الخميس، 30 نوفمبر 2023

ج4وج5وج6.كتاب منهاج السنة النبوية شيخ الإسلام بن تيمية

 

ج4وج5وج6.كتاب منهاج السنة النبوية شيخ الإسلام بن تيمية 

الطرق فهذه الطرق وغيرها مما يبين به حدوث كل ما سوى الله تعالى سواء قيل بأن كل حادث مسبوق بحادث أو لم يقل وأيضا فما يقوله قدماء الشيعة والكرامية ونحوهم لهؤلاء أن يقولوا نحن علمنا أن العالم مخلوق بما فيه من آثار الحاجة كما قد تبين قبل هذا أن كل جزء من العالم محتاج فلا يكون واجبا بنفسه فيكون مفتقرا إلى الصانع فثبت الصانع بهذا الطريق ثم يقولوا ويمتنع وجود حوادث لا أول لها فثبت حدوثه بهذا الطريق ولهذا كان محمد بن الهيصم ومن وافقه كالقاضي أبي خازم بنالقاضي أبي يعلى في كتابه المسمى بالتلخيص لا يسلكون في إثبات الصانع الطريق التي يسلكها أولئك المعتزلة ومن وافقهم حيث يثبتون أولا حدوث العالم بحدوث الأجسام ويجعلون ذلك هو الطريق إلى إثبات الصانع بل يبتدئون بإثبات الصانع ثم يثبتون حدوث العالم بتناهي الحوادث ولا يحتاجون أن يقولوا كل جسم محدث وبالجملة فالتقديرات أربعة فإن الحوادث إما أن يجوز دوامها وإما أن يمتنع دوامها ويجب أن يكون لها ابتداء وعلى التقديرين

 

 

فإما أن يكون كل جسم محدثا وإما أن لا يكون وقد قال بكل قول طائفة من أهل القبلة وغيرهم وكل هؤلاء يقولون بحدوث الأفلاك وأن الله أحدثها بعد عدمها ليس فيهم من يقول بقدمها فإن ذلك قول الدهرية سواء قالوا مع ذلك بإثبات عالم معقول كالعلة الأولى كما يقوله الإلهيون منهم أو لم يقولوا بذلك كما يقوله الطبيعيون منهم وسواء قالوا إن تلك العلة الأولى هي علة غائية بمعنى أن الفلك يتحرك للتشبه بها كما هو قول أرسطو وأتباعه أو قالوا إنها علة مبدعة للعالم كما يقوله ابن سينا وأمثاله أو قيل بالقدماء الخمسة كما يقوله الحرنانيون ونحوهم أو قيل بعدم صانع لها سواء قيل بوجوب ثبوت وجودها أو حدوثها لا بنفسها أو وجوب وجود المادة وحدوث الصورة بلا محدث كما يذكر عن الدهرية المحضة منهم مع أن كثيرا من الناس يقولون إن هذه الأقوال من جنس أقوال السوفسطائية التي لا تعرف عن قوم معينين وإنما هي شيء يخطر لبعض الناس في بعض الأحوال وإذا كان كذلك فقد تبين أنه ليس لهذا الإمامي وأمثاله من متأخري الإمامية والمعتزلة وموافقيهم حجة عقلية على بطلان قول إخوانهم من متقدمي الإمامية وموافقيهم الذين نازعوهم في مسائل الصفات والقرآن وما يتبع ذلك فكيف يكون حالهم مع أهل السنة الذين هم أصح عقلا ونقلا.

*

فصل وأما قوله عن الإمامية (إنهم يقولون إنه قادر على جميع المقدورات).فهذا ملبس لا فائدة فيه فإن قول القائل إنه قادر على جميع المقدورات يراد به شيئان أحدهما أنه قادر على كل ممكن فإن كل ممكن هو مقدور بمعنى أنه يقدر القادر على فعله

 

والثاني أن يراد به أنه قادر على كل ما هو مقدور له لا يقدر على ما ليس بمقدور له والمعنى الأول هو مراد أهل السنة المثبتين للقدر إذا قالوا هو قادر على كل مقدور فإنهم يقولون إن الله قادر على كل ما يمكن أن يكون مقدورا لأي قادر كان فما من أمر ممكن في نفسه إلا والله قادر عليه لا يتصور عندهم أن يقدر العباد على ما لم يقدر الله عليه وهذا معنى قوله تعالى إنه على كل شيء قدير (سورة فصلت). فأما الممتنع لنفسه فإنه ليس بشيء عند عامة العقلاء وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن هل هو شيء أم لا فأما الممتنع فلم يقل أحد إنه شيء ثابت في الخارج فإن الممتنع هو ما لا يمكن وجوده في الخارج مثل كون الشيء موجودا معدوما فإن هذا ممتنع لذاته لا يعقل ثبوته في الخارج وكذلك كون الشيء أسود كله أبيض كله وكون الجسم الواحد بعينه في الوقت الواحد في مكانين والممتنع يقال على الممتنع لنفسه مثل هذه الأمور وعلى الممتنع لغيره مثل ما علم الله تعالى أنه لا يكون وأخبر أنه لا يكون وكتب أنه لا يكون فهذا لا يكون وقد يقال إنه يمتنع أن يكون لأنه لو كان للزم أن يكون علم الله بخلاف معلومه وخبره بخلاف مخبره لكن هذا هو ممكن في نفسه والله قادر عليه كما قال بلى قادرين على أن نسوي بنانه (سورة القيامة). وقال تعالى وإنا على ذهاب به لقادرون سورة

 

 

المؤمنون وقال تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو بلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض (سورة الأنعام). وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزل قوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هاتان أهون ومن ذلك قوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها (سورة السجدة). ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة سورة هو ولو شاء الله ما اقتتلوا (سورة البقرة). إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء ((سورة سبأ).). وأمثال ذلك مما أخبر الله تعالى أنه لو شاء لفعله فإه هذه الأمور التي أخبر الله أنه لو شاء لفعلها تستلزم أنها ممكنة مقدورة له وقد تنازع الناس في خلاف المعلوم هل هو ممكن مقدور كإيمان

 

 

الكافر الذي علم الله أنه لا يؤمن والذين زعموا أن الله يكلف العبد ما هو ممتنع احتجوا بتكليفه وزعموا أن إيمانه ممتنع لاستلزامه انقلاب علم الله جهلا وجوابهم أن لفظ الممتنع مجمل يراد به الممتنع لنفسه ويراد به ما يمتنع لوجود غيره فهذا الثاني يوصف بأنه ممكن مقدور بخلاف الأول وإيمان من علم الله أنه لا يؤمن مقدور له لكنه لا يقع وقد علم الله أنه لا يؤمن مع كونه مستطيع الإيمان كمن علم أنه لا يحج مع استطاعته الحج ومن الناس من يدعى أن الممتنع لذاته مقدور ومنهم من يدعى إمكان أمور يعلم بالعقل امتناعها وغالب هؤلاء لا يتصور ما يقوله حق التصور أو لا يفهم ما يريده الناس بتلك العبارة فيقع الإشتراك والإشتباه في اللفظ أو في المعنى وحقيقة الأمر ما أخبر الله به في غير موضع من كتابه أنه على كل شيء قدير كما تقدم بيانه وهذا مذهب أهل السنة المثبتين للقدر وأما القدرية من الإمامية والمعتزلة وغيرهم فإذا قالوا إنه قادر على كل المقدورات لم يريدوا بذلك ما يريده أهل الإثبات وإنما يريدون بذلك أنه قادر على كل ما هو مقدور له وأما نفس أفعال العباد من الملائكة والجن والإنس فإن الله لا يقدر عليها عند القدرية وإنما تنازعوا هل يقدر على مثلها وإذا كان كذلك كان قولهم إنه قادر على كل مقدور إنما يتضمن

 

 

أنه قادر على كل ما هو مقدور له وغيره أيضا هو قادر على كل مقدور له لكن غاية ما يقولون إنه قادر على مثل مقدور العباد والعبد لا يقدر على مثل مقدور قادر آخر وبكل حال فإذا كان المراد أنه قادر على ما هو مقدور له كان هذا بمنزلة أن يقال هو عالم بكل ما يعلمه وخالق لكل ما يخلقه ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها مثل أن يقول القائل إنه فاعل لجميع المفعولات ومثل أن يقال زيد عالم بكل ما يعلمه وقادر على كل ما يقدر عليه وفاعل لكل ما يفعله فإن الشأن في بيان المقدورات هل هو على كل شيء قدير فمذهب هؤلاء الإمامية وشيوخهم القدرية أنه ليس على كل شيء قديرا وأن العباد يقدرون على ما لا يقدر عليه ولا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا ولا يقيم قاعدا باختياره ولا يقعد قائما باختياره ولا يجعل أحدا مسلما مصليا ولا صائما ولا حاجا ولا معتمرا ولايجعل الإنسان لا مؤمنا ولا كافرا ولا برا ولا فاجرا ولا يخلقه هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا فهذه الأمور كلها ممكنة ليس فيها ما هو ممتنع لذاته وعندهم أن الله لا يقدر على شيء منها فظهر تمويههم بقولهم إن الله قادر على جميع المقدورات وأما أهل السنة فعندهم أن الله تعالى على كل شيء قدير وكل ممكن فهو مندرج في هذا وأما المحال لذاته مثل كون الشيء الواحد موجودا معدوما فهذا لا حقيقة له ولا يتصور وجوده ولا يسمى شيئا باتفاق العقلاء ومن هذا الباب خلق مثل نفسه وأمثال ذلك

 

 

وأما قوله إنه عدل حكيم لا يظلم أحدا ولا يفعل القبيح وإلا لزم الجهل أو الحاجة تعالى الله عنهما فيقال له هذا متفق عليه بين المسلمين من حيث الجملة أن الله لا يفعل قبيحا ولا يظلم أحدا ولكن النزاع في تفسير ذلك فهو إذا كان خالقا لأفعال العباد هل يقال إنه فعل ما هو قبيح منه وظلم أم لا فأهل السنة المثبتون للقدر يقولون ليس هو بذلك ظالما ولا فاعلا قبيحا والقدرية يقولون لو كان خالقا لأفعال العباد كان ظالما فاعلا لما هو قبيح منه وأما كون الفعل قبيحا من فاعله فلا يقتضى أن يكون قبيحا من خالقه كما أن كونه أكلا وشربا لفاعله لا يقتضى أن يكون كذلك لخالقه لأن الخالق خلقه في غيره لم يقم بذاته فالمتصف به من قام به الفعل لا من خلقه في غيره كما أنه إذا خلق لغيره لونا وريحا وحركة وقدرة وعلماكان ذلك الغير هو المتصف بذلك اللون والريح والحركة والقدرة والعلم فهو المتحرك بتلك الحركة والمتلون بذلك اللون والعالم بذلك العلم والقادر بتلك القدرة فكذلك إذا خلق في غيره كلاما أو صلاة أو صياما أو طوافا كان ذلك الغير هو المتكلم بذلك الكلام وهو المصلي وهو الصائم وهو الطائف وكذلك إذا خلق في غيره رائحة خبيثة منتنة كان هو الخبيث المنتن ولم يكن الرب تعالى موصوفا بما خلقه في غيره وإذا خلق الإنسان هلوعا جزوعا كما أخبر تعالى بقوله إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا (سورة المعارج). لم يكن هو سبحانه لا هلوعا ولا جزوعا ولا منوعا كما تزعم القدرية أنه إذا جعل الإنسان ظالما كاذبا كان هو ظالما كاذبا تعالى عن ذلك وهذا يدل على قول جماهير المثبتين للقدر القائلين بأنه خالق أفعال العباد فإنهم يقولون إن الله تعالى خالق العبد وجميع ما يقوم به من إرادته وقدرته وحركاته وغير ذلك وذهبت طائفة منهم من الكرامية وغيرهم كالقاضي أبي خازم بن القاضي أبي يعلى إلى أن معنى كونه خالقا لأفعال العباد أنه خالق

 

 

للأسباب التي عندها يكون العبد فاعلا ويمتنع ألا يكون فاعلا فما علم الله أن العبد يفعله خلق الأسباب التي يصير بها فاعلا ويقولون إن أفعال العباد وجدت من جهته لا من جهة الله ويقولون إن الله تعالى موجدها كما قالوا إن الله خالقها ويقولون إنه لم يكونها ولم يجعلها ويقولون إن العبد تحدث له إرادة مكتسبة لكن قد يقولون إنها بإرادة ضرورية يخلقها الله كما ذكر ذلك القاضي أبو خازم وغيره وقد يقولون بل العبد يحدث إرادته مطلقا كما قالته القدرية لكن هؤلاء يقولون إن الرب يسر خلق الأسباب التي تبعث داعية على إيقاع ما يعلم أنه يوقعه ولكن على قول الجمهور من قال إن الفعل هو المفعول كما يقوله الجهم بن صفوان ومن وافقه كالأشعري وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يقول إن أفعال العباد هي فعل الله فإن قال أيضا وهي فعل لهم لزمه أن يكون الفعل الواحد لفاعلين كما يحكى عن أبي إسحاق الإسفراييني وإن لم يقل هي فعل لهملزمه أن تكون أفعال العباد فعلا لله لا لعباده كما يقوله جهم بن صفوان والأشعري ومن وافقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم الذين يقولون إن الخلق هو المخلوق وإن أفعال العباد خلق لله عز وجل فتكون هي فعل الله وهي مفعول الله كما أنها خلقه وهي مخلوقة وهؤلاء لا يقولون إن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة ولكن هم مكتسبون لها وإذا طولبوا بالفرق بين الفعل والكسب لم يذكروا فرقا معقولا ولهذا كان يقال عجائب الكلام ثلاثة أحوال أبي هاشم وطفرة النظام وكسب الأشعري

 

 

وهذا الذي ينكره الأئمة وجمهور العقلاء ويقولون إنه مكابرة للحس ومخالفة للشرع والعقل وأما جمهور أهل السنة المتبعون للسلف والأئمة فيقولون إن فعل العبد فعل له حقيقة ولكنه مخلوق لله ومفعول لله لا يقولون هو نفس فعل الله ويفرقون بين الخلق والمخلوق والفعل والمفعول وهذا الفرق الذي حكاه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد عن العلماء قاطبة وهو الذي ذكره غير واحد من السلف والأئمة وهو قول الحنفية وجمهور المالكية والشافعية والحنبلية وحكاه البغوي عن أهل السنة قاطبة وحكاه الكلاباذي صاحب التعرف لمذهب التصوف عن جميع الصوفية وهو قول أكثر طوائف أهل الكلام من الهشاميةوكثير من المعتزلة والكرامية وهو قول الكلابية أيضا أئمة الأشعرية فيما ذكره أبو علي الثقفي وغيره على قول الكرامية وأثبتوا لله فعلا قائما بذاته غير المفعول كما أثبتوا له إرادة قديمة قائمة بذاته وذكر سائر الإعتقاد الذي صنفوه لما جرى بينهم وبين ابن خزيمة نزاع في مسألة القرآن لكن ما أدري هل ذلك قول ابن كلاب نفسه أو قالوه هم بناء على هذا الأصل المستقر عندهم ثم القدر فيه نزاع بين الإمامية كما بينهم النزاع في الصفات قال أبو الحسن الأشعري في المقالات واختلفت الرافضة في أعمال العباد هل هي مخلوقة وهي ثلاث فرق فالفرقة الأولى منهم وهم هشام بن الحكميزعمون أن أعمال العباد مخلوقة لله قال وحكى جعفر بن حرب عن هشام بن الحكم أنه كان يقول إن أفعال الإنسان اختيار له من وجه اضطرار له من وجه اختيار له من وجه أنه أرادها واكتسبها واضطرار من جهة أنها لا تكون منه إلا عند حدوث السبب المهيج عليه قال والفرقة الثانية منهم يزعمون أن لا جبر كما قال الجهمي ولا تفويض كما قالت المعتزلة لأن الرواية عن الأئمة زعموا جاءت بذلك ولم يتكلفوا أن يقولوا في أفعال العباد هل هي مخلوقة أم لا شيئا والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن أعمال العباد غير

 

 

مخلوقة لله وهذا قول قوم يقولون بالإعتزال والإمامة فإذن كانت الإمامية على ثلاثة أقوال منهم من يوافق المثبتة ومنهم من يوافق المعتزلة ومنهم من يقف والواقفة معنى قولهم هو معنى قول أهل السنة ولكن توقفوا في إطلاق اللفظ فإن أهل السنة لا يقولون بالتفويض كما تقول القدرية ولا بالجبر كما تقول الجهمية بل أئمة السنة كالأوزاعي والثوري وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم متفقون على إنكار قول الجبرية المأثور عن جهم بن صفوان وأتباعه وإن كان الأشعري يقول بأكثره وينفى الأسباب والحكم فالسلف مثبتون للأسباب والحكمة والمقصود أن الإمامية إذا كان لهم قولان كانوا متنازعين في ذلك كتنازع سائر الناس لكنهم فرع على غيرهم في هذا وغيره فإن مثبتيهم تبع للمثبتة ونفاتهم تبع للنفاة إلا ما اختصوا به من افتراء الرافضة فإن الكذب والجهل والتكذيب بالحق الذي اختصوا به لم يشركهم فيه أحد من طوائف الأمة وأما ما يتكلمون به في سائر مسائلالعلم أصوله وفروعه فهم فيه تبع لغيرهم من الطوائف يستعيرون كلام الناس فيتكلمون به وما فيه من حق فهو من أهل السنة لا ينفردون عنهم بمسألة واحدة صحيحة لا في الأصول ولا في الفروع إذ كان مبدأ بدعة القوم من قوم منافقين لا مؤمنين وحينئذ فهذا النافي يناظر أصحابه في ذلك وهو لم يذكر حجة وقد تقدم تفصيل مذاهب أهل السنة في ذلك وقد ذكر أصحابه عن الأئمة ما يخالف قوله في ذلك وأما قوله إن الله يثيب المطيع ويعفو عن العاصي أو يعذبه فهذا مذهب أهل السنة الخاصة وسائر من انتسب إلى السنة والجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية وسائر فرق الأمة من المرجئة وغيرهم والخلاف في ذلك مع الخوارج والمعتزلة فإنهم يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار وأما الشيعة فالزيدية منهم أو أكثر الزيدية تقول بقول المعتزلة في ذلك والإمامية على قولين

 

 

قال الأشعري وأجمعت الزيدية أن أصحاب الكبائر كلهم معذبون في النار خالدون فيها مخلدون أبدا لا يخرجون منها ولا يغيبون عنها قال واختلفت الروافض في الوعيد وهم فرقتان فالفرقة الأولى منهم يثبتون الوعيد على مخالفيهم ويقولون إنهم يعذبون ولا يقولون بإثبات الوعيد فيمن قال بقولهم ويزعمون أن الله يدخلهم الجنة وإن أدخلهم النار أخرجهم منها ورووا في ذلك عن أئمتهم أن ما كان بين الله وبين الشيعة من المعاصي سألوا الله فيهم فصفح عنهم وما كان بين الشيعة وبين الأئمة تجاوزوا عنه وما كان بين الشيعة وبين الناس من المظالم شفعوا لهم أئمتهم حتى يصفحوا عنهمقال والفرقة الثانية منهم يذهبون إلى إثبات الوعيد وأن الله عز وجل يعذب كل مرتكب للكبائر من أهل مقالتهم كان أو من غير أهل مقالتهم ويخلدهم في النار وهذا قول أئمة هذا الإمامي من المعتزلة ونحوهم وأما قوله ويثيب المطيع لئلا يكون ظالما فقد قدمنا أن للمثبتين للقدر في تفسير الظلم الذي يجب تنزيه الله عنه قولين أحدهما أن الظلم هو الممتنع لذاته وهو المحال لذاته وإن كان ما يمكن أن يكون فالرب قادر عليه وكل ما كان قادرا عليه لا يكون ظالما وهذا قول الجهم والأشعري وموافقيهما وقول كثير من السلف والخلف أهل السنة والحديث ويروى عن إياس بن معاوية قال ما ناظرت بعقلي كله إلا القدريةقلت لهم أخبروني عن الظلم ماهو قالوا التصرف في ملك غيره قلت فلله كل شيء وهذا قول كثير من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم

 

 

فعلى هذا القول لا يقال يثيب الطائع لئلا يكون ظلما فإن الممتنع لذاته الذي لا يكون مقدورا لا يتصور وقوعه فأي شيء كان مقدورا وفعل لم يكن ظلما عند هؤلاء وهؤلاء يجوزون أن يعذب الله العبد في الدنيا والآخرة بلا ذنب كما يجوزون تعذيب أطفال الكفار ومجانينهم بلا ذنب ثم من هؤلاء من يقطع بدخول أطفال الكفار النار ومنهم من يجوزه ويتوقف فيه وطائفة من أصحاب أحمد يقطعون بذلك وينقلونه عن أحمد وهو خطاء على أحمد بل نصوص أحمد المتواترة عنه وعن غيره من الأئمة مطابقة للأحاديث الصحيحة في ذلك وهؤلاء إنما اشتبه عليهم الأمر لأن أحمد سئل عنهم في بعض أجوبته فأجاب بالحديث الصحيح الله أعلم بما كانوا عاملين فظن هؤلاء أن أحمد أجاب بحديث روى عن خديجة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين فقال إنهم في النار فقالت بلا عمل فقال الله أعلم بما كانوا عاملين وهذا الحديث كذب موضوع عند أهل الحديث ومن هو دون أحمد من أئمة الحديث يعرف هذا فضلا عن مثل أحمدوأحمد لم يجب بهذا وإنما أجاب بالحديث الذي في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبي هريرة اقرؤا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها (سورة الروم). قالوا يا رسول الله أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير فقالالله أعلم بما كانوا عاملين وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أطفال المشركين فقال

 

 

الله أعلم بما كانوا عاملين وقد بسط الكلام على هذا الأحاديث وأقوال الناس في هذه المسألة ونحوها في غير هذا الموضع مثل كتاب رد تعارض العقل والنقل وغير ذلك والقول الثاني أن الظلم ممكن مقدور وأنه منزه عنه لا يفعله لعلمه وعدله فهو لا يحمل على أحد ذنب غيره قال تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى (سورة الإسراء). ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (سورة طـــه). وعلى هذا فعقوبة الإنسان بذنب غيره ظلم ينزه الله عنه وأماإثابة المطيع ففضل منه وإحسان وإن كان حقا واجبا بحكم وعده باتفاق المسلمين وبما كتبه على نفسه من الحرمة وبموجب أسمائه وصفاته فليس هو من جنس ظلم الأجير الذي استؤجر ولم يوف أجره فإن هذا معاوضة والمستأجر استوفى منفعته فإن لم يوفه أجره ظلمه والله تعالى هو المحسن إلى العباد بأمره ونهيه وبإقداره لهم على الطاعة وبإعانتهم على طاعته وهم كما قال تعالى في الحديث الصحيح الإلهي يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ياعبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم مانقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص مما عندي إلا

 

 

كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرى فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه فبين أن الخير الموجود من الثواب مما يحمد الله عليه لأنه المحسن به وبأسبابه وأما العقوبة فإنه عادل فيها فلا يلومن العبد إلا نفسه كما قيل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل وأصحاب هذا القول يقولون الكتاب والسنة إنما تدل على هذا القول والله قد نزه نفسه في غير موضع عن الظلم الممكن المقدور مثل نقص الإنسان من حسناته وحمل سيئات غيره عليه وأما خلق أفعال العباد واختصاصه أهل الإيمان بإعانتهم على الطاعة فليس هذا من الظلم في شيء باتفاق أهل السنة والجماعة وسائر المثبتين للقدر من جميع الطوائف ولكن القدرية تزعم أن ذلك ظلم وتتكلم في التعديل والتجوير بكلام متناقض فاسد كما قد بين في موضعه

 

 

وأما قوله أو يعذبه بجرمه من غير ظلم له فهذا متفق عليه بين المسلمين أن الله تعالى ليس ظالما بتعذيب العصاة وهم على ما تقدم من التنازع في مسمى الظلم هذا يقول لأن الظلم منه ممتنع وهذا يقول إنه وضع العقوبة موضعنا والظلم وضع الشيء في غير موضعه كما تقول العرب من أشبه أباه فما ظلم ومعلوم أن الواحد من العباد إذا عذب الظالم على ظلمه بالعدل لم يكن ظالما له وإن اعتقد أن الله خلق فعله وأنه تحت القضاء والقدر فإذا لم يكن المخلوق ظالما للمخلوق إذا عاقبه بظلمه وإن كان يعلم أن ذلك مقدر عليه فالخالق أولى أن لا يكون ظالما له وإن كان ما فعله مقدرا هذا مع ما أنه يحسن منه سبحانه بحكمته ما لا يحسن من الناس فإن الواحد من الناس لو رأى مماليكه يزنى بعضهم ببعض ويظلم بعضهم بعضا وهو قادر على منعهم ولم يمنعهم لكان مذموما بذلك مستحقا للوم والعقاب والبارئ تعالى يرى ما يفعله بعض مماليكه من ظلم وفاحشة وهو قادر على منعهم فلا يمنعهم وهو سبحانه حميد مجيد منزه عن استحقاق الذم فضلا عن عقاب إما لما له في ذلك منالحكمة على قول الأكثرين وإما لمحض المشيئة والإرادة على قول نفاة التعليل والإرادة من المثبتين للقدر فإذا كان يحسن منه من الأفعال ما لا يحسن من البشر بطل قياسه على خلقه وكان ما يحسن منا من عقوبة الظالم لا يقبح منه بطريق الأولى والأحرى فإن ما ينزه عنه من النقائص فهو أولى بتنزيهه وله من الحمد ما لا يستحقه غيره وأما قوله وأن أفعاله محكمة واقعة لغرض ومصلحة وإلا لكان عابثا فقد تقدم أن لأهل السنة الذين ليسوا بإمامية قولين في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه وأن الأكثرين على التعليل والحكمة هل هي منفصلة عن الرب لا تقوم به أو قائمة به مع ثبوت الحكم المنفصلة أيضا فيه قولان لهم وهل تتسلسل الحكم أو لا تتسلسل أو تتسلسل في المستقبل دون الماضي هذا فيه أقوال لهم

 

 

وأما لفظ الغرض فتطلقه طائفة من أهل الكلام كالقدرية وطائفة من المثبتين للقدر أيضا يقولون إنه يفعل لغرض كما ذكر ذلك من يذكره من مثبتة القدر أهل التفسير والفقه وغيرهم ولكن الغالب على الفقهاء وغيرهم من المثبتين للقدر أنهم لا يطلقون لفظ الغرض وإن أطلقوا لفظ الحكمة لما فيه من إيهام الظلم والحاجة فإن الناس إذا قالوا فلان فعل هذا لغرض وفلان له غرض مع فلان كثيرا ما يعنون بذلك المراد المذموم من ظلم وفاحشة أو غيرهما والله تعالى منزه عن أن يريد ما يكون مذموما بإرادته وأما قوله إنه أرسل الرسل لإرشاد العالم فهكذا يقول جماهير أهل السنة أن الله تعالى أرسل محمدا صلىالله عليه وسلم رحمة للعالمين والذين يمتنعون من التعليل يقولون أرسله وجعل إرساله رحمة في حق من آمن به أو في حقه وحق غيره ويقولون هذه الرحمة جعلت عند ذلك كما يقولون في سائر الأمورالتي حصل عندها آثار فإن الجمهور المثبتين للحكمة يقولون فعل كذا لأجل ذلك وفعل كذا بكذا وأولئك يقولون فعل عنده لا به ولا له وأما قوله وأنه تعالى غير مرئي ولا مدرك بشيء من الحواس لقوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار (سورة الأنعام). ولأنه ليس في جهة فيقال له أولا النزاع في هذه المسألة بين طوائف الإمامية كما النزاع فيها بين غيرهم فالجهمية والمعتزلة والخوارج وطائفة من غير الإمامية تنكرها والإمامية لهم فيها قولان فجمهور قدمائهم يثبت الرؤية وجمهور متأخيريهم ينفونها وقد تقدم أن أكثر قدمائهم يقولون بالتجسيم

 

 

قال الأشعري وكل المجسمة إلا نفرا قليلا يقول بإثبات الرؤية وقد يثبت الرؤية من لا يقول بالتجسيم قلت وأما الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة وأبي يوسف وأمثال هؤلاء وسائر أهل السنة والحديث والطوائف المنتسبين إلى السنة والجماعة كالكلابية والأشعرية والسالمية وغيرهم فهؤلاء كلهم متفقون على إثبات الرؤية لله تعالى والأحاديث بها متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بحديثه وكذلك الآثار بها متواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وقد ذكر الإمام أحمد وغيره من الأئمة العالمين بأقوال السلف أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان متفقون على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار ومتفقون على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة منهم من نفى رؤيته بالعين في الدنيا ومنهم من أثبتها وقد بسطت هذه الأقوال والأدلة من الجانبين في غير هذا الموضع والمقصود هنا نقل إجماع السلف على أثبات الرؤية

 

 

بالعين في الآخرة ونفيها في الدنيا إلا الخلاف في النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وأما احتجاجه واحتجاج النفاة أيضا بقوله تعالى لا تدركه الأبصار (سورة الأنعام). فالآية حجة عليهم لا لهم لأن الإدراك إما أن يراد به مطلق الرؤية أو الرؤية أو الرؤية المقيدة بالإحاطة والأول باطل لأنه ليس كل من رأى شيئا يقال إنه أدركه كما لا يقال أحاط به كما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقال ألست ترى السماء قال بلى قال أكلها ترى قال لا ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل أو البستان أو المدينة لا يقال إنه أدركها وإنما يقال أدركها إذا أحاط بها رؤية ونحن في هذا المقام ليس علينا بيان ذلك وإنما ذكرنا هذا بيانا لسند المنع بل المستدل بالآية عليه أن يبين أن الإدراك في لغة العرب مرادف للرؤية وأن كل من رأى شيئا يقال في لغتهم إنه أدركه وهذا لا سبيل إليه كيف وبين لفظالرؤية ولفظ الإدراك عموم وخصوص أو اشتراك لفظي فقد تقع رؤية بلا إدراك وقد يقع إدراك بلا رؤية فإن الإدراك يستعمل في إدراك العلم وإدراك القدرة فقد يدرك الشيء بالقدرة وإن لم يشاهد كالأعمى الذي طلب رجلا هاربا منه فأدركه ولم يره وقد قال تعالى فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين (سورة الشعراء). فنفى موسى الإدراك مع إثبات الترائي فعلم أنه قد يكون رؤية بلا أدراك والإدراك هنا هو إدراك القدرة أي ملحوقون محاط بنا وإذا انتفى هذا الإدراك فقد تنتفى إحاطة البصر أيضا ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكره هذه الآية يمدح بها نفسه

 

 

سبحانه وتعالى ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليس صفة مدح لأن النفى المحض لا يكون مدحا إن لم يتضمن أمرا ثبوتيا ولأن المعدوم أيضا لا يرى والمعدوم لا يمدح فعلم أن مجرد نفى الرؤية لا مدح فيه وهذا أصل مستمر وهو أن العدم المحض الذي لا يتضمن ثبوتا لا مدح فيه ولا كمال فلا يمدح الرب نفسه به بل ولا يصف نفسه به وإنما يصفها بالنفي المتضمن معنى ثبوت كقوله لا تأخذه سنة ولا نوم وقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقوله ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وقوله ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم (سورة البقرة). وقوله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ((سورة سبأ).). وقوله وما مسنا من لغوب (سورة ق). ونحو ذلك من القضايا السلبية التي يصف الرب تعالى بها نفسه وأنها تتضمن اتصافه بصفات الكمال الثبوتية مثل كمال حياته وقيوميته وملكه وقدرته وعلمه وهدايته وانفراده بالربوبية والإلهية ونحو ذلك وكل ما يوصف به العدم المحض فلا يكون إلا عدما محضا ومعلوم أن العدم المحض يقال فيه إنه لايرى فعلم أن نفى الرؤية عدم محض ولا يقال في العدم المحض لا يدرك وإنما يقال هذا فيما لا يدرك لعظمته لا لعدمه وإذا كان المنفى هو الإدراك فهو سبحانه وتعالى لا يحاط بهرؤية كما لا يحاط به علما ولا يلزم من نفى إحاطة العلم والرؤية نفى العلم والرؤية بل يكون ذلك دليلا على أنه يرى و يحاط به كما يعلم ولا يحاط به فإن تخصيص الإحاطة بالنفي يقتضي أن مطلق الرؤية ليس بمنفى وهذا الجواب قول أكثر العلماء من السلف وغيرهم وقد روى معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره وقد روى في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحتاج

 

 

الآية إلى تخصيص ولا خروج عن ظاهر الآية فلا نحتاج أن نقول لا نراه في الدنيا أو نقول لا تدركه الأبصار بل المبصرون أو لا تدركه كلها بل بعضها ونحو ذلك من الأقوال التي فيها تكلف ثم نحن في هذا المقام يكفينا أن نقول الآية تحتمل ذلك فلا يكون فيها دلالة على نفي الرؤية فبطل استدلال من استدل بها على الرؤية وإذا أردنا أن نثبت دلالة الآية على الرؤية مع نفيها للإدراك الذي هو الإحاطة أقمنا الدلالة على أن الإدراك في اللغة ليس هو مرادفا للرؤية بل هو أخص منها وأثبتنا ذلك باللغة وأقوال المفسرين من السلف وبأدلة أخرى سمعية وعقلية وأما قوله ولأنه ليس في جهة فيقال للناس في إطلاق لفظ الجهة ثلاثة أقوال فطائفة تنفيها وطائفة تثبتها وطائفة تفصل وهذا النزاع موجود في المثبتة للصفات من أصحاب الأئمة الأربعة وأمثالهم ونزاع أهل الحديث والسنة الخاصة في نفى ذلك وإثباتهنزاع لفظي ليس هو نزاعا معنويا ولهذا كان طائفة من أصحاب الإمام أحمد كالتميميين والقاضي أبي يعلى في أول قولية تنفيها وطائفة أخرى أكثر منهم تثبتها وهو آخر قولى القاضي والمتبعون للسلف لا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا تبين أن ما أثبت بها فهو ثابت وما نفى بها فهو منفى لأن المتأخرين قد صار لفظ الجهة في اصطلاحهم فيه إجمال وإبهام كغيرها من ألفاظهم الإصطلاحية فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي ولهذا كان النفاة ينفون بها حقا وباطلا ويذكرون عن مثبتيها ما لا يقولون به وبعض المثبتين لها يدخل فيها معنى باطلا مخالفا لقول السلف ولما دل عليه الكتاب والميزان

 

 

وذلك أن لفظ الجهة قد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله كان مخلوقا والله تعالى لا يحصره ولا يحيط به شيء من المخلوقات فإنه بائن من المخلوقات وإن أريد بالجهة أمر عدمى وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده فإذا قيل إنه في جهة إن كان معنى الكلام أنه هناك فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع عال عليه ونفاة لفظ الجهة يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة وأنه كان قبل الجهة وأنه من قال إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم أو أنه كان مستغنيا عن الجهة ثم صار فيها وهذه الأقوال ونحوها إنما تدل على أنه ليس في شيء من المخلوقات سواء سمى جهة أو لم يسم وهذا حق فإنه سبحانه منزه عن أن تحيط به المخلوقات أو أن يكون مفتقرا إلى شيء منها العرش أو غيره ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إلى سماء الدنيا كما جاء الحديث يكون العرش فوقه ويكون محصورا بين طبقتين منالعالم فقوله مخالف لإجماع السلف مخالف للكتاب والسنة كما قد بسط في موضعه وكذلك توقف من توقف في نفى ذلك من أهل الحديث فإنما ذلك لضعف علمه بمعانى الكتاب والسنة وأقوال السلف ومن نفى الجهة وأراد بالنفي كون المخلوقات محيطة به أو كونه مفتقرا إليها فهذا حق لكن عامتهم لا يقتصرون على هذا بل ينفون أن يكون فوق العرش رب العالمين أو أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم عرج به إلى الله أو أن يصعد إليه شيء وينزل منه شيء أو أن يكون مباينا للعالم بل تارة يجعلونه لا مباينا ولا محايثا فيصفونه بصفة المعدوم والممتنع وتارة يجعلونه حالا في كل موجود أو يجعلونه وجود كل موجود ونحو ذلك مما يقوله أهل التعطيل وأهل الحلول

 

 

وإذا كان كذلك فهو قد استدل على عدم الرؤية بكونه ليس في جهة وهذا الموضع مما تنازع فيه مثبتو الرؤية فقال الجمهور بما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته وهذا الحديث متفق عليه من طرق كثيرة وهو مستفيض بل متواتر عند أهل العلم بالحديث اتفقوا على صحته مع أنه جاء من وجوه كثيرة قدجمع طرقها أكثر أهل العلم بالحديث كأبي الحسن الدارقطنى وأبي نعيم الأصبهاني وأبي بكر الآجري وغيرهم وقد أخرج أصحاب الصحيح ذلك من وجوه متعددة توجب لمن كان عارفا بها العلم القطعي بأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك وقالت طائفة إنه يرى لا في جهة لا أما الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته وهذا هو المشهور عند متأخري الأشعرية فإن هذا مبنى على اختلافهم في كون البارئ تعالى فوق العرش فالأشعري وقدماء أصحابه كانوا يقولون إنه بذاته فوق العرش وهو مع ذلك ليس بجسموعبدالله بن سعيد بن كلاب والحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي كانوا يقولون بذلك بل كانوا أكمل إثباتا من الأشعري فالعلو عندهم من الصفات العقلية وهو عند الأشعري من الصفات السمعية ونقل ذلك الأشعري عن أهل السنة والحديث كما فهمه عنهم وكان أبو محمد بن كلاب هو الأستاذ الذي اقتدى به الأشعري في طريقه هو وأئمة أصحابه كالحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وأبي سليمان الدمشقي وأبي حاتم البستى وخلق كثير يقولون إن اتصافه بأنه مباين للعالم عال عليه هو من الصفات المعلومة بالعقل كالعلم والقدرة وأما الإستواء على العرش فهو من الصفات الخبرية وهذا قول كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وأكثر أهل

 

 

الحديث وهو آخر قولى القاضي أبي يعلى وقول أبي الحسن بن الزاغوني وهو قول كثير من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم وأما الأشعري فالمشهور عنه أن كليهما صفة خبرية وهو قول كثير من أتباع الأئمة الأربعة وهو أول قولى القاضي أبي يعلى وقول التميميين وغيرهم من أصحابه وكثير من متأخري أصحاب الأشعري أنكروا أن يكون الله فوق العرش أو في السماء وهؤلاء الذين ينفون الصفات الخبرية كأبي المعالي وأتباعه فإن الأشعري وأئمة أصحابه يثبتون الصفات الخبريةوهؤلاء ينفونها فنفوا هذه الصفة لأنها على قول الأشعري من الصفات الخبرية ولما لم تكن هذه الصفة عند هؤلاء عقلية قالوا إنه يرى لا في جهة وجمهور الناس من مثبتة الرؤية ونفاتها يقولون إن قول هؤلاء معلوم الفساد بضرورة العقل كقولهم في الكلام ولهذا يذكر أبو عبدالله الرازي أنه لا يقول بقولهم في مسألة الكلام والرؤية أحد من طوائف المسلمين ونحن نسلك طريقين من البيان أحدهما نبين فيه أن هؤلاء الذين رد عليهم من مثبتى الرؤية كالأشعري وغيره أقرب إلى الصواب من قول النفاة الثاني نبين في الحق بيانا مطلقا لا نذب فيه عن أحد الطريق الأول أن نبين أن هذه الطائفة وغيرها من الطوائف المثبتة للرؤية أقل خطأ وأكثر صوابا من نفاة الرؤية ونقول لهؤلاء النفاة للرؤية أنتم أكثرتم التشنيع على الأشعرية ومن وافقهم من أتباع الأئمة في مسألة الرؤية ونحن نبين أنهم أقرب إلى الحق منكم نقلا

 

 

وعقلا وأن قولهم إذا كان فيه خطأ فالخطأ الذي في قولكم أعظم وأفحش عقلا ونقلا فإذا قلتم هؤلاء إذا أثبتوا مرئيا لا في جهة كان هذا مكابرة للعقل قيل لكم لا يخلو إما أن تحكموا في هذا الباب العقل وإما أن لا تحكموه فإن لم تحكموه بطل قولكم وإن حكمتموه فقول من أثبت موجودا قائما بنفسه يرى أقرب إلى العقل من قول من أثبت موجودا قائما بنفسه لا يرى ولا يمكن أن يرى وذلك لأن الرؤية لا يجوز أن يشترط في ثبوتها أمور عدمية بل لا يشترط في ثبوتها إلا أمور وجودية ونحن لا ندعى هنا أن كل موجود يرى كما ادعى ذلك من ادعاه فقامت عليه الشناعات فإن ابن كلاب ومن اتبعه من أتباع الأئمةالأربعة وغيرهم قالوا كل قائم بنفسه يرى وهكذا قالت الكرامية وغيرهم فيما أظن وهذه الطريقة التي سلكها ابن الزاغوني من أصحاب أحمد وأما الأشعري فادعى أن كل موجود يجوز أن يرى ووافقه على ذلك طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى وغيره ثم طرد قياسه فقال كل موجود يجوز أن تتعلق به الإدراكات الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس ووافقه على ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي والرازي وكذلك القاضي أبو يعلى وغيرهم وخالفهم غيرهم فقالوا لا نثبت في ذلك الشم والذوق واللمس ونفوا جواز تعلق هذه بالبارئ والأولون جوزوا تعلق الخمس بالبارئ وآخرون من أهل الحديث وغيرهم أثبتوا ما جاء به السمع من اللمس دون الشم والذوق وكذلك المعتزلة منهم من أثبت جنس الإدراك كالبصريين ومنهم من نفاه كالبغداديين والمقصود هنا بأن المثبتة ولو أخطأوا في بعض كلامهم فهم أقرب إلى الحق نقلا وعقلا من نفاة الرؤية فنقول من الأشياء ما يرى ومنها ما لا يرى والفارق بينهما لا يجوز أن يكون أمورا عدمية لأن الرؤية أمر وجودي والمرئى لا يكون إلا موجودا فليست عدمية لا تتعلق بالمعدوم ولا يكون الشرط فيه

 

 

إلا أمرا وجوديا لا يكون عدميا وكل ما لا يشترط فيه إلا الوجود دون العدم كان بالوجود الأكمل أولى منه بالأنقص فكل ما كان وجوده أكمل كان أحق بأن يرى وكل ما لم يمكن أن يرى فهو أضعف وجودا مما يمكن أن يرى فالأجسام الغليظة أحق بالرؤية من الهواء والضياء أحق بالرؤية من الظلام لأن النور أولى بالوجود والظلمة أولى بالعدم والموجود الواجب الوجود أكمل الموجودات وجودا وأبعد الأشياء عن العدم فهو أحق بأن يرى وإنما لم نره لعجز أبصارنا عن رؤيته لا لأجل امتناع رؤيته كما أن شعاع الشمس أحق بأن يرى من جميع الأشياء ولهذا مثل النبي صلى الله عليه وسلم رؤية الله به فقال ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر شبه الرؤية بالرؤية وإن لم يكن المرئى مثل المرئى ومع هذا فإذا حدق البصر في الشعاع ضعف عن رؤيته لا لامتناع في ذات المرئى بل لعجز الرائى فإذا كان في

 

 

الدار الآخرة أكمل الله تعالى الآدميين وقواهم حتى أطاقوا رؤيته ولهذا لما تجلى الله عز وجل للجبل خر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين (سورة الأعراف). قيل أول المؤمنين بأنه لا يراك حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده فهذا للعجز الموجود في المخلوق لا لامتناع في ذات المرئى بل كان المانع من ذاته لم يكن إلا لنقص وجوده حتى ينتهى الأمر إلى المعدوم الذي لا يتصور أن يرى خارج الرائي ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته إلا من أيده الله كما أيد نبينا صلى الله عليه وسلم قال تعالى وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (سورة الأنعام). قال غير واحد من السلف هم لا يطيقون أن يروا الملك في صورته فلو أنزلنا إليهم ملكا لجعلناه في صورة بشر وحينئذ كان يشتبه عليهم هل هو ملك أو بشر فما كانوا ينتفعون بإرسال الملك إليهم فأرسلنا إليهم بشرا من جنسهم يمكنهم رؤيته والتلقي عنه وكان هذا من تمام الإحسان إلى الخلق والرحمة ولهذا قال تعالى وما صاحبكم بمجنون سورة التكوير

 

 

ولا مماسة ولا يتميز منه جانب عن جانب كان هذا مكابرة فيقال لكم أنتم يانفاة الرؤية تقولون ومن وافقكم من المثبتين للرؤية إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا محايث له فإذا قيل لكم هذا خلاف المعلوم بضرورة العقل فإن العقل لا يثبت شيئين موجودين إلا أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو داخلا فيه كما يثبت الأعيان المتباينة والأعراض القائمة بها وأما إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه فهذا مما يعلم العقل استحالته وبطلانه بالضرورة قلتم هذا النفى حكم الوهم لا حكم العقل وجعلتم في الفطرة حاكمين أحدهما الوهم والآخر العقل مع أن المعنى الذي سميتموه حاكمين أحدهما الوهم والآخر العقل مع أن المعنى الذي سميتموه الوهم قلتم هو القوة التي تدرك معاني جزئية غير محسوسة في الأعيان المحسوسة كالعداوة والصداقة كما تدرك الشاة معنى في الذئب ومعنى في الكبش فتميل إلى هذا وتنفر عن هذا وإذا كان الوهم إنماوقال ما ضل صاحبكم وما غوى (سورة النجم). وقال لقد جاءكم رسول من أنفسكم (سورة التوبة). وقال وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم (سورة إبراهيم). ونحو ذلك من الآيات فإن قلتم هؤلاء يقولون إنه يرى لا في جهة وهذه مكابرة فيقال هذا قالوه بناء على الأصل الذي اتفقتم أنتم وهم عليه وهو أنه ليس في جهة ثم إذا كان الكلام مع الأشعري وأئمة أصحابه ومن وافقهم من أصحاب الحديث أصحاب أحمد وغيره كالتميميين وابن عقيل وغيرهم فيقال هؤلاء يقولون إنه فوق العالم بذاته وإنه ليس بجسم ولا متحيز فإن قلتم هذا القول مكابرة للعقل لأنه إذا كان فوق العالم فلا بد أن يتم منه جانب عن جانب وإذا تميز منه جانب عن جانب كان جسما فإذا أثبتوا موجودا قائما بنفسه فوق العرش لا يوصف بمحاذاة

 

 

يدرك أمورا معينة فهذه القضايا التي نتكلم فيها قضايا كلية عامة والقضايا الكلية العامة هي للعقل لا للحس ولا للوهم الذي يتبع الحس فإن الحس لا يدرك إلا أمورا معينة وكذلك الوهم عندكم وقد بسط الرد على هؤلاء في غير هذا الموضع لكن المقصود هنا بيان أن قول أولئك أقرب من قولهم فيقال إذا عرضنا على العقل وجود موجودا لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا محايث له ووجود موجود مباين للعالم فوقه وهو ليس بجسم كان تصديق العقل بالثاني أقوى من تصديقه بالأول وهذا موجود في فطرة كل أحد فقبول الثاني أقرب إلى الفطرة ونفورها عن الأول أعظم فإن وجب تصديقكم في ذلك القول الذي هو عن الفطرة أبعد كان تصديق هؤلاء في قولهم أولى وحينئذ فليس لكم أن تحتجوا على بطلان قولهم بحجة إلا وهي على بطلان قولكم أدل فإذا قلتم وجود موجود فوق العالم ليس بجسم لا يعقل قيل لكم كما أن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه لا يعقلفإذا قلتم نفى هذا من حكم الوهم قيل لكم إن كان هذا النفى من حكم الوهم وهو غير مقبول فذلك النفى من حكم الوهم وهو غير مقبول بطريق الأولى فإذا قلتم حكم الوهم الباطل أن يحكم في أمور غير محسوسة حكمه في أمور محسوسه قيل لكم أجوبة أحدها أن هذا يبطل حجتكم على بطلان قول هؤلاء لأن قولكم إنه يمتنع وجود موجود فوق العالم ليس بجسم ليس أقوى من قول القائل يمتنع وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ويمتنع وجود موجودين لا متباينين ولا متحايثين ويمتنع وجود موجود ليس داخل العالم ولا خارجا عنه فإن كنتم لا تقبلون هذا الأقوى لزعمكم أنه من حكم الوهم الباطل لزمكم أن لا تقبلوا ذلك الذي هو أضعف منه بطريق الأولى فإن كليهما على قولكم من حكم الوهم الباطل وفساد قولكم أبين في الفطرة من فساد قول منازعيكم فإن كان قولهم مردودا

 

 

فقولكم أولى بالرد وإن كان قولكم مقبولا فقولهم أولى بالقبول الجواب الثاني أن يقال أنتم لم تثبتوا وجود أمور لا يمكن الإحساس بها ابتداء حتى يصح هذا الكلام بل إنما أثبتم ما ادعيتم أنه لا يمكن الإحساس به ابتداء بإبطال هذا الحكم الفطري الذي يحيل وجود ما لا يمكن الإحساس به بحال فإن كان هذا الحكم لا يبطل حتى يثبت الأمور التي ليست بمحسوسة لزم الدور فلا يبطل هذا الحكم حتى يثبت ما لا يمكن الإحساس به ولا يثبت ذلك حتى يبطل هذا الحكم فلا يثبت ذلك و يقال لكم إن جاز وجود أمور لا يمكن الإحساس بها فوجود ما يمكن الإحساس به أولى وإن لم يمكن بطل قولكم فمن أثبت موجودا فوق العالم ليس بجسم يمكن الإحساس به كان قولهأقرب إلى العقل ممن أثبت موجودا لا يمكن الإحساس به وليس بداخل العالم ولا خارجه ففي الجملة أنه ما من حجة يحتجون بها على بطلان قول منازعيهم إلا ودلالتها على بطلان قولهم أشد ولكنهم يتناقضون والذين وافقوهم على بعض غلطهم صاروا يسلمون لهم تلك المقدمة الباطلة النافية وهو إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون مباينا لغيره ولا محايثا له ولا داخل العالم ولا خارجه ويطلبون طردها وطردها يستلزم الباطل المحض فوجه المناظرة أن تلك المقدمة لا تسلم لكن يقال إن كانت باطلة بطل أصل قول النفاة وإن كانت صحيحة فهي أدل على إمكان قول أهل الإثبات فإن كان إثبات موجود ليس بجسم ولا هو داخل العالم ولا خارجه ممكنا فإثبات موجود فوق العالم وليس بجسم أولى بالإمكان وإن لم يكن ذلك ممكنا بطل أصل قول النفاة وثبت أن الله تعالى إما داخل العالم وإما خارجه فيكون قولهم بإثبات موجود

 

 

ليس بداخل العالم ولا خارجه أبعد عن الحق على التقديرين وهو المطلوب ثم يقال رؤية ما ليس بجسم ولا في جهة إما أن يجوزه العقل وإما أن يمنعه فإن جوزه فلا كلام وإن منعه كان منع العقل لإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه بل هو حي بلا حياة عليم بلا علم قدير بلا قدرة أشد وأشد فإن قلتم هذا المنع من حكم الوهم قيل لكم والمنع من رؤية مرئى ليس في جهة من حكم الوهم وهذا هو الجواب الثالث وبيان ذلك أن يقال حكم الوهم الباطل عندكم أن يحكم في أمور غير محسوسة بما يحكم به في الأمور المحسوسة فيقال الباري تعالى إما أن تكون رؤيته ممكنة وأما أن لا تكون فإن كانت ممكنة بطل قولكم بإثبات موجود غير محسوس ولم يبق هنا وهم باطل يحكم في غير المحسوس بحكم باطل فإنكم لرؤية الباري أشد منعا من رؤية الملائكة والجن وغير ذلك فإذاجوزتم رؤيته فرؤية الملائكة والجن أولى وإن قلتم بل رؤيته غير ممكنة قيل فهو حينئذ غير محسوس فلا يقبل فيه حكم الوهم والحكم بأن كل مرئى لا بد أن يكون في جهة من حكم الوهم وأما إذا قدرنا موجودا غير محسوس يرى لا في جهة رؤية غير الرؤية المتعلقة بذوات الجهة كان إبطال هذا مثل إبطال موجود لا داخل العالم ولا خارجه وإلا فإذا ثبت وجود هذا الموجود كانت الرؤية المتعلقة به مناسبة له ولم تكن كالرؤية المعهودة لللأجسام فهذه الطريق ونحوها من المناظرة العقلية إذا سلك يتبين به أن كل من كان إلى السنة أقرب كان قوله إلى العقل أقرب وهو يوجب نصر الأقربين إلى السنة بالعقل لكن لما كان بعض الأقربين إلى السنة سلموا للأبعدين عنها مقدمات بينهم وهي في نفس الأمر باطلة مخالفة للشرع والعقل لم يمكن أن يكون قولهم مطابقا للأمر في نفسه ولا يمكن نصره لا بشرع صحيح ولا بعقل صريح لمن غرضه معرفة الحق في نفسه لا بيان رجحان بعض الأقوال على بعض

 

 

وأما إذا كان المقصود بيان رجحان بعض الأقوال فهذا ممكن في نفسه وهذا هو الذي نسلكه في كثير مما عاب به الرافضة كثير من الطوائف المنتسبين إلى السنة في إثبات خلافة الخلفاء الثلاثة فإنهم عابوا كثيرا منهم بأقوال هي معيبة مذمومة والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق وألا نقول عليه إلا بعلم وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلا عن الرافضي قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق ولهذا جعل هذا الكتاب منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيع والقدرية فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة ردوا ما تقوله المعتزلة والرافضة وغيرهم من أهل البدع بكلام فيه أيضا بدعة وباطل وهذه طريقة يستجيزها كثير من أهل الكلام ويرون أنه يجوز مقابلة الفاسد بالفاسد لكن أئمة السنة والسلف على خلاف هذا وهم يذمون أهل الكلام المبتدع الذين يردون باطلا بباطل وبدعة ببدعة ويأمرون ألا يقول الإنسان إلا الحق لا يخرج عن السنة في حال من الأحوال وهذا هو الصواب الذي أمر الله تعالى به ورسوله ولهذا لم نرد ما تقوله المعتزلة والرافضة من حق بل قبلناه لكن بينا أن ما عابوا به مخالفيهم من الأقوال ففي أقوالهم من العيب ما هو أشد من ذلك

 

 

فالمنتسبون إلى إثبات خلافة الأربعة وتفضيل الشيخين وإن كان بعضهم يقول أقوالا فاسدة فأقوال الرافضة أفسد منها وكذلك المناظر للفلاسفة والمعتزلة من المنتسبين إلى السنة كالأشعري وأمثاله وإن كانوا قد يقولون أقوالا باطلة ففي أقوال المعتزلة والفلاسفة من الباطل ما هو أعظم منها فالواجب إذا اكان الكلام بين طائفتين من هذه الطوائف أن يبين رجحان قول الفريق الذي هو أقرب إلى السنة بالعقل والنقل ولا ننصر القول الباطل المخالف للشرع والعقل أبدا فإن هذا محرم ومذموم يذم به صاحبه ويتولد عنه من الشر ما لا يوصف كما تولد من الأقوال المبتدعة مثل ذلك ولبسط هذه الأمور مكان آخر والله أعلم والمقصود هنا التنبيه على وجه المناظرة العادلة التي يتكلم فيها الإنسان بعلم وعدل لا بجهل وظلم وأما مناظرات الطوائف التي كل منها يخالف السنة ولو بقليل فأعظم ما يستفاد منها بيان إبطال بعضهم لمقالة بعض وأبو حامد الغزالي وغيره يعتقدون أن هذه الفائدة هي المقصودة بالكلام دون غيرها لكن يعتقد مع ذلك أن ما ذكره هو العقيدة التي تعبد الشارع الناس باعتقادها وأن لها باطنا يخالف ظاهرها في بعض الأمور وما ذكره من الإعتقاد يوافق الشرع من وجه دون وجه وما ثبت عن صاحب الشرع فلا يناقض باطنه ظاهره والمقصود هنا أن يكون المقصود بالمناظرة بيان رجحان بعض الأقوال على بعض

 

 

ولهذا كان كثير من مناظرة أهل الكلام إنما هي في بيان فساد مذهب المخالفين وبيان تناقضهم لأنه يكون كل من القولين باطلا فما يمكن أحدهم نصر قوله مطلقا فيبين فساد قول خصمه وهذا يحتاج إليه إذا كان صاحب المذهب حسن الظن بمذهبه قد بناه على مقدمات يعتقدها صحيحة فإذا أخذ الإنسان معه في تقرير نقيض تلك المقدمات لم يقبل ولا يبين الحق ويطول الخصام كما طال بين أهل الكلام فالوجه في ذلك أن يبين لذلك رجحان مذهب غيره عليه أو فساد مذهبه بتلك المقدمات وغيرها فإذا رأى تناقض قوله أو رجحان قول غيره على قوله اشتاق حينئذ إلى معرفة الصواب وبيان جهة الخطأ فيبين له فساد تلك المقدمات التي بنى عليها وصحة نقيضها ومن أي وجه وقع الغلط وهكذا في مناظرة الدهرى واليهودي والنصراني والرافضيوغيرهم إذا سلك معهم هذا الطريق نفع في موارد النزاع فتبين لهم وما من طائفة إلا ومعها حق وباطل فإذا خوطبت بين لها أن الحق الذي ندعوكم إليه هو أولى بالقبول من الذي وافقناكم عليه ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالقبول من نبوة موسى وعيسى عليهما السلام وخلافة أبي بكر وعمر أولى بالصحة من خلافة علي فما ذكر من طريق صحيح يثبت بها نبوة هذا وهذا إلا وهي تثبت بها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى وما من طريق صحيح يثبت بها خلافة علي إلا وهي تثبت خلافة هذين بطريق الأولى ويبين لهم أن ما يدفعون به هذا الحق يمكن أن يدفع به الحق الذي معهم فما يقدح شيء في موارد النزاع إلا كان قدحا في موارد الإجماع وما من شيء يثبت به موارد الإجماع إلا وهو يثبت به موارد النزاع وما من سؤال يرد على نبوة محمد صلى

 

 

الله عليه وسلم وخلافة الشيخين إلا ويرد على نبوة غيره وخلافة غيرهما ما هو مثله أو أعظم منه وما من دليل يدل على نبوة غير محمد صلى الله عليه وسلم وخلافة غيرهما إلا والدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وخلافتهما أقوى منه وأما الباطل الذي بأيدي المنازعين فتبين أنه يمكن معارضته بباطل مثله وأن الطريق الذي يبطل به ذلك الباطل يبطل به باطلهم فمن ادعى الإلهية في المسيح أو علي أو غيرهما عورض بدعوى الإلهية في موسى وآدم وعمر بن الخطاب فلا يذكر شبهة يظن بها الإلهية إلا ويذكر في الآخر نظيرها وأعظم منها فإذا تبين له فساد أحد المثلين تبين له فساد الآخر فالحق يظهر صحته بالمثل المضروب له والباطل يظهر فساده بالمثل المضروب له لأن الإنسان قد لا يعلم ما في نفس محبوبه أو مكروهه من حمد وذم إلا بمثل يضرب له فإن حبك الشيء يعمى ويصم والله سبحانه ضرب الأمثال للناس في كتابه لما في ذلك من البيان والإنسان لا يرى نفسه وأعماله إلا إذا مثلت له نفسه بأن يراها في مرآة

 

 

وتمثل له أعماله بأعمال غيره ولهذا ضرب الملكان المثل لداود عليه السلام بقول أحدهما إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه (سورة ص). الآية وضرب الأمثال مما يظهر به الحال وهو القياس العقلي الذي يهدي به الله من يشاء من عباده قال تعالى ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون (سورة الروم). وقال تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ((سورة العنكبوت).). وهذا من الميزان الذي أنزله الله كما قال تعالى الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان (سورة الشورى). وقال لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط (سورة الحديد). وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن كل قياس عقلي شمولي سواء كان على طريقة المنطق اليوناني أو غير طريقه فإنه من جنس القياس التمثيلي وأن مقصود القياسين واحد وكلاهما داخل في معنى الميزان الذي أنزله الله تعالى وأن ما يختص به أهل المنطق اليوناني بعضه باطل وبعضه تطويل لا يحتاج إليه بل ضررة في الغالب أكثر من نفعه كما قد بسط الكلام على المنطق اليوناني

 

 

وما يختص به أهل الفلسفة من الأقوال الباطلة في مجلد كبير وأما الطريق الثاني فيقال لهذا المنكر للرؤية المستدل على نفيها بانتفاء لازمها وهو الجهة قولك ليس في جهة وكل ما ليس في جهة لا يرى فهو لا يرى وهكذا جميع نفاة الحق ينفونه لانتفاء لازمه في ظنهم فيقولون لو رئى للزم كذا واللازم منتف فينتفى الملزوم والجواب العام لمثل هذه الحجج الفاسدة بمنع إحدى المقدمتين إما معينة وإما غير معينة فإنه لا بد أن تكون إحداهما باطلة أو كلتاهما باطلة وكثيرا ما يكون اللفظ فيهما مجملا يصح باعتبار ويفسد باعتبار وقد جعلوا الدليل هو ذلك اللفظ المجمل ويسميه المنطقيون الحد الأوسط فيصح في مقدمة بمعنى ويصح في الأخرى بمعنى آخر ولكن اللفظ مجمل فيظن الظان لما في اللفظ من الإجمال وفي المعنى من الاشتباه أن المعنى المذكور في هذه المقدمة هو المعنى المذكور في المقدمة الأخرى ولا يكون الأمر كذلك مثال ذلك في مسألة الرؤية أن يقال له أتريد بالجهة أمرا وجوديا أو أمرا عدميافإذا أردت به أمرا وجوديا كان التقدير كل ما ليس في شيء موجود لا يرى وهذه المقدمة ممنوعة ولا دليل على أثباتها بل هي باطلة فإن سطح العالم يمكن أن يرى وليس العالم في عالم آخر وإن أردت الجهة أمرا عدميا كانت المقدمة الثانية ممنوعة فلا نسلم أنه ليس بجهة بهذا التفسير وهذا مما خاطبت به غير واحد من الشيعة والمعتزلة فنفعه الله به وانكشف بسبب هذا التفصيل ما وقع في هذا المقام من الإشتباه والتعطيل وكانوا يعتقدون أن ما معهم من العقليات النافية للرؤية قطعية لا يقبل في نقيضها نص الرسل فلما تبين لهم أنها شبهات مبنية على ألفاظ مجملة ومعان مشتبهة تبين أن الذي ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق المقبول ولكن ليس هذا المكان موضع بسط هذا فإن هذا النافي إنما أشار إلى قولهم إشارة

 

 

وكذلك لفظ الحيز قد يراد به معنى موجود ومعنى معدوم فإذا قالوا كل جسم في حيز فقد يكون المراد بالحيز أمرا عدميا وقد يراد به أمر وجودي والحيز في اللغة هو أمر وجودي ينحاز إليه الشيء كما قال تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة (سورة الأنفال). وعلى الأول فإنه يراد بالمتحيز ما يشار إليه ولهذا كان المتكلمون يقولون نحن نعلم بالإضطرار أن المخلوق إما متحيز وإما قائم بالمتحيز فكثير منهم يقول بل نعلم أن كل موجود إما متحيز وإما قائم بالمتحيز ويثبتون ما يذكره بعض الفلاسفة من إثبات المجردات المفارقات التي لا يشار إليها بل هي معقولات مجردة إنما تثبت في الأذهان لا في الأعيان وما يذكره الشهرستاني والرازي ونحوهما من أن متكلمي الإسلام لم يقيموا دليلا على نفي هذه المجردات ليس كما زعموا بل كتبهم مشحونة بما يبين انتفاءها كما ذكر في غير هذا الموضع والرازي أورد في محصله سؤالا على الحيز فقال أما الأكوان

 

 

فقد اتفقوا على أن حصول الجوهر في حصول الحيز أمر ثبوتي فقيل هذا الحيز إن كان معدوما فكيف يعقل حصول الجوهر في المعدوم وإن كان موجودا فلا شك أنه أمر يشار إليه فهو إما جوهر وإما عرض فإن كان جوهرا كان الجوهر حاصلا في الجوهر وهو قول بالتداخل وهو محال اللهم إلا أن يفسر ذلك بالمماسة ولا نزاع فهيا وإن كان عرضا فهو حاصل في الجوهر فكيف يعقل حصول الجوهر فيه وقد رد الطوسى هذا فقال هذا غلط من جهة اشتراك اللفظ فإن لفظة في يدل في قولنا الجسم في الجسم بمعنى التداخل والجسم في المكان والعرض في الجسم على معان مختلفة فإن الأول يدل على كون الجسم مع جسم آخر في مكان واحد والثاني يدل على كون الجسم في المكان والثالث يدل على كون العرض حالا في الجسم والمكان هو القابل للأبعاد القائم بذاته الذي لا يمانع الأجسام عند قوم وعرض هو سطح الجسم الحاوي المحيط بالجسم ذي المكان عند قوم وهو بديهي الأينية خفي الحقيقة

 

 

والمكان إن كان عدميا لم يكن حصول الجوهر في الأمر العدمي حصوله في المعدوم بمعنى أنه في العدم وإن كان جوهرا فالجوهر عند القوم الأول ينقسم إلى مقاوم للداخل عليه ممانع إياه وهو الذي لا يجوز عليه التداخل وإلى غير مقاوم يمتنع عليه الإنتقال وهو المكان والجوهر الممانع يمكن أن يداخل غير الممانع وذلك هو كون الجوهر في المكان وأما عند القوم الثاني فحصول الجوهر في المكان الذي هو عرض بمعنى غير المعنى الذي يراد به في قولهم حصول العرض في الجوهر بمعنى الحلول فيه قلت قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن ما ذكره الرازي من قوله قد اتفقوا على أن حصول الجوهر في الحيز أمر ثبوتي ليس كما قاله بل يقال إن أراد بقوله إن حصول الجوهر في الحيز أمر ثبوتي أنه صفة ثبوتية تقوم بالمحيز فلم يتفقوا على هذا بل ولا هذا قول محققيهم بل التحيز عندهم لا يزيد على ذات المتحيز قال القاضي أبو بكر بن الباقلاني المتحيز هو الجرم أو الذي له حظ من المساحة والذي لا يوجد بحيث وجوده جوهروقال أبو إسحاق الإسفراييني ما هو في تقدير مكان ما وما يشغل الحيز ومعنى شغل الحيز أنه إذا وجد في فراغ أخرجه عن أن يكون فراغا وقال بعضهم الحيز تقدير مكان الجوهر وقال أبو المعالي الجويني الملقب بإمام الحرمين الحيز هو المتحيز نفسه ثم إضافة الحيز إلى الجوهر كإضافة الوجود إليه قال فإن قيل فهلا قلتم إن المتحيز متحيز بمعنى كما أن الكائن كائن بمعنى قلنا تحيزه نفسه أو صفة نفسه عند من يقول بالأحوال وكونه متحيزا راجع إلى نفسه وكذلك كونه جرما وذلك لا يختلف وإن اختلفت أكوانه بأعراضه ولو كان تحيزه حكما معللا لوجب أن يثبت له حكم الإختلاف عند اختلاف الأكوان فلما لم يختلف كونه جرما دل على أنه ليس من موجبات الأكوان والإختصاص بالجهات فما كان بمقتضى الأكوان كان في حكم الإختلاف

 

 

قال فإن قيل الجوهر لا يخلو عن الأكوان كما لا يخلو عن وصف التحيز قلنا قد أوضحنا أن تحيزه صفة نفسه فنقول صفة النفس تلازم للنفس ولا تعقل النفس دونها وكون الجوهر متحيزا بمثابة كونه ذاتا أو شيئا والتحيز قضية واحدة يجب لزومها ما بقيت النفس والكون اسم يقع على أجناس مختلفة يم بسط الكلام في ذلك وهذا يبين أن التحيز عندهم ليس قدرا زائدا على المتحيز فضلا عن كونه وصفا ثبوتيا وإن أراد بكونه ثبوتيا أنه أمر إضافي إلى الحيز فالأمور الإضافية عند أكثرهم عدمية إذا كانت بين موجودين فكيف إذا كانت بين موجود ومعدوم وقوله إن الحيز إذا كان معدوما فكيف يعقل حصول الجوهر في المعدوم فيقال له إنهم لم يريدوا بكونه في المعدوم إلا وجوده وحده من غير وجود آخر يحيط به لم يريدوا أنه يكون معدوما مع كونه موجودا وأيضا فمن لم يعرف مرادهم هل الحيز عندهم وجود أو عدم كيف يحكى عنهم أنهم اتفقوا على أن كل ما سوى الله متحيز أو قائم بالمتحيز مع علمه وحكايته عنهم أنهم اتفقوا على أن كل ما سوى الله محدث فيمتنع مع هذا أن يكون ما سواه إما متحيزا أو حالا في المتحيز مع أن المتحيز هذا في حيز وجودي سوى الله وهو محدث فإن هذا تناقض ظاهر لأنه يستلزم أن يكون هنا ثلاثة موجودة محدثة

 

 

متحيز وحيز وقائم بالمتحيز فتكون الموجودات سوى الله ثلاثة وهي محدثة عندهم وهذا يناقض قولهم إن ما سوى الله إما متحيز وإما قائم بمتحيز وأما اعتراض الطوسى عليه فإنه مبنى على أن التحيز هو المكان وليس هذا هو المشهور عند المتكلمين بل المشهور عندهم الفرق بينهما وما ذكره من القولين في المكان هو نزاع بين المتفلسفة أصحاب أفلاطن وأصحاب أرسطو فأولئك يقولون هو جوهر قائم بنفسه تحل به الأجسام وليس هذا قول كثير من المتكلمين بل كل ما قام بنفسه فهو عندهم جسم إذ الجوهر الذي له هو جسم ليس عندهم جوهر قائم بنفسه غير هذين ومن أثبت منهم جوهرا غير جسم فإنه محدث عندهم لأن كل ما سوى الله فإنه محدث مسبوق بالعدم باتفاق أهل الملل سواء قالوا بدوام الفاعلية وأنه لا يزال يحدث شيئا بعد شيء أو لم يقولوا بدوام الفاعلية والمتكلمون الذين يقولون كل ما سوى الله فهو جسم أو قائم بجسم قد يتناقضون حيث يثبت أكثرهم الخلاء أمرا موجودا ويقولون إنه لا يتقدر بل يفرض فيه التقدير فرضا وهذا الخلاء هو الجوهر الذي يثبته أفلاطن ولكن يمتنع عند أهل الملل أن يكون موجود قديم مع الله فإن الله خالق كل شيء وكل مخلوق مسبوق بعدم نفسه وإن قيل مع ذلك بدوام كونه خالقا فخلقه شيئا بعد شيء دائما لا ينافى أن يكون كل ما

 

 

سواه مخلوقا محدثا كائنا بعد أن لم يكن ليس من الممكنات قديم بقدم الله تعالى مساويا له بل هذا ممتنع بصرائح العقول مخالف لما أخبرت به الرسل عن الله كما قد بسط في موضعه وأرسطو وأصحابه يقولون إن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقى للسطح الظاهر من الجسم المحوى وهو عرض عند هؤلاء وقوله إنه بديهي الأينية خفى الحقيقة أي عند هؤلاء وأما علماء المسلمين فليس عندهم ولله الحمد من ذلك ما هو خفي بل لفظ المكان قد يراد به ما يكون الشيء فوقه محتاجا إليه كما يكون الإنسان فوق السطح ويراد به ما يكون الشيء فوقه من غير احتياج إليه مثل كون السماء فوق الجو وكون الملائكة فوق الأرض والهواء وكون الطير فوق الأرض ومن هذا قول حسان بن ثابت رضي الله عنه تعالى علوا فوق عرش إلهنا وكان مكان الله أعلى وأعظما مع علم حسان وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله غنى عن كل ما سواه وما سواه من عرش وغيره محتاج إليه وهو لا يحتاج إلى شيء وقد أثبت له مكانا والسلف والصحابة بل النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع مثل

 

 

هذا ويقر عليه كما أنشده عبدالله بن رواحة رضي الله عنه شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا في قصته المشهورة التي ذكرها غير واحد من العلماء لما وطئ سريته ورأته امرأته فقامت إليه لتؤذيه فلم يقر بما فعل فقالت ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقرأ الجنب القرآن فأنشد هذه الأبيات فظنت أنه قرآن فسكتت وأخبر صلى الله عليه وسلم فاستحسنه وقد يراد بالمكان ما يكون محيطا بالشيء من جميع جوانبه فأما أن يراد بالمكان مجرد السطح الباطن أو يراد به جوهر لا يحس بحال فهذا قول هؤلاء المتفلسفة ولا أعلم أحدا من الصحابة والتابعين وغيرهم من ائمة المسلمين يريد ذلك بلفظ المكان وذلك المعنى الذي أراده أرسطو بلفظ المكان عرض ثابت لكن ليس هذا هو المراد بلفظ المكان في كلام علماء المسلمين وعامتهم ولا في كلام جماهير الأمم علمائهم وعامتهم وأما ما أراده أفلاطن فجمهور العقلاء ينكرون وجوده في الخارج وبسط هذه الأمور له موضع آخر وكذلك القول في تداخل الأجسام فيه نزاع معروف بين النظار وقول الرازي في التداخل ذلك محال هو موضع منع مشهور ولكن لم يقل أحد من النظار إن الجوهر في الحيز بمعنى التداخل سواء فسر الحيز

 

 

بالأمر العدمي كما هو المعروف عند أئمة الكلام أو فسر بالمكان الوجودي الذي هو سطح الحاوي أو جوهر عقلي كما يقوله من يقوله من المتفلسفة أو فسر الحيز بالمعنى اللغوي المعقول في مثل قوله أو متحيزا إلى فئة (سورة الأنفال). وهذا الحيز هو جسم يحوز المتحيز ليس هو عدميا ولا عرضا ولا يجوز الجوهر العقلي المتنازع في وجوده والمقصود أنه أي معنى أريد بلفظ الحيز فقول النظار إن الجوهر في الحيز ليس بمعنى التداخل المتنازع فيه وفي وجوده فلهذا لم يحتج إلى ذكر الكلام في مسألة التداخل في هذا المقام.

*

فصل وأما قوله وأن أمره ونهيه وإخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره.

*فيقال هذه مسألة كلام الله تعالى والناس فيها مضطربون وقد بلغوا فيها إلى تسعة أقوال وعامة الكتب المصنفة في الكلام وأصول الدين لم يذكر أصحابها إلا بعض هذه الأقوال إذ لم يعرفوا غير ما ذكروه فمنهم من يذكر قولين ومنهم من يذكر ثلاثة ومنهم من يذكر أربعة ومنهم من يذكر خمسة وأكثرهم لا يعرفون قول السلف أحدها قول من يقول إن كلام الله ما يفيض على النفوس من المعاني التي تفيض إما من العقل الفعال عند بعضهم وإما من غيره وهذا قول الصابئة والمتفلسفة الموافقين لهم كابن سينا وأمثاله ومن دخل مع هؤلاء من متصوفة الفلاسفة ومتكلميهم كأصحاب وحدة الوجود وفي كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها بل المضنون الكبير والمضنون الصغير ورسالة مشكاة الأنوار وأمثاله ما قد يشار به إلى هذا وهو في غير ذلك من كتبه يقول ضد هذا لكن كلامه يوافق هؤلاء تارة وتارة يخالفه وآخر أمره استقر على مخالفتهم ومطالعة الأحاديث النبوية وثانيها قول من يقول إنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه وهذا

 

قول هذا الإمامي وأمثاله من الرافضة المتأخرين والزيدية والمعتزلة والجهمية وثالثها قول من يقول إنه معنى واحد قديم قائم بذات الله هو الأمر والنهى والخبر والإستخبار إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري وغيره ورابعها قول من يقول إنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل وهذا قول طائفة من أهل الكلام وأهل الحديث ذكره الأشعري في المقالات عن طائفة وهو الذي يذكر عن السالمية ونحوهم وهؤلاء قال طائفة منهم إن تلك الأصوات القديمة هي الصوتالمسموع من القارئ أو هي بعض الصوت المسموع من القارئ وأما جمهورهم مع جمهور العقلاء فأنكروا ذلك قالوا هذا مخالف لضرورة العقل وخامسها قول من يقول إنه حروف وأصوات لكن تكلم به بعد أن لم يكن متكلما وكلامه حادث في ذاته كما أن فعله حادث في ذاته بعد أن لم يكن متكلما ولا فاعلا وهذا قول الكرامية وغيرهم وهو قول هشام بن الحكم وأمثاله من الشيعة وهؤلاء منهم من يقول هو حادث وليس بمحدث ومنهم من يقول بل هو محدث أيضا وقد ذكر القولين الأشعري عنهم في المقالات وذكر الخلاف بين أبي معاذ التومني وبين زهير الأثرى والكرامية يقولون حادث لا محدث

 

 

وسادسها قول من يقول إنه لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء بكلام يقوم به وهو يتكلم به بصوت يسمع وأن نوع الكلام أزلي قديم وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديما وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة وسابعها قول من يقول كلامه يرجع إلى ما يحدث من علمه وإرادته القائم بذاته ثم من هؤلاء من يقول لم يزل ذاك حادثا في ذاته كما يقوله أبو البركات صاحب المعتبر وغيره ومنهم من لا يقول بذلك وأبو عبدالله الرازي يقول بهذا القول في مثل المطالب العالية وثامنها قول من يقول كلامه يتضمن معنى قائما بذاته وهو ماخلقه في غيره ثم من هؤلاء من يقول في ذلك المعنى بقول ابن كلاب وهذا قول أبي منصور الماتريدي ومنهم من يقول بقول المتفلسفة وهذا قول طائفة من الملاحدة الباطنية مت شيعهم ومتصوفهموتاسعها قول من يقول كلام الله مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه من متأخري الأشعرية وبالجملة أهل السنة والجماعة أهل الحديث ومن انتسب إلى السنة والجماعة من أهل التفسير والحديث والفقه والتصوف كالأئمة الأربعة وأئمة أتباعهم والطوائف المنتسبين إلى الجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية يقولون إن كلام الله غير مخلوق والقرآن كلام الله غير مخلوق وهذا هو المتواتر المستفيض عن السلف والأئمة من أهل البيت وغيرهم والنقول بذلك متواترة مستفيضة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وتابعي تابعيهم وفي ذلك مصنفات متعددة لأهل الحديث والسنة يذكرون فيها مقالات السلف بالأسانيد الثابتة عنهم وهي معروفة عند أهلها وذلك مثل كتاب الرد على الجهمية لمحمد بن عبداللهالجعفى ولعثمان بن سعيد الدارمي وكذلك نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسى والرد على الجهمية لعبد الرحمن بن أبي حاتم وكتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد رضي الله عنه ولأبي بكر الأثرم وللخلال وكتاب خلق

 

أفعال العباد للبخاري وكتاب التوحيد لأبي بكر بن خزيمة وكتاب السنة لأبي القاسم الطبراني ولأبي الشيخ الأصبهاني ولأبي عبدالله بن منده والأسماء والصفات لأبي بكر البيهقيوالسنة لأبي ذر الهروى والإبانة لابن بطة وقبله الشريعة لأبي بكر الآجري وشرح أصول السنة لأبي القاسم اللالكائي والسنة لأبي حفص بن شاهين وأصول السنة لأبي عمرالطلمنكي وأمثال هذا الكتب ومصنفوها من مذاهب متبوعة مالكي وشافعي وحنبلي ومحدث مطلق لا ينتسب إلى مذهب أحد ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون على الأقوال السبعة المتأخرة وأما القولان الأولان فالأول قول الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم والصابئة المتفلسفة ونحوهم والثاني قول الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم من النجارية والضرارية وأما الشيعة فمتنازعون في هذه المسألة وقد حكينا النزاع عنهم فيما تقدم وقدماؤهم كانوا يقولون القرآن غير مخلوق كما يقوله أهل السنة والحديث وهذا القول هو المعروف عن أهل البيت كعلي

 

 

بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره مثل أبي جعفر الباقر وجعفر ابن محمد الصادق وغيرهم ولهذا كانت الإمامية لا تقول إنه مخلوق لما بلغهم نفى ذلك عن أئمة أهل البيت وقالوا إنه محدث مجعول ومرادهم بذلك أنه مخلوق وظنوا أن أهل البيت نفوا أنه غير مخلوق أي مكذوب مفترى ولا ريب أن هذا المعنى منتف باتفاق المسلمين من قال إنه مخلوق ومن قال إنه غير مخلوق والنزاع بين أهل القبلة إنما كان في كونه مخلوقا خلقه الله أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته وأهل البيت إنما سئلوا عن هذا وإلا فكونه مكذوبا مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه ولكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أصولهم فليس في أئمة أهل البيت مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق من كان ينكر الرؤية أو يقول بخلق القرآن أو ينكر القدر أو يقول بالنص على علي أو بعصمة الأئمة الاثنى عشر أو يسب أبا بكر وعمر

 

 

والمنقولات الثابتة المتواترة عن هؤلاء معروفة موجودة وكانت مما يعتمد عليه أهل السنة وشيوخ الرافضة معترفون بأن هذا الإعتقاد في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة ولا عن أئمة أهل البيت وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه كما يقول ذلك المعتزلة وهم في الحقيقة إنما تلقوه عن المعتزلة وهم شيوخهم في التوحيد والعدل وإنما يزعمون أنهم تلقوا عن الأئمة الشرائع وقولهم في الشرائع غالبه موافق لمذهب أهل السنة أو بعض أهل السنة ولهم مفردات شنيعة لم يوافقهم عليها أحد ولهم مفردات عن المذاهب الأربعة قد قال بها غير الأربعة من السلف وأهل الظاهر وفقهاء المعتزلة وغير هؤلاء فهذه ونحوها من مسائل الإجتهاد التي يهون الأمر فيها بخلاف الشاذ الذي يعرف أنه لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا سبقهم إليه أحد ولم يقل أحد من علماء المسلمين إن الحق منحصر في أربعة من علماء المسلمين كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد كما يشنع

 

 

بذلك الشيعة على أهل السنة فيقولون إنهم يدعون أن الحق منحصر فيهم بل أهل السنة متفقون على أن ما تنازع فيه المسلمون وجب رده إلى الله والرسول وأنه قد يكون قول ما يخالف قول الأربعة ما أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان وقول هؤلاء الأربعة مثل الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه وغيرهم أصح من قولهم فالشيعة إذا وافقت بعض هذه الأقوال الراجحة كان قولها في تلك المسألة راجحا ليست لهم مسألة واحدة فارقوا بها جميع أهل السنة المثبتين لخلافة الثلاثة إلا وقولهم فيها فاسد وهكذا المعتزلة وسائر الطوائف كالأشعرية والكرامية والسالمية ليس لهم قول انفردوا به عن جميع طوائف الأمة إلا وهو قول فاسد والقول الحق يكون مأثورا عن السلف وقد سبق هؤلاء الطوائف إليه وإذا عرفت المذاهب فيقال لهذا قولك إن أمره ونهيه وإخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره أتريد به أنه حادث في ذاته أم حادث منفصل عنهوالأول قول أئمة الشيعة المتقدمين والجهمية والمرجئة والكرامية مع كثير من أهل الحديث وغيرهم ثم إذا قيل حادث أهو حادث النوع فيكون الرب قد صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما أم حادث الأفراد وأنه لم يزل متكلما إذا شاء والكلام الذي كلم به موسى مثلا هو حادث وإن كان نوع كلامه قديما لم يزل فهذه ثلاثة أنواع تحت قولك وقد علم أنك إنما أردت النوع الأول وهو قول متأخري الشيعة الذين جمعوا بين التشيع والإعتزال فقالوا إنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه والإمامية وإن قالوا هو محدث وامتنعوا أن يقولوا هو مخلوق فمرادهم بالمحدث هو مراد هؤلاء بالمخلوق وإنما النزاع بينهم لفظي فيقال لك إذا كان الله قد خلقه وأحدثه منفصلا عنه لم يكن كلامه فإن الكلام والقدرة والعلم وسائر الصفات إنما يتصف بها من

 

 

قامت به لا من خلقها في غيره وأحدثها ولهذا إذا خلق الله حركة وعلما وقدرة في محل كان ذلك المحل هو المتحرك العالم القادر بتلك الصفات ولم تكن تلك صفات لله بل مخلوقات له ولو كان متصفا بمخلوقاته المنفصلة عنه لكان إذا انطلق الجامدات كما قال يا جبال أوبى معه والطير (سورة سبأ). وكما قال يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (سورة النور). وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء (سورة فصلت). وكما قال اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (سورة يس). ومثل تسليم الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم وتسبيح الحصى بيده وتسبيح الطعام وهم يأكلونه فإذا كان كلام الله لا يكون إلا ما خلقه في غيره وجب أن يكون هذا كله كلام الله فإنه خلقه في غيره وإذا تكلمت الأيدى فينبغي أن يكون ذاك كلام الله كما يقولون إنه خلق كلاما في الشجرة كلم به موسى بن بن عمران وأيضا فإذا كان الدليل قد قام على أن الله تعالى خالق أفعال العباد وأقوالهم وهو المنطق لكل ناطق وجب أن يكون كل كلام في الوجود كلامه وهذا قالته الحلولية من الجهمية كصاحب الفصوص ابن عربي قال

 

 

وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه وحينئذ فيكون قول فرعون أنا ربكم الأعلى سورة النازعات كلام الله كما أن الكلام المخلوق في الشجرة إنني أنا الله لا إله إلا أنا (سورة طـــه). يقولون إنه مخلوق في الشجرة أو غيرها وهو كلام الله وأيضا فالرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه بل الذي أفهموهم إياه أن الله نفسه هو الذي تكلم والكلام قائم به لا بغيره ولهذا عاب الله من يعبد إلها لا يتكلم فقال أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا (سورة طـــه). وقال ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا (سورة الأعراف). ولا يحمد شيء بأنه يتكلم ويذم بأنه لا يتكلم إلا إذا كان الكلام قائما به وبالجملة لا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم إلا من يقوم به القول والكلام لا يعقل في لغة أحد لا لغة الرسل ولا غيرهم ولا في عقل أحد أن المتكلم يكون متكلما بكلام لم يقم به قط بل هو بائن عنه أحدثه في غيره كما لا يعقل أنه متحرك بحركة خلقها في غيره ولا يعقل أنه

 

 

متلون بلون خلقه في غيره ولا متروح برائحة خلقها في غيره وطرد ذلك أنه لايعقل أنه مريد بإرادة أحدثها في غيره ولا محب وراض وغضبان وساخط برضى ومحبة وغضب وسخط خلقه في غيره وهؤلاء النفاة يصفونه بما لا يقوم به تارة بما يخلقه في غيره كالكلام والإرادة وتارة بما لا يقوم به ولا بغيره كالعلم والقدرة وهذا أيضا غير معقول فلا يعقل حي إلا من تقوم به الحياة ولا عالم إلا من يقوم به العلم كما لا يعقل باتفاق العقلاء متحرك إلا من تقوم به الحركة وطرد هذا أنه لا يعقل فاعل إلا من يقوم به الفعل وقد سلم الأشعرية ومن وافقهم كابن عقيل وغيره فاعلا لا يقوم به الفعل كعادل لا يقوم به العدل وخالق ورازق لا يقوم به الخلق والرزق وهذا مما احتجت به عليهم المعتزلة فقالوا كما جاز أن يكون عادلا خالقا رازقا بعدل وخلق ورزق لا يقوم به فكذلك عالم وقادر ومتكلم والسلف رضي الله عنهم وجمهور أهل السنة يطردون أصلهم ولهذا احتج الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بقول النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بكلمات الله تعالى التامات التيلا يجاوزهن بر ولا فاجر قالوا لا يستعاذ بمخلوق وكذلك ثبت عنه أنه قال اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك وقالوا لا يستعاذ بمخلوق وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بالرضا والمعافاة فكان ذلك عند أئمة السنة مما يقوم بالرب تعالى كما تقوم به كلماته ليس من المخلوقات التي لا تكون إلا بائنة عنه

 

 

فمن قال إن المتكلم هو الذي يكون كلامه منفضلا عنه والمريد والمحب والمبغض والراضي والساخط ما تكون إرادته ومحبته وبغضه ورضاه وسخطه بائنا عنه لا يقوم به بحال من الأحوال قال ما لا يعقل ولم يفهم الرسل للناس هذا بل كل من سمع ما بلغته الرسل عن الله يعلم بالضرورة أن الرسل لم ترد بكلام الله ما هو منفضل عن الله وكذلك لم ترد بإرادته ومحبته ورضاه ونحو ذلك ما هو منفضل عنه بل ما هو متصف به قالت الجهمية والمعتزلة المتكلم من فعل الكلام والله تعالى لما أحدث الكلام في غيره صار متكلما فيقال لهم للمتأخرين المختلفين هنا ثلاثة أقوال قيل المتكلم من فعل الكلام ولو كان منفصلا وهذا إنما قاله هؤلاء وقيل المتكلم من قام به الكلام ولو لم يكن بفعله ولا هو بمشيئته ولا قدرته وهذا قول الكلابية والسالمية ومن وافقهموقيل المتكلم من تكلم بفعله ومشيئته وقدرته وقام به الكلام وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من الشيعة والمرجئة والكرامية وغيرهم فأولئك يقولون هو صفة فعل منفصل عن الموصوف لا صفة ذات والصنف الثاني يقولون صفة ذات لازمة للموصوف لا تتعلق بمشيئته ولا قدرته والآخرون يقولون هو صفة ذات وصفة فعل وهو قائم به متعلق بمشيئته وقدرته وإذا كان كذلك فقولهم إنه صفة فعل ينازعهم فيه طائفة وإذا لم ينازعوا في هذا فيقال هب أنه صفة فعل منفصلة عن القائل الفاعل أو قائمة به أما الأول فهو قولكم الفاسد وكيف تكون الصفة غيره قائمة بالموصوف أو القول غير قائم بالقائل وقول القائل الصفات تنقسم إلى صفة ذات وصفة فعل ويفسر صفة الفعل بما هو بائن عن الرب كلام متناقض كيف يكون صفة للرب وهو لا يقوم به بحال بل هو مخلوق بائن عنه وهذا وإن كانت الأشعرية قالته تبعا للمعتزلة فهو خطاء في نفسه فإن إثبات صفات الرب وهي مع ذلك مباينة له جمع لين المتناقضين

 

 

المتضادين بل حقيقة قول هؤلاء إن الفعل لا يوصف به الرب فإن الفعل هو المخلوق والمخلوق لا يوصف به الخالق ولو كان الفعل الذي هو المفعول صفة له لكانت جميع المخلوقات صفات للرب وهذا لا يقوله عاقل فضلا عن مسلم فإن قلتم هذا بناء على أن فعل الله لا يقوم به لأنه لو قام به لقامت به الحوادث قيل والجمهور ينازعونكم في هذا الأصل ويقولون كيف يعقل فعل لا يقوم بفاعل ونحن نعقل الفرق بين نفس الخلق والتكوين وبين المخلوق المكون وهذا قول جمهور الناس كأصحاب أبي حنيفة وهو الذي حكاه البغوي وغيره من أصحاب الشافعي عن أهل السنة وهو قول أئمة أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبدالله بن حامد والقاضي أبي يعلى في آخر قوليه وهو قول أئمة الصوفية وأئمة أصحاب الحديث وحكاهالبخاري في كتاب خلق أفعال العباد عن العلماء مطلقا وهو قول طوائف من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم ثم القائلون بقيام فعله به منهم من يقول فعله قديم والمفعول متأخر كما أن إرادته قديمة والمراد متأخر كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم وهو الذي ذكره الثقفي وغيره من الكلابية لما وقعت المنازعة بينهم وبين ابن خزيمة ومنهم من يقول بل هو حادث النوع كما يقول ذلك من يقوله من الشيعة والمرجئة والكرامية ومنهم من يقول هو يقع بمشيئته وقدرته شيئا فشيئا لكنه لم يزل متصفا به فهو حادث الآحاد قديم النوع كما يقول ذلك من يقوله من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف منهم من يقول بل الخلق حادث قائم بالمخلوق كما يقوله هشام بن الحكم وغيره ومنهم من يقول بل هو قائم بنفسه لا في محل كما يقوله أبو الهذيل العلاف وغيره ومنهم من يقول بمعان قائمة بنفسها لا تتناهى كما يقوله معمر بن عباد وغيره

 

 

وإذا كان الجمهور ينازعونكم فتقدر المنازعة بينكم وبين أئمتكم من الشيعة ومن وافقهم فإن هؤلاء يوافقونكم على أنه حادث لكن يقولون هو قائم بذات الله فيقولون قد جمعنا بين حجتنا وحجتكم فقلنا العدم لا يؤمر ولا ينهى وقلنا الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم فإن قلتم لنا قد قلتم بقيام الحوادث بالرب قالوا لكم نعم وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل ومن لم يقل إن البارئ يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجئ فقد ناقض كتاب الله تعالى ومن قال إنه لم يزل ينادى موسى في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل لأن الله يقول فلما جاءها نودى (سورة النمل).وقال إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (سورة يس). فأتى بالحروف الدالة على الإستقبال قالوا وبالجملة فكل ما يحتج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته وأنه يتكلم إذا شاء وانه يتكلم شيئا بعد شيء فنحن نقول به وما يقول به من يقول إن كلام الله قائم بذاته وإنه صفة له والصفة لا تقوم إلا بالموصوف فنحن نقول به وقد أخذنا

 

 

بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما فإذا قالوا لنا فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به قلنا ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل وهو قول لازم لجميع الطوائف ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأمراض والنقائص والله تعالى منزه عن ذلك كما نزه نفسه عن السنة والنوم واللغوب وعن أن يؤوده حفظ السماوات والأرض وغير ذلك مما هو منزه عنه بالنص والإجماع ثم إن كثيرا من نفاة الصفات المعتزلة وغيرهم يجعلون مثل هذا حجة في نفي قيام الصفات أو قيام الحوادث به مطلقا وهو غلط منهم فإن نفى الخاص لا يستلزم نفى العام ولا يجب إذا نفيت عنه النقائص والعيوب أن ينتفي عنه ما هو من صفات الكمال ونعوت الجلال ولكن يقوم به ما يشاؤه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنةونحن نقول لمن أنكر قيام ذلك به أتنكره لإنكارك قيام الصفة به كإنكار المعتزلة أم تنكره لأن من قامت به الحوادث لم يخل منها ونحو ذلك مما يقوله الكلابية فإن قال بالأول كان الكلام في أصل الصفات وفي كون الكلام قائما بالمتكلم لا منفصلا عنه كافيا في هذا الباب وإن كان الثاني قلنا لهؤلاء أتجوزون حدوث الحوادث بلا سبب حادث أم لا فإن جوزتم ذلك وهو قولكم لزم أن يفعل الحوادث من لم يكن فاعلا لها ولا لضدها فإذا جاز هذا فلم لا يجوز أن تقوم الحوادث بمن لم تكن قائمة به هي ولا ضدها ومعلوم أن الفعل أعظم من القبول فإذا جاز فعلها بلا سبب حادث فكذلك قيامها بالمحل فإن قلتم القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده قلنا هذا ممنوع ولا دليل لكم عليه ثم إذا سلم ذلك فهو كقول

 

 

القائل القدر على الشيء لا يخلو عن فعله وفعل ضده وأنتم تقولون إنه لم يزل قادرا ولم يكن فاعلا ولا تاركا لأن الترك عندكم أمر وجودي مقدور وأنتم تقولون لم يكن فاعلا لشيء من مقدوراته في الأزل مع كونه قادرا بل تقولون إنه يمتنع وجود مقدوره في الأزل مع كونه قادرا عليه وإذا كان هذا قولكم فلأن لا يجب وجود المقبول في الأزل بطريق الأولى والأحرى فإن هذا المقبول مقدور لا يوجد إلا بقدرته وأنتم تجوزون وجود قادر مع امتناع مقدوره في حال كونه قادرا ثم نقول إن كان القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده لزم تسلسل الحوادث وتسلسل الحوادث إن كان ممكنا كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون لم يزل متكلما إذا شاء كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة وإن لم يكن جائزا أمكن أن يقوم به الحادث بعد أن لم يكن قائما به كما يفعل الحوادث بعد أن لم يكن فاعلا لها وكان قولنا هو الصحيح فقولكم أنتم باطل على كلا التقديرين فإن قلتم لنا أنتم توافقونا على امتناع تسلسل الحوادث وهو حجتنا وحجتكم على نفى قدم العالمقلنا لكم موافقتنا لكم حجة جدلية وإذا كنا قد قلنا بامتناع تسلسل الحوادث موافقة لكم وقلنا بأن القابل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده مخالفة لكم وأنتم تقولون إن قبل الحوادث لزم تسلسلها وأنتم لا تقولون بذلك قلنا إن صحت هاتان المقدمتان ونحن لا نقول بموجبهما لزم خطؤنا إما في هذه وإما في هذه وليس خطؤنا فيما سلمناه لكم بأولى من خطئنا فيما خالفناكم فيه فقد يكون خطؤنا في منع تسلسل الحوادث لا في قولنا إن القابل للشيء يخلو عنه وعن ضده فلا يكون خطؤنا في إحدى المسألتين دليلا على صوابكم في الأخرى التي خالفناكم فيها أكثر ما في هذا الباب أنا نكون متناقضين والتناقض شامل لنا ولكم ولأكثر من تكلم في هذه المسألة ونظائرها وإذا كنا متناقضين فرجوعنا إلى قول نوافق فيه العقل والنقل أولى من رجوعنا إلى قول

 

 

نخالف فيه العقل والنقل فالقول بأن المتكلم يتكلم بكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته أو منفصل عنه لا يقوم به مخالف للعقل والنقل بخلاف تكلمه بكلام يتعلق بمشيئته وقدرته قائم به فإن هذا لا يخالف لا عقلا ولا نقلا لكن قد نكون نحن لم نقله بلوازمه فنكون متناقضين وإذا كنا متناقضين كا الواجب أن نرجع عن القول الذي أخطأنا فيه لنوافق ما أصبنا فيه لا نرجع عن الصواب لنطرد الخطأ فنحن نرجع عن تلك المناقضات ونقول بقول أهل الحديث فإن قلتم إثبات حادث بعد حادث لا إلى أول قول الفلاسفة الدهرية قلنا بل قولكم إن الرب تعالى لم يزل معطلا لا يمكنه أن يتكلم بشيء ولا أن يفعل شيئا ثم صار يمكنه أن يتكلم وأن يفعل بلا حدوث سبب يقتضى ذلك قول مخالف لصريح العقل ولما عليه المسلمون فإن المسلمين يعلمون أن الله لم يزل قادرا وإثبات القدرة مع كون المقدور ممتنعا غير ممكن جمع بين النقيضين فكان فيما عليهالمسلمون من أنه لم يزل قادرا ما يبين أنه لم يزل قادرا على الفعل والكلام بقدرته ومشيئته والقول بدوام كونه متكلما ودوام كونه فاعلا بمشيئته منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم وهو منقول عن جعفر ابن محمد الصادق في الأفعال المتعدية فضلا عن اللازمة وهو دوام إحسانه وذلك قوله وقول المسلمين ياقديم الإحسان إن عنى بالقديم قائم به والفلاسفة الدهرية قالوا بقدم الأفلاك وغيرها من العالم وأن الحوادث فيه لا إلى أول وأن البارئ موجب بذاته للعالم ليس فاعلا بمشيئته وقدرته ولا يتصرف بنفسه ومعلوم بالإضطرار من دين الرسل أن الله تعالى خالق كل شيء ولا يكون المخلوق إلا محدثا فمن جعل مع الله شيئا قديما بقدمه فقد علم مخالفته لما أخبرت به الرسل مع مخالفته لصريح العقل وأنتم وافقتموهم على طائفة من باطلهم حيث قلتم إنه لا يتصرف

 

 

بنفسه ولا يقوم به أمر يختاره ويقدر عليه بل جعلتموه كالجماد الذي لا تصرف له ولا فعل وهم جعلوه كالجماد الذي لزمه وعلق به ما لا يمكنه دفعه عنه ولا قدرة له على التصرف فيه فوافقتموهم على بعض باطلهم ونحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته وأنه قادر على الفعل بنفسه وعلى التكلم بنفسه كيف شاء وقلنا إنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال متكلما إذا شاء فلا نقول إن كلامه مخلوق منفصل عنه فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم ولا نقول إن كلامه شيء واحد أمرى ونهى وخبر وأن معنى التوراة والإنجيل واحد وأن الأمر والنهى صفة لشي واحد فإن هذا مكابرة للعقل ولا نقول إنه أصوات مقطعة متضادة أزلية فإن الأصوات لا تبقى زمانين وأيضا فلو قلنا بهذا القول والذي قبله لزم أن يكون تكليم اللهللملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة ليس إلا مجرد خلق إدراك لهم لما كان أزليا لم يزل ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك ولا نقول إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فإن هذا وصف له بالكمال بعد النقص وأنه صار محلا للحوادث التي كمل بها بعد نقصه ثم حدوث ذلك الكمال لا بد له من سبب والقول في الثاني كالقول في الأول ففيه تجدد كمال بلا سبب ووصف له بالنقص الدائم من الأزل إلى أن تجدد له ما لا سبب لتجدده وفي ذلك تعطيل له عن صفات الكمال وأما دوام الحوادث فمعناه هنا دوام كونه متكلما إذا شاء وهذا دوام كماله ونعوت جلاله ودوام أفعاله وبهذا يمكن أن يكون العالم وكل ما فيه مخلوق له حادث بعد أن لم يكن لأنه يكون سبب الحدوث هو ما قام بذاته من كلماته وأفعاله وغير ذلك فيعقل

 

 

سبب حدوث الحوادث ويمتنع مع هذا أن يقال بقدم شيء من العالم لأنه لو كان قديما لكان مبدعه موجبا بذاته ليلزمه موجبه ومقتضاه وإذا كان الخالق فاعلا بفعل يقول بنفسه بمشيئته واختياره امتنع أن يكون موجبا بذاته لشي من الأشياء فامتنع قدم شيء من العالم وإذا امتنع من الفاعل المختار أن يفعل شيئا منفصلا عنه مقارنا له مع أنه لا يقوم به فعل اختياري فلأن يمتنع ذلك إذا قام به فعل اختياري بطريق الأولى والأحرى لأنه على هذا التقدير لا يوجد المفعول حتى يوجد الفعل الإختياري الذي حصل بقدرته ومشيئته وعلى التقدير الأول يكفى فيه نفس المشيئة والقدرة والفعل الإختياري ومعلوم أن ما توقف على المشيئة والقدرة والفعل الإختياري القائم به يكون أولى بالحدوث والتأخر مما لم يتوقف إلا على بعض ذلك والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع وأكثر الناس

 

 

لا يعلمون كثيرا من هذه الأقوال ولذلك كثر بينهم القيل والقال وما ذكرناه إشارة إلى مجامع المذاهب والأصل الذي باين به أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم وسائر أئمة المسلمين للجهمية والمعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات أن الرب تعالى إنما يوصف بما يقوم به لا يوصف بمخلوقاته وهو أصل مطرد عند السلف والجمهور ولكن المعتزلة استضعفت الأشعرية ومن وافقهم بتناقضهم في هذا الأصل حيث وصفوه بالصفات الفعلية مع أن الفعل لا يقوم به عندهم والأشعري تبع في ذلك للجهمية والمعتزلة الذين نفوا قيام الفعل به لكن أولئك ينفون الصفات أيضا بخلاف الأشعرية والمعتزلة لهم نزاع في الخلق هل هو المخلوق أو غير المخلوق وإذا قالوا هو غير المخلوق فقد يقولون معنى قائم لا في محل كما تقوله البصريون في الإرادة وقد يقولون معاني لا نهاية لها في آن واحد كما يقوله معمر منهم وأصحابه ويسمون أصحاب المعاني وقد يقولون إنه قائم بالمخلوق وحجة الأشعري ومن وافقه على أن الخلق هو المخلوق أنهم قالوا لو كان غيره لكان إما قديما وإما محدثا فإن كان قديما لزم قدم المخلوق وهو محال بالإضطرار فيما علم حدوثه بالإضطرار والدليل فيما علم حدوثه بالدليل وإن كان محدثا كان مخلوقا فافتقر الخلق إلى

 

 

خلق ثان ولزم التسلسل وأيضا فيلزم قيام الحوادث به وهذا عمدتهم في نفس الأمر والرازي لم يكن له خبرة بأقوال طوائف المسلمين إلا بقول المعتزلة والأشعرية وبعض أقوال الكرامية والشيعة فلهذا لما ذكر هذه المسألة ذكر خلاف فيها مع فقهاء ما وراء النهر وقول هؤلاء هو قول جماهير طوائف المسلمين والجمهور لهم في الجواب عن عمدة هؤلاء طرق كل قوم بحسبهم فطائفة قالت بل الخلق الذي هو التكوين والفعل قديم والمكون المفعول محدث لأن الخلق عندهم لا تقوم به الحوادث وهذا قول كثير من هؤلاء من الحنفية والحنبلية والكلابية والصوفية وغيرهم فإذا قالوا لهؤلاء فيلزم قدم المكون قالوا نقول في ذلك مثل ما قلتم في الإرادة الأزلية قلتم هي قديمة فإن كان المراد محدثا كذلك التكوين قديم وإن كان المكون محدثا وطائفة قالت بل الخلق والتكوين حادث إذا أراد الله خلق شيء وتكوينه وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام والفقه والتصوف قالوا لأن الله ذكر وجود أفعاله شيئا بعد شيء كقوله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش (سورة الأعراف). وقوله ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (سورة فصلت). وقوله

 

 

ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم (سورة الأعراف). وقوله ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ((سورة المؤمنون).). وأمثال ذلك وهولاء يلتزمون أنه تقوم به الأمور الإختيارية كخلقه ورضاه وغضبه وكلامه وغير ذلك مما دلت عليه النصوص وفي القرآن أكثر من ثلاثمائة موضع توافق قولهم وأما الأحاديث فكثيرة جدا والآثار عن السلف بذلك متواترة وهو قول أكثر الأساطين من الفلاسفة ثم هؤلاء في التسلسل على قولين وهم يقولون المخلوق يحصل بالخلق والخلق يحصل بقدرته ومشيئته لا يحتاج إلى خلق آخر ويقولون لمنازعيهم إذا جاز عندكم وجود المخلوقات المنفصلة بمجرد القدرة والمشيئة من غير فعل قائم به فلأن يجوز الفعل بمجرد القدرة الإرادة أولى وأحرى ومن لم يقل بالتسلسل منهم يقول نفس القدرة القديمة والإرادة القديمة أوجبت ما حدث من الفعل والإرادة وبذلك يحصل المخلوق فيما لا يزال ومن قال بالتسلسل منهم قال التسلسل الممتنع إنما هو التسلسل في المؤثرات وهو أن يكون للفاعل فاعل وهلم جرا إلى غير نهاية سواء عبر عن ذلك بأن للعلة علة وللمؤثر مؤثرا أو عبر عنه بأن للفاعل فاعلا

 

 

فهذا هو التسلسل الممتنع في صريح العقل ولهذا كان هذا ممتنعا باتفاق العقلاء كما أن الدور الممتنع هو الدور القبلي فأما التسلسل في الآثار وهو أن لا يكون الشيء حتى يكون قبله غيره أو لا يكون إلا ويكون بعد غيره فهذا للناس فيه ثلاثة أقوال قيل هو ممتنع في الماضي والمستقبل وقيل بل هو جائز في الماضي والمستقبل وقيل ممتنع في الماضي جائز في المستقبل والقول بجوازه مطلقا هو معنى قول السلف وأئمة الحديث وقول جماهير الفلاسفة القائلين بحدوث هذا العالم والقائلين بقدمه وقد بسط الكلام على أدلة الطائفتين في موضع آخر فإنا قد بسطنا الكلام فيما ذكره من أصول الدين أضعاف ما تكلم به هو ونبهنا على مجامع الأقوال.

