجَاءَ عَلِيٌّ فَأَكَلَ مَعَهُ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ السُّدِّيِّ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَنَسٍ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ مُسْهِرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا قَطَنُ بْنُ بَشِيرٍ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُثَنَّى، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَلٌ مَشْوِيٌّ بِخُبْزِهِ وَصِنَابِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي مِنْ هَذَا الطَّعَامِ ". فَقَالَتْ عَائِشَةُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ أَبِي. وَقَالَتْ حَفْصَةُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ أَبِي. وَقَالَ أَنَسٌ: وَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ: أَنَسٌ: فَسَمِعْتُ حَرَكَةً بِالْبَابِ، فَخَرَجْتُ، فَإِذَا عَلِيٌّ، فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَاجَةٍ. فَانْصَرَفَ، ثُمَّ سَمِعْتُ حَرَكَةً بِالْبَابِ، فَخَرَجْتُ

فَإِذَا عَلِيٌّ بِالْبَابِ. فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَاجَةٍ. فَانْصَرَفَ، ثُمَّ سَمِعْتُ حَرَكَةً بِالْبَابِ، فَسَلَّمَ عَلِيٌّ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ، فَقَالَ: " انْظُرْ مَنْ هَذَا ؟ " فَخَرَجْتُ فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ، فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: " ائْذَنْ لَهُ ". فَدَخَلَ عَلِيٌّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " اللَّهُمَّ وَإِلَيَّ، اللَّهُمَّ وَإِلَيَّ ".
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ "، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْحَافِظِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الصَّفَّارِ وَحُمَيْدِ بْنِ يُونُسَ الزَّيَّاتِ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ أَحْمَدَ بْنِ عِيَاضِ بْنِ أَبِي طَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ. ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ أَبَا عُلَاثَةَ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ عِيَاضٍ هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ، لَكِنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ عَنْ أَبِيهِ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ، ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ أَبِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْحَاكِمُ: وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِينَ نَفْسًا. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ: وَصْلُهُمْ بِثِقَةٍ يَصِحُّ الْإِسْنَادُ إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: وَصَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ وَسَفِينَةَ. قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَا وَاللَّهِ مَا صَحَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ

إِبْرَاهِيمَ بْنِ ثَابِتٍ الْقَصَّارِ - وَهُوَ مَجْهُولٌ - عَنْ ثَابِتِ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ، فَجَعَلَ يَسُبُّ عَلِيًّا، فَقَالَ أَنَسٌ: اسْكُتْ عَنْ سَبِّ عَلِيٍّ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ مُطَوَّلًا، وَهُوَ مُنْكَرٌ سَنَدًا وَمَتْنًا، ثُمَّ لَمْ يُورِدِ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " غَيْرَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ خَالِدٍ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ. وَهَذَا أَجْوَدُ مِنْ إِسْنَادِ الْحَاكِمِ. وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ أَبُو الْعَلَاءِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَيْرٌ مَشْوِيٌّ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي مِنْ هَذَا الطَّيْرِ ". فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الشَّامِيُّ، عَنْ خُلَيْدِ بْنِ دَعْلَجٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَرْتَنِيسِيُّ عَنْ زُهَيْرٍ، عَنْ عُثْمَانَ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ سُكَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مَيْمُونِ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. فَذَكَرَهُ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونٍ

أَبِي خَلَفٍ، تَفَرَّدَ بِهِ سُكَيْنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَرَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ قُتَيْبَةَ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَنَسٍ. وَرَوَاهُ أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ الْفَيْضِ، ثَنَا الْمَضَاءُ بْنُ الْجَارُودِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ زِيَادٍ، أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ دَعَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مِنَ الْبَصْرَةِ فَسَأَلَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَائِرٌ، فَأَمَرَ بِهِ فَطُبِخَ وَصُنِعَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَيَّ يَأْكُلُ مَعِي " فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: أَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ نَجِيحٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ النَّحْوِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي الْهِنْدِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ الْحَكَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ الْوَرَّاقُ، ثَنَا مُسْهِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَلْعٍ - ثِقَةٌ - ثَنَا عِيسَى بْنُ عُمَرَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهُ طَائِرٌ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي مِنْ هَذَا الطَّيْرَ ". فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَرَدَّهُ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَرَدَّهُ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَرَدَّهُ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَذِنَ لَهُ.

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عُقْدَةَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ، ثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ الْمُخْتَارِ الْكُوفِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَائِرٌ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي ". قَالَ: فَجَاءَ عَلِيٌّ فَدَقَّ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ ذَا ؟ فَقَالَ: أَنَا عَلِيٌّ. فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَاجَةٍ. حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، فَجَاءَ الرَّابِعَةَ فَضَرَبَ الْبَابَ بِرِجْلِهِ فَدَخَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا حَبَسَكَ ؟ " فَقَالَ: قَدْ جِئْتُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَحْبِسُنِي أَنَسٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ ؟ " قَالَ: قُلْتُ: كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْ عَبْدَانَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ يَعْقُوبَ الدَّقَّاقِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْكِسَائِيِّ، عَنْ أَبِي تَوْبَةَ الرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: لَمْ نَكْتُبْهُ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَسَاقَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ نَبْهَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ - رَجُلٍ مَنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَذَكَرَهُ. وَمِنْ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ الْمِهْرِقَانِيِّ، عَنِ النَّجْمِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُلَيْمَانَ أَخِي إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ الرَّازِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. وَمِنْ حَدِيثِ

سُلَيْمَانَ بْنِ قَرْمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ الْعُقَيْلِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى ثَنَا أَبُو هِشَامٍ، ثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، ثَنَا مُسْلِمٌ الْمُلَائِيُّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَأَهَدَتْ أُمُّ أَيْمَنَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَيْرًا مَشْوِيًّا، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِمَنْ تُحِبُّهُ يَأْكُلُ مَعِي مِنْ هَذَا الطَّيْرِ ". قَالَ أَنَسٌ: فَجَاءَ عَلِيٌّ فَاسْتَأْذَنَ، فَقُلْتُ: هُوَ عَلَى حَاجَتِهِ. فَرَجَعَ، ثُمَّ عَادَ فَاسْتَأْذَنَ فَقُلْتُ: هُوَ عَلَى حَاجَتِهِ. فَرَجَعَ، ثُمَّ عَادَ فَاسْتَأْذَنَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ، فَقَالَ: " ائْذَنْ لَهُ ". فَدَخَلَ وَهُوَ مَوْضُوعٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَكَلَ مِنْهُ وَحَمِدَ اللَّهَ.
فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، كُلٌّ مِنْهَا فِيهِ ضَعْفٌ وَمَقَالٌ. وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ فِي جُزْءٍ جَمَعَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ مَا أَوْرَدَ طُرُقًا مُتَعَدِّدَةً نَحْوًا مِمَّا ذَكَرْنَا: وَيُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وُجُوهٍ بَاطِلَةٍ أَوْ مُظْلِمَةٍ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَأَبِي عِصَامٍ خَالِدِ بْنِ عُبَيْدٍ، وَدِينَارِ أَبِي مَكْيَسٍ، وَزِيَادِ بْنِ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيِّ، وَزِيَادٍ الْعَبْسِيِّ، وَزِيَادِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَسَعْدِ بْنِ مَيْسَرَةَ الْبَكْرِيِّ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَمِيرِ، وَسَلَمَةَ بْنِ وَرْدَانَ، وَصَبَّاحِ بْنِ مُحَارِبٍ، وَطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَعَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَامِرٍ، وَعُمَرَ بْنِ رَاشِدٍ، وَعُمَرَ بْنِ أَبِي حَفْصٍ الثَّقَفِيِّ الضَّرِيرِ، وَعُمَرَ بْنِ سُلَيْمٍ الْبَجَلِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ يَحْيَى الثَّقَفِيِّ، وَعُثْمَانَ الطَّوِيلِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، وَعِيسَى بْنِ طَهْمَانَ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَعَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَعَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، وَعَبَّاسِ بْنِ عَلِيٍّ، وَفُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، وَقَاسِمِ بْنِ حَبِيبٍ، وَكُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ

الْبَاقِرِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ الثَّقَفِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَمُوسَى الطَّوِيلِ، وَمَيْمُونِ بْنِ جَابِرٍ السُّلَمِيِّ، وَمَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَمُعَلَّى بْنِ أَنَسٍ، وَمَيْمُونٍ أَبِي خَلَفٍ الْحَرَّانِيِّ، وَقِيلَ: أَبُو خَالِدٍ. وَمَطَرٍ أَبِي خَالِدٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَمُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ، وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَالنَّضْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَيُوسُفَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَيُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ، وَيَزِيدَ بْنِ سُفْيَانَ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، وَأَبِي الْمَلِيحِ، وَأَبِي الْحَكَمِ، وَأَبِي دَاوُدَ السَّبِيعِيِّ، وَأَبِي حَمْزَةَ الْوَاسِطِيِّ، وَأَبِي حُذَيْفَةَ الْعُقَيْلِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ هُدْبَةَ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْجَمِيعَ: الْجَمِيعُ بِضْعَةٌ وَتِسْعُونَ نَفْسًا، أَقْرَبُهَا غَرَائِبُ ضَعِيفَةٌ، وَأَرْدَؤُهَا طُرُقٌ مُخْتَلِفَةٌ مُفْتَعَلَةٌ، وَغَالِبُهَا طُرُقٌ وَاهِيَةٌ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا الْقَوَارِيرِيُّ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ أَرْقَمَ، ثَنَا مُطَيْرُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبَجَلِيِّ، عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:أَهَدَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ طَائِرَيْنِ بَيْنَ رَغِيفَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْتِ غَيْرِي وَغَيْرُ أَنَسٍ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِغَدَائِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَهْدَتْ لَكَ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ هَدِيَّةً. فَقَدَّمْتُ الطَّائِرَيْنِ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ وَإِلَى رَسُولِكَ ". فَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَضَرَبَ

الْبَابَ ضَرْبًا خَفِيًّا، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: أَبُو الْحَسَنِ. ثُمَّ ضَرَبَ الْبَابَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ هَذَا ؟ " قُلْتُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: " افْتَحْ لَهُ ". فَفَتَحْتُ لَهُ، فَأَكَلَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الطَّيْرَيْنِ حَتَّى فَنِيَا.
وَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، ثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَائِرٍ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِرَجُلٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ". فَجَاءَ عَلِيٌّ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ وَإِلَيَّ ".
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ نَفْسِهِ، فَقَالَ عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ: ثَنَا عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَيْرٌ يُقَالُ لَهُ: الْحُبَارَى فَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَحْجُبُهُ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي هَذَا الطَّيْرَ ". قَالَ: فَجَاءَ عَلِيٌّ فَاسْتَأْذَنَ، فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - يَعْنِي - عَلَى حَاجَتِهِ، فَرَجَعَ ثُمَّ أَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ، فَرَجَعَ ثُمَّ دَعَا الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اللَّهُمَّ وَإِلَيَّ ". فَأَكَلَ مَعَهُ، فَلَمَّا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ عَلِيٌّ، قَالَ أَنَسٌ: اتَّبَعْتُ عَلِيًّا فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، اسْتَغْفِرْ لِي فَإِنَّ لِي إِلَيْكَ ذَنْبًا، وَإِنَّ عِنْدِي

بِشَارَةً. فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لِي، وَرَضِيَ عَنِّي ; أَذْهَبَ ذَنْبِي عِنْدَهُ بِشَارَتِي إِيَّاهُ. وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُ مُظْلِمٌ وَفِيهِ ضُعَفَاءُ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ حُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ، وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا، وَمِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ، وَالْإِسْنَادُ إِلَيْهِ مُظْلِمٌ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ نَحْوَهُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ طَرِيقُهُ مُظْلِمٌ.
وَقَدْ جَمَعَ النَّاسُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُصَنَّفَاتٍ مُفْرَدَةً، مِنْهُمْ ; أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ، فِيمَا رَوَاهُ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ، وَرَأَيْتُ فِيهِ مُجَلَّدًا فِي جَمْعِ طُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ الْمُفَسِّرِ صَاحِبِ " التَّارِيخِ "، ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى مُجَلَّدٍ كَبِيرٍ فِي رَدِّهِ وَتَضْعِيفِهِ سَنَدًا وَمَتْنًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ الْمُتَكَلِّمِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي الْقَلْبِ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ، وَإِنْ كَثُرَتْ طُرُقُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ فِي فَضْلِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ: ثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى الْأَسَدِيُّ، ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي نَخْلٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ: الْأَسْوَافُ. فَفَرَشَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ صَوْرٍ لَهَا مَرْشُوشٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْآنَ يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ: " الْآنَ يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". فَجَاءَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: " الْآنَ يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ مُطَأْطِئًا رَأْسَهُ مِنْ تَحْتِ الصَّوْرِ، ثُمَّ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ جَعَلَتْهُ عَلِيًّا ". فَجَاءَ عَلِيٌّ، ثُمَّ إِنَّ الْأَنْصَارِيَّةَ ذَبَحَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً وَصَنَعَتْهَا، فَأَكَلَ وَأَكَلْنَا، فَلَمَّا حَضَرَتِ الظَّهْرُ قَامَ يُصَلِّي وَصَلَّيْنَا، مَا تَوَضَّأَ وَلَا تَوَضَّأْنَا، فَلَمَّا حَضَرَتِ الْعَصْرُ صَلَّى، وَمَا تَوَضَّأَ وَلَا تَوَضَّأْنَا.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ الْكُوفِيُّ، ثَنَا ابْنُ أَبِي غَنِيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أُمِّي عَلَى عَائِشَةَ، فَسَأَلْتُهَا عَنْ عَلِيٍّ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، وَلَا امْرَأَةً كَانَتْ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِ امْرَأَتِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الشِّيعَةِ عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ لِي:

أَيُسَبُّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيكُمْ ؟ فَقُلْتُ: مَعَاذَ اللَّهِ - أَوْ: سُبْحَانَ اللَّهِ. أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ سَبَّ عَلِيًّا فَقَدْ سَبَّنِي ".
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَجْلِيِّ - مِنْ بَجْلَةَ مِنْ سُلَيْمٍ - عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ قَالَ:قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: أَيُسَبُّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيكُمْ عَلَى الْمَنَابِرِ ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَأَنَّى ذَلِكَ ؟ قَالَتْ: أَلَيْسَ يُسَبُّ عَلِيٌّ وَمَنْ أَحَبَّهُ ؟ فَأَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّهُ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِهَا وَحَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ: " كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُحِبُّنِي وَيُبْغِضُكَ ". وَلَكِنَّ أَسَانِيدَهَا كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا يُحْتَجُّ بِهَا.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ: " إِنَّهُ لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ ". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَوَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ

مُوسَى، وَمُحَاضِرُ بْنُ الْمُوَرِّعِ، وَيَحْيَى بْنُ عِيسَى الرَّمْلِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ وَكِيعٍ وَأَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَرَوَاهُ حَسَّانُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَلِيٍّ، فَذَكَرَهُ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَلِيٍّ. وَهَذَا الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبِي نَصْرٍ، حَدَّثَنِي مُسَاوِرٌ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ: " لَا يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ وَلَا يُحِبُّكَ مُنَافِقٌ " وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَلَا يَصِحُّ.
وَرَوَى ابْنُ عُقْدَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَزِيعٍ، ثَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا سَوَّارُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى الْجَزَّارِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ آمَنَ بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ وَهُوَ يُبْغِضُ

عَلِيًّا، فَهُوَ كَاذِبٌ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ ". وَهَذَا بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُخْتَلَقٌ لَا يَثْبُتُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَزَوَّرِ، سَمِعْتُ أَبَا مَرْيَمَ الثَّقَفِيَّ، سَمِعْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ يَقُولُ:سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ: " طُوبَى لِمَنْ أَحَبَّكَ وَصَدَقَ فِيكَ، وَوَيْلٌ لِمَنْ أَبْغَضَكَ وَكَذَبَ فِيكَ ". وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَا أَصَلَ لَهَا.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَزْهَرِ، ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: " أَنْتَ سَيِّدٌ فِي الدُّنْيَا، سَيِّدٌ فِي الْآخِرَةِ، مَنْ أَحَبَّكَ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَحَبِيبُكَ حَبِيبُ اللَّهِ، وَمَنْ أَبْغَضَكَ فَقَدْ أَبْغَضَنِي، وَبَغِيضُكَ بَغِيضُ اللَّهِ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ أَبْغَضَكَ مِنْ بَعْدِي ". وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ أَيْضًا عَنِ الْحَارِثِ بْنِ حَصِيرَةَ، عَنْ أَبِي صَادِقٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ نَاجِذٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " إِنَّ فِيكَ مِنْ عِيسَى مَثْلًا، أَبْغَضَتْهُ يَهُودُ حَتَّى بَهَتُوا أُمَّهُ، وَأَحَبَّتْهُ النَّصَارَى حَتَّى أَنْزَلُوهُ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي لَيْسَ بِهِ ". قَالَ عَلِيٌّ: أَلَا وَإِنَّهُ يَهْلِكُ فِيَّ اثْنَانِ ; مُحِبٌّ مُطْرٍ يُقَرِّظُنِي بِمَا لَيْسَ

فِيَّ، وَمُبْغِضٌ يَحْمِلُهُ شَنَآنِي عَلَى أَنْ يَبْهَتَنِي، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِنَبِيٍّ وَلَا يُوحَى إِلَيَّ، وَلَكِنِّي أَعْمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اسْتَطَعْتُ، فَمَا أَمَرْتُكُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَحَقٌّ عَلَيْكُمْ طَاعَتِي فِيمَا أَحْبَبْتُمْ وَكَرِهْتُمْ. لَفْظُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحُمَيْدِ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ عَبَايَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَنَا قَسِيمُ النَّارِ، إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قُلْتُ: هَذَا لَكِ وَهَذَا لِي. قَالَ يَعْقُوبُ: وَمُوسَى بْنُ طَرِيفٍ ضَعِيفٌ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُعَدِّلُهُ، وَعَبَايَةُ أَقَلُّ مِنْهُ، لَيْسَ حَدِيثُهُ بِشَيْءٍ. وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا مُعَاوِيَةَ لَامَ الْأَعْمَشَ عَلَى تَحْدِيثِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ لَهُ الْأَعْمَشُ: إِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي. وَيُقَالُ: إِنَّ الْأَعْمَشَ إِنَّمَا رَوَاهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ بِالرَّوَافِضِ وَالتَّنْقِيصِ لَهُمْ فِي تَصْدِيقِهِمْ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَمَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ الْعَوَامِّ - بَلْ هُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ - أَنَّ عَلِيًّا هُوَ السَّاقِي عَلَى الْحَوْضِ، فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، وَلَمْ يَجِئْ مِنْ طَرِيقٍ مَرْضِيٍّ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَالَّذِي ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يَسْقِي النَّاسَ. وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَاكِبًا إِلَّا أَرْبَعَةٌ ; رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبُرَاقِ، وَصَالِحٌ عَلَى نَاقَتِهِ، وَحَمْزَةُ عَلَى الْعَضْبَاءِ، وَعَلِيٌّ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ نُوقِ الْجَنَّةِ رَافِعًا صَوْتَهُ بِالتَّهْلِيلِ. وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ مِنْ وَضْعِ

الرَّافِضَةِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا وَجِعٌ، وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَجَلِي قَدْ حَضَرَ فَأَرِحْنِي، وَإِنْ كَانَ آجِلًا فَارْفَعْنِي، وَإِنْ كَانَ بَلَاءً فَصَبِّرْنِي. قَالَ: " مَا قُلْتَ ؟ " فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ، فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ وَقَالَ: " مَا قُلْتَ ؟ " فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ عَافِهِ " أَوِ: " اشْفِهِ ". قَالَ: فَمَا اشْتَكَيْتُ ذَلِكَ الْوَجَعَ بَعْدُ. حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، ثَنَا أَبُو عُمَرَ الْأَزْدِيُّ، عَنْ أَبِي رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيِّ، عَنْ أَبِي الْحَمْرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى آدَمَ فِي عِلْمِهِ، وَإِلَى نُوحٍ فِي فَهْمِهِ، وَإِلَى إِبْرَاهِيمَ فِي حِلْمِهِ، وَإِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا فِي زُهْدِهِ، وَإِلَى مُوسَى فِي بَطْشِهِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ". وَهَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَلَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ.

حَدِيثُ رَدِّ الشَّمْسِ لَهُ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ، قَدْ ذَكَّرْنَاهُ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِأَسَانِيدِهِ وَأَلْفَاظِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.

حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ الْكُوفِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْأَجْلَحِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا يَوْمَ الطَّائِفِ فَانْتَجَاهُ، فَقَالَ النَّاسُ: لَقَدْ طَالَ نَجْوَاهُ مَعَ ابْنِ عَمِّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا انْتَجَيْتُهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ انْتَجَاهُ ". ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْأَجْلَحِ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ ابْنِ فُضَيْلٍ عَنِ الْأَجْلَحِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " وَلَكِنَّ اللَّهَ انْتَجَاهُ ". أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَنْتَجِيَ مَعَهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي الْجَرَّاحِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ صُبْحٍ، حَدَّثَتْنِي أُمِّي أُمُّ شَرَاحِيلَ، حَدَّثَتْنِي أُمُّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا فِيهِمْ عَلِيٌّ. قَالَتْ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي حَتَّى تُرِيَنِي عَلِيًّا ". ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ قَالَ: حُصَيْنٌ أَخْبَرَنَا عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ظَالِمٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ مُعَاوِيَةُ مِنَ الْكُوفَةِ اسْتَعْمَلَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ. قَالَ: فَأَقَامَ خُطَبَاءَ يَقَعُونَ فِي عَلِيٍّ. قَالَ: وَأَنَا إِلَى جَنْبِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ نُفَيْلٍ. قَالَ: فَغَضِبَ، فَقَامَ وَأَخَذَ بِيَدِي فَتَبِعْتُهُ، فَقَالَ: أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الظَّالِمِ لِنَفَسِهِ الَّذِي يَأْمُرُ بِلَعْنِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ! وَأَشْهَدُ عَلَى التِّسْعَةِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَوْ شَهِدْتُ عَلَى الْعَاشِرِ لَمْ

آثَمْ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اثْبُتْ حِرَاءُ، فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ ". قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هُمْ ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٍّ، وَالزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَنِ الْعَاشِرُ ؟ قَالَ: قَالَ: أَنَا.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ هَاهُنَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمُ قَرِيبًا، أَنَّهَا قَالَتْ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ: أَيُسَبُّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيكُمْ عَلَى الْمَنَابِرِ ؟ الْحَدِيثَ، رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَابْنُ أَبِي بُكَيْرٍ قَالَا: ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ السَّلُولِيِّ - وَكَانَ قَدْ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلِيٌّ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَلَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا أَنَا أَوْ عَلِيٌّ ". ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: قَالَ إِسْرَائِيلُ: قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ بِ " بَرَاءَةٌ " إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَاللَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَسَارَ بِهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ: " الْحَقْهُ وَرُدَّ عَلَيَّ أَبَا بَكْرٍ، وَبَلِّغْهَا أَنْتَ ". قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَكَى وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدَثَ فِيَّ شَيْءٌ ؟ قَالَ: " مَا حَدَثَ فِيكَ إِلَّا

خَيْرٌ، وَلَكِنْ أُمِرْتُ أَنْ لَا يُبَلِّغَهُ إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ".
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ لُوَيْنٌ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ حَنَشٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَشْرُ آيَاتٍ مِنْ " بَرَاءَةٌ " عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ، فَبَعَثَهُ بِهَا لِيَقْرَأَهَا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ دَعَانِي، فَقَالَ لِي: " أَدْرِكْ أَبَا بَكْرٍ، فَحَيْثُ لَحِقْتَهُ فَخُذِ الْكِتَابَ مِنْهُ، فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَاقْرَأْهُ عَلَيْهِمْ ". فَلَحِقْتُهُ بِالْجُحْفَةِ فَأَخَذْتُ الْكِتَابَ مِنْهُ، وَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَزَلَ فِيَّ شَيْءٍ ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ جَاءَنِي فَقَالَ: لَا يُؤَدِّي عَنْكَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ ". وَقَدْ رَوَاهُ كَثِيرٌ النِّوَّاءُ. عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِنَحْوِهِ، وَفِيهِ نَكَارَةٌ مِنْ جِهَةِ أَمْرِهِ بِرَدِّ الصِّدِّيقِ ; فَإِنَّ الصِّدِّيقَ لَمْ يَرْجِعْ، بَلْ كَانَ هُوَ أَمِيرَ الْحَجِّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَكَانَ عَلِيٌّ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ بَعَثَهُمُ الصِّدِّيقُ يَطُوفُونَ بِرِحَابِ مِنًى فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ يُنَادُونَ بِ " بَرَاءَةٌ ". وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الصِّدِّيقِ، وَفِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ " بَرَاءَةٌ ".
حَدِيثٌ آخَرُ: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَأَنَسٍ، وَثَوْبَانَ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي ذَرٍّ، وَجَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ

عَلِيٍّ عِبَادَةٌ ". وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: " ذِكْرُ عَلِيٍّ عِبَادَةٌ ". وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا ; فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو كُلُّ سَنَدٍ مِنْهَا عَنْ كَذَّابٍ أَوْ مَجْهُولٍ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ، وَهُوَ شِيعِيٌّ.

حَدِيثُ الصَّدَقَةِ بِالْخَاتَمِ وَهُوَ رَاكِعٌ:
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلْمٍ الرَّازِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ ضُرَيْسٍ الْعَبْدِيُّ، ثَنَا عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [ الْمَائِدَةِ: 55 ]. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بَيْنَ رَاكِعٍ وَقَائِمٍ، وَإِذَا سَائِلٌ، فَقَالَ: " يَا سَائِلُ، هَلْ أَعْطَاكَ أَحَدٌ شَيْئًا ؟ " فَقَالَ: لَا، إِلَّا هَاذَاكَ الرَّاكِعُ - لِعَلِيٍّ - أَعْطَانِي خَاتَمَهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ: أَنَا خَالِي أَبُو الْمَعَالِي الْقَاضِي، أَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْخِلَعِيُّ، أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّاهِدُ، ثَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الرَّمْلِيُّ، ثَنَا الْقَاضِي جُمْلَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْأَحْوَلُ، عَنْ مُوسَى بْنِ قَيْسٍ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: تَصَدَّقَ عَلِيٌّ بِخَاتَمِهِ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَنَزَلَتْ: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ.

وَهَذَا لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ; لِضَعْفِ أَسَانِيدِهِ، وَلَمْ يَنْزِلْ فِي عَلِيٍّ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ بِخُصُوصِيَّتِهِ، وَكُلُّ مَا يُورِدُونَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [ الرَّعْدِ: 7 ]. وَقَوْلِهِ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [ الْإِنْسَانِ: 8 ]. وَقَوْلُهُ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [ التَّوْبَةِ: 19 ]. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [ الْحَجِّ: 19 ]. فَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ وَعُبَيْدَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ مِنَ الْكَافِرِينَ.
وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا نَزَلَ فِي أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مَا نَزَلَ فِي عَلِيٍّ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَ فِيهِ ثَلَاثُمِائَةِ آيَةٍ. فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا. وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا مَا قَالُوا فِيهِ أَنَّهُ قَالَ: مَا نَزَلَتْ آيَةٌ فِيهَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَّا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَأْسُهَا. كُلُّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ غُلُوِّ الرَّافِضَةِ.

حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلَابِيُّ، ثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ أَبُو الْوَلِيدِ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَمِّهِ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ أَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ، إِذْ أَقْبَلَ عَلِيٌّ فَسَلَّمَ، ثُمَّ وَقَفَ يَنْظُرُ مَكَانًا يَجْلِسُ فِيهِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وُجُوهِ أَصْحَابِهِ أَيُّهُمْ يُوَسِّعُ لَهُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا، فَتَزَحْزَحَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ مَجْلِسِهِ وَقَالَ: هَاهُنَا يَا أَبَا الْحَسَنِ. فَجَلَسَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَرَأَيْنَا السُّرُورَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ ذَوُو الْفَضْلِ ". فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ عَنْ عَلِيٍّ وَحُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: " عَلِيٌّ خَيْرُ الْبَشَرِ، مَنْ أَبَى فَقَدْ كَفَرَ ". فَهُوَ مَوْضُوعٌ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ مَعًا. قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ وَضَعَهُ وَاخْتَلَقَهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الرُّومِيِّ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا دَارُ الْحِكْمَةِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا ". ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ. قَالَ: وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قُلْتُ: رَوَاهُ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: " أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَلْيَأْتِ بَابَ الْمَدِينَةِ ".
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ سَلَمَةَ أَبِي عَمْرٍو الْجُرْجَانِيِّ، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَلْيَأْتِهَا مِنْ قِبَلِ بَابِهَا ". ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يُعْرَفُ بِأَبِي الصَّلْتِ الْهَرَوِيِّ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، سَرَقَهُ مِنْهُ أَحْمَدُ بْنُ سَلَمَةَ هَذَا، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ. هَكَذَا قَالَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنِ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَيْمَنَ، أَنَّ أَبَا مُعَاوِيَةَ حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَدِيمًا، ثُمَّ كَفَّ عَنْهُ. قَالَ: وَكَانَ أَبُو الصَّلْتِ رَجُلًا مُوسِرًا يُكْرِمُ الْمَشَايِخَ وَيُحَدِّثُونَهُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ. وَسَاقَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادٍ مُظْلِمٍ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَذَكَرَهُ مَرْفُوعًا، وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ جَابِرٍ. قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: وَهُوَ مَوْضُوعٌ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ: لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ.

حَدِيثٌ آخَرُ يَقْرُبُ مِمَّا قَبْلَهُ: قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَمْدُونَ النَّيْسَابُورِيُّ، ثَنَا ابْنُ بِنْتِ أَبِي أُسَامَةَ - هُوَ جَعْفَرُ بْنُ هُذَيْلٍ - ثَنَا ضِرَارُ بْنُ صُرَدٍ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى الرَّمْلِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبَايَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " عَلِيٌّ عَيْبَةُ عِلْمِي ".
حَدِيثٌ آخَرُ فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ: قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: ثَنَا أَبُو يَعْلَى، ثَنَا كَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ، ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، ثَنَا حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ: " ادْعُوا لِي أَخِي ". فَدَعَوا لَهُ أَبَا بَكْرٍ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: " ادْعُوا لِي أَخِي ". فَدَعَوا لَهُ عُمَرَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: " ادْعُوا لِي أَخِي ". فَدَعَوا لَهُ عُثْمَانَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: " ادْعُوا لِي أَخِي ". فَدُعِيَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَسَتَرَهُ بِثَوْبٍ وَأَكَبَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قِيلَ لَهُ: مَا قَالُ لَكَ ؟ قَالَ: عَلَّمَنِي أَلْفَ بَابٍ، يَفْتَحُ كُلُّ بَابٍ إِلَى أَلْفِ بَابٍ. قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَلَعَلَّ الْبَلَاءَ فِيهِ مِنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، فَإِنَّهُ شَدِيدُ الْإِفْرَاطِ فِي التَّشَيُّعِ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الْأَئِمَّةُ وَنَسَبُوهُ إِلَى الضَّعْفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ، أَنَا أَبُو نُعَيْمٍ

الْحَافِظُ، أَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْغِطْرِيفِيُّ، ثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي مُقَاتِلٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عَتَبَةَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَهْبِيُّ الْكُوفِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ سَلَمَةَ - وَكَانَ ثِقَةً عَدْلًا مَرْضِيًّا - ثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُئِلَ عَنْ عَلِيٍّ، فَقَالَ: " قُسِمَتِ الْحِكْمَةُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، أُعْطِيَ عَلِيٌّ تِسْعَةً وَالنَّاسُ جُزْءًا وَاحِدًا " وَسَكَتَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى أَمْرِهِ، وَهُوَ مُنْكَرٌ بَلْ مَوْضُوعٌ، مُرَكَّبٌ عَلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ، قَبَّحَ اللَّهُ وَاضِعَهُ وَمَنِ افْتَرَاهُ وَاخْتَلَقَهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ، لَيْسَ لِي عِلْمٌ بِالْقَضَاءِ. قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ ". قَالَ: فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ بَعْدُ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: عَلِيٌّ أَقْضَانَا، وَأُبَيٌّ أَقْرَؤُنَا لِلْقُرْآنِ. وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ مُعْضِلَةٍ وَلَا أَبُو حَسَنٍ لَهَا.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أُمِّ مُوسَى، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: وَالَّذِي أَحْلِفُ بِهِ إِنْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَأَقْرَبُ النَّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; عُدْنَا رَسُولَ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةً بَعْدَ غَدَاةٍ يَقُولُ: " جَاءَ عَلِيٌّ ؟ " مِرَارًا، وَأَظُنُّهُ كَانَ بَعَثَهُ فِي حَاجَةٍ. قَالَتْ: فَجَاءَ بَعْدُ، فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ حَاجَةً، فَخَرَجْنَا مِنَ الْبَيْتِ فَقَعَدْنَا عِنْدَ الْبَابِ، فَكُنْتُ مِنْ أَدْنَاهُمْ إِلَى الْبَابِ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ عَلِيٌّ، فَجَعَلَ يُسَارُّهُ وَيُنَاجِيهِ، ثُمَّ قُبِضَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، فَكَانَ أَقْرَبَ النَّاسِ بِهِ عَهْدًا. وَهَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ وَأَبُو يَعْلَى، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ فِي مَعْنَاهُ: قَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ سَعِيدٍ،عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ أُمَّهُ وَخَالَتَهُ دَخَلَتَا عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرِينَا عَنْ عَلِيٍّ. قَالَتْ: أَيُّ شَيْءٍ تَسْأَلْنَ ؟ عَنْ رَجُلٍ وَضَعَ يَدَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعًا، فَسَالَتْ نَفْسُهُ فِي يَدِهِ فَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَحَبَّ الْأَمَاكِنِ إِلَى اللَّهِ مَكَانٌ قُبِضَ فِيهِ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتَا: فَلِمَ خَرَجْتِ عَلَيْهِ ؟ قَالَتْ: أَمْرٌ قُضِيَ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أَفْدِيهِ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ وَهَذَا مُنْكَرٌ جِدًّا، وَفِي " الصَّحِيحِ " مَا يَرُدُّ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ - يَعْنِي الْفَرَّاءَ - عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ نُؤَمِّرُ بَعْدَكَ ؟ قَالَ: " إِنْ تُؤَمِّرُوا أَبَا بَكْرٍ تَجِدُوهُ أَمِينًا زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ تُؤَمِّرُوا عُمَرَ تَجِدُوهُ قَوِيًّا أَمِينًا لَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَإِنْ تُؤَمِّرُوا عَلِيًّا، وَلَا أُرَاكُمْ فَاعِلِينَ، تَجِدُوهُ

هَادِيًا مَهْدِيًّا يَأْخُذُ بِكُمُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ ". وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ الْعَلَاءِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو الصَّلْتِ الْهَرَوِيُّ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ بِهِ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْآدَمِيُّ بِمَكَّةَ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصَّنْعَانِيُّ، أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مِينَاءَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ وَفَدَ الْجِنُّ. قَالَ: فَتَنَفَّسَ فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي ". قُلْتُ: فَاسْتَخْلِفْ. قَالَ: " مَنْ ؟ " قُلْتُ: أَبَا بَكْرٍ. قَالَ: فَسَكَتَ، ثُمَّ مَضَى سَاعَةً، ثُمَّ تَنَفَّسَ فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي ". يَا ابْنَ مَسْعُودٍ ". قُلْتُ: فَاسْتَخْلِفْ. قَالَ: " مَنْ ؟ " قُلْتُ: عُمَرَ. قَالَ: فَسَكَتَ، ثُمَّ مَضَى سَاعَةً، ثُمَّ تَنَفَّسَ فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ: " نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي ". يَا ابْنَ مَسْعُودٍ ". قُلْتُ: فَاسْتَخْلِفْ. قَالَ: " مَنْ ؟ " قُلْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: " أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ أَطَاعُوهُ لَيَدْخُلُنَّ الْجَنَّةَ أَجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ ". قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: هَمَّامٌ وَمِينَاءُ مَجْهُولَانِ.

حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو يَعْلَى ثَنَا أَبُو مُوسَى - يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ الْمُثَنَّى - ثَنَا سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ أَبُو عَتَّابٍ الدَّلَّالُ، ثَنَا مُخْتَارُ بْنُ نَافِعٍ التَّيْمِيُّ، ثَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، زَوَّجَنِي ابْنَتَهُ، وَحَمَلَنِي إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ، وَأَعْتَقَ بِلَالًا مِنْ مَالِهِ، رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، يَقُولُ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، تَرَكَهُ الْحَقُّ وَمَا لَهُ مِنْ صَدِيقٍ، رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ، تَسْتَحِيهِ الْمَلَائِكَةُ، رَحِمَ اللَّهُ عَلِيًّا، اللَّهُمَّ أَدِرِ الْحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ ". وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ، قَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا عُثْمَانُ، ثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنْزِيلِهِ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " لَا ". فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنَّهُ خَاصِفُ النَّعْلِ ". وَكَانَ قَدْ أَعْطَى عَلِيًّا نَعْلَهُ يَخْصِفُهُ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ وَحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ بِهِ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، مِنْ

حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِهِ. وَرَوَاهُ فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ نَفْسِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فِي مَوْضِعِهِ فِي قِتَالِ عَلِيٍّ أَهْلَ الْبَغْيِ وَالْخَوَارِجَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدَّمْنَا أَيْضًاحَدِيثَ عَلِيٍّ لِلزُّبَيْرِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَكَ إِنَّكَ تُقَاتِلُنِي وَأَنْتَ ظَالِمٌ. فَرَجَعَ الزُّبَيْرُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجَمَلِ، ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ مَرْجِعِهِ فِي وَادِي السِّبَاعِ. وَقَدَّمْنَا صَبْرَهُ وَصَرَامَتَهُ وَشَجَاعَتَهُ فِي يَوْمَيِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَبَسَالَتَهُ وَفَضْلَهُ فِي يَوْمِ النَّهْرَوَانِ، وَمَا وَرَدَ فِي فَضْلِ طَائِفَتِهِ الَّذِينَ قَتَلُوا الْخَوَارِجَ، مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَذَكَرْنَا الْحَدِيثَ الْوَارِدَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ، عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي أَيُّوبَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَالنَّاكِثِينَ، وَفَسَّرُوا النَّاكِثِينَ بِأَصْحَابِ الْجَمَلِ، وَالْقَاسِطِينَ بِأَهْلِ الشَّامِ، وَالْمَارِقِينَ بِالْخَوَارِجِ وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ.

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ الْعَادِلَةِ وَطَرِيقَتِهِ الْفَاضِلَةِ وَمَوَاعِظِهِ وَقَضَايَاهُ الْفَاصِلَةِ، وَخُطَبِهِ الْكَامِلَةِ وَحِكَمِهِ الَّتِي هِيَ إِلَى الْقُلُوبِ وَاصِلَةٌ
قَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَطَبَ عَلِيٌّ

فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا رَزَأْتُ مِنْ مَالِكُمْ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا إِلَّا هَذِهِ. وَأَخْرَجَ قَارُورَةً مِنْ كُمِّ قَمِيصِهِ فِيهَا طِيبٌ. فَقَالَ: أَهْدَاهَا إِلَى الدِّهْقَانُ. ثُمَّ أَتَى بَيْتَ الْمَالِ فَقَالَ: خُذُوا. وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَفْلَحَ مَنْ كَانَتْ لَهُ قَوْصَرَّهْ يَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ يَوْمٍ تَمْرَهْ
وَفِي رِوَايَةٍ: مَرَّهْ. وَفِي رِوَايَةٍ:
طُوبَى لِمَنْ كَانَتْ لَهُ قَوْصَرَّهْ
................................
وَقَالَ حَرْمَلَةُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيْرٍ الْغَافِقِيِّ قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ الْأَضْحَى، فَقَرَّبَ إِلَيْنَا خَزِيرَةً، فَقُلْنَا: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، لَوْ قَدَّمْتَ إِلَيْنَا هَذَا الْبَطَّ وَالْإِوَزَّ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْثَرَ الْخَيْرَ. فَقَالَ: يَا ابْنَ زُرَيْرٍ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا يَحِلُّ لِلْخَلِيفَةِ مِنْ مَالِ اللَّهِ إِلَّا قَصْعَتَانِ ; قَصْعَةٌ يَأْكُلُهَا هُوَ وَأَهْلُهُ، وَقَصْعَةٌ يُطْعِمُهَا النَّاسَ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ وَأَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنَى هَاشِمٍ، قَالَا: ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هُبَيْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - قَالَ حَسَنٌ: يَوْمَ الْأَضْحَى - فَقَرَّبَ إِلَيْنَا خَزِيرَةً، فَقُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، لَوْ قَرَّبْتَ إِلَيْنَا مِنْ هَذَا الْبَطِّ - يَعْنِي الْوَزِّ - فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْثَرَ

الْخَيْرَ. فَقَالَ: يَا ابْنَ زُرَيْرٍ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِلْخَلِيفَةِ مِنْ مَالِ اللَّهِ إِلَّا قَصْعَتَانِ ; قَصْعَةٌ يَأْكُلُهَا هُوَ وَأَهْلُهُ، وَقَصْعَةٌ يَضَعُهَا بَيْنَ يَدَيِ النَّاسِ ".
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالْخَوَرْنَقِ وَعَلَيْهِ قَطِيفَةٌ وَهُوَ يُرْعِدُ مِنَ الْبَرْدِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكَ وَلِأَهْلِ بَيْتِكَ نَصِيبًا فِي هَذَا الْمَالِ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ بِنَفْسِكَ هَذَا ؟ ! فَقَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَرْزَأُ مِنْ مَالِكُمْ شَيْئًا، وَهَذِهِ الْقَطِيفَةُ هِيَ الَّتِي خَرَجْتُ بِهَا مِنْ بَيْتِي. أَوْ قَالَ: مِنَ الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: مَا بَنَى عَلِيٌّ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلَا قَصَبَةً عَلَى قَصَبَةٍ، وَإِنْ كَانَ لَيُؤْتَى بِجَبُوبِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي جِرَابٍ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ، ثَنَا سُفْيَانُ، ثَنَا أَبُو حَيَّانَ، عَنْ مُجِمِّعِ بْنِ سَمْعَانَ التَّيْمِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِسَيْفِهِ إِلَى السُّوقِ فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي سَيْفِي هَذَا ؟ فَلَوْ كَانَ عِنْدِي أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ أَشْتَرِي بِهَا إِزَارًا مَا بِعْتُهُ.

وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي سُفْيَانُ، عَنْ جَعْفَرٍ - قَالَ: أَظُنُّهُ عَنْ أَبِيهِ - أَنَّ عَلِيًّا كَانَ إِذَا لَبِسَ قَمِيصًا مَدَّ يَدَهُ فِي كُمِّهِ، فَمَا فَضَلَ مِنَ الْكُمِّ عَنِ الْأَصَابِعِ قَطَعَهُ، وَقَالَ: لَيْسَ لِلْكُمِّ فَضْلٌ عَنِ الْأَصَابِعِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اشْتَرَى عَلِيٌّ قَمِيصًا بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ خَلِيفَةٌ، وَقَطَعَ كُمَّهُ مِنْ مَوْضِعِ الرُّسْغَيْنِ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَذَا مِنْ رِيَاشِهِ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " الزُّهْدِ "، عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ، عَنْ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ مَوْلًى لِأَبِي عُصَيْفِيرٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا خَرَجَ فَأَتَى رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْكَرَابِيسِ، فَقَالَ لَهُ: عِنْدَكَ قَمِيصٌ سُنْبُلَانِيٌّ ؟ قَالَ: فَأَخْرُجُ إِلَيْهِ قَمِيصًا فَلَبِسَهُ، فَإِذَا هُوَ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، فَنَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ فَقَالَ: مَا أَرَى إِلَّا قَدْرًا حَسَنًا، بِكَمْ هُوَ ؟ قَالَ: بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَحَلَّهَا مِنْ إِزَارِهِ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، أَنَا الْحَسَنُ بْنُ جُرْمُوزٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا وَهُوَ يَخْرُجُ مِنَ الْقَصْرِ وَعَلَيْهِ قِطْرِيَّتَانِ ; إِزَارٌ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، وَرِدَاءٌ مُشَمَّرٌ قَرِيبٌ مِنْهُ، وَمَعَهُ دِرَّةٌ لَهُ يَمْشِي بِهَا فِي الْأَسْوَاقِ، وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنِ الْبَيْعِ، وَيَقُولُ: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ. وَيَقُولُ: لَا تَنْفُخُوا اللَّحْمَ.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي " الزُّهْدِ ": أَنَا رَجُلٌ، حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ مِيثَمٍ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ الْجُهَنِيُّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ذَاتَ يَوْمٍ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ، مُتَّزِرٌ بِأَحَدِهِمَا مُرْتَدٍ بِالْآخَرِ، قَدْ أَرْخَى جَانِبَ إِزَارِهِ وَرَفَعَ جَانِبًا، وَقَدْ رَفَعَ رِدَاءَهُ بِخِرْقَةٍ، فَمَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَيُّهَا الْإِنْسَانُ، الْبَسْ مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ أَوْ مَقْتُولٌ. فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَعْرَابِيُّ، إِنَّمَا أَلْبَسُ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ لِيَكُونَا أَبْعَدَ لِي مِنَ الزَّهْوِ، وَخَيْرًا لِي فِي صَلَاتِي، وَسُنَّةً لِلْمُؤْمِنِ.
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثَنَا الْمُخْتَارُ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي مَطَرٍ قَالَ: خَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ فَإِذَا رَجُلٌ يُنَادِي مِنْ خَلْفِي: ارْفَعْ إِزَارَكَ ; فَإِنَّهُ أَنْقَى لِثَوْبِكَ وَأَتْقَى لَكَ، وَخُذْ مِنْ رَأْسِكَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا. فَمَشَيْتُ خَلْفَهُ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيَّ مُؤْتَزِرٌ بِإِزَارٍ مُرْتَدٍ بِرِدَاءٍ وَمَعَهُ الدِّرَّةُ، كَأَنَّهُ أَعْرَابِيٌّ بَدَوِيٌّ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ لِي رَجُلٌ: أَرَاكَ غَرِيبًا بِهَذَا الْبَلَدِ. فَقُلْتُ: أَجَلْ، أَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. فَقَالَ: هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. حَتَّى انْتَهَى إِلَى دَارِ بَنَى أَبِي مُعَيْطٍ وَهِيَ سُوقُ الْإِبِلِ، فَقَالَ: بِيعُوا وَلَا تَحْلِفُوا ; فَإِنَّ الْيَمِينَ تُنْفِقُ السِّلْعَةَ وَتَمْحَقُ الْبَرَكَةَ. ثُمَّ أَتَى أَصْحَابَ التَّمْرِ، فَإِذَا خَادِمٌ تَبْكِي فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ ؟ فَقَالَتْ: بَاعَنِي هَذَا الرَّجُلُ تَمْرًا بِدِرْهَمٍ فَرَدَّهُ مَوَالِيَّ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: خُذْ تَمْرَكَ وَأَعْطِهَا دِرْهَمَهَا ; فَإِنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَمْرٌ. فَدَفَعَهُ، فَقُلْتُ: أَتَدْرِي مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: لَا. فَقُلْتُ: هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَصَبَّتْ تَمْرَهُ وَأَعْطَاهَا دِرْهَمَهَا، ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ: أُحِبُّ أَنْ تَرْضَى عَنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: مَا

أَرْضَانِي عَنْكَ إِذَا أَوْفَيْتَ النَّاسَ حُقُوقَهُمْ. ثُمَّ مَرَّ مُجْتَازًا بِأَصْحَابِ التَّمْرِ فَقَالَ: يَا أَصْحَابَ التَّمْرِ، أَطْعِمُوا الْمَسَاكِينَ يَرْبُ كَسْبُكُمْ. ثُمَّ مَرَّ مُجْتَازًا وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَصْحَابِ السَّمَكِ، فَقَالَ: لَا يُبَاعُ فِي سُوقِنَا طَافٍ. ثُمَّ أَتَى دَارَ فُرَاتٍ وَهِيَ سُوقُ الْكَرَابِيسِ، فَأَتَى شَيْخًا فَقَالَ: يَا شَيْخُ، أَحْسِنْ بَيْعِي فِي قَمِيصٍ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ. فَلَمَّا عَرَفَهُ لَمْ يَشْتَرِ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ آخَرَ، فَلَمَّا عَرَفَهُ لَمْ يَشْتَرِ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَتَى غُلَامًا حَدَثًا فَاشْتَرَى مِنْهُ قَمِيصًا بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَكُمُّهُ مَا بَيْنَ الرُّسْغَيْنِ إِلَى الْكَفَّيْنِ يَقُولُ فِي لُبْسِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَزَقَنِي مِنَ الرِّيَاشِ مَا أَتَجَمَّلُ بِهِ فِي النَّاسِ، وَأُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي. فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا شَيْءٌ تَرْوِيهِ عَنْ نَفْسِكَ، أَوْ شَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ: لَا، بَلْ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ عِنْدَ الْكِسْوَةِ. فَجَاءَ أَبُو الْغُلَامِ صَاحِبُ الثَّوْبِ فَقِيلَ لَهُ: يَا فُلَانُ، قَدْ بَاعَ ابْنُكَ الْيَوْمَ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَمِيصًا بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ. قَالَ: أَفَلَا أَخَذْتَ مِنْهُ دِرْهَمَيْنِ ؟ فَأَخَذَ مِنْهُ أَبُوهُ دِرْهَمًا، ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَابِ الرَّحْبَةِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ هَذَا الدِّرْهَمَ. فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذَا الدِّرْهَمِ ؟ فَقَالَ: كَانَ قَمِيصًا ثُمِّنَ دِرْهَمَيْنِ. فَقَالَ: بَاعَنِي رِضَايَ وَأَخَذَ رِضَاهُ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: وَجَدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ دِرْعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ نَصْرَانِيٍّ، فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى شُرَيْحٍ يُخَاصِمُهُ. قَالَ: فَجَاءَ عَلِيٌّ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِ شُرَيْحٍ وَقَالَ: يَا شُرَيْحُ، لَوْ كَانَ خَصْمِي مُسْلِمًا مَا جَلَسْتُ إِلَّا مَعَهُ، وَلَكِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا كُنْتُمْ

وَإِيَّاهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى مَضَايِقِهِ، وَصَغِّرُوا بِهِمْ كَمَا صَغَّرَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَطْغَوْا ". ثُمَّ قَالَ: هَذَا الدِّرْعُ دِرْعِي وَلَمْ أَبِعْ وَلَمْ أَهَبْ. فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلنَّصْرَانِيِّ: مَا تَقَولُ فِيمَا يَقُولُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَا الدِّرْعُ إِلَّا دِرْعِي، وَمَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدِي بِكَاذِبٍ. فَالْتَفَتَ شُرَيْحٌ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ مِنْ بَيِّنَةٍ ؟ فَضَحِكَ عَلِيٌّ وَقَالَ: أَصَابَ شُرَيْحٌ، مَا لِي بَيِّنَةٌ. فَقَضَى بِهَا شُرَيْحٌ لِلنَّصْرَانِيِّ. قَالَ: فَأَخْذُهَا النَّصْرَانِيُّ، وَمَشَى خُطًى ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنَّ هَذِهِ أَحْكَامُ الْأَنْبِيَاءِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَدَّمَنِي إِلَى قَاضِيهِ، وَقَاضِيهِ يَقْضِي عَلَيْهِ ! أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدِّرْعُ وَاللَّهِ دِرْعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اتَّبَعْتُ الْجَيْشَ وَأَنْتَ مُنْطَلِقٌ إِلَى صِفِّينَ فَخَرَجَتْ مِنْ بَعِيرِكَ الْأَوْرَقِ. فَقَالَ: أَمَا إِذْ أَسْلَمْتَ فَهِيَ لَكَ. وَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ رَآهُ يُقَاتِلُ الْخَوَارِجَ مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ: جَاءَ جَعْدَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، يَأْتِيكَ الرَّجُلَانِ أَنْتَ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِهِمَا مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَالْآخَرُ لَوْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَذْبَحَكَ لَذَبَحَكَ، فَتَقْضِي لِهَذَا عَلَى هَذَا ! قَالَ: فَلَهَزَهُ عَلِيٌّ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَوْ كَانَ لِي فَعَلْتُ، وَلَكِنْ إِنَّمَا ذَا شَيْءٌ لِلَّهِ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: حَدَّثَنِي جَدِّي، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ، عَنْ صَالِحٍ بَيَّاعِ الْأَكْسِيَةِ، عَنْ جَدَّتِهِ قَالَتْ: رَأَيْتُ عَلِيًّا اشْتَرَى تَمْرًا بِدِرْهَمٍ، فَحَمَلَهُ فِي مِلْحَفَتِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا نَحْمِلُهُ عَنْكَ. فَقَالَ: أَبُو الْعِيَالِ أَحَقُّ بِحَمْلِهِ.

وَعَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ زَاذَانَ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ يَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ وَحْدَهُ وَهُوَ خَلِيفَةٌ، يُرْشِدُ الضَّالَّ وَيُعِينُ الضَّعِيفَ، وَيَمُرُّ بِالْبَيَّاعِ وَالْبَقَّالِ فَيَفْتَحُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَيَقْرَأُ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا [ الْقَصَصِ: 83 ]. ثُمَّ يَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْعَدْلِ وَالتَّوَاضُعِ مِنَ الْوُلَاةِ وَأَهْلِ الْقُدْرَةِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ.
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ رَأَى عَلِيًّا قَدْ رَكِبَ حِمَارًا وَدَلَّى رِجْلَيْهِ إِلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا الَّذِي أَهَنْتُ الدُّنْيَا.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: تَذَاكَرُوا الزُّهَّادَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ قَائِلُونَ: فُلَانٌ. وَقَالَ قَائِلُونَ: فُلَانٌ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَزْهَدُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مَنِ الْأَزَارِقَةِ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَا تَقُولُ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ؟ قَالَ: فَاحْمَرَّتْ وَجْنَتَا الْحَسَنِ، وَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ عَلِيًّا، إِنَّ عَلِيًّا كَانَ سَهْمًا لِلَّهِ صَائِبًا فِي أَعْدَائِهِ، وَكَانَ فِي مَحَلَّةِ الْعِلْمِ أَشْرَفَهَا وَأَقْرَبَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ رَبَّانِيَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، لَمْ يَكُنْ لَمِالِ اللَّهِ بِالسَّرُوقَةِ، وَلَا فِي أَمْرِ اللَّهِ بِالنَّئُومَةِ، أَعْطَى الْقُرْآنَ عَزَائِمَهُ وَعَمَلَهُ وَعِلْمَهُ، فَكَانَ مِنْهُ فِي رِيَاضٍ مُونِقَةٍ، وَأَعْلَامٍ بَيِّنَةٍ، ذَاكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَا لُكَعُ.

وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَ رَجُلٌ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِحَدِيثٍ فَكَذَبَهُ، فَمَا قَامَ حَتَّى عَمِيَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي شُرَيْحُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمِ عَنْ عَمَّارٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ زَاذَانُ أَبِي عُمَرَ، أَنْ رَجُلًا حَدَّثَ عَلِيًّا بِحَدِيثٍ، فَقَالَ: مَا أَرَاكَ إِلَّا قَدْ كَذَبْتَنِي. قَالَ: لَمْ أَفْعَلْ. قَالَ: أَدْعُو عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ ؟ قَالَ: ادْعُ. فَدَعَا فَمَا بَرِحَ حَتَّى عَمِيَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ سَالِمٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ أَبِي مَكِينٍ قَالَ: مَرَرْتُ أَنَا وَخَالِي أَبُو أُمَيَّةَ عَلَى دَارٍ فِي مَحَلِّ حَيٍّ مِنْ مُرَادٍ، فَقَالَ: تَرَى هَذِهِ الدَّارَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّ عَلِيًّا مَرَّ عَلَيْهَا وَهُمْ يَبْنُونَهَا، فَسَقَطَتْ عَلَيْهِ قِطْعَةٌ فَشَجَّتْهُ، فَدَعَا اللَّهَ أَنْ لَا يَكْمُلَ بِنَاؤُهَا. قَالَ: فَمَا وُضِعَتْ عَلَيْهَا لَبِنَةٌ. قَالَ: فَكُنْتُ أَمُرُّ عَلَيْهَا لَا تُشْبِهُ الدُّورَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي بَشِيرٍ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ الْجَمَلَ مَعَ مَوْلَايَ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ أَكْثَرَ سَاعِدًا نَادِرًا وَقَدَمًا نَادِرَةً مِنْ يَوْمَئِذٍ، وَلَا مَرَرْتُ بِدَارِ الْوَلِيدِ قَطُّ إِلَّا ذَكَرْتُ يَوْمَ الْجَمَلِ. قَالَ: فَحَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ أَنَّ عَلِيًّا دَعَا يَوْمَ الْجُمَلَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ خُذْ أَيْدِيَهُمْ وَأَقْدَامَهُمْ.

وَمِنْ كَلَامِهِ الْحَسَنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَنَا عَمْرُو بْنُ شِمْرٍ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ السُّدِّيُّ، سَمِعْتُ أَبَا أَرَاكَةَ يَقُولُ: صَلَّيْتُ مَعَ عَلِيٍّ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا انْفَتَلَ عَنْ يَمِينِهِ مَكَثَ كَأَنَّ عَلَيْهِ كَآبَةً، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّمْسُ عَلَى حَائِطِ الْمَسْجِدِ قَيْدَ رُمْحٍ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَلَّبَ يَدَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَرَى الْيَوْمَ شَيْئًا يُشْبِهُهُمْ، لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ صُفْرًا شُعْثًا غُبْرًا، بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ كَأَمْثَالِ رُكَبِ الْمِعْزَى، قَدْ بَاتُوا لِلَّهِ سُجَّدًا وَقِيَامًا، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وَأَقْدَامِهِمْ، فَإِذَا أَصْبَحُوا فَذَكَرُوا اللَّهَ مَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ فِي يَوْمِ الرِّيحِ، وَهَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى تَبُلَّ ثِيَابَهُمْ، وَاللَّهِ لَكَأَنَّ الْقَوْمَ بَاتُوا غَافِلِينَ. ثُمَّ نَهَضَ، فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مُفْتَرًّا يَضْحَكُ، حَتَّى قَتَلَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ عَدُوُّ اللَّهِ الْفَاسِقُ.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَوْفَى بْنِ دَلْهَمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ تُعْرَفُوا بِهِ، وَاعْمَلُوا بِهِ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنَّهُ يَأْتِي مِنْ بَعْدِكُمْ زَمَانٌ يُنْكَرُ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ تِسْعَةُ أَعْشَارِهِ، وَإِنَّهُ لَا يَنْجُو مِنْهُ إِلَّا كُلُّ نُوَمَةٍ مُنْبَتِّ الدَّاءِ، أُولَئِكَ أَئِمَّةُ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الْعِلْمِ، لَيْسُوا بِالْعُجُلِ الْمَذَايِيعِ الْبُذُرِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً، وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَتَتْ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، أَلَّا وَإِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا اتَّخَذُوا الْأَرْضَ بِسَاطًا، وَالتُّرَابَ فِرَاشًا، وَالْمَاءَ طِيبًا،

أَلَا مَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْآخِرَةِ سَلَا عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَمَنْ أَشْفَقَ مِنَ النَّارِ رَجَعَ عَنِ الْحُرُمَاتِ، وَمَنْ طَلَبَ الْجَنَّةَ سَارَعَ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَمَنْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا هَانَتْ عَلَيْهِ الْمُصِيبَاتُ، أَلَا إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا كَمَنْ رَأَى أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ مُخَلَّدِينَ، وَأَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ مُعَذَّبِينَ، شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ، وَحَوَائِجُهُمْ خَفِيفَةٌ، صَبَرُوا أَيَّامًا قَلِيلَةً لِعُقْبَى رَاحَةٍ طَوِيلَةٍ، أَمَّا اللَّيْلُ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ، تَجْرِي دُمُوعُهُمْ عَلَى خُدُودِهِمْ، يَجْأَرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ: رَبَّنَا رَبَّنَا. يَطْلُبُونَ فِكَاكَ رِقَابِهِمْ، وَأَمَّا النَّهَارُ فَعُلَمَاءُ حُلَمَاءُ، بَرَرَةٌ أَتْقِيَاءُ، كَأَنَّهُمُ الْقِدَاحُ، يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَقُولُ: مَرْضَى. وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ، وَ: خُولِطُوا. وَلَقَدْ خَالَطَ الْقَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ.
وَعَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ قَالَ: صَعِدَ عَلِيٌّ ذَاتَ يَوْمٍ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ الْمَوْتَ، فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ، الْمَوْتُ لَيْسَ مِنْهُ فَوْتٌ، إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ، وَإِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ، فَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ، وَالْوَحَاءَ الْوَحَاءَ، وَرَاءَكُمْ طَالِبٌ حَثِيثٌ ; الْقَبْرُ، فَاحْذَرُوا ضَغْطَتَهُ وَظُلْمَتَهُ وَوَحْشَتَهُ، أَلَا وَإِنَّ الْقَبْرَ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ، أَوْ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَلَّا وَإِنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَقُولُ: أَنَا بَيْتُ الظُّلْمَةِ، أَنَا بَيْتُ الدُّودِ، أَنَا بَيْتُ الْوَحْشَةِ. أَلَا وَإِنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ يَوْمًا يَشِيبُ فِيهِ الصَّغِيرُ، وَيَسْكَرُ فِيهِ الْكَبِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، أَلَا وَإِنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ ; نَارٌ حَرُّهَا شَدِيدٌ، وَقَعْرُهَا بَعِيدٌ، وَحَلْيُهَا حَدِيدٌ، وَمَاؤُهَا صَدِيدٌ،

وَخَازِنُهَا مَلَكٌ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ رَحْمَةٌ. قَالَ: ثُمَّ بَكَى وَبَكَى الْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا وَإِنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ جَنَّةً، عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وَأَجَارَنَا وَإِيَّاكُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ. وَرَوَاهُ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عَلِيًّا، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَوْفَى بْنِ دَلْهَمٍ قَالَ: خَطَبَ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ وَآذَنَتْ بِوَدَاعٍ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَشْرَفَتْ بِاطِّلَاعٍ، وَإِنَّ الْمِضْمَارَ الْيَوْمَ، وَغَدًا السِّبَاقُ، أَلَا وَإِنَّكُمْ فِي أَيَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجْلٌ، فَمَنْ قَصَّرَ فِي أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجْلِهِ فَقَدْ خُيِّبَ عَمَلُهُ، أَلَا فَاعْمَلُوا لِلَّهِ فِي الرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ لَهُ فِي الرَّهْبَةِ، أَلَا وَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلَمْ أَرَ كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا، أَلَا وَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ الْحَقُّ ضَرَّهُ الْبَاطِلُ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَقِمْ بِهِ الْهُدَى حَارَ بِهِ الضَّلَالُ، أَلَا وَإِنَّكُمْ قَدْ أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ، وَدُلْلِتُمْ عَلَى الزَّادِ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ، يَأْكُلُ مِنْهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ وَعْدٌ صَادِقٌ، يَحْكُمُ فِيهَا مَلِكٌ قَادِرٌ، أَلَا إِنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ، وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا، وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، أَيُّهَا النَّاسُ، أَحْسِنُوا فِي عُمْرِكُمْ تُحْفَظُوا فِي عَقِبِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ وَعَدَ جَنَّتَهُ مَنْ أَطَاعَهُ، وَأَوْعَدَ نَارَهُ مَنْ عَصَاهُ، إِنَّهَا نَارٌ لَا يَهْدَأُ زَفِيرُهَا، وَلَا يُفَكُّ أَسِيرُهَا، وَلَا يُجْبَرُ كَسِيرُهَا، حَرُّهَا شَدِيدٌ، وَقَعْرُهَا بَعِيدٌ، وَمَاؤُهَا صَدِيدٌ، وَإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَطُولُ

الْأَمَلِ يُنْسِي الْآخِرَةَ.
وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ قَالَ: ذَمَّ رَجُلٌ الدُّنْيَا عِنْدَ عَلِيٍّ، فَقَالَ عَلِيٌّ: الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ نَجَاةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا، مَهْبِطُ وَحْيِ اللَّهِ، وَمُصَلَّى مَلَائِكَتِهِ، وَمَسْجِدِ أَنْبِيَائِهِ، وَمَتْجَرُ أَوْلِيَائِهِ، رَبِحُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ، وَاكْتَسَبُوا فِيهَا الْجَنَّةَ، فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَقَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا، وَنَادَتْ بِفِرَاقِهَا، وَشَبَّهَتْ بِشُرُورِهَا السُّرُورَ، وَبِبَلَائِهَا إِلَيْهِ تَرْغِيبًا وَتَرْهِيبًا، فَيَا أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا الْمُعَلِّلُ نَفْسَهُ، مَتَى خَدَعَتْكَ الدُّنْيَا، أَوْ مَتَى اسْتَذَمَّتْ إِلَيْكَ ؟ أَبِمَصَارِعِ آبَائِكَ فِي الْبِلَى ؟ أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ الثَّرَى ؟ ! كَمْ مَرِضْتَ بِيَدَيْكَ، وَعَلَّلَتْ بِكَفَّيْكَ، تَطْلُبُ لَهُ الشِّفَاءَ، وَتَسْتَوْصِفُ لَهُ الْأَطِبَّاءَ، لَا يُغْنِي عَنْكَ دَوَاؤُكَ، وَلَا يَنْفَعُكَ بُكَاؤُكَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيٍّ فَأَطْرَاهُ، وَكَانَ يُبْغِضُ عَلِيًّا، فَقَالَ لَهُ: لَسْتُ كَمَا تَقُولُ، وَأَنَا فَوْقَ مَا فِي نَفْسِكَ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَلِيٍّ: ثَبَّتَكَ اللَّهُ. قَالَ: عَلَى صَدْرِكَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ،

عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ الْأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ كَقَطْرِ الْمَطَرِ، لِكُلِّ نَفْسٍ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فِي نَفْسٍ أَوْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ، فَمَنْ رَأَى نَقَصَا فِي نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ، وَرَأَى لِغَيْرِهِ غَفِيرَةً فَلَا يَكُونَنَّ ذَلِكَ لَهُ فِتْنَةً، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً يُظْهِرُ تَخَشُّعًا لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ، وَتُغْرِي بِهِ لِئَامَ النَّاسِ، كَالْيَاسِرِ الْفَالِجِ يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ الْمَغْنَمَ وَتَدْفَعُ عَنْهُ الْمَغْرَمَ، فَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الْبَرِيءُ مِنَ الْخِيَانَةِ بَيْنَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إِذَا مَا دَعَا اللَّهَ، فَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ مَالًا فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَمَالٍ، وَمَعَهُ حَسَبُهُ وَدِينُهُ، الْحَرْثُ حَرْثَانِ ; فَحَرْثُ الدُّنْيَا الْمَالُ وَالْبَنُونَ، وَحَرْثُ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ. قَالَ سُفْيَانُ: وَمَنْ يُحْسِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ إِلَّا عَلِيٌّ ؟ !
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عَنْ مُهَاجِرٍ الْعَامِرِيِّ قَالَ: كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَهْدًا لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ عَلَى بَلَدٍ، فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَلَا تُطَوِّلَنَّ حِجَابَكَ عَلَى رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةُ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ، وَالِاحْتِجَابُ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتُجِبُوا دُونَهُ، فَيَضْعُفُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ، وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ، وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ

لَا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ، وَلَيْسَ عَلَى الْقَوْلِ سِمَاتٌ يُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ، فَتَحَصَّنْ مِنَ الْإِدْخَالِ فِي الْحُقُوقِ بِلِينِ الْحِجَابِ، فَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ ; إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ، فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ حَقٍّ وَاجِبٍ أَنْ تُعْطِيَهُ، أَوْ خُلُقٍ كَرِيمٍ تُسَدِّدُ بِهِ ؟ وَإِمَّا مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ وَالشُّحِّ، فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا يَئِسُوا مِنْ خَيْرِكِ، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ مَا لَا مُؤْنَةَ فِيهِ عَلَيْكَ ; مِنْ شَكَاةِ مَظْلَمَةٍ، أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ، فَانْتَفِعْ بِمَا وَصَفْتُ لَكَ، وَاقْتَصِرْ عَلَى حَظِّكَ وَرُشْدِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: كَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: رُوَيْدًا، فَكَأَنْ قَدْ بَلَغْتَ الْمَدَى، وَعُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يُنَادِي الْمُغْتَرُّ بِالْحَسْرَةِ، وَيَتَمَنَّى الْمُضَيِّعُ التَّوْبَةَ، وَالظَّالِمُ الرَّجْعَةَ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ: أَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ الشِّعْرَ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ الشِّعْرَ، وَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ الشِّعْرَ، وَكَانَ عَلِيٌّ أَشْعَرَ الثَّلَاثَةِ. وَرَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فَذَكَرَهُ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ: وَأَخْبَرَنَا عَنْ دَمَاذٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَلِيٍّ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنَّ لِي فَضَائِلَ كَثِيرَةً، وَكَانَ أَبِي سَيِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَصِرْتُ مَلِكًا فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنَا صِهْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَالُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَاتِبُ الْوَحْيِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَبَالْفَضَائِلِ يَفْخَرُ عَلَيَّ ابْنُ آكِلَةِ الْأَكْبَادِ ؟ ! ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ يَا غُلَامُ:
مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ أَخِي وَصِهْرِي وَحَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عَمِّي
وَجَعْفَرٌ الَّذِي يُمْسِي وَيُضْحِي يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ ابْنُ أُمِّي
وَبِنْتُ مُحَمَّدٍ سَكَنِي وَعِرْسِي مَسُوطٌ لَحْمُهَا بِدَمِي وَلَحْمِي
وَسِبْطَا أَحْمَدَ وَلَدَايَ مِنْهَا فَأَيُّكُمُ لَهُ سَهْمٌ كَسَهْمِي
سَبَقْتُكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا صَغِيرًا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حُلْمِي
قَالَ: فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَخْفُوا هَذَا الْكِتَابَ لَا يَقْرَؤُهُ أَهْلُ الشَّامِ فَيَمِيلُوا إِلَى ابْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَزَمَانِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَغَيْرُهُ: حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ حَارِثَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يُنْشِدُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ

أَنَا أَخُو الْمُصْطَفَى لَا شَكَّ فِي نَسَبِي مَعْهُ رَبِيتُ وَسِبْطَاهُ هُمَا وَلَدِي
جَدِّي وَجَدُّ رَسُولِ اللَّهِ مُنْفَرِدٌ وَفَاطِمٌ زَوْجَتِي لَا قَوْلَ ذِي فَنَدِ
صَدَّقْتُهُ وَجَمِيعُ النَّاسِ فِي بُهَمٍ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْإِشْرَاكِ وَالنَّكَدِ
فَالْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا لَا شَرِيكَ لَهُ الْبَرِّ بِالْعَبْدِ وَالْبَاقِي بِلَا أَمَدِ
قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ صَدَقْتَ يَا عَلِيٌّ وَهَذَا بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُنْكَرٌ، وَالشِّعْرُ فِيهِ رَكَاكَةٌ، وَبَكْرٌ هَذَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ تَفَرُّدَهُ بِهَذَا السَّنَدِ وَالْمَتْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زَكَرِيَّا الرَّمْلِيِّ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ سَلَامَةَ الْكِنْدِيِّ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً قَدْ رَفَعْتُهَا إِلَى اللَّهِ قَبْلَ أَنْ أَرْفَعَهَا إِلَيْكَ، فَإِنْ أَنْتَ قَضَيْتَهَا حَمِدْتُ اللَّهَ وَشَكَرْتُكَ، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَقْضِهَا حَمِدْتُ اللَّهَ وَعَذَرْتُكَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: اكْتُبْ عَلَى الْأَرْضِ ; فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَرَى ذُلَّ السُّؤَالِ فِي وَجْهِكَ. فَكَتَبَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ. فَقَالَ عَلِيٌّ: عَلِيَّ بِحُلَّةٍ. فَأَتَى بِهَا، فَأَخَذَهَا الرَّجُلُ فَلَبِسَهَا، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
كَسَوْتَنِي حُلَّةً تَبْلَى مَحَاسِنُهَا فَسَوْفَ أَكْسُوكَ مِنْ حُسْنِ الثَّنَا حُلَلَا
إِنْ نِلْتَ حَسَنَ ثَنَائِي نِلْتَ مَكْرُمَةً وَلَسْتَ تَبْغِي بِمَا قَدْ قُلْتُهُ بَدَلًا
إِنَّ الثَّنَاءَ لَيُحْيِي ذِكْرَ صَاحِبِهِ كَالْغَيْثِ يُحْيِي نَدَاهُ السَّهْلَ وَالْجَبَلَا

لَا تَزْهَدِ الدَّهْرَ فِي خَيْرٍ تُوَاقِعُهُ فَكُلُّ عَبْدٍ سَيُجْزَى بِالَّذِي عَمِلَا
فَقَالَ عَلِيٌّ: عَلَيَّ بِالدَّنَانِيرِ. فَأُتِيَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ. قَالَ الْأَصْبَغُ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، حُلَّةً وَمِائَةَ دِينَارٍ ؟ ! قَالَ: نَعَمْ.سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ ". وَهَذِهِ مَنْزِلَةُ هَذَا الرَّجُلِ عِنْدِي.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نُبَيْطِ بْنِ شَرِيطٍ، حَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نُبَيْطٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ:
إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ الْقُلُوبُ وَضَاقَ بِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيبُ
وَأَوْطَنَتِ الْمَكَارِهُ وَاطْمَأَنَّتْ وَأَرْسَتْ فِي أَمَاكِنِهَا الْخُطُوبُ
وَلَمْ تَرَ لِانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا وَلَا أَغْنَى بِحِيلَتِهِ الْأَرِيبُ
أَتَاكَ عَلَى قُنُوطٍ مِنْكَ غَوْثٌ يَجِيءُ بِهِ الْقَرِيبُ الْمُسْتَجِيبُ
وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إِذَا تَنَاهَتْ فَمَوْصُولٌ بِهَا الْفَرَجُ الْقَرِيبُ
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:
أَلَّا فَاصْبِرْ عَلَى الْحَدَثِ الْجَلِيلِ وَدَاوِ جَوَاكَ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ

وَلَا تَجْزَعْ فَإِنْ أَعْسَرْتَ يَوْمًا فَقَدْ أَيْسَرْتَ فِي الدَّهْرِ الطَّوِيلِ
وَلَا تَظْنُنْ بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْلَى بِالْجَمِيلِ
فَإِنَّ الْعُسْرَ يَتْبَعُهُ يَسَارٌ وَقَوْلُ اللَّهِ أَصْدَقُ كُلِّ قِيلِ
فَلَوْ أَنَّ الْعُقُولَ تَجُرُّ رِزْقًا لَكَانَ الرِّزْقُ عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ
فَكَمْ مِنْ مُؤْمِنٍ قَدْ جَاعَ يَوْمًا سَيُرْوَى مِنْ رَحِيقِ السَّلْسَبِيلِ
فَمِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُجِيعُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَفَاسَتِهِ، وَيُشْبِعُ الْكَلْبَ مَعَ خَسَاسَتِهِ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَيَلْبَسُ وَيَتَمَتَّعُ، وَالْمُؤْمِنُ يَجُوعُ وَيَعْرَى، وَذَلِكَ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ.
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:
أَجِدِ الثِّيَابَ إِذَا اكْتَسَيْتَ فَإِنَّهَا زَيْنُ الرِّجَالِ بِهَا تُعَزُّ وَتُكْرَمُ
وَدَعِ التَّوَاضُعَ فِي الثِّيَابِ تَخَوُّفًا فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُجِنُّ وَتَكْتُمُ
فَرَثَاثُ ثَوْبِكَ لَا يَزِيدُكَ زُلْفَةً عِنْدَ الْإِلَهِ وَأَنْتَ عَبْدٌ مُجْرِمٌ
وَبَهَاءُ ثَوْبِكَ لَا يَضُرُّكَ بَعْدَ أَنْ تَخْشَى الْإِلَهَ وَتَتَّقِي مَا يَحْرُمُ
وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى ثِيَابِكُمْ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَيْسَ الزُّهْدُ فِي

الدُّنْيَا بِلُبْسِ الْعَبَاءِ وَلَا بِأَكْلِ الْخَشِنِ، إِنَّمَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قِصَرُ الْأَمَلِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسُ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْأَكْبَرِ الْمُبَرِّدُ: كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى سَيْفِ عَلِيٍّ:
لِلنَّاسِ حِرْصٌ عَلَى الدُّنْيَا وَتَدْبِيرُ وَصَفْوُهَا لَكَ مَمْزُوجٌ بِتَكْدِيرِ
لَمْ يُرْزَقُوهَا بِعَقْلٍ عِنْدَمَا قُسِمَتْ لَكِنَّهُمْ رُزِقُوهَا بِالْمَقَادِيرِ
كَمْ مِنْ أَدِيبٍ لَبِيبٍ لَا تُسَاعِدُهُ وَمَائِقٍ نَالَ دُنْيَاهُ بِتَقْصِيرِ
لَوْ كَانَ عَنْ قُوةٍ أَوْ عَنْ مُغَالَبَةٍ طَارَ الْبُزَاةُ بِأَرْزَاقِ الْعَصَافِيرِ
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَنَا سَلَمَةُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِرَجُلٍ كَرِهَ لَهُ صُحْبَةَ رَجُلٍ:
فَلَا تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ
فَكَمْ مِنْ جَاهِلٍ أَرْدَى حَلِيمًا حِينَ آخَاهُ
يُقَاسُ الْمَرْءُ بِالْمَرْءِ إِذَا مَا هُوَ مَاشَاهُ
وَلِلشِيءِ عَلَى الشَّيْءِ مَقَايِيسٌ وَأَشْبَاهُ

وَلِلْقَلْبِ عَلَى الْقَلْبِ دَلِيلٌ حِينَ يَلْقَاهُ
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَقَفَ عَلِيٌّ عَلَى قَبْرِ فَاطِمَةَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
ذَكَرْتُ أَبَا أَرْوَى فَبِتُّ كَأَنَّنِي بِرَدِّ الْهُمُومِ الْمَاضِيَاتِ وَكِيلُ
لِكُلِّ اجْتِمَاعٍ مِنْ خَلِيلَيْنِ فُرْقَةٌ وَكُلِّ الَّذِي قَبْلَ الْمَمَاتِ قَلِيلُ
وَإِنَّ افْتِقَادِي وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا يَدُومَ خَلِيلُ
سَيُعْرَضُ عَنْ ذِكْرِي وَتُنْسَى مَوَدَّتِي وَيَحْدُثُ بَعْدِي لِلْخَلِيلِ خَلِيلُ
إِذَا انْقَطَعَتْ يَومًا مِنَ الْعَيْشِ مُدَّتِي فَإِنَّ عَنَاءَ الْبَاكِيَاتِ قَلِيلُ
وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
حَقِيقٌ بِالتَّوَاضُعِ مَنْ يَمُوتُ وَيَكْفِي الْمَرْءَ مِنْ دُنْيَاهُ قُوتُ
فَمَا لِلْمَرِءِ يُصْبِحُ ذَا هُمُومٍ وَحِرْصٍ لَيْسَ تُدْرِكُهُ النُّعُوتِ
صَنِيعُ مَلِيكِنَا حَسَنٌ جَمِيلٌ وَمَا أَرْزَاقُهُ عَنَّا تَفُوتُ
فَيَا هَذَا سَتَرْحَلُ عَنْ قَلِيلٍ إِلَى قَومٍ كَلَامُهُمُ السُّكُوتُ
وَهَذَا الْفَصْلُ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ مَا فِيهِ مَقْنَعٌ لِمَنْ أَرَادَهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ

فَقَدْ أَقَامَ الدِّينَ، وَمَنْ أَحَبَّ عُمَرَ فَقَدْ أَوْضَحَ السَّبِيلَ، وَمَنْ أَحَبَّ عُثْمَانَ فَقَدِ اسْتَنَارَ بِنُورِ اللَّهِ، وَمَنْ أَحَبَّ عَلِيًّا فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَمَنْ قَالَ الْحُسْنَى فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ.

غَرِيبَةٌ مِنَ الْغَرَائِبِ وَآبِدَةٌ مِنَ الْأَوَابِدِ
قَالَ ابْنُ أَبَى خَيْثَمَةَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ سَيَّارٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: قَالَ مَعْمَرٌ مَرَّةً وَأَنَا مُسْتَقْبِلُهُ، وَتَبَسَّمَ وَلَيْسَ مَعَنَا أَحَدٌ فَقُلْتُ لَهُ: مَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ: عَجِبْتُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، كَأَنَّ الْكُوفَةَ إِنَّمَا بُنِيَتْ عَلَى حُبِّ عَلِيٍّ، مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا وَجَدْتُ الْمُقْتَصِدَ مِنْهُمُ الَّذِي يُفَضِّلُ عَلِيًّا عَلَى أَبَى بَكْرٍ وَعُمَرَ، مِنْهُمْ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. قَالَ: فَقُلْتُ لِمَعْمَرٍ: وَرَأَيْتَهُ ؟ - كَأَنِّي أَعْظَمْتُ ذَاكَ - فَقَالَ مَعْمَرٌ: وَمَا ذَاكَ ؟ ! لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: عَلِيٌّ أَفْضَلُ عِنْدِي مِنْهُمَا. مَا عَنَّفْتُهُ إِذَا ذَكَرَ فَضْلَهُمَا إِذَا قَالَ: عِنْدِي. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: عُمَرُ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ عَلِيٍّ وَأَبِي بَكْرٍ. مَا عَنَّفُتُهُ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَنَحْنُ خَالِيَانِ فَاشْتَهَاهَا أَبُو سُفْيَانَ وَضَحِكَ وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ سُفْيَانُ يَبْلُغُ بِنَا هَذَا الْحَدَّ، وَلَكِنَّهُ أَفْضَى إِلَى مَعْمَرٍ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَيْنَا، وَكُنْتُ أَقُولُ لِسُفْيَانَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ فَضَّلْنَا عَلِيًّا عَلَى أَبَى بَكْرٍ وَعُمَرَ، مَا تَقُولُ فِي ذَلِكَ ؟ فَيَسْكُتُ سَاعَةً ثُمَّ يَقُولُ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ طَعْنًا عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَلَكِنَّا نَقِفُ.

قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَأَخْبَرَنَا ابْنُ التَّيْمِيِّ - يُعْنَى مُعْتَمِرًا - قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: فَضَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِائَةِ مَنْقَبَةٍ، وَشَارَكَهُمْ فِي مَنَاقِبِهِمْ، وَعُثْمَانُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ.
هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " بِسَنَدِهِ، عَنِ ابْنِ أَبَى خَيْثَمَةَ بِهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ تَخْبِيطٌ كَثِيرٌ، وَلَعَلَّهُ اشْتَبَهَ عَلَى مَعْمَرٍ، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ تَقْدِيمُ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ، فَأَمَّا عَلَى الشَّيْخَيْنِ فَلَا، وَلَا يَخْفَى فَضْلُ الشَّيْخَيْنِ عَلَى سَائِرِ الصَّحَابَةِ إِلَّا عَلَى غَبِيٍّ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ ؟ ! بَلْ قَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، كَأَيُّوبَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ: مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَهَذَا الْكَلَامُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَصَحِيحٌ وَمَلِيحٌ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ أَبَى سُفْيَانَ: ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُوَيْسِيِّ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخَذَ الْمُصْحَفَ فَوَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ، حَتَّى أَنِّي لَأَرَى وَرَقَهُ يَتَقَعْقَعُ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ مَنَعُونِي مَا فِيهِ فَأَعْطِنِي مَا فِيهِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلَلْتُهُمْ وَمَلُّونِي وَأَبْغَضْتُهُمْ وَأَبْغَضُونِي، وَحَمَلُونِي عَلَى غَيْرِ طَبِيعَتِي وَخُلُقِي وَأَخْلَاقٍ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ لِي، اللَّهُمَّ فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَأَبْدِلْهُمْ بِي شَرًّا مِنِّي، اللَّهُمَّ أَمِثْ قُلُوبَهُمْ مَيْثَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ. قَالَ

إِبْرَاهِيمُ: يَعْنِي أَهْلَ الْكُوفَةِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ هَاشِمٍ الْجَنْبِيُّ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: قَالَ لِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: قَالَ لِي عَلِيٌّ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ سَنَحَ لِيَ اللَّيْلَةَ فِي مَنَامِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَقِيتُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الْأَوَدِ وَاللَّدَدِ ؟ قَالَ: " ادْعُ عَلَيْهِمْ ". فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ أَبْدِلْنِي بِهِمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَأَبْدِلْهُمْ بِي مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي. فَخَرَجَ فَضَرَبَهُ الرَّجُلُ. الْأَوَدُ: الْعِوَجُ، وَاللَّدَدُ: الْخُصُومَةُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْحَدِيثَ الْوَارِدَ بِالْإِخْبَارِ بِمَقْتَلِهِ، وَأَنَّهُ تُخَضَّبُ لِحْيَتُهُ مِنْ قَرْنِ رَأْسِهِ، فَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى رَسُولِهِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ " الْقَدَرِ " أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَيَّامُ الْخَوَارِجِ كَانَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ يَحْرُسُونَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ عَشَرَةٌ يَبِيتُونَ فِي الْمَسْجِدِ بِالسِّلَاحِ، فَرَآهُمْ عَلِيٌّ فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ ؟ فَقَالُوا: نَحْرُسُكَ. فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ ؟ ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ حَتَّى يُقْضَى فِي السَّمَاءِ، وَإِنَّ عَلَيَّ مِنَ اللَّهِ جَنَّةً حَصِينَةً. وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّ الْأَجَلَّ جَنَّةٌ حَصِينَةٌ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ

مَلَكٌ، فَلَا تُرِيدُهُ دَابَّةٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا قَالَ: اتَّقِهِ اتَّقِهِ. فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّى عَنْهُ - وَفِي رِوَايَةٍ: مَلَكَانِ يَدْفَعَانِ عَنْهُ، فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّيَا عَنْهُ - وَإِنَّهُ لَا يَجِدُ عَبْدٌ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ.
وَكَانَ عَلِيٌّ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ كُلَّ لَيْلَةٍ فَيُصَلِّي فِيهِ، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي قُتِلَ فِي صَبِيحَتِهَا قَلِقَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَجَمَعَ أَهْلَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ صَرَخَ الْإِوَزُّ. فِي وَجْهِهِ، فَسَكَّتُوهُنَّ عَنْهُ، فَقَالَ: ذَرُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ نَوَائِحُ. فَلَمَّا خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ ضَرَبَهَ ابْنُ مُلْجَمٍ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ. فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا نَقْتُلُ مُرَادًا كُلَّهَا ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِ احْبِسُوهُ وَأَحْسِنُوا إِسَارَهُ، فَإِنْ مِتُّ فَاقْتُلُوهُ، وَإِنْ عِشْتُ فَالْجُرُوحُ قِصَاصٌ. وَجَعَلَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيٍّ تَقُولُ: مَا لِي وَلِصَلَاةِ الْغَدَاةِ، قُتِلَ زَوْجِي عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صَلَاةَ الْغَدَاةِ، وَقُتِلَ أَبِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صَلَاةَ الْغَدَاةِ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقِيلَ لِعَلِيٍّ: أَلَا تَسْتَخْلِفُ ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَتْرُكُكُمْ كَمَا تَرَكَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِكُمْ خَيْرًا يَجْمَعْكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ كَمَا جَمَعَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَذَا اعْتِرَافٌ مِنْهُ فِي آخِرِ وَقْتٍ مِنَ الدُّنْيَا بِفَضْلِ الصِّدِّيقِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ خَطَبَ بِالْكُوفَةِ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ وَدَارِ إِمَارَتِهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، وَلَوْ

شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَ الثَّالِثَ لَسَمَّيْتُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ نَازِلٌ مِنَ الْمِنْبَرِ: ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عُثْمَانُ. وَلَمَّا مَاتَ عَلِيٌّ وَلِيَ غُسْلَهُ وَدَفْنَهُ أَهْلُهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْحَسَنُ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا وَقِيلَ: أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَدُفِنَ عَلِيٌّ بِدَارِ الْخِلَافَةِ بِالْكُوفَةِ. وَقِيلَ: تُجَاهَ الْجَامِعِ مِنَ الْقِبْلَةِ، فِي حُجْرَةٍ مِنْ دُورِ آلِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ بِحِذَاءِ بَابِ الْوَرَّاقِينَ. وَقِيلَ: بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ. وَقِيلَ: بِالْكُنَاسَةِ. وَقِيلَ: دُفِنَ بِالثَّوِيَّةِ. وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي وَأَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ: نَقَلَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بَعْدَ صُلْحِهِ مَعَ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَفَنَهُ بِالْبَقِيعِ إِلَى جَانِبِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ عِيسَى بْنُ دَأْبٍ: بَلْ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَحْمِلُوهُ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَدْفِنُوهُ بِهَا جَعَلُوهُ فِي صُنْدُوقٍ عَلَى بَعِيرٍ، فَلَمَّا مَرُّوا بِهِ بِبِلَادِ طَيِّئٍ أَضَلُّوا الْبَعِيرَ، فَأَخَذَتْ طَيِّئٌ ذَلِكَ الْبَعِيرَ بِمَا عَلَيْهِ يَحْسَبُونَهُ مَالًا، فَلَمَّا وَجَدُوا بِالصُّنْدُوقِ مَيِّتًا دَفَنُوهُ بِالصُّنْدُوقِ فِي بِلَادِهِمْ، فَلَا يُعْرَفُ قَبْرُهُ إِلَى الْآنَ.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ قَبْرَهُ إِلَى الْآنَ بِالْكُوفَةِ كَمَا ذَكَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ أَنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ نَائِبَ بَنِي أُمَيَّةَ فِي زَمَانِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، لَمَّا كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْعِرَاقِ هَدَمَ دُورًا لِيَبْنِيَهَا دَارًا وَجَدَ قَبْرًا فِيهِ شَيْخٌ أَبْيَضُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَإِذَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ، فَقِيلَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّ بَنَى أُمَيَّةَ لَا يُرِيدُونَ مِنْكَ هَذَا كُلَّهُ. فَلَفَّهُ فِي قَبَاطِيَّ وَدَفَنَهُ هُنَاكَ. قَالُوا: فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ

أَنْ يَسْكُنَ تِلْكَ الدَّارَ الَّتِي هُوَ فِيهَا إِلَّا ارْتَحَلَ مِنْهَا. كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ اسْتَحْضَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُلْجَمٍ مِنَ السِّجْنِ فَأَحْضَرَ النَّاسَ النِّفْطَ وَالْبَوَارِيَّ لِيُحَرِّقُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ أَوْلَادُ عَلِيٍّ: دَعَوْنَا نَشْتَفِي مِنْهُ. فَقُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، فَلَمْ يَجْزَعْ وَلَا فَتَرَ عَنِ الذِّكْرِ، ثُمَّ كُحِلَتْ عَيْنَاهُ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَذْكُرُ اللَّهَ وَقَرَأَ سُورَةَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ إِلَى آخِرِهَا، وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَسِيلَانِ عَلَى خَدَّيْهِ، ثُمَّ حَاوَلُوا لِسَانَهُ لِيَقْطَعُوهُ، فَجَزِعَ عِنْدَ ذَلِكَ جَزَعًا شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَمْكُثَ فِي الدُّنْيَا فَوَاقًا لَا أَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ. فَقُتِلَ عِنْدَ ذَلِكَ وَحُرِّقَ بِالنَّارِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ابْنُ مُلْجَمٍ رَجُلًا أَسْمَرَ، حَسَنَ الْوَجْهِ، أَبْلَجَ، شَعْرُهُ مَعَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ، فِي جَبْهَتِهِ أَثَرُ السُّجُودِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَمْ يُنْتَظَرْ بِقَتْلِهِ بُلُوغُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَلِيٍّ ; فَإِنَّهُ كَانَ صَغِيرًا يَوْمَ قُتِلَ أَبُوهُ. قَالُوا: لِأَنَّهُ كَانَ قُتِلَ مُحَارَبَةً لَا قِصَاصًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ طَعْنُ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَوْمَ الْجُمْعَةَ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، بِلَا خِلَافٍ. فَقِيلَ: مَاتَ مِنْ يَوْمِهِ، وَقِيلَ: يَوْمَ الْأَحَدِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْهُ. قَالَ الْفَلَّاسُ: وَقِيلَ: ضُرِبَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَمَاتَ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ عَنْ تِسْعٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَهُوَ

الْمَشْهُورُ. قَالَهُ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ: خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ خَمْسَ سِنِينَ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: وَسِتَّةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقِيلَ: أَرْبَعَ سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْقَائِلَةِ، وَكَانَ نَائِمًا مَعَ امْرَأَتِهِ فَاخِتَةَ بِنْتِ قَرَظَةَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، جَلَسَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَجَعَلَ يَبْكِي، فَقَالَتْ لَهُ فَاخِتَةُ: أَنْتَ بِالْأَمْسِ تَطْعَنُ عَلَيْهِ، وَالْيَوْمَ تُبْكِي عَلَيْهِ ! فَقَالَ: وَيْحَكَ ! إِنَّمَا أَبْكِي لِمَا فَقَدَ النَّاسُ مِنْ حِلْمِهِ وَعِلْمِهِ وَفَضْلِهِ وَسَوَابِقِهِ وَخَيْرِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ " مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ " أَنَّ رَجُلًا مِنَ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ أُمَرَاءِ مُعَاوِيَةَ غَضِبَ ذَاتَ لَيْلَةٍ عَلَى ابْنِهِ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ مَنْزِلِهِ، فَخَرَجَ الْغُلَامُ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، فَجَلَسَ وَرَاءَ الْبَابِ مِنْ خَارِجٍ، فَنَامَ سَاعَةً ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَإِذَا هُوَ بَهِرٍّ أَسْوَدَ بَرِيٍّ قَدْ جَاءَ إِلَى الْبَابِ الَّذِي لَهُمْ فَنَادَى: يَا سُوَيْدُ، يَا سُوَيْدُ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْهِرُّ الَّذِي فِي مَنْزِلِهِمْ، فَقَالَ لَهُ الْبَرِيُّ: وَيْحَكَ ! افْتَحْ. فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ. فَقَالَ: وَيْحَكَ ! ائْتِنِي بِشَيْءٍ أَتَبَلَّغُ بِهِ فَإِنِّي جَائِعٌ وَتَعْبَانُ، هَذَا أَوَانُ مَجِيئِي مِنَ

الْكُوفَةِ، وَقَدْ حَدَثَ اللَّيْلَةَ حَدَثٌ عَظِيمٌ، قُتِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْهِرُّ الْأَهْلِيُّ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ ذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ غَيْرَ سَفُّودٍ كَانُوا يَشْوُونَ عَلَيْهِ اللَّحْمَ. فَقَالَ: ائْتِنِي بِهِ. فَجَاءَ بِهِ فَجَعَلَ يَلْحَسُهُ حَتَّى أَخَذَ حَاجَتَهُ وَانْصَرَفَ، وَذَلِكَ بِمَرْأَى مِنَ الْغُلَامِ وَمَسْمَعٍ، فَقَامَ إِلَى الْبَابِ فَطَرَقَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُوهُ فَقَالَ: مَنْ ؟ فَقَالَ لَهُ: افْتَحْ. فَقَالَ: وَيْحَكَ ! مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: افْتَحْ. فَفَتَحَ، فَقَصَّ عَلَيْهِ خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ ! أَمَنَامٌ هَذَا ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ. قَالَ: وَيْحَكَ ! أَفَأَصَابَكَ جُنُونٌ بَعْدِي ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا وَصَفْتُ لَكَ، فَاذْهَبْ إِلَى مُعَاوِيَةَ الْآنَ فَاتَّخِذْ عِنْدَهُ يَدًا بِمَا قُلْتُ لَكَ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَخْبَرُهُ الْخَبَرَ عَلَى مَا ذَكَرَ وَلَدُهُ، فَأَرَّخُوا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْبُرُدِ، وَلَمَّا جَاءَتِ الْبُرُدُ وَجَدُوا مَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ مُطَابِقًا لِمَا كَانَ أَخْبَرَ بِهِ أَبُو الْغُلَامِ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، ثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّ هَذِهِ الشِّيعَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا مَبْعُوثٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَقَالَ: كَذَبُوا وَاللَّهِ، مَا هَؤُلَاءِ بِالشِّيعَةِ، لَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ مَا زَوَّجْنَا نِسَاءَهُ وَلَا قَسَمْنَا مَالَهُ. وَرَوَاهُ أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَصَمِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بِنَحْوِهِ.

خِلَافَةُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا ضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ قَالُوا لَهُ: اسْتَخْلِفْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَدَعُكُمْ كَمَا تَرَكَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَنْهُ وَسَلَّمَ - يَعْنِي بِغَيْرِ اسْتِخْلَافٍ - فَإِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِكُمْ خَيْرًا يَجْمَعْكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ، كَمَا جَمَعَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْحَسَنُ، لِأَنَّهُ أَكْبَرُ بَنِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَدُفِنَ كَمَا ذَكَرْنَا بِدَارِ الْإِمَارَةِ بِالْكُوفَةِ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ شَأْنِهِ كَانَ أَوَّلُ مَنْ تَقَدَّمَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ. فَسَكَتَ الْحَسَنُ، فَبَايَعَهُ ثُمَّ بَايَعَهُ النَّاسُ بَعْدَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ مَاتَ عَلِيٌّ، وَكَانَ مَوْتُهُ يَوْمَ ضُرِبَ، عَلَى قَوْلٍ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا مَاتَ بَعْدَ الطَّعْنَةِ بِيَوْمَيْنِ. وَقِيلَ: مَاتَ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَمِنْ يَوْمَئِذٍ وَلِيَ الْحَسَنُ ابْنُهُ.
وَكَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى إِمْرَةِ أَذْرَبِيجَانَ تَحْتَ يَدِهِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ قَدْ بَايَعُوا عَلِيًّا عَلَى الْمَوْتِ، فَلَمَّا مَاتَ عَلِيٌّ أَلَحَّ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى الْحَسَنِ فِي النَّفِيرِ لِقِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ فَعَزْلَ قَيْسًا عَنْ إِمْرَةِ أَذْرَبِيجَانَ، وَوَلَّى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي نِيَّةِ الْحَسَنِ أَنْ يُقَاتِلَ أَحَدًا، وَلَكِنْ غَلَبُوهُ عَلَى رَأْيِهِ،

فَاجْتَمَعُوا اجْتِمَاعًا عَظِيمًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، فَأَمَرَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَارَ هُوَ بِالْجُيُوشِ فِي إِثْرِهِ قَاصِدًا بِلَادَ الشَّامِ لِيُقَاتِلَ مُعَاوِيَةَ وَأَهْلَ الشَّامِ فَلَمَّا اجْتَازَ بِالْمَدَائِنِ نَزَلَهَا وَقَدَّمَ الْمُقَدِّمَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الْمَدَائِنِ مُعَسْكِرٌ بِظَاهِرِهَا، إِذْ صَرَخَ فِي النَّاسِ صَارِخٌ: أَلَا إِنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَدْ قُتِلَ. فَثَارَ النَّاسُ فَانْتَهَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى انْتَهَبُوا سُرَادِقَ الْحَسَنِ. حَتَّى نَازَعُوهُ بِسَاطًا كَانَ جَالِسًا عَلَيْهِ، وَطَعَنَهُ بَعْضُهُمْ حِينَ رَكِبَ طَعْنَةً أَشْوَتْهُ، فَكَرِهَهُمُ الْحَسَنُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ رَكِبَ فَدَخَلَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ مِنَ الْمَدَائِنِ فَنَزَلَهُ وَهُوَ جَرِيحٌ، وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى الْمَدَائِنِ سَعْدُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، أَخُو أَبِي عُبَيْدٍ صَاحِبِ يَوْمِ الْجِسْرِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْحَسَنُ بِالْقَصْرِ قَالَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبَى عُبَيْدٍ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، لِعَمِّهِ سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ لَكَ فِي الشَّرَفِ وَالْغِنَى ؟ قَالَ: وَمَا ذَا ؟ قَالَ: تَأْخُذُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَتُقَيِّدُهُ وَتَبْعَثُ بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ: قَبَّحَكَ اللَّهُ وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ ! أَأَغْدِرُ بِابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ !
وَلَمَّا رَأَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَفَرُّقَ جَيْشِهِ عَلَيْهِ مَقَتَهُمْ، وَكَتَبَ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى مُعَاوِيَةَ - وَكَانَ قَدْ رَكِبَ فِي أَهْلِ الشَّامِ فَنَزَلَ مَسْكِنَ - يُرَاوِضُهُ عَلَى الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، فَقَدِمَا عَلَيْهِ الْكُوفَةَ فَبَذَلًا لَهُ مَا أَرَادَ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَاشْتَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْكُوفَةِ خَمْسَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنْ يَكُونَ خَرَاجُ دَارَابْجِرْدَ لَهُ، وَأَنْ لَا يُسَبَّ

عَلِيٌّ وَهُوَ يَسْمَعُ، فَإِذَا فُعِلَ ذَلِكَ نَزَلَ عَنِ الْإِمْرَةِ لِمُعَاوِيَةَ، وَيَحْقِنُ الدِّمَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. فَاصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ وَاجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى مُعَاوِيَةَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ، وَقَدْ لَامَ الْحُسَيْنُ أَخَاهُ الْحَسَنَ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، وَالصَّوَابُ مَعَ الْحَسَنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا سَنَذْكُرُ دَلِيلَهُ قَرِيبًا.
ثُمَّ بَعَثَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى أَمِيرِ الْمُقَدِّمَةِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَنْ يَسْمَعَ وَيُطِيعَ لِمُعَاوِيَةَ، فَأَبَى قَيْسٌ مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ، وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِمَا جَمِيعًا، وَاعْتَزَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ، ثُمَّ رَاجَعَ الْأَمْرَ فَبَايَعَ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَيَّامٍ قَرِيبَةٍ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ. ثُمَّ الْمَشْهُورُ أَنَّ مُبَايَعَةَ الْحَسَنِ لِمُعَاوِيَةَ كَانَتْ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ، وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُ: عَامُ الْجَمَاعَةِ. لِاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ فِيهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ السِّيَرِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَائِلِ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعِينَ - الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ.
وَزَعَمَ ابْنُ جَرِيرٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَاشِدٍ، أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ افْتَعَلَ كِتَابًا عَلَى لِسَانِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَدْ وَلَّاهُ إِمْرَةَ الْحَجِّ عَامَئِذٍ، وَبَادَرَ إِلَى ذَلِكَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ مَعَهُ كِتَابٌ مِنْ أَخِيهِ مُعَاوِيَةَ بِإِمْرَةِ الْحَجِّ، فَتَعَجَّلَ الْمُغِيرَةُ فَوَقَفَ بِالنَّاسِ يَوْمَ الثَّامِنِ لِيَسْبِقَ عُتْبَةَ إِلَى الْإِمْرَةِ. وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لَا يُقْبَلُ، وَلَا يُظَنُّ بِالْمُغِيرَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنَّ الصَّحَابَةَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ هَذَا، وَلَكِنْ هَذِهِ نَزْعَةٌ شِيعِيَّةٌ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ لِمُعَاوِيَةَ بِإِيلِيَاءَ. يَعْنِي لَمَّا مَاتَ عَلِيٌّ قَامَ أَهْلُ الشَّامِ فَبَايَعُوا مُعَاوِيَةَ عَلَى إِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عِنْدَهُمْ مُنَازِعٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَقَامَ أَهْلُ الْعِرَاقِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِيُمَانِعُوا بِهِ أَهْلَ الشَّامِ، فَلَمْ يُتِمَّ لَهُمْ مَا أَرَادُوهُ وَمَا حَاوَلُوهُ، وَإِنَّمَا كَانَ خِذْلَانُهُمْ مِنْ قِبَلِ تَدْبِيرِهِمُ السَّيِّئِ وَآرَائِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُخَالِفَةِ لِأُمَرَائِهِمْ، وَلَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ لَعَظَّمُوا مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ مُبَايَعَتِهِمُ ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَيِّدَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَحَدَ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَحُلَمَائِهِمْ وَذَوَى آرَائِهِمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْحَدِيثُ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا ". وَإِنَّمَا كَمَلَتِ الثَّلَاثُونَ بِخِلَافَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ نَزَلَ عَنِ الْخِلَافَةِ لِمُعَاوِيَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَذَلِكَ كَمَالُ ثَلَاثِينَ سَنَةً مِنْ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ مَدَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَنِيعِهِ هَذَا، وَهُوَ تَرْكُهُ الدُّنْيَا الْفَانِيَةَ، وَرَغْبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَحَقْنُهُ دِمَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَنَزَلَ عَنِ الْخِلَافَةِ وَجَعَلَ الْمُلْكَ بِيَدِ مُعَاوِيَةَ، حَتَّى تَجْتَمِعَ الْكَلِمَةُ عَلَى أَمِيرٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا الْمَدْحُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَسَنُورِدُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الثَّقَفِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَوْمًا، وَجَلَسَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَانِبِهِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ مَرَّةً وَإِلَيْهِ أُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِيهَا سَلَّمَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَمْرَ لِمُعَاوِيَةَ بْنَ أَبَى سُفْيَانَ. ثُمَّ رَوَى عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا بَايَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ طَفِقَ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ: إِنَّكُمْ سَامِعُونَ مُطِيعُونَ، مُسَالِمُونَ مَنْ سَالَمْتُ، مُحَارِبُونَ مَنْ حَارَبْتُ. فَارْتَابَ بِهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَقَالُوا: مَا هَذَا لَكُمْ بِصَاحِبٍ. فَمَا كَانَ عَنْ قَرِيبٍ حَتَّى طَعَنُوهُ فَأَشْوَوْهُ، فَازْدَادَ لَهُمْ بُغْضًا، وَازْدَادَ مِنْهُمْ ذُعْرًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفَ تَفَرُّقَهُمْ وَاخْتِلَافَهُمْ عَلَيْهِ، وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُسَالِمُهُ وَيُرَاسِلُهُ فِي الصُّلْحِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَلَى مَا يَخْتَارَانِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبَى مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: اسْتَقْبَلَ وَاللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبَى سُفْيَانَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لَا تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ، وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ: أَيْ عَمْرُو، إِنَّ قَتَلَ هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ، مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ ؟ مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ ؟ مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ ؟ فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنَى

عَبْدِ شَمْسٍ ; عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ، فَقَالَ: اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُولَا لَهُ، وَاطْلُبَا إِلَيْهِ. فَأَتَيَاهُ فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا، وَقَالَا لَهُ، وَطَلَبَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا. قَالَا: فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ. قَالَ: فَمَنْ لِي بِهَذَا ؟ قَالَا: نَحْنُ لَكَ بِهِ. فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالَا: نَحْنُ لَكَ بِهِ. فَصَالَحَهُ. قَالَ الْحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى، وَيَقُولُ: " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: إِنَّمَا ثَبَتَ عِنْدَنَا سَمَاعُ الْحَسَنِ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَفِي فَضَائِلِ الْحَسَنِ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ الْفَضْلِ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ سُفْيَانَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ سُفْيَانَ، وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ بْنِ مُوسَى الْبَصْرِيِّ بِهِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ، كِلَاهُمَا عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْبَصْرِيُّ، بِهِ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا

وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ وَغَيْرِهِ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مُرْسَلًا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنَا مَعْمَرٌ، أَخْبَرَنِي مَنْ سَمْعِ الْحَسَنَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا يَوْمًا وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي حِجْرِهِ، فَيُقْبِلُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَيُحَدِّثُهُمْ، ثُمَّ يَقْبَلُ عَلَى الْحَسَنِ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، إِنْ يَعِشْ يُصْلِحْ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ". قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَذَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ، وَلَمْ يُسَمِّ الَّذِي حَدَّثَهُ بِهِ عَنِ الْحَسَنِ، وَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنِ الْحَسَنِ، مِنْهُمْ ; أَبُو مُوسَى إِسْرَائِيلُ، وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَمَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، وَهِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، وَأَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ، وَالْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ الْقَدَرِيُّ. ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَطْرِيقِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، فَأَفَادَ وَأَجَادَ.
قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنْ مَعْمَرًا رَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فَلَمْ يُفْصِحُ بِاسْمِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ عَنْهُ وَسَمَّاهُ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ هَاشِمٍ، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ الْحَسَنُ: فَوَاللَّهِ وَاللَّهِ بَعْدَ أَنْ وَلِيَ لَمْ يُهْرَقْ فِي خِلَافَتِهِ مِلْءُ مِحْجِمَةٍ مِنْ دَمٍ.

قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي " أَطْرَافِهِ ": وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ". وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَغْرَاءَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ; فَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا أَبُو بَكْرٍ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ التَّمَّارُ الْمَدَنِيُّ، ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَدَنِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَسَلَّمَ فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَمَضَى، فَقُلْنَا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَذَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَدْ سَلَّمَ عَلَيْنَا. قَالَ: فَتَبِعَهُ فَلَحِقَهُ، وَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا سَيِّدِي. وَقَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " إِنَّهُ سَيِّدٌ ".