*

فصل وأما قوله وأن الأنبياء معصومون من الخطأ والسهو والمعصية صغيرها وكبيرها من أول العمر إلى آخره وإلا لم يبق وثوق بما يبلغونه فانتفت فائدة البعثة ولزم التنفير عنهم.

 

*فيقال أولا إن الإمامية متنازعون في عصمة الأنبياء .

قال الأشعري في المقالات واختلفت الروافض في الرسول هل يجوز عليه أن يعصى أم وهم فرقتان.

فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الرسول جائز عليه أن يعصى الله وأن النبي قد عصى في أخذ الفداء يوم بدر فأما الأئمة فلا يجوز ذلك عليهم فإن الرسول إذا عصى فإن الوحي يأتيه من قبل الله والأئمة لا يوحى إليهم ولا تهبط الملائكة عليهم وهم معصومون فلا يجوز عليهم أن يسهوا ولا يغلطوا وإن جاز على الرسول العصيان قال والقائل بهذا القول هشام بن الحكم.

والفرقة الثانية منهم يزعمون أنه لا يجوز على الرسول أن يعصى الله عز وجل ولا يجوز ذلك على الأئمة لأنهم جميعا حجج الله وهم معصومون من الزلل ولو جاز عليهم السهو واعتماد المعاصي وركوبها لكانوا قد ساووا المأمومين في جواز ذلك عليهم كما جاز على المأمومين ولم يكن المأمومون أحوج إلى الأئمة من الأئمة لو كان ذلك جائزا عليهم جميعا وأيضا فكثير من شيوخ الرافضة من يصنف الله تعالى بالنقائص

 

كما تقدم حكاية بعض ذلك فزرارة بن أعين وأمثاله يقولون يجوز البداء عليه وأنه يحكم بالشيء ثم يتبين له مالم يكن علمه فينتقض حكمه لما ظهره له من خطئه فإذا قال مثل هؤلاء بأن الأنبياء والأئمة لا يجوز أن يخفى عليهم عاقبة فعلهم فقد نزهوا البشر عن الخطأ مع تجويزهم الخطأ على الله وكذلك هشام بن الحكم وزارة بن أعين وأمثالهما ممن يقول إنه يعلم ما لم يكن عالما به ومعلوم أن هذا من أعظم النقائص في حق الرب فإذا قالوا مع ذلك إن الأنبياء والأئمة لا يبدو لهم خلاف ما رأوا فقد جعلوهم لا يعلمون ما لم يكونوا يعلمونه في مثل هذا وقالوا بجواز ذلك في غيره وأما ما تقوله غلاتهم من إلا هية على أو نبوته وغلط جبريل بالرسالة فهو أعظم من أن يذكر هنا ولا ريب أن الشرك والغلو يخرج أصحابه إلى أن يجعلوا البشر مثل الإله بل أفضل من الإله في بعض الأمور كما ذكر الله عن المشركين حيث قال وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون (سورة الأنعام). وقال تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم (سورة الأنعام). فهؤلاء لما سبت آلهتهم سبوا الله مقابلة فجعلوهم مماثلين لله وأعظم في قلوبهم كما تجد كثيرا من المشركين يحب ما اتخذه من دون الله أندادا أكثر مما يحب الله تعالى وتجد أحدهم يحلف بالله ويكذب

 

ويحلف بما اتخذه ندا من إمامه أو شيخه أو غير ذلك ولا يستجيز أن يكذب وتسأله بالله والله فلا يعطى وتسأله بما يعظمه من إمامه أو شيخه أو غير ذلك فيعطى ويصلى لله في بيته ويدعوه فلا يكون عنده كبير خشوع فإذا أتى إلى قبر من يعظمه ورجا أن يدعوه أو يدعو به أو يدعو عنده فيحصل له من الخشوع والدموع ما لا يحصل في عبادة الله ودعائه في بيت الله أو في بيت الداعي العابد وتجد أحدهم يغضب إذا ذكر ما اتخذه ندا بعيب أو نقص ويذكر الله بالعيوب والنقوص فلا يغضب له ومثل هذا كثير في المشركين شركا محضا وفي من فيه شعبة من الشرك في هذه الأمة والنصارى ينزهون البشر عن كثير مما يصفون به الرب فيقولون لله ولد وينزهون كثيرا من عظمائهم أن يكون له ولد ويقول كثير منهم إن الله ينام والباب عندهم لا ينام ومثل هذا كثير ثم يقال ثانيا قد اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله فلا يجوز أن يقرهم على الخطأ في شيء مما يبلغونه عنه وبهذا يحصل المقصود من البعثة وأما وجوب كونه قبل أن يبعث نبيا لا يخطئ أو لا يذنب فليس في

 

النبوة يستلزم هذا وقول القائل لو لم يكن كذلك لم تحصل ثقة فيما يبلغونه عن الله كذب صريح فإن من آمن وتاب حتى ظهر فضله وصلاحه ونبأه الله بعد ذلك كما نبأ إخوة يوسف ونبأ لوطا وشعيبا وغيرهما وأيده الله تعالى بما يدل على نبوته فإنه يوثق فيما يبلغه كما يوثق بمن لم يفعل ذلك وقد تكون الثقة به أعظم إذا كان بعد الإيمان والتوبة قد صار أفضل من غيره والله تعالى قد أخبر أنه يبدل السيئات بالحسنات للتائب كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل أن يصدر منهم ما يدعونه من الأحداث كانوا من خيار الخلق وكانوا أفضل من أولادهم الذين ولدوا بعد الإسلام ثم يقال وأيضا فجمهور المسلمين على أن النبي لا بد أن يكون من أهل البر والتقوى متصفا بصفات الكمال ووجوب بعض الذنوب أحيانا مع التوبة الماحية الرافعة لدرجته إلى أفضل مما كان عليه لا ينافي ذلك وأيضا فوجوب كون النبي لا يتوب إلى الله فينال محبة الله وفرحه بتوبته وترتفع درجته بذلك ويكون بعد التوبة التي يحبه الله منه خيرا مما كان قبلها فهذا مع ما فيه من التكذيب للكتاب والسنة غض من مناصب الأنبياء وسلبهم هذه الدرجة ومنع إحسان الله إليهم وتفضله عليهم بالرحمة والمغفرة

 

ومن اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره وتاب بعد ذنبه فهو مخالف ما علم بالإضطرار من دين الإسلام فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد كفرهم وهداهم الله به بعد ضلالهم وتابوا إلى الله بعد ذنوبهم أفضل من أولادهم الذين ولدوا على الإسلام وهل يشبه بني الأنصار بالأنصار أو بنى المهاجرين بالمهاجرين إلا من لا علم له وأين المنتقل بنفسه من السيئات إلى الحسنات بنظره واستدلاله وصبره واجتهاده ومفارقته عاداته ومعاداته لأوليائه وموالاته لأعدائه إلى آخر لم يحصل له مثل هذه الحال وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية وقد قال تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعلم عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما (سورة الفرقان). وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يارب قد عملت أشياء لا أراها ههنا فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه

 

فأين من يبدل الله سيئاته حسنات إلى من لم تحصل له تلك الحسنات ولا ريب أن السيئات لا يؤمر بها وليس للعبد أن يفعلها ليقصد بذلك التوبة منها فإن هذا مثل من يريد أن يحرك العدو عليه ليغلبهم بالجهاد أو يثير الأسد عليه ليقتله ولعل العدو يغلبه والأسد يفترسه بل مثل من يريد أن يأكل السم ثم يشرب الترياق وهذا جهل بل إذا قدر من ابتلى بالعدو فغلبه كان أفضل ممن لم يكن كذلك وكذلك من صادفه الأسد وكذلك من اتفق أن شرب السم فسقى ترياقا فاروقا يمنع نفوذ سائر السموم فيه كان بدنه أصح من بدن من لم يشرب ذلك الترياق والذنوب إنما تضر أصحابها إذا لم يتوبوا منها والجمهور الذين يقولون بجواز الصغائر عليهم يقولون إنهم معصومون من الإقرار عليها وحينئذ فما وصفوهم إلا بما فيه كمالهم فإن الأعمال بالخواتيم مع أن القرآن والحديث وإجماع السلف معهم في تقرير هذا الأصل فالمنكرون لذلك يقولون في تحريف القرآن ما هو من جنس قول أهل البهتان ويحرفون الكلم عن مواضعه كقولهم في قوله تعالى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر (سورة الفتح). أي ذنب آدم وما تأخر من ذنب أمته فإن هذا ونحوه من تحريف الكلم عن مواضعه أما أولا فلأن آدم تاب وغفر له ذنبه قبل أن يولد نوح وإبراهيم فكيف يقول له إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك ذنب آدم وأما ثانيا فلأن الله يقول ولا تز وازرة وزر أخرى (سورة الإسراء). فكيف يضاف ذنب أحد إلى غيره وأما ثالثا فلأن في حديث الشفاعة الذي في الصحاح أنهم يأتون

 

 

آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته اشفع لنا إلى ربك فيذكر خطيئته ويأتون نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى فيقول لهم اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكان سبب قبول شفاعته كما عبودتيه وكمال مغفرة الله له فلو كانت هذه لآدم لكان يشفع لأهل الموقف وأما رابعا فلأن هذه الآية لما نزلت قال أصحابه رضي الله عنهم يا رسول الله هذا لك فما لنا فأنزل الله تعالى هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم (سورة الفتح). فلو كان ما تأخر ذنوبهم لقال هذه الآية لكم وأما خامسا فكيف يقول عاقل إن الله غفر ذنوب أمته كلها وقد علم أن منهم من يدخل النار وإن خرج منها بالشفاعة فهذا وأمثاله من خيار تأويلات المانعين لما دل عليه القرآن من توبة الأنبياء من ذنوبهم واستغفارهم وزعمهم أنه لم يكن هناك ما يوجب توبة ولا استغفار ولا تفضل الله عليه بمحبته وفرحه بتوبتهم ومغفرته ورحمته لهم فكيف بسائر تأويلاتهم التي فيها من تحريف القرآن وقول الباطل على الله ما ليس هذا موضع بسطه وأما قوله إن هذا ينفى الوثوق ويوجب التنفير فليس هذا بصحيح فيما قبل النبوة ولا فيما يقع خطأ ولكن غايته أن يقال هذا موجود فيما تعمد من الذنب فيقال بل إذا اعترف الرجل الجليل القدر بما هو عليه من الحاجة إلى توبته واسغفاره ومغفرة الله له ورحمته دل ذلك على صدقه وتواضعه وعبوديته لله وبعده عن الكبر والكذب بخلاف من يقول ما بي حاجة إلى شيء من هذا ولا يصدر منى ما يحوجني إلى مغفرة الله لي وتوبته على ويصر على كل ما يقوله ويفعله بناء على

 

أنه لا يصدر منه ما يرجع عنه فإن مثل هذا إذا عرف من رجل نسبه الناس إلى الكذب والكفر والجهل وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لن يدخل أحد منكن الجنة بعمله قالوا ولا أنت يارسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل فكان هذا من أعظم ممادحه وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لا تطروني ما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله وكل من سمع هذا عظمه بمثل هذا الكلام. وفي الصحيحين عنه أنه كان يقول اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به منى أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير وهذا كما أنه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا على حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني رواه أبو داود وغيره وقال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد رواه مالك وغيره كان هذا التواضع مما زاده الله به رفعة وكذلك لما سجد له بعض أصحابه فنهاه عن ذلك وقال إنه لا يصلح السجود إلا لله وكذلك لما كان بعض الناس يقول ما شاء الله وشاء محمد قال أجعلتني ندا لله قل ما شاء الله ثم شاء محمد وقوله في دعائه أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المعترف المقر بذنبه أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف من خضعت له رقبته وذل جسده ورغم أنفه لك ونحو

 

هذه الأحوال التي رفع الله بها درجاته بما اعترف به من فقر العبودية وكمال الربوبية والغنى عن الحاجة من خصائص الربوبية فأما العبد فكماله في حاجته إلى ربه وعبوديته وفقره وفاقته فكلما كانت عبوديته أكمل كان أفضل وصدور ما يحوجه إلى التوبة والإستغفار مما يزيده عبودية وفقرا وتواضعا ومن المعلوم أن ذنوبهم ليست كذنوب غيرهم بل كما يقال حسنات الأبرار سيئات المقربين لكن كل يخاطب على قدر مرتبته وقد قال صلى الله عليه وسلم كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون وما ذكره من عدم الوثوق والتنفير قد يحصل مع الإصرار والإكثار ونحو ذلك وأما اللمم الذي يقترن به التوبة والإستغفار أو ما يقع بنوع من التأويل وما كان قبل النبوة فإنه مما يعظم به الإنسان عند أولى الأبصار وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد علم تعظيم رعيته له وطاعتهم مع كونه دائما كان يعترف بما يرجع عنه من خطأ وكان إذا اعترف بذلك وعاد إلى الصواب زاد في أعينهم وازدادوا له محبة وتعظيما ومن أعظم ما نقمه الخوارج على علي أنه لم يتب من تحكيم الحكمين وهم وإن كانوا جهالا في ذلك فهو يدل على أن التوبة لم تكن تنفرهم وإنما نفرهم الأصرار على ما ظنوه هم ذنبا والخوارج من أشد الناس تعظيما للذنوب ونفورا عن أهلها حتى أنهم يكفرون بالذنب ولا يحتملون لمقدمهم ذنبا ومع هذا فكل مقدم لهم تاب عظموه وأطاعوه ومن لم يتب عادوه فيما يظنونه ذنبا وإن لم يكن ذنبا

 

فعلم أن التوبة والإستغفار لا توجب تنفيرا ولا تزيل وثوقا بخلاف دعوى البراءة مما يتاب منه ويستغفر ودعوى السلامة مما يحوج الرجوع إلى الله واللجأ إليه فإنه هو الذي ينفر القلوب ويزيل الثفة فإن هذا لم يعلم أنه صدر إلا عن كذاب أو جاهل وأما الأول فإنه يصدر عن الصادقين العالمين ومما يبين ذلك أنه لم يعلم أحد طعن في نبوة أحد من الأنبياء ولا قدح في الثقة به بما دلت عليه النصوص التي تيب منها ولا احتاج المسلمون إلى تأويل النصوص بما هو من جنس التحريف لها كما يفعله من يفعل ذلك والتوراة فيها قطعة من هذا وما أعلم أن بني إسرائيل قدحوا في نبي من الأنبياء بتوبته في أمر من الأمور وإنما كانوا يقدحون فيهم بالإفتراء عليهم كما كانوا يؤذن موسى عليه السلام وإلا فموسى قد قتل القبطي قبل النبوة وتاب من سؤال الرؤية وغير ذلك بعد النبوة وما أعلم أحدا من بنى إسرائيل قدح فيه بمثل هذا وما جرى في (سورة النجم). من قوله تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى على المشهور عند السلف والخلف من أن ذلك جرى على لسانه ثم نسخه الله وأبطله هو من أعظم المفتريات على قول

 

 

هؤلاء ولهذا كان كثير من الناس يكذب هذا وإن كان مجوزا عليهم غيره إما قبل وإما بعدها لظنه أن في ذلك خطأ في التبليغ وهو معصوم في التبليغ بالإتفاق والعصمة المتفق عليها أنه لا يقر على خطأ في التبليغ بالإجماع ومن هذا فلم يعلم أحد من المشركين نفر برجوعه عن هذا وقوله إن هذا مما ألقاه الشيطان ولكن روى أنهم نفروا لما رجع إلى ذم آلهتهم بعد ظنهم أنه مدحها فكان رجوعهم لدوامه على ذمها لا لأنه قال شيئا ثم قال إن الشيطان ألقاه وإذا كان هذا لم ينفر فغيره أولى أن لا ينفر وأيضا فقد ثبت أن النسخ نفر طائفة كما قال سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها (سورة البقرة). وقوله وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا (سورة النحل). فالتبديل الذي صرحوا بأنه منفر ونفروا به عنه لم يكن مما يجب نفيه عنه فكيف بالرجوع إلى الحق الذي لم يعلم أنهم نفروا منه وهو أقل تنفيرا لأن النسخ فيه رجوع عن الحق إلى حق وهذا رجوع إلى حق من غير حق ومعلوم أن الإنسان يحمد على ترك الباطل إلى الحق ما لا يحمد على

 

 

ترك ما لم يزل يقول إنه حق وإذا كان جائزا فهذا أولى وإذا كان في ذلك مصلحة ففي هذا أيضا مصالح عظيمة ولولا أن فيها وفي العلم بها مصالح لعباده لم يقصها في غير موضع من كتابه وهو سبحانه وله الحمد لم يذكر عن نبي من الأنبياء ذنبا إلا ذكر معه توبته لينزهه عن النقص والعيب ويبين أنه ارتفعت منزلته وعظمت درجته وعظمت حسناته وقربه إليه بما أنعم الله عليه من التوبة والإستغفار والأعمال الصالحة التي فعلها بعد ذلك وليكون ذلك أسوة لمن يتبع الأنبياء ويقتدي بهم إلى يوم القيامة ولهذا لما لم يذكر عن يوسف توبة في قصة امرأة العزيز دل على أن يوسف لم يذنب أصلا في تلك القصة كما يذكر من يذكر أشياء نزهه الله منها بقول تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (سورة يوسف). وقد قال تعالى ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه (سورة يوسف). والهم كما قال الإمام أحمد رضي الله عنه همان هم خطرات وهم إصرار وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله تعالى يقول إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة كاملة فإن عملها فاكتبوها عشرا إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن تركها فاكتبوها له حسنة فإنما تركها من جراي

 

 

فيوسف عليه الصلاة والسلام لما هم ترك همه لله فكتب الله به حسنة كاملة ولم يكتب عليه سيئة قط بخلاف امرأة العزيز فإنها همت وقالت وفعلت فراودته بفعلها وكذبت عليه عند سيدها واستعانت بالنسوة وحبسته لما اعتصم وامتنع عن الموافقة على الذنب ولهذا قالت وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم (سورة يوسف). وهذا من قولها كما دل عليه القرآن ليس من كلام يوسف عليه السلام بل لما قالت هذا كان يوسف غائبا في السجن لم يحضر عند الملك بل لما برأته هي والنسوة استدعاه الملك بعد هذا وقال ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين (سورة يوسف). وأما من ذكر الله تعالى وتبارك عنه ذنبا كآدم عليه السلام فإنه لما قال وعصى آدم ربه فغوى ثم أجتباه ربه فتاب عليه وهدى (سورة طـــه). وقال فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (سورة البقرة).

 

 

وقال تعالى عن داود عليه السلام وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (سورة ص). وقال لموسى عليه السلام والصلاة إنى لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنى غفور رحيم (سورة النمل).ومن احتج على امتناع ذلك بأن الإقتداء بهم مشروع والإقتداء بالذنب لا يجوز قيل له إنما يقتدى بهم فيما أقروا عليه لا فيما نهوا عنه كما أنه إنما يقتدى بهم فيما أقروا عليه ولم ينسخ ولم ينسه فيما نسخ وحينئذ فيكون التأسى بهم مشروعا مأمورا به لا يمنع وقوع ما ينهون عنه ولا يقرون عليه لا من هذا ولا من هذا وإن كان اتباعهم في المنسوخ لا يجوز بالإتفاق ومما يبين أن النسخ أشد تنفيرا أن الإنسان إذا رجع عن شيء إلى آخر وقال الأول الذي كنت عليه حق أمرني الله به ورجوعي عنه حق أمرني الله به كان هذا أقرب إلى النفور عنه من أن يقول رجعت عما لم يأمرني الله به فإن الناس كلهم يحمدون من قال هذا وأما من قال أمري بهذا حق ونهيي عنه حق فهذا مما نفر عنه كثير من السفهاء وأنكره من أنكره من اليهود وغيرهم ومما يبين الكلام في مسألة العصمة أن تعرف النبوة ولوازمها وشروطها فإن الناس تكلموا في ذلك بحسب أصولهم في أفعال الله

 

 

تعالى إذا كان جعل الشخص نبيا رسولا من أفعال الله تعالى فمن نفى الحكم والأسباب في أفعاله وجعلها معلقة بمحض المشيئة وجوز عليه فعل كل ممكن ولم ينزهه عن فعل من الأفعال كما هو قول الجهم بن صفوان وكثير من الناس كالشعري ومن وافقه من أهل الكلام من أتباع مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من مثبتة القدر فهؤلاء يجوزون بعثة كل مكلف والنبوة عندهم مجرد إعلامه بما أوحاه إليه والرسالة مجرد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه النبوة عندهم صفة ثبوتية ولا مستلزمة لصفة يختص بها بل هي من الصفات الإضافية كما يقولون مثل ذلك في الأحكام الشرعية وهذا قول طوائف من أهل الكلام كالجهم بن صفوان والأشعري وأتباعهما ولهذا من يقول بها كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما يقول إن العقل لا يوجب عصمة النبي إلا في التبليغ خاصة فإن هذا هو مدلول المعجزة وما سوى ذلك إن دل السمع عليه وإلا لم تجب عصمته منه وقال محققوا هؤلاء كأبي المعالى وغيره إنه ليس في السمع قاطع يوجب العصمة والظواهر تدل على وقوع الذنوب منهم وكذلك كالقاضي أبي بكر إنما يثبت ما يثبته من العصمة في غير التبليغ إذا كان من موارد الإجماع لأن الإجماع حجة وما سوى ذلك فيقول لم يدل عليه عقل ولا سمع وإذا احتج المعتزلة وموافقوهم من الشيعة عليهم بأن هذا يوجب

 

 

التنفير ونحن ذلك فيجب من حكمة الله منعهم منه قالوا هذا مبنى على مسألة التحسين والتقبيح العقليين قالوا ونحن نقول لا يجب على الله شيء ويحسن منه كل شيء وإنما ننفى ما ننفيه بالخبر السمعي ونوجب وقوع ما يقع بالخبر السمعي أيضا كما أوجبنا ثواب المطيعين وعقوبة الكافرين لإخباره أنه يفعل ذلك ونفينا أن يغفر لمشرك لإخباره أنه لا يفعل ذلك ونحو ذلك وكثير من القدرية المعتزلة والشيعة وغيرهم ممن يقول بأصله في التعديل والتجوير وأن الله لا يفضل شخصا على شخص إلا بعمله يقول إن النبوة أو الرسالة جزاء على عمل متقدم فالنبي فعل من الأعمال الصالحة ما استحق به أن يجزيه الله بالنبوة وهؤلاء القدرية في شق وأؤلئك الجهمية الجبرية في شق وأما المتفلسفة القائلون بقدم العالم وصدوره عن علة موجبة مع إنكارهم أن الله تعالى يفعل بقدرته ومشيئته وأنه يعلم الجزئيات فالنبوة عندهم فيض يفيض على الإنسان بحسب استعداده وهي مكتسبة عندهم ومن كان متميزا في قوته العلمية بحيث يستغنى عن التعليم وشكل في نفسه خطاب يسمعه كما يسمع النائم وشخص

 

 

يخاطبه كما يخاطب النائم وفي العملية بحيث يؤثر في العنصريات تأثيرا غريبا كان نبيا عندهم وهم لا يثبتون ملكا مفضلا يأتي بالوحي من الله تعالى ولا ملائكة بل ولا جنا يخرق الله بهم العادات للأنبياء إلا قوى النفس وقول هؤلاء وإن كان شرا من أقوال كفار اليهود والنصارى وهو أبعد الأقوال عما جاءت به الرسل فقد وقع فيه كثير من المتأخرين الذين لم يشرق عليهم نور النبوة من المدعين للنظر العقلي والكشف الخيالي الصوفي وإن كان غاية هؤلاء الأقيسة الفاسدة والشك وغاية هؤلاء الخيالات الفاسدة والشطح والقول الرابع وهو الذي عليه جمهور سلف الأمة وأئمتها وكثير من النظار أن الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس والله أعلم حيث يجعل رسالاته فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره وفي عقله ودينه واستعد بها لأن يخصه الله بفضله ورحمته كما قال تعالى وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا

 

 

بعضهم فوق بعض درجات (سورة الزخرف). وقال تعالى ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (سورة البقرة). وقال تعالى لما ذكر الأنبياء بقوله ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم (سورة الأنعام). فأخبر أنه اجتباهم وهداهم والأنبياء أفضل الخلق باتفاق المسلمين وبعدهم الصديقون والشهداء والصالحون فلولا وجوب كونهم من المقربين الذين هم فوق أصحاب اليمين لكان الصديقون أفضل منهم أو من بعضهم والله تعالى قد جعل خلقه ثلاثة أصناف فقال تعالى في تقسيمهم في الآخرة وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم (سورة الواقعة). وقال في تقسيمهم عند الموت فإما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمينفسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصليه جحيم (سورة الواقعة). وكذلك ذكر في سورة الإنسان والمطففين هذه الأصناف الثلاثة

 

 

والأنبياء أفضل الخلق وهم أصحاب الدرجات العلى في الآخرة فيمتنع أن يكون النبي من الفجار بل ولا يكون من عموم أصحاب اليمين بل من أفضل السابقين المقربين فإنهم أفضل من عموم الصديقين والشهداء والصالحين وإن كان النبي أيضا يوصف بأنه صديق وصالح وقد يكون شهيدا لكن ذاك أمر يختص بهم لا يشركهم فيه من ليس بنبى كما قال عن الخليل وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (سورة العنكبوت). وقال يوسف توفني مسلما وألحقني بالصالحين (سورة يوسف). فهذا مما يوجب تنزيه الأنبياء أن يكونوا من الفجار والفساق وعلى هذا إجماع سلف الأمة وجماهيرها وأما من جوز أن يكون غير النبي أفضل منه فهو من أقوال بعض ملاحدة المتأخرين من غلاه الشيعة والصوفية والمتفلسفة ونحوهم وما يحكى عن الفضلية من الخوارج أنهم جوزوا الكفر على النبي فهذا بطريق اللازم لهم لأن كل معصية عندهم كفر وقد جوزوا المعاصى على النبي وهذا يقتضى فساد قولهم بأن كل معصية كفر

 

 

وقولهم بجواز المعاصي عليهم وإلا فلم يلتزموا أن يكون النبي كافرا ولازم المذهب لا يجب أن يكون مذهبا وطوائف أهل الكلام الذين يجوزون بعثة كل مكلف من الجهمية والأشعرية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم متفقون أيضا على أن الأنبياء أفضل الخلق وأن النبي لا يكون فاجرا لكن يقولون هذا لم يعلم بالعقل بل علم بالسمع بناء على ما تقدم من أصلهم من أن الله يجوز أن يفعل كل ممكن وأما الجمهور الذين يثبتون الحكمة والأسباب فيقولون نحن نعلم بما علمناه من حكمة الله أنه لا يبعث نبيا فاجرا وأن ما ينزل على البر الصادق لا يكون إلا ملائكة لا تكون شياطين كما قال تعالى وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين إلى قوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون (سورة الشعراء). فهذا مما بين الله به الفرق بين الكاهن والنبي وبين الشاعر والنبي لما زعم المفترون أن محمدا صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه الوحي في أول الأمر وخاف على نفسه قبل أن يستيقن أنه ملك قال لخديجة لقد خشيت على نفسي قالت كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل

 

 

الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق فاستدلت رضي الله عنها بحسن عقلها على أن من يكون الله قد خلقه بهذه الأخلاق الكريمة التي هي من أعظم صفات الأبرار الممدوحين أنه لا يجزيه فيفسد الشيطان عقله ودينه ولم يكن معها قبل ذلك وحي تعلم به انتفاء ذلك بل علمته بمجرد عقلها الراجح وكذلك لما ادعى النبوة من ادعاها من الكذابين مثل مسيلمة الكذاب والعنسى وغيرهما مع ما كان يشتبه من أمرهم لما كان ينزل عليهم من الشياطين ويوحون إليهم حتى يظن الجاهل أن هذا من جنس ما ينزل على الأنبياء ويوحى إليهم فكان ما يبلغ العقلاء وما يرونه من سيرتهم والكذب الفاحش والظلم ونحو ذلك يبين لهم أنه ليس بنبي إذ قد علموا أن النبي لا يكون كاذبا ولا فاجرا وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له ذو الخويصرة اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء والرواية الصحيحة بالفتح أي أنت خاسر خائب إن لم

 

 

أعدل إن ظننت أني ظالم مع اعتقادك أني نبي فإنك تجوز أن يكون الرسول الذي آمنت به ظالما وهذا خيبة وخسران فإن ذلك ينافى النبوة ويقدح فيها وقد قال تعالى وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة (سورة آل عمران). وفيه قراءتان يغل ويغل أي ينسب إلى الغلول بين سبحانه أنه ما لأحد أن ينسبه إلى الغلول كما أنه ليس له أن يغل فدل على أن النبي لا يكون غالا ودلائل هذا الأصل عظيمة لكن مع وقوع الذنب الذي هو بالنسبة إليه ذنب وقد لا يكون ذنبا من غيره مع تعقبه بالتوبة والإستغفار لا يقدح في كون الرجل من المقربين السابقين ولا الأبرار ولا يلحقه بذلك وعيد في الآخرة فضلا عن أن يجعله من الفجار وقد قال تعالى في عموم وصف المؤمنين ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة (سورة النجم). وقال وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا

 

 

وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العالمين (سورة آل عمران). وقال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون (سورة الزمر). وقال حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون (سورة الأحقاف). وقد قال في قصة إبراهيم عليه السلام فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم (سورة العنكبوت). وقال في قصة شعيب عليه السلام قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين (سورة الأعراف). وقال في (سورة إبراهيم). وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين (سورة إبراهيم). وقد ذم الله تعالى وتبارك فرعون بكونه رفع نبوة موسى بما تقدم من قتله

 

 

نفسا بغير حق فقال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين (سورة الشعراء). وكان موسى صلى الله عليه وسلم قد تاب من ذلك كما أخبر الله تعالى عنه وغفر له بقوله فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم (سورة القصص). فإن قيل فإذا كان قد غفر له فلماذا يمتنعون من الشفاعة يوم القيامة لأجل ما بدا منهم فيقول آدم إذا طلبت منه الشفاعة إني نهيت عن أكل الشجرة وأكلت منها نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها والخليل يذكر تعريضاته الثلاث التي سماها كذبا وكانت تعريضا وموسى يذكر قتل النفسقيل هذا من كمال فضلهم وخوفهم وعبوديتهم وتواضعهم فإن من فوائد ما يتاب منه أنه يكمل عبودية العبد ويزيده خوفا وخضوعا فيرفع الله بذلك درجته وهذا الإمتناع مما يرفع الله به درجاتهم وحكمة الله تعالى في ذلك أن تصير الشفاعة لمن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر

 

 

ولهذا كان ممن امتنع ولم يذكر ذنبا المسيح وإبراهيم أفضل منه وقد ذكر ذنبا ولكن قال المسيح لست هناكم اذهبوا إلى عبد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وتأخر المسيح عن المقام المحمود الذي خص به محمد صلى الله عليه وسلم هو من فضائل المسيح ومما يقربه إلى الله صلوات الله عليهم أجمعين فعلم أن تأخرهم عن الشفاعة لم يكن لنقص درجاتهم عما كانوا عليه بل لما علموه من عظمة المقام المحمود الذي يستدعى من كمال مغفرة الله للعبد وكمال عبودية العبد لله ما اختص به من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولهذا قال المسيح اذهبوا إلى محمد عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإنه إذا غفر له ما تأخر لم يخف أن يلام إذا ذهب إلى ربه ليشفع وإن كان لم يشفع إلا بعد الإذن بل إذا سجد وحمد ربه بمحامد يفتحها عليه لم يكن يحسنها قبل ذلك فيقال له أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع وهذا كله في الصحيحين وغيرهما وأما من قيل له تقدم ولم يعرف أنه غفر له ما تأخر فيخاف أن يكون ذهابه إلى الشفاعة قبل أن يؤذن له في الشفاعة ذنبا فتأخر لكمال خوفه من الله تعالى ويقول أنا قد أذنبت وما غفر لي فأخاف أن أذنب ذنبا آخر فإن النبي صلى الله

 

 

عليه وسلم قال المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ومن معاني ذلك أنه لا يؤتى من وجه واحد مرتين فإذا ذاق الذائق ما في الذنب من الألم وزال عنه خاف أن يذنب ذنبا آخر فيحصل له مثل ذلك الألم وهذا كمن مرض من أكلة ثم عوفى فإذا دعى إلى أكل شيء خاف أن يكون مثل ذلك الأول لم يأكله يقول قد أصابني بتلك الأكلة ما أصابني فأخاف أن تكون هذه مثل تلك ولبسط هذه الأمور موضع آخر والمقصود هنا أن الذين ادعوا العصمة مما يتاب منه عمدتهم أنه لو صدر منهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة لأن درجتهم أعلى فالذنب منهم أقبح وأنه يجب أن يكون فاسقا فلا تقبل شهادته وأنه حينئذ يستحق العقوبة فلا يكون إيذاؤه محرما وأذى الرسول محرم بالنص وأنه يجب الإقتداء بهم ولا يجوز الإقتداء بأحد في ذنب ومعلوم أن العقوبة ونقص الدرجة إنما يكون مع عدم التوبة وهم معصومون من الإصرار بلا ريب وأيضا فهذا إنما يتأتى في بعض الكبائر دون الصغيرة وجمهور

 

 

المسلمين على تنزيههم من الكبائر لا سيما الفواحش وما ذكر الله تعالى عن نبي كبيرة فضلا عن الفاحشة بل ذكر في قصة يوسف ما يبين أنه يصرف السوء والفحشاء عن عباده المخلصين وإنما يقتدي بهم فيما أقروا عليه ولم ينهوا عنه وأيضا فالذنوب أجناس ومعلوم أنه لا يجوز منهم كل جنس بل الكذب لا يجوز منهم بحال أصلا فإن ذلك ينافي مطلق الصدق ولهذا ترد شهادة الشاهد للكذبة الواحدة وإن لم تكن كبيرة في أحد قولى العلماء وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ولو تاب شاهد الزور من الكذب هل تقبل شهادته فيه قولان للعلماء والمشهور عن مالك أنها لا تقبل وكذلك من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث واحد ثم تاب منه لم تقبل روايته في أحد قوليهم وهو مذهب مالك وأحمد حسما للمادة لأنه لا يؤمن أن يكون أظهر التوبة ليقبل حديثه فلا يجوز أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم تعمد الكذب ألبتة سواء كان صغيرة أو كبيرة بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم ماينبغي انبي أن تكون له خائنة الأعين وأما قوله صلى الله عليهوسلم لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله فتلك كانت معاريض فكان مأمورا بها وكانت منه طاعة لله والمعاريض قد تسمى كذبا لكونه أفهم خلاف ما في نفسه وفي الصحيحين عن أم كلثوم قالت لم أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يرخص فيما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث حديث الرجل لامرأته وإصلاحه بين الناس وفي الحرب

 

 

قالت فيما يقول الناس إنه كذب وهو المعاريض وأما ما تقوله الرافضة من أن النبي قبل النبوة وبعدها لا يقع منه خطأ ولا ذنب صغير وكذلك الأئمة فهذا مما انفردوا به عن فرق الأمة كلها وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف ومن مقصودهم بذلك القدح في إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لكونهما أسلما بعد الكفر ويدعون أن عليا رضي الله عنه لم يزل مؤمنا وأنه لم يخط قط ولم يذنب قط وكذلك تمام الإثنى عشر وهذا مما يظهر كذبهم وضلالهم فيه لكل ذي عقل يعرف أحوالهم ولهذا كانوا هم أغلى الطوائف في ذلك وأبعدهم عن العقل والسمع ونكتة أمرهم أنهم ظنوا وقوع ذلك من الأنبياء والأئمة نقصا وأن ذلك يجب تنزيههم وعنه وهم مخطئون إما في هذه المقدمة وإما في هذه المقدمة أما المقدمة الأولى فليس من تاب إلى الله تعالى وأناب إليه بحيث صار بعد التوبة أعلى درجة مما كان قبلها منقوصا ولا مغضوضا منه بل هذا مفضل عظيم مكرم وبهذا ينحل جميع ما يوردونه من الشبه وإذا عرف أن أولياء الله يكون الرجل منهم قد أسلم بعد كفره وآمن بعد نفاقه وأطاع بعد معصيته كما كان أفضل أولياء الله من هذه الأمة وهم السابقون الأولون يبين صحة هذا الأصل

 

 

والإنسان ينتقل من نقص إلى كمال فلا ينظر إلى نقص البداية ولكن ينظر إلى كمال النهاية فلا يعاب الإنسان بكونه كان نطفة ثم صار علقة ثم صار مضغة إذا كان الله بعد ذلك خلقه في أحسن تقويم ومن نظر إلى ما كان فهو من جنس إبليس الذي قال أنا خير منه خلقني من نار وخلقته من طين (سورة ص). وقد قال تعالى إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (سورة ص). فأمرهم بالسجود له إكراما لما شرفه الله بنفخ الروح فيه وإن كان مخلوقا من طين والملائكة مخلوقون من نور وإبليس مخلوق من نار كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلق الله الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم وكذلك التوبة بعد السيئات قال تعالى إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (سورة البقرة). وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فقال تحت شجرة ينتظر الموت فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه فكيف تجدون فرحه بها قالوا عظيما يا رسول الله قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته

 

 

ولهذا قال بعض السلف إن العبد ليفعل الذنب فيدخل به الجنة وإذا ابتلى العبد بالذنب وقد علم أنه سيتوب منه ويتجنبه ففي ذلك من حكمة الله ورحمته بعبده أن ذلك يزيده عبودية وتواضعا وخشوعا وذلا ورغبة في كثرة الأعمال الصالحة ونفرة قوية عن السيئات فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين وذلك أيضا يدفع عنه العجب والخيلاء ونحو ذلك مما يعرض للإنسان وهو أيضا يوجب الرحمة لخلق الله ورجاء التوبة والرحمة لهم إذا أذنبوا وترغيبهم في التوبة وهو أيضا يبين من فضل الله وإحسانه وكرمه ما لا يحصل بدون ذلك كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم

 

 

وهو أيضا يبين قوة حاجة العبد إلى الإستعانة بالله والتوكل عليه واللجأ إليه في أن يستعمله في طاعته ويجنبه معصيته وأنه لا يملك ذلك إلا بفضل الله عليه وإعانته له فإن من ذاق مرارة الإبتلاء وعجزه عن دفعه إلا بفضل الله ورحمته كان شهود قلبه وفقره إلى ربه واحتياجه إليه في أن يعينه على طاعته ويجنبه معصيته أعظم ممن لم يكن كذلك ولهذا قال بعضهم كان داود صلى الله عليه وسلم بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة وقال بعضهم لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه ولهذا تجد التائب الصادق أثبت على الطاعة وأرغب فيها وأشد حذرا من الذنب من كثير من الذين لم يبتلوا بذنب كما في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد فإنه لما قتل رجلا بعد أن قال لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله أثر هذا فيه حتى كان يمتنع أن يقتل أحدا يقول لا إله إلا الله وكان هذا مما أوجب امتناعه من القتال في الفتنة وقد تكون التوبة موجبة له من الحسنات ما لا يحصل لمن يكن مثله تائبا من الذنب كما في الصحيحين من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وهو أحد الثلاثة الذين أنزل الله فيهم لقد تاب الله

 

 

على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاذ يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم ليتوبوا إنه بهم رءوف رحيم (سورة التوبة). ثم قال وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا صاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم (سورة التوبة). وإذا ذكر حديث كعب في قضية تبين أن الله رفع درجته بالتوبة ولهذا قال فوالله ما أعلم أحدا ابتلاه الله بصدق الحديث أعظم مما ابتلاني وكذلك قال بعض من كان من أشد الناس عدواة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان من أشد الكفار هجاء وإيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم فلما تاب وأسلم كان من أحسن الناس إسلاما وأشدهم حياء وتعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الحارث بن هشام قال الحارث ما نطقت بخطيئة منذ أسلمت ومثل هذا كثير في أخبار التوابين

 

 

فمن يجعل التائب الذي اجتباها الله وهداه منقوصا بما كان من الذنب الذي تاب منه وقد صار بعد التوبة خيرا مما كان قبل التوبة فهو جاهل بدين الله تعالى وما بعث الله به رسوله وإذا لم يكن في ذلك نفص مع وجود ما ذكر فجميع ما يذكرونه هو مبنى على أن ذلك نقص وهو نقص إذا لم يتب منه أو هو نقص عمن ساواه إذا لم يصر بعد التوبة مثله فأما إذا تاب توبة محت أثره بالكلية وبدلت سيئاته حسنات فلا نقص فيه بالنسبة إلى حاله وإذا صار بعد التوبة أفضل ممن يساويه أو مثله لم يكن ناقصا عنه ولسنا نقول إن كل من أذنب وتاب فهو أفضل ممن لم يذنب ذلك الذنب بل هذا يختلف باختلاف أحوال الناس فمن الناس من يكون بعد التوبة أفضل ومنهم من يعود إلى ما كان ومنهم من لا يعود إلى مثل حاله والأصناف الثلاثة فيهم من هو أفضل ممن لم يذنب ويتب وفيهم من هو مثله وفيهم من هو دونه وهذا الباب فيه مسائل كثيرة ليس هذا موضع تفصيلها ولبسطها موضع آخر والمقصود التنبيه ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم من أئمة المسلمين متفقين على ما دل عليه الكتاب والسنة من أحوال الأنبياء لا يعرف عن أحد منهم القول بما أحدثته المعتزلة والرافضة ومن

 

 

تبعهم في هذا الباب بل كتب التفسير والحديث والآثار والزهد وأخبار السلف مشحونة عن الصحابة والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن وليس فيهم من حرف الآيات كتحريف هؤلاء ولا من كذب بما في الأحاديث كتكذيب هؤلاء ولا من قال هذا يمنع الوثوق أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال هؤلاء بل أقوال هؤلاء الذين غلوا بجهل من الأقوال المبتدعة في الإسلام وهم قصدوا تعظيم الأنبياء بجهل كما قصدت النصارى تعظيم المسيح وأحبارهم ورهبانهم بجهل فأشركوا بهم واتخذوهم أربابا من دون الله وأعرضوا عن اتباعهم فيما أمروهم به ونهوهم عنه وكذلك الغلاة في العصمة يعرضون عما أمروا به من طاعة أمرهم والإقتداء بأفعالهم إلى ما نهوا عنه من الغلو والإشراك بهم فيتخذونهم أربابا من دون الله يستغيثون بهم في مغيبهم وبعد مماتهم وعند قبورهم ويدخلون فيما حرمه الله تعالى ورسوله من العبادات الشركية التي ضاهوا بها النصارى وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند موته لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوه قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وفي الصحيحين أيضا أنه ذكر له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة وذكر

 

 

حسنها وتصاوير فيها فقال إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة وفي صحيح مسلم عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك وإني أبرأ إلى كل خليل من خليله ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله يعنى نفسه وفي السنن عنه أنه قال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني وفي الموطأ وغيره أنه قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وفي المسند وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجدوفي صحيح مسلم عن أبي هياج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأرسل علي في خلافته من يفعل مثل ما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسوى القبور المشرفة ويطمس التماثيل فإن هذه وهذه من أسباب الشرك وعبادة الأوثان قال الله تعالى لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا (سورة نوح). قال غير واحد من السلف كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا وعكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم من دون الله فالمشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين من العامة ومن أهل البيت كلها من البدع المحدثة المحرمة في دين الإسلام وإنما أمر الله أن يقصد لعبادته وحده لا شريك له المساجد لا المشاهد قال الله تعالى قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل

 

مسجد وادعوه مخلصين له الدين (سورة الأعراف). وقال تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم فيها خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين (سورة التوبة). وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا (سورة الجن). ومثل هذا في القرآن كثير وزيارة القبور على وجهين زيارة أهل التوحيد المتبعين للرسل وزيارة أهل البدع والشرك فالأولى مقصودها أن يسلم على الميت ويدعى له وزيارة قبره بمنزلة الصلاة عليه إذا مات يقصد بها الدعاء له والله سبحانه يثيب هذا الداعي له عند قبره كما يثيب الداعي إذا صلى عليه وهو على سريره والثانية مقصودها أن يطلب منه الحوائج أو يقسم على الله أو يظن أن دعاء الله عند قبره أقرب إلى الإجابة فهذا كله من البدع المنكرة باتفاق أئمة المسلمين ولم يكن شيء من هذا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان بل كان المسلمون لما فتحوا أرض الشام والعراق وغيرهما إذا وجدوا قبرا يقصد الدعاء عنده غيبوه كما وجدوا بتستر قبر دانيال فحفروا له بالنهار ثلاثة عشر قبرا ودفنوه بالليل في واحد منها وكان مكشوفا وكان الكفار يستسقون به فغيبه المسلمون لأن هذا من الشرك

 

 

وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها فنهى عن الصلاة إليها لما فيه من مشابهة المشركين الذين يسجدون لها وفي السنن والمسند قال الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام والسبب الذي من أجله نهى عن الصلاة في المقبرة في أصح قولي العلماء هو سد ذريعة الشرك كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وقت غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان والمشركون يسجدون لها حينئذ فنهى عن قصد الصلاة في هذا الوقت لما في ذلك من المشابهة لهم في الصورة وإن اختلف القصد كذلك نهى عن الصلاة في المقبرة لله لما فيه من مشابهة من يتخذ القبور مساجد وأن المصلى الله لا يقصد ذلك سدا للذريعة فأما إذا قصد ليصلي هناك ليدعوا عند القبور ظنا أن هذا الدعاء هناك أجوب فهذا ضلال بإجماع المسلمين وهو مما حرمه الله ورسوله وأبلغ من ذلك أن يدعى ويقسم على الله بالميت وأبلغ من ذلك أنيسأل الله به ونحو ذلك وأبلغ من ذلك أن يسافر إليه من مكان بعيد لهذا القصد أو ينذر له أو لمن عنده دهن أو شمع أو ذهب أو فضة أو قناديل أو ستور فهذا كله من نذور أهل الشرك ولا يجوز مثل هذا النذر باتفاق المسلمين ولا الوفاء به كما ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه ولا يجوز أن ينذر أحد إلا طاعة ولا يجوز أن ينذرها إلا لله فمن نذر لغير الله فهو مشرك كمن صام لغير الله وسجد لغير الله ومن حج إلى قبر من القبور فهو مشرك بل لو سافر إلى مسجد لله غير المساجد الثلاثة ليعبد الله فيها كان عاصيا لله ورسوله فكيف إذا سافر إلى غير الثلاثة ليشرك بالله وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا

 

 

ولهذا قال غير واحد من العلماء إن السفر لزيارة المشاهد سفر معصية ومن لم يجوز القصر في سفر المعصية منهم من لم يجوزه لا سيما إذا سمى ذلك حجا وصنفت فيه مصنفات وسميت مناسك حج المشاهد ومن هؤلاء من يفضل قصد المشاهد وحجها والسفر إليها على حج بيت الله الحرام الذي فرض الله حجه على الناس وهذا أمر قد وقع فيه الغلاة في المشايخ والأئمة المنتسبين إلى السنة وإلى الشيعة حتى أن الواحد من هؤلاء في بيته يصلى لله الصلاة المفروضة بقلب غافل لاه ويقرأ القرآن بلا تدبر ولا خشوع وإذا زار قبر من يغلو فيه بكى وخشع واستكان وتضرع وانتحب ودمع كما يقع إذا سمع المكاء والتصدية الذي كان للمشركين عند البيت وكثير من هؤلاء لا يحج لأجل ما أمر الله به ورسوله من حج البيت العتيق بل لقصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم كما يزور شيوخه وائمته ونحو ذلك والأحاديث المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة قبره كلها ضعيفة بل موضوعة فلم يخرج أهل الصحيحين والسنن المشهورة شيئا منها ولا استدل بشيء منها أحد من أئمة المسلمين وإنما اعتمدوا على ما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من رجليسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام وقد ذكر ابن عبدالبر هذا عاما مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبينه فقال ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام وفي النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله وكل بقبري ملائكة تبلغني عن أمتي السلام وفي السنن سنن أبي داود وغيره عن أوس الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة

 

 

علي قالوا كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي قد صرت رميما فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء فهذا المعروف عنه في السنن هو الصلاة والسلام عليه كما أمر الله تعالى بذلك في كتابه بقوله يا أيها الذين آمنوا صلو عليه وسلموا تسليما (سورة الأحزاب). وقد ثبت في الصحيح أنه قال من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا لكن إذا صلى وسلم عليه من بعيد بلغ ذلك وإذا سلم عليه من قريب سمع هو سلام المسلم عليه ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم إذا أتى أحدهم قبره سلم عليه وعلى صاحبيه كما كان ابن عمر يقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك با أبا بكر السلام عليك يا أبه ولم يكن أحد منهم يقف يدعو لنفسه مستقبل القبر

 

 

ولهذا اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على أنه إذا سلم عليه وأراد أن يدعو استقبل القبلة ودعا ولا يدعو مستقبل القبر ثم قالت طائفة كأبي حنيفة إذا سلم عليه يستقبل القبلة أيضا ويستدير القبر ويجعله عن يساره وقال الأكثرون مالك والشافعي وأحمد وغيرهم بل عند السلام يستقبل القبر ويستدير الكعبة وأما عند الدعاء فإنما يدعو الله وحده كما يصلي لله وحده فيستقبل القبلة كما يستقبل القبلة إذا دعا بعرفة والصفا والمروة وعند الجمرات وكره مالك بن أنس وغيره أن يقول القائل زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن هذا اللفظ قد يراد به ما هو منهى عنه من الزيارة البدعية كالزيارة لطلب الحوائج منه فكرهوا أن يتكلم بلفظ يتضمن شركا أحدثه الناس في هذا اللفظ من المعاني الفاسدة وإن كان لفظ الزيارة إذا عنى به الزيارة الشرعية لا بأس به وذكر مالك أنه لم ير أحدا من السلف يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه وغير هذا من البدع وقال إنما يصلح آخر هذه الأمة ما أصلح أولها ومالك قد أدرك التابعين بالمدينة وغيرها وهم كانوا أعلم خلق الله إذ ذاك بما يجب من حق الله وحق رسوله فإذا كان هذا في حق خير خلق الله وأكرمهم على الله وسيد ولد آدم وصاحب لواء الحمد الذي آدم ومن دونه تحت لوائه يوم القيامة وهو خطيب الأنبياء إذا وفدوا على ربهم وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا وهو صاحب المقام المحمود يوم القيامة الذي يغبطه به الأولون والآخرون

 

 

وهو خاتم النبيين وأفضل المرسلين أرسله الله بأفضل شريعة إلى خير أمة أخرجت للناس وأنزل عليه أفضل كتبه وجعله مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه الذي هدى الله به الخلق وأخرجهم به من الظلمات إلى النور وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال والغي والرشاد وطريق الجنة وطريق النار وهو الذي قسم الله به عباده إلى شقي وسعيد فالسعيد من آمن به وأطاعه والشقي من كذبه وعصاه وعلق به النجاة والسعادة فلا سبب ينجو به العبد من عذاب الله وينال السعادة في الدنيا والآخرة ممن بلغته دعوته وقامت عليه الحجة برسالته إلا من آمن به واتبع النور الذي أنزل معه قال تعالى ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (سورة الأعراف). وقد بين الله على لسانه ما يستحقه الله من الحقوق التي لا تصلح إلا لله وما يستحقه الرسول من الحقوق فقال تعالى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا (سورة الفتح). فالإيمان بالله والرسول والتعزير والتوقير

 

 

للرسول والتسبيح بكرة وأصيلا لله وحده قال تعالى ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون (سورة النور). فجعل الطاعة لله والرسول والخشية والتقوى لله وحده وقال تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (سورة التوبة). فجعل الإيتاء لله والرسول لأن المراد به الإيتاء الشرعي وهو ما أباحه الله على لسان رسوله بخلاف من آتاه الملك خلقا وقدرا ولم يطع الله ورسوله فيه فإن ذلك مذموم مستحق للعقاب وإن كان قد آتاه الله ذلك خلقا وقدرا وأما من رضي بما آتاه الله ورسوله فهو ممن رضي بما أحله الله ورسوله ولم يطلب ما حرم عليه كالذين قال الله فيهم ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ثم قال ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله (سورة التوبة). ولم يقل ورسوله لأن الله وحده كاف عبده كما قال الله تعالى أليس الله بكاف عبده (سورة الزمر). وقال الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (سورة آل عمران). ثم دعاهم إلى أن يقولوا سيؤتينا الله من فضله ورسوله (سورة التوبة). فذكر أن الرسول يؤتيهم وأن ذلك من فضل الله وحده لم يقل من فضله وفضل رسوله ثم ذكر قولهم إنا إلى الله راغبون (سورة التوبة). ولم

 

 

يقل ورسوله كما قال في الآية الأخرى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب سورة الشرح وأما ما في القرآن من ذكر عبادته وحده ودعائه وحده والإستعانة به وحده والخوف منه وحده فكثير كقوله ولا يخشون أحدا إلا الله (سورة الأحزاب). وقوله فإياي فارهبون (سورة النحل). و وإياي فاتقون (سورة البقرة). وقوله فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (سورة آل عمران). وكذلك قوله فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين (سورة الشعراء). واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا (سورة النساء). وأما المحبة فهي لله ورسوله والإرضاء لله والرسول كقوله تعالى أحب إليكم من الله ورسوله (سورة التوبة). وقوله والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين (سورة التوبة). فالرسول علينا أن نحبه وعلينا أن نرضيه بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وكذلك الطاعة لله والرسول قال تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله (سورة النساء). والعبادات بأسرها الصلاة والسجود والطواف والدعاء والصدقة

 

 

والنسك والذي لا يصلح إلا لله ولم يخص الله بقعة تفعل الصلاة فيها إلا المساجد لا مقبرة ولا مشهدا ولا مغارة ولا مقام نبى ولا غير ذلك ولا خص بقعة غير المساجد بالذكر والدعاء إلا مشاعر الحج لا قبر نبي ولا صالح ولا مغارة ولا غير ذلك ولا يقبل على وجه الأرض شيء عبادة لله إلا الحجر الأسود ولا يتمسح إلا به وبالركن اليماني ولا يستلم الركنان الشاميان وهما من البيت فكيف غيرهما وقد طاف ابن عباس ومعاوية فجعل معاوية يستلم الأركان الأربعة فقال ابن عباس رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الركنين اليمانيين فقال معاوية ليس من البيت شيء مهجورا فقال ابن عباس رضي الله عنه لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فقال معاوية صدقت ورجع إلى قوله فالعبادات مبناها على أصلين أحدهما أن لا يعبد إلا الله وحده لا نعبد من دونه شيئا لا ملكا ولا نبيا ولا صالحا ولا شيئا من المخلوقات والثاني أن نعبده بما أمرنا به على لسان رسوله لا نعبده ببدع لم يشرعها الله ورسوله والعبادات تتضمن كمال الحب وكمال الخضوع فمن أحب شيئا من المخلوقات كما يحب الخالق فهو مشرك قال الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا

 

 

لله (سورة البقرة). وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي قال ثم أن تزانى بحليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون سورةالفرقان والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالعبادة في المساجد وذكر فضل الصلاة في الجماعة ورغب في ذلك ولم يأمر قط بقصد مكان لأجل نبي ولا صالح بل نهى عن اتخاذها مساجد فلا يجوز أن تقصد للصلاة فيها والدعاء وهذا كله لتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله فقد قال بعض الناس يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أو بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون (سورة البقرة).وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يستغفرني فأغفر له من يسألني فأعطيه حتى يطلع الفجر فالرسل صلوات الله عليهم وسلامه أمروا الناس بعبادة الله وحده لا شريك له وسؤاله ودعائه ونهوا أن يدعى أحد من دون الله تعالى وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أحب البقاع إلى الله تعالى المساجد وأبغضها إلى الله تعالى الأسواق يعنى البقاع التي كانت تكون في مدينته ونحوها ولم يكن بالمدينة لا حانة ولا كنيسة ولا موضع شرك وهذه المواضع شر من الأسواق وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم شرار الناس الذين تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد هذا إذا بنى المسجد

 

 

المسمى مشهدا على قبر صحيح فكيف وكثير من هذه المشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين من الصحابة والقرابة وغيرهم كذب وكثير منها مختلف فيه لا يتوثق فيه بنقل ينقل في ذلك مما يوجد بالشام والعراق وخراسان وغير ذلك والسبب في خفائها وكثرة الخلاف فيها أن الله حفظ الدين الذي بعث به رسوله بقوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (سورة الحجرات).. واتخاذ هذه معابد ليس من الدين فلهذا لم يحفظ هذه المقامات والمشاهد بل مبنى أمرهم على الجهل والضلال وإنما يستند أهلها إلى منامات تكون من الشياطين أو إلى أخبار إما مكذوبة وإما منقولة عمن ليس قوله حجة والشياطين تضل أهلها كما تضل عباد الأصنام فتارة تكلمهم وتارة تتراءى لهم وتارة تقضى بعض حوائجهم وتارة تصيح وتحرك السلاسل التي فيها القناديل وتطفئ القناديل وتارة تفعل أمورا أخر كما تفعل عبادة الأوثان التي كانت للعرب وهي اليوم تفعل مثل ذلك في أوثان الترك والصين والسودان وغيرهم فيظنون أن ذلك هو الميت أو ملك صور على صورته وإنما هو شيطان أضلهم بالشرك كما يجرى ذلك لعباد الأصنام المصورة على صورة الآدميين وهذا باب واسع ليس هذا موضع استقصائه.

*

فصل وأما قوله وأن الأئمة معصومون كالأنبياء في ذلك.

*فهذه خاصة الرافضة الإمامية التي لم يشركهم فيها أحد لا الزيدية الشيعة ولا سائر طوائف المسلمين إلا من هو شر منهم كالإسماعيلية الذين يقولون بعصمة بني عبيد المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر القائلين بأن الإمامة بعد جعفر في محمد بن إسماعيل دون موسى بن جعفر وأولئك ملاحدة منافقون والإمامية الاثنا عشرية خير منهم بكثير فإن الإمامية مع فرط جهلهم وضلالهم فيهم خلق مسلمون باطنا وظاهرا ليسوا زنادقة منافقين لكنهم جهلوا وضلوا واتبعوا أهواءهم وأما أولئك فأئمتهم الكبار العارفون بحقيقة دعوتهم الباطنية زنادقة منافقون وأما

 

عوامهم الذين لم يعرفوا باطن أمرهم فقد يكونون مسلمين وأما المسائل المتقدمة فقد شرك غير الإمامية فيها بعض الطوائف إلا غلوهم في عصمة الأنبياء فلم يوافقهم عليه أحد أيضا حيث ادعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسهو فإن هذا لا يوافقهم عليه أحد فيما علمت اللهم إلا أن يكون من غلاة جهال النساك فإن بينهم وبين الرافضة قدرا مشتركا في الغلو وفي الجهل والإنقياد لما لا يعلم صحته والطائفتان تشبهان النصارى في ذلك وقد يقرب إليهم بعض المصنفين في الفقه من الغلاة في مسألة العصمة والكلام في أن هؤلاء أئمة فرض الله الإيمان بهم وتلقى الدين منهم دون غيرهم ثم في عصمتهم عن الخطأ فإن كلا من هذين القولين مما لا يقوله إلا مفرط في الجهل أو مفرط في أتباع الهوى أو في كليهما فمن عرف دين الإسلام وعرف حال هؤلاء كان عالما بالإضطرار من دين محمد صلى الله عليه وسلم بطلان هذا القول لكن الجهل لا حد له وهو هنا لم يذكر حجة غير حكاية المذهب فأخرنا الرد إلى موضعه وأما قوله وأخذوا أحكامهم الفروعية عن الأئمة المعصومين الناقلين عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره فيقال أولا القوم المذكورون إنما كانوا يتعلمون حديث جدهم من العلماء به كما يتعلم سائر المسلمين وهذا متواتر عنهم فعلى بن الحسين يروى تارة عن أبان بن عثمان بن عفان عن أسامة بن زيد قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم رواه البخاري ومسلم في الصحيحين وسمع من أبي هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من النار حتى فرجه بفرجه أخرجاه في الصحيحين ويروى عن ابن عباس رضي الله عنه عن رجال من الأنصار رمى بنجم فاستنار رواه مسلم

 

وأبو جعفر محمد بن علي يروى عن جابر بن عبدالله حديث مناسك الحج الطويل وهو أحسن ما روى في هذا الباب ومن هذه الطريق رواه مسلم في صحيحه من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وأما ثانيا فليس في هؤلاء من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو مميز إلا علي رضي الله عنه وهو الثقة الصدوق فيما يخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم كما أن أمثاله من الصحابة ثقات صادقون فيما يخبرون به أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولله الحمد من أصدق الناس حديثا عنه لا يعرف فيهم من تعمد عليه كذبا مع أنه كان يقع من أحدهم من الهنات ما يقع ولهم ذنوب وليسوا معصومين ومع هذا فقد جرب أصحاب النقد والإمتحان أحاديثهم واعتبروها بما تعتبر به الأحاديث فلم يوجد عن أحد منهم تعمد كذبة بخلاف القرن الثاني فإنه كان في أهل الكوفة جماعة يتعمدون الكذب ولهذا كان الصحابة كلهم ثقات باتفاق أهل العلم بالحديث والفقه حتى الذين كانوا ينفرون عن معاوية رضي الله عنه إذا حدثهم على منبر المدينة يقولون وكان لا يتهم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى بسر بن أبي أرطاة مع ما عرف منه روى حديثين رواهما أبو داود وغيره لأنهم معروفون بالصدق عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا حفظا من الله لهذا الدين ولم يتعمد أحد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم إلا هتك الله ستره وكشف أمره ولهذا كان يقال لو هم رجل بالسحر أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصبح والناس يقولون فلان كذاب وقد كان التابعون بالمدينة ومكة والشام والبصرة لا يكاد يعرف فيهم

 

كذاب لكن الغلط لم يسلم منه بشر ولهذا يقال فيمن يضعف منهم ومن أمثالهم تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه أي من جهة سوء حفظه فيغلط فينسى لا من جهة تعمده للكذب وأما الحسن والحسين فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهما صغيران في سن التمييز فروايتهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قليلة وأما سائر الإثنى عشر فلم يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم فقول القائل إنهم نقلوا عن جدهم إن أراد بذلك أنه أوحى إليهم ما قاله جدهم فهذه نبوة كما كان يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله غيره من الأنبياء وإن أراد أنهم سمعوا ذلك من غيرهم فيمكن أن يسمع من ذلك الغير الذي سمعوه منهم سواء كان ذلك من بني هاشم أو غيرهم فأي مزية لهم في النقل عن جدهم إلا بكمال العناية والإهتمام فإنه كل من كان أعظم اهتماما وعناية بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتلقيها من مظانها كان أعلم بها وليس هذا من خصائص هؤلاء بل في غيرهم من هو أعلم بالسنة من أكثرهم كما يوجد في كل عصر كثير من غير بني هاشم أعلم بالسنة من أكثر بني هاشم فالزهري أعلم بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله وأقواله وأفعاله باتفاق أهل العلم من أبي جعفر محمد بن علي وكان معاصرا له وأما موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي فلا يستريب من له من العلم نصيب أن مالك بن أنس وحماد بن زيد حماد بن سلمة والليث بن سعد والأوزاعي ويحيى بن سعيد ووكيع بن الجراح وعبدالله ابن

 

المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأمثالهم أعلم بأحاديث النبي صلىالله عليه وسلم من هؤلاء وهذا أمر تشهد به الآثار التي تعاين وتسمع كما تشهد الآثار بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أعظم فتوحا وجهادا بالمؤمنين وأقدر على قمع الكفار والمنافقين من غيره مثل عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين ومما يبين ذلك أن القدر الذي نقل عن هؤلاء من الأحكام المسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ينقل عن أولئك ما هو أضعافه وأما دعوى المدعي أن كل ما أفتى به الواحد من هؤلاء فهو منقول عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا كذب على القوم رضي الله عنهم أجمعين فإنهم كانوا يميزون بين ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما يقولونه من غير ذلك وكان علي رضي الله عنه يقول إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلى من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة ولهذا كان يقول القول ويرجع عنه ولهذا كانوا يتنازعون في المسائل كما يتنازع غيرهم وينقل عنهم الأقوال المختلفة كما ينقل عن غيرهم وكتب السنة و والشيعة مملوءة بالروايات المختلفة عنهم وأما قوله إن الإمامية يتناقلون ذلك عن الثقات خلفا عن سلف إلى أن تتصل الرواية بأحد المعصومين فيقال أولا إن كان هذا صحيحا فالنقل عن المعصوم الواحد يغنى عن غيره فلا حاجة في كل زمان إلى معصوم وأيضا فإذا كان النقل موجودا فأي فائدة في هذا المنتظر الذي لا ينقل عنه شيء إن كان النقل عن أولئك كافيا فلا حاجة إليه وإن لم يكن كافيا لم يكن ما نقل عنهم كافيا للمتقدى بهم ويقال ثانيا متى ثبت النقل عن أحد هؤلاء كان غايته أن يكون كما لو سمع منه وحينئذ فله حكم أمثاله

 

ويقال ثالثا الكذب على هؤلاء في الرافضة أعظم الأمور لا سيما على جعفر بن محمد الصادق فإنه ما كذب على أحد ما كذب عليه حتى نسبوا إليه كتاب الجفر والبطاقة والهفت واختلاج الأعضاء وجدول الهلال وأحكام الرعود والبروق ومنافع سور القرآن وقراءة القرآن في المنام وما يذكر عنه من حقائق التفسير التي ذكر كثيرا منها أبو عبدالرحمن السلمي وصارت هذه مكاسب للطرقية وأمثالهم حتى زعم بعضهم أن كتاب رسائل إخوان الصفا من كلامه مع علم كل عاقل يفهمها ويعرف الإسلام أنها تناقض دين الإسلام وأيضا فهي إنما صنفت بعد موت جعفر بن محمد بنحو مائتي سنة فإن جعفر بن محمد توفى سنة ثمان وأربعين ومائة وهذه وضعت في أثناء المائة الرابعة لما ظهرت الدولة العبيدية بمصر وبنوا القاهرة فصنفت على مذهب أولئك الإسماعيلية كما يدل على ذلك ما فيها وقد ذكروا فيها ما جرى على المسلمين من استيلاء النصارى على سواحل الشام وهذا إنما كان بعد المائة الثالثة وقد عرف الذين صنفوها مثل زيد بن رفاعة وأبي سليمان بن معشر البستي المعروف بالمقدسي وأبي الحسن علي بن هارون الزنجاني وأبي أحمد النهرجوري والعوفي ولأبي الفتوح المعافى بن زكرياء الجريري صاحب كتاب الجليس والأنيس مناظرة معهم وقد ذكر ذلك أبو حيان التوحيدي في كتاب الإمتاع والمؤانسة وفي الجملة فمن جرب الرافضة في كتابهم وخطابهم علم أنهم من أكذب خلق الله فكيف يثق القلب بنقل من كثر منهم الكذب قبل أن يعرف صدق الناقل وقد تعدى شرهم إلى غيرهم من أهل الكوفة وأهل العراق حتى كان أهل المدينة يتوقون أحاديثهم وكان مالك يقول نزلوا أحاديث أهل العراق منزلة أحاديث أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقال له عبدالرحمن مهدى يا أبا عبدالله سمعنا في بلدكم

 

أربعمائة حديث في أربعين يوما ونحن في يوم واحد نسمع هذا كله فقال له يا عبدالرحمن ومن أين لنا دار الضرب أنتم عندكم دار الضرب تضربون بالليل وتنفقون بالنهار وهذا مع أنه كان في الكوفة وغيرها من الثقات الأكابر كثير لكن لكثرة الكذب الذي كان أكثره في الشيعة صار الأمر يشتبه على من لا يميز بين هذا وهذا بمنزلة الرجل الغريب إذا دخل بلدا نصف أهله كذابون خوانون فإنه يحترس منهم حتى يعرف الصدوق الثقة وبمنزلة الدراهم التي كثر فيها الغش فإنه يحترس عن المعاملة بها من لا يكون نقادا ولهذا كره لمن لا يكون له نقد وتمييز النظر في الكتب التي يكثر فيها الكذب في الرواية والضلال في الآراء ككتب أهل البدع وكره تلقى العلم من القصاص وأمثالهم الذين يكثر الكذب في كلامهم وإن كانوا يقولون صدقا كثيرا فالرافضة أكذب من كل طائفة باتفاق أهل المعرفة بأحوال الرجال.

*

فصل وأما قوله ولم يلتفوا إلى القول بالرأي والإجتهاد وحرموا الأخذ بالقياس والإستحسان.

*فالكلام على هذا من وجوه...

أحدهما: أن الشيعة في هذا مثل غيرهم ففي أهل السنة في الرأي والإجتهاد والقياس والإستحسان كما في الشيعة النزاع في ذلك فالزيدية تقول بذلك وتروى فيه الروايات عن الأئمة.

الثاني: أن كثيرا من أهل السنة العامة والخاصة لا تقول بالقياس فليس كل من قال بإمامة الخلفاء الثلاثة قال بالقياس بل المعتزلة البغداديون لا يقولون بالقياس

 

والفقهاء أهل الظاهر كداود بن علي وأتباعه وطائفة من أهل البيت والصوفية لا يقولون بالقياس وحينئذ فإن كان القياس باطلا أمكن الدخول في السنة وترك القياس وإن كان حقا أمكن الدخول في أهل السنة والأخذ بالقياس.

الثالث: أن يقال القول بالرأي والإجتهاد والقياس والإستحسان خير من الأخذ بما ينقله من يعرف بكثرة الكذب عمن يصيب ويخطئ نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم ولا يشك عاقل أن رجوع مثل مالك وابن أبي ذئب وابن الماجشون والليث بن سعد والأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وشريك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر والحسن بن زياد اللؤلؤي والشافعي والبويطي والمزني وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي داود السجستاني والأثرم وإبراهيم الحربي والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وأبي بكر بن خزيمة ومحمد بن جرير الطبري ومحمد بن نصر المروزي وغير هؤلاء إلى إجتهادهم واعتبارهم مثل أن يعلموا سنة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه ويجتهدوا في تحقيق مناط الأحكام وتنقيحها وتخريجها خير لهم من أن يتمسكوا بنقل الروافض عن العسكريين وأمثالهما فإن الواحد من هؤلاء لأعلم بدين الله ورسوله من العسكريين أنفسهما فلو أفتاه أحدهما بفتيا كان رجوعه إلى اجتهاده أولى من رجوعه إلى فتيا أحدهما بل ذلك هو الواجب عليه فكيف إذا كان ذلك نقلا عنهما من مثل الرافضة والواجب على مثل العسكريين وأمثالهما أن يتعلموا من الواحد من هؤلاء ومن المعلوم أن علي بن الحسين وأبا جعفر محمد بن علي وابنه جعفر بن محمد كانوا هم العلماء الفضلاء وأن من بعدهم من الإثنى عشر لم يعرف عنه من العلم ما عرف من هؤلاء ومع هذا فكانوا يتعلمون من علماء زمانهم ويرجعون إليهم حتى قال أبو عمران بن الأسيب القاضي البغدادي أخبرنا أصحابنا أنه ذكر ربيعة بن أبي عبدالرحمن جعفر بن محمد وأنه تعلم العلوم فقال ربيعة إنه

 

اشترى حائطا من حيطان المدينة فبعث إلي حتى أكتب له شرطا في ابتياعه نقله عنه محمد بن حاتم بن ريحويه البخاري في كتاب إثبات إمامة الصديق فأما تحقيق المناط فهو متفق عليه بين المسلمين وهو أن ينص الله على تعليق الحكم بمعنى عام كلي فينظر في ثبوته في آحاد الصور أو أنواع ذلك العام كما نص على اعتبار العدالة وعلى استقبال الكعبة وعلى تحريم الخمر والميسر وعلى حكم اليمين وعلى تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير ونحو ذلك فينظر في الشراب المتنازع فيه هل هو من الخمر أم لا كالنبيذ المسكر وفي اللعب المتنازع فيه كالنرد والشطرنج هل هو من الميسر أم لا وفي اليمين المتنازع فيها كالحلف بالحج وصدقة المال والعتق والطلاق والحرام والظهار هل هي داخلة في الأيمان فتكفر أم في العقود المحلوف بها فيلزم ما حلف

 

به أم لا يدخل لا في هذا ولا في هذا فلا يلزمه شيء بحال كما ينظر فيما وقعت فيه دم أو ميتة أو لحم خنزير من الماء والمائعات ولم يتغير لونه ولا طعمه بل استهلت النجاسات فيه واستحالت أو رفعت منه واستحال فيه ما خالطه من أجزائها فينظر في ذلك هل يدخل في مسمى الماء المذكور في القرآن والسنة أو في مسمى الميتة والدم ولحم الخنزير وأما تنقيح المناط وتخريجه ففيهما نزاع وهذا الإمامي لم يذكر أصلا حجة على بطلان الإجتهاد والرأي والقياس ليرد ذلك بل ذكر أن طائفته لا تقول بذلك وهذ يدل على جهلهم بالإستنباط والإستخراج وعدم معرفتهم بما في الشريعة من الحكم والمعاني وعدم معرفتهم بالجمع بي المتماثلين والفرق بين المختلفين وهم بمعاني القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم جهال أيضا فهم جهال بأصول الشرع الكتاب والسنة والإجماع بمنصوص ذلك ومستنبطه وإنما عمدتهم على نقل عمن يقلدونه وهذا حال الجهال المقلدين لآحاد العلماء المستدلين ثم من سواهم ممن يقلد العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم له معرفة بأقوال هؤلاء وبطرق يميزون بها بين صحيح أقوالهم وضعيفها ومعرفة بأدلتهم ومآخذهم وأما الرافضة فلا يميزون بين ما يصح نقله عن أئمتهم وما لا يصح

 

ولا يعرفون أدلتهم ومآخذهم بل هم من أهل التقليد بما يقلدون فيه وهم يعيبون هؤلاء الجمهور بالإختلاف وفيما ينقلونه عمن يقلدونه من الإختلاف وفيما لا ينقلونه عمن يقلدونه من الإختلاف ما لا يكاد يحصى.

الرابع: أن يقال لا ريب أن ما ينقله الفقهاء عن مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم هو أصح مما ينقله الروافض عن مثل العسكريين ومحمد بن علي الجواد وأمثالهم ولا ريب أن هؤلاء أعلم بدين النبي صلى الله عليه وسلم من أولئك فمن عدل عن نقل الأصدق عن الأعلم إلى نقل الأكذب عن المرجوح كان مصابا في دينه أو عقله أو كليهما فقد تبين أن ما حكاه عن الإمامية مفضلا لهم به ليس فيه شيء من خصائصهم إلا القول بعصمة الأئمة وإنما شاركهم فيه من هو شر منهم وما سواه حقا كان أو باطلا فغيرهم من أهل السنة القائلين بخلافة الثلاثة يقول به وما اختصت به الإمامية من عصمة الأئمة فهو في غاية الفساد والبعد عن العقل والدين وهو أفسد من اعتقاد كثير من النساك في شيوخهم أنهم محفوظون وأضعف من اعتقاد كثير من قدماء الشاميين أتباع بني أمية أن الإمام تجب طاعته في كل شيء وأن الله إذا استخلف إماما تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات لأن الغلاة في الشيوخ وإن غلوا في شيخ فلا يقصرون الهدى عليه ولا يمنعون اتباع غيره ولا يكفرون من لم يقل بمشيخته ولا يقولون فيه من العصمة ما يقوله هؤلاء اللهم إلا من خرج عن الدين بالكلية فذاك في الغلاة في الشيوخ كالنصيرية والإسماعيلية والرافضة فبكل حال الشر فيهم أكثر من غيرهم والغلو فيهم أعظم وشر غيرهم جزء من شرهم وأما غالية الشاميين أتباع بني أمية فكانوا يقولون إن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات وربما قالوا إنه لا يحاسبه

 

ولهذا سأل الوليد بن عبدالملك عن ذلك بعض العلماء فقالوا له يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أم داود وقد قال له يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (سورة ص). وكذلك سؤال سليمان بن عبدالملك عن ذلك لأبي حازم المدني في موعظته المشهورة له فذكر له هذه الآية ومع خطأ هؤلاء وضلالهم فكانوا يقولون ذلك في طاعة إمام منصوب قد أوجب الله طاعته في موارد الإجتهاد كما يجب طاعة والي الحرب وقاضي الحكم لا يجعلون أقواله شرعا عاما يجب على كل أحد ولا يجعلونه معصوما من الخطأ ولا يقولون إنه يعرف جميع الدين لكن غلط من غلط منهم من جهتين من جهة أنهم كانوا يطيعون الولاة طاعة مطلقة ويقولون إن الله أمرنا بطاعتهم الثانية قول من قال منهم إن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات وأين خطأ هؤلاء من ضلال الرافضة القائلين بعصمة الأئمة ثم قد تبين مع ذلك أن ما نفردوا به عن جمهور أهل السنة كله خطأ وما كان معهم من صواب فهو قول جمهور أهل السنة أو بعضهم ونحن لسنا نقول إن جميع طوائف أهل السنة مصيبون بل فيهم المصيب والمخطئ لكن صواب كل طائفة منهم أكثر من صواب الشيعة وخطأ الشيعة أكثر وأما ما انفردت به الشيعة عن جميع طوائف السنة فكله خطأ وليس معهم صواب إلا وقد قاله بعض أهل السنة فهذا القدر في هذا المقام يبطل به ما ادعاه من رجحان قول الإمامية فإنه بهذا القدر يتبين أن مذهب أهل السنة أرجح ولكل مقام مقال

 

وقد يقال إن الإيمان أرجح من الكفر إذا احتيج إلى المفاضلة عند من يظن أن ذلك أرجح وكذلك يقال في الخير والشر قال تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (سورة النساء). وقال تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (سورة الجمعة). وقال تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم (سورة النور). وقال لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلك خير لكم (سورة النور). بل قد يفضل الله سبحانه نفسه على ما عبد من دونه كقوله ءآلله خير أما يشركون (سورة النمل).وقول المؤمنين للسحرة والله خير وأبقى (سورة طـــه). وكذلك قد تبين أن الكفار أكثر جرما إذا وقعت المفاضلة قال تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير (سورة البقرة). ثم قال وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل (سورة البقرة). وهذه الآية نزلت لما عير المشركون سريه المسلمين بأنهم

 

قتلوا رجلا في الشهر الحرام وهو ابن الحضرمي فقال الله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ثم بين أن ذنوب المشركين أعظم عند الله وأما في جانب التفضيل فقال تعالى ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (سورة النساء). وقال تعالى قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل (سورة المائدة)..

*

فصل ثم قال هذا الإمامي أما باقي المسلمين فقد ذهبوا كل مذهب فقال بعضهم وهم جماعة الأشاعرة إن القدماء كثيرون مع الله تعالى هي المعاني يثبتونها موجودة في الخارج كالقدرة والعلم وغير ذلك فجعلوه تعالى مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم وفي كونه قادرا إلى ثبوت معنى هو القدرة وغير ذلك ولم يجعلوه قادرا لذاته ولا عالما لذاته ولا حيا لذاته بل لمعان قديمة يفتقر في هذه الصفات إليها فجعلوه محتاجا ناقصا في ذاته كاملا بغيره تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ولا يقولون هذه الصفات ذاتية واعترض شيخهم فخر الدين الرازي عليهم بأن قال إن النصارى كفروا بأن قالوا القدماء ثلاثة والأشاعرة أثبتوا قدماء تسعة.

*فيقال الكلام على هذا من وجوه...

أحدها: أن هذا كذب على الأشعرية ليس فيهم من يقول إن الله ناقص بذاته كامل بغيره ولا قال الرازي ما ذكرته من الإعتراض عليهم بل هذا الإعتراض ذكره الرازي عمن اعترض به واستهجن الرازي ذكره

 

وهو اعتراض قديم من اعتراضات نفاة الصفات حتى ذكره الإمام أحمد في الرد على الجهمية فقال قالت الجهمية لما وصفنا الله بهذه الصفات إن زعمتم أن الله لم يزل ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته قلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن نقول لم يزل الله بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا كان الله ولا شيء فقلنا نحن نقول قد كان ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته وضربنا لهم في ذلك مثلا فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمارا واسمها اسم واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لانقول إنه كان في وقت من الأوقات ولا يقدر حتى خلق قدرة والذي ليس له قدرة هو عاجز ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم حتى خلق لنفسه علما والذي لا يعلم هو جاهل ولكن نقول لم يزل الله عالما قادرا مالكا لا متى ولا كيف وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال ذرني ومن خلقت وحيدا (سورة المدثر). وقد كان هذا الذي سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة فقد سماه الله وحيدا بجميع صفاته فكذلك الله وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد وهذا الذي ذكره الإمام أحمد يتضمن أسرار هذه المسائل وبيان

 

الفرق بين ما جاءت به الرسل من الإثبات الموافق لصريح العقل وبين ما تقوله الجهمية وبين أن صفاته داخلة في مسمى أسمائه.

الثاني: أن يقال هذا القول المذكور ليس هو قول الأشعري ولا جمهور موافقيه إنما هو قول مثبتى الحال منهم الذين يقولون إن العالمية حال معللة بالعلم فيجعلون العلم يوجبه حال آخر ليس هو العلم بل هو كونه عالما وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى وأول قول أبي المعالي وأما جمهور مثبتة الصفات فيقولون إن العلم هو كونه عالما ويقولون لا يكون عالما إلا بعلم ولا قادرا إلا بقدرة أي يمتنع أن يكون عالما من لا علم له وأن يكون قادرا من لا قدرة له وأن يكون حيا من لا حياة له وعندهم علمه هو كونه عالما وقدرته هو كونه قادرا وحياته هو كونه حيا وهذا في الحقيقة قول أبي الحسين البصري وغيره من حذاق المعتزلة ولا ريب أن هذا معلوم ضرورة فإن وجود اسم الفاعل بدون مسمى

 

المصدر ممتنع وهذا كما لو قيل مصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وناطق بلا نطق فإذا قيل لا يكون ناطق إلا بنطق ولا مصل إلا بصلاة لم يكن المراد أن هنا شيئين أحدهما الصلاة والثاني حال معلل بالصلاة بل المصلى لا بد أن يكون له صلاة وهم أنكروا قول نفاة الصفات الذين يقولون هو حي لا حياة له وعالم لا علم له وقادر لا قدرة له فمن قال هو حي عليم قدير بذاته وأراد بذلك أن ذاته مستلزمة لحياته وعلمه وقدرته لا يحتاج في ذلك إلى غيره فهذا قول مثبتة الصفات وإن أراد بذلك أن ذاته مجردة ليس لها حياة ولا علم ولا قدرة فهذا هو القول المنكر من أقوال نفاة الصفات وهذا الكلام الذي قاله هذا قد سبقه إله المعتزلة وهذا اللفظ وجدته في كلام أبي الحسين البصري ومع هذا من تدبر كلام أبي الحسين وأمثاله وجده مضطرا إلى إثبات الصفات وأنه لا يمكنه أن يفرق بين قوله وبين قول المثبتين بفرق محقق فإنه يثبت كونه حيا وكونه عالما وكونه قادرا ولا يجعل هذا هو هذا ولا هذا هو هذا ولا هذه الأمور هي الذات فقد أثبت هذه المعاني الزائدة على الذات المجردة وقد بسطنا هذا في غيره هذا الموضع.

الوجه الثالث: أن يقال أصل هذا القول هو قول مثبتة الصفات وهذا لا تختص به الأشعرية بل هو قول جميع طوائف المسلمين إلا الجهمية كالمعتزلة ومن وافقهم من الشيعة وقد قدمنا أن هذا القول هو قول قدماء الإمامية فإن كان خطأ فأئمة الإمامية أخطأوا وإن كان صوابا فمتأخروهم أخطأوا.

الوجه الرابع: أن يقال قول القائل إنهم أثبتوا قدماء كثيرين لفظ مجمل موهم القول أنهم أثبتوا آلهة غير الله في القدم أو أثبتوا موجودات منفصلة قديمة مع الله أم أثبتوا لله صفات الكمال القائمة به كالحياة والعلم والقدرة فإن قلت أثبتوا آلهة غير الله أو موجودات قديمة منفصلة عن الله

 

كان هذا بهتانا عليهم والمشنع وإن لم يقصد هذا لكن لفظه فيه إبهام وإيهام وإن قلت أثبتوا له صفات قائمة به قديمة بقدمه وهي صفات الكمال كالحياة والعلم والقدرة فهذا هو الحق وهل ينكر هذا إلا مخذول مسفسفط فمن أنكر هذه الصفات وقال هو حي بلا حياة وعالم بلا علم وقادر بلا قدرة كان قوله ظاهر البطلان وكذلك إن قال علمه هو قدرته وقدرته علمه وإن قال مع ذلك إنه هو العلم والقدرة فجعل الموصوف هو الصفة وهذه الصفة هي الأخرى كما يوجد مثل ذلك في أقوال نفاة الصفات من الفلاسفة والمعتزلة فنفس تصور قولهم على الحقيقة يبين فساده والكلام عليهم وعلى شبههم مبسوط في غير هذا الموضع.

الوجه الخامس: قولك جعلوا قدماء مع الله عز وجل ليس بصواب فإن هذه المعاني ليست خارجة عن مسمى اسم الله عند مثبتة الصفات بل قد يقولون هي زائدة على الذات أي على الذات المجردة عن الصفات التي يثبتها النفاة لا على الذات المتصفة بالصفات واسم الله سبحانه يتناول الذات المتصفة بالصفات ليس هو اسما للذات المجردة حتى يقولوا نحن نثبت قدماء مع الله تعالى وكيف وهم لا يجوزون أن يقال إن الصفة غير الموصوف فكيف يقولون هي مع الله بل طائفة من المثبتة كابن كلاب لا تقول عن الصفات وحدها إنها قديمة حتى لاتقول بتعدد القدماء لما منعت النفاة هذا الإطلاق بل تقول الله بصفاته قديم.

الوجه السادس: قولك فجعلوه مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم فيقال أولا هذا إنما يقال على قول مثبتة الحال وأما قول الجمهور فعندهم كونه عالما هو العلم وبتقدير أن يقال كونه عالما مفتقرا إلى العلم الذي هو لازم لذاته ليس في هذا إثبات فقر له إلى غير

 

ذاته فإن ذاته مستلزمة للعلم والعلم مستلزم لكونه عالما فذاته هي الموجبة لهذا ولهذا فإذا قدر أنها أوجبت الإثنين كان أعظم من أن توجب أحدهما إذا لم يكن أحدهما نقصا ومعلوم أن العلم كمال وكونه عالما كمال فإذا أوجبت ذاته هذا وهذا كان كما لو أوجبت الحياة والقدرة.

السابع: قوله جعلوه مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم عبارة ملبسة فإن لفظ الإفتقار يشعر بأنه محتاج إلى من يجعله عالما يفيده العلم وهذا باطل وإنما ثبوت هذا بطريق اللزوم لذاته فذاته موجبة لعلمه ولكونه عالما ومعنى كونها موجبة لذلك أي مستلزمة له بمعنى أنه لا تكون ذاته إلا عالمة لا بمعنى أنها أبدعت العلم أو فعلته ومن أثبت المعنيين قال لا يكون عالما حتى يكون له علم وهو عالم قطعا فله علم فهو يجعل ذلك من باب الإستدلال ويستدل بكونه عالما على العلم ويقول إن ذاته أوجبت ذلك لا أنه هنا شيء غير ذاته جعلته عالما أو جعلت له علما ولو قدر أنها أوجبته بواسطة فموجب الموجب موجب كما أنها أوجبت كونه حيا وكونه عالما والعلم مشروط بالحياة فلا يقال إنه يفتقر في كونه عالما إلى غيره

 

فإن هذه الأمور المشروط بعضها ببعض كلها من لوازم ذاته لا يفتقر ثبوتها إلى غيره.

الوجه الثامن: قوله ولم يجعلوه قادرا لذاته ولا عالما لذاته بل لمعان قديمة إن أراد بذلك أنهم لا يجعلون ذاته علما وقدرة أو لا يجعلونها عالمة قادرة وليس لها علم ولا قدرة فهذا صحيح وهو عين الحق وإن أراد أنهم لا يجعلون ذاته مستلزمة لكونه عالما قادرا ولا هي الموجبة لكونه عالما قادرا فهذا كذب عليهم بل ذاته هي الموجبة لذلك كما أنها هي الموجبة لكونه عالما مع كونها موجبة لكونه حيا ولا يكون عالما حتى يكون حيا وكذلك يقول هؤلاء لا يكون عالما حتى يكون له علم.

التاسع: قوله لم يجعلوه عالما لذاته ولا قادرا لذاته إن أراد أنهم لم يجعلوه عالما قادرا لذات مجردة عن العلم والقدرة كما يقول نفاة الصفات إنه ذات مجردة عن الصفات فهذا صحيح وهو عين الحق لأن الذات المجردة عن العلم والقدرة لا حقيقة لها في الخارج ولا هي الله ولا تستحق العبادة وإن أراد أنهم لم يجعلوه عالما قادرا لذاته المستلزمة للعلم والقدرة فهذا غلط عليهم بل نفس ذاته الموجبة لعلمه وقدرته هي التي أوجبت كونه عالما قادرا وأوجبت علمه وقدرته وجعلت العلم والقدرة توجب كونه عالما قادرا فإن كل هذه الأمور متلازمة وذاته المتصفة بهذه الصفات هي الموجبة لهذا كله لا تفتقر في ذلك إلى شيء مباين لها.

العاشر: قوله لمعان لقديمة يفتقر في هذه الصفات إليها ليس هو قولهم فإن المعاني القديمة هي الصفات عندهم وأما الخبر عن ذلك فيقولون هو الوصف ولا ريب أنه لا يمكن وصف الموصوف بأنه عالم إلا أن يكون له علم ولكن هو سبحانه الموجب لتلك المعاني القديمة القائمة به فإذا كان لا يوصف بالعلم والقدرة والحياة إلا بها وهو الموجب لها لم يكن مفتقرا إلى غيره كما أنه إذا لم يوصف بالعلم إلا إذا كان موصوفا بالحياة وهو الموجب للحياة لم يكن مفتقرا إلى غيره ولو قال لمعان قديمة تستلزم هذه الصفات ثبوتها وذاته

 

مستلزمة لهذه وهذه وتلك المعاني مستلزمة لثبوت هذه الصفات كان كلاما صحيحا فالتلازم حاصل من الجهات الثلاث.

الحادي عشر: قوله فجعلوه محتاجا ناقصا في ذاته كاملا بغيره كلام باطل فإنه هو الذات الموصوفة بهذه الصفات فليس هنا شيء يمكن تقدير حاجته إلى هذه الصفات إلا الذات المجردة وتلك لا وجود لها في الخارج فليس في الخارج ذات مجردة عن هذه الصفات حتى توصف بحاجة أو غنى وذات الله مستلزمة لهذه الصفات والصفات الملزومة لذات الموصوف التي لا يكون إلا بها ليس له تحقق دونها حتى يقال إنه محتاج ناقص بل حقيقة الأمر أن الذات المجردة عن صفات الكمال ناقصة بدونها محتاجة إلى صفات الكمال فهذا حق لكن تلك الذات المجردة ليست هي الله بل لا حقيقة لها في الخارج وأيضا فهم لا يطلقون على الصفات لفظ الغير.

الثاني عشر: إن قول القائل إن النصارى كفرو بأن قالوا القدماء ثلاثة والأشاعرة أثبتوا قدماء تسعة كلام باطل فإن الله لم يكفر النصارى بقولهم القدماء ثلاثة بل قال تعالى لقد كفر الذين قالوا

 

إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام (سورة المائدة). فقد بين سبحانه أنهم كفروا بقولهم إن الله ثالث ثلاثة لقوله بعد ذلك ومامن إله إلا إله واحد ولم يقال ما من قديم إلا قديم واحد ثم أتبع ذلك بذكر حال المسيح وأمه لأنهما هما الآخران اللذان اتخذوهما إلهين كما بين ذلك في الآية الأخرى بقوله وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله (سورة المائدة). فهذه الآية موافقة لسياق تلك الآية وفي ذلك بيان أن الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة قالوا إنه ثالث ثلاثة آلهة هو والمسيح وأم المسيح وليس في القرآن ذكر قدماء ثلاثة ولا صفات ثلاثة بل ليس في الكتاب ولا في السنة ذكر القديم في أسماء الله تعالى وإن كان المعنى صحيحا لكن المقصود هنا بيان أن ما ذكروه لم يكفر الله تعالى النصارى به.

الثالث عشر: أنه هب أن النصارى كفروا بقولهم إنه ثالث ثلاثة قدماء فالصفاتية لا تقول إن الله تاسع تسعة قدماء بل اسم الله تعالى عندهم يتضمن صفاته فليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه بل إذا قال القائل آمنت بالله أو دعوت الله كانت صفاته داخلة في مسمى اسمه وهم لا يطلقون عليها أنها غير الله فكيف يقولون إن الله تاسع تسعة أو ثالث ثلاثة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من خلف بغير الله فقد أشرك وثبت في الصحيح الحلف بعزة الله ولعمر الله فعلم أن الحلف بذلك ليس حلفا بما يقال إنه غير الله

 

الرابع عشر: إن حصر الصفات في ثمانية وإن كان يقوله بعض المثبتين من الأشعرية ونحوهم فالصواب عند جماهير المثبتة وأئمة الأشعرية أن الصفات لا تنحصر في ثمانية بل ولا يحصرها العباد في عدد وحينئذ فنقل الناقل عنهم أنه تاسع تسعة باطل لو كان هذا مما يقال.

الخامس عشر: أن النصارى أثبتوا أقانيم وقالوا إنها ثلاثة جواهر يجمعها جوهر واحد وإن كل واحد إله يخلق ويرزق والمتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة والعلم وهو الإبن وهذا القول متناقض في نفسه فإن المتحد إن كان صفة فالصفة لا تخلق ولا ترزق وهي أيضا لا تفارق الموصوف وإن كان هو الموصوف فهو الجوهر الواحد وهو الأب فيكون المسيح هو الأب وليس هذا قولهم فإين هذا ممن يقول الإله واحد وله الأسماء الحسنى الدالة على صفاته العلى ولا يخلق غيره ولا يعبد سواه فبين المذهبين من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق ومما افترته الجهمية على المثبتة أن ابن كلاب لما كان من المثبتين للصفات وصنف الكتب في الرد على النفاة وضعوا على أخته حكاية أنها كانت نصرانية وأنه لما أسلم هجرته فقال لها يا أختي إني أريد أن أفسد دين المسلمين فرضيت عنه لذلك ومقصود المفترى بهذه الحكاية أن يجعل قوله بإثبات الصفات هو قول النصارى وأخذ هذه الحكاية بعض السالمية و بعض أهل الحديث والسنة يذم بها ابن كلاب لما أحدثه من القول في مسألة القرآن ولم يعلم أن الذين عابوه بها هم أبعد عن الحق في مسألة القرآن وغيرها منه وأنهم عابوه بما تمدح أنت قائله وعيب ابن

 

كلاب عندك كونه لم يكمل القول به بل بقيت عليه بقية من كلامهم وهذا نظير ما عمله ابن عقيل في مسألة القرآن فإنه أخذ كلام المعتزلة الذي طعنوا به على الأشعرية في كونهم يقولون هذا القرآن ليس كلام الله بل عبارة عنه فطعن به هو على الأشعرية ومقصود المعتزلة بذلك إثبات أن القرآن مخلوق والأشعرية خير منهم في نفى الخلق عن القرآن ولكن عيبهم في تقصيرهم في إكمال السنة وكذلك بعض أهل الحديث السالمية المصنفين في مثالب ابن كلاب والأشعري وابن كرام ذكروا حكايات بعضها كذب قطعا وهي مما وضعته المعتزلة أعداء هؤلاء عليهم لكونهم يثبتون الصفات والقدر فجاء هؤلاء فذكروا تلك الحكايات ومقصودهم التنفير عما اعتقدوا في أقوالهم من الخطاء وتلك الحكايات وضعها من هو أبعد عن السنة منهم وكذلك السالمية أتباع الشيخ أبي الحسن بن سالم هم في غالب أصولهم على قول أهل السنة والجماعة لكن لما وقع في بعض أقوالهم من الخطاء زاد في الرد عليهم من صنف في الرد عليهم حتى رد عليهم قطعة مما قالوه من الحق.

*

فصل قال الرافضي المصنف وقالت جماعة الحشوية والمشبهة إن الله تعالى جسم له طول وعرض وعمق وأنه يجوز عليه المصافحة وأن الصالحين من المسلمين يعانقونه في الدنيا وحكى الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوز رؤيته في الدنيا وأنه يزورهم ويزورونه وحكى عن داود الطائي أنه قال أعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك وقال إن معبودي جسم ولحم ودم وله جوارح وأعضاء كيد ورجل ولسان وعينين وأذنين وحكي عنه أنه قال هو أجوف من أعلاه إلى صدره مصمت ما سوى ذلك وله شعر قطط حتى قالوا اشتكت عيناه فعادته الملائكة وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه وأنه يفضل من العرش من كل جانب أربع أصابع.

 

*فيقال الكلام على هذا من وجوه...

أحدها: أن يقال هذا اللفظ بعينه أن الله جسم له طول وعرض وعمق أول من عرف أنه قاله في الإسلام شيوخ الإمامية كهشام بن الحكم وهشام بن سالم كما تقدم ذكره وهذا مما اتفق عليه نقل الناقلين للمقالات في الملل والنحل من جميع الطوائف مثل أبي عيسى الوراق وزرقان وابن النوبختى وأبي الحسن الأشعري وابن حزم والشهرستاني وغير هؤلاء ونقل ذلك عنهم موجود في كتب المعتزلة والشيعة والكرامية والأشعرية وأهل الحديث وسائر الطوائف وقالوا أول من قال إن الله جسم هشام بن الحكم ونقل الناس عن الرافضة هذه المقالات وما هو أقبح منها فنقلوا ما ذكره الأشعري وغيره في كتب المقالات عن بيان بن سمعان التميمي الذي تنتسب إليه البيانية من غالية الشيعة أنه كان يقول إن الله على صورة الإنسان وإنه يهلك كله إلا وجهه وادعى بيان أنه يدعو الزهرة فتجيبه وأنه يفعل ذلك بالإسم الأعظم فقتله خالد بن عبدالله القسري وحكى عنهم أن كثيرا منهم يثبت نبوة بيان بن سمعان ثم يزعم كثير منهم أن أبا هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية نص على نبوة بيان بن سمعان وجعله إماما ونقلوا عن المغيرية أصحاب المغيرة بن سعيد أنهم يزعموه أنه كان يقول إنه نبي وأنه يعلم اسم الله الأكبر وأن معبودهم رجل من نور على رأسه تاج وله من الأعضاء والخلق مثل ما للرجل وله جوف وقلب تنبع منه الحكمة وأن حروف أبي جاد على عدد أعضائه قالوا والألف موضع قدمه لا عوجاجها وذكر الهاء فقال لو رأيتم موضعها منه لرأيتم أمرا عظيما يعرض لهم

 

بالعورة وبأنه قد رآه لعنه اله وأخزاه وزعم أنه يحيى الموتى باسم الله الأعظم وأراهم أشياء من النيرنجيات والمخاريق وذكر لهم كيف ابتدأ الله الخلق فزعم أن الله كان وحده ولا شيء معه فلما أراد أن يخلق الأشياء تكلم باسمه الأعظم فطار فوقع فوق رأسه على التاج قال وذلك قوله سبح اسم ربك الأعلى سورة الأعلى وذكروا عنه من هذا الجنس أشياء يطول وصفها وقتله خالد بن عبد الله القسري وذكروا عن المنصورية أصحاب أبي منصور أنهم كانوا يقولون عنه أنه قال إن آل محمد هم السماء والشيعة هم الأرض وأنه هو الكسف الساقط في بنى هاشم وأنه عرج به إلى السماء فمسح معبوده رأسه بيده ثم قال له أي بني اذهب فبلغ عنى ثم نزل به إلى الأرض ويمين أصحابه إذا حلفوا لا والكلمة وزعم أن عيسى بن مريم أول من خلق الله من خلقه ثم علي وأن رسل الله لا تنقطع أبدا وكفر بالجنة والنار وزعم أن الجنة رجل وأن النار رجل واستحل النساء والمحارم وأحل ذلك لأصحابه وزعم أن الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر والميسر حلال قال لم يحرم الله ذلك علينا ولا حرم شيئا تقوى به أنفسنا وإنما هذه الأسماء أسماء رجال حرم الله ولا يتهم وتأول في ذلك قول الله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا (سورة المائدة). وأسقط الفرائض وقال هي أسماء رجال أوجب الله ولا يتهم فأخذه يوسف بن عمر والي العراق في أيام بني أمية

 

 

فقتله والنصيرية الموجودون في هذه الأزمنة يشبهون هؤلاء في كثير من الوجوه وذكروا عن الخطابية أصحاب أبي الخطاب بن أبي زينب أنهم يزعمون أن الأئمة أنبياء محدثون ورسل الله وحججه على خلقه لا يزال منهم رسولان واحد ناطق والآخر صامت فالناطق محمد والصامت علي فهم في الأرض اليوم طاعتهم مفترضة على جميع الخلق يعلمون ما كان وما هو كائن وزعموا أن أبا الخطاب نبي وأن أولئك الرسل فرضوا طاعة أبي الخطاب وقالوا الأئمة آلهة وقالوا في أنفسهم مثل ذلك وقالوا ولد الحسين أبناء الله وأحباؤه ثم قالوا ذلك في أنفسهم وتأولوا قول الله فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (سورة الحجرات).. قالوا فهو آدم ونحن ولده وعبدوا أبا الخطاب وزعموا أنه إله وخرج أبو الخطاب على أبي جعفر المنصور فقتله عيسى بن موسى في سبخة الكوفة وهم يتدينون بشهادة الزور لموافقيهم وذكروا عن البزيغية أنهم يقولون إن جعفر بن محمد هو الله وأنه ليس بالذي يرى وأنه يشبه للناس في هذه الصورة وزعموا أن كل محدث في قلوبهم وحى وأن كل مؤمن يوحى إليه وقال الأشعري وقد قال قائلون بإلهية سلمان الفارسي قال وفي النساك من الصوفية من يقول بالحلول وأن البارئ يحل في الأشخاص وأنه جائز أن يحل في إنسان وسبع وغير ذلك من الأشخاص وأصحاب هذه المقالة إذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا لا

 

ندري لعل الله حال فيه ومالوا إلى اطراح الشرائع وزعموا أن الإنسان ليس عليه فرض ولا يلزمه عبادة إذا وصل إلى معبوده قال ومن الغالية من يزعم أن روح القدس هو الله كانت في النبي صلى الله عليه وسلم ثم في علي ثم في الحسن ثم في الحسين ثم في علي بن الحسين ثم في محمد بن علي ثم في جعفر ابن محمد ثم في موسى بن جعفر ثم في علي بن موسى بن جعفر ثم في محمد بن علي بن موسى ثم في علي بن محمد بن علي بن موسى ثم في الحسن بن علي بن محمد بن علي ثم في محمد بن الحسن بن علي بن محمد قال وهؤلاء آلهة عندهم كل واحد منهم إله على التناسخ والإله عندهم يدخل في الهياكل وهؤلاء هم من الإمامية الإثنى عشرية قال ومن الغالية صنف يزعمون أن عليا هو الله ويكذبون النبي صلى الله عليه وسلم ويشتمونه ويقولون إن عليا وجه به ليبين أمره فادعى الأمر لنفسه قال ومنهم صنف يزعمون أن الله تعالى في خمسة أشخاص في النبي وعلي والحسن والحسين وفاطمة فهؤلاء آلهة عندهم ولهم خمسة أضداد أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص ثم منهم من قال إن هذه الأضداد محمودة لأنه لا يعرف فضل الأشخاص الخمسة إلا بأضدادها فهي محمودة من هذا الوجه ومنهم من قال بل هي مذمومة لا تحمد بحال من الأحوال قال ومنهم صنف يقال لهم السبئية أصحاب عبدالله بن سبأ يزعمون أن عليا لم يمت وأنه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وذكروا عنه أنه قال لعلي أنت أنت والسبئية يقولون بالرجعة وأن الأموات يرجعون إلى الدنيا وكان السيد

 

الحميري يقول برجعة الأموات وفي ذلك يقول إلى يوم يؤوب الناس فيه إلى دنياهم قبل الحساب قال ومنهم صنف يزعمون أن الله وكل الأمور وفوضها إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أقدره على خلق الدنيا فخلقها ودبرها وأن الله لم يخلق من ذلك شيئا ويقول ذلك كثير منهم في على ويزعمون أن الأئمة ينسخون الشرائع وتهبط عليهم الملائكة وتظهر عليهم أعلام المعجزات ويوحى إليهم ومنهم من يسلم على السحاب ويقول إذا مرت سحابة إن عليا فيها وفيهم يقول بعض الشعراء برئت من الخوارج لست منهم من الغزال منهم وابن باب ومن قوم إذا ذكروا عليا يردون السلام على السحاب فهذا بعض ما نقله الأشعري وغيره عنهم وهو بعض ما فيهم من هذا الباب فإن الإسماعيلية والنصيرية لم يكونوا حدثوا إذ ذاك والنصيرية من نوع الغلاة والإسماعيلية ملاحدة أكفر من النصيرية ومن شيعة النصيرية من يقول أشهد ألا إله إلا حيدرة الأنزع البطين ولا حجاب عليه إلا محمد الصادق الأمين ولا طريق إليه إلا سلمان ذو القوة المتين ويقولون إن شهر رمضان أسماء ثلاثين رجلا والثلاثون أسماء ثلاثين امرأة وأن الصلوات الخمس عبارة عن خمسة أسماء وهي علي وحسن وحسين ومحسن وفاطمة إلى أنواع من الكفر الشنيع الذي يطول وصفه وهذا أمر معلوم فإن أهل العلم متفقون على أن هذه المقالات الغالية في وصف الرب بالعيوب والنقائص المتضمنة تشبيه الخالق بالمخلوق في صفات النقص وتشبيه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية هي أكثر ما يكون في الشيعة باتفاق الناس فلا يوجد في طوائف الأمة أشنع في الحلول والتمثيل والتعطيل مما يوجد فيهم ولهذا صارت الملاحدة والغالية علمين على بعض من ينتسب إليهم فالملاحدة علم على الإسماعيلية والغالية علم على القائلين بالإلهية في البشر كالنصيرية والمشهور بالغلو وادعاء الإلهية في البشر

 

هم النصارى والغالية من الشيعة وقد يوجد بعض الإلحاد والغلو في غيرهم من النساك وغيرهم لكن الذي فيهم أكثر وأقبح وإذا كان الأمر كذلك كان الذي يطعن على أهل السنة والجماعة بأن فيهم تجسيما وحلولا ويثنى على طائفة الإمامية إما من أجهل الناس بمقالات شيعته وإما من أعظم الناس ظلما وعدوانا وعدولا عن العدل والإنصاف في المقابلة والموازنة ثم أهل السنة يطلبون من الإمامية المتأخرين أن يقطعوا سلفهم بالحجج العقلية أو الشرعية وهم عاجزون عن ذلك كما تقدم التنبيه عليه وهؤلاء المجسمون من الشيعة منهم من أكابر أهل الكلام المتكلمين في جميع أنواعه في الجليل والدقيق ولهم كتب مصنفة قال الأشعري ورجال الرافضة ومؤلفوا كتبهم هشام بن الحكم وهو قطعى وعلي بن منصور ويونس بن عبدالرحمن القمى والسكاك وأبو الأخوص داود بن أسد البصري قال وقد انتحلهم أبو عيسى الوراق وابن الراوندي وألف لهم كتبا في الإمامة.

الوجه الثاني: أن يقال هذه المقالات التي نقلها لا تعرف عن أحد من المعروفين بمذهب أهل السنة والجماعة لا من أئمة أصحاب أبي حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد بن حنبل لا من أهل الحديث ولا من أهل الرأي فلا يعرف في هؤلاء من قال إن الله جسم طويل عريض عميق وأنه يجوز عليه المصافحة وأن الصالحين من المسلمين يعاينونه في الدنيا فإن كان مقصوده بجماعة الحشوية والمشبهة بعض هؤلاء فهو كذب ظاهر عليهم وهذه كتب هذه الطوائف ورجالهم الأحياء والأموات لا يعرف عن أحد منهم شيء من ذلك بل أئمة هؤلاء الطوائف المعروفون بالعلم فيهم متفقون على أن الله لا يرى في الدنيا بالعيون وإنما يرى في الآخرة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت والمذهب الشائع الظاهر فيهم مذهب أهل السنة والجماعة أن الله

 

تعالى يرى في الآخرة بالأبصار ومن أنكر ذلك كان مبتدعا عندهم وإن كان في المنتسبين إليهم من يقول ذلك فليس هو قول أئمتهم ولا الذين يفتى بقولهم ومن أراد أن ينقل مقالة عن طائفة فليسم القائل والناقل وإلا فكل أحد يقدر على الكذب فقد تبين كذبه فيما نقله عن أهل السنة كما تبين أن تلك الأقوال وما هو أشنع منها من أقوال سلف الإمامية.

الوجه الثالث: أن يقال إن الطائفة إنما تتميز باسم رجالها أو بنعت أحوالها فالأول كما يقال النجدات والأزارقة والجهمية والنجارية والضرارية ونحو ذلك والثاني كما يقال الرافضة والشيعة والقدرية والمرجئة والخوارج ونحو ذلك فأما لفظ الحشوية فليس فيه ما يدل على شخص معين ولا مقالة معينة فلا يدري من هم هؤلاء وقد قيل إن أول من تكلم بهذا اللفظ عمرو بن عبيد فقال كان عبدالله بن عمر حشويا وكان هذا اللفظ في اصطلاح من قاله يريد به العامة الذين هم حشو كما تقول الرافضة عن مذهب أهل السنة مذهب الجمهور فإن كان مراده بالحشوية طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة دون غيرهم كأصحاب أحمد أو الشافعي أو مالك فمن المعلوم أن هذه المقالات لا توجد فيهم أصلا بل هم يكفرون من يقولها ولو قدر أن بعضها وجد في بعضهم فليس ذلك من خصائصهم بل كما يوجد مثل ذلك في سائر الطوائف وإن كان مراده بالحشوية أهل الحديث على الإطلاق سواء كانوا من أصحاب هذا أو هذا فاعتقاد أهل الحديث هو السنة المحضة لأنه هو الإعتقاد الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس في اعتقاد أحد من أهل الحديث شيء من هذا والكتب شاهدة بذلك وإن كان مراده بالحشوية عموم أهل السنة والجماعة مطلقا فهذه الأقوال لا تعرف في عموم المسلمين وأهل السنة وجمهور المسلمين لا يظنون أن أحدا قال هذا وإذا كان في بعض جهال العامة من يقول هذا أو أكثر من هذا لم يجز أن يجعل هذا اعتقادا لأهل السنة

 

والجماعة يعابون به وإنما العيب فيما قالته رجال الطائفة وعلماؤها كما ذكرناه عن أئمة الشيعة فإن أئمة الشيعة هم القائلون للمقالات الشنيعة كما قد علم وأما لفظ المشبهة فلا ريب أن أهل السنة والجماعة والحديث من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم متفقون على تنزيه الله تعالى عن مماثلة الخلق وعلى ذم المشبهة الذين يشبهون صفاته بصفات خلقه ومتفقون على أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل إثبات الصفات ونفى مماثلة المخلوقات قال تعالى ليس كمثله شيء فهذا رد على الممثلة وهو السميع البصير (سورة الشورى). رد على المعطلة فقولهم في الصفات مبنى على أصلين أحدهما أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقا كالسنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك والثاني أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الإختصاص بما له من الصفات فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات ولكن نفاة الصفات يسمون كل من أثبت شيئا من الصفات مشبها بل المعطلة المحضة الباطنية نفاة الأسماء يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبها فيقولون إذا قلنا حي عليم فقد شبهناه بغيره من الأحياء العالمين وكذلك إذا قلنا هو سميع بصير فقد شبهناه بالإنسان السميع البصير وإذا قلنا هو رءوف رحيم فقد شبهناه بالنبي الرءوف

 

الرحيم بل قالوا إذا قلنا إنه موجود فقد شبهناه بسائر الموجودات لاشتراكهما في مسمى الوجود فقيل لهؤلاء فقولوا ليس بموجود ولا حي فقالوا أو من قال منهم إذا قلنا ذلك فقد شبهناه بالمعدوم وبعضهم قال ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت فقيل لهم فقد شبهتموه بالممتنع بل جعلتموه نفسه ممتنعا فإنه كما يمتنع اجتماع النقيضين يمتنع ارتفاع النقيضين فمن قال إنه موجود معدوم فقد جمع بين النقيضين ومن قال ليس بموجود ولا معدوم فقد رفع النقيضين وكلاهما ممتنع فكيف يكون الواجب الوجود ممتنع الوجود والذين قالوا لا نقول هذا ولا هذا قيل لهم عدم علمكم وقولكم لا يبطل الحقائق في أنفسها بل هذا نوع من السفسطة فإن السفسطة ثلاثة أنواع نوع هو جحد الحقائق والعلم بها وأعظم من هذا قول من يقول عن الموجود الواجب القديم الخالق إنه لا موجود ولا معدوم وهؤلاء متناقضون فإنهم جزموا بعدم الجزم ونوع هو قول المتجاهلة اللاأدرية الواقفة الذين يقولون لا ندري هل ثم حقيقة وعلم أم لا وأعظم من هذا قول من يقول لا أعلم ولا أقول هو موجود أو معدوم أو حي أو ميت ونوع ثالث قول من يجعل الحقائق تتبع العقائد فالأول ناف لها والثاني واقف فيها والثالث يجعلها تابعة لظنون الناس وقد ذكر صنف رابع وهو الذي يقول إن العالم في سيلان فلا يثبت له حقيقة وهؤلاء من الأول لكن هذا يوجبه قولهم والمقصود هنا أن إمساك الإنسان عن النقيضين لا يقتضى رفعهما

 

وحاصل هذا القول منع القلوب والألسنة والجوارح عن معرفة الله وذكره وعبادته فهو تعطيل وكفر بطريق الوقف والإمساك لا بطريق النفى والإنكار وأصل ضلال هؤلاء أن لفظ التشبيه لفظ فيه إجمال فما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك يتفق فيه الشيئان ولكن ذلك المشترك المتفق عليه لا يكون في الخارج بل في الذهن ولا يجب تماثلهما فيه بل الغالب تفاضل الأشياء في ذلك القدر المشترك فأنت إذا قلت عن المخلوقين حي وحي وعليم وعليم وقدير وقدير لم يلزم تماثل الشيئين في الحياة والعلم والقدرة ولا يلزم أن تكون حياة أحدهما وعلمه وقدرته نفس حياة الآخر وعلمه وقدرته ولا أن يكونا مشتركين في موجود في الخارج عن الذهن ومن هنا ضل هؤلاء الجهال بمسمى التشبيه الذي يجب نفيه عن الله وجعلوا ذلك ذريعة إلى التعطيل المحض والتعطيل شر من التجسيم والمشبه يعبد صنما والمعطل يعبد عدما والممثل أعشى والمعطل أعمى ولهذا كان جهم إمام هؤلاء وأمثاله يقولون إن الله ليس بشيء وروى عنه أنه قال لا يسمى باسم يسمى به الخالق فلم يسمعه إلا بالخالق القادر لأنه كان جبريا يرى أن العبد لا قدرة له وربما قالوا ليس بشيء كالأشياء ولا ريب أن الله تعالى ليس كمثله شيء ولكن ليس مقصودهم إلا أن حقيقة التشبيه منتفية عنه حتى لا يثبتون أمرا متفقا عليه وتحقيق هذا الموضع بالكلام في معنى التشبيه والتمثيل أما التمثيل فقد نطق الكتاب بنفيه عن الله في غير موضع كقوله تعالى ليس كمثله شيء (سورة الشورى). وقوله هل تعلم له سميا (سورة مريم). وقوله ولم يكن له كفوا أحد وقوله فلا تجعلوا لله أندادا (سورة البقرة). وقوله فلا تضريوا لله الأمثال (سورة النحل). ولكن وقع في لفظ التشبيه إجمال كما سنبينه إن شاء الله تعالى وأما لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والجهة ونحو ذلك

 

فلم ينطق كتاب ولا سنة بذلك في حق الله لا نفيا ولا إثباتا وكذلك لم ينطق بذلك أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين من أهل البيت وغير أهل البيت فلم ينطق أحد منهم بذلك في حق الله لا نفيا ولا إثباتا وأول من عرف عنه التكلم بذلك نفيا وإثباتا أهل الكلام المحدث من النفاة كالجهمية والمعتزلة ومن المثبتة كالمجسمة من الرافضة وغير الرافضة فالنفاة نفوا هذه الأسماء وأدخلوا في النفى ما أثبته الله ورسوله من صفات كعلمه وقدرته ومشيئته ومحبته ورضاه وغضبه وعلوه وقالوا إنه لا يرى ولا يتكلم بالقرآن ولا غيره ولكن معنى كونه متكلما أنه خلق كلاما في جسم من الأجسام غيره ونحو ذلك والمثبتة أدخلوا في ذلك من الأمور ما نفاه الله ورسوله. حتى قالوا إنه يرى في الدنيا بالأبصار ويصافح ويعانق وينزل إلى الأرض وينزل عشية عرفة راكبا على جمل أورق يعانق المشاة ويصافح الركبان وقال بعضهم إنه يندم ويبكي ويحزن وعن بعضهم أنه لحم ودم ونحو ذلك من المقالات التي تتضمن وصف الخالق جل جلاله بخصائص المخلوقين والله سبحانه منزه عن أن يوصف بشيء من الصفات المختصة بالمخلوقين وكل ما اختص بالمخلوق فهو صفة نقص والله تعالى منزه عن كل نقص ومستحق لغاية الكمال وليس له مثل في شيء من صفات الكمال فهو منزه عن النقص مطلقا ومنزه في الكمال أن يكون له مثل كما قال تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص فبين أنه أحد صمد واسمه الأحد يتضمن نفى المثل واسمه الصمد يتضمن جميع صفات

 

 

الكمال كما قد بينا ذلك في الكتاب المصنف في تفسير قل هو الله أحد وأما لفظ الجسم فإن الجسم عند أهل اللغة كما ذكره الأصمعي وأبو زيد وغيرهما هو الجسد والبدن وقال تعالى وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم (سورة المنافقون). وقال تعالى وزاده بسطة في العلم والجسم (سورة البقرة). فهو يدل في اللغة على معنى الكثافة والغلظ كلفظ الجسد ثم قد يراد به نفس الغليظ وقد يراد به غلظه فيقال لهذا الثوب جسم أي غلظ وكثافة ويقال هذا أجسم من هذا أي أغلظ وأكثف ثم صار لفظ الجسم في اصطلاح أهل الكلام أعم من ذلك فيسمون الهواء وغيره من الأمور اللطيفة جسما وإن كانت العرب لا تسمى هذا جسما وبينهم نزاع فيما يسمى جسما هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا يتميز منها شيء عن شيء إما جواهر متناهية كما يقوله أكثر القائلين بالجوهر الفرد وإما غير متناهية كما يقولهالنظام والتزم الطفرة المعروفة بطفرة النظام أو هو مركب من المادة والصورة كما يقوله من يقوله من المتفلسفة أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا كما يقوله أكثر الناس وهو قول الهشامية والكلابية والنجارية والضرارية وكثير من الكرامية على ثلاثة أقوال وكثير من الكتب ليس فيها إلا القولان الأولان والصواب أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا كما قد بسط في موضعه وينبني على هذا أن ما يحدثه الله من الحيوان والنبات والمعادن فإنها أعيان يخلقها الله تعالى على قول نفاة الجوهر الفرد وعلى قول

 

 

مثبتية إنما يحدث أعراضا وصفات وإلا فالجواهر باقية ولكن اختلف تركيبها وينبنى على ذلك الإستحالة فمثبتة الجوهر الفرد يقولون لا تستحيل حقيقة إلى حقيقة أخرى ولا تنقلب الأجناس بل الجواهر يغير الله عز وجل تركيبها وهي باقية والأكثرون يقولون باستحالة بعض الأجسام إلى بعض وانقلاب جنس إلى جنس وحقيقة إلى حقيقة كما تنقلب النطفة إلى علقة والعلقة إلى مضغة والمضغة عظاما وكما ينقلب الطين الذي خلق الله منه آدم لحما ودما وعظاما وكما تنقلب المادة التي تخلق منها الفاكهة ثمرا ونحو ذلك وهذا قول الفقهاء والأطباء وأكثر العقلاء وكذلك ينبنى على هذا تماثل الأجسام فأولئك يقولون الأجسام مركبة من الجواهر وهي متماثلة فالأجسام متماثلة والأكثرون يقولون بل الأجسام مختلفة الحقائق وليست حقيقة التراب حقيقة النار ولا حقيقة النار حقيقة الهواء وهذه المسائل مسائل عقلية لبسطها موضع آخر والمقصود هنا بيان منشأ النزاع في مسمى الجسم والنظار كلهم متفقون فيما أعلم على أن الجسم يشار إليه وإن اختلفوا في كونه مركبا من الأجزاء المنفردة أو من المادة والصورة أو لا من هذا ولا من هذا

 

 

وقد تنازع العقلاء أيضا هل يمكن وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يمكن أن يرى على ثلاثة أقوال فقيل لا يمكن ذلك بل هو ممتنع وقيل بل هو ممتنع في المحدثات الممكنة التي تقبل الوجود والعدم دون الواجب وقيل بل ذلك ممكن في الممكن والواجب وهذا قول بعض الفلاسفة ومن وافقهم من أهل الملل ما علمت به قائلا من أهل الملل إلا من أخذه عن هؤلاء الفلاسفة ومثبتو ذلك يسمونها المجردات والمفارقات وأكثر العقلاء يقولون إنما وجود هذه في الأذهان لا في الأعيان وإنما يثبت من ذلك وجود نفس الإنسان التي تفارق بدنه وتتجرد عنه وأما الملائكة التي أخبرت بها الرسل فالمتفلسفة المنتسبون إلى المسلمين يقولون هي العقول والنفوس المجردات وهي الجواهر العقلية وأما أهل الملل ومن علم ما أخبر الله به صفات الملائكة فيعلمون قطعا أن الملائكة ليست هذه المجردات التي يثبتها هؤلاء من وجوه كثيرة قد بسطت في غير هذا الموضع فإن الملائكة مخلوقون من نور كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيحوهم كما قال الله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إنى إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين (سورة الأنبياء). وقد أخبر الله عن الملائكة أنهم أتوا إبراهيم ولوطا في صورة البشر حتى قدم لهم إبراهيم العجل وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وأتاه مرة في صورة أعرابي حتى رآه الصحابة وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم فيصورته التي خلق عليها مرتين مرة بين السماء والأرض ومرة في السماء عند سدرة المنتهى

 

 

والملائكة تنزل إلى الأرض ثم تصعد إلى السماء كما تواترت بذلك النصوص وقد أنزلها الله يوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق لنصر رسوله والمؤمنين كما قال تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين (سورة الأنفال). وقال ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها (سورة التوبة). وقال فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها (سورة الأحزاب). وقال أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون (سورة الزخرف). وقال حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون (سورة الأنعام). وقال الله تعالى ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم (سورة الأنفال). ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم (سورة الأنعام). ومثل هذا في القرآن كثير يعلم ببعضه أن ماوصف الله به الملائكةيوجب العلم الضروري أنها ليست ما يقوله هؤلاء في العقول والنفوس سواء قالوا إن العقول عشرة والنفوس تسعة كما هو المشهور عندهم أو قالوا غير ذلك وليست الملائكة أيضا القوى العالمة التي في النفوس كما قد يقولونه بل جبريل عليه السلام ملك منفصل عن الرسول يسمع كلام الله من الله وينزل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دل على ذلك النصوص والإجماع من المسلمين وهؤلاء يقولون إن جبريل هو العقل الفعال أو هو ما يتخيل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم من الصور الخيالية وكلام الله ما يوجد في نفسه كما يوجد في نفس النائم

 

 

وهذا مما يعلم كل من له علم بما جاء به الرسول أنه من أعظم الأمور تكذيبا للرسول ويعلم أن هؤلاء أبعد عن متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار اليهود والنصارى وهذا مبسوط في مواضع والمقصود هنا الكلام على مجامع ما يعرف به ما أشار إليه هذا من عقائد المسلمين واختلافهم فإذا عرف تنازع النظار في حقيقة الجسم فلا ريب أن الله سبحانه ليس مركبا من الأجزاء المنفردة ولا من المادة والصورة ولا يقبل سبحانه التفريق والإنفصال ولا كان متفرقا فاجتمع بل هو سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فهذه المعاني المعقولة من التركيب كلها منتفية عن الله تعالى لكن المتفلسفة ومن وافقهم تزيد على ذلك وتقول إذا كان موصوفا بالصفات كان مركبا وإذا كانت له حقيقة ليست هي مجرد الوجود كان مركبا فيقول لهم المسلمون المثبتون للصفات النزاع ليس في لفظ المركب فإن هذا اللفظ إنما يدل على مركب ركبه غيره ومعلوم أن عاقلا لا يقول إن الله تعالى مركب بهذا الإعتبار وقد يقال لفظ المركب على ما كانت أجزاؤه متفرقة فجمع إما جمع

 

 

امتزاج وإما غير امتزاج كتركيب الأطعمة والأشربة والأدوية والأبنية واللباس من أجزائها ومعلوم نفى هذا التركيب عن الله ولا نعلم عاقلا يقول إن الله تعالى مركب بهذا الإعتبار وكذلك التركيب بمعنى أنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وهو التركيب الجسمي عند من يقول به وهذا أيضا منتف عن الله تعالى والذين قالوا إن الله جسم قد يقول بعضهم إنه مركب هذا التركيب وإن كان كثير منهم بل أكثرهم ينفون ذلك ويقولون إنما نعنى بكونه جسما أنه موجود أو أنه قائم بنفسه أو أنه يشار إليه أو نحو ذلك لكن بالجملة هذا التركيب وهذا التجسيم يجب تنزيه الله تعالى عنه وأما كونه سبحانه ذاتا مستلزمة لصفات الكمال له علم وقدرة وحياة فهذا لا يسمى مركبا فيما يعرف من اللغات وإذا سمى مسم هذا مركبا لم يكن النزاع معه في اللفظ بل في المعنى العقلي ومعلوم أنه لا دليل على نفى هذا كما قد بسط في موضعه بل الأدلة العقلية توجب إثباتهولهذا كان جميع العقلاء مضطرين إلى إثبات معان متعددة لله تعالى فالمعتزلي يسلم أنه حي عالم قادر ومعلوم أن كونه جسما ليس هو معنى كونه عالما ومعنى كونه عالما ليس معنى كونه قادرا والمتفلسف يقول إنه عاقل ومعقول وعقل ولذيذ ومتلذذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق ومعلوم بصريح العقل أن كونه يحب ليس هو كونه يعلم وكونه محبوبا معلوما ليس هو معنى كونه محبا عالما والمتفلسف يقول معنى كونه عالما هو معنى كونه قادرا مؤثرا فاعلا وذلك هو نفس ذاته فيجعل العلم هو القدرة وهو الفعل ويجعل القدرة هي القادر والعلم هو العالم والفعل هو الفاعل وبعض متأخريهم وهو الطوسى ذكر في شرح كتاب الإشارات أن العلم هو المعلوم ومعلوم

 

 

فساد هذه الأقوال بصريح العقل ومجرد تصورها التام يكفى في العلم بفسادها وهؤلاء فروا من معنى التركيب وليس لهم قط حجة على نفى مسمى التركيب بجميع هذه المعاني بل عمدتهم أن المركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه وربما قالوا الصفة مفتقرة إلى محل والمفتقر إلى محل لا يكون واجبا بنفسه بل يكون معلولا وهذا الحجة ألفاظها كلها مجملة فلفظ الواجب بنفسه يراد بهالذي لا فاعل له فليس له علة فاعلة ويراد به الذي لا يحتاج إلى شيء مباين له ويراد به القائم بنفسه الذي لا يحتاج إلى مباين له وعلى الأول والثاني فالصفات واجبة الوجود وعلى الثالث فالذات الموصوفة بالصفات هي الواجبة والصفة وحدها لا يقال إنها واجبة الوجود ويراد به مالا تعلق له بغيره وهذا لا وجود له في الخارج والبرهان إنما قام على أن الممكنات لها فاعل واجب الوجود قائم بنفسه أي عني عما سواه والصفة ليست هي الفاعل وقوله إذا كانت له ذات وصفات كان مركبا والمركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره فلفظ الغير مجمل يراد بالغير المباين فالغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود وهذا اصطلاح الأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة ويراد بالغيرين ما ليس أحدهما الآخر أو ما جاز العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر وهذا اصطلاح طوائف من المعتزلة والكرامية وغيرهم وأما السلف كالإمام أحمد وغيره فلفظ الغير عندهم يراد به هذا ويراد به هذا ولهذا لم يطلقوا القول بأنه علم الله غيره ولا أطلقوا القول بأنه

 

 

ليس غيره ولا يقولون لا هو هو ولا هو غيره بل يمتنعون عن إطلاق اللفظ المجمل نفيا وإثباتا لما فيه من التلبيس فإن الجهمية يقولون ما سوى الله مخلوق وكلامه غيره فيكون مخلوقا فقال أئمة السنة إذا أريد بالغير والسوى ما هو مباين له فلا يدخل علمه وكلامه في لفظ الغير والسوى كما لم يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم من حلف بغير الله فقد أشرك وقد ثبت في السنة جواز الحلف بصفاته كعزته وعظمته فعلم أنها لا تدخل في مسمى الغير عند الإطلاق وإذا أريد بالغير أنه ليس هو إياه فلا ريب أن العلم ليس هو العالم والكلام ليس هو المتكلم وكذلك لفظ الإفتقار يراد به افتقار المفعول إلى فاعله ونحو ذلك ويراد به التلازم بمعنى أنه لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر وإن لم يكن أحدهما مؤثرا في الآخر كالأمور المتضايفة مثل الأبوة والبنوة والمركب قد عرف ما فيه من الإشتراك فإذا قال القائل لو كان عالما لكان مركبا من ذات وعلم فليس المراد به أن هذين كانا مفترقين فاجتمعا ولا أنه يجوز مفارقة أحدهما الآخر بل المراد أنه إذا كان عالما فهناك ذات وعلم قائم بها وقوله والمركب مفتقر إلى أجزائه فمعلوم أن افتقار المجموع إلى

 

 

أبعاضه ليس بمعنى أن أبعاضه فعلته أو وجدت دونه وأثرت فيه بل بمعنى أنه لا يوجد إلا بوجود المجموع ومعلوم أن الشيء لا يوجد إلا بوجود نفسه وإذا قيل هو مفتقر إلى نفسه بهذا المعنى لم يكن هذا ممتنعا بل هذا هو الحق فإن نفس الواجب لا يستغنى عن نفسه وإذا قيل هو واجب بنفسه فليس المراد أن نفسه أبدعت وجوبه بل المراد أن نفسه موجودة بنفسها لم تفتقر إلى غيره في ذلك ووجوده واجب لا يقبل العدم بحال فإذا قيل مثلا العشرة مفتقرة إلى العشرة لم يكن في هذا إفتقار لها إلى غيرها وإذا قيل هي مفتقرة إلى الواحد الذي هو جزؤها لم يكن افتقارها إلى بعضها بأعظم من افتقارها إلى المجموع التي هي هو وإذا لم يكن ذلك ممتنعا بل هو الحق فإنه لا يوجد المجموع إلا بالمجموع فكيف يمتنع أن يقال لا يوجد المجموع إلا بوجود جزئه

 

 

والدليل إنما دل على أن الممكنات لها مبدع واجب بنفسه خارج عنها أما كون ذلك المبدع مستلزما لصفاته أو لا يوجد إلا متصفا بصفات الكمال فهذا لم تنفه حجة أصلا ولا هذا التلازم سواء سمى فقرا أو لم يسم مما ينفى كون المجموع واجبا قديما أزليا لا يقبل العدم بحال وأيضا فتسمية الصفات القائمة بالموصوف جزءا له ليس هو من اللغة المعروفة وإنما هو اصطلاح لهم كما سموا الموصوف مركبا بخلاف تسمية الجزء صفة فإن هذا موجود في كلام كثير من الأئمة والنظار كالإمام أحمد وابن كلاب وغيرهما وإلا فحقيقة الأمر أن الذات المستلزمة للصفة لا توجد إلا وهي متصفة بالصفة وهذا حق وإذا تنزل إلى اصطلاحهم المحدث وسمى هذا جزءا فالمجموع لا يوجد إلا بوجود جزئه الذي هو بعضه وإذ قيل هو مفتقر إلى بعضه لم يكن هذا إلا دون قول القائل هو مفتقر إلى نفسه الذي هو المجموع وإذا كان لا محذور فيه فهذا أولى وإذا قيل جزؤه غيره والواجب لا يفتقر إلى غيره قيل إن أردت أن جزأه مباين له وأنه يجوز مفارقة أحدهما الآخر بوجه من الوجوه فهذا باطل فليس جزؤه غيره بهذا التفسير وإن أردت

 

 

أنه يمكن العلم بأحدهما دون العلم بالآخر كما نعلم أنه قادر قبل العلم بأنه عالم ونعلم الذات قبل العلم بصفاتها فهو غيره بهذا التفسير وقد علم بصريح العقل أنه لا بد من إثبات معان هي أغيار بهذا التفسير وإلا فكونه قائما بنفسه ليس هو كونه عالما وكونه عالما ليس هو كونه حيا وكونه حيا ليس هو كونه قادرا ومن جعل هذه الصفة هي الأخرى وجعل الصفات كلها هي الموصوف فقد انتهى في السفسطة إلى الغاية وليس هذا إلا كمن قال السواد هو البياض والسواد والبياض هو الأسود والأبيض ثم هؤلاء الذين نفوا المعاني التي يتصف بها كلهم متناقضون يجمعون في قولهم بين النفي والإثبات وقد جعلوا هذا أساس التعطيل والتكذيب بما علم بصريح المعقول وصحيح المنقول فالذين ينفون علمه بالأشياء يقولون لئلا يلزم التكثر والذين ينفون علمه بالجزيئات يقولون لئلا يلزم التغير فيذكرون لفظ التكثر والتغير وهما لفظان مجملان يتوهم السامع أنه تتكثر الآلهة أو أن الرب يتغير ويستحيل من حال إلى حال كما يتغير الإنسان إما بمرض وإما بغيره وكما تتغير الشمس إذا اصفر لونها ولا يدري أنه عندهم

 

 

إذا أحدث مالم يكن محدثا سموه تغيرا وإذا سمع دعاء عباده سموه تغيرا وإذا رأى ما خلقه سموه تغيرا وإذا كلم موسى بن عمران سموه تغيرا وإذا رضي عمن أطاعه وسخط على من عصاه سموه تغيرا إلى أمثال هذه الأمور ثم إنهم ينفون ذلك من غير دليل أصلا فإن الفلاسفة يجوزون أن يكون القديم محلا للحوادث لكن من نفى منهم ما نفاه فإنما هو لنفيه الصفات مطلقا وكذلك المعتزلة ولهذا كان الحاذق من هؤلاء وهؤلاء كأبي الحسين البصري وأبي البركات صاحب المعتبر وغيرهما قد خالفوهم في ذلك وبينوا أنه ليس لهم دليل عقلي ينفى ذلك وأن الأدلة العقلية والشرعية توجب ثبوت ذلك وهذا كله قد بسط في موضع آخر والمقصود هنا أن من نفى الجسم وأراد به نفى التركيب من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة فقد أصاب في المعنى ولكن منازعوه يقولون هذا الذي قلته ليس هو مسمى الجسم في اللغة ولا هو أيضا حقيقة الجسم الإصطلاحي فإن الجسم ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا وهو يقول هذا حقيقة الجسم الإصطلاحيوإذا كان منازعوه من لا ينفى التركيب من هذا وهذا فالفريقان متفقان على تنزيه الرب عن ذلك لكن أحدهما يقول نفى لفظ الجسم لا يفيد هذا التنزيه وإنما يفيده لفظ التركيب ونحوه والآخر يقول بل نفى لفظ الجسم يفيد هذا التنزيه ومن قال هو جسم فالمشهور عن نظار الكرامية وغيرهم ممن يقول هو جسم أنه يفسر ذلك بأنه الموجود أو القائم بنفسه لا بمعنى المركب وقد اتفق الناس على أن من قال إنه جسم وأراد هذا المعنى فقد أصاب في المعنى لكن إنما يخطئه من يخطئه في اللفظ أما من يقول الجسم هو المركب فيقول أخطأت حيث استعملت لفظ الجسم في القائم بنفسه أو الموجود وأما من لا يقول بأن كل جسم مركب فيقول تسميتك لكل موجود أو قائم بنفسه جسما ليس هو موافقا للغة العرب المعروفة ولا تكلم بهذا اللفظ أحد من السلف والأئمة ولا قالوا إن الله جسم

 

 

فأنت مخطئ في اللغة والشرع وإن كان المعنى الذي أردته صحيحا فيقول أنا تكلمت بالإصطلاح الكلامي فإن الجسم عند النظار من المتكلمين والفلاسفة هو ما يشار إليه ثم ادعى طائفة منهم أن كل ما كان كذلك فهو مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة ونازعهم طائفة أخرى في هذا المعنى وقالوا ليس كل ما يشار إليه هو مركب لا من هذا ولا من هذا فإذا أقام صاحب هذا القول دليلا عقليا على نفى تركيب المشار إليه خصم منازعيه إلا من يقول إن أسماء الله تعالى توقيفية فيقول له ليس لك أن تسميه بذلك وأما أهل السنة المتبعون للسلف فيقولون كلكم مبتدعون في اللغة والشرع حيث سميتم كل ما يشار إليه جسما فهذا اصطلاح لا يوافق اللغة ولم يتكلم به أحد من سلف الأمة قال المدعون أن الجسم هو المركب بل قولنا موافق للغة والجسم في اللغة هو المؤلف المركب والدليل على ذلك أن العرب تقول هذا أجسم من هذا عند زيادة الأجزاء والتفضيل إنما يقع بعد الإشتراك في الأصل فعلم أن لفظ الجسم عندهم هو المركب وكلما زاد التركيب قالوا أجسم فيقال لهم أما كون العرب تقول لما كان أغلظ من غيره أجسم فهذا

 

 

صحيح مع أن بعض أهل اللغة أنكروا هذا وأما دعواكم أنهم يقولون هذا لأن الجسم مركب من الأجزاء المفردة وكل ما يشار إليه فهو مركب فيسمونه جسما فهذه دعوى باطلة عليهم من وجوه أحدها أنه قد علم بنقل الثقات عنهم والإستعمال الموجود في كلامهم أنهم لا يسمون كل ما يشار إليه جسما ولا يقولون للهواء اللطيف جسما وإنما يستعملون لفظ الجسم كما يستعملون لفظ الجسد وهكذا نقل عنهم أهل العلم بلسانهم كالأصمعي وأبي زيد الأنصاري وغيرهما كما نقله الجوهري في صحاحه وغير الجوهري فلفظ الجسم عندهم يتضمن معنى الغلظ والكثافة لا معنى كونه يشار إليه الوجه الثاني أنهم لم يقصدوا بذلك كونه مركبا من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة بل لم يخطر هذا بقلوبهم بل إنما قصدوا معنى الكثافة والغلظ وأما كون الكثافة والغلظ تكون بسبب كثرة الجواهر المفردة أو بسبب كون الشيء في نفسه غليظا كثيفا كما يكون حارا وباردا وإن لم تكن حرارته وبرودته بسبب كونه مركبا من

 

 

الجواهر الفردة فالجسم له قدر وصفات وليست صفاته لأجل الجواهر فكذلك قدره فهذا ونحوه من البحوث العقلية الدقيقة لم تخطر ببال عامة من تكلم بلفظ الجسم من العرب وغيرهم الوجه الثالث أنه من المعلوم أن اللفظ المشهور في اللغة الذي يتكلم به الخاص والعام ويقصدون معناه لا يجوز أن يكون معناه مما يخفى تصوره على أكثر الناس ويقف العلم بصحة ذلك المعنى على أدلة دقيقة عقلية ويتنازع فيها العقلاء فإن الناطقين به جميعهم متفقون على إرادة المعنى الذي يدل اللفظ عليه في اللغة وما كان دقيقا لا يفهمه أكثر الناس لا يكون مراد الناطقين به وكذلك ما كان متنازعا فيه ولهذا قال من قال من الأصوليين اللفظ المشهور لا يجوز أن يكون موضوعا لمعنى خفي لا يعلمه إلا خواص الناس كلفظ الحركة ونحوه ومعلوم أن لفظ الجسم مشهور في لغة العرب مع عدم تصور أكثرهم للتركيب وعدم علمهم بدليل التركيب وإنكار كثير منهم للتركيب من الجواهر الفردة والمادة والصورة وهذا مما يعلم به قطعا أنه ليس موضوعه في اللغة ما تنازع فيه النظار ومعرفته تتوقف على النظر والأدلة الخفية

 

 

الوجه الرابع أنهم لو قصدوا التركيب فإنما قصدوه فما كان غليظا كثيفا فدعوى المدعى عليهم أنهم يسمون كل ما يشار إليه جسما ويقولون مع ذلك إنه مركب دعوتان باطلتان وجمهور المسلمين الذين يقولون ليس بجسم يقولون من قال إنه جسم وأراد بذلك أنه موجود أو قائم بنفسه أو نحو ذلك أو قال إنه جوهر وأراد بذلك أنه قائم بنفسه فهو مصيب في المعنى لكن أخطأ في اللفظ وأما إذا أثبت أنه مركب من الجواهر الفرده ونحو ذلك فهو مخطئ في المعنى وفي تكفيره نزاع بينهم ثم القائلون بأن الجسم مركب من الجواهر الفردة قد تنازعوا في مسماه فقيل الجوهر الواحد بشرط انضمام غيره إليه يكون جسما وهو قول القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما وقيل بل الجوهران فصاعدا وقيل بل أربعة فصاعدا وقيل بل ستة فصاعدا وقيل بل ثمانية فصاعدا وقيل بل ستة عشر وقيل بل اثنان وثلاثون وقد ذكر عامة هذه الأقوال الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين

 

 

فقد تبين أن في هذا اللفظ من المنازعات اللفظية اللغوية والإصطلاحية والعقلية والشرعية ما يبين أن الواجب على المسلمين الإعتصام بالكتاب والسنة كما أمرهم الله تعالى بذلك في قوله واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (سورة آل عمران). وقوله تعالى ألمص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون (سورة الأعراف). وقوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله (سورة الأنعام). وقوله كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (سورة البقرة). وقوله يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا سورة

 

 

النساء وقوله فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (سورة طـــه). قال ابن عباس رضي الله عنهما تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية ومثل هذا كثير من الكتاب والسنة وهذا مما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها فالواجب أن ينظر في هذا الباب فما أثبته الله ورسوله أثبتناه وما نفاه الله ورسوله نفيناه والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفى فنثبت ما أثبتته النصوص من الألفاظ والمعاني وننفى ما نفته النصوص من الألفاظ والمعاني وأما الألفاظ التي تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين مثل لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والجهة ونحو ذلك فلا تطلق نفيا ولا إثباتا حتى ينظر في مقصود قائلها فإن كان قد أراد بالنفى والإثبات معنى صحيحا موافقا لما أخبر به الرسول صوب المعنى الذي قصده بلفظه ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص لا يعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد بها والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها وأما إن أريد بها معنى باطل نفى ذلك المعنى

 

 

وإن جمع بين حق وباطل أثبت الحق وأبطل الباطل وإذا اتفق شخصان على معنى وتنازعا هل يدل ذلك اللفظ عليه أم لا عبر عنه بعبارة يتفقان على المراد بها وكان أقربهما إلى الصواب من وافق اللغة المعروفة كتنازعهم في لفظ المركب هل يدخل فيه الموصوف بصفات تقوم به وفي لفظ الجسم هل مدلوله في اللغة المركب أو الجسد أو نحو ذلك وأما لفظ المتحيز فهو في اللغة اسم لما يتحيز إلى غيره كما قال تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة (سورة الأنفال). وهذا لابد أن يحيط به حيز وجودي ولا بد أن ينتقل من حيز إلى حيز ومعلوم أن الخالق جل جلاله لا يحيط به شيء من مخلوقاته فلا يكون متحيزا بهذا المعنى اللغوي وأما أهل الكلام فاصطلاحهم في المتحيز أعم من هذا فيجعلون كل جسم متحيزا والجسم عندهم ما يشار إليه فتكون السماوات والأرض وما بينهما متحيزا على اصطلاحهم وإن لم يسم ذلك متحيزا في اللغة والحيز تارة يريدون به معنى موجودا وتارة يريدون به معنى معدوما ويفرقون بين مسمى الحيز ومسمى المكان فيقولون المكان أمر وجودي والحيز تقدير مكان عندهم فمجموع الأجسام ليست في شيء موجود فلا تكون في مكان وهي عندهم متحيزة ومنهم من

 

 

يتناقض فيجعل الحيز تارة موجودا وتارة معدوما كالرازي وغيره كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع فمن تكلم باصطلاحهم وقال إن الله متحيز بمعنى أنه أحاط به شيء من الموجودات فهذا مخطئ فهو سبحانه بائن من خلقه وما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق وإذا كان الخالق بائنا عن المخلوق امتنع أن يكون الخالق في المخلوق وامتنع أن يكون متحيزا بهذا الإعتبار وإن أراد بالحيز أمرا عدميا فالأمر العدمي لا شيء وهو سبحانه بائن عن خلقه فإذا سمى العدم الذي فوق العالم حيزا وقال يمتنع أن يكون فوق العالم لئلا يكون متحيزا فهذا معنى باطل لأنه ليس هناك موجود غيره حتى يكون فيه وقد علم بالعقل والشرع أنه بائن عن خلقه كما قد بسط في غير هذا الموضوع وهما مما احتج به سلف الأمة وأئمتها على الجهمية كما احتج به الإمام أحمد في رده على الجهمية وعبد العزيز الكناني وعبدالله بنسعيد بن كلاب والحارث المحاسبي وغيرهم وبينوا أنه سبحانه كان موجودا قبل أن يخلق السماوات والأرض فلما خلقهما فإما أن يكون قد دخل فيهما أو دخلت فيه وكلاهما ممتنع فتعين أنه بائن عنهما وقرروا ذلك بأنه يجب أن يكون مباينا لخلقه أو مداخلا له والنفاة يدعون وجود موجود لا يكون مباينا لغيره ولا مداخلا له وهذا ممتنع في بداية العقول لكن يدعون أن القول بامتناع ذلك هو من حكم الوهم لا من حكم العقل ثم إنهم تناقضوا فقالوا لو كان فوق العرش لكان جسما لأنه لا بد أن يتميز ما يلي هذا الجانب عما يلي هذا الجانب فقال لهم أهل الإثبات معلوم بضرورة العقل أن إثبات موجود فوق العالم ليس بجسم أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه ليس بمباين للعالم ولا بمداخل له فإن جاز إثبات الثاني فإثبات الأول أولى وإذا قلتم نفى هذا الثاني من حكم الوهم الباطل قيل لكم فنفى الأول أولى أن يكون من حكم الوهم الباطل

 

 

وإن قلتم إن نفى الأول من حكم العقل المقبول فنفى الثاني أولى أن يكون من حكم العقل المقبول وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه وكذلك الكلام في لفظ الجهة فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي كالفلك الأعلى ويراد به أمر عدمى كما وراء العالم فإذا أريد الثاني أمكن أن يقال كل جسم في جهة وإذا أريد الأول امتنع أن يكون كل جسم في جسم آخر فمن قال الباري في جهة وأراد بالجهة أمرا موجودا فكل ما سواه مخلوق له ومن قال إنه في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ وإن أراد بالجهة أمرا عدميا وهو ما فوق العالم وقال إن الله فوق العالم فقد أصاب وليس فوق العالم موجود غيره فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات وأما إذا فسرت الجهة بالأمر العدمي فالعدم لا شيء وهذا ونحوه من الإستفسار وبيان ما يراد باللفظ من معنى صحيح وباطل يزيل عامة الشبه فإذا قال نافي الرؤية لو رؤى لكان في جهة وهذا ممتنع فالرؤية ممتنعة

 

 

قيل له إن أردت بالجهة أمرا وجوديا فالمقدمة الأولى ممنوعة وإن أردت بها أمرا عدميا فالثانية ممنوعة فيلزم بطلان إحدى المقدمتين على كل تقدير فتكون الحجة باطلة وذلك أنه إن أراد بالجهة أمرا وجوديا لم يلزم أن يكون كل مرئى في جهة وجودية فإن سطح العالم الذي هو أعلاه ليس في جهة وجودية ومع هذا تجوز رؤيته فإنه جسم من الأجسام فبطل قولهم كل مرئى لا بد أن يكون في جهة وجودية إن أراد بالجهة أمرا وجوديا وإن أراد بالجهة أمرا عدميا منع المقدمة الثانية فإنه إذا قال الباري ليس في جهة عدمية وقد علم ان العدم ليس بشيء كان حقيقة قوله إن الباري لا يكون موجودا قائما بنفسه حيث لا موجودا إلا هو وهذا باطل وإن قال هذا يستلزم أن يكون جسما أو متحيزا عاد الكلام معه في مسمى الجسم والمتحيز فإن قال هذا يستلزم أن يكون مركبا من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وغيره ذلك من المعاني الممتنعة على الرب لم يسلم له هذا التلازم وإن قال يستلزم أن يكون الرب مشارا إليه ترفع الأيدي إليه في الدعاء وتعرج الملائكة والروح إليه وعرج بمحمد صلى الله عليه

 

 

وسلم إليه وتنزل الملائكة من عنده وينزل منه القرآن ونحو ذلك من اللوازم التي نطق بها الكتاب والسنة وما كان في معناها قيل له لا نسلم انتفاء هذه اللوازم فإن قال ما استلزم هذه اللوازم فهو جسم قيل إن أردت أنه يسمى جسما في اللغة أو في الشرع فهذا باطل وإن أردت أنه يكون جسما مركبا من المادة والصورة أو من الجواهر المفردة فهذا أيضا ممنوع في العقل فإن ما هو جسم باتفاق العقلاء كالأحجار لا نسلم أنه مركب بهذا الإعتبار كما قد بسط في موضعه فما الظن بغير ذلك وتمام ذلك بمعرفة البحث العقلي في تركيب الجسم الإصطلاحي من هذا وهذا وقد بسط في غير هذا الموضع وبين فيه أن قول هؤلاء وهؤلاء باطل مخالف للأدلة العقلية القطعية ولكن هذا الإمامي لم يذكر هنا من الأدلة ما يصل به إلى آخر البحث وقد ذكر في كلامه ما يناسبهذا الموضع ومن شرع في تقرير ما ذكره بالمقدمات الممنوعة شرع معه في نقضها وإبطالها بمثل ذلك ولكل مقام مقال وقد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع وبين أن ما تنفيه نفاة الصفات التي نطق بها الكتاب والسنة في علو الله سبحانه وتعالى على خلقه وغير ذلك كما أنه لم ينطق بما ذكروه كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قال بقولهم أحد من المرسلين ولا الصحابة والتابعين ولم يدل عليه أيضا دليل عقلي بل الأدلة العقلية الصريحة موافقة للأدلة السمعية الصحيحة ولكن هؤلاء ضلوا بألفاظ متشابهة ابتدعوها ومعان عقلية لم يميزوا بين حقها وباطلها وجميع البدع كبدع الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية لها شبه في نصوص الأنبياء بخلاف بدع الجهمية النفاة فإنه ليس معهم فيها دليل سمعي أصلا ولهذا كانت آخر البدع حدوثا في الإسلام ولما حدثت أطلق السلف والأئمة القول بتكفير أهلها لعلمهم بأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق ولهذا يصير محققوهم إالى مثل قول فرعون مقدم المعطلة بل وينتصرون له ويعظمونه

 

 

وهؤلاء المعطلة ينفون نفيا مفصلا ويثبتون شيئا مجملا يجمعون في بين النقيضين وأما الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فيثبتون إثباتا مفصلا وينفون نفيا مجملا يثبتون لله الصفات على وجه التفصيل وينفون عنه التمثيل وقد علم أن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي تسميها النفاة تجسيما ومع هذا فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على اليهود شيئا من ذلك ولا قالوا أنتم مجسمون بل كان أحبار اليهود إذا ذكروا عند النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من الصفات أقرهم الرسول على ذلك وذكر ما يصدقه كما في حديث الحبر الذي ذكر له إمساك الرب سبحانه وتعالى للسماوات والأرض المذكور في تفسير قوله تعالى وما قدروا الله حق قدره الآية (سورة الزمر). وقد ثبت ما يوافق حديث الحبر في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه من حديث ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما ولو قدر بأن النفى حق فالرسل لم تخبر به ولم توجب على الناس اعتقاده فمن اعتقده وأوجبه فقد علم بالإضطرار من دين الإسلام أن دينه مخالف لدين النبي صلى الله عليه وسلم.

*

فصل ومما يبين الأمر في ذلك أن المسلمين متفقون على تنزيه الله تعالى عن العيوب والنقائص وأنه متصف بصفات الكمال لكن قد ينازعون في بعض الأمور هل النقص إثباتها أو نفيها وفي طريق العلم بذلك فهذا المصنف الإمامي اعتمد على طريق المعتزلة ومن تابعهم من أن الإعتماد في تنزيه الرب عن النقائص على نفى كونه جسما ومعلوم أن

 

هذه الطريقة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا هي مأثورة عن أحد من السلف فقد علم أنه لا أصل لها في الشرع وجمهور أصحابها يسلمون ذلك لكن يدعون أنها معلومة من جهة العقل فقال لهم القادحون في طريقهم هذا أيضا باطل فإنه لا يمكن تنزيه الله تعالى عن شيء من النقائص والعيوب لاستلزام ذلك كونه جسما فإنه ما من صفة يقول القائل إنها تستلزم التجسيم إلا والقول فيما أثبته كالقول فيما نفاه وهو لا بد أن يثبت شيئا وإلا لزم أن ينفى الموجود القديم الواجب بنفسه وحينئذ فأي صفة قال فيها إنها لا تكون إلا لجسم أمكن أن يقال له مثل ذلك فيما أثبته وإن كانت تلك صفة نقص فلو أراد أن ينزه الله تعالى عن الجهل والعجز والنوم وغير ذلك فإن هذه الصفات لا تكون إلا للأجسام قيل هل له وما تثبته أنت من الأسماء أو الأحكام أو الصفات لا تكون إلا للأجسام ولهذا كان من رد بهذه الطريق على الواصفين لله بالعيوب والنقائص كلامهم متناقض ولهذا لم يعتمد الله ولا رسوله ولا أحد من سلف الأمة فيما ينكرونه على اليهود وغيرهم ممن وصف الله تعالى بشيء من النقائص كالبخل والفقر واللغوب والصاحبة والولد والشريك على هذه الطريق ثم إن كثيرا ممن يسلك هذه الطريق حتى من الصفاتية يقولون

 

 

إن كون الرب منزها عن النقص متصفا بالكمال مما لا نعرفه بالعقل بل بالسمع وهو الإجماع الذي استند إليه وهؤلاء لا يبقى عندهم طريق عقلي ينزهون الله تعالى به عن شيء من النقائص والإجماع الذي اعتمدوا عليه إنما ينفع في الجمل دون التفاصيل التي هي محل نزاع بين المسلمين فإنه يمتنع أن يحتج بالإجماع في موارد النزاع ثم الإجماع يستندون فيه إلى بعض النصوص ودلالة النصوص على صفات الكمال أظهر وأكثر وأقطع من دلالة النصوص على كون الإجماع حجة وإذا عرف ضعف أصول النفاة للصفات فيما ينزهون عنه الرب فهؤلاء الرافضة طافوا على أبواب المذاهب وفازوا بأخس المطالب فعمدتهم في العقليات على عقليات باطلة وفي السمعيات على سمعيات باطلة ولهذا كانوا من أضعف الناس حجة وأضيقهم محجة وكان الأكابر من أئمتهم متهمين بالزندقة والإنحلال كما يتهم غير واحد من أكابرهم والمقصود هنا أن هذا الباب تكلم الناس فيه بألفاظ مجملة مثل التركيب والإنقسام والتجزئة والتبعيض ونحو ذلك والقائل إذا قال إن الرب تعالى ليس بمنقسم ولا متجزئ ولا متبعض ولا مركب ونحو ذلك فهذا إذا أريد به ما هو المعروف من معنى ذلك في اللغة فلا نزاع بين المسلمين أن الله منزه عن ذلك فلا يجوز أن يقال إنه مركب من أجزاء متفرقة سواء قيل إنه مركب بنفسه أو ركبه غيره ولا أنه مركب يقبل

 

 

التفريق والتجزئة والتبعيض وإن لم يكن كان متفرقا فاجتمع كما يقال ذلك في الأجسام فإنه سبحانه وإن كان خلق الحيوان والنبات فأنشأه شيئا بعد شيء لم تكن يد الإنسان ورجله ورأسه متفرقة فجمع بينها بل خلق هذه الأعضاء جملة لكن يمكن تفريق بعضها عن بعض فيمتنع أن يقال إن الله سبحانه وتعالى يقبل التفريق والتجزئة والتبعيض بهذا الإعتبار فهذان معنيان متفق عليهما لا أعلم مسلما له قول في الإسلام قال بخلاف ذلك وإن قال إن المراد بالتركيب أنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وبالإنقسام والتجزئة أنه مشتمل على هذه الأجزاء فجمهور العقلاء يقولون إن هذه المخلوقات المشار إليها كالشمس والقمر والأفلاك والهواء والنار والتراب ليست مركبة لا هذا التركيب ولا هذا التركيب وكيف برب العالمين فإنه من المعلوم بصريح العقل أن المخلوق المشار إليه الذي هو عال على غيره كعلو السماء على الأرض إذا كان جمهور العقلاء يقولون إنه ليس مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ وهي الجواهر المنفردة عند القائلين بها ولا من المادة والصورة كان منعهم أن يكون رب العالمين مركبا من هذا وهذا أولى وأما من قال إن هذه الأعيان المشار إليها مركبة من هذا وهذا فكثير منهم كالمعتزلة والأشعرية ينفون عن الرب تعالى هذا التركيب ولكن

 

 

كثير من شيوخ الكلام يقولون إن الله تعالى جسم فإذا كان من هؤلاء من يقول إن الجسم مركب من الأجزاء المنفردة أو من المادة والصورة فقد يقول إنه مركب بهذا الإعتبار وبهذا وهذا القول باطل عند جماهير المسلمين لكن جمهور العقلاء ينكرون هذاالتركيب في المخلوقات فهم في الخالق أشد إنكارا ومن قال إن المشار إليه المخلوق مركب هذا التركيب فهؤلاء يحتاجون في نفى ذلك عن الرب إلى برهان عقلي يبين امتناع مثل ذلك فإن منازعيهم الذين يقولون بثبوت مثل هذا المعنى الذي جعلوه تركيبا يقولون إنه لا برهان لهم على نفيه بل المقدمات التي وافقونا عليها من إثبات مثل هذا التركيب في الشاهد يدل على ثبوته في الغائب كما في نظائر ذلك مما يستدل به على الغائب بالشاهد وبين الطائفتين في هذا منازعات عقلية ولفظية ولغوية قد بسطت في غير هذا الموضع وأما جمهور العقلاء مع السلف والأئمة فعندهم أن الطائفتين مخطئتان وتنزيه الرب عن ذلك تبين بالعقل مع الشرع كما بين من غير سلوك الشبهات الفاسدة وأما إذا قيل المراد بالإنقسام أو التركيب أن يتميز منه شيء عن شيء مثل تميز علمه عن قدرته أو تميز ذاته عن صفاته أو تميز ما يرى منه عما لا يرى كما قاله السلف في قوله تعالى لا تدركه الأبصار (سورة الأنعام). قالوا لا تحيط به وقيل لابن عباس رضي الله عنه أليس الله تعالى يقول لا تدركه الأبصار قال ألست ترى

 

 

السماء قال بلى قال أفكلها ترى قال لا فذكر أن الله يرى ولا يدرك أي لا يحاط به ونحو ذلك فهذا الإمتياز على قسمين أحدهما امتياز في علم العالم منا بأن نعلم شيئا ولا نعلم الآخر فهذا أيضا لا يمكن العاقل أن ينازع فيه بعد فهمه وإن قدر أن فيه نزاعا فإن الإنسان قد يعلم أنه موجود قبل أن يعلم أنه عالم ويعلم أنه قادر قبل أن يعلم أنه مريد ونحو ذلك فما من أحد من الناس إلا وهو يعلم شيئا ولا يعلم الآخر فالإمتياز في علم الناس بين ما يعلم وما لا يعلم مما لا يمكن عاقلا المنازعة فيه إلا أن يكون النزاع لفظيا أو يتكلم الإنسان بما لا يتصور حقيقة قوله فهذا الوجه من الإمتياز متفق على إثباته كما أن الأول متفق على نفيه وأما الإمتياز في نفس الأمر من غير قبول تفرق وانفصال كتميز العلم عن القدرة وتميز الذات عن الصفة وتميز السمع عن البصر وتميز ما يرى منه عما لا يرى ونحو ذلك وثبوت صفات له وتنوعها فهذا مما تنفيه الجهمية نفاة الصفات وهو مما أنكر السلف والأئمة نفيهم له كما ذكر ذلك أئمة المسلمين المصنفين في الرد على الجهمية كالإمام أحمد رضي الله عنه في رده على الجهمية وغيره من أئمة المسلمين ولكن ليس في أئمة المسلمين من قال إن

 

 

الرب مركب من الجواهر المنفردة ولا من المادة والصورة وقد تنازع النظار في الأجسام المشهودة هل هي مركبة من جواهر أو من أجزاء أو لا من هذا ولا من هذا على ثلاثة أقوال فمن قال إن المخلوق ليس مركبا لا من هذا ولا هذا فالخالق أولى أن لا يكون مركبا ومن قال إن المخلوق مركب فهو بين أمرين إما أن ينفى التركيب عن الرب سبحانه ويحتاج إلى دليل وأدلتهم على ذلك ضعيفة وإما أن يثبت تركيبه من هذا وهذا وهو قول سخيف فكلا القولين النفى والإثبات ضعيف لضعف الأصل الذي اشتركوا فيه وهذا الموضع من محارات كثير من العقلاء في صفات المخلوق والخالق مثال ذلك الثمرة كالتفاحة والأترجة لها لون وطعم وريح وهذه صفات قائمة بها ولها أيضا حركة فمن النظار من قال صفاتها ليست أمورا زائدة على ذاتها ويجعل لفظ التفاحة يتناول هذا كله ومنهم من يقول بل صفاتها زائدة على ذاتها وهذا في التحقيق نزاع لفظي فإن عنى بذاتها ما يتصوره الذهن من الذات المجردة فلا ريب أن صفاتها زائدة على هذه الذات وإن عنى بذاتها الذات الموجودة في الخارج فتلك متصفة بالصفات لا تكون داتا موجودة في الخارج إلا إذا كانت متصفة بصفاتها اللازمة لهافتقديرها في الخارج منفكة عن الصفات حتى يقال هل الصفات زائدة عليها أو ليست زائدة تقدير ممتنع والتقدير الممتنع قد يلزمه حكم ممتنع وقد حكى عن طائفة من النظار كعبدالرحمن بن كيسان الأصم وغيره أنهم أنكروا وجود الأعراض في الخارج حتى أنكروا وجود الحركة والأشبه والله أعلم أنه لم ينقل قولهم على وجهه فإن هؤلاء أعقل من أن يقولوا ذلك وعبدالرحمن الأصم وإن كان معتزليا فإنه من فضلاء الناس وعلمائهم وله تفسير ومن تلاميذه إبراهيم بن

 

 

إسماعيل بن علية ولإبراهيم مناظرات في الفقه وأصوله مع الشافعي وغيره وفي الجملة فهؤلاء من أذكياء الناس وأحدهم أذهانا وإذا ضلوا في مسألة لم يلزم أن يضلوا في الأمورالظاهرة التي لا تخفى على الصبيان وهذا كما أن الأطباء وأهل الهندسة من أذكياء الناس ولهم علوم صحيحة طبية وحسابية وإن كان ضل منهم طوائف في الأمور الإلهية فذلك لا يستلزم أن يضلوا في الأمور الواضحة في الطب والحسابفمن حكى عن مثل أرسطو أو جالينوس أو غيرهما قولا في الطبيعيات ظاهر البطلان علم أنه غلط في النقل عليه وإن لم يكن تعمد الكذب عليه بل محمد بن زكريا الرازي مع إلحاده في الإلهيات والنبوات ونصرته لقول ديمقراطيس والحرنانيين القائلين بالقدماء الخمسة مع أنه من أضعف أقوال العالم وفيه من التناقض والفساد ما هو مذكور في موضع آخر كشرح الأصبهانية والكلام على معجزات الأنبياء والرد على من قال إنها قوى نفسانية المسماة بالصفدية وغير ذلك فالرجل من أعلم الناس بالطب حتى قيل له جالينوس الإسلام فمن ذكر عنه في الطب قولا يظهر فساده لمبتدئ الأطباء كان غالطا عليهوكذلك عبدالرحمن بن كيسان وأمثاله لا ينكر أن يكون للثمرة طعما ولونا وريحا وهذا من المراد بالأعراض في اصطلاح النظار فكيف يقال إنهم أنكروا الأعراض بل إذا قالوا إن الأعراض ليست صفات زائدة على الجسم بمعنى أن الجسم اسم للذات التي قامت بها الأعراض فالعرض داخل في مسمى الجسم وهذا مما يمكن أن يقوله هؤلاء وأمثالهم ثم رأيت أبا الحسين البصري وهو أحذق متأخري المعتزلة قد ذكر في تصفيح الأدلة والأجوبة هذا المعنى وذكر أن مرادهم هو

 

=============

 

ج5. كتاب : منهاج السنة النبوية

 

المؤلف : شيخ الإسلام بن تيمية

 

 

هذا المعنى وذكر من كلامهم ما يبين ذلك فاختار هو هذا وأثبت الأحوال التي يسميها غيره أعراضا زائدة وعاد جمهور النزاع إلى أمور لفظية وإذا كان كذلك فمن المعلوم أنا نحن نميز بين الطعم واللون والريح بحواسنا فنجد الطعم بالفم ونرى اللون بالعين ونشم الرائحة بالأنف كما نسمع الصوت بالأذن فهنا الآلات التي تحس بها هذه الأعراض مختلفة فينا يظهر اختلافها في أنفسها لاختلاف الآلات التي تدركها بخلاف ما يقوم بأنفسنا من علم وإرادة وحب فإنا لا نميز بين هذا وهذا بحواس مختلفة وإن كان أدلة العلم بذلك مختلفة فالأدلة قد تكون أمورا منفصلة عن المستدل فهذا مما يقع به الفرق بين الصفات المدركة بالحس والصفات المعلومة بالعقل وإلا فمعلوم أن اتصاف الأترجة والتفاحة بصفاتها المتنوعة هو أمر ثابت في نفسه سواء وجدنا ذلك أو لم نجده ومعلوم أن طعمها نفسه ليس هو لونها ولونها ليس هو ريحها وهذا كلها صفات قائمة بها متنوعة بحقائقها وإن كان محلها الموصوف بها واحدا ثم الصفات نوعان نوع لا يشترط فيه الحياة كالطعم واللون والريح ونوع يشترط فيه الحياة كالعلم والإرادة والسمع والبصر فأما الأول فحكمه لا يتعدى محله فلا يتصف باللون والريح والطعم إلا ما قام به ذلك

 

 

وأما هذا الثاني فقد تنازع فيه النظار لما رأوا أن الإنسان يوصف بأنه عالم قادر مريد والعلم والإرادة لم تقم بعقبه ولا بظهره وإنما هو قائم بقلبه فمنهم من قال الأعراض المشروطة بالحياة يتعدى حكمها محلها فإذا قامت بجزء من الجملة وصف بها سائر الجملة كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم ومنهم من يقول بل الموصوف بذلك جزء منفرد في القلب ومنهم من يقول بل حكمها لا يتعدى محلها وإنه بكل جزء من أجزاء البدن حياة وعلم وقدرة ومن هؤلاء من يقول لا يشترط في قيام هذه الأعراض بالجوهر الفرد البنية المخصوصة كما يقوله الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي أحمد وغيرهم وهؤلاء بنوا هذا على ثبوت الجوهر الفرد وهو أساس ضعيف فإن القول به باطل كما قد بسط في موضعه ثم من المتفلسفة المشائين من ادعى أن محل العلم من الإنسان ما لا ينقسم ومعنى ذلك عندهم أن النفس الناطقة لا يتميز منها شيء عن شيء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يصعد ولا ينزل ولا يدخل في البدن ولا غيره من العالم ولا يخرج منه ولا يقرب من شيء ولا يبعد منه ثم منهم من يدعى أنها لا تعلم الجزئيات وإنما تعلم الكليات كما يذكر ذلك عن ابن سينا وغيره وكان أعظم ما اعتمدوا عليه من المعلومات ما لا ينقسم فالعلم به لا ينقسم لأن العلم مطابق للمعلوم

 

 

فمحل العلم لا ينقسم لأن ما ينقسم لا يحل في منقسم وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين بعض ما في هذا الكلام من الغلط مع أن هذا عندهم هو البرهان القاطع الذي لا يمكن نقضه وقواهم على ذلك أن بعض من عارضهم كأبي حامد والرازي لم يجيبوا عنه بجواب شاف بل أبو حامد قد يوافقهم على ذلك ومنشأ النزاع إثبات ما لا ينقسم بالمعنى الذي أرادوه في الوجود الخارجي فيقال لهم لا نسلم أن في الوجود ما لا يتميز منه شيء عن شيء فإذا قالوا النقطة قيل لهم النقطة والخط والسطح الواحد والإثنان والثلاثة قد يراد بها هذه المقادير مجردة عن موصوفاتها وقد يراد بها ما اتصف بها من المقدرات في الخارج فإذا أريد الأول فلا وجود لها إلا في الأذهان لا في الأعيان فليس في الخارج عدد مجرد عن المعدود ولا مقدار مجرد عن المقدر لا نقطة ولا خط ولا سطح ولا واحد ولا اثنان ولا ثلاثة بل الموجودات

 

 

المعدودات كالدرهم والحبة والإنسان والمقدرات كالأرض التي لها طول وعرض وعمق فما من سطح إلا وله حقيقة يتميز بها عن غيره من السطوح كما يتميز التراب عن الماء وكا يتميز سطوح كل جسم عن سطوح الآخر وإن قالوا ما لا ينقسم هي العقول المجردة التي تثبتها الفلاسفة كان دون إثبات هذه خرط القتادة فلا يتحقق منها إلا ما يقدر في الأذهان لا ما يوجد في الأعيان والملائكة التي وصفتها الرسل وأمروا بالإيمان بها بينها وبين هذه المجردات من أنواع الفرقان ما لا يخفى إلا على العميان كما قد بسط في غير هذا المكان وإن أرادوا بما لا ينقسم واجب الوجود وقالوا إنه واحد لا ينقسم ولا يتجزأ قيل إن أردتم بذلك نفى صفاته وأنه ليس لله حياة وعلم وقدرة تقوم به فقد علم أن جمهور المسلمين وسائر أهل الملل بل وسائر عقلاء بني آدم من جميع الطوائف يخالفونكم في هذا وهذا أول المسألة وأنتم وكل عاقل قد يعلم بعض صفاته دون بعض والمعلوم هو غير ما ليس بمعلوم فكيف ينكر أن يكون له معان متعددة وأدلة إثبات الصانع كثيرة ليس هذا موضعها فلم قلتم بإمكان وحود مثل هذا في الخارج فضلا عن تحقيق وجوده

 

 

وقد عرف فساد حجتكم على نفى الصفات وإن سميتم ذلك توحيدا فحينئذ الواحد الذي لا يتميز منه شيء عن شيء لم يعلم ثبوته في الخارج حتى يحتج على أن العلم به كذلك والعالم به كذلك وقد احتج بعضهم على وجود ما لا ينقسم بالمعنى الذي أرادوه بأن قالوا الوجود في الخارج إما بسيط وإما مركب والمركب لا بد له من بسيط وهذا ممنوع فلا نسلم أن في الوجود ما هو مركب من هذا البسيط الذي أثبتموه وإنما الموجود الأجسام البسيطة وهو ما يشبه بعضه بعضا كالماء والنار والهواء ونحو ذلك وأما ما لا يتميز منه شيء عن شيء فلا نسلم أن في الوجود ما هو مركب منه بل لا موجود إلا ما يتميز منه شيء عن شيء وإذا قالوا فذلك الشيء هو البسيط قيل لهم وذلك إنما يكون بعضا من غيره لا يعلم مفردا ألبتة كما لا يوجد مفردا ألبتة ثم يقال من المعلوم أن بدن الإنسان ينقسم بالمعنى الذي يذكرونه ويتميز منه شيء عن شيء والحياة والحس سار في بدنه فما المانع أن تقوم الحياة والعلم بالروح كما قامت الحياة والحس بالبدن وإن كان البدن منقسما عندكم وإن قلتم الحياة والحس منقسم عندكم قيل إن أردتم بذلك أنه يمكن كون البعض حيا حساسا مع مفارقة البعض

 

 

قيل هذا لا يطرد بل قد يذهب بعضه وتبقى الحياة والحس في بعضه وقد تذهب الحياة والحس عن بعضه بذهاب ذلك عن البعض كما في القلب وعلى التقديرين فالحياة والحس يتسع باتساع محله والأرواح متنوعة وما يقوم بها من العلم والإرادة وغير ذلك يتنوع بتنوعها فما عظم من الموصوفات عظمت صفاتها وما كان دونها كانت صفاته دونه وأيضا فالوهم عندهم قوة جسمانية قائمة بالجسم مع أنها تدرك في المحسوس ما ليس بمحسوس كالصداقة والعداوة وذلك المعنى مما لا ينقسم بانقسام محله عندهم وأيضا فقوة الإبصار التي في العين قائمة بجسم ينقسم عندهم مع أنها لا تنقسم بانقسام محلها بل الإتصال شرط فيها فلو فسد بعض محلها فسدت ولا يبقى بعضها مع فساد أي بعض كان فما كان المانع أن يكون قيام الحياة والعلم والقدرة والإرادة ببعض الروح إذا قيل يتميز بعضها عن بعض مشروطا بقيامه بالبعض الآخر بحيث يكون الإتصال شرطا في هذا الإتصاف كما يوجد ذلك في الحياة والحس في بعض البدن لا تقوم به الحياة والحس إلا إذا كان متصلا نوعا من الإتصال وبسط الكلام في كثير من هذه الأمور يتعلق بالكلام على روح الإنسان التي تسمى النفس الناطقة وعلى اتصافها بصفاتها فبهذا

 

 

يستعين الإنسان على الكلام في الصفات الإلهية وبذلك يستعين على ما يرد عليه من الشبهات وقد تكلمنا على ذلك في مواضع والناس قد تنازعوا في روح الإنسان هل هي جسم مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة أو جوهر لا يقبل الصعود والنزول والقرب والبعد ونحو ذلك وكلا القولين خطأ كما ذكر في غير هذا الموضع وأضعف من ذلك قول من يجعلها عرضا من أعراض البدن كالحياة والعلم وقد دخل في الأول قول من قال إن الإنسان ليس هو إلا هذه الجمل المشاهدة وهي البدن ومن قال إنها الريح التي تتردد في مخاريق البدن ومن قال إنها الدم ومن قال إنها البخار اللطيف الذي يجري في مجاري الدم وهو المسمى بالروح عند الأطباء ومن قال غير ذلك والثاني قول من يقول بذلك من المتفلسفة ومن وافقهم من النظار وقد ينظر الإنسان في كتب كثيرة من المصنفة في هذه الأمور ويجد في المصنف أقوالا متعددة والقول الصواب لا يجده فيها ومن تبحر في المعارف تبين له خلاصة الأمور وتحقيقها هو ما أخبر به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى في جميع هذه الأمور لكن إطالة القول في هذا الباب لا يناسب هذا

 

 

الكتاب وإنما المقصود التنبيه على أن ما تشنع به الرافضة على أهل السنة من ضعيف الأقوال هم به أخلق والضلال بهم أعلق ولكن لا بد من جمل يهتدى بها إلى الصواب وباب التوحيد والأسماء والصفات مما عظم فيه ضلال من عدل عما جاء به الرسول إلى ما يظنه من المعقول وليست المعقولات الصريحة إلا بعض ما أخبر به الرسول يعرف ذلك من خبر هذا وهذا.

*

فصل وهذا الموضع أشكل على كثير من الناس لفظا ومعنى أما اللفظ فتنازعوا في الأسماء التي تسمى الله بها وتسمى بها عباده كالموجود والحي والعليم والقدير فقال بعضهم هي مقولة بالإشتراك اللفظي حذرا من إثبات قدر مشترك بينهما لأنهما إذا اشتركا في مسمى الوجود لزم أن يمتاز الواجب عن الممكن بشيء آخر فيكون مركبا وهذا قول بعض المتأخرين كالشهرستاني والرازي في أحد قوليهما وكالآمدي مع توقفه أحيانا وقد ذكر الرازي والآمدي ومن اتبعهما هذا القول عن الأشعري وأبي الحسين البصري وهو غلط عليهما وإنما ذكروا ذلك

 

لأنهما لا يقولان بالأحوال ويقولان وجود كل شيء عين حقيقته فظنوا أن من قال وجود كل شيء عين حقيقته يلزمه أن يقول إن لفظ الوجود يقال بالإشتراك اللفظي عليهما لأنه لو كان متواطئا لكان بينهما قدر مشترك فيمتاز أحدهما عن الآخر بخصوص حقيقته والمشترك ليس هو المميز فلا يكون الوجود المشترك هو الحقيقة المميزة والرازي والآمدي ونحوهما ظنوا أنه ليس في المسألة إلا هذا القول وقول من يقول بأن اللفظ متواطئ ويقول وجوده زائد على حقيقته كما هو قول أبي هاشم وأتباعه من المعتزلة والشيعة أو قول ابن سينا بأنه متواطئ أو مشكك مع أنه الوجود المقيد بسلب كل أمر ثبوتي عنه وذهب من ذهب من القرامطة الباطنية وغلاة الجهمية إلى أن هذه الأسماء حقيقة في العبد مجاز في الرب قالوا هذا في اسم الحي ونحوه حتى في اسم الشيء كان الجهم وأتباعه لا يسمونه شيئا وقيل عنه إنه لم يسمه إلا بالقادر الفاعل لأن العبد عنده ليس بقادر ولافاعل فلا يسميه باسم يسمى به العبد وذهب أبو العباس الناشئ إلى ضد ذلك فقال إنها حقيقة للرب مجاز للعبد وزعم ابن حزم أن أسماء الله تعالى الحسنى لا تدل على المعاني فلا يدل عليم على علم ولا قدير على قدرة بل هي أعلام

 

 

محضة وهذا يشبه قول من يقول بأنها تقال بالإشتراك اللفظي وأصل غلط هؤلاء شيئان إنا نفى الصفات والغلو في نفى التشبيه وإما ظن ثبوت الكليات المشتركة في الخارج فالأول هو مأخذ الجهمية ومن وافقهم على نفى الصفات قالوا إذا قلنا عليم يدل على علم وقدير يدل على قدرة لزم من إثبات الأسماء إثبات الصفات وهذا مأخذ ابن حزم فإنه من نفاة الصفات مع تعظيمه للحديث والسنة والإمام أحمد ودعواه أن الذي يقوله في ذلك هو مذهب أحمد وغيره وغلطه في ذلك بسبب أنه أخذ أشياء من أقوال الفلاسفة والمعتزلة عن بعض شيوخه ولم يتفق له من يبين له خطأهم ونقل المنطق بالإسناد عن متى الترجمان وكذلك قالوا إذا قلنا موجود وموجود وحي وحي لزم التشبيه فهذا أصل غلط هؤلاءوأما الأصل الثاني فمنه غلط الرازي ونحوه فإنه ظن أنه إذا كان هذا موجودا وهذا موجودا والوجود شامل لهما كان بينهما وجود مشترك كلى في الخارج فلا بد من مميز يميز هذا عن هذا والمميز إنما هو الحقيقة فيجب أن يكون هناك وجود مشترك وحقيقة مميزة ثم إن هؤلاء يتناقضون فيجعلون الوجود ينقسم إلى واجب وممكن أو قديم ومحدث كما تنقسم سائر الأسماء العامة الكلية لا كما تنقسم الألفاظ المشتركة كلفظ سهيل القول على سهيل الكوكب وعلى سهيل بن عمرو فإن تلك لا يقال فيها إن هذا ينقسم إلى كذا

 

 

وكذا ولكن يقال إن هذا اللفظ يطلق على هذا المعنى وعلى هذا المعنى وهذا أمر لغوي لا تقسيم عقلي وهناك تقسيم عقلي تقسيم المعنى الذي هو مدلول اللفظ العام مورد التقسيم مشترك بين الأقسام وقد ظن بعض الناس أنه يخلص من هذا بأن يجعل لفظ الوجود مشككا لكون الوجود الواجب أكمل كما يقال في لفظ السواد والبياض المقول على سواد القار وسواد الحدقة وبياض الثلج وبياض العاج ولا ريب أن المعاني الكلية قد تكون متفاضلة في مواردها بل أكثرها كذلك وتخصيص هذا القسم بلفظ المشكك أمر اصطلاحي ولهذا كان من الناس من قال هو نوع من المتواطئ لأن واضع اللغة لم يضع اللفظ العام بإزاء التفاوت الحاصل لأحدهما بل بإزاء القدر المشترك وبالجملة فالنزاع في هذا لفظي فالمتواطئة العامة تتناول المشككة وأما المتواطئة التي تتساوى معانيها فهي قسيم المشككة وإذ جعلت المتواطئة نوعين متواطئا عاما وخاصا كما جعل الإمكان نوعين عاما وخاصا زال اللبس والمقصود هنا أن يعرف أن قول جمهور الطوائف من الأولين والآخرينأن هذه الأسماء عامة كلية سواء سميت متواطئة أو مشككة ليست ألفاظا مشتركة اشتراكا لفظيا فقط وهذا مذهب المعتزلة والشيعة والأشعرية والكرامية وهو مذهب سائر المسلمين أهل السنة والجماعة والحديث وغيرهم إلا من شذ وأما الشبه التي أوقعت هؤلاء فجوابها من وجهين تمثيل وتخييل أما التمثيل فأن يقال القول في لفظ الوجود كالقول في لفظ الحقيقة والماهية والنفس والذات وسائر الألفاظ التي تقال على الواجب والممكن بل تقال على كل موجود فهم إذا قالوا يشتركان في الوجود ويمتاز أحدهما عن الآخر بحقيقته قيل لهم القول في لفظ الحقيقة كالقول في لفظ الوجود فإن هذا له حقيقة وهذا له حقيقة كما أن لهذا وجودا ولهذا وجودا وأحدهما يمتاز عن الآخر بوجوده المختص به كما هو ممتاز عنه بحقيقته التي تختص به فقول القائل إنهما يشتركان في مسمى الوجود ويمتاز كل

 

 

واحد منهما بحقيقته التي تخصه كما لو قيل هما مشتركان في مسمى الحقيقة ويمتاز كل منهما بوجوده الذي يخصه وإنما وقع الغلط لأنه اخذ الوجود مطلقا لا مختصا وأخذت الحقيقة مختصة لا مطلقة ومن المعلوم أن كلا منهما يمكن أن يوجد مطلقا ويمكن أن يوجد مختصا فإذا أخذا مطلقين تساويا في العموم وإذا أخذا مختصين تساويا في الخصوص وأما أخذ أحدهما عاما والآخر مختصا فليس هذا بأولى من العكس وأما حل الشبهة فهو أنهم توهموا أنه إذا قيل إنهما مشتركان في مسمى الوجود يكون في الخارج وجود مشترك هو نفسه في هذا وهو نفسه في هذا فيكون نفس المشترك فيهما والمشترك لا يميز فلا بد له من مميز وهذا غلط فإن قول القائل يشتركان في مسمى الوجود أي يشتبهان في ذلك ويتفقان فيه فهذا موجود وهذا موجود ولم يشرك أحدهما الآخر في نفس وجوده ألبتةوإذا قيل يشتركان في الوجود المطلق الكلي فذاك المطلق الكلي لا يكون مطلقا كليا إلا في الذهن فليس في الخارج مطلق كلي يشتركان فيه بل هذا له حصة منه وهذا له حصة منه وكل من الحصتين ممتازة عن الأخرى ومن قال المطلق جزء من المعين والموجود جزء من هذا الموجود والإنسان جزء من هذا الإنسان إن أراد به أن المعين يوصف به فيكون صفة له ومع كونه صفة له فما هو صفة له لا توجد عينه لآخر فهذا معنى صحيح ولكن تسمية الصفة جزء الموصوف ليس هو المفهوم منها عند الإطلاق وإن أريد أن نفس ما في المعين من وجود أو إنسان هو في ذلك بعينه فهذا مكابرة وإن قال إنما أردت أن النوع في الآخر عاد الكلام في النوع فإن النوع أيضا كلى والكليات الخمسة كليات الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام والقول فيها واحد فليس فيها ما يوجد في الخارج كليا مطلقا ولا تكون كلية مطلقة إلا في الأذهان لا في الأعيان

 

 

وما يدعى فيها من عموم وكلية أو من تركيب كتركيب النوع من الجنس والفصل هي أمور عقلية ذهنية لا وجود لها في الخارج فليس في الخارج شيء يعم هذا وهذا ولا في الخارج إنسان مركب من هذا وهذا بل الإنسان موصوف بهذا وهذا وهذا بصفة يوجد نظيرها في كل إنسان وبصفة يوجد نظيرها في كل حيوان وبصفة يوجد نظيرها في كل نام وأما نفس الصفة التي قامت به ونفس الموصوف الذي قامت به الصفة فلا اشتراك فيه أصلا ولا عموم ولا هو مركب من عام وخاص وهذا الموضع منشأ زلل كثير من المنطقيين في الكليات وكثير من المتكلمين في مسألة الحل وبسبب ذلك غلط من غلط من هؤلاء وهؤلاء في الإلهيات فيما يتعلق بهذا فإن المتكلمين أيضا رأوا أن الأشياء تتفق بصفات وتختلف بصفات والمشترك عين المميز فصاروا حزبين حزبا أثبت هذه الأمور في الخارج لكنه قال لا موجودة ولا معدومة لأنها لو كانت موجودة لكانت أعيانا موجودة أو

 

 

صفات للأعيان ولو كانت كذلك لم يكن فيها اشتراك وعموم فإن صفة الموصوف الموجودة لا يشركه فيها غيره وآخرون علموا أن كل موجود مختص بصفة فقالوا لا عموم ولا اشتراك إلا في الألفاظ دون المعاني والتحقيق أن هذه الأمور العامة المشترك فيها هي ثابتة في الأذهان وهي معاني الألفاظ العامة فعمومها بمنزلة عموم الألفاظ فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى والمعنى عام وعموم اللفظ يطابق عموم المعنى وعموم الخط يطابق عموم اللفظ وقد اتفق الناس على أن العموم يكون من عوارض الألفاظ وتنازعوا هل يكون من عوارض المعاني فقيل يكون أيضا من عوارض المعاني كقولهم مطر عام وعدم عام وخصب عام وقيل بل ذلك مجاز لأن المطر الذي حل بهذه البقعة ليس هو المطر الذي حل بهذه البقعة وكذلك الخصب والعدل والتحقيق أن معنى المطر القائم بقلب المتكلم عام كعموم اللفظ سواء بل اللفظ دليل على ذلك المعنى فكيف يكون اللفظ عاما دون معناه الذي هو المقصود بالبيان فأما المعاني الخارجية فليس فيها

 

 

شيء بعينه عام وإنما العموم للنوع كعموم الحيوانية للحيوان والإنسانية للإنسان فمسألة الكليات والأحوال وعروض العموم لغير الألفاظ من جنس واحد ومن فهم الأمر على ما هو عليه تبين له أنه ليس في الخارج شيء هو بعينه موجود في هذا وهذا وإذا قال نوعه موجود أو الكلى الطبيعي موجود أو الحقيقة موجودة أو الإنسانية من حيث هي موجودة ونحو هذه العبارات فالمراد به أنه وجد في هذا نظير ما وجد في هذا أو شبهه ومثله ونحو ذلك والمتماثلان يجمعهما نوع واحد وذلك النوع هو الذي بعينه يعم هذا ويعم هذا لا يكون عاما مطلقا كليا إلا في الذهن وأنت إذا قلت الإنسانية موجودة في الخارج والكلى الطبيعي موجود في الخارج كان صحيحا بمعنى أن ما تصوره الذهن كليا يكون في الخارج لكنه إذا كان في الخارج لا يكون كليا كما أنك إذا قلت زيد في الخارج فليس المراد هذا اللفظ ولا المعنى القائم في الذهن بل المراد المقصود بهذا اللفظ موجود في الخارجومن هنا تنازع الناس في مسألة الإسم والمسمى ونزاعهم شبيه بهذا النزاع وأنت إذا نظرت في الماء أو المرآة فقلت هذه الشمس أو هذا القمر فهو صحيح وليس مرادك أن نفس ما في السماء حصل في الماء أو المرآة ولكن ذلك شوهد في المرآة وظهر في المرآة وتجلى في المرآة فإذا قلت الكليات في الخارج فصحيح أو الإنسان من حيث هو في الخارج فصحيح لكن لا يكون في الخارج إلا مقيدا مخصوصا لا يشركه في نفس الأمر شيء من الموجودات الخارجية وبهذا ينحل كثير من المواضع التي اشتبهت على كثير من المنطقيين وغلطوا فيها مثل زعمهم أن الماهية الموجودة في الخارج غير الوجود فإنك تتصور المثلث قبل أن تعلم وجوده وبنوا على ذلك الفرق بين الصفات الذاتية واللازمة العرضية وغير ذلك من مسائلهم ولا ريب أن الفرق ثابت بين ما هو في الذهن وما هو في الخارج فإذا

 

 

جعلت الماهية اسما لما في الذهن والوجود اسما لما في الخارج فالفرق ثابت كما لو جعل الوجود اسما لما في الذهن والماهية اسما لما في الخارج لكن لما كان لفظ الماهية مأخوذا من قول السائل ماهو وجواب هذا هو المقول في جواب ما هو وذلك كلام يتصور معناه المجيب عبر بالماهية عن الصور الذهنية وأما الوجود فهو تحقق الشيء في الخارج لكن هؤلاء لم يقتصروا على هذا بل زعموا أن ما هيات الأشياء ثابتة في الخارج وأنها غير الأعيان الموجودة وهذا غلط بالضرورة فإن المثلث الذي تعرفه قبل أن تعرف وجوده في الخارج هو المثلث المتصور في الذهن الذي لا وجود له في الخارج وإلا فمن الممتنع أن تعلم حقيقة المثلث الموجود في الخارج قبل أن تعلم وجوده في الخارج فما في الخارج لا تعلم حقيقته حتى تعلم وجوده وما علمت حقيقته قبل وجوده لم يكن له حقيقة بعد إلا في الذهنومن هذا الباب ظن من ظن من هؤلاء أن لنا عددا مجردا في الخارج أو مقدارا مجردا في الخارج وكل هذا غلط وهذا مبسوط في موضع آخر وإنما نبهنا هنا على هذا لأن كثيرا من أكابر أهل النظر والتصوف والفلسفة والكلام ومن اتبعهم من الفقهاء والصوفية ضلوا في مسألة وجود الخالق التي هي رأس كل معرفة والتبس الأمر في ذلك على من نظر في كلامهم لأجل هذه الشبهة وقد كتبنا في مسألة الكليات كلاما مبسوطا مختصا بذلك لعموم الحاجة وقوة المنفعة وإزالة الشبهة بذلك وبهذا يتبين غلط النفاة في لفظ التشبيه فإنه يقال الذي يجب نفيه عن الرب تعالى اتصافه بشيء من خصائص المخلوقين كما أن المخلوق لا يتصف بشيء من خصائص الخالق أو أن يثبت للعبد شيء يماثل فيه الرب وأما إذا قيل حي وحي وعالم وعالم وقادر وقادر أو قيل لهذا قدرة ولهذا قدرة ولهذا علم ولهذا علم كان نفس علم الرب لم يشركه فيه العبد ونفس علم العبد لا يتصف به الرب تعالى عن ذلك وكذلك في سائر الصفات بل ولا يماثل هذ هذا

 

 

وإذا اتفق العلماء في مسمى العلم والعالمان في مسمى العالم فمثل هذا التشبيه ليس هو المنفى لا بشرع ولا بعقل ولا يمكن نفى ذلك إلا بنفى وجود الصانع ثم الموجود والمعدوم قد يشتركان في أن هذا معلوم مذكور وهذا معلوم مذكور وليس في إثبات هذا محذور فإن المحذور إثبات شيء من خصائص أحدهما للآخر وقولنا إثبات الخصائص إنما يراد إثبات مثل تلك الخاصة وإلا فإثبات عينها ممتنع مطلقا فالأسماء والصفات نوعان نوع يختص به الرب مثل الإله ورب العالمين ونحو ذلك فهذا لايثبت للعبد بحال ومن هنا ضل المشركون الذين جعلوا لله أندادا والثاني ما يوصف به العبد في الجملة كالحي والعالم والقادر فهذا لا يجوز أن يثبت للعبد مثل ما يثبت للرب أصلا فإنه لو ثبت له مثل ما يثبت له للزم أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه وذلك يستلزم اجتماع النقيضين كما تقدم بيانهوإذا قيل فهذا يلزم فيما اتفقا فيه كالوجود والعلم والحياة قيل هذه الأمور لها ثلاثة اعتبارات أحدها ما يختص به الرب فهذا ما يجب له ويجوز ويمتنع عليه ليس للعبد فيه نصيب والثاني ما يختص بالعبد كعلم العبد وقدرته وحياته فهذا إذا جاز عليه الحدوث والعدم لم يتعلق ذلك بعلم الرب وقدرته وحياته فإنه لا اشتراك فيه والثالث المطلق الكلى وهو مطلق الحياة والعلم والقدرة فهذا المطلق ما كان واجبا له كان واجبا فيهما وما كان جائزا عليه كان جائزا عليهما وما كان ممتنعا عليه كان ممتنعا عليهما فالواجب أن يقال هذه صفة كمال حيث كانت فالحياة والعلم والقدرة صفة كمال لكل موصوف والجائز عليهما اقترانهما بصفة أخرى كالسمع والبصر والكلام فهذه الصفات يجوز أن تقارن هذه في كل محل اللهم إلا إذا كان هناك مانع من جهة المحل لا من جهة الصفة وأما الممتنع عليهما فيمتنع أن تقوم هذه الصفات إلا بموصوف

 

 

قائم بنفسه وهذا ممتنع عليها في كل موضع فلا يجوز أن تقوم صفات الله بأنفسها بل بموصوف وكذلك صفات العباد لا يجوز أن تقوم بأنفسها بل بموصوف وإذا تبين هذا فقول هذا المصنف وأشباهه قول المشبهة إن أراد بالمشبهة من أثبت من الأسماء ما يسمى به الرب والعبد فطائفته وجميع الناس مشبهة وإن أراد به من جعل صفات الرب مثل صفات العبد فهؤلاء مبطلون ضالون وهم في الشيعة أكثر منهم في غيرهم وليس هؤلاء طائفة معينة من أهل السنة والجماعة وإن قال أردت به من يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين والإستواء ونحو ذلك قيل له أولا ليس هي هؤلاء من التشبيه ما امتازوا به عن غيرهم فإن هؤلاء يصرحون بأن صفات الله ليست كصفات الخلق وأنه منزه عما يختص بالمخلوقين من الحدوث والنقص وغير ذلك فإن كان هذا تشبيها لكون العباد لهم ما يسمى بهذه الأسماء كان جميع الصفاتيةمشبهة بل والمعتزلة والفلاسفة أيضا مشبهة لأنهم يقولون حي عليم قدير ويقولون موجود وحقيقة وذات ونفس والفلاسفة تقول عاقل ومعقول وعقل ولذيذ وملتذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق وغير ذلك من الأسماء الموجودة في المخلوقات وإن قال سموا مشبهة لأنهم يقولون إنه جسم والأجسام متماثلة بخلاف من أثبت الصفات ولم يقل هو جسم قيل أولا هذا باطل لأنك ذكرت الكرامية قسما غيرهم والكرامية تقول إنه جسم وقيل لك ثانيا لا يطلق لفظ الجسم إلا أئمتك الإمامية ومن وافقهم وقيل لك ثالثا فهذا مبنى على تماثل الأجسام وأكثر العقلاء يقولون إنها ليست متماثلة والقائلون بتماثلها من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وطائفة من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ليست لهم حجة على تماثلها أصلا كما قد بسط ذلك في موضعه

 

 

وقد اعترف بذلك فضلاؤهم حتى الآمدي في كتاب أبكار الأفكار اعترف بأنه لا دليل لهم على تماثل الأجسام إلا تماثل الجواهر ولا دليل لهم على تماثل الجواهر والأشعري في الإبانة جعل هذا القول من أقوال المعتزلة التي أبطلها وسواء كان تماثلها حقا أو باطلا فمن قال إنه جسم كهشام بن الحكم وابن كرام لا يقول بتماثل الأجسام فإنهم يقولون إن حقيقة الله تعالى ليست مثل شيء من الحقائق فهم أيضا ينكرون التشبيه فإذا وصفوا به لاعتقاد الواصف أنه لازم لهم أمكن كل طائفة أن يصفوا الأخرى بالتشبيه لاعتقادها أنه لزم لها فالمعتزلة والشيعة توافقهم على أن أخص وصف الرب هو القدم وأن ما شاركه في القدم فهو مثله فإذا أثبتنا صفة قديمة لزم التشبيه وكل من أثبت صفة قديمة فهو مشبه وهم يسمون جميع من أثبت الصفات مشبها بناء على هذافإن قال هذا الإمامي فأنا ألتزم هذا قيل له تناقضت لأنك أخرجت الأشعرية والكرامية عن المشبهة في اصطلاحك فأنت تتكلم بألفاظ لا تفهم معناها ولا موارد استعمالها وإنما تقوم بنفسك صورة تبني عليها وكأنك والله أعلم عنيت بالحشوية المشبهة من ببغداد والعراق من الحنبلية ونحوهم أو الحنبلية دون غيرهم وهذا من جهلك فإنه ليس للحنبلية قول انفردوا به عن غيرهم من طوائف أهل السنة والجماعة بل كل ما يقولونه قد قاله غيرهم من طوائف أهل السنة بل يوجد في غيرهم من زيادة الإثبات ما لا يوجد فيهم ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم ومن خالف ذلك كان مبتدعا عند أهل السنة والجماعة فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة ومتنازعون في إجماع من بعدهم وأحمد بن حنبل وإن كان قد اشتهر بإمامة السنة والصبر في

 

 

المحنة فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولا بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها وصبر على من امتحنه ليفارقها وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة فلما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات اللهتعالى وهو المذهب الذي ذهب إليه متأخروا الرافضة وكانوا قد أدخلوا معهم من أدخلوه من ولاة الأمور فلم يوافقهم أهل السنة والجماعة حتى تهددوا بعضهم بالقتل وقيدوا بعضهم وعاقبوهم وأخذوهم بالرهبة والرغبة وثبت الإمام أحمد بن حنبل على ذلك الأمر حتى حبسوه مدة ثم طلبوا أصحابهم لمناظرته فانقطعوا معه في المناظرة يوما بعد يوم ولم يأتوا بما يوجب موافقته لهم بل بين خطأهم فيما ذكروه من الأدلة وكانوا قد طلبوا له أئمة الكلام من أهل البصرة وغيرهم مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار وأمثاله ولم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط بل كانتمع جنس الجهمية من المعتزلة والنجارية والضرارية وأنواع المرجئة فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزليا لكن جهم أشد تعطيلا لأنه ينفى الأسماء والصفات والمعتزلة تنفى الصفات دون الأسماء وبشر المريسى كان من المرجئة لم يكن من المعتزلة بل كان من كبار الجهميةوظهر للخليفة المعتصم أمرهم وعزم على رفع المحنة حتى ألح عليه ابن أبي دؤاد يشير عليه إنك إن لم تضر به وإلا انكسر ناموس الخلافة فضربه فعظمت الشناعة من العامة والخاصة فأطلقوه ثم صارت هذه الأمور سببا في البحث عن مسائل الصفات وما فيها من النصوص والأدلة والشبهات من جانبي المثبتة والنفاة للصفات وصنف الناس في ذلك مصنفات وأحمد وغيره من علماء أهل السنة والحديث مازالوا يعرفون فساد

 

 

مذهب الروافض والخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة ولكن بسبب المحنة كثر الكلام ورفع الله قدر هذا الإمام فصار إماما من أئمة السنة وعلما من أعلامها لقيامه بإعلامها وإظهارها واطلاعه على نصوصها وآثارها وبيانه لخفى أسرارها لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيا ولهذا قال بعض شيوخ المغرب المذهب لمالك والشافعي والظهور لأحمد يعنى أن مذاهب الأئمة في الأصول مذهب واحد وهو كما قال فتخصيص الكلام من أحمد وأصحابه في مسائل الإمامة والإعتزال كتخصيصه بالكلام معه في مسائل الخوارج الحرورية بل في نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم والرد على اليهود والنصارى والخطاب بتصديق الرسول فيما أخبر به وطاعته فيما أمر به قد شمل جميع العباد ووجب على كل أحد فأسعدهم أطوعهم لله وأتبعهم لرسول الله وإذا قدر أن في الحنبلية أو غيرهم من طوائفأهل السنة من قال أقوالا باطلة لم يبطل مذهب أهل السنة والجماعة ببطلان ذلك بل يرد على من قال ذلك الباطل وتنصر السنة بالدلائل ولكن الرافضي أخذ ينكت على كل طائفة بما يظن أنه يجرحها به في الأصول والفروع ظانا أن طائفته هي السليمة من الجرح وقد اتفق عقلاء المسلمين على أنه ليس في طائفة من طوائف أهل القبلة أكثر جهلا وضلالا وكذبا وبدعا وأقرب إلى كل شر وأبعد عن كل خير من طائفته ولهذا لما صنف الأشعري كتابه في المقالات ذكر أولا مقالتهم وختم بمقالة أهل السنة والحديث وذكر أنه بكل ما ذكر من أقوال أهل السنة والحديث يقول وإليه يذهب وتسمية هذا الرافضي وأمثاله من الجهمية معطلة الصفات لأهل الإثبات مشبهة كتسميتهم لمن أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة ناصبيا بناء على اعتقادهم فإنهم لما اعتقدوا أنه لا ولاية لعلي إلا بالبراءة من

 

 