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ: كَانَ تَسْلِيمُ الْحَسَنِ الْأَمْرَ لِمُعَاوِيَةَ فِي الْخَامِسِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ. وَيُقَالُ: فِي غُرَّةِ جُمَادَى الْأُولَى. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَحِينَئِذٍ دَخَلَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْكُوفَةِ فَخَطَبَ النَّاسَ بِهَا بَعْدَ الْبَيْعَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَشَارَ عَلَى مُعَاوِيَةَ أَنْ يَأْمُرَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَنْ يَخْطُبَ النَّاسَ وَيُعْلِمَهُمْ بِنُزُولِهِ عَنِ الْأَمْرِ لِمُعَاوِيَةَ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ الْحَسَنَ، فَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ اللَّهَ هَدَاكُمْ بِأَوَّلِنَا، وَحَقَنَ دِمَاءَكُمْ بِآخِرِنَا، وَإِنَّ لِهَذَا الْأَمْرِ مُدَّةً، وَالدُّنْيَا دُوَلٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [ الْأَنْبِيَاءِ: 111 ]. فَلَمَّا قَالَهَا غَضِبَ مُعَاوِيَةُ وَأَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ، وَعَتَبَ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي إِشَارَتِهِ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ لِذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي " جَامِعِهِ ": حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَ مَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: سَوَّدْتَ وُجُوهَ الْمُؤْمِنِينَ - أَوْ: يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ - فَقَالَ: لَا تُؤَنِّبْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ ; فَإِنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ يَا مُحَمَّدُ. يَعْنِي نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ، وَنَزَلَتْ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ يَمْلِكُهَا بَعْدَكَ بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ الْقَاسِمُ: فَعَدَدْنَا فَإِذَا هِيَ أَلْفُ شَهْرٍ، لَا تَزِيدُ يَوْمًا وَلَا تَنْقُصُ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَثَّقَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَابْنُ مَهْدِيٍّ. قَالَ: وَشَيْخُهُ يُوسُفُ بْنُ سَعْدٍ - وَيُقَالُ: يُوسُفُ بْنُ مَازِنٍ - رَجُلٌ مَجْهُولٌ. قَالَ: وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَإِنَّهُ حَدِيثٌ غَرِيبٌ بَلْ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَبَيَّنَّا وَجْهَ نَكَارَتِهِ، وَنَاقَشْنَا الْقَاسِمَ بْنَ الْفَضْلِ فِيمَا ذَكَرَهُ، فَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلْيُرَاجِعِ " التَّفْسِيرَ ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ جَعْفَرٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَكِيمِيُّ، ثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، ثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، ثَنَا أَبُو رَوْقٍ الْهَمْدَانِيُّ، ثَنَا أَبُو الْغَرِيفِ قَالَ: كُنَّا فِي مُقَدِّمَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا بِمَسْكِنَ مُسْتَمِيتِينَ، تَقْطُرُ أَسْيَافُنَا مِنَ الْجِدِّ

عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ وَعَلَيْنَا أَبُو الْعَمَرَّطَةِ، فَلَمَّا جَاءَنَا صُلْحُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ كَأَنَّمَا كُسِرَتْ ظُهُورُنَا مِنَ الْغَيْظِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُوفَةَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَامِرٍ سُفْيَانُ بْنُ اللَّيْلِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُذِلَّ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: لَا تَقُلْ هَذَا يَا أَبَا عَامِرٍ، لَسْتُ بِمُذِلِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَقْتُلَهُمْ عَلَى الْمُلْكِ.
وَلَمَّا تَسَلَّمَ مُعَاوِيَةُ الْبِلَادَ وَدَخْلَ الْكُوفَةَ وَخَطْبَ بِهَا، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْآفَاقِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ أَحَدُ دُهَاةُ الْعَرَبِ، وَقَدْ كَانَ عَزَمَ عَلَى الشِّقَاقِ، وَحَصَلَ عَلَى بَيْعَةِ مُعَاوِيَةَ عَامَئِذٍ الْإِجْمَاعُ وَالِاتِّفَاقُ، تَرَحَّلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَمَعَهُ أَخُوهُ الْحُسَيْنُ وَبَقِيَّةُ إِخْوَتِهِمْ وَابْنُ عَمِّهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ إِلَى أَرْضِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَجَعَلَ كُلَّمَا مَرَّ بِحَيٍّ مِنْ شِيعَتِهِمْ يُبَكِّتُونَهُ عَلَى مَا صَنَعَ مِنْ نُزُولِهِ عَنِ الْأَمْرِ لِمُعَاوِيَةَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُصِيبٌ بَارٌّ رَاشِدٌ مَمْدُوحٌ، وَلَيْسَ يَجِدُ فِي صَدْرِهِ حَرَجًا وَلَا تَلَوُّمًا وَلَا نَدَمًا، بَلْ هُوَ رَاضٍ بِذَلِكَ مُسْتَبْشِرٌ بِهِ، وَإِنَّ كَانَ قَدْ سَاءَ هَذَا خُلُقًا مِنْ ذَوِيهِ وَأَهْلِهِ وَشِيعَتِهِ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَدٍ، وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَمَدْحُهُ فِيمَا حَقَنَ بِهِ دِمَاءَ الْأُمَّةِ، كَمَا مَدَحَهُ عَلَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَسَيَأْتِي فَضَائِلَ الْحَسَنِ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مُتَقَلَّبَهُ

وَمَثْوَاهُ، وَقَدْ فَعَلَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: خَطَبَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَقَرَأَ سُورَةَ " إِبْرَاهِيمَ " عَلَى الْمِنْبَرِ حَتَّى خَتَمَهَا.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ كُلَّ لَيْلَةٍ سُورَةُ " الْكَهْفِ " فِي لَوْحٍ مَكْتُوبٍ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، وَهُوَ فِي الْفِرَاشِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

ذِكْرُ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبَى سُفْيَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمُلْكِهِ
قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا، وَقَدِ انْقَضَتِ الثَّلَاثُونَ سَنَةً بِخِلَافَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَأَيَّامُ مُعَاوِيَةَ أَوَّلُ الْمُلْكِ، فَهُوَ أَوَّلُ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ وَخِيَارِهِمْ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ بَدَأَ رَحْمَةً وَنُبُوَّةً، ثُمَّ يَكُونُ رَحْمَةً وَخِلَافَةً، ثُمَّ كَائِنٌ مُلْكًا عَضُوضًا، ثُمَّ كَائِنٌ عُتُوًّا وَجَبْرِيَّةً وَفَسَادًا فِي الْأَرْضِ، يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيرَ وَالْفُرُوجَ وَالْخُمُورَ، وَيُرْزَقُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيُنْصَرُونَ حَتَّى يَلْقَوُا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ". إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ - وَفِيهِ ضَعْفٌ - عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ مَا حَمَلَنِي عَلَى الْخِلَافَةِ إِلَّاقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِي: " يَا مُعَاوِيَةُ، إِنْ مَلَكْتَ فَأَحْسِنْ ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ

مُحَمَّدِ بْنِ سَابِقٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، مِنْهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، عَنْ جَدِّهِ سَعِيدٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَخَذَ الْإِدَاوَةَ فَتَبِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: " يَا مُعَاوِيَةَ، إِنْ وَلَيْتَ أَمْرًا فَاتَّقِ اللَّهَ وَاعْدِلْ ". قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَمَا زِلْتُ أَظُنُّ أَنِّي مُبْتَلًى بِعَمَلٍ ; لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ ". قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْخِلَافَةُ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمُلْكُ بِالشَّامِ ". غَرِيبٌ جِدًّا.
وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ أَبَى الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ عَمُودَ الْكُتَّابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ بِصَرِي فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ ". وَقَدْ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ وَيُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ،

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَرَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَفِيرِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبَى أُمَامَةَ.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ السُّلَمِيِّ الْحِمْصِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ، سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رَأَيْتُ عَمُودًا مِنْ نُورٍ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي سَاطِعًا حَتَّى اسْتَقَرَّ بِالشَّامِ ".
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَوْمَ صِفِّينِ: اللَّهُمَّ الْعَنْ أَهْلَ الشَّامِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لَا تَسُبَّ أَهْلَ الشَّامِ جَمًّا غَفِيرًا ; فَإِنَّ بِهَا الْأَبْدَالَ، فَإِنَّ بِهَا الْأَبْدَالَ، فَإِنَّ بِهَا الْأَبْدَالَ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَرْفُوعًا.

فَضْلُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
هُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، خَالُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَاتِبُ وَحْيِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَسْلَمَ هُوَ وَأَبَوْهُ وَأُمُّهُ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ يَوْمَ الْفَتْحِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ أَسْلَمْتُ يَوْمَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَلَكِنْ كَتَمْتُ إِسْلَامِي مِنْ أَبِي وَأُمِّي إِلَى يَوْمِ الْفَتْحِ. وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَآلَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ قُرَيْشٍ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ فَكَانَ هُوَ أَمِيرَ الْحُرُوبِ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَكَانَ رَئِيسًا مُطَاعًا ذَا مَالٍ جَزِيلٍ، وَلَمَّا أَسْلَمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْنِي حَتَّى أُقَاتِلَ الْكُفَّارَ كَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: وَمُعَاوِيَةُ تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْكَ. قَالَ: " نَعَمْ ". ثُمَّ سَأَلَ أَنْ يُزَوِّجَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنَتِهِ الْأُخْرَى، وَهِيَ عَزَّةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَاسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِأُخْتِهَا أُمِّ حَبِيبَةَ، فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَأَفْرَدَنَا لَهُ مُصَنَّفًا عَلَى حِدَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنْ مُعَاوِيَةَ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ كُتَّابِ الْوَحْيِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمَّا فُتِحَتِالشَّامُ وَلَّاهُ عُمَرُ نِيَابَةَ دِمَشْقَ بَعْدَ أَخِيهِ يَزِيدَ

بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَادَهُ بِلَادًا أُخْرَى، وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْقُبَّةَ الْخَضْرَاءَ بِدِمَشْقَ، وَسَكَنَهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَهُ الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ. وَلَمَّا وَلِيَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْخِلَافَةَ أَشَارَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أُمَرَائِهِ، مِمَّنْ بَاشَرَ قَتْلَ عُثْمَانَ، أَنْ يَعْزِلَ مُعَاوِيَةَ عَنِ الشَّامِ، وَيُوَلِّيَ عَلَيْهَا سَهْلَ بْنَ حَنِيفٍ، فَعَزَلَهُ فَلَمْ يَنْتَظِمْ لَهُ عَزْلُهُ، وَالْتَفَّ عَلَى مُعَاوِيَةَ جَمَاعَةٌ مِنَ أَهْلِ الشَّامِ وَمَانَعَ عَلِيًّا عَنْهَا، وَقَدْ قَالَ: لَا أُبَايِعُهُ حَتَّى يُسَلِّمَنِي قَتَلَةَ عُثْمَانَ، فَإِنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ الْإِسْرَاءِ: 33 ].
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَيَلِي الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ أَوْرَدْنَا سَنَدَهُ وَمَتْنَهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. فَلَمَّا امْتَنَعَ مُعَاوِيَةُ مِنَ الْبَيْعَةِ لِعَلِيٍّ حَتَّى يُسَلِّمَهُ الْقَتَلَةَ، كَانَ مِنْ أَمْرِ صِفِّينِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، ثُمَّ آلَ الْأَمْرُ إِلَى التَّحْكِيمِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي مُوسَى مَا أَسْلَفْنَاهُ مِنْ قُوَّةِ جَانِبِ أَهْلِ الشَّامِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ مُعَاوِيَةَ جِدًّا، وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُ عَلَيٍّ فِي اخْتِلَافٍ مَعَ أَصْحَابِهِ حَتَّى قَتَلَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ بَايَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَبَايَعَ أَهْلُ الشَّامِ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ ثُمَّ رَكِبَ الْحَسَنُ فِي جُنُودِ الْعِرَاقِ عَنْ غَيْرِ إِرَادَةٍ مِنْهُ، وَرَكِبَ مُعَاوِيَةُ فِي أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا تَوَاجَهَ الْجَيْشَانِ وَتَقَابَلَ الْفَرِيقَانِ، سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا

فِي الصُّلْحِ، فَانْتَهَى الْحَالُ إِلَى أَنْ خَلَعَ الْحَسَنُ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ، وَسَلَّمَ الْمُلْكَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ - وَدَخْلَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْكُوفَةِ فَخَطْبَ النَّاسَ بِهَا خُطْبَةً بَلِيغَةً بَعْدَ مَا بَايَعَهُ النَّاسُ، وَاسْتَوْسَقَتْ لَهُ الْمَمَالِكُ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَبُعْدًا وَقُرْبًا، وَسُمِّيَ هَذَا الْعَامُ عَامُ الْجَمَاعَةِ ; لِاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ فِيهِ عَلَى أَمِيرٍ وَاحِدٍ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، فَوَلِيَ مُعَاوِيَةُ قَضَاءَ الشَّامِ لِفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، ثُمَّ بَعْدَهُ لِأَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، وَكَانَ عَلَى شُرْطَتِهِ قَيْسُ بْنُ حَمْزَةَ، وَكَانَ كَاتِبَهُ وَصَاحِبَ أَمْرِهِ سَرْجُونُ بْنُ مَنْصُورِ الرُّومِيُّ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْحَرَسَ، وَأَوَّلُ مِنْ حَزَمَ الْكُتُبَ وَخَتَمَهَا. وَكَانَ أَوَّلَ الْأَحْدَاثِ فِي دَوْلَتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

خُرُوجُ طَائِفَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ عَلَيْهِ
وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنْ مُعَاوِيَةَ لَمَّا دَخَلَ الْكُوفَةَ وَخَرَجَ الْحَسَنُ وَأَهْلُهُ مِنْهَا قَاصِدِينَ إِلَى الْحِجَازِ، قَالَتْ فِرْقَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ: جَاءَ مَا لَا يَشُكُّ فِيهِ، فَسِيرُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ فَجَاهِدُوهُ. فَسَارُوا حَتَّى قَرَبُوا مِنَ الْكُوفَةِ وَعَلَيْهِمْ فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُعَاوِيَةُ خَيْلًا مِنَ أَهْلِ الشَّامِ، فَطَرَدُوا الشَّامِيِّينَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ: لَا أَمَانَ لَكُمْ عِنْدِي حَتَّى تَكُفُّوا بَوَائِقَكُمْ. فَخَرَجُوا إِلَى الْخَوَارِجِ، فَقَالَتْ لَهُمُ الْخَوَارِجُ: وَيْلَكُمْ، مَا تَبْغُونَ ؟ أَلَيْسَ مُعَاوِيَةُ عَدُوَّكُمْ

وَعَدُوَّنَا ؟ فَدَعَوْنَا حَتَّى نُقَاتِلَهُ، فَإِنْ أَصَبْنَاهُ كُنَّا قَدْ كَفَيْنَاكُمُوهُ، وَإِنْ أَصَابَنَا كُنْتُمْ قَدْ كَفَيْتُمُونَا. فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ حَتَّى نُقَاتِلَكُمْ. فَقَالَتِ الْخَوَارِجُ: يَرْحَمُ اللَّهُ إِخْوَانَنَا مِنْ أَهْلِ النَّهْرِ كَانُوا أَعْلَمَ بِكُمْ يَا أَهْلِ الْكُوفَةِ. فَاقْتَتَلُوا فَهَزَمَهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَطَرَدُوهُمْ، ثُمَّ إِنَّ مُعَاوِيَةَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْكُوفَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: أَتُوَلِّيهِ الْكُوفَةَ وَأَبُوهُ بِمِصْرَ وَتَبْقَى أَنْتَ بَيْنَ لَحْيَيِ الْأَسَدِ ؟ ! فَثَنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، فَاجْتَمَعَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِمُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: أَتَجْعَلُ الْمُغِيرَةَ عَلَى الْخَرَاجِ، هَلَّا وَلَّيْتَ الْخَرَاجَ رَجُلًا آخَرَ. فَعَزَلَهُ عَنِ الْخَرَاجِ وَوَلَّاهُ عَلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ لِعَمْرٍو فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ الْمُشِيرَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَهَذِهِ بِتِلْكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ حُمْرَانِ بْنُ أَبَانَ عَلَى الْبَصْرَةَ فَأَخَذَهَا وَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَيْهِ جَيْشًا لِيَقْتُلُوهُ وَمَنْ مَعَهُ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرَةَ الثَّقَفِيُّ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَسَأَلَهُ فِي الصَّفْحِ عَنْهُمْ وَالْعَفْوِ، فَعَفَا عَنْهُمْ وَأَطْلَقَهُمْ، وَوَلَّى عَلَى الْبَصْرَةِ بُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ، فَتَسَلَّطَ عَلَى أَوْلَادِ زِيَادٍ يُرِيدُ قَتْلَهُمْ ; وَذَلِكَ أَنْ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى أَبِيهِمْ لِيَحْضُرَ إِلَيْهِ فَتَلَبَّثَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بُسْرٌ: لَئِنْ لَمْ تُسْرِعُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِلَّا قَتَلْتُ بَنِيكَ. فَبَعَثَ أَبُو بَكْرَةَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي ذَلِكَ، فَأَخَذَ لَهُ أَمَانًا مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ مُعَاوِيَةُ لَأَبَى بَكْرَةَ: هَلْ مِنْ عَهِدٍ تَعْهَدُهُ إِلَيْنَا ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَعْهَدُ إِلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَنْظُرَ لِنَفْسِكَ وَرَعِيَّتِكَ وَتَعْمَلَ صَالِحًا، فَإِنَّكَ قَدْ تَقَلَّدْتَ عَظِيمًا، خِلَافَةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، فَاتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّ لَكَ غَايَةً لَا تَعْدُوهَا، وَمِنْ وَرَائِكَ طَالِبٌ

حَثِيثٌ، وَأَوْشَكَ أَنْ تَبْلُغَ الْمَدَى، فَيَلْحَقَ الطَّالِبُ، فَتَصِيرَ إِلَى مِنْ يَسْأَلُكُ عَمَّا كُنْتَ فِيهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكَ، وَإِنَّمَا هِيَ مُحَاسَبَةٌ وَتَوْقِيفٌ، فَلَا تُؤْثِرَنَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ شَيْئًا.
ثُمَّ وَلَّى مُعَاوِيَةُ فِي آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ الْبَصْرَةَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَهَا لِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَامِرٍ: إِنَّ لِي بِهَا أَمْوَالًا وَوَدَائِعَ، وَإِنْ لَمْ تُوَلِّنِيهَا هَلَكَتْ. فَوَلَّاهُ إِيَّاهَا وَأَجَابَهُ إِلَى سُؤَالِهِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّمَا حَجَّ بِهِمْ عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِنْ أَعْيَانِ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ
رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ: شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا.
رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ الْقُرَشِيُّ، وَهُوَ الَّذِي صَارَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَعَهُ، وَكَانَ رُكَانَةُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ، وَكَانَ صَرْعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ. أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَقِيلَ: قَبْلَ ذَلِكَ

بِمَكَّةَ لَمَّا صَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ، أَبُو وَهَبٍ الْقُرَشِيُّ، أَحَدُ الرُّؤَسَاءِ، تَقَدَّمَ أَنَّهُ هَرَبَ يَوْمَ الْفَتْحِ، ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ الَّذِي اسْتَأْمَنَ لَهُ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ وَكَانَ صَاحِبُهُ وَصَدِيقُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدِمَ بِهِ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ، فَأَمَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَاسْتَعَارَ مِنْهُ أَدْرُعًا وَسِلَاحًا وَمَالًا، وَحَضَرَ صَفْوَانُ حُنَيْنًا مُشْرِكًا، ثُمَّ أَسْلَمَ وَدَخَلَ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، فَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا كَانَ مِنْ سَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثُمَّ لَمْ يَزَلْ صَفْوَانُ مُقِيمًا بِمَكَّةَ حَتَّى تُوُفِّيَ بِهَا فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.
عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ الْعَبْدَرِيُّ الْحَجَبِيُّ، أَسْلَمَ هُوَ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي أَوَّلِ سَنَةِ ثَمَانٍ قَبْلَ الْفَتْحِ. وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ حَدِيثًا طَوِيلًا عَنْهُ فِي صِفَةِ إِسْلَامِهِ. وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ عَامَ الْفَتْحِ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [ النِّسَاءِ: 58 ]. وَقَالَ لَهُ:

خُذْهَا يَا عُثْمَانُ خَالِدَةً تَالِدَةً، لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ ". وَكَانَ عَلِيٌّ قَدْ طَلَبَهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنَعَهُ ذَلِكَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: نَزَلَ الْمَدِينَةَ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا مَاتَ نَزَلَ بِمَكَّةَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.
عَمْرُو بْنُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيُّ: كَانَ مِنَ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ، وَكَانَتْ لَهُ حُلَّةً بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ يَلْبَسُهَا إِذَا قَامَ إِلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَكَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ مَخَافَةَ الْخُيَلَاءِ، رَوَى عَنْ مُعَاذٍ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَالْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي " الزُّهْدِ ": ثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ عُمَيْرٍ وَضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ قَالَا: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَدْيِ عَمْرِو بْنِ الْأَسْوَدِ.
عَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى: وَهِيَ أُخْتُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَحَدُ الْعَشَرَةِ، أَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ، وَكَانَتْ مِنْ حِسَانِ النِّسَاءِ وَعُبَّادِهِنَّ، تَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَتَتَيَّمَ بِهَا، فَلَمَّا قُتِلَ عَنْهَا فِي غَزْوَةِ الطَّائِفِ آلَتْ أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ بَعْدَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا - فَتَزَوَّجَهَا، فَلَمَّا

قُتِلَ عَنْهَا خَلَفَ بَعْدَهُ عَلَيْهَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، فَقُتِلَ عَنْهَا بِوَادِي السِّبَاعِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا عَلِيُّ بْنُ أَبَى طَالِبٍ يَخْطُبُهَا فَقَالَتْ لَهُ: إِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ. فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْهُ لَقُتِلَ عَنْهَا أَيْضًا، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ بِلَا زَوْجٍ حَتَّى مَاتَتْ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهَا اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ الْلَّانَ وَالرُّومَ، فَقَتَلُوا مِنْ أُمَرَائِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمُوا وَسَلِمُوا.
وَفِيهَا وَلَّى مُعَاوِيَةُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ نِيَابَةَ الْمَدِينَةِ، وَعَلَى مَكَّةَ خَالِدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ هِشَامٍ، وَعَلَى الْكُوفَةِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَعَلَى قَضَائِهَا شُرَيْحٌ الْقَاضِي، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى خُرَاسَانَ قَيْسُ بْنُ الْهَيْثَمِ مِنْ قِبَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ وَاسْتَقْضَى مَرْوَانُ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ عُمَيْرَةُ بْنُ يَثْرِبِيٍّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَحَرَّكَتِ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَفَا عَنْهُمْ عَلِيٌّ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ وَقَدْ عُوفِيَ جَرْحَاهُمْ وَثَابَتْ إِلَيْهِمْ قُوَاهُمْ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَقْتَلُ عَلِيٍّ تَرَحَّمُوا عَلَى قَاتِلِهِ ابْنِ مُلْجَمٍ، وَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَا يَقْطَعُ اللَّهُ يَدًا عَلَتْ قَذَالَ عَلِيٍّ بِالسَّيْفِ. وَجَعَلُوا يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى قَتْلِ عَلِيٍّ، ثُمَّ عَزَمُوا عَلَى الْخُرُوجِ عَلَى النَّاسِ، وَتَوَافَقُوا عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِيمَا يَزْعُمُونَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ قَدِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ فِي قَلْعَةٍ عُرِفَتْ بِهِ يُقَالُ لَهَا: قَلْعَةُ زِيَادٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى أَنْ تُهْلِكَ نَفْسَكَ ؟ أَقْدِمْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِمَا صَارَ إِلَيْكَ مِنْ أَمْوَالِ فَارِسَ

وَمَا صَرَفْتَ مِنْهَا وَمَا بَقِيَ عِنْدَكَ، فَائْتِنِي بِهِ وَأَنْتَ آمِنٌ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُقِيمَ عِنْدَنَا فَعَلْتَ، وَإِلَّا ذَهَبْتَ حَيْثُمَا شِئْتَ مِنَ الْأَرْضِ فَأَنْتَ آمِنٌ. فَعِنْدَ ذَلِكَ أَزْمَعَ زِيَادٌ السَّيْرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَبَلَغَ الْمُغِيرَةَ قُدُومَهُ، فَخَشِيَ أَنْ يَجْتَمِعَ بِمُعَاوِيَةَ قَبْلَهُ، فَسَارَ نَحْوَ دِمَشْقَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَسَبَقَهُ زِيَادٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِشَهْرٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِلْمُغِيرَةِ: مَا هَذَا وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْكَ وَأَنْتَ جِئْتَ بَعْدَهُ بِشَهْرٍ ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ يَنْتَظِرُ الزِّيَادَةَ، وَأَنَا أَنْتَظِرُ النُّقْصَانَ. فَأَكْرَمَ مُعَاوِيَةُ زِيَادًا، وَقَبَضَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَصَدَّقَهُ فِيمَا صَرَفَهُ وَمَا بَقِيَ عِنْدَهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا غَزَا بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ بِلَادَ الرُّومِ، فَوَغَلَ فِيهَا حَتَّى بَلَغَ مَدِينَةَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَشَتَّى بِبِلَادِهِمْ فِيمَا زَعَمَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ آخَرُونَ، وَقَالُوا: لَمْ يَكُنْ بِهَا مَشْتًى لِأَحَدٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهَا مَاتَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِمِصْرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ. قُلْتُ: وَسَنَذْكُرُ تَرْجَمَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي آخِرِهَا.
فَوَلَّى مُعَاوِيَةُ بَعْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى دِيَارِ مِصْرَ وَلَدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَعَمِلَ لَهُ عَلَيْهَا سَنَتَيْنِ.
وَقَدْ كَانَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ - وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْخَوَارِجِ وَجُنْدِ الْكُوفَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ صَمَّمُوا، كَمَا قَدَّمْنَا، عَلَى الْخُرُوجِ عَلَى النَّاسِ فِي هَذَا الْحِينِ، فَاجْتَمَعُوا فِي قَرِيبٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ، عَلَيْهِمُالْمُسْتَوْرِدُ بْنُ عُلَّفَةَ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِمُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ جُنْدًا عَلَيْهِمْ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَقَدِمَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَبَا الرَّوَّاغِ فِي طَلِيعَةٍ، هِيَ ثَلَاثُمِائَةٌ عَلَى عِدَّةِ الْخَوَارِجِ، فَلَقِيَهُمْ أَبُو الرَّوَّاغِ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْمَذَارُ. فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ، فَهَزَمَتْهُمُ الْخَوَارِجُ، ثُمَّ كَرُّوا عَلَيْهِمْ، فَهَزَمَتْهُمُ الْخَوَارِجُ، وَلَكِنْ لَمْ يُقْتَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَلَزِمُوا

مَكَانَهُمْ فِي مُقَابَلَتِهِمْ يَنْتَظِرُونَ قُدُومَ أَمِيرِ الْجَيْشِ مَعْقِلِ بْنِ قَيْسٍ عَلَيْهِمْ، فَمَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ إِلَّا فِي آخِرِ نَهَارٍ بَعْدَ أَنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَنَزَلَ وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي مَدْحِ أَبِي الرَّوَّاغِ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنْ لَهُمْ شَدَّاتٍ مُنْكَرَةً، فَكُنْ أَنْتَ رِدْءَ النَّاسِ، وَمُرِ الْفُرْسَانَ فَلْيُقَاتِلُوا بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ. فَمَا كَانَ إِلَّا رَيْثَمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى حَمَلَتِ الْخَوَارِجُ عَلَى مَعْقِلٍ وَأَصْحَابِهِ، فَانْجَفَلَ عَنْهُ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ، فَتَرَجَّلَ عِنْدَ ذَلِكَ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، الْأَرْضَ الْأَرْضَ. فَتَرَجَّلَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُرْسَانِ وَالشُّجْعَانِ قَرِيبٌ مِنْ مِائَتَيْ فَارِسٍ مِنْهُمْ أَبُو الرَّوَّاغِ الشَّاكِرِيُّ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْمُسْتَوْرِدُ بْنُ عُلَّفَةَ أَمِيرُ الْخَوَارِجِ بِأَصْحَابِهِ، فَاسْتَقْبَلُوهُمْ بِالرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ، وَلَحِقَ بَقِيَّةَ الْجَيْشِ بَعْضُ الْفُرْسَانِ، فَذَمَّرُهُمْ وَعَيَّرَهُمْ وَأَنَّبَهُمْ عَلَى الْفِرَارِ، فَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى مَعْقِلٍ وَهُوَ يُقَاتِلُ الْخَوَارِجَ بِمَنْ مَعَهُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَالنَّاسُ يَتَرَاجَعُونَ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، فَصَفَّهُمْ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَرَتَّبَهُمْ وَقَالَ: لَا تَبْرَحُوا عَلَى مَصَافِّكُمْ حَتَّى نُصْبِحَ فَنَحْمِلَ عَلَيْهِمْ. فَمَا أَصْبَحُوا حَتَّى هُزِمَتِ الْخَوَارِجُ، فَرَجَعُوا مِنْ حَيْثُ أَتَوْا، فَسَارَ مَعْقِلٌ فِي طَلَبِهِمْ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَبَا الرَّوَّاغِ فِي سِتِّمِائَةٍ، فَالْتَقَوْا بِهِمْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَثَارَ إِلَيْهِمُ الْخَوَارِجُ، فَتَبَارَزُوا سَاعَةً، ثُمَّ حَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَصَبَرَ لَهُمْ أَبُو الرَّوَّاغِ بِمَنِّ مَعَهُ، وَجَعَلَ يُذَمِّرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْفِرَارِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ، فَصَبَرُوا وَصَدَقُوا فِي الثَّبَاتِ، حَتَّى رَدُّوا الْخَوَارِجَ إِلَى أَمَاكِنِهِمْ، فَلَمَّا رَأَتِ الْخَوَارِجُ ذَلِكَ خَافُوا مِنْ هُجُومِ مَعْقِلٍ عَلَيْهِمْ، فَمَا يَكُونُ دُونَ

قَتْلِهِمْ شَيْءٌ فَهَرَبُوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى قَطَعُوا دِجْلَةَ، وَوَقَعُوا فِي أَرْضِ بَهُرَسِيرَ، وَتَبِعَهُمْ أَبُو الرَّوَّاغِ، وَلَحِقَهُ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ، وَوَصَلَتِ الْخَوَارِجُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْعَتِيقَةِ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ سِمَاكُ بْنُ عُبَيْدٍ نَائِبُ الْمَدَائِنِ، وَلَحِقَهُمْ أَبُو الرَّوَّاغِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ بِهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
أَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ الْقُرَشِيُّ السَّهْمِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَيُقَالُ: أَبُو مُحَمَّدٍ. أَحَدُ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلُوهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ لِيَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ هَاجَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بِلَادِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ لِعَدْلِهِ، وَوَعَظَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي ذَلِكَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ هُوَ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ. وَكَانَ أَحَدَ أُمَرَاءِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ أَمِيرُ غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، وَأَمَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَدَدٍ، عَلَيْهِمْ أَبُو عُبَيْدَةَ وَمَعَهُ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ الْفَارُوقُ، وَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُمَانَ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا مُدَّةَ حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا الصِّدِّيقُ.

وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: ثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ ثَنَا مِشْرَحُ بْنُ هَاعَانَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ".
وَقَالَ أَيْضًا: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُمَرَ الْجُمَحِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ مِنْ صَالِحِي قُرَيْشٍ ". وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ " ابْنَا الْعَاصِ مُؤْمِنَانِ " وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ " نِعْمَ أَهْلُ الْبَيْتِ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَأُمُّ عَبْدِ اللَّهِ " رَوَوْهُ فِي فَضَائِلِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
ثُمَّ إِنَّ الصِّدِّيقَ بَعَثَهُ فِي جُمْلَةِ مَنْ بَعَثَ مِنْ أُمَرَاءِ الْجَيْشِ إِلَى الشَّامِ، فَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ تِلْكَ الْحُرُوبَ، وَكَانَتْ لَهُ الْآرَاءُ السَّدِيدَةُ، وَالْمَوَاقِفُ الْحَمِيدَةُ، وَالْأَحْوَالُ السَّعِيدَةُ، ثُمَّ بَعَثَهُ عُمَرُ إِلَى مِصْرَ فَافْتَتَحَهَا وَاسْتَنَابَهُ عَلَيْهَا، وَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ عَزَلَهُ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، فَاعْتَزَلَ عَمْرٌو بِفِلَسْطِينَ، وَبَقِيَ فِي نَفْسِهِ مِنْ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ سَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَشَهِدَ مَوَاقِفَهُ كُلَّهَا بِصِفِّينَ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ هُوَ أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ، ثُمَّ لَمَّا أَنِ اسْتَرْجَعَ مُعَاوِيَةُ مِصْرَ وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ اسْتَعْمَلَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَزَلْ نَائِبَهَا إِلَى أَنَّ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ

وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ مَعْدُودًا مِنْ دُهَاةِ الْعَرَبِ وَشُجْعَانِهِمْ وَذَوِي آرَائِهِمْ، وَلَهُ أَمْثَالٌ حَسَنَةٌ وَأَشْعَارٌ جَيِّدَةٌ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْفَ مَثَلٍ. وَمِنْ شِعْرِهِ:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَتْرُكْ طَعَامًا يُحِبُّهُ وَلَمْ يُنْهَ قَلْبًا غَاوِيًا حَيْثُ يَمَّمَا قَضَى وَطَرًا مِنْهُ وَغَادَرَ سُبَّةً
إِذَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُهَا تَمْلَأُ الْفَمَا
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ - أَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ شِمَاسَةَ حَدَّثَهُ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ الْوَفَاةُ بَكَى، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: لِمَ تَبْكِي ؟ أَجَزَعًا مِنَ الْمَوْتِ ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنْ مِمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ. فَقَالَ لَهُ: قَدْ كُنْتَ عَلَى خَيْرٍ. فَجَعَلَ يُذَكِّرُهُ صُحْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفُتُوحَهُ الشَّامَ. فَقَالَ عَمْرٌو: تَرَكْتَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ; شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّى كُنْتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَطْبَاقٍ، لَيْسَ فِيهَا طَبَقٌ إِلَّا عَرَفْتُ نَفْسِي فِيهِ، كُنْتُ أَوَّلَ شَيْءٍ كَافِرًا، وَكُنْتُ أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَوْ مِتُّ حِينَئِذٍ وَجَبَتْ لِيَ النَّارُ، فَلَمَّا بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْتُ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً مِنْهُ، فَمَا مَلَأْتُ عَيْنَي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رَاجَعْتُهُ فِيمَا أُرِيدُ، حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ ; حَيَاءً مِنْهُ، فَلَوْ مِتُّ

يَوْمَئِذٍ قَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لِعَمْرٍو ; أَسْلَمَ وَكَانَ عَلَى خَيْرٍ فَمَاتَ عَلَيْهِ، نَرْجُو لَهُ الْجَنَّةَ. ثُمَّ تَلَبَّسْتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالسُّلْطَانِ وَأَشْيَاءَ، فَلَا أَدْرِي عَلَيَّ أَمْ لِي، فَإِذَا مِتُّ فَلَا تَبْكِيَنَّ عَلَيَّ بَاكِيَةٌ، وَلَا تُتْبِعْنِي مَادِحًا وَلَا نَارًا، وَشُدُّوا عَلَيَّ إِزَارِي فَإِنِّي مُخَاصِمٌ، وَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، فَإِنَّ جَنْبِي الْأَيْمَنَ لَيْسَ بِأَحَقَّ بِالتُّرَابِ مِنْ جَنْبِي الْأَيْسَرِ، وَلَا تَجْعَلُنَّ فِي قَبْرِي خَشَبَةً وَلَا حَجَرًا، وَإِذَا وَارَيْتُمُونِي فَاقْعُدُوا عِنْدِي قَدْرَ نَحْرِ جَزُورٍ وَتَقْطِيعِهَا ; أَسْتَأْنِسُ بِكُمْ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ، وَفِيهِ زِيَادَاتٌ عَلَى هَذَا السِّيَاقِ حَسَنَةٌ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ: كَيْ أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ لِأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ بَعْدَ هَذَا حَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ وَجَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَمَرْتَنَا فَعَصَيْنَا، وَنَهَيْتَنَا فَمَا انْتَهَيْنَا، وَلَا يَسَعُنَا إِلَّا عَفْوُكَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ الْغُلِّ مِنْ عُنُقِهِ، وَرَفَعَ رَأَسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا قَوِيٌّ فَأَنْتَصِرَ، وَلَا بَرِيءٌ فَأَعْتَذِرَ، وَلَا مُسْتَكْبِرٌ بَلْ مُسْتَغْفِرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا حَتَّى مَاتَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، فَإِنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قَبْلَ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا إِلَّا تَبُوكَ ; فَإِنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي قَوْلٍ، وَقِيلَ: اسْتَخْلَفَهُ فِي قَرْقَرَةِ الْكُدْرِ. وَكَانَ فِيمَنْ قَتَلَ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الَّذِي قَتَلَ مَرْحَبًا الْيَهُودِيَّ يَوْمَ خَيْبَرَ أَيْضًا. وَقَدْ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَحْوٍ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَرِيَّةً، وَكَانَ مِمَّنِ اعْتَزَلَ تِلْكَ الْحُرُوبَ بِالْجَمَلِ وَصِفِّينَ وَغَيْرِهِمَا، وَاتَّخَذَ سَيْفًا مِنْ خَشَبٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَخَرَجَ إِلَى الرَّبَذَةِ. وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ هُوَ بَرِيدَ عُمَرَ إِلَى عُمَّالِهِ، وَهُوَ الَّذِي شَاطَرَهُمْ عَنْ أَمْرِهِ، وَلَهُ وَقَائِعُ عَظِيمَةٌ وَصِيَانَةٌ وَأَمَانَةٌ بَلِيغَةٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ عَلَى صَدَقَاتِ جُهَيْنَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ، وَتَرَكَ بَعْدَهُ عَشَرَةَ ذُكُورٍ وَسِتَّ بَنَاتٍ، وَكَانَ أَسْمَرَ شَدِيدَ السُّمْرَةِ طَوِيلًا أَصْلَعَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، أَبُو يُوسُفَ الْإِسْرَائِيلِيُّ، أَحَدُ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، كَانَ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فِي نَخْلٍ لَهُ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَكُنْتُ فِيمَنِ انْجَفَلَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ وَجْهَهُ

عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشَوُا السَّلَامَ، وَأَطْعَمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ ". وَقَدْ ذَكَرْنَا صِفَةَ إِسْلَامِهِ أَوَّلَ الْهِجْرَةِ، وَمَاذَا سَأَلَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَسْئِلَةِ النَّافِعَةِ الْحَسَنَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ، وَهُوَ مِمَّنْ يُقْطَعُ لَهُ بِدُخُولِهَا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا غَزَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بِلَادَ الرُّومِ، وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَشَتُّوا هُنَالِكَ. وَفِيهَا غَزَا بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ فِي الْبَحْرِ.
وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ عَنْ إِمْرَةِ الْبَصْرَةِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَهَرَ فِيهَا الْفَسَادُ بِسَبَبِ لَيِنَهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَيِّنَ الْعَرِيكَةِ، سَهْلًا كَرِيمًا، وَكَانَ لَا يَأْخُذُ عَلَى أَيْدَى السُّفَهَاءِ، وَلَا يَقْطَعُ لِصًّا، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَأَلَّفَ النَّاسُ فَفَسَدَتِ الْبَصْرَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: شَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ إِلَى زِيَادٍ فَسَادَ النَّاسِ، فَقَالَ: جَرِّدْ فِيهِمُ السَّيْفَ. فَقَالَ ابْنُ عَامِرٍ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُصْلِحَهُمْ بِفَسَادِ نَفْسِي. قَالَ: فَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْكَوَّاءِ فَشَكَاهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَعَزَلَ مُعَاوِيَةُ ابْنَ عَامِرٍ عَنِ الْبَصْرَةِ وَبَعْثَ إِلَيْهَا الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيَّ، وَيُقَالُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَدْعَاهُ إِلَيْهِ لِيَزُورَهُ، فَقَدِمَ ابْنُ عَامِرٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ دِمَشْقَ، فَأَكْرَمَهُ وَرَدَّهُ عَلَى عَمَلِهِ، فَلَمَّا وَدَّعَهُ قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: ثَلَاثٌ أَسْأَلُكَهُنَّ فَقُلْ: هُنَّ لَكَ. قَالَ: هُنَّ لَكَ وَأَنَا ابْنُ أُمِّ حَكِيمٍ. قَالَ: مُعَاوِيَةُ: تَرُدُّ عَلَيَّ عَمَلِي وَلَا تَغْضَبْ. قَالَ ابْنُ عَامِرٍ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: وَتَهَبُ لِي مَالَكَ بِعَرَفَةَ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ:

وَتَهَبُ لِي دَوْرَكَ بِمَكَّةَ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ. فَقَالَ ابْنُ عَامِرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّى سَائِلُكَ ثَلَاثًا فَقُلْ: هِيَ لَكَ. قَالَ: هُنَّ لَكَ وَأَنَا ابْنُ هِنْدٍ. قَالَ: تَرُدُّ عَلَيَّ مَالِي بِعَرَفَةَ قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ قَالَ: وَلَا تُحَاسِبْ لِي عَامِلًا وَلَا تَتَّبِعْ لِي أَثَرًا. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: وَتُنْكِحُنِي ابْنَتَكَ هِنْدًا. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. وَيُقَالُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ خَيَّرَهُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثِ وَبَيْنَ الْوِلَايَةِ عَلَى الْبَصْرَةِ، فَاخْتَارَ هَذِهِ الثَّلَاثَ، وَانْعَزَلَ عَنِ الْبَصْرَةِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَلْحَقَ مُعَاوِيَةُ زِيَادَ ابْنِ أَبِيهِ فَأَلْحَقَهُ بِأَبِي سُفْيَانَ. وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ عَلَى إِقْرَارِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ عَاهَرَ بِسُمَيَّةَ أُمِّ زِيَادٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَّهَا حَمَلَتْ بِزِيَادٍ هَذَا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا اسْتَلْحَقَهُ مُعَاوِيَةُ قِيلَ لَهُ: زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُنْكِرُ هَذَا الِاسْتِلْحَاقَ، وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ".
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا هُشَيْمٌ، ثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: لَمَّا ادَّعَى زِيَادٌ لَقِيتُ أَبَا بَكْرَةَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمْ ؟ إِنِّي سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: سَمْعُ أُذُنِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: " مَنِ ادَّعَى أَبًا فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْرَجْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ عَنْهُمَا. قُلْتُ: أَبُو بَكْرَةَ

اسْمُهُ نُفَيْعٌ، وَاسْمُ أُمِّهِ سُمَيَّةُ أَيْضًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُعَاوِيَةُ. وَفِيهَا عَمِلَ مُعَاوِيَةُ الْمَقْصُورَةَ بِالشَّامِ، وَعَمِلَ مَرْوَانُ مَثَلَهَا بِالْمَدِينَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْمُهَا رَمْلَةُ، أُخْتُ مُعَاوِيَةَ. أَسْلَمَتْ قَدِيمًا، وَهَاجَرَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَتَنَصَّرَ هُنَاكَ زَوجُهَا، وَثَبَتَتْ هِيَ عَلَى دِينِهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَحَبِيبَةُ هِيَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهَا مِنْهُ، وَلَدَتْهَا بِالْحَبَشَةِ. وَقِيلَ: بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَمَاتَ زَوْجُهَا هُنَالِكَ، لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ. وَلَمَّا تَأَيَّمَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ، وَوَلِيَ الْعَقْدَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ النَّجَاشِيُّ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَحَمَلَهَا إِلَيْهِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ، وَلَمَّا جَاءَ أَبُوهَا عَامَ الْفَتْحِ لِيَشُدَّ الْعَقْدَ، دَخَلَ عَلَيْهَا، فَثَنَتْ عَنْهُ فِرَاشَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهَا: وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةُ، مَا أَدْرِي أَرَغِبْتِ بِهَذَا الْفِرَاشِ عَنِّي أَمْ بِي عَنْهُ ؟ ! فَقَالَتْ: بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ. فَقَالَ لَهَا: وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةَ لَقَدْ لَقِيتِ بَعْدِي شَرًّا. وَقَدْ كَانَتْ مِنْ سَيِّدَاتِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنَ الْعَابِدَاتِ الْوَرِعَاتِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ:

دَعَتْنِي أُمُّ حَبِيبَةَ عِنْدَ مَوْتِهَا فَقَالَتْ: قَدْ يَكُونُ بَيْنَنَا مَا يَكُونُ بَيْنَ الضَّرَائِرِ. فَقُلْتُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَلَكِ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَتَجَاوَزَ وَحَلَّلَكِ. فَقَالَتْ: سَرَرْتِنِي سَرَّكِ اللَّهُ. وَأَرْسَلَتْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا وَلَّى مُعَاوِيَةُ الْبَصْرَةَ لِلْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيِّ، ثُمَّ عَزَلَهُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَوَلَّى زِيَادًا، فَقَدِمَ زِيَادٌ الْكُوفَةَ وَعَلَيْهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَأَقَامَ بِهَا لِيَأْتِيَهُ رَسُولُ مُعَاوِيَةَ بِوِلَايَةِ الْبَصْرَةِ، فَظَنَّ الْمُغِيرَةُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَلَى إِمْرَةِ الْكُوفَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ لِيَعْلَمَ لَهُ خَبَرَهُ، فَاجْتَمَعَ بِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ، فَجَاءَ الْبَرِيدُ إِلَى زِيَادٍ أَنَّ يَسِيرَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، ثُمَّ جَمَعَ لَهُ الْهِنْدَ وَالْبَحْرَيْنَ وَعُمَانَ. وَدَخَلَ زِيَادٌ الْبَصْرَةَ فِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى، فَقَامَ فِي أَوَّلِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا، وَقَدْ وَجَدَ الْفِسْقَ ظَاهِرًا فِي الْبَصْرَةِ، فَقَالَ فِيهَا: أَيُّهَا النَّاسُ، كَأَنَّكُمْ لَمْ تُسْمِعُوا مَا أَعَدَّ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ، وَالْعَذَابِ لِأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، أَتَكُونُونَ كَمَنْ طَرَفَتْ عَيْنُهُ الدُّنْيَا، وَسَدَّتْ مَسَامِعَهَ الشَّهَوَاتُ فَاخْتَارَ الْفَانِيَةَ عَلَى الْبَاقِيَةِ. ثُمَّ مَا زَالَ يُقِيمُ أَمْرَ السُّلْطَانِ وَيُجَرِّدُ السَّيْفَ حَتَّى خَافَهُ النَّاسُ خَوْفًا عَظِيمًا، وَتَرَكُوا مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي الظَّاهِرَةِ، وَاسْتَعَانَ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَوَلَّى عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ الْقَضَاءَ بِالْبَصْرَةِ، وَوَلَّى الْحَكَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ نِيَابَةَ خُرَاسَانَ، وَوَلَّى سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ.

وَكَانَ زِيَادٌ حَازِمَ الرَّأْيِ، ذَا هَيْبَةَ، دَاهِيَةً، وَكَانَ مُفَوَّهًا فَصِيحًا بَلِيغًا ; قَالَ

الشَّعْبِيُّ: مَا سَمِعْتُ مُتَكَلِّمًا قَطُّ تَكَلَّمَ فَأَحْسَنَ إِلَّا أَحْبَبْتُ أَنْ يَسْكُتَ ; خَوْفًا مِنْ أَنْ يُسِيءَ إِلَّا زِيَادًا ; فَإِنَّهُ كَانَ كُلَّمَا أَكْثَرَ كَانَ أَجْوَدَ كَلَامًا. وَقَدْ كَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو نَائِبُ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ جَبَلَ الْأَشَلِّ، عَنْ أَمْرِ زِيَادٍ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَمَّةً، فَكَتَبَ إِلَيْهِ زِيَادٌ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ جَاءَ كِتَابَهُ أَنَّ يُصْطَفَى لَهُ كُلُّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ - يَعْنِي الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ - يُجْمَعُ كُلُّهُ مِنْ هَذِهِ الْغَنِيمَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ. فَكَتَبَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو إِلَيْهِ: إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ مُقَدَّمٌ عَلَى كِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَوْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ عَلَى عَبْدٍ فَاتَّقَى اللَّهَ، لَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا. ثُمَّ نَادَى فِي النَّاسِ أَنِ اغْدُوَا عَلَى قَسْمِ غَنِيمَتِكُمْ. فَقَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ، وَخَالَفَ زِيَادًا فِيمَا كَتَبَ إِلَيْهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَعَزَلَ الْخُمُسَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ الْحَكَمُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ لِي عِنْدَكَ خَيْرٌ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ. فَمَاتَ بِمَرْوَ مِنْ خُرَاسَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَكَانَ نَائِبَ الْمَدِينَةَ. وَكَانَتِ الْوُلَاةُ وَالْعُمَّالُ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ أَحَدُ كُتَّابِ الْوَحْيِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِيهِمْ فِي أَوَاخِرِ السِّيرَةِ، وَهُوَ الَّذِي كَتَبَ هَذَا الْمُصْحَفَ الْإِمَامَ الَّذِي بِالشَّامِ، عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَهُوَ خَطٌّ جَيِّدٌ قَوِّيٌّ جِدًّا فِيمَا رَأَيْتُهُ، وَقَدْ كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ ذَكَاءً، تَعَلَّمَ لِسَانَ يَهُودَ وَكِتَابَهُمْ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْبَرَاءِ: تَعَلَّمَ الْفَارِسِيَّةَ مِنْ رَسُولِ كِسْرَى فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَتَعَلَّمَ الْحَبَشِيَّةَ وَالرُّومِيَّةَ وَالْقِبْطِيَّةَ مِنْ خُدَّامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الْخَنْدَقُ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ: " وَأَعْلَمَهُمْ بِالْفَرَائِضِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ". وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى الْقَضَاءِ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَخَذَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالرِّكَابِ فَقَالَ لَهُ: تَنَحَّ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: لَا هَكَذَا نَفْعَلُ بِعُلَمَائِنَا وَكُبَرَائِنَا.

وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ أَفْكَهِ النَّاسِ فِي بَيْتِهِ، وَمَنْ أَزْمَتِهِ إِذَا خَرَجَ إِلَى الرِّجَالِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: خَرَجَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِلَى الصَّلَاةِ، فَوَجَدَ النَّاسَ رَاجِعِينَ مِنْهَا، فَتَوَارَى عَنْهُمْ وَقَالَ: مَنْ لَا يَسْتَحِي مِنَ النَّاسِ لَا يَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ.
مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ خَمَسٍ وَخَمْسِينَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ قَارَبَ السِّتِّينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ مَاتَ الْيَوْمَ عَلَمٌ كَثِيرٌ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَاتَ حَبْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَفِيهَا مَاتَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَلَا عَقِبَ لَهُ.
وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ إِلَى بَدْرٍ عَلَى قُبَاءَ وَأَهْلِ الْعَالِيَةِ، وَشَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، وَتُوُفِّيَ عَنْ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَقَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَمَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ إِلَى مَسْجِدِ الضِّرَارِ فَحَرَّقَاهُ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَتْ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، وَهَاجَرَتْ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا بَعْدَ بَدْرٍ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عُدَّتُهَا عَرَضَهَا أَبُوهَا عَلَى عُثْمَانَ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجَتِهِ رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَعَرَضَهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَمَا كَانَ عَنْ قَرِيبٍ حَتَّى خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَوَّجَهَا، فَعَاتَبَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ ذَكَرَهَا، فَمَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ تَرَكَهَا لَتَزَوَّجْتُهَا.
وَقَدْ رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا. وَفِي رِوَايَةٍأَنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَهُ بِمُرَاجَعَتِهَا، وَقَالَ: إِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَهِيَ زَوْجَتُكَ فِي الْجَنَّةِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا تُوُفِّيَتْ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتِّينَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّهَا تُوُفِّيَتْ أَيَّامَ عُثْمَانَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا شَتَّى الْمُسْلِمُونَ بِبِلَادِ الرُّومِ مَعَ أَمِيرِهِمْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَقِيلَ: كَانَ أَمِيرُهُمْ غَيْرَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَخُو مُعَاوِيَةَ، وَالْعُمَّالُ عَلَى الْبِلَادِ هُمُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، أَحَدُ الْبَكَّائِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ كُلِّهَا.
سُرَاقَةُ بْنُ كَعْبٍ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَعْرُوفِينَ وَالْأَبْطَالِ الْمَشْهُورِينَ كَأَبِيهِ، وَكَانَ قَدْ عَظُمَ بِبِلَادِ الشَّامِ كَذَلِكَ حَتَّى خَافَ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ، وَمَاتَ وَهُوَ مَسْمُومٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ. وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبَى عُمَرَ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ قَيْسٍ رَوَى عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحِجَامَةِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. يَعْنِي مُرْسَلًا.

وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كَانَ عَظِيمَ الْقَدْرِ فِي أَهْلِ الشَّامِ، شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ كَعْبُ بْنُ جُعَيْلٍ مَدَّاحًا لَهُ وَلِأَخَوَيْهِ مُهَاجِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ سُمَيْعٍ: كَانَ يَلِي الصَّوَائِفَ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ حَفِظَ عَنْ مُعَاوِيَةَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ ابْنُ أُثَالٍ - وَكَانَ رَئِيسَ الذِّمَّةِ بِأَرْضِ حِمْصَ - سَقَاهُ شَرْبَةً فِيهَا سُمٌّ فَمَاتَ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ مُعَاوِيَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَصِحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَثَاهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ:
أَبُوكَ الَّذِي قَادَ الْجُيُوشَ مَغْرِبًا إِلَى الرُّومِ لَمَّا أَعْطَتِ الْخَرْجَ فَارِسُ وَكَمْ مِنْ فَتًى نَبَّهْتَهُ بَعْدَ هَجْعَةٍ
بِقَرْعِ اللِّجَامِ وَهُوَ أَكْتَعُ نَاعِسُ وَمَا يَسْتَوِي الصَّفَّانِ صَفٌّ لِخَالِدٍ
وَصَفٌّ عَلَيْهِ مِنْ دِمَشْقَ الْبَرَانِسُ
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: مَا فَعَلَ ابْنُ أَثَالٍ ؟ فَسَكَتَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حِمْصَ فَثَارَ عَلَى ابْنِ أُثَالٍ فَقَتَلَهُ، فَحَبَسَهُ مُعَاوِيَةُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ،

فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: مَا فَعَلَ ابْنُ أُثَالٍ ؟ فَقَالَ: قَدْ كَفَيْتُكَ إِيَّاهُ، وَلَكِنْ مَا فَعَلَ ابْنُ جُرْمُوزٍ ؟ فَسَكَتَ عُرْوَةُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فِي قَوْلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
هَرِمُ بْنُ حَيَّانَ الْعَبْدِيُّ، كَانَ أَحَدَ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَلَقِيَ - أُوَيْسًا الْقَرْنِيَّ، وَكَانَ مِنْ عُقَلَاءِ النَّاسِ وَعُلَمَائِهِمْ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا دُفِنَ جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَرَشَّتْ قَبْرَهُ وَحْدَهُ، وَنَبَتَ الْعُشْبُ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سُنَّةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا شَتَّى الْمُسْلِمُونَ بِبِلَادِ الرُّومِ. وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ دِيَارِ مِصْرَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَقِيلَ: أَخُوهُ عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ، كَانَ مِنْ سَادَاتِ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ مِمَّنْ حَرَّمَ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَكِرَ يَوْمًا، فَعَبِثَ بِذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْهُ، فَهَرَبَتْ مِنْهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَحَرَّمَهَا، وَأَنْشَدَ ذَلِكَ:
رَأَيْتُ الْخَمْرَ مَصْلَحَةً وَفِيهَا مَقَابِحُ تَفْضَحُ الرَّجُلَ الْكَرِيمَا فَلَا وَاللَّهِ أَشْرَبُهَا حَيَاتِي
وَلَا أَشْفِي بِهَا أَبَدًا سَقِيمًا
وَكَانَ إِسْلَامُهُ مَعَ وَفْدِ بَنَى تَمِيمٍ، وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " هَذَا سَيِّدُ أَهْلِ الْوَبَرِ ". وَكَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا كَرِيمًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِرُ يَوْمَ مَاتَ:

فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْعَلَاءِ يَقُولَانِ: قِيلَ لِلْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ: مِمَّنْ تَعَلَّمْتِ الْحِلْمَ ؟ قَالَ: مِنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيِّ ; لَقَدِ اخْتَلَفْنَا إِلَيْهِ فِي الْحُكْمِ كَمَا يُخْتَلَفُ إِلَى الْفُقَهَاءِ فِي الْفِقْهِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَهُ يَوْمًا وَهُوَ قَاعِدٌ بِفِنَائِهِ مُحْتَبٍ بِكِسَائِهِ، إِذْ أَتَتْهُ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ مَقْتُولٌ وَمَكْتُوفٌ، فَقَالُوا: هَذَا ابْنُكَ قَتَلَهُ ابْنُ أَخِيكَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا حَلَّ حَبَوْتَهُ حَتَّى فَرَغَ مِنْ كَلَامِهِ، ثُمَّ الْتَفَتْ إِلَى ابْنٍ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ فَقَالَ: أَطْلِقْ عَنِ ابْنِ عَمِّكَ، وَوَارِ أَخَاكَ، وَاحْمِلْ إِلَى أُمِّهِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا غَرِيبَةٌ. ثُمَّ نَظَرَ لَهُ فَقَالَ: نَقَصْتَ عَدَدَكَ، وَقَطَعْتَ رَحِمَكَ، وَعَصَيْتَ رَبَّكَ، وَأَطَعْتَ شَيْطَانَكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَلَسَ حَوْلَهُ بَنُوهُ، وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ذَكَرًا، فَقَالَ لَهُمْ: يَا بَنِيَّ، سَوِّدُوا عَلَيْكُمْ أَكْبَرَكُمْ تَخْلُفُوا أَبَاكُمْ، وَلَا تَسُوِّدُوا أَصْغَرَكُمْ فَيَزْدَرِي بِكُمْ أَكْفَاؤُكُمْ، وَعَلَيْكُمْ بِالْمَالِ وَاصْطِنَاعِهِ فَإِنَّهُ مَأْبَهَةٌ لِلْكَرِيمِ، وَيُسْتَغْنَي بِهِ عَنِ اللَّئِيمِ، وَإِيَّاكُمْ وَمَسْأَلَةَ النَّاسِ ; فَإِنَّهَا مِنْ أَخَسِّ مَكْسَبَةِ الرَّجُلِ، وَلَا تَنُوحُوا عَلَيَّ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنَحْ عَلَيْهِ، وَلَا تَدْفِنُونِي حَيْثُ يَشْعُرُ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ ; فَإِنِّي كُنْتُ أُعَادِيهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ:

عَلَيْكَ سَلَامُ اللَّهِ قَيْسُ بْنَ عَاصِمٍ وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا
تَحِيَّةَ مَنْ أَوْلَيْتَهُ مِنْكَ مِنَّةً إِذَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُهَا تَمْلَأُ الْفَمَا
فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا شَتَّى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَيْنِيُّ بِالْمُسْلِمِينَ بِبِلَادِ أَنْطَاكِيَةَ. وَفِيهَا غَزَا عُقَبَةُ بْنُ عَامِرٍ بِأَهْلِ مِصْرَ الْبَحْرَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا غَزَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بِلَادَ الرُّومِ حَتَّى بَلَغَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ ; ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ " فَكَانَ هَذَا الْجَيْشُ أَوَّلَ مَنْ غَزَاهَا، وَمَا وَصَلُوا إِلَيْهَا حَتَّى بَلَغُوا الْجَهْدَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقِيلَ: لَمْ يَمُتْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، بَلْ بَعْدَهَا سَنَةَ إِحْدَى أَوْ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَوَلَّى عَلَيْهَا سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَاسْتَقْضَى سَعِيدٌ عَلَيْهَا أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
وَفِيهَا شَتَّى مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْفَزَارِيُّ بِأَرْضِ الرُّومِ. وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَشَتَّى هُنَالِكَ، فَفَتَحَ الْبَلَدَ وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا. وَفِيهَا كَانَتْ صَائِفَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كُرْزٍ الْبَجَلِيِّ.

وَفِيهَا وَقَعَ الطَّاعُونُ بِالْكُوفَةِ، فَخَرَجَ مِنْهَا الْمُغِيرَةُ فَارًّا، فَلَمَّا ارْتَفَعَ الطَّاعُونُ رَجَعَ إِلَيْهَا، فَأَصَابَهُ الطَّاعُونُ فَمَاتَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ كَمَا سَيَأْتِي.
فَجَمَعَ مُعَاوِيَةُ لِزِيَادٍ الْكُوفَةَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ مِنْ جُمِعَ لَهُ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ زِيَادٌ يُقِيمُ فِي هَذِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَفِي هَذِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْبَصْرَةِ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ، سِبْطُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ابْنُ ابْنَتِهِ فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ وَرَيْحَانَتُهُ، وَأَشْبَهُ خَلْقِ اللَّهِ بِهِ فِي وَجْهِهِ، وُلِدَ لِلنِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَحَنَّكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِيقِهِ، وَسَمَّاهُ حَسَنًا، وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ أَبَوَيْهِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا حَتَّى كَانَ يُقَبِّلُ زَبِيبَتَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَرُبَّمَا مَصَّ لِسَانَهُ وَاعْتَنَقَهُ وَدَاعَبَهُ، وَرُبَّمَا جَاءَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ فِي الصَّلَاةِ فَيَرْكَبُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُطِيلُ السُّجُودَ مِنْ أَجْلِهِ، وَرُبَّمَا صَعِدَ مَعَهُ إِلَى الْمِنْبَرِ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ،بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ إِذْ رَأَى الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ مُقْبِلِينِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمَا فَاحْتَضَنَهُمَا، وَأَخَذَهُمَا مَعَهُ إِلَى الْمِنْبَرِ، وَقَالَ: " صَدَقَ اللَّهُ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ، إِنِّي رَأَيْتُ هَذَيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ أَمْلِكْ أَنْ نَزَلْتُ إِلَيْهِمَا ". ثُمَّ قَالَ: " إِنَّكُمْ لِمَنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَإِنَّكُمْ لَتُبَخِّلُونَ وَتُجَبِّنُونَ ".
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعِيدِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَلَّى بِهِمُ الْعَصْرَ - بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَيَالٍ - ثُمَّ خَرَجَ هُوَ وَعَلِيٌّ يَمْشِيَانِ، فَرَأَى الْحَسَنَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَاحْتَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: بِأَبِي بِأَبِي شِبْهُ النَّبِيِّ، لَيْسَ شَبِيهًا بِعَلِيٍّ. قَالَ: وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ.
وَرَوَى سُفْيَانُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا: ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ،

سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ:رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يُشْبِهُهُ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ. قَالَ وَكِيعٌ: لَمْ يَسْمَعْ إِسْمَاعِيلُ مِنْ أَبِي جُحَيْفَةَ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، ثَنَا زَمْعَةُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَانَتْ فَاطِمَةُ تَنْقُزُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَتَقُولُ:
يَا بِأَبِي شِبْهُ النَّبِيِّ لَيْسَ شَبِيهًا بِعَلِيِّ
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَشْبَهَهُمْ وَجْهًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هَانِئٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:الْحَسَنُ أَشْبَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ الصَّدْرِ إِلَى الرَّأْسِ، وَالْحُسَيْنُ أَشْبَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ،

وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: ثَنَا قَيْسٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَشْبَهَ النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهِهِ إِلَى سُرَّتِهِ، وَكَانَ الْحُسَيْنُ أَشْبَهَ النَّاسِ بِهِ مَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ كَانَ يُشْبِهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا تَمِيمَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، يُحَدِّثُهُ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ، وَيَقْعُدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّنَا ثُمَّ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا ". وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ النَّهْدِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ عَارِمٌ بِهِ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَمُسَدَّدٍ، عَنْ مُعْتَمِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا تَمِيمَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي رِوَايَةٍ " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا ".

وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ " أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ. وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَدِيٍّ، عَنِ الْبَرَاءِ، فَزَادَ: " وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ ". وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأُحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَحْمَدَ، وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو النَّضْرِ، ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ فَانْصَرَفَ وَانْصَرَفْتُ مَعَهُ، فَجَاءَ إِلَى فِنَاءِ فَاطِمَةَ، فَنَادَى الْحَسَنَ فَقَالَ: " أَيْ لُكَعُ، أَيْ لُكَعُ، أَيْ لُكَعُ ". فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ فَانْصَرَفَ وَانْصَرَفْتُ

مَعَهُ، فَجَاءَ إِلَى فِنَاءِ عَائِشَةَ فَقَعَدَ. قَالَ: فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ظَنَنَّا أَنَّ أُمَّهُ حَبَسَتْهُ لِتَجْعَلَ فِي عُنُقِهِ السِّخَابَ، فَلَمَّا دَخَلَ الْتَزَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْتَزَمَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ ". ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا حَمَّادٌ الْخَيَّاطُ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ نُعَيمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ مُتَّكِئًا عَلَى يَدِي، فَطَافَ فِيهَا، ثُمَّ رَجَعَ فَاحْتَبَى فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: " أَيْنَ لُكَاعُ ؟ ادْعُوَا لِي لُكَاعُ ". فَجَاءَ الْحَسَنُ فَاشْتَدَّ حَتَّى وَثَبَ فِي حَبْوَتِهِ، فَأَدْخَلَ فَمَهُ فِي فَمِهِ، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ " ثَلَاثًا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا رَأَيْتُ الْحَسَنَ إِلَّا فَاضَتْ عَيْنِي. أَوْ قَالَ: دَمَعِتْ عَيْنِي. أَوْ: بَكَيْتُ. وَهَذَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ، وَقَدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ نُعَيمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ أَوْ نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ،

عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِهِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ. وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ نَحْوًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ. وَرَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْكَنَّاتِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِنَحْوِهِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَحَبَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي " غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، ثَنَا الْحَجَّاجُ - يَعْنِي ابْنَ دِينَارٍ - عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ، هَذَا عَلَى عَاتِقِهِ وَهَذَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَهُوَ يَلْثَمُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُحِبُّهُمَا. فَقَالَ: " مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلَّى، فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، فَجَعَلَا يَتَوَثَّبَانِ عَلَى ظَهْرِهِ إِذَا سَجَدَ، فَأَرَادَ النَّاسُ زَجْرَهُمَا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لِلنَّاسِ: " هَذَانِ ابْنَايَ، مَنْ أَحَبَّهُمَا

فَقَدْ أَحَبَّنِي ". وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمٍ بِهِ.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَمَلَ عَلَى الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَأُمِّهِمَا وَأَبِيهِمَا، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا ".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيُّ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى سَيِّدِ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ". وَقَدْ رَوَاهُ وَكِيعٌ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ جَابِرٍ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ وَبُرَيْدَةَ وَحُذَيْفَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَبُوهُمَا خَيْرٌ مِنْهُمَا ".
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ،

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ قَالَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَسْعَيَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، فَجَعَلَ يَدَهُ فِي رَقَبَتِهِ، ثُمَّ ضَمَّهُ إِلَى إِبِطِهِ، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ فَجَعَلَ يَدَهُ الْأُخْرَى فِي رَقَبَتِهِ، ثُمَّ ضَمَّهُ إِلَى إِبِطِهِ، ثُمَّ قَبَّلَ هَذَا، ثُمَّ قَبَّلَ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا ". ثُمَّ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ مَجْهَلَةٌ ".
وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي خُثَيمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ حَسَنًا فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: " إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ ".
وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ ثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ ( ح ) وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ: ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ، يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَهُمَا، فَوَضَعَهُمَا فِي حِجْرِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ: " صَدَقَ اللَّهُ: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ. رَأَيْتُ هَذَيْنِ الصَّبَّيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ عَنْهُمَا ". ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ

مُحَمَّدٌ الضَّمْرِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ لِلْحَسَنِ وَحْدَهُ.
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ، فَسَجَدَ سَجْدَةً أَطَالَ فِيهَا السُّجُودَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ النَّاسُ لَهُ فِي ذَلِكَ، قَالَ: " إِنَّ ابْنِي - يَعْنِي الْحَسَنَ - ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ ".
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَامِلٌ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَهُوَ يَمْشِي بِهِمَا عَلَى أَرْبَعٍ، فَقُلْتُ: نِعْمَ الْجَمَلُ جَمَلُكُمَا. فَقَالَ: " وَنِعْمَ الْعَدْلَانِ هُمَا ". إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا أَبُو هِشَامٍ، ثَنَا أَبُو عَامِرٍ، ثَنَا زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَامِلٌ الْحَسَنَ عَلَى عَاتِقِهِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا غُلَامُ، نِعْمَ الْمَرْكَبُ رَكِبْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَنِعْمَ الرَّاكِبُ هُوَ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا تَلِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا أَبُو الْجَحَّافِ، عَنْ أَبِي

حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَلِيٍّ وَحَسَنٍ وَحُسَيْنٍ وَفَاطِمَةَ فَقَالَ: " أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُمْ وَسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمْتُمْ " وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْجَحَّافِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَوْفٍ - قَالَ وَكِيعٌ: وَكَانَ مَرْضِيًّا - عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: " مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي ". وَقَدْ رَوَاهُ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ صُبَيْحٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ بَقِيَّةُ، عَنْ بِحِيرِ بْنِ سَعِدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الْحَسَنُ مِنِّي وَالْحُسَيْنُ مِنْ عَلِيٍّ ". فِيهِ نَكَارَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ

إِسْحَاقَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَلَقِينَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ:أَرِنِي أُقَبِّلْ مِنْكَ حَيْثُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقَبِّلُ. فَقَالَ بِقَمِيصِهِ. قَالَ: فَقَبَّلَ سُرَّتَهُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ حَرِيزٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَوْفٍ الْجُرَشِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُصُّ لِسَانَهُ - أَوْ قَالَ: شَفَتَهُ. يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - وَإِنَّهُ لَنْ يُعَذَّبَ لِسَانٌ أَوْ شَفَتَانِ مَصَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَرَوَى أَحْمَدُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ". وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ، وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا عِنْدَ نُزُولِ الْحَسَنِ لِمُعَاوِيَةَ عَنِ الْخِلَافَةِ، وَوَقَعَ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا، وَكَذَلِكَ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ كَانَ الصِّدِّيقُ يُجِلُّهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُكْرِمُهُ وَيُحِبُّهُ وَيَتَفَدَّاهُ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ; فَرَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ

التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنْ عُمَرَ لَمَّا عَمِلَ الدِّيوَانَ فَرَضَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ مَعَ أَهْلِ بَدْرٍ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ. وَكَذَلِكَ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يُكْرِمُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيُحِبُّهُمَا. وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَوْمَ الدَّارِ - وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ مَحْصُورٌ - عِنْدَهُ وَمَعَهُ السَّيْفُ مُتَقَلِّدًا بِهِ يُجَاحِفُ عَنْ عُثْمَانَ، فَخَشِيَ عُثْمَانُ عَلَيْهِ، فَأَقْسَمَ عَلَيْهِ لَيَرْجِعَنَّ إِلَى مَنْزِلِهِمْ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ عَلِيٍّ وَخَوْفًا عَلَيْهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَكَانَ عَلِيٌّ يُكْرِمُ الْحَسَنَ إِكْرَامًا زَائِدًا، وَيُعَظِّمُهُ وَيُبَجِّلُهُ، وَقَدْ قَالَ لَهُ يَوْمًا: يَا بُنَيَّ، أَلَا تَخْطُبُ حَتَّى أَسْمَعَكَ ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَسْتَحِي أَنْ أَخْطُبَ وَأَنَا أَرَاكَ. فَذَهَبَ عَلِيٌّ فَجَلَسَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ الْحَسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْحَسَنُ فِي النَّاسِ خَطِيبًا وَعَلِيٌّ يَسْمَعُ، فَأَدَّى خُطْبَةً بَلِيغَةً فَصِيحَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ جَعَلَ عَلِيٌّ يَقُولُ: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ آلِ عِمْرَانَ: 34 ]. وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَأْخُذُ الرِّكَابَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ إِذَا رَكِبَا، وَيَرَى هَذَا مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَكَانَا إِذَا طَافَا بِالْبَيْتِ يَكَادُ النَّاسُ يُحَطِّمُونَهُمَا مِمَّا يَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِمَا لِلسَّلَامِ عَلَيْهِمَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا.
وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا قَامَتِ النِّسَاءُ عَنْ مِثْلِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ الْحَسَنُ إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ فِي مُصَلَّاهُ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَيَجْلِسُ إِلَيْهِ مِنْ يَجْلِسُ مِنْ

سَادَاتِ النَّاسِ يَتَحَدَّثُونَ عِنْدَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَدْخُلُ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ. وَرُبَّمَا أَتْحَفْنَهُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَى مَنْزِلِهِ.
وَلَمَّا نَزَلَ لِمُعَاوِيَةَ عَنِ الْخِلَافَةِ مِنْ وَرَعِهِ صِيَانَةً لِدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، كَانَ لَهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي كُلِّ عَامٍ جَائِزَةٌ، وَكَانَ يَفِدُ إِلَيْهِ، فَرُبَّمَا أَجَازَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَرَاتِبُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةُ أَلْفٍ، فَانْقَطَعَ سَنَةً عَنِ الذَّهَابِ، وَجَاءَ وَقْتُ الْجَائِزَةِ، فَاحْتَاجَ الْحَسَنُ إِلَيْهَا - وَكَانَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ - فَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ لِيَبْعَثَ بِهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا نَامَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: " يَا بُنَيَّ، أَتَكْتُبُ إِلَى مَخْلُوقٍ بِحَاجَتِكَ ؟ ! " وَعَلَّمَهُ دُعَاءً يَدْعُو بِهِ، فَتَرَكَ الْحَسَنُ مَا كَانَ هَمَّ بِهِ مِنَ الْكِتَابَةِ، فَذَكَرَهُ مُعَاوِيَةُ وَافْتَقَدَهُ، وَقَالَ: ابْعَثُوا إِلَيْهِ بِمِائَتَيْ أَلْفٍ، فَلَعَلَّ لَهُ ضَرُورَةً فِي تَرْكِهِ الْقُدُومَ عَلَيْنَا. فَحُمِلَتْ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ.
قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مَدَنِيٌّ ثِقَةٌ. حَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ ". قَالُوا: وَقَاسَمَ اللَّهَ مَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَخَرَجَ مِنْ مَالِهِ مَرَّتَيْنِ، وَحَجَّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً مَاشِيًا وَإِنَّ الْجَنَائِبَ لَتُقَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَرَوَى ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ

عَبَّاسٍ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ. وَقَدْ عَلَّقَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " أَنَّهُ حَجَّ مَاشِيًا وَالْجَنَائِبُ تُقَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ رَشِيدٍ، عَنْ حَفْصٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَجَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مَاشِيًا، وَالْجَنَائِبُ تُقَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنَجَائِبُهُ تُقَادُ إِلَى جَنْبِهِ
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنْ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ أَلْقَاهُ وَلَمْ أَمْشِ إِلَى بَيْتِهِ. فَمَشَى عِشْرِينَ مَرَّةً مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى رِجْلَيْهِ.
قَالُوا: وَكَانَ يَقْرَأُ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ سُورَةَ " إِبْرَاهِيمَ ". وَكَانَ يَقْرَأُ كُلَّ لَيْلَةٍ سُورَةَ " الْكَهْفِ " قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، يَقْرَؤُهَا مِنْ لَوْحٍ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ مِنْ بُيُوتِ نِسَائِهِ، فَيَقْرَؤُهُ بَعْدَ مَا يَدْخُلُ فِي الْفِرَاشِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ كَانَ مِنَ الْكَرَمِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: رُبَّمَا أَجَازَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ بِمِائَةِ أَلْفٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: سَمِعَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ إِلَى جَانِبِهِ رَجُلًا يَدْعُو اللَّهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَامَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَبَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ.

وَذَكَرُوا أَنَّ الْحَسَنَ رَأَى غُلَامًا أَسْوَدَ يَأْكُلُ مِنْ رَغِيفٍ لُقْمَةً، وَيُطْعِمُ كَلْبًا هُنَاكَ لُقْمَةً، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا ؟ ! فَقَالَ: إِنِّي أَسْتَحِي مِنْهُ أَنْ آكُلَ وَلَا أُطْعِمَهُ. فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: لَا تَبْرَحْ مِنْ مَكَانِكَ حَتَّى آتِيَكَ. فَذَهَبَ إِلَى سَيِّدِهِ، فَاشْتَرَاهُ وَاشْتَرَى الْحَائِطَ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَأَعْتَقَهُ وَمَلَّكَهُ الْحَائِطَ، فَقَالَ الْغُلَامُ: يَا مَوْلَايَ، قَدْ وَهَبْتُ الْحَائِطَ لِلَّذِي وَهَبَتْنِي لَهُ.
قَالُوا: وَكَانَ كَثِيرَ التَّزَوُّجِ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُهُ أَرْبَعُ حَرَائِرَ، وَكَانَ مِطْلَاقًا مِصْدَاقًا. يُقَالُ: إِنَّهُ أَحْصَنَ بِسَبْعِينَ امْرَأَةً. وَذَكَرُوا أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ فِي يَوْمٍ ; وَاحِدَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَأُخْرَى فَزَارِيَّةً، وَبَعَثَ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَبِزُقَاقٍ مِنْ عَسَلٍ، وَقَالَ لِلْغُلَامِ: اسْمَعْ مَا تَقُولُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. فَأَمَّا الْفَزَارِيَّةُ فَقَالَتْ: جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا. وَدَعَتْ لَهُ، وَأَمَّا الْأَسَدِيَّةُ فَقَالَتْ
:
مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقِ
فَرَجَعَ الْغُلَامُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَارْتَجَعَ الْأَسْدِيَةَ وَتَرَكَ الْفَزَارِيَّةَ. وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ: لَا تُزَوِّجُوهُ فَإِنَّهُ مِطْلَاقٌ. فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ خَطَبَ إِلَيْنَا كُلَّ يَوْمٍ لَزَوَّجَنَاهُ مِنَّا مَنْ شَاءَ ; ابْتِغَاءً فِي صِهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ نَامَ مَعَ امْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ مَنْظُورٍ الْفَزَارِيِّ - وَقِيلَ: هِنْدَ بِنْتِ سُهَيْلٍ - فَوْقَ إِجَّارٍ، فَعَمَدَتِ الْمَرْأَةُ فَرَبَطَتْ رِجْلَهُ بِخِمَارِهَا إِلَى خَلْخَالِهَا، فَلَمَّا

اسْتَيْقَظَ قَالَ لَهَا: مَا هَذَا ؟ فَقَالَتْ: خِفْتُ أَنْ تَقُومَ مِنْ وَسَنِ النَّومِ فَتَسْقُطَ، فَأَكُونُ أَشْأَمَ سَخْلَةٍ عَلَى الْعَرَبِ. فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْهَا، وَاسْتَمَرَّ بِهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فَاسْتَعَانَ بِهِ فِي حَاجَةٍ، فَوَجَدَهُ مُعْتَكِفًا، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَذَهَبَ إِلَى الْحَسَنِ فَاسْتَعَانَ بِهِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ وَقَالَ: لَقَضَاءُ حَاجَةِ أَخٍ لِي فِي اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنِ اعْتِكَافِ شَهْرٍ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ لَا يَدْعُو إِلَى طَعَامِهِ أَحَدًا ; يَقُولُ: هُوَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ أَحَدٌ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَالَ عَلِيٌّ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ لَا تُزَوِّجُوا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ مِطْلَاقٌ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ: وَاللَّهِ لَنُزَوِّجَنَّهُ، فَمَا رَضِيَ أَمْسَكَ، وَمَا كَرِهَ طَلَّقَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ فِي كِتَابِ " مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ": ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْجُنَيْدِ، ثَنَا الْقَوَارِيرِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: تَزَوَّجَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ امْرَأَةً، فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِمِائَةِ جَارِيَةٍ، مَعَ كُلِّ جَارِيَةٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ،

عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَتَّعَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ امْرَأَتَيْنِ بِعِشْرِينَ أَلْفًا وَزُقَاقٍ مِنْ عَسَلٍ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا وَأُرَاهَا الْحَنَفِيَّةَ:
مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقِ
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مِطْلَاقًا لِلنِّسَاءِ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ امْرَأَةً إِلَا وَهِيَ تُحِبُّهُ.
وَقَالَ جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ: لَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بَكَى عَلَيْهِ مَرْوَانُ فِي جِنَازَتِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَتَبْكِيهِ وَقَدْ كُنْتُ تُجَرِّعُهُ مَا تُجَرِّعُهُ ؟ ! فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَى أَحْلَمَ مِنْ هَذَا. وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَبَلِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَسَدِيُّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: مَا تَكَلَّمَ عِنْدِي أَحَدٌ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ إِذَا تَكَلَّمَ أَلَّا يَسْكُتَ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةَ فُحْشٍ قَطُّ إِلَّا مَرَّةً ; فَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ خُصُومَةٌ، فَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ لَهُ عِنْدَنَا إِلَّا مَا رَغِمَ أَنْفُهُ. فَهَذِهِ أَشَدُّ كَلِمَةِ فُحِشٍ سَمِعْتُهَا مِنْهُ قَطُّ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، أَنَا مُسَافِرٌ الْجَصَّاصُ، عَنْ رُزَيْقِ بْنِ سَوَّارٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ الْحَسَنِ وَبَيْنَ مَرْوَانَ خُصُومَةٌ، فَجَعَلَ مَرْوَانُ يُغْلِظُ لِلْحَسَنِ، وَحَسَنٌ سَاكِتٌ، فَامْتَخَطَ مَرْوَانُ بِيَمِينِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: وَيْحَكَ ! أَمَا

عَلِمْتَ أَنَّ الْيُمْنَى لِلْوَجْهِ وَالشِّمَالَ لِلْفَرَجِ ؟ ! أُفٍّ لَكَ. فَسَكَتَ مَرْوَانُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: قِيلَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: الْفَقْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْغِنَى، وَالسَّقَمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الصِّحَّةِ. فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ، أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ: مَنِ اتَّكَلَ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ لَمْ يَتَمَنَّ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْحَالَةِ الَّتِي اخْتَارَ اللَّهُ لَهُ، وَهَذَا حَدُّ الْوُقُوفِ عَلَى الرِّضَا بِمَا تَصَرَّفَ بِهِ الْقَضَاءُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ كَيْسَانَ الْأَصَمُّ: قَالَ الْحَسَنُ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَخٍ لِي كَانَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِي عَيْنِي، وَكَانَ عَظِيمَ مَا عَظَّمَهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ، كَانَ خَارِجًا مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ، فَلَا يَشْتَهِي مَا لَا يَجِدُ، وَلَا يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ، وَكَانَ خَارِجًا مِنْ سُلْطَانِ فَرْجِهِ، فَلَا يَسْتَخِفُّ لَهُ عَقْلُهُ وَلَا رَأْيُهُ، وَكَانَ خَارِجًا مِنْ سُلْطَانِ الْجَهَلَةِ، فَلَا يَمُدُّ يَدًا إِلَّا عَلَى ثِقَةِ الْمَنْفَعَةِ، كَانَ لَا يَسْخَطُ وَلَا يَتَبَرَّمُ، كَانَ إِذَا جَامَعَ الْعُلَمَاءَ يَكُونُ عَلَى أَنْ يَسْمَعَ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَكَانَ إِذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلَامِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى الصَّمْتِ، كَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتًا، فَإِذَا قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ، وَكَانَ لَا يُشَارِكُ فِي دَعْوَى، وَلَا يَدْخُلُ فِي مِرَاءٍ، وَلَا يُدْلِي بِحُجَّةٍ حَتَّى يَرَى قَاضِيًا، يَقُولُ مَا يَفْعَلُ، وَيَفْعَلُ مَا لَا يَقُولُ تَفَضُّلًا وَتَكَرُّمًا، كَانَ لَا يَغْفُلُ عَنْ إِخْوَانِهِ، وَلَا يَسْتَخِصُّ بِشَيْءٍ دُونَهُمْ، كَانَ لَا يَلُومُ أَحَدًا فِيمَا يَقَعُ الْعُذْرُ بِمِثْلِهِ، كَانَ إِذَا ابْتَدَأَهُ أَمْرَانِ لَا يَرَى

أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ، نَظَرَ فِيمَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى هَوَاهُ فَخَالَفَهُ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ وَالْخَطِيبُ.
وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ: ثَنَا بَدْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْحَضْرَمِيُّ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ الطَّرِيقِيُّ، ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو رَجَاءٍ مِنْ أَهْلِ تُسْتَرَ ثَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، أَنْ عَلِيًّا سَأَلَ ابْنَهُ - يَعْنِي الْحَسَنَ - عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْمُرُوءَةِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، مَا السَّدَادُ ؟ قَالَ: يَا أَبَةِ، السَّدَادُ دَفْعُ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ. قَالَ: فَمَا الشَّرَفُ ؟ قَالَ: اصْطِنَاعُ الْعَشِيرَةِ وَحَمْلُ الْجَرِيرَةِ. قَالَ: فَمَا الْمُرُوءَةُ ؟ قَالَ: الْعَفَافُ وَإِصْلَاحُ الْمَرْءِ مَالَهُ. قَالَ: فَمَا الدِّقَّةُ ؟ قَالَ: النَّظَرُ فِي الْيَسِيرِ وَمَنْعُ الْحَقِيرِ. قَالَ: فَمَا اللُّؤْمُ ؟ قَالَ: إِحْرَازُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ وَبَذْلُهُ عِرْسَهُ. قَالَ: فَمَا السَّمَاحَةُ ؟ قَالَ: الْبَذْلُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ. قَالَ: فَمَا الشُّحُّ ؟ قَالَ: أَنْ تَرَى مَا فِي يَدَيْكَ شَرَفًا وَمَا أَنْفَقْتَهُ تَلَفًا. قَالَ: فَمَا الْإِخَاءُ ؟ قَالَ: الْوَفَاءُ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ. قَالَ: فَمَا الْجُبْنُ ؟ قَالَ: الْجُرْأَةُ عَلَى الصَّدِيقِ وَالنُّكُولُ عَنِ الْعَدُوِّ. قَالَ: فَمَا الْغَنِيمَةُ ؟ قَالَ: الرَّغْبَةُ فِي التَّقْوَى، وَالزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا هِيَ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ. قَالَ: فَمَا الْحِلْمُ ؟ قَالَ: كَظْمُ الْغَيْظِ وَمَلْكُ النَّفْسِ. قَالَ: فَمَا الْغِنَى ؟ قَالَ: رِضَا

النَّفْسِ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهَا وَإِنْ قَلَّ، فَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ. قَالَ: فَمَا الْفَقْرُ ؟ قَالَ: شَرَهُ النَّفْسِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. قَالَ: فَمَا الْمَنَعَةُ ؟ قَالَ: شِدَّةُ الْبَأْسِ وَمُقَارَعَةُ أَشَدِّ النَّاسِ. قَالَ: فَمَا الذُّلُّ ؟ قَالَ: الْفَزَعُ عِنْدَ الْمَصْدُوقَةِ. قَالَ: فَمَا الْجُرْأَةُ ؟ قَالَ: مُوَافَقَةُ الْأَقْرَانِ. قَالَ: فَمَا الْكُلْفَةُ ؟ قَالَ: كَلَامُكَ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ. قَالَ: فَمَا الْمَجْدُ ؟ قَالَ: أَنْ تُعْطِي فِي الْغُرْمِ وَأَنْ تَعْفُوَ عَنِ الْجُرْمِ. قَالَ: فَمَا الْعَقْلُ ؟ قَالَ: حِفْظُ الْقَلْبِ كُلَّ مَا اسْتَرْعَيْتَهُ. قَالَ: فَمَا الْخُرْقُ ؟ قَالَ: مُعَادَاتُكَ إِمَامَكَ وَرَفْعُكَ عَلَيْهِ كَلَامَكَ. قَالَ: فَمَا الثَّنَاءُ ؟ قَالَ: إِتْيَانُ الْجَمِيلِ وَتَرْكُ الْقَبِيحِ. قَالَ: فَمَا الْحَزْمُ ؟ قَالَ: طُولُ الْأَنَاةِ، وَالرِّفْقُ بِالْوُلَاةِ، وَالِاحْتِرَاسُ مِنَ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ، هُوَ الْحَزْمُ. قَالَ: فَمَا الشَّرَفُ ؟ قَالَ: مُوَافَقَةُ الْإِخْوَانِ، وَحِفْظُ الْجِيرَانِ. قَالَ: فَمَا السَّفَهُ ؟ قَالَ: اتِّبَاعُ الدُّنَاةِ، وَمُصَاحَبَةُ الْغُوَاةِ. قَالَ: فَمَا الْغَفْلَةُ ؟ قَالَ: تَرْكُكَ الْمَسْجِدَ وَطَاعَتُكَ الْمُفْسِدَ. قَالَ: فَمَا الْحِرْمَانُ ؟ قَالَ: تَرْكُكَ حَظَّكَ وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْكَ. قَالَ: فَمَا السَّيِّدُ ؟ قَالَ: الْأَحْمَقُ فِي الْمَالِ، الْمُتَهَاوِنُ بِعِرْضِهِ ; يُشْتَمُ فَلَا يُجِيبُ، الْمُتَحَزِّنُ بِأَمْرِ الْعَشِيرَةِ، هُوَ السَّيِّدُ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: يَا بُنَيَّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا فَقْرَ أَشَدُّ مِنَ الْجَهْلِ، وَلَا مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ، وَلَا وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ، وَلَا مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ، وَلَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلَا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ،

وَلَا إِيمَانَ كَالْحَيَاءِ، وَرَأْسُ الْإِيمَانِ الصَّبْرُ، وَآفَةُ الْحَدِيثِ الْكَذِبُ، وَآفَةُ الْعِلْمِ النِّسْيَانُ، وَآفَةُ الْحِلْمِ السَّفَهُ، وَآفَةُ الْعِبَادَةِ الْفَتْرَةُ، وَآفَةُ الظَّرْفِ الصَّلَفُ، وَآفَةُ الشُّجَاعَةِ الْبَغْيُ، وَآفَةُ السَّمَاحَةِ الْمَنُّ، وَآفَةُ الْجَمَالِ الْخُيَلَاءُ، وَآفَةُ الْحُبِّ الْفَخْرُ ". ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: يَا بُنَيَّ، لَا تَسْتَخِفَّنَّ بِرَجُلٍ تَرَاهُ أَبَدًا، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْكَ فَعُدَّ أَنَّهُ أَبُوكَ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَكَ فَهُوَ أَخُوكَ، وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْكَ فَاحْسَبْ أَنَّهُ ابْنُكَ. فَهَذَا مَا سَاءَلَ عَلِيٌّ ابْنَهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْمُرُوءَةِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: فَفِي هَذَا الْخَبَرِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَجَزِيلِ الْفَائِدَةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ رَاعَاهُ وَحَفِظَهُ وَوَعَاهُ، وَعَمِلَ بِهِ، وَأَدَّبَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ عَلَيْهِ، وَهَذَّبَهَا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَتَتَوَفَّرُ فَائِدَتُهُ بِالْوُقُوفِ عِنْدَهُ، وَفِيمَا رَوَاهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَضْعَافَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا غِنَى لِكُلِّ لَبِيبٍ عَلِيمٍ، وَمِدْرَهٍ حَكِيمٍ عَنْ حِفْظِهِ وَتَأَمُّلِهِ، وَالْمَسْعُودُ مَنْ هُدِيَ لِتَقَبُّلِهِ، وَالْمَجْدُودُ مِنْ وُفِّقَ لِامْتِثَالِهِ وَتَقَبُّلِهِ.
قُلْتُ: وَلَكِنَّ إِسْنَادَ هَذَا الْأَثَرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ ضَعِيفٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي عِبَارَتِهَا مَا يَدُلُّ مَا فِي بَعْضِهَا مِنَ النَّكَارَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ وَالْعُتْبِيُّ وَالْمَدَائِنِيُّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ الْحَسَنَ عَنْ أَشْيَاءَ تُشْبِهُ هَذَا، فَأَجَابَهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، لَكِنَّ هَذَا السِّيَاقَ أَطْوَلُ بِكَثِيرٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْعَبَّاسِ الطَّبَرَانِيُّ: كَانَ عَلَى خَاتَمِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ مَكْتُوبٌ:

قَدِّمْ لِنَفْسِكَ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ التُّقَى إِنَّ الْمَنِيَّةَ نَازِلٌ بِكَ يَا فَتَى
أَصْبَحْتَ ذَا فَرَحٍ كَأَنَّكَ لَا تَرَى أَحْبَابَ قَلْبِكَ فِي الْمَقَابِرِ وَالْبِلَى
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُطَّلِبُ بْنُ زِيَادٍ أَبُو مُحَمَّدٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانٍ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ لِبَنِيهِ وَبَنِي أَخِيهِ: تَعَلَّمُوا فَإِنَّكُمْ صِغَارُ قَوْمٍ الْيَوْمَ، وَتَكُونُونَ كِبَارَهُمْ غَدًا، فَمَنْ لَمْ يَحْفَظْ مِنْكُمْ فَلْيَكْتُبْ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى وَأَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَا: ثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّ هَذِهِ الشِّيعَةَ تَزْعُمُ أَنَّ عَلِيًّا مَبْعُوثٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: كَذَبُوا وَاللَّهِ، مَا هَؤُلَاءِ بِالشِّيعَةِ، لَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ مَا زَوَّجْنَا نِسَاءَهُ وَلَا اقْتَسَمْنَا مَالَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيٍّ سُوَيْدٌ الطَّحَّانُ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، ثَنَا أَبُو رَيْحَانَةَ عَنْ سَفِينَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:الْخِلَافَةُ مِنْ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ". فَقَالَ رَجُلٌ كَانَ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ: قَدْ دَخَلَتْ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِينَ سِتَّةُ شُهُورٍ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ: مِنْ هَاهُنَا أُتِيتَ، تِلْكَ الشُّهُورَ كَانَتِ الْبَيْعَةُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، بَايَعَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا أَوِ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: بَايَعَ الْحَسَنَ تِسْعُونَ أَلْفًا، فَزَهِدَ

فِي الْخِلَافَةِ وَصَالَحَ مُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يُسْفَكْ فِي أَيَّامِهِ مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: حَدَّثَنَا أَبِي، ثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ أَبِي: فَلَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ بَايَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَأَطَاعُوهُ وَأَحَبُّوهُ أَشَدَّ مِنْ حُبِّهِمْ لِأَبِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، ثَنَا ضَمْرَةُ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ سَارَ الْحَسَنُ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَسَارَ مُعَاوِيَةُ فِي أَهْلِ الشَّامِ فَالْتَقَوْا، فَكَرِهَ الْحَسَنُ الْقِتَالَ، وَبَايَعَ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَنْ جَعَلَ الْعَهْدَ لِلْحَسَنِ مِنْ بَعْدِهِ. قَالَ فَكَانَ أَصْحَابُ الْحَسَنِ يَقُولُونَ: يَا عَارَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَيَقُولُ لَهُمْ: الْعَارُ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ بَايَعَ النَّاسُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَوَلِيَهَا سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَالَ غَيْرُ عَبَّاسٍ: بَايَعَ الْحَسَنَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَبَايَعَ أَهْلُ الشَّامِ مُعَاوِيَةَ بِإِيلِيَاءَ بَعْدَ قَتْلِ عَلِيٍّ، وَبُويِعَ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ آخِرِ سَنَةِ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ لَقِيَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ بِمَسْكِنَ - مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ - فِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، فَاصْطَلَحَا وَبَايَعَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ صُلْحُهُمَا وَدُخُولُ مُعَاوِيَةَ الْكُوفَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى تَفْصِيلِ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا.

وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهُ اصْطَلَحَ مَعَ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ الَّذِي بِالْكُوفَةِ، فَوَفَّى لَهُ مُعَاوِيَةُ بِذَلِكَ، فَإِذَا فِيهِ خَمْسَةُ آلَافِ أَلْفٍ، وَقِيلَ: سَبْعَةُ آلَافِ أَلْفٍ. وَعَلَى أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ الْبَصْرَةِ - وَقِيلَ: دَارَابْجِرْدَ - لَهُ فِي كُلِّ عَامٍ. فَامْتَنَعَ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ عَنْ أَدَاءِ الْخَرَاجِ إِلَيْهِ، فَعَوَّضَهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ ذَلِكَ سِتَّةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي كُلِّ عَامٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَنَاوَلُهَا مَعَ مَا لَهُ فِي كُلِّ عَامٍ فِي وِفَادَتِهِ ; مِنَ الْجَوَائِزِ وَالتُّحَفِ وَالْهَدَايَا، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ هَوْذَةَ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ وَبَايَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ لِمُعَاوِيَةَ: مُرِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَنْ يَخْطُبَ ; فَإِنَّهُ حَدِيثُ السِّنِّ عَيِيٌ، فَلَعَلَّهُ يَتَلَعْثَمُ فَيَتَّضِعَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ. فَأَمَرَهُ، فَقَامَ فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، وَاللَّهِ لَوِ ابْتَغَيْتُمْ بَيْنَ جَابَلْقَ وَجَابَرْسَ رَجُلًا جَدُّهُ نَبِيٌّ غَيْرِي وَغَيْرَ أَخِي لَمْ تَجِدُوهُ، وَإِنَّا قَدْ أَعْطَيْنَا بَيْعَتَنَا لِمُعَاوِيَةَ، وَرَأَيْنَا أَنَّ حَقْنَ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ إِهْرَاقِهَا، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. وَأَشَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: مَا أَرَدْتَ مِنْ هَذِهِ ؟ قَالَ: أَرَدْتُ مِنْهَا مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهَا. فَصَعِدَ مُعَاوِيَةُ وَخَطَبَ بَعْدَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَدَّمْنَا أَنْ مُعَاوِيَةَ عَتَبَ عَلَى أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ

خُمَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيرٍ الْحَضْرَمِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تُرِيدُ الْخِلَافَةَ. فَقَالَ: كَانَتْ جَمَاجِمُ الْعَرَبِ بِيَدِي، يُسَالِمُونَ مَنْ سَالَمْتُ وَيُحَارِبُونَ مَنْ حَارَبْتُ، فَتَرَكْتُهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، ثُمَّ أُثِيرُهَا بِأَتْيَاسِ أَهْلِ الْحِجَازِ ؟ !
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: دَخْلَ رَجُلٌ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَدِينَةَ وَفِي يَدِهِ صَحِيفَةٌ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ ؟ فَقَالَ: مِنْ مُعَاوِيَةَ يَعِدُ فِيهَا وَيَتَوَعَّدُ. قَالَ: قَدْ كُنْتَ عَلَى النِّصْفِ مِنْهُ. قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنْ خَشِيتُ أَنْ يَجِيءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُونَ أَلْفًا، أَوْ ثَمَانُونَ أَلْفًا، أَوْ أَكْثَرُ أَوْ أَقَلُّ، كُلُّهُمْ تَنْضَحُ أَوْدَاجُهُمْ دَمًا، كُلُّهُمْ يَسْتَعْدِي اللَّهَ فِيمَ هُرِيقَ دَمُهُ ؟.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَى الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَفَرَحِ بِذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا فَقَلَّ مَا بَقِيَ مِنْ أَجْلِهِ. قَالَ: فَلَمْ يَلْبَثِ الْحَسَنُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَيَّامًا حَتَّى مَاتَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ الْعَتَكِيُّ وَمُحَمَّدُ

بْنُ عُثْمَانَ الْعِجْلِيُّ، قَالَا: ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَامَ فَدَخَلَ الْمَخْرَجَ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: لَقَدْ لَفَظْتُ طَائِفَةً مِنْ كَبِدِي أُقَلِّبُهَا بِهَذَا الْعُودِ، وَلَقَدْ سُقِيتُ السُّمَّ مِرَارًا، وَمَا سُقِيتُ مَرَّةً هِيَ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ. قَالَ: وَجَعَلَ يَقُولُ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: سَلْنِي قَبْلَ أَنْ لَا تَسْأَلَنِي. فَقَالَ: مَا أَسْأَلُكَ شَيْئًا، يُعَافِيكَ اللَّهُ. قَالَ: فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ عُدْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْغَدِ وَقَدْ أَخَذَ فِي السُّوقِ، فَجَاءَ حُسَيْنٌ حَتَّى قَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ: أَيْ أَخِي، مَنْ صَاحِبُكَ ؟ قَالَ: تُرِيدُ قَتْلَهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَئِنْ كَانَ صَاحِبَيِ الَّذِي أَظُنُّ، لَلَّهُ أَشَدُّ نِقْمَةً - وَفِي رِوَايَةٍ: فَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا - وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ مَا أُحِبُّ أَنْ تَقْتُلَ بِي بَرِيئًا. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أُمِّ بَكْرٍ بِنْتِ الْمِسْوَرِ قَالَتْ: كَانَ الْحَسَنُ سُقِيَ مِرَارًا، كُلُّ ذَلِكَ يُفْلِتُ مِنْهُ، حَتَّى كَانَتِ الْمَرَّةُ الْآخِرَةُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، فَإِنَّهُ كَانَ يَخْتَلِفُ كَبِدُهُ، فَلَمَّا مَاتَ أَقَامَ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ عَلَيْهِ النَّوْحَ شَهْرًا.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَتْنَا عُبَيْدَةُ بِنْتُ نَابِلٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: حَدَّ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ سَنَةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ كَثِيرَ نِكَاحِ النِّسَاءِ، وَكَانَ قَلَّ مَا يَحْظَيْنَ عِنْدَهُ، وَكَانَ قَلَّ امْرَأَةٌ يَتَزَوَّجُهَا إِلَّا أَحَبَّتْهُ وَصَبَتْ بِهِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ سُقِيَ، ثُمَّ أَفْلَتَ، ثُمَّ سُقِيَ فَأَفْلَتَ، ثُمَّ كَانَتِ الْآخِرَةُ تُوُفِّيَ فِيهَا، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ الطَّبِيبُ وَهُوَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ: هَذَا رَجُلٌ قَدْ قَطَّعَ السُّمُّ أَمْعَاءَهُ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَخْبِرْنِي مَنْ سَقَاكَ ؟ قَالَ: وَلِمَ يَا أَخِي ؟ قَالَ: أَقْتُلُهُ وَاللَّهِ قَبْلَ أَنْ أَدْفِنَكَ، أَوْ لَا أَقْدِرَ عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ بِأَرْضٍ أَتَكَلَّفُ الشُّخُوصَ إِلَيْهِ. فَقَالَ: يَا أَخِي، إِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا لَيَالٍ فَانِيَةٌ، دَعْهُ حَتَّى أَلْتَقِيَ أَنَا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ. وَأَبَى أَنْ يُسَمِّيَهُ. وَقَدْ سَمِعْتُ بَعْضَ مِنْ يَقُولُ: كَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ تَلَطَّفَ لِبَعْضِ خَدَمِهِ أَنْ يَسْقِيَهُ سُمًّا.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، أَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أُمِّ مُوسَى، أَنَّ جَعْدَةَ بِنْتَ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ سَقَتِ الْحَسَنَ السُّمَّ، فَاشْتَكَى مِنْهُ شَكَاةً. قَالَ: فَكَانَ يُوضَعُ تَحْتَهُ طَسْتٌ وَيُرْفَعُ آخَرُ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ بَعْثَ إِلَى جَعْدَةَ بِنْتِ الْأَشْعَثِ أَنْ

سُمِّي الْحَسَنَ وَأَنَا أَتَزَوَّجُكِ بَعْدَهُ. فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بَعَثَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّا وَاللَّهِ لَمْ نَرْضَكِ لِلْحَسَنِ أَفَنَرْضَاكِ لِأَنْفُسِنَا ؟ وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَعَدَمُ صِحَّتِهِ عَنْ أَبِيهِ مُعَاوِيَةَ بِطَرِيقِ الْأُولَى وَالْأَحْرَى، وَقَدْ قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ فِي ذَلِكَ:
يَا جَعْدُ بَكِّيهِ وَلَا تَسْأَمِي بُكَاءَ حَقٍّ لَيْسَ بِالْبَاطِلِ
لَنْ تَسْتُرِي الْبَيْتَ عَلَى مَثَلِهِ فِي النَّاسِ مِنْ حَافٍ وَلَا نَاعِلِ
أَعْنَى الَّذِي أَسْلَمَهُ أَهْلُهُ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَخْرَجِ الْمَاحِلِ
كَانَ إِذَا شَبَّتْ لَهُ نَارُهُ يَرْفَعُهَا بِالنَّسَبِ الْمَاثِلِ
كَيْمَا يَرَاهَا بَائِسٌ مُرْمِلٌ أَوْ فَرْدُ قَوْمٍ لَيْسَ بِالْآهِلِ
يُغْلِي بِنِيِّ اللَّحْمِ حَتَّى إِذَا أُنْضِجَ لَمْ يَغْلُ عَلَى آكِلِ
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ رَقَبَةَ بْنِ مِصْقَلَةَ قَالَ: لَمَّا حُضِرَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَخْرِجُونِي إِلَى الصَّحْنِ حَتَّى أَنْظُرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. فَأَخْرَجُوا فِرَاشَهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَنَظَرَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَحْتَسِبُ نَفْسِي عِنْدَكَ، فَإِنَّهَا أَعَزُّ الْأَنْفُسِ عَلَيَّ. قَالَ: فَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ لَهُ أَنَّهُ احْتَسَبَ نَفْسَهُ عِنْدَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: لَمَّا اشْتَدَّ بِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ الْمَرَضَ جَزِعَ جَزَعًا شَدِيدًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَرْحُومُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: مَا هَذَا الْجَزَعُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ تَقْدَمُ عَلَى رَبٍّ عَبَدْتَهُ سِتِّينَ سَنَةً، صُمْتَ لَهُ، صَلَّيْتَ لَهُ، حَجَجْتَ لَهُ، قَالَ:

فَسُرِّيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَجَعُ جَزِعَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، مَا هَذَا الْجَزَعُ ؟ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ تُفَارِقَ رُوحُكَ جَسَدَكَ فَتَقْدَمَ عَلَى أَبَوَيْكَ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ، وَعَلَى جَدَّيْكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَدِيجَةَ، وَعَلَى أَعْمَامِكَ حَمْزَةَ وَجَعْفَرٍ، وَعَلَى أَخْوَالِكَ الْقَاسِمِ وَالطَّيِّبِ وَمُطَهِّرٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى خَالَاتِكَ رُقَيَّةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ وَزَيْنَبَ. قَالَ: فَسُرِّيَ عَنْهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْقَائِلَ لَهُ ذَلِكَ الْحُسَيْنُ، وَأَنَّ الْحَسَنَ قَالَ لَهُ: يَا أَخِي، إِنِّي أَدْخُلُ فِي أَمْرٍ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لَمْ أَدْخُلْ فِي مَثَلِهِ، وَأَرَى خَلْقًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَمْ أَرَ مَثَلَهُ قَطُّ. قَالَ: فَبَكَى الْحُسَيْنُ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَرَوَاهُ عَبَّاسُ الدُّورِيُّ، عَنِ ابْنِ مَعِينٍ بِهِ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُمَا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِي عَتِيقٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: شَهِدْنَا حَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ يَوْمَ مَاتَ، فَكَادَتِ الْفِتْنَةُ تَقَعُ بَيْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَانَ الْحَسَنُ قَدْ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ خَافَ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ قِتَالٌ أَوْ شَرٌّ فَلْيُدْفَنْ بِالْبَقِيعِ. فَأَبَى مَرْوَانُ أَنْ يَدَعَهُ، وَمَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ مَعْزُولٌ يُرِيدُ أَنْ يُرْضِيَ مُعَاوِيَةَ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلْ مَرْوَانُ عَدُوًّا لِبَنِي هَاشِمٍ حَتَّى مَاتَ. قَالَ جَابِرٌ: فَكَلَّمْتُ يَوْمَئِذٍ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ ; فَإِنَّ أَخَاكَ كَانَ لَا يُحِبُّ مَا تَرَى، فَادْفِنْهُ بِالْبَقِيعِ مَعَ أُمِّهِ. فَفَعَلَ.

ثُمَّ رَوَى الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَضَرْتُ مَوْتَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَقُلْتُ لِلْحُسَيْنِ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُثِرْ فِتْنَةً وَلَا تَسْفِكِ الدِّمَاءَ، وَادْفِنْ أَخَاكَ إِلَى جَنْبِ أُمِّهِ ; فَإِنَّ أَخَاكَ قَدْ عَهِدَ بِذَلِكَ إِلَيْكَ. قَالَ: فَفَعَلَ الْحُسَيْنُ. وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوًا مِنْ هَذَا.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْحَسَنَ بَعَثَ يَسْتَأْذِنُ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ، فَأَذِنَتْ لَهُ، فَلَمَّا مَاتَ لَبِسَ الْحُسَيْنُ السِّلَاحَ وَتَسَلَّحَ بَنُو أُمَيَّةَ، وَقَالُوا: لَا نَدَعُهُ يُدْفَنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيُدْفَنُ عُثْمَانُ بِالْبَقِيعِ، وَيُدْفَنُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي الْحُجْرَةِ ؟ فَلَمَّا خَافَ النَّاسُ وُقُوعَ الْفِتْنَةِ أَشَارَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ عَلَى الْحُسَيْنِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ، فَامْتَثَلَ وَدَفَنَ أَخَاهُ قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ أُمِّهِ بِالْبَقِيعِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَدَّمَ يَوْمَئِذٍ سَعِيدَ بْنِ الْعَاصِ فَصَلَّى عَلَى الْحَسَنِ. وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّهَا سُنَّةٌ مَا قَدَّمْتُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُسَاوِرٌ مَوْلَى بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَائِمًا عَلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَهُوَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَاتَ الْيَوْمَ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَابْكُوا.
وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ لِجِنَازَتِهِ، حَتَّى مَا كَانَ الْبَقِيعُ يَسَعُ أَحَدًا مِنَ الزِّحَامِ، وَقَدْ بَكَاهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ سَبْعًا، وَاسْتَمَرَّ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ يَنُحْنَ عَلَيْهِ شَهْرًا، وَحَدَّتْ

نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ عَلَيْهِ سَنَةً.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُتِلَ عَلِيٌّ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمَاتَ لَهَا حَسَنٌ، وَقُتِلَ لَهَا الْحُسَيْنُ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ قَالَ: تُوُفِّيَ سَعْدٌ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي أَيَّامٍ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ إِمَارَةِ مُعَاوِيَةَ عَشْرُ سِنِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تُوُفِّيَ الْحَسَنُ وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَصَحُّ.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَالَ آخَرُونَ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ أَوْ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ.

سَنَةُ خَمْسِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، فِي قَوْلٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ كَمَا سَيَأْتِي. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُعَاوِيَةُ، وَقِيلَ: ابْنُهُ يَزِيدُ. وَكَانَ نَائِبَ الْمَدِينَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْمَشْرِقِ وَسِجِسْتَانَ وَفَارِسَ وَالسِّنْدِ وَالْهِنْدِ زِيَادٌ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْدَى بَنُو نَهْشَلٍ عَلَى الْفَرَزْدَقِ زِيَادًا، فَهَرَبَ الْفَرَزْدَقُ مِنْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ عَرَّضَ بِمُعَاوِيَةَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، فَطَلَبَهُ زِيَادٌ أَشَدَّ الطَّلَبِ فَفَرَّ مِنْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَاسْتَجَارَ بِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَمَدَحَهُ بِأَشْعَارٍ فَأَجَارَهُ، وَلَمْ يَزَلِ الْفَرَزْدَقُ يَتَرَدَّدُ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ حَتَّى تُوُفِّيَ زِيَادٌ، فَرَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ، وَقَدْ طَوَّلَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْحَوَادِثِ مَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى تَحْوِيلِ الْمِنْبَرِ النَّبَوِيِّ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى دِمَشْقَ، وَأَنْ يَأْخُذَ الْعَصَا الَّتِي كَانَ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمْسِكُهَا فِي يَدِهِ إِذَا خَطَبَ، فَيَقِفُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ مُمْسِكُهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نُذَكِّرُكَ اللَّهَ أَنَّ تَفْعَلَ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ أَنَّ تُخْرِجَ الْمِنْبَرَ مِنْ مَوْضِعٍ وَضَعَهُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ تُخْرِجَ عَصَاهُ مِنَ الْمَدِينَةِ. فَتَرَكَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ، وَلَكِنْ زَادَ فِي الْمِنْبَرِ سِتَّ دَرَجَاتٍ، وَاعْتَذَرَ إِلَى النَّاسِ.
ثُمَّ رَوَى الْوَاقِدِيُّ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ هَمَّ بِذَلِكَ وَعَزَمَ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى هَذَا ثُمَّ تَرَكَهُ، وَإِنَّهُ لَمَّا حَرَّكَ الْمِنْبَرَ، كَسَفَتِ الشَّمْسُ ; فَتَرَكَ ذَلِكَ. ثُمَّ لَمَّا حَجَّ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرَادَ ذَلِكَ أَيْضًا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَبَاكَ أَرَادَا ذَلِكَ ثُمَّ تَرَكَاهُ. وَكَانَ السَّبَبَ فِي تَرْكِهِ أَنَّ سَعِيدَ بْنِ الْمُسَيَّبِ كَلَّمَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يُكَلِّمَهُ فِي ذَلِكَ وَيَعِظَهُ، فَتَرَكَ. ثُمَّ لَمَّا حَجَّ سُلَيْمَانُ أَخْبَرَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِمَا كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ الْوَلِيدُ، وَأَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ يُذْكَرَ هَذَا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَلَا عَنِ الْوَلِيدِ، وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ هَذَا، مَالَنَا وَلِهَذَا، وَقَدْ أَخَذْنَا الدُّنْيَا فَهِيَ فِي أَيْدِينَا فَنُرِيدُ أَنْ نَعْمِدَ إِلَى عَلَمٍ مِنْ أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ يُوفَدُ إِلَيْهِ، فَنَحْمِلَهُ إِلَى مَا قِبَلَنَا، هَذَا مَا لَا يَصْلُحُ. رَحِمَهُ اللَّهُ.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ مُعَاوِيَةُ عَنْ مِصْرَ مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ وَوَلَّى عَلَيْهَا وَإِفْرِيقِيَةَ مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ
وَفِيهَا افْتَتَحَ عُقْبَةُ بْنُ نَافِعٍ الْفِهْرِيُّ عَنْ أَمْرِ مُعَاوِيَةَ، بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَاخْتَطَّ الْقَيْرَوَانَ - وَكَانَ مَكَانُهَا غَيْضَةً تَأْوِي إِلَيْهَا السِّبَاعُ وَالْوُحُوشُ وَالْحَيَّاتُ الْعِظَامُ - فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى إِنِ السِّبَاعَ صَارَتْ تَخْرُجُ مِنْهَا تَحْمِلُ أَوْلَادَهَا، وَالْحَيَّاتُ يَخْرُجْنَ مِنْ أَجْحَارِهِنَّ هَوَارِبَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَسْلَمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْبَرْبَرِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ وَسُفْيَانُ بْنُ عَوْفٍ أَرْضَ الرُّومِ، وَفِيهَا غَزَا فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَحْرَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِدْلَاجُ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ أَرَ لَهُ ذِكْرًا فِي الصَّحَابَةِ.
وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظِمِ "، أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ،

وَدِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ، وَعَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، وَأُمُّ شَرِيكٍ الْأَنْصَارِيَّةُ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ النَّوْفَلِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ: أَبُو عَدِيٍّ الْمَدَنِيُّ، فَإِنَّهُ قَدِمَ وَهُوَ مُشْرِكٌ فِي فِدَاءِ أَسَارَى بَدْرٍ فَلَمَّا سَمِعَ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُورَةِ " الطُّورِ ": أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [ الطُّورِ: 35 ]. دَخَلَ فِي قَلْبِهِ الْإِسْلَامُ، ثُمَّ أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ وَقِيلَ: زَمَنَ الْفَتْحِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ وَأَعْلَمِهَا بِالْأَنْسَابِ، أَخَذَ ذَلِكَ عَنِ الصِّدِّيقِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَأَمَّا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ
شَاعِرُ الْإِسْلَامِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُجَدَّعٍ الْغِفَارِيُّ، أَخُو رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو

الْغِفَارِيِّ، وَيُقَالُ لَهُ: الْحَكَمُ بْنُ الْأَقْرَعِ. فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي النَّهْيِ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ، وَقَدِ اسْتَنَابَهُ زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ عَلَى غَزْوِ جَبَلِ الْأَشَلِّ، فَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَجَاءَهُ كِتَابُ زِيَادٍ عَنْ أَمْرِ مُعَاوِيَةَ أَنْ يَصْطَفِيَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنَ الْغَنِيمَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْحَكَمُ: إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ مِنْ كِتَابِ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ سَبَقَ كِتَابُ اللَّهِ كِتَابَ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ". ثُمَّ نَادَى فِي النَّاسِ أَنِ اغْدُوَا عَلَى غَنَائِمِكُمْ، فَقَسَّمَهَا فِي النَّاسِ وَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا الْخُمُسَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ حُبِسَ إِلَى أَنَّ مَاتَ بِمَرْوَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأَمَّا دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ
فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، كَانَ جَمِيلَ الصُّورَةِ، فَلِهَذَا كَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِي عَلَى صُورَتِهِ كَثِيرًا. وَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَيْصَرَ. أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَلَكِنْ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، وَشَهِدَ مَا بَعْدَهَا، ثُمَّ شَهِدَ الْيَرْمُوكَ وَأَقَامَ بِالْمِزَّةِ غَرْبِيَّ دِمَشْقَ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْقُرَشِيُّ أَبُو سَعِيدٍ الْعَبْشَمِيُّ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَقِيلَ: شَهِدَ مُؤْتَهَ، وَغَزَا

خُرَاسَانَ وَفَتْحَ سِجِسْتَانَ وَكَابُلَ وَغَيْرَهَا، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ، وَأَقَامَ بِالْبَصْرَةِ، وَقِيلَ: بِمَرْوَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ خَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَصَلَّى عَلَيْهِ زِيَادٌ، وَتَرَكَ عِدَّةً مِنَ الذُّكُورِ، وَكَانَ اسْمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَبْدَ كُلَالٍ، وَقِيلَ: عَبْدُ كَلُوبٍ. وَقِيلَ: عَبْدُ الْكَعْبَةِ. فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ أَحَدَ السَّفِيرَيْنِ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْحَسَنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَدْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ ; فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنَّ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا ".
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطَّائِفِيُّ، لَهُ وَلِأَخِيهِ الْحَكَمِ صُحْبَةٌ، قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، فَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الطَّائِفِ، وَأَمَّرَهُ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَكَانَ أَمِيرَهُمْ وَإِمَامَهُمْ مُدَّةً طَوِيلَةً حَتَّى مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَأَمَّا عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
أَخُو عَلِيٍّ، فَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ جَعْفَرٍ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَجَعْفَرٌ أَكْبَرُ مِنْ عَلِيٍّ بِعَشْرِ سِنِينَ، كَمَا أَنَّ طَالِبًا أَكْبَرُ مِنْ عَقِيلٍ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكُلُّهُمْ أَسْلَمَ إِلَّا طَالِبًا، أَسْلَمَ عَقِيلٌ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَشَهِدَ مُؤْتَةَ، وَكَانَ مِنْ أَنْسَبِ قُرَيْشٍ، وَكَانَ قَدْ وَرِثَ أَقَارِبَهُ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَتَرَكُوا أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ بِمَكَّةَ،

وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.
وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ
فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ أَسْلَمَ بَعْدَ أُحِدٍ، وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ بِئْرُ مَعُونَةَ، وَكَانَ سَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِي تَزْوِيجِ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَأَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُنَاكَ، وَلَهُ أَفْعَالٌ حَسَنَةٌ، وَآثَارٌ مَحْمُودَةٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ. وَكَانَ لَا يُلْحَقُ وَلَا يُسْبَقُ بِالْخَيْلِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ بْنِ الْكَاهِنِ الْخُزَاعِيِّ، أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَهَاجَرَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَسْلَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ أَنْ يُمَتِّعَهُ اللَّهُ بِشَبَابِهِ ; فَبَقِيَ ثَمَانِينَ سَنَةً لَا يُرَى فِي لِحْيَتِهِ شَعْرَةٌ بَيْضَاءُ، وَمَعَ هَذَا كَانَ أَحَدَ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ دَخَلُوا عَلَى عُثْمَانَ، ثُمَّ صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ، فَشَهِدَ مَعَهُ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ قَامُوا مَعَ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، فَتَطَلَّبَهُ زِيَادٌ، فَهَرَبَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى نَائِبِهَا، فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ قَدِ اخْتَفَى فِي غَارٍ فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، فَمَاتَ فَقَطَعَ رَأْسَهُ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَطِيفَ بِهِ فِي الشَّامِ وَغَيْرِهَا، فَكَانَ أَوَّلَ رَأْسٍ طِيفَ بِهِ، ثُمَّ بَعَثَ مُعَاوِيَةُ بِرَأْسِهِ إِلَى زَوْجَتِهِ آمِنَةَ بِنْتِ الشَّرِيدِ - وَكَانَتْ فِي سِجْنِهِ - فَأُلْقِيَ فِي حِجْرِهَا، فَوَضَعَتْ كَفَّهَا عَلَى جَبِينِهِ وَلَثَمَتْ فَمَهُ، وَقَالَتْ: غَيَّبْتُمُوهُ عَنِّي طَوِيلًا، ثُمَّ أَهْدَيْتُمُوهُ إِلَيَّ قَتِيلًا، فَأَهْلًا بِهَا مِنْ هَدِيَّةٍ غَيْرَ قَالِيَةٍ وَلَا مَقْلِيَّةٍ.

وَأَمَّا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ
شَاعِرُ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " فِي سِيَاقِ تَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ مِنْ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي " التَّفْسِيرِ "، وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَغَلِطَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا. وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ. فَإِنَّ الْوَاقِدِيَّ - وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ - قَالَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسِينَ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ بْنِ أَبِي عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَبُو عِيسَى، وَيُقَالُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ. الثَّقَفِيُّ. وَعُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ عَمُّ أَبِيهِ، كَانَ الْمُغِيرَةُ مِنْ دُهَاةِ الْعَرَبِ، وَذَوِي آرَائِهَا، أَسْلَمَ عَامَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا قَتَلَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ مَرْجِعَهُمْ مِنْ عِنْدِ الْمُقَوْقِسِ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، فَغَرِمَ دِيَاتِهِمْ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَشَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، وَكَانَ وَاقِفًا يَوْمَ الصُّلْحِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ صَلْتًا،

وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إِسْلَامِ أَهْلِ الطَّائِفِ هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَهَدَمَا اللَّاتَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ، وَبَعَثَهُ الصِّدِّيقُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَشَهِدَ الْيَمَامَةَ وَالْيَرْمُوكَ، فَأُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَئِذٍ، وَقِيلَ: بَلْ نَظَرَ إِلَى الشَّمْسِ وَهِيَ كَاسِفَةٌ، فَذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ. وَشَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ، وَوَلَّاهُ عُمَرُ فُتُوحًا كَثِيرَةً، مِنْهَا هَمَذَانُ وَمَيْسَانُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ رَسُولَ سَعْدٍ إِلَى رُسْتُمَ، فَكَلَّمَهُ بِذَلِكَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ، فَاسْتَنَابَهُ عُمَرُ عَلَى الْبَصْرَةِ فَلَمَّا شُهِدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ، عَزَلَهُ عَنْهَا، وَوَلَّاهُ الْكُوفَةَ، وَاسْتَمَرَّ بِهِ عُثْمَانُ حِينًا، ثُمَّ عَزَلَهُ، فَبَقِيَ مَعْزُولًا حَتَّى كَانَ أَمْرُ الْحَكَمَيْنِ، فَلَحِقَ بِمُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ وَصَالَحَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ وَدَخَلَ الْكُوفَةَ، وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَزَلْ أَمِيرَهَا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ. قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا، عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ.

وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. وَهُوَ غَلَطٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَكَانَ الْمُغِيرَةُ أَصْهَبَ الشَّعْرِ جِدًّا، أَكْشَفَ، مُقَلَّصَ الشَّفَتَيْنِ، أَهْتَمَ، ضَخْمَ الْهَامَةِ، عَبْلَ الذِّرَاعَيْنِ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، وَكَانَ يَفْرُقُ رَأْسَهُ أَرْبَعَةَ قُرُونٍ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الْقُضَاةُ أَرْبَعَةٌ ; عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَالدُّهَاةُ أَرْبَعَةٌ ; مُعَاوِيَةُ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَالْمُغِيرَةُ، وَزِيَادٌ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الدُّهَاةُ فِي الْفِتْنَةِ خَمْسَةٌ ; مُعَاوِيَةُ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَكَانَ مُعْتَزِلًا، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ، وَكَانَا مَعَ عَلِيٍّ.
قُلْتُ: وَالشِّيعَةُ يَقُولُونَ: الْأَشْيَاخُ خَمْسَةٌ ; رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيٌّ، وَفَاطِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، وَالْأَضْدَادُ خَمْسَةٌ ; أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَمُعَاوِيَةُ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ.

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ يَقُولُ: مَا غَلَبَنِي أَحَدٌ إِلَّا فَتًى مَرَّةً، أَرَدْتُ أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَاسْتَشَرْتُهُ فِيهَا، فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، لَا أَرَى لَكَ أَنْ تَتَزَوَّجَهَا. فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا يُقَبِّلُهَا. ثُمَّ بَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَهَا، فَقُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَزْعُمْ أَنَّكَ رَأَيْتَ رَجُلًا يُقَبِّلُهَا ؟ فَقَالَ: نَعَمْ رَأَيْتُ أَبَاهَا يُقَبِّلُهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ.
وَقَالَ أَيْضًا: سَمِعْتُ قَبِيصَةَ بْنَ جَابِرٍ يَقُولُ: صَحِبْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، فَلَوْ أَنَّ مَدِينَةً لَهَا ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ لَا يُخْرَجُ مِنْ بَابٍ مِنْهَا إِلَّا بِمَكْرٍ لَخَرَجَ الْمُغِيرَةُ مِنْ أَبْوَابِهَا كُلِّهَا.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ يَقُولُ: صَاحِبُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ يَحِيضُ مَعَهَا وَيَمْرَضُ مَعَهَا، وَصَاحِبُ الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَ نَارَيْنِ تَشْتَعِلَانِ. وَكَانَ يَتَزَوَّجُ أَرْبَعَةً مَعًا وَيُطَلِّقُهُنَّ مَعًا، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ الصَّائِغُ: أَحْصَنَ الْمُغِيرَةُ ثَلَاثَمِائَةِ امْرَأَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَلْفَ امْرَأَةٍ. وَقِيلَ: مِائَةَ امْرَأَةٍ. وَقِيلَ: ثَمَانِينَ امْرَأَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ الْخُزَاعِيَّةُ الْمُصْطَلِقِيَّةُ
أُمُّ

الْمُؤْمِنِينَ، فَسَبَاهَا رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ ; وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلَقِ، وَكَانَ أَبُوهَا مَلِكَهُمْ فَأَسْلَمَتْ، فَأَعْتَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَكَاتَبَهَا فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتَعِينُهُ فِي كِتَابَتِهَا فَقَالَ: أَوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " أَشْتَرِيكِ وَأُعْتِقُكِ وَأَتَزَوَّجُكِ " فَأَعْتَقَهَا فَقَالَ النَّاسُ: أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَعْتَقُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ سَبْيِ بَنِي الْمُصْطَلَقِ، وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَهْلِ بَيْتٍ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَا أَعْلَمٌ امْرَأَةً أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى أَهْلِهَا مِنْهَا. وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ، فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُوَيْرِيَةَ. وَكَانَتِ امْرَأَةً مُلَّاحَةً - أَيْ حُلْوَةَ الْكَلَامِ - تُوُفِّيَتْ فِي هَذَا الْعَامِ سَنَةَ خَمْسِينَ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ
بْنِ سَعْيَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ أَبِي حَبِيبِ بْنِ النَّضِيرِ بْنِ النَّحَّامِ بْنِ يَنْحَوْمَ، أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ

النَّضَرِيةُ، فَمِنْ سُلَالَةِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَكَانَتْ مَعَ أَبِيهَا وَعَمِّهَا جُدَيِّ بْنِ أَخْطَبَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا أَجْلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرِ سَارُوا إِلَى خَيْبَرَ وَقُتِلَ أَبُوهَا مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ صَبْرًا، كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ، فَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ كَانَتْ فِي جُمْلَةِ السَّبْيِ، فَوَقَعَتْ فِي سَهْمِ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ، فَذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَالَهَا وَأَنَّهَا بِنْتُ مَلِكِهِمْ، فَاصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ وَعَوَّضَ دِحْيَةَ عَنْهَا، وَأَسْلَمَتْ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، فَلَمَّا حَلَّتْ بِالصَّهْبَاءِ بَنَى بِهَا، وَكَانَتْ مَاشِطَتَهَا أُمُّ سُلَيْمٍ، وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَ ابْنِ عَمٍّ لَهَا، يُقَالُ لَهُ: كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ. فَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَدِّهَا لَطْمَةً، فَقَالَ: " مَا هَذِهِ ؟ " فَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ الْقَمَرَ أَقْبَلَ مِنْ يَثْرِبَ، فَسَقَطَ فِي حِجْرِي، فَقَصَصْتُ الْمَنَامَ عَلَى ابْنِ عَمِّي، فَلَطَمَنِي وَقَالَ: تَتَمَنَّيْنَ أَنْ يَتَزَوَّجَكِ مَلِكُ يَثْرِبَ ؟ فَهَذِهِ مِنْ لَطْمَتِهِ. وَكَانَتْ مِنْ سَيِّدَاتِ النِّسَاءِ عِبَادَةً وَوَرَعًا وَزَهَادَةً وَبِرًّا وَصَدَقَةً، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَتْ سَنَةَ خَمْسِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَأَمَّا أُمُّ شَرِيكٍ الْأَنْصَارِيَّةُ
وَيُقَالُ: الْعَامِرِيَّةُ، فَهِيَ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ، قَبِلَهَا. وَقِيلَ: لَمْ يَقْبَلْهَا. وَلَمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى مَاتَتْ ; تَرْجُو بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَزْوَاجِهِ، وَهِيَ الَّتِي سُقِيَتْ بِدَلْوٍ مِنَ السَّمَاءِ لَمَّا مَنَعَهَا

الْمُشْرِكُونَ الْمَاءَ، فَأَسْلَمُوا عِنْدَ ذَلِكَ، وَاسْمُهَا غُزَيَّةُ، وَقِيلَ: عُزَيْلَةُ. بِنْتُ دُودَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَيْصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَسْلَمَتْ قَدِيمًا مَاتَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَاتَتْ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ حُجْرُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْأَكْرَمِينِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ مَرْتَعِ بْنِ كِنْدِيٍّ الْكُوفِيُّ. وَيُقَالُ لَهُ: حُجْرُ الْخَيْرِ. وَيُقَالُ لَهُ: حُجْرُ بْنُ الْأَدْبَرِ. لِأَنَّ أَبَاهُ عَدِيٍّا طُعِنَ مُولِّيًا فَسُمِّيَ الْأَدْبَرَ، وَيُكَنَّى حُجْرٌ بِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ مِنْ كِنْدَةَ مِنْ رُؤَسَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَفَدَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ عَلِيًّا وَعَمَّارًا وَشَرَاحِيلَ بْنَ مُرَّةَ. وَيُقَالُ: شُرَحْبِيلُ بْنُ مُرَّةَ. وَرَوَى عَنْهُ أَبُو لَيْلَى مَوْلَاهُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ. وَغَزَا الشَّامَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ افْتَتَحُوا عَذْرَاءَ وَشَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ أَمِيرًا، وَقُتِلَ بِعَذْرَاءَ مِنْ قُرَى دِمَشْقَ. وَمَسْجِدُ قَبْرِهِ بِهَا

مَعْرُوفٌ. ثُمَّ سَاقَ ابْنُ عَسَاكِرَ بِأَسَانِيدِهِ إِلَى حُجْرٍ، فَذَكَرَ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَذَكَرَ لَهُ وِفَادَةً، ثُمَّ ذَكَرَهُ فِي الْأُولَى مِنْ تَابِعِي أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ: وَكَانَ ثِقَةً مَعْرُوفًا، وَلَمْ يَرْوِ عَنْ غَيْرِ عَلِيٍّ شَيْئًا. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: بَلْ قَدْ رَوَى عَنْ عَمَّارٍ وَشُرَاحِيلَ بْنِ مُرَّةَ.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ: أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ لَا يُصَحِّحُونَ لَهُ صُحْبَةً، شَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ، وَافْتَتَحَ مَرْجَ عَذْرَاءَ، وَشَهِدَ الْجَمَلَ وَصِفِّينِ، وَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ حُجْرُ الْخَيْرِ، وَهُوَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ هَذَا، وَحُجْرُ الشَّرِّ، وَهُوَ حُجْرُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُرَّةَ.
وَقَالَ الْمَرْزُبَانِيُّ: قَدْ رَوَى أَنَّ حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَخِيهِ هَانِئِ بْنِ عَدِيٍّ.

وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ عُبَّادِ النَّاسِ وَزُهَّادِهِمْ، وَكَانَ بَارًّا بِأُمِّهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ. قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: مَا أَحْدَثَ قَطُّ إِلَّا تَوَضَّأَ، وَلَا تَوَضَّأَ إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. هَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنِي الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: قَالَ سَلْمَانُ لِحُجْرٍ: يَا ابْنَ أُمِّ حُجْرٍ، لَوْ تَقَطَّعْتَ أَعْضَاءً مَا بَلَغْتَ الْإِيمَانَ. وَكَانَ، إِذْ كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَلَى الْكُوفَةِ إِذَا ذَكَرَ عَلِيًّا فِي خُطْبَتِهِ يَتَنَقَّصُهُ بَعْدَ مَدْحِ عُثْمَانَ وَشِيعَتِهِ، فَيَغْضَبُ حُجْرٌ هَذَا، وَيُظْهِرُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ كَانَ الْمُغِيرَةُ فِيهِ حِلْمٌ وَأَنَاةٌ، فَكَانَ يَصْفَحُ عَنْهُ وَيَعِظُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَيُحَذِّرُهُ غَبَّ هَذَا الصَّنِيعِ، فَإِنَّ مُعَارَضَةَ السُّلْطَانِ شَدِيدٌ وَبَالُهَا، فَلَمْ يَرْجِعْ حُجْرٌ عَنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ أَيَّامِ الْمُغِيرَةِ قَامَ حُجْرٌ يَوْمًا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فِي الْخُطْبَةِ وَصَاحَ بِهِ، وَذَمَّهُ بِتَأْخِيرِهِ الْعَطَاءِ عَنِ النَّاسِ، وَقَامَ مَعَهُ فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ لِقِيَامِهِ، يُصَدِّقُونَهُ وَيُشَنِّعُونَ عَلَى الْمُغِيرَةِ، وَدَخَلَ الْمُغِيرَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَصْرَ الْإِمَارَةِ، وَدَخَلَ مَعَهُ جُمْهُورُ النَّاسِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، فَأَشَارُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بِأَنْ يَرُدَّ حُجْرًا عَمَّا يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى السُّلْطَانِ وَشَقِّ الْعَصَا وَالْقِيَامِ عَلَى الْأَمِيرِ وَذَمَرَوهُ

وَحَثُّوهُ عَلَى التَّنْكِيلِ بِهِ، فَصَفَحَ عَنْهُ وَحَلُمَ.
وَذَكَرَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى الْمُغِيرَةِ يَسْتَمِدُّهُ بِمَالٍ يَبْعَثُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَبَعَثَ عِيرًا تَحْمِلُ مَالًا فَاعْتَرَضَ لَهَا حُجْرٌ، فَأَمَسَكَ بِزِمَامِ أَوَّلِهَا، وَقَالَ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى يُوَفِّيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَقَالَ شَبَابُ ثَقِيفٍ لِلْمُغِيرَةِ: أَلَّا نَأْتِيكَ بِرَأْسِهِ ؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَلِكَ بِحُجْرٍ. فَتَرَكَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ مُعَاوِيَةَ ذَلِكَ عَزَلَ الْمُغِيرَةَ وَوَلَّى زِيَادًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَعْزِلِ الْمُغِيرَةَ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَجُمِعَتِ الْكُوفَةُ مَعَ الْبَصْرَةِ لِزِيَادٍ دَخَلَهَا، وَقَدِ الْتَفَّ عَلَى حُجْرٍ جَمَاعَاتٌ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ يُقَوُّونَهُ وَيَشُدُّونَ أَمْرَهُ عَلَى يَدِهِ، وَيَسُبُّونَ مُعَاوِيَةَ وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا زِيَادٌ بِالْكُوفَةِ، ذَكَرَ فِي آخِرِهَا فَضْلَ عُثْمَانَ، وَذَمَّ مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ. فَقَامَ حُجْرٌ كَمَا كَانَ يَقُومُ فِي أَيَّامِ الْمُغِيرَةِ، وَتَكَلَّمَ بِنَحْوٍ مِمَّا قَالَ لِلْمُغِيرَةِ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ زِيَادٌ، ثُمَّ رَكِبَ زِيَادٌ إِلَى الْبَصْرَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ حُجْرًا مَعَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ لِئَلَّا يُحْدِثُ حَدَثًا، فَقَالَ: إِنِّي مَرِيضٌ. فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَمَرِيضُ الدِّينِ وَالْقَلْبِ وَالْعَقْلِ وَاللَّهِ لَئِنْ أَحْدَثْتَ شَيْئًا لَأَسْعَيَنَّ فِي قَتْلِكَ ثُمَّ سَارَ زِيَادٌ إِلَى الْبَصْرَةِ فَبَلَغَهُ أَنَّ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ أَنْكَرُوا عَلَى نَائِبِهِ بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، وَحَصَبُوهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَرَكِبَ زِيَادٌ إِلَى الْكُوفَةِ فَنَزَلَ الْقَصْرَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمِنْبَرِ وَعَلَيْهِ قَبَاءُ سُنْدُسٍ، وَمِطْرَفُ خَزٍّ أَحْمَرُ، قَدْ فَرَقَ شَعْرَهُ، وَحُجْرٌ جَالِسٌ وَحَوْلَهُ أَصْحَابُهُ أَكْثَرَ مَا كَانُوا يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ مَنْ لَبِسَ مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمَئِذٍ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ،

وَجَلَسُوا حَوْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْحَدِيدِ وَالسِّلَاحِ، فَخَطَبَ زِيَادٌ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ غِبَّ الْبَغْيِ وَالْغَيِّ وَخِيمٌ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ جَمُّوا فَأَشِرُوا وَأَمِنُونِي فَاجْتَرَءُوا عَلَيَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَئِنْ لَمَّ تَسْتَقِيمُوا لِأُدَاوِيَنَّكُمْ بِدَوَائِكُمْ. ثُمَّ قَالَ: مَا أَنَا بِشَيْءٍ إِنْ لَمْ أَمْنَعْ سَاحَةَ الْكُوفَةِ مِنْ حُجْرٍ، وَأَدَعْهُ نَكَالًا لِمَنْ بَعْدَهُ، وَيْلُ أُمِّكُ يَا حُجْرُ، سَقَطَ بِكَ الْعَشَاءُ عَلَى سِرْحَانٍ. ثُمَّ قَالَ:
أَبْلِغْ نُصَيْحَةَ أَنَّ رَاعِيَ إِبْلِهَا سَقَطَ الْعَشَاءُ بِهِ عَلَى سِرْحَانِ
وَجَعَلَ زِيَادٌ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ مِنْ حَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مِنْ حَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ حُجْرٌ: كَذَبْتَ. فَسَكَتَ زِيَادٌ وَنَظَرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ عَادَ زِيَادٌ: إِنَّ مِنْ حَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مِنْ حَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. يَعْنِي كَذَا وَكَذَا، فَأَخَذَ حُجْرٌ كَفًّا مِنْ حَصًا فَحَصَبَهُ، وَقَالَ: كَذَبْتَ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ. فَانْحَدَرَ زِيَادٌ فَصَلَّى، ثُمَّ دَخَلَ الْقَصْرَ، وَاسْتَحْضَرَ حُجْرًا، وَيُقَالُ: إِنْ زِيَادًا لَمَّا خَطَبَ طَوَّلَ الْخُطْبَةَ وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ لَهُ حُجْرٌ: الصَّلَاةَ. فَمَضَى فِي خِطْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: الصَّلَاةَ. فَمَضَى فِي خِطْبَتِهِ فَلَمَّا خَشِيَ حُجْرٌ فَوْتَ الصَّلَاةِ عَمِدَ إِلَى كَفٍّ مِنْ حَصَا، وَثَارَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَثَارَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ زِيَادٌ نَزَلَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ،

فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنْ صِلَاتِهِ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي أَمْرِهِ وَكَثَّرَ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَنْ شُدَّهُ فِي الْحَدِيدِ وَاحْمِلْهُ إِلَيَّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ زِيَادٌ وَالِيَ الشُّرْطَةِ، وَهُوَ شَدَّادُ بْنُ الْهَيْثَمِ وَمَعَهُ أَعْوَانُهُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْأَمِيرَ يَطْلُبُكَ. فَامْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ إِلَى زِيَادٍ، وَقَامَ دُونَهُ أَصْحَابُهُ، فَرَجَعَ الْوَالِي إِلَى زِيَادٍ فَأَعْلَمَهُ، فَاسْتَنْهَضَ زِيَادٌ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْقَبَائِلِ، فَرَكِبُوا مَعَ الْوَالِي إِلَى حُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ بِالْحِجَارَةِ وَالْعِصِيِّ، فَعَجَزُوا عَنْهُ، فَنَدَبَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ، وَأَمْهَلَهُ ثَلَاثًا، وَجَهَّزَ مَعَهُ جَيْشًا، فَرَكِبُوا فِي طَلَبِهِ وَلَمْ يَزَالُوا حَتَّى أَحْضَرُوهُ إِلَى زِيَادٍ، وَمَا أَغْنَى عَنْهُ قَوْمُهُ وَلَا مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَنْصُرُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَيَّدَهُ زِيَادٌ وَسَجَنَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَبَعَثَ مَعَهُ جَمَاعَةً يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَبَّ الْخَلِيفَةَ، وَأَنَّهُ حَارَبَ الْأَمِيرَ، وَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا فِي آلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ ; أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى، وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، وَعُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَإِسْحَاقُ وَإِسْمَاعِيلُ وَمُوسَى بَنُو طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَثِيرُ بْنُ شِهَابٍ، وَشَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، فِي سَبْعِينَ رَجُلًا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كُتِبَتْ شَهَادَةُ شُرَيْحٍ الْقَاضِي فِيهِمْ، وَإِنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ لِزِيَادٍ: إِنَّهُ كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا. ثُمَّ بَعَثَ زِيَادٌ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ مَعَ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ وَكَثِيرِ بْنِ شِهَابٍ إِلَى الشَّامِ. وَكَانَ مَعَ حُجْرِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ جَبَلَةَ الْكِنْدِيِّ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةٌ قِيلَ: عِشْرُونَ رَجُلًا. وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. مِنْهُمُ ; الْأَرْقَمُ بْنُ

عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ، وَشَرِيكُ بْنُ شَدَّادٍ الْحَضْرَمِيُّ، وَصَيْفِيُّ بْنُ فَسِيلٍ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ضُبَيْعَةَ بْنِ حَرْمَلَةَ الْعَبْسِيُّ، وَكَرِيمُ بْنُ عَفِيفٍ الْخَثْعَمِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ عَوْفٍ الْبَجَلِيُّ، وَوَرْقَاءُ بْنُ سُمَيٍّ الْبَجَلِيُّ، وَكِدَامُ بْنُ حَيَّانَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ الْعَنَزِيَّانُ مِنْ بَنَى تَمِيمٍ، وَمُحْرِزُ بْنُ شِهَابٍ التَّمِيمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَوِيَّةَ السَّعْدِيُّ التَّمِيمِيُّ أَيْضًا. فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ وَصَلُوا مَعَهُ، فَسَارُوا بِهِمْ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ إِنَّ زِيَادًا أَتْبَعَهُمْ بِرَجُلَيْنِ آخَرَيْنِ ; عُتْبَةَ بْنِ الْأَخْنَسِ مِنْ بَنِي سَعْدٍ، وَسَعْدِ بْنِ نَمِرَانَ الْهَمْدَانِيِّ، فَكَمَلُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. فَيُقَالُ: إِنَّ حُجْرًا لَمَّا دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ غَضَبًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ. وَيُقَالُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ رَكِبَ فَتَلَقَّاهُمْ إِلَى مَرْجِ عَذْرَاءَ. وَيُقَالُ: بَلْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ تَلَقَّاهُمْ إِلَى عَذْرَاءَ تَحْتَ الثَّنِيَّةِ ; ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ فَقُتِلُوا هُنَاكَ، وَكَانَ الَّذِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ، وَهُمْ ; هُدْبَةُ بْنُ فَيَّاضٍ الْقُضَاعِيُّ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِلَابِيُّ، وَأَبُو شَرِيفٍ

الْبَدِّيُّ، فَجَاءُوا إِلَيْهِمْ عَشَاءً فَبَاتَ حُجْرٌ وَأَصْحَابُهُ يَصِلُونَ طُولَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا صَلَّوُا الصُّبْحَ قَتَلُوهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ رَدَّهُمْ، فَقُتِلُوا بِعَذْرَاءَ. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدِ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِيهِمْ حِينَ وَصَلُوا إِلَى مَرْجِ عَذْرَاءَ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ حُبِسُوا بِهَا. فَمِنْ مُشِيرٍ بِقَتْلِهِمْ، وَمِنْ مُشِيرٍ بِتَفْرِيقِهِمْ فِي الْبِلَادِ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ كِتَابًا آخَرَ فِي أَمْرِهِمْ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِقَتْلِهِمْ إِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ فِي مُلْكِ الْعِرَاقِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، فَاسْتَوْهَبَ مِنْهُ الْأُمَرَاءُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، حَتَّى اسْتَوْهَبُوا مِنْهُ سِتَّةً، وَقَتَلَ مِنْهُمْ سِتَّةً، أَوَّلُهُمْ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ وَرَجَعَ آخَرُ، فَعَفَا عَنْهُ مُعَاوِيَةُ، وَبَعَثَ بِآخَرَ نَالَ مِنْ عُثْمَانَ وَزَعَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَارَ فِي الْحُكْمِ، وَمَدَحَ عَلِيًّا، فَبَعَثَ بِهِ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ، وَقَالَ لَهُ: لَمْ تَبْعَثْ إِلَيَّ فِيهِمْ أَرْدَى مِنْ هَذَا. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى زِيَادٍ دَفَنَهُ فِي قُسِّ النَّاطِفِ حَيًّا، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ الْعَنَزِيُّ.
وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ الَّذِينَ قُتِلُوا بِعَذْرَاءَ ; حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ وَشَرِيكُ بْنُ شَدَّادٍ،

وَصَيْفِيُّ بْنُ فَسِيلٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ضُبَيْعَةَ الْعَبْسِيُّ، وَمُحْرِزُ بْنُ شِهَابٍ الْمِنْقَرِيُّ السَّعْدِيُّ، وَكِدَامُ بْنُ حَيَّانَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ الْعَنَزِيُّ الْمَبْعُوثُ إِلَى زِيَادٍ الْمَدْفُونُ فِي قُسِّ النَّاطِفِ، فَلَمَّا قُتِلُوا صُلِّيَ عَلَيْهِمْ وَدُفِنُوا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ مَدْفُونُونَ بِمَسْجِدِ الْقَصَبِ، - وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ مَدْفُونُونَ بِمَسْجِدِ السَّبْعَةِ خَارِجَ بَابِ تُومَاءَ - وَإِنَّمَا نُسِبَتِ السَّبْعَةُ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ سَبْعَةٌ - فِي شَرْقِيَّهِ، وَقِيلَ: هُمْ فِي غَرْبِيِّ مَسْجِدِ الْقَصَبِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ مَدْفُونُونَ بِعَذْرَاءَ مِنْ غُوطَةِ دِمَشْقَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَيُذْكَرُ أَنَّ حُجْرًا لَمَّا أَرَادُوا قَتْلَهُ قَالَ: دَعُونِي حَتَّى أَتَوَضَّأَ. فَقَالُوا: تَوَضَّأْ. فَقَالَ: دَعَونِي حَتَّى أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ. فَصَلَّاهُمَا وَخَفَّفَ فِيهِمَا. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُ صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهُمَا، وَلَوْلَا أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ مَا بِي جَزَعٌ مِنَ الْمَوْتِ. لَطَوَّلْتُهُمَا. ثُمَّ قَالَ: قَدْ تَقَدَّمَ لَهُمَا صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ. ثُمَّ قَدَّمُوهُ لِلْقَتْلِ وَقَدْ حُفِرَتْ قُبُورُهُمْ وَنُشِرَتْ أَكْفَانُهُمْ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ السَّيَّافُ ارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ قُلْتَ: لَسْتُ بِجَازِعٍ مِنَ الْقَتْلِ. فَقَالَ: وَمَا لِي لَا أَجْزَعُ وَأَنَا أَرَى قَبْرًا مَحْفُورًا وَكَفَنًا مَنْشُورًا وَسَيْفًا مَشْهُورًا. فَأَرْسَلَهَا مَثَلًا. ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْأَعْوَرُ هُدْبَةُ بْنُ فَيَّاضٍ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ لَهُ: امْدُدْ عُنُقَكَ. فَقَالَ: لَا أُعِينُ عَلَى

قَتْلِ نَفْسِي. فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ. وَكَانَ قَدْ أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ فِي قُيُودِهِ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ، وَقِيلَ: بَلْ غَسَّلُوهُ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ.
وَرَوَى أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ قَالَ: أَصَلَّوْا عَلَيْهِ وَدَفَنُوهُ فِي قُيُودِهِ ؟ ! قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: حَجَّهُمْ وَاللَّهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلَ هَذَا إِنَّمَا هُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَإِنَّ حُجْرًا إِنَّمَا قُتِلَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْحَسَنُ كَانَ قَدْ مَاتَ قَبْلَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَرَحِمَ اللَّهُ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ.
وَرُوِّينَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَقْتَلِ حُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ، قَالَتْ لَهُ: أَيْنَ ذَهَبَ عَنْكَ حِلْمُكَ يَا مُعَاوِيَةَ حِينَ قَتَلْتَ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ ؟ فَقَالَ لَهَا: فَقَدْتُهُ حِينَ غَابَ عَنِّي مِنْ قَوْمِي مِثْلُكِ يَا أُمَّاهُ. ثُمَّ قَالَ لَهَا: فَكَيْفَ بِرِّي بِكِ يَا أُمَّهْ ؟ فَقَالَتْ: إِنَّكَ بِي لَبَارٌّ. فَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا عِنْدَ اللَّهِ، وَغَدًا لِي وَلِحُجْرٍ مَوْقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وفِي

رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: إِنَّمَا قَتَلَهُ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوتُ جَعْلَ يُغَرْغِرُ بِرُوحِهِ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ يَوْمِي بِكَ يَا حُجْرُ بْنَ عَدِيٍّ لَطَوِيلٌ. قَالَهَا ثَلَاثًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي " الطَّبَقَاتِ ": ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حُجْرًا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَخِيهِ هَانِئِ بْنِ عَدِيٍّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، فَلَمَّا قَدِمَ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَالِيًا عَلَى الْكُوفَةِ دَعَا بِحُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، فَقَالَ: تَعْلَمُ أَنِّي أَعْرِفُكَ، وَقَدْ كُنْتُ أَنَا وَإِيَّاكَ عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ - يَعْنِي مِنْ حُبِّ عَلِيٍّ - وَأَنَّهُ قَدْ جَاءَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تُقْطِرَ لِي مِنْ دَمِكَ قَطْرَةً فَأَسْتَفْرِغَهُ كُلَّهُ، امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ مَنْزِلُكَ، وَهَذَا سَرِيرِي فَهُوَ مَجْلِسُكَ، وَحَوَائِجُكَ مَقْضِيَّةٌ لَدَيَّ، فَاكْفِنِي نَفْسَكَ فَإِنِّي أَعْرِفُ عِجْلَتَكَ، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ وَهَذِهِ السَّفِلَةَ وَهَؤُلَاءِ السُّفَهَاءَ أَنْ يَسْتَنَزِلُّوكَ عَنْ رَأْيِكَ. فَقَالَ حُجْرٌ: قَدْ فَهِمْتُ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَأَتَاهُ الشِّيعَةُ فَقَالُوا: مَا قَالُ لَكَ ؟ قَالَ: قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا. فَقَالُوا: مَا نَصَحَ لَكَ. وَسَارَ زِيَادٌ إِلَى الْبَصْرَةِ، ثُمَّ جَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ يَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ شَيْخُنَا. وَإِذَا جَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ مَشَوْا مَعَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ نَائِبُ زِيَادٍ عَلَى الْكُوفَةِ، يَقُولُ: مَا هَذِهِ

الْجَمَاعَةُ وَقَدْ أَعْطَيْتَ الْأَمِيرَ مَا قَدْ عَلِمْتَ ؟ فَقَالَ لِلرَّسُولِ: إِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، إِلَيْكَ وَرَاءَكَ أَوْسَعَ لَكَ. فَكَتَبَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ إِلَى زِيَادٍ: إِنْ كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ بِالْكُوفَةِ فَالْعَجَلَ. فَأَعْجَلَ زِيَادٌ السَّيْرَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ بَعَثَ إِلَيْهِ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَجَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ، وَخَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِيَنْهَوْهُ عَنْ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ، فَأَتَوْهُ فَجَعَلُوا يُحَدِّثُونَهُ وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، بَلْ جَعَلَ يَقُولُ: يَا غُلَامُ، اعْلِفِ الْبَكْرَ. لِبَكْرٍ مَرْبُوطٍ فِي الدَّارِ. فَقَالَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: أَمْجَنُونٌ أَنْتَ ؟ نُكَلِّمُكَ وَأَنْتَ تَقُولُ: يَا غُلَامُ، اعْلِفِ الْبَكْرَ ! ثُمَّ قَالَ عَدِيٌّ لِأَصْحَابِهِ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا الْبَائِسَ بَلَغَ بِهِ الضَّعْفُ كُلَّ مَا أَرَى. ثُمَّ نَهَضُوا فَأَخْبَرُوا زِيَادًا بِبَعْضِ الْخَبَرِ وَكَتَمُوهُ بَعْضًا، وَحَسَّنُوا أَمْرَهُ وَسَأَلُوهُ الرِّفْقَ بِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، بَلْ بَعَثَ إِلَيْهِ الشُّرَطَ وَالْبُخَارِيَّةَ، فَأَتَى بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ: زِيَادٌ: وَيْلَكَ مَا لَكَ ؟ قَالَ: إِنِّي عَلَى بَيْعَتِي لِمُعَاوِيَةَ. فَجَمَعَ زِيَادٌ سَبْعِينَ مِنْ وُجُوهِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَالَ: اكْتُبُوا شَهَادَتَكُمْ عَلَى حُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ. فَفَعَلُوا ثُمَّ أَوْفَدَهُمْ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ عَائِشَةَ، فَأَرْسَلَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ تَسْأَلُهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ قَرَأَ كِتَابَ زِيَادٍ، وَشَهِدَ الشُّهُودُ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اخْرُجُوا بِهِمْ إِلَى عَذْرَاءَ، فَاقْتُلُوهُمْ هُنَاكَ. فَذَهَبُوا بِهِمْ، ثُمَّ قَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعَةً، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ مُعَاوِيَةَ بِالتَّخْلِيَةِ عَنْهُمْ، وَأَنْ يُطْلِقُوهُمْ كُلَّهُمْ، فَوَجَدَهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعَةً فَأَطْلَقُوا السَّبْعَةَ

الْبَاقِينَ، وَلَكِنْ كَانَ حُجْرٌ فِيمَنْ قُتِلَ، وَكَانَ قَدْ سَأَلَهُمْ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَطَوَّلَ فِيهِمَا، وَقَالَ: إِنَّهُمَا لَأَخَفُّ صَلَاةٍ صَلَّيْتُهَا. وَجَاءَ رَسُولُ عَائِشَةَ بَعْدَ مَا فُرِغَ مِنْ شَأْنِهِمْ، فَلَمَّا حَجَّ مُعَاوِيَةُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: أَيْنَ عَزَبَ عَنْكَ حِلْمُكَ حِينَ قَتَلْتَ حُجْرًا ؟ فَقَالَ: حِينَ غَابَ عَنِّي مِثْلُكِ مِنْ قَوْمِي.
وَيُرْوَى أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ أَقَتَلْتَ حُجْرَ بْنَ الْأَدْبَرِ ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَتْلُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَ مَعَهُ مِائَةَ أَلْفٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنَالُونَ مِنْ عُثْمَانَ، وَيَقُولُونَ فِيهِ مَقَالَةَ الْجَوْرِ، وَيَنْتَقِدُونَ عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَيُسَارِعُونَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَيُبَالِغُونَ فِي ذَلِكَ، وَيَتَوَلَّوْنَ شِيعَةَ عَلِيٍّ، وَيَتَشَدَّدُونَ فِي الدِّينِ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا أُخِذَ فِي قُيُودِهِ سَائِرًا مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الشَّامِ، تَلَقَّتْهُ بَنَاتُهُ فِي الطَّرِيقِ وَهُنَّ يَبْكِينَ، فَمَالَ نَحْوَهُنَّ فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: إِنِ الَّذِي يُطْعِمُكُنَّ وَيَسْقِيكُنَّ وَيَكْسُوكُنَّ هُوَ اللَّهُ، وَهُوَ بَاقٍ لَكُنَّ بَعْدِي، فَعَلَيْكُنَّ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَالصَّبْرِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ أَبَدًا، فَاتَّقِينَ اللَّهَ وَاصْبِرْنَ، فَإِنِّي لَأَرْجُو مِنْ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، فِي وَجْهِي هَذَا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ; إِمَّا

الشَّهَادَةَ وَهِيَ السَّعَادَةُ الْكُبْرَى، وَإِمَّا الِانْصِرَافَ إِلَيْكُنَّ فِي عَافِيَةٍ، وَإِنِّي لَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ الَّذِي كَانَ يَكْفِينِي مُؤْنَتَكُنَّ أَنْ لَا يُضَيِّعَكُنَّ وَأَنْ يَحْفَظَنِي فَيْكُنَّ. ثُمَّ انْصَرَفَ فَمَرَّ بِقَوْمِهِ فَجَعَلُوا يَدْعُونَ اللَّهَ لَهُ بِالْعَافِيَةِ، فَأَتَوْا بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ مَرْجَ عَذْرَاءَ فَقُتِلُوا وَدَفَنُوهُمْ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعَفَا عَنْهُمْ. وَقَدْ قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُتَشَيِّعَاتِ تَرْثِي حُجْرًا، وَهِيَ هِنْدُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ مَخْرَمَةَ - الْأَنْصَارِيَّةُ - وَيُقَالُ: إِنَّهَا لِهِنْدٍ أُخْتِ حُجْرٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ -:
تَرَفَّعْ أَيُّهَا الْقَمَرُ الْمُنِيرُ تَبَصَّرْ هَلْ تَرَى حُجْرًا يَسِيرُ
يَسِيرُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ حَرْبٍ لِيَقْتُلَهُ كَمَا زَعَمَ الْأَمِيرُ
يَرَى قَتْلَ الْخِيَارِ عَلَيْهِ حَقًّا لَهُ مِنْ شَرِّ أُمَّتِهِ وَزِيرُ
أَلَّا يَا لَيْتَ حُجْرًا مَاتَ مَوْتًا وَلَمْ يُنْحَرْ كَمَا نُحِرَ الْبَعِيرُ
تَجَبَّرَتِ الْجَبَابِرُ بَعْدَ حُجْرٍ وَطَابَ لَهَا الْخَوَرْنَقُ وَالسَّدِيرُ
وَأَصْبَحَتِ الْبِلَادُ لَهُ مُحُولًا كَأَنْ لَمْ يُحْيِهَا مُزْنٌ مَطِيرُ
أَلَّا يَا حُجْرُ حُجْرَ بَنِي عَدِيٍّ تَلَقَّتْكَ السَّلَامَةُ وَالسُّرُورُ

أَخَافُ عَلَيْكَ مَا أَرْدَى عَدِيٍّا وَشَيْخًا فِي دِمَشْقَ لَهُ زَئِيرُ
فَإِنْ تَهْلِكْ فَكُلُّ زَعِيمِ قَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى هُلْكٍ يَصِيرُ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ لَهُ مَرَاثِيَ كَثِيرَةً.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ، أَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ: دَخَلَ مُعَاوِيَةُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: مَا حَمَلَكَ عَلَى قَتْلِ أَهْلِ عَذْرَاءَ حُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ ؟ فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي قَتْلِهِمْ صَلَاحًا لِلْأُمَّةِ، وَفِي بَقَائِهِمْ فَسَادًا لِلْأُمَّةِ. فَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " سَيُقْتَلُ بِعَذْرَاءَ أُنَاسٌ يَغْضَبُ اللَّهُ لَهُمْ وَأَهْلُ السَّمَاءِ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ مُنْقَطِعٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، أَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّهُ سَيُقْتَلُ بِعَذْرَاءَ أُنَاسٌ يَغْضَبُ اللَّهُ لَهُمْ وَأَهْلُ السَّمَاءِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي ابْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ،

حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيرٍ الْغَافِقِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، سَيُقْتَلُ مِنْكُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ بِعَذْرَاءَ، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ. قَالَ: فَقُتِلَ حُجْرٌ وَأَصْحَابُهُ. ابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ فِي السُّوقِ، فَنُعِيَ لَهُ حُجْرٌ، فَأَطْلَقَ حُبْوَتَهُ، وَقَامَ وَغَلَبَ عَلَيْهِ النَّحِيبُ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا، عَنْ عَفَّانَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: أَقَتَلْتَ حُجْرًا ؟ فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي وَجَدْتُ قَتْلَ رَجُلٍ فِي صَلَاحِ النَّاسِ خَيْرًا مِنِ اسْتِحْيَائِهِ فِي فَسَادِهِمْ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَا مُعَاوِيَةُ، قَتَلْتَ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ وَفَعَلْتَ الَّذِي فَعَلْتَ، أَمَّا خَشِيتَ أَنْ أُخَبِّئَ لَكَ رَجُلًا يَقْتُلُكَ ؟ فَقَالَ: لَا، إِنِّي فِي بَيْتِ الْأَمَانِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

" الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ، لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ ". يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ أَنَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ حَاجَاتِكَ وَأَمْرِكَ ؟ قَالَتْ: صَالِحٌ. قَالَ: فَدَعِينِي وَحُجْرًا حَتَّى نَلْتَقِيَ عِنْدَ رَبِّنَا، عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا حَجَبَتْهُ وَقَالَتْ: لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَبَدًا. فَلَمْ يَزَلْ يَتَلَطَّفُ حَتَّى دَخَلَ، فَلَامَتْهُ فِي قَتْلِهِ حُجْرًا، فَلَمْ يَزَلْ يَعْتَذِرُ حَتَّى عَذَرَتْهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا كَانَتْ تَتَوَعَّدُهُ وَتَقُولُ: لَوْلَا يَغْلِبُنَا سُفَهَاؤُنَا لَكَانَ لِي وَلِمُعَاوِيَةَ فِي قَتْلِهِ حُجْرًا شَأْنٌ. فَلَمَّا اعْتَذَرَ إِلَيْهَا عَذَرَتْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى زِيَادٌ عَلَى خُرَاسَانَ بَعْدَ مَوْتِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو، الرَّبِيعَ بْنَ زِيَادٍ الْحَارِثِيَّ، فَفَتَحَ بَلْخَ صُلْحًا، وَكَانُوا قَدْ أَغْلَقُوهَا بَعْدَمَا صَالَحَهُمُ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَفَتَحَ قُوهِسْتَانَ عَنْوَةً، وَكَانَ عِنْدَهَا أَتْرَاكٌ فَقَتَلَهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا نَيْزَكُ طَرْخَانَ، فَقَتَلَهُ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي. وَفِيهَا غَزَا الرَّبِيعُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَغَنِمَ وَسَلِمَ، وَكَانَ قَدْ قَطَعَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ قَبْلَهُ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ شَرِبَ مِنَ النَّهْرِ غُلَامٌ لِلْحَكَمِ، فَسَقَى سَيِّدَهُ، وَتَوَضَّأَ الْحَكَمُ وَصَلَّى وَرَاءَ النَّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَلَمَّا كَانَ الرَّبِيعُ هَذَا غَزَا مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَغَنِمَ وَسَلِمَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، فِيمَا قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ.

وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظِمِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَكَابِرِ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ، وَحَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَحُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَنِيسٍ، وَأَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ الثَّقَفِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَأَمَّا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ
فَأَسْلَمَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ عَشْرٍ، وَكَانَ قُدُومُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، وَكَانَ قَدْ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: " إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْفَجِّ مِنْ خَيْرِ ذِي يَمَنٍ، وَإِنَّ عَلَى وَجْهِهِ مَسْحَةَ مَلَكٍ ". فَلَمَّا دَخَلَ جَرِيرٌ رَمَاهُ النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ يَنْظُرُونَ. وَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى.
وَيُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَالَسَهُ بَسَطَ لَهُ رِدَاءَهُ وَقَالَ: " إِذَا جَاءَكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرَمُوهُ ". وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذِي الْخَلَصَةِ - وَهُوَ بَيْتٌ كَانَتْ تُعَظِّمُهُ دَوْسٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ - فَذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: " اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا ". فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَهَدَمَهُ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: جَرِيرٌ يُوسُفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ: رَأَيْتُ جَرِيرًا كَأَنَّ وَجْهَهُ شَقَّةُ قَمَرٍ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ جَرِيرٌ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مَعَ عُمَرَ فِي بَيْتٍ، فَاشْتَمَّ عُمَرُ مِنْ بَعْضِهِمْ رِيحًا، فَقَالَ: عَزَمْتُ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الرِّيحِ لَمَا قَامَ فَتَوَضَّأَ. فَقَالَ جَرِيرٌ أَوَ نَقُومُ كُلُّنَا فَنَتَوَضَّأَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ السَّيِّدُ كَنْتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَنِعْمَ السَّيِّدُ أَنْتَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ كَانَ عَامِلًا لِعُثْمَانَ عَلَى هَمَذَانَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ هُنَاكَ. فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ اعْتَزَلَ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِالْجَزِيرَةِ حَتَّى تُوُفِّيَ بِالسَّرَاةِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ.
وَأَمَّا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
فَأَسْلَمَ مَعَ أَبِيهِ حِينَ تَلَقَّيَاهُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَامَ الْفَتْحِ، فَلَمَّا رَدَّهُمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ لَئِنْ

لَمْ يَأْذَنْ لِي لَآخُذَنَّ بِيَدِ بُنَيَّ هَذَا فَأَذْهَبَنَّ فِي الْأَرْضِ، فَلَا يُدْرَى أَيْنَ أَذْهَبُ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَّ لَهُ وَأَذِنَ لَهُ، وَقَبِلَ إِسْلَامَهُمَا، فَأَسْلَمَا إِسْلَامًا حَسَنًا، بَعْدَ مَا كَانَ أَبُو سُفْيَانَ هَذَا يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذًى كَثِيرًا، وَشَهِدَ حُنَينًا، وَكَانَ مِمَّنْ ثَبَتَ يَوْمَئِذٍ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَأَمَّا حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ
فَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَقَاعِدِ يَتَحَدَّثَانِ بَعْدَ خَيْبَرَ. وَأَنَّهُ رَآهُ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ قِرَاءَتَهُ فِي الْجَنَّةِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ حَارِثَةَ بْنَ النُّعْمَانِ كَانَ قَدْ كُفَّ بَصَرُهُ، فَجَعَلَ خَيْطًا مِنْ مُصَلَّاهِ إِلَى بَابِ حُجْرَتِهِ، وَكَانَ يَضَعُ عِنْدَهُ مِكْتَلًا فِيهِ تَمْرٌ وَغَيْرُهُ، فَإِذَا جَاءَهُ الْمِسْكِينُ أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ، ثُمَّ أَخَذَ يُمْسِكُ

بِذَلِكَ الْخَيْطِ حَتَّى يَضَعَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْمِسْكِينِ، وَكَانَ أَهْلُهُ يَقُولُونَ لَهُ: نَحْنُ نَكْفِيكَ ذَلِكَ. فَيَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ مُنَاوَلَةَ الْمِسْكِينِ تَقِي مَيْتَةَ السُّوءِ ". وَأَمَّا حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ مَبْسُوطَةً.
وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْقُرَشِيُّ أَبُو الْأَعْوَرِ الْعَدَوِيُّ
فَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأُخْتُهُ عَاتِكَةُ زَوْجَةُ عُمَرَ، وَأُخْتُ عُمَرَ فَاطِمَةُ زَوْجَةُ سَعِيدٍ. أَسْلَمَ قَبْلَ عُمَرَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ، وَهَاجَرَا، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ.
قَالَ عُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بَيْنَ يَدَيْهِ يَتَجَسَّسَانِ أَخْبَارَ قُرَيْشٍ، فَلَمْ يَرْجِعَا حَتَّى فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ، فَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِمَا وَأَجْرِهِمَا.
وَلَمْ يَذْكُرْهُ عُمَرُ فِي أَهْلِ الشُّورَى لِئَلَّا يُحَابَى بِسَبَبِ قَرَابَتِهِ مِنْ عُمَرَ فَيُوَلَّى، فَتَرَكَهُ لِذَلِكَ، وَإِلَّا فَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ فِي جُمْلَةِ الْعَشَرَةِ، كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمُتَعَدِّدَةُ الصَّحِيحَةُ، وَلَمْ يَتَوَلَّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِلَايَةً، وَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ بِالْكُوفَةِ، وَقِيلَ: بِالْمَدِينَةِ. وَهُوَ الْأَصَحُّ.

قَالَ الْفَلَّاسُ وَغَيْرُهُ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ رَجُلًا طُوَالًا أَشْعَرَ، وَقَدْ غَسَّلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَحُمِلَ مِنَ الْعَقِيقِ عَلَى رِقَابِ الرِّجَالِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً.
وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيُّ أَبُو يَحْيَى الْمُدْنِيُّ
فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، وَشَهِدَ مَا بَعْدَهَا، وَكَانَ هُوَ وَمُعَاذٌ يَكْسِرَانِ أَصْنَامَ الْأَنْصَارِ. لَهُ فِي " الصَّحِيحِ " حَدِيثٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ. وَهُوَ الَّذِي بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ، فَقَتَلَهُ بَعُرَنَةَ، وَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِخْصَرَةً، وَقَالَ: " هَذِهِ آيَةُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " فَأَمْرَ بِهَا. فَدُفِنَتْ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانِينَ.

وَأَمَّا أَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ
بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِلَاجِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الثَّقَفِيُّ، فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ، وَيُقَالُ: كَانَ اسْمَهُ مَسْرُوحٌ. وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: أَبُو بَكْرَةَ. لِأَنَّهُ تَدَلَّى فِي بَكْرَةَ يَوْمَ الطَّائِفِ، فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلَّ مَنْ نَزَلَ مِنْ مَوَالِيهِمْ يَوْمَئِذٍ. وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ هِيَ أُمُّ زِيَادٍ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَى هُوَ وَأَخُوهُ زِيَادٌ، وَمَعَهُمَا شِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَنَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ، فَلَمَّا تَلَكَّأَ زِيَادٌ فِي الشَّهَادَةِ جَلَدَ عُمَرُ الثَّلَاثَةَ الْبَاقِينَ، ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ فَتَابُوا إِلَّا أَبَا بَكْرَةَ فَإِنَّهُ صَمَّمَ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اشْفِنِي مِنْ هَذَا الْعَبْدِ. فَنَهَرَهُ عُمَرُ وَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ لَوْ كَمَلَتِ الشَّهَادَةُ لَرَجَمْتُكَ بِأَحْجَارِكَ. وَكَانَ أَبُو بَكْرَةَ خَيْرَ هَؤُلَاءِ الشُّهُودِ، وَكَانَ مِمَّنِ اعْتَزَلَ الْفِتَنَ، فَلَمْ يَحْضُرْ شَيْئًا مِنْهَا، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: قَبْلَهَا بِسَنَةٍ. وَقِيلَ: بَعْدَهَا بِسَنَةٍ. وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ، وَكَانَ قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سَبْعٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَانَ ابْنَ أُخْتِهَا أُمِّ الْفَضْلِ لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ: تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. أَخْرَجَاهُ. وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْهَا أَنَّهُمَا كَانَا حَلَالَيْنِ. وَقَوْلُهَا مُقَدَّمٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ - وَكَانَ هُوَ السَّفِيرَ بَيْنَهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَا حَلَالَيْنِ. وَيُقَالُ: كَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ، فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ. وَتُوُفِّيتُ بِسَرَفٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ حَيْثُ بَنَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ. وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَصَلَّى عَلَيْهَا ابْنُ أُخْتِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ
فِيهَا غَزَا بِلَادَ الرُّومِ وَشَتَّى بِهَا سُفْيَانُ بْنُ عَوْفٍ الْأَزْدِيُّ، فَمَاتَ هُنَالِكَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْجُنْدِ بَعْدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ، وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي كَانَ أَمِيرَ الْغَزْوِ بِبِلَادِ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ، وَمَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ عَوْفٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ. قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَغَزَا الصَّائِفَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ. وَعُمَّالُ الْأَمْصَارِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَّالُهَا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ.

ذِكْرُ مِنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
خَالِدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ كُلَيْبٍ، أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَالْعَقَبَةَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ قِتَالَ الْحَرَورِيَّةِ، وَفِي دَارِهِ كَانَ نُزُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا مِنْ مَكَّةَ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا حَتَّى بَنَى الْمَسْجِدَ وَمَسَاكِنَهُ حَوْلَهُ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ أَبُو أَيُّوبَ أَنْزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُفْلِ الدَّارِ، ثُمَّ تَحَرَّجَ مِنْ أَنْ يَعْلُوَ فَوْقَهُ، فَسَأَلَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى الْعُلْوِ، وَيَكُونُ هُوَ وَأُمُّ أَيُّوبَ فِي السُّفْلِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ.

وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ أَبُو أَيُّوبَ الْبَصْرَةَ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَائِبَهَا، فَخَرَجَ لَهُ عَنْ دَارِهِ وَأَنْزَلَهُ بِهَا، فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ خَرَجَ لَهُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِهَا، وَزَادَهُ تُحَفًا وَخَدَمًا كَثِيرًا، وَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعِينَ عَبْدًا ; إِكْرَامًا لَهُ لِمَا كَانَ أَنْزَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَكْبَرِ الشَّرَفِ لَهُ. وَهُوَ الْقَائِلُ لِزَوْجَتِهِ أُمِّ أَيُّوبَ حِينَ قَالَتْ لَهُ: أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ ؟ فَقَالَ لَهَا: أَكُنْتِ فَاعِلَةً ذَلِكَ يَا أُمَّ أَيُّوبَ ؟ فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَهِيَ خَيْرٌ مِنْكِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا الْآيَةَ [ النُّورِ: 12 ]. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبِلَادِ الرُّومِ قَرِيبًا مِنْ سُورِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي قَبِلَهَا. وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا. وَكَانَ فِي جَيْشِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَإِلَيْهِ أَوْصَى، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا هَمَّامٌ، ثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ أَهْلِ مَكَّةَ، أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ الَّذِي غَزَا فِيهِ أَبُو أَيُّوبَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَاقْرَءُوا عَلَى النَّاسِ مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرُوهُمْ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا جَعَلَهُ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ ". وَلِيَنْطَلِقُوا بِي فَيَبْعُدُوا بِي فِي أَرْضِ الرُّومِ مَا اسْتَطَاعُوا. قَالَ: فَحَدَّثَ النَّاسَ لَمَّا مَاتَ أَبُو أَيُّوبَ، فَاسْتَلْأَمَ النَّاسُ وَانْطَلَقُوا بِجِنَازَتِهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ قَالَ: غَزَا أَبُو أَيُّوبَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ. قَالَ: فَقَالَ: إِذَا مُتُّ فَأَدْخَلُونِي فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، فَادْفِنُونِي تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ حَيْثُ تَلْقَونَ الْعَدُوَّ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخْلَ الْجَنَّةَ ". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَيَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، سَمِعْتُ أَبَا ظَبْيَانَ، فَذَكَرَهُ، وَقَالَ فِيهِ: وَسَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْلَا حَالِي هَذَا مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخْلَ الْجَنَّةَ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ قَاصُّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي صِرْمَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: قَدْ كُنْتُ كَتَمْتُ عَنْكُمْ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " لَوْلَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ لَخَلَقَ اللَّهُ قَوْمًا يُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ". وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَالَّذِي قَبِلَهُ هُوَ الَّذِي حَمَلَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ عَلَى طَرَفٍ مِنَ الْأَرْجَاءِ، وَرَكِبَ بِسَبَبِهِ أَفْعَالًا كَثِيرَةً أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي تَرْجَمَتِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ..
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَاتَ أَبُو أَيُّوبَ بِأَرْضِ الرُّومِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَدُفِنَ عِنْدَ

الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَقَبْرُهُ هُنَالِكَ يَسْتَسْقِي بِهِ الرُّومُ إِذَا قَحَطُوا. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَدْفُونٌ فِي حَائِطِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَعَلَى قَبْرِهِ مَزَارٌ وَمَسْجِدٌ، وَهُمْ يُعَظِّمُونَهُ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ. وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، ثَنَا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، ثَنَا مَيْسَرَةُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَتَوَجَّهَانِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّيَانِ، فَيَنْصَرِفُ أَحَدُهُمَا وَصَلَاتُهُ أَوزَنُ مِنْ أُحِدٍ وَيَنْصَرِفُ الْآخَرُ وَمَا تَعْدِلُ صَلَاتُهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ". فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعَدِيُّ: وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " إِذَا كَانَ أَحْسَنَهُمَا عَقْلًا ". قَالَ: وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ ؟ قَالَ: " إِذَا كَانَ أَوْرَعَهُمَا عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَأَحْرَصَهُمَا عَلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فِي التَّطَوُّعِ ".
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ وَيُوجِزَ،

فَقَالَ لَهُ: " إِذَا صَلَّيْتَ صَلَاةً فَصَلِّ صَلَاةَ مُودِّعٍ، وَلَا تَكَلَّمَنَّ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ، وَأَجْمِعِ الْيَأْسَ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ".
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ حِضَارِ بْنِ حَرْبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَنْزِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عُذْرِ بْنِ وَائِلِ بْنِ نَاجِيَةِ بْنِ جُمَاهِرِ بْنِ الْأَشْعَرِ الْأَشْعَرِيِّ الْيَمَانِيِّ، أَسْلَمَ بِبِلَادِهِ، وَقَدِمَ مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ عَامَ خَيْبَرَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ هَاجَرَ أَوَّلًا إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَلَيْسَ هَذَا بِالْمَشْهُورِ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مُعَاذٍ عَلَى الْيَمَنَ، وَاسْتَنَابَهُ عُمَرُ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَفَتَحَ تُسْتَرَ وَشَهِدَ خُطْبَةَ عُمَرَ بِالْجَابِيَةِ، وَوَلَّاهُ عُثْمَانُ الْكُوفَةَ وَكَانَ أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا خَدَعَ عَمْرٌو أَبَا مُوسَى.
وَكَانَ مِنْ قُرَّاءِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ، وَكَانَ أَحْسَنَ الصَّحَابَةِ صَوْتًا فِي زَمَانِهِ. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: مَا سَمِعْتُ صَوْتَ صَنْجٍ وَلَا بِرَبْطٍ وَلَا مِزْمَارٍ أَطْيَبَ مِنْ صَوْتِ أَبِي مُوسَى. وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ ". وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لَهُ: ذَكِّرْنَا رَبَّنَا يَا أَبَا مُوسَى.

فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْمَعُونَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَتَبَ عُمَرُ فِي وَصِيَّتِهِ أَنْ لَا يُقَرَّ لِي عَامِلٌ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ إِلَّا أَبَا مُوسَى، فَلْيُقَرَّ أَرْبَعَ سِنِينَ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظِمِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَهَا بِسَنَةٍ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ لَمَّا اعْتَزَلَ النَّاسَ بَعْدَ التَّحْكِيمِ، وَقِيلَ: بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الثَّوِيَّةُ. عَلَى مِيلَيْنِ مِنِ الْكُوفَةِ. وَكَانَ قَصِيرًا نَحِيفَ الْجِسْمِ، أَثَطَّ، أَيْ لَا لِحْيَةَ لَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا مِنَ الصَّحَابَةِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ الْمُزَنِيُّ
وَكَانَ أَحَدَ الْبَكَّائِينَ، وَأَحَدَ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ عُمَرُ إِلَى الْبَصْرَةِ لِيُفَقِّهُوا النَّاسَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ تُسْتَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ فَتْحِهَا. لَكِنِ الصَّحِيحَ مَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسَدَّدٍ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتِّينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ، وَكَانَ هُنَاكَ مَكَانٌ مِنْ

وَصَلَ إِلَيْهِ نَجَا، فَجَعَلَ يُحَاوِلُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتُرِيدُ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ وَعِنْدَكَ مَا عِنْدَكَ ؟ فَاسْتَيْقَظَ، فَعَمَدَ إِلَى عَيْبَةٍ عِنْدَهُ فِيهَا ذَهَبٌ كَثِيرٌ، فَلَمْ يُصْبِحْ عَلَيْهِ الصَّبَاحُ إِلَّا وَقَدْ فَرَّقَهَا فِي الْمَسَاكِينِ وَالْمَحَاوِيجِ وَالْأَقَارِبِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ خَلَفٍ، أَبُو نُجَيدٍ الْخُزَاعِيُّ
أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَامَ خَيْبَرَ وَشَهِدَ غَزَوَاتٍ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، اسْتَقْضَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ عَلَى الْبَصْرَةِ فَحَكَمَ بِهَا، ثُمَّ اسْتَعْفَاهُ فَأَعْفَاهُ، وَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: مَا قَدِمَ الْبَصْرَةَ رَاكِبٌ خَيْرٌ مِنْهُ.
وَقَدْ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اكْتَوَى انْقَطَعَ عَنْهُ سَلَامُهُمْ، ثُمَّ عَادُوا فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ أَيْضًا.
كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَتَ فِيهِ آيَةُ الْفِدْيَةِ فِي الْحَجِّ. مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: قَبْلَهَا بِسَنَةٍ. عَنْ خَمْسٍ أَوْ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجِ بْنِ جَفْنَةَ بْنِ قَتِيرَةَ الْكِنْدِيُّ الْخَوْلَانِيُّ الْمِصْرِيُّ
صَحَابِيٌّ

عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي التَّابِعَيْنِ مِنَ " الثِّقَاتِ "، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ شَهِدَ فَتَحَ مِصْرَ، وَهُوَ الَّذِي وَفَدَ إِلَى عُمَرَ بِفَتْحِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَشَهِدَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ قِتَالَ الْبَرْبَرِ، وَذَهَبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَئِذٍ، وَوَلِيَ حُرُوبًا كَثِيرَةً فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ عُثْمَانِيًّا فِي أَيَّامِ عَلِيٍّ بِبِلَادِ مِصْرَ، وَلَمْ يُبَايِعْ عَلِيًّا بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَمَّا أَخَذَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ مِصْرَ أَكْرَمَهُ، ثُمَّ اسْتَنَابَهُ بِهَا بَعْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَإِنَّهُ نَابَ بِهَا بَعْدَ أَبِيهِ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ عَزَلَهُ مُعَاوِيَةُ وَوَلَّى مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ هَذَا، فَلَمْ يَزَلْ بِمِصْرَ حَتَّى مَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
هَانِئُ بْنُ نِيَارٍ، أَبُو بُرْدَةَ الْبَلْوِيُّ، وَهُوَ خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ
الْمَخْصُوصُ بِذَبْحِ الْعَنَاقِ وَإِجْزَائِهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَضَاحِيِّ، وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَكَانَتْ رَايَةُ بَنِي حَارِثَةَ مَعَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ
فَفِيهَا غَزَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ أُمِّ الْحَكَمِ الثَّقَفِيُّ بِلَادَ الرُّومِ وَشَتَّى بِهَا. وَفِيهَا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ - وَعَلَيْهِمْ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ - جَزِيرَةَ رُودِسَ، فَأَقَامَ بِهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أَشَدَّ شَيْءٍ عَلَى الْكُفَّارِ، يَعْتَرِضُونَ لَهُمْ فِي الْبَحْرِ، وَيَقْطَعُونَ سَبِيلَهُمْ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُدِرُّ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ وَالْأُعْطِيَاتِ الْجَزِيلَةَ، وَكَانُوا عَلَى حَذَرٍ شَدِيدٍ مِنَ الْفِرِنْجِ، يَبِيتُونَ فِي حِصْنٍ عَظِيمٍ عِنْدَهُمْ فِيهِ حَوَائِجُهُمْ وَدَوَابُّهُمْ وَحَوَاصِلُهُمْ، وَلَهُمْ نَوَاطِيرُ عَلَى الْبَحْرِ يُنْذِرُونَهُمْ إِنْ قَدِمَ عَدُوٌّ أَوْ كَادَهُمْ أَحَدٌ وَمَا زَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ إِمَارَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَبِيهِ، فَأَقْفَلَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْجَزِيرَةِ، وَقَدْ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهَا أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَزِرَاعَاتٌ غَزِيرَةٌ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَالِي الْمَدِينَةِ. قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ الْغَسَّانِيُّ، كَمَا سَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ التَّرَاجِمِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْحَارِثِيُّ اخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهِ، وَكَانَ نَائِبَ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ فَتَأَسَّفَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ ثَارَتِ الْعَرَبُ لَهُ لَمَا قُتِلَ صَبْرًا، وَلَكِنْ أَقَرَّتِ الْعَرَبُ فَذَلَّتْ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ دَعَا اللَّهَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ، فَمَا عَاشَ إِلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى

عَمَلِهِ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الرَّبِيعِ، فَأَقَرَّهُ زِيَادٌ عَلَى ذَلِكَ، فَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَهْرَيْنِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَمَلِهِ بِخُرَاسَانَ خُلَيْدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيَّ، فَأَقَرَّهُ زِيَادٌ.
وَرُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ، وَلَهُ آثَارٌ جَيِّدَةٌ فِي فَتْحِ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَمَاتَ بِبَرْقَةَ وَالِيًا مِنْ جِهَةِ مَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلَّدٍ نَائِبِ مِصْرَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - وَيُقَالُ لَهُ زِيَادُ ابْنُ أَبِيهِ وَ: زِيَادُ ابْنُ سُمَيَّةَ. وَهِيَ أُمُّهُ - فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَطْعُونًا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَقُولُ لَهُ: إِنِّي قَدْ ضَبَطْتُ لَكَ الْعِرَاقَ بِشِمَالِي، وَيَمِينِي فَارِغَةٌ. وَهُوَ يُعَرِّضُ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَهُ عَلَى بِلَادِ الْحِجَازِ أَيْضًا، فَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ الْحِجَازِ ذَلِكَ جَاءُوا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَشَكَوْا إِلَيْهِ ذَلِكَ، وَخَافُوا أَنْ يَلِيَ عَلَيْهِمْ زِيَادٌ، فَيَعْسِفَهُمْ كَمَا عَسَفَ أَهْلَ الْعِرَاقِ، فَقَامَ ابْنُ عُمَرَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَا عَلَى زِيَادٍ وَالنَّاسُ يُؤَمِّنُونَ، فَطُعِنَ زِيَادٌ بِالْعِرَاقِ فِي يَدِهِ فَضَاقَ ذَرْعًا بِذَلِكَ، وَاسْتَشَارَ شُرَيْحًا الْقَاضِيَ فِي قَطْعِ يَدِهِ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: إِنِّي لَا أَرَى لَكَ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَجَلِّ فُسْحَةٌ لَقِيتَ اللَّهَ أَجْذَمَ قَدْ قَطَعْتَ يَدَكَ جَزَعًا مِنْ لِقَائِهِ، وَإِنْ كَانَ لَكَ أَجْلٌ بَقِيتَ فِي النَّاسِ أَجْذَمَ فَيُعَيَّرُ وَلَدُكَ بِذَلِكَ. فَصَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَرَجَ شُرَيْحٌ مِنْ عِنْدِهِ عَاتَبَهُ بَعْضُ النَّاسِ وَقَالُوا: هَلَّا تَرَكَتْهُ فَقَطَعَ يَدَهُ ؟ فَقَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ ". وَيُقَالُ: إِنَّ

زِيَادًا جَعَلَ يَقُولُ: أَأَنَامَ أَنَا وَالطَّاعُونُ فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ ؟ فَعَزَمَ عَلَى قَطْعِ يَدِهِ، فَلَمَّا جِيءَ بِالْمَكَاوِي وَالْحَدِيدِ خَافَ مِنْ ذَلِكَ، فَتَرَكَ ذَلِكَ. وَذُكِرَ أَنَّهُ جَمَعَ مِائَةً وَخَمْسِينَ طَبِيبًا لِيُدَاوُوهُ مِمَّا يَجِدُ مِنَ الْحَرِّ فِي بَاطِنِهِ، مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَطِبَّاءَ مِمَّنْ كَانَ يَطِبُّ كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ فَعَجَزُوا عَنْ رَدِّ الْقَدَرِ الْمَحْتُومِ وَالْأَمْرِ الْمَحْمُومِ، فَمَاتَ فِي ثَالِثِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ قَامَ فِي إِمْرَةِ الْعِرَاقِ خَمْسَ سِنِينَ. وَدُفِنَ بِالثَّوِيَّةِ خَارِجَ الْكُوفَةِ، وَقَدْ كَانَ بَرَزَ مِنْهَا قَاصِدًا الْحِجَازَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ مَوْتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: اذْهَبْ إِلَيْكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ، فَلَا الدُّنْيَا بَقِيَتْ لَكَ، وَلَا الْآخِرَةَ أَدْرَكْتَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ ثَعْلَبَةَ أَبُو الْمُقَوَّمِ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ أَبِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: جَمَعَ زِيَادٌ أَهْلَ الْكُوفَةِ، فَمَلَأَ مِنْهُمُ الْمَسْجِدَ وَالرَّحْبَةَ وَالْقَصْرَ ; لِيَعْرِضَهُمْ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَإِنِّي لَمَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي مِنَ الْأَنْصَارِ، وَالنَّاسُ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنْ ذَلِكَ وَفِي حَصْرٍ. قَالَ: فَهَوَّمْتُ تَهْوِيمَةً - أَيْ نَعَسْتُ نَعْسَةً - فَرَأَيْتُ شَيْئًا أَقْبَلَ طَوِيلَ الْعُنُقِ، لَهُ عُنُقٌ مِثْلَ عُنُقِ الْبَعِيرِ، أَهْدَبَ أَهْدَلَ فَقُلْتُ: مَا أَنْتَ ؟

فَقَالَ: أَنَا النَّقَّادُ ذُو الرَّقَبَةِ، بُعِثْتُ إِلَى صَاحِبِ هَذَا الْقَصْرِ. فَاسْتَيْقَظْتُ فَزِعًا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: هَلْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ ؟ قَالُوا: لَا. فَأَخْبَرْتُهُمْ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا خَارِجٌ مِنَ الْقَصْرِ فَقَالَ: إِنَّ الْأَمِيرَ يَقُولُ لَكُمْ: انْصَرِفُوا عَنِّي، فَإِنِّي عَنْكُمْ مَشْغُولٌ. وَإِذَا الطَّاعُونُ قَدْ أَصَابَهُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ زِيَادًا لَمَّا وَلِيَ الْكُوفَةَ سَأَلَ عَنْ أَعَبْدِ أَهْلِهَا، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْمُغِيرَةِ الْحِمْيَرِيُّ. فَجَاءَ بِهِ فَقَالَ لَهُ: الْزَمْ بَيْتَكَ وَلَا تَخْرُجْ مِنْهُ وَأَنَا أُعْطِيكَ مِنَ الْمَالِ مَا شِئْتَ. فَقَالَ: لَوْ أَعْطَيْتَنِي مُلْكَ الْأَرْضِ مَا تَرَكْتُ خُرُوجِي لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. فَقَالَ: الْزَمِ الْجَمَاعَةَ وَلَا تَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ. فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ تَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا.
وَلَمَّا احْتَضَرَ قَالَ لَهُ ابْنُهُ: يَا أَبَةِ، قَدْ هَيَّأْتُ لَكَ سِتِّينَ ثَوْبًا أُكَفِّنُكَ فِيهَا. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، قَدْ دَنَا مِنْ أَبِيكَ أَمْرٌ ; إِمَّا لِبَاسٌ خَيْرٌ مِنْ لِبَاسِهِ وَإِمَّا سَلْبٌ سَرِيعٌ.
وَصَعْصَعَةُ بْنُ نَاجِيَةَ بْنِ عِقَالِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعِ بْنِ دَارِمٍ الدَّارِمِيُّ
كَانَ سَيِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي الْإِسْلَامِ، يُقَالُ: إِنَّهُ أَحْيَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَوْءُودَةً. وَقِيلَ: أَرْبَعَمِائَةٍ. وَقِيلَ: سِتًّا وَتِسْعِينَ مَوْءُودَةً. فَلَمَّا أَسْلَمَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَكَ أَجْرُ ذَلِكَ إِذْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ بِالْإِسْلَامِ ".

وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا أَحْيَى الْمَوْءُودَةَ أَنَّهُ ذَهَبَ فِي طَلَبِ نَاقَتَيْنِ شَرَدَتَا لَهُ. قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا فِي اللَّيْلِ أَسِيرُ إِذَا أَنَا بِنَارٍ تُضِيءُ مَرَّةً وَتَخْبُو أُخْرَى، فَجَعَلْتُ لَا أَهْتَدِي إِلَيْهَا، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ إِنْ أَوْصَلْتَنِي إِلَيْهَا أَنْ أَدْفَعَ عَنْ أَهْلِهَا ضَيْمًا إِنْ وَجَدْتُهُ بِهِمْ. قَالَ: فَوَصَلْتُ إِلَيْهَا، وَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ يُوقِدُ نَارًا، وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مُجْتَمِعَاتٌ، فَقُلْتُ: مَا أَنْتُنَّ ؟ فَقُلْنَ: إِنَّ هَذِهِ امْرَأَةٌ قَدْ حَبَسَتْنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ، تَطْلَقُ وَلَمْ تَخْلُصْ. فَقَالَ الشَّيْخُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ: وَمَا خَبَرُكَ ؟ فَقُلْتُ: إِنِّي فِي طَلَبِ نَاقَتَيْنِ شَرَدَتَا لِي. فَقَالَ: قَدْ وَجَدْتُهُمَا، إِنَّهُمَا لَفِي إِبِلِنَا. قَالَ: فَنَزَلْتُ عِنْدَهُ. قَالَ: فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ نَزَلْتُ إِذْ قُلْنَ: وَضَعَتْ. فَقَالَ الشَّيْخُ: إِنْ كَانَ ذَكَرًا فَارْتَحِلُوا، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَلَا تُسْمِعْنَنِي صَوْتَهَا. فَقُلْتُ: عَلَامَ تَقْتُلُ وَلَدَكَ وَرِزْقُهُ عَلَى اللَّهِ ؟ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهَا. فَقُلْتُ: أَنَا أَفْتَدِيهَا مِنْكَ وَأَتْرُكُهَا عِنْدَكَ حَتَّى تَبِينَ عَنْكَ أَوْ تَمُوتَ. قَالَ: بِكَمْ ؟ قُلْتُ. بِإِحْدَى نَاقَتَيَّ. قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَبِهِمَا. قَالَ: لَا إِلَّا أَنَّ تَزِيدَنِي بَعِيرَكَ هَذَا، فَإِنِّي أَرَاهُ شَابًّا حَسَنَ اللَّوْنِ. قُلْتُ: نَعَمْ، عَلَى أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى أَهْلِي. قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِمْ، رَأَيْتُ أَنَّ الَّذِي صَنَعْتُهُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ مَنَّ بِهَا عَلَيَّ هَدَانِي إِلَيْهَا، فَجَعَلْتُ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَجِدَ مَوْءُودَةً إِلَّا افْتَدَيْتُهَا كَمَا افْتَدَيْتُ هَذِهِ. قَالَ: فَمَا جَاءَ الْإِسْلَامُ حَتَّى أَحْيَيْتُ مِائَةَ مَوْءُودَةٍ إِلَّا أَرْبَعًا، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ الْمَذْكُورِينَ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ الْغَسَّانِيُّ مَلِكُ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَهُوَ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ،

وَاسْمُهُ الْمُنْذِرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهُوَ ابْنُ مَارِيَةَ ذَاتِ الْقُرْطَيْنِ، وَهُوَ ابْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَفْنَةَ، وَاسْمُهُ كَعْبُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، وَمَارِيَةُ هِيَ بِنْتُ أَرْقَمَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَفْنَةَ، وَيُقَالُ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ، وَكُنْيَةُ جَبَلَةَ أَبُو الْمُنْذِرِ الْغَسَّانِيُّ الْجَفْنِيُّ، وَكَانَ مَلِكُ غَسَّانَ، وَهُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ أَيَّامَ هِرَقْلَ، وَغَسَّانُ أَوْلَادُ عَمِّ الْأَنْصَارِ ; أَوْسِهَا وَخَزْرَجِهَا، وَكَانَ جَبَلَةُ آخِرَ مُلُوكِ غَسَّانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا مَعَ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ وَكَتَبَ بِإِسْلَامِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ قَطُّ. وَهَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْوَاقِدِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: شَهِدَ الْيَرْمُوكَ مَعَ الرُّومِ أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ وَطِئَ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ بِدِمَشْقَ، فَلَطَمَهُ ذَلِكَ الْمُزْنِيُّ، فَرَفَعَهُ أَصْحَابُ جَبَلَةَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَقَالُوا: هَذَا لَطَمَ جَبَلَةَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَلْيَلْطِمْهُ جَبَلَةُ. فَقَالُوا: أَوَمَا يُقْتَلُ ؟ ! قَالَ: لَا. قَالُوا: فَمَا تُقْطَعُ يَدُهُ ؟ ! قَالَ: لَا، إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْقَوَدِ. فَقَالَ جَبَلَةُ أَتَرَوْنَ أَنِّي جَاعِلٌ وَجْهِي بَدَلًا لِوَجْهِ مُزَنِيٍّ جَاءَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ ؟ بِئْسَ الدِّينُ هَذَا. ثُمَّ ارْتَدَّ نَصْرَانِيًّا، وَتَرَحَّلَ بِأَهْلِهِ حَتَّى دَخَلَ أَرْضَ الرُّومِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَشَقَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ لِحَسَّانَ: إِنَّ صَدِيقَكَ جَبَلَةَ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لَطَمَهُ رَجُلٌ مِنْ مُزَيْنَةَ. فَقَالَ: وَحُقَّ لَهُ. فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ فَضَرَبَهُ بِهَا. وَرَوَاهُ

الْوَاقِدِيُّ، عَنْ مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَاقَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْكَلْبِيِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا بَلَغَهُ إِسْلَامُ جَبَلَةَ فَرِحَ بِإِسْلَامِهِ، ثُمَّ بَعَثَ يَسْتَدْعِيهِ لِيَرَاهُ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: بَلِ اسْتَأْذَنَهُ جَبَلَةُ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَرَكِبَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، قِيلَ: مِائَةٌ وَخَمْسُونَ رَاكِبًا. وَقِيلَ: خَمْسُمِائَةٍ. وَتَلَقَّتْهُ هَدَايَا عُمَرَ وَنُزُلُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِمَرَاحِلَ، وَكَانَ يَوْمُ دُخُولِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، دَخَلَهَا وَقَدْ أَلْبَسَ خُيُولَهُ قَلَائِدَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَبِسَ هُوَ تَاجًا عَلَى رَأْسِهِ، مُرَصَّعًا بِاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ، وَفِيهِ قُرْطَا مَارِيَةَ جَدَّتِهِ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَلَى عُمَرَ رَحَّبَ بِهِ عُمَرُ وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ، وَشَهِدَ الْحَجَّ مَعَ عُمَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ إِذْ وَطِئَ إِزَارَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ فَانْحَلَّ، فَرَفَعَ جَبَلَةُ يَدَهُ فَهَشَّمَ أَنْفَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ قَلَعَ عَيْنَهُ. فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ الْفَزَارِيُّ عُمَرَ، وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، فَاسْتَحْضَرَهُ عُمَرُ، فَاعْتَرَفَ جَبَلَةُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَقِدْهُ. فَقَالَ جَبَلَةُ: كَيْفَ وَأَنَا مَلِكٌ وَهُوَ سُوقَةٌ ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ جَمَعَكَ وَإِيَّاهُ، فَلَسْتَ تَفْضُلُهُ إِلَّا بِالتَّقْوَى. فَقَالَ جَبَلَةُ قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ أَكُونَ فِي الْإِسْلَامِ أَعَزَّ مِنِّي فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ عُمَرُ: دَعْ ذَا عَنْكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُرْضِ الرَّجُلَ أَقَدْتُهُ مِنْكَ. فَقَالَ: إِذَنْ أَتَنَصَّرَ. فَقَالَ: إِنْ تَنَصَّرْتَ ضَرَبْتُ عُنُقَكَ. فَلَمَّا رَأَى الْجِدَّ قَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي هَذِهِ اللَّيْلَةَ. فَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ، فَلَمَّا ادْلَهَمَّ اللَّيْلُ رَكِبَ

فِي قَوْمِهِ وَمَنْ أَطَاعَهُ، فَسَارَ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ دَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ، وَدَخَلَ عَلَى هِرَقْلَ فِي مَدِينَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَرَحَّبَ بِهِ هِرَقْلُ وَأَقْطَعَهُ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَأَجْرَى عَلَيْهِ أَرْزَاقًا جَزِيلَةً، وَأَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا جَمِيلَةً، وَجَعَلَهُ مِنْ سُمَّارِهِ، فَمَكَثَ عِنْدَهُ دَهْرًا ; ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى هِرَقْلَ مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: جَثَّامَةُ بْنُ مُسَاحِقٍ الْكِنَانِيُّ. فَلَمَّا بَلَغَ هِرَقْلَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ هِرَقْلُ: هَلْ لَقِيتَ ابْنَ عَمِّكَ جَبَلَةَ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَالْقَهُ. فَذَكَرَ اجْتِمَاعَهُ بِهِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ وَالْحُبُورِ الدُّنْيَوِيِّ، فِي لِبَاسِهِ وَفَرْشِهِ وَمَجْلِسِهِ وَطِيبِهِ، وَجَوَارِيهِ حَوَالَيْهِ الْحِسَانِ مِنَ الْخَدَمِ وَالْقِيَانِ، وَمَطْعَمِهِ وَشَرَابِهِ وَسُرُرِهِ وَدَارِهِ الَّتِي تَعَوَّضَ بِهَا عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْعَوْدِ إِلَى الشَّامِ فَقَالَ: أَبْعَدَ مَا كَانَ مِنِّي مِنَ الِارْتِدَادِ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ ارْتَدَّ وَقَاتَلَهُمْ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إِلَى الْحَقِّ قَبِلُوهُ مِنْهُ، وَزَوَّجَهُ الصِّدِّيقُ بِأُخْتِهِ أُمِّ فَرْوَةَ. قَالَ: فَالْتَهَى عَنْهُ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْخَمْرَ فَأَبَى عَلَيْهِ، وَشَرِبَ جَبَلَةُ مِنَ الْخَمْرِ شَيْئًا كَثِيرًا حَتَّى سَكِرَ، ثُمَّ أَمَرَ جَوَارِيَهُ الْقِيَانَ، فَغَنَّيْنَهُ بِالْعِيدَانِ مِنْ قَوْلِ حَسَّانَ، يَمْدَحُ بَنِي عَمِّهِ مِنْ غَسَّانَ، وَالشِّعْرُ فِي وَالِدِ جَبَلَةَ هَذَا الْحَيَوَانِ.
لِلَّهِ دَرُّ عِصَابَةٍ نَادَمْتُهُمْ يَوْمًا بِجِلَّقَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ أَوْلَادِ جَفْنَةَ حَوْلَ قَبْرِ أَبِيهُمُ
قَبْرِ ابْنِ مَارِيَةَ الْكَرِيمِ الْمُفْضِلِ

يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ الْبَرِيصَ عَلَيْهِمُ
صَهْبًا تُصَفَّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ بِيضِ الْوُجُوهِ كَرَيْمَةٍ أَحْسَابُهُمْ
شُمِّ الْأُنُوفِ مِنَ الطِّرَازِ الْأَوَّلِ يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلَابُهُمْ
لَا يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوَادِ الْمُقْبِلِ
قَالَ: فَأَعْجَبَهُ قَوْلُهُنَّ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا شِعْرُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ فِينَا وَفِي مُلْكِنَا، ثُمَّ قَالَ لِي: كَيْفَ حَالُ حَسَّانَ ؟ قُلْتُ لَهُ: تَرَكْتُهُ ضَرِيرًا شَيْخًا كَبِيرًا. ثُمَّ قَالَ لَهُنَّ: أَطْرِبْنَنِي. فَانْدَفَعْنَ يُغَنِّينَ بِقَوْلِ حَسَّانَ أَيْضًا:
لِمَنِ الدَّارُ أَقْفَرَتْ بِمَعَانِ بَيْنَ فَرْعِ الْيَرْمُوكِ فَالصَّمَّانِ
فَالْقُرَيَّاتِ مِنْ بَلَاسَ فَدَارَيَّا فَسَكَّاءَ فَالْقُصُورِ الدَّوَانِي
فَحِمَى جَاسِمٍ إِلَى مَرْجِ ذِي الصُّفَّرِ مَغْنَى قَبَائِلٍ وَهِجَانِ
تِلْكَ دَارُ الْعَزِيزِ بَعْدَ أَلُوفٍ وَحُلُولٍ عَظِيمَةِ الْأَرْكَانِ
صَلَوَاتُ الْمَسِيحِ فِي ذَلِكَ الدَّيْ رِ دُعَاءُ الْقِسِّيسِ وَالرُّهْبَانِ
ذَاكَ مَغْنًى لِآلِ جَفْنَةَ فِي الدَّهْ رِ مَحَاهُ تَعَاقُبُ الْأَزْمَانِ
فَأُرَانِي هُنَاكَ حَقَّ مَكِينٍ عِنْدَ ذِي التَّاجِ مَجْلِسِي وَمَكَانِي
ثَكِلَتْ أُمُّهُمْ وَقَدْ ثَكِلَتْهُمْ يَوْمَ حَلُّوًا بِحَارِثِ الْجَوْلَانِ

قَدْ - دَنَا الْفِصْحُ فَالْوَلَائِدُ يَنْظِمْ نَ سِرَاعًا أَكِلَّةَ الْمَرْجَانِ
قَالَ: هَذَا لِابْنِ الْفُرَيْعَةِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، فِينَا وَفِي مُلْكِنَا وَفِي مَنَازِلِنَا بِأَكْنَافِ غُوطَةِ دِمَشْقَ. قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ لَهُنَّ: بَكِّينَنِي. فَوَضَعْنَ عِيدَانَهُنَّ وَنَكَّسْنَ رُءُوسَهُنَّ وَقُلْنَ:
تَنَصَّرَتِ الْأَشْرَافُ مِنْ عَارِ لَطْمَةٍ وَمَا كَانَ فِيهَا لَوْ صَبَرْتُ لَهَا ضَرَرْ
تَكَنَّفَنِي فِيهَا لَجَاجٌ وَنَخْوَةٌ وَبِعْتُ بِهَا الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ بِالْعَوَرْ
فَيَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي وَلَيْتَنِي رَجَعْتُ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي قَالَهُ عُمَرْ
وَيَا لَيْتَنِي أَرْعَى الْمَخَاضَ بِقَفْرَةٍ وَكُنْتُ أَسِيرًا فِي رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرْ
وَيَا لَيْتَ لِي بِالشَّامِ أَدْنَى مَعِيشَةٍ أُجَالِسُ قَوْمِي ذَاهِبَ السَّمْعِ وَالْبَصَرْ
أَدِينُ بِمَا دَانُوا بِهِ مِنْ شَرِيعَةٍ وَقَدْ يَصْبِرُ الْعَوْدُ الْكَبِيرُ عَلَى الدَّبَرْ
قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ بِدُمُوعِهِ، وَبَكَيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ هِرَقْلِيَّةٍ، فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ فَأَوْصِلْهَا إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. وَجَاءَ بِأُخْرَى فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ لَكَ. فَقُلْتُ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، وَلَا أَقْبَلُ مِنْكَ شَيْئًا وَقَدِ ارْتَدَدْتَ عَنِ الْإِسْلَامِ. فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَضَافَهَا إِلَى الَّتِي لِحَسَّانَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ هِرَقْلِيَةٍ، ثُمَّ قَالَ لِي: أَبْلِغْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنِّي السَّلَامَ وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ. فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ أَخْبَرْتُهُ خَبَرَهُ، فَقَالَ: وَرَأَيْتَهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ، تَعَجَّلَ فَانِيَةً بِبَاقِيَةٍ، فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَمَا الَّذِي وَجَّهَ بِهِ لِحَسَّانَ ؟ قُلْتُ:

خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ هِرَقْلِيَّةٍ، فَدَعَا حِسَانًا فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَأَخَذَهَا وَوَلَّى وَهُوَ يَقُولُ:
إِنَّ ابْنَ جَفْنَةَ مِنْ بَقِيَّةِ مَعْشَرٍ لَمْ يَغْذُهُمْ آبَاؤُهُمْ بِاللُّومِ
لَمْ يَنْسَنِي بِالشَّامِ إِذْ هُوَ رَبُّهَا كَلًّا وَلَا مُتَنَصِّرًا بِالرُّومِ
يُعْطِي الْجَزِيلَ وَلَا يَرَاهُ عِنْدَهُ إِلَّا كَبَعْضِ عَطِيَّةِ الْمَحْرُومِ
وَأَتَيْتُهُ يَوْمًا فَقَرَّبَ مَجْلِسِي وَسَقَى فَرَوَّانِي مِنَ الْخُرْطُومِ
ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ بَعَثَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ رَسُولًا إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، فَاجْتَمَعَ بِجَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ، فَرَأَى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأَمْوَالِ ; مِنَ الْخَدَمِ وَالْحَشَمِ وَالذَّهَبِ وَالْخُيُولِ، فَقَالَ لَهُ جَبَلَةُ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ يُقْطِعُنِي أَرْضَ الْبَثْنِيَّةِ فَإِنَّهَا مَنَازِلُنَا، وَعِشْرِينَ قَرْيَةً مِنْ غُوطَةِ دِمَشْقَ وَيَفْرِضُ لِجَمَاعَتِنَا، وَيُحْسِنُ جَوَائِزَنَا، لَرَجَعْتُ إِلَى الشَّامِ. فَأَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعَدَةَ مُعَاوِيَةَ بِقَوْلِهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنَا أُعْطِيهُ ذَلِكَ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا مَعَ الْبَرِيدِ بِذَلِكَ، فَمَا أَدْرَكَهُ الْبَرِيدُ إِلَّا وَقَدْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَذَكَرَ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظِمِ "، وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ هَذِهِ السَّنَةَ، أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " فَأَطَالَ التَّرْجَمَةَ وَأَفَادَ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: بَلَغَنِي أَنَّ جَبَلَةَ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بِأَرْضِ الرُّومِ، بَعْدَ سَنَةِ أَرْبَعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ
وَفِيهَا شَتَّى مُحَمَّدُ بْنُ مَالِكٍ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَغَزَا الصَّائِفَةَ مَعْنُ بْنُ يَزِيدَ السُّلَمِيُّ. وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَرَدَّ إِلَيْهَا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَهْدِمَ دَارَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَيَصْطَفِي أَمْوَالَهُ الَّتِي بِأَرْضِ الْحِجَازِ، فَجَاءَ مَرْوَانُ إِلَى دَارِ سَعِيدٍ لِيَهْدِمَهَا فَقَالَ سَعِيدٌ: مَا كُنْتَ لِتَفْعَلَ ذَلِكَ. فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَتَبَ إِلَيَّ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْكَ فِي دَارِي لَفَعَلْتَهُ. فَقَامَ سَعِيدٌ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ كِتَابَ مُعَاوِيَةَ إِلَيْهِ حِينَ وَلَّاهُ الْمَدِينَةَ أَنْ يَهْدِمَ دَارَ مَرْوَانَ وَيَصْطَفِيَ أَمْوَالَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُجَاحِفُ دُونَهُ حَتَّى صَرَفَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَلَمَّا رَأَى مَرْوَانُ الْكُتُبَ إِلَى سَعِيدٍ بِذَلِكَ، ثَنَاهُ ذَلِكَ عَنْ دَارِ سَعِيدٍ، وَعَنْ أَخْذِ مَالِهِ، وَلَمْ يَزَلْ يُدَافِعُ عَنْهُ حَتَّى تَرَكَهُ مُعَاوِيَةُ فِي دَارِهِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ أَمْوَالَهُ.
وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ عَنِ الْبَصْرَةِ وَكَانَ زِيَادٌ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهَا، فَأَقَرَّهُ مُعَاوِيَةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ سُمْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَطَعْتُ اللَّهَ كَمَا أَطَعْتُ مُعَاوِيَةَ لَمَا عَذَّبَنِي أَبَدًا. وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنْهُ. وَأَقَرَّ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ

عَلَى نِيَابَةِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ زِيَادٌ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهَا. وَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَكْرَمَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ نُوَّابِ أَبِيهِ عَلَى الْبِلَادِ، فَأَخْبَرَهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ وَلَّاهُ إِمْرَةَ خُرَاسَانَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَسَارَ إِلَى مُقَاطَعَتِهِ، وَتَجَهَّزَ مِنْ فَوْرِهِ غَادِيًا إِلَيْهَا، فَقَطَعَ النَّهْرَ إِلَى جِبَالِ بُخَارَى، فَفَتَحَ رَامِيثَنَ وَنِصْفَ بَيْكَنْدَ - وَهُمَا مِنْ مُعَامَلَةِ بُخَارَى - وَلَقِيَ التُّرْكَ هُنَاكَ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَهَزَمَهُمْ هَزِيمَةً فَظِيعَةً، بِحَيْثُ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَعْجَلُوا امْرَأَةَ الْمَلِكِ أَنَّ تَلْبِسَ خُفَّيْهَا، فَلَبِسَتْ وَاحِدَةً وَتَرَكَتِ الْأُخْرَى، فَأَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ فَقَوَّمُوا جَوْرَبَهَا بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَغَنِمُوا مَعَ ذَلِكَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَأَقَامَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِخُرَاسَانَ سَنَتَيْنِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ. وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ عَلَيْهَا الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ. وَكَانَ عَلَى الْبَصْرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الْكَلْبِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ
مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ مَوْلَاهُ، وَحِبُّهُ وَابْنُ حِبِّهِ، وَأُمُّهُ بَرَكَةُ أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَاضِنَتُهُ، وَلَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِمْرَةَ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمْرَتِهِ، فَقَالَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَايْمُ اللَّهِ إِنَّ كَانَ لَخَلِيقًا بِالْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ ".
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُجْلِسُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ، وَيُجْلِسُ أُسَامَةَ عَلَى فَخْذِهِ الْأُخْرَى وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا ". وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمْرُهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ عُمَرُ إِذَا لَقِيَهُ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ. وَصَحَّحَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ تُوُفِّيَ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثَوْبَانُ بْنُ بُجْدُدٍ
مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي الْمَوَالِي، وَمَنْ كَانَ يَخْدُمُهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. أَصْلُ ثَوْبَانَ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَصَابَهُ سِبَاءٌ، فَاشْتَرَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْتَقَهُ، فَلَزِمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفَرًا وَحَضَرًا، فَلَمَّا مَاتَ أَقَامَ بِالرَّمْلَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى حِمْصٍ فَابْتَنَى بِهَا دَارَا، وَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَهُوَ غَلَطٌ.