هؤلاء جعلوا كل من لم يتبرأ من هؤلاء ناصبيا كما أنهم لما اعتقدوا أن القدمين متماثلان أو أن الجسمين متماثلان ونحو ذلك قالوا إن مثبتة الصفات مشبهة فيقال لمن قال هذا إن كان مرادك بالنصب والتشبيه بغض علي وأهل البيت وجعل صفات الرب مثل صفات العبد فأهل السنة ليسوا ناصبية ولا مشبهة وإن كنت تريد بذلك أنهم يوالون الخلفاء ويثبتون صفات الله تعالى فسم هذا بما شئت إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان والمدح والذم إنما يتعلق بالأسماء إذا كان لها أصل في الشرع كلفظ المؤمن والكافر والبر والفاجر والعالم والجاهل ثم من أراد أن يمدح أو يذم فعليه أن يبين دخول الممدوح والمذموم في تلك الأسماء التي علق الله ورسوله بها المدح والذم فأما إذا كان الإسم ليس له أصل في الشرع ودخول الداخل فيه مما ينازع فيه المدخل بطلت كل من المقدمتين وكان هذا الكلام مما لا يعتمد عليه إلا من لا يدري ما يقول

 

 

والكتاب والسنة ليس فيه لفظ ناصبية ولا مشبهة ولا حشوية ولا فيه أيضا لفظ رافضة ونحن إذا قلنا رافضة نذكره للتعريف لأن مسمى هذا الإسم يدخل فيه أنواع مذمومة بالكتاب والسنة من الكذب على الله ورسوله وتكذيب الحق الذي جاء به رسوله ومعاداة أولياء الله بل خيار أوليائه وموالاة اليهود والنصارى والمشركين كما تبين وجوه الذم وأهل السنة والجماعة لا يمكن أن يعمهم معنى مذموم في الكتاب والسنة بحال كما يعم الرافضة نعم يوجد في بعضهم ما هو مذموم ولكن هذا لا يلزم منه ذمهم كما أن المسلمين إذا كان فيهم من هو مذموم لذنب ركبه لم يستلزم ذلك ذم الإسلام وأهله القائمين بواجباته الوجه الرابع أن يقال أما القول بأنه جسم أو ليس بجسم فهذا مما تنازع فيه أهل الكلام والنظر وهي مسألة عقلية وقد تقدم أن الناس فها على ثلاثة أقوال نفي وإثبات ووقف وتفصيل وهذا هو الصواب الذي عليه السلف والأئمة ولهذا لما ذكر أبو عيسى برغوث لأحمد هذا في مناظرته إياه وأشار إلى أنه إذا قلت إن القرآن غير مخلوق لزم أن يكون الله جسما لأنالقرآن صفة وعرض ولا يكون إلا بفعل والصفات والأعراض والأفعال لا تقوم إلا بالأجسام أجابة الإمام أحمد بأنا نقول إن الله أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأن هذا الكلام لا يدرى مقصود صاحبه به فلا نطلقه لا نفيا ولا أثباتا أما من جهة الشرع فلأن الله ورسوله وسلف الأمة لم يتكلموا بذلك لا نفيا ولا إثباتا فلا قالوا هو جسم ولا قالوا هو ليس بجسم ولما سلك من سلك في الإستدلال على حدوث العالم بحدوث الأجسام ودخلوا في هذا الكلام ذم السلف الكلام وأهله حتى قال أبو يوسف من طلب الدين بالكلام تزندق وقال الشافعي حكمى في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام وقال لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلما يقوله

 

 

ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خيرا له من أن يبتلى بالكلام وقد صنفت في ذمهم مصنفات مثل كتاب أبي عبد الرحمن السلمي وكتاب شيخ الإسلام الأنصاري وغير ذلك وأما من جهة العقل فلأن هذا اللفظ مجمل يدخل فيه نافيه معاني يجب أثباتها لله ويدخل فيه مثبته ما ينزه الله تعالى عنه فإذا لم يدر مراد المتكلم به لم ينف ولم يثبت وإذا فسر مراده قبل الحق وعبر عنه بالعبارات الشرعية ورد الباطل وإن تكلم بلفظ لم يرد عن الشارعللحاجة إلى إفهام المخاطب بلغته مع ظهور المعنى الصحيح لم يكن بذلك بأس فإنه يجوز ترجمة القرآن والحديث للحاجة إلى الإفهام وكثير ممن قد تعود عبارة معينة إن لم يخاطب بها لم يفهم ولم يظهر له صحة القول وفساده وربما نسب المخاطب إلى أنه لا يفهم ما يقول وأكثر الخائضين في الكلام والفلسفة من هذا الضرب ترى أحدهم يذكر له المعاني الصحيحة بالنصوص الشرعية فلا يقبلونها لظنهم أن في عبارتهم من المعاني ما ليس في تلك فإذا أخذ المعنى الذي دل عليه الشرع وصيغ بلغتهم وبين به بطلان قولهم المناقض للمعنى الشرعي خضعوا لذلك وأذعنوا له كالتركي والبربري والرومي والفارسي الذي يخاطبه بالقرآن العربي ويفسره فلا يفهمه حتى يترجم له شيئا بلغته فيعظم سروره وفرحه ويقبل الحق ويرجع عن باطله لأن المعاني التي جاء بها الرسول أكمل المعاني وأحسنها وأصحها لكن هذا يحتاج إلى كمال المعرفة لهذا ولهذا كالترجمان الذي يريد أن يكون حاذقا في فهم اللغتين

 

 

وهذا الإمامي يناظر في ذلك أئمته كهشام بن الحكم وأمثاله ولا يمكنه أن يقطعهم بوجه من الوجوه كما لا يمكنه أن يقطع الخوارج بوجه من الوجوه وإن كان في قول الخوارج والمجسمة من الفساد ما فيه فلا يقدر أن يدفعه إلا أهل السنة ونحن نذكر مثالا فنقول أهل السنة متفقون على أن الله لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة لم يتنازع أهل السنة إلا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم مع أن أئمة السنة على أنه لم يره أحد بعينه في الدنيا مطلقا وقد ذكر عن طائفة أنهم يقولون إن الله يرى في الدنيا وأهل السنة يردون على هذا بالكتاب والسنة مثل استدلالهم بأن موسى عليه السلام منع منها فمن هو دونه أولى وبقول النبي صلى الله عليه وسلم واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت رواه مسلم في صحيحه وروى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة وبطرق عقلية كبيانهم عجز الأبصار في الدنيا عن الرؤية ونحو ذلكوأما هذا وأمثاله فليست لهم على هؤلاء حجة لا عقلية ولا شرعية فإن عمدتهم في نفى الرؤية أنه لو رئى لكان في جهة ولكان جسما وهؤلاء يقولون إنه يرى في الدنيا بل يقولون إنه في جهة وهو جسم فإن أخذوا في الإستدلال على نفى الجهة ونفى الجسم كان منتهاهم معهم إلى أنه لا تقوم به الصفات وهؤلاء يقولون تقوم به الصفات فإن استدلوا على ذلك كان منتهاهم معهم إلى أن الصفات أعراض وما قامت به الأعراض محدث وهؤلاء يقولون تقوم به الأعراض وهو قديم والأعراض عند هؤلاء تقوم بالقديم فإن قالوا الجسم لا يخلو عن الحركة أو السكون وما لا يخلو

 

 

عنهما فهو محدث لامتناع حوادث لا أول لها فهذا منتهى ما عند المعتزلة وأتباعهم من الشيعة قال لهم أولئك لا نسلم أن الجسم لا يخلوا عن الحركة والسكون الوجوديي بل يجوز خلوه عن الحركة لأن السكون عدم الحركة مطلقا وعدم الحركة عما من شأنه أن يقبلها فيجوز ثبوت جسم قديم ساكن لا يتحرك وقالوا لهم لا نسلم امتناع حوادث لا أول لها وطعنوا في أدلة نفى ذلك بالمطاعن المعروفة حتى حذاق المتأخرين كالرازي وأبي الحسن الآمدي وأبي الثناء الأرموي وغيرهم طعنوا في ذلك كله وطعن الرازي في ذلك في مواضع وإن كان اعتمد عليه فيمواضع والآمدي طعن في طرق الناس إلا طريقة ارتضاها وهي أضعف من غيرها طعن فيها غيره فهذان مقامان من المقامات العقلية لا يقدر هؤلاء أن يغلبوا فيها شيوخهم المتقدمين فإذا كانوا لا ينفون رؤيته في الدنيا إلا بهذه الطريق لم يكن لهم حجة إلا على من يقول إنه يرى ويصافح وأمثالذلك من المقالات مع أن هذا من أشنع المقالات عند أهل السنة والجماعة ولا يعرف له قائل معدود من أهل السنة والحديث وبيان هذا بالوجه الخامس وهو أن يقال هذه الأقوال حكاها الناس عن شرذمة قليلة أكثرهم من الشيعة وبعضهم من غلاة النساك وداود الجواربي قال الأشعري في المقالات وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان إن الله جسم وأنه جثة وأعضاء على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له

 

 

جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره وحكى عن داود الجواربي أنه كان يقول إنه أجوف من فيه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك وقال هشام بن سالم الجواليقي إن الله على صورة الإنسان وأنكر أن يكون لحما ودما وإنه نور ساطع يتلألأ بياضا وإنه ذوا حواس خمس كحواس الإنسان سمعه غير بصره وكذلك سائر حواسه له يد ورجل وأذن وعين وأنف وفم وإن له وفرة سوداء قلت أما داود الجواربي فقد عرف عنه القول المنكر الذي أنكره عليه أهل السنة وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة وفيهم انحراف على مقاتل بن سليمانفلعلهم زادوا في النقل عنه أو نقلو عنه أو نقلوا عن غير ثقة وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد وقد قال الشافعي من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة ومقاتل بن سليمان وإن لم يكن ممن يحتج به في الحديث بخلاف مقاتل بن حيان فإنه ثقة لكن لا ريب في علمه بالتفسير وغيره واطلاعه كما أن أبا حنيفة وإن كان الناس خالفوه في أشياءوأنكروها عليه فلا يستريب أحد في فقهه وفههمه وعلمه وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه وهي كذب عليه قطعا مثل مسألة الخنزير البري ونحوها وما يبعد أن يكون النقل عن مقاتل من هذا الباب وهذا الإمامي نقل النقل المذكور عن داود الطائي وهذا جهل منه أو من نقله هو عنه فإن داود الطائي كان رجلا صالحا زاهدا عابدافقيها من أهل الكوفة في زمن أبي حنيفة والثوري وشريك وابن أبي ليلى وكان قد تفقه ثم انقطع للعبادة وأخباره وسيرته مشهورة عند العلماء ولم يقل الرجل شيئا من هذا الباطل وإنما القائل لذلك داود الجواربي فكأنه اشتبه عليه أو على شيوخه الجواربي بالطائي إن لم يكن الغلط في النسخة التي أحضرت إلى وداود الجواربي أظنه

 

 

كان من أهل البصرة متأخرا عن هذا وقصته معروفة قال الأشعري وفي الأمة قوم ينتحلون النسك يزعمون أنه جائز على الله تعالى الحلول في الأجسام وإذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا لا ندري لعلع ربما هو ومنهم من يقول إنه يرى الله في الدنيا على قدر الأعمال فمن كان عمله أحسن رأى معبوده أحسن ومنهم من يجوز على الله تعالى المعانقة والملامسة والمجالسة في الدنيا ومنهم من يزعم أن الله تعالى ذو أعضاء وجوارح وأبعاض لحم ودم على صورة الإنسان له ما للإنسان من الجوارح وكان من الصوفية رجل يعرف بأبي شعيب يزعم أن الله يسر ويفرح بطاعة أوليائه ويغتم ويحزن إذا عصوه وفي النساك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى منزلة تزول عنهم العبادات وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم من الزنا وغيره مباحات لهم وفيهم من يزعم أن العبادة بتلغ بهم إلى أن يروا الله ويأكلوا من ثمار الجنة ويعانقوا الحور العين في الدنيا ويحاربوا الشياطين ومنهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يكونوا أفضل من النبيين والملائكة المقربين قلت هذه المقالات التي حكاها الأشعري وذكروا أعظم منها موجودة في الناس قبل هذا الزمان وفي هذا الزمان منهم من يقول بحلوله في الصور الجميلة ويقول إنه بمشاهدة الأمرد يشاهد معبوده أو صفات معبوده أو مظاهر جماله ومن هؤلاء من يسجد للأمرد ثم من هؤلاء من يقول بالحلول والإتحاد العام لكنه يتعبد بمظاهر الجمال لما في ذلك من اللذة له فيتخذ إلهه هواه وهذا موجود في كثير من المنتسبين إلى الفقر والتصوف ومنهم من يقول إنه يرى الله مطلقا ولا يعين الصورة الجميلة بل يقولون إنهم يرونه في صور مختلفة ومنهم من يقول إن المواضع المخضرة خطا عليها وإنما اخضرت من وطئه عليها وفي

 

ذلك حكايات متعددة يطول وصفها وأما القول بالإباحة وحل المحرمات أو بعضها للكاملين في العلم والعبادة فهذا أكثر من الأول فإن هذا قول أئمة الباطنية القرامطة الإسماعيلية وغير الإسماعيلية وكثير من الفلاسفة ولهذا يضرب بهم المثل فيقال فلان يستحل دمى كاستحال الفلاسفة محظورات الشرائع وقول كثير ممن ينتسب إلى التصوف والكلام وكذلك من يفضل نفسه أو متبوعه على الأنبياء موجود كثير في الباطنية والفلاسفة وغلاة المتصوفة وغيرهم وبسط الكلام على هذا له موضع آخر ففي الجملة هذه مقالات منكرة باتفاق علماء السنة والجماعة وهي وأشنع منها موجودة في الشيعة وكثير من النساك يظنون أنهم يرون الله في الدنيا بأعينهم وسبب ذلك أنه يحصل لأحدهم في قلبه بسبب ذكر الله تعالى وعبادته من الأنوار ما يغيب به عن حسه الظاهر حتى يظن أن ذلك هو شيء يراه بعينه الظاهرة وإنما هو موجود في قلبه ومن هؤلاء من تخاطبه تلك الصورة التي يراها خطاب الربوبية

 

ويخاطبها أيضا بذلك ويظن أن ذلك كله موجود في الخارج عنه وإنما هو موجود في نفسه كما يحصل للنائم إذا رأى ربه في صورة بحسب حاله فهذه الأمور تقع كثيرا في زماننا وقبله ويقع الغلط منهم حيث يظنون أن ذلك موجود في الخارج وكثير من هؤلاء يتمثل له الشيطان ويرى نورا أو عرشا أو نورا على العرش ويقول أنا ربك ومنهم من يقول أنا نبيك وهذا قد وقع لغير واحد ومن هؤلاء من تخاطبه الهواتف بخطاب على لسان الإلهية أو غير ذلك ويكون المخاطب له جنيا كما قد وقع لغير واحد لكن بسط الكلام على ما يرى ويسمع وما هو في النفس والخارج وتمييز حقه من باطله ليس هذا موضعه وقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع وكثير من الجهال أهل الحال وغيرهم يقولون إنهم يرون الله عيانا في الدنيا وأنه يخطوا خطوات وقد يقولون مع ذلك من المقالات ما هو أعظم من الكفر كقول بعضهم كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان لا أريده وقول بعضهم إن شيخهم هو شيخ الله ورسوله وأمثال ذلك من مقالات الغلاة في الشيوخ لكن يوجد في جنس المنتسبين إلى الشيعة من الإسماعيلية والغلاة من النصيرية وغيرهم ما هو أعظم غلوا وكفرا من هذه المقالاات فلا يكاد يوجد من المنتسبين إلى السنة مقالة خبيثة إلا وفي جنس الشيعة ما هو أخبث منها وأهل الوحدة القائلون بوحدة الوجود كأصحاب ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض يدعون أنهم يشاهدون الله دائما فإن عندهم مشاهدته في الدنيا والآخرة على وجه واحد إذ كانت ذاته الوجود المطلق الساري في الكائنات فهذه المقالات وأمثالها موجودة في الناس ولكن المقالات الموجودة في الشيعة أشنع وأقبح كما هو موجود في الغالية من النصيرية وأمثالهم ولهذا كان النصيرية يعظمون القائلين بوحدة الوجود وكان التلمساني شيخ القائلين بالوحدة الذي شرح مواقف

 

النفرى وصنف غير ذلك قد ذهب إلى النصيرية وصنف لهم كتابا وهم يعظمونه جدا وحدثني نقيب الأشراف عنه أنه قال قلت له أنت نصيري قال نصير جزء مني والنصيرية يعظمونه غاية التعظيم وأما ما ذكره هذا الإمامي من رمده وعيادة الملائكة له وبكائه على طوفان نوح عليه السلام فهذا قد رأيناهم ينقلونه عن بعض اليهود ولم أحد هذا منقولا عمن أعرفه من المسلمين فإن كان هذا قد قاله بعض أهل القبلة فلا ينكر وقوع مثل ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقدة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه لكن مشابهة الرافضة لليهود ووجود مثل هذا فيهم أظهر من وجوده في المنتسبين إلى السنة والجماعة وأما قوله إنه يفضل عنه العرش من كل جانب أربع أصابع فهذا لا أعرف قائلا له ولا ناقلا ولكن روى في حديث عبدالله بن خليقة أنه ما يفضل من العرش أربع أصابع يروى بالنفى ويروى بالإثبات والحديث قد طعن فيه غير واحد من المحدثين كالإسماعيلي وابن الجوزي ومن الناس من ذكر له شواهد وقواه ولفظ النفى لا يرد عليه شيء فإن مثل هذا اللفظ يرد لعموم النفى كقول النبي صلى الله عليه وسلم ما في السماء موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو قاعد أو راكع أو ساجد أي ما فيها موضع

 

ومنه قول العرب ما في السماء قدر كف سحابا وذلك لأن الكف تقدر بها الممسوحات كما يقدر بالذراع وأصغر الممسوحات التي يقدرها الإنسان من أعضائه كفه فصار هذا مثلا لأقل شيء فإذا قيل إنه ما يفضل من العرش أربع أصابع كان المعنى ما يفضل منه شيء والمقصود هنا بيان أن الله أعظم وأكبر من العرش ومن المعلوم أن الحديث إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله فليس علينا منه وإن كان قد قاله فلم يجمع بين النفى والإثبات وإن كان قاله بالنفى لم يكن قاله بالإثبات والذين قالوه بالإثبات ذكروا فيه ما يناسب أصولهم كما قد بسط ي غير هذا الموضع فهذا وأمثاله سواء كان حقا أو باطلا لا يقدح في مذهب أهل السنة ولا يضرهم لأنه بتقدير أن يكون باطلا ليس هو قول جماعتهم بل غايته أنه قد قالته طائفة ورواه بعض الناس وما كان باطلا رده جمهور أهل السنة كما يردون غير ذلك فإن كثيرا من المسلمين يقول كثيرا من الباطل فما يكون هذا ضار لدين المسلمين وفي أقوال الإمامية من المنكرات ما يعرف مثل هذا فيه لو كان قد قاله بعض أهل السنة.

*

فصل قال الإمامي وذهب بعضهم إلى أن الله ينزل كل ليلة جمعة بشكل أمرد راكبا على حمار حتى أن بعضهم ببغداد وضع على سطح داره معلفا يضع كل ليلة جمعة فيه شعيرا وتبنا لتجويز أن ينزل الله تعالى على حماره على ذلك السطح فيشتغل الحمار بالأكل ويشتغل الرب بالنداء هل من تائب هل من مستغفر تعالى الله عن مثل هذه العقائد الردية في حقه تعالى وحكى عن بعض المنقطعين المباركين من شيوخ الحشوية أنه اجتاز عليه في بعض الأيام نفاط ومعه أمرد حسن الصورة قطط

 

الشعر على الصفات التي يصفون ربهم بها فألح الشيخ بالنظر إليه وكرره وأكثر تصويبه إليه فتوهم فيه النفاط فجاء إليه ليلا وقال أيها الشيخ رأيتك تلح بالنظر إلى هذا الغلام وقد أتيتك به فإن كان لك فيه نية فأنت الحاكم فحرد الشيخ عليه وقال إنما كررت النظر إليه لأن مذهبي أن الله ينزل على صورته فتوهمت أنه الله تعالى فقال له النفاط ما أنا عليه من النفاطة أجود مما أنت عليه من الزهد مع هذه المقالة.

*فيقال هذه الحكاية وأمثالها دائرة بين أمرين إما أن تكون كذبا محضا ممن افتراها على بعض شيوخ أهل بغداد وإما أن تكون قد وقعت لجاهل مغمور ليس بصاحب قول ولا مذهب وأدنى العامة أعقل منه وأفقه وعلى التقديرين فلا يضر ذلك أهل السنة شيئا لأنه من المعلوم لكل ذي علم أنه ليس من العلماء المعروفين بالسنة من يقول مثل هذا الهذيان الذي لا ينطلي على صبي من الصبيان ومن المعلوم أن العجائب المحكية عن شيوخ الرافضة أكثر وأعظم من هذا مع أنها صحيحة واقعة وأما هذه الحكاية فحدثني طائفة من ثقات أهل بغداد أنها كذب محض عليهم وضعها إما هذا المصنف أو من حكاها له للشناعة وهذا هو الأقرب فإن أهل بغداد لهم من المعرفة والتمييز والذهن ما لا يروج عليهم معه مثل هذا ومما يبين كذب ذلك عليهم أن هذا الحديث الذي ذكره لم يروه أحد لا بإسناد صحيح ولا ضغيف ولا روى أحد من أهل الحديث أن الله تعالى ينزل ليلة الجمعة ولا أنه ينزل ليلة الجمعة إلى الأرض ولا أنه ينزل في شكل أمرد بل لا يوجد في الآثار شيء من هذا الهذيان بل ولا في شيء

 

من الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله ينزل إلى الأرض وكل حديث روى فيه هذا فإنه موضوع كذب مثل حديث الجمل الأورق وأن الله ينزل عشية عرفة فيعانق الركبان ويصافح المشاة وحديث آخر أنه رأى ربه في الطواف وحديث آخر أنه رأى ربه في بطحاء مكة وأمثال ذلك فإن هذه كلها أحاديث مكذوبة باتفاق أهل المعرفة بالحديث والذين وضعوها منهم طائفة وضعوها على أهل الحديث ليقال إنهم ينقلون مثل هذا كما وضعوا مثل حديث عرق الخيل عليهم وطائفة من الجهال والضلال وضعوا مثل هذا الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم كما وضعت الروافض ما هو أعظم وأكثر من هذا الكذب ولو لم يكن إلا ما ذكره هذا الإمامي في مصنفه هذا من الأحاديث فإن فيها من الكذب الذي أجمع أهل العلم بالحديث على كذبه ومن الكذب الذي لا يخفى أنه كذب إلا على مفرط في الجهل ما قد ذكره في منهاج الندامة وقد قدمنا القول بأن أهل السنة متفقون على أن الله لا يراه أحد بعينه في الدنيا لا نبي ولا غير نبي ولم يتنازع الناس في ذلك إلا في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة مع أن أحاديث المعراج المعروفة ليس في شيء منها أنه رآه أصلا وإنما روى ذلك بإسناد ضعيف موضوع من طريق أبي عبيدة ذكره الخلال والقاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل وأهل العلم بالحديث متفقون على أنه حديث موضوع كذب وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت

 

يا رسول الله هل رأيت ربك قال نور أنى أراه ولم يثبت أن أحدا من الصحابة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرؤية إلا ما في الحديث وما يرويه بعض العامة أن أبا بكر سأله فقال رأيته وأن عائشة سألته فقال لم أره كذب باتفاق أهل العلم لم يروه أحد من أهل العلم بإسناد صحيح ولا ضعيف ولهذا اعتمد الإمام أحمد على قول أبي ذر في الرؤية وكذلك عثمان بن سعيد الدارمي وأما أحاديث النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة فهي الأحاديث المعروفة الثابتة عند أهل العلم بالحديث وكذلك حديث دنوه عشية عرفة رواه مسلم في صحيحه وأما النزول ليلة النصف من شعبان ففيه حديث اختلف في إسناده ثم إن جمهور أهل السنة يقولون إنه ينزل ولا يخلو منه العرش كما نقل مثل ذلك عن إسحان بن راهويه وحماد بن زيد وغيرهما ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدد يقول وهم متفقون على أن الله ليس كمثله شيء وأنه لا يعلم كيف ينزل ولا تمثل صفاته بصفات خلقه وقد تنازعوا في النزول هل هو صفة فعل منفصل عن الرب في المخلوقات أو فعل من يقوم به على قولين معروفين لأهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم من أهل الحديث والتصوف وكذلك تنازعهم في الإستواء على العرش هل هو فعل منفصل عنه يفعله بالعرش كتقريبه إليه أو فعل يقوم بذاته على قولين والأول قول ابن كلاب والأشعري والقاضي أبي يعلى وأبي الحسن التميمي وأهل بيته وأبي سليمان الخطابي وأبي بكر البيهقي وابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهم ممن يقول إنه لا يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته والثاني قول أئمة الحديث وجمهورهم كابن المبارك وحماد بن زيد والأوزاعي والبخاري وحرب الكرماني وابن خزيمة ويحيى بن عمار السجستاني وعثمان بن سعيد الدارمي وابن حامد وأبي بكر عبدالعزيز وأبي عبدالله بن مندة وأبي إسماعيل الأنصاري

 

وغيرهم وليس هذا موضعا لبسط الكلام في هذه المسائل وإنما المقصود التنبيه على أن ما ذكره هذا مما يعلم العقلاء أنه لا يقوله أحد من علماء أهل السنة ولا يعرف أنه قاله لا جاهل ولا عالم بل الكذب عليه ظاهر.

*

فصل قال الرافضي المصنف وقالت الكرامية إن الله في جهة فوق ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة فهو محدث ومحتاج إلى تلك الجهة.

*فيقال له...

أولا: لا الكرامية ولا غيرهم يقولون إنه في جهة موجودة تحيط به أو يحتاج إليها بل كلهم متفقون على أن الله تعالى غني عن كل ما سواه سمى جهة أو لم يسم نعم قد يقولون هو في جهة ويعنون بذلك أنه فوق العالم فهذا مذهب الكرامية وغيرهم وهو أيضا مذهب أئمة الشيعة وقدمائهم كما تقدم ذكره وأنت لم تذكر حجة على إبطاله فمن شنع على الناس بمذاهبهم فلا بد أن يشير إلى إبطاله وجمهور الخلق على أن الله فوق العالم وإن كان أحدهم لا يلفظ بلفظ الجهة فهم يعتقدون بقلوبهم ويقولون بألسنتهم أن ربهم فوق ويقولون إن هذا أمر فطروا عليه وجبلوا عليه كما قال الشيخ أبو جعفر الهمذاني لبعض من أخذ ينكر الإستواء ويقولون لو استوى على العرش لقامت به الحوادث فقال أبو جعفر ما معناه إن الإستواء علم بالسمع ولو لم يرد به لم نعرفه وأنت قد تتأوله فدعنا من هذا وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا ألله إلا وقبل أن ينطق بلسانه يجد في قلبه معنى يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فهل عندك من حيلة في دفع هذه الضرورة عن قلوبنا فلطم المتكلم رأسه وقال حيرني الهمداني حيرني الهمداني حيرني الهمداني ومضمون كلامه أن دليلك على النفى لو صح فهو نظري ونحن نجد عندنا علما ضروريا بهذا فنحن مضطرون إلى هذا العلم وإلى

 

هذا القصد فهل عندك من حيلة في دفع هذا العلم الضروري والقصد الضروري الذي يلزمنا لزوما لا يمكننا دفعه عن أنفسنا ثم بعد ذلك قرر نقيضه وأما دفع الضروريات بالنظريات فغير ممكن لأن النظريات غايتها أن يحتج عليها بمقدمات ضرورية فالضروريات أصل النظريات فلو قدح في الضروريات بالنظريات لكان ذلك قدحا في أصل النظريات فتبطل الضروريات والنظريات فيلزمنا بطلان قدحه على كل تقدير إذ كان قدح الفرع في أصله يقتضى فساده في نفسه وإذا فسد بطل قدحه فيكون قدحه باطلا على تقدير صحته وعلى تقدير فساده فإن صحته مستلزمة لصحة أصله فإذا صح كان أصله صحيحا وفساده لا يستلزم فساد أصله إذ قد يكون الفساد منه ولو قدح في أصله للزم فساده وإذا كان فاسدا لم يقبل قدحه فلا يقبل قدحه بحال وهذا لأن الدليل النظري الموقوف على مقدمات وعلى تأليفها قد يكون فساده من فساد هذه المقدمة ومن فساد الأخرى ومن فساد النظم فلا يلزم إذا كان باطلا أن يبطل كل واحد من المقدمات بخلاف المقدمات فإنه متى كان واحد منها باطلا بطل الدليل

 

وأيضا فإن هؤلاء قرروا ذلك بأدلة عقلية كقولهم كل موجودين إما متباينان وإما متداخلان وقالوا إن العلم بذلك ضروري وقالوا إثبات موجود لا يشار إليه مكابرة للحس والعقل وأيضا فمن المعلوم أن القرآن نطق بالعلو في مواضع كثيرة جدا حتى قد قيل إنها نحو ثلثمائة موضع والسنن متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك وكلام السلف المنقول عنهم بالتواتر يقتضي اتفاقهم على ذلك وأنه لم يكن فيهم من ينكره ومن يريد التشنيع على الناس ودفع هذه الأدلة الشرعية والعقلية لا بد أن يذكر حجة ولنفرض أنه لا يناظره إلا أئمة أصحابه وهو لم يذكر دليلا إلا قوله ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة فهو محدث ومحتاج إلى تلك الجهة فيقال له لم يعلموا ذلك ولم تذكر ما به يعلم ذلك فإن قولك ما هو محتاج إلى تلك الجهة إنما يستقيم إذا كانت الجهة أمرا وجوديا وكانت لازمة له لا يستغنى عنها فلا ريب أن من قال إن الباري لا يقوم

 

إلا بمحل يحل فيه لا يستغنى عن ذلك وهي مستغنية عنه فقد جعله محتاجا إلى غيره وهذا لم يقله أحد أيضا لم نعلم أحدا قال إنه محتاج إلى شيء من مخلوقاته فضلا عن أن يكون محتاجا إلى غير مخلوقاته ولا يقول أحد إن الله محتاج إلى العرش مع أنه خالق العرش والمخلوق مفتقر إلى الخالق لا يفتقر الخالق إلى المخلوق وبقدرته قام العرش وسائر المخلوقات وهو العنى عن العرش وكل ما سواه فقير إليه فمن فهم عن الكرامية وغيرهم من طوائف الإثبات أنهم يقولون إن الله محتاج إلى العرش فقد افترى عليهم كيف وهم يقولون إنه كان موجودا قبل العرش فإذا كان موجودا قائما بنفسه قبل العرش لا يكون إلا مستغنيا عن العرش وإذا كان الله فوق العرش لم يجب أن يكون محتاجا إليه فإن الله قد خلق العالم بعضه فوق بعض ولم يجعل عاليه محتاجا إلى سافله فالهواء فوق الأرض وليس محتاجا إليها وكذلك السحاب فوقها وليس محتاجا إليها وكذلك السماوات فوق السحاب والهواء والأرض وليس محتاجا إلى ذلك فكيف يكون العلي الأعلى خالق كل شيء محتاجا إلى مخلوقاته لكونه فوقها عاليا عليها ونحن نعلم أن الله خالق كل شيء وأنه لا حول ولا قوة إلا به وأن القوة التي في العرش وفي حملة العرش هو خالقها بل نقول إنه خالق أفعال الملائكة الحاملين للعرش فإذا كان هو الخالق لهذا كله ولا حول ولا قوة إلا به امتنع أن يكون محتاجا إلى غيره ولو احتج عليه سلفه مثل يونس بن عبدالرحمن القمى وأمثاله ممن يقول بأن العرش يحمله بمثل هذا لم يكن له عليهم حجة فإنهم يقولون لم نقل إنه محتاج إلى غيره بل ما زال غنيا عن العرش وغيره ولكن قلنا إنه على كل شيء قدير فإذا جعلناه قادرا على هذا كان ذلك وصفا له بكمال الإقتدار لا بالحاجة إلى الأغيار

 

وقد قدمنا فيما مضى أن لفظ الجهة يراد به أمر موجود وأمر معدوم فمن قال إنه فوق العالم كله لم يقل إنه في جهة موجودة إلا أن يراد بالجهة العرش ويراد بكونه فيها أنه عليها كما قد قيل في قوله إنه في السماء أي على السماء وعلى هذا التقدير فإذا كان فوق الموجودات كلها وهو غنى عنها لم يكن عنده جهة وجودية يكن فيها فضلا عن أن يحتاج إليها وإن أريد بالجهة ما فوق العالم فذاك ليس بشيء ولا هو أمر موجود حتى يقال إنه محتاج إليه أو غير محتاج إليه وهؤلاء أخذوا لفظ الجهة بالإشتراك وتوهموا وأوهموا أنه إذا كان في جهة كان في كل شيء غيره كما يكون الإنسان في بيته وكما يكون الشمس والقمر والكواكب في السماء ثم رتبوا على ذلك أنه يكون محتاجا إلى غيره والله تعالى غنى عن كل ما سواه وهذه مقدمات كلها باطلة وكذلك قوله كل ما هو في جهة فهو محدث لم يذكر عليه دليلا وغايته ما تقدم من أن الله لو كان في جهة لكان جسما وكل جسممحدث لأن الجسم لا يخلو من الحوادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث وكل هذه المقدمات فيها نزاع فمن الناس من يقول قد يكون في الجهة ما ليس بجسم فإذا قيل له هذا خلاف المعقول قال هذا أقرب إلى العقل من قول من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن قبل العقل ذاك قبل هذا بطريق الأولى وإن رد هذا رد ذاك بطريق الأولى وإذا رد ذاك تعين أن يكون في الجهة فثبت أنه في الجهة على التقديرين ومن الناس من لا يسلم أن كل جسم محدث كسلفه من الشيعة والكرامية وغيرهم والكلام معهم وهؤلاء لا يسلمون له أن الجسم لا يخلو من الحوادث بل يجوز عندهم خلو الجسم عن الحركة وكل حادث كما يجوز منازعوهم خلو الصانع من الفعل إلى أن فعل وكثير من أهل الحديث والكلام والفلسفة ينازعهم في قولهم إن ما لا يخلو عن الحادث فهو حادث

 

 

وكل مقام من هذه المقامات تعجز شيوخ الرافضة الموافقين للمعتزلة عن تقرير قولهم فيه على إخوانهم القدماء من الرافضة فضلا عن غيرهم من الطوائف تم الجزء الثاني بحمد الله ويليه الجزء الثالث إن شاء الله وأوله..

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اسم الكتاب : منهاج السنة النبوية

///

الجزء الثالث///

*فصل قال الرافضي وذهب آخرون إلى أن الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العباد.

* فيقال له هذه المسألة من دقيق الكلام وليست من خصائص أهل السنة ولا القائلون بخلافة الخلفاء متفقون عليها بل بعض القدرية يقول بذلك وأما أهل السنة المثبتون للقدر فليس فيهم من يقول بذلك وإنما يقوله من شيوخ القدرية الذين هم شيوخ هؤلاء الإمامية المتأخرين في مسائل التوحيد والعدل فإن جميع ما يذكره هؤلاء الإمامية المتأخرون في مسائل التوحيد والعدل كابن النعمان والموسوي الملقب بالمرتضى وأبي جعفر الطوسي وغيرهم هو مأخوذ من كتب المعتزلة بل كثير منه منقول نقل المسطرة وبعضه قد تصرفوا فيه وكذلك ما يذكرونه من تفسير القرآن في آيات الصفات والقدر ونحو ذلك هو منقول من تفاسير المعتزلة كالأصم والجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمذاني والرماني وأبي مسلم الأصبهاني وغيرهم لا ينقل عن قدماء الإمامية من هذا حرف واحد لا في الأصول العقلية ولا في تفسير القرآن وقدماؤهم كانوا أكثر اجتماعا بالائمة من متأخريهم يجتمعون بجعفر الصادق وغيره فإن كان هذا هو الحق فقدماؤهم كلهم ضلال وإن كان ضلالا فمتأخروهم هم الضلال

فصل قال الرافضي وذهب الأكثر منهم إلى أن الله عز وجل يفعل القبائح وأن جميع أنواع المعاصي والكفر وأنواع الفساد واقعة بقضاء الله وقدره وأن العبد لا تأثير له في ذلك وأنه لا غرض لله في أفعاله وأنه لا يفعل لمصلحة العباد شيئا

 

وأنه تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة وهذا يستلزم أشياء شنيعة فيقال الكلام على هذا من وجوه أحدها أنه قد تقدم غير مرة أن مسائل القدر والتعديل والتجوير ليست ملزومة لمسائل الإمامة ولا لازمة فإن كثيرا من الناس يقر بإمامة الخلافاء الثلاثة ويقول ما قاله في القدر وكثير من الناس بالعكس وليس أحد من الناس مرتبطا بالآخر أصلا وقد تقدم النقل عن الإمامية هل أفعال العباد خلق الله تعالى على قولين وكذلك الزيدية قال الأشعرى واختلفت الزيدية في خلق الأفعال وهم فرقتان فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن أفعال العباد مخلوقة لله خلقها وأبدعها واخترعها بعد أن لم تكن فهي محدثة له مخترعة والفرقة الثانية منهم يزعمون أنها غير مخلوقة لله ولا محدثة وأنها كسب للعباد أحدثوها واخترعوها وابتدعوها وفعلوها قلت بل غالب الشيعة الأولى كانوا مثبتين للقدر وإنما ظهر إنكاره في متأخريهم كإنكار الصفات فإن غالب متقدميهم كانوا يقرون بإثبات الصفات والمنقول عن أهل البيت في إثبات الصفات والقدر لا يكاد يحصى وأما المقرون بإمامة الخلفاء الثلاثة مع كونهم قدرية فكثيرون في المعتزلة وغير المعتزلة فعامة القدرية تقر بإمامة الخلفاء ولا يعرف أحد من متقدمي القدرية كان ينكر خلافة الخلفاء وإنما ظهر هذا لما صار بعض الناس رافضيا قدريا جهميا فجمع أصول البدع كصاحب هذا الكتاب وأمثالة والزيدية المقرون بخلافة الخلفاء الثلاثة هم من الشيعة وفيهم قدرية وغير قدرية والزيدية خير من الإمامية وأشبههم بالإمامية هم

 

الجارودية أتباع أبي الجارود الذين يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي بالوصف لا بالتسمية فكان هو الإمام من بعده وان الناس ضلوا وكفروا بتركهم الاقتداء به بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الحسن هو الإمام ثم الحسين ثم من هؤلاء من يقول أن عليا نص على إمامة الحسن والحسن نص على إمامة الحسين ثم هو شورى في ولدهما فمن خرج منهم يدعو إلى سبيل ربه وكان عالما فاضلا فهو الإمام والفرقة الثانية من الزيدية السليمانية أصحاب سليمان بن جرير يزعمون أن الإمامة شورى وأنها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين وأنها قد تصلح في المفضول وإن كان الفاضل أفضل في كل حال ويثبتون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر وقد قيل إنها كانت خطأ لا يفسق صاحبها لأجل التأويل والثالثة البترية أصحاب كثير النواء قيل سموا بترية لأن كثيرا كان يلقب بالأبتر يزعمون أن عليا أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاهم بالإمامة وأن بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ لأن عليا ترك ذلك لهما ويقفون في عثمان وقتله ولا يقدمون عليه بإكفار كما يحكى عن السليمانية وهذه الطائفة أمثل الشيعة ويسمون

 

أيضا الصالحية لأنهم ينسبون إلى الحسن بن صالح بن حي الفقيه وهؤلاء الزيدية فيهم من هو في القدر على قول أهل السنة والجماعة وفيهم من هو على قول القدرية الوجه الثاني أن يقال نقله عن الأكثر أن العبد لا تأثير له في الكفر والمعاصي نقل باطل بل جمهور أهل السنة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة وأن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن الله يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء بالسحاب وينب النبات بالماء ولا يقولون إن القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون أن لها تأثيرا لفظا ومعنى حتى جاء لفظ الأثر في مثل قوله تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم وإن كان هناك التأثير هناك أعم منه في الآية لكن يقولون هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها والله تعالى خالق السبب والمسبب ومع أنه خالق السبب فلا بد له من سبب آخر يشاركه ولابد له من معارض يمانعه فلا يتم أثره مع خلق الله له إلا بأن يخلق الله السبب الآخر ويزيل الموانع ولكن هذا القول الذي حكاه هو قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى ولا طبائع ويقولون إن الله فعل عندها لا بها ويقولون إن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل وأبلغ من ذلك قول الأشعري إن الله فاعل فعل العبد وإن عمل العبد ليس فعلا للعبد بل كسبا له وإنما هو فعل الله فقط وجمهور

 

الناس من أهل السنة من جميع الطوائف على خلاف ذلك وعلى أن العبد فاعل لفعله حقيقة وأما ما نقله من نفي الغرض الذي هو الحكمة وكون الله لا يفعل لمصلحة العباد فقد قدمنا أن هذا هو قول قليل منهم كالأشعري وطائفة توافقه في موضع ويتناقضون في قولهم في موضع آخر وجمهور أهل السنة يثبتون الحكمة في أفعال الله تعالى وأنه يفعل لنفع عباده ومصلحتهم ولكن لا يقولون بما تقوله المعتزلة ومن وافقهم بأن ما حسن منه حسن من خلقه وما قبح من خلقه قبح منه فلا هذا ولا هذا وأما لفظ الغرض فتطلقه المعتزلة وبعض المنتسبين لأهل السنة ويقولون إنه يفعل لغرض أي حكمة وكثير من أهل السنة يقولون يفعل لحكمة ولا يطلقون لفظ الغرض وأما قوله وأنه تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة فهذا قول طائفة منهم وهم الذين يوافقون القدرية فيجعلون المشيئة والإرادة والمحبة والرضا نوعا واحدا ويجعلون المحبة والرضا والغضب بمعنى الإرادة كما يقول ذلك الأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه وطائفة ممن يوافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأما جمهور أهل السنة من جميع الطوائف وكثير من أصحاب الأشعري وغيرهم فيفرقون بين الإرادة وبين المحبة والرضا فيقولون إنه وإن كان يريد المعاصي فهو لا يحبها ولا يرضاها بل يبغضها ويسخطها وينهى عنها وهؤلاء يفرقون بين مشيئة الله وبين محبته وهذا قول السلف قاطبة وقد ذكر أبو المعالي الجويني أن هذا قول القدماء من أهل السنة وأن الأشعري خالفهم فجعل الإرادة هي المحبة فيقولون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ماشاء الله فقد خلقه وأما المحبة فهي متعلقة بأمره فما أمر به فهو يحبه ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال

 

والله لأفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث إذا لم يفعله وإن كان واجبا أو مستحبا ولو قال إن أحب الله حنث إذا كان واجبا أو مستحبا والمحققون من هؤلاء يقولون الإرادة في كتاب الله تعالى نوعان إرادة خلقية قدرية كونية وإرادة دينية أمرية شرعية فالإرادة الشرعية الدينية هي المتضمنة للمحبة والرضا والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث كقول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهذا كقوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء (سورة الأنعام). وقوله عن نوح ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون (سورة هود). فهذه الإرادة تعلقت بالإضلال والإغواء وهذه هي المشيئة فإن ما شاء الله كان ومنها قوله ولكن الله يفعل ما يريد (سورة البقرة). أي ما شاء خلقه لا ما يأمر به وقد يريد بالإرادة المحبة كما يقال لمن يفعل الفاحشة هذا فعل ما

 

لا يريده الله تعالى وقد يريد المشيئة كما يقولون لما لم يكن هذا لم يرده الله وأما الدينية فقول الله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (سورة البقرة). وقوله يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا سورةالنساء وقوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم (سورة المائدة). وقوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (سورة الأحزاب). فهذه الإرادة في هذه الآيات ليست هي التي يجب مرادها كما في قوله فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام (سورة الأنعام). وقول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن بل هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح هذا يفعل ما لا يريده الله أي لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به وهذا التقسيم في الإرادة قد ذكره غير واحد من أهل السنة وذكروا أن المحبة والرضا ليست الإرادة الشاملة لكل المخلوقات كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم كأبي بكر عبدالعزيز وغيره وإن كان طائفة أخرى يجعلون المحبة والرضا هي الإرادة والأول أصح وأيضا فالفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل وبين إرادته من غيره أن يفعل والأمر لا يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى فالله تعالى إذا أمر العباد بأمر فقد يريد إعانة المأمور على ما أمره به وقد لا يريد ذلك وإن كان مريدا منه فعله وتحقيق هذا مما يبين فصل النزاع في أمر الله هل هو مستلزم لإرادته أم لا فلما زعمت المعتزلة أنه لا بد أن يشاء ما يأمر به فيريده وزعموا أن ما نهى عنه ما شاء وجوده ولا أراده قابلهم كثير من متأخري المثبتين للقدر ممن اتبع أبا الحسن من المصنفين في أصول الفقه وغيرهم من أصحاب

 

مالك والشافعي وأحمد فقالوا إن الله يأمر بما لا يريده كالكفر والفسوق والعصيان واحتجوا على ذلك بما أنه لو حلف على واجب ليفعلنه وقال إن شاء الله فإنه لا يحنث وبأن الله أمر إبراهيم بذبح ولده ولم يرده منه بل نسخ ذلك قبل فعله وكذلك الخمسون صلاة ليلة المعراج وحقيقته أنه يأمر بما لا يشاء أن يخلقه لكن لا يأمر إلا بما يحبه ويرضاه فيريد من العبد أن يفعله بمعنى أنه يحب ذلك ولا يريد هو أن يخلقه فيعين العبد عليه وهذا كالكفر والفسوق والعصيان ولو حلف الحالف ليفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث وإن كان واجبا ولو قال إن أحب الله حنث كما لو قال إن أمر الله ولو قال لأفعلنه إذا أراد الله فقد يريد بالإرادة المحبة كما يقولون لمن يفعل القبائح يفعل ما لا يريده الله وقد يريد المشيئة كما يقولون لما لم يكن هذا لم يرده الله تعالى فإن أراد هذا حنث وأما أمر إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذبح ابنه فإنه كان الذي يحبه ويريده منه في نفس الأمر أن قصد إبراهيم الامتثال وعزم على الطاعة فأظهر الأمر امتحانا له وابتلاء فلما أسلما وتله للجبين ناداه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين وكذلك الأمر بالخمسين.

*

فصل قال المصنف الرافضي وهذا يستلزم أشياء شنيعة منها أن يكون الله أظلم من كل ظالم لأنه يعاقب الكافر على كفره وهو قدره عليه ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان فكما أنه يلزم الظلم لو عذبه على لونه وطوله وقصره لأنه لا قدرة له فيها كذا يكون ظالما لو عذبه على المعصية التي فعلها فيه.

*فيقال الظلم قد تقدم أن للجمهور المثبتين للقدر في تفسيره قولين أحدهما أن الظلم ممتنع لذاته غير مقدور كما يصرح بذلك الأشعري والقاضي أبو بكر وأبو المعالي والقاضي أبو يعلى وابن الزاغوني وغير

 

هؤلاء يقولون إنه يمتنع أن يوصف بالقدرة على الكذب والظلم وغيرهما من أنواع القبائح ولا يصح وصفه بشيء من ذلك قالوا والدلالة على استحالة وقوع الظلم والقبيح منه أن الظلم والقبيح ما شرع الله وجوب ذم فاعله وذم الفاعل لما ليس له فعله ولن يكون كذلك حتى يكون متصرفا فيما غيره أملك به وبالتصرف فيه منه فوجب استحالة ذلك في حقه من حيث إنه لم يكن آمرا لنا بذمه ولا كان ممن يجوز دخول أفعاله تحت تكليف من نفسه لنفسه ولا يكون فعله تصرفا في شيء غيره أملك به فثبت بذلك استحالة تصوره في حقه وحقيقة قول هؤلاء أن الذم إنما يكون لمن تصرف في ملك غيره ومن عصى الآمر الذي فوقه والله سبحانه وتعالى يمتنع أن يأمره أحد ويمتنع أن يتصرف في ملك غيره فإن له كل شيء وهذا القول يروى عن إياس بن معاوية قال ما خاصمت بعقلي كله إلا القدرية قلت لهم أخبروني ما الظلم قالوا أن يتصرف الإنسان في ما ليس له قلت فلله كل شيء وهم لا يسلمون أنه لو عذبه بسبب لونه وطوله وقصره كان ظالما حتى يحتج عليهم بهذا القياس بل يجوزون التعذيب لا بجرم سابق ولا لغرض لاحق وهذا المشنع لم يذكر دليلا على بطلانه فلم يذكر دليلا على بطلان قولهم والقول الثاني أن الظلم مقدور والله تعالى منزه عنه وهذا قول الجمهور من المثبتين للقدر ونفاته وهو قول كثير من النظار المثبتة للقدر كالكرامية وغيرهم وكثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو قول القاضي أبي خازم بن القاضي أبي يعلى وغيره وهذا كتعذيب الإنسان بذنب غيره كما قال تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (سورة طـــه).

 

وهؤلاء يقولون الفرق بين تعذيب الإنسان على فعله الاختياري وغير فعله الاختياري مستقر في فطر العقول فإن الإنسان لو كان له ابن في جسمه مرض أو عيب خلق فيه لم يحسن ذمه ولا عقابه على ذلك ولو ظلم ابنه أحدا لحسن عقوبته على ذلك ويقولون الاحتجاج بالقدر على الذنوب مما يعلم بطلانه بضرورة العقل فإن الظالم لغيره لو احتج بالقدر لاحتج ظالمه بالقدر أيضا فإن كان القدر حجة لهذا فهو حجة لهذا وإلا فلا والأولون أيضا يمنعون الاحتجاج بالقدر فإن الاحتجاج به باطل باتفاق أهل الملل وذوي العقول وإنما يحتج به على القبائح والمظالم من هو متناقض القول متبع لهواه كما قال بعض العلماء أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به ولو كان القدر حجة لفاعل الفواحش والمظالم لم يحسن أن يلوم أحد أحدا ولا يعاقب أحد أحدا فكان للإنسان أن يفعل في دم غيره وماله وأهله ما يشتهيه من المظالم والقبائح ويحتج بأن ذلك مقدر عليه والمحتجون على المعاصي بالقدر أعظم بدعة وأنكر قولا وأقبح طريقا من المنكرين للقدر فالمكذبون بالقدر من المعتزلة والشيعة وغيرهم المعظمون للأمر والنهي والوعد والوعيد خير من الذين يرون القدر حجة لمن ترك المأمور وفعل المحظور كما يوجد ذلك في كثير من المدعين للحقيقة الذين يشهدون القدر ويعرضون عن الأمر والنهي من الفقراء والصوفية والعامة وغيرهم فلا عذر لأحد في ترك مأمور ولا فعل محظور بكون ذلك مقدرا عليه بل لله الحجة البالغة على خلقه والقدرية المحتجون بالقدر على المعاصي شر من القدرية المكذبين بالقدر وهم أعداء الملل وأكثر ما أوقع الناس في التكذيب بالقدر احتجاج هؤلاء به ولهذا اتهم بمذهب القدر غير واحد ولم يكونوا قدرية بل كانوا لا يقبلون الاحتجاج على المعاصي بالقدر كما قيل للإمام أحمد كان ابن أبي ذئب قدريا فقال الناس كل من شدد عليهم المعاصي قالوا هذا قدري وقد قيل إنه بهذا السبب نسب إلى

 

الحسن القدر لكونه كان شديد الإنكار للمعاصي ناهيا عنها ولذلك نجد الواحد من هؤلاء ينكر على من ينكر المنكر ويقول هؤلاء قدر عليهم ما فعلوه فيقال لهذا وإنكار هذا المنكر أيضا بقدر الله فنقضت قولك بقولك وهؤلاء يقول بعض مشايخهم أنا كافر برب يعصى ويقول لو قتلت سبعين نبيا لم أكن مخطئا ويقول بعض شعرائهم أصبحت منفعلا لما يختاره مني ففعلي كله طاعات ومن الناس من يظن أن احتجاج آدم على موسى بالقدر كان من هذا الباب وهذا جهل عظيم فإن الأنبياء من أعظم الناس أمرا بما أمر الله به ونهيا عما نهى الله عنه وذما لمن ذمه الله وإنما بعثوا بالأمر بالطاعة لله والنهي عن معصية الله فكيف يسوغ أحد منهم أن يعصي عاص لله محتجا بالقدر ولأن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ولأنه لو كان القدر حجة لكان حجة لإبليس وفرعون وسائر الكفار ولكن كان ملام موسى لآدم عليهما السلام لأجل المصيبة التي لحقتهم بسبب أكله ولهذا قال له لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة والمؤمن مأمور أن يرجع إلى القدر عند المصائب لا عند الذنوب والمعاصي فيصبر على المصائب ويستغفر من الذنوب كما قال تعالى فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك (سورة غافر). وقال تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها الأية (سورة الحديد). وقال ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه (سورة التغابن). قال ابن مسعود رضي الله عنه هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ولهذا قال غير واحد من السلف والصحابة والتابعين لهم بإحسان لا يبلغ الرجل حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما اخطأه لم يكن ليصيبه فالإيمان بالقدر والرضا بما قدره الله من المصائب والتسليم لذلك هو من حقيقة الإيمان وأما الذنوب فليس لأحد أن يحتج فيها بقدر الله

 

تعالى بل عليه أن لا يفعلها وإذا فعلها فعليه أن يتوب منها كما فعل آدم ولهذا قال بعض الشيوخ اثنان أذنبا ذنبا آدم وإبليس فآدم تاب فتاب الله عليه واجتباه وهداه وإبليس أصر واحتج بالقدر فمن تاب من ذنبه أشبه أباه آدم ومن أصر واحتج بالقدر أشبه إبليس وإذا كان الفرق بين الفاعل المختار وبين غيره مستقرا في بدائه العقول حصل المقصود وكذلك إذا كان مستقرا في بدائه العقول أن الأفعال الاختيارية تكسب نفس الإنسان صفات محمودة وصفات مذمومة بخلاف لونه وطوله وعرضه فإنها لا تكسبه ذلك فالعلم النافع والعمل الصالح والصلاة الحسنة وصدق الحديث وإخلاص العمل لله وأمثال ذلك تورث القلب صفات محمودة كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن للحسنة لنورا في القلب وضياء في الوجه وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة لسوادا في الوجه وظلمة في القلب ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضا في قلوب الخلق

 

ففعل الحسنة له آثار محمودة موجودة في النفس وفي الخارج وكذلك فعل السيئات والله تعالى جعل الحسنات سببا لهذا والسيئات سببا لهذا كما جعل أكل السم سببا للمرض والموت وأسباب الشر لها أسباب تدفع بمقتضاها فالتوبة والأعمال الصالحة تمحى بها السيئات والمصائب في الدنيا تكفر بها السيئات كما أن السم تارة يدفع موجبه بالدواء وتارة يورث مرضا يسيرا ثم تحصل العافية وإذا قيل خلق الفعل مع حصول العقوبة عليه ظلم كان بمنزلة أن يقال خلق أكل السم ثم حصول الموت به ظلم والظلم وضع الشيء في غير موضعه واستحقاق هذا الفاعل لأثر فعله الذي هو معصية الله كاستحقاقه لأثره إذا ظلم العباد وهذا الآن ينزع إلى مسألة التحسين والتقبيح فإن الناس متفقون على أن كون الفعل يكون سببا لمنفعة العبد وحصول ما يلائمه وسببا لحصول مضرته وحصول ما ينافيه قد يعلم بالعقل وكذلك كونه قد يكون صفة كمال وصفة نقص وإنما تنازعوا في كونه يكون سببا للعقاب والذم على قولين مشهورين

 

والنزاع في ذلك بين أصحاب أحمد وبين اصحاب مالك وبين أصحاب الشافعي وغيرهم وأما أبو حنيفة وأصحابه فيقولون بالتحسين والتقبيح وهو قول جمهور الطوائف من المسلمين وغيرهم وفي الحقيقة فهذا النزاع يرجع إلى الملاءمة والمنافرة والمنفعة والمضرة فإن الذم والعقاب مما يضر العبد ولا يلائمه فلا يخرج الحسن والقبح عن حصول المحبوب والمكروه فالحسن ما حصل المحبوب المطلوب المراد لذاته والقبيح ما حصل المكروه البغيض فإذا كان الحسن يرجع إلى المحبوب والقبيح يرجع إلى المكروه بمنزلة النافع والضار والطيب والخبيث ولهذا يتنوع بتنوع الأحوال فكما أن الشيء الواحد يكون نافعا إذا صادف حاجة ويكون ضارا في موضع آخر كذلك الفعل كأكل الميتة يكون قبيحا تارة ويكون حسنا أخرى وإذا كان كذلك فهذا الأمر لا يختلف سواء كان العبد هو الفاعل بغير أن يخلق الله له القدرة والإرادة أو بأن يخلق الله له ذلك كما في سائر ما هو نافع وضار ومحبوب ومكروه وقد دلت الدلائل اليقينية على أن كل حادث فالله خالقه وفعل العبد من جملة الحوادث وكل ممكن يقبل الوجود والعدم فإن شاء الله كان وإن لم يشأ

 

لم يكن وفعل العبد من جملة الممكنات وذلك لأن العبد إذا فعل الفعل فنفس الفعل حادث بعد أن لم يكن فلا بد له من سبب وإذا قيل حدث بالإرادة فالإرادة أيضا حادثة فلا بد لها من سبب وإن شئت قلت الفعل ممكن فلا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح وعلى طريقة بعضهم فلا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وكون العبد فاعلا له حادث ممكن فلا بد له من محدث مرجح ولا فرق في ذلك بين حادث وحادث والمرجح لوجود الممكن لا بد أن يكون تاما مستلزما وجود الممكن وإلا فلو كان مع وجود المرجح يمكن وجود الفعل تارة وعدمه أخرى لكان ممكنا بعد حصول المرجح يمكن وجوده وعدمه وحينئذ فلا يترجح وجوده علىعدمه إلا بمرجح وهذا المرجح إما أن يكون تاما مستلزما وجود الفعل وإما أن يكون الفعل معه يمكن وجوده وعدمه فإن كان الثاني لزم ان لا يوجد الفعل بحال ولزم التسلسل الباطل فعلم أن الفعل لا يوجد إلا إذا وجد مرجح تام يستلزم وجوده وذلك المرجح التام هو الداعي التام والقدرة وهذا مما سلمه طائفة من المعتزلة كأبي الحسين البصري وغيره سلموا أنه إذا وجد الداعي التام والقدرة التامة لزم وجود الفعل وأن الداعي والقدرة خلق لله عز وجل وهذا حقيقة قول أهل السنة الذين يقولون إن الله خالق أفعال العباد كما أن الله خالق كل شيء فإن أئمة أهل السنة يقولون إن الله خالق الأشياء بالأسباب وأنه خلق للعبد قدرة يكون بها فعله وأن العبد فاعل لفعله حقيقة فقولهم في خلق فعل العبد بإرادته وقدرته كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها ولكن ليس هذا قول من ينكر الأسباب والقوى التي في الأجسام وينكر تأثير القدرة التي للعبد التي بها يكون الفعل ويقول إنه لا أثر لقدرة العبد أصلا في فعله كما يقول ذلك جهم وأتباعه والأشعري ومن وافقه وليس قول هؤلاء قول أئمة السنة ولا جمهورهم بل أصل هذا القول هو قول الجهم بن صفوان فإنه كان يثبت مشيئة الله تعالى وينكر أن يكون له

 

حكمة أو رحمة وينكر أن يكون للعبد فعل أو قدرة مؤثرة وحكي عنه أنه كان يخرج إلى الجذمي ويقول أرحم الراحمين يفعل مثل هذا إنكارا لأن تكون له رحمة يتصف به وزعما منه أنه ليس إلا مشيئة محضة لا اختصاص لها بحكمة بل يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح وهذا قول طائفة من المتأخرين وهؤلاء يقولون إنه لم يخلق لحكمة ولم يأمر لحكمة وأنه ليس في القرآن لام كي لا في خلق الله ولا في أمر الله وهؤلاء الجهمية المجبرة هم والمعتزلة والقدرية في طرفين متقابلين وقول سلف الأمة وأئمة السنة وجمهورها ليس قول هؤلاء ولا قول هؤلاء وإن كان كثير من المثبتين للقدر يقول بقول جهم فالكلام إنما هو في أهل السنة المثبتين لإمامة أبي بكر وعمر وعثمان والمثبتين للقدر وهذا الاسم يدخل فيه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة التفسير والحديث والفقه والتصوف وجمهور المسلمين وجمهور طوائفهم لا يخرج عن هذا إلا بعض الشيعة وأئمة هؤلاء وجمهورهم على القول الوسط الذي ليس هو قول المعتزلة ولا قول جهم وأتباعه الجبرية فمن قال إن شيئا من الحوادث أفعال الملائكة والجن والإنس لم يخلقها الله تعالى فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع السلف والأدلة العقلية ولهذا قال بعض السلف من قال إن كلام الآدميين أو أفعال العباد غير مخلوقة فهو بمنزلة من قال إن سماء الله وأرضه غير مخلوقة والله تعالى يخلق ما يخلق لحكمة كما تقدم ومن جملة المخلوقات ما قد يحصل به ضرر عارض لبعض الناس كالأمراض والآلام وأسباب ذلك فخلق الصفات والأفعال التي هي أسبابه من جملة ذلك فنحن نعلم ان لله في ذلك حكمة وإذا كان قد فعل ذلك لحكمة خرج عن أن يكون سفها وإذا كان العقاب على فعل العبد الاختياري لم يكن ظلما فهذا الحادث بالنسبة إلى الرب له فيه حكمة يحسن لأجل تلك الحكمة وبالنسبة إلى العبد عدل لأنه عوقب على فعله فما ظلمه الله ولكن هو ظلم نفسه

 

واعتبر ذلك بأن يكون غير الله هو الذي عاقبه على ظلمه لو عاقبه ولي أمر على عدوانه على الناس فقطع يد السارق أليس ذلك عدلا من هذا الوالي وكون الوالي مأمورا بذلك يبين أنه عادل لكن المقصود هنا أنه مستقر في فطر الناس وعقولهم أن ولي الأمر إذا أمر الغاصب برد المغصوب إلى مالكه وضمن التالف بمثله أنه يكون حاكما بالعدل وما زال العدل معروفا في القلوب والعقول ولو قال هذا المعاقب أنا قد قدر علي هذا لم يكن هذا حجة له ولا مانعا لحكم الوالي أن يكون عدلا فالله تعالى أعدل العادلين إذا اقتص للمظلوم من ظالمه في الآخرة أحق بأن يكون ذلك عدلا منه فإن قال الظالم هذا كان مقدرا علي لم يكن هذا عذرا صحيحا ولا مسقطا لحق المظلوم وإذا كان الله هو الخالق لكل شيء فذاك لحكمة أخرى له في الفعل فخلقه حسن بالنسبة إليه لما له فيه من الحكمة والفعل القبيح المخلوق قبيح من فاعله لما عليه فيه من المضرة كما أن أمر الوالي بعقوبة الظالم يسر الوالي لما فيه من الحكمة وهو عدله وأمره بالعدل وذلك يضر المعاقب لما عليه فيه من الألم ولو قدر أن هذا الوالي كان سببا في حصول ذلك الظلم على وجه لا يلام عليه لم يكن عذرا للظالم مثل حاكم شهد عنده بينة بمال لغريم فأمر بحبسه أو عقوبته حتى ألجأه ذلك إلى أخذ مال آخر بغير حق ليوفيه إياه فإن الحاكم أيضا يعاقبه فيه فإذا قال أنت حبستني وكنت عاجزا عن الوفاء ولا طريق لي إلى الخلاص إلا أخذ مال هذا لكان حبسه الأول ضررا عليه وعقوبته ثانيا على أخذ مال الغير ضررا عليه والوالي يقول أنا حكمت بشهادة العدول فلا ذنب لي في ذلك وغايتي أني أخطأت والحاكم إذا أخطأ له أجر وقد يفعل كل من الرجلين بالآخر من الضرر ما يكون فيه معذورا والآخر معاقبا بل مظلوما لكن بتأويل

 

وهذه الأمثال ليست مثل فعل الله تعالى فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فإنه سبحانه يخلق الاختيار في المختار والرضا في الراضي والمحبة في المحب وهذا لا يقدر عليه إلا الله ولهذا أنكر الأئمة على من قال جبر الله العباد كالثوري والأوزاعي والزبيدي وأحمد بن حنبل وغيرهم وقالوا الجبر لا يكون إلا من عاجز كما يجبر الأب ابنته على خلاف مرادها والله خالق الإرادة والمراد فيقال جبل كما جاءت به السنة ولا يقال جبر فإن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح قال لأشج عبد القيس إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما قال بل خلقين جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ومما يبين هذا أن الله سبحانه وتعالى جهة خلقه وتقديره غير جهة أمره وتشريعه فإن أمره وتشريعه مقصوده بيان ما ينفع العباد إذا فعلوه وما يضرهم بمنزلة أمر الطبيب للمريض بما ينفعه فأخبر الله على ألسن رسله بمصير السعداء والأشقياء وأمر بما يوصل إلى السعادة ونهى عما يوصل إلى الشقاوة

 

وخلقه وتقديره يتعلق به وبجملة المخلوقات فهو يفعل لما فيه حكمة متعلقة بعموم خلقه وإن كان في ضمن ذلك مضرة لبعض الناس كما أنه ينزل المطر لما فيه من الرحمة والنعمة العامة والحكمة وإن كان في ضمن ذلك تضرر بعض الناس بسقوط منزله وانقطاعه عن سفره وتعطيل معيشته وكذلك يرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم لما في إرساله من الرحمة العامة وإن كان في ضمن ذلك سقوط رياسة قوم وتألمهم بذلك فإذا قدر على الكافر كفره قدره الله لما له في ذلك من الحكمة والمصلحة العامة وعاقبه لاستحقاقه ذلك بفعله الاختياري وإن كان مقدرا ولما له في عقوبته من الحكمة والمصلحة العامة وقياس أفعال الله علىأفعال العباد خطأ ظاهر لأن السيد إذا أمر عبده بأمر أمره لحاجته إليه ولغرض السيد فإذا أثابه على ذلك كان من باب المعاوضة وليس له حكمة يطلبها إلا حصول ذلك المأمور به وليس هو الخالق لفعل المأمور فإذا قدر أن السيد لم يعوض المأمور أو لم يقم بحق عبده الذي يقضي حوائجه كان ظالما كالذي يأخذ سلعة ولا يعطي ثمنها أو يستوفي منفعة الأجير ولم يوفه أجره

 

والله تعالى غني عن العباد إنما أمرهم بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم فهو محسن إلى عباده بالأمر لهم محسن لهم بإعانتهم على الطاعة ولو قدر أن عالما صالحا أمر الناس بما ينفعهم ثم أعان بعض الناس على فعل ما أمرهم به ولم يعن آخرين لكان محسنا إلى هؤلاء إحسانا تاما ولم يكن ظالما لمن لم يحسن إليه وإذا قدر أنه عاقب المذنب العقوبة التي يقتضيها عدله وحكمته لكان أيضا محمودا على هذا وهذا وأين هذا من حكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين فامره لهم إرشاد وتعليم وتعريف بالخير فإن أعانهم على فعل المأمور كان قد أتم النعمة على المأمور وهو مشكور علىهذا وهذا وإن لم يعنه وخذله حتى فعل الذنب كان له في ذلك حكمة أخرى وإن كانت مستلزمة تألم هذا فإنما تألم بأفعاله الاختيارية التي من شأنها أن تورثه نعيما أو ألما وإن كان ذلك الإيراث بقضاء الله وقدره فلا منافاة بين هذا وهذا فجعله المختار مختارا من كمال قدرته وحكمته وترتيب آثار الاختيار عليه من تمام حكمته وقدرته

 

لكن يبقى الكلام في نفس الحكمة الكلية في هذه الحوادث فهذه ليس على الناس معرفتها ويكفيهم التسليم لما قد علموا أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها ومن المعلوم ما لو علمه كثير من الناس لضرهم علمه ونعوذ بالله من علم لا ينفع وليس اطلاع كثير من الناس بل أكثرهم على حكم الله في كل شيء نافعا لهم بل قد يكون ضارا قال تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وهذه المسألة مسألة غايات أفعال الله ونهاية حكمته مسألة عظيمة لعلها أجل المسائل الإلهية وقد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع وكذلك بسط الكلام على مسائل القدر وإنما نبهنا تنبيها لطيفا على امتناع أن يكون خلق الفعل ظلما سواء قيل إن الظلم ممتنع من الله أو قيل إنه مقدور فإن الظلم الذي هو ظلم أن يعاقب الإنسان على عمل غيره فأما عقوبته على فعله الاختياري وإنصاف المظلومين من الظالمين فهو من كمال عدل الله تعالى وهذا التفصيل في باب التعديل والتجوير بين مذهب القدرية الذين

 

يقيسون الله بخلقه في عدلهم وظلمهم وبين مذهب الجبرية الذين لا يجعلون لأفعال الله حكمة ولا ينزهونه عن ظلم يمكنه فعله ولا فرق عندهم بالنسبة إليه بين ما يقال هو عدل وإحسان وبين ما يقال هو ظلم وقول هؤلاء من الأسباب التي قويت بها شناعات القدرية حتى غلوا في الناحية الأخرى وخيار الأمور أوسطها ودين الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه وقد ظهر الفرق بين عقوبته على الكفر وغيره من المعاصي وبين عقوبته على اللون والطول كما يظهر الفرق بينهما إذا كان المعاقب بعض الناس فإن الكفر وإن كان خلق فيه إرادته وقدرته عليه فهو الذي فعله باختياره وقدرته وإن كان كذلك كله مخلوقا كما يعاقبه غيره عليه مع كون ذلك كله مخلوقا وأما قوله ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان فهذا قاله على قول من يقول من أهل الإثبات إن القدرة لا تكون إلا مع الفعل فكل من لم يفعل شيئا لم يكن قادرا عليه ولكن يكون عاجزا عنه وهؤلاء قد يقولون لا يكلف العبد ما يعجز عنه ولكن يكلف ما يقدر عليه بناء على أن القدرة لا تكون إلا مع الفعل وحقيقة قولهم أن كل من ترك واجبا لم يكن قادرا عليه وليس هذا قول جمهور أهل السنة بل جمهور أهل السنة يثبتون للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي وهذه قد تكون قبله لا يجب أن تكون معه ويقولون أيضا إن القدرة التي يكون بها الفعل لا بد ان تكون مع الفعل لا يجوزون أن يوجد الفعل بقدرة معدومة ولا بإرادة معدومة كما لا يوجد بفاعل معدوم وأما القدرية فيزعمون أن القدرة لا تكون إلا قبل الفعل ومن قابلهم من المثبتة يقولون لا تكون إلا مع الفعل وقول الأئمة والجمهور هو الوسط أنها لا بد أن تكون معه وقد تكون مع ذلك قبله كقدرة المأمور العاصي فإن تلك القدرة تكون متقدمة على الفعل بحيث تكون لمن لم يطع كما قال تعالى

 

ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا (سورة آل عمران). فأوجب الحج على المستطيع فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج ولم يعاقب أحد على ترك الحج وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام وكذلك قال تعالى فاتقوا الله مااستطعتم (سورة التغابن). فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى ولا يعاقب من لم يتق وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام وهؤلاء إنما قالوا هذا لأن القدرية والمعتزلة والشيعة وغيرهم قالوا القدرة لا تكون إلا قبل الفعل لتكون صالحة للضدين الفعل والترك وأما حين الفعل فلا يكون إلا الفعل فزعموا أو من زعم منهم أنه حينئذ لا يكون قادرا لأن القادر لا بد أن يقدر على الفعل والترك وحين الفعل لا يكون قادرا على الترك فلا يكون قادرا وأما أهل السنة فإنهم يقولون لا بد أن يكون قادرا حين الفعل ثم أئمتهم قالوا ويكون أيضا قادرا قبل الفعل وقالت طائفة منهم لا يكون

 

قادرا إلا حين الفعل وهؤلاء يقولون إن القدرة لا تصلح للضدين عندهم فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل وهي مستلزمة له لا توجد بدونه إذ لو صلحت للضدين على وجه البدل أمكن وجودها مع عدم أحد الضدين والمقارن للشيء مستلزم له لا يوجد مع عدمه فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع وما قالته القدرية فهو بناء على أصلهم الفاسد وهو أن إقدار الله المؤمن والكافر والبر والفاجر سواء فلا يقولون إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان بل يقولون إن إعانته للمطيع والعاصي سواء ولكن هذا بنفسه رجح الطاعة وهذا بنفسه رجح المعصية كالوالد الذي أعطى كل واحد من ابنيه سيفا فهذا جاهد به في سبيل الله وهذا قطع به الطريق أو أعطاهما مالا فهذا أنفقه في سبيل الله وهذا أنفقه في سبيل الشيطان وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع المؤمن نعمة دينية خصه بها دون

 

الكافر وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر كما قال تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون (سورة الحجرات). فبين أنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم فالقدرية تقول هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق أو هو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمنين ولهذا قال أولئك هم الراشدون والكفار ليسوا راشدين وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء (سورة الأنعام). وقال أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون (سورة الأنعام). وقال تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين (سورة الأنعام). وقال تعال يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين (سورة الحجرات).

 

وقد أمر الله عباده أن يقولوا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم والدعاء إنما يكون لشيء مستقبل غير حاصل يكون من فعل الله تعالى وهذه الهداية المطلوبة غير الهدي الذي هو بيان الرسول صلى الله عليه وسلم وتبليغه وقال تعالى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام (سورة المائدة). وقال تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم أحد من أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم وقال الخليل صلى الله عليه وسلم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا (سورة البقرة). وقال تعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (سورة السجدة). وقال تعالى وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار (سورة القصص). ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يبين سبحانه وتعالى اختصاصه عباده المؤمنين بالهدى والإيمان والعمل الصالح والعقل يدل على ذلك فإنه إذا قدر أن جميع الأسباب الموجبة للفعل من الفاعل كما هي من التارك كان اختصاص الفاعل بالفعل ترجيحا لأحد المثلين على الآخر بلا مرجح وذلك معلوم الفساد بالضرورة وهو الأصل الذي بنوا عليه إثبات الصانع فإن قدحوا في ذلك انسد عليهم طريق إثبات الصانع وغايتهم أن قالوا القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح كالجائع والخائف وهذا فاسد فإنه مع استواء الأسباب الموجبة من كل وجه يمتنع الرجحان وأيضا فقول القائل يرجح بلا مرجح إن كان لقوله يرجح معنى زائد على وجود الفعل فذاك هو السبب المرجح وإن لم يكن له معنى زائد كان حال الفعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح وهذا مكابرة للعقل فما كان أصل قول القدرية أن فاعل الطاعات وتاركها كلاهما في الإعانة والإقدار سواء امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصه

 

لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك وإنما تكون للفاعل والقدرة لا تكون إلا من الله وما كان من الله لم يكن مختصا بحال وجود الفعل ثم لما رأوا أن القدرة لا بد أن تكون قبل الفعل قالوا لا تكون مع الفعل لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك وحال وجود الفعل يمتنع الترك فلهذا قالوا القدرة لا تكون إلا قبل الفعل وهذا باطل قطعا لأن وجود الأثر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع بل لا بد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجودا عند الفعل فنقيض قولهم حق وهو أن الفعل لا بد أن يكون معه قدرة لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين حزبا قالوا لا تكون القدرة إلا معه ظنا منهم أن القدرة نوعا واحد لا تصلح للضدين وظنا من بعضهم أن القدرة عرض فلا تبقى زمانين فيمتنع وجودها قبل الفعل والصواب الذي عليه أئمة الفقه والسنة أن القدرة نوعان نوع مصحح للفعل يمكن معه الفعل والترك وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي فهذه تحصل للمطيع والعاصي وتكون قبل الفعل وهذه تبقى إلى حين الفعل إما ببقائها عند من يقول ببقاء الأعراض وإما بتجدد أمثالها عند من يقول إن الأعرض لا تبقى وهذه قد تصلح للضدين وأمر الله لعباده مشروط بهذه الطاقة فلا يكلف الله من ليست معه هذه الطاقة وضد هذه العجز وهذه المذكورة في قول الله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات (سورة النساء). وقوله تعالى وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون (سورة التوبة). وقوله في الكفارة فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا (سورة المجادلة). فإن هذا نفي لاستطاعة من لم يفعل فلا يكون مع الفعل ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب فإنما نفى استطاعة لا فعل معها

 

وأيضا فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون مما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه فالشارع ييسر على عباده ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر وما جعل عليهم في الدين من حرج والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة مرضه وتأخر برئه فهذا في الشرع غير مستطيع لأجل حصول الضرر عليه وإن كان يسميه بعض الناس مستطيعا فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل بل ينظر إلى لوازم ذلك فإذا كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية كالذي يقدر أن يحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله أو يصلي قائما مع زيادة مرضه أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته ونحو ذلك فإن كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة فكيف يكلف مع العجز ولكن هذه الاستطاعة مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل بل لا بد من إحداث إعانة

 

أخرى تقارن هذه مثل جعل الفاعل مريدا فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة وإرادة والاستطاعة المقارنة للفعل تدخل فيها الإرادة الجازمة بخلاف المشروطة في التكليف فإنه لا يشترط فيها الإرادة والله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه وهذا الفرقان هو فصل الخطاب في هذا الباب وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض فإن الإنسان يأمر عبده بما لا يريده العبد لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة لزم وجود الفعل ولا بد أن يكون هذا المستلزم للفعل مقارنا له لا يكفي تقدمه عليه إن لم يقارنه فإنه العلة التامة للفعل والعلة التامة تقارن المعلول لا تتقدمه ولأن القدرة شرط في وجود الفعل وكون الفاعل قادرا والشرط في وجود الشيء الذي به القادر يكون قادرا لا يكون الشيء مع عدمه بل مع وجوده وإلا فيكون الفاعل فاعلا حين لا يكون قادرا أو غير القادر لا يكون قادرا

 

وهذا معنى قول أهل الاثبات الذي يذكره مثل القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما لا خلاف بيننا وبين المعتزلة أن المصحح لكون الفاعل فاعلا هو كونه قادرا ووجدنا كل مصحح لأمر من الأمور فإنه يستحيل ثبوت ذلك الأمر والحكم مع عدم المصحح له ألا ترى أنه لما ثبت أن المصحح لكون القادر العالم كونه حيا استحال كونه عالما قادرا مع عدم كونه حيا وكذلك لما كان المصحح لكون المتلون متلونا وكونه متحركا كونه جوهرا استحال كونه متلونا ومتحركا وليس بجوهر وكذلك يستحيل كونه فاعلا في حال ليس هو فيها قادرا قالوا وهذا من الأدلة المعتمدة وهذا الدليل يقتضي أنه لا بد من وجود القدرة على الفعل ولكن لا ينفي وجودها قبل الفعل فإن المصحح يصح وجوده قبل وجود المشروط وبدون ذلك كما يصح وجود الحياة بدون العلم والجوهر بدون الحركة وهذا مما يحتج به على الفلاسفة في مسألة حدوث العالم فإنهم إذا قالوا العلة القديمة تحدث الدورة الثانية بشرط انقضاء الأولى قيل لهم لا بد عند وجود المحدث من العلة التامة وكون الفاعل قادرا

 

تام القدرة مريدا تام الإرادة فلا يكفي في الإحداث مجرد وجود شيء متقدم على الإحداث فكيف يكفي مجرد عدم شيء يتقدم عدمه على الإحداث بل لا بد حين الإحداث من المؤثر التام ثم كذلك عند حدوث المؤثر التام لا بد له من مؤثر تام فإذا لم يكن إلا علة تامة أزلية يقارنها معلولها لزم حدوث الحوادث بلا محدث أصلا وهذا يدل على أن الرب تعالى يتصف بما به يفعل الحوادث المخلوقة من الأقوال القائمة به الحاصلة بقدرته ومشيئته كما قد بسط في موضعه وهذا التفصيل في الإرادة والقدرة وتقسيمها إلى نوعين يزيل الاشتباه والاضطراب الحاصل في هذا الباب وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق فإن من قال القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق وليس هذا الإطلاق قول جمهور أهل السنة وأئمتهم بل يقولون إن الله تعالى قد أوجب الحج على المستطيع حج أو لم يحج وكذلك أوجب صيام الشهرين في الكفارة على المستطيع كفر أو لم يكفر وأوجب العبادات على القادرين دون العاجزين فعلوا أو لم يفعلوا وما لا يطاق يفسر بشيئين يفسر بما لا يطاق للعجز عنه فهذا لم يكلفه

 

الله أحدا ويفسر بما لا يطاق للاشتغال بضده فهذا هو الذي وقع فيه التكليف كما في أمر العباد بعضهم بعضا فإنهم يفرقون بين هذا وهذا فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف ويأمره إذا كان قاعدا أن يقوم ويعلم الفرق بين هذا وهذا بالضرورة وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع وإنما نبهنا على نكتها بحسب ما يليق بهذا الموضع وعلى هذا فقوله لم يخلق فيه قدرة على الإيمان ليس هو قول جمهور أهل السنة بل يقولون خلق له القدرة المشروطة في التكليف المصححة للأمر والنهي كما في العباد إذا أمر بعضهم بعضا فما يوجد من القدرة في ذلك الأمر فهو موجود في أمر الله لعباده بل تكليف الله أيسر ورفعه للحرج أعظم والناس يكلف بعضهم بعضا أعظم مما أمرهم الله به ورسوله ولا يقولون إنه تكليف ما لا يطاق ومن تأمل أحوال من يخدم الملوك والرؤساء ويسعى في طاعتهم وجد عندهم من ذلك ما ليس عند المجتهدين في العبادة لله.

*

فصل قال الرافضي ومنها إفحام الأنبياء وانقطاع حجتهم لأن النبي إذا قال للكافر آمن بي وصدقني، يقول قل للذي بعثك يخلق في الإيمان والقدرة المؤثرة فيه حتى أتمكن من الإيمان وأومن بك وإلا فكيف تكلفني الإيمان ولا قدرة لي عليه بل خلق في الكفر وأنا لا أتمكن من مقاهرة الله تعالى فينقطع النبي ولا يتمكن من جوابه.

* فيقال هذا مقام يكثر فيه خوض النفوس فإن كثيرا من الناس إذا أمر بما يجب عليه تعلل بالقدرة وقال حتى يقدر الله لي ذلك أو يقدرني الله على ذلك أو حتى يقضي الله ذلك وكذلك إذا نهي عن فعل ما حرم الله قال الله قضى علي بذلك أي حيلة لي في هذا ونحو هذا الكلام

 

والاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العالمين والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجة إذا احتج بها في ظلم ظلمه إياه أو ترك ما يجب عليه من حقوقه بل يطلب منه ما له عليه ويعاقبه على عدوانه عليه وإنما هو من جنس شبه السوفسطائية التي تعرض في العلوم فكما أنك تعلم فسادها بالضرورة وإن كانت تعرض كثيرا لكثير من الناس حتى قد يشك في وجود نفسه وغير ذلك من المعارف الضرورية فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتى يظن أنها شبهة في إسقاط الصدق والعدل الواجب وغير ذلك وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك ولكن تعلم القلوب بالضرورة ان هذه شبهة باطلة ولهذا لا يقبلها أحد من أحد عند التحقيق ولا يحتج بها أحد إلا مع عدم علمه بالحجة بما فعله فإذا كان معه علم بأن ما فعله هو المصلحة وهو المأمور به وهو الذي ينبغي فعله لم يحتج بالقدر وكذلك إذا كان معه علم بأن الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله أو ليس بمصلحة أو ليس هو مأمورا به لم يحتج بالقدر بل إذا كان متبعا لهواه بغير علم احتج بالقدر

 

ولهذا لما قال المشركون لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء (سورة الأنعام). قال الله تعالى قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين (سورة الأنعام). فإن هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة داحضة باطلة فإن أحدهم لو ظلم الآخر في ماله أو فجر بامرأته أو قتل ولده أو كان مصرا على الظلم فنهاه الناس عن ذلك فقال لو شاء الله لم أفعل هذا لم يقبلوا منه هذه الحجة ولا هو يقبلها من غيره وإنما يحتج بها المحتج دفعا للوم بلا وجه فقال الله لهم هل عندكم من علم فتخرجوه لنا بأن هذا الشرك والتحريم من أمر الله وأنه مصلحة ينبغي فعله إن تتبعون إلا الظن فإنه لا علم عندكم بذلك إن تظنون ذلك إلا ظنا وإن أنتم إلا تخرصون تحرزون وتفترون فعمدتكم في نفس الأمر ظنكم وخرصكم ليس عمدتكم في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدره فإن مجرد المشيئة والقدر لا يكون عمدة لأحد في الفعل ولا حجة لأحد على أحد ولا

 

عذرا لأحد إذ الناس كلهم مشتركون في القدر فلو كان هذا حجة وعمدة لم يحصل فرق بين العادل والظالم والصادق والكاذب والعالم والجاهل والبر والفاجر ولم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال وما يفسدهم وما ينفعهم وما يضرهم وهؤلاء المشركون المحتجون بالقدر على ترك ما أرسل الله به رسله من توحيده والايمان به لو احتج به بعضهم على بعض في إسقاط حقوقه ومخالفة أمره لم يقبله منه بل كان هؤلاء المشركون يذم بعضهم بعضا ويعادي بعضهم بعضا ويقاتل بعضهم بعضا على فعل ما يرونه تركا لحقهم أو ظلما فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى حق الله على عباده وطاعة امره احتجوا بالقدر فصاروا يحتجون بالقدر على ترك حق ربهم ومخالفة أمره بما لا يقبلونه ممن ترك حقهم وخالف أمرهم وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك حقهم عليه أن لا يعذبهم فالاحتجاج بالقدر حال أهل الجاهلية الذين لا علم عندهم بما يفعلون ويتركون إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون وهم إنما يحتجون به في ترك حق ربهم ومخالفة أمره لا في ترك ما يرونه حقا لهم ولا في مخالفة أمرهم ولهذا تجد كثيرا من المحتجين به والمستندين إليه من النساك والصوفية والفقراء والعامة والجند والفقهاء وغيرهم يفرون إليه عند اتباع الظن وما تهوى الأنفس فلو كان معهم علم وهدى لم يحتجوا بالقدر أصلا بل يعتمدون عليه لعدم الهدى والعلم

 

وهذا أصل شريف من اعتنى به علم منشأ الضلال والغي لكثير من الناس ولهذا تجد المشايخ والصالحين المتبعين للأمر والنهي كثيرا ما يوصون أتباعهم باتباع العلم والشرع لأنه كثيرا ما يعرض لهم إرادات في أشياء ومحبة لها فيتبعون فيها أهواءهم ظانين أنها دين الله وليس معهم إلا الظن والذوق والوجد الذي يرجع إلى محبة النفس وإرادتها فيحتجون تارة بالقدر وتارة بالظن والخرص وهم متبعون أهواءهم في الحقيقة فإذا اتبعوا العلم وهو ماجاء به الشارع صلى الله عليه وسلم خرجوا عن الظن وما تهوى الأنفس واتبعوا ما ماجاءهم من ربهم وهو الهدى كما قال تعالى فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (سورة طـــه). وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى عن المشركين في (سورة الأنعام). والنحل والزخرف كما قال تعالى وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون (سورة الزخرف). فبين أنه لا علم لهم بذلك إن هم إلا يخرصون

 

وقال في (سورة الأنعام). قل فلله الحجة البالغة (سورة الأنعام). أي بإرسال الرسل وإنزال الكتب كما قال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (سورة النساء). ثم أثبت القدر بقوله فلو شاء لهداكم أجمعين (سورة الأنعام). فأثبت الحجة الشرعية وبين المشيئة القدرية وكلاهما حق وقال في النحل وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين بين سبحانه أن هذا الكلام تكذيب للرسل فيما جاؤوهم به ليس حجة لهم فإن هذا لو كان حجة لاحتج به على تكذيب كل صدق وفعل كل ظلم ففي فطرة بني آدم أنه ليس حجة صحيحة بل من احتج به احتج لعدم العلم واتباع الظن كفعل الذين كذبوا الرسل بهذه المدافعة بل الحجة البالغة لله بإرسال الرسل وإنزال الكتب كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك مدح نفسه ولا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فبين أنه سبحانه يحب أن يمدح وأن يعذر ويبغض الفواحش فيحب أن يمدح بالعدل والإحسان وأن لا يوصف بالظلم ومن المعلوم أنه من تقدم إلى أتباعه بأن افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا وبين لهم وأزاح علتهم ثم تعدوا حدوده وأفسدوا أموره كان له أن يعذبهم وينتقم منهم فإذا قالوا أليس الله قدر علينا هذا لو شاء الله ما فعلنا هذا قيل لهم أنتم لا حجة لكم ولا عندكم ما تعتذرون به يبين أن ما فعلتموه كان حسنا أو كنتم معذورين فيه فهذا الكلام غير مقبول منكم وقد قامت الحجة عليكم بما تقدم من البيان والإعذار

 

ولو أن ولي الأمر أعطى قوما مالا ليوصلوه إلى بلد آخر فسافروا به وتركوه في البرية ليس عنده أحد وباتوا في مكان بعيد منه وكان ولي الأمر قد أرسل جندا له يغزون بعض الأعداء فاجتازوا تلك الطريق فرأوا ذلك المال فظنوه لقطة ليس له أحد فأخذوه وذهبوا لكان يحسن منه أن يعاقب الأولين على تفريطهم وتضييعهم حفظ ما أمرهم بحفظه ولو قالوا له أنت لم تعلمنا أنك تبعث خلفنا جندا حتى نحترز المال منهم قال لهم هذا لا يجب علي ولو فعلته لكان زيادة إعانة لكم لكن كان عليكم أن تحفظوا ذلك كما تحفظ الودائع والأمانات وكانت حجته عليهم قائمة ولم يكن إن عاقبهم ظالما وإن كان لم يعنهم بالإعلام بذلك الجند لكن عمل المصلحة في إرسال الأولين والآخرين والله تعالى وله المثل الأعلى حكيم عدل في كل ما يفعله ولا يخرج شيء عن مشيئته وقدرته فإذا أمر الناس بحفظ الحدود وإقامة الفرائض لمصلحتهم كان ذلك من إحسانه إليهم وتعريفهم ما ينفعهم وإذا خلق أمورا أخرى فإذا فرطوا واعتدوا بسبب خلقه لأمور أخرى أوجبت الضرر الحاصل من تفريطهم وعدوانهم وكان له في خلق المخلوق الثاني حكمة ومصلحة أخرى كان عادلا حكيما في خلق هذا وخلق هذا والأمر بهذا والأمر بهذا وإن كان لم يمد الأولين بزيادة يحترسون بها من التفريط والعدوان لا سيما مع علمه بأن تلك الزيادة لو خلقها للزم منها تفويت مصلحة أرجح منها فإن الضدين لا يجتمعان والمقصود هنا أنه لا يحتج أحد بالقدر إلا حجة تعليل لعدم اتباع الحق الذي بينه العلم فإن الإنسان حي حساس متحرك بالإرادة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم أصدق الأسماء الحارث وهمام فالحارث الكاسب العامل والهمام الكثير الهم والهم مبدأ

 

الإرادة والقصد فكل إنسان حارث همام وهو المتحرك بالإرادة وذلك لا يكون إلا بعد الحس والشعور فإن الإرادة مسبوقة بالشعور بالمراد فلا يتصور إرادة ولا حب ولا شوق ولا اختيار ولا طلب إلا بعد الشعور وما هو من جنسه كالحس والعلم والسمع والبصر والشم والذوق واللمس ونحو هذه الأمور فهذا الإدراك والشعور هو مقدمة الإرادة والحب والطلب والحي مفطور على حب ما يلائمه وينفعه وبغض ما يكرهه ويضره فإذا تصور الشيء الملائم النافع أراده وأحبه وإذا تصور الشيء الضار أبغضه ونفر عنه لكن ذلك التصور قد يكون علما وقد يكون ظنا وخرصا فإذا كان عالما بأن مراده هو النافع وهو المصلحة وهو الذي يلائمه كان على الهدى والحق وإذا لم يكن معه علم بذلك كان متبعا للظن وما تهوى نفسه فإذا جاءه العلم والبيان بأن هذا ليس مصلحة أخذ يحتج بالقدر حجة لدد وتعريج عن الحق لا حجة اعتماد على الحق والعلم فلا يحتج أحد في باطنه أو ظاهره بالقدر إلا لعدم العلم بأن ما هو عليه هو الحق

 

وإذا كان كذلك كان من احتج بالقدر على الرسل مقرا بأن ما هو عليه ليس معه به علم وإنما تكلم بغير علم ومن تكلم بغير علم كان مبطلا في كلامه ومن احتج بغير علم كانت حجته داحضة فإما أن يكون جاهلا فعليه أن يتبع العلم وإما أن يكون قد عرف الحق واتبع هواه فعليه أن يتبع الحق ويدع هواه فتبين أن المحتج بالقدر متبع لهواه بغير علم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وحينئذ فالجواب في هذا المقام من وجوه أحدها أن هذا إنما يكون انقطاعا لو كان الاحتجاج بالقدر سائغا فأما إذا كان الاحتجاج بالقدر باطلا بطلانا ضروريا مستقرا في جميع الفطر والعقول لم يكن هذا السؤال متوجها وذلك أنه من المستقر في فطر الناس وعقولهم أنه من طلب منه فعل من الأفعال الاختيارية لم يكن له أن يحتج بمثل هذا ومن طلب دينا له على آخر لم يكن له أن يقول لا أعطيك حتى يخلق الله في العطاء ومن أمر عبده بأمر لم يكن له أن يقول لا أفعله حتى يخلق الله في فعله ومن ابتاع شيئا وطلب منه الثمن لم يكن له أن يقول لا أقضيه حتى يخلق الله في القضاء أو القدرة على هذا وهذا أمر جبل الله عليه الناس كلهم مسلمهم وكافرهم مقرهم بالقدر ومنكرهم له ولا يخطر ببال أحد منهم الاعتراض بمثل هذا مع اعترافهم بالقدر فإذا كان هذا الاعتراض معروف الفساد في بدائه العقول ولم يكن لأحد أن يحتج به على الرسول الثاني أن الرسول يقول له أنا نذير لك إن فعلت ما أمرتك به نجوت وسعدت وإن لم تفعله عوقبت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد على الصفا ونادى يا صباحاه فأجابوه فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن عدوا مصبحكم أكنتم مصدقي قالوا ما جربنا عليك كذبا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد وقال أنا النذير العريان

 

ومن المعلوم أن من أنذر بعدو يقصده لم يقل لنذيره قل لله يخلق في قدرة على الفرار حتى أفر بل يجتهد في الفرار والله هو الذي يعينه على الفرار فهذا الكلام لا يقوله إلا مكذب للرسل إذ ليس في الفطرة مع تصديق النذير الاعتلال بمثل هذا وإذا كان هذا تكذيبا حاق به ما حاق بالمكذبين الوجه الثالث أن يقول له أنا ليس لي أن أقول لربي مثل هذا الكلام بل علي أن أبلغ رسالاته وإنما علي ما حملت وعليك ما حملت وليس علي إلا البلاغ المبين وقد قمت به الرابع أن يقول ليس لي ولا لغيري أن يقول له لم لم تجعل في هذا كذا وفي هذا كذا فإن الناس على قولين من يقول إنه لا حكمة إلا محض المشيئة يقول إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ومن يقول إن له حكمة يقول لم يفعل شيئا إلا لحكمة ولم يتركه إلا لانتفاء الحكمة فيه وإذا كان كذلك لم يكن للعبد أن يقول له مثل ذلك ولهذا قال تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (سورة الأنبياء). الوجه الخامس أن يقول إعانتك على الفعل هو من أفعاله هو فما فعله فالحكمة وما لم يفعله فلانتفاء الحكمة وأما نفس الطاعة فمن أفعالك التي تعود مصلحتها عليك فإن أعانك كان فضلا عليك منه وإن خذلك كان عدلا منه فتكليفك ليس لحاجة له إلى ذلك ليحتاج إلى اعانتك كما يأمر السيد عبده بمصلحته فإذا كان العبد غير قادر أعانه حتى يحصل مراد الآمر الذي يعود إليه نفعه بل التكليف إرشاد وهدى وتعريف للعباد بما ينفعهم في المعاش والمعاد ومن عرف أن هذا الفعل ينفعه وهذا الفعل يضره وأنه يحتاج إلى ذلك الذي ينفعه لم يمكنه أن يقول لا أفعل الذي أنا محتاج إليه وهو ينفعني حتى يخلق في الفعل بل مثل هذا يخضع ويذل لله حتى يعينه على فعل ما ينفعه كما لو قيل هذا العدو قد قصدك أو هذا السبع أو هذا السيل المنحدر فإنه لا يقول لا أهرب وأتخلص

 

منه حتى يخلق الله في الهرب بل يحرص على الهرب ويسأل الله الإعانة على ذلك ويفر منه إذا عجز وكذلك إذا كان محتاجا إلى طعام أو شراب أو لباس فإنه لا يقول لا آكل ولا أشرب ولا ألبس حتى يخلق الله في ذلك بل يريد ذلك ويسعى فيه ويسأل الله تيسيره عليه فالفطرة مجبولة على حب ما تحتاج إليه ودفع ما يضرها وأنها تستعين الله عز وجل على ذلك هذا هو موجب الفطرة التي فطر الله عليها عباده وإيجابها ذلك ولهذا أمر الله العباد أن يسألوا الله أن يعينهم على فعل ما أمر الوجه السادس أن يقال مثل هذا الكلام إما أن يقوله من يريد الطاعة ويعلم أنها تنفعه أو من لا يريدها ولا يعلم أنها تنفعه وكلاهما يمتنع منه أن يقول مثل هذا الكلام أما الأول فمن أراد الطاعة وعلم أنها تنفعه أطاع قطعا إذا لم يكن عاجزا فإن نفس الإرادة الجازمة للطاعة مع القدرة توجب الطاعة فإنها مع وجود القدرة والداعي التام توجب وجود المقدور فإذا كانت الطاعة بالتكلم بالشهادتين فمن أراد ذلك إرادة جازمة فعله قطعا لوجود القدرة والداعي التام ومن لم يفعله علم أنه لم يرده وإن كان لا يريد الطاعة فيمتنع أن يطلب من الرسول أن يخلقها الله فيه فإنه إذا طلب من الرسول أن يخلقها الله فيه كان مريدا لها فلا يتصور أن يقول مثل ذلك إلا مريد ولا يكون مريدا للطاعة المقدورة إلا ويفعلها وهذا يظهر بالوجه السابع وهو ان يقال أنت متمكن من الإيمان قادر عليه فلو أردته فعلته وإنما لم تؤمن لعدم إرادتك له لا لعجزك وعدم قدرتك عليه وقد بينا أن القدرة التي هي شرط في الأمر تكون موجودة قبل الفعل في المطيع والعاصي وتكون موجودة مع الأمر في المطيع بخلاف المختصة بالمطيع فإنها لا توجد إلا مع الفعل

 

وقد بيينا أن من جعل القدرة نوعا واحدا إما مقارنا للفعل وإما سابقا عليه فقد أخطأ هذا إذا عني بأحد النوعين مجموع ما يستلزم الفعل كما هو إصطلاح كثير من النظار وأما إذا لم يرده بالقدرة إلا المصحح فهي نوع واحد فإن للناس في القدرة هل هي مع الفعل أو قبله عدة أقوال أحدها أنها لا تكون إلا مع الفعل وهذا بناء على أنها المستلزمة للفعل وتلك لا تكون إلا معه وقد يبنونه على أن القدرة عرض والعرض لا يبقى زمانين والثاني أنها لا تكون إلا قبله بناء على أنها المصححة فقط وأنها لا تكون مقارنة الثالث أنها تكون قبله ومعه وهذا أصح الأقوال ثم من هؤلاء من يقول القدرة نوعان مصححة ومستلزمة فالمصححة قبله والمستلزمة معه ومنهم من يقول بل القدرة هي المصححة فقط وهي تكون معه وقبله وأما الاستلزام فإنما يحصل بوجود الإرادة مع القدرة لا بنفس ما يسمى قدرة والإرادة ليست جزءا من مسمى القدرة وهذا القول هو الموافق للغة القرآن بل ولغات سائر الأمم هو أصح الأقوال وحينئذ فنقول أنت قادر متمكن خلق فيك القدرة على الإيمان ولكن أنت لا تريد الإيمان فإن قال له قل له يجعلني مريدا للإيمان قال له إن كنت تطلب منه ذلك فأنت مريد للإيمان وإن لم تطلب ذلك فأنت كاذب في قولك قل له يجعلني مريدا للإيمان فإن قال فكيف تأمرني بما لم يجعلني مريدا له لم يكن هذا طلبا للإرادة بل كان هذا مخاصمة وهذا ليس على الرسول جوابه بل ولا في ترك جوابه انقطاع فإن القدر ليس لأحد أن يحتج به الوجه الثامن أن يقال كل من دعاه غيره إلى فعل وأمره به فلا يخلو أن يكون مقرا بأن الله خالق أفعال العباد وإرادتهم وأنهم لا يفعلون إلا ما شاءه أو لا يكون مقرا بذلك بل يقول إنهم يفعلون ما لا يشاؤه وهم يحدثون إرادات أنفسهم بلا إرادته

 

فإن كان من القسم الأول فهو يقر بأن كل ظالم له أو لغيره قد خلقت إرادته للظلم فظلمه وهو لا يعذر الظالم في ذلك فيقال له أنت مقر بأن مثل هذا ليس بحجة لمن خالف ما أمر به كائنا ما كان فلا يسوغ لك الاحتجاج به وإن كان منكرا للقدر امتنع أن يحتج بهذا فثبت أن الاحتجاج بالقدر لإفحام الرسل لا يسوغ لا على قول هؤلاء ولا على قول هؤلاء فإن قال قائل المدعي ليس له مذهب يعتقده بل هو ساذج قيل له هب ان الأمر كذلك ففي نفس الأمر إما أن يكون الحق قول هؤلاء وإما أن يكون قول هؤلاء وعلى التقديرين فالاحتجاج بالقدر باطل فثبت بطلان الاحتجاج به باتفاق الطائفتين المثبتة والنفاة الوجه التاسع أن يقال مقصود الرسالة هوالإخبار بالعذاب لمن كذب وعصى كما قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى (سورة طـــه). وحينئذ فإذا قال هو خلق في الكفر ولم يخلق في إرادة الإيمان قيل له هذا لا يناقض وقوع العذاب بمن كذب وتولى فإن كان لم يخلق فيك الإيمان فأنت ممن يعاقبه وإن جعلك مؤمنا فأنت ممن يسعده ونحن رسل مبلغون لك منذرون لك فقد حصل مقصود الرسول وبلغ البلاغ المبين وإنما المكلف يخاصم ربه حيث أمره بما لم يعنه عليه وهذا لا يتعلق بالرسول ولا يضره والله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون الوجه العاشر أن يقال هذا السؤال وارد على هذا المصنف وعلى غيره من محققي المعتزلة والرافضة الذين اتبعوا أبا الحسين البصري حيث قال إنه مع وجود الداعي والقدرة يجب وجود المقدور وذلك أن الله خلق الداعي في العبد وقول أبي الحسين ومتبعيه في القدر وهو قول محققي أهل السنة الذين يقولون إن الله خلق قدرة العبد وإرادته وذلك مستلزم لخلقه فعل العبد ويقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة ومحدث لفعله والله سبحانه جعله فاعلا له محدثا له وهذا قول جماهير أهل

 

السنة من جميع الطوائف وهو قول كثير من أصحاب الأشعري كأبي إسحاق الإسفراييني وأبي المعالي والجويني الملقب بإمام الحرمين وغيرهما وإذا كان هذا قول محققي المعتزلة والشيعة وهو قول جمهور أهل السنة وأئمتهم بقي الخلاف بين القدرية الذين يقولون إن الداعي يحصل في قلب العبد بلا مشيئة من الله ولا قدرة وبين الجهمية المجبرة الذين يقولون إن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله بوجه من الوجوه وأن العبد ليس فاعلا لفعله كما يقول ذلك الجهم بن صفوان إمام المجبرة ومن اتبعه وإن أثبت أحدهم كسبا لا يعقل كما أثبته الأشعري ومن وافقه وإذا كان هذا النزاع في هذا الأصل بين القدرية النفاة لكون الله يعين المؤمنين على الطاعة ويجعل فيهم داعيا إليها ويختصهم بذلك دون الكافرين وبين المجبرة الغلاة الذين يقولون إن العباد لا يفعلون شيئا ولا قدرة لهم على شيء أو لهم قدرة لا يفعلون بها شيئا ولا تأثير لها في شيء فكلا القولين باطل مع أن كثيرا من الشيعة يقولون بقول المجبرة وأما السلف والأئمة القائلون بإمامة الخلفاء الثلاثة فلا يقولون لا بهذا

 

ولا بهذا فتبين ان قول أهل السنة القائلين بخلافة الثلاثة هو الصواب وأن من أخطأ من أتباعهم في شيء فخطأ الشيعة أعظم من خطئهم وهذا السؤال إنما يتوجه على من يسوغ الاحتجاج بالقدر ويقيم عذر نفسه أو غيره إذا عصى بكون هذا مقدرا علي ويرى أن شهود هذا هو شهود الحقيقة أي الحقيقة الكونية وهؤلاء كثيرون في الناس وفيهم من يدعى أنه من الخاصة العارفين أهل التوحيد الذين فنوا في توحيد الربوبية ويقول إن العارف إذا فنى في شهود توحيد الربوبية لم يستحسن حسنة ولم يستقبح سيئة ويقول بعضهم من شهد الإرادة سقط عنه الأمر ويقول بعضهم الخضر إنما سقط عنه التكليف لأنه شهد الإرادة وهذا الضرب كثير في متأخري الشيوخ والنساك والصوفية والفقراء بل وفي الفقهاء والامراء والعامة ولا ريب أن هؤلاء شر من المعتزلة والشيعة الذين يقرون بالأمر والنهي

 

وينكرون القدر وبمثل هؤلاء طال لسان المعتزلة والشيعة في المنتسبين إلى السنة فإن من أقر بالأمر والنهي والوعد والوعيد وفعل الواجبات وترك المحرمات ولم يقل إن الله خلق أفعال العباد ولا يقدر على ذلك ولا شاء المعاصي هو قد قصد تعظيم الامر وتنزيه الله عن الظلم وإقامة حجة الله على نفسه لكن ضاق عطنه فلم يحسن الجمع بين قدرة الله التامة ومشيئته العامة وخلقه الشامل وبين عدله وحكمته وأمره ونهيه ووعده ووعيده فجعل لله الحمد ولم يجعل له تمام الملك والذين أثبتوا قدرته ومشيئته وخلقه وعارضو بذلك أمره ونهيه ووعده ووعيده شر من اليهود والنصارى كما قال هذا المصنف فإن قولهم يقتضي إفحام الرسل ونحن إنما نرد من أقوال هذا وغيره ما كان باطلا وأما الحق فعلينا أن نقبله من كل قائل وليس لأحد أن يرد بدعة ببدعة ولا يقابل باطلا بباطل والمنكرون للقدر وإن كانوا في بدعة فالمحتجون به على الأمر أعظم بدعة وإن كان أولئك يشبهون المجوس فهؤلاء يشبهون المشركين المكذبين للرسل الذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء وقد كان في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين جماعة من هؤلاء القدرية وأما المحتجون بالقدر على الأمر فلا تعرف لهم طائفة

 

من طوائف المسلمين معروفة وإنما كثروا في المتأخرين وسموا هذا حقيقة وجعلوا الحقيقة تعارض الشريعة ولم يميزوا بين الحقيقة الدينية الشرعية التي تتضمن تحقيق أحوال القلوب كالإخلاص والصبر والشكر والتوكل والمحبة لله وبين الحقيقة الكونية القدرية التي يؤمن بها ولا يحتج بها على المعاصي لكن يسلم إليها عند المصائب فالعارف يشهد القدر في المصائب فيرضى ويسلم ويستغفر ويتوب من الذنوب والمعايب كما قال تعالى فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك (سورة غافر). فالعبد مأمور بأن يصبر على المصائب ويستغفر من المعايب ومن هذا الباب حديث احتجاج آدم وموسى عليهما السلام قد أخرجاه في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه وروي بإسناد جبر عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال احتج آدم وموسى وفي لفظ أن موسى قال يا رب أرني آدم الذي أخرجنا من الجنة بخطيئته فقال موسى يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فقال له آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وكتب لك التوراة بيده فبكم تجد فيها مكتوبا وعصى آدم ربه فغوى قبل أن أخلق قال بأربعين سنة قال فحج آدم موسى فحج آدم موسى فهذا الحديث ظن فيه طوائف أن آدم احتج بالقدر على الذنب وأنه حج موسى بذلك فطائفة من هؤلاء يدعون التحقيق والعرفان يحتجون بالقدر على الذنوب مستدلين بهذا الحديث وطائفة يقولون الاحتجاج بهذا سائغ في الآخرة لا في الدنيا وطائفة يقولون هو حجة للخاصة المشاهدين للقدر دون العامة وطائفة كذبت هذا الحديث كالجبائي وغيره وطائفة تأولته تأويلات فاسدة مثل قول بعضهم إنما حجة لأنه كان

 

قد تاب وقول آخر كان أباه والابن لا يلوم أباه وقول بعضهم كان الذنب في شريعة واللوم في أخرى وهكذا كله تعريج عن مقصود الحديث فإن الحديث إنما تضمن التسليم للقدر عند المصائب فإن موسى لم يلم آدم لحق الله الذي في الذنب وإنم لامه لأجل ما لحق الذرية من المصيبة ولهذا قال أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة وقال لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة وهذا روي في بعض طرق الحديث وإن لم يكن في جميعها وهو حق فإن آدم كان قد تاب من الذنب وموسى أعلم بالله من أن يلوم تائبا وهو أيضا قد تاب حيث قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي (سورة القصص). وقال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين (سورة الأعراف). وقال فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك (سورة الأعراف). وأيضا فإن المذنبين من الآدميين كثير فتخصيص آدم باللون دون الناس لا وجه له وأيضا فآدم وموسى أعلم بالله من أن يحتج أحدهما على الذنب بالقدر ويقبله الآخر فإن هذا لو كان مقبولا لكان لإبليس الحجة بذلك أيضا ولقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وإن كان من احتج على موسى بالقدر لركوب الذنب قد حجه ففرعون أيضا يحجه بذلك وإن كان آدم إنما حج موسى لأنه رفع اللوم عن المذنب لأجل القدر فيحتج بذلك عليه إبليس من امتناعه من السجود لآدم وفي الحقيقة هذا إنما هو احتجاج على الله وهؤلاء هم خصماء الله القدرية الذين يحشرون يوم القيامة إلى النار حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد

 

والآثار المروية في ذم القدرية تتناول هؤلاء أعظم من تناولها المنكرين للقدر تعظيما وتنزيها عن الظلم ولهذا يقرنون القدرية بالمرجئة لأن المرجئة تضعف أمر الإيمان والوعيد وكذلك هؤلاء القدرية تضعف أمر الله بالإيمان والتقوى ووعيده ومن فعل هذا كان ملعونا في كل شريعة كما روي لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا والخائضون في القدر بالباطل ثلاثة أصناف المكذبون به والدافعون للأمر والنهي به والطاعنون على الرب عز وجل بجمعه بين الأمر والقدر وهؤلاء شر الطوائف ويحكى في ذلك مناظرة عن إبليس والدافعون به للأمر بعدهم في الشر والمكذبون به بعد هؤلاء وأنت إذا رأيت تغليظ السلف على المكذبين بالقدر فإنما ذاك لأن الدافعين للأمر لم يكونوا يتظاهرون بذلك ولم يكونوا موجودين كثيرين وإلا فهم شر منهم كما أن الروافض شر من الخوارج في الاعتقاد ولكن الخوارج أجرأ على السيف والقتال منهم فلإظهار القول ومقاتلة المسلمين عليه جاء فيهم ما لا يجيء فيمن هم من جنس المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم

 

فتبين أن آدم احتج على موسى بالقدر من جهة المصيبة التي لحقته ولحقت الذرية والمصيبة تورث نوعا من الجزع يقتضي لوم من كان سببها فتبين له أن هذه المصيبة وسببها كان مقدورا مكتوبا والعبد مأمور أن يصبر على قدر الله ويسلم لأمر الله فإن هذا من جملة ما أمره الله به كما قال تعالى ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه (سورة التغابن). قالت طائفة من السلف كابن مسعود هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم فهذا الكلام الذي قاله هذا المصنف وأمثال هذا الكلام يقال لمن احتج بالقدر على المعاصي ثم يعلم أن هذه الحجة باطلة بصريح العقل عند كل أحد مع الإيمان بالقدر وبطلان هذه الحجة لا يقتضي التكذيب بالقدر وذلك أن بني آدم مفطورون على احتياجهم إلى جلب المنفعة ودفع المضرة لا يعيشون ولا يصلح لهم دين ولا دنيا إلا بذلك فلا بد أن يأتمروا وإنما فيه تحصيل منافعهم ودفع مضارهم سواء بعث إليهم رسول أو لم يبعث لكن علمهم بالمنافع والمضار بحسب عقولهم وقصودهم والرسل صلوات الله عليهم

 

بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فأتباع الرسل أكمل الناس في ذلك والمكذبون للرسل انعكس الأمر في حقهم فصاروا يتبعون المفاسد ويعطلون المصالح فهم شر الناس ولا بد لهم مع ذلك من أمور يجتلبونها وأمور يجتنبونها وأن يتدافعوا جميعا ما يضرهم من الظلم والفواحش ونحو ذلك فلو ظلم بعضهم بعضا في دمه وماله وعرضه وحرمته فطلب المظلوم الاقتصاص والعقوبة لم يقبل أحد من ذوي العقول احتجاجه بالقدر ولو قال اعذروني فإن هذا كان مقدرا علي لقالوا له وأنت لو فعل بك هذا فاحتج عليك ظالمك بالقدر لم تقبل منه وقبول هذه الحجة يوجب الفساد الذي لا صلاح معه وإذا كان الاحتجاج بالقدر مردودا في فطر جميع الناس وعقولهم مع أن جماهير الناس مقرون بالقدر علم أن الإقرار بالقدر لا ينافي دفع الاحتجاج به بل لا بد من الإيمان به ولا بد من رد الاحتجاج به ولما كان الجدل ينقسم إلى حق وباطل والكلام ينقسم إلى حق وباطل وكان من لغة العرب أن الجنس إذا انقسم إلى نوعين أحدهما أشرف من الآخر خصوا الأشرف باسمه الخاص وعبروا عن الآخر بالاسم العام كما في لفظ الجائز العام والخاص والمباح العام والخاص وذوي الأرحام العام والخاص ولفظ الحيوان العام والخاص فيطلقون لفظ الحيوان على غير الناطق لاختصاص الناطق باسم الإنسان وعملوا في لفظ الكلام والجدل كذلك فيقولون فلان صاحب كلام ومتكلم إذا كان قد يتكلم بلا علم ولهذا ذم السلف أهل الكلام وكذلك الجدل إذا لم يكن الكلام بحجة صحيحة لم يك إلا جدلا محضا والاحتجاج بالقدر من هذا الباب كما في الصحيح عن علي رضي الله عنه قال طرقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة فقال ألا تقومان تصليان فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء يبعثنا بعثنا قال فولى وهو يقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا (سورة الكهف). فإنه لما أمرهم بقيام الليل فاعتل علي

 

رضي الله عنه بالقدر وأنه لو شاء الله لأيقظنا علم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا ليس فيه إلا مجرد الجدل الذي ليس بحق فقال وكان الإنسان أكثر شيء جدلا.