وَيُقَالُ إِنَّهُ تُوُفِّيَ بِمِصْرَ. وَالصَّحِيحُ بِحِمْصَ.
جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ
تَقَدَّمَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ. سَنَةَ خَمْسِينَ.
الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: اسْمُهُ النُّعْمَانُ بْنُ رِبْعِيٍّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَمْرُو بْنُ رِبْعِيٍّ. وَهُوَ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ الْمَدَنِيُّ فَارِسُ الْإِسْلَامِ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، وَكَانَ لَهُ يَوْمَ ذِي قَرَدٍ سَعْيٌ مَشْكُورٌ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: " خَيْرُ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ ". وَزَعَمَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَلَيْسَ هَذَا بِمَعْرُوفٍ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: أَخْبَرَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَمَّارٍ: " تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ".
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - يَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ - بِالْمَدِينَةِ عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً. وَزَعَمَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَهَذَا غَرِيبٌ.
حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ أَبُو خَالِدٍ الْمَكِّيُّ
وَأُمُّهُ فَاخِتَةُ بِنْتُ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ

بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَعَمَّتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمُّ أَوْلَادِهِ سِوَى إِبْرَاهِيمَ. وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ قَبْلَ الْفِيلِ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ; وَذَلِكَ أَنَّهَا دَخَلَتِ الْكَعْبَةَ تَزُورُ، فَضَرَبَهَا الطَّلْقُ، فَوَضَعَتْهُ عَلَى نِطْعٍ.
وَكَانَ شَدِيدَ الْمَحَبَّةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمَّا كَانَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي الشِّعْبِ لَا يُبَايَعُونَ وَلَا يُنَاكَحُونَ، كَانَ حَكِيمٌ يُقْبِلُ بِالْعِيرِ تَقْدَمُ مِنَ الشَّامِ فَيَشْتَرِيهَا مَكَانَهَا، ثُمَّ يَذْهَبُ بِهَا، فَيَضْرِبُ أَدْبَارَهَا حَتَّى تَلِجَ الشِّعْبَ تَحْمِلُ الطَّعَامَ وَالْكِسْوَةَ ; تَكْرِمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَهُوَ الَّذِي اشْتَرَى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ أَوَّلًا، فَابْتَاعَتْهُ مِنْهُ عَمَّتُهُ خَدِيجَةُ، فَوَهَبَتْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْتَقَهُ. وَهُوَ الَّذِي اشْتَرَى حُلَّةَ ذِي يَزَنَ، فَأَهْدَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِسَهَا. قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ فِيهَا. وَمَعَ هَذَا مَا أَسْلَمَ إِلَّا يَوْمَ الْفَتْحِ هُوَ وَأَوْلَادُهُ كُلُّهُمْ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: عَاشَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَفِي الْإِسْلَامِ سِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ وَكُرَمَائِهِمْ وَأَعْلَمِهِمْ بِالنَّسَبِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْبِرِّ وَالْعَتَاقَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: " أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ ". وَقَدْ كَانَ حَكِيمٌ شَهِدَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بَدْرًا، وَتَقَدَّمَ إِلَى

الْحَوْضِ، فَكَادَ حَمْزَةُ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَمَا سُحِبَ إِلَّا سَحْبًا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَلِهَذَا كَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ يَقُولُ: لَا وَالَّذِي نَجَّانِي يَوْمَ بَدْرٍ. وَلَمَّا نَزَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَمَعَهُ الْجُنُودُ خَرَجَ حَكِيمٌ وَأَبُو سُفْيَانَ يَتَجَسَّسَانِ الْأَخْبَارَ، فَلَقِيَهُمَا الْعَبَّاسُ، فَأَخَذَ أَبَا سُفْيَانَ فَأَجَارَهُ، وَأَخَذَ لَهُ أَمَانًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ لَيْلَتَئِذٍ كُرْهًا وَمِنْ صَبِيحَةِ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَسْلَمَ حَكِيمٌ، وَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَينًا، وَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: " يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالُ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّهُ مَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ ". فَقَالَ حَكِيمٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا. فَلَمْ يَرْزَأْ أَحَدًا بَعْدَهُ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى، وَكَذَلِكَ عُمَرُ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى، فَكَانَ عُمَرُ يُشْهِدُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَعَ هَذَا كَانَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ ; مَاتَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ مَاتَ وَلِحَكِيمٍ عَلَيْهِ مِائَةُ أَلْفٍ.
وَقَدْ كَانَ بِيَدِهِ، حِينَ أَسْلَمَ، الرِّفَادَةُ وَدَارُ النَّدْوَةِ، فَبَاعَهَا بَعْدُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِعْتَ مَكْرُمَةَ قُرَيْشٍ ؟ فَقَالَ لَهُ حَكِيمٌ: ذَهَبَتِ الْمَكَارِمُ إِلَّا التَّقْوَى، يَا ابْنَ أَخِي، إِنِّي اشْتَرَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِزِقِّ خَمْرٍ، وَلَأَشْتَرِيَنَّ بِهَا دَارًا فِي الْجَنَّةِ، أُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُهَا فِي

سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الدَّارُ كَانَتْ لِقُرَيْشٍ بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْعَدْلِ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا وَقَدْ صَارَ سِنُّهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، إِلَّا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، فَإِنَّهُ دَخَلَهَا وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ.
وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ أَنَّ حَكِيمًا حَجَّ عَامًا، فَأَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةٍ مُجَلِّلَةٍ، وَأَلْفَ شَاةٍ، وَأَوْقَفَ مَعَهُ بِعَرَفَاتٍ مِائَةَ وَصَيْفٍ فِي أَعْنَاقِهِمْ أَطَوِقَةُ الْفِضَّةِ، وَقَدْ نُقِشَ فِيهَا: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ. فَأَعْتَقَهُمْ وَأَهْدَى جَمِيعَ تِلْكَ الْأَنْعَامِ. رِضَى اللَّهِ عَنْهُ. تُوُفِّيِّ حَكِيمٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ.، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمَرِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى الْعَامِرِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَكَانَ قَدْ عُمِّرَ دَهْرًا طَوِيلًا، وَلِهَذَا جَعَلَهُ عُمَرُ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ جَدَّدُوا أَنْصَابَ الْحَرَمِ، وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَرَأَى الْمَلَائِكَةَ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَشَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَسَعَى فِي الصُّلْحِ، فَلَمَّا كَانَ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ كَانَ هُوَ وَسُهَيْلٌ هُمَا اللَّذَانِ أَمَرَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ لَا تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَبِمَكَّةَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ: وَفِي كُلِّ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ أَهُمُّ بِالْإِسْلَامِ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا مَا يُرِيدُ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الْفَتْحِ خِفْتُ خَوْفًا شَدِيدًا وَهَرَبْتُ، فَلَحِقَنِي أَبُو ذَرٍّ، وَكَانَ لِي خَلِيلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: يَا حُوَيْطِبُ، مَا لَكَ ؟ فَقُلْتُ: خَائِفٌ. فَقَالَ: لَا تَخَفْ ; فَإِنَّهُ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُ النَّاسِ، وَأَنَا جَارٌ لَكَ،

فَاقْدَمْ مَعِي. فَرَجَعْتُ مَعَهُ، فَوَقَفَ بِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَقَدْ عَلَّمَنِي أَبُو ذَرٍّ أَنْ أَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَلَمَّا قُلْتُ ذَلِكَ قَالَ: " حُوَيْطِبٌ ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ ". وَسُرَّ بِذَلِكَ وَاسْتَقْرَضَنِي مَالًا، فَأَقْرَضْتُهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَشَهِدْتُ مَعَهُ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ، وَأَعْطَانِي مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ مِائَةَ بَعِيرٍ ثُمَّ قَدِمَ حُوَيْطِبٌ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَهَا، وَلَهُ بِهَا دَارٌ. وَلَمَّا وَلِيَ عَلَيْهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ جَاءَهُ حُوَيْطِبٌ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَجَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ عِنْدَهُ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا، ثُمَّ اجْتَمَعَ حُوَيْطِبٌ بِمَرْوَانَ يَوْمًا آخَرَ، فَسَأَلَهُ مَرْوَانُ عَنْ عُمْرِهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: تَأَخَّرَ إِسْلَامُكَ أَيُّهَا الشَّيْخُ حَتَّى سَبَقَكَ الْأَحْدَاثُ. فَقَالَ حُوَيْطِبٌ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ بِالْإِسْلَامِ غَيْرَ مَرَّةٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَعُوقُنِي أَبُوكَ يَقُولُ: تَضَعُ شَرَفَكَ وَتَدَعُ دِينَ آبَائِكَ لِدِينٍ مُحْدَثٍ وَتَصِيرُ تَابِعًا ؟ قَالَ: فَأَسْكَتَ مَرْوَانُ وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ قَالَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ حُوَيْطِبٌ: أَمَا كَانَ أَخْبَرَكَ عُثْمَانُ مَا كَانَ لَقِيَ مِنْ أَبِيكَ حِينَ أَسْلَمَ ؟ قَالَ: فَازْدَادَ مَرْوَانُ غَمًّا. وَكَانَ حُوَيْطِبٌ مِمَّنْ شَهِدَ دَفْنَ عُثْمَانَ. وَاشْتَرَى مِنْهُ مُعَاوِيَةُ دَارَهُ بِمَكَّةَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَاسْتَكْثَرَهَا النَّاسُ، فَقَالَ حُوَيْطِبٌ: وَمَا هِيَ فِي رَجُلٍ لَهُ خَمْسَةٌ مِنَ الْعِيَالِ ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ حُوَيْطِبٌ حَمِيدَ

الْإِسْلَامِ، وَكَانَ أَكْثَرَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ رَبْعًا جَاهِلِيًّا. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: عَاشَ حُوَيْطِبٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَفِي الْإِسْلَامِ سِتِّينَ سَنَةً، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْمَدِينَةِ وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: تُوُفِّيَ بِالشَّامِ. لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ عَنْ عُمَرَ فِي الْعُمَالَةِ، وَهُوَ مِنْ عَزِيزِ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ أَرْبَعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ.
سَعِيدُ بْنُ يَرْبُوعِ بْنِ عَنْكَثَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ
أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا، وَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسِينَ مِنَ الْإِبِلِ، وَكَانَ اسْمُهُ صُرْمًا، وَفِي رِوَايَةٍ: أَصْرَمَ، فَسَمَّاهُ سَعِيدًا، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ النَّفَرِ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ عُمَرُ بِتَجْدِيدِ أَنْصَابِ الْحَرَمِ، وَقَدْ أُصِيبَ بَصَرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَتَاهُ عُمَرُ يُعَزِّيهِ فِيهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَخَلِيفَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْمَدِينَةِ - وَقِيلَ: بِمَكَّةَ - وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.
مُرَّةُ بْنُ شُرَاحِيلَ الْهَمْدَانِيُّ
وَيُقَالُ لَهُ: مُرَّةُ الطَّيِّبُ، وَمُرَّةُ الْخَيْرِ. رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ. كَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ، فَلَمَّا كَبُرَ صَلَّى أَرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَجَدَ حَتَّى أَكَلَ التُّرَابُ جَبْهَتَهُ، فَلَمَّا مَاتَ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ الْمَكَانُ نُورًا، فَقِيلَ لَهُ: أَيْنَ مَنْزِلُكَ ؟ فَقَالَ: بِدَارٍ لَا يَظْعَنُ أَهْلُهَا وَلَا يَمُوتُونَ.
النُّعَيْمَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَفَاعَةَ بْنِ الْحَارِثِ
شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُؤْتَى بِهِ فِي الشَّرَابِ فَيَجْلِدُهُ النَّبِيُّ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَعَنَهُ اللَّهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَلْعَنُهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ".
سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ الْقُرَشِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ، أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ
تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ خَدِيجَةَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ السَّكْرَانِ بْنِ عَمْرٍو أَخِي سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فَلَمَّا كَبِرَتْ هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَلَاقِهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ طَلَّقَهَا. فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُبْقِيَهَا فِي نِسَائِهِ وَتَهَبَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهَا وَأَبْقَاهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:

وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا الْآيَةَ [ النِّسَاءِ: 128 ]. وَكَانَتْ ذَاتَ عِبَادَةٍ وَوَرَعٍ وَزَهَادَةٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا مِنِ امْرَأَةٍ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ فِي مِسْلَاخِهَا إِلَّا سَوْدَةَ، إِلَّا أَنَّ فِيهَا حِدَّةً تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ. ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتُهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: تُوُفِّيَتْ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ
فِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ عَنِ الْبَصْرَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ وَكَانَ سَبَبَ عَزْلِهِ عَنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَحَصَبَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضَبَّةَ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ، فَجَاءَ قَوْمُهُ إِلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّهُ مَتَى بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّكَ قَطَعْتَ يَدَهُ فِي هَذَا الصُّنْعِ، فَعَلَ بِهِ وَبِقَوْمِهِ نَظِيرَ مَا فَعَلَ بِحُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، فَاكْتُبْ لَنَا كِتَابًا أَنَّكَ قَطَعْتَ يَدَهُ فِي شُبْهَةٍ. فَكَتَبَ لَهُمْ، فَتَرَكُوهُ عِنْدَهُمْ حِينًا، ثُمَّ جَاءُوا مُعَاوِيَةَ، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ نَائِبَكَ قَطَعَ يَدَ صَاحِبِنَا فِي شُبْهَةٍ فَأَقِدْنَا مِنْهُ. فَقَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَى الْقَوْدِ مِنْ نُوَّابِي وَلَكِنِ الدِّيَةُ. فَأَعْطَاهُمُ الدِّيَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَعَزَلَ ابْنَ غَيْلَانَ، وَقَالَ لَهُمُ: اخْتَارُوا مَنْ تُرِيدُونَ أُوَلِّيهِ عَلَيْكُمْ. فَذَكَرُوا رِجَالًا، فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أُوَلِّي عَلَيْكُمُ ابْنَ أَخِي عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ فَوَلَّاهُ، فَاسْتَخْلَفَ ابْنُ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ أَسْلَمَ بْنَ زُرْعَةَ، فَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يَفْتَحْ شَيْئًا، وَوَلَّى قَضَاءَ الْبَصْرَةِ لِزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى ابْنَ أُذَيْنَةَ الْعَبْدِيَّ، وَوَلَّى شُرْطَتَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حِصْنٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ. وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ عَنِ الْكُوفَةِ وَوَلَّى عَلَيْهَا الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
الْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ
أَسْلَمَ قَدِيمًا، يُقَالُ: سَابِعُ سَبْعَةٍ. وَكَانَتْ دَارُهُ كَهْفًا لِلْمُسْلِمِينَ، يَأْوِي إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَتْ عِنْدَ الصَّفَا، وَقَدْ صَارَتْ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمَهْدِيِّ، فَوَهَبَهَا لِامْرَأَتِهِ الْخَيْزُرَانِ أُمِّ مُوسَى الْهَادِي وَهَارُونَ الرَّشِيدِ، فَبَنَتْهَا وَجَدَّدَتْهَا، فَعُرِفَتْ بِهَا، ثُمَّ صَارَتْ لِغَيْرِهَا. وَقَدْ شَهِدَ الْأَرْقَمُ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَوْصَى بِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَهُ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
سَحْبَانُ بْنُ زُفْرَ بْنِ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ الْأَحَبِّ الْبَاهِلِيُّ الْوَائِلِيُّ
الَّذِي يُضْرَبُ بِفَصَاحَتِهِ الْمَثَلُ، فَيُقَالُ: أَفْصَحُ مِنْ سَحْبَانِ وَائِلٍ. وَوَائِلٌ هُوَ ابْنُ مَعْنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَعْصُرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ، وَبَاهِلَةُ امْرَأَةُ مَالِكِ بْنِ أَعْصُرَ، يُنْسَبُ إِلَيْهَا وَلَدُهَا، وَهِيَ بَاهِلَةُ بَنْتُ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ.

قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: سَحْبَانُ الْمَعْرُوفُ بِسَحْبَانِ وَائِلٍ، بَلَغَنِي أَنَّهُ وَفَدَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَتَكَلَّمَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنْتَ الشَّيْخُ ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَلَمْ يَزِدِ ابْنُ عَسَاكِرَ عَلَى هَذَا. وَقَدْ نَسَبَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظَمِ "، كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ بَلِيغًا يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِفَصَاحَتِهِ، دَخَلَ يَوْمًا عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ خُطَبَاءُ الْقَبَائِلِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ خَرَجُوا ; لِعِلْمِهِمْ بِقُصُورِهِمْ عَنْهُ، فَقَالَ سَحْبَانُ:
لَقَدْ عَلِمَ الْحَيُّ الْيَمَانُونَ أَنَّنِي إِذَا قُلْتُ أَمَّا بَعْدُ أَنِّي خَطِيبُهَا
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: اخْطُبْ. فَقَالَ: انْظُرُوا لِي عَصَا تُقِيمُ مِنْ أَوَدِي. فَقَالُوا: وَمَاذَا تَصْنَعُ بِهَا وَأَنْتَ بِحَضْرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ يَصْنَعُ بِهَا مُوسَى وَهُوَ يُخَاطِبُ رَبَّهُ. فَأَخَذَهَا وَتَكَلَّمَ مِنَ الظُّهْرِ إِلَى أَنْ قَارَبَتِ الْعَصْرُ، مَا تَنَحْنَحَ وَلَا سَعَلَ وَلَا تَوَقَّفَ وَلَا ابْتَدَأَ فِي مَعْنَى فَخَرَجَ عَنْهُ وَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ فِيهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: الصَّلَاةُ. فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَمَامَكَ، أَلَسْنَا فِي تَحْمَيْدٍ وَتَمْجِيدٍ، وَعِظَةٍ وَتَنْبِيهٍ وَتَذْكِيرٍ، وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنْتَ أَخْطَبُ الْعَرَبِ. قَالَ: الْعَرَبُ وَحْدَهَا ؟ بَلْ أَخْطَبُ الْجِنِّ وَالْإِنَسِ. قَالَ: كَذَلِكَ أَنْتَ.
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ
وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ أُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ، أَبُو إِسْحَاقَ الْقُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ، أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَحَدُ السِّتَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، أَسْلَمَ قَدِيمًا. قَالُوا: وَكَانَ يَوْمَ أَسْلَمَ عُمْرُهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.

وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّهُ قَالَ: مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ. وَهُوَ الَّذِي كَوَّفَ الْكُوفَةَ وَنَفَى عَنْهَا الْأَعَاجِمَ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَهَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ فَارِسًا شُجَاعًا مِنْ أُمَرَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ فِي أَيَّامِ الصِّدِّيقِ مُعَظِّمًا جَلِيلَ الْمِقْدَارِ، وَكَذَلِكَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ، وَقَدِ اسْتَنَابَهُ عَلَى الْكُوفَةِ، وَهُوَ الَّذِي فَتَحَ الْمَدَائِنَ وَكَانَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقْعَةُ جَلُولَاءَ وَكَانَ سَيِّدًا مُطَاعًا، وَعَزَلَهُ عُمَرُ عَنِ الْكُوفَةِ عَنْ غَيْرِ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ، وَلَكِنْ لِمَصْلَحَةٍ ظَهَرَتْ لِعُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي السِّتَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى، ثُمَّ وَلَّاهُ عُثْمَانُ الْكُوفَةَ بَعْدَهَا، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا.
وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: شَهِدَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عُمَرَ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ يَوْمَ الْحَكَمَيْنِ.
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنَّ ابْنَهُ عُمَرَ جَاءَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُعْتَزِلٌ فِي إِبِلِهِ فَقَالَ: النَّاسُ يَتَنَازَعُونَ الْإِمَارَةَ وَأَنْتَ هَاهُنَا ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ الْتَقِيَّ ".
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ابْنَ أَخِيهِ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ جَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَمُّ، هَاهُنَا مِائَةُ أَلْفِ سَيْفٍ يَرَوْنَكَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا

الْأَمْرِ. فَقَالَ: أُرِيدُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ سَيْفًا وَاحِدًا ; إِذَا ضَرَبْتُ بِهِ الْمُؤْمِنَ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، وَإِذَا ضَرَبْتُ بِهِ الْكَافِرَ قَطَعَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ عَمْرٍو، أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرَ رَمَضَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَيُفْطِرُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فَبَايَعَهُ: وَمَا سَأَلَهُ سَعْدٌ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ.
قَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: قَالَ سَعْدٌ: إِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ رَمَى بِسَهْمٍ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَمَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: وَاللَّهُ إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَقَدْ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا لَنَا طَعَامٌ نَأْكُلُهُ إِلَّا وَرَقَ الْحُبْلَةِ وَهَذَا السَّمُرُ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةَ مَا لَهُ خِلْطٌ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو

أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الدِّينِ، لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي. وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ وَوَكِيعٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَعْدٍ قَالَ: جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحِدٍ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَقَدْ رَوَاهُ اللَّيْثُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ. وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَعْدٍ. وَرَوَاهُ النَّاسُ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: " فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ". وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: " ارْمِ وَأَنْتَ

الْغُلَامُ الْحَزَوَّرُ ". قَالَ سَعِيدٌ: وَكَانَ سَعْدٌ جَيِّدَ الرَّمْيِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: أَوَّلُ النَّاسِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَعْدٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَدِّي أَحَدًا بِأَبَوَيْهِ إِلَّا سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ: " ارْمِ سَعْدُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ". وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ. وَرَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَرَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ بِنْتَ سَعْدٍ تَقُولُ: أَنَا ابْنَةُ الْمُهَاجِرِ الَّذِي فَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ بِالْأَبَوَيْنِ.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عُبَيْدَةُ بِنْتُ نَابِلٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَرْمِي بِالسَّهْمِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَيَرُدُّهُ عَلَيَّ رَجُلٌ أَبْيَضُ حَسَنُ الْوَجْهِ لَا أَعْرِفُهُ، حَتَّى كَانَ بَعْدُ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَلَكٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ يَسَارِهِ يَوْمَ أُحُدٍ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، يُقَاتِلَانِ عَنْهُ كَأَشَدِّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ.
وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلَيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ يُقَاتِلَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ، وَإِنَّى لِأَرَاهُ يَنْظُرُ إِلَى ذَا مَرَّةً وَإِلَى ذَا مَرَّةً ; سُرُورًا بِمَا ظَفَّرَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ

قَالَ: اشْتَرَكْتُ أَنَا وَسَعْدٌ وَعَمَّارٌ يَوْمَ بَدْرٍ فِيمَا أَصَبْنَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ، وَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ بَدْرٍ يُقَاتِلُ قِتَالَ الْفَارِسِ لِلرَّاجِلِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: بَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرِقًا ذَاتَ لَيْلَةٍ، ثُمَّ قَالَ: " لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ ". قَالَتْ: إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ السِّلَاحِ، فَقَالَ: " مَنْ هَذَا ؟ " قَالَ: أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَا أَحْرُسُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَتْ: فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَامَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". فَدَخْلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الرَّقَاشِيُّ الْخَرَّازُ، بَصْرِيٌّ، ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ مِنْ ذَا الْبَابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". قَالَ: فَلَيْسَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَإِذَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ طَلَعَ.
وَقَالَ حَرْمَلَةُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ، أَخْبَرَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". فَاطَّلَعَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ: فَاطَّلَعَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى تَرْتِيبِهِ الْأَوَّلِ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ عَلَى تَرْتِيبِهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي غَاضَبْتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَنْحَلَّ يَمِينِي، فَعَلْتَ. قَالَ أَنَسٌ: فَزَعَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ لَيْلَةً، حَتَّى إِذَا كَانَ مَعَ الْفَجْرِ فَلَمْ يَقُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ

شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا انْقَلَبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ، وَكَبَّرَهُ حَتَّى يَقُومَ مَعَ الْفَجْرِ، فَإِذَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ أَسْبَغَ الْوُضُوءَ وَأَتَمَّهُ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُفْطِرًا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: فَرَمَقَتْهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَأَيَّامَهُنَّ، لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَسْمَعُهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ اللَّيَالِي الثَّلَاثُ وَكِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ قُلْتُ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هِجْرَةٌ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ قَبْلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثَةِ مَجَالِسَ: " يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". فَاطَّلَعْتَ أَنْتَ أُولَئِكَ الْمَرَّاتِ الثَّلَاثَ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ حَتَّى أَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِكَ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا الَّذِي رَأَيْتَ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ انْصَرَفْتُ عَنْهُ، فَدَعَانِي حِينَ وَلَّيْتُ، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي سُوءًا لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَنْوِي لَهُ شَرًّا وَلَا أَقُولُهُ. قَالَ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا أُطِيقُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ صَالِحٌ الْمُرِّيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَ مِثْلَ رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ

شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [ الْأَنْعَامِ: 52 ]. نَزَلَتْ فِي سِتَّةٍ، أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا [ الْعَنْكَبُوتِ: 8 ]. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ امْتَنَعَتْ أُمُّهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ أَيَّامًا، فَقَالَ لَهَا: تَعْلَمِينَ وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ، فَخَرَجَتْ نَفْسًا نَفْسًا، مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ، إِنْ شِئْتِ فَكُلِي، وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَأْكُلِي. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الشَّهَادَةِ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ، فَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ حِرَاءَ، ذَكَرَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مِنْهُمْ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ سَعْدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا خَالِيَ، فَلْيُرَنِي امْرُؤٌ خَالَهُ ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الضَّحَّاكِ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ مَاعِزٍ التَّمِيمِيِّ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ سَعْدٌ فَقَالَ: " هَذَا خَالِي ".
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ يَعُودُهُ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ: " لَا ". قُلْتُ: فَالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " لَا ". قُلْتُ: فَالثُّلُثُ ؟ قَالَ: " الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ " - وَفِي رِوَايَةٍ:حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فَمِ امْرَأَتِكَ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي ؟ فَقَالَ: " إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلِّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيَضُرَّ بِكَ آخَرُونَ ". ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي

هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ ". يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْجَعْدِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَفِيهِ: قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَصَدْرَهُ وَبَطْنَهُ، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا وَأَتِمَّ لَهُ هِجْرَتَهُ ". قَالَ سَعْدٌ: فَمَا زِلْتُ يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنِّي أَجِدُ بَرْدَ يَدِهِ عَلَى كَبِدِي حَتَّى السَّاعَةِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ سَعْدًا فَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الْبَاسَ، إِلَهَ النَّاسِ، مَلِكَ النَّاسِ، أَنْتَ الشَّافِي لَا شَافِيَ لَهُ إِلَّا أَنْتَ، بِسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ حَسَدٍ وَعَيْنٍ، اللَّهُمَّ أَصِحَّ قَلْبَهُ وَجِسْمَهُ، وَاكْشِفْ سَقَمَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ ".
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ قَالَ: سَأَلْتُ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ: " وَعَسَى أَنْ تَبْقَى يَنْتَفِعُ بِكَ أَقْوَامٌ وَيَضُرُّ بِكَ آخَرُونَ ". فَقَالَ: أُمِّرَ سَعْدٌ عَلَى الْعِرَاقِ، فَقَتَلَ قَوْمًا عَلَى الرِّدَّةِ فَضَرَّهُمْ،

وَاسْتَتَابَ قَوْمًا كَانُوا سَجَعُوا سَجْعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، فَتَابُوا فَانْتَفَعُوا بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا مَعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَّرَنَا وَرَقَّقَنَا، فَبَكَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَأَكْثَرَ الْبُكَاءَ، وَقَالَ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا سَعْدُ، أَعِنْدِي تَتَمَنَّى الْمَوْتَ ! " فَرَدَّدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ: " يَا سَعْدُ، إِنْ كُنْتَ لِلْجَنَّةِ خُلِقْتَ، فَمَا طَالَ عُمْرُكَ أَوْ حَسُنَ مِنْ عَمَلِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ".
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُهُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اللَّهُمَّ سَدِّدْ رَمْيَتَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ ".
وَرَوَاهُ بَيَانُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِسَعْدٍ: " اللَّهُمَّ سَدِّدْ سَهْمَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ، وَحَبِّبْهُ إِلَى عِبَادِكَ ".

وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَائِذٍ الدِّمَشْقِيِّ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ مُطْعِمِ بْنِ الْمِقْدَامِ وَغَيْرِهِ، أَنَّ سَعْدًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُجِيبَ دَعْوَتِي. فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دَعْوَةَ عَبْدٍ حَتَّى يُطَيِّبَ مَطْعَمَهُ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُطَيِّبَ طُعْمَتِي. فَدَعَا لَهُ. قَالُوا: فَكَانَ سَعْدٌ يَتَوَرَّعُ مِنَ السُّنْبُلَةِ يَجِدُهَا فِي زَرْعِهِ، فَيَرُدُّهَا مِنْ حَيْثُ أُخِذَتْ.
وَقَدْ كَانَ كَذَلِكَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، لَا يَكَادُ يَدْعُو بِدُعَاءٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَمِنْ أَشْهَرِ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، أَنْ أَهْلَ الْكُوفَةِ شَكَوَا سَعْدًا إِلَى عُمَرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى قَالُوا: لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي. فَقَالَ سَعْدٌ: أَمَّا إِنِّي لَا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أُطِيلُ الْأُولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ. فَقَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ. وَكَانَ قَدْ بَعَثَ مِنْ يَسْأَلُ عَنْهُ بِمَحَالِّ الْكُوفَةِ، فَجَعَلُوا لَا يَسْأَلُونَ أَهْلَ مَسْجِدٍ إِلَّا أَثْنَوْا خَيْرًا، حَتَّى مَرُّوا بِمَسْجِدٍ لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أَبُو سَعْدَةَ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ. فَقَالَ: إِنَّ سَعْدًا كَانَ لَا يَسِيرُ فِي السَّرِيَّةِ،

وَلَا يِقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ. فَبَلَغَ سَعْدًا قَوْلُهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ، فَأَطِلْ عُمْرَهُ وَأَدِمْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ. قَالَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْخًا كَبِيرًا، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، يَقِفُ فِي الطَّرِيقِ، فَيَغْمِزُ الْجَوَارِيَ، فَيُقَالُ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَقُولُ: شَيْخٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْهُ دَعْوَةُ سَعْدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ غَرِيبَةٍ، أَنَّهُ أَدْرَكَ فِتْنَةَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ فَقُتِلَ فِيهَا.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا يُوسُفُ الْقَاضِي، ثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: خَرَجَتْ جَارِيَةٌ لِسَعْدٍ يُقَالُ لَهَا: زَبْرَاءُ. وَعَلَيْهَا قَمِيصٌ جَدِيدٌ، فَكَشَفَتْهَا الرِّيحُ، فَشَدَّ عَلَيْهَا عُمَرُ بِالدِّرَّةِ، وَجَاءَ سَعْدٌ لِيَمْنَعَهُ، فَتَنَاوَلَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ، فَذَهَبَ سَعْدٌ يَدْعُو عَلَى عُمَرَ، فَنَاوَلَهُ الدِّرَّةَ وَقَالَ: اقْتَصَّ. فَعَفَا عَنْ عُمَرَ.
وَرَوَى أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ سَعْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ كَلَامٌ، فَهَمَّ سَعْدٌ أَنْ يَدْعُوَ

عَلَيْهِ، فَخَافَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَجَعَلَ يَشْتَدُّ فِي الْهَرَبِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْقَادِسِيَّةِ كَانَ سَعْدٌ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ أَصَابَتْهُ جِرَاحٌ، فَلَمْ يَشْهَدْ يَوْمَ الْفَتْحِ، يَعْنِي فَتْحَ الْقَادِسِيَّةِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَجِيلَةَ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ دِينَهُ وَسَعْدٌ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ مُعْصَمُ
فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ
فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ اكْفِنَا يَدَهُ وَلِسَانَهُ. فَجَاءَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَأَصَابَهُ فَخَرِسَ وَيَبِسَتْ يَدَاهُ جَمِيعًا.
وَقَدْ أَسْنَدَ زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ وَسَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَفِيهِ: ثُمَّ خَرَجَ سَعْدٌ، فَأَرَى النَّاسَ مَا بِهِ مِنَ الْقُرُوحِ فِي ظَهْرِهِ ; لِيَعْتَذِرَ إِلَيْهِمْ.

وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَجُلًا نَالَ مِنْ عَلِيٍّ، فَنَهَاهُ سَعْدٌ فَلَمْ يَنْتَهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَدْعُو عَلَيْكَ. فَلَمْ يَنْتَهِ، فَدَعَا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمَا بَرِحَ حَتَّى جَاءَ بَعِيرٌ نَادٌّ فَتَخَبَّطَهُ.
وَجَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ سَعْدًا رَأَى جَمَاعَةً عُكُوفًا عَلَى رَجُلٍ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ مِنْ بَيْنِ اثْنَيْنِ، فَإِذَا هُوَ يَسُبُّ عَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْتَهِ، فَقَالَ: أَدْعُو عَلَيْكَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: تَتَهَدَّدُنِي كَأَنَّكَ نَبِيٌّ ! فَانْصَرَفَ سَعْدٌ، فَدَخَلَ دَارَ آلِ فُلَانٍ، فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَبَّ أَقْوَامًا قَدْ سَبَقَ لَهُمْ مِنْكَ سَابِقَةُ الْحَسَنَى، وَأَنَّهُ قَدْ أَسْخَطَكَ سَبُّهُ إِيَّاهُمْ، فَاجْعَلْهُ الْيَوْمَ آيَةً وَعِبْرَةً. قَالَ: فَخَرَجَتْ بُخْتِيَّةٌ نَادَّةٌ مِنْ دَارِ آلِ فُلَانٍ لَا يَرُدُّهَا شَيْءٌ حَتَّى دَخَلَتْ بَيْنَ أَضْعَافِ النَّاسِ، فَافْتَرَقَ النَّاسُ، فَأَخَذَتْهُ بَيْنَ قَوَائِمِهَا، فَلَمْ تَزَلْ تَتَخَبَّطُهُ حَتَّى مَاتَ. قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ يَشْتَدُّونَ وَرَاءَ سَعْدٍ يَقُولُونَ: اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ. وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ

الْمُنْكَدِرِ الْقُرَشِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مِينا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَطَّلِعُ عَلَى سَعْدٍ، فَنَهَاهَا فَلَمْ تَنْتَهِ، فَاطَّلَعَتْ يَوْمًا وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: شَاهَ وَجْهُكِ. فَعَادَ وَجْهُهَا فِي قَفَاهَا.
وَقَالَ كَثِيرٌ النَّوَّاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُلَيْلٍ قَالَ: دَخَلَ سَعْدٌ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ لَمْ تُقَاتِلْ مَعَنَا ؟ فَقَالَ: إِنِّي مَرَّتْ بِي رِيحٌ مُظْلِمَةٌ فَقُلْتُ: أَخْ أَخْ. فَأَنَخْتُ رَاحِلَتِي حَتَّى انْجَلَتْ عَنِّي، ثُمَّ عَرَفَتِ الطَّرِيقَ فَسِرْتُ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَخْ أَخْ، وَلَكِنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [ الْحُجُرَاتِ: 9 ]. فَوَاللَّهِ مَا كُنْتُ مَعَ الْبَاغِيَةِ عَلَى الْعَادِلَةِ، وَلَا مَعَ الْعَادِلَةِ عَلَى الْبَاغِيَةِ. فَقَالَ سَعْدٌ: مَا كُنْتُ لِأُقَاتِلَ رَجُلًا قَالَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ". فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَنْ سَمِعَ هَذَا مَعَكَ ؟ فَقَالَ: فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَأُمُّ سَلَمَةَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَمَا إِنِّي لَوْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا قَاتَلْتُ عَلِيًّا. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَانَ بَيْنَهُمَا وَهُمَا بِالْمَدِينَةِ فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا مُعَاوِيَةُ، وَأَنَّهُمَا قَامَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَسَأَلَاهَا فَحَدَّثَتْهُمَا بِمَا حَدَّثَ بِهِ سَعْدٌ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ سَمِعْتُ هَذَا قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ لَكَنْتُ خَادِمًا لِعَلِيٍّ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ أَمُوتَ. وَفِي إِسْنَادِ هَذَا ضَعْفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَتَكَلَّمُ فِي عَلِيٍّ وَفِي خَالِدٍ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ مَا بَيْنَنَا دِينَنَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: طَافَ سَعْدٌ عَلَى تِسْعِ جَوَارٍ فِي لَيْلَةٍ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْعَاشِرَةِ أَخَذَهُ النَّوْمُ، فَاسْتَحْيَتْ أَنْ تُوقِظَهُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ مُصْعَبٍ: يَا بُنَيَّ، إِذَا طَلَبْتَ شَيْئًا فَاطْلُبْهُ بِالْقَنَاعَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ لَا قَنَاعَةَ لَهُ لَمْ يُغْنِهِ الْمَالُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ رَأْسُ أَبِي فِي حِجْرِي وَهُوَ يَقْضِي فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا بُنَيَّ ؟ وَاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُنِي أَبَدًا، وَإِنِّي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِنَّ اللَّهَ يَدِينُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِحَسَنَاتِهِمْ فَاعْمَلُوا لِلَّهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَيُخَفَّفُ عَنْهُمْ بِحَسَنَاتِهِمْ، فَإِذَا نَفِدَتْ قَالَ: لِيَطْلُبْ كُلُّ عَامِلٍ ثَوَابَ عَمَلِهِ مِمَّنْ عَمِلَ لَهُ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمَّا حَضَرَتْ سَعْدًا الْوَفَاةُ دَعَا بِخَلَقِ جُبَّةٍ فَقَالَ: كَفِّنُونِي فِيهَا، فَإِنِّي لَقِيتُ فِيهَا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أُخَبِّئُهَا لِهَذَا الْيَوْمِ.

وَكَانَتْ وَفَاةُ سَعْدٍ بِالْعَقِيقِ خَارِجَ الْمَدِينَةِ، فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ مَرْوَانُ، وَصَلَّى بِصَلَاتِهِ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ - عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، عَلَى الصَّحِيحِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: وَهُوَ آخِرُ الْعَشَرَةِ وَفَاةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ آخِرَ الْمُهَاجِرِينَ وَفَاةً. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: سَنَةَ خَمْسِينَ.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَقَعْنَبُ بْنُ الْمُحَرِّرِ: تُوُفِّيَ سَعْدٌ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ.
وَقَالَ قَعْنَبٌ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ; خَمْسٌ وَخَمْسِينَ.
قَالُوا: وَكَانَ سَعْدٌ قَصِيرًا غَلِيظًا شَثْنَ الْأَصَابِعِ أَفْطَسَ، أَشْعَرَ الْجَسَدِ،

يُخَضِّبُ بِالسَّوَادِ، وَكَانَ مِيرَاثُهُ مِائَتَيْ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا.
فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ
أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ أُحُدٌ وَشَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَدَخَلَ الشَّامَ، وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
كَانَ أَشْبَهَ النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَوَلَّى نِيَابَةَ الْمَدِينَةِ فِي أَيَّامِ عَلِيٍّ، وَشَهِدَ فَتْحَ سَمَرْقَنْدَ مِمَّا وَرَاءَ النَّهَرِ، فَاسْتُشْهِدَ بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو الْيَسَرِ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ
شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا، وَأَسَرَ يَوْمئِذٍ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَشَهِدَ مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَشَاهِدِ كُلِّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ. زَادَ غَيْرُهُ: وَهُوَ آخِرُ

مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ
وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ. فَفِيهَا شَتَّى جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَقِيلَ: فِيهَا غَزَا فِي الْبَحْرِ يَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ، وَفِي الْبَرِّ عِيَاضُ بْنُ الْحَارِثِ. وَفِيهَا اعْتَمَرَ مُعَاوِيَةُ فِي رَجَبٍ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. وَفِيهَا وَلَّى مُعَاوِيَةُ سَعِيدَ بْنَ عُثْمَانَ بِلَادَ خُرَاسَانَ وَعَزَلَ عَنْهَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، فَسَارَ سَعِيدٌ إِلَى خُرَاسَانَ، وَالْتَقَى مَعَ التُّرْكِ عِنْدَ صُغْدِ سَمَرْقَنْدَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَاسْتُشْهِدَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ - فِيمَا قِيلَ - قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ سَأَلَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مُعَاوِيَةَ أَنْ يُوَلِّيَهُ خُرَاسَانَ، فَقَالَ: إِنَّ بِهَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ. فَقَالَ سَعِيدٌ لِمُعَاوِيَةَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدِ اصْطَنَعَكَ أَبِي وَرَقَّاكَ، حَتَّى بَلَغْتَ بِاصْطِنَاعِهِ الْمَدَى الَّذِي لَا يُجَارَى إِلَيْهِ وَلَا يُسَامَى، فَمَا شَكَرْتَ بَلَاءَهُ وَلَا جَازَيْتَهُ بِآلَائِهِ، وَقَدَّمْتَ عَلَيَّ هَذَا - يَعْنِي يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ - وَبَايَعْتَ لَهُ، وَوَاللَّهِ لَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أَبًا وَأُمًّا وَنَفْسًا. فَقَالَ

لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَمَّا بَلَاءُ أَبِيكَ عِنْدِي فَقَدْ يَحِقُّ عَلَيَّ الْجَزَاءُ بِهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ شُكْرِي لِذَلِكَ أَنِّي طَلَبْتُ بِدَمِهِ حَتَّى تَكَشَّفَتِ الْأُمُورُ، وَلَسْتُ بِلَائِمٍ لِنَفْسِي فِي التَّشْمِيرِ، وَأَمَّا فَضْلُ أَبِيكَ عَلَى أَبِيهِ، فَأَبُوكَ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنِّي وَأَقْرَبُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا فَضْلُ أُمِّكَ عَلَى أُمِّهِ فَمَا لَا يُنْكَرُ، فَإِنَّ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ خَيْرٌ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ كَلْبٍ، وَأَمَّا فَضْلُكَ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ الْغُوطَةَ دُحِسَتْ لِيَزِيدَ رِجَالًا مِثْلَكَ. يَعْنِي أَنَّ الْغُوطَةَ لَوْ مُلِئَتْ رِجَالًا مِثْلَ سَعِيدِ بْنِ عُثْمَانَ كَانَ يَزِيدُ خَيْرًا وَأَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُمْ. فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ابْنُ عَمِّكَ وَأَنْتَ أَحَقُّ مَنْ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ، وَقَدْ عَتَبَ عَلَيْكَ فِيَّ فَأَعْتِبْهُ. قَالَ: فَوَلَّاهُ حَرْبَ خُرَاسَانَ: فَأَتَى سَمَرْقَنْدَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُ الصُّغْدِ مِنَ التَّرْكِ، فَقَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ وَحَصَرَهُمْ فِي مَدِينَتِهِمْ، فَصَالَحُوهُ وَأَعْطَوْهُ رَهْنًا خَمْسِينَ غُلَامًا يَكُونُونَ فِي يَدِهِ مِنْ أَبْنَاءِ عُظَمَائِهِمْ، فَأَقَامَ بِالتِّرْمِذِ، وَلَمْ يَفِ لَهُمْ، وَجَاءَ بِالْغِلْمَانِ الرَّهْنِ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَفِيهَا دَعَا مُعَاوِيَةُ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ وَلَدِهِ أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ قَدْ عَزَمَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا فِي حَيَاةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ; فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ الْمُغِيرَةَ كَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَاسْتَعْفَاهُ مِنْ إِمْرَةِ الْكُوفَةِ فَأَعْفَاهُ لِكِبَرِهِ وَضَعْفِهِ، وَعَزَمَ عَلَى تَوْلِيَتِهَا سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُغِيرَةَ كَأَنَّهُ نَدِمَ، فَجَاءَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَسْأَلَ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، فَسَأَلَ ذَلِكَ يَزِيدُ مِنْ أَبِيهِ فَقَالَ: مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ: الْمُغِيرَةُ. فَأَعْجَبَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ مِنَ الْمُغِيرَةِ وَرَدَّهُ إِلَى عَمَلِ الْكُوفَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْعَى

فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَعَى الْمُغِيرَةُ فِي تَوْطِيدِ ذَلِكَ، وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَكَرِهَ زِيَادٌ ذَلِكَ ; لِمَا يَعْلَمُ مِنْ لَعِبِ يَزِيدَ وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللَّعِبِ وَالصَّيْدِ، فَبَعَثَ زِيَادٌ إِلَيْهِ مَنْ يَثْنِي رَأْيَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ عُبَيْدُ بْنُ كَعْبٍ النُّمَيْرِيُّ - وَكَانَ صَاحِبًا أَكِيدًا لِزِيَادٍ - فَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ، فَاجْتَمَعَ بِيَزِيدَ أَوَّلًا، فَكَلَّمَهُ عَنْ زِيَادٍ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَطْلُبَ ذَلِكَ، فَإِنَّ تَرْكَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنَ السَّعْيِ فِيهِ، فَانْزَجَرَ يَزِيدُ عَمَّا يُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَ بِأَبِيهِ وَاتَّفَقَا عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَلَمَّا مَاتَ زِيَادٌ، وَكَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ، شَرَعَ مُعَاوِيَةُ فِي نَظْمِ الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهَا، وَعَقَدَ الْبَيْعَةَ لِوَلَدِهِ يَزِيدَ، وَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ بِذَلِكَ، فَبَايَعَ لَهُ النَّاسُ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، إِلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَالْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَابْنَ عَبَّاسٍ، فَرَكِبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، فَلَمَّا اجْتَازَ بِالْمَدِينَةِ مَرْجِعَهُ مِنْ مَكَّةَ اسْتَدْعَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ، فَأَوْعَدَهُ وَتَهَدَّدَهُ بِانْفِرَادِهِ، فَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ عَلَيْهِ رَدًّا وَأَجْلَدِهِمْ فِي الْكَلَامِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ أَلْيَنَهُمْ كَلَامًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ثُمَّ خَطَبَ مُعَاوِيَةُ وَهَؤُلَاءِ حُضُورٌ تَحْتَ مِنْبَرِهِ، وَبَايَعَ النَّاسُ لِيَزِيدَ وَهُمْ قُعُودٌ، وَلَمْ يُوَافِقُوا وَلَمْ يُظْهِرُوا خِلَافًا ; لِمَا تَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ، فَاتَّسَقَتِ الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَوَفَدَتِ الْوُفُودُ مِنْ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ إِلَى يَزِيدَ. فَكَانَ فِيمَنْ قَدِمَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَأَمَرَهُ مُعَاوِيَةُ أَنْ يُحَادِثَ يَزِيدَ، فَجَلَسَا ثُمَّ خَرَجَ الْأَحْنَفُ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَاذَا رَأَيْتَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّا نَخَافُ اللَّهَ إِنْ كَذَبْنَا وَنَخَافُكُمْ إِنْ صَدَقْنَا، وَأَنْتَ

أَعْلَمُ بِهِ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَمَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ بِمَا أَرَدْتَ، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَسْمَعَ وَنُطِيعَ، وَعَلَيْكَ أَنْ تَنْصَحَ لِلْأُمَّةِ. وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ لَمَّا صَالَحَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَهِدَ لِلْحَسَنِ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ قَوِيَ أَمْرُ يَزِيدَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، وَرَأَى أَنَّهُ لِذَلِكَ أَهْلًا، وَذَاكَ مِنْ شِدَّةِ مَحَبَّةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَلِمَا كَانَ يَتَوَسَّمُ فِيهِ مِنَ النَّجَابَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَسِيَّمَا أَوْلَادِ الْمُلُوكِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالْحُرُوبِ وَتَرْتِيبِ الْمُلْكِ وَالْقِيَامِ بِأُبَّهَتِهِ، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَقُومُ أَحَدٌ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ فِي الْمُلْكِ مَقَامَهُ، وَلِهَذَا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِيمَا خَاطَبَهُ بِهِ: إِنِّي خِفْتُ أَنْ أَذَرَ الرَّعِيَّةَ مِنْ بَعْدِي كَالْغَنَمِ الْمَطِيرَةِ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا بَايَعَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ بَايَعْتُهُ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ. وَقَدْ عَاتَبَ مُعَاوِيَةَ فِي وِلَايَتِهِ يَزِيدَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ مَكَانَهُ، فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لَوْ مُلِئَتِ الْغُوطَةُ رِجَالًا مِثْلَكَ لَكَانَ يَزِيدُ أَحَبَّ مِنْكُمْ كُلِّكُمْ.
وَرُوِّينَا عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا فِي خُطْبَتِهِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي وَلَّيْتُهُ لِأَنَّهُ فِيمَا أَرَاهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ فَأَتْمِمْ لَهُ مَا وَلَّيْتُهُ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي إِنَّمَا وَلَّيْتُهُ لِأَنِّي أُحِبُّهُ فَلَا تُتْمِمْ لَهُ مَا وَلَّيْتُهُ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ قَدْ سَمَرَ لَيْلَةً، فَتَكَلَّمَ أَصْحَابُهُ فِي

الْمَرْأَةِ الَّتِي يَكُونُ وَلَدُهَا نَجِيبًا، فَذَكَرُوا صِفَةَ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَكُونُ وَلَدُهَا نَجِيبًا. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَدِدْتُ لَوْ عُرِّفْتُ بِامْرَأَةٍ تَكُونُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. فَقَالَ أَحَدُ جُلَسَائِهِ: قَدْ وَجَدْتُ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَمَنْ ؟ قَالَ: ابْنَتِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ، فَوَلَدَتْ لَهُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، فَجَاءَ نَجِيبًا ذَكِيًّا حَاذِقًا. ثُمَّ خَطَبَ امْرَأَةً أُخْرَى فَحَظِيَتْ عِنْدَهُ، وَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا آخَرَ، وَهَجَرَ أُمَّ يَزِيدَ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ فِي جَنْبِ دَارِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا فِي النَّظَّارَةِ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ الْأُخْرَى، إِذْ نَظَرَ إِلَى أُمِّ يَزِيدَ وَهِيَ تُسَرِّحُهُ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: قَبَّحَهَا اللَّهُ وَقَبَّحَ مَا تُسَرِّحُ. فَقَالَ: وَلِمَ ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ وَلَدَهَا لَأَنْجَبُ مِنْ وَلَدِكِ، وَإِنْ أَحْبَبْتِ بَيَّنْتُ لَكِ ذَلِكَ. ثُمَّ اسْتَدْعَى وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَنَّ لَهُ أَنْ يُطْلِقَ لَكَ مَا تَتَمَنَّاهُ عَلَيْهِ، فَاطْلُبْ مِنِّي مَا شِئْتَ. فَقَالَ: أَسْأَلُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُطْلِقَ لِي كِلَابًا لِلصَّيْدِ، وَخَيْلًا وَرِجَالًا يَكُونُونَ مَعِي فِي الصَّيْدِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ أَمَرْنَا لَكَ بِذَلِكَ. ثُمَّ اسْتَدْعَى يَزِيدَ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لِأَخِيهِ، فَقَالَ يَزِيدُ: أَوَيُعْفِينِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا الْوَقْتِ عَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: لَا بُدَّ أَنْ تَسْأَلَ حَاجَتَكَ. فَقَالَ: أَسْأَلُ - وَأَطَالَ اللَّهُ عُمُرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - أَنْ أَكُونَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ عَدْلَ يَوْمٍ فِي الرَّعِيَّةِ كَعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. فَقَالَ: قَدْ أَجَبْتُكَ إِلَى ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كَيْفَ رَأَيْتِ ؟ فَعَلِمَتْ وَتَحَقَّقَتْ فَضْلَ يَزِيدَ عَلَى وَلَدِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَفَاةَ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ الْأَنْصَارِيَّةِ امْرَأَةِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي لَمْ يَذْكُرِ الْعُلَمَاءُ غَيْرَهُ أَنَّهَا تُوُفِّيَتْ سَنَةَ

سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا مَعَ مُعَاوِيَةَ حِينَ دَخَلَ قُبْرُسَ وَقَصَتْهَا بَغْلَتُهَا فَمَاتَتْ هُنَاكَ وَقَبْرُهَا بِقُبْرُسَ، وَالْعَجَبُ أَنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ أَوْرَدَ فِي تَرْجَمَتِهَا حَدِيثَهَا الْمُخَرَّجَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " فِيقَيْلُولَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا، وَرُؤْيَاهُ فِي مَنَامِهِ قَوْمًا مِنْ أُمَّتِهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ الْبَحْرِ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا سَأَلَتْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ نَامَ فَرَأَى كَذَلِكَ، فَقَالَتِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: " أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ " وَهُمُ الَّذِينَ فَتَحُوا قُبْرُسَ، فَكَانَتْ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَمْ تَكُنْ مِنَ الْآخِرِينَ الَّذِينَ غَزَوْا بِلَادَ الرُّومِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ! وَمَعَهُمْ أَبُو أَيُّوبَ، وَقَدْ تُوُفِّيَ هُنَاكَ، فَقَبْرُهُ قَرِيبٌ مِنْ سُورِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا مُقَرَّرًا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ
فِيهَا كَانَ مَشْتَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ بِأَرْضِ الرُّومِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي شَوَّالِهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَوَلَّى عَلَيْهَا الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ; لِأَنَّهُ صَارَتْ إِلَيْهِ إِمْرَةُ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، وَعَلَى خُرَاسَانَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، وَهُوَ أَخُو عُبَادَةَ وَسَهْلٍ ابْنَيْ حُنَيْفٍ، بَعَثَهُ عُمَرُ لِمِسَاحَةِ خَرَاجِ السَّوَادِ بِالْعِرَاقِ، وَاسْتَنَابَهُ عُمَرُ عَلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ صُحْبَةَ عَائِشَةَ، وَامْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِ دَارِ الْإِمَارَةِ نُتِفَتْ لِحْيَتُهُ وَحَوَاجِبُهُ وَأَشْفَارُ عَيْنَيْهِ وَمُثِّلَ بِهِ، فَلَمَّا جَاءَ عَلِيٌّ وَسَلَّمَهُ الْبَلَدَ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَارَقَتُكَ ذَا لِحْيَةٍ، وَاجْتَمَعْتُ بِكَ أَمَرَدَ. فَتَبَسَّمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ: لَكَ أَجْرُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ.
وَلَهُ فِي " الْمُسْنَدِ " وَ " السُّنَنِ " حَدِيثُ الْأَعْمَى الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ

يَدْعُوَ لَهُ لِيَرُدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ ضَوْءَ بَصَرِهِ، فَرَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَلَهُ حَدِيثٌ آخَرُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا أَرَّخَ وَفَاتَهُ بِهَذِهِ السَّنَةِ سِوَى ابْنِ الْجَوْزِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ
فِيهَا غَزَا مَالِكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيُّ أَرْضَ الرُّومِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا قُتِلَ يَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ فِي الْبَحْرِ. وَقِيلَ: بَلْ غَزَا الْبَحْرَ وَبِلَادَ الرُّومِ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا شَتَّى بِأَرْضِ الرُّومِ عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ الْجُهَنِيُّ.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. وَفِيهَا وَلَّى مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الثَّقَفِيِّ، وَهُوَ ابْنُ أُمِّ الْحَكَمِ، وَأُمُّ الْحَكَمِ هِيَ أُخْتُ مُعَاوِيَةَ، وَعَزَلَ عَنْهَا الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، فَوَلَّى ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ عَلَى شُرْطَتِهِ زَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ، وَخَرَجَتِ الْخَوَارِجُ فِي أَيَّامِ ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ، وَكَانَ رَئِيسَهُمْ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ حَيَّانُ بْنُ ظِبْيَانَ السُّلَمِيُّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَقَتَلُوا الْخَوَارِجَ جَمِيعًا، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ أَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ طَرِيدًا، فَرَجَعَ إِلَى خَالِهِ مُعَاوِيَةَ، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَأُوَلِّيَنَّكَ مِصْرًا هُوَ خَيْرٌ لَكَ. فَوَلَّاهُ مِصْرَ، فَلَمَّا

سَارَ إِلَيْهَا تَلَقَّاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مِصْرَ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ إِلَى خَالِكَ مُعَاوِيَةَ، فَلَعَمْرِي لَا تَسِيرُ فِينَا سِيرَتَكَ فِي إِخْوَانِنَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. فَرَجَعَ ابْنُ أُمِّ الْحَكَمِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَلَحِقَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ وَافِدًا عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَ عِنْدَهُ أُخْتَهُ أُمَّ الْحَكَمِ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الَّذِي طَرَدَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ مِصْرَ، فَلَمَّا رَآهُ مُعَاوِيَةُ قَالَ: بَخٍ بَخٍ، هَذَا مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ. فَقَالَتْ أُمُّ الْحَكَمِ: لَا مَرْحَبًا بِهِ، تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ. فَقَالَ: مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ عَلَى رِسْلِكِ يَا أُمَّ الْحَكَمِ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَزَوَّجْتِ فَمَا أَكْرَمْتِ، وَوَلَدْتِ فَمَا أَنْجَبْتِ، أَرَدْتِ أَنْ يَلِيَ ابْنُكِ الْفَاسِقُ عَلَيْنَا، فَيَسِيرَ فِينَا كَمَا سَارَ فِي إِخْوَانِنَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُرِيَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَضَرَبْنَاهُ ضَرْبًا يُطَأْطِئُ مِنْهُ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ الْجَالِسُ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهَا مُعَاوِيَةُ فَقَالَ: كُفِّي.