*

فصل قال الرافضي ومنها تجويز أن يعذب الله سيد المرسلين على طاعته ويثيب إبليس على معصيته لأنه يفعل لا لغرض فيكون فاعل الطاعة سفيها لأنه يتعجل بالتعب في الاجتهاد في العبادة وإخراج ماله في عمارة المساجد والربط والصدقات من غير نفع يحصل له لأنه قد يعاقبه على ذلك ولو فعل عوض ذلك ما يلتذ به ويشتهيه من أنواع المعاصي قد يثيبه فاختيار الأول يكون سفها عند كل عاقل والمصير إلى المذهب يؤدي إلى خراب العالم واضطراب أمور الشريعة المحمدية وغيرها.

*والجواب من وجوه...

أحدها: أن هذا الذي قاله باطل باتفاق المسلمين فلم يقل أحد منهم أن الله قد يعذب أنبياءه ولا أنه قد يقع منه عذاب أنبيائه بل هم متفقون على أنه يثيبهم لا محالة لا يقع منه غير ذلك لأنه وعد بذلك وأخبر به وهو صادق الميعاد وعلم ذلك بالضرورة ثم من متكلمة أهل السنة المثبتين للقدر من يقول إنما علم ذلك بمجرد خبره الصادق وهي الدلالة السمعية المجردة ومنهم من يقول بل قد يعلم ذلك بغير الخبر ويعلم بأدلة عقلية وإن كان الشارع قد نبه عليها وأرشد إليها كما إذا علمت حكمته ورحمته وعدله علم أن ذلك يستلزم إكرام من هو متصف بالصفات المناسبة لذلك كما قالت خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن تعلم أنه نبي والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق

 

وقد قال الله تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (سورة الجاثية). وهذا إستفهام إنكار يقتضي الإنكار على من يحسب ذلك ويظنه وإنما ينكر على من ظن أو حسب ما هو خطأ باطل يعلم بطلانه لا من ظن ظنا ما ليس بخطأ ولا باطل فعلم أن التسوية بين أهل الطاعة وبين أهل المعصية مما يعلم بطلانه وأن ذلك من الحكم السييء الذي ينزه الله عنه ومثله قوله تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (سورة ص). وقوله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون (سورة القلم). وفي الجملة التسوية بين الأبرار والفجار والمحسنين والظالمين وأهل الطاعة وأهل المعصية حكم باطل يجب تنزيه الله عنه فإنه ينافي عدله وحكمته وهو سبحانه كما ينكر التسوية بين المختلفات فهو يسوي بين المتماثلات كقوله سبحانه وتعالى أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر وقوله كدأب آل فرعون والذين من قبلهم الآية وقوله لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب وقوله فاعتبروا يا أولي الأبصار وقوله ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وقوله وتلك الأمثال نضربها للناس.

الوجه الثاني: أن قوله ومنها تجويز تعذيب الأنبياء وإثابة الشياطين إن أراد به أنهم يقولون إن الله قادر على ذلك فهو لا ينازع في القدرة وإن أراد أنا هل نشك هل يفعله أو لا يفعله فمعلوم أنا لا نشك في ذلك بل نعلم انتفاءه وعلمنا بانتفائه مستلزم لانتفائه

 

وإن أراد أن من قال إنه يفعل لا لحكمة يلزمه تجويز وقوع ذلك منه وإمكان وقوعه منه وإنه لو فعل ذلك لم يكن ظالما فلا ريب أن هذا قول هؤلاء وهم يصرحون بذلك لكن أكثر أهل السنة لا يقولون بذلك بل عندهم أن الله منزه عن ذلك ومقدس عنه ولكن على هذا لا يلزم أن تكون الطاعة سفها فإنها إنما تكون سفها إذا كان وجودها كعدمها والمسلمون متفقون على أن وجودها نافع وعدمها مضر وإن كانوا متنازعين هل يجوز أن يفعل الرب خلاف ذلك فإن نزاعهم في الجواز لا في الوقوع.

الوجه الثالث: أن يقال لو قدر أن ذلك جائز الوقوع لم تكن الطاعة سفها فإن هؤلاء الإمامية مع أهل السنة والجماعة يجوزون الغفران لأهل الكبائر والمعتزلة مع أهل السنة يجوزون تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ومع هذا فلم يكن اجتناب الكبائر والصغائر سفها بل هذا الاجتناب واجب بالاتفاق.

الوجه الرابع: أن يقال فعل النوافل ليس سفها بالاتفاق وإن جاز أن يثيب الله العبد بدون ذلك لأسباب أخر فالشيء الذي علم نفعه يكون فعله حكمة محمودة وإن جوز المجوز أن يحصل النفع بدون ذلك كاكتساب الأموال وغيرها من المطالب بالأسباب المقتضية لذلك في العادة فإنه ليس سفها وإن جاز أن يحصل المال بغير سعي كالميراث.

الوجه الخامس: قوله لأنه يفعل لا لغرض قد تقدم جوابه وبينا أن أكثر أهل السنة يقولون إنه يفعل لحكمة وهو مراد هذا بالغرض وبعض أهل السنة يصرح بأنه يفعل لغرض ومن قال من المثبتين للقدر إنه يفعل لا لحكمة فإنه يقول وإن كان يفعل ما يشاء فقد يعلم ما يشاؤه مما لا يشاؤه إما بإضطراد العادة وإما بإخبار الصادق وإما بعلم ضروري يجعله في قلوبنا وإما بغير ذلك.

*

فصل قال الرافضي ومنها أنه لا يتمكن أحد من تصديق أحد من الأنبياء لأن التوصل إلى ذلك والدليل عليه إنما يتم بمقدمتين إحداهما أن الله تعالى فعل المعجز على يد النبي صلى الله عليه وسلم لأجل التصديق والثانية أن

 

كل من صدقه الله فهو صادق وكلتا المقدمتين لا تتم على قولهم لأنه إذا استحال أن يفعل لغرض استحال أن يظهر المعجز لأجل التصديق وإذا كان فاعلا للقبيح ولأنواع الإضلال والمعاصي والكذب وغير ذلك جاز أن يصدق الكذاب فلا يصح الاستدلال على صدق أحد من الأنبياء ولا المنذرين بشيء من الشرائع والأديان.

*الجواب من وجوه...

أحدها: أن يقال إنه قد تقدم أن أكثر القائلين بخلافة الخلفاء الثلاثة يقولون إن الله يفعل لحكمة بل أكثر أهل السنة المثبتين للقدر يقولون بذلك أيضا وحينئذ فإن كان هذا القول هو الصواب فهو من أقوال أهل السنة وإن كان نفيه هو الصواب فهو من أقوال أهل السنة أيضا فعلى التقديرين لا يخرج الحق عن قولهم بل قد يوجد في كل مذهب من المذاهب الأربعة النزاع بين أصحابه في هذا الأصل مع اتفاقهم على إثبات خلافة الخلفاء الثلاثة وعلى إثبات القدر وأن الله خالق أفعال العباد ونزاع أصحاب أحمد في هذا الأصل معروف وغير واحد من أصحاب أحمد وغيرهم كابن عقيل والقاضي أبي خازم وغيرهما يثبتون المعجزات بأن الرب حكيم لا يجوز في حكمته إظهار المعجزات على يد الكذاب وكذلك قال أبو الخطاب وغيره وكذلك أصحاب مالك والشافعي ولعل أكثر أصحاب أبي حنيفة يقولون بإثبات الحكمة في أفعاله أيضا.

الوجه الثاني: أن يقال لا نسلم أن تصديق الرسول لا يمكن إلا بطريق الاستدلال بالمعجزات بل الطرق الدالة على صدقه طرق متعددة غير طريق المعجزات كما قد بسط في غير هذا الموضع ومن

 

قال إنه لا طريق إلا ذلك كان عليه الدليل فإن النافي عليه الدليل كما على المثبت الدليل وهو لم يذكر دليلا على النفي.

الوجه الثالث: أن يقال لا نسلم أن دلالة المعجزة على الصدق موقوفة على أنه لا يجوز أن يفعل ما ذكر بل دلالة المعجزة عل الصدق دلالة ضرورية لا تحتاج إلى نظر فإن اقتران المعجزة بدعوى النبوة يوجب علما ضروريا بأن الله أظهرها لصدقه كما أن من قال لملك من الملوك إن كنت أرسلتني إلى هؤلاء فانقض عادتك وقم واقعد ثلاث مرات ففعل ذلك الملك علم بالضرورة أنه فعل ذلك لأجل تصديقه.

الوجه الرابع: قول من يقول لو لم تدل المعجزة على الصدق للزم عجز البارىء عن تصديق رسوله والعجز ممتنع عليه لأنه لا طريق إلى التصديق إلا بالمعجزة وهذه طريقة كثير من أصحاب الأشعري ومن وافقهم وهي طريقة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلي وغيرهما والأولى طريقة كثير منهم أيضا وهي طريقة أبي المعالي ومن اتبعه وكلاهما طريقة للأشعري وعلى هذا فإظهار المعجزة على يد الكذاب المدعي للنبوة هل هو ممكن مقدور أم لا على القولين.

 

الوجه الخامس: أن يقال قوله إنها موقوفة على أن كل من صدقه الله فهو صادق إنما يصح أن لو كان المعجز بمنزلة التصديق بالقول وهذا فيه نزاع فمن الناس من يقول بل هي بمنزلة إنشاء الرسالة والإنشاء لا يحتمل التصديق والتكذيب فقول القائل لغيره أرسلتك أو وكلتك أو نحو ذلك إنشاء وإذا كانت دلالة المعجزة على إنشاء الرسالة لم يكن ذلك موقوفا على أنه لا يفعل إلا لغرض ولا على أنه لا يفعل القبائح فإن الإنشاء كالأمر والنهي ونحو ذلك.

الوجه السادس: أن يقال قوله لأنه إذا استحال أن يفعل لغرض استحال أن يظهر المعجز لأجل التصديق يجيب عنه من يقول إنه لا يفعل شيئا لأجل شيء بأنه قد يفعل المتلازمين كما يفعل سائر الأدلة المستلزمة لمدلولاتها فيفعل المخلوقات الدالة على وجوده وقدرته وعلمه ومشيئته وهو قد أراد خلقها واراد أن تكون مستلزمة لمدلولها دالة عليه لمن نظر فيها كذلك خلق المعجزة هنا فأراد خلقها وأراد أن تكون مستلزمة لمدلوها الذي هو صدق الرسول دالة على ذلك لمن نظر فيها وإذا أراد خلقها وأراد هذا التلازم حصل المقصود من دلالتها على الصدق وإن لم يجعل أحد المرادين لأجل الآخر إذ المقصود يحصل بإرادتهما جميعا فإن قيل المعجز لا يدل بنفسه وإنما يدل للعلم بأن فاعله اراد به التصديق قيل هذا موضع النزاع ونحن ليس مقصودنا نصر قول من يقول إنه يفعل لا لحكمة بل هذا القول مرجوح عندنا وإنما المقصود أن نبين حجة القائلين بالقول الآخر وأرباب هذا القول خير من المعتزلة والشيعة وأما قوله إذا كان فاعلا للقبيح جاز أن يصدق الكذاب هذه حجة ثانية وجواب ذلك أن يقال ليس في المسلمين من يقول إن الله يفعل ما هو قبيح منه ومن قال إنه خالق أفعال العباد يقول إن ذلك الفعل قبيح منهم لا منه كما أنه ضار لهم لا له ثم منهم من يقول إنه فاعل ذلك الفعل والأكثرون يقولون

 

إن ذلك الفعل مفعول له وهو فعل للعبد وأما نفس خرق العادة فليست فعلا للعباد حتى يقال إنها قبيحة منهم فلو قدر فعل ذلك لكان قبيحا منه لا من العبد والرب منزه عن فعل القبيح فمن قال إذا خلق الله ما هو ضار للعابد جاز أن يفعل ما هو ضار كان قوله باطلا كذلك إذا جاز أن يخلق فعل العبد الذي هو قبيح من العبد وليس خلقه قبيحا منه لم يستلزم أن يخلق ما هو قبيح منه لا فعل للعبد فيه وتصديق الكذاب إنما يكون بإخبار أنه صادق سواء كان ذلك بقول أو فعل يجري مجرى القول وذلك ممتنع منه لأنه صفة نقص والله سبحانه منزه عن النقائص بالعقل وباتفاق العقلاء ومن قال إنه لا يتصور منه فعل قبيح بل كل ما يمكن فعله فهو حسن إذا فعله يقول إن ما يستلزم سلب صفات الكمال وإثبات النقص له فهو ممتنع عليه كالعجز والجهل ونحو ذلك والكذب صفة نقص بالضرورة والصدق صفة كمال وتصديق الكذاب نوع من الكذب كما أن تكذيب الصادق نوع من الكذب وإذا كان الكذب صفة نقص امتنع من الله ما هو نقص وهذا المقام له بسط مذكور في غير هذا الموضع ونحن لا نقصد تصويب قول كل من انتسب إلى السنة بل نبين الحق والحق أن أهل السنة لم يتفقوا قط على خطأ ولم تنفرد الشيعة عنهم قط بصواب بل كل ما خالفت فيه الشيعة جميع أهل السنة فالشيعة فيه مخطئون كما أن ما خالفت فيه اليهود والنصاري لجميع المسلمين فهم فيه ضالون وإن كان كثير من المسلمين قد يخطىء ومن وافق جهم بن صفوان من المثبتين للقدر على أن الله لا يفعل شيئا لحكمة ولا لسبب وأنه لا فرق بالنسبة إلى الله بين المأمور والمحظور ولا يحب بعض الأفعال ويبغض بعضها فقوله فاسد مخالف للكتاب والسنة واتفاق السلف وهؤلاء قد يعجزون عن بيان امتناع كثير من النقائص عليه لا سيما إذا قال من قال منهم إن تنزيهه عن النقص لا يعلم بالعقل بل بالسمع

 

فإذا قيل لهم لم قلتم إن الكذب ممتنع عليه قالوا لأنه نقص والنقص عليه محال فيقال لهم إن تنزيهه عندكم عن النقص لم يعلم إلا بالإجماع ومعلوم أن الإجماع منعقد على تنزيهه عن الكذب فإن صح الإحتجاج على هذا بالإجماع فلا حاجة إلى هذا التطويل وأيضا فالكلام إنما هو في العبارة الدالة على المعنى وهذا كما قاله بعضهم إن الله لا يجوز أن يتكلم بكلام ولا يعني به شيئا وقال خلافا للحشوية ومعلوم أن هذا القول لم يقله أحد من المسلمين وإنما النزاع هل يجوز أن ينزل كلاما لا يعلم العباد معناه لا أنه هو في نفسه لا يعني به شيئا ثم بتقدير أن يكون في هذا نزاع فإنه احتج على ذلك بأن هذا عبث والعبث على الله تعالى ممتنع وهذا المحتج يجوز على الله فعل كل شيء لا ينزهه عن فعل فهذا وأمثاله من تناقض الموافقين لقول الجهمية الجبرية في القدر كثير لكن ليس هذا قول أئمة السنة ولا جمهورهم والله أعلم.

*

فصل قال الرافضي ومنها أنه لا يصح أن يوصف الله أنه غفور حليم عفو لأن الوصف بهذه إنما يثبت لو كان الله مستحقا للعقاب في حق الفساق بحيث إذا أسقطه عنهم كان غفورا عفوا رحيما وإنما يستحق العقاب لو كان العصيان من العبد لا من الله تعالى.

*فيقال الجواب من وجوه...

أحدها: أن كثيرا من أهل السنة يقولون لا نسلم أن الوصف بهذه إنما يثبت لو كان مستحقا بل الوصف بهذه يثبت إذا كان قادرا على العقاب مع قطع النظر عن الاستحقاق فإن تخصيص الاستحقاق بهذه الامور يقتضي أنه يستحق شيئا دون شيء وهذا ممنوع عند هؤلاء بل له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فإذا كان قادرا على أن يعذب العصاة وهو يفعل ما يشاء صح منه مغفرته وحلمه وعفوه

 

الثاني: أن يقال أن قول القائل يستحق العقاب يعني به أن عقابه للعصاة عدل منه أو يعني به أنه محتاج إلى ذلك أما الأول فهو متفق عليه فإن عقوبته للعصاة عدل منه باتفاق المسلمين وإذا كان كذلك كان عفوه ومغفرته إحسانا منه وفضلا وهذا يقول به من يقول إنه خالق أفعالهم والقائلون بأنها أفعال لهم مخلوقة له والقائلون بأنها أفعال له كسب لهم متفقون على أن العقاب عدل منه وإن عني به كونه محتاجا إليه فهذا باطل باتفاق المسلمين.

الثالث: أن يقال المغفرة والرحمة والعفو إما أن يوصف بها وإن كان العقاب قبيحا على قول القائلين بذلك وإما أن لا يوصف بها إلا إذا كان العقاب سائغا غير قبيح فإن كان الأول لزم أن لا يكون غفارا لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى لأن عقاب هؤلاء قبيح والمغفرة لهم واجبة عند أهل هذا القول ويلزم أن لا يكون رحيما بمن يستحق الرحمة من الأنبياء والمؤمنين ويلزم ان لا يكون غفورا رحيما لمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء ولما كان قد ثبت بالقرآن أنه غفار للتائبين رحيم بالمؤمنين علم أنه موصوف بالمغفرة والرحمة وإن كان العقاب منه ممتنعا بتقدير أن يكون مستحقا للعقاب فلا يمتنع أن يوصف بالمغفرة والرحمة كما في مغفرته ورحمته لمن لا يحسن عقابه عندهم.

الرابع: أن العصيان من العبد بمعنى أنه فاعله عند الجمهور وبمعنى أنه كاسبه لا فاعله عند بعضهم وبهذا القدر يستحق الإنسان أن يعاقب الظالم فاستحقاق الله أن يعاقب الظالم أولى بذلك وأما كونه خالقا لذلك فذاك أمر يعود إليه وله في ذلك حكمة عند الجمهور القائلين بالحكمة وذلك لم يصدر إلا لمحض المشيئة عند من لا يعلل بالحكمة والله أعلم.

*

فصل قال الرافضي ومنها أنه يلزم تكليف ما لا يطاق لأنه تكليف للكافر بالإيمان ولا قدرة له عليه وهو قبيح عقلا

 

والسمع قد منع منه وقال الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (سورة البقرة)..

*والجواب عنه من وجوه...

أحدها: أن المثبتين للقدر لهم في قدرة العبد قولان أحدهما أن قدرته لا تكون إلا مع الفعل وعلى هذا فالكافر الذي سبق في علم الله أنه لا يؤمن لا يقدر على الإيمان أبدا وما ذكره وارد على هؤلاء. والثاني أن القدرة نوعان فالقدرة المشروطة في التكليف تكون قبل الفعل وبدون الفعل وقد تبقى إلى حين الفعل والقدرة المستلزمة للفعل لا بد أن تكون موجودة عند وجوده وأصل قولهم إن الله خص المؤمنين بنعمة يهتدون بها لم يعطها الكافر وأن العبد لا بد أن يكون قادرا حين الفعل خلافا لمن زعم أنه لا يكون قادرا إلا قبل الفعل وأن النعمة على الكافر والمؤمن سواء وإذا كان لا بد من قدرته حال الفعل فإذا كان قادرا قبل الفعل وبقيت القدرة إلى حين الفعل لم ينقض هذا أصلهم لكن مجرد القدرة الصالحة للضدين يشترك فيها المؤمن والكافر فلا بد للمؤمن مما يخصه الله به من الأسباب التي بها يكون مؤمنا وهذا يدخل فيه إرادته للإيمان وهذه الإرادة يدخلونها في جملة القدرة المقارنة للفعل وهو نزاع لفظي وقد بين هذا في غير هذا الموضع كما تقدم وحينئذ فعلى قول الجمهور من أهل السنة الذين يقولون إن الكافر يقدر على الإيمان يبطل هذا الإيراد وعلى قول الآخرين فإنهم يلتزمونه وأي القولين كان هو الصواب فهو غير خارج عن أقوال أهل السنة ولله الحمد.

الوجه الثاني: أن يقال تكليف ما لا يطاق ينقسم إلى قسمين أحدهما ما لا يطاق للعجز عنه كتكليف الزمن المشي وتكليف الإنسان الطيران ونحو ذلك فهذا غير واقع في الشريعة عند جماهير أهل السنة المثبتين للقدر وليس فيما ذكره ما يقتضي لزوم وقوع هذا والثاني ما لا يطاق للاشتغال بضده كاشتغال الكافر بالكفر فإنه هو الذي صده عن الإيمان وكالقاعد في حال قعوده فإن اشتغاله بالقعود

 

يمنعه أن يكون قائما والإرادة الجازمة لأحد الضدين تنافي إرادة الضد الآخر وتكليف الكافر الإيمان من هذا الباب ومثل هذا ليس بقبيح عقلا عند أحد من العقلاء بل العقلاء متفقون على أمر الإنسان ونهيه بما لا يقدر عليه حال الأمر والنهي لاشتغاله بضده إذا أمكن أن يترك ذلك الضد ويفعل الضد المأمور به وإنما النزاع هل يسمى هذا تكليف ما لا يطاق لكونه تكليفا بما انتفت فيه القدرة المقارنة للفعل فمن المثبتين للقدر من يدخل هذا في تكليف ما لا يطاق كما يقوله القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلي وغيرهما ويقولون ما لا يطاق على وجهين منه ما لا يطاق للعجز عنه وما لا يطاق للاشتغال بضده ومنهم من يقول هذا لا يدخل فيما لا يطاق وهذا هو الأشبه بما في الكتاب والسنة وكلام السلف فإنه لا يقال للمستطيع المأمور بالحج إذا لم يحج إنه كلف بما لا يطيق ولا يقال لمن أمر بالطهارة والصلاة فترك ذلك كسلا أنه كلف ما لا يطيق وقوله تعالى وكانوا لا يستطيعون سمعا (سورة الكهف). لم يرد

 

به هذا فإن جميع الناس قبل الفعل ليس معهم القدرة الموجبة للفعل فلا يختص بذلك العصاة بل المراد أنهم يكرهون سماع الحق كراهة شديدة لا تستطيع أنفسهم معها سماعه لبغضهم لذلك لا لعجزهم عنه كما أن الحاسد لا يستطيع الإحسان إلى المحسود لبغضه لا لعجزه عنه وعدم هذه الاستطاعة لا يمنع الأمر والنهي فإن الله يأمر الإنسان بما يكرهه وينهاه عما يحبه كما قال تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم (سورة البقرة). وقال وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى سورة النازعات وهو قادر على فعل ذلك إذا أراده وعلى ترك ما نهى عنه وليس من شرط المأمور به أن يكون العبد مريدا له ولا من شرط المنهي عنه أن يكون العبد كارها له فإن الفعل يتوقف على القدرة والإرادة والمشروط في التكليف أن يكون العبد قادرا على الفعل لا أن يكون مريدا له لكنه لا يوجد إلا إذا كان مريدا له فالإرادة شرط في وجوده لا في وجوبه.

الوجه الثالث: أن تكليف ما لا يطاق إذا فسر بأنه الفعل الذي ليس له قدرة عليه تقارن مقدورها كان دعوى امتناعه بهذا التفسير مورد النزاع فيحتاج نفيه إلى دليل.

الوجه الرابع: أن من أهل الإثبات للقدر من يجوز تكليف ما لا يطاق للعجز عنه بل من غاليتهم من يجوز تكليف الممتنع لذاته وبعضهم يدعي أن ذلك واقع في الشريعة كتكليف أبي لهب الإيمان مع تكليف تصديق خبر الله أنه لا يؤمن وهذا القول وإن كان مرجوحا لكن هذا القدري لم يذكر دليلا على إبطال ذلك ولا على جواب معارضته بل اكتفى بمجرد قوله وهو قبيح عقلا وهؤلاء يقولون لا مجال للعقل في تحسين ولا تقبيح فإن لم يكمل البحث في هذه اللوازم لم يكن ما ذكره حجة عليهم فضلا عن أن يكون حجة على غيرهم من أهل الإثبات للقدر أو على المثبتين لخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

 

*

فصل قال الرافضي ومنها أنه يلزم أن تكون أفعالنا الاختيارية الواقعة بحسب قصودنا ودواعينا مثل حركتنا يمنة ويسرة وحركة البطش باليد والرجل في الصنائع المطلوبة لنا كالأفعال الاضطرارية مثل حركة النبض وحركة الواقع من شاهق بإيقاع غيره، لكن الضرورة قاضية بالفرق بينهما فإن كل عاقل يحكم بأنا قادرون على الحركة الاختيارية وغير قادرين على الحركة إلى السماء من الطيران وغير ذلك. قال أبو الهذيل العلاف حمار بشر أعقل من بشر لأن حمار بشر لو أتيت به إلى جدول صغير وضربته للعبور فإنه يطفره ولو أتيت به إلى جدول كبير لم يطفره لأنه يفرق بين ما يقدر على طفره وما لا يقدر عليه وبشر لا يفرق بين المقدور عليه وغير المقدور عليه.

*والجواب أن هذا إنما يلزم من يقول إن العبد لا قدرة له على أفعاله الاختيارية وليس هذا قول إمام معروف ولا طائفة معروفة من طوائف أهل السنة بل ولا من طوائف المثبتين للقدر إلا ما يحكى عن الجهم بن صفوان وغلاة المثبتة أنهم سلبوا العبد قدرته وقالوا إن حركته كحركة الأشجار بالرياح إن صح النقل عنهم وأشد الطوائف قربا من هؤلاء هو الأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو مع هذا يثبت للعبد قدرة محدثة واختيارا ويقول إن الفعل كسب للعبد لكنه يقول لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد المقدور فلهذا قال من قال إن هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول وجمهور أهل الإثبات على أن العبد فاعل لفعله حقيقة وله قدرة واختيار وقدرته مؤثرة في مقدورها كما تؤثر القوى والطبائع وغير ذلك من الشروط والأسباب

 

فما ذكره لا يلزم جمهور اهل السنة وقد قلنا غير مرة نحن لا ننكر أن يكون في بعض أهل السنة من يقول الخطأ لكن لا يتفقون على خطأ كما تتفق الإمامية على خطأ بل كل مسألة خالفت فيها الإمامية أهل السنة فالصواب فيها مع أهل السنة وأما ما تنازع فيه أهل السنة وتنازعت فيه الإمامية فذاك لا اختصاص له بأهل السنة ولا بالإمامية وبالجملة فجمهور أهل السنة من السلف والخلف يقولون إن العبد له قدرة وإرادة وفعل وهو فاعل حقيقة والله خالق ذلك كله كما هو خالق كل شيء كما دل على ذلك الكتاب والسنة قال تعالى عن إبراهيم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك (سورة البقرة). وقال تعالى عن إبراهيم رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي سورة ابراهيم وقالتعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا (سورة السجدة). وقال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين (سورة الأنبياء). وقال إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا (سورة المعارج). فأخبر أن الله يجعل المسلم مسلما والمقيم الصلاة مقيم للصلاة والإمام الهادي إماما هاديا

 

وقال عن المسيح صلى الله عليه وسلم وجعلني مباركا أينما كنت إلى قوله وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا (سورة مريم). فبين أن الله هو الذي جعله برا بوالدته ولم يجعله جبارا شقيا وهذا صريح قول أهل السنة في أن الله عز وجل خالق أفعال العباد وقال تعالى عن فرعون وقومه وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار (سورة القصص). وقد قال تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين سورة التكوير وقال تعالى إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما سورة الإنسان وقوله كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره (سورة المدثر). فأثبت مشيئة العبد وقوله كلا إلا بمشيئة الرب تعالى وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد وأنها لا تكون إلا بمشيئة الرب وقد أخبر أن العباد يفعلون ويصنعون ويعملون ويؤمنون ويكفرون ويتقون ويفسقون ويصدقون ويكذبون ونحو ذلك في مواضع كثير وأخبر أن لهم استطاعة وقوة في غير موضع وأئمة أهل السنة وجمهورهم يقولون إن الله خالق هذا كله والخلق عندهم ليس هو المخلوق فيفرقون بين كون أفعال العباد مخلوقة مفعولة للرب وبين أن يكون نفس فعله الذي هو مصدر فعل يفعل فعلا فإنها فعل للعبد بمعنى المصدر وليست فعلا للرب تعالى بهذا الاعتبار بل هي مفعولة له والرب تعالى لا يتصف بمفعولاته ولكن هذه الشناعات لزمت من لا يفرق بين فعل الرب ومفعوله ويقول مع ذلك إن أفعال العباد فعل لله كما يقول ذلك الجهم بن صفوان وموافقوه والأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أتباع الأئمة ولهذا ضاق بهؤلاء البحث في هذا الموضع كما قد بسط في موضعه وكذلك أيضا لزمت من لا يثبت في المخلوقات أسبابا وقوى وطبائع ويقول إن الله يفعل عندها لا بها فلزمه أن لا يكون فرق بين القادر

 

والعاجز وإن أثبت قدرة وقال إنها مقترنة بالكسب قيل له لم تثبت فرقا معقولا بين ما تثبته من الكسب وتنفيه من الفعل ولا بين القادر والعاجز إذا كان مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة فإن فعل العبد يقارن حياته وعلمه وإرادته وغير ذلك من صفاته فإذا لم يكن للقدرة تأثير إلا مجرد الاقتران فلا فرق بين القدرة وغيرها وكذلك قول من قال إن القدرة مؤثرة في صفة الفعل لا في أصله كما يقول القاضي أبو بكر ومن وافقه فإنه إن أثبت تأثيرا بدون خلق الرب لزم أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه الله تعالى وإن جعل ذلك معلقا بخلق الرب فلا فرق بين الأصل والصفة وأما أئمة أهل السنة وجمهورهم فيقولون بما دل عليه الشرع والعقل قال الله تعالى سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات (سورة الأعراف). وقال وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها (سورة البقرة). وقال يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام (سورة المائدة). وقال يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا (سورة البقرة). ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يخبر الله تعالى أنه يحدث الحوادث بالأسباب وكذلك دل الكتاب والسنة على إثبات القوى والطبائع التي جعلها الله في الحيوان وغيره كما قال تعالى فاتقوا الله ما استطعتم (سورة التغابن). وقال أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة (سورة فصلت). وقال الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء (سورة الروم). وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبدالقيس إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما فقال بل خلقين جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ومثل هذا كثير ليس هذا موضع بسطه وهؤلاء يثبتون للعبد قدرة ويقولون إن تأثيرها في مقدورها كتأثير

 

سائر الأسباب في مسبباتها والسبب ليس مستقلا بالمسبب بل يفتقر إلى ما يعاونه فكذلك قدرة العبد ليست مستقلة بالمقدور وأيضا فالسبب له ما يمنعه ويعوقه وكذلك قدرة العبد والله تعالى خالق السبب وما يعينه وصارف عنه ما يعارضه ويعوقه وكذلك قدرة العبد وحينئذ فما ذكره هذا الإمامي من الفرق الضروري بين الأفعال الاختيارية الواقعة بحسب قصودنا ودواعينا وبين الأفعال الاضطرارية مثل حركة النبض وحركة الواقع من شاهق بإيقاع غيره حق يقوله جميع أهل السنة وجماعة أتباعهم لم ينازع في ذلك أحد من أئمة المسلمين الذين لهم في الأمة لسان صدق من الصحابة والتابعين لهم بإحسان والفقهاء المشهورين كمالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأمثال هؤلاء الذين هم أهل الاجتهاد في الدين وخلفاء المرسلين وإذا كان في المثبتين للقدر من يلزمه بطلان الفرق كان قوله باطلا ومع هذا فقول نفاة القدر أبطل منه فهذا القدري رد باطلا بما هو أبطل منه وأهل السنة لا يوافقونه لا على هذا ولا على هذا لكن يقولون الحق ويعلمون أن قوله أبطل وذلك أن أفعال العباد حادثة كائنة بعد ان لم تكن فحكمها حكم سائر الحوادث وهي ممكنة من الممكنات فحكمها حكم سائر الممكنات فما من دليل يستدل به على أن بعض الحوادث والممكنات مخلوقة لله إلا وهو يدل على أن أفعال العباد مخلوقة لله فإنه قد علم أن المحدث لا بد له من محدث وهذه المقدمة ضرورية عند جماهير العقلاء وكذلك الممكن لا بد له من مرجح تام فإذا كان فعل العبد حادثا بعد أن لم يكن فلا بد له من محدث وإذا قيل المحدث هو العبد فيكون العبد صار محدثا له بعد أن لم يكن هو أيضا أمر حادث فلا بد له من محدث إذ لو كان العبد

 

لم يزل محدثا له لزم دوام ذلك الفعل الحادث وإذا كان إحداثه له حادثا فلا بد له من محدث وإذا قيل المحدث إرادة العبد قيل فإرادته أيضا حادثة فلا بد لها من محدث وإن قيل حدثت بإرادة من العبد قيل تلك الإرادة أيضا لا بد لها من محدث فأي محدث فرضته في العبد إن كان حادثا فالقول فيه كالقول في الحادث الأول وإن جعلته قديما أزليا كان هذا ممتنعا لأن ما يقوم بالعبد لا يكون قديما أزليا وإن قلت هو وصف للعبد وهي قدرته المخلوقة فيه مثلا لم ينفعك هذا لوجوه أحدها أن يقال فإذا كانت هذه القدرة المخلوقة فيه موجودة قبل حدوث الفعل وحين حدوثه فلا بد من سبب آخر حادث ينضم إليها وإلا لزم ترجيح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح وحدوث الحوادث بلا سبب حادث وإلا فإذا كان حال العبد قبل أن يفعل وحاله حين الفعل سواء لا مزية لأحد الحالين على الآخر وكان تخصيص هذه الحال بكونه فاعلا فيها دون الأخرى ترجيحا لأحد المتماثلين بدون مرجح وهكذا إذا قيل فعله يمكن أن يكون وأن لا يكون والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام والمرجح إذا كان من العبد فالقول فيه كالقول في الفعل فلا بد أن يكون المرجح التام من الله تعالى وأن يستلزم وجوده وجود الفعل وإلا لم يكن تاما ولأجل هذا اتفق أهل السنة المثبتون للقدر على أن الله خص المؤمنين بنعمة دون الكافرين بأن هداهم للإيمان ولو كانت نعمته على المؤمنين مثل نعمته على الكافرين لم يكن المؤمن مؤمنا كما قال تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون (سورة الحجرات). وقال تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين (سورة الحجرات). وقال تعالى فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (سورة البقرة). وقال تعالى أولئك

 

كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه (سورة المجادلة). وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء (سورة الأنعام). والقدرية جعلوا نعمته الدينية على الصنفين سواء وقالوا إن العبد أعطي قدرة تصلح للإيمان والكفر ثم إنه يصدر عنه أحدهما بدون سبب حادث يصلح للترجيح وزعموا أن القادر المختار يرجح أحد طرفي مقدوره على الآخر بلا مرجح وادعوا هذا في قدرة الرب وقدرة العبد وقد وافقهم على هذا في قدرة الرب كثير من المثبتين للقدر القائلين بأن الرب لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته بل ووافقهم فيها كثير من المثبتين للقدر وصار الرازي وأمثاله ممن يحتج على القدرية بتلك الحجة يتناقضون فإذا ناظروهم في مسألة خلق الأفعال احتجوا عليهم بتلك وقالوا إن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام سواء صدر عن قادر مختار أو غيره وإذا تكلموا في مسألة حدوث العالم وقيل لهم الحادث لا بد له من سبب حادث أجابوا بجواب القدرية فقالوا

 

القادر المختار يرجح أحد طرفي مقدوره بلا مرجح وفرقوا بين القادر وغيره كما قالت القدرية وقد يفرقون بين فعل الرب وفعل العبد بأن الرب يرجح بمشيئته القديمة التي هي من لوازم ذاته بخلاف العبد فإن إرادته حادثة من غيره ولكن قال أكثر الناس هؤلاء الذين يقولون إن الإرادة القديمة الأزلية هي المرجحة من غير تجدد شيء قولهم من جنس قولهم فإن الإرادة نسبتها إلى جميع ما يقدر وقتا للحوادث نسبة واحدة ونسبتها إلى جميع الممكنات نسبة واحدة فترجح أحد المتماثلين على الآخر ترجيح بلا مرجح وإذا قدر حال الفاعل قبل الفعل وحين الفعل سواء ثم قدر إختصاص أحد الحالين بالفعل لزم الترجيح بلا مرجح وهذا منتهى نظر هؤلاء الطوائف ولهذا كان من لم يعرف كلامهم كالرازي وأمثاله مترددين بين عله الدهرية وقادر القدرية ومريد الكلابية لا يجعلون الرب قادرا في الأزل على الفعل والكلام بمشيئته وقدرته ولما كانت الجهمية والقدرية بهذه الحال لا يجعلون الرب قادرا في الأزل على الفعل والكلام بمشيئته جعلت الفلاسفة الدهرية كابن سينا وأمثاله هذا عمدتهم في امتناع حدوث العالم

 

ووجوب قدمه ولكن لا حجة لهم في ذلك على مذهبهم فإن غاية هذا أن يستلزم دوام فاعلية الرب تعالى لا يدل على قدم الفلك ولا غيره من أعيان العالم ولكن هؤلاء قالوا هذا يستلزم التسلسل والتسلسل محال ومرادهم التسلسل في تمام التأثير كما تقدم وأما التسلسل في الآثار فهو قولهم وقد ذكرنا أن التسلسل الممتنع هنا هو من جنس الدور الممتنع فإنه إذا قيل لا يفعل هذا الحادث حتى يحدث ما به يصير فاعلا له ويكون ذلك حادثا مع حدوثه وكذلك الثاني صار هذا تسلسلا في تمام التأثير وإذا قيل لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا كان هذا دورا ممتنعا فهو تسلسل إذا أطلق الكلام في الحوادث ودور إذا عين الحادث وهي حجة إلزامية لأولئك المتكلمين من الجهمية والقدرية ومن تبعهم من الأشعرية والمعتزلة والكرامية ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهمودوامها عند من جعله لم يكن يمكنه أن يتكلم ولا يفعل بمشيئته وقدرته ثم صار ذلك ممكنا له يستلزم الترجيح بلا مرجح أو التسلسل المتفق على امتناعه والدور الممتنع وكل ذلك ممتنع والتسلسل المتفق على امتناعه هو التسلسل في المؤثرات وفي تمام التأثير فأما التسلسل في الآثار فهو مورد النزاع وأولئك يبطلون القسمين بناء على أن ما لا يتناهى يمتنع فيه التفاوت وجماهير الفلاسفة مع أئمة أهل الملل فإنهم لا ينكرون القسم الثاني وحينئذ فيقال لهؤلاء المتفلسفة إن كان التسلسل في الآثار ممتنعا بطل قولكم وإذا بطل القول بطلت حجته بالضرورة لأن القول الباطل لا تقوم عليه حجة صحيحة وإن كان ممكنا بطلت حجتكم لإمكان أن تكون كلماته لا نهاية لها وأنه لم يزل متكلما بمشيئته أو فعالا بمشيئته فعلا بعد فعل من غير قدم شيء بعينه من الأفعال والمفعولات فالحجة باطلة على التقديرين فإنه إذا كان تسلسل الآثار ممكنا أمكن حدوث الأفلاك بأسباب قبلها حادثة

 

 

والرسل صلوات الله عليهم أجمعين أخبرت بأن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وأن عرشه كان على الماء قبل ذلك وهذا مما علم بالاضطرار والنقل المتواتر من دين الرسل وأدلتكم ليس فيها ما يوجب قدم السموات فقولكم بقدمها ليس فيه حجة عقلية فهو تكذيب للرسل بلا سبب وأيضا فالعقل الصريح يبطل قولكم فإن الأفلاك وغيرها من العالم مستلزم للحوادث فلو كان قديما للزم أن يكون صادرا عن موجب له قديم فحينئذ يكون الموجب مستلزما لموجبه ومقتضاه لا يتأخر عنه إذ لو جاز تأخر موجبه عنه لم تكن علة تامة لاستلزام العلة التامة معلولها وإذا لم تكن علة تامة امتنع أن يقارنه موجبه لامتناع قدم المعلول بدون علة تامة وأيضا فلو جاز تأخر موجبه مع جواز مقارنته له في الأزل لافتقر تخصيصه بأحدهما إلى مرجح غير الموجب بذاته وليس هناك مرجح غيره فامتنع

 

 

وجود الأفلاك وغيرها وهذا باطل فإنها موجودة مشهودة عيانا وهم يسلمون هذا ويقولون بأنها معلول علة قديمة وهو موجب بالذات لا يتأخر عنه موجبه وإذا كان هذا معلوما بالعقل الصريح وهم يوافقون عليه بل هو أصل قولهم قيل لهم فما يستلزم الحوادث يمتنع أن يصدر عن موجب بالذات لأن الحوادث تحدث شيئا بعد شيء وما يحدث شيئا فشيئا لا تكون أجزاؤه قديمة أزلية فلا تكون صادرة عن موجب بالذات فامتنع أن تكون الحوادث صادرة عن موجب بالذات وامتنع صدور شيء من العالم بدون الحوادث اللازمة له لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع فتبين أنه يمتنع أن يكون الفلك قديما أزليا ولا يمكن أن يقال كان خاليا عن الحوادث في الأزل ثم حدثت فيه لأنه يقال حينئذ فلا بد لتلك الحوادث من سبب فالقول فيها كالقول في غيرها فإن جاز أن يحدث بدون سبب حادث أمكن ذلك في الفلك وبطلت حجتهم ولزم من ذلك ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح وإن كان لا بد لها من سبب لزم التسلسل ودوام الحوادث وأن الفلك وكل ما سوى الله لم يزل مقارنا للحوادث وكل ممكن قارن الحوادث امتنع أن يكون صادرا عن موجب بالذات فامتنع أن يكون قديما

 

 

والناس قد تنازعوا فيما يستلزم الحوادث وهو ما لا يخلو عن الحوادث وما لا بد أن تقارنه الحوادث هل يجب أن يكون حادثا أو لا يجب حدوثه بل يجوز قدمه سواء كان هو الواجب الفني عما سواه أو كان ممكنا أو يفرق بين الواجب بنفسه الفني عما سواه وبين الممكن الفقير إلى غيره على ثلاثة أقوال فالأول قول من يقول من طوائف النظار وأهل الكلام بامتناع دوام فاعلية الرب وامتناع فعل الرب وتكلمه بمشيئته وقدرته في الأزل وأن ذلك غير ممكن وهؤلاء متنازعون في إمكان دوام فاعليته في المستقبل على قولين والقول الثاني قول الفلاسفة الذين يقولون بقدم ما سوى الله إما الأفلاك وإما العقول وإما غير ذلك ويجعلون الرب سبحانه موجبا بذاته لا يمكنه إحداث شيء ولا تغيير شيء من العالم بل حقيقة قولهم إن الحوادث لم تصدر عنه بل صدرت وحدثت بلا محدث والقول الثالث قول أئمة أهل الملل الذين يقولون إن الله خالقكل شيء وكل ما سوى الله كائن بعد أن لم يكن مع دوام قادرية الله وأنه لم يزل متكلما إذا شاء بل لم يزل فاعلا أفعالا تقوم بنفسه وأقوال أئمة الفلاسفة وأساطينهم الذين كانوا قبل أرسطو توافق قول هؤلاء بخلاف أرسطو وأتباعه الذين قالوا بقدم الأفلاك فإن قول هؤلاء معلوم الفساد بصحيح المنقول وصريح المعقول وأيضا فإن كون المفعول المعين لازما للفعل قديما بقدمه دائما بدوامه ممتنع لذاته وإن قدر أن الفاعل غير مختار فكيف إذا ثبت أنه يفعل بمشيئته وقدرته

 

 

وما يذكرونه من تقدم العلة على المعلول بالذات دون الزمان لا يعقل ولا يوجد إلا فيما يكون شرطا فإن الشرط قد يقارن المشروط أما العلة التي هي فعل فاعل للمعلول فهذه لا يعقل فيها مقارنتها للمعلول في الزمان وهم يمثلون تقدم العلة على المعلول بالذات دون الزمان بتقدم حركة اليد على حركة الخاتم وتقدم الحركة على الصوت وغير ذلك وجميع ما يمثلون به إما أن يكون شرطا لا فاعلا وإما أن يكون متقدما بالزمان وأما فاعل غير متقدم فلا يعقل قط وليس هذا موضع بسط هذه الأمور فإنها أضل مقالات أهل الأرض وقد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على أصل القدرية فإن حقيقة قولهم أن أفعال الحيوان تحدث بلا فاعل كما أن أصل قول الفلاسفة الدهرية أن حركة الفلك وجميع الحوادث تحدث بلا سبب حادث وكذلك من وافقالقدرية من أهل الإثبات على أن الرب تعالى لا تقوم به الأفعال وقالوا إن الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق كما تقوله الأشعرية ومن وافقهم فإنه يلزمه في فعل الرب ما لزم القدرية ولهذا عامة شناعات هذا الرافضي القدري هي على هؤلاء وهؤلاء طائفة من طوائف المثبتين لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان وقد وافقهم في ذلك كثير من الشيعة الزيدية والإمامية وغيرهم وقولهم على كل حال أقل خطأ من قول القدرية بل أصل خطئهم موافقتهم للقدرية في بعض خطئهم وأئمة أهل السنة لا يقولون بشيء من هذا الخطأ وكذلك جماهير أهل السنة من أهل الحديث والفقه والتفسير والتصوف لا يقرون بهذه الأقوال المتضمنة للخطأ بل هم متفقون على أن الله خالق أفعال العباد وعلى أن العبد قادر مختار يفعل بمشيئته وقدرته والله خالق ذلك

 

 

كله وعلى الفرق بين الأفعال الاختيارية والاضطراية وعلى أن الرب يفعل بمشيئته وقدرته وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لم يزل قادرا على الأفعال موصوفا بصفات الكمال متكلما إذا شاء وأنه موصوف بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل فيثبتون علمه المحيط ومشيئته النافذة وقدرته الكاملة وخلقه لكل شيء ومن هداه الله إلى فهم قولهم علم أنهم جمعوا محاسن الأقوال وأنهم وصفوا الله بغاية الكمال وأنهم هم المستمسكون بصحيح المنقول وصريح المعقول وأن قولهم هو القول السديد السليم من التناقض الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه.

*

فصل قال الرافضي الإمامي القدري ومنها أنه يلزم أن لا يبقى عندنا فرق بين من أحسن إلينا غاية الإحسان طول عمره وبين من أساء إلينا غاية الإساءة طول عمره ولم يحسن منا شكر الأول وذم الثاني لأن الفعلين صادران من الله تعالى عندهم.

*فيقال هذا باطل فإن اشتراك الفعلين في كون الرب خلقهما لا يستلزم إشتراكهما في سائر الأحكام فإنه من المعلوم بصريح العقل أن الأمور المختلفة تشترك في أمور كثيرة لا سيما في مثل هذا المقام فإن جميع ما سوى الله مشترك في أن الله خلقه وأنه ربه ومليكه ثم من المعلوم أن المخلوقات بينها من الافتراق ما لا يحصيه إلا الخلاق فالله تعالى جعل الظلمات والنور وقال وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور (سورة فاطر). والله خالق الجنة والنار ولا تستوي الجنة ولا النار والله خالق الظل والحرور ولا يستوي الظل ولا الحرور والله خالق الأعمى والبصير ولا يستوي الأعمى والبصير والله خالق الحي والميت والقادر والعاجز والعالم والجاهل ولا يستوي هذا وهذا والله خالق ما ينفع وما يضر وما يوجب اللذة وما يوجب الألم ولا يستوي هذا وهذا فإذا كان الله خالق الأطعمة

 

الطيبة والخبيثة ثم إن الطيب يحب ويشتهى ويمدح ويبتغى والخبيث يذم ويبغض ويجتنب والله خالق هذا وهذا والله خالق الملائكة والأنبياء وخالق الشياطين والحيات والعقارب وغيرها من الفواسق فهذا محمود معظم وهذا فاسق يقتل في الحل والحرم وهو سبحانه وتعالى خالق في هذا طبيعة كريمة تقتضي الخير والإحسان وفي هذا طبيعة خبيثة توجب الشر والعدوان مع ما بينهما من الفرق في الحب والبغض والمدح والذم ونحو ذلك وإذا كان الشرع والعقل متطابقين على أن ما جعل الله فيه منفعة للناس ومصلحة لهم يحب ويمدح ويطلب وإن كان جمادا أو حيوانا بهيميا فكيف لا يكون من جعله محسنا للناس يحصل لهم به منافع ومصالح أحق بأن يحب ويمدح ويثنى عليه وكذلك في جانب الشر والقدري يقول لا يكون العبد محمودا ومشكورا على إحسانه ومذموما على إساءته إلا بشرط أن لا يكون الله جعله محسنا إلينا ولا من به علينا إذا فعل الخير ولا ابتلانا به إذا فعل الشر وهذا حقيقة ما قاله هذا الرافضي القدري

 

 

ومعلوم فساد هذا القول شرعا وعقلا فإن حقيقته أنه حيث يشكر العبد لا يشكر الرب وحيث يشكر الرب لا يشكر العبد وحقيقته أنه لا يكون لله علنيا منة في تعليم الرسول وتبليغه إلينا رسالات ربه وقد قال تعالى لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة (سورة آل عمران). وعلى قول القدري يكون إرسال الله له من جنس إرسال مخلوق إلى مخلوق فذاك تفضل بنفس الإرسال لا بأن جعل الرسل تتلوا وتعلم وتزكي بل هذه الأفعال منتسبة عندهم فيها للرسول الذي خلقها عندهم دون المرسل الذي لم يحدث شيئا منها والقدري يقول الرسول نطق بنفسه لم ينطقه الله ولا أنطق الله شيئا بل جعل فيه قدرة على أن ينطق وأن لا ينطق وهو يحدث أحدهما مع استواء الحال قبل الإحداث وبعده بدون معونة الله له على إحداث النطق وتيسيره له وعلى قول القدري لا يكون لله نعمة على عباده باستغفار الملائكة لهموتعليم العلماء لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وعدل ولاة الأمور عليهم ولا يكون الله مبتليا لهم إذا ظلمهم ولاة الأمور وفي الأثر المعروف يقول الله عز وجل أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي من أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشتغلوا بسب الملوك وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم وعند القدري لا يقدر الله أن يجعل الملوك لا عادلين ولا جائرين ولا محسنين ولا مسيئين ولا يقدر أن يجعل أحدا محسنا إلى أحد ولا مسيئا إلى أحد ولا يقدر أن ينعم على أحد بمن يحسن إليه ويكرمه ولا يقدر على أن يبتليه بمن يعذبه ويهينه وعلى قول القدري لم يبعث الله عبادا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار فإنه لم يأمرهم بذلك ولا جعلهم فاعلين بل أعطاهم قدرة وكذلك عندهم لم يرسل الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا

 

 

وقد قال بعضهم إنه على قول القدري لايستحق الله أن يشكر بحال فإن الشكر إنما يكون على النعم والنعم إما دينية وأما دنيوية وإما أخروية فالنعم الدنيوية هي عنده واجبة على الله وكذلك ما يقدر عليه من الدينية كالإرسال وخلق القدرة وأما نفس الإيمان والعمل الصالح فهو عنده لا يقدر أن يجعل أحدا مؤمنا ولا مهتديا ولا صالحا ولا برا ولا تقيا فلا يستحق أن يشكر على شيء من هذه الامور التي لم يفعلها ولا يقدر عليها عنده وأما النعم الأخروية فالجزاء واجب عليه عنده كما يجب على المستأجر أن يوفي الأجير أجره ومعلوم أن هذا عنده من باب العدل المستحق لا من باب الفضل والإحسان بمنزلة من قضى دينا كان عليه فلا يستحق الشكر على فضل ولا إحسان ومن هذا حقيقة قوله كيف يعيب أهل الإيمان الذين يشكرون الله على كل حال ونعمة ويشكرون من أجرى الله الخير على يديهفإنه من لم يشكر الناس لم يشكر الله ومن أساء إليهم يعتقدون جواز مقابلته بالعدل وأن العفو عنه أفضل إذا لم يكن في عقوبته حق لله ويرى أحدهم أن الله أنعم عليه بإحسان الأول ليشكره عليه وأنه ابتلاه بإساءة هذا إليه كما يبتليه بأنواع البلاء ليصبر ويستغفر من ذنوبه ويرضى بقضائه كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء فشكر كان خير له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن

 

 

وقد قال تعالى إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا (سورة مريم). وقال تعالى فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا (سورة الإسراء). فإرساله الشياطين وبعثه لهؤلاء المعتدين على بني اسرائيل أهو أمر شرعي أمرهم به كما أرسل رسله بالبينات والهدى وكما بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم أم هو تقدير وتسليط وإن كان المسلط ظالما معتديا عاصيا لدين الله وشرعه ثم من المعلوم أن عامة أهل الأرض مقرون بالقدر وهم مع هذا يمدحون المحسن ويذمون المسيء فطروا على هذا وعلى هذا فيقرون أن الله تعالى خالق كل شيء وربه وأنه قدر ذلك كله وسلط هذا ويسر هذا ويمدحون هذا ويذمون هذا وأهل الإثبات المقرون بالقدر يمدحون المحسن ويذمون المسيء مع اتفاقهم على أن الله خالق الفعلين فقولهم إنه يلزمهم أن لا يفرقوا بين هذا وهذا لزوم ما لا يلزموغاية الأمر أن يكون الله جعل هذا مستحقا للمدح والثواب وهذا مستحقا للذم والعقاب فإذا كان قد جعل هذا مستحقا وهذا مستحقا لم يمتنع أن يمدح هذا ويذم هذا لكن خلقه لهذين الزوجين كخلقه لغير ذلك يتعلق بالحكمة الكلية في خلق المخلوقات كما قد ذكر في غير هذا الموضع وعلى رأي القدري لا يستحق المدح والثناء والشكر إلا من لم يجعله الله محسنا ولا يستحق الذم إلا من لم يجعله الله مسيئا بل من لا يقدر الله أن يجعله محسنا ولا مسيئا فعنده لا مدح ولا ذم إلا بشرط عجز الله تعالى وقصور مشيئته وخلقه وحدوث الحوادث بدون محدث.

*

فصل قال الرافضي ومنها التقسيم الذي ذكره سيدنا ومولانا الإمام موسى بن جعفر الكاظم وقد سأله أبو حنيفة وهو صبي فقال المعصية ممن فقال الكاظم المعصية إما

 

من العبد أو من الله أو منهما فإن كانت من الله فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعله وإن كانت المعصية منهما فهو شريكه والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف وإن كانت المعصية من العبد وحده فعليه وقع الأمر وإليه توجه المدح والذم وهو أحق بالثواب والعقاب ووجب له الجنة أو النار. فقال أبو حنيفة ذرية بعضها من بعض.

*فيقال...

أولا: هذه الحكاية لم يذكر لها إسنادا فلا تعرف صحتها فإن المنقولات إنما تعرف صحتها بالأسانيد الثابتة لا سيما مع كثرة الكذب في هذا الباب كيف والكذب عليها ظاهر فإن أبا حنيفة من المقرين بالقدر باتفاق أهل المعرفة به وبمذهبه وكلامه في الرد علىالقدرية معروف في الفقه الأكبر وقد بسط الحجج في الرد عليهم بما لم يبسطه على غيرهم في هذا الكتاب وأتباعه متفقون على أن هذا هو مذهبه وهو مذهب الحنفية المتبعين له ومن انتسب إليه في الفروع وخرج عن هذا من المعتزلة ونحوهم فلا يمكنه أن يحكى هذا القول عنه بل هم عند أئمة الحنفية الذين يفتى بقولهم مذمومون معيبون من أهل البدع والضلالة فكيف يحكى عن أبي حنيفة أنه استصوب قول من يقول إن الله لم يخلق أفعال العباد وأيضا فموسى بن جعفر وسائر علماء أهل البيت متفقون على إثبات القدر والنقل بذلك عنهم ظاهر معروف وقدماء الشيعة كانوا متفقين على إثبات القدر والصفات وإنما شاع فيهم رد القدر من حين اتصلوا بالمعتزلة في دولة بني بويه

 

وأيضا فهذا الكلام المحكي عن موسى بن جعفر يقوله أصاغر القدرية وصبيانهم وهو معروف من حين حدثت القدرية قبل أن يولد موسى بن جعفر فإن موسى بن جعفر ولد بالمدينة سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة قبل الدولة العباسية بنحو ثلاث سنين وتوفي ببغداد سنة ثلاث وثمانين ومائة قال أبو حاتم ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين والقدرية حدثوا قبل هذا التاريخ بل حدثوا في أثناء المائة الأولى من زمن الزبير وعبد الملك وهذا مما يبين أن هذه الحكاية كذب فإن أبا حنيفة إنما اجتمع بجعفر بن محمد وأما موسى بن جعفر فلم يكن ممن سأله أبو حنيفة ولا اجتمع به وجعفر بن محمد هو من أقران أبي حنيفة ولم يكن أبو حنيفة ممن يأخذ عنه مع شهرته بالعلم فكيف يتعلم من موسى بن جعفروما ذكره في هذه الحكاية من قول القائل هو أعدل من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعله هو أصل كلام القدرية الذي يعرفه عامتهم وخاصتهم وهو أساس مذهبهم وشعاره ولهذا سموا أنفسهم العدلية فإضافة هذا إلى موسى بن جعفر لو كان حقا ليس فيه فضيلة له ولا مدح إذا كان صبيان القدرية يعرفونه فكيف إذا كان كذبا مختلقا عليه.

ويقال ثانيا: الجواب عن هذا التقسيم أن يقال هذا التقسيم ليس بمنحصر وذلك أن قول القائل المعصية ممن لفظ

 

مجمل فإن المعصية والطاعة عمل وعرض قائم بغيره فلا بد له من محل يقوم به وهي قائمة بالعبد لا محالة وليست قائمة بالله تبارك وتعالى بلا ريب ومعلوم أن كل مخلوق يقال هو من الله بمعنى أنه خلقه بائنا عنه لا بمعنى أنه قام به واتصف به كما في قوله تعالى وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه (سورة الجاثية). وقوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله (سورة النحل). والله تعالى وإن كان خالقا لكل شيء فإنه خلق الخير والشر لما له في ذلك من الحكمة التي باعتبارها كان فعله حسنا متقنا كما قال الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين (سورة السجدة). وقال اتقن كل شيء (سورة النمل).فلهذا لا يضاف إليه الشر مفردا بل إما أن يدخل في العموم وإما أن يضاف إلى السبب وإما أن يحذف فاعله فالأول كقول الله تعالى الله خالق كل شيء (سورة الزمر). والثاني كقوله قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق سورة الفلق والثالث كقوله فيما حكاه عن الجن وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا (سورة الجن). وقد

 

 

قال في أم القرآن اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة فذكر أنه فاعل النعمة وحذف فاعل الغضب وأضاف الضلال إليهم وقال الخليل عليه السلام وإذا مرضت فهو يشفين (سورة الشعراء). ولهذا كان لله الأسماء الحسنى فسمى نفسه بالأسماء الحسنى المقتضية للخير وإنما يذكر الشر في المفعولات كقوله اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم (سورة المائدة). وقوله في آخر (سورة الأنعام). إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم (سورة الأعراف). وقوله في الأعراف إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم وقوله نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم (سورة الحجرات). وقوله حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو وهذا لأن ما يخلقه من الأمور التي فيها شر بالنسبة إلى بعض الناسفله فيها حكمة هو بخلقه لها حميد مجيد له الملك وله الحمد فليست بالإضافة إليه شرا ولا مذمومة فلا يضاف إليه ما يشعر بنقيض ذلك كما أنه سبحانه خالق الأمراض والأوجاع والروائح الكريهة والصور المستقبحة والأجسام الخبيثة كالحيات والعذرات لما له في ذلك من الحكمة البالغة فإذا قيل هذه العذرة وهذه الروائح الخبيثة من الله أوهم ذلك أنها خرجت منه والله منزه عن ذلك وكذلك إذا قيل القبائح من الله أو المعاصي من الله قد يوهم ذلك أنها خارجة من ذاته كما تخرج من ذات العبد وكما يخرج الكلام من المتكلم والله منزه عن ذلك أو يوهم ذلك أنها منه قبيحة وسيئة والله منزه عن ذلك بل جميع خلقه خلقه له حسن على قولي التفويض والتعليل وكذلك إذا قيل للطعوم والألوان والروائح ونحوها من الأعراض هذا الطعم الحلو والمر من الله أو من هذا النبات وهذه الروائح الطيبة أو الخبيثة من الله أو من هذه العين وأمثال ذلك وقد يوهم إذا قيل

 

 

إنها من الله أنه أمر بها والله لا يأمر بالفحشاء ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وهذا مثل قول ابن مسعود لما سئل عن المفوضة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه وكذلك قال أبو بكر في الكلالة وقال عمر نحو ذلك ومرادهم أن الصواب قد أمر الله به وشرعه وأحبه ورضيه والخطأ لم يأمر به ولم يحبه ولم يشرعه بل هو مما زينه الشيطان لنفسي ففعلته بأمر الشيطان فهو مني ومن الشيطان وحينئذ فالجواب من وجوه أحدها أن يقال الأعمال والأقوال والطاعات والمعاصي من العبد بمعنى أنها قائمة به وحاصلة بمشيئته وقدرته وهو المتصف بها المتحرك بها الذي يعود حكمها عليه فإنه قد يقال لما اتصف به المحل وخرج منه هذا منه وإن لم يكن له اختيار كما يقال هذه الريح من هذا الموضع وهذه الثمرة من هذه الشجرة وهذا الزرع منهذه الأرض فلأن يقال ما صدر من الحي باختياره هذا منه بطريق الأولى وهي من الله بمعنى أنه خلقها قائمة بغيره وجعلها عملا له وكسبا وصفة وهو خلقها بمشيئة نفسه وقدرة نفسه بواسطة خلقه لمشيئة العبد وقدرته كما يخلق المسببات بأسبابها فيخلق السحاب بالريح والمطر بالسحاب والنبات بالمطر والحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار وإلى أسبابها باعتبار فهي من الله مخلوقة له في غيره كما أن جميع حركات المخلوقات وصفاتها منه وهي من العبد صفة قائمة به كما أن الحركة من المتحرك المتصف بها وإن كان جمادا فكيف إذا كان حيوانا وحينئذ فلا شركة بين الرب وبين العبد لاختلاف جهة الإضافة كما أنا إذا قلنا هذا الولد من هذه المرأة بمعنى أنها ولدته ومن الله بمعنى أنه خلقه لم يكن بينهما تناقض وإذا قلنا هذه الثمرة من هذه الشجرة وهذا الزرع من الأرض بمعنى أنه حدث فيها ومن الله بمعنى أنه خلقه منها لم يكن بينهما تناقض

 

 

وقد قال تعالى أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون (سورة الطور). فالمشهور أم خلقوا من غير رب وقيل أم خلقوا من غير عنصر وكذلك قال موسى لما قتل القبطي هذا من عمل الشيطان (سورة القصص). وقال تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك (سورة النساء). مع قوله فيما تقدم قل كل من عند الله (سورة النساء). فالحسنات والسيئات المراد بها هنا النعم والمصائب ولهذا قال ما أصابك ولم يقل ما أصبت كما في قوله إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وقوله إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا ما أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون (سورة التوبة). فبين أن النعم والمصائب من عند الله فالنعمة من الله ابتداء والمصيبة بسبب من نفس الإنسان وهي معاصيه كما قال في الآية الأخرى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير (سورة الشورى). وقال في الآية الأخرىأولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم (سورة آل عمران). وهذا لأن الله محسن عدل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل فهو محسن إلى العبد بلا سبب منه تفضلا وإحسانا ولا يعاقبه إلا بذنبه وإن كان قد خلق الأفعال كلها لحكمة له في ذلك فإنه حكيم عادل يضع الأشياء مواضعها ولا يظلم ربك أحدا وإذا كان غير الله يعاقب عبده على ظلمه وإن كان مقرا بأن الله خالق أفعال العباد وليس ذلك ظلما منه فالله أولى أن لا يكون ذلك ظلما منه وإذا كان الإنسان قد يفعل مصلحة اقتضتها حكمته لا تحصل إلا بتعذيب حيوان ولا يكون ذلك ظلما منه فالله أولى أن لا يكون ذلك ظلما منه الوجه الثاني أن يقال هي من الله خلقا لها في غيره وجعلا لها عملا لغيره وهي من العبد فعلا له قائما به وكسبا يجر به منفعة إليه أو يدفع به مضرة وكون العبد هو الذي قام به الفعل وإليه يعود حكمه الخاص انتفاعا به أو تضررا جهة لا تصلح لله فإن الله لا تقوم

 

 

به أفعال العباد ولا يتصف بها ولا تعود إليه أحكامها التي تعود إلى موصوفاتها وكون الرب هو الذي خلقها وجعلها عملا لغيره بخلق قدرة العبد ومشيئته وفعله جهة لا تصلح للعبد ولا يقدر على ذلك إلا الله ولهذا قال أكثر المثبتين للقدر إن أفعال العباد مخلوقة لله وهي فعل العبد وإذا قيل هي فعل الله فالمراد أنها مفعولة له لا أنها هي الفعل الذي هو مسمى المصدر وهؤلاء هم الذين يفرقون بين الخلق والمخلوق وهم أكثر الأئمة وهو آخر قولي القاضي ابي يعلي وقول اكثر أصحاب الإمام أحمد وهو قول ابنيه يعني أبني القاضي أبي يعلي القاضي أبي حازم والقاضي أبي الحسين وغيرهما الوجه الثالث أن قول القائل الله أعدل من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعل فنحن نقول بموجبه فإن الله لم يظلم عبده ولم يؤاخذهإلا بما فعله العبد باختياره وقوته لا بفعل غيره من المخلوقين وأما كون الرب خالق كل شيء فذلك لا يمنع كون العبد هو الملوم على ذلك كما أن غيره من المخلوقين يلومه على ظلمه وعدوانه مع إقراره بأن الله خالق أفعال العباد وجماهير الأمم مقرة بالقدر وأن الله خالق كل شيء وهم مع هذا يذمون الظالمين ويعاقبونهم لدفع ظلمهم وعدوانهم كما أنهم يعتقدون أن الله خالق الحيوانات المضرة والنباتات المضرة وهم مع هذا يسعون في دفع ضررها وشرها وهم أيضا متفقون على أن الكاذب والظالم مذموم بكذبه وظلمه وأن ذلك وصف سيء فيه وأن نفسه المتصفة بذلك خبيثة ظالمة لا تستحق الإكرام الذي يناسب أهل الصدق والعدل وإن كانوا مقرين بأن كل ذلك مخلوق وليس في فطر الناس أن يجعلوا مقابلة الظالم على ظلمه ظلما له وإن كانوا مقرين بالقدر فالله أولى أن لا ينسب إلى الظلم لذلك وهذا على طريقة أهل الحكمة والتعليل من أهل السنة وأما على

 

 

طريقة أهل المشيئة والتفويض فالظلم ممتنع منه لذاته لأنه تصرف في ملك الغير أو تعدى ما حد له وكلاهما ممتنع في حق الله تعالى وبكل حال فالرب تعالى لا يمثل بالخلق لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله بل له المثل الأعلى فما ثبت لغيره من الكمال فهو أحق به وما تنزه عنه من النقص فهو أحق بتنزيهه وما كان سائغا للقادر الغني فهو أولى أن يكون سائغا له وليس كل ما قبح ممن يتضرر منه يكون قبيحا منه فإن العباد لن يبلغوا ضره فيضروه ولن يبلغوا نفعه فينفعوه الوجه الرابع أن يقال لا نزاع بين المسلمين أن الله عادل ليس ظالما لكن ليس كل ما كان ظلما من العبد يكون ظلما من الرب ولا ما كان قبيحا من العبد يكون قبيحا من الرب فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله تحقيق ذلك أنه لو كان الأمر كذلك كما يقوله من يقوله من القدرية للزم أن يقبح منه أمور فعلها فإن الواحد من العباد إذا أمر غيره بأمر لا ينتفع به الآمر وتوعده عليه بالعقاب وهو يعلم أن المأمور لا يفعله بل يعصيه فيستحق العقاب كان ذلك منه عبثا وقبيحا لعدم الفائدة في ذلك للآمر والمأمور

 

 

وكذلك لو قال مرادي مصلحة المأمور وهو يعلم أنه لا يترتب عليه مصلحة بل مفسدة لكان ذلك قبيحا منه وكذلك إذا فعل فعلا لمراد وهو يعلم أن ذلك المراد لا يحصل لكان ذلك قبيحا منه والقدرية يقولون إن الله خلق الكفار لينفعهم ويكرمهم وأراد ذلك بخلقهم وأمرهم مع علمه بأنهم يتضررون لا ينتفعون وكذلك الواحد من العباد لو رأى عبيده أو إماءه يزنون ويظلمون وهو قادر على منعهم ولم يمنعهم لكان مذموما مسيئا والله منزه عن أن يكون مذموما مسيئا والقدري يقول هو أراد بخلقه لهم أن يطيعوه ويثيبهم فخلقهم للنفع مع علمه أنهم لا ينتفعون ومعلوم أن مثل هذا قبيح من الخلق ولا يقبح من الخالق ومن المعلوم أن المخلوق إذا كان قادرا على منع عبيده من القبائح فمنعه لهم خير من أن يعرضهم للثواب مع علمه أنه لا يحصل لهم إلا العقاب كالرجل الذي يعطي ولده أو غلامه مالا ليربح فيه وهو يعلم أنه يشتري به سما يأكله فمنعه له من المال خير من أن يعطيه إياه مع علمه أنه يتضرر به

 

 

وكذلك إذا أعطى غيره سيفا ليقاتل به الكفار وهو يعلم أنه لا يقاتل به إلا الأنبياء والمؤمنين لكان ذلك قبيحا منه وإن قال قصدت تعريض هذا للثواب والله لا يقبح ذلك منه وهذا حال قدرة العبد عند القدرية والقدرية مشبهة الأفعال قاسوا أفعال الله على أفعال خلقه وعدله على عدلهم وهو من أفسد القياس الوجه الخامس أن يقال المعصية من العبد كما أن الطاعة من العبد ومعلوم أنه إذا كانت الطاعة منه بمعنى أنه فعلها بقدرته ومشيئته لم يمتنع أن يكون الله هو الذي جعله فاعلا لها بقدرته ومشيئته بل هذا هو الذي يدل عليه الشرع والعقل كما قال الخليل ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك (سورة البقرة). وقال رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي سورة ابراهيم وقال تعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا (سورة السجدة). ولأن كونه فاعلا بعد أن لم يكن أمر حادث فلا بد له من محدث والعبد يمتنع أن يكون هو الفاعل لكونه فاعلا لأن كونه فاعلا إن كان حدث بنفس كونه فاعلا لزم أن يكون الشيء حدث بنفسه من غير إحداث وهو ممتنع وإن كان بفاعليه أخرى فإن كانت هذه حدثت بالأولى لزم الدور القبلي وإن كانت حدثت بغيرها لزم التسلسل في الأمور المتناهية وكلاهما باطل فعلم أن كون الطاعة والمعصية من العبد يستحق عليها المدح والذم والثواب والعقاب لا يمنع أن يكون العبد فقيرا إلى الله في كل شيء لا يستغني عن الله في شيء قط وأن يكون الله خالق جميع أموره وأن يكون نفس فعله من الحوادث والممكنات المستندة إلى قدرة الله ومشيئته.

*

فصل قال الرافضي ومنها أنه يلزم أن يكون الكافر مطيعا بكفره لأنه قد فعل ما هو مراد الله تعالى لأنه أراد منه الكفر وقد فعله ولم يفعل الإيمان الذي كرهه الله منه فيكون قد أطاعه لأنه فعل مراده ولم يفعل ما كرهه ويكون النبي عاصيا لأنه يأمره بالإيمان الذي يكرهه الله منه وينهاه عن الكفر الذي يريده الله منه.

 

*الجواب من وجوه...

الأول: أن هذا مبني على أن الطاعة هل هي موافقة الأمر أو موافقة الإرادة وهي مبنية على أن الأمر هل يستلزم الإرادة أم لا وأن نفس الطلب والاستدعاء هل هو الإرادة أو مستلزم للإرادة أو ليس واحدا منهما ومن المعلوم أن كثيرا من نظار أهل الإثبات للقدر يطلقون القول بأن الطاعة موافقة الأمر لا موافقة الإرادة وأن الأمر لا يستلزم الإرادة والكلام في ذلك مشهور وإذا كان كذلك فهذا القدري لم يبين صحة قوله ولا فساد قول منازعيه بل أخذ ذلك دعوى مجردة بناء على أن الطاعة موافقة الإرادة فإذا قال له منازعوه لا نسلم ذلك كفى في هذا المقام لعدم الدليل.

الثاني: أنهم يستدلون على أن الأمر لا يستلزم الإرادة بما تقدم من أن الله خالق أفعال العباد وإنما يخلقها بإرادته وهو لم يأمر بالكفر والفسوق والعصيان فعلم بأنه قد يخلق بإرادته ما لم يأمر به وأيضا فقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع العلماء أنه لو حلف ليقضينه حقه في غد إن شاء الله تعالى فخرج الغد ولم يقضه مع

 

قدرته على القضاء من غير عذر وطالبه المستحق له لم يحنث ولو كانت المشيئة بمعنى الأمر لحنث لأنه مأمور بذلك وكذلك سائر الحلف على فعل مأمور إذا علقه بالمشيئة وأيضا فإنه قد قال تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا (سورة يونس). مع أنه قد أمرهم بالإيمان فعلم أنه قد أمرهم بالإيمان ولم يشأه وكذلك قوله ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا (سورة الأنعام). دليل على أنه أراد ضلاله وهو لم يأمره بالضلال.

الوجه الثالث: طريقة أئمة الفقهاء وأهل الحديث وكثير من أهل النظر وغيرهم أن الإرادة في كتاب الله نوعان إرادة تتعلق بالأمر وإرادة تتعلق بالخلق فالإرادة المتعلقة بالأمر أن يريد من العبد فعل ما أمره به وأما إرادة الخلق فأن يريد ما يفعله هو فإرادة الأمر هي المتضمنة للمحبة والرضا وهي الإرادة الدينية والثانية المتعلقة بالخلق هي المشيئة وهي الإرادة الكونية القدرية

 

فالأولى كقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (سورة البقرة). وقوله تعالى يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم (سورة النساء). إلى قوله يريد الله أن يخفف عنكم (سورة النساء). وقوله ما يريد الله يجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم (سورة المائدة). وقوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (سورة الأحزاب). والثانية كقوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا وقول نوح لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ومن هذا النوع قول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ومن النوع الأول قولهم لمن يفعل القبائح هذا يفعل ما لا يريده الله وإذا كان كذلك فالكفر والفسوق والعصيان ليس مرادا للرب بالاعتبار الأول والطاعة موافقة تلك الإرادة أو موافقة للأمر المستلزم لتك الإرادة فأما موافقة مجرد النوع الثاني فلا يكون به مطيعا وحينئذ فالنبي يقول له بل الرب يبغض كفرك ولا يحبه ولا يرضاه لك

 

أن تفعله ولا يريده بهذا الاعتبار والنبي يأمره بالإيمان الذي يحبه الله ويرضاه له ويريده بهذا الاعتبار.

الوجه الرابع: أن يقال هذه المسألة مبنية على أصل وهو أن الحب والرضا هل هو الإرادة أو هو صفة مغايرة للإرادة فكثير من أهل النظر من المعتزلة والأشعرية ومن اتبعهم من الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد والشافعي وغيرهما يجعلونهما جنسا واحدا ثم القدرية يقولون بل هو يريد ذلك فيكون قد أحبه ورضيه وأولئك يتأولون الآيات المثبتة لإرادة هذه الحوادث كقوله تعالى ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا و(سورة الأنعام). قوله إن كان الله يريد أن يغويكم (سورة هود). وهؤلاء يتأولون الآيات النافية لمحبة الله ورضاه بها كقوله تعالى والله لا يحب الفساد (سورة البقرة). ولا يرضى لعباده الكفر (سورة الزمر). وقوله إذ يبيتون ما لا يرضى من القول (سورة النساء).. وأما جماهير الناس من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف فيفرقون بين النوعين وهو قول أئمة الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو قول المثبتين للقدر قبل الأشعري مثل ابن كلاب كما ذكره أبو المعالي الجويني فإن النصوص قد صرحت بأن الله لا يرضى الكفر والفسوق والعصيان ولا يحب ذلك مع كون الحوادث كلها بمشيئة الله تعالى وتأويل ذلك بمعنى لا يرضاها من المؤمنين أو لا يرضاها ولا يحبها دينا بمعنى لا يريدها يقتضي أن يقال لا يرضى الإيمان أي من الكافر أو لا يريده غير دين والله تعالى قد أخبر أنه يكره المعاصي بقوله كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها (سورة الإسراء). وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى كره لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال

 

والأمة متفقة على أن الله يكره المنهيات دون المأمورات ويحب المأمورات دون المنهيات وأنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأنه يمقت الكافرين ويغضب عليهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ما أحد أحب إليه المدح من الله وما أحد أحب إليه العذر من الله وقال ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته وقال إن الله وتر يحب الوتر إن الله جميل يحب الجمال وقال إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته وقال إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم وقال لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها فاضطجع ينتظر الموت فلما أفاق إذا بدابته عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا الرجل براحلته وهذا الحديث في الصحاح من وجوه متعددة وهو مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم متفق على صحته وثبوته وكذلك أمثاله وإذا كان كذلك فالطاعات يريدها من العباد الإرادة المتضمنة

 

لمحبته لها ورضاه بها إذا وقعت وإن لم يفعلها والمعاصي يبغضها ويمقتها ويكره من العباد أن يفعلوها وإن أراد أن يخلقها هو لحكمة اقتضت ذلك ولا يلزم إذا كرهها للعبد لكونها تضر العبد ويبغضها أيضا أن يكره أن يخلقها هو لما له فيها من الحكمة فإن الفعل قد يحسن من أحد المخلوقين ويقبح من الآخر لاختلاف حال الفاعلين فكيف يلزم أنه ما قبح من العبد قبح من الرب مع أنه لا نسبة للمخلوق مع الخالق وإذا كان المخلوق قد يريد ما لا يحبه كإرادة المريض لشرب الدواء الذي يبغضه ويحب ما لا يريده كمحبة المريض الطعام الذي يضره ومحبة الصائم الطعام والشراب الذي لا يريد أن يأكله ومحبة الإنسان للشهوات التي يكرهها بعقله ودينه فقد عقل ثبوت أحدهما دون الآخر وأن أحدهما ليس بمستلزم للآخر في المخلوقات فكيف لا يمكن ثبوت أحدهما دون الآخر في حق الخالق تعالى وقد يقال كل هذه الأمور مرادة محبوبة لكن فيها ما يراد لنفسه فهو مراد بالذات محبوب لله مرضي له وفيها ما يراد لغيره وهو مراد بالعرض لكونه وسيلة إلى المراد المحبوب لذاته فالإنسان يريد العافية لنفسها ويريد شرب الدواء لكونه وسيلة إليها وهو يريد ذلك من هذه الجهة وإن لم يكن محبوبا في نفسه وإذا كان المراد ينقسم إلى مراد لنفسه وهو المحبوب لنفسه وإلى مراد لغيره لكونه وسيلة إلى غيره وهذا قد لا يحب لنفسه أمكن أن يجعل الفرق بين المحبة والإرادة من هذا الباب والإرادة نوعان فما كان محبوبا فهو مراد لنفسه وما كان في نفسه غير محبوب فهو مراد لغيره وعلى هذا تنبني مسألة محبة الرب عز وجل نفسه ومحبته لعباده فإن الذين جعلوا المحبة والرضا هو

 

الإرادة العامة قالوا إن الرب لا يحب في الحقيقة ولا يحب وتأولوا محبته تعالى لعباده بإرادته ثوابهم ومحبتهم له بإرادة طاعتهم له والتقرب إليه ومنهم طائفة كثيرة قالوا هو محبوب يستحق أن يحب ولكن محبته لغيره بمعنى مشيئته وأما السلف والأئمة وأئمة أهل الحديث وأئمة التصوف وكثير من أهل الكلام والنظر فأقروا بأنه محبوب لذاته بل لا يستحق أن يحب لذاته إلا هو وهذا حقيقه الأولوهية وهو حقيقة ملة إبراهيم ومن لم يقر بذلك لم يفرق بين الربوبية والإلهية ولم يجعل الله معبودا لذاته ولا اثبت التلذذ بالنظر إليه ولا أنه أحب إلى أهل الجنة من كل شيء وهذا القول في الحقيقة هو من أقوال الخارجين عن ملة إبراهيم من المنكرين لكون الله هو المعبود دون ما سواه ولهذا لما ظهر هذا القول في اوائل الإسلام قتل من أظهره وهو الجعد بن درهم يوم الأضحى قتله خالد بن عبد الله القسري برضا علماء الإسلام وقال ضحوا أيها الناس تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناديا يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة وقد روي في السنن من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وروى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول في دعائه أسألك

 

لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة وأما الذين أثبتوا أنه محبوب وأن محبته لغيره بمعنى مشيئته فهؤلاء ظنوا أن كل ما خلقه فقد أحبه وهؤلاء قد يخرجون إلى مذاهب الإباحة فيقولون إنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى ذلك وأن العارف إذا شهد هذا المقام لم يستحسن حسنة ولم يستقبح سيئة لشهوده القيومية العامة وخلق الرب لكل شيء وقد وقع في هذا طائفة من الشيوخ الغالطين من شيوخ الصوفية والنظار وهو غلط عظيم والكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة يبين أن الله يحب أنبياءه وأولياءه ويحب ما أمر به ولا يحب الشياطين ولا ما نهى عنه وإن كان كل ذلك بمشيئته وهذه المسألة وقع النزاع فيها بين الجنيد بن محمد وطائفة من أصحابه فدعاهم إلى الفرق الثاني وهو أن يفرقوا في المخلوقات بين ما يحبه وما لا يحبه فأشكل هذا عليهم لما رأوا أن كل مخلوق فهو مخلوق بمشيئته ولم يعرفوا أنه قد يكون فيما خلقه بمشيئته ما لا يحبه ولا يرضاه وكان ما قاله الجنيد وأمثاله هو الصواب.

الوجه الخامس: أن يقال الإرادة نوعان أحدهما بمعنى المشيئة وهو أن يري الفاعل أن يفعل فعلا فهذه الإرادة المتعلقة بفعله والثاني أن يريد من غيره أن يفعل فعلا فهذه إرادة لفعل الغير وكلا النوعين معقول في الناس لكن الذين قالوا إن الأمر لا يتضمن الإرادة لم يثبتوا إلا النوع الأول من الإرادة والذين

 

قالوا أن الله لم يخلق أفعال العباد لم يثبتوا إلا النوع الثاني وهؤلاء القدرية يمتنع عندهم أن يريد الله خلق أفعال العباد بالمعنى الأول لأنه لا يخلقها عندهم وأولئك المقابلون لهم يمتنع عندهم الإرادة من الله إلا بمعنى إرادة أن يخلق فما لم يرد أن يخلقه لا يوصف بأنه مريد له فعندهم هو مريد لكل ما خلق وإن كان كفرا لم يرد ما لم يخلقه وإن كان إيمانا وهؤلاء وإن كانوا أقرب إلى الحق لكن التحقيق إثبات النوعين كما أثبت ذلك السلف والأئمة ولهذا قال جعفر أراد بهم وأراد منهم فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه مريدا لنصحه وبيانا لما ينفعه وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل إذ ليس كل ما يكون مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه بل تكون مصلحتى إرادة ما يضاده كالرجل الذي يستشيره غيره في خطبة امرأة يأمره أن يتزوجها لأن ذلك مصلحة المأمور والآمر يرى أن مصلحته في أن يتزوجها هو دونه فجهة أمره لغيره نصحا غير جهة فعله لنفسه وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين فهو في حق الله أولى بالإمكان فهو سبحانه أمر الخلق على ألسن رسله بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله فأراد هو سبحانه أن يخلق ذلك الفعل ويجعله فاعلا له ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات غير جهة أمره للعبد على وجه البيان لما هو مصلحة للعبد أو مفسدة وهو سبحانه إذا أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان كان قد بين لهم ما ينفعهم ويصلحهم إذا فعلوه ولا يلزم إذا أمرهم أن يعينهم بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة من حيث هو فعل له فإنه يخلق ما يخلق لحكمة له ولا يلزم إذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور إذا فعله أن يكون مصلحة للآمر إذا فعله هو أو جعل المأمور فاعلا له فأين جهة الخلق من جهة الأمر

 

والقدرية تضرب مثلا فيمن أمر غيره بأمر فإنه لا بد أن يفعل ما يكون المأمور أقرب إلى فعله كالبشر والطلاقة وتهيئة المقاعد والمساند ونحو ذلك فيقال لهم هذا يكون على وجهين أحدهما أن يكون الآمر أمر غيره لمصلحة تعود إليه كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه وأمر السيد عبده بما يصلح ماله وأمر الإنسان شريكه بما يصلح الأمر المشترك بينهما ونحو ذلك والثاني أن يكون الآمر يرى الإعانة للمأمور مصلحة له كالأمر بالمعروف إذا أعان المأمور على البر والتقوى فإنه قد علم أن الله يثيبه على إعانته على الطاعة وأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه فأما إذا قدر الآمر إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور لا لنفع يعود عليه من فعله كالناصح المشير وقدر أنه إذا أعانه لم يكن ذلك مصلحة له لأن في حصول مصلحة المأمور مضرة على الآمر كمن يأمر مظلوما أن يهرب من ظالمه وهو لو أعانه حصل بذلك ضرر لهما أو لأحدهما مثل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال لموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين (سورة القصص). فهذا مصلحته في أن يأمر موسى بالخروج لا في أن يعينه على ذلك إذ لو أعانه لضره قومه ومثل هذا كثير كالذي يأمر غيره بتزويج امرأة يريد أن يتزوجها أو شراء سلعة يريد شراءها أو استئجار مكان يريد استئجاره أو مصالحة قوم ينتفع بهم وهم أعداء الآمر يتقوون بمصالحته ونحو ذلك فإنه في مثل هذه الأمور لا يفعل ما يعين المأمور وإن كان ناصحا له بالأمر مريدا لذلك ففي الجملة أمر المأمور بالفعل لكون الفعل مصلحة له غير كون الآمر يعينه عليه إن كان من أهل الإعانة له

 

فإذا قيل إن الله أمر العباد بما يصلحهم وأراد مصلحتهم بالأمر لم يلزم من ذلك أن يعينهم هو على ما أمرهم به لا سيما وعند القدرية لا يقدر أن يعين أحدا على ما به يصير فاعلا فإنه إن لم يعلل أفعاله بالحكمة فإنه يفعل ما يشاء من غير تمييز مراد عن مراد ويمتنع على هذا أن يكون لفعله لمية فضلا عن أن يطلب الفرق وإن عللت أفعاله بالحكمة وقيل إن اللمية ثابتة في نفس الأمر وإن كنا نحن لا نعلمها فلا يلزم إذا كان في نفس الأمر له حكمة في الأمر أن يكون في الإعانة على المأمور به حكمة بل قد تكون الحكمة تقتضي أن لا يعينه على ذلك فإنه إذا أمكن في المخلوق أن يكون مقتضى الحكمة والمصلحة أن يأمر غيره بأمر لمصلحة المأمور وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر أن لا يعينه على ذلك فإمكان ذلك في حق الرب أولى وأحرى فالله تعالى أمر الكفار بما هو مصلحة لهم لو فعلوه وهو لم يعنهم على ذلك ولم يخلق ذلك كما لم يخلق غيره من الأمور التي يكون من تمام الحكمة والمصلحة أن لا يخلقها والمخلوق إذا رأى أن مصلحة بعض رعيته أن يتعلم الرمي وأسباب الملك لينال الملك ورأى هو أن مصلحة ولده أن لا يتقوى ذلك الشخص لئلا يأخذ ذلك الملك من ولده أو يعدو عليه أمكن أن يأمر ذلك الشخص بما هو مصلحة له ويفعل هو ما هو مصلحة ولده ورعيته والمصالح والمفاسد بحسب ما يلائم النفوس وينافيها فالملائم للمأمور ما أمره به الناصح له والملائم للآمر أن لا يحصل لذلك مراده لما في ذلك من تفويت مصالح الآمر ومراداته وهذا نظر شريف وإنما يحققه من علم جهة حكمة الله في خلقه

 

وأمره واتصافه سبحانه بالمحبة والفرح ببعض الأمور دون بعض وأنه قد لا يمكن حصول المحبوب إلا بدفع ضده ووجود لازمه لامتناع اجتماع الضدين وامتناع وجود الملزوم بدون اللازم ولهذا كان الله سبحانه محمودا على كل حال له الملك وله الحمد في الدنيا والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون فكل ما في الوجود فهو محمود عليه وكل ما يعلم ويذكر فهومحمود عليه له الحمد على ماهو متصف به في ذاته من أسمائه وصفاته وله الحمد على خلقه وأمره فكل ما خلقه فهو محمود عليه وإن كان في ذلك نوع ضرر لبعض الناس لما له في ذلك من الحكمة وكل ما أمر به فله الحمد عليه لما له في ذلك من الهداية والبيان ولهذا كان له الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما ومل ما شاء من شيء بعد فإن هذا كله مخلوق له وكل ما يشاؤه بعد ذلك مخلوق له له الحمد على كل ما خلقه والأمثلة التي تذكر في المخلوقين وإن لم يكن ذكر نظيرها في حق الرب فالمقصود هنا أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه عليه فالخالق أولى بإمكان ذلك في حقه مع حكمته فمن أمره وأعانه على فعل المأمور كان ذلك المأمور به تعلق به خلقه وأمره فشاءه خلقا ومحبة فكان مرادا لجهة الخلق ومرادا لجهة الأمر ومن لم يعنه على فعل المأمور كان ذلك المأمور قد تعلق به أمره ولم يتعلق به خلقه لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به ولحصول الحكمة المتعلقة بخلق ضده وخلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر فإن خلق المرض الذي يحصل به ذل العبد لربه ودعاؤه لربه وتوبته من ذنوبه وتكفيره خطاياه ويرق به قلبه ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان يضاد خلق الصحة التي لا يحصل معها هذه المصالح وكذلك خلق ظلم الظالم الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض يضاد خلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح وإن كانت مصلحته هو في أن يعدل

 

وتفصيل حكمة الله في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة مثلوا الله فيها بخلقه ولم يثبتوا حكمة تعود إليه فسلبوه قدرته وحكمته ومحبته وغير ذلك من صفات كماله فقابلهم خصومهم الجهمية المجبرة ببطلان التعليل في نفس الأمر كما تنازعوا في مسألة الحسن والقبح فأولئك أثبتوه على طريقة سووا فيها بين الله وخلقه وأثبتوا حسنا وقبحا لا يتضمن محبوبا ولا مكروها وهذا لا حقيقة له كما أثبتوا تعليلا لا يعود إلى الفاعل حكمه وخصومهم سووا بين جميع الأفعال ولم يثبتوا لله محبوبا ولا مكروها وزعموا أن الحسن لو كان صفة ذاتية للفعل لم يختلف حاله وغلطوا فإن الصفة الذاتية للموصوف قد يراد بها اللازمة له والمنطقيون يقسمون اللازم إلى ذاتي وعرضي وإن كان هذا التقسيم خطأ وقد يراد بالصفة الذاتية ما تكون ثبوتية قائمة بالموصوف احترازا عن الأمور النسبية الإضافية ومن هذا الباب اضطربوا في الأحكام الشرعية فزعم نفاة الحسن

 

والقبح العقليين أنها ليست صفة ثبوتية للأفعال ولا مستلزمة صفة ثبوتية للأفعال بل هي من الصفات النسبية الإضافية فالحسن هو المقول فيه أفعله أو لا بأس بفعله والقبيح هو المقول فيه لا تفعله قالوا وليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية وذكروا عن منازعيهم أنهم قالوا الأحكام صفات ذاتية للأفعال ونقضوا ذلك بجواز تبدل أحكام الفعل مع كون الجنس واحدا وتحقيق الأمر أن الأحكام للأفعال ليست من الصفات اللازمة بل هي من العارضة للأفعال بحسب ملاءمتها ومنافرتها فالحسن والقبح بمعنى كون الشيء محبوبا ومكروها ونافعا وضارا وملائما ومنافرا وهذه صفة ثبوتية للموصوف لكنها تتنوع بتنوع أحواله فليست لازمة له ومن قال إن الأفعال ليس فيها صفات تقتضي الحسن والقبح فهو بمنزلة قوله ليس في الأجسام صفات تقتضي التسخين والتبريد والإشباع والإرواء فسلب صفات الأعيان المقتضية للآثار كسلب صفات الأفعال المقتضية للآثار وأما جمهور المسلمين الذين يثبتون طبائع الأعيان وصفاتها فهكذا يثبتون ما في الأفعال من حسن وقبح باعتبار ملاءمتها ومنافرتها كما قال تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث (سورة الأعراف). فدل ذلك على أن الفعل في نفسه معروف ومنكر والمطعوم طيب وخبيث ولو كان لا صفة للأعيان والأفعال إلا بتعلق الأمر والنهي لكان التقدير يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم ويحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم والله منزه عن مثل هذا الكلام وكذلك قوله تعالى ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا (سورة الإسراء). وقال إن الله لا يأمر بالفحشاء (سورة الأعراف). ونظائر هذا كثيرة.

*

فصل قال الرافضي الإمامي ومنها أنه يلزم نسبة السفه إلى الله تعالى لأنه يأمر الكافر بالإيمان ولا يريده منه وينهاه عن المعصية وقد أرادها منه وكل عاقل ينسب من يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد إلى السفه تعالى الله عن ذلك.

 

*فيقال له قد تقدم أن المحققين من أهل السنة يقولون إن الإرادة نوعان إرادة الخلق وإرادة الأمر فإرادة الأمر أن يريد من المأمور فعل ما أمر به.

وإرادة الخلق أن يريد هو خلق ما يحدثه من أفعال العباد وغيرها والأمر مستلزم للإرادة الأولى دون الثانية والله تعالى أمر الكافر بما أراده منه بهذا الاعتبار وهو ما يحبه ويرضاه ونهاه عن المعصية التي لم يردها منه أي لم يحبها ولم يرضها بهذا الاعتبار فإنه لا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد وقد قال تعالى إذ يبيتون ما لا يرضى من القول (سورة النساء). وإرادة الخلق هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد فهذه الإرادة لا تتعلق إلا بالموجود فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وفرق بين أن يريد هو أن يفعل فإن هذا يكون لا محالة لأنه قادر على ما يريده فإذا اجتمعت الإرادة والقدرة وجب وجود المراد وبين أن يريد من غيره أن يفعل ذلك الغير فعلا لنفسه فإن هذا لا يلزم أن يعينه عليه.

وأما طائفة من المثبتين للقدر فظنوا أن الإرادة نوع واحد وأنها هي المشيئة فقالوا يأمر بما لا يريده ثم هؤلاء على قسمين فقسم قالوا يأمر بما يحبه ويرضاه وإن لم يرده أي لم يشأ وجوده وهذا مذهب جمهور القائلين بهذا القول من الفقهاء وغيرهم وقسم قالوا بل المحبة والرضا هي الإرادة وهي المشيئة فهو يأمر بما لم يرده ولم يحبه ولم يرضه وما وقع من الكفر والفسوق عند هؤلاء أحبه ورضيه كما أراده وشاءه ولكن يقولون لا يحبه ولا يرضاه دينا كما لا يريده دينا ولا يشاؤه دينا ولا يحبه ولا يرضاه ممن لم يقع منه كما لم يرده ممن لم يقع منه ولم يشأه ممن لم يقع منه وهذا قول الأشعري وأكثر أصحابه وحكاه هو عن طائفة من أهل الإثبات وحكي عنه كالقول الأول وأصحاب هذا القول هم القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهم

 

يجعلون الرضا والمحبة بمعنى الإرادة ثم قالت القدرية النفاة والكفر والفسوق والمعاصي لا يحبها ولا يرضاها بالنص وإجماع الفقهاء فلا يريدها ولا يشاؤها وقال هؤلاء المثبتة هو شاء ذلك بالنص وإجماع السلف فيكون قد أحبه ورضيه وأراده وأما جمهور الناس فيفرقون بين المشيئة والإرادة وبين المحبة والرضا كما يوجد الفرق بينهما في الناس فإن الإنسان قد يريد شرب الدواء ونحوه من الأشياء الكريهة التي يبغضها ولا يحبها ويحب أكل الأشياء التي يشتهيها كاشتهاء المريض لما حمي عنه واشتهاء الصائم الماء البارد مع عطشه ولا يريد فعل ذلك فقد تبين أنه يحب ما لا يريده ويريد ما لا يحبه وذلك أن المراد قد يراد لغيره فيريد الأشياء المكروهة لما في عاقبتها من الأشياء المحبوبة ويكره فعل بعض ما يحبه لأنه يفضي إلى ما يبغضه والله تعالى له الحكمة فيما يخلقه وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والتوابين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويفرح بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في مهلكة إذا وجدها بعد الإياس منها كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من غير وجه كقوله لله أشد فرحا بتوبة أحدكم من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها فنام ينتظر الموت فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته والمتفلسفة يعبرون بلفظ البهجة واللذه والعشق ونحو ذلك عن الفرح والمحبة وما يتبع ذلك وإذا كان كذلك فهو سبحانه يريد وجود بعض الأشياء لإفضائها إلى ما يحبه ويرضاه وهو سبحانه قد لا يفعل بعض ما يحبه لكونه يستلزم وجود ما يكرهه ويبغضه فهو سبحانه قادر على أن يخلق من كل نطفة رجلا يجعله مؤمنا به يحبه ويحب إيمانه لكنه لم يفعل ذلك لما له في ذلك من الحكمة وقد يعلم أن ذلك يفضي إلى ما يبغضه ويكرهه

 

وإذا قيل فهلا يفعل هذا ويمنع ما يبغضه قيل من الأشياء ما يكون ممتنعا لذاته ومنها ما يكون ممتنعا لغيره واللذة الحاصلة بالأكل لا تحصل هي ولا نوعها بالشرب والسماع والشم وإنما تحصل لذة أخرى ووجود لذة الأكل في الفم تنافي حصول لذة الشرب في تلك الحال وتلذذ العبد بسماع بعض الأصوات يمنع تلذذه بسماع صوت آخر في تلك الحال فليس كل ما هو محبوب للعبد ولذيذ له يمكن اجتماعه في آن واحد بل لا يمكن حصول أحد الضدين إلا بتفويت الآخر وما من شيء مخلوق إلا له لوازم وأضداد فلا يوجد إلا بوجود لوازمه ومع عدم أضداده والرب تعالى إذا كان يحب من عبده أن يسافر للحج ويسافر للجهاد فأيهما فعله كان محبوبا له لكن لا يمكن في حال واحدة أن يسافر العبد إلى الشرق وإلى الغرب بل لا يمكن حصول هذين المحبوبين جميعا في وقت واحد فلا يحصل أحدهما إلا بتفويت الآخر فإن كان الحج فرضا معينا والجهاد تطوعا كان الحج أحبهما إليه وإن كان كلاهما تطوعا أو فرضا فالجهاد أحبهما إليه فهو سبحانه يحب هذا المحبوب المتضمن تفويت ذلك المحبوب وذلك أنه لو قدر وجوده بدون تفويت هذا المحبوب لكان أيضا محبوبا ولو قدر وجوده بتفويت ما هو احب إليه منه لكان محبوبا من وجه مكروها من وجه آخر أعلى منه وهو سبحانه إذا لم يقدر طاعة بعض الناس كان له في ذلك حكمة كما أنه إذا لم يأمر هذا بأدنى المحبوبين كان له في ذلك حكمة والله تعالى على كل شيء قدير لكن اجتماع الضدين لا يدخل في عموم الأشياء فإنه محال لذاته وهذا بمنزلة أن يقال هلا أقدر هذا العبد أن يسافر في هذه الساعة إلى الغرب للحج وإلى الشرق للجهاد فيقال لأن كون الجسم الواحد في مكانين محال لذاته فلا

 

يمكن هذان السفران في آن واحد وليس هذا بشيء حتى يقال إنه مقدر بل هذا لا حقيقة له وليس بشيء بل هو أمر يتصوره الذهن كتصوره لنظيره في الخارج ليحكم عليه بالامتناع في الخارج وإلا فما يمكن الذهن أن يتصور هذا في الخارج ولكن الذهن يتصور اجتماع اللون والطعم في محل واحد كالحلاوة البيضاء والبياض ثم يقدر الذهن في نفسه هل يمكن أن يجتمع السواد والبياض في محل واحد كاجتماع اللون والطعم فيعلم أن هذا الاجتماع ممتنع في الخارج ويعلم أنه يمكن أن زيدا قد يكون في الشرق وعمرا في الغرب ويقدر في ذهنه هل يمكن أن يكون زيد نفسه في هذين المكانين كما كان هو وعمرو فيعلم أن هذا ممتنع فهذا ونحوه كلام من جعل الإرادة نوعين ويفرق بين أحد نوعيها وبين المحبة والرضا وأما من يجعل الجميع نوعا واحدا فهو بين أمرين إن جعل الحب والرضا من هذا النوع لزمته تلك المحاذير الشنيعة وإن جعل الحب والرضا نوعا لا يستلزم الإرادة وقال إنه قد يحب ويرضى ما لا يريده بحال وحينئذ فيكون مقصوده بقوله لا يريده أي لا يريد كونه ووجوده وإلا فهو عنده يحبه ويرضاه فهذا يجعل الإرادة هي المشيئة لأن يخلق وهذا وإن كان اصطلاح طائفة من المنتسبين إلى السنة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد فهو خلاف استعمال الكتاب والسنة وحينئذ فيكون النزاع معه لفظيا وأحق الناس بالصواب في المنازعات اللفظية من كان لفظه موافقا للفظ القرآن وقد تبين أن القرآن جعل هذا النوع مرادا فلا حاجة إلى إطلاق القول بأن الله يأمر بما لا يريده ثم تبين أن الإرادة نوعان وأنه يأمر بما يشاؤه فيأمر بما لا يريد أن يخلقه هو ولا يأمر إلا بما يحبه لعباده ويرضاه لهم أن يفعلوه

 

ولو قال رجل والله لأفعلن ما أوجب الله علي أو ما يحبه الله لي إن شاء الله ولم يفعل لم يحنث باتفاق الفقهاء ولو قال والله لأفعلن ما أوجب الله علي إن كان الله يحبه ويرضاه حنث إن لم يفعله بلا نزاع نعلمه وعلى هذا فقد ظهر بطلان حجة المكذبين بالقدر فإنه إذا قال كل عاقل ينسب من يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد إلى السفه قيل له إذا أمر غيره بأمر لم يرد أن يفعله له هل يكون سفيها أم لا ومن المعلوم باتفاق العقلاء أن من أمر غيره بأمر ولم يرد أن يفعل هو ذلك الأمر ولا يعينه عليه لم يكن سفيها بل أوامر الحكماء والعقلاء كلها من هذا الباب والطبيب إذا أمر المريض بشرب الدواء لم يكن عليه أن يعاونه على شربه والمفتي إذا أمر المستفتي بما يجب عليه لم يكن عليه أن يعاونه والمشير إذا أمر المستشير بتجارة أو فلاحة أو نكاح لم يكن عليه أن يفعل هو ذلك ومن كان يحب من غيره أن يفعل أمرا فأمره به والآمر لا يساعده عليه لما في ذلك من المفسدة له لم يكن سفيها فظهر بطلان ما ذكره هذا وأمثاله من القدرية وكذلك من نهى غيره عما يريد أن يفعله هو لم يلزم أن يكون سفيها فإنه قد يكون مفسدة لذلك مصلحة للناهي فالمريض الذي يشرب المسهلات إذا نهى ابنه الصغير عن شربها لم يكن سفيها والحاوي الذي يريد إمساك الحية إذا نهى ابنه عن إمساكها لم يكن سفيها والسابح في البحر إذا نهى العاجز عن السباحة لم يكن سفيها والملك الذي خرج لقتال عدوه إذا نهى نساءه عن الخروج معه لم يكن سفيها ونظائر هذا لا تحصى ولو نهى الناهي غيره عن فعل ما يضره فعله نصحا له إذ لو كان مصلحة الناهي أن يفعله هو به حمد على فعله وحمد على نصحه كما يوجد كثير من الناس ينهون من ينصحونه عن فعل أشياء وقد يطلبون فعلها منهم لمصلحتهم

 

لكن المثل المطابق لفعل الرب من كل وجه لا يمكن في حق المخلوق فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وقد سئل بعض الشيوخ عن مثل هذه المسائل فأنشد ويقبح من سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاكا لكن المقصود أنه يمكن في المخلوق أمر الإنسان بما لا يريد أن يعين عليه المأمور ونهيه عما يريد الناهي أن يفعله هو لمصلحته فتبين أن هذا القدري وأمثاله تكلموا بلفظ مجمل فإذا قالوا من أمر بما لا يريد كان سفيها أوهموا الناس أنه أمر بما لا يريد للمأمور أن يفعله والله لم يأمر العباد بما لم يرض لهم أن يفعلوه ولم يحب لهم أن يفعلوه ولم يرد لهم أن يفعلوه بهذا المعنى وإنما أمر بعضهم بما لم يرد هو أن يخلقه لهم بمشيئته ولم يجعلهم فاعلين له ومن المعلوم أن الآمر ليس عليه أن يجعل المأمور فاعلا للمأمور به بل هذا ممتنع عند القدرية وعند غيرهم هو قادر عليه لكن له أن يفعله وله أن لا يفعله فعلى قول من يثبت المشيئة دون الحكمة الغائية يقول هذا كسائر الممكنات

 

إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله ومن أثبت الحكمة قال له في أن لا يحدث هذا حكمة كما له في سائر ما لم يحدثه وقد يكون في إحداث هذا مفسدة لغير هذا المأمور أعظم من المصلحة الحاصلة له وقد يكون في فعل هذا المأمور تفويت مصلحة أعظم من المصلحة الحاصلة له والحكيم هوالذي يقدم أعلى المصلحتين ويدفع اعظم المفسدتين وليس على العباد أن يعلموا تفصيل حكمة الله تعالى بل يكفيهم العلم العام والإيمان التام ومن جعل الإرادة نوعا واحدا وإن كان قوله مرجوحا فهو خير من قول نفاة القدر الذين يجعلون الإرادة والمشيئة والمحبة شيئا واحدا وزعموا أنه يكون ما لا يشاؤه ويشاء ما لا يكون وذلك لأنه يقول السفه إنما يجوز على من يجوز عليه الأغراض والأغراض مستلزمة للحاجة إلى الغير وللنقص بدونها وذلك على الله ممتنع وهي في حق الله مستلزمة للتسلسل وقيام الحوادث به وهو ممتنع عند هذا الخصم فإذا كانت المعتزلة والشيعة الموافقون لهم يسلمون هذه الأصول انقطعوا وذلك لأنهم إذا قالوا يفعل لغرض قيل لهم نسبة وجود الغرض وعدمه إليه على السواء أو وجود الغرض أولى به فإن قالوا هما على السواء امتنع مع هذا أن يفعل لما وجوده وعدمه بالنسبة إليه سواء وهذا معدود من السفهاء فينا وهذا هو العبث فينا فإن قالوا فعل لنفع العباد قيل الواحد من الناس إنما ينفع غيره لما له في ذلك من المصلحة في الدين أو الدنيا أما التذاذه بالإحسان إليه كما يوجد في النفوس الكريمة التي إنما تلتذ وتبتهج بالإحسان إلى غيرها وهذا مصلحة ومنفعة لها وأما دفع ألم الرقة عن نفسه فإن الواحد إذا رأى جائعا بردان تألم له فيعطيه فيزول الألم عن نفسه وزوال الألم منفعة له ومصلحة دع ما سوى هذا من رجاء المدح والثناء والمكافأة أو الأجر من الله تعالى فتلك مطالب منفصلة ولكن هذان أمران موجودان في نفس الفاعل فمن نفع غيره وكان وجود النفع وعدمه بالنسبة إليه سواء من

 

كل وجه كان هذا من أسفه السفهاء لو وجد فكيف إذا كان ممتنعا فإنه يمتنع أن يفعل المختار شيئا حتى يترجح عنده فيكون أن يفعله أحب إليه من أن لا يفعله وترجيح الأحب لذة ومنفعة فهؤلاء القدرية الذين يعللون بالغرض هم الذين يذكرون ما يمتنع أن يكون غرضا ولا يكون إلا ممتنعا أو سفها وإن أثبتوا غرضا قائما به لزم أن يكون محلا للحوادث وهم يحيلون ذلك ثم الغرض إن كان لغرض آخر لزم التسلسل وهم يحيلونه في الماضي ولهم في المستقبل قولان وإن لم يكن لغرض آخر جاز أن يحدث لا لغرض فهذه الأصول التي اتفقوا عليها هم والمثبتون للقدر هي حجة لأولئك عليهم.

*

فصل وفي الجملة من نفي قيام الأمور الاختيارية بذات الرب تعالى لا بد أن يقول أقوالا متناقضة فاسدة ولما كانت الجهمية المجبرة والقدرية المعتزلة قد اشتركوا في أنه لا يقوم بذاته شيء من ذلك ثم تنازعوا بعد ذلك في تعليل أفعاله وأحكامه كان كل واحد من القولين يستلزم ما يبين فساده وتناقضه فمثبتة التعليل تقول من فعل لغير حكمة كان سفيها وهذا إنما يعلم فيمن فعل لغير حكمة تعود إليه وهم يزعمون أن البارىء فعل لا لحكمة تعود إليه فإن كان من فعل لا لحكمة سفيها لزمه إثبات السفه وإن لم يكن سفيها تناقضوا فإن ما أثبتوه من فعله لحكمة لا تعود إليه لا يعقل فضلا عن أن يكون حكيما وهذا نظير قولهم في صفاته وكلامه فإنهم قالوا لا يتكلم إلا بمشيئته وقدرته ويمتنع أن يكون القرآن قديما لما فيه من الأمور المنافية لقدمه وقالوا المتكلم لا يعقل إلا من تكلم بمشيئته وقدرته دون من يكون الكلام لازما لذاته لا يحصل بقدرته ومشيئته فيقال لهم وكذلك لا يعقل متكلم إلا من يقوم به الكلام أما متكلم لا يقوم به الكلام أو مريد لا تقوم به الإرادة أو عالم لا يقوم به العلم فهذا لا يعقل بل هو خلاف المعقول

 

بل قولهم في الكلام يتضمن أن من قام به الكلام لا يكون متكلما لأن المتكلم هو الذي أحدث في غيره الكلام وهذا خلاف المعقول وكذلك قولهم في رضاه وغضبه ومحبته وإرادته وغير ذلك أنها لا تقوم بذاته وإنما هي أمور منفصلة عنه فجعلوه موصوفا بامور لا تقوم به بل هي منفصلة عنه وهذا خلاف المعقول ثم هو تناقض فإنه يلزمهم أن يوصف بكل ما يحدثه من المخلوقات حتى يوصف بكل كلام خلقه فيكون ذلك كلامه فإذا أنطق ما ينطقه من مخلوقاته كان ذلك كلامه لا كلام من ينطقه وهذا مبسوط في موضعه والمقصود هنا أن كلامهم أنه يفعل لحكمة يستلزم أن يكون وجود الحكمة أرجح عنده من عدمها أو أنها تقوم به وغير ذلك من اللوازم التي لا يعقل من يفعل لحكمة إلا من يتصف بها وإلا فإذا قدر أن نسبة جميع الحوادث إليه سواء وامتنع أن يكون بعضها أرجح عنده من بعض امتنع أن يفعل بعضها لأجل بعض ثم الجهمية المجبرة لما رأت فساد قول هؤلاء القدرية وقد شاركوهم

 

في ذلك الأصل قالوا يمتنع أن يفعل شيئا لأجل شيء أصلا ويمتنع أن يكون بعض الأشياء أحب إليه من بعض ويمتنع أن يحب شيئا من مخلوقاته دون بعض أو يريد منها شيئا دون شيء بل كل ما حدث فهو مراد له محبوب مرضي سواء كان كفرا أو إيمانا أو حسنات أو سيئات أو نبيا أو شيطانا وكل ما لم يحدث فهو ليس محبوبا له ولا مرضيا له ولا مرادا كما أنه لم يشأه فعندهم ما شاء الله كان وأحبه ورضيه وأراده وما لم يشأه لم يكن ولا يحبه ولا يرضاه ولا يريده وأولئك القدرية يقولون كل ما أمر به فهو يشاؤه ويريده كما أنه يحبه ويرضاه وما لم يأمر به لا يشاؤه ولا يريده كما لا يحبه ولا يرضاه بل يكون في ملكه ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون ثم إن الجهمية المجبرة إذا تلى عليهم قوله تعالى والله لا يحب الفساد سورةالبقرة ولا يرضى لعباده الكفر سورةالزمر قالوا معناه لا يحبه ولا يريده ولا يشاؤه ممن لم يوجد منه أو لا يحبه ولا يشاؤه ولا يريده دينا بمعنى أنه لا يشاء أن يثيب صاحبه وأما ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان فعندهم أنه يحبه ويرضاه كما يشاؤه لكن لا يحب أن يثيب صاحبه كما لا يشاء أن يثيبه وعندهم يشاء تنعيم أقوام وتعذيب آخرين لا بسبب ولا لحكمة وليس في بعض

 

المخلوقات قوى ولا طبائع كان بها الحادث ولا فيها حكمة لأجلها كان الحادث ولا أمر بشيء لمعنى ولا نهى عنه لمعنى ولا اصطفى أحدا من الملائكة والنبيين لمعنى فيه ولا أباح الطيبات وحرم الخبائث لمعنى أوجب كون هذا طيبا وهذا خبيثا ولا أمر بقطع يد السارق لحفظ أموال الناس ولا أمر بعقوبة قطاع الطريق المعتدين لدفع ظلم العباد بعضهم عن بعض ولا أنزل المطر لشرب الحيوان ولإنبات النبات وهكذا يقولون في سائر ما خلقه لكن يقولون إنه إذا وجد مع شيء منفعة أو مضرة فإنه خلق هذا مع هذا لا لأجله ولا به وكذلك وجده المأمور مقارنا لهذا لا به ولا لأجله والاقتران أجرى به العادة من غير حكمة ولا سبب ولهذا لم تكن الأعمال عندهم إلا مجرد علامات محضة وأمارات لأجل ما جرت به العادة من الاقتران لا لحكمة ولا لسبب وفي كل من القولين من التناقض ما لا يكاد يحصى ولكن هذا الإمامي القدري لما أخذ يذكر تناقض أقوال أهل السنة مطلقا بين له أن القدرية كلهم يعجزون عن إقامة الحجة على مقابليهم من المجبرة كما تعجز الرافضة عن إقامة الحجة على مقابليهم من الخوارج والنواصب فضلا عن أن يقيموا الحجة على أهل الاستقامة والاعتدال المتبعين للكتاب والسنة ولهذا نبهنا على بعض ما في أقوالهم من التناقض والفساد الذي لا يكاد ينضبط والأشعري وغيره من متكلمة أهل الإثبات انتدبوا لبيان تناقضهم في أصولهم وأوعبوا في بيان تناقض أقوالهم وحكاية الأشعري مع الجبائي في الإخوة الثلاثة مشهورة فإنهم يوجبون على الله أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه وأما في الدنيا فالبغداديون من المعتزلة يوجبونه أيضا والبصريون لا يوجبونه فقال له إذا خلق الله ثلاثة إخوة فمات أحدهم صغيرا وبلغ الآخران أحدهما آمن والآخر كفر فأدخل المؤمن الجنة ورفع درجته وأدخل الصغير الجنة وجعل منزلته تحته قال له الصغير يا رب ارفعني إلى درجة أخي قال إنك لست مثله إنه آمن وعمل الصالحات

 

وأنت صغير لم تعمل عمله قال يا رب أنت امتني فلو كنت أبقيتني كنت أعمل مثل عمله فقال عملت مصلحتك لأني علمت أنك لو بلغت لكفرت فلهذا اخترمتك فصاح الثالث من أطباق النار وقال يا رب هلا اخترمتني قبل البلوغ كما اخترمت أخي الصغير فإن هذا كان مصلحة في حقي أيضا فيقال إنه لما أورد عليه هذا انقطع وذلك أنهم يوجبون عليه العدل بين المتماثلين وأن يفعل بكل واحد منهما ما هو أصلح وهنا قد فعل بأحدهما ما هو الأصلح عندهم دون الآخر وليس هذا موضع بسط ذلك وإذا كان الأمر كذلك بطل تشبيههم لله بخلقه وقال لهم هؤلاء نحن وأنتم قد اتفقنا على أن فعل الله لا يقاس على فعل خلقه وإنا وإياكم نثبت فاعلا يفعل شيئا منفصلا عن نفسه بدون شيء حادث في نفسه وهذا غير معقول في الشاهد ونثبت فاعلا لم يزل غير فاعل حتى فعل من غير تجدد شيء وهذا غير معقول في الشاهد وأنتم تثبتون من الغرض ما ثبت فاعلا لم يزل غير فاعل حتى فعل من غير تجدد شيء وهذا غير معقول في الشاهد وأنتم تثبتون من الغرض ما لا يعقل في الشاهد وتدعون بذلك أنكم تنفون عنه السفه وتجعلونه حكيما والذي تذكرونه هو السفه المعقول في الشاهد المخالف للحكمة وإذا كان كذلك فقولكم إن كل عاقل ينسب من يأمر بما لا يريده ينهي عما يريده إلى السفه تعالى الله عن ذلك فيقال لكم إن كان هذا الفاعل من المخلوقين فلم قلتم إن الخالق كذلك مع ما اتفقنا عليه من الفرق بينهما والمخلوق محتاج إلى

 

جلب المنفعة ودفع المضرة والله تعالى منزه عن ذلك والعبد مأمور منهي والله منزه عن ذلك فهذه القضية إن أخذتموها كلية يدخل فيها الخالق منعنا الإجماع المحكي عن العقلاء وإن أخذتموها في المخلوق لتقيسوا به الخالق كان هذا قياسا فاسدا فلا يصح معكم هذا القياس لا على أنه قياس شمول ولا على أنه قياس تمثيل وقد أجابهم الأشعري بجواب آخر فقال لا نسلم أن أمر الإنسان بما لا يريده سفه مطلقا بل قد يكون حكمة إذا كان مقصوده امتحان المأمور ليبين عذره عند الناس في عقابه مثل من يكون له عبد يعصيه فيعاقبه فيلام على عقوبته فيعتذر بأن هذا يعصيني فيطلب منه تحقيق ذلك فيأمر أمر امتحان وهو هنا لا يريد أن يفعل المأمور به بل يريد أن يعصيه ليظهر عذره في عقابه وأثبت بهذا أيضا كلام النفس الذي يثبته وأن الطلب القائم بالنفس ليس هو الإرادة ولا مستلزما لها كما أثبت معنى الخبر أنه ليس هوالعلم بإخبار الكاذب فاعتمد على أمر الممتحن وخبر الكاذب لكن جمهور أهل السنة لم يرضوا بهذا الجواب فإن هذا في الحقيقة ليس هو أمرا وإنما هو إظهار أمر وكذلك خبر الكاذب هو قال بلسانه ما ليس في قلبه فخبر الكاذب ليس خبرا عما في نفسه بل هو إظهار الخبر عما في نفسه فصار أمر الممتحن كأمر الهازل الذي لا يعلم المأمور هزله ونظائر ذلك ولهذا إذا عرف المأمور حقيقة أمر الممتحن ليعاقبه وأنه ليس مراده إلا أن يعصيه فإنه يطيعه في هذه الحال والممتحن نوعان نوع قصده أن يعصيه المأمور ليعاقبه مثل هذا المثال ونوع مراده طاعة المأمور وانقياده لأمره لا نفس الفعل المأمور به كأمر الله سبحانه وتعالى للخليل صلى الله عليه وسلم بذبح ابنه وكان المراد طاعة إبراهيم وبذل ذ بح ابنه في محبة الله وأن يكون

 

طاعة الله ومحبوبه ومراده أحب إليه من الابن فلما حصل هذا المراد فداه الله بالذبح العظيم كما قال تعالى فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم (سورة الصافات). وتصور هذه المعاني نافع جدا في هذا الباب الذي كثر فيه الاضطراب.

*

فصل قال الإمامي القدري ومنها أنه يلزم عدم الرضا بقضاء الله تعالى والرضا بقضائه وقدره واجب فلو كان الكفر بقضاء الله تعالى وقدره وجب علينا الرضا به لكن لا يجوز الرضا بالكفر.

*والجواب عن هذا من وجوه...

أحدها: جواب كثير من أهل الإثبات أنا لا نسلم بأن الرضا واجب بكل المقضيات ولا دليل على وجوب ذلك وقد تنازع الناس في الرضا بالفقر والمرض والذل ونحوها هل هو مستحب أو واجب على قولين في مذهب أحمد وغيره وأكثر العلماء على أن الرضا بذلك مستحب وليس بواجب لأن الله أثنى على أهل الرضا بقوله رضي الله عنهم ورضوا عنه سورة البينة وإنما أوجب الله الصبر فإنه أمر به في غير آية ولم يأمر بالرضا بالمقدور ولكن أمر بالرضا بالمشروع فالمأمور به يجب الرضا به كما في قوله تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (سورة التوبة).. والقول الثاني إنه واجب لأن ذلك من تمام رضاه بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ولما روي من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلوائي فليتخذ ربا سوائي

 

لكن هذا لا تقوم به الحجة لأن هذا لا يعرف ثبوته عن الله عز وجل وأما الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبيا فهو واجب وهذا هو الرضا الذي دل عليه الكتاب والسنة وأما الرضا بكل ما يخلقه الله ويقدره فلم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا قاله أحد من السلف بل قد أخبر الله تعالى أنه لا يرضى بأمور مع أنها مخلوقة كقوله ولا يرضى لعباده الكفر (سورة النساء). وقوله إذ يبيتون ما لا يرضى من القول (سورة الزمر). وقد بسطنا الكلام على هذا في مصنف مفرد في الرضا بالقضاء وكيف تحزب الناس فيه أحزابا حزب زعموا أنهم يرضون بما حرم الله لأنه من القضاء وحزب ينكرون قضاء الله وقدره لئلا يلزمهم الرضا به وكلا الطائفتين بنت ذلك على أن الرضا بكل ما خلقه الله مأمور به وليس الأمر كذلك بل هو سبحانه يكره ويبغض ويمقت كثيرا من الحوادث وقد أمرنا الله أن نكرهها ونبغضها.

الوجه الثاني: أن يقال الرضا يشرع بما يرضي الله به والله قد أخبر أنه لا يحب الفساد (سورة البقرة). ولا يرضى لعباده الكفر (سورة النساء). وقد قال تعالى إذ يبيتون ما لا يرضى من القول سور الزمر وهذا أمر موجود من أقوال العباد وقد أخبر الله أنه لا يرضاه فإذا لم يرضه كيف يأمر العبد بأن يرضاه بل الواجب أن العبد يسخط ما يسخطه الله ويبغض ما يبغضه الله ويرضى بما يرضاه الله قال الله تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (سورة محمد). فذم من اتبع مساخطه وكره مراضيه ولم يذم من كره مساخطه فإذا قال فكيف يكون الله ساخطا مبغضا لما قدره وقضاه قيل نعم كما تقدم أما على طريقة الأكثرين فلأن المقضي شيء كونه وعندهم البغض مغاير للإرادة وأما على طريقة الأقلين فإنهم يقولون

 

سخطه له وبغضه هو إرادته عقوبة فاعله فقد أراد أن يكون سببا لعقوبة فاعله وأما نحن فمأمورون بأن نكره ما ينهى عنه لكن الجواب على هذا القول يعود إلى الجواب الأول فإن نفس ما أراده الله وأحبه ورضيه عند هؤلاء قد أمر العبد بأن يكرهه ويبغضه يسخطه فهؤلاء يقولون ليس كل مقدور مقضي مأمورا يرضى به.

الوجه الثالث: أن يقال قد تقدم أن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يفعله لما له في ذلك من الحكمة وأن ما يضر الناس من المعاصي والعقوبات يخلقها لما له في ذلك من الحكمة وان ما يضر الناس من المعاصي والعقوبات يخلقها لما له في ذلك من الحكمة والإنسان قد يفعل ما يكرهه كشربه الدواء الكريه لما له فيه من الحكمة التي يحبها كالصحة والعافية فشرب الدواء مكروه من وجه محبوب من وجه فالعبد يوافق ربه فيكره الذنوب ويمقتها ويبغضها لأن الله يبغضها ويمقتها ويرضى بالحكمة التي خلقها الله لأجلها فهي من جهة فعل العبد لها مكروهة مسخوطة ومن جهة خلق الرب لها محبوبة مرضية لأن الله خلقها لما له في ذلك من الحكمة والعبد فعلها وهي ضارة له موجبة له العذاب فنحن ننكرها ونكرهها وننهى عنها كما أمرنا الله بذلك إذ كان هو أيضا سبحانه يسخطها ويبغضها ونعلم أن الله أحدثها لما له في ذلك من الحكمة فنرضى بقضائه وقدره فمتى لحظنا أن الله قضاها وقدرها رضينا عن الله وسلمنا لحكمه وأما من جهة كون العبد يفعلها فلا بد أن نكره ذلك وننهى عنه ونجتهد في دفعه بحسب إمكاننا فإن هذا هو الذي يحبه الله منا والله تعالى إذا أرسل الكافرين على المسلمين فعلينا أن نرضى بقضاء الله في إرسالهم وعلينا أن نجتهد في دفعهم وقتالهم وأحد الأمرين لا ينافي الآخر وهو سبحانه خلق الفأرة والحية والكلب العقور وأمرنا بقتل ذلك فنحن نرضى عن الله إذ خلق ذلك ونعلم أن له في ذلك حكمة ونقتلهم كما أمرنا فإن الله يحب ذلك ويرضاه

 

وقد أجاب بعضهم بجواب آخر وهو أنا نرضى بالقضاء لا بالمقضي وقد أجاب بعضهم بجواب آخر أنا نرضى بها من جهة كونها خلقا ونسخطها من جهة كونها كسبا وهذا يرجع إلى الجواب الثالث لكن إثبات الكسب إذا لم يجعل العبد فاعلا فيه كلام قد ذكر في غير هذا الموضع فالذين جعلوا العبد كاسبا غير فاعل من أتباع الجهم بن صفوان وحسين النجار وأبي الحسن الأشعري وغيرهم كلامهم متناقض ولهذا لم يمكنهم أن يذكروا في بيان هذا الكسب والفرق بينه وبين الفعل كلاما معقولا بل تارة يقولون هو المقدور بالقدرة الحادثة وتارة يقولون ما قام بمحل القدرة أو بمحل القدرة الحادثة وإذا قيل لهم ما القدرة الحادثة قالوا ما قامت بمحل الكسب ونحو ذلك من العبارات التي تستلزم الدور ثم يقولون معلوم بالاضطرار الفرق بين حركة المختار وحركة المرتعش وهذا كلام صحيح لكنه حجة عليهم لا لهم فإن هذا الفرق يمتنع أن يعود إلى كون أحدهما مرادا دون الآخر إذ يمكن الإنسان أن يريد فعل غيره فرجع الفرق إلى أن للعبد على أحدهما قدرة يحصل بها الفعل دون الآخر والفعل هو الكسب لا يعقل شيئان في المحل أحدهما فعل والآخر كسب.

*

فصل قال الرافضي ومنها أنه يلزم أن نستعيذ بإبليس من الله تعالى ولا يحسن قوله تعالى فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (سورة النحل).. لأنهم نزهوا إبليس والكافر من المعاصي وأضافوها إلى الله تعالى فيكون الله تعالى على المكلفين شرا من إبليس عليهم تعالى الله عن ذلك.

 

*فيقال هذا كلام ساقط وذلك من وجوه...

أحدها: إما أن يكون لإبليس فعل وإما أن لا يكون له فعل فإن لم يكن له فعل امتنع أن يستعاذ به فإنه حينئذ لا يعيذ أحدا ولا يفعل شيئا وإن كان له فعل بطل تنزيهه عن المعاصي فعلم أن هذا الإعتراض ساقط على قول مثبتة القدر ونفاته وهو إيراد من غفل عن القولين وكذلك بتقدير أن لا يكون لإبليس فعل فلا يكون منه شر حتى يقال إن غيره شر منه فضلا عن أن يقال إن الله تعالى شر من إبليس فدعوى هذا أن هؤلاء يلزمهم أن يكون الله شرا عليهم من إبليس دعوى باطلة إذ غاية ما يقوله القائل هو الجبر المحض كما يحكى عن الجهم وشيعته وغاية ذلك أن لا يكون لإبليس ولا غيره قدرة ولا مشيئة ولا فعل بل تكون حركته كحركة الهواء وعلى هذا التقدير فلا يكون منه لا خير ولا شر والله تعالى هو الخالق لهذا كله فكيف يقال على هذا التقدير إن بعض مخلوقاته شر منه.

الثاني: أن يقال إنما تحسن الاستعاذة بإبليس لو كان يمكنه أن يعيذهم من الله سواء كان الله خالقا لأفعال العباد أو لم يكن وهؤلاء القدرية كالمصنف وأمثاله هم مع قولهم إن إبليس يفعل ما لا يقدره الله ويفعل بدون مشيئة الله ويكون في ملك الله ما لا يشاؤه وإن الله لا يقدر على أن يحرك إبليس ولا غيره من الاحياء ولا ينقلهم من عمل إلى عمل لا من خير إلى شر ولا من شر إلى خير فهم مسلمون مع هذا القول والفعل والتسليط الذي أثبتوه لإبليس من دون الله أن إبليس لا يقدر أن يجير على الله ولا يعيذ أحدا منه فامتنع على هذا أن يستعاذ به ولو قدر والعياذ بالله ما ألزموه من كون غير إبليس شرا منه على الخلق لكنه مع هذا عاجز عن دفع قضاء الله وقدره فكان المستعيذ به بل بسائر المخلوقين مخذولا كما قال تعالى لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا (سورة الإسراء). وقال تعالى قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون

 

المؤمنون وقال تعالى مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون (سورة العنكبوت)..

الوجه الثالث: أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وروي أنه كان يقول هذا في الوتر أيضا فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد استعاذ ببعض صفاته وأفعاله من بعض حتى استعاذ به منه فأي امتناع أن يستعاذ به من بعض مخلوقاته.

الوجه الرابع: أن يقال أهل السنة لا ينكرون أن يكون دعاء العبد لربه واستعاذته به سببا لنيل المطلوب ودفع المرهوب كالأعمال الصالحة التي أمروا بها فهم إذا استعاذوا بالله من الشيطان كان نفس استعاذتهم به سببا لأن يعيذهم من الشيطان وقد يوجد في بعض المخلوقين من الظلمة القادرين من يأمر بضرر غيره ظلما وعدوانا فإذا استجار به مستجير وذل له دفع عنه ذلك الظالم الذي أمره هو بظلمه ولله المثل الأعلى وهو المنزه عن الظلم وهو أرحم الراحمين وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها فكيف يمتنع أن يستعاذ به من شر أسباب الشر التي قضاها بحكمته.

الوجه الخامس: أن يقال هذا الاعتراض باطل على طريقة الطائفتين أما من لا يقول بالحكمة والعلة فإنه يقول إن الله خلق إبليس الضار لعباده وجعل استعاذة العباد به منه طريقا إلى دفع ضرره كما جعل إطفاء النار طريقا إلى دفع حريقها وكما جعل الترياق طريقا إلى دفع ضرر السم وهو سبحانه خلق النافع والضار وأمر العباد أن يستعملوا ما ينفعهم ويدفعوا به ما يضرهم ثم إن أعانهم على فعل ما أمرهم به كان محسنا إليهم وإلا فله أن يفعل ما يشاء ويحكم

 

ما يريد إذ لا مالك فوقه ولا آمر له ولم يتصرف في ملك غيره ولم يعص أمرا مطاعا وأما على الطريقة الثانية المثبتة للحكمة فإنهم يقولون خلق الله إبليس كما خلق الحيات والعقارب والنار وغير ذلك لما في خلقه ذلك من الحكمة وقد أمرنا أن ندفع الضرر عنا بكل ما نقدر عليه ومن أعظم الأسباب استعاذتنا به منه فهو الحكيم في خلق إبليس وغيره وهو الحكيم في أمرنا بالاستعاذة به منه وهو الحكيم إذ جعلنا نستعيذ به وهو الحكيم في إعاذتنا منه وهو الرحكيم بنا في ذلك كله المحسن إلينا المتفضل علينا إذ هو أرحم بنا من الوالدة بولدها إذ هو الخالق لتلك الرحمة فخالق الرحمة أولى بالرحمة من الرحماء.

الوجه السادس: قوله لأنهم نزهوا إبليس والكافر من المعاصي وأضافوها إلى الله إلى آخره فرية عليهم فإنهم متفقون على أن العاصي هو المتصف بالمعصية المذموم عليها المعاقب عليها والأفعال يتصف بها من قامت به لا من خلقها وإذا كان ما لا يتعلق بالإرادة كالطعوم والألوان يوصف بها محالها لا خالقها في محالها فكيف تكون الأفعال الاختيارية والله تعالى إذا خلق الفواسق كالحية والعقرب والكلب العقور وجعل هذه الفواسق فواسق هل يكون هو سبحانه موصوفا بذلك وإذا خلق الخبائث كالعذرة والدم والخمر وجعل الخبيث خبيثا هل يكون متصفا بذلك وأين إضافة الصفة إلى الموصوف بها التي قامت به من إضافة المخلوق إلى خالقه فمن لم يفهم هذان الفرقان فقد سلب خاصية الإنسان.

الوجه السابع: أن الله تعالى قد أمرنا أن نستعيذ من عذاب جهنم وعذاب القبر وغير ذلك من مخلوقاته التي هي مخلوقاته باتفاق المسلمين فعلم أنه لا يمتنع أن نستعيذ مما خلقه من الشر كما قال تعالى قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق سورة الفلق ولا فرق في ذلك بين إبليس وغيره.

 

*

فصل قال الرافضي ومنها أنه لا يبقى وثوق بوعد الله ووعيده لأنهم إذا جوزوا استناد الكذب في العالم إليه جاز أن يكذب في إخباراته كلها فتنتفي فائدة بعثه الأنبياء بل وجاز منه إرسال الكذاب فلا يبقى لنا طريق إلى تمييز الصادق من الأنبياء والكاذب.

*والجواب عن هذا من وجوه...

أحدها: أنه تقدم غير مرة أنه فرق بين ما خلقه صفة لغيره وبين ما اتصف هو به في نفسه وفرق بين إضافة المخلوق إلى خالقه وإضافة الصفة إلى الموصوف بها وهذا الفرق معلوم باتفاق العقلاء فإنه إذا خلق لغيره حركة لم يكن هو المتحرك بها وإذا خلق للرعد صوتا لم يكن هو المتصف بذلك الصوت وإذا خلق الألوان في النباتات والحيوانات والجمادات لم يكن هوالمتصف بتلك الألوان وإذا خلق في غيره علما وقدرة وحياة لم تكن تلك المخلوقات في غيره صفات له وإذا خلق في غيره عمى وصمما وبكما لم يكن هو الموصوف بذلك العمى والبكم والصمم وإذا خلق في غيره خبثا أو فسوقا لم يكن هو المتصف بذلك الخبث والفسوق وإذا خلق في غيره كذبا وكفرا لم يكن هو المتصف بذلك الكذب وبذلك الكفر كما أنه إذا قدر أنه خلق فيه طوافا وسعيا ورمي جمار وصياما وركوعا وسجودا لم يكن هو الطائف الساعي الراكع الساجد الرامي بتلك الحجارة وقوله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى (سورة الأنفال). معناه ما أصبت إذ حذفت ولكن الله هو الذي أصاب فالمضاف إليه الحذف باليد والمضاف إلى الله تعالى الإيصال إلى العدو وإصابتهم به وليس المراد بذلك ما يظنه بعض الناس أنه لما خلق الرامي والرمي قالوا كان هو الرامي في الحقيقة فإن ذلك لو كان صحيحا لكونه خالقا لرميه لاطرد ذلك في سائر الأفعال فكان يقول

=========

ج6. كتاب : منهاج السنة النبوية

 

المؤلف : شيخ الإسلام بن تيمية

 

 

وما مشيت إذا مشيت ولكن الله مشى وما لطمت ولكن الله لطم وما طعنت ولكن الله طعن وما ضربت بالسيف ولكن الله ضرب وما ركبت الفرس ولكن الله ركب وما صمت وما صليت وما حججت ولكن الله صام وصلى وحج ومن المعلوم بالضرورة بطلان هذا كله وهذا من غلو المثبتين للقدر ولهذا يروى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنهم كانوا يرمونه بالحجارة لما حصر فقال لهم لماذا ترمونني فقالوا ما رميناك ولكن الله رماك فقال لو أن الله رماني لأصابني ولكن أنتم ترمونني وتخطئونني وهذا مما احتج به القدرية النفاة على أن الصحابة لم يكونوا يقولون إن الله خالق أفعال العباد كما احتج بعض المثبتة بقوله تعالى ولكن الله رمى (سورة الأنفال). وكلاهما خطأ فإن الله إذا خلق فيعبد فعلا لم يجب أن يكون ذلك المخلوق صوابا من العبد كما أنه إذا خلق في الجسم طعما أو ريحا لم يجب أن يكون ذلك طيبا وإذا خلق للعبد عينين ولسانا لم يجب أن يكون بصيرا ناطقا فاستناد الكذب الذي في الناس كاستناد جميع ما يكون في المخلوقين من الصفات القبيحة والاحوال المذمومة وذلك لا يقتضي أنه في نفسه مذموم ولا أنه موصوف بتلك الصفات ولكن لفظ الاستناد لفظ مجمل أتراه أنه إذا استند إليه العجز المخلوق في الناس لكونه خالقه يكون هو عاجزا فهذا مما يبين فساد هذه الحجة.

الوجه الثاني: أنهم يجوزون أنه يخلق القدرة على الكذب مع علمه بأن صاحبها يكذب ويخلق القدرة على الظلم والفواحش مع علمه أن صاحبها يظلم ويفحش ومعلوم أن الواحد منا يجري تمكينه من القبائح وإعانته عليها مجرى فعله لها فمن أعان غيره على الكذب بإعطاء أمور يستعين بها على الكذب كان بمنزلة الكذب في القبح

 

فلا يجوز لنا أن نعين على إثم ولا عدوان كما نهى الله عن ذلك فإن كان ما قبح منه قبح منا فيلزم أن يجوزوا عليه إذا أعان على الكذب أن يكذب ويلزمهم المحذور فإن قالوا إنما أعطاه القدرة ليطيع لا ليعصي قيل إذا كان عالما بأنه يعصي كان بمنزلة من يعطي الرجل سيفا ليقاتل به الكفار مع علمه بأنه يقتل به نبيا وهذا لا يجوز في حقنا فإن من فعل فعلا لغرض مع علمه بأن الغرض لا يحصل به كان سفيها فينا والله تعالى منزه عن ذلك فعلم أن حكمه في أفعاله مخالف لأفعال عباده وإن عللوا ذلك بعلة يمكن استقامتها قيل لهم وكذلك ما يخلقه في غير له حكمة كما للإعانة عليه بالقدرة حكمة.

الوجه الثالث: أن يقال ليس كل ما كان قادرا عليه وهو ممكن نشك في وقوعه بل نحن نعلم بالضرورة أنه لا يفعل أشياء مع أنه قادر عليها وهي ممكنة فنعلم أنه لا يقلب البحار أدهانا ولا الجبال يواقيت ولا يمسخ جميع الآدميين ثعالب ولا يجعل الشمس والقمر عودى ريحان وأمثال هذه الأمور التي لا تحصى وعلمنا بأن الله منزه عن الكذب وأنه يمتنع عليه أعظم من علمنا بهذا.

الوجه الرابع: أنا نقول نحن نعلم أن الله موصوف بصفات الكمال وأن كل كمال ثبت لموجود فهو أحق به وكل نقص تنزه عنه موجود فهو أحق بالتنزيه عنه ونحن نعلم أن الحياة والعلم القدرة صفات كمال فالرب تعالى أحق أن يتصف بها من العباد وكذلك الصدق هو صفة كمال فهو أحق بالاتصاف به من كل من اتصف به كما قال تعالى الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا (سورة النساء). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته إن أصدق الكلام كلام الله.

الوجه الخامس: أن يقال قد اتفق السلف وأتباعهم على أن كلام الله غير مخلوق بل قائم به ثم تنازعوا هل يتكلم بمشيئته وقدرته

 

على قولين معروفين فالأول قول السلف والجمهور والثاني قول ابن كلاب ومن تبعه ثم تنازع أتباع ابن كلاب هل القديم الذي لا يتعلق بمشيئته وقدرته معنى قائم بذاته أو حرف أو حروف وأصوات أزلية على قولين كما قد بسط في موضعه وإذا كان كذلك فمن قال إنه لا يتعلق بمشيئته امتنع أن يقوم به غير ما اتصف به والصدق عندهم هو العلم أو معنى يستلزمه العلم ومعلوم أن علمه من لوازم ذاته ولوازم العلم من لوازم ذاته فيكون الصدق من لوازم ذاته فيمتنع اتصافه بنقيضه فإن لازم الذات القديمة الواجبه بنفسها يمتنع عدمه كما يمتنع عدمها فإن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم وأيضا فالصدق والكذب حينئذ مثل البصر والعمى والسمع والصمم والكلام والخرس وكما وجب أن يتصف بالبصر دون العمى وبالسمع دون الصمم وبالكلام دون الخرس وجب أيضا أن يتصف بالصدق دون الكذب

 

 

وأما من قال الكلام يتعلق بمشيئته وقدرته فهؤلاء عامتهم يقولون إنه يتكلم لحكمة ويفعل لحكمة وأنه سبحانه منزه عن فعل القبيح وأدلة هؤلاء على تنزيهه عن فعل القبائح أعظم من أدلة المعتزلة وأقوى فإن كل دليل يدل على تنزيهه عن فعل قبيح منفصل عنه فإنه يدل على تنزيهه عن فعل قبيح يقوم به بطريق الأولى والأحرى فإن كون ما يقوم به من القبائح نقصا هو أظهر من كون فعل المستقبحات المنفصلة نقصا فإذا امتنع هذا فذاك أولى بالامتناع.

الوجه السادس: أن يقال الأدلة العقلية دلت على امتناع اتصافه سبحانه بالنقائص والقبائح وإنما يتصف بما يقوم به منها والكلام قائم بالمتكلم فيمتنع أن يتكلم بكذب لأن كلامه قائم به فيمتنع أن يقوم به القبيح الذي اختاره وهذا طريق يختص به أهل الإثبات لتنزيهه عن الكذب والمعتزلة لا يمكنهم ذلك لأن كلامه منفصل عنه عندهم فإذا قال لهم هؤلاء المثبتة الدليل إنما دل على تنزيهه عن الاتصاف في نفسه بالقبائح وعن فعله لها والفعل ما قام بالفاعل وأما المنفصل فهو مفعول له لا فعل له وأنتم لم تذكروا دليلا على امتناع وقوع ذلك في مفعولاته وهو محل النزاع كانت حجة هؤلاء حجة ظاهرة على القدرية.

 

الوجه السابع: أن كلامه القائم بذاته غير مخلوق عند أهل السنة فإن الكلام صفة كمال فلا بد أن يتصف بها سواء قالوا إنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته وهو معنى قائم بالنفس أو هو حروف وأصوات قديمة أو قالوا إنه يتعلق بمشيئته وقدرته أو إنه تكلم بعد أن لم يكن متكلما أو إنه لم يزل متكلما إذا شاء فعلى الأقوال كلها هو قائم بذاته والكذب صفة نقص كالصمم والبكم والعمى والله منزه عن قيام النقائص به مع أنه يخلق خلقه متصفين بالنقائص فيخلق العمى والصمم والبكم ولا يقوم به ذلك فكذلك يخلق الكذب في الكاذب ولا يقوم به الكذب.

الوجه الثامن: أن يقال هذا السؤال وارد عليهم فإنهم يقولون إن الله يخلق في غيره كلاما يكون هو كلامه مع كونه قائما بغيره وهو محدث مخلوق والكلام الذي يتكلم به العباد هوعندهمليس مخلوقا له ولا هو كلامه فإذا كان هذا صدقا وهذا صدقا فلا بد أن يعرفوا أن هذا كلامه وليس هذا بكلامه وأما قوله وجاز منه إرسال الكذاب فجوابه من وجوه أحدها أنه لا ريب أن الله يرسل الكذاب كإرسال الشياطين في قوله ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا (سورة مريم). ويبعثهم كما في قوله تعالى بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد (سورة الإسراء). لكن هذا لا يكون إلا مقرونا بما يبين كذبهم كما في مسيلمة الكذاب والأسود العنسي ولكن ليس في مجرد إرسال الكذاب ما يمنع التمييز بينه وبين الصادق كما أنه يرسل الظالم وليس في إرساله ما يمنع التمييز بينه وبين العادل ويرسل الجاهل والفاجر والأعمى والأصم وليس في إرسال هؤلاء مايمنع التمييز بينهم وبين غيرهم ولفظ الإرسال يتناول إرسال الرياح وإرسال الشياطين وغير ذلك الثاني أن يقال هم يجوزون أن يخلق من يعلم أنه كاذب وإعطاءه القدرة على الكذب كما خلق مسيلمة الكذاب والعنسي فإن كان

 

خلقه لهذا جائزا مع أنه ميز بينه وبين الصادق كذلك خلق الكذاب بكذبه الثالث أنه إذا خلق من يدعي النبوة وهو كاذب فإن قالوا يجوز إظهار أعلام الصدق عليه كان هذا ممنوعا وهو باطل بالاتفاق وإن قالوا لم يجز ذلك لم يكن مجرد دعوى النبوة بلا علم على الصدق ضارا فإن الشخص لو ادعى أنه طبيب أو صانع بلا دليل يدل على صدقه لم يلتفت إليه فكيف بمدعي النبوة وإن قالوا إذا جوزتم عليه أن يخلق الكذب في الكذاب فجوزوا عليه أن يظهر على يديه أعلام الصدق قيل هذا ممتنع لأن أدلة الصدق تستلزم الصدق لأن الدليل مستلزم للمدلول فإظهار أعلام الصدق على يد الكذاب ممتنع لذاته فلا يمكن بحال وإن قالوا فجوزوا أن يظهر على يديه خارق قلنا نعم فنحن نجوز أن يظهر الخارق على يد من يدعيالإلهية كالدجال لأن ذلك لا يدل على صدقة لظهور كذبه في دعوى الإلهية والممتنع ظهور دليل الصدق على الكذب فإن قالوا فجوزوا ظهور الخوارق على يد مدعي النبوة مع كذبه قلنا نعم ويجوز ذلك على وجه لا يدل على صدقه مثل ما يظهر السحرة والكهان من الخوارق المقرونة بما يمنع صدقهم والكلام على هذا مبسوط في موضعه الوجه الرابع أن دليل النبوة وأعلامها وما به يعرف صدق النبي ليست محصورة في الخوارق بل طرق معرفة الصدق متنوعة كما أن طرق معرفة الكذب متنوعة كما قد بسط في موضعه.

 

*

فصل قال الرافضي ومنها أنه يلزم تعطيل الحدود والزواجر عن المعاصي، فإن الزنا إذا كان واقعا بإرادة الله تعالى والسرقة إذا صدرت عن الله وإرادته هي المؤثرة لم يجز للسلطان المؤاخذة عليها لأنه يصد السارق عن مراد الله ويبعثه على ما يكرهه الله. ولو صد الواحد منا غيره عن مراده وحمله على ما يكرهه استحق منه اللوم ويلزم أن يكون الله مريدا للنقيضين لأن المعصية مرادة لله والزجر عنها مراد له أيضا.

*فيقال فيما قدمناه ما يبين الجواب عن هذا، لكن نوضح جواب هذا إن شاء الله تعالى من وجوه...

أحدها: أن الذي قدره وقضاه من ذلك هو ما وقع دون ما لم يكن بعد وما وقع لا يقدر أحد أن يرده وإنما يرد بالحدود والزواجر ما لم يقع بعد فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فقوله لأنه يصد السارق عن مراد الله كذب منه لأنه إنمايصده عما لم يقع بعد وما لم يقع لم يرده الله ولهذا لو حلف ليسرقن هذا المال إن شاء الله ولم يسرقه لم يحنث باتفاق المسلمين لأن الله لم يشأ سرقته ولكن القدرية عندهم الإرادة لا تكون إلا بمعنى الأمر فيزعمون أن السرقة إذا كانت مرادة كانت مأمورا بها وقد أجمع المسلمون وعلم بالإضطرار من دينهم أن الله لم يأمر بالسرقة ومن قال إن ما وقع منها مراد يقول إنه مراد غير مأمور به فلا يقول إنه مأمور به إلا كافر لكن هذا قد يقال للمباحية المحتجين بالقدر على المعاصي فإن منهم من لا يرى أن يعارض الإنسان فيما يظنه مقدرا عليه من المعاصي ومنهم من يرى أن يعاونه على ذلك معاونة لما ظن أنه مراد وهذا الفعل وإن كان محرما ومعصية فهم لم يصدوا عن مراد الله فتبين أن الصد عن مراد الله ليس واقعا على كل تقدير.

 

الوجه الثاني: أن يقال قد تقدم أن تناهي الناس عن المعاصي والقبائح والظلم ودفع الظالم وأخذ حق المظلوم منه ورد احتجاج من احتج على ذلك بالقدر أمر مستقر في فطر جميع الناس وعقولهم مع إقرار جماهيرهم بالقدر وأنه لا يمكن صلاح حالهم ولا بقاؤهم في الدنيا إذا مكنوا كل أحد أن يفعل ما يشاء من مفاسدهم ويحتج بالقدر وقد بينا أن المحتجين بالقدر على المعاصي إذا طردوا قولهم كانوا أكفر من اليهود والنصارى وهم شر من المكذبين بالقدر.

الوجه الثالث: أن الأمور المقدورة بالاتفاق إذا كان فيها فساد يحسن ردها وإزالتها بعد وقوعها كالمرض ونحوه فإنه من فعل الله بالاتفاق مراد لله مع هذا يحسن من الإنسان أن يمنع وجوده بالاحتماء واجتناب أسبابه ويحسن منه السعي في إزالته بعد حصوله وفي هذا إزالة مراد الله وإن قيل إن قطع السارق يمنع مراد الله كان شرب الدواء لزوال المرض مانعا لمراد الله وكذلك دفع السيل الآتي من صبب والنار التي تريد أن تحرق الدور وإقامة الجدار الذي يريد أن ينقض كما أقام الخضر ذلك الجدار وكذلك إزالة الجوع الحاصل بالأكل وإزالة البرد الحاصل بالاستدفاء وإزالة الحر بالظلوقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقي نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا قال هي من قدر الله فبين صلى الله عليه وسلم أنه يرد قدر الله بقدر الله إما دفعا وإما رفعا إما دفعا لما انعقد سبب لوجوده وإما رفعا لما وجد كرفع المرض ودفعه ومن هذا قوله تعالى له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله (سورة الرعد). قيل معقبات من أمر الله يحفظونه وقيل يحفظونه من أمر الله الذي ورد ولم يحصل يحفظونه أن يصل إليه وحفظهم بأمر الله.

الوجه الرابع: قوله ويلزم أن يكون الله مريدا للنقيضين لأن المعصية مرادة لله والزجر عنها مراد الله كلام ساقط فإن النقيضين ما لا يجتمعان ولا يرتفعان أو ما لا يجتمعان وهما المتضادان

 

والزجر ليس عما وقع وأريد بل هو عقوبة على الماضي وزجر عن المستقبل والزجر الواقع بإرادته إن حصل مقصوده لم يحصل المزجور عنه فلم يرده فيكون المراد الزجر فقط وإن لم يحصل مقصوده لم يكن زجرا تاما بل يكن المراد فعل هذا الزاجر وفعل ذاك كما يراد ضرب هذا لهذا بهذا السيف وحياة هذا وكما يراد المرض المخوف الذي قد يكون سببا للموت ويراد معه الحياة فإرادة السبب ليست موجبة لإرادة المسبب إلا إذا كان السبب تاما موجبا والزجر سبب للانزجار والامتناع كسائر الأسباب كما أن المرض المخوف سبب للموت وكما أن الأمر بالفعل والترغيب فيه سبب لوقوعه ثم قد يقع المسبب وقد لا يقع فإن وقع كانا مرادين وإلا كان المراد ما وقع خاصة.

الوجه الخامس: أنه قد تقدم أن الإرادة نوعان نوع بمعنى المشيئة لما خلق فهذا متناول لكل حادث دون ما لا يحدث ونوع بمعنى المحبة لما أمر به فهذا إنما يتعلق بالطاعات وإذا كان كذلك فما

 

وقع من المعاصي فهو مراد بالمعنى الأول فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما وقع فقد شاء كونه والزجر عنها مراد بالمعنى الثاني فإنه يحب النهي عن المنكر ويرضاه ويثيب فاعله بخلاف المنكر نفسه فإنه لا يحبه ولا يرضاه ولا يثيب فاعله ثم الزجر إنما يكون عما لم يقع والعقوبة تكون على ما وقع فإذا وقعت سرقة بالقضاء والقدر وقد أمر الله سبحانه بإقامة الحد فيها فإقامة الحد مأمور به يحبه ويرضاه ويريده إرادة أمر لا إرادة خلق فإن أعان عليه كان قد أراده خلقا وكان حينئذ إقامة الحد مرادة شرعا وقدرا خلقا وأمرا قد شاءها وأحبها وإن لم يقع كان ما وقع من المعصية قد شاءه خلقا ولم يرده ولم يحبه شرعا ويذكر أن رجلا سرق فقال لعمر سرقت بقضاء الله وقدره فقال له وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره وهكذا يقال لمن تعدى حدود الله وأعان العباد على عقوبته الشرعية كما يعين المسلمين على جهاد الكفار إن الجميع واقع بقضاء الله وقدره لكن ما أمر به يحبه ويرضاه ويريده شرعا ودينا كما شاءه خلقا وكونا بخلاف ما نهى عنهفصل قال الرافضي ومنها أنه يلزم مخالفة المعقول والمنقول أما المعقول فلما تقدم من العلم الضروري باستناد أفعالنا الاختيارية إلينا ووقوعها بحسب إرادتنا فإذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة وبالعكس والشك في ذلك عين السفسطة فيقال الجواب من وجوه أحدها أن جمهور أهل السنة قائلون بهذا وأن أفعال الإنسان الأختيارية مستنده إليه وأنه فاعل لها ومحدث لها وإنما ينازع في هذا من يقول إنها ليست فعلا للعبد ولا لقدرته تأثير فيها ولا أحدثها العبد وهؤلاء طائفة من متكلمي أهل الإثبات والجمهور من أهل السنة لا يقولون بذلك كما جاءت به النصوص فإن الله ورسوله وصف العبد بأنه يعمل ويفعل

 

 

الوجه الثاني أن يقال بل النفاة خالفوا العلم الضروري فإن كون العبد مريدا فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا أمر حادث بعد أن لم يكن فإما أن يكون له محدث وأما أن لا يكون له محدث فإن لم يكن له محدث لزم حدوث الحوادث بلا محدث وإن كان له محدث فإما أن يكون هو العبد أو الرب تعالى أو غيرهما فإن كان هو العبد فالقول في إحداثه لتلك الفاعلية كالقول في إحداث أحداثها ويلزم التسلسل وهو هنا باطل بالاتفاق لأن العبد كائن بعد أن لم يكن فيمتنع أن تقوم به حوادث لا أول لها وإن كان غير الله فالقول فيه كالقول في العبد فتعين أن يكون الله هو الخالق لكون العبد مريدا فاعلا وهو المطلوب وأهل السنة يقولون بهذا العلم الضروري فيقولون إن العبد فاعل والله خلقه فاعلا والعبد مريد مختار والله جعله مريدا مختار قال الله تعالى إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله سورة الإنسان وقال تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين سورة التكويرفأثبت مشيئة العبد وجعلها لا تحصل إلا بمشيئة الله تعالى وقال الخليل صلى الله عليه وسلم رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي (سورة إبراهيم). وقال فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وقال هو وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك (سورة البقرة). وقال وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا (سورة الأنبياء). وقال وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار (سورة القصص). وأمثال ذلك في الكتاب والسنة فدليلهم اقتضى مشيئة العبد وأنه فاعل بالاختيار وهذا الدليل اقتضى أن هذه المشيئة والاختيار حصلت بمشيئة الرب فكلا الأمرين حق فمن قال إن العبد لا مشيئة له ولا اختيار أو قال إنه لا قدرة له أو أنه لم يفعل ذلك الفعل أو لا أثر لقدرته فيه ولم يحدث تصرفاته فقد أنكر موجب الضرورة الأولى

 

 

ومن قال إن إرادته وفعله حدثت بغير سبب اقتضى حدوث ذلك وأن العبد أحدث ذلك وحاله عند إحداثه كما كان قبل إحداثه بل خص أحد الزمانين بالإحداث من غير سبب اقتضى تخصيصه وأنه صار مريدا فاعلا محدثا بعد أن لم يكن كذلك من غير شيء جعله كذلك فقد قال بحدوث الحوادث بلا فاعل وإذا قالوا الإرادة لا تعلل كان هذا كلاما لا حقيقة له فإن الأرادة أمر حادث فلا بد له من محدث وهذا كما قالوا إن البارىء يحدث إرادة لا في محل بلا سبب اقتضى حدوثها ولا إرادة فارتكبوا ثلاث محالات حدوث حادث بلا إرادة من الله وحدوث حادث بلا سبب حادث وقيام الصفة بنفسها لا في محل وإن شئت قلت كونه مريدا أمر ممكن والممكن لايترجح وجوده على عدمه ولا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح تام وهذا مما يحتج به الرازي عليهم وهو صحيح في نفسه لكنه تناقض في مسألة حدوث العالموالحجة التي ذكرها هذا الإمامي مذكورة عن أبي الحسين البصري وهي صحيحة كما أن الأخرى صحيحة فيجب القول بهما جميعا مع أن جمهور القدرية يقولون العلم بكون العبد محدثا لأفعاله نظري لا ضروري وهؤلاء يخالفون أبا الحسين وأبو الحسين يقول مع ذلك إن الفعل يتوقف على الداعي والقدرة وعندهما يجب الفعل وهو حقيقة قول أهل الإثبات ولهذا يعبر غير واحد منهم بنحو ذلك كأبي المعالي والرازي وغيرهما لكن إذا قيل مع ذلك إن الله خالق أفعال العباد أمكن الجمع بينهما عند من يقول إن الله خلق الأشياء بالأسباب ومن لم يقل ذلك يقول خلق الفعل عند هذه الأمور لا بها وهو قول من لم يجعل للقدرة أثرا في مقدورها كالأشعري وغيره فإن قيل كيف يكون الله محدثا لها والعبد محدثا لها قيل إحداث الله لها بمعنى أن خلقها منفصلة عنه قائمة بالعبد فجعل العبد فاعلا لها بقدرته ومشيئته التي خلقها الله تعالى

 

 

وإحداث العبد لها بمعنى أنه حدث منه هذا الفعل القائم به بالقدرة والمشيئة التي خلقها الله فيه وكل من الإحداثين مستلزم للآخر وجهة الإضافة مختلفة فما أحدثه الرب فهو مباين له قائم بالمخلوق وفعل العبد الذي أحدثه قائم به فلا يكون العبد فاعلا للفعل بمشيئته وقدرته حتى يجعله الله كذلك فيحدث قدرته ومشيئته والفعل الذي كان بذلك وإذا جعله الله فاعلا وجب وجود ذلك فخلق الرب لفعل العبد يستلزم وجود الفعل وكون العبد فاعلا له بعد أن لم يكن يستلزم كون الرب خالقا له بل جميع الحوادث بأسبابها هي من هذا الباب فإن قيل هذا قول من يقول هي فعل للرب وفعل للعبد قيل من قال هي فعل لهما بمعنى الشركة فقد أخطأ ومن قال إن فعل الرب هو ما انفصل عنه وقال إنها فعل لهما كما قاله أبو إسحاق الإسفراييني فلا بد أن يفسر كلامه بشيء يعقل وأما على قول جمهور أهل السنة الذين يقولون إنها مفعولة للربلا فعل له إذا فعله ما قام به والفعل عندهم غير المفعول فيقولون إنها مفعولة للرب لا فعل له وإنها فعل للعبد كما يقولون في قدرة العبد إنها قدرة للعبد مقدورة للرب لا أنها نفس قدرة الرب وكذلك إرادة العبد هي إرادة للعبد مرادة للرب وكذلك سائر صفات العبد هي صفات له وهي مفعولة للرب مخلوقة له ليست بصفات له ومما يبين ذلك أن الله تعالى قد أضاف كثيرا من الحوادث إليه وأضافه إلى بعض مخلوقاته إما أن يضيف عينه أو نظيره كقوله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى (سورة الزمر). وقال تعالى هو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار (سورة الأنعام). مع قوله تعالى قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم (سورة السجدة). وقوله توفته رسلنا وهم لا يفرطون (سورة الأنعام). وكذلك قوله تعالى في الريح تدمر كل شيء بأمر ربها ((سورة الأحقاف).).

 

 

وقال ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون سورةالأعراف وقال تعالى إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم (سورة الإسراء). وقال يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام (سورة المائدة). وقال نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن (سورة يوسف). وقال إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون (سورة النمل). وقال ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب (سورة النساء). أي ما يتلى عليكم في الكتاب يفتيكم فيهن وقال فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (سورة الحج). فأضاف الإنبات إليها وقال تعالى والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج (سورة الحجرات).. وقال تعالى هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات (سورة النحل). وقال تعالى حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها

 

أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا (سورة يونس). وقال تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها (سورة الكهف). وقال تعالى إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب (سورة الصافات). وقال تعالى يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها (سورة الحديد). وقال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء (سورة النحل). وقال نزل به الروح الأمين (سورة الشعراء). وقال وبالحق أنزلناه وبالحق نزل (سورة الإسراء). وقال وأنزلنا من السماء ماء (سورة المؤمنون). وقال تعالى وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء (سورة فصلت). وقال سليمان عليه الصلاة والسلام يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء (سورة النمل). وقال تعالى فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ((سورة الذاريات).). فهم نطقوا وهو انطقهم وهو الذي أنطق كل شيء فإذا كان تبارك وتعالى قد جعل في الجمادات قوى تفعل وقد أضاف الفعل إليها ولم يمنع ذلك أن يكون خالقا لأفعالها فلأن لا

 

يمنع إضافة الفعل إلى الحيوان وإن كان الله خالقه بطريق الأولى فإن القدرية لا تنازع في أن الله خالق ما في الجمادات من القوى والحركات وقد أخبر الله أن الأرض تنبت وأن السحاب يحمل الماء كما قال تعالى فالحاملات وقرا (سورة الذاريات). والريح تنقل السحاب كما قال تعالى وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت (سورة الأعراف). وأخبر أن الريح تدمر كل شيء وأخبر أن الماء طغى بقوله تعالى إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية (سورة الحاقة). بل قد أخبر بما هو أبلغ من ذلك من سجود هذه الأشياء وتسبيحها كما في قوله تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب (سورة الحج). وهذا التفصيل يمنع حمل ذلك على أن المراد كونها مخلوقة دالة على الخالق وأن المراد شهادتها بلسان الحال فإن هذا عام لجميع الناس وقد قال تعالى يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد (سورة سبأ). وقال إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب (سورة ص).

 

 

فأخبر أن الجبال تؤوب معه والطير وأخبر أنه سخرها تسبح وقال ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه (سورة النور). وقال تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم (سورة الإسراء). وقال ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها (سورة الرعد). وقال ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله (سورة البقرة). وبسط الكلام على سجود هذه الأشياء وتسبيحها مذكور في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن هذا كله مخلوق لله بالاتفاق مع جعل ذلك فعلا لهذه الأعيان في القرآن فعلم أن ذلك لا ينافي كون الرب تعالى خالقا لكل شيء فإن قيل قولكم إذا جعلنا الله فاعلا وجب وجود ذلك الفعل وخلق الفعل يستلزم وجوده ونحو ذلك من الأقوال يقتضي الجبر وهو قول باطل

 

 

قيل لفظ الجبر لم يرد في كتاب ولا سنة لا بنفي ولا إثبات واللفظ إنما يكون له حرمة إذا ثبت عن المعصوم وهي ألفاظ النصوص فتلك علينا أن نتبع معاينها وأما الألفاظ المحدثة مثل لفظ الجبر فهو مثل لفظ الجهة والحيز ونحو ذلك ولهذا كان المنصوص عن أئمة الإسلام مثل الأوزاعي والثوري وعبدالرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم أن هذا اللفظ لا يثبت ولا ينفي مطلقا فلا يقال مطلقا جبر ولا يقال لم يجبر فإنه لفظ مجمل ومن علماء السلف من أطلق نفيه كالزبيدي صاحب الزهري وهذا نظر إلى المعنى المشهور من معناه في اللغة فإن المشهور إطلاق لفظ الجبر والإجبار على ما يفعل بدون إرادة المجبور بل مع كراهته كما يجبر الأب ابنته على النكاح وهذا المعنى منتف في حق الله تعالى فإنه سبحانه لا يخلق فعل العبد الاختياري بدون اختياره بل هو الذي جعله مريدا مختارا وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله ولهذا قال من قال من السلف الله أعظم وأجل من أن يجبر إنما يجبر غيره من لا يقدر على جعله مختارا والله تعالى يجعل العبد مختارا فلا يحتاج إلى إجباره

 

 

ولهذا قال الاوزاعي والزبيدي وغيرهما نقول جبل ولا نقول جبر لأن الجبل جاءت به السنة كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبدالقيس إن فيك خلقين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما فقال بل خلقين جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله فقد يراد بلفظ الجبر نفس فعل ما يشاؤه وإن خلق اختيار العبد كما قال محمد بن كعب القرظي الجبار هو الذي جبر العباد على ما أراده وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في الدعاء المأثور عنه اللهم داحي المدحوات وسامك المسموكات جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها فإذا أريد بالجبر هذا فهذا حق وإن أريد به الأول فهو باطل ولكن الإطلاق يفهم منه الأول فلا يجوز إطلاقه فإذا قال السائل أنا أريد بالجبر المعنى الثاني وهو أن نفس جعل الله للعبد فاعلا قادرايستلزم الجبر ونفس كون الداعي والقدرة يستلزم وجود الفعل جبر قيل هذا المعنى حق ولا دليل لك على إبطاله وحذاق المعتزلة كأبي الحسين البصري وأمثاله يسلمون هذا فيسلمون أن مع وجود الداعي والقدرة يجب وجود الفعل وصاحب هذا الكتاب قد سلك هذه الطريقة فلا يمكنه مع هذا إنكار الجبر بهذا التفسير ولهذا نسب أبو الحسين إلى التناقض في هذه المسألة فإنه وأمثاله من حذاق المعتزل إذا سلموا أنه مع الداعي والقدرة يجب وجود الفعل وسلموا أن الله خلق الداعي والقدرة لزم أن يكون الله خالق أفعال العباد فحذاق المعتزلة سلموا المقدمتين ومنعوا النتيجة والطوسي الذي قد عظمه هذا الإمامي ذكر في تلخيص المحصل لما ذكر احتجاج الرازي بأن الفعل يجب عند وجود المرجح التام ويمتنع عند عدمه فبطل قول المعتزلة بالكلية يعني الذين يقولون إنه يفعل على وجه

 

 

الجواز وهو المشهور من مذهبهم فاعترض عليه الطوسي وقال إنه قد ذكر فيما مر أن المختار متمكن من ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح وهنا حكم بأن ذلك محال ثم على تقدير الاحتياج إلى المؤثر وامتناع عدم حصول الأثر قال فقد بطل قول المعتزلة بالكلية قال وذلك غير وارد لأنه قد ذكر أن أبا الحسين من المعتزلةوقال في موضع آخر إنه رجل المعتزلة وقال هنا إنه قد ذهب إلى أن القدرة والإرادة يوجبان وجود المقدور فكيف بطل قولهم بالكلية وبيانه أنهم يقولون إن معنى الاختيار هو استواء الطرفين بالنسبة إلى القدرة وحدها ووجوب وقوع أحدهما بحسب الإرادة فمتى حصل المرجح التام وهو الإرادة وجب الفعل ومتى لم يحصل امتنع ذلك وذلك غير مناف لاستواء الطرفين بالقياس إلى القدرة وحدها فإذا اللزوم الذي ذكره غير قاطع في إبطال قولهم قلت القول الذي قطع بطلانه الرازي هو القول المشهور عنهم وهو أن الفعل لا يتوقف على الداعي بل القادر يرجح أحد مقدوريه على الأخر بلا مرجح فيحدث الداعي له الفعل كالإرادة بمجرد كونه قادرا مع استواء القدرة بالنسبة إلى وجود ذلك وعدمه والداعي قد يفسر بالعلم أو الاعتقاد أو الظن وقد يفسر بالإرادة وقد يفسر بالمجموع وقد يفسر بما اشتمل عليه المراد مما يقتضي إرادته والرازي يقول إن أبا الحسين متناقض فإن الرازي ذكر في الأقوال

 

 

قول الذين يقولون إن الفعل موقوف على الداعي فإذا حصلت القدرة وانضم إليها الداعي صار مجموعهما علة لوجوب الفعل قال وهذا قول جمهور الفلاسفة واختيار أبي الحسين البصري من المعتزلة وهو وإن كان يدعي الغلو في الاعتزال حتى ادعى أن العلم بأن العبد موجد لأفعاله ضروري إلا أنه كان من مذهبه أن الفعل موقوف على الداعي فإذا كان عند الاستواء يمتنع وقوعه فحال المرجوحية أولى بالامتناع وإذا امتنع المرجوح وجب الراجح لأنه لا خروج عن النقيضين وهذا عين القول بالجبر لأن الفعل واجب الوقوع عند حصول المرجح وممتنع الوقوع عند عدم المرجح فثبت أن أبا الحسين كان عظيم الغلو في القول بالجبر وإن كان يدعي في ظاهر الأمر أنه عظيم الغلو في الاعتزال قلت هذا القول هو قول جماهير أهل السنة وأئمتهم ويقرب منه قول أبو المعالي الجويني والقاضي أبي خازم بن القاضي أبي يعلى وقول الكرامية وهو حقيقة القول بأن الله خالق فعل العبد وهو ظاهر على قول جمهور أهل السنة المثبتين للأسباب الذين يقولون لقدرة العبد تأثير في الفعل

 

 

وأما من قال لا تأثير لها كالأشعري فإذا فسر الوجوب بالوجوب العادي لم يمتنع ذلك وإن فسر بالعقلي امتنع وأما لفظ الجبر فالنزاع فيه لفظي كما تقدم وليس هو في اللغة ظاهرا في هذا المعنى ولهذا أنكر السلف إطلاقه فإذا قالت القدرية هذا ينافي كونه مختارا لأنه لا معنى للمختار إلا كونه قادرا على الفعل والترك وأنه إذا شاء فعل هذا وإذا شاء فعل هذا قيل لهم هذا مسلم ولكن يقال هو قادر على الفعل والترك على سبيل البدل أو على سبيل الجمع والثاني باطل فإنه في حال كونه فاعلا لا يقدر أن يكون تاركا مع كونه فاعلا وكذلك حال كونه تاركا لا يقدر على كونه فاعلا مع كونه تاركا فإن الفعل والترك ضدان واجتماعهما ممتنع والقدرة لا تكون على ممتنع فعلم أن قولنا قادر على الفعل والترك أي يقدر أن يفعل في حال عدم الترك ويقدر أن يترك في حال عدم الفعل وكذلك قول القائل القادر إن شاء فعل وإن شاء ترك هو على سبيل البدل لا يقدر أن يشاء الفعل والترك معا بل حال مشيئته للفعل لا يكون مريدا للترك وحال مشيئته للترك لا يكون مريدا للفعل وإذا كان كذلك فالقادر الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك حال كونه

 

 

شاء الفعل مع القدرة التامة يجب وجود الفعل وحال وجود الفعل يمتنع أن يكون مريدا للترك مع الفعل وأن يكون قادرا على وجود الترك مع الفعل بل قدرته على الفعل بمعنى أنه يكون بعد الفعل تاركا له فيكون قادرا على الترك في الزمن الثاني من وجود الفعل لا حال وجود الفعل وإذا قال القائل هذا يقتضي أن يكون الفعل واجبا لا ممكنا فإن أراد به أنه يصير واجبا بغيره بعد كونه ممكنا في نفسه فهذا حق كما أنه يصير موجودا بعد أن كان معدوما وفي حال وجوده يمتنع أن يكون معدوما وكل ما خلقه الله تعالى فهو بهذه المثابة فإنه ما شاء كان فوجب وجوده بمشيئة الله وقدرته وما لم يشأ لم يكن فيمتنع وجوده لعدم مشيئة الله له مع أن ما شاءه مخلوق محدث مفعول له وكان قبل أن يخلقه يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد فأما بعد أن صار موجودا بمشيئة الله وقدرته فلا يمكن أن يكون معدوما مع كونه موجودا وإنما يمكن أن يعدم بعد وجوده وليس في الأشياء ما يمكن وجوده وعدمه معا في حال واحدة بل يمكن وجوده بدلا عن عدمه وعدمه بدل عن وجوده

 

 

فإذا وجد كان وجوده مادام موجودا واجبا بغيره وإذا سمى ممكنا بمعنى أنه مخلوق ومفعول وحادث فهو صحيح لا بمعنى أنه في حال وجوده يمكن عدمه مع وجوده فإنه إذا أريد أنه حال وجوده يمكن عدمه مع وجوده فهذا باطل فإنه جمع بين النقيضين وإن أراد أنه يمكن عدمه بعد هذا الوجود فهو صحيح ولكن هذا لا يناقض وجوب وجوده بغيره مادام موجودا وهذا موجود بالقادر لا بنفسه وهو ممكن في هذه الحال بمعنى أنه محدث مخلوق مفتقر إلى الله تعالى لا بمعنى كونه يمكن أن يكون معدوما حال وجوده ومن فهم هذا انحلت عنه إشكالات كثيرة أشكلت على كثير من الناس في مسائل القدر بل وفي إثبات كون الرب قادرا مختارا ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والقدر يتعلق بقدرة الله تعالى ولهذا قال الإمام أحمد القدر قدرة الله تعالى يشير إلى أن من أنكر القدر فقد أنكر قدرة الله تعالى وأنه يتضمن إثبات قدرة الله تعالى على كل شيء ولهذا جعل الأشعري وغيره أخص وصف الرب تبارك وتعالى قدرته علىالاختراع

 

 

وأيضا فقول القائل القادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك بمعنى أنه قبل الفعل والترك إن شاء وجود الفعل في الزمن الثاني وإن شاء الترك فيه وهذا التخيير بينهما إنما يكون عند عدمهما جميعا فأما حال الفعل فيمتنع الترك وحال الترك فيمتنع الفعل وحينئذ فالفعل واجب حال وجوده لا في الحال التي يكون مخيرا فيها بين الفعل والترك فحال التخيير لم يكن واجبا وحال وجوبه لم يكن مخيرا نعم قد يكون حال الفعل شائيا للترك بعد الفعل وهذا ترك ثان ليس هو ترك ذلك الفعل في حال وجوده فالقادر قط لا يكون مخيرا بين الشيئين في حال وجود أحدهما إلا بمعنى التخيير في الزمن الثاني وإلا ففي حال وجود أحدهما لا يكون مخيرا بين وجوده وعدمه مع وجوده وحالما يكون الفاعل فاعلا يمتنع أن يكون تاركا فيمتنع أن يكون هذا الترك مقدورا له لأن الممتنع لا يكون مقدورا والقدرة على الضدين قدرة على كل واحد منهما على سبيل البدل ليست قدرة على جمعهما وهذا كما يقال إنه قادر على تسويد الثوب وتبييضه ويسافر إلى الشرق والغرب ويذهب يمينا وشمالا وقادر على أن يتزوج هذه الأخت وهذه الأختفصل قال الرافضي وأما المنقول فالقرآن مملوء من استناد أفعال البشر إليهم كقوله تعالى وإبراهيم الذي وفى (سورة النجم). فويل للذين كفروا (سورة مريم). ولا تزر وازرة وزر أخرى (سورة الأنعام). ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون (سورة النحل). اليوم تجزى كل نفس بما كسبت (سورة غافر). اليوم تجزون ما كنتم تعملون (سورة الجاثية). لتجزى كل نفس بما تسعى (سورة طـــه). هل تجزون إلا ما كنتم تعملون (سورة النمل). من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها (سورة الأنعام). ليوفيهم أجورهم (سورة فاطر). لها ما كسبت وعليها ما

 

 

اكتسبت فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات (سورة النساء). كل امرىء بما كسب رهين (سورة الطور). من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها (سورة فصلت). ذلك بما قدمت يداك (سورة الحج). وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم (سورة الشورى). إلخ فيقال الجواب من وجوه أحدها أن يقال كل هذا حق وجمهور أهل السنة قائلون بذلك وهم قائلون إن العبد فاعل لفعله حقيقة لا مجازا وإنما نازع في ذلك طائفة من متكلمة أهل الاثبات كالأشعري ومن اتبعه الثاني أن يقال والقرآن مملوء بما يدل على أن أفعال العباد حادثة بمشيئة الله وقدرته وخلقه فيجب الإيمان بكل ما في القرآن ولا يجوز أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعضقال الله تعالى ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (سورة البقرة). وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء (سورة الأنعام). وقال تعالى ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (سورة الأنعام). وقال تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل غدا إلا أن يشاء الله (سورة الكهف). وأجمع علماء المسلمين على أن الرجل لو قال لأصلين الظهر غدا إن شاء الله أو لأقضين الدين الذي علي وصاحبه مطالبه أو لأردن هذه الوديعة ونحو ذلك ثم لم يفعله أنه لا يحنث في يمينه ولو كانت المشيئة بمعنى الأمر لحنث وقال عن إبراهيم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا (سورة البقرة). وقال تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا (سورة البقرة). وقال تعالى واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه (سورة الأنفال).

 

 

وقال تعالى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون (سورة يس). وقال تعالى وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا (سورة الأنبياء). وقال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا (سورة الأنبياء). وقال عن بني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأياتنا يوقنون (سورة السجدة). وقال عن آل فرعون وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون (سورة القصص). وقال عن الخليل صلى الله عليه وسلم رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء (سورة إبراهيم). وقال ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وقال تعالى وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون (سورة يس).ن والفلك من مصنوعات بني آدم وهذا مثل قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون (سورة الصافات).فإن طائفة المثبتة للقدر قالوا إن ما هاهنا مصدرية وأن المراد خلقكم وخلق أعمالكم وهذا ضعيف جدا والصواب أن ما هاهنا بمعنى الذي وأن المراد والله خلقكم والأصنام التي تعملونها كما في حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله خلق كل صانع وصنعته وأنه قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون (سورة الصافات). فذمهم وأنكر عليهم عبادة ما ينحتونه من الأصنام ثم ذكر أن الله خلق العابد والمعبود والمنحوت وهو سبحانه الذي يستحق أن يعبد ولو أريد والله خلقكم

 

 

وأعمالكم كلها لم يكن هذا مناسبا فإنه قد ذمهم على العبادة وهي من أعمالهم فلم يكن في ذكر كونه خالقا لأعمالهم ما يناسب الذم بل هو إلى العذر أقرب ولكن هذه الآية تدل على أنه خالق لأعمال العباد من وجه آخر وهو أنه إذا خلق المعمول الذي عملوه وهو الصنم المنحوت فقد خلق التأليف القائم به وذلك مسبب من عمل ابن آدم وخالق المسبب خالق السبب بطريق الأولى وصار هذا كقوله وخلقنا لهم من مثله ما يركبون (سورة يس). ومعلوم أن السفن إنما ينجر خشبها ويركبها بنو آدم فالفلك معمولة لهم كما هي الأصنام معمولة لهم وكذلك سائر ما يصنعونه من الثياب والأطعمة والأبنية فإذا كان الله قد أخبر أنه خلق الفلك المشحون وجعل ذلك من آياته ومما أنعم الله به على عباده علم أنه خالق أفعالهم وعلى قول القدرية لم يخلق إلا الخشب الذي يصلح أن يكون سفنا وغير سفن ومعلوم أن مجرد خلق المادة لا يوجب خلق الصورة التي حصلت بأفعال بني آدم إن لم يكن خالقا للصورة

 

 

ومثل هذا قوله تعالى الله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم (سورة النحل). النحل إلى قوله والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ومعلوم أن خلق البيوت المبنية والسرابيل المصنوعة هو كخلق السفن المنجورة وقد أخبر الله أن الفلك صنعة بني آدم مع إخباره أنه خلقها كما قال تعالى عن نوح عليه السلام ويصنع الفلك وأيضا ففي القرآن من ذكر تفصيل أفعال العباد التي بقلوبهم وجوارحهم وأنه هو تبارك وتعالى يحدث من ذلك ما يطول وصفه كقوله تعالى فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة (سورة الأعراف). وقوله تعالى فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه (سورة البقرة). وقوله ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون (سورة الحجرات). ومعلوم أنه لم يرد بذلك الهداية المشتركة بين المؤمن والكافر مثل إرسال الرسل والتمكين من الفعل وإزاحة العلل بل أراد ما يختص به المؤمن

 

 

كما دل عليه القرآن في مثل قوله تعالى واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم (سورة الأنعام). وقوله وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم (سورة الصافات). ومنه قولنا في الصلاة اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة فإن الهداية المشتركة حاصلة لا تحتاج أن تسأل وإنما تسأل الهداية التي خص بها المهتدين ومن تأول ذلك بمعنى زيادة الهدى والتثبيت وقال كان ذلك جزاء كان متناقضا فإنه يقال هذا المطلوب إن لم يكن حاصلا باختيار العبد لم يثب عليه فإنه إنما يثاب على ما فعله باختياره وإن كان باختيارة فقد ثبت أن الله يحدث الفعل الذي يختاره العبد وهذا مذهب أهل السنة وكذلك ما أخبر الله في القرآن من إضلال وهدى ونحو ذلك فإنهم قد يتأولون ذلك بأنه جزاء على ما تقدم وعامة تأويلاتهم مما يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه مع أن هذا الاجزاء مما يثاب الفاعل عليه وإن جوزوا أن الله يثيب العبد على ما ينعم به على العبد

 

 

من فعله الاختياري جاز أن ينعم عليه ابتداء باختياره الطاعة وإن لم يجز عندهم الثواب والعقاب على ما يجعل العبد فاعلا له بطل أن يريد هدى أو ضلالة يثاب عليها أو يعاقب عليها وامتنع أن يكون ما أخبر أنه فعله من جعل الأغلال في أعناقهم وجعله من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ونحو ذلك هو مما يعاقبون عليه وقد قال تعالى إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل (سورة النحل). فأخبر أنه من أضله اللهلا يهتدي وفي الجملة ففي القرآن من الآيات المبينة أن الله خالق أفعال العباد وأنه هو الذي يقلب قلوب العباد فيهدي من يشاء ويضل من يشاء وأنه هو المنعم بالهدى على من أنعم عليه ما يتعذر استقصاؤه في هذه المواضع وكذلك فيه ما يبين عموم خلقه لكل شيء كقوله الله خالق كل شيء (سورة الرعد). وغير ذلك وفيه ما يبين أنه فعال لما يريد وفيه ما يبين أنه لو شاء لهدى الناس جميعا وأمثال ذلك مما يطول وصفه وإذا قيل هذه متأولة عند القدرية لأنها من المتشابه عندهمكان الجواب من وجهين أحدهما أن هذا مقابل بتأويلات الجبرية لما احتجوا به وبقولهم هذا متشابه وهو لم يذكر إلا مجرد النصوص فذكرنا النصوص من الطرفين الثاني أن نبين فساد تأويلاتهم واحدا واحدا كما بسط في موضع آخر وفي تأويلاتهم من تحريف الكلم عن مواضعه ومخالفة اللغة وتناقض المعاني ومخالفة إجماع سلف الأمة وأئمتها ما يبين بعضه بطلان تحريفاتهم ويبين أنه ليس في القرآن محكم يناقض هذا حتى يقال إن هذا متشابه وذلك محكم بل القرآن يصدق بعضه بعضا ومن فتح هذا الباب من أهل البدع لم يكن له ثبات فإن خصمه يفعل كما يفعل فلا يبقى في يده حجة سليمة عن المعارضة بمثلها كيف وعامة تأويلاتهم مما يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه.

 

*

فصل قال الرافضي قال الخصم القادر يمتنع أن يرجح مقدوره من غير مرجح ومع الترجيح يجب الفعل فلا قدرة ولأنه يلزم أن يكون الإنسان شريكا لله ولقوله تعالى والله خلقكم وما تعملون (سورة الصافات). قال والجواب عن الأول المعارضة بالله تعالى فإنه تعالى قادر فإن افتقرت القدرة إلى المرجح وكان المرجح موجبا للأثر لزم أن يكون الله موجبا لا مختارا فيلزم الكفر. والجواب عن الثاني أي شركة هنا والله هو القادر على قهر العبد وإعدامه ومثل هذا أن السلطان إذا ولى شخصا بعض البلاد فنهب وظلم وقهر فإن السلطان متمكن من قتله والانتقام منه واستعادة ما أخذه وليس يكون شريكا للسلطان والجواب عن الثالث أنه إشارة إلى الأصنام التي كانوا ينحتونها ويعبدونها فأنكر عليهم وقال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون (سورة الصافات).

*فيقال لم يذكر من أدلة أهل الإثبات إلا شيئا يسيرا ولم يذكر تقرير أدلتهم على وجهها ومع هذا فالأدلة الثلاثة التي ذكرها لهم ليس عنها جواب صحيح.

أما الأول: فإن المستدل بذلك الدليل لا يقول إنه إذا وجب الفعل فلا قدرة فإن أهل الإثبات يقولون إن العبد له قدرة وهذا مذهب عامة أهل السنة حتى غلاة المثبتين للقدر كالأشعرية فإنهم متفقون على أن العبد له قدرة وهذ الدليل المذكور قد احتج به أبو عبدالله الرازي وغيره وهو يصرح بأنه يقول بالجبر ومع هذا فإنه يقول إن للعبد قدرة وإن كانوا متنازعين هل هي مؤثرة في مقدورها أو في بعض صفاته أو لا تأثير لها قال أبو الحسين البصري وغيره من المعتزلة إن الفعل لا يكفي فيه مجرد القدرة بل يتوقف على الداعي فيقولون إن القادر المختار لا

 

يرجح بمجرد القدرة بل بداع يقرن مع القدرة كما يقول ذلك أكثر المثبتين للقدر فإنهم يقولون إن الرب تعالى لا يرجح بمجرد القدرة بل بإرادة مع القدرة وكذلك يقول كثير منهم في حق العبد لا يرجح بمجرد القدرة بل بداع مع القدرة وقد قال هذا كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وقاله من أصحاب أحمد القاضي أبو خازم بن القاضي أبي يعلى وقد تقدم أن القول الوسط في ذلك أن لها تأثيرا من جنس تأثير الأسباب في مسبباتها ليس لها تأثير الخلق والإبداع ولا وجودها كعدمها وتوجيه هذا الدليل أن القادر يمتنع أن يرجح أحد مقدوريه إلا بمرجح وذلك أنه إذا كان الفعل والترك نسبتهما إلى القادر سواء كان ترجيح أحدهما على الآخر ترجيحا لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وهذا ممتنع في بدائه العقول وهذا مبسوط في موضع آخر وتبين فيه خطأ من زعم أن القادريرجح أحد المقدورين المتماثلين بلا مرجح وذلك المرجح لا يكون من العبد لأن القول فيه كالقول في فعل العبد فإن كان المرجح له قدرة العبد فالقادر لا يرجح إلا بمرجح فلا بد أن يكون المرجح من الله وعند وجود المرجح يجب وجود الفعل وإلا لم يكن مرجحا تاما فإنه إذا كان بعد وجود المرجح يجوز وجود الفعل وعدمه كما كان قبل المرجح كان ممكنا والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح فلا بد من مرجح تام يجب عنده وجود الفعل وإذا كان العبد لا يحصل فعله إلا بمرجح من الله تعالى وعند وجود ذلك المرجح يجب وجود الفعل كان فعله كسائر الحوادث التي تحدث بأسباب يخلقها الله تعالى يجب وجود الحادث عندها وهذا معنى كون الرب تبارك وتعالى خالقا لفعل العبد ومعنى ذلك أن الله تعالى يخلق في العبد القدرة التامة والإرادة الجازمة وعند وجودهما يجب وجود الفعل لأن هذا سبب تام للفعل فإذا وجد السبب التام وجب وجود المسبب

 

 

والله هو الخالق للمسبب أيضا كما أنه إذا خلق النار في الثوب فإنه لا بد من وجود الحريق عقيب ذلك والكل مخلوق لله تعالى وأما معارضة ذلك بفعل الله تعالى فالجواب عن ذلك من وجوه أحدها أن هذا برهان عقلي يقيني واليقينيات لا يمكن أن يكون لها معارض يبطلها وقدر أن المحتج بهذا من يقول بالموجب بالذات فهذا لا ينقطع بما ذكرته لا سيما وعندهم هذه المسألة من العقليات التي تعلم بدون السمع فلا بد فيها من جواب عقلي.

الثاني: أن يقال قدرة الرب لا يفعل بها إلا مع وجود مشيئته فإن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وليس كل ما كان قادرا عليه فعله قال تعالى بلى قادرين على أن نسوي بنانه (سورة القيامة). وقال تعالى قل هوالقادر علىأن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض (سورة الأنعام). وقد ثبت في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أنه لما نزلت هذه الآية قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال

 

النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هاتان أهون وقال تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا (سورة يونس). وقد قال تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة (سورة هود). وقال ولو شاء الله ما اقتتلوا (سورة البقرة). ومثل هذا متعدد في القرآن وإذا كان لو شاءه لفعله دل على أنه قادر عليه فإنه لا يمكن فعل غير المقدور وإذا كان كذلك علم أن الفعل لو وجد بمجرد كونه قادرا لوقع كل مقدور بل لا بد مع القدرة من الإرادة وحينئذ قول القائل فقدرة الرب تفتقر إلى مرجح لكن المرجح هو إرادة الله تعالى وإرادة الله لا يجوز أن تكون من غيره بخلاف إرادة العبد وإذا كان المرجح إرادة الله كان فاعلا باختياره لا موجبا بذاته بدون اختياره وحينئذ فلا يلزم الكفر.

الثالث: أن يقال ما تعني بقولك يلزم أن يكون الله موجبا بذاته أتعني به ان يكون موجبا للأثر بلا قدرة ولا إرادة أو تعنيبه أن يكون الأثر واجبا عند وجود المرجح الذي هو الإرادة مثلا مع القدرة فإذا عنيت الأول لم يسلم التلازم فإن الفرض أنه قادر وأنه مرجح بمرجح فهنا شيئان قدرة وأمر آخر وقد فسرنا ذلك بالإرادة فكيف يقال إنه مرجح بلا قدرة ولا إرادة وإن أردت أنه يجب وجود الأثر إذا حصلت الإرادة مع القدرة فهذا حق وهذا مذهب المسلمين وإن سمى مسم هذا موجبا بالذات كان نزاعا لفظيا والمسلمون يقولون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله وجوده وجب وجوده بمشيئته وقدرته وما لم يشأ وجوده امتنع وجوده لعدم مشيئته وقدرته فالأول واجب بالمشيئة والثاني ممتنع لعدم المشيئة وأما ما يقوله القدرية من أن الله يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء فهذا الذي أنكره أهل السنة والجماعة عليهم.

 

والرابع أن يقال له إنه هو سبحانه قادر فإذا أراد حدوث مقدور فإما أن يجب وجوده وإما أن لا يجب فإن وجب حصل المطلوب وتبين وجوب الأثر عند المرجح سواء سميت هذا موجبا بالذات أو لم تسمه وإن لم يجب وجوده كان وجوده ممكنا قابلا للوجود والعدم فوجوده دون عدمه ممكن فلا بد له من مرجح وهكذا هلم جرا كل ما قدر قابلا للوجود ولم يجب وجوده كان وجوده ممكنا محتملا للوجود والعدم فلا يوجد حتى يحصل المرجح التام الموجب بالذات لوجوده فتبين أن كل ما وجد فقد وجب وجوده بمشيئة الله وقدرته وهوالمطلوب وهذا قول طائفة من المعتزلة كأبي الحسين البصري وغيره وطائفة من القدرية في هذا الباب يقولون عند وجود المرجح صار الفعل أولى به ولا تنتهي الأولوية إلى حد الوجوب كما يقول ذلك محمود الخوارزمي الزمخشري ونحوهوهو باطل فإنه إذا لم ينته إلى حد الوجوب كان ممكنا فيحتاج إلى مرجح فما ثم إلا واجب أو ممكن والممكن يقبل الوجود والعدم وطائفة ثالثة من القدرية والجهمية ومن اتبعهم من أصحاب أبي الحسين وغيرهم من المتكلمين وطوائف من أصحاب الأئمة الأربعة والشيعة وغيرهم يقولون القادر يرجح بلا مرجح فيجلعون الإرادة حادثة بلا مرجح لحدوثها ويجعلون إرادة الله حادثة لا في محل ويجعلون الفعل معها ممكنا لا واجبا وهذا من أصولهم التي اضطربوا فيها في مسألة فعل الله وحدوث العالم وفي مسألة فعل العبد والقدر الوجه الخامس أن يقال لفظ الموجب بالذات لفظ فيه إجمال فإن عني به ما يعنيه الفلاسفة من أنه علة تامة مستلزمة للعالم فهذا باطل لأن العلة التامة تستلزم معلولها ولو كان العالم معلولا لازما لعلة أزلية لم يكن فيه حوادث فإن الحوادث لا تحدث عن علة تامة أزلية وهذا خلاف المحسوس

 

وسواء إن تلك العلة التامة ذات مجردة عن الصفات كما يقوله نفاة الصفات من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله أو قيل إنه ذات موصوفة بالصفات لكنها مستلزمة لمعلولها فإنه باطل أيضا وإن فسر الموجب بالذات بأنه يوجب بمشيئته وقدرته كل واحد واحد من المخلوقات في الوقت الذي أحدثه فيه فهذا دين المسلمين وغيرهم من أهل الملل ومذهب أهل السنة فإذا قالوا إنه بمشيئته وقدرته يوجب أفعال العباد وغيرها من الحوادث فهو موافق لهذا المعنى لا للمعنى الذي قالته الدهرية الوجه السادس أن يقال ما ذكرته أنت من الحجة العقلية وهو استناد أفعالنا الاختيارية إلينا ووقوعها بحسب اختيارنا معارض بما ليس من أفعالنا مثل الألوان فإن الإنسان يحصل اللون الذي يريد حصوله في الثوب بحسب اختياره وهو مستند إلى طبيعته وصنعته ومع هذا فليس اللون مفعولا لهوأيضا فما ينبت من الزرع والشجر قد يحصل بحسب اختياره وهو مستند إلى ازراعه وليس الإنبات من فعله فليس كل ما استند إلى العبد ووقع بحسب اختياره كان مفعولا له وهذه المعارضة أصح من تلك فإنها معارضة عقلية بنفس ألفاظ الدليل وتلك ليست معارضة عقلية ولا هي بنفس ألفاظ الدليل الوجه السابع أن يقال هذا الإمامي وأمثاله متناقضون فإنه قد ذكر في غير هذا الموضع أنه مع الداعي والقدرة يجب الفعل وهنا قال إنه مع الداعي والقدرة لا يجب الفعل فعلم أن القوم يتكلمون بحسب ما يرونه ناصرا لقولهم لا يعتمدون على حق يعلمونه ولا يعرفون حقا يقصدون نصره.

 

*

فصل وأما قوله أي شركة هنا ... فيقال إذا كانت الحوادث حادثة بغير فعل الله ولا قدرته فهذه مشاركة لله صريحة ولهذا شبه هؤلاء بالمجوس الذين يجعلون فاعل الشر غير فاعل الخير فيجعلون لله شريكا آخر وما ذكره من التمثيل بالسلطان يقرر المشاركة فإن نواب السلطان شركاء له في ملكه وهو محتاج إليهم ليس هو خالقهم ولا ربهم بل ولا خالق قدرتهم بل هم معاونون له على تدبير الملك بأمور خارجة عن قدرته ولولا ذلك لكان عاجزا عن الملك فمن جعل أفعال العباد مع الله بمنزلة أفعال نواب السلطان معه فهذا صريح الشرك الذي لم يكن يرتضيه عباد الأصنام لأنه شرك في الربوبية لا في الألوهية فإن عباد الأصنام كانوا يعترفون بأنها مملوكة لله فيقولون لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه ملك وهؤلاء يجعلون ما يملكه العبد من أفعاله ملكا للهولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده ومن وحد الله وكذب بالقدر نقص تكذيبه توحيده وقول القدرية يتضمن الإشراك والتعطيل فإنه يتضمن إخراج بعض الحوادث عن أن يكون لها فاعل ويتضمن إثبات فاعل مستقل غير الله وهاتان شعبتان من شعب الكفر فإن أصل كل كفر التعطيل أو الشرك وبيان ذلك أنهم يقولون إن الإنسان صار مريدا فاعلا بإرادته بعد أن لم يكن كذلك بدون محدث أحدث ذلك فإنه لم يكن مريدا للفعل ولا فاعلا له ثم صار مريدا للفعل فاعلا له وهذا الأمر حادث بعد أن لم يكن وهو عندهم حادث بلا إحداث أحد وهذا أصل التعطيل فمن جوز أن يحدث حادث بلا إحداث أحد وأن يترجح وجود الممكن على عدمه بلا مرجح وأن يتخصص أحد المتماثلين بلا مخصص كان هذا تعطيلا لجنس الحوادث والممكنات

 

أن يكون لها فاعل والله فاعلها بلا شك فهو تعطيل له أن يكون خالقا لمخلوقاته وأما الشرك فلأنهم يقولون العبد مستقل بإحداث هذا الفعل من غير أن يكون الله جعله محدثا له كأعوان الملوك الذين يفعلون أفعالا بدون أن يكون الملوك جعلتهم فاعلين لها وهذا إثبات شركاء مع الله يخلقون كبعض مخلوقاته وهذان المحذوران التعطيل والإشراك في الربوبية لازمان لكل من أثبت فاعلا مستقلا غير الله كالفلاسفة الذين يقولون إن الفلك يتحرك حركة اختيارية بسببها تحدث الحوادث من غير أن يكون قد حدث من جهة الله ما يوجب حركته ولا كان فوقه متجدد يقتضي حركته وذلك لأن حركة الفلك حينئذ باختياره تكون كحركة الإنسان باختياره فيقال مصير الفلك متحركا باختياره وقدرته أمر ممكن لا واجب بنفسه فلا بد له من مرجح تام وما من وقت إلا وهو يتحرك فيهباختياره وقدرته فلا بد لكونه متحركا من أمر أوجب ذلك وإلا لزم حدوث الحوادث بلا محدث فإن قيل الموجب بذاته هو المرجح أو الفاعل سواء كان بواسطة أو بلا واسطة وهي ما صدر عنه من العقل أو العقول قيل هذا باطل لأن الموجب بذاته على حال واحدة عندهم من الأزل إلى الأبد فيمتنع أن يصدر عنه حادث بعد أن لم يكن ذلك الحادث صادرا عنه وكل جزء من أجزاء الحركة حادث بعد أن لم يكن فيمتنع أن يكون ذلك الحادث ثابتا في الأزل فامتنع أن يكون فاعله علة تامة في الأزل فعلم امتناع صدور هذه الحوادث عن علة تامة في الأزل وأيضا فمرجح الحوادث إن كان مرجحا تاما في الأزل لزمه المفعول ولم يحدث عنه بعد ذلك شيء وإن لم يكن مرجحا تاما في الأزل فقد صار مرجحا بعد أن لم يكن ويمتنع أن يكون غيره جعله مرجحا فيكون المرجح له ما يقوم به من إرادته ونحو ذلك وتلك الأمور لم تكن

 

 

مرجحا تاما في الأزل وإلا لبطلت الحوادث فامتنع أن يكون صدر عن المرجح في الأزل شيء مقارن له فامتنع قدم الفلك وأيضا صار مرجحا لما يرجحه بعد أن لم يكن كذلك فوجب إضافة الحوادث إليه لوجوب إضافة الحوادث إلى المرجح التام فثبت أن فوق الأفلاك مؤثرا يتجدد تأثيره وهو المطلوب وهؤلاء إذا لم يثبتوا ذلك كانوا معطلين لحركة الفلك والحوادث أن يكون لها فاعل وهذا التعطيل أعظم من تعطيل أفعال العباد أن يكون لها محدث وأيضا فقد جعلوا الفلك يفعل بطريق الاستقلال كما جعلت القدرية الحيوان يفعل بطريق الاستقلال من غير أن يخلق الله له عند كل حركة قدرة مقارنة للحركة لأن الفلك عندهم تحدث عنه الثانية بعد الأولى فشرط الثانية انقضاء الأولى كالذي يقطع مسافة شيئا بعد شيء ولكن ذاك الذي يقطع المسافة إنما قطع الثانية بقدرة وإرادة قامت به وحركات قطع بها الثانية فالفاعل تجددد له من الإرادة والقوة ما قطع به المسافة الثانية فكان يجب أن يتجدد للفلك في كل وقت من

 

 

الإرادة والقدرة ما يتحرك به لكن المجدد له ذلك لا بد أن يكون غيره لأنه ممكن لا واجب فالحوادث فيه لا يجوز أن تكون منه لأنه إن أحدث الثاني بعد الأول لزم أن يكون المؤثر التام موجودا عند الثاني وإن كان حصل له كمال التأثير في الثاني بعد انقضاء الأول فلا بد لذلك الكمال من فاعل وهؤلاء يجوزون أن يكون فاعله ما تقدم فوجب أن يكون له في كل حال من الأحوال فاعل يحدث ما به يتحرك وهذا بخلاف الواجب بنفسه فإن ما يقوم به من الأفعال لا يجوز أن يصدر عن غيره وشرك هؤلاء المتفلسفة وتعطيلهم أعظم بكثير من شرك القدرية وتعطيلهم فإن هؤلاء يجعلون الفلك هوالمحدث للحوادث التي في الأرض كلها فلم يجعلوا لله شيئا أحدثه بخلاف القدرية فإنهم أخرجوا عن إحداثه أفعال الحيوان وما تولد عنها فقد لزمهم التعطيل من إثبات حوادث بلا محدث وتعطيل الرب عن إحداث شيء من الحوادث وإثبات شريك فعل جميع الحوادثومن العجب أنهم ينكرون علىالقدرية وغيرهم قولهم إن الرب ما زال عاطلا عن الفعل حتى أحدث العالم وهم يقولون ما زال ولا يزال معطلا عن الإحداث بل عن الفعل فإن ما لزم الذات فهو من باب الصفات بمنزلة لون الإنسان وطوله فإنه ذاته كالعقل والفلك ليس هو في الحقيقة فعلا له إذ الفعل لا يفعل إلا شيئا بعد شيء فأما ما لزم يمتنع أن يكون فعلا له بخلاف حركاته فإنها فعل له وإن قدر أنه لم يزل متحركا كما يقال في نفس الإنسان إنها لم تزل تتحول من حال إلى حال وإن القلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا فكون الفاعل الذي هو في نفسه يقوم به فعله يحدث شيئا بعد شيء معقول بخلاف ما لزمه لازم يقارنه في الأزل فهذا لا يعقل أن يكون مفعولا له فتبين أنهم في الحقيقة لا يثبتون للرب فعلا أصلا فهم معطلة حقا

 

 

وأرسطو وأتباعه إنما أثبتوا العلة الأولى من جهة كونها علة غائية كحركة الفلك فإن حركة الفلك عندهم بالاختيار كحركة الإنسان والحركة الاختيارية لا بد لها من مراد فيكون هو مطلوبها ومعنى ذلك عندهم أن الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى كحركة المؤتم بإمامه والمقتدي بقدوته وهذا معنى تشبيهه بحركة المعشوق للعاشق ليس المعنى أن ذات الله محركة للفلك إنما مرادهم أن مراد الفلك أن يكون مثله بحسب الإمكان وهذا باطل من وجوه لبسطها موضع آخر فقالوا إن العلة الأولى وهي التي يتحرك الفلك لأجلها علة له تحركه كما تحرك العاشق للمعشوق بمنزلة الرجل الذي اشتهى طعاما فمد يده أحيه او رآى من يحبه فسعى إليه فذاك المحبوب هوالمحرك لكون المتحرك إليه لا لكونه أبدع الحركة ولا فعلهاوحينئذ فلا يكون قد أثبتوا لحركة الفلك محدثا أحدثها غير الفلك كما لم تثبت القدرية لأفعال الحيوان محدثا أحدثها غير الحيوان ولهذا كان الفلك عندهم حيوانا كبيرا بل يقولون إن الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى لأن العلة الأولى معبودة له محبوبة له ولهذا قالوا إن الفلسفة هي التشبه بالإله على حسب الطاقة ففي الحقيقة ليس عندهم الرب إلا إلها للعالم ولا ربا للعالمين بل غاية ما يثبتونه أنه يكون شرطا في وجود العالم وأن كمال المخلوق في أن يكون متشبها به فهذا هو الألوهية عندهم وذلك هوالربوبية ولهذا كان قولهم شرا من قول اليهود والنصارى وهم أبعد عن المعقول والمنقول منهم كما قد بسط في غير هذا الموضع

 

 

فتبين أن هؤلاء المتفلسفة قدرية في جميع حوادث العالم وأنهم من أضل بني آدم ولهذا يضيفون الحوادث إلى الطبائع التي في الأجسام فإنها بمنزلة القوى التي في الحيوان فيجعلون كل محدث فاعلا مستقلا كالحيوان عند القدرية ولا يثبتون محدثا للحوادث وحقيقة قول القوم الجحود لكون الله رب العالمين فلا يثبتون أن يكون الله رب العالمين بل غايتهم أن يجعلوه شرطا في وجود العالم وفي التحقيق هم معطلة لكون الله رب العالمين كقول من قال أن الفلك واجب الوجود بنفسه منهم لكن هؤلاء أثبتوا علة إما غائية عند قدمائهم وإما فاعلية عند متأخريهم وعند التحقيق لا حقيقة لما أثبتوه ولهذا أنكره الطبائعيون منهم وإذا قدر أن الفلك يتحرك باختياره من غير أن يكون الله خالقا لحركته فلا دليل على أن المحرك له علة معشوقة يتشبه بها بل يجوزأن يكون المتحرك هو المحرك كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وتبين الكلام على بطلان ما ذكره أرسطو في العلم الإلهي من وجوه متعددة وأن هؤلاء من أجهل الناس بالله عز وجل من دخل في أهل الملل منهم كالمنتسبين إلى الإسلام كالفارابي وابن سينا ونحوهما من ملاحدة المسلمين وموسى بن ميمون ونحوه من ملاحدة اليهود ومتى ويحيى بن عدي ونحوهما من ملاحدة النصارى فهم مع كونهم من ملاحدة أهل الملل فهم أصح عقلا ونظرا في العلم الإلهي من المشائين كأرسطو وأتباعه وإن كان لأولئك من تفصيل الأمور الطبيعية والرياضية أمور كثيرة سبقوا هؤلاء إليها فالمقصود هنا أن الأمور الإلهية أولئك أجهل بها وأضل فيها فإن هؤلاء حصل لهم نوع ما من نور أهل الملل وعقولهم وهداهم فصاروا به أقل ظلمة من أولئك ولهذا عدل ابن سينا عن طريقة سلفه في إثبات العلة الأولى وسلك الطريقة المعروفة له في تقسيم الوجود إلى واجب وممكن وأن الممكن مستلزم للواجب

 

 

وهذه الطريقة هي المعروفة له ولمن اتبعه كالسهروردي المقتول ونحوه من الفلاسفة وأبي حامد والرازي والآمدي وغيرهم من متأخري أهل الكلام الذين خلطوا الفلسفة بالكلام وهؤلاء المتكلمون المتأخرون الذين خلطوا الفلسفة بالكلام كثر اضطرابهم وشكوكهم وحيرتهم بحسب ما ازدادوا به من ظلمة هؤلاء المتفلسفة الذين خلطوا الفلسفة بالكلام فأولئك قلت ظلمتهم بما دخلوا فيه من كلام أهل الملل وهؤلاء كثرت ظلمتهم بما دخلوا فيه من كلام أولئك المتفلسفة هذا مع أن في المتكلمين من أهل الملل من الاضطراب والشك في أشياء والخروج عن الحق في مواضع واتباع الأهواء في مواضع والتقصير في الحق في مواضع ما ذمهم لأجله علماء الملة وأئمة الدين فإنهم قصروا في معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله في كتابه فعدلواعنها إلى طرق أخرى مبتدعة فيها من الباطل ما لأجله خرجوا عن بعض الحق المشترك بينهم وبين غيرهم ودخلوا في بعض الباطل المبتدع وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الإلهية وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية وهو الإقرار بأن الله خالق كل شيء وربه وهذا التوحيد كان يقر به المشركون الذين قال الله عنهم ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله (سورة لقمان).وقال تعالى قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله الآيات ((سورة المؤمنون).). وقال عنهم ومايؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (سورة يوسف). قال طائفة من السلف يقول لهم من خلق السماوات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره وإنما التوحيد الذي أمر الله به العباد هو توحيد الألوهية المتضمن

 

 

لتوحيد الربوبية بأن يعبد الله وحده لا يشركون به شيئا فيكون الدين كله لله ولا يخاف إلا الله ولا يدعى إلا الله ويكون الله أحب إلى العبد من كل شيء فيحبون لله ويبغضون لله ويعبدون الله ويتوكلون عليه والعبادة تجمع غاية الحب وغاية الذل فيحبون الله بأكمل محبة ويذلون له أكمل ذل ولا يعدلون به ولا يجعلون له أندادا ولا يتخذون من دونه أولياء ولا شفعاء كما قد بين القرآن هذا التوحيد في غير موضع وهو قطب رحى القرآن الذي يدور عليه القرآن وهو يتضمن التوحيد في العلم والقول والتوحيد في الإرادة والعمل فالأول كما في قوله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص ولهذا كانت هذه السورة تعدل ثلث القرآن لأنها صفة الرحمن والقرآن ثلثه توحيد وثلثه قصص وثلثه أمر ونهي لأنه كلام الله والكلام إما إنشاء وإما إخبار والإخبار إما عن الخالق وإما عنالمخلوق فصار ثلاثة أجزاء جزء أمر ونهي وإباحة وهو الإنشاء وجزء إخبار عن المخلوقين وجزء إخبار عن الخالق فقل هو الله أحد صفة الرحمن محضا وقد بسطنا الكلام على تحقيق قول النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدل ثلث القرآن في مجلد وفي تفسيرها في مجلد آخر وأما التوحيد في العبادة والإرادة والعمل فكما في سورة قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين

 

 

الكافرون فالتوحيد الأول يتضمن إثبات نعوت الكمال لله بإثبات أسمائه الحسنى وما تتضمنه من صفاته والثاني يتضمن إخلاص الدين له كما قال وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين سورة البينة فالأول براءة من التعطيل والثاني براءة من الشرك وأصل الشرك إما التعطيل مثل تعطيل فرعون موسى والذي حاج إبراهيم في ربه خصم إبراهيم والدجال مسيح الضلال خصم مسيح الهدى عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم وإما الإشراك وهو كثير في الامم أكثر من التعطيل وأهله خصوم جمهور الأنبياء وفي خصوم إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم معطلة ومشركة لكن التعطيل المحض للذات قليل وأما الكثير فهو تعطيل صفات الكمال وهو مستلزم لتعطيل الذات فإنهم يصفون واجب الوجود بما يوجب أن يكون ممتنع الوجودثم إنه كل من كان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان أقرب كان أقرب إلى كمال التوحيد والإيمان والعقل والعرفان وكل من كان عنهم أبعد كان عن ذلك أبعد فمتأخرو متكلمة الإثبات الذين خلطوا الكلام بالفلسفة كالرازي والآمدي ونحوهما هم دون أبي المعالي الجويني وأمثاله في تقرير التوحيد وإثبات صفات الكمال وأبو المعالي وأمثاله دون القاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله في ذلك وهؤلاء دون أبي الحسن والأشعري في ذلك والأشعري في ذلك دون أبي محمد بن كلاب وابن كلاب دون السلف والأئمة في ذلك ومتكلمة أهل الإثبات الذين يقرون بالقدر هم خير في التوحيد وإثبات صفات الكمال من القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهم لأن أهل الإثبات يثبتون لله كمال القدرة وكمال المشيئة وكمال الخلق وأنه منفرد

 

 

بذلك فيقولون إنه وحده خالق كل شيء من الأعيان والأعراض ولهذا جعلوا أخص صفة الرب القدرة على الاختراع والتحقيق أن القدرة على الاختراع من جملة خصائصه ليست هي وحدها أخص صفاته وأولئك يخرجون أفعال الحيوان عن أن تكون مخلوقة له وحقيقة قولهم تعطيل هذه الحوادث عن خالق لها وإثبات شركاء لله يفعلونها وكثير من متأخرة القدرية يقولون إن العباد خالقون لها ولم يكن سلفهم يجترئون على ذلك وأيضا فمتكلمة أهل الإثبات يثبتون لله صفات الكمال كالحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وهؤلاء يثبتون ذلك لكن قصروا في بعض صفات الكمال وقصروا في التوحيد فظنوا أن كمال التوحيد هو توحيد الربوبية ولم يصعدوا إلى توحيد الإلهية الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتبوذلك أن كثيرا من كلامهم أخذوه من كلام المعتزلة والمعتزلة مقصرون في هذا الباب فإنهم لم يوفوا توحيد الربوبية حقه فكيف بتوحيد الإلهية ومع هذا فأئمة المعتزلة وشيوخهم وأئمة الأشعرية والكرامية ونحوهم خير في تقرير توحيد الربوبية من متفلسفة الأشعرية كالرازي والآمدي وأمثال هؤلاء فإن هؤلاء خلطوا ذلك بتوحيد الفلاسفة كابن سينا وأمثاله وهو أبعد الكلام عن التحقيق في التوحيد وإن كان خيرا من كلام قدمائهم أرسطو وذويه وذلك أن غايتهم أنهم أثبتوا واجب الوجود وهذا حق لم ينازع فيه لا معطل ولا مشرك بل الناس متفقون على إثبات وجود واجب اللهم إلا ما يحكى عن بعض الناس قال إن هذا العالم حدث بنفسه وكثير من الناس يقولون إن هذا لم تقله طائفة معروفة وإنما يقدر تقديرا كما تقدر الشبه السوفسطائية ليبحث عنها وهذا مما يخطر في قلوب

 

 

بعض الناس كما يخطر أمثاله من السفطسة لا أنه قول معروف لطائفة معروفة يذبون عنه فإن ظهور فساده أبين من أن يحتاج إلى دليل إذ حدوث الحوادث بلا محدث من أظهر الأمور امتناعا والعلم بذلك من أبين العلوم الضرورية ثم إنهم لما قرروا واجبا بذاته أرادوا أن يجعلوه واحدا وحده لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان وهو وجود مطلق بشرط الإطلاق ليس له حقيقة في الخارج لأن الوجود المطلق بشرط الإطلاق لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان أو مقيدا بالسلوب والإضافات كما يقوله ابن سينا وأتباعه وهذا أدخل في التعطيل من الأول وزعمو أن هذا هو محض التوحيد مضاهاة للمعتزلة الذين شاركوهم في نفي الصفات وسموا ذلك توحيدا فصاروا يتباهون في التعطيل الذي سموه توحيدا أيهم فيه أحذق حتى فروعهم تباهوا بذلككتباهيهم كابن سبعين وأمثاله من أتباع الفلاسفة وابن التومرت وأمثاله من أتباع الجهمية فهذا يقول بالوجود المطلق وهذا يقول بالوجود المطلق وأتباع كل منهما يباهون أتباع الآخرين في الحذق في هذا التعطيل كما قد اجتمع بي طوائف من هؤلاء وخاطبتهم في ذلك وصنفت لهم مصنفات في كشف أسرارهم ومعرفة توحيدهم وبيان فساده فإنهم يظنون أن الناس لا يفهمون كلامهم فقالوا لي إن لم تبين و تكشف لنا حقيقة هذا الكلام الذي قالوه ثم تبين فساده وإلا لم

 

 

نقبل ما يقال من رده فكشفت لهم حقائق مقاصدهم فاعترفوا بأن ذلك هو المراد ووافقهم على ذلك رؤوسهم ثم بينت ما في ذلك من الفساد والإلحاد حتى رجعوا وصاروا يصنفون في كشف باطل سلفهم الملحدين الذين كانوا عندهم أئمة التحقيق والتوحيد والعرفان واليقين وعمدة هؤلاء الفلاسفة في توحيدهم الذين هو تعطيل محض في الحقيقة حجتان إحداهما أنه لو كان واجبان لاشتركا في الوجوب وامتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم أن يكون واجب الوجود مركبا والمركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه والثانية أنهما إذا اتفقا في الوجوب وامتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه لزم أن يكون المشترك معلولا للمختص كما إذا اشترك اثنان في الإنسانية وامتاز كل منهما عن الآخر بشخصه فالمشترك معلول للمختص وهذا باطل هناوذلك لأن كلا من المشترك والمختص إن كان أحدهما عارضا للآخر لزم أن يكون الوجوب عارضا للواجب أو معروضا له وعلى التقديرين فلا يكون الوجوب صفة لازمة للواجب وهذا محال لأن الواجب لا يمكن أن يكون غير واجب وإن كان أحدهما لازما للآخر لم يجز أن يكون المشترك علة للمختص لأنه حيث وجدت العلة وجد المعلول فيلزم أنه حيث وجد المشترك وجد المختص والمشترك في هذا وهذا فيلزم أن يكون ما يختص بهذا في هذا وما يختص بهذا في هذا وهذا محال يرفع الاختصاص وهذا ملخص ما ذكره ابن سينا في إشاراته هو وشارحو الإشارات كالرازي والطوسي وغيرهما وهاتان الحجتان ملخص ما ذكره الفارابي والسهروردي وغيرهما من

 

 

الفلاسفة وقد ذكرهما بمعناهما أبو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة وقد أجاب عنهما الرازي والآمدي بمنع كون الوجوب صفة ثبوتية ونحو ذلك من الأجوبة التي نرضاها لكن الجواب من وجهين أحدهما المعارضة وذلك أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وكل واحد من الوجودين يمتاز عن الآخر بخاصته فيلزم أن يكون الواجب مركبا مما به الاشتراك ومما به الامتياز وأيضا فيلزم أن يكون الوجود الواجب معلولا والمعارضة أيضا بالحقيقة فإن الحقيقة تنقسم إلى واجب وممكن والواجب يمتاز عن الممكن بما يخصه فيلزم أن تكون الحقيقة الواجبة مركبة من المشترك والمختص ويلزم أن تكون الحقيقة الواجبة معلولة والمعارضة بلفظ الماهية فإنها تنقسم إلى واجب وممكن إلى آخره والثاني حل الشبهة وذلك أن الشيئين الموجودين في الخارج سواء كانا واجبين أو ممكنين وسواء قدر التقسيم في موجودين أو جوهرين أو جسمين أو حيوانين أو إنسانين أو غير ذلك لم يشركأحدهما الآخر في الخارج في شيء من خصائصه لا في وجوبه ولا في وجوده ولا في ماهيته ولا غير ذلك وإنما شابهه في ذلك والمطلق الذي اشتركا فيه لا يكون كليا مشتركا فيه إلا في الذهن وهو في الخارج ليس بكلي عام مشترك فيه بل إذا قيل الواجبان إذا اشتركا في الوجوب فلا بد أن يمتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه فهو مثل أن يقال إذا اشتركا في الحقيقة فلا بد أن يمتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه فالحقيقة توجد عامة وخاصة كما أن الوجوب يوجد عاما وخاصا فالعام لا يكون عاما مشتركا فيه إلا في الذهن ولا يكون في الخارج إلا خاصا لا اشتراك فيه فما فيه الاشتراك لا امتياز فيه وما فيه الامتياز لا اشتراك فيه فلم يبق في الخارج شيء واحد فيه مشترك ومميز لكن فيه وصف يشابه الآخر فيه ووصف لا يشابهه فيه وغلط هؤلاء في هذه الإلهيات من جنس غلطهم في المنطق في

 

 

الكليات الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام حيث توهموا أنه يكون في الخارج كلي مشترك فيه وقد قدمنا التنبيه على هذا وبينا أن الكلي المشترك فيه لا يوجد في الخارج إلا مختصا لا اشتراك فيه والاشتراك والعموم والكلية إنما تعرض له إذا كان ذهنيا لا خارجيا وهم قسموا الكلي ثلاثة أقسام طبيعي ومنطقي وعقلي فالطبيعي هو المطلق لا بشرط كالإنسان من حيث هو هو مع قطع النظر عن جميع قيوده والمنطقي كونه عاما وخاصا وكليا وجزئيا فنفس وصفه بذلك منطقي لأن المنطق يبحث في القضايا من جهة كونها كلية وجزئية والعقلي هو مجموع الأمرين وهو الإنسان الموصوف بكونه عاما ومطلقا وهذا لا يوجد إلا في الذهن عندهم إلا ما يحكى عن شيعة أفلاطون من إثبات المثل الأفلاطونية ولا ريب في بطلان هذا فإن الخارج لا يوجد فيه عام وأما المنطقي فهو كذلك في الذهن وأما الطبيعي فقد يقولون إنه ثابت في الخارج فإذا قلنا هذا الإنسان ففيه الإنسان من حيث هو هو لكن يقال هو ثابت في الخارج لكن بقيد التعيين والتخصيص لا بقيد الإطلاق ولا مطلقا لا

 

 

بشرط فليس في الخارج مطلق لا بشرط ولا مطلق بشرط الإطلاق بل إنما فيه المعين المخصص فالذي يقدره الذهن مطلقا لا بشرط التقييد يوجد في الخارج بشرط التقييد وهؤلاء اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا من غلط المنطقيين ما هو سبب الضلال في الأمور الإلهية والطبيعية كاعتقاد الأمور العقلية التي لا تكون إلا في العقل أمورا موجودة في الخارج وغير ذلك مما ليس هذا موضع بسطه وهؤلاء المنطقيون الإلهيون منهم وغيرهم يقولون أيضا إن الكليات لا تكون إلا في الأذهان لا في الأعيان فيوجد من كلامهم في مواضع ما يظهر به خطأ كلامهم في مواضع فإن الله فطر عباده على الصحة والسلامة وفساد الفطرة عارض فقل من يوجد له كلام فاسد إلا وفي كلامه ما يبين فساد كلامه الأول ويظهر به تناقضه والمقصود هنا التنبيه على توحيد هؤلاء الفلاسفة وهؤلاء أصابهم في لفظ الواجب ما أصاب المعتزلة في لفظ القديم فقالوا الواجب لا يكون إلا واحدا فلا يكون له صفة ثبوتية كما قال أولئك لا يكون القديم إلا واحدا فلا يكون له صفة ثبوتية وبهذا وغيره ظهر الزلل في كلام متأخري المتكلمين الذين خلطوا الكلام

 

 

بالفلسفة كما ظهر أيضا الغلط في كلام من خلط التصوف بالفلسفة كصاحب مشكاة الأنوار والكتب المضنون بها على غير أهلها وأمثال ذلك مما قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع حتى أن هؤلاء المتأخرين لم يهتدوا إلى تقرير متقدميهم لدليل التوحيد وهو دليل التمانع واستشكلوه وأولئك ظنوا أن هذا الدليل هو الدليل المذكور في القرآن في قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وليس الأمر كذلك بل أولئك قصروا في معرفة ما في القرآن وهؤلاء قصروا في معرفة كلام أولئك المقصرين فلما قصروا في معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عدلوا إلى ما أورثهم الشك والحيرة والضلال وهذا مبسوط في غير هذا الموضع لكن ننبه عليه هنا وذلك أن دليل التمانع المشهور عند المتكلمين أنه لو كان للعالم صانعان لكان أحدهما إذا أراد أمرا وأراد الآخر خلافه مثل أنيريد أحدهما إطلاع الشمس من مشرقها ويريد الآخر إطلاعها من مغربها أو من جهة أخرى امتنع أن يحصل مرادهما لأن ذلك جمع بين الضدين فيلزم إما أن لا يحصل مراد واحد منهما فلا يكون واحد منهما ربا وإما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر فيكون الذي حصل مراده هو الرب دون الآخر وقد يقرر ذلك بأن يقال إذا أراد مالا يخلو المحل عنهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم ويريد الآخر تسكينه امتنع حصول مرادهما وامتنع عدم مرادهما جميعا لأن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون فتعين أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر فيكون هو الرب وعلى هذا سؤال مشهور وهو أنه يجوز أن تتفق الإرادتان فلا يفضي إلى الاختلاف وقد أجاب كثير من المتأخرين عن ذلك بوجوه عارضهم فيها غيرهم كما قد بسط في موضعه ولم يهتد هؤلاء إلى تقرير القدماء كالأشعري والقاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري والقاضي أبي يعلى وغيرهم

 

 

فإن هؤلاء علموا أن وجوب اتفاقهما في الإرادة يستلزم عجز كل منهما كما أن تمانعهما يستلزم عجز كل منهما فمنهم من أعرض عن ذكر هذا التقرير لأن مقصوده أن يبين أن فرض اثنين يقتضي عجز كل منهما فإذا قيل إن أحدهما لا يمكنه مخالفة الآخر كان ذلك أظهر في عجزه ومنهم من بين ذلك كما بينوا أيضا امتناع استقلال كل منهما وذلك أنه يقال إذا فرض ربان فإما أن يكون كل منهما قادرا بنفسه أو لا يكون قادرا إلا بالآخر فإن لم يكن قادرا إلا بالآخر كان هذا ممتنعا لذاته مقتضيا للدور في العلل والفاعلين فإنه يستلزم أن يكون كل منهما جعل الآخر قادرا ولا يكون أحدهما فاعلا حتى يكون الآخر قادرا فإذا كان كل منهما جعل الآخر قادرا فقد جعله فاعلا ولا يكون كل منهما جعل الآخر ربا لأن الرب لا بد أن يكون قادرا فيكون هذا جعل هذا قادرا فاعلا ربا وكذلك الآخر

 

 

وهذا ممتنع في الربين الواجبين بأنفسهما القديمين لأن هذا لا يكون قادرا ربا فاعلا حتى يجعله الآخر كذلك وكذلك الآخر فهو بمنزلة أن يقال لا يكون هذا موجودا حتى يجعله الآخر موجودا وهذا ممتنع بالضرورة كما تقدم فيما قبل بالإشارة إلى ذلك وهو أن الدور القبلي ممتنع لذاته باتفاق العقلاء كالدور في الفاعلين والعلل فيمتنع أن يكون كل من الشيئين علة للآخر وفاعلا له أو جزءا من العلة والفاعل فإذا كان كل منهما لا يكون قادرا أو فاعلا إلا بالآخر لزم أن يكون كل منهما علة فاعلة أو علة لتمام ما به يصير الآخر قادرا فاعلا وذلك ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء فلزم أن الرب لا بد أن يكون قادرا بنفسه وإذا كان قادرا بنفسه فإن أمكنه إرادة خلاف ما يريد الآخر أمكن اختلافهما وإن لم يمكنه أن يريد إلا ما يريده الآخر لزم لعجز فإذا فرض أن هذا لا يمكنه أن يريد ويفعل إلا ما يريده الآخر ويفعل لزم عجز كل منهما بل هذا أيضا ممتنع لنفسه كما أنه إذا كان هذا لا يقدر حتى يقدر هذا كان ذلك ممتنعا لذاته فإذا كان هذا

 

 

لا يكون ممكنا إلا بتمكين الآخر فهو بمنزلة أن يقال لا يكون قادرا إلا بإقدار الآخر وأيضا فإنه في هذا التقدير يكون المانع لكل منهما من الانفراد هو الآخر فيكون كل منهما مانعا ممنوعا وهذا لا يكون مانعا إلا إذا كان قادرا على المنع ومن كان قادرا على منع غيره من الفعل فقدرته على أن يكون فاعلا أولى فصار كل منهما لا يكون فاعلا حتى يكون قادرا على الفعل وإذا كان قادرا على الفعل امتنع أن يكون ممنوعا منه فامتنع كون كل واحد منهما مانعا ممنوعا وذلك لازم لوجوب اتفاقهما علىالفعل فعلم امتناع وجوب اتفاقهما على الفعل وثبت إمكان اختلافهما فمتى فرض لزوم اتفاقهما كان ذلك ممتنعا لذاته وإنما يمكن هذا في المخلوقين لأن القدرة لهم مستفادة من غيرهما فإذا قيل لا يقدر هذا حتى يقدر هذا كان يمكن أن يكون هناك ثالث يجعلهما قادرين ومن هنا أمكن المخلوق أن يعاون المخلوق وامتنعت المعاونة على خالقين لأن المخلوقين المتعاونين لكل منهما قدرة

 

 

من غير الآخر أعانه بها وجعله بها قادرا لأن كلا منهما كان قبل إعانة الآخر له قدرة وعند اجتماعهما زادت قوة كل منهما بقوة الآخر بمنزلة اليدين اللتين ضمت إحداهما إلى الأخرى فإن كل منهما كان لها قوة وبالاجتماع زادت قوتهما لأن هذا زاد ذلك تقوية وذاك زاد هذا تقوية فصار كل منهما معطيا للآخر وآخذا منه فزادت القوة بالاجتماع وهذا ممتنع في الخالقين فإن قدرة الخالق القديم الواجب بنفسه من لوازم ذاته لا يجوز أن تكون مستفادة من غيره لأن كل منهما إن كان قادرا عند الانفراد أمكنه أن يفعل عند الانفراد ما يقدر عليه ولم يشترط في فعله معاونة الآخر وحينئذ فيمكن أحدهما أن يفعل ما يريده الآخر أو ما يريد خلافه وإن لم يكن قادرا عند الانفراد امتنع أن يحصل عند الاجتماع لهما قوة لما في ذلك من الدور لأن هذا لا يقدر حتى يقدر ذاك ولا يقدر ذاك حتى يقدر هذا وليس هنا ثالث غيرهما يجعلهما قادرين فلا يقدر أحد منهما والمخلوقان اللذان لا قدرة لهما عند الانفراد لا يحصل لهما قدرة عند

 

 

الاجتماع إلا من غيرهما والخالقان لا يمكن أن يكون لهما ثالث يعطيهما قدرة فلا بد أن يكونا قادرين عند الانفراد وإذا قيل أحدهما يقدر على ما يوافقه الآخر عليه لم يمكن قادرا إلا بموافقته وإذا قيل يقدر على مالا يخالفه الآخر فيه كان كل منهما مانعا للآخر من مقدوره فلا يكون واحد منهما قادرا وأيضا فإن منع هذا لذاك لا يكون إلا بقدرته ومنع ذاك لهذا لا يكون إلا بقدرته فيلزم أن يكون كل منهما قادرا حال التمانع وهو حال المخالفة فيكونان قادرين عند الاتفاق وعند الاختلاف وأيضا فلا يكون هذا ممنوعا حتى يمنعه الآخر وبالعكس فلا يكون أحدهما ممنوعا إلا بمنع الآخر وأيضا فيكون هذا مانعا لذاك وذاك مانعا لهذا فيكون كل منهما مانعا ممنوعا وهذا جمع بين النقيضين وهذه الوجوه وغيرها مما يبين امتناع ربين كل منهما معاون للآخر أو كل منهما مانع للآخر فلم يبقى إلا أن يكون كل منهما قادرا مستقلا

 

 

وحينئذ فيمكن اختلافهما وإذا اختلفا لزم أن لا يفعل واحد منهما شيئا ولزم عجزهما ولزم كون كل واحد منهما مانعا ممنوعا فتبين امتناع ربين سواء فرضا متفقين أو مختلفين وأما إذا فرضا مستقلين وفرض كل منهما مستقلا بخلق العالم فهذا أظهر امتناعا لأن استقلال أحدهما يمنع أن يكون له فيه شريك فكيف إذا كان الآخر مستقلا به فتقدير استقلال كل منهما يقتضي أن يكون كل منهما فعله كله وأن لا يكون واحد منهما فعل منه شيئا فيلزم اجتماع النقيضين مرتين ولهذ امتنع أن يكون مؤثران تامان مستقلان يجتمعان على أثر واحد فإن مثال ذلك أن نقول هذا خاط الثوب وحده وهذا خاط ذلك الثوب بعينه وحده أو أن نقول هذا أكل جميع الطعام ونقول هذا أكل جميع ذاك الطعام بعينه وهذا كله مما يعرف امتناعه ببديهة العقل بعد تصوره ولكن بعض الناس لا يتصور هذا تصورا جيدا بل يسبق إلى ذهنه المشتركان من الناس في فعل من الأفعال والمشتركان لا يفعل أحدهما جميع ذلك الفعل ولا كانت قدرته حاصلة بالاشتراك بل بالاشتراك زادت قدرته وكان كل

 

 

منهما يمكنه حال الانفراد أن يفعل شيئا من الأشياء ويريد خلاف ما يريد الآخر وإذا آراد خلافه فإن تقاومت قدرتهما تمانعا فلم يفعلا شيئا وأن قوي أحدهما قهر الآخر وإن لم يكن لأحدهما قدرة حال الانفراد لم تحصل له حال الاجتماع إلا من غيرهما مع أن هذا لا يعرف له وجود بل المعروف أن يكون لكل منهما حال الانفراد قدرة ما فتكمل عند الاجتماع وأيضا فالمشتركان في الفعل والمفعول لا بد أن يتميز فعل كل منهما عن الآخر لا يكون الشيء الواحد بعينه مشتركا فيه بحيث يكون هذا فعله والآخر فعله فإن هذا ممتنع كما تقدم فلو كان ربان لكان مخلوق كل واحد منهما متميزا عن مخلوق الآخر كما قال تعالى إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض (سورة المؤمنون). فذكر سبحانه وجوب امتياز المفعولين ووجوب قهر أحدهما للآخر كما تقدم تقريره وكلاهما ممتنع فهذه الطرق وأمثالها مما يبين به بها أئمة النظار توحيد الربوبية وهي طرق صحيحة عقلية لم يهتد هؤلاء المتأخرون إلى معرفة توجيهها وتقريرها

 

 

ثم إن أولئك المتقدمين من المتكلمين ظنوا أنها هي طرق القرآن وليس الأمر كذلك بل القرآن قرر فيه توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية وقرره أكمل من ذلك واعتبر ذلك بقوله تعالى ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض (سورة المؤمنون). فهذه الآية ذكر فيها برهانين يقينيين على امتناع أن يكون مع الله إله آخر بقوله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض وقد عرف أنه لم يذهب كل إله بما خلق ولا علا بعضهم على بعض وترك ذكر هذا لعلم المخاطبين به وأن ذكره تطويل بلا فائدة وهذه طريقة القرآن وطريقة الكلام الفصيح البليغ بل وطريقة عامة الناس في الخطاب يذكرون المقدمة التي تحتاج إلى بيان ويتركون مالا يحتاج إلى بيان مثل أن يقال لم قلتم إن كل مسكر حرام فيقال لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مسكر خمر وكل خمرحرام وقد علم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم حجة يجب اتباعها فلا يحتاج أن نذكر هذا ومثل هذا قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا (سورة الأنبياء). أي وما فسدتا فليس فيهما آلهة إلا الله وهذا بين لا يحتاج إلى أن يبين بالخطاب فإن المقصود من الخطاب البيان وبيان البين قد يكون من نوع العي وبيان الدليل قد يكون محتاجا إلى مقدمة واحدة وقد يكون محتاجا إلى مقدمتين وإلى ثلاث وأكثر فيذكر المستدل ما يحتاج إلى بيان دون ما لا يحتاج إلى بيان وأما ما يقوله المنطقيون من أن كل دليل نظري فلا بد فيه من مقدمتين لا يحتاج إلى أكثر ولا يجزيء أقل وإذا اكتفى بواحدة قالوا حذفت

 

 

الأخرى ويسمونه قياس الضمير وإن كان ثلاثا أو أربعا قالوا هذه قياسات لا قياس واحد فهذا مجرد وضع ودعوى لا يستند إلى أصل عقلي ولا عادة عامة وقد بسطنا الكلام على هذا في الكلام على المنطق وغيره فقال سبحانه إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض (سورة المؤمنون). وهذا اللازم منتف فانتفى الملزوم وهو ثبوت إله مع الله وبيان التلازم أنه إذا كان معه إله امتنع أن يكون مستقلا بخلق العالم مع أن الله تعالى مستقل بخلق العالم كما تقدم أن فساد هذا معلوم بالضرورة لكل عاقل وأن هذا جمع بين النقيضين وامتنع أيضا أن يكون مشاركا للآخر معاونا له لأن ذلك يستلزم عجز كل منهما والعاجز لا يفعل شيئا فلا يكون لا ربا ولا إلها لأن أحدهما إذا لم يكن قادرا إلا بإعانة الآخر لزم عجزه حال الانفراد وامتنع أن يكون قادرا حال الاجتماع لأن ذلك دور قبلي فإن هذا لا يكون قادرا حتى يجعله الآخر قادرا أو حتى يعينه الآخر وذاك لا يجعله قادرا ولايعينه حتى يكون هو قادرا وهو لا يكون قادرا حتى يجعله ذاك أو يعينه فامتنع إذا كان كل منهما محتاجا إلى إعانة الآخر في الفعل أن يكون أحدهما قادرا فامتنع أن يكون لكل واحد منهما فعل حال الانفراد وحال الاجتماع فتعين أن يكون كل واحد منهما قادرا عند الانفراد فلا بد إذا فرض معه إله أن يكون كل منهما قادرا عند انفراده وإذا كان كذلك ففعل أحدهما إن كان مستلزما لفعل الآخر بحيث لا يفعل شيئا حتى يفعل الآخر فيه شيئا لزم أن لا يكون أحدهما قادرا علىالانفراد وعاد احتياجهما في أصل الفعل إلى التعاون وذلك ممتنع بالضرروة فلا بد أن يمكن أحدهما أن يفعل فعلا لا يشاركه الآخر فيه وحينئذ فيكون مفعول هذا متميزا عن مفعول هذا ومفعول هذا متميزا عن مفعول هذا فيذهب كل إله بما خلق هذا بمخلوقاته وهذا بمخلوقاته فتبين أنه لو كان معه إله لذهب كل إله بمخلوقاته وهذا غير

 

 

واقع فإنه ليس في العالم شيء إلا وهو مرتبط بغيره من أجزاء العالم كما تقدم التنبيه عليه ولهذا إذا فعل المتعاونان شيئا كان فعل كل منهما الذي يقوم به متميزا عن فعل الآخر وأما ما يحدث عنه في الخارج فلا يمكن أحدا أن يستقل بشيء منفصل عنه بل لا بد له فيه من معاون عند من يقول إن فعل العبد ينقسم إلى مباشر وغير مباشر وأما من يقول إن فعله لا يخرج عن محل قدرته فليس له مفعول منفصل عنه ثم إذا اختلط مفعول هذا بمفعول هذا كالحاملين للخشبة كان كل منها مفتقرا إلى الآخر حال الاجتماع ولكل منهما قدرة يختص بها حال الانفراد وحال الاجتماع يمكنه أن يفعل بها فعلا منفردا به عن الآخر ويمتاز به عن الآخر فلا بد أن يكون لكل منهما فعل يختص به متميز عن فعل الآخر فلا يتصور إلهان حتى يكون مفعول هذا متميزا عن مفعول ذاك فيذهب كل إله بما خلق واللازم منتف فانتفى الملزوم

 

 

وأما البرهان الثاني وهو قوله ولعلا بعضهم على بعض (سورة المؤمنون). فإنه يمتنع أن يكونا متساويين في القدرة لأنهما إذا كان متساويين في القدرة كان مفعول كل منهما متميزا عن مفعول الآخر وهو باطل كما تقدم ولأنهما إذا كان متكافئين في القدرة لم يفعلا شيئا لا حال الاتفاق ولا حال الاختلاف سواء كان الاتفاق لازما لهما أو كان الاختلاف هو اللازم أو جاز الاتفاق وجاز الاختلاف لأنه إذا قدر أن الاتفاق لازم لهما فلأن أحدهما لا يريد ولا يفعل حتى يريد الآخر ويفعل وليس تقدم أحدهما أولى من تقدم الآخر لتساويهما فيلزم أن لا يفعل واحد منهما وإذا قدر أن إرادة هذا وفعله مقارن لإرادة الآخر وفعله فالتقدير أنه لا يمكنه أن يريد ويفعل إلا مع الآخر فتكون إرادته وفعله مشروطة بإرادة الآخر وفعله فيكون بدون ذلك عاجزا عن الإرادة والفعل فيكون كل منهما عاجزا حال الانفراد ويمتنع مع ذلك أن يصيرا قادرين حال الاجتماع كما تقدم وإذا كان الاختلاف لازما لهما امتنع مع تساويهما أن يفعلا شيئا لأن هذا يمنع هذا وهذا يمنع هذا لتكافؤ القدرتين فلا يفعلان شيئا وأيضا فإن امتناع أحدهما مشروط بمنع الآخر فلا يكون هذا ممنوعا

 

 

حتى يمنعه ذاك ولا يكون ذاك ممنوعا حتى يمنعه هذا فيلزم أن يكون كل منهما مانعا ممنوعا وهذا ممتنع ولأن زوال قدرة كل منهما حال التمانع إنما هي بقدرة الآخر فإذا كانت قدرة هذا لا تزول حتى تزيلها قدرة ذاك وقدرة ذاك لا تزول حتى تزيلها قدرة هذا فلا تزول واحدة من القدرتين فيكونان قادرين وكونهما قادرين على الفعل مطيقين في حال كون كل منهما ممنوعا بالآخر عن الفعل عاجزا عنه بمنع الآخر له محال لأن ذلك كله جمع بين النقيضين وأما إذا قدر إمكان اتفاقهما وإمكان اختلافهما كان تخصيص الاتفاق بدون الاختلاف وتخصيص الاختلاف بدون الاتفاق محتاجا إلى من يرجح أحدهما علىالآخر ولا مرجح إلا هما وترجيح أحدهما بدون الآخر محال وترجيح أحدهما مع الآخر هو اتفاق فيفتقر تخصيصه إلى مرجح آخر فيلزم التسلسل في العلل وهو ممتنع باتفاق العقلاء وأيضا فاتفاقهما في نفسه ممتنع واختلافهما في نفسه ممتنع سواء قدر لازما أو لم يقدر لأنهما إذا اتفقا لم يمكن أحدهما حال الاتفاق أن يفعل إلا

 

 

أن يفعل الآخر معه فيكون كل منهما عند الاتفاق عاجزا عن فعل شيء يستقل به وإذا كان كل منهما عند الاتفاق عاجزا عن فعل شيء يستقل به كان عاجزا عند الانفراد ومن كان عاجزا عند الانفراد عن كل شيء كان عاجزا أيضا عند الاجتماع والناس المتشاركون كل منهم لا بد أن ينفرد عن الآخر بفعل حال الاشتراك فإن الحركة التي يفعلها أحدهما يستقل بها دون الآخر حال تمكنه وكذلك يمكنه حال الانفراد أن يؤثر أثرا دون الآخر فيمتنع اتفاق اثنين كل منهما عاجز عند الانفراد في مخلوق أو خالق سواء كان الاتفاق لازما أو ممكنا وإن قدر في المخلوقين أنهما لا يكونان قادرين إلا عند الاجتماع فذلك لأن هناك ثالثا غيرهما يجعل لهما قوة عند الاجتماع وهنا يمتنع أن يكون للخالق القديم الواجب بنفسه فوقه من يجعله قادرا فيمتنع أن يكون فوقهما من يجعل لهما قوة عند الاجتماع دون الانفراد إذ كل ما سواهما مخلوق فيمتنع أن يجعل الخالق قادرا

 

 

وأما امتناع اختلافهما وإن لم يكن لازما فهو أظهر فإنه عند الاختلاف يحصل التمانع وهذه المعاني كيفما عبرت عنها تجدها معاني صحيحة يمتنع وجود اثنين متفقين أو مختلفين إلا أن يكون كل منهما قادرا عند انفراده وإذا كان كل منهما قادرا عند الانفراد كان لكل منهما فعل ومفعول يختص به منفردا عن الآخر فلا يكونان متفقين في كل فعل وكل مفعول ولا يمكن أن يتفقا في شيء واحد أصلا لأن ذلك الفعل الحادث لا يكون ما يقوم بأحدهما نفس ما يقوم بالآخر فإن هذا ممتنع لذاته والمخلوق المنفصل لا يكون نفس أثر هذا فيه هو نفس أثر الآخر فيه بل لا بد من أثرين فإن كان أحدهما شرطا في الآخر كان كل منهما مفتقرا إلى الآخر فلا يكون قادرا عند الانفراد وإن لم يكن كذلك كان مفعول هذا ليس هو مفعول الآخر ولا بلازم له فلا يكون هناك اتفاق في مفعول واحد أصلا وهذا من جنس ما تقدم من ذهاب كل إله بما خلق لكن الذي يختص به هذا أن الشيئين اللذين يشترط في كل واحد منهما أن يكون مع الآخر لا بد أن يكون لهما ثالث غيرهما يحدثهما كما فيالأجيرين لملعم واحد والمفتيين الراجعين إلى النصوص والمتشاورين الراجعين إلى أمر يوجب اجتماعهما فلا بد أن يكون بين المتشاركين ثالث يجمعهما وأما الخالقان فلا شيء فوقهما ولو قيل إنهما يفعلان ماهو المصلحة أو غير ذلك فكل هذه المحدثات تابعة لهما وعنهما ولا يكون شيء إلا بعلمهما وقدرتهما بخلاف المخلوق الذي يحدث أمورا بدونه فيعاونه على ما هو المصلحة له وإذا قيل علما ما سيكون فالعلم بالحادث تابع للمعلوم الحادث والحادث تابع لإرادة محدثه والإرادة تابعة لهما وأما الخالقان فإنه لا بد أن تكون إرادة كل منهما من لوازم نفسه أو تكون نفسه مستقلة بإرادته وحينئذ لا تكون إرادته موقوفة على شرط إرادة غيره فإنها إذا توقفت على ذلك لم يكن مستقلا بالإرادة ولا كانت

 

 

من لوازم نفسه لأنه إذا كان هذا لا يريد ويفعل إلا مع إرادة الآخر وفعله كانت إرادة كل منهما وفعله جزءا من المقتضى لكون الآخر مريدا فاعلا وهذا دور في جزء العلة والدور في جزء المقتضي ممتنع كالدور في نفس المقتضي وإذا جوز في المتضايفين كالأبوة والبنوة أن يتلازما فلأن المقتضي التام لهما غيرهما فلو كانت الإرادتان والفعلان متلازمين لكان المقتضي التام لهما غير هذا وغير هذا وذلك ممتنع إذ لا شيء فوقهما يجعلهما كذلك فيلزم أن لا يكون كل واحد منهما مريدا ولا فاعلا وهذه كلها أمور معقولة محققة مبرهنة كلما تصورها المتصور تصورا صحيحا علم صحتها وهي مبسوطة في غير هذا الموضع فتين أنه لو قدر إلهان متكافئان في القدرة لم يفعلا شيئا لا حال الاتفاق ولا حال الاختلاف فلا بد حينئذ إذا قدر إلهان أن يكون أحدهما أقدر من الآخر والأقدر عال على من دونه في القدرة بالضرورة فلو كان ثم آلهة لوجب علو بعضهم على بعض ولو علا بعضهم علىبعض لميكن المستقل بالفعل إلا العالي وحده فإن المقهور إن كان محتاجا في فعله إلى إعانة الأول كان عاجزا بدون الإعانة وكانت قدرته من غيره وما كان هكذا لم يكن إلها بنفسه والله تعالى لم يجعل من مخلوقاته إلها فامتنع أن يكون المقهور إلها وإن كان المقهور يستقل بفعل بدون الإعانة من العالي لم يمكن العالي إذا أن يمنعه مما هو مستقل به فيكون العالي عاجزا عن منع المقهور فلا يكون عاليا وقد فرض أنه عال هذا خلف وهو جمع بين النقيضين فتبين أنه مع علو بعضهم على بعض لا يكون المغلوب إلها بوجه بل يمتنع أن يكون إلها مع إعانة الآخر له ويمتنع أن يكون إلها منفردا غنيا عن الآخر إذ كان الغني عن غيره لا يعلو غيره عليه ولا يقدر أن

 

 

يعلو غيره عليه ومتى قدر أن يعلو عليه كان مفتقرا إليه محتاجا إلى امتناعه من علوه عليه وانكفافه عن ذلك العلو ومن غلبه غيره لا يكون عزيزا منيعا يدفع عن نفسه فكيف يدفع عن غيره والعرب تقول عز يعز بالفتح إذا قوي وصلب وعز يعز بالكسر إذا امتنع وعز يعز بالضم إذا غلب فإذا قويت الحركة قوى المعنى والضم أقوى من الكسر والكسر أقوى من الفتح فإذا كان مغلوبا لم يكن منيعا وإذا لم يكن منيعا لم يكن قويا بطريق الأولى ومن لا يكون قويا لا يكون ربا فاعلا فتبين أنه لو كان معه إله لعلا بعضهم على بعض كما تبين أنه كان يذهب كل إله بما خلق وهذا بعض تقرير البرهانين اللذين في القرآن ومما يوضح ذلك أنكلا تجد في الوجود شريكين متكافئين إن لم يكن فوقهما ثالث يرجعان إليه فإذا قدر ملكان متكافئان في الملك لم يرجع أحدهما إلى الآخر ولا ثالث لهما يرجعان إليه كان ذلك ممتنعا بل إذا قدر طباخان لقدر واحدة متكافئان في العمل لا يرجع أحدهما إلى الآخر ولا فوقهما ثالث يرجعان إليه لم يمكن ذلك وكذلك البانيان لدار واحدة وكذلك الغارسان لشجرة واحدة وكذلك كل آمرين بمأمور واحد كالطبيبين والمفتيين وكذلك الخياطان لثوب واحد فلا يتصور في جميع هذه المشاركات اتفاق اثنين إلا أن يكون أحدهما فوق الآخر وأن يكون لهما ثالث فوقهما وذلك لأن فعل كل واحد منهما إذا كان مشروطا بفعل الآخر لم يرد هذا ولم يأمر ولم يفعل حتى يريد هذا ويأمر ويفعل الآخر كذلك فلا يريد واحد منهما ولا يأمر ولا يفعل فلا يفعلان شيئا فاشتراك اثنين متكافئين ليس فوقهما ثالث ممتنع وإذا اشترك شريكان

 

 

شرعيان كان ما يفعلانه من الأفعال راجعا إلى أمر الشارع الذي هو فوقهما أو راجعا إلى قول أهل الخبرة بالتجارة التي اشتركا فيها فعليهما أن يريدا ذلك فإن تنازعا فصل بينهما الشارع أو أهل الخبرة الذين عليهما أن يرجعا إليهم وعلى ذلك تشاركا وتشارطا وأما إن لم يرجعا إلى ثالث أو لم يكن أحدهما تابعا للآخر فيمتنع اشتراكهما لكن قد يرجع هذا إلى هذا تارة وهذا إلى هذا تارة كالمتعارضين وحينئذ فكل واحد منهما حال رجوع الآخر إليه هوالأصل والآخر فرع له ولهذا وجب نصب الإمارة في أقصر مدة وأقل اجتماع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل لثلاثة أن يكونوا في سفر حتى يؤمروا أحدهم رواه الإمام أحمد فإن الرأس ضروري في الاجتماعفلا بد للناس من رأس وإذا لم يكن لهم رأس امتنع الاجتماع فإذا كان لهما رأسان متكافئان يشتركان في رياسة جماعة بطل الاجتماع وهذا مما هو مستقر في فطر الناس كلهم فإذا كان ولاة الأمر اثنين فلا بد أن يتناوبا في الأمر بحيث يطيع هذا هذا تارة وهذا هذا تارة كما يوجد في أعوان الملوك ووزرائهم إذا بدأ هذا بأمر أعانه الآخر عليه فإن لم يتفقا رجع الأمر إلى من فوقهما وإلا فالأمر الواحد لا يصدر عن اثنين معا إلا ان يكونا تابعين فيه لثالث فالتمانع حاصل بين الأصلين المتكافئين سواء قدر اتفاقهما أو اختلافهما ولكن التمانع مع الاختلاف أظهر وكذلك هما يتمانعان مع الاتفاق فإن أحدهما لا يمكنه أن يفعل حتى يفعل الآخر وذاك لا يمكنه حتى يفعل الآخر وليس لهما ثالث يحركهما إلى الفعل وليس تقدم أحدهما أولى من تقدم الآخر ووقوع الفعل منهما مع كون فعل كل منهما لا بد له من قدرة عليه وهو لا يقدر إلا

 

 

بالآخر ممتنع فإن هذا لا يقدر حتى يعينه الآخر وهذا لا يقدر حتى يعينه الآخر فتكون إعانة كل منهما سابقة مسبوقة وقدرة كل منهما سابقة مسبوقة إذ كان لا إعانة إلا بقدرته ولا قدرة له إلا بإعانة ذاك ولا إعانة لذاك إلا بقدرته ولا قدرة له إلا بإعانة هذا فتكون إعانة هذا موقوفة على قدرته الموقوفة على إعانة ذاك الموقوفة على قدرة هذا فيكون الشيء قبل قبل قبل نفسه وعلة علة علة نفسه فتبين امتناع اجتماع ربين متوافقين أو متخالفين وأنه إذا فرض مع الله إله لزم أن يذهب كل إله بما خلق وأن يعلو بعضهم على بعض وأحد البرهانين ليس مبنيا على الآخر بل كل منهما مستقل وكل منهما لازم على تقدير إله آخر ليس اللازم أحدهما فإنه لما امتنع الاشتراك في فعل واحد ومفعول واحد على سبيل الاستقلال وعلى سبيل التعاون لزم أن يذهب كل إله بما خلق ولما امتنع اجتماع ربين متكافئين لزم علو بعضهم على بعض وكل منهما منتف لأن المخلوقات مرتبط بعضها ببعض ولأن المقهور ليست قدرته من نفسه بل من غيره فيكون مربوبا لا ربا

 

 

والمشركون كانوا يقرون بهذا التوحيد الذي هو نفي خالقين لم يكن مشركو العرب تنازع فيه ولهذا قال الله لهم أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (سورة النحل). فكانوا يعترفون بأن آلهتهم لا تخلق ولهذا ذكر الله تعالى هذا التقرير بعد قوله قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون (سورة المؤمنون). ولم يكن إشراكهم أنهم جعلوهم خالقين بل أن جعلوهم وسائط في العبادة فاتخذوهم شفعاء وقالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى كما قال الله تعالى عنهم ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في

 

 

السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون سور يونس فالذين أثبتوا فاعلا مستقلا غير الله كالفلك والآدميين وجعلوا هذه الحركات الحادثة ليست مخلوقة لله فيهم من الشرك والتعطيل ما ليس في مشركي العرب فإن مشركي العرب كانوا يقرون بالقدر وأن الله وحده خالق كل شيء ولهذا قال في الآية الأخرى قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا (سورة الإسراء). فهم كانوا يقولون إنهم وسائل ووسائط وشفعاء لم يكونوا يقولون إنهم يخلقون كخلقه فقال تعالى لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا كما قال في الآية الأخرى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (سورة الإسراء). فتبين أن ما يدعى من دونه من الملائكة والأنبياء وغيرهم يبتغى به الوسيلة إلى الله والتقرب إليه وذلك لأنه هو الإله المعبود الحق الذي كل ما سواه مفتقر إليه من جهة أنه ربه ليس له شيء إلا منه ومن جهة أنه إلهه لا منتهى لإرادته دونه فلو لم يكن هو المعبود لفسد

 

 

العالم إذ لو كانت الإرادات ليس لها مراد لذاته والمراد إما لنفسه وإما لغيره والمراد لغيره لا بد أن يكون ذلك الغير مرادا حتى ينتهي الأمر إلى مراد لنفسه فكما أنه يمتنع التسلسل في العلل الفاعلية فيمتنع التسلسل في العلل الغائية وقد يظن أنه بهذا الطريق أثبت قدماء الفلاسفة أرسطو وأتباعه الأول لكنهم أثبتوه من جهة كونه علة غائية فقط لكن أولئك جعلوه علة غائية بمعنى التشبه به ولهذا قالوا الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة لم يجعلوه معبودا محبوبا لذاته كما جاءت الرسل بذلك ولهذا كان من تعبد وتصوف على طريقتهم من المتأخرين يقعون في دعوى الربوبية والإلهية وهم في نوع من الفرعونية بل قد يعظم بعضهم فرعون ويفضلونه على موسى عليه السلام كما يوجد ذلك في كلام طائفة منهموالواجب إثبات الأمرين أنه سبحانه رب كل شيء وإله كل شيء فإذا كانت الحركات الإرادية لا تقوم إلا بمراد لذاته وبدون ذلك يفسد ولا يجوز أن يكون مرادا لذاته إلا الله كما لا يكون موجودا بذاته إلا الله علم أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وهذه الآية فيها بيان أنه لا إله إلا الله وأنه لو كان فيهما آلهة غيره لفسدتا وتلك الآية قال فيها إذا لذهب كل إله بما خلق (سورة المؤمنون). ووجه بيان لزوم الفساد أنه إذا قدر مدبران ما تقدم من أنه يمتنع أن يكونا غير متكافئين لكون المقهور مربوبا لا ربا وإذا كانا متكافئين امتنع التدبير منهما لا على سبيل الاتفاق ولا على سبيل الاختلاف فيفسد العالم بعدم التدبير لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل الاشتراك كما تقدم وهذا من جهة امتناع الربوبية لاثنين ويلزم من امتناعهما امتناع

 

 

الإلهية فإن ما لايفعل شيئا لا يصلح أن يكون ربا يعبد ولم يأمر الله أن يعبد ولهذا بين الله امتناع الإلهية لغيره تارة ببيان أنه ليس بخالق وتارة أنه لم يأمر بذلك لنا كقوله تعالى قل أرايتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ((سورة الأحقاف).). وذلك لأن عبادة ما سوى الله تعالى قد يقال إن الله أذن فيه لما فيه من المنفعة فبين سبحانه أنه لم يشرعه كما قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (سورة الزخرف). وهذ مبسوط في موضع آخر والمقصود هنا أن في هذه الآية بيان امتناع الألوهية من جهة الفساد الناشىء عن عبادة ما سوى الله تعالى لأنه لا صلاح للخلق إلا بالمعبود المراد لذاته من جهة غاية أفعالهم ونهاية حركاتهم وما سوى اللهلا يصلح فلو كان فيهما معبود غيره لفسدتا من هذه الجهة فإنه سبحانه هوالمعبود المحبوب لذاته كما أنه هو الرب خالق بمشيئته وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل ولهذا قال الله في فاتحة الكتاب إياك نعبد وإياك نستعين وقدم اسم الله على اسم الرب في أولها حيث قال الحمد لله رب العالمين فالمعبود هو المقصود المطلوب المحبوب لذاته وهو الغاية والمعين وهو البارىء المبدع الخالق ومنه ابتداء كل شيء والغايات تحصل بالبدايات والبدايات بطلب الغايات فالإلهية هي الغاية وبها تتعلق حكمته وهو الذي يستحق لذاته أن يعبد ويحب ويحمد ويمجد وهو سبحانه يحمد نفسه ويثني على نفسه ويمجد نفسه ولا أحد أحق بذلك منه حامدا ومحمودا

 

 

وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع وقد تبين بما ذكرناه أن من جعل عباد الله كأعوان السلطان فهو من أعظم المشركين بالله وأما جوابه عن احتجاجهم بقوله تعالى والله خلقكم وما تعملون (سورة الصافات). بأن المراد بذلك الأصنام فلا ننازعه في أن المراد بذلك الأصنام فإن هذا هو أصح القولين وما بمعنى الذي ومن قال إنها مصدرية والمراد والله خلقكم وعملكم فهو ضعيف فإن سياق الكلام إنما يدل على الأول لأنه قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون فأنكر عليهم عبادة المنحوت فالمناسب أن يذكر ما يتعلق بالمنحوت وأنه مخلوق لله والتقدير والله خلق العابد والمعبود ولأنه لو قال والله خلقكم وعملكم لم يكن في هذا ما يقتضي ذمهم على الشرك بل قد يقال إنه إقامة عذر لهم وذلك لأن الواو في قوله والله خلقكم وما تعملون واوالحال والحال هنا شبه الظرف كلاهما قد يتضمن معنى التعليل كما يقال أتذم فلانا وهو رجل صالح وتسيء إليه وهو محسن إليك فتقرر بذلك ما يوجب ذمه ونهيه عما أنكرته عليه وهو سبحانه ينكر عليهم عبادة ما ينحتون فذكر قوله والله خلقكم وما تعملون متضمنا ما يوجب ذمهم على ذلك ونهيهم عنه وذلك كون الله تعالى خلق معمولهم ولو أريد والله خلقكم وعملكم الذي هو الكفر وغيره لم يكن في ذلك ما يناسب ذمهم ولم يكن في بيان خلق الله تعالى لأفعال عباده ما يوجب ذمهم على الشرك لكن يقال هذه الآية تدل على أن أعمال العباد مخلوقة لأنه قال والله خلقكم والذي تعملونه من الأصنام والأصنام كانو ينحتونها فلا يخلو إما أن يكون المراد خلقه لها قبل النحت والعمل أو قبل ذلك وبعده فإن كان المراد ذكر كونها مخلوقة قبل ذلك لم يكن فيها حجة على أن المخلوق هو المعمول المنحوت لكن المخلوق ما لم يعمل ولم ينحت وإن كان المراد خلقها بعد العمل والنحت فمن المعلوم أن النحت الذي فيها هو أثرهم وعملهم

 

 

وعند القدرية أن المتولد عن فعل العبد فعله لا فعل الله فيكون هذا النحت والتصوير فعلهم لا فعل الله فإذا ثبت أن الله خلقها بما فيها من التصوير والنحت ثبت أنه خالق ما تولد عن فعلهم والمتولد لازم للفعل المباشر وملزوم له وخلق أحد المتلازمين ويسلتزم خلق الآخر فدلت الآية أنه خالق أفعالهم القائمة بهم وخالق ما تولد عنها وخالق الأعيان التي قام بها المتولد ولا يمكن أن يكون أحد المتلازمين عن الرب والآخر عن غيره فإنه يلزم افتقاره إلى غيره وأيضا فنفس حركاتهم تدخل في قوله تعالى والله خلقكم فإن أعراضهم داخلة في مسمى أسمائهم فالله تعالى خلق الإنسان بجميع أعراضه وحركاته من أعراضه فقد تبين أنه خلق أعمالهم بقوله والله خلقكم وما تولد عنهامن النحت والتصوير بقوله وما تعملون فثبت أنها دالة على أنه خالق هذا وهذا وهو المطلوب مع أن الآيات الدالة على خلق أعمال العباد كثيرة كما تقدم التنبيه عليها لكن خلقه للمصنوعات مثل الفلك والأبنية واللباس هو نظير خلق المنحوتات كقوله تعالى وآيه لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون (سورة يس). وقوله تعالى والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون (سورة النحل).

*

فصل قال الرافضي وذهبت الأشاعرة إلى أن الله يرى بالعين مع أنه مجرد من الجهات وقد قال الله تعالى لا تدركه الأبصار (سورة الأنعام). وخالفوا الضرورة من أن المدرك بالعين يكون مقابلا أو في حكمه وخالفوا جميع العقلاء في ذلك وذهبوا إلى تجويز أن يكون بين أيدينا جبال شاهقة من الأرض إلى السماء مختلفة الألوان لا نشاهدها وأصوات هائلة لا نسمعها وعساكر مختلفة متحاربة بانواع الأسلحة بحيث تماس أجسامنا أجسامهم لا نشاهد صورهم ولا حركاتهم ولا نسمع أصواتهم الهائلة وأن نشاهد

 

جسما أصغر الأجسام كالذرة في المشرق ونحن في المغرب مع كثرة الحائل بيننا وبينها وهذا هو السفسطة.

*فيقال له الكلام على هذا من وجوه...

أحدها: أن يقال أما إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة فهو قول سلف الأمة وأئمتها وجماهير المسلمين من أهل المذاهب الأربعة وغيرها. وقد تواترت فيه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عند علماء الحديث وجمهور القائلين بالرؤية يقولون يرى عيانا مواجهة كما هو المعروف بالعقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم عز وجل يوم القيامة كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته وفي لفظ كما ترون الشمس والقمر صحوا وفي لفظ هل تضارون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب قالوا لا قال فهل تضارون في رؤية القمر صحوا ليس دونه سحاب قالوا لا قال فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمروإذا كان كذلك فتقدير أن يكون بعض أهل السنة المثبتين للرؤية أخطأوا في بعض أحكامها لم يكن ذلك قدحا في مذهب أهل السنة والجماعة فإنا لا ندعي العصمة لكل صنف منهم وإنما ندعي أنهم لا يتفقون على ضلالة وأن كل مسألة اختلف فيها أهل السنة والجماعة والرافضة فالصواب فيها مع أهل السنة وحيث تصيب الرافضة فلا بد أن يوافقهم على الصواب بعض أهل السنة وللروافض خطأ لا يوافقهم أحد عليه من أهل السنة وليس للرافضة مسألة واحدة لا يوافقهم فيها أحد انفردوا بها عن جميع أهل السنة والجماعة إلا وهم مخطئون فيها كإمامة الاثني عشر وعصمتهم.

والجواب الثاني: أن الذين قالوا إن الله يرى بلا مقابلة هم الذين قالوا إن الله ليس فوق العالم فلما كانوا مثبتين للرؤية نافين للعلو احتاجوا إلى الجمع بين هاتين المسألتين وهذا قول طائفة من الكلابية والأشعرية وليس هو قولهم كلهم بل ولا قول أئمتهم بل أئمة القوم يقولون إن الله بذاته فوق العرش ومن نفى ذلك منهم فإنما نفاه

 

لموافقته المعتزلة في نفي ذلك ونفى ملزوماته فإنهم لما وافقوهم على صحة الدليل الذي استدلت به المعتزلة على حدوث العالم وهو أن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون وما لا يخلو عنهما فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها قالوا فيلزم حدوث كل جسم فيمتنع أن يكون البارىء جسما لأنه قديم ويمتنع أن يكون في جهة لأنه لا يكون في الجهة إلا جسم فيمتنع أن يكون مقابلا للرائي لأن المقابلة لا تكون إلا بين جسمين ولا ريب أن جمهور العقلاء من مثبتي الرؤية ونفاتها يقولون إن هذا القول معلوم الفساد بالضرورة ولهذا يذكر الرازي أن جميع فرق الأمة تخالفهم في ذلك لكن هم يقولون لهذا المشنع عليهم نحن أثبتنا الرؤية ونفينا الجهة فلا يلزم ما ذكرته فإن أمكن رؤية المرئي لا في جهة من الرائي صح قولنا وإن لم يكن لزم خطؤنا في إحدى المسالتين إما في نفي الرؤية وأما في نفي مباينة الله لخلقه وعلوه عليهموإذا لزم الخطأ في أحداهما لم يتعين الخطأ في نفي الرؤية بل يجوز أن يكون الخطأ في نفي العلو والمباينة وليست موافقتنا لك حجة لك فليس تناقضنا دليلا على صواب قولك في نفي علو الله على خلقه بل الرؤية ثابتة بالنصوص المستفيضة واجماع السلف مع دلالة العقل عليها وحينئذ فلازم الحق حق ونحن إذا أثبتنا هذا الحق ونفينا بعض لوازمه كان هذا التناقض أهون من نفي الحق ولوازمه وأنتم نفيتم الرؤية ونفيتم العلو والمباينة فكان قولكم أبعد عن المعقول والمنقول من قولنا وقولنا أقرب من قولكم وإن كان في قولنا تناقض فالتناقض في قولكم أكثر ومخالفتكم لنصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أظهر وهذا بين فإن ما في النصوص الإلهية ونصوص سلف الأمة من إثبات الصفات والرؤية وعلو الله متواتر مستفيض والنفاة لا يستندون لا إلى كتاب ولا إلى سنة ولا إلى

 

 

إجماع بل عارضوا برأيهم الفاسد ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وأما التناقض فإن هؤلاء النفاة للرؤية يقولون إنه موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيء ولا يراه أحد ولا يحجب عن رؤيته شيء دون شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل من عنده شيء إلى أمثال ذلك وإذا قيل لهم هذا مخالف للعقل وهذا صفة المعلوم المعدوم الممتنع وجوده قالوا هذا النفي من حكم الوهم فيقال لهم إذا عرض على العقل موجود ليس بجسم قائم بنفسه يمكن رؤيته كان العقل قابلا لهذا لا ينكروه فإذا قيل مع ذلك إنه يرى بلا مواجهة فإن قيل هذا ممكن بطل قولهم وإن قيل هذا مما يمنعه العقل قيل منع العقل لما جعلتموه موجودا واجبا أعظمفإن قلتم إنكار ذلك من حكم الوهم قيل لكم وإنكار هذا حينئذ أولى أن يكون من حكم الوهم وإن قلتم بل هذا الإنكار من حكم العقل قيل لكم وذلك الإنكار من حكم العقل بطريق الأولى فإنكم تقولون حكم الوهم الباطل أن يحكم فيما ليس بمحسوس بحكم المحسوس وحينئذ إذا قلتم إن البارىء تعالى غير محسوس يمكن أن تقبلوا فيه الحكم الذي يمتنع في المحسوس وهو امتناع الرؤية بدون المقابلة وإن قلتم إنه محسوس أي يمكن الاحساس به لم يبطل فيه حكم الوهم فامتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه وحينئذ فيجوز رؤيته وإن قلتم إذا كان غير محسوس فهو غير مرئي قيل إن أردتم بالمحسوس الحس المعتاد فالرؤية التي يثبتها

 

 

مثبتة الرؤية بلا مقابلة ليست هي الرؤية المعتادة بل هي رؤية لا نعلم صفتها كما أثبتم وجود موجود لا نعلم صفته فكل ما تلزمونهم به من الشناعات والمناقضات يلزمكم أكثر منه.

الجواب الثالث: أن يقال أهل الحديث والسنة المحضة متفقون على إثبات العلو والمباينة وإثبات الرؤية وحينئذ فمن أثبت أحدهما ونفى الآخر أقرب إلى الشرع والعقل ممن نفاهما جميعا فالأشعرية الذين أثبتوا الرؤية ونفوا الجهة أقرب إلى الشرع والعقل من المعتزلة والشيعة الذين نفوهما أما كونهم أقرب إلى الشرع فلأن الآيات والأحاديث والآثار المنقولة عن الصحابة في دلالتها على العلو وعلى الرؤية أعظم من أن تحصر وليس مع نفاة الرؤية والعلو ما يصلح أن يذكر من الأدلة الشرعية وإنما يزعمون أن عمدتهم العقل فنقول قول الأشعرية المتناقضين خير من قول هؤلاء وذلكأنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود لا يشار إليه ولا يقرب منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا ترفع إليه الأيدي ونحو ذلك كانت الفطرة منكرة لذلك والعقلاء جميعهم الذين لم تتغير فطرتهم ينكرون ذلك ولا يقر بذلك إلا من لقن أقوال النفاة وحجتهم وإلا فالفطر السليمة متفقة على إنكار ذلك أعظم من إنكار خرق العادات لأن العادات يجوز انخراقها باتفاق أهل الملل وموافقة عقلاء الفلاسفة لهم على ذلك فنقول إن كان قول النفاة حقا مقبولا في العقل فإثبات وجود الرب على العرش من غير أن يكون جسما أقرب إلى العقل وأولى بالقبول وإذا ثبت أنه فوق العرش فرؤية ما هو فوق الإنسان وإن لم يكن جسما أقرب إلى العقل وأولى بالقبول من إثبات قول النفاة فتبين أن الرؤية على قول هؤلاء أقرب إلى العقل من قول النفاة وإذا قدر أن هذا خلاف المعتاد فتجويز انخراق العادة أولى من قول النفاة فإن قول النفاة ممتنع في فطر العقلاء لا يمكن جوازه وأما انخراق العادة فجائز.

 

الجواب الرابع: أن الأشعرية تقول إن الله قادر على أن يخلق بحضرتنا ما لا نراه ولا نسمعه من الأجسام والأصوات وأن يرينا ما بعد منا لا يقولون إن هذا واقع بل يقولون إن الله قادر عليه وليس كل ما كان قادرا عليه يشكون في وقوعه بل يعلمون أن هذا ليس واقعا الآن وتجويز الوقوع غير الشك في الوقوع وعبارة هذا الناقل تقتضي أنهم يجوزون أن يكون هذا الآن موجودا ونحن لا نراه وهذا لا يقوله عاقل ولكن هذا قيل لهم بطريق الإلزام قيل لهم إذا جوزتم الرؤية في غير جهة فجوزا هذا فقالوا نعم نجوز كما أنهم يقولون رؤية الله جائزة في الدنيا أي هو قادر على أن يرنا نفسه وهم يعلمون مع هذا أن أحدا من الناس لا يرينا الله في الدنيا إلا ما تنوزع فيه من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ومن شك منهم في وقوع الرؤية في الدنيا فلجهله بالأدلة النافية لذلك وقد ذكر الأشعري في وقوع الرؤية بالأبصار في الدنيا لغير النبي صلى تعالى الله عليه وسلم قولين لكن الذي عليه أهل السنة قاطبة أن الله لم يره أحد بعينيه في الدنيا وقد ذكر الإمام أحمد وغيره اتفاق السلف على هذاالنفي وأنهم لم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وقد سأل موسى عليه السلام الرؤية فمنعها فلا يكون آحاد الناس أفضل من موسى وفي الجملة ليس كل ما قال قائل إنه ممكن مقدور يشك في وقوعه فالأشعرية ومن وافقهم من أتباع الشافعي ومالك وأحمد وإن كانوا يقولون بجواز أمور ممتنعة في العادة في الرؤية فيقولون إنه لا حجاب بين الله وبين العبد إلا عدم خلق الرؤية في العين وكذلك يقولون في سائر المرئيات فكانوا ينفون أن يكون في العين قوة امتازت بها فحصلت بها الرؤية ويمنعون أن يكون بين الأسباب ومسبباتها ملازمة وأن يكون بين

 

الموانع وممنوعاتها ممانعة ويجعلون ذلك كله عادة محضة استندت إلى محض المشيئة ويجوزون خرقها بمحض المشيئة فهم يقولون إنا نعلم انتفاء كثير مما يعلم إمكانه كما نعلم أن البحر لم ينقلب دما ولا الجبال ياقوتا ولا الحيوانات أشجارا بل يجعلون العلم بمثل هذا من العقل الذي يتميز به العاقل عن المجنون وهم وإن كانوا يتناقضون وفي قولهم ماهو باطل عقلا ونقلا فأقوالهم في القدر والصفات والرؤية خير من أقوال المعتزلة وموافقيهم من الشيعة وإن كان الصواب هو ما عليه السلف وأئمة السنة وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور كبار أصحابهم والنصوص المأثورة في ذلك عن الأئمة المذكورين في غير هذا الموضع والبيان التام هو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه أعلمالخلق بالحق وأنصح الخلق للخلق وأفصح الخلق في بيان الحق فما بينه من أسماء الله وصفاته وعلوه ورؤيته هو الغاية في هذا الباب ولله الموفق للصواب.

*

فصل قال الرافضي وذهبت الأشاعرة إلى أن الله أمرنا ونهانا في الأزل ولا مخلوق عنده قائلا يا أيها النبي اتق الله (سورة الأحزاب). يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله (سورة البقرة). يا أيها الناس اتقوا ربكم (سورة النساء). ولو جلس شخص في مكان خال ولا غلام عنده فقال يا سالم قم يا غانم كل يا نجاح ادخل قيل لمن تنادي قال لعبيد أريد أن أشتريهم بعد عشرين سنة نسبه كل عاقل إلى السفه والحمق فكيف يحسن منهم أن ينسبوا إلى الله ذلك في الأزل.

 

*والجواب عن هذا من وجوه...

أحدها: أن يقال هذا قول الكلابية وهم طائفة من الذين يقولون كلام الله غير مخلوق وهؤلاء طائفة من الذين يقولون بإمامة الخلفاء الثلاثة فقولهم سواء كان حقا أو باطلا لا يقتضي صحة مذهب الرافضة ولا بطلان قول اهل السنة والجماعة فهذا القول الذي ذكره إذا كان باطلا فأكثر القائلين بإمامة الخلفاء الثلاثة لا يقولون به لا من يقول القرآن مخلوق كالمعتزلة ولا من يقول هو كلام الله غير مخلوق كالكرامية والسالمية والسلف وأهل الحديث من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم فليس في ذكر مثل هذا حصول مقصود الرافضي.

الوجه الثاني: أن يقال أكثر أئمة الشيعة يقولون القرآن غير مخلوق وهو الثابت عن أئمة أهل البيت وحينئذ فهذا قول من أقوال هؤلاء فإن لم يكن حقا أمكن أن يقال بغيره من أقوالهمالوجه الثالث أن يقال إن كان الكلابية والأشعرية إنما قالوا هذا لموافقتهم المعتزلة في الأصل الذي اضطرهم إلى ذلك فإنهم وافقوهم كما تقدم على صحة دليل حدوث الأجسام فلزمهم أن يقولوا بحدوث ما لا يخلو عن الحوادث ثم قالوا وما يقوم به الحوادث لا يخلو منها فإذا قيل الجسم لم يخل عن الحركة والسكون فإن الجسم إما أن يكون متحركا وإما أن يكون ساكنا قالوا والسكون الأزلي يمتنع زواله لأنه موجود أزلي وكل موجود أزلي يمتنع زواله وكل جسم يجوز عليه الحركة فإذا جاز عليه الحركة وهو أزلي وجب أن تكون حركته أزلية لامتناع زوال السكون الأزلي ولو جاز أن تكون حركته أزلية لزم حوادث لا أول لها وذلك ممتنع فلزم من ذلك أن الباري لا تقوم به الحوادث لأنها لو قامت به لم يخل منها لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها وقد علموا بالأدلة اليقينية أن الكلام يقوم بالمتكلم كما يقوم العلم

 

بالعالم والقدرة بالقادر والحركة بالمتحرك وأن الكلام الذي يخلقه الله في غيره ليس كلاما له بل لذلك المحل الذي خلقه فيه فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل ولم يعد على غيره واشتق لذلك المحل منه اسم ولم يشتق لغيره فلو كان الكلام المخلوق في غيره كلاما له لزم أربعة أمور باطلة ثبوت حكم الصفة والاسم المشتق منها لغير الله وانتفاء الحكم والاسم عن الله لازمان عقليان ولازمان سمعيان يلزمان بكون الكلام صفة لذلك المحل لا لله فيكون هو المنادى بما يقوم به فتكون الشجرة التي خلق فيها نداء موسى هي القائلة إنني أنا الله لا يكون الله هو المنادي بذلك ويلزم أن تسمى هي متكلمة منادية لموسى ويلزم أن لا يكون الله متكلما ولا مناديا ولا مناجياوهذا خلاف ما علم بالاضطرار من دين المسلمين وهذا قد بسط في غير هذا الموضع وقالوا أيضا لو لم يكن متكلما في الأزل لزم اتصافه بنقيض الكلام من السكوت أو الخرس وقالوا أيضا لو كان كلامه مخلوقا لكان إن خلقه في محل كان كلاما لذلك المحل وإن خلقه قائما بنفسه لزم أن تقوم الصفة والعرض بنفسها وإن خلقه في نفسه لزم أن تكون نفسه محلا للمخلوقات وهذه اللوازم الثلاثة باطلة تبطل كونه مخلوقا كما هو مبسوط في غير هذا الموضع فلما ثبت عندهم أن الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم وقد وافقوا المعتزلة على أن الحوادث لا تقوم بالقديم لزم من هذين الأصلين أن يكون الكلام قديما قالوا وقدم الأصوات ممتنع لأن الصوت لا يبقى زمانين فتعين أن يكون القديم معنى ليس بحرف ولا صوت وإذا كان كذلك كان معنى واحد لأنه لو زاد على واحد لم يكن له حد محدود ويمتنع وجود معان لا نهاية لها

 

 

فهذا أصل قولهم فهم يقولون نحن وافقناكم على امتناع أن يقوم بالرب ما هو مراد له مقدور وخالفناكم في كون كلامه مخلوقا منفصلا عنه فلزم ما ذكرتموه من مناقضتنا فإن كان الجمع بين هذين ممكنا لم نكن متناقضين وإن تعذر ذلك لزم خطؤنا في إحدى المسألتين ولم يتعين الخطأ فيما خالفناكم فيه بل قد نكون مخطئين فيما وافقناكم فيه من كون الرب لا يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام يقوم به مع أن إثبات هذا القول هو قول جمهور أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام من المرجئة والكرامية والشيعة وغيرهم بل لعله قول أكثر أهل الطوائف وإن لزم خطؤنا في إحدى المسألتين لا بعينها لا يلزم صوابكم أنتم بل نحن إذا اضطررنا إلى موافقة إحدى الطائفتين كانت موافقتنا لمن يقول إن الرب يتكلم بكلام يقوم به بمشيئته وقدرته خيرا من موافقتنا لمن يقول إن كلامه إنما هو ما يخلقه في غيره فإن فسادهذا القول في الشرع والعقل أظهر من فساد القول بكونه يتكلم بكلام يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته ثم القائلون بأنه يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام يقوم به وهم جمهور المسلمين اختلفوا على قولين منهم قال إنه يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام بعد أن لم يكن الكلام موجودا فيه كما تقوله الكرامية وموافقوهم ومنهم من يقول لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء كما تقوله أئمة أهل السنة والحديث كعبدالله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة أهل السنة والكلابية يقولون لو اضطررنا إلى موافقة من يقول كلامه مخلوق ومن يقول كلامه قائم بذاته وجنس الكلام حادث في ذاته بعد أن لم يكن كلام هؤلاء أخفى فسادا من قول المعتزلة وقول

 

 

المعتزلة أظهر فسادا فإن الحجة النافية لهذا وهو أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده حجة ضعيفة اعترف بضعفها حذاق الطوائف واعترف منصفوهم أنه لا يقوم لهم دليل عقلي بل ولا سمعي على نفي قيام الحوادث به إلا ما ينفي الصفات مطلقا وذلك في غاية الفساد فكيف يمكن أن يصير إلى القول الآخر قول السلف وأهل الحديث وبالجملة فكون الرب لم يزل متكلما إذا شاء كما هو قول أهل الحديث مبني على مقدمتين على أنه تقوم به الأمور الاختيارية وأن كلامه لا نهاية له قال الله تعالى قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا (سورة الكهف). وقال ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم (سورة لقمان).وقد قال غير واحد من العلماء إن مثل هذا الكلام يراد به الدلالةعلى أن كلام الله لا ينقضي ولا ينفد بل لا نهاية له ومن قال إنه يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام يقوم بذاته يقولون إنه لا نهاية له في المستقبل وأما في الماضي فلهم قولان منهم من يقول لها بداية في الماضي وأئمتهم يقولون لا بداية لها في الماضي كما لا نهاية لها في المستقبل وهذا يستلزم وجود ما لا نهاية له أزلا وأبدا من الكلمات والكلام صفة كمال والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل لا يعقل متكلم إلا كذلك ولا يكون الكلام صفة كمال إلا إذا قام بالمتكلم وأما الأمور المنفصلة عن الذات فلا يتصف بها ألبته فضلا عن أن تكون صفة كمال أو نقص قالوا ولم نعرف عن أحد من السلف لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا غيرهم من أئمة المسلمين من أنكر هذا الأصل ولا قال إنه يمتنع وجود كلمات لا نهاية لها لا في الماضي ولا في المستقبل ولا قالوا ما يستلزم امتناع هذا

 

 

وإنما قال ذلك أهل الكلام المحدث المبتدع المذموم عند السلف والأئمة الذين أحدثوا في الإسلام نفي صفات الله وعلوه على خلقه ورؤيته في الآخرة وقالوا إنه لا يتكلم ثم قالوا إنه يتكلم بكلام مخلوق منفصل عن الله قالوا وإنما قلنا ذلك لأنا استدللنا على حدوث العالم بحدوث الأجسام وإنما استدللنا على حدوثها بقيام الحوادث بها وأن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها فلو قلنا إنه تقوم به الصفات والكلام لزم قيام الحوادث به لأنه هذه أعراض حادثة فقال لهم أهل السنة أحدثتم بدعا تزعمون أنكم تنصرون بها الإسلام فلا للإسلام نصرتم ولا لعدوه كسرتم بل سلطتم عليكم أهل الشرع والعقل فالعالمون بنصوص المرسلين يعلمون أنكم خالفتموها وأنكم أهل بدعة وضلالة والعالمون بالمعاني المعقولة يعلمون أنكم قلتم ما يخالف المعقول وأنكم أهل خطأ وجهالةوالفلاسفة الذين زعمتم أنكم تحتجون عليهم بهذه الطريق تسلطوا عليكم بها ورأوا أنكم خالفتم صريح العقل والفلاسفة أجهل منكم بالشرع والعقل في الإلهيات لكن لما ظنوا أن ما جئتم به هو الشرع وقد رأوه يخالف العقل صاروا أبعد عن الشرع والعقل منكم لكن عارضوكم بأدلة عقلية بل وشرعية ظهر بها عجزكم في هذا الباب عن بيان حقيقة الصواب وكان ذلك مما زادهم ضلالا في أنفسهم وتسلطا عليكم ولو سلكتم معهم طريق العارفين بحقيقة المعقول والمنقول لكان ذلك أنصر لكم وأتبع لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنكم كنتم بمنزلة من جاهد الكفار بنوع من الكذب والعدوان وأوهمهم أن هذا يدخل في حقيقة الإيمان فصار ما عرفه أولئك من كذب هؤلاء وعدوانهم مما يوجب القدح فيما ادعوه من إيمانهم ولما رأى أولئك في الملك والرياسة والمال من جنس هذه المخادعة والمحال سلكوا

 

 

طريقا أبلغ في المخادعة والمحال من طرق أولئك المبتدعين الضالين فسلطوا عليهم عقوبة لهم على خروجهم عن الدين قال الله تعالى أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم آل عمران وقال إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم آل عمران وقال وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين آل عمران فما جاء به الرسول حق محض يتصادق عليه صريح المعقول وصحيح المنقول والأقوال المخالفة لذلك وإن كان كثير من أصحابها مجتهدين مغفورا لهم خطؤهم فلا يملكون نصرها بالأدلة العلمية ولا الجواب عما يقدح فيها بالأجوبة العلمية فإن الأدلة العقلية الصحيحة لا تدل إلا على القول الحق والأجوبة الصحيحة المفسدة لحجة الخصم لا تفسدها إلا إذا كانت باطلة فإن ما هو باطل لا يقوم عليه دليل صحيح وما هو حق لا يمكن دفعه بحجة صحيحةوالمقصود هنا أن من قال قولا أصاب فيه من وجه وأخطأ فيه من وجه آخر حتى تناقض في ذلك القول بحيث جمع فيه بين أمرين متناقضين يقول لمن يناقضه بمقدمة جدلية سلمها له تناقضي إنما يدل على خطئي في أحد القولين إما القول الذي سلمته لك وإما القول الذي ألزمتني بالتزامه وهذا لا يدل على صحة قولك بل يمكن أن يكون القول الآخر هو الصواب فالأشعرية العارفون بأن كلام الله غير مخلوق وبأن هذا قول السلف والأئمة وبما دل على ذلك من الأدلة الشرعية والعقلية إذا قيل لهم القول بقدم القرآن ممتنع أمكنهم أن يقولوا هنا قولان آخران لمن يقول أنه غير مخلوق كما تقدم ولا يلزم واحدا من القولين لازم إلا ولازم قول من يقول إنه مخلوق أعظم فسادا فالعاقل لا يكون مستجيرا من الرمضاء بالنار بل إذا انتقل ينتقل من قول مرجوح إلى راجح والذين قالوا إنه يتكلم بمشيئته وقدرته

 

 

بعد أن لم يكن متكلما لا حجة للمعتزلة ونحوهم عليهم إلا حجة نفي الصفات وهي حجة داحضة ولا حجة للكلابية عليهم إلا أن ذلك يستلزم دوام الحوادث لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده ولأن القابلية للحوادث تكون من لوازم ذاته وهذه الحجج مما قد التزم هؤلاء ما هو أضعف منها كما قد بسط في مواضعه واعترف حذاقهم بضعف جميع هذه الحجج العقلية في هذا الباب وأما السمعيات فهي مع المثبتة لا مع النفاة والقول بدوام كونه متكلما إذا شاء وأن الكلام لازم لذات الرب معه من الحجج ما يضيق هذا الموضع عن استقصائها وأي القولين صح أمكن الانتقال إليه والرازي وغيره يقولون إن جميع طوائف العقلاء يلزمهم القول بقيام الحوادث به فإن صح هذا أمكن القول بأنه يتكلم بمشيئته وقدرته وقد بسطنا الكلام على نهايات عقول العقلاء في هذه المسائل ومادل عليه الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة في كتاب درء تعارض العقل والنقل وغير ذلكوبالجملة فما ذكر من الحجة مبنى على أن السكون أمر وجودي وعلى أن الله يصير فاعلا بعد أن لم يكن كذلك فتكون الحوادث غير دائمة ومن المعلوم أن فساد هذين القولين ليس ظاهرا لا سيما وعند التحقيق يظهر صحتهما أو صحة أحدهما وأيهما صح أمكن معه القول بأن الله يتكلم بكلام يقوم به بمشيئته وقدرته قال الأشعرية وإذا كان هذا هو الحق فنحن إذا قلنا إن كلامه يقوم به فليس متعلقا بمشيئته وقدرته قلنا ببعض الحق وتناقضنا فكان هذا خيرا ممن يقول إنه ليس لله كلام إلا ما يخلقه في غيره لما في هذا القول من مخالفة الشرع والعقل الوجه الرابع أن يقال الخطاب لمعدوم لم يوجد بعد بشرط وجوده أقرب إلى العقل من متكلم لا يقوم به كلامه ومن كون الرب مسلوب صفات الكمال لا يتكلم ومن أن يخلق كلاما في غيره فيكون ذلك ليس كلاما لمن خلقه فيه بل لخالقه وهو إذا خلق في غيره حركة كانت الحركة حركة للمحل المخلوقة فيه لا للخالق لها وكذلك سائر

 

 

الأعراض فما خلق الله من عرض في جسم إلا كان صفة لذلك الجسم لا لله تعالى وأما خطاب من لم يوجد بشرط وجوده فإن الموصي قد يوصي بأشياء ويقول أنا آمر الوصي بعد موتي أن يعمل كذا ويعمل كذا فإذا بلغ ولدي فلان يكون هو الوصي وأنا آمره بكذا وكذا بل يقف وقفا يبقى سنين ويأمر الناظر الذي يخلفه بعد بأشياء وأما القائل يا سالم ويا غانم فإن قصد به خطاب حاضر ليس بموجود فهذا قبيح بالاتفاق وأما إن قصد به خطاب من سيكون مثل أن يقول قد أخبرني الصادق أن أمتي تلد غلاما ويسمى غانما فإذا ولدته فهو حر وقد جعلته وصيا على أولادي وأنا آمرك يا غانم بكذا وكذا لم يكن هذا ممتنعا وذلك لأن الخطاب هنا هو لحاضر في العلم وإن كان مفقودا في العين والإنسان يخاطب من يستحضره في نفسه ويتذكر أشخاصا قد أمرهم بأشياء فيقول يا فلان أما قلت لك كذاوالشيعة والسنية يروون عن علي رضي الله عنه أنه لما مر بكربلاء قال صبرا أبا عبد الله صبرا أبا عبدالله يخاطب الحسين لعلمه بأنه سيقتل وهذا قبل أن يحضر الحسين بكربلاء ويطلب قتله والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال وخروجه وأنه قال يا عباد الله اثبتوا وبعد لم يوجد عباد الله أولئك والمسلمون يقولون في صلاتهم السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وليس هو حاضرا عندهم ولكنه حاضر في قلوبهم وقد قال تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (سورة يس). وهذا عند أكثر العلماء هو خطاب يكون لمن يعلمه الرب تعالى في نفسه وإن لم يوجد بعد ومن قال إنه عبارة عن شرعة التكوين فقد خالف مفهوم الخطاب وحمل الآية على ذلك يستدعي استعمال الخطاب في مثل هذا المعنى وأن هذا من اللغة التي نزل بها القرآن وإلا فليس لأحد أن يحمل خطاب الله ورسوله على ما يخطر

 

 

بل القرآن نزل بلغة العرب بل بلغة قريش وقد علمت العادة المعروفة في خطاب الله ورسوله فليس لأحد أن يخرج عنها وبالجملة فنحن ليس مقصودنا هنا نصر قول من يقول القرآن قديم فإن هذا القول أول من عرف أنه قاله في الإسلام أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب واتبعه على ذلك طوائف فصاروا حزبين حزبا يقول القديم هو معنى قائم بالذات وحزبا يقول هو حروف أو حروف وأصوات وقد صار إلى كل من القولين طوائف من المنتسبين إلى السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وليس هذا القول ولا هذا القول قول أحد من الأئمة الأربعة بل الأئمة الأربعة وسائر الأئمة متفقون على أن كلام الله منزل غير مخلوق وقد صرح غير واحد منهم إن الله تعالى متكلم بمشيئته وقدرته وصرحوا بأنه لم يزل متكلما إذا شاء كيف شاء وغير ذلك من الأقوال المنقولة عنهم وهذه المسألة قد تكلم فيها السلف لكن اشتهر النزاع فيها في المحنة المشهورة لما امتحن أئمة الإسلام وكان الذي ثبته الله في المحنة وأقامه لنصر السنة هو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وكلامه وكلام غيره في ذلك موجود في كتب كثيرة وإن كان طائفة من متأخريأصحابه وافقوا بن كلاب على قوله إن القرآن قديم فأئمة أصحابه على نفي ذلك وأن كلامه قديم بمعنى أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته ولهم قولان هل يوصف الله بالسكوت عن كل كلام أو أنه لم يزل متكلما وإنما يوصف بالسكوت عن بعض الأشياء ذكرهما أبو بكر عبدالعزيز وأبو عبدالله بن حامد وغيرهما وأكثر أئمتهم وجمهورهم على أنه لم يزل متكلما إنما يوصف بالسكوت عن بعض الأشياء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه وأحمد وغيره من السلف يقولون إن الله تعالى يتكلم بصوت لكن لم يقل أحد منهم إن ذلك الصوت المعين قديم

 

 

يقولون إن الله تعالى يتكلم بصوت لكن لم يقل أحد منهم إن ذلك الصوت المعين قديم.

*

فصل قال الرافضي وذهب جميع من عدا الإمامية والإسماعيلية إلى أن الأنبياء والأئمة غير معصومين فجوزوا بعثة من يجوز عليه الكذب والسهو والخطأ والسرقة فأي وثوق يبقى للعامة في أقوالهم وكيف يحصل الانقياد إليهم وكيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معين بل كل من بايع قرشيا انعقدت إمامته عندهم ووجب طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال وإن كان على غاية من الكفر والفسوق والنفاق.

*فيقال الكلام على هذا من وجوه...

أحدها: أن يقال ما ذكرته عن الجمهور من نفي العصمة عن الأنبياء وتجويز الكذب والسرقة والأمر بالخطأ عليهم فهذا كذب على الجمهور فإنهم متفقون على أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة ولا يجوز أن يستقر في شيء من الشريعة خطأ باتفاق المسلمين وكل ما يبلغونه عن الله عز وجل من الأمر والنهي يجب طاعته فيه باتفاق المسلمين وما أخبروا به وجب تصديقهم فيه بإجماع المسلمين وما أمروهم به ونهوهم عنه وجبت طاعتهم فيه عند جميع فرق الأمة إلا عند طائفة من الخوارج يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم فيما يبلغه عن الله لا فيما يأمر هو به وينهى عنه وهؤلاء ضلال باتفاق أهل السنة والجماعة، وقد ذكرنا غير مرة أنه إذا كان في بعض المسلمين من قال قولا خطأ لم يكن ذلك قدحا في المسلمين ولو كان كذلك لكان خطأ الرافضة

 

عيبا في دين المسلمين فلا يعرف في الطوائف أكثر خطأ وكذبا منهم وذلك لا يضر المسلمين شيئا فكذلك لا يضرهم وجود مخطىء آخر غير الرافضة وأكثر الناس أو كثير منهم لا يجوزون عليهم الكبائر والجمهور الذي يجوزون الصغائر هم ومن يجوز الكبائر يقولون إنهم لا يقرون عليها بل يحصل لهم بالتوبة منها من المنزلة أعظم مما كان قبل ذلك كما تقدم التنبيه عليه وبالجملة فليس في المسلمين من يقول إنه يجب طاعة الرسول مع جواز أن يكون أمره خطأ بل هم متفقون على أن الأمر الذي يجب طاعته لا يكون إلا صوابا فقوله كيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ قول لا يلزم أحدا من الأمة وللناس في تجويز الخطأ عليهم في الاجتهاد قولان معروفان وهم متفقون على أنهم لا يقرون عليه وإنما يطاعون فيما أقروا عليه لا فيما غيره الله ونهى عنه ولم يأمر بالطاعة فيه

 

 

وأما عصمة الأئمة فلم يقل بها إلا كما قال الإمامية والإسماعيليه وناهيك بقول لم يوافقهم عليه إلا الملاحدة المنافقون الذين شيوخهم الكبار أكفر من اليهود والنصارى والمشركين وهذا دأب الرافضة دائما يتجاوزون عن جماعة المسلمين إلى اليهود والنصارى والمشركين في الأقوال والموالاة والمعاونة والقتال وغير ذلك فهل يوجد أضل من قوم يعادون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ويوالون الكفار والمنافقين وقد قال الله تعالى ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ماهم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يوم يبعثم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا أنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب

 

 

الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز لا نجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا أن حزب الله هم المفلحون (سورة المجادلة). فهذه الآيات نزلت في المنافقين وليس المنافقون في طائفة أكثر منهم في الرافضة حتى أنه ليس في الروافض إلا من فيه شعبة من شعب النفاق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا أؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر أخرجاه في الصحيحين ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون (سورة المائدة).

 

 

وقال تعالى لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا (سورة المائدة). وهم غالبا لا يتناهون عن منكر فعلوه بل ديارهم أكثر البلاد منكرا من الظلم والفواحش وغير ذلك وهم يتولون الكفار الذين غضب الله عليهم فليسوا مع المؤمنين ولا مع الكفار كما قال تعالى ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم (سورة المجادلة). ولهذا هم عند جماهير المسلمين نوع آخر حتى أن المسلمين لما قاتلوهم بالجبل الذي كانوا عاصين فيه بساحل الشام يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقطعون الطريق استحلالا لذلك وتدينا به فقاتلهم صنف من التركمان فصاروا يقولون نحن مسلمون فيقولون لا أنتم جنس آخر فهم بسلامة قلوبهم علموا أنهم جنس آخر خارجون عن المسلمين لامتيازهم عنهم وقد قال الله تعالى ويحلفون على الكذب وهم يعلمون (سورة المجادلة).. وهذا حال الرافضة وكذلك اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إلى قوله لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله الأية (سورة المجادلة). وكثير منهم يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادته للمسلمين ولهذا لما خرج الترك والكفار من جهة المشرق فقاتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم ببلاد خرسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها كانت الرافضة معاونة لهم على قتال المسلمين ووزير بغداد المعروف بالعلقمي هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس معاونة لهم على المسلمين وكذلك الذين كانوا بالشام بحلب وغيرها من الرافضة كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتال المسلمين وكذلك النصارى

 

الذين قاتلهم المسلمون بالشام كانت الرافضة من أعظم أعوانهم وكذلك إذا صار لليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم فهم دائما يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصارى ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم.

ثم إن هذا ادعى عصمة الأئمة دعوى لم يقم عليها حجة إلا ما تقدم من أن الله لم يخل العالم من أئمة معصومين لما في ذلك من المصلحة واللطف ومن المعلوم المتيقن أن هذا المنتظر الغائب المفقود لم يحصل به شيء من المصلحة واللطف سواء كان ميتا كما يقوله الجمهور أو كان حيا كما تظنه الإمامية وكذلك أجداده المتقدمون لم يحصل بهم شيء من المصلحة واللطف الحاصلة من إمام معصوم ذي سلطان كما كان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد الهجرة فإنه كان إمام المؤمنين الذي يجب عليهم طاعته ويحصل بذلك سعادتهم ولم يحصل بعدهأحد له سلطان تدعى له العصمة إلا علي رضي الله عنه زمن خلافته ومن المعلوم بالضرورة أن حال اللطف والمصلحة التي كان المؤمنون فيها زمن الخلفاء الثلاثة أعظم من اللطف والمصلحة الذي كان في خلافة علي زمن القتال والفتنة والافتراق فإذا لم يوجد من يدعي الإمامية فيه أنه معصوم وحصل له سلطان بمبايعة ذي الشوكة إلا علي وحده وكان مصلحة المكلفين واللطف الذي حصل لهم في دينهم ودنياهم في ذلك الزمان أقل منه في زمن الخلفاء الثلاثة علم بالضرورة أن ما يدعونه من اللطف والمصلحة الحاصلة بالأئمة المعصومين باطل قطعا وهو من جنس الهدى والإيمان الذي يدعى في رجال الغيب بجبل لبنان وغيره من الجبال مثل جبل قاسيون بدمشق ومغارة الدم وجبل الفتح بمصر ونحو ذلك من الجبال والغيران فإن

 

 

هذه المواضع يسكنها الجن ويكون بها الشياطين ويتراءون أحيانا لبعض الناس ويغيبون عن الأبصار في أكثر الأوقات فيظن الجهال أنهم رجال من الإنس وإنما هم رجال من الجن كما قال تعالى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا (سورة الجن). وهؤلاء يؤمن بهم وبمن ينتحلهم من المشايخ طوائف ضالون لكن المشايخ الذين ينتحلون رجال الغيب لا يحصل بهم من الفساد ما يحصل بالذين يدعون الإمام المعصوم بل المفسدة والشر الحاصل في هؤلاء أكثر فإنهم يدعون الدعوة إلى إمام معصوم ولا يوجد لهم أئمة ذوو سيف يستعينون بهم إلا كافر أو فاسق أو منافق أو جاهل لا تخرج رؤوسهم عن هذه الأقسام والإسماعيلية شر منهم فإنهم يدعون إلى الإمام المعصوم ومنتهى دعوتهم إلى رجال ملاحدة منافقين فساق ومنهم من هو شر في الباطن من اليهود والنصارى فالداعون إلى المعصوم لا يدعون إلى سلطان معصوم بل إلى سلطان كفور أو ظلوم وهذا أمر مشهور يعرفه كل من له خبرة بأحوالهم وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأوليالأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وذلك خير وأحسن تأويلا (سورة النساء). فأمر الله المؤمنين عند التنازع بالرد إلى الله والرسول ولو كان للناس معصوم غير الرسول صلى الله عليه وسلم لأمرهم بالرد إليه فدل القرآن على أنه لا معصوم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.

*

فصل وأما قوله ولم يجعلوا الائمة محصورين في عدد معين.... فهذا حق وذلك أن الله تعالى قال يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (سورة النساء). ولم يوقتهم بعدد معين وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الثابتة عنه المستفيضة لم يوقت ولاة الأمور في عدد معين ففي الصحيحين عن أبي ذر قال إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف

 

وفي صحيح مسلم عن أم الحصين أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى أو بعرفات في حجة الوداع يقول لو استعمل عليكم عبد أسود مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا وروى البخاري عن أنس بن مالك قال قال رسول صلى الله عليه وسلم اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.

وفي الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان. وفي البخاري ما بقي منهم اثنان.

وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة قال دخلت مع أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول إن هذا الأمر ما ينقضي حتى يمضي منهم اثنا عشر خليفة ثم تكلم بكلمة خفيفة لم أفهمها أو قال خفيت علي فقلت لأبي ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلهم من قريش.

وفي لفظ في الصحيحين قال لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة.

وفي الصحيحين عن جابرأيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر أمير كلهم من قريش.

وفي الصحيحين عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إلي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة عشية رجم الأسلمي قال لا يزال هذا الدين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم.

 

وعن جابر بن عبد الله قال قال النبي صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش في الخير والشر.

وفي البخاري عن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحدا إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين خرجه في باب الأمراء من قريش.

*

فصل وأما قوله عنهم كل من بايع قرشيا انعقدت إمامته ووجبت طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال وإن كان على غاية من الفسق والكفر والنفاق.

*فجوابه من وجوه ...

أحدها: أن هذا ليس قول أهل السنة والجماعة وليس مذهبهم أنه بمجرد مبايعة واحد قرشي تنعقد بيعته ويجب على جميع الناس طاعته وهذا وإن كان قد قاله بعض أهل الكلام فليس هو قول أئمة أهل السنة والجماعة بل قد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بايع رجلا بغير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا الحديث رواه البخاري وسيأتي بكماله إن شاء الله تعالى

 

الوجه الثاني: أنهم لا يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة فلا يجوزون طاعته في معصية الله وإن كان إماما عادلا وإذا أمرهم بطاعة الله فأطاعوه مثل أن يأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصدق والعدل والحج والجهاد في سبيل الله فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله والكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعة الله ولا يسقط وجوبها لأجل أمر ذلك الفاسق بها كما أنه إذا تكلم بحق لم يجز تكذيبه ولا يسقط وجوب اتباع الحق لكونه قد قاله فاسق فأهل السنة لا يطيعون ولاة الأمور مطلقا إنما يطيعونهم في ضمن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (سورة النساء). فأمر بطاعة الله مطلقا وأمر بطاعة الرسول لأنه لا يأمر إلا بطاعة الله ومن يطع الرسول فقد أطاع الله وجعل طاعة أولي الأمر داخلة في ذلك فقال وأولي الأمر منكم ولم يذكر لهم طاعة ثالثة لأن ولي الأمر لا يطاع طاعة مطلقة إنما يطاع في المعروفكما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما الطاعة في المعروف وقال لا طاعة في معصية الله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقال ومن أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه

 

وقول هؤلاء الرافضة المنسوبين إلى شيعة علي رضي الله عنه أنه تجب طاعة غير الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقا في كل ما أمر به أفسد من قول من كان منسوبا إلى شيعة عثمان رضي الله عنه من أهل الشام أنه يجب طاعة ولي الامر مطلقا فإن أولئك كانوا يطيعون ذا السلطان وهو موجود وهؤلاء يوجبون طاعة معصوم مفقود وأيضا فأولئك لم يكونوا يدعون في أئمتهم العصمة التي تدعيها الرافضة بل كانوا يجعلونهم كالخلفاء الراشدين وأئمة العدل الذين يقلدون فيما لم تعرف حقيقة أمره أو يقولون إن الله يقبل منهم الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات وهذا أهون ممن يقول إنهم معصومون لا يخطئون فتبين أن هؤلاء المنسوبين إلى النصب من شيعة عثمان وإن كانفيهم خروج عن بعض الحق والعدل فخروج الإمامية عن الحق والعدل أكثر وأشد فكيف بقول أئمة السنة الموافق للكتاب والسنة وهو الأمر بطاعة ولي الأمر فيما يأمر به من طاعة الله دون ما يأمر به من معصية الله.

الوجه الثالث: أن يقال إن الناس قد تنازعوا في ولي الأمر الفاسق والجاهل هل يطاع فيما يأمر به من طاعة الله وينفذ حكمه وقسمه إذا وافق العدل أو لا يطاع في شيء ولا ينفذ شيء من حكمه وقسمه أو يفرق في ذلك بين الإمام الأعظم وبين القاضي ونحوه من الفروع على ثلاثة أقوال أضعفها عند أهل السنة هو رد جميع أمره وحكمه وقسمه وأصحها عند أهل الحديث وأئمة الفقهاء هو القول الأول وهو أن يطاع في طاعة الله مطلقا وينفذ حكمه وقسمه إذا كان فعله عدلا مطلقا حتى أن القاضي الجاهل والظالم ينفذ حكمه بالعدل وقسمه بالعدل على هذا القول كما هو قول أكثر الفقهاء والقول الثالث هو الفرق بين الإمام الأعظم وبين غيره لأن ذلك لا يمكن عزله إذا فسق إلا بقتال وفتنة بخلاف الحاكم ونحوه فإنه

 

يمكن عزله بدون ذلك وهو فرق ضعيف فإن الحاكم إذا ولاه ذو الشوكة لا يمكن عزله إلا بفتنة ومتى كان السعي في عزله مفسدة أعظم من مفسدة بقائه لم يجز الإتيان بأعظم الفسادين لدفع أدناهما وكذلك الإمام الأعظم ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته والله تعالى لم يأمر بقتال كل ظالم وكل باغ كيفما كان ولا أمر بقتال الباغين ابتداء بل قال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل (سورة الحجرات). فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء فكيف يأمر بقتال ولاة الأمر ابتداء

 

 

وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سيكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برىء ومن أنكر سلم ولكن رضي وتابع قالوا أفلا نقاتلهم قال لا ماصلوا فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتالهم مع إخباره أنهم يأتون أمورا منكرة فدل على أنه لا يجوز الإنكار عليهم بالسيف كما يراه من يقاتل ولاة الأمر من الخوارج والزيدية والمعتزلة وطائفة من الفقهاء وغيرهم وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الامراء يظلمون ويفعلون أمورا منكرة ومع هذا فأمرنا أن نؤتيهم الحق الذي لهم ونسأل الله الحق الذي لنا ولم يأذن في أخذ الحق بالقتال ولم يرخص في ترك الحق الذي لهم وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلىالله عليه وسلم قال من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية وفي لفظ فإنه من خرج من السلطان شبرا فمات مات ميتة جاهلية واللفظ للبخاري وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أنهم لا يهتدون بهديه ولا يستنون بسنته قال حذيفة كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك قال تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع فهذا أمر بالطاعة مع ظلم الأمير

 

 

وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم من ولى عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا عن طاعة وهذا نهي عن الخروج عن السلطان وإن عصى وتقدم حديث عبادة بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال إلا إن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان وفي رواية وأن نقول أو نقوم بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم فهذاأمر بالطاعة مع استئثار ولي الأمر وذلك ظلم منه ونهى عن منازعة الأمر أهله وذلك نهي عن الخروج عليه لأن أهله هم أولو الأمر الذين أمر بطاعتهم وهم الذين لهم سلطان يأمرون به وليس المراد من يستحق أن يولى ولا سلطان له ولا المتولى العادل لأنه قد ذكر أنهم يستأثرون فدل على أنه نهى عن منازعة ولي الأمر وإن كان مستأثرا وهذا باب واسع.

الوجه الرابع: أنا إذا قدرنا أنه يشترط العدل في كل متول فلا يطاع إلا من كان ذا عدل لا من كان ظالما فمعلوم أن اشترط العدل في الولاة ليس بأعظم من اشتراطه في الشهود فإن الشاهد قد يخبر بما لا يعلم فإن لم يكن ذا عدل لم يعرف صدقه فيما أخبر به وأما ولي الأمر فهو يأمر بأمر يعلم حكمه من غيره فيعلم هل هو طاعة لله أو معصية

 

ولهذا قال تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا (سورة الحجرات). فأمر بالتبين إذا جاء الفاسق بنبأ ومعلوم أن الظلم لا يمنع من فعل الطاعة ولا من الأمر بها وهذا مما يوافق عليه الإمامية فإنهم لا يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار فالفسق عندهم لا يحبط الحسنات كلها بخلاف من خالف في ذلك من الزيدية والمعتزلة والخوارج الذين يقولون إن الفسق يحبط الحسنات كلها ولو حبطت حسناته كلها لحبط إيمانه ولو حبط إيمانه لكان كافرا مرتدا فوجب قتله ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل بل يقام عليه الحد فدل على أنه ليس بمرتد وكذلك قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما الأية (سورة الحجرات). يدل على وجود الإيمان والأخوة مع الاقتتال والبغيوقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من كانت عنده لأخيه مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار أخرجاه في الصحيحين فثبت أن الظالم يكون له حسنات فيستوفي المظلوم منها حقه وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما تعدون المفلس فيكم قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار قال المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال وقد شتم هذا وأخذ مال هذا وسفك دم هذا وقذف هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت

 

 

حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار رواه مسلم وقد قال تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات (سورة هود). فدل ذلك على أنه في حال إساءته يفعل حسنات تمحو إساءاته وإلا لو كانت السيئات قد زالت قبل ذلك بتوبة ونحوها لم تكن الحسنات قد أذهبتها وليس هذا موضع بسط ذلك والمقصود هنا أن الله جعل الفسق مانعا من قبل النبأ والفسق ليس مانعا من فعل كل حسنة وإذا كان كذلك وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنه لا يستشهد إلا ذوو العدل ثم يكفي في ذلك الظاهر فإذا اشترط العدل في الولاية فلأن يكفي في ذلك الظاهر أولى فعلم أنه لا يشترط في الولاية من العلم والعدالة أكثر مما يشترط فيالشهادة يبين ذلك أن الإمامية وجميع الناس يجوزون أن يكون نواب الإمام غير معصومين وأن لا يكون الإمام عالما بعصمتهم بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط ثم أخبره بمحاربة الذين أرسله إليهم فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (سورة الحجرات). وعلي رضي الله عنه كان كثير من نوابه يخونه وفيهم من هرب عنه وله مع نوابه سير معلومة فعلم أنه ليس في كون الإمام معصوما ما يمنع اعتبار الظاهر ووجود مثل هذه المفاسد وأن اشتراط العصمة في الأئمة شرط ليس بمقدور ولا مأمور ولم يحصل به منفعة لا في الدين ولا في الدنيا

 

 

مثل كثير من النساك الذين يشترطون في الشيخ أن يعلم أمورا لا يكاد يعلمها أحد من البشر فيصفون الشيخ بصفات من جنس صفات المعصوم عند الإمامية ثم منتهى هؤلاء اتباع شيخ جاهل أو ظالم واتباع هؤلاء لمتول ظالم أو جاهل مثل الذي جاع وقال لا يأكل من طعام البلد حتى يحصل له مثل طعام أهل الجنة فخرج إلى البرية فصار لا يحصل له إلا علف البهائم فبينا هو يدعو إلى مثل طعام الجنة انتهى أمره إلى علف الدواب كالكلأ النابت في المباحات وهكذا من غلا في الزهد والورع حتى خرج عن حد العدل الشرعي ينتهي أمره إلى الرغبة الفاسدة وانتهاك المحارم كما قد رؤي ذلك وجرب.

*

فصل قال الرافضي وذهب الجميع منهم إلى القول بالقياس والأخذ بالرأي فأدخلوا في دين الله ما ليس منهوحرفوا أحكام الشريعة وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زمن صحابته وأهملوا أقاويل الصحابة مع أنهم نصوا على ترك القياس وقالوا أول من قاس إبليس.

*فيقال الجواب عن هذا من وجوه...

أحدها: أن دعواه على جميع أهل السنة المثبتين لإمامة الخلفاء الثلاثة أنهم يقولون بالقياس دعوى باطلة فقد عرف فيهم طوائف لا يقولون بالقياس كالمعتزلة البغداديين وكالظاهرية كداود وابن حزم وغيرهما وطائفة من أهل الحديث والصوفية وأيضا ففي الشيعة من يقول بالقياس كالزيدية فصار النزاع فيه بين الشيعة كما هو بين أهل السنة والجماعة.

 

الثاني: أن يقال القياس ولو قيل إنه ضعيف هو خير من تقليد من لم يبلغ في العلم مبلغ المجتهدين فإن كل من له علم وإنصاف يعلم أن مثل مالك والليث بن سعد والأوزاعي وأبي حنيفة والثوري وابن أبي ليلى ومثل الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور أعلم وأفقه من العسكريين وأمثالهما وأيضا فهؤلاء خير من المنتظر الذي لا يعلم ما يقول فإن الواحد من هؤلاء إن كان عنده نص منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا ريب أنلا النص الثابت عن النبي مقدم على القياس بلا ريب وإن لم يكن عنده نص ولم يقل بالقياس كان جاهلا فالقياس الذي يفيد الظن خير من الجهل الذي لا علم معه ولا ظن فإن قال هؤلاء كل ما يقولونه هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم كان هذا أضعف من قول من قال كل ما يقوله المجتهد فإنه قول النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا يقوله طائفة من أهل الرأي وقولهم أقرب من قول الرافضة فإن قول أولئك كذب صريح وأيضا فهذا كقول من يقول عمل أهل المدينة متلقى عنالصحابة وقول الصحابة متلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم وقول من يقول ما قاله الصحابة في غير مجاري القياس فإنه لا يقوله إلا توقيفا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقول من يقول قول المجتهد أو الشيخ العارف هو إلهام من الله ووحي يجب اتباعه فإن قال هؤلاء تنازعوا قيل وأولئك تنازعوا فلا يمكن أن يدعى دعوى باطلة إلا أمكن معارضتهم بمثلها أو بخير منها ولا يقولون حقا إلا كان في أهل السنة والجماعة من يقول مثل ذلك الحق أو ما هو خير منه فإن البدعة مع السنة كالكفر مع الإيمان وقد قال تعالى ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا (سورة الفرقان).

 

الثالث: أن يقال الذين أدخلوا في دين الله ما ليس منه وحرفوا أحكام الشريعة ليسوا في طائفة أكثر منهم في الرافضة فإنهم أدخلوا في دين الله من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكذبه غيرهم وردوا من الصدق ما لم يرده غيرهم وحرفوا القرآن تحريفا لم يحرفه غيرهم مثل قولهم إن قوله تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (سورة المائدة). نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة وقوله تعالى مرج البحرين (سورة الرحمن). علي وفاطمة يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (سورة الرحمن). الحسن والحسين وكل شيء أحصيناه في إمام مبين (سورة يس). علي بن أبي طالب إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وعمران (سورة آل عمران). هم آل أبي طالب وإسم أبي طالب عمران فقاتلوا أئمة الكفر (سورة التوبة). طلحة والزبير والشجرة الملعونة في القرآن (سورة الإسراء).هم بنو أمية إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة (سورة البقرة). عائشة و لئن أشركت ليحبطن عملك (سورة الزمر). لئن اشركت بين أبي بكر وعلي في الولاية وكل هذا وأمثاله وجدته في كتبهم ثم من هذا دخلت الإسماعيليه والنصيرية في تأويل الواجبات والمحرمات فهم أئمة التأويل الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه ومن تدبر ما عندهم وجد فيه من الكذب في المنقولات والتكذيب بالحق منها والتحريف لمعانيها ما لا يوجد في صنف من المسلمين فهم قطعا أدخلوا في دين الله ما ليس منه أكثر من كل أحد وحرفوا كتابه تحريفا لم يصل غيرهم إلى قريب منه.

الوجه الرابع: قوله وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زمن صحابته وأهملوا أقاويل الصحابة، فيقال له متى كان مخالفة الصحابة والعدول عن أقاويلهم منكرا

 

عند الإمامية وهؤلاء متفقون على محبة الصحابة وموالاتهم وتفضيلهم على سائر القرون وعلى أن إجماعهم حجة وعلى أنه ليس لهم الخروج عن إجماعهم بل عامة الأئمة المجتهدين يصرحون بأنه ليس لنا أن نخرج عن أقاويل الصحابة فكيف يطعن عليهم بمخالفة الصحابة من يقول إن إجماع الصحابة ليس بحجة وينسبهم إلى الكفر والظلم فإن كان إجماع الصحابة حجة فهو حجة على الطائفتين وإن لم يكن حجة فلا يحتج به عليهم وإن قال أهل السنة يجعلونه حجة وقد خالفوه قيل أما أهل السنة فلا يتصور أن يتفقوا على مخالفة إجماع الصحابة وأما الإمامية فلا ريب أنهم متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية مع مخالفة إجماع الصحابة فإنه لم يكن في العترة النبوية بنو هاشم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكروعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم من يقول بإمامة الإثني عشر ولا بعصمة أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا بكفر الخلفاء الثلاثة بل ولا من يطعن في إمامتهم بل ولا من ينكر الصفات ولا من يكذب بالقدر فالإمامية بلا ريب متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية مع مخالفتهم لإجماع الصحابة فكيف ينكرون على من لم يخالف لا إجماع الصحابة ولا إجماع العترة.

الوجه الخامس: أن قوله أحدثوا مذاهب أربعة لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أراد بذلك أنهم اتفقوا على أن يحدثوا هذه المذاهب مع مخالفة الصحابة فهذا كذب عليهم فإن هؤلاء الأئمة لم يكونوا في عصر واحد بل أبو حنيفة توفي سنة خمسين ومائة ومالك سنة تسع وسبعين ومائة والشافعي سنة أربع ومائتين وأحمدبن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين وليس في هؤلاء

 

من يقلد الآخر ولا من يأمر باتباع الناس له بل كل منهم يدعو إلى متابعة الكتاب والسنة وإذا قال غيره قولا يخالف الكتاب والسنة عنده رده ولا يوجب على الناس تقليده وإن قلت إن أصحاب هذه المذاهب اتبعهم الناس فهذا لم يحصل بموطأة بل اتفق أن قوما اتبعوا هذا وقوما اتبعوا هذا كالحجاج الذين طلبوا من يدلهم على الطريق فرأى قوم هذا دليلا خبيرا فاتبعوه وكذلك الآخرون وإذا كان كذلك لم يكن في ذلك اتفاق أهل السنة على باطل بل كل قوم منهم ينكرون ما عند غيرهم من الخطأ فلم يتفقوا على أن الشخص المعين عليه أن يقبل من كل هؤلاء ما قاله بل جمهورهم لا يأمرون العامي بتقليد شخص معين غير النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يقوله والله تعالى قد ضمن العصمة للأمة فمن تمام العصمة أن يجعلعددا من العلماء إن أخطأ الواحد منهم في شيء كان الآخر قد أصاب فيه حتى لا يضيع الحق ولهذا لما كان في قول بعضهم من الخطأ مسائل كبعض المسائل التي اوردها كان الصواب في قول الآخر فلم يتفق أهل السنة على ضلالة أصلا وأما خطأ بعضهم في بعض الدين فقد قدمنا غير مرة أن هذا لا يضر كخطأ بعض المسلمين وأما الشيعة فكل ما خالفوا فيه أهل السنة كلهم فهم مخطئون فيه كما أخطأ اليهود والنصارى في كل ما خالفوا فيه المسلمين.

الوجه السادس: أن يقال قوله إن هذه المذاهب لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة إن أراد أن الأقوال التي لهم لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة بل تركوا قول النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وابتدعوا خلاف ذلك فهذا كذب عليهم فإنهم لم يتفقوا على مخالفة الصحابة بل هم وسائر أهل السنة متبعون للصحابة في أقوالهم وإن قدر أن بعض أهل السنة خالف الصحابة لعدم علمه بأقاويلهم فالباقون يوافقونهم ويثبتون خطأ من يخالفهم وإن أراد أن نفس أصحابها لم

 

يكونوا في ذلك الزمان فهذا لا محذور فيه فمن المعلوم أن كل قرن يأتي يكون بعد القرن الأول.

الوجه السابع: قوله وأهملوا أقاويل الصحابة كذب منه بل كتب أرباب المذاهب مشحونة بنقل أقاويل الصحابة والاستدلال بها وإن كان عند كل طائفة منها ما ليس عند الأخرى وإن قال أردت بذلك أنهم لا يقولون مذهب أبي بكر وعمر ونحو ذلك فسبب ذلك أن الواحد من هؤلاء جمع الآثار وما استنبطه منها فأضيف ذلك إليه كما تضاف كتب الحديث إلى من جمعها كالبخاري ومسلم وأبي داود وكما تضاف القراءات إلى من اختارها كنافع وابن كثير وغالب ما يقوله هؤلاء منقول عمن قبلهم وفي قول بعضهم ما ليس منقولا عمن قبله لكنه استنبطه من تلك الاصول ثم قد جاء بعده من تعقب أقواله فبين منها ما كان خطأ عنده كل ذلك حفظا لهذا الدين حتى يكون أهله كما وصفهم الله به يأمرونبالمعروف وينهون عن المنكر (سورة التوبة). فمتى وقع من أحدهم منكر خطأ أو عمدا أنكره عليه غيره وليس العلماء بأكثر من الأنبياء وقد قال تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما (سورة الأنبياء). وثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه عام الخندق لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم صلاة العصر في الطريق فقال بعضهم لم يرد منا تفويت الصلاة فصلوا في الطريق وقال بعضهم لا نصلي إلا في بني قريظة فصلوا العصر بعد ما غربت الشمس فما عنف واحدة من الطائفتين فهذا دليل على أن

 

المجتهدين يتنازعون في فهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كل واحد منهم آثما.

الوجه الثامن: أن أهل السنة لم يقل أحد منهم إن إجماع الأئمة الأربعة حجة معصومة ولا قال إن الحق منحصر فيها وإن ما خرج عنها باطل بل إذا قال من ليس من أتباع الأئمة كسفيان الثوري والأوزعي والليث بن سعد ومن قبلهم ومن بعدهم من المجتهدين قولا يخالف قول الأئمة الأربعة رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله وكان القول الراجح هو القول الذي قام عليه الدليل.

الوجه التاسع: قوله الصحابة نصوا على ترك القياس يقال له الجمهور الذين يثبتون القياس قالوا قد ثبت عن الصحابة أنهم قالوا بالرأي واجتهاد الرأي وقاسوا كما ثبت عنهم ذم ماذموه من القياس قالوا وكلا القولين صحيح فالمذموم القياس المعارض للنص كقياس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا وقياس إبليس الذي عارض به أمر الله له بالسجود لآدم وقياس المشركين الذين قالوا أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله قال الله تعالى وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون (سورة الأنعام). وكذلك القياس الذي لا يكون الفرع فيه مشاركا للأصل في مناط الحكم فالقياس يذم إما لفوات شرطه وهو عدم المساواة في مناط الحكم وإما لوجود مانعه وهوالنص الذي يجب تقديمه عليه وإن كانا متلازمين في نفس الأمر فلا يفوت الشرط إلا والمانع موجود ولا يوجد المانع إلا والشرط مفقود فأما القياس الذي يستوي فيه الأصل والفرع في مناط الحكم ولم يعارضه ما هو أرجح منه فهذا هو القياس الذي يتبع ولا ريب أن القياس فيه فاسد وكثير من الفقهاء قاسوا أقيسة فاسدة

 

بعضها باطل بالنص وبعضها مما أتفق السلف على بطلانه لكن بطلان كثير من القياس لا يقتضي بطلان جميعه كما أن وجود الكذب في كثير من الحديث لا يوجب كذب جميعه ومدار القياس على أن الصورتين يستويان في موجب الحكم ومقتضاه فمتى كان كذلك كان القياس صحيحا لا شك ولكن قد يظن القايس ما ليس مناط الحكم مناطا فيغلط ولهذا كان عمدة القياس عند القايسين على بيان تأثير المشترك الذي يسمونه جواب سؤال المطالبة وهو أن يقال لا نسلم أن علة الحكم في الأصل هو الوصف المشترك بين الأصل والفرع حتى يلحق هذا الفرع به فإن القياس لا تثبت صحته حتى تكون الصورتان مشتركتين في المشترك المستلزم للحكم إما في العلة نفسها وإما في دليل العلة تارة بإبداء الجامع وتارة بإلغاء الفارق فإذا عرف أنه ليس بين الصورتين فرق يؤثر علم استواؤهما في الحكم وإن لم يعلم عين الجامع وهم يثبتون قياس الطرد وهو إثبات مثل حكم الأصل في الفرع لاشتراكهما في مناط الحكم وقياس العكس وهو نفي حكم الأصل عن الفرع لافتراقهما في مناط الحكم فهذا يفرق بينهما لأن العلة المثبتة للحكم في الأصلمنتفية في الفرع وذاك يجمع بينهما لوجود العلة المثبتة في الفرع وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.

*

فصل قال الرافضي وذهبوا بسبب ذلك إلى أمور شنيعة كإباحة البنت المخلوقة من الزنا. وسقوط الحد عمن نكح أمه أو أخته أو بنته مع علمه بالتحريم والنسب بواسطة عقد يعقده وهو يعلم بطلانه وعمن لف على ذكره خرقه وزنى بأمه أو بنته. وعن اللائط مع أنه أفحش من الزنا وأقبح وإلحاق نسب المشرقية بالمغربي فإذا زوج الرجل ابنته وهي في المشرق برجل هو وأبوها في المغرب ولم يفترقا ليلا ولا نهارا حتى مضت مدة ستة أشهر فولدت البنت في المشرق التحق الولد بالرجل وهو وأبوها في المغرب

 

مع أنه لا يمكنه الوصول إليها إلا بعد سنين متعددة بل لو حبسه السلطان من حين العقد وقيده وجعل عليه حفظة مدة خمسين سنة ثم وصل إلى بلد المرأة فرأى جماعة كثيرة من أولادها وأولاد أولادها إلى عدة بطون التحقوا كلهم بالرجل الذي لم يقرب هذه المرأة ولا غيرها ألبتة وإباحة النبيذ مع مشاركته الخمر في الإسكار والوضوء به والصلاة في جلد الكلب وعلى العذرة اليابسة وحكى بعض الفقهاء لبعض الملوك وعنده بعض فقهاء الحنفية صفة صلاة الحنفي فدخل دارا مغصوبة وتوضأ بالنبيذ وكبر وقرأ بالفارسية من غير نية وقرأ مدهامتان (سورة الرحمن). لا غير بالفارسية ثم طأطأ رأسه من غير طمأنينة وسجد كذلك ورفع رأسه بقدر حد السيف ثم سجد وقام ففعل كذلك ثانية ثم أحدث في مقام التسليم فتبرأ الملك وكان حنفيا من هذا المذهب وأباحوا المغصوب لو غير الغاصب الصفة فقالوا لو أن سارقا دخل بدار شخص له فيه دواب ورحى وطعام فطحن السارق الطعام بالدواب والأرحية ملك ذلك الطحين بذلك فلو جاء المالك ونازعه كان المالك ظالما والسارق مظلوما فلو تقاتلا فإن قتل المالك كان هدرا وإن قتل السارق كان شهيدا وأوجبوا الحد على الزانى إذا كذب الشهود وأسقطوه إذا صدقهم فأسقط الحد مع إجتماع الإقرار والبينة وهذا

 

ذريعة إلى إسقاط حدود الله تعالى فإن كل من شهد عليه بالزنا فصدق الشهود يسقط عنه الحد وإباحة أكل الكلب واللواط بالعبيد وإباحة الملاهي كالشطرنج والغناء وغير ذلك من المسائل التي لا يحتملها هذا المختصر.

*والجواب من وجوه...

أحدها: أنه في هذه المسائل ما هو كذب على جميع أهل السنة، وأما سائرها فليس في هذه المسائل مسألة إلا وجمهور أهل السنة على خلافه،ا وإن كان قد قالها بعضهم فإن كان قوله خطأ فالصواب مع غيره من أهل السنة، وإن كان صوابا فالصواب مع أهل السنة أيضا فعلى التقديرين لا يخرج الصواب عن قول أهل السنة.

الثاني: أن يقال الرافضة يوجد فيهم من المسائل ما لا يقوله مسلم يعرف دين الإسلام منها ما يتفقون عليه ومنها ما يقوله بعضهم مثل ترك الجمعة والجماعة، فيعطلون المساجد التي أمرالله أن ترفع ويذكر فيها اسمه عن الجمعة والجماعات ويعمرون المشاهد التي حرم الله ورسوله بناءها ويجعلونها بمنزلة دور الأوثان. ومنهم من يجعل زيارتها كالحج كما صنف المفيد كتاب سماه مناسك حج المشاهد، وفيه من الكذب والشرك ما هو من جنس كذب النصارى وشركهم ومنها تأخير صلاة المغرب مضاهاة لليهود. ومنها وتحريم ذبائح أهل الكتاب وتحريم نوع من السمك، وتحريم بعضهم لحم الجمل، واشتراط بعضهم في الطلاق الشهود على الطلاق. وإيجابهم أخذ خمس مكاسب المسلمين، وجعلهم الميراث كله للبنت دون العم وغيره من العصبة. والجمع الدائم بين الصلاتين ومثل صوم بعضهم بالعدد لا بالهلال يصومون قبل الهلال ويفطرون قبله. ومثل ذلك من الأحكام التي يعلم علما يقينيا أنها خلاف دين المسلمين الذي

 

بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتابه. وقد قدمنا ذكر بعض أمورهم التي هي من أظهر الأمور إنكارا في الشرع والعقل ولهم مقالات باطلة، وإن كان قد وافقهم عليها بعض المتقدمين مثل إحلال المتعة وأن الطلاق المعلق بالشرط لا يقع وإن قصد إيقاعه عند الشرط، وأن الطلاق لا يقع بالكنايات وأنه يشترط فيه الإشهاد.

الثالث: أن يقال هذه المسائل لها مأخذ عند من قالها من الفقهاء وإن كانت خطأ عند جمهورهم فأهل السنة أنفسهم يثبتون خطأها فلا يخرج بيان الصواب عنهم، كما لا يخرج الصواب عنهم، فالمخلوقات من ماء الزنا يحرمها جمهورهم كأبي حنيفة وأحمد ومالك في أظهر الروايتين. وحكى ذلك قولا للشافعي وأحمد لم يكن يظن أن في هذه المسائل نزاعا حتى أفتى بقتل من فعل ذلك، والذين قالوها كالشافعي وابن الماجشون رأوا النسب منتفيا لعدم الإرث فانتفت أحكامه كلها والتحريم من أحكامه والذين أنكروها قالوا أحكام الأنساب تختلف فيثبت لبعض الأنساب من الأحكام ما لا يثبت لبعض. فباب التحريم يتناول ما شمله اللفظ ولو مجازا حتى تحرم بنت البنت بل يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فالمخلوقة من مائه أولى بالتحريم، بخلاف الإرث فإنه يختص بمن ينسب إلى الميت من ولده فيثبت لولد البنين دون ولد البنات وأما عقده على ذوات المحارم فأبو حنيفة جعل ذلك شبهة تدرأ الحد لوجود صورة العقد وأما جمهور الفقهاء فلم يجعلوا ذلك شبهة بل قالوا هذا مما يوجب تغليظ الحد وعقوبه لكونه فعل محرمين العقد والوطء.

 

وكذلك اللواط أكثر السلف يوجبون قتل فاعله مطلقا وإن لم يكن محصنا وقيل إن ذلك إجماع الصحابة وهو مذهب أهل المدينة كمالك وغيره ومذهب أحمد في أصح الروايتين عنه والشافعي في أحد قوليه وعلى هذا القول يقتل المفعول به مطلقا إذا كان بالغا والقول الآخر أن حده حد الزاني وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي وأحمد في أحد قوليهما. وإذا قيل الفاعل كالزاني فقيل يقتل المفعول به مطلقا وقيل لا يقتل وقيل بالفرق كالفاعل وسقوط الحد من مفردات أبي حنيفة وأما إلحاق النسب في تزويج المشرقية بالمغربي فهذا أيضا من مفاريد أبي حنيفة وأصله في هذا الباب أن النسب عنده يقصد به المال فهو يقسم المقصود به فإذا ادعت امرأتان ولدا ألحقه بهما بمعنى أنهما يقتسمان ميراثه لا بمعنى أنه خلق منهما وكذلك فيما إذا طلق المرأة قبل التمكن من وطئها فجعل الولد له بمعنى أنهما يتوارثان لا بمعنى أنه خلق من مائهوحقيقة مذهبه أنه لا يشترط في الحكم بالنسب ثبوت الولادة الحقيقية بل الولد عنده للزوج الذي هو للفراش مع قطعه أنه لم يحبلها وهذا كما أنه إذا طلق إحدى امرأتيه ومات ولم تعرف المطلقة فإنه يقسم الميراث بينهما وأما أحمد فإنه يقرع بينهما وأما الشافعي فتوقف في الأمر فلم يحكم بشيء حتى يتبين له الأمر أو يصطلحا وجمهور العلماء يخالفونه ويقولون إذا علم انتفاء الولادة لم يجز إثبات النسب ولا حكم من أحكامه وهو يقول قد ثبت بعض الأحكام مع انتفاء الولادة كما يقول فيما إذا قال لمملوكه الذي هو أكبر منه أنت ابني يجعل ذلك كناية في عتقه لا إقرارا بنسبه وجمهور العلماء يقولون هو إقرار علم كذبه فيه فلا يثبت به شيء فالشناعة التي شنع بها على أبي حنيفة إن كان حقا فجمهور أهل السنة يوافقون عليها وإن كانت باطلا لم تضرهم شيئا مع

 

أنه يشنع تشنيع من يظن أن أبا حنيفة يقول إن هذا الولد مخلوق من ماء هذا الرجل الذي لم يجتمع بامرأته وهذا لا يقوله أقل الناس عقلا فكيف بمثل أبي حنيفة ولكنه يثبت حكم النسب بدون الولادة وهو أصل انفرد به وخالفه فيه الجمهور وخطأوا من قال به ثم منهم من يثبت النسب إذا أمكن وطء الزوج لها كما يقوله الشافعي وكثير من أصحاب أحمد ومنهم من يقول لا يثبت النسب إلا إذا دخل بها وهذا هو القول الآخر في مذهب أحمد وقول مالك وغيره وكذلك مسألة حل الأنبذة قد علم أن جمهور أهل السنة يحرمون ذلك ويبالغون فيه حتى يحدون الشارب المتأول ولهم في فسقه قولان مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين يفسق ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى لا يفسق ومحمد بن الحسن يقول بالتحريم وهذا هو المختار عند أهل الإنصاف من أصحاب أبي حنيفة كأبي الليث السمرقندي ونحوه وقول هذا الرافضي وإباحة النبيذ مع مشاركته الخمر فيالإسكار احتجاج منه على أبي حنيفة بالقياس فإن كان القياس حقا بطل إنكاره وإن كان باطلا بطلت هذه الحجة ولو احتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وكل خمر حرام لكان أجود وأما الوضوء بالنبيذ فجمهور العلماء ينكرونه وعن أبي حنيفة فيه روايتان أيضا وإنما أخذ ذلك لحديث روي في هذا الباب حديث ابن مسعود وفيه تمرة طيبة وماء طهور والجمهور منهم من يضعف هذا الحديث ويقولون إن كان صحيحا فهو منسوخ

 

 

بآية الوضوء وآية تحريم الخمر مع أنه قد يكون لم يصر نبيذا وإنما كان الماء باقيا لم يتغير أو تغير تغيرا يسيرا أو تغيرا كثيرا مع كونه ماء على قول من يجوز الوضوء بالماء المضاف كماء الباقلاء وماء الحمص ونحوهما وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في أكثر الروايات عنه وهو أقوى في الحجة من القول الآخر لأن قوله فلم تجدوا ماء (سورة النساء). نكرة في سياق النفي فيعم ما تغير بإلقاء هذه الطاهرات فيه كما يعم ما تغير بأصل خلقته أو بما لا يمكن صونه عنه إذ شمول اللفظ لهما سواء كما يجوز التوضؤ بماء البحر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له أنتوضأ من ماء البحر فإنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الطهور ماؤه الحل ميتته قال الترمذي حديث صحيح فماء البحر طهور معكونه في غاية الملوحة والمرارة والزهومة فالمتغير بالطاهرات أحسن حالا منه لكن ذاك تغير أصلي وهذا طارىء وهذا الفرق لا يعود إلى اسم الماء ومن اعتبره جعل مقتضى القياس أنه لا يتوضأ بماء البحر ونحوه ولكن أبيح لأنه لا يمكن صونه عن المغيرات والأصل ثبوت الأحكام على وفق القياس لا على خلافه فإن كان هذا داخلا في اللفظ دخل الآخر وإلا فلا وهذه دلالة لفظية لا قياسية حتى يعتبر فيها المشقة وعدمها وأما الصلاة في جلد الكلب فإنما يجوز ذلك أبو حنيفة إذا كان مدبوغا وهذا قول طائفة من العلماء ليس هذا من مفاريده وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم أيما إهاب دبغ فقد طهر وهذه مسألة اجتهاد وليست هذه من مسائل الشناعات ولو قيل

 

 

لهذا المنكر هات دليلا قاطعا على تحريم ذلك لم يجده بل لو طولب بدليل على تحريم الكلب ليرد به على مالك في إحدى الروايتين عنه فإنه يكرهه ولا يحرمه لم يكن هذا الرد من صناعته مع أن الصحيح الذي عليه جمهور العلماء أن جلد الكلب بل وسائر السباغ لا يطهر بالدباغ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة أنه نهى عن جلود السباع وقوله صلى الله عليه وسلم أيما إهاب دبغ فقد طهر ضعفه أحمد وغيره من أئمة الحديث وقد رواه مسلموكذلك تحريم الكلب دلت عليه أدلة شرعية لكن هؤلاء الإمامية تعجز عن إقامة دليل يردون به على مالك في إحدى الروايتين وأما الصلاة علىالعذرة اليابسة بلا حائل فليس هذا مذهب أبي حنيفة ولا أحد من الأئمة الأربعة ولكن إذا أصابت الأرض نجاسة فذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة فمذهب الأكثرين طهارة الأرض وجواز الصلاة عليها هذا مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد وهو القول القديم للشافعي وهذا القول أظهر من قول من لا يطهرها بذلك وأما ما ذكره من صفة الصلاة التي يجيزها أبو حنيفة وفعلها عند بعض الملوك حتى رجع عن مذهبه فليس بحجة على فساد مذهب أهل السنة لأن أهل السنة يقولون إن الحق لا يخرج عنهم لا يقولون إنه لم يخطىء أحد منهم وهذه الصلاة ينكرها جمهور أهل السنة كمذهب مالك والشافعي وأحمد والملك الذي ذكره هو محمود بن سبكتكين وإنما رجع إلى ما ظهر عنده أنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكان من خيار الملوك

 

 

وأعدلهم وكان من أشد الناس قياما على أهل البدع لا سيما الرافضة فإنه كان قد أمر بلعنتهم ولعنة أمثالهم في بلاده وكان الحاكم العبيدي بمصر كتب إليه يدعوه فأحرق كتابه على رأس رسوله ونصر أهل السنة نصرا معروفا عنه قوله وأباحوا المغصوب لو غير الغاصب الصفة فقالوا لو أن سارقا دخل مدارا لشخص له فيه دواب ورحى وطعام فطحن السارق طعام صاحب المدار بدوابه وأرحيته ملك الطحين بذلك فلو جاء المالك ونازعه كان المالك ظالما والسارق مظلوما فلو تقاتلا فإن قتل المالك كان هدرا وإن قتل السارق كان شهيدا فيقال أولا هذه المسألة ليست قول جمهور علماء السنةوإنما قالها من ينازعه فيها جمهورهم ويردون قوله بالأدلة الشرعية فهي قول بعض العلماء ولكن الفقهاء متنازعون في الغاصب إذا غير المغصوب بما أزال اسمه كطحن الحب فقيل هذا بمنزلة إتلافه فيجب للمالك القيمة وهذا قول أبي حنيفة وقيل بل هو باق على ملك صاحبه والزيادة له والنقص على الغاصب وهو قول الشافعي وقيل بل يخير المالك بين أخذ العين والمطالبة بالنقص إن نقص وبين المطالبة بالبدل وترك العين للغاصب وهذا هو المشهور من مذهب مالك وإذا أخذ العين فقيل يكون الغاصب شريكا بما أحدثه فيه من الصنعة وقيل لا شيء له وهذه الأقوال في مذهب أحمد وغيره وحينئذ فالقول الذي أنكره خلاف قول جمهور أهل السنة ثم إنه كذب في نقله بقوله لو تقاتلا كان المالك ظالما فإن

 

 

المالك إن كان متأولا لا يعتقد غير هذا القول لم يكن ظالما ولم تجز مقاتلته بل إذا تنازعا ترافعا إلى من يفصل بينهما إذا كان اعتقاد هذا أن هذه العين ملكه واعتقاد الآخر أنها ملكه وأيضا فقد يفرق بين من غصب الحب ثم اتفق أنه طحنه وبين من قصد بطحنه تملكه فإن معاقبة هذا بنقيض قصده من باب سد الذرائع وبالجملة فهذه المسائل التي أنكرها كلها من مذهب أبي حنيفة ليس فيها لغيره إلا مسألة المخلوقة من ماء الزنا للشافعي فيقال له الشيعة تقول إن مذهب أبي حنيفة أصح من بقية المذاهب الثلاثة ويقولون إنه إذا اضطر الإنسان إلى استفتاء بعض المذاهب الأربعة استفتى الحنفية ويرجحون محمد بن الحسن على أبي يوسف فإنهم لنفورهم عن الحديث والسنة ينفرون عمن كان أكثر تمسكا بالحديث والسنة فإذا كان كذلك فهذه الشناعات في مذهب أبي حنيفة فإن كان قوله هو الراجح من مذاهب الأئمة الأربعة كان تكثير التشنيع عليه دون غيره تناقضا منهم وكانوا قد رجحوا مذهبا وفضلوه على غيره ثم بينوا فيه

 

 

من الضعف والنقص ما يقتضي أن يكون أنقص من غيره وما هذا التناقض بعيد منهم فإنهم لفرط جهلهم وظلمهم يمدحون ويذمون بلا علم ولا عدل فإن كان مذهب أبي حنيفة هو الراجح كان ما ذكروه من اختصاصه بالمسائل الضعيفة التي لا يوجد مثلها لغيره تناقضا وإن لم يكن الراجح كان ترجيحه على بقية المذاهب باطلا فيلزم بالضرورة أن يكون الشيعة على الباطل على كل تقدير ولا ريب أنهم أصحاب جهل وهوى فيتكلمون في كل موضع بما يناسب أغراضهم سواء كان حقا أو باطلا وقصدهم في هذا المقام ذم جميع طوائف أهل السنة فينكرون من كل مذهب ما يظنونه مذموما فيه سواء صدقوا في النقل أو كذبوا وسواء كان ما ذكروه من الذم حقا أو باطلا وإن كان في مذهبهم من المعايب أعظم وأكثر من معايب غيرهم وأما قوله وأوجب الحد على الزاني إذا كذب الشهود وأسقطه إذا صدقهم فأسقط الحد مع اجتماع الإقرار والبينة وهذا ذريعة إلى إسقاط حدود الله تعالى فإن كل من شهد عليه بالزنا فصدق الشهود يسقط عنه الحدفيقال وهذا أيضا من أقوال أبي حنيفة وخالفه فيها الجمهور كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم ومأخذ أبي حنيفة أنه إذا أقر سقط حكم الشهادة ولا يؤخذ بالإقرار إلا إذا كان أربع مرات وأما الجمهور فيقولون الإقرار يؤكد حكم الشهادة ولا يبطلها لأنه موافق لها لا مخالف لها وإن لم يحتج إليه كزيادة عدد الشهود على الأربعة وكإقراره أكثر من أربع مرات وبالجملة فهذا قول جمهور أهل السنة فإن كان صوابا فهو قولهم وإن كان الآخر هو الصواب فهو قولهم ثم يقال له من المعلوم أن جمهور أهل السنة ينكرون هذه المسائل ويردون على من قالها بحجج وأدلة لا تعرفها الإمامية وأما قوله وإباحة أكل الكلب واللواط بالعبيد وإباحة الملاهي كالشطرنج والغناء وغير ذلك من المسائل التي لا يحتملها هذا المختصر فيقال نقل هذا عن جميع أهل السنة كذب وكذلك نقله عن جمهورهم بل فيه ما قاله بعض المقرين بخلافة الخلفاء الثلاثة

 

وفيه ما هو كذب عليهم لم يقله أحد منهم وذلك الذي قاله بعض هؤلاء أنكره جمهورهم فلم يتفقوا على ضلالة ثم أن الموجود في الشيعة من الأمور المنكرة الشنيعة المخالفة للكتاب والسنة والإجماع أعظم وأشنع مما يوجد في أي طائفة فرضت من طوائف السنة فما من طائفة من طوائف السنة يوجد في قولها ما هو ضعيف إلا ويوجد ما هو أضعف منه وأشنع من أقوال الشيعة فتبين على كل تقدير أن كل طائفة من أهل السنة خير منهم فإن الكذب الذي يوجد فيهم والتكذيب بالحق وفرط الجهل والتصديق بالمحالات وقلة العقل والغلو في اتباع الأهواء والتعلق بالمجهولات لا يوجد مثله في طائفة أخرى وأما ما حكاه من إباحة اللواط بالعبيد فهو كذب لم يقله أحد من علماء أهل السنة وأظنه قصد التشنيع به على مالك فإني رأيت من الجهال من يحكي هذا عن مالك وأصل ذلك ما يحكى عنه في حشوشالنساء فإنه لما حكي عن طائفة من أهل المدينة إباحة ذلك وحكي عن مالك فيه روايتان ظن الجاهل أن أدبار المماليك كذلك وهذا من أعظم الغلط على من هو دون مالك فكيف على مالك مع جلالة قدره وشرف مذهبه وكمال صيانته عن الفواحش وأحكامه بسد الذرائع وأنه من أبلغ المذاهب إقامة للحدود ونهيا عن المنكرات والبدع ولا يختلف مذهب مالك في أن من استحل إتيان المماليك أنه يكفر كما أن هذا قول جميع أئمة المسلمين فإنهم متفقون على أن استحلال هذا بمنزلة استحلال وطء أمته التي هي بنته من الرضاعة أو أخته من الرضاعة أو هي موطوءة ابنه أو أبيه فكما أن مملوكته إذا كانت محرمة برضاع أو صهر لا تباح له باتفاق المسلمين فملوكه أولى بالتحريم فإن هذا الجنس محرم مطلقا لا يباح بعقد نكاح ولا ملك يمين بخلاف وطء الإناث ولهذا كان مذهب مالك وعلماء المدينة أن اللوطي يقتل رجما

 

 

محصنا كان أو غير محصن سواء تلوط بمملوكه أو غير مملوكه فإنه يقتل عندهم الفاعل والمفعول به كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اقتلوا الفاعل والمفعول به رواه أبو داود وغيره وهذا مذهب أحمد في الرواية المنصوصة عنه وهو أحد قولي الشافعي فمن يكون مذهبه أن هذا أشد من الزنا كيف يحكى عنه أنه أباح ذلك وكذلك لم يبحه غيره من العلماء بل هم متفقون على تحريم ذلك ولكن كثير من الأشياء يتفقون على تحريمها ويتنازعون في إقامة الحد على فاعلها هل يحد أو يعزر بما دون الحد كما لو وطيء أمته التي هي ابنته من الرضاعة وأما قوله وإباحة الملاهي كالشطرنح والغناء فيقال مذهب جمهور العلماء أن الشطرنج حرام وقد ثبت عنعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وكذلك النهي عنها معروف عن أبي موسى وابن عباس وابن عمر وغيره من الصحابة وتنازعوا في أيهما أشد تحريما الشطرنج أوالنرد فقال مالك الشطرنج أشد من النرد وهذا منقول عن ابن عمر وهذا لأنها تشغل القلب بالفكر الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر من النرد وقال أبو حنيفة وأحمد النرد أشد فإن العوض يدخل فيها أكثر وأما الشافعي فلم يقل إن الشطرنج حلال ولكن قال النرد حرام والشطرنج دونها ولا يتبين لي أنها حرام فتوقف في التحريم ولأصحابه في تحريمها قولان فإن كان التحليل هو الراجح فلا ضرر

 

 

وإن كان التحريم هو الراجح فهو قول جمهور أهل السنة فعلى التقديرين لا يخرج الحق عنهم قوله وإباحة الغناء فيقال له هذا من الكذب على الأئمة الأربعة فإنهم متفقون على تحريم المعازف التي هي آلات اللهو كالعود ونحوه ولو أتلفها متلف عندهم لم يضمن صورة التالف بل يحرم عندهم اتخاذها وهل يضمن المادة على قولين مشهورين لهم كما لو أتلف أوعية الخمر فإنه لو أتلف ما يقوم به المحرم من المادة لم يضمنه في أحد قوليهم كما هو مذهب مالك وأشهر الروايتين عن احمد كما أتلف موسى العجل المتخذ من الذهب وكما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبدالله بن عمرو أن يحرق الثوبين المعصفرين اللذين كانا عليهوكما أمرهم عام خيبر بكسر القدور التي كان فيها لحوم الحمر ثم أذن لهم في إراقة ما فيها فدل على جواز الأمرين وكما أمر لما حرمت الخمر بشق الظروف وكسر الدنان وكما أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أمرا بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر ومن لم يجوز ذلك من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في

 

 

إحدى الروايتين عنه قالوا هذه عقوبات مالية وهي منسوخة وأولئك يقولون لم ينسخ ذلك شيء فإن النسخ لا يكون إلا بنص متأخر عن الأول يعارضه ولم يرد شيء من ذلك بل العقوبات المالية كالعقوبات البدنية تستعمل على الوجه المشروع بل هي أولى بالاستعمال فإن إتلاف الأبدان والأعضاء أعظم من إتلاف الأموال فإذا كان جنس الأول مشروعا فجنس الثاني بطريق الأولى وقد تنازعوا أيضا في القصاص في الأموال إذا خرق له ثوبا هل له أن يخرق نظيره من ثيابه فيتلف ماله كما أتلف ماله على قولين هما روايتان عن أحمد فمن قال لا يجوز ذلك قال لأنه فساد ومن قال يجوز قال إتلاف النفس والطرف أشد فسادا وهو جائز على وجه العدل والاقتصاص لما فيه من كف العدوان وشفاء نفس المظلوم ومن منع قال النفوس لو لم يشرع فيها القصاص لم تنكف النفوس فإن القاتل إذا علم أنه لا يقتل بل يؤدي دية أقدم على القتل وأدى الديةبخلاف الأموال فإنه يؤخذ من المتلف نظير ما أتلفه فحصل القصاص بذلك الزجر وأما إتلاف ذلك فضرره علىالمتلف عليه فإنه يذهب ماله وعوض ماله عليه وذلك يقول بل فيه نوع من شفاء غيظ المظلوم وأما إذا تعذر القصاص منه إلا بإتلاف ماله فهذا أظهر جوازا لأن القصاص عدل وجزاء سيئة سيئة مثلها فإذا أتلف ماله ولم يكن الاقتصاص منه إلا بإتلافه جاز ذلك ولهذا اتفق العلماء على جواز إتلاف الشجر والزرع الذي للكفار إذا فعلوا بنا مثل ذلك أو لم يقدر عليهم إلا به وفي جوازه بدون ذلك نزاع معروف وهو روايتان عن أحمد والجواز مذهب الشافعي وغيره والمقصود هنا أن آلات اللهو محرمة عند الأئمة الأربعة ولم يحك عنهم نزاع في ذلك إلا أن المتأخرين من الخراسانيين من أصحاب الشافعي ذكروا في النزاع وجهين والصحيح التحريم وأما

 

 

العراقيون وقدماء الخراسانيين فلم يذكروا في ذلك نزاعا وأما الغناء المجرد فمحرم عن أبي حنيفة ومالك وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وعنهما أنه مكروه وذهبت طائفة من أصحاب أحمد إلى أن الغناء المجرد مباح فإن كان هذا القول حقا فلا ضرر وإن كان باطلا فجمهور أهل السنة على التحريم فلم يخرج الحق عن أهل السنة.

*

فصل قال الرافضي الوجه الثاني في الدلالة على وجوب اتباع مذهب الإمامية ما قاله شيخنا الإمام الأعظم خواجه نصير الملة والحق والدين محمد بن الحسن الطوسي قدس الله روحه وقد سألته عن المذاهب فقال بحثنا عنها وعن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية والباقي في النار وقد عين الفرقة الناجية والهالكة في حديث آخر صحيح متفق عليه وهو في قوله مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق فوجدنا الفرقة الناجية هي فرقة الإمامية لأنهم باينوا جميع المذاهب وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد.

* فيقال الجواب: من وجوه...

أحدها: أن هذا الإمامي قد كفر من قال إن الله موجب بالذات كما تقدم من قوله يلزم أن يكون الله موجبا بذاته لا مختار فيلزم الكفر وهذا الذي قد جعله شيخه الأعظم واحتج بقوله هو ممن يقول بأن الله موجب بالذات ويقول بقدم العالم كما ذكر في كتاب شرح الإشارات له فيلزم على قوله أن يكون شيخه هذا الذي احتج به كافرا والكافر لا يقبل قوله في دين المسلمين.

الثاني: أن هذا الرجل اشتهر عند الخاص والعام أنه كان وزير الملاحدة الباطنية الإسماعيلية بالألموت ثم لما قدم الترك المشركون إلى بلاد المسلمين وجاءوا إلى بغداد دار الخلاقة كان هذا منجما مشيرا لملك الترك المشركين هولاكو أشار عليه بقتل الخليفة

 

وقتل أهل العلم والدين واستبقاء أهل الصناعات والتجارات الذين ينفعونه في الدنيا وأنه استولى على الوقف الذي للمسلمين وكان يعطي منه ما شاء الله لعلماء المشركين وشيوخهم من البخشية السحرة وأمثالهم وأنه لما بنى الرصد الذي بمراغة على طريقة الصابئة المشركين كان أبخس الناس نصيبا منه من كان إلى أهل الملل أقرب وأوفرهم نصيبا من كان أبعدهم عن الملل مثل الصابئة المشركين ومثل المعطلة وسائر المشركين وإن ارتزقوا بالنجوم والطب ونحو ذلك ومن المشهور عنه وعن أتباعه الاستهتار بواجبات الإسلام ومحرماته لا يحافظون على الفرائض كالصلوات ولا ينزعون عن محارم الله من الفواحش والخمر وغير ذلك من المنكرات حتى أنهم في شهر رمضان يذكر عنهم من إضاعة الصلوات وارتكاب الفواحش وشرب الخمور ما يعرفه أهل الخبرة بهم ولم يكن لهم قوة وظهور إلا مع المشركين الذين دينهم شر من دين اليهود والنصارى ولهذا كان كلما قوي الإسلام في المغل وغيرهم من الترك ضعف أمر هؤلاء لفرط معاداتهم للإسلام وأهله ولهذا كانوا من أنقص الناس منزلة عند الأمير نوروز المجاهد في سبيل الله الشهيد الذي دعا ملك المغل غازان إلى الإسلام والتزم له أن ينصره إذا أسلم وقتل المشركين الذين لم يسلموا من البخشية السحرة وغيرهم

 

 

وهدم البذخانات وكسر الأصنام ومزق سدنتها كل ممزق وألزم اليهود والنصارى بالجزية والصغار وبسببه ظهر الإسلام في المغل وأتباعهم وبالجملة فأمر هذا الطوسي وأتباعه عند المسلمين أشهر وأعرف من أن يعرف ويوصف ومع هذا فقد قيل إنه كان في آخر عمره يحافظ على الصلوات الخمس ويشتغل بتفسير البغوى وبالفقه ونحو ذلك فإن كان قد تاب من الإلحاد فالله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات والله تعالى يقول يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا (سورة الزمر). لكن ما ذكره عنه هذا إن كان قبل التوبة لم يقبل قوله وإن كان بعد التوبة لم يكن قد تاب من الرفض بل من الإلحاد وحده وعلى التقديرين فلا يقبل قوله والأظهر أنه إنما كان يجتمع به وبأمثاله لما كان منجما للمغل المشركين والإلحاد معروف من حاله إذ ذاك فمن يقدح في مثل أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ويطعن على مثل مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأتباعهم ويعيرهم بغلطات بعضهم في مثل إباحة الشطرنج والغناء كيف يليق به أن يحتج لمذهبه بقول مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ويستحلون المحرمات المجمع على تحريمها كالفواحش والخمر في مثل شهر رمضان الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وخرقوا سياج الشرائع واستخفوا بحرمات الدين وسلكوا غير طريق المؤمنين فهم كما قيل فيهم الدين يشكو بلية من فرقة فلسفية لا يشهدون صلاة إلا لأجل التقية ولا ترى الشرع إلا سياسة مدنية ويؤثرون عليه مناهجا فلسفية

 

 

ولكن هذا حال الرافضة دائما يعادون أولياء الله المتقين من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ويوالون الكفار والمنافقين فإن أعظم الناس نفاقا في المنتسبين إلى الإسلام هم الملاحدة الباطنية الإسماعيلية فمن احتج بأقوالهم في نصرة قوله مع ما تقدم من طعنه على أقوال أئمة المسلمين كان من أعظم الناس موالاة لأهل النفاق ومعاداة لأهل الإيمان ومن العجب أن هذا المصنف الرافضي الخبيث الكذاب المفتري يذكر أبا بكر وعمر وعثمان وسائر السابقين الأولين والتابعين وسائر أئمة المسلمين من أهل العلم والدين بالعظائم التي يفتريها عليهم هو وإخوانه ويجيء إلى من قد اشتهر عند المسلمين بمحادته لله ورسوله فيقول قال شيخنا الأعظم ويقول قدس الله روحه مع شهادته بالكفر عليه وعلى أمثاله ومع لعنة طائفته لخيار المؤمنين من الأولين والآخرينوهؤلاء داخلون في معنى قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن يجد له نصيرا (سورة النساء). فإن هؤلاء الإمامية أوتوا نصيبا من الكتاب إذ كانوا مقرين ببعض ما في الكتاب المنزل وفيهم شعبة من الإيمان بالجبت وهو السحر والطاغوت وهو يعبد من دون الله فإنهم يعظمون الفلسفة المتضمنة لذلك ويرون الدعاء والعبادة للموتى واتخاذ المساجد على القبور ويجعلون السفر إليها حجا له مناسك ويقولون مناسك حج المشاهد وحدثني الثقات أن فيهم من يرون الحج إليها أعظم من الحج إلى البيت العتيق فيرون الإشراك بالله أعظم من عبادة الله وهذا من أعظم الإيمان بالطاغوت وهم يقولون لمن يقرون بكفره من القائلين بقدم العالم ودعوة الكواكب والمسوغين للشرك هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا فإنهم فضلوا هؤلاء الملاحدة المشركين على السابقين الأولين من

 

 

المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وليس هذا ببدع من الرافضة فقد عرف من موالاتهم لليهود والنصارى والمشركين ومعاونتهم على قتال المسلمين ما يعرفه الخاص والعام حتى قيل إنه ما اقتتل يهودي ومسلم ولا نصراني ومسلم ولا مشرك ومسلم إلا كان الرافضي مع اليهودي والنصراني والمشرك.

والوجه الثالث: أنه قد عرف كل أحد أن الإسماعيلية والنصيرية هم من الطوائف الذين يظهرون التشيع وإن كانوا في الباطن كفارا منسلخين من كل ملة والنصيرية هم من غلاة الرافضة الذين يدعون إلهية علي وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى باتفاق المسلمين والإسماعيلية الباطنية أكفر منهم فإن حقيقة قولهم التعطيل أما أصحاب الناموس الأكبر والبلاغ الأعظم الذي هو آخر المراتب عندهم فهم من الدهرية القائلين بأن العالم لا فاعل له لا علة ولاخالق ويقولون ليس بيننا وبين الفلاسفة خلاف إلا في واجب الوجود فإنهم يثبتونه وهو شيء لا حقيقة له ويستهزئون بأسماء الله عز وجل ولا سيما هذا الاسم الذي هوالله فإن منهم من يكتبه على أسفل قدميه ويطؤه وأما من هو دون هؤلاء فيقولون بالسابق والتالي الذين عثروا بهما عن العقل والنفس عند الفلاسفة وعن النور والظلمة عند المجوس وركبوا لهم مذهبا من مذاهب الصابئة والمجوس ظاهره التشيع ولا ريب أن المجوس والصابئة شر من اليهود والنصارى ولكن تظاهروا بالتشيع قالوا لأن الشيعة أسرع الطوائف استجابة لنا لما فيهم من الخروج عن الشريعة ولما فيهم من الجهل وتصديق المجهولات

 

ولهذا كان أئمتهم في الباطن فلاسفة كالنصير الطوسي هذا وكسنان البصري الذي كان بحصونهم بالشام وكان يقول قد رفعت عنهم الصوم والصلاة والحج والزكاة فإذا كانت الإسماعيلية إنما يتظاهرون في الإسلام بالتشيع ومنه دخلوا وبه ظهروا وأهله هم المهاجرون إليهم لا إلى الله ورسوله وهم أنصارهم لا أنصار الله ورسوله علم أن شهادة الإسماعيلية للشيعة بأنهم على الحق شهادة مردودة باتفاق العقلاء فإن هذا الشاهد إن كان يعرف أن ما هو عليه مخالف لدين الإسلام في الباطن وإنما أظهر التشيع لينفق له عند المسلمين فهو محتاج إلى تعظيم التشيع وشهادته له شهادة المرء لنفسه فهو كشهادة الآدمي لنفسه لكنه في هذه الشهادة يعلم أنه يكذب وإنما ذكب فيها كماكذب في سائر أحواله وإن كان يعتقد دين الإسلام في الباطن ويظن أن هؤلاء على دين الإسلام كان أيضا شاهدا لنفسه لكن مع جهله وضلاله وعلى التقديرين فشهادة المرء لنفسه لا تقبل سواء علم كذب نفسه أو اعتقد صدق نفسه كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي غمر على أخيه وهؤلاء خصماء أظناء متهمون ذوو غمر على أهل السنة والجماعة فشهادتهم مردودة بكل طريق.

 

الوجه الرابع: أن يقال أولا أنتم قوم لا تحتجون بمثل هذه الأحاديث فإن هذا الحديث إنما يرويه أهل السنة بأسانيد أهل السنة والحديث نفسه ليس في الصحيحين بل قد طعن فيه بعض أهل الحديث كابن حزم وغيره ولكن قد رواه أهل السنن كأبي داود والترمذي وابن ماجه ورواه أهل الأسانيد كالإمام أحمد وغيره فمن أين لكم على أصولكم ثبوته حتى تحتجوا به وبتقدير ثبوته فهو من أخبار الأحاد فكيف يجوز أن تحتجوا في أصل من أصول الدين وإضلال جميع المسلمين إلا فرقة واحد بأخبار الآحاد التي لا يحتجون هم بها في الفروع العلمية وهل هذا إلا من أعظم التنافض والجهل.

الوجه الخامس: أن الحديث روي تفسيره فيه من وجهين أحدهما أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الفرقة الناجية فقال من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي وفي الرواية الأخرى قال هم الجماعة وكل من التفسيرين يناقض قول الإمامية ويتقضي أنهمخارجون عن الفرقة الناجية فإنهم خارجون عن جماعة المسلمين يكفرون أو يفسقون أئمة الجماعة كأبي بكر وعمر وعثمان دع معاوية وملوك بني أمية وبني العباس وكذلك يكفرون أو يفسقون علماء الجماعة وعبادهم كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحق وأبي عبيد وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وأمثال هؤلاء وهم أبعد الناس عن معرفة سير الصحابة والاقتداء بهم لا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعده فإن هذا إنما يعرفه أهل العلم بالحديث والمنقولات والمعرفة بالرجال الضعفاء والثقات وهم من أعظم الناس جهلا بالحديث وبغضا له ومعاداة لأهله فإذا كان وصف الفرقة الناجية أتباع الصحابة علىعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك شعار السنة والجماعة كانت الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة فالسنة ما كان صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه عليه

 

في عهده مما أمرهم به أو أقرهم عليه أو فعله هو والجماعة هم المجتمعون الذين ما فرقوا دينهم وكانوا شيعا فالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا خارجون عن الجماعة قد برأ الله نبيه منهم فعلم بذلك أن هذا وصف أهل السنة والجماعة لا وصف الرافضة وأن الحديث وصف الفرقة الناجبة باتباع سنته التي كان عليها هو وأصحابه وبلزوم جماعةالمسلمين فإن قيل فقد قال في الحديث من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي فمن خرج عن تلك الطريقة بعده لم يكن على طريقة الفرقة الناجية وقد ارتد ناس بعده فليسوا من الفرقة الناجية قلنا نعم وأشهر الناس بالردة خصوم أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأتباعه كمسيلمة الكذاب وأتباعه وغيرهم وهؤلاء تتولاهم الرافضة كما ذكر ذلك غير واحد من شيوخهم مثل هذا الإمامي وغيره ويقولون إنهم كانوا على الحق وأن الصديق قاتلهم بغير حق ثم من أظهرالناس ردة الغالية الذين حرقهم علي رضي الله عنه بالنار لما ادعوا فيه الإلهية وهم السبائية أتباع عبدالله بن سبأ الذين أظهروا سب أبي بكر وعمر وأول من ظهر عنه دعوى النبوة من المنتسبين إلى الإسلام المختار بن ابي عبيد وكان من الشيعة فعلم أن أعظم الناس ردة هم في الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف ولهذا لا يعرف ردة أسوأ حالا من ردة الغالية كالنصيرية ومن ردة الإسماعيلية الباطنية ونحوهم وأشهر الناس بقتال المرتدين هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلا يكون المرتدون في طائفة أكثر منها في خصوم أبي بكر الصديق فدل ذلك على أن المرتدين الذين لم يزالون مرتدين على اعقابهم هم بالرافضة أولى منهم بأهل السنة والجماعة وهذا بين يعرفه كل عاقل يعرف الإسلام وأهله ولا يستريب أحد أن جنس المرتدين في المنتسبين إلى التشيع أعظم وأفحش كفرا من

 

 

جنس المرتدين والمنتسبين إلى أهل السنة والجماعة إن كان فيهم مرتد.

الوجه السادس: أن يقال هذه الحجة التي احتج بها هذا الطوسي على أن الإمامية هم الفرقة الناجية كذب في وصفها كما هي باطلة في دلاتها وذلك أن قوله باينوا جميع المذاهب وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد إن أراد بذلك أنهم باينوا جميع المذاهب فيما اختصوا به فهذا شأن جميع المذاهب فإن الخوارج أيضا باينوا جميع المذاهب فيما اختصوا به من التكفير بالذنوب ومن تكفير علي رضي الله عنه ومن إسقاط طاعة الرسول فيما لم يخبر به عن الله وتجويز الظلم عليه في قسمه والجور في حكمه وإسقاط أتباع السنة المتواترة التي تخالف ما يظن أنه ظاهر القرآن كقطع السارق من المنكب وأمثال ذلك قال الأشعري في المقالات أجمعت الخوارج على إكفارعلي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ حكم وهم مختلفون هل كفره شرك أم لا قال وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر إلا النجدات فإنها لا تقول بذلك وأجمعوا على أن الله يعذب أصحاب الكبائر عذابا دائما إلا النجدات أصحاب نجدة وكذلك المعتزلة باينوا جميع الطوائف فيما اختصوا به من المنزلة بين المنزلتين وقولهم إن أهل الكبائر يخلدون في النار وليسوا بمؤمنين ولا كفار فإن هذا قولهم الذي سموا به معتزلة فمن وافقهم فيه بعد ذلك من الزيدية فعنهم أخذوا بل الطوائف المنتسبون إلى السنة والجماعة تباين كل طائفة منهم سائر أهل السنة والجماعة فيما اختصت به فالكلابية باينوا سائر الناس في قولهم إن الكلام معنى واحد أو معان متعددة أربعة أو

 

خمسة تقوم بذات المتكلم هو الأمر والنهي والخبر إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة فإن هذا لم يقله أحد من الطوائف غيرهم وكذلك الكرامية باينوا سائر الطوائف في قولهم إن الإيمان هو القول باللسان فمن أقر بلسانه كان مؤمنا وإن جحد بقلبه قالوا وهو مؤمن مخلد في النار فإن هذا لم يقله غيرهم بل طوائف أهل السنة والعلم لكل طائفة قول لا يوافقهم عليه بقية الطوائف فلكل واحد من أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد مسائل تفرد بها عن الأئمة الثلاثة كثيرة وإن أراد بذلك أنهم اختصوا بجميع أقوالهم فليس كذلك فإنهم في توحيدهم موافقون للمعتزلة وقدماؤهم كانوا مجسمة وكذلك في القدر هم موافقون للمعتزلة فقدماؤهم كان كثير منهم يثبت القدر وإنكار القدر في قدمائهم أشهر من إنكار الصفات وخروج أهل الذنوب من النار وعفو الله عز وجل عن أهل الكبائر لهم فيه قولان ومتأخروهم موافقون فيه الواقفية الذين يقولون لا ندري هل يدخل

 

 

النار أحد من أهل القبلة أم لا وهم طائفة من الأشعرية وإن قالوا إنا نجزم بأن كثيرا من أهل الكبائر يدخل النار فهذا قول الجمهور من أهل السنة ففي الجملة لهم أقوال اختصوا بها وأقوال شاركهم غيرهم فيها كما أن الخوارج والمعتزلة وغيرهم كذلك وأما أهل الحديث والسنة والجماعة فقد اختصوا باتباعهم الكتاب والسنة والثابتة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم في الأصول والفروع وما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف الخوارج والمعتزلة والروافض ومن وافقهم في بعض أقوالهم فإنهم لا يتبعون الأحاديث التي رواها الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم التي يعلم أهل الحديث صحتها فالمعتزلة يقولون هذه أخبار آحاد وأما الرافضة فيطعنون في الصحابة ونقلهم وباطن أمرهم الطعن في الرسالة والخوارج يقول قائلهم أعدل يا محمد فإنك لم تعدل فيجوزون على النبي صلى الله عليه وسلم أنه يظلم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلملأولهم ويلك من يعدل إذا لم أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أعدل فهم جهال فارقوا السنة والجماعة عن جهل وأما الرافضة فأصل بدعتهم عن نفاق ولهذا فيهم من الزندقة ما ليس في الخوارج قال الأشعري في المقالات هذه حكاية أصحاب الحديث وأهل السنة جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا وأنه إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة

 

 

آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال الرحمن على العرش استوى وأن له يدين بلا كيف كما قال خلقت بيدي (سورة ص). وكما قال بل يداه مبسوطتان (سورة المائدة). وساق الكلام إلى آخره فإن قال أن مراده بالمباينة انهم يكفرون كل أهل دار غير دارهم كما أفتى غير واحد من شيوخهم بأن الدار إذا كان الظاهر فيها مذهب النصب مثل المسح على الخفين وحل شرب الفقاع وتحريم المتعة كانت دار كفر وحكم بنجاسة ما فيها من المائعات وإن كان الظاهر مذهب الطائفة المحقة يعني الإمامية حكم بطهارة ما فيها من المائعات وإن كان كلا الأمرين ظاهرا كانت دار وقف فينظر فمن كان فيها من طائفتهم كان ما عنده من المائعات طاهرا ومن كان من غيرهم حكم بنجاسة ما عنده من المائعات قيل هذا الوصف يشاركهم فيه الخوارج والخوارج في ذلك أقوى منهم فإن الخوارج ترى السيف وحروبهم مع الجماعة مشهورة وعندهم كل دار غير دارهم فهي دار كفر وقد نازع بعضهمفي التكفير العام كما نازع بعض الإمامية في التكفير العام وقد وافقوهم في أصل التكفير وأما السيف فإن الزيدية ترى السيف والإمامية لا تراه قال الأشعري وأجمعت الروافض على إبطال الخروج وإنكار السيف ولو قتلت حتى يظهر لها الإمام وحتى يأمرها بذلك قلت ولهذا لا يغزون الكفار ولا يقاتلون مع أئمة الجماعة إلا من يلتزم مذهبه منهم فقد تبين أن المباينة والمشاركة في أصول العقائد قدر مشترك بين الرافضة وغيرهم.

الوجه السابع: أن يقال مباينتهم لجميع المذاهب هو على فساد قولهم أدل منه على صحة قولهم فإن مجرد انفراد طائفة عن جميع الطوائف لا يدل على أنه هو الصواب واشتراك أولئك في قول لا يدل على أنه باطل فإن قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أمته ثلاثة وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة فدل على أنها لا بد أن تفارق هذه الواحدة سائر الاثنتين وسبعين فرقة

 

قلنا نعم وكذلك يدل الحديث على مفارقة الثنتين وسبعين بعضها بعضا كما فارقت هذه الواحدة فليس في الحديث ما يدل على اشتراك الثنتين والسبعين في أصول العقائد بل ليس في ظاهر الحديث إلا مباينة الثلاث والسبعين كل طائفة للأخرى وحينئذ فمعلوم أن جهة الافتراق جهة ذم لا جهة مدح فإن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف وذم التفرق والاختلاف فقال تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا (سورة آل عمران). وقال ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذي اسودت وجوههم الأية (سورة آل عمران). قال ابن عباس وغيره تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة وقال تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء (سورة الأنعام). وقال وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم البقرة وقال وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة سورة البينة وإذا كان كذلك فأعظم الطوائف مفارقة للجماعة وافتراقا في نفسهاأولى الطوائف بالذم وأقلها افتراقا ومفارقة للجماعة أقربها إلى الحق وإذا كانت الإمامية أولى بمفارقة سائر طوائف الأمة فهم أبعد عن الحق لا سيما وهم في أنفسهم أكثر اختلافا من جميع فرق الأمة حتى يقال إنهم ثنتان وسبعون فرقة وهذا القدر فيما نقله عن هذا الطوسي بعض أصحابه وقال كان يقول الشيعة تبلغ فرقهم ثنتين وسبعين فرقة أو كما قال وقد صنف الحسن بن موسى النوبختي وغيره في تعديد فرق الشيعة وأما أهل الجماعة فهم أقل اختلافا في أصول دينهم من سائر الطوائف وهم أقرب إلى كل طائفة من كل طائفة إلى ضدها فهم الوسط في أهل الإسلام كما أن أهل الإسلام هم الوسط في أهل الملل هم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل وأهل التمثيل

 

 

وقال صلى الله عليه وسلم خير الأمور أوسطها وحينئذ أهل السنة والجماعة خير الفرق وفي باب القدر بين أهل التكذيب به وأهل الاحتجاج به وفي باب الأسماء والأحكام بين الوعيدية والمرجئة وفي باب الصحابة بين الغلاة والجفاة فلا يغلون في علي غلو الرافضة ولا يكفرونه تكفير الخوارج ولا يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان كما تكفرهم الروافض ولا يكفرون عثمان وعليا كما يكفرهما الخوارج.

الوجه الثامن: أن يقال إن الشيعة ليس لهم قول واحد اتفقوا عليه فإن القول الذي ذكره هذا قول من أقوال الإمامية ومن الإمامية طوائف تخالف هؤلاء في التوحيد والعدل كما تقدم حكايته وجمهور الشيعة تخالف الإمامية في الاثني عشرفالزيدية والإسماعيلية وغيرهم متفقون على إنكار إمامة الإثني عشر قال الناقلون لمقالات الناس الشيعة ثلاثة أصناف وإنما قيل لهم الشيعة لأنهم شايعوا عليا وقدموه على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم الغالية سموا بذاك لأنهم غلوا في علي وقالوا فيه قولا عظيما مثل اعتقادهم إلاهيته أو نبوته وهؤلاء أصناف متعددة والنصيرية منهم والصنف الثاني من الشيعة الرافضة قال الأشعري وطائفة سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر

 

قلت الصحيح أنهم سموا رافضة لما رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما خرج بالكوفة أيام هشام بن عبد الملك وقد ذكر هذا أيضا الاشعري وغيره قالوا وإنما سمو الزيدية لتمسكهم بقول زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وكان زيد بويع له بالكوفة في أيام هشام بن عبدالملك وكان أمير الكوفة يوسف بن عمر الثقفي وكان زيد يفضل علي بن أبي طالب على سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويتولى أبا بكر وعمر ويرى الخروج على أئمة الجور فلما ظهر بالكوفة في أصحابة الذين بايعوه وسمع من بعضهم الطعن على أبي بكر وعمر فأنكر ذلك على من سمعه منه فتفرق عنه الذين بايعوه فقال لهم رفضمتوني قالوا نعم فيقال إنهمسموا رافضة لقول زيد بن علي لهم رفضتموني وبقي في شرذمة فقاتل يوسف بن عمر فقتل قالوا والرافضة مجمعون على أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على استخلاف علي بن أبي طالب باسمه وأظهر ذلك وأعلنه وأن أكثر الصحابة ضلوا بتركهم الاقتداء به بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأن الإمامة لا تكون إلا بنص وتوقيف وأنها قرابة وأنه جائز للإمام في حال التقية أن يقول إنه ليس بإمام وأبطلوا جميعا الاجتهاد في الأحكام وزعموا أن الإمام لا يكون إلا أفضل الناس وزعموا أن عليا كان مصيبا في جميع أحواله وأنه لم يخطىء في شيء من أمور الدين إلا الكاملية أصحاب أبي كامل فإنهم أكفروا الناس بترك الاقتداء به وأكفروا عليا بترك الطلب وأنكروا الخروج على أئمة الجور وقالوا ليس يجوز ذلك دون الإمام

 

 

المنصوص على إمامته وهم سوى الكاملية أربع وعشرون فرقة وهم يدعون الإمامية لقولهم بالنص على إمامة علي فالفرقة الأولى وهم القطعية وإنما سموا القطعية لأنهم قطعوا على موت موسى بن جعفر بن محمد وهم وجمهور الشيعة يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي وأن عليا نص على إمامة الحسن وأن الحسن نص على إمامة الحسين والحسين نص على إمامة ابنه علي بن الحسين وعلي بن الحسين نص على إمامة ابنه أبي جعفر محمد ومحمد نص على إمامة جعفر بن محمد وجعفر نص على إمامة ابنه موسى وموسى نص على إمامة ابنه علي وعلينص على إمامة ابنه محمد بن علي ومحمد نص على إمامة ابنه علي بن محمد وعلي بن محمد نص على إمامة ابنه الحسن والحسن نص على إمامة ابنه محمد بن الحسن وهو الغائب المنتظر عندهم الذين يدعون أنه يظهر فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا والفرقة الثانية منهم الكيسانية وهم إحدى عشرة فرقة سموا كيسانية لأن المختار الذي خرج وطلب بدم الحسين بن علي ودعا إلى محمد بن الحنفية كان يقال لهكيسان ويقال إنه مولى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن الكيسانية من يدعي أن عليا نص على إمامة محمد بن الحنفية لأنه دفع إليه الراية بالبصرة ومنهم من يقول بل الحسين نص على إمامة محمد بن الحنفية ومنهم من يقول إن محمد بن الحنفية حي بجبال رضوى أسد عن يمينه ونمر عن شماله يحفظانه يأتيه رزقه غدوة وعشية إلى وقت خروجه وزعموا أن السبب الذي من أجله صبر على هذه الحال أن يكون مغيبا عن الخلق أن لله فيه تدبيرا لا يعلمه غيره قالوا ومن القائلين بهذا المذهب كثير الشاعر وفي ذلك يقول ألا إن الأئمة من قريش ولاة الحق أربعة سواء

 

 

علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر وسبط غيبته كربلا وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللوا تغيب لا يرى فيهم زمانا برضوى عنده عسل وماء ومعلوم أن هؤلاء مع أن قولهم معلوم البطلان ضرورة فقول الإمامية أبطل من قولهم فإن هؤلاء ادعوا بقاء من كان موجودا حيا معروفا وأولئك ادعوا بقاء من لم يوجد بحال ومن هؤلاء من يقول إن محمد ابن الحنفية مات وإن الإمام بعده ابنه أبو هاشم عبدالله ثم من هؤلاء من يقول إن أبا هاشم عبدالله أوصى إلى أخيه الحسن وإن الحسن أوصى إلى ابنه علي بن الحسن وإن عليا هلك ولم يعقب فهم ينتظرون رجعة محمد بن الحنفية ويقولون إنه يرجع ويملك فهماليوم في التيه لا إمام لهم إلى أن يرجع إليهم محمد بن الحنفية في زعمهم ومنهم من يقول إن الإمام بعد أبي هاشم محمد بن علي بن عبدالله بن عباس أو أبوه علي قالوا وذلك أن أبا هاشم مات بأرض الشراة منصرفة من الشام وأوصى هناك إلى محمد بن علي بن عبدالله بن عابس وأوصى محمد بن علي إلى ابنه إبراهيم بن محمد ثم أوصى إبراهيم بن محمد إلى ابي العباس السفاح ثم أفضت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور بوصية بعضهم إلى بعض قال ثم رجع بعض هؤلاء عن هذا القول وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على العباس بن عبدالمطلب ونصبه إمام ثم نص العباس على إمامة ابنه عبدالله ونص عبدالله على إمامة ابنه علي بن عبدالله ثم ساقوا الإمامة إلى أن انتهوا بها إلى أبي جعفر المنصور وهؤلاء هم الراوندية

 

 

وافترقت هذه الفرقة في أمر أبي مسلم على مقالتين فزعمت فرقة منهم تدعى الرزامية أصحاب رجل يقال له رزام أن أبا مسلم قتل وقالت فرقة أخرى إن أبا مسلم لم يمت ويحكى عنهم الاستحلال لما لم يحلل لهم أسلافهم ومن الكيسانية طائفة يزعمون أن أبا هاشم نصب عبدالله بن عمرو بن حرب إماما وتحولت روح أبي هاشم فيه ثم وقفوا على كذب عبدالله بن عمرو فصاروا إلى المدينة يلتمسون إماما فلقوا عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بن ابي طالب فدعاهم إلى أن يأتموا به فاتخذوه إماما وادعوا له الوصية ثم منهم من قال إنه مات ومنهم من قال إنه لم يمت حتى يقوم ومنهم من قال بل هو المهدي المبشر به وأنه حي بجبال أصبهانومنهم من يقول إن أبا هاشم أوصى إلى بيان بن سمعان ومنهم من يقول أوصى إلى علي بن الحسين فهذه أقوال من يقول بوصول النص إلى محمد بن الحنفية ثم أبي هاشم ومن الرافضة من قال بل النص بعد الحسين بن علي على ابنه علي بن الحسين ثم إلى ابنه أبي جعفر وأن أبا جعفر أوصى إلى المغيرة بن سعيد فهم يأتمون به إلى أن يخرج المهدي والمهدي فيما زعموا هو محمد بن عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب وزعموا أنه حي مقيم بناحية الحاجر وأنه لا يزال مقيما هناك إلى أوان خروجه ومن الرافضة من يقول إن الإمام بعد أبي جعفر محمد بن علي هو محمد بن عبدالله بن الحسن الخارج بالمدينة في خلافة أبي جعفر المنصور وقصته مشهورة وزعموا أنه المهدي وأنكروا إمامة المغيرة بن سعيد

 

 

ومن الرافضة من قال إن أبا جعفر اوصى إلى أبي منصور ثم من هؤلاء من قال إنه أوصى إلى ابنه الحسن بن أبي منصور ومنهم من مال إلى تثبيت أمر محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسين وقالوا إنما أوصى أبو جعفر إلى أبي منصور دون بني هاشم كما أوصى موسى عليه السلام إلى يوشع بن نون دون ولده ودون ولد هارون عليه السلام ثم إن الأمر بعد أبي منصور راجع إلى ولد علي كما رجع الأمر بعد يوشع إلى ولد هارون ومنهم من قال إن أبا جعفر نص على ابنه جعفر بن محمد وأن جعفرا حي لم يمت ولا يموت حتى يظهر امره وهو القائم المهديومن الرافضة من يقول إن جعفر بن محمد مات وأن الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل وأنكروا أن يكون إسماعيل مات في حياة أبيه وقالوا لا يموت حتى يملك لأن أباه قد كان يخبر أنه وصيه والإمام بعده ومن الرافضة القرامطة يزعمون أن خلافة النبي صلى الله عليه وسلم اتصلت بالنص إلى جعفر كما يقوله الاثنا عشرية وأن جعفرا نص على إمامة ابن ابنه محمد بن إسماعليل وزعموا أن محمد بن إسماعيل حي إلى اليوم يعني إلى اوائل المائة والرابعة لم يمت ولا يموت حتى يملك الأرض وأنه هو المهدي الذي تقدمت البشارة به واحتجوا في ذلك باخبار رووها عن أسلافهم يخبرون فيها أن سابع الأئمة قائمهم وهؤلاء يقال لهم السبعية كما يقال لأولئك الاثنا عشرية وهؤلاء ذكر المصنفون مقالاتهم في أوائل الأمر قبل المائة الرابعة قبل ظهورهم بالمغرب والقاهرة فإن هؤلاء انتشر من أمرهم في أثناء المائة

 

 

الرابعة وبعدها ما يطول وصفه وظهر فيهم من الزندقة والإلحاد ما لم يعهد مثله لا في الغلاة ولا غيرهم ومن بقايا هؤلاء الملاحدة الذين كانوا بخراسان والشام وغيرهما وكان أهل بيت ابن سينا من المستجيبين لدعوتهم زمن الحاكم وكذلك هذا الطوسي وأمثاله من أعوانهم وكذلك سنان وغيره وأذكياءهم يعلمون كذبهم وجهلهم ولكن بسبب خدمتهم يحصل لهم من الرياسة والمال والشهوات ما لا يحصل بدون ذلك فهم يعاونونهم كما يعاون أمثالهم من أهل الكذب والظلم لتنال بهم الأغراض ومن الرافضة من يقول إنها في ولد محمد بن إسماعيل ومنهم من يقول إنها في ولد محمد بن جعفر بن محمد لا في إسماعيل وابنه ولا في موسى بن جعفر ومنهم من يقول إنها في ابنه عبدالله بن جعفر وكان أكبر من خلف من ولده وهؤلاء يقال لهم الفطحية لأن عبدالله بن جعفر كان أفطح الرجلين قالوا وهؤلاء عدد كثيرومن الرافضة من يقول بإمامة موسى بن جعفر بن محمد بعد أبيه ولكن يقول إن موسى بن جعفر حي لم يمت ولا يموت حتى يملك مشرق الأرض ومغربها وهذا الصنف يدعون الواقفة لأنهم وقفوا على موسى بن جعفر ولم يجاوزوه ويسمون الممطورة لأن يونس بن عبدالرحمن ناظرهم فقال أنتم أهون علي من الكلاب الممطورة فلزمهم هذا اللقب ومنهم قوم وقفوا في أمر موسى بن جعفر فقالوا لا ندري أمات أم لم يمت ومنهم من يقول إن موسى بن جعفر نص على إمامة ابنه أحمد ومن الرافضة من قال إن بعد محمد بن الحسن المنتظر عند الأثني

 

 

عشرية إماما آخر هوالقائم الذي يظهر فيملأ الدنيا عدلا ويقمع الظلم فهذا بعض اختلاف الرافضة القائلين بالنص فإذا كانوا أعظم تباينا واختلافا من سائر طوائف الأمة امتنع ان تكون هي الطائفة الناجية لأن أقل ما في الطائفة الناجية أن تكون متفقة في أصول دينها كاتفاق أهل السنة والجماعة على أصول دينهم وهؤلاء الإمامية الاثنا عشرية يقولون إن اصول الدين أربعة التوحيد والعدل والنبوة والإمامة وهم مختلفون في التوحيد والعدل والإمامة وأما النبوة فغايتهم أن يكونوا مقرين بها كإقرار سائر الأمة واختلافهم في الإمامة أعم من اختلاف سائر الأمة فإن قالت الإثنا عشرية نحن أكثر من هذه الطوائف فيكون الحق معنادونهم قيل لهم وأهل السنة أكثر منكم فيكون الحق معهم دونكم فغايتكم أن تكون سائر فرق الإمامية معكم بمنزلتكم مع سائر المسلمين والإسلام هو دين الله الذي يجمع أهل الحق.

*

فصل قال الرافضي: الوجه الثالث أن الإمامية جازمون بحصول النجاة لهم ولأئمتهم قاطعون بذلك وبحصول ضدها لغيرهم وأهل السنة لا يجيزون ولا يجزمون بذلك لا لهم ولا لغيرهم فيكون اتباع أولئك أولى. لأنا لو فرضنا مثلا خروج شخصين من بغداد يريدان الكوفة فوجدا طريقين سلك كل منهما طريقا فخرج ثالث يطلب الكوفة فسأل أحدهما إلى أين تذهب فقال إلى الكوفة فقال له هل طريقك

 

توصلك إليها وهل طريقك آمن أم مخوف وهل طريق صاحبك تؤديه إلى الكوفة وهل هو آمن أم مخوف فقال لا أعلم شيئا من ذلك ثم سأل صاحبه عن ذلك فقال أعلم أن طريقي يوصلني إلى الكوفة وأنه آمن وأعلم أن طريق صاحبي لا يؤديه إلى الكوفة وأنه ليس بآمن فإن الثالث إن تابع الأول عده العقلاء سفيها وإن تابع الثاني نسب إلى الأخذ بالحزم هكذا ذكره في كتابه والصواب أن يقال وسأل الثاني فقال له الثاني لا أعلم أن طريقي تؤديني إلى الكوفة ولا أعلم أنه آمن أم مخوف.

*والجواب على هذا من وجوه...

أحدها: أن يقال إن كان اتباع الأئمة الذين تدعي لهم الطاعة المطلقة وأن ذلك لا يوجب لهم النجاة واجبا كان اتباع خلفاءبني أمية الذين كانوا يوجبون طاعة أئمتهم طاعة مطلقا ويقولون إن ذلك يوجب النجاة مصيبين على الحق وكانوا في سبهم عليا وغيره وقتالهم لمن قاتلوه من شيعة على مصيبين لأنهم كانوا يعتقدون أن طاعة الأئمة واجبة في كل شيء وأن الإمام لا يؤاخذه الله بذنب وأنه لا ذنب لهم فيما أطاعوا فيه الإمام بل أولئك أولى بالحجة من الشيعة لأنهم كانوا مطيعين أئمة أقامهم الله ونصبهم وأيدهم وملكهم فإذا كان من مذهب القدرية أن الله لا يفعل إلا ما هو الأصلح لعباده كان تولية أولئك الأئمة مصلحة لعباده ومعلوم أن اللطف والمصلحة التي حصلت بهم أعظم من اللطف والمصلحة التي حصلت بإمام معدوم أو عاجز ولهذا حصل لأتباع خلفاء بني أمية من المصلحة في دينهم ودنياهم أعظم مما حصل لأتباع المنتظر فإن هؤلاء لم يحصل لهم إمام يأمرهم بشيء من المعروف ولا ينهاهم عن شيء من المنكر ولا يعينهم على شيء من مصلحة دينهم ولا دنياهم بخلاف أولئك فإنهم انتفعوا بأئمتهم منافع كثيرة في دينهم ودنياهم أعظم مما انتفع هؤلاء بأئمتهم

 

فتبين أنه إن كانت حجة هؤلاء المنتسبين إلى مشايعة علي رضي الله عنه صحيحة فحجة أولئك المنتسبين إلى مشايعة عثمان رضي الله عنه أولى بالصحة وإن كانت باطلة فهذه أبطل منها فإذا كان هؤلاء الشيعة متفقين مع سائر أهل السنة على أن جزم اولئك بنجاتهم إذا أطاعوا أولئك الأئمة طاعة مطلقة خطأ وضلال فخطأ هؤلاء وضلالهم إذا جزموا بنجاتهم لطاعتهم لمن يدعي أنه نائب المعصوم والمعصوم لا عين له ولا أثر أعظم وأعظم فإن الشيعة ليس لهم أئمة يباشرونهم بالخطاب إلا شيوخهم الذين يأكلون أموالهم بالباطل ويصدونهم عن سبيل الله ويصدونهم عن سبيل الله.

الوجه الثاني: أن هذا المثل إنما كان يكون مطابقا لو ثبت مقدمتنان إحداهما أن لنا إماما معصوما والثانية أنه أمر بكذا وكذا وكلتا المقدمتين غير معلومة بل باطلة دع المقدمة الأولى بل الثانية فإن الأئمة الذين يدعى فيهم العصمة قد ماتوا منذ سنينكثيرة والمنتظر له غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنة وعند آخرين هو معدوم لم يوجد والذين يطاعون شيوخ من شيوخ الرافضة أو كتب صنفها بعض شيوخ الرافضة وذكروا أن ما فيها منقول عن أولئك المعصومين وهؤلاء الشيوخ المصنفون ليسوا معصومين بالاتفاق ولا مقطوعا لهم النجاة فإذا الرافضة لا يتبعون إلا أئمة لا يقطعون بنجاتهم ولا سعادتهم فلم يكونوا قاطعين لا بنجاتهم ولا بنجاة أئمتهم الذين يباشرونهم بالأمر والنهي وهم أئمتهم حقا وإنما هم في انتسابهم إلى أولئك الأئمة بمنزلة كثير من أتباع شيوخهم الذين ينتسبون إلى شيخ قد مات من مدة ولا يدرون بماذا أمر ولا عماذا نهى بل له أتباع يأكلون أموالهم بالباطل ويصدون عن سبيل الله يأمرونهم بالغلو في ذلك الشيخ وفي خلفائه وأن يتخذوهم أربابا وكما تأمر شيوخ الشيعة

 

أتباعهم وكما تأمر شيوخ النصارى أتباعهم فهم يأمرونهم بالإشراك بالله وعبادة غير الله ويصدونهم عن سبيل الله فيخرجون عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن حقيقة التوحيد أن نعبد الله وحده فلا يدعى إلا هو ولا يخشى إلا هو ولا يتقى إلا هو ولا يتوكل إلا عليه ولا يكون الدين إلا له لا لأحد من الخلق وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أربابا فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله أمره ونهيه فلا يطاع مخلوق طاعة مطلقة إلا هو فإذا جعل الإمام والشيخ كأنه إله يدعى مع مغيبة وبعد موته ويستغاث به ويطلب منه الحوائج والطاعة إنما هي لشخص حاضر يأمر بما يريد وينهى عما يريد كان الميت مشبها بالله تعالى والحي مشبها برسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرجون عن حقيقة الإسلام الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله

 

 

ثم إن كثيرا منهم يتعلقون بحكايات تنقل عن ذلك الشيخ وكثير منها كذب عليه وبعضها خطأ منه فيعدلون عن النقل الصدق عن القائل المعصوم إلى نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم فإذا كان هؤلاء مخطئين في هذا فالشيعة أكثر وأعظم خطأ لأنهم أعظم كذبا فيما ينقلونه عن الأئمة وأعظم غلوا في دعوى عصمة الأئمة وإذا كان الواحد من هؤلاء أتباع الشيوخ الأحياء المضلين الغالين في شيخ قد مات مخطئين في قطعهم بالنجاة فخطأ الشيعة في قطعهم بالنجاة أعظم وأعظم وإن قدر أن طريق الشيعة صواب لما فيه من القطع والجزم بالنجاة فطريق المشايخية صواب لما فيه من القطع بالنجاة وحينئذ فيكون طريق من يعتقد أن يزيد بن معاوية كان من الأنبياء الذين يشربون الخمر وأن الخمر حلال له لأنه شربها الأنبياء ويزيد كان منهم طريقا صوابا وإذا كان يزيد نبيا كان من خرج على نبي كافرا فيلزم من ذلك كفر الحسين وغيره ويلزم من ذلك أن يكون طريق من يقول كل رزق لا يرزقنيه الشيخ لا أريده طريقاصحيحا وطريق من يقول إن الله ينزل إلى الأرض وأن كل مسجد فإن الله قد وضع قدمه عليه طريقا صحيحا وطريق من يقول على الدرة البيضاء كان اجتماعنا وفي قاب قوسين اجتماع الأحبة طريقا صحيحا وطريق من يقول إن شيخه قد أسقط عنه الصلاة طريقا صحيحا وأمثال هذه الضلالات التي توجد في كثير من العامة أتباع المشايخ فإن كثيرا من هؤلاء جازمون بنجاتهم وسعادة مشايخهم أعظم من قطع الإثني عشرية للأئمة وأتباعهم فإن كان ما ذكره من أتباع الجازم بالنجاة واجبا وجب أتباع هؤلاء ومن جملة اتباع هؤلاء القدح في الشيعة وإبطال طريقتهم فيلزم من اتباع الجازم إبطال قول الشيعة وإن لم يكن اتباع الجازم مطلقا طريقا صحيحا بطلت حجته وكذلك يقال لهؤلاء وهؤلاء إن كان اتباع أهل الجزم أولى بالاتباع من طريقة الذين يأمرون بطاعة الله ورسوله ويتبعون أهل

 

 

العلم والدين فيما يأمرون به من طاعة الله ورسوله ولا يوجبون طاعة معين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يضمنون السعادة إلا لمن أطاع الله ورسوله ويقولون إن من سواه يخطىء ويصيب فلا يطاع مطلقا فإن كان اتباع هؤلاء نقصا وخطأ والصواب اتباع أهل الجزم مطلقا وجب أتباع شيعة الأئمة المعصومين وشيعة المشايخ المحفوظين وشيعة هؤلاء يقدحون في هؤلاء وشيعة هؤلاء يقدحون في هؤلاء فيلزم أن يكون كل من الطريقين باطلا حقا وهذا جمع بين النقيضين وهذا إنما لزم لأن الأصل فاسد وهو اتباع من يجزم بلا علم ولا دليل فكل من جعل اتباع الشيخ الجازم والمجازف بلا حجة ولا دليل أو الإمامي الجازم المجازف بالنجاة بلا حجة ولا دليل مما يجب اتباعه لزم تناقض أقوالهم بخلاف الاقوال التي ترجع إلى أصل صحيح فإنها لا تتناقض.

الوجه الثالث: منع الحكم في هذا المثال الذي ضربه وجعله أصلا قاس عليه فإن الرجل إذا قال له أحد الرجلين طريقي آمن يوصلني وقال له الآخر لا علم لي بأن طريقي آمن يوصلني أو قال ذلك الأول لم يحسن في العقل تصديق الأول بمجرد قوله بل يجوز عند العقلاء أن يكون هذا محتالا عليه يكذب حتى يصحبه في الطريق فيقتله ويأخذ ماله ويجوز أن يكون جاهلا لا يعرف ما في الطريق من الخوف وأما ذاك الرجل فلم يضمن