قِصَّةٌ غَرِيبَةٌ
ذَكَرَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظَمِ " بِسَنَدِهِ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ بَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا عَلَى السِّمَاطِ إِذَا شَابٌّ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ قَدْ مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَنْشَدَهُ شِعْرًا مَضْمُونُهُ التَّشَوُّقُ إِلَى زَوْجَتِهِ سُعَادَ، فَاسْتَدْنَاهُ مُعَاوِيَةُ، وَاسْتَحْكَاهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي كُنْتُ مُزَوَّجًا بِابْنَةِ عَمٍّ لِي، وَكَانَ لِي إِبِلٌ وَغَنَمٌ، فَأَنْفَقَتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا قَلَّ مَا بِيَدِي رَغِبَ عَنِّي أَبُوهَا وَشَكَانِي إِلَى عَامِلِكَ

بِالْكُوفَةِ ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ، وَبَلَغَهُ جَمَالُهَا فَحَبَسَنِي فِي الْحَدِيدِ، وَحَمَلَنِي عَلَى أَنْ أُطَلِّقَهَا، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا أَعْطَاهُ عَامِلُكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ أَتَيْتُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْتَ غِيَاثُ الْمَحْرُوبِ، وَسَنَدُ الْمَسْلُوبِ، فَهَلْ مَنْ فَرَجٍ ؟ ثُمَّ بَكَى وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
فِي الْقَلْبِ مِنِّي نَارُ وَالنَّارُ فِيهَا شَرَارُ وَالْجِسْمُ مِنِّي نَحِيلُ
وَاللَّوْنُ فِيهِ اصْفِرَارُ وَالْعَيْنُ تَبْكِي بِشَجْوٍ
فَدَمْعُهَا مِدْرَارُ وَالْحُبُّ دَاءٌ عَسِيرٌ
فِيهِ الطَّبِيبُ يَحَارُ حَمَلْتُ فِيهِ عَظِيمًا
فَمَا عَلَيْهِ اصْطِبَارُ فَلَيْسَ لَيْلِي بِلَيْلٍ
وَلَا نَهَارِي نَهَارُ
قَالَ: فَرَقَّ لَهُ مُعَاوِيَةُ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ يُؤَنِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَعِيبُهُ عَلَيْهِ، وَيَأْمُرُهُ بِطَلَاقِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، فَلَمَّا جَاءَهُ كِتَابُ مُعَاوِيَةَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ، وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خَلَّى بَيْنِي وَبَيْنَهَا سَنَةً، ثُمَّ عَرَضَنِي عَلَى السَّيْفِ. وَجَعَلَ يُؤَامِرُ نَفْسَهُ عَلَى طَلَاقِهَا، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا تُجِيبُهُ نَفْسُهُ، وَجَعَلَ الْبَرِيدُ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ يَسْتَحِثُّهُ، فَطَلَّقَهَا وَأَخْرَجَهَا عَنْهُ وَسَيَّرَهَا مَعَ الْوَفْدِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ رَأَى مَنْظَرًا جَمِيلًا، فَلَمَّا اسْتَنْطَقَهَا، فَإِذَا هِيَ أَفْصَحُ النَّاسِ وَأَحْلَاهُمْ كَلَامًا، وَأَكْمَلُهُمْ جَمَالًا وَدَلَالًا، فَقَالَ لِابْنِ عَمِّهَا: يَا أَعْرَابِيُّ، هَلْ مِنْ سُلُوٍّ عَنْهَا بِأَفْضَلِ الرَّغْبَةِ ؟ قَالَ: نَعَمَ إِذَا فَرَّقْتَ بَيْنَ رَأْسِي وَجَسَدِي. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:

لَا تَجْعَلَنِّي وَالْأَمْثَالُ تُضْرَبُ بِي كَالْمُسْتَغِيثِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ
ارْدُدْ سُعَادَ عَلَى حَيْرَانَ مُكْتَئِبٍ يُمْسِي وَيُصْبِحُ فِي هَمٍّ وَتِذْكَارِ
قَدْ شَفَّهُ قَلَقٌ مَا مِثْلُهُ قَلَقٌ وَأَسْعَرَ الْقَلْبُ مِنْهُ أَيُ إِسْعَارِ
وَاللَّهِ وَاللَّهِ لَا أَنْسَى مَحَبَّتَهَا حَتَّى أُغَيَّبَ فِي رَمْسٍ وَأَحْجَارِ
كَيْفَ السُّلُوُّ وَقَدْ هَامَ الْفُؤَادُ بِهَا وَأَصْبَحَ الْقَلْبُ عَنْهَا غَيْرَ صَبَّارِ
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: فَإِنَّا نُخَيِّرُهَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ. فَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:
هَذَا وَإِنْ أَصْبَحَ فِي أَطْمَارِ وَكَانَ فِي نَقْصٍ مِنَ الْيَسَارِ
أَكْثَرُ عِنْدِي مِنْ أَبِي وَجَارِي وَصَاحِبِ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ
أَخْشَى إِذَا غَدَرْتُ حَرَّ النَّارِ
قَالَ: فَضَحِكَ مُعَاوِيَةُ، وَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَمَرْكَبٍ وَوَطَاءٍ. وَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا زَوَّجَهُ بِهَا وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ. حَذَفْنَا مِنْهَا أَشْعَارًا كَثِيرَةً مُطَوَّلَةً.
وَجَرَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فُصُولٌ طَوِيلَةٌ بَيْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَالْخَوَارِجِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَجَمْعًا غَفِيرًا، وَحَبْسَ مِنْهُمْ آخَرِينَ، وَكَانَ صَارِمًا كَأَبِيهِ، مِقْدَامًا فِي أَمْرِهِمْ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مُنَافٍ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، قُتِلَ أَبُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَنَشَأَ سَعِيدٌ فِي حِجْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ عُمْرُ سَعِيدٍ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ سِنِينَ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَالْأَجْوَادِ الْمَشْهُورِينَ، وَكَانَ جَدُّهُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ - وَيُكَنَّى بِأَبِي أُحَيْحَةَ - رَئِيسًا فِي قُرَيْشٍ، يُقَالُ لَهُ: ذُو التَّاجِ. لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا اعْتَمَّ لَا يَعْتَمُّ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ ; إِعْظَامًا لَهُ، وَكَانَ سَعِيدٌ هَذَا مِنْ عُمَّالِ عُمَرَ عَلَى السَّوَادِ وَجَعَلَهُ عُثْمَانُ فِيمَنْ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ ; لِفَصَاحَتِهِ، قَالُوا: وَكَانَ أَشْبَهُ النَّاسِ لَهْجَةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا الَّذِينَ يَسْتَخْرِجُونَ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُونَهُ وَيَكْتُبُونَهُ، مِنْهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَاسْتَنَابَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْكُوفَةِ بَعْدَ عَزْلِهِ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، فَافْتَتَحَ طَبَرِسْتَانَ وَجُرْجَانَ، وَنَقَضَ الْعَهْدَ أَهْلُ أَذْرَبِيجَانَ فَغَزَاهُمْ فَفَتَحَهَا، فَلَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ اعْتَزَلَ الْفِتْنَةَ، فَلَمْ يَشْهَدِ الْجَمَلَ وَلَا صِفِّينَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِمُعَاوِيَةَ وَفَدَ إِلَيْهِ، فَعَتَبَ عَلَيْهِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَعَذَرَهُ، فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ

جِدًّا، وَوَلَّاهُ الْمَدِينَةَ مَرَّتَيْنِ، وَعَزَلَهُ عَنْهَا مَرَّتَيْنِ بِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَانَ سَعِيدٌ هَذَا لَا يَسُبُّ عَلِيًّا، وَمَرْوَانُ يَسُبُّهُ، وَرَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ، وَعَائِشَةَ، وَعَنْهُ ابْنَاهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرُهُمْ، وَلَيْسَ لَهُ فِي " الْمُسْنَدِ " وَلَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ شَيْءٌ. وَقَدْ كَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، جَيِّدَ السَّرِيرَةِ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَجْمَعُ أَصْحَابَهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ فَيُطْعِمُهُمْ وَيَكْسُوهُمُ الْحُلَلَ، وَيُرْسِلُ إِلَى بُيُوتِهِمْ بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ وَالْبِرِّ الْكَثِيرِ، وَكَانَ يُصِرُّ الصُّرَرَ فَيَضَعُهَا بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّينَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ فِي الْمَسْجِدِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ كَانَتْ لَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ تُعْرَفُ بَعْدَهُ بِدَارِ نَعِيمٍ، وَحَمَّامِ نَعِيمٍ، بِنَوَاحِي الدِّيمَاسِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ، وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا.
ثُمَّ أَوْرَدَ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْجُعْفِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَجْلَحِ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ".

وَمِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبَانٍ، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي نَوَيْتُ أَنْ أُعْطِيَ هَذَا الثَّوْبَ أَكْرَمَ الْعَرَبِ. فَقَالَ: " أَعْطِيهِ هَذَا الْغُلَامَ "، يَعْنِي سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ وَاقِفٌ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الثِّيَابَ السَّعِيدِيَّةَ.
وَأَنْشَدَ الْفَرَزْدَقُ قَوْلَهُ فِيهِ:
تَرَى الْغُرَّ الْجَحَاجِحَ مِنْ قُرَيْشٍ إِذَا مَا الْخَطْبُ فِي الْحَدَثَانِ عَالَا قِيَامًا يَنْظُرُونَ إِلَى سَعِيدٍ
كَأَنَّهُمُ يَرَوْنَ بِهِ هِلَالَا
وَذَكَرَ أَنَّ عُثْمَانَ عَزَلَ عَنِ الْكُوفَةِ الْمُغِيرَةَ، وَوَلَّاهَا سَعِيدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، فَأَقَامَ بِهَا حِينًا، وَلَمْ تُحْمَدْ سِيرَتُهُ فِيهِمْ وَلَمْ يُحِبُّوهُ، ثُمَّ رَكِبَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ - وَهُوَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ - فِي جَمَاعَةٍ إِلَى عُثْمَانَ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهُمْ سَعِيدًا، فَلَمْ يَعْزِلْهُ، وَكَانَ عِنْدَهُ بِالْمَدِينَةِ فَبَعْثَهُ إِلَيْهِمْ، وَسَبَقَ الْأَشْتَرُ إِلَى الْكُوفَةِ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَحَثَّهُمْ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِمْ، وَرَكِبَ الْأَشْتَرُ فِي جَيْشٍ يَمْنَعُونَهُ مِنَ

الدُّخُولِ، قِيلَ: تَلَقَّوْهُ إِلَى الْعُذَيْبِ - وَقَدْ نَزَلَ سَعِيدٌ بِالْعُذَيْبِ - فَمَنَعُوهُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى رَدُّوهُ إِلَى عُثْمَانَ، وَوَلَّى الْأَشْتَرُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَالثَّغْرِ، وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ عَلَى الْفَيْءِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَبَعَثُوا إِلَى عُثْمَانَ فِي ذَلِكَ فَأَمْضَاهُ، وَسَرَّهُ ذَلِكَ فِيمَا أَظْهَرَهُ، وَلَكِنْ كَانَ هَذَا أَوَّلَ وَهَنٍ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ.
وَأَقَامَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى كَانَ زَمَنُ حَصْرِ عُثْمَانَ، فَكَانَ عِنْدَهُ بِالدَّارِ، ثُمَّ لَمَّا رَكِبَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مَعَ عَائِشَةَ مِنْ مَكَّةَ يُرِيدُونَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ رَكِبَ مَعَهُمْ، ثُمَّ انْفَرَدَ عَنْهُمْ هُوَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَغَيْرُهُمَا، فَأَقَامَ بِالطَّائِفِ حَتَّى انْقَضَتْ تِلْكَ الْحُرُوبُ كُلُّهَا، ثُمَّ وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَعَزَلَ مَرْوَانَ، فَأَقَامَ سَبْعًا، ثُمَّ رَدَّ مَرْوَانَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: بَعَثَنِي زِيَادٌ فِي شُغُلٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ أُمُورِي قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لِمَنْ يَكُونُ الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ ؟ فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَكُونُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ، أَمَّا كَرِيمَةُ قُرَيْشٍ فَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَأَمَّا فَتَى قُرَيْشٍ حَيَاءً وَدَهَاءً وَسَخَاءً فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَأَمَّا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَرَجُلٌ سَيِّدٌ كَرِيمٌ، وَأَمَّا الْقَارِئُ لِكِتَابِ اللَّهِ الْفَقِيهُ فِي دِينِ اللَّهِ، الشَّدِيدُ فِي حُدُودِ اللَّهِ فَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَأَمَّا رَجُلُ نَفْسِهِ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَمَّا رَجُلٌ

يَرُدُّ الشَّرِيعَةَ مَعَ دَوَاهِي السِّبَاعِ وَيَرُوغُ رَوَغَانَ الثَّعْلَبِ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ.
وَرُوِّينَا أَنَّهُ اسْتَسْقَى يَوْمًا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَأَخْرَجَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ دَارِهِ مَاءً فَشَرِبَ، ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ رَأَى ذَلِكَ الرَّجُلَ يَعْرِضُ دَارَهُ لِلْبَيْعِ، فَسَأَلَ عَنْهُ: لِمَ يَبِيعُ دَارَهُ ؟ فَقَالُوا: عَلَيْهِ دَيْنٌ ; أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَبَعَثَ إِلَى غَرِيمِهِ فَقَالَ: هِيَ لَكَ عَلَيَّ. وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ الدَّارِ فَقَالَ: اسْتَمْتِعْ بِدَارِكَ.
وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ يُجَالِسُونَهُ قَدِ افْتَقَرَ وَأَصَابَتْهُ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنَّ أَمِيرَنَا هَذَا يُوصَفُ بِكَرَمٍ، فَلَوْ ذَكَرْتَ لَهُ حَالَكَ فَلَعَلَّهُ يَسْمَحُ لَكَ بِشَيْءٍ. فَقَالَ: وَيْحَكِ، لَا تُخْلِقِي وَجْهِي، فَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ مَكَثَ الرَّجُلُ جَالِسًا فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: أَظُنُّ جُلُوسَكَ لِحَاجَةٍ. فَسَكَتَ الرَّجُلُ، فَقَالَ سَعِيدٌ لِغِلْمَانِهِ: انْصَرِفُوا. ثُمَّ قَالَ لَهُ سَعِيدٌ: لَمْ يَبْقَ غَيْرِي وَغَيْرُكَ. فَسَكَتَ، فَأَطْفَأَ الْمِصْبَاحَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: رَحِمَكَ اللَّهُ، لَسْتَ تَرَى وَجْهِي، فَاذْكُرْ حَاجَتَكَ. فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، أَصَابَتْنَا فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ فَأَحْبَبْتُ ذِكْرَهَا لَكَ فَاسْتَحْيَيْتُ. فَقَالَ لَهُ: إِذَا أَصْبَحْتَ فَالْقَ فُلَانًا وَكِيلِي. فَلَمَّا أَصْبَحَ الرَّجُلُ لَقِيَ الْوَكِيلَ، فَقَالَ لَهُ الْوَكِيلُ: إِنَّ الْأَمِيرَ قَدْ أَمَرَ لَكَ بِشَيْءٍ فَأْتِ بِمَنْ يَحْمِلُهُ مَعَكَ. فَقَالَ: مَا عِنْدِي مَنْ يَحْمِلُهُ. ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلَامَهَا، وَقَالَ: حَمَلْتِينِي عَلَى بَذْلِ وَجْهِيَ لِلْأَمِيرِ، فَقَدْ أَمَرَ لِي بِشَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَحْمِلُهُ، وَمَا أَرَاهُ أَمَرَ لِي إِلَّا بِدَقِيقٍ أَوْ طَعَامٍ، وَلَوْ كَانَ مَالًا لَمَا احْتَاجَ إِلَى مَنْ يَحْمِلُهُ، وَلَأَعْطَانِيهِ. فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: فَمَهْمَا أَعْطَاكَ فَإِنَّهُ يَقُوتُنَا

فَخُذْهُ. فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى الْوَكِيلِ، فَقَالَ لَهُ الْوَكِيلُ: إِنِّي أَخْبَرْتُ الْأَمِيرَ أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ أَحَدٌ يَحْمِلُهُ، وَقَدْ أَرْسَلَ بِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ السُّودَانِ يَحْمِلُونَهُ مَعَكَ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ إِذَا عَلَى رَأْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لِلْغِلْمَانِ: ضَعُوا مَا مَعَكُمْ وَانْصَرِفُوا. فَقَالُوا: إِنَّ الْأَمِيرَ قَدْ أَطْلَقْنَا لَكَ، فَإِنَّهُ مَا بَعَثَ مَعَ خَادِمٍ هَدِيَّةً إِلَى أَحَدٍ إِلَّا كَانَ الْخَادِمُ الَّذِي يَحْمِلُهَا مِنْ جُمْلَتِهَا. قَالَ: فَحَسُنَ حَالُ ذَلِكَ الرَّجُلِ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بَعَثَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِهَدَايَا وَأَمْوَالٍ وَكِتَابٍ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ يَخْطُبُ إِلَيْهِ ابْنَتَهُ أُمَّ عُثْمَانَ مِنْ أُمَيَّةَ بِنْتِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، فَلَمَّا وَصَلَتِ الْهَدَايَا وَالْأَمْوَالُ وَالْكِتَابُ قَرَأَهُ، ثُمَّ فَرَّقَ الْهَدَايَا فِي جُلَسَائِهِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا لَطِيفًا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [ الْعَلَقِ: 6، 7 ]. وَالسَّلَامُ.
وَرُوِّينَا أَنَّ سَعِيدًا خَطَبَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ مِنْ فَاطِمَةَ، الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَجَابَتْ إِلَى ذَلِكَ وَشَاوَرَتْ أَخَوَيْهَا فَكَرِهَا ذَلِكَ - وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ الْحُسَيْنُ وَأَجَابَ الْحَسَنُ - فَهَيَّأَتْ دَارَهَا وَنَصَبَتْ سَرِيرًا وَتَوَاعَدُوا لِلْكِتَابِ، وَأَمَرَتِ ابْنَهَا زَيْدَ بْنَ عُمَرَ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِمِائَةِ أَلْفٍ - وَفِي رِوَايَةٍ: بِمِائَتَيْ أَلْفٍ - مَهْرًا. وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ أَصْحَابُهُ لِيَذْهَبُوا مَعَهُ،

فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُحْرِجَ ابْنَيْ فَاطِمَةَ. فَتَرَكَ التَّزْوِيجَ، وَأَطْلَقَ جَمِيعَ ذَلِكَ الْمَالِ لَهَا.
وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ وَعَبْدُ الْأَعَلَى بْنُ حَمَّادٍ: سَأَلَ أَعْرَابِيٌّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فَأَمَرَ لَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَقَالَ الْخَادِمُ: خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أَمَرْتُكَ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَإِذْ قَدْ جَاشَ فِي نَفْسِكَ أَنَّهَا دَنَانِيرُ، فَادْفَعْ إِلَيْهِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ. فَلَمَّا قَبَضَهَا الْأَعْرَابِيُّ جَلَسَ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: مَالِكٌ ؟ أَلَمْ تَقْبِضْ نَوَالَكَ ؟ قَالَ: بَلَى وَاللَّهِ، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى الْأَرْضِ كَيْفَ تَأْكُلُ مِثْلَكَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ: جَاءَ رَجُلٌ فِي حَمَالَةِ أَرْبَعِ دِيَاتٍ سَأَلَ فِيهَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهُ: عَلَيْكَ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَوْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. فَانْطَلَقَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا سَعِيدٌ دَاخِلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ فَقِيلَ: سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ. فَقَصَدَهُ فَذَكَرَ لَهُ مَا أَقْدَمَهُ، فَتَرَكَهُ حَتَّى انْصَرَفَ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: ائْتِ بِمَنْ يَحْمِلُ مَعَكَ ؟ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ، إِنَّمَا سَأَلْتُكَ مَالًا لَا تَمْرًا. فَقَالَ: أَعْرِفُ، ائْتِ بِمَنْ يَحْمِلُ مَعَكَ ؟ فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَأَخَذَهَا الْأَعْرَابِيُّ، وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَسْأَلْ غَيْرَهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، أَخْزَى اللَّهُ الْمَعْرُوفُ إِذَا لَمْ يَكُنِ

ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، فَأَمَّا إِذَا أَتَاكَ الرَّجُلُ تَكَادُ تَرَى دَمَهُ فِي وَجْهِهِ، أَوْ جَاءَكَ مُخَاطِرًا لَا يَدْرِي أَتُعْطِيهِ أَمْ تَمْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ خَرَجْتَ لَهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِكِ مَا كَافَأْتَهُ.
وَقَالَ سَعِيدٌ: لِجَلِيسِي عَلَيَّ ثَلَاثٌ ; إِذَا دَنَا رَحَّبْتُ بِهِ، وَإِذَا جَلَسَ أَوْسَعْتُ لَهُ، وَإِذَا حَدَّثَ أَقْبَلْتُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: يَا بُنَيَّ، لَا تُمَازِحِ الشَّرِيفَ فَيَحْقِدَ عَلَيْكَ، وَلَا الدَّنِيءَ فَتَهُونَ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَيَجْتَرِئَ عَلَيْكَ.
وَخَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا فَلْيَكُنْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، إِنَّمَا يَتْرُكُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ ; إِمَّا مُصْلِحٌ فَيَسْعَدُ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ وَتَخِيبُ أَنْتَ، وَالْمُصْلِحُ لَا يَقِلُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِمَّا مُفْسِدٌ فَلَا يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: جَمَعَ أَبُو عُثْمَانَ طُرَفَ الْكَلَامِ.
وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ: مَوْطِنَانِ لَا أَسْتَحْيِي مِنْ رِفْقِي فِيهِمَا وَالتَّأَنِّي عِنْدَهُمَا، مُخَاطَبَتِي جَاهِلًا أَوْ سَفِيهًا، وَعِنْدَ مَسْأَلَتِي حَاجَةً لِنَفْسِي.
وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنَ الْعَابِدَاتِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْكُوفَةِ، فَأَكْرَمهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: لَا جَعَلَ اللَّهُ لَكَ إِلَى لَئِيمٍ حَاجَةً، وَلَا زَالَتِ الْمِنَّةُ لَكَ فِي أَعْنَاقِ الْكِرَامِ، وَإِذَا أَزَالَ عَنْ كَرِيمٍ نِعْمَةً جَعَلَكَ سَبَبًا لِرَدِّهَا عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ

الْوَلَدِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَكَانَتْ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ أُمَّ الْبَنِينَ بِنْتَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أُخْتَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ. وَلَمَّا حَضَرَتْ سَعِيدًا الْوَفَاةُ جَمَعَ بَنِيهِ، وَقَالَ لَهُمْ: لَا يَفْقِدْنَ أَصْحَابِي غَيْرَ وَجْهِي، وَصِلُوهُمْ بِمَا كُنْتُ أَصِلُهُمْ بِهِ، وَأَجْرُوا عَلَيْهِمْ مَا كُنْتُ أُجْرِي عَلَيْهِمْ، وَاكْفُوهُمْ مُؤْنَةَ الطَّلَبِ ; فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا طَلَبَ الْحَاجَةَ اضْطَرَبَتْ أَرْكَانُهُ، وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ ; مَخَافَةَ أَنْ يُرَدَّ، فَوَاللَّهِ لَرَجُلٌ يَتَمَلْمَلُ عَلَى فِرَاشِهِ يَرَاكُمْ مَوْضِعًا لِحَاجَتِهِ، أَعْظَمُ مِنَّةً عَلَيْكُمْ مِمَّا تُعْطُونَهُ. ثُمَّ أَوْصَاهُمْ بِوَصَايَا كَثِيرَةٍ، مِنْهَا أَنْ يُوَفُّوا مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ وَالْوُعُودِ، وَأَنْ لَا يُزَوِّجُوا أَخَوَاتِهِمْ إِلَّا مِنَ الْأَكْفَاءِ، وَأَنْ يُسَوِّدُوا أَكْبَرَهُمْ. فَتَكَفَّلَ بِذَلِكَ كُلِّهِ ابْنُهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ، فَلَمَّا مَاتَ دَفَنَهُ بِالْبَقِيعِ، ثُمَّ رَكِبَ عَمْرٌو إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَعَزَّاهُ فِيهِ، وَاسْتَرْجَعَ مُعَاوِيَةُ وَحَزِنَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: هَلْ تَرَكَ مِنْ دَيْنٍ عَلَيْهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَكَمْ ؟ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: ثَلَاثُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هِيَ عَلَيَّ. فَقَالَ ابْنُهُ: لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ أَوْصَانِي أَنْ لَا أَقْضِيَ دَيْنَهُ إِلَّا مِنْ ثَمَنِ أَرَاضِيهِ. فَاشْتَرَى مِنْهُ مُعَاوِيَةُ أَرَاضِيَ بِمَبْلَغِ الدَّيْنِ، وَسَأَلَ مِنْهُ عَمْرٌو أَنْ يَحْمِلَهَا لَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَحَمَلَهَا لَهُ، ثُمَّ شَرَعَ عَمْرٌو يَقْضِي مَا عَلَى أَبِيهِ مِنَ الدَّيْنِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ طَالَبَهُ شَابٌّ مَعَهُ رُقْعَةٌ مِنْ أَدِيمٍ فِيهَا عِشْرُونَ أَلْفًا، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: كَيْفَ اسْتَحْقَقْتَ هَذِهِ عَلَى أَبِي ؟ فَقَالَ الشَّابُّ: إِنَّهُ كَانَ يَوْمًا يَمْشِي وَحْدَهُ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَلَمَّا وَصَلَ قَالَ: هَلْ مِنْ حَاجَةٍ ؟ فَقُلْتُ: لَا إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ الْأَمِيرَ يَمْشِي وَحْدَهُ فَاخْتَرْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ: أَبْغِنِي رُقْعَةً مِنْ أَدِيمٍ. فَذَهَبْتُ إِلَى الْخَرَّازِينَ

فَأَتَيْتُهُ بِهَذِهِ، فَكَتَبَ لِي فِيهَا هَذَا الْمَبْلَغَ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ الْيَوْمَ شَيْءٌ. فَدَفَعَ إِلَيْهِ عَمْرٌو ذَلِكَ الْمَالَ، وَزَادَهُ شَيْئًا كَثِيرًا. وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ: مَنْ تَرَكَ مِثْلَكَ لَمْ يَمُتْ. ثُمَّ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عُثْمَانَ. ثُمَّ قَالَ: قَدْ مَاتَ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي وَمَنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنِّي، ثُمَّ أَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
إِذَا سَارَ مَنْ دُونَ امْرِئٍ وَأَمَامَهُ وَأَوْحَشَ مِنْ إِخْوَانِهِ فَهُوَ سَائِرُ
وَكَانَتْ وَفَاةُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ وَفَاتُهُ قَبْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ بِجُمُعَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
شَدَّادُ بْنُ أَوْسِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ، أَبُو يَعْلَى الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ.
وَحَكَى ابْنُ مَنْدَهْ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: شَهِدَ بَدْرًا. قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: وَهُوَ وَهْمٌ. وَكَانَ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ، كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ يُعَلِّقُ عَلَى فِرَاشِهِ، وَيَتَقَلَّبُ عَلَيْهِ وَيَتَلَوَّى كَمَا تَتَلَوَّى الْحَيَّةُ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ خَوْفَ النَّارِ قَدْ أَقْلَقَنِي. ثُمَّ يَقُومُ إِلَى صَلَاتِهِ.
قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: كَانَ شَدَّادٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ.

نَزَلَ شَدَّادٌ فِلَسْطِينَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ الْقُرَشِيُّ الْعَبْشَمِيُّ، ابْنُ خَالِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَلَ فِي فِيهِ، فَجَعَلَ يَبْتَلِعُ رِيقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " إِنَّهُ لَمِسْقَاءٌ ". فَكَانَ لَا يُعَالِجُ أَرْضًا إِلَّا ظَهَرَ لَهُ الْمَاءُ، وَكَانَ كَرِيمًا مُمَدَّحًا مَيْمُونَ النَّقِيبَةِ، اسْتَنَابَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْبَصْرَةِ بَعْدَ أَبِي مُوسَى، وَوَلَّاهُ بِلَادَ فَارِسَ بَعْدَ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَفَتَحَ خُرَاسَانَ كُلَّهَا وَأَطْرَافَ فَارِسَ وَسِجِسْتَانَ وَكَرْمَانَ وَبِلَادَ غَزْنَةَ، وَقُتِلَ كِسْرَى مَلِكُ الْمُلُوكِ فِي أَيَّامِهِ - وَهُوَ يَزْدَجِرْدُ - ثُمَّ أَحْرَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ بِحَجَّةٍ - وَقِيلَ: بِعُمْرَةٍ - مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ، شُكْرًا لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَفَرَّقَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جَزِيلَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ لَبِسَ الْخَزَّ بِالْبَصْرَةِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْحِيَاضَ بِعَرَفَةَ وَأَجْرَى إِلَيْهَا الْمَاءَ الْمَعِينَ وَالْعَيْنَ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى الْبَصْرَةِ حَتَّى قُتِلَ عُثْمَانُ، فَأَخَذَ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ وَتَلَقَّى بِهَا طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ، وَحَضَرَ مَعَهُمُ الْجَمَلَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ، وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ فِي صِفِّينَ، وَلَكِنْ

وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ الْبَصْرَةَ بَعْدَ صُلْحِهِ مَعَ الْحَسَنِ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَرْضِهِ بِعَرَفَاتٍ، وَأَوْصَى إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْكُتُبِ شَيْءٌ.
رَوَى مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ".
وَقَدْ زَوَّجَهُ مُعَاوِيَةُ بِابْنَتِهِ هِنْدَ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، فَكَانَتْ تَلِي خِدْمَتَهُ بِنَفْسِهَا مِنْ مَحَبَّتِهَا لَهُ، فَنَظَرَ يَوْمًا فِي الْمِرْآةِ، فَرَأَى صَبَاحَةَ وَجْهِهَا وَشَيْبَةً فِي لِحْيَتِهِ فَطَلَّقَهَا، وَبَعَثَ إِلَى أَبِيهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِشَابٍّ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا بِسَنَةٍ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. قَالَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ: وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ. وَأُمُّهُ أُمُّ رُومَانَ أُمُّ عَائِشَةَ فَهُوَ شَقِيقُهَا، بَارَزَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَرَادَ قَتْلَ أَبِيهِ أَبِي بَكْرٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَبُوهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمْتِعْنَا بْنفْسِكَ ". ثُمَّ أَسْلَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ

بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْهُدْنَةِ، وَهَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَرَزَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ كُلَّ سَنَةٍ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ، وَعَائِشَةُ مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِهَا، وَمَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ، فَأَمَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَصَرَهُ، فَأَخَذَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ السِّوَاكَ، فَقَضَمَتْهُ وَطَيَّبَتْهُ، ثُمَّ دَفَعَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَنَّ بِهِ أَحْسَنَ اسْتِنَانٍ، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعَلَى ". ثُمَّ قَضَى.
قَالَتْ: فَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ، وَمَاتَ بَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، فِي بَيْتِي وَيَوْمِي، لَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا.
وَقَدْ شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَتْحَ الْيَمَامَةِ وَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ سَبْعَةً، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ مُحَكَّمَ بْنَ الطُّفَيْلِ صَدِيقَ مُسَيْلِمَةَ عَلَى بَاطِلِهِ، كَانَ مُحَكَّمٌ وَاقِفًا فِي ثُلْمَةِ حَائِطٍ، فَرَمَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَسَقَطَ مُحَكَّمٌ، فَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ تِلْكَ الثُّلْمَةِ فَخَلَصُوا إِلَى مُسَيْلِمَةَ فَقَتَلُوهُ. وَقَدْ شَهِدَ فَتْحَ الشَّامَ، وَكَانَ مُعَظَّمًا بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَنُفِلَ لَيْلَى بِنْتَ الْجُودِيِّ مَلِكِ عَرَبِ الشَّامِ، نَفَلَهُ إِيَّاهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ مُفَصَّلًا.

وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ - وَلَمْ يُجَرَّبْ عَلَيْهِ كَذْبَةٌ قَطُّ - ذَكَرَ عَنْهُ حِكَايَةً ; أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتْ بَيْعَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِمَرْوَانَ: جَعَلْتُمُوهَا وَاللَّهِ هِرَقْلِيَّةً وَكِسْرَوِيَّةً. يَعْنِي جَعَلْتُمْ مُلْكَ الْمَلِكِ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ وَلَدِهِ. فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: اسْكُتْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ [ الْأَحْقَافِ: 17 ]. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِينَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّهُ أَنْزَلَ عُذْرِي. وَيُرْوَى أَنَّهَا بَعَثَتْ إِلَى مَرْوَانَ تَعْتِبُهُ وَتُؤَنِّبُهُ وَتُخْبِرُهُ بِخَبَرٍ فِيهِ ذَمٌّ لَهُ وَلِأَبِيهِ لَا يَصِحُّ عَنْهَا.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ بَعْدَ أَنْ أَبَى الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَرَدَّهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا، وَقَالَ: أَبِيعُ دِينِي بِدُنْيَايَ ؟ ! وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: ثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، ثَنَا مَالِكٌ قَالَ: تُوُفِّيَ

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي نَوْمَةٍ نَامَهَا. وَرَوَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَذَكَرَهُ وَزَادَ: فَأَعْتَقَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ رِقَابًا. وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، فَذَكَرَهُ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْحُبْشِيُّ - عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ. وَقِيلَ: اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا - فَحَمَلَهُ الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى دُفِنَ بِأَعَلَى مَكَّةَ فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ مَكَّةَ زَارَتْهُ، وَقَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شَهِدْتُكَ لَمْ أَبْكِ عَلَيْكَ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَكَ لَمْ أَنْقُلْكَ مِنْ مَوْضِعِكَ الَّذِي مِتَّ فِيهِ. ثُمَّ تَمَثَّلَتْ بِشِعْرِ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ فِي أَخِيهِ مَالِكٍ:
وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى فُسْطَاطًا مَضْرُوبًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - ضَرَبَتْهُ عَائِشَةُ بَعْدَ مَا ارْتَحَلَتْ - فَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ بِنَزْعِهِ وَقَالَ: إِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْعَامِ فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ، وَيُقَالُ: إِنَّ

عَبْدَ الرَّحْمَنِ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ وَكَاتِبُهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قِصَّةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ مَعَ لَيْلَى بِنْتِ الْجُودِيِّ مَلِكِ عَرَبِ الشَّامِ
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَدِمَ الشَّامَ فِي تِجَارَةٍ - يَعْنِي فِي زَمَانِ جَاهِلِيَّتِهِ - فَرَأَى هُنَالِكَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا: لَيْلَى ابْنةُ الْجُودِيِّ. عَلَى طُنْفُسَةٍ، حَوْلَهَا وَلَائِدُهَا، فَأَعْجَبَتْهُ - قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: رَآهَا بِأَرْضِ بُصْرَى، فَقَالَ فِيهَا:
تَذَكَّرْتُ لَيْلَى وَالسَّمَاوَةُ دُونَهَا فَمَا لِابْنَةِ الْجُودِيِّ لَيْلَى وَمَا لِيَا وَأَنَّى تَعَاطَى قَلْبُهُ حَارِثِيَّةً
تُدَمِّنُ بُصْرَى أَوْ تَحُلُّ الْجَوَابِيَا

وَأَنَّى تُلَاقِيهَا بَلَى وَلَعَلَّهَا
إِنِ النَّاسُ حَجُّوا قَابِلًا أَنْ تُوَافِيَا
قَالَ: فَلَمَّا بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَيْشَهُ إِلَى الشَّامِ قَالَ لِلْأَمِيرِ عَلَى الْجَيْشِ: إِنْ ظَفِرْتَ بِلَيْلَى بِنْتِ الْجُودِيِّ عَنْوَةً فَادْفَعْهَا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ. فَظَفِرَ بِهَا فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَأُعْجِبَ بِهَا وَآثَرَهَا عَلَى نِسَائِهِ، حَتَّى جَعَلْنَ يَشْكُونَهُ إِلَى عَائِشَةَ، فَعَاتَبَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ كَأَنِّي أَرْشُفُ بِأَنْيَابِهَا حَبَّ الرُّمَّانِ. فَأَصَابَهَا وَجَعٌ سَقَطَ لَهُ فُوهَا، فَجَفَاهَا حَتَّى شَكَتْهُ إِلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، لَقَدْ أَحْبَبْتَ لَيْلَى فَأَفْرَطْتَ، وَأَبْغَضَتْهَا فَأَفْرَطَتْ، فَإِمَّا أَنْ تُنْصِفَهَا، وَإِمَّا أَنْ تُجَهِّزَهَا إِلَى أَهْلِهَا. فَجَهَّزَهَا إِلَى أَهْلِهَا.
قَالَ الزُّبَيْرِيُّ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَفَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ لَيْلَى بِنْتَ الْجُودِيِّ حِينَ فَتَحَ دِمَشْقَ، وَكَانَتِ ابْنةَ مَلِكِ دِمَشْقَ. يَعْنِي ابْنَةَ مَلِكِ الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ حَوْلَ دِمَشْقَ فِي زَمَنِ الرُّومِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ
ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَصْغَرَ مِنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بِسَنَةٍ. وَأُمُّهُمَا أُمُّ الْفَضْلِ لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ. وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ كَرِيمًا جَمِيلًا وَسِيمًا، يُشْبِهُ أَبَاهُ فِي الْجَمَالِ.

رُوِّينَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصِفُ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ وَكَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُ: " مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ فَلَهُ كَذَا ". فَيَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ فَيَقَعُونَ عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ فَيُقَبِّلُهُمْ وَيَلْتَزِمُهُمْ.
وَقَدِ اسْتَنَابَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ عَلَى الْيَمَنِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَسَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَلَمَّا كَانَ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ اخْتَلَفَ هُوَ وَيَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ الرَّهَاوِيُّ الَّذِي قَدِمَ عَلَى الْحَجِّ مِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ الْحَجَبِيِّ، فَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ عَامَئِذٍ، ثُمَّ لَمَّا صَارَتِ الشَّوْكَةُ لِمُعَاوِيَةَ تَسَلَّطَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ، فَقَتَلَ لَهُ وَلَدَيْنِ، وَجَرَتْ أُمُورٌ بِالْيَمَنِ قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا. وَكَانَ يَقْدُمُ هُوَ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمَدِينَةَ فَيُوسِعُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ عِلْمًا، وَيُوسِعُهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ كَرَمًا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي مَسِيرٍ لَهُ، مَعَ مَوْلًى لَهُ عَلَى خَيْمَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَلَمَّا رَآهُ الْأَعْرَابِيُّ أَعْظَمَهُ وَأَجَلَّهُ، وَرَأَى حُسْنَهُ وَشَكْلَهُ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَيْحَكِ ! مَاذَا عِنْدَكِ لِضَيْفِنَا هَذَا ؟ فَقَالَتْ: لَيْسَ عِنْدَنَا إِلَّا هَذِهِ الشُّوَيْهَةُ الَّتِي حَيَاةُ ابْنَتِكَ مِنْ لَبَنِهَا. فَقَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذَبْحِهَا. فَقَالَتْ: أَتَقْتُلُ ابْنَتَكَ ؟ فَقَالَ: وَإِنْ. فَأَخَذَ الشَّفْرَةَ وَالشَّاةَ، وَجَعَلَ يَذْبَحُهَا وَيَسْلُخُهَا، وَهُوَ يَقُولُ مُرْتَجِزًا:
يَا جَارَتِي لَا تُوقِظِي الْبُنَيَّهْ

إِنْ تُوقِظِيهَا تَنْتَحِبْ عَلَيَّهْ وَتَنْزِعِ الشَّفْرَةَ مِنْ يَدَيَّهْ
ثُمَّ هَيَّأَهَا طَعَامًا، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ وَمَوْلَاهُ فَعَشَّاهُمَا، وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ قَدْ سَمِعَ مُحَاوَرَتَهُ لِامْرَأَتِهِ فِي الشَّاةِ، فَلَمَّا أَرَادَ الِارْتِحَالَ قَالَ لِمَوْلَاهُ: وَيْلَكَ ! مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْمَالِ ؟ فَقَالَ: مَعِي خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ فَضَلَتْ مِنْ نَفَقَتِكَ. فَقَالَ: ادْفَعْهَا إِلَى الْأَعْرَابِيِّ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، تُعْطِيهِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، وَإِنَّمَا ذَبْحَ لَكَ شَاةً وَاحِدَةً تُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ؟ ! فَقَالَ: وَيْحَكَ ! وَاللَّهِ لَهْوَ أَسْخَى مِنَّا وَأَجْوَدُ ; لِأَنَّا إِنَّمَا أَعْطَيْنَاهُ بَعْضَ مَا نَمْلِكُ، وَجَادَ هُوَ عَلَيْنَا بِجَمِيعِ مَا يَمْلُكُ، وَآثَرَنَا عَلَى مُهْجَةِ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: لِلَّهِ دَرُّ عُبَيْدِ اللَّهِ ! مِنْ أَيِّ بَيْضَةٍ خَرَجَ ؟ ! وَمَنْ أَيِّ شَيْءٍ دَرَجَ ؟ !
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: تُوُفِّيَ فِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: بِالْيَمَنِ. وَلَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ.
قَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا هُشَيْمٌ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ،

عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَتِ الْغُمَيْصَاءُ - أَوِ الرُّمَيْصَاءُ - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو زَوْجَهَا ; تَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا، فَمَا كَانَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ زَوْجُهَا، فَزَعَمَ أَنَّهَا كَاذِبَةً، وَأَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ لَكِ ذَلِكَ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ رَجُلٌ غَيْرُهُ ". وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ هُشَيْمٍ بِهِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَحَبُّ أَزْوَاجِهِ إِلَيْهِ، الْمُبَرَّأَةُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَأُمُّهَا هِيَ أُمُّ رُومَانَ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرٍ الْكِنَانِيَّةُ، تُكَنَّى عَائِشَةُ بِأُمِّ عَبْدِ اللَّهِ، قِيلَ: كَنَّاهَا بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; بِابْنِ أُخْتِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا أَسْقَطَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُقْطًا، فَسَمَّاهُ عَبْدُ اللَّهِ.
وَلَمْ يَتَزَوَّجْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا غَيْرَهَا، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ غَيْرِهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي أَزْوَاجِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْهَا، تَزَوَّجَهَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَفَاةِ خَدِيجَةَ، وَقَدْ أَتَاهُ الْمَلَكُ بِهَا فِي الْمَنَامِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَيَقُولُ: هَذِهِ زَوْجَتُكَ. قَالَ: " فَأَكْشِفُ عَنْكِ فَإِذَا هِيَ أَنْتِ ". فَأَقُولُ: " إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ

اللَّهِ يُمْضِهِ ". فَخَطَبَهَا مِنْ أَبِيهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَتَحِلُّ لَكَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: أَوَلَسْتُ أَخَاكَ ؟ قَالَ: " بَلَى، فِي الْإِسْلَامِ، وَهِيَ لِي حَلَالٌ " فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَظِيَتْ عِنْدَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي أَوَّلِ السِّيرَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ، وَقِيلَ: بِسَنَةٍ وَنِصْفٍ. وَقِيلَ: بِثَلَاثِ سِنِينَ. وَكَانَ عُمْرُهَا إِذْ ذَاكَ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ دَخَلَ بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ بَعْدَ بَدْرٍ فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ فَأَحَبَّهَا. وَلَمَّا تَكَلَّمَ فِيهَا أَهْلُ الْإِفْكِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ غَارَ اللَّهُ لَهَا، فَأَنْزَلَ لَهَا بَرَاءَتَهَا فِي عَشْرِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ تُتْلَى عَلَى تَعَاقُبِ الْأَزْمَانِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِيمَا سَلَفَ، وَشَرَحْنَا الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، وَبَسَطْنَا ذَلِكَ أَيْضًا فِي كِتَابِ " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَمَقْنَعٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَىتَكْفِيرِ مَنْ قَذَفَهَا بَعْدَ بَرَاءَتِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَقِيَّةِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ يَكْفُرُ مَنْ قَذَفَهُنَّ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَكْفُرُ ; لِأَنَّ الْمَقْذُوفَةَ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا غَضِبَ لَهَا، لِأَنَّهَا زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهِيَ وَغَيْرُهَا مِنْهُنَّ سَوَاءٌ.
وَمِنْ خَصَائِصِهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَ لَهَا فِي الْقَسْمِ يَوْمَانِ ; يَوْمُهَا وَيَوْمُ سَوْدَةَ حِينَ وَهَبَتْهَا ذَلِكَ تَقَرُّبًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ مَاتَ فِي يَوْمِهَا وَفِي بَيْتِهَا، وَبَيْنَ سَحْرِهَا وَنَحْرِهَا، وَجَمْعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِهِ وَرِيقِهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَوَّلِ سَاعَةٍ مِنَ الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ فِي بَيْتِهَا.

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّهُ لَيُهَوِّنُ عَلَيَّ أَنِّي رَأَيْتُ بَيَاضَ كَفِّ عَائِشَةَ فِي الْجَنَّةِ ".. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَهَذَا فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَحَبَّةِ الْعَظِيمَةِ ; أَنَّهُ يَرْتَاحُ لِأَنَّهُ رَأَى بَيَاضَ كَفِّهَا أَمَامَهُ فِي الْجَنَّةِ.
وَمِنْ خَصَائِصِهَا أَنَّهَا أَعْلَمُ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ هِيَ أَعْلَمُ النِّسَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ; قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَوْ جُمِعَ عِلْمُ عَائِشَةَ إِلَى عِلْمِ جَمِيعِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِلْمِ جَمِيعِ النِّسَاءِ، لَكَانَ عِلْمُ عَائِشَةَ أَفْضَلَ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ كَانَتْ عَائِشَةُ أَفْقَهَ النَّاسِ، وَأَعْلَمَ النَّاسِ، وَأَحْسَنَ النَّاسِ رَأْيًا فِي الْعَامَّةِ. وَقَالَ عُرْوَةُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِفِقْهٍ وَلَا طِبٍّ وَلَا شِعْرٍ مِنْ عَائِشَةَ. وَلَمْ تَرْوِ امْرَأَةٌ وَلَا رَجُلٌ، غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ بِقَدْرِ رِوَايَتِهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا - أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ، إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَقَالَ أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ: رَأَيْتُ مَشْيَخَةَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ الْأَكَابِرَ يَسْأَلُونَهَا عَنِ الْفَرَائِضِ.

فَأَمَّا مَا يَلْهَجُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَعُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِنْ إِيرَادِ حَدِيثِ: " خُذُوا شَطْرَ دِينِكُمْ عَنِ الْحُمَيْرَاءِ ". فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، وَلَا هُوَ مُثْبَتٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَسَأَلَتُ عَنْهُ شَيْخَنَا أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ فَقَالَ: لَا أَصْلَ لَهُ.
ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فِي النِّسَاءِ أَعْلَمُ مِنْ تِلْمِيذَاتِهَا ; عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، وَعَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، وَقَدْ تَفَرَّدَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بِمَسَائِلَ مِنْ بَيْنِ الصَّحَابَةِ لَمْ تُوجَدْ إِلَّا عِنْدَهَا، وَانْفَرَدَتْ بِاخْتِيَارَاتٍ أَيْضًا، وَرَدَّتْ أَخْبَارًا بِخِلَافِهَا بِنَوْعٍ مِنَ التَّأْوِيلِ. وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ مَسْرُوقٌ إِذَا حَدَّثَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: حَدَّثَتْنِي الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللَّهِ، الْمُبَرَّأَةُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ.
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: " عَائِشَةُ ". قُلْتُ: وَمِنَ الرِّجَالِ ؟ قَالَ: " أَبُوهَا ".
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَيْضًا، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

" كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ". وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى تَفْضِيلِ عَائِشَةَ عَلَى خَدِيجَةَ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ دَخَلَ فِيهِ سَائِرُ النِّسَاءِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرُهُنَّ.
وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ: اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ، فَارْتَاعَ لِذَلِكَ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ هَالَةَ ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَغِرْتُ، فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا ؟ هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَأَمَّا مَا يُرْوَى فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ: " مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا ". فَلَيْسَ يَصِحُّ سَنَدُهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُطَوَّلًا عِنْدَ وَفَاةِ خَدِيجَةَ، وَذَكَرْنَا حُجَّةَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى تَفْضِيلِهَا عَلَى عَائِشَةَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، ثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: إِنَّ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يَوْمًا: " يَا عَائِشُ، هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ ". فَقُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، تَرَى مَا لَا أَرَى.
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَاجْتَمَعَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَقُلْنَ لَهَا: قُولِي لَهُ يَأْمُرُ النَّاسَ أَنْ يُهْدُوا إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَأَعْرَضَ عَنِّي. ثُمَّ قُلْنَ لَهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا، ثُمَّ لَمَّا دَارَ إِلَيْهَا قَالَتْ لَهُ، فَقَالَ: " يَا أُمَّ سَلَمَةَ، لَا تُؤْذِينِي فِي عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ وَأَنَا فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا ". وَذَكَرَ أَنَّهُنَّ بَعَثْنَ فَاطِمَةَ ابْنَتَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدُونَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ. فَقَالَ: " يَا بُنَيَّةُ، أَلَّا تُحِبِّينَ مَنْ أُحِبُّ ؟ " قَالَتْ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: " فَأَحِبِّي هَذِهِ ". ثُمَّ بَعَثْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ فَدَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ، فَتَكَلَّمَتْ زَيْنَبُ، وَنَالَتْ مِنْ عَائِشَةَ، فَانْتَصَرَتْ عَائِشَةُ مِنْهَا، وَكَلَّمَتْهَا حَتَّى أَفْحَمَتْهَا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ، وَيَقُولُ: " إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ ". وَذَكَرْنَا أَنَّ عَمَّارًا لَمَّا جَاءَ يَسْتَصْرِخُ النَّاسَ وَيَسْتَنْفِرُهُمْ إِلَى قِتَالِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ أَيَّامَ الْجَمَلِ، صَعِدَ هُوَ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ فَسَمِعَ عَمَّارُ رَجُلًا يَنَالُ مِنْ عَائِشَةَ فَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ مَقْبُوحًا مَنْبُوحًا، وَاللَّهِ إِنَّهَا لِزَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا

وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلَاكُمْ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَوْ إِيَّاهَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، ثَنَا زَائِدَةُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خُثَيْمٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ ذَكْوَانُ حَاجِبُ عَائِشَةَ، أَنَّهُ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى عَائِشَةَ، فَجِئْتُ وَعِنْدَ رَأْسِهَا ابْنُ أَخِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقُلْتُ: هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنُ. فَأَكَبَّ عَلَيْهَا ابْنُ أَخِيهَا عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنُ. وَهِيَ تَمُوتُ، فَقَالَتْ: دَعْنِي مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَقَالَ: يَا أُمَّتَاهُ، إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ صَالِحِ بَنِيكِ يُسَلِّمُ عَلَيْكِ وَيُوَدِّعُكِ. فَقَالَتِ: ائْذَنْ لَهُ إِنْ شِئْتَ. قَالَ: فَأَدْخَلْتُهُ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ: أَبْشِرِي. فَقَالَتْ: بِمَاذَا ؟ فَقَالَ: مَا بَيْنَكِ وَبَيْنَ أَنْ تَلْقَيْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَحِبَّةَ إِلَّا أَنَّ تَخْرُجَ الرُّوحُ مِنَ الْجَسَدِ، كُنْتِ أَحَبَّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ إِلَّا طَيِّبًا، وَسَقَطَتْ قِلَادَتُكِ لَيْلَةَ الْأَبْوَاءِ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُصْبِحَ فِي الْمَنْزِلِ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَكَانَ ذَلِكَ فِي سَبَبِكِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الرُّخْصَةِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، جَاءَ بِهَا الرُّوحُ الْأَمِينُ، فَأَصْبَحَ لَيْسَ لِلَّهِ مَسْجِدٌ مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ إِلَّا يُتْلَى فِيهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. فَقَالَتْ: دَعْنِي مِنْكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا. وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِهَا وَمَنَاقِبِهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهَا فِي هَذَا الْعَامِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: قَبْلَهُ بِسَنَةٍ. وَقِيلَ: بَعْدَهُ بِسَنَةٍ. وَالْمَشْهُورُ فِي رَمَضَانَ مِنْهُ، وَقِيلَ: فِي

شَوَّالٍ. وَالْأَشْهَرُ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعُ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ بِالْبَقِيعِ لَيْلًا، وَصَلَّى عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْوِتْرِ، وَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا خَمْسَةٌ، وَهُمْ ; عَبْدُ اللَّهِ وَعُرْوَةُ ابْنَا الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ مِنْ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاسِمُ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا أَخِيهَا مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ عُمْرُهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعًا وَسِتِّينَ سَنَةً ; لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمْرُهَا ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ عُمْرُهَا عَامَ الْهِجْرَةِ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ تِسْعَ سِنِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ
فِيهَا شَتَّى عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ الْجُهَنِيُّ فِي أَرْضِ الرُّومِ فِي الْبَرِّ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا غَزْوٌ فِي الْبَحْرِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ غَزَا فِي الْبَحْرِ عَامَئِذٍ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ.
وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ عَنِ الْكُوفَةِ ; لِسُوءِ سِيرَتِهِ فِيهِمْ، وَوَلَّى عَلَيْهَا النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ.
وَفِيهَا وَلَّى مُعَاوِيَةُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادٍ وِلَايَةَ خُرَاسَانَ، وَعَزَلَ عَنْهَا سَعِيدَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَصَارَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَعَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ عَلَى سِجِسْتَانَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ وَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا إِلَى زَمَنِ يَزِيدَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ لَهُ: كَمْ قَدِمْتَ بِهِ مِنَ الْمَالِ ؟ قَالَ: عِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفٍ. فَقَالَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ حَاسَبْنَاكَ، وَإِنْ شِئْتَ سَوَّغْنَاكَهَا وَعَزَلْنَاكَ عَنْهَا، عَلَى أَنْ تُعْطِيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ: بَلْ تُسَوِّغُنِيهَا، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فَأُعْطِيهُ مَا قُلْتَ، وَمِثْلَهَا مَعَهَا. فَعَزَلَهُ وَوَلَّى غَيْرَهُ، وَبَعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ جِهَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ قِبَلِي.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَفَدَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَمَعَهُ أَشْرَافُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْعِرَاقِ، فَاسْتَأْذَنَ لَهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْهُ، فَكَانَ آخِرَ مَنْ أَدْخَلَهُ

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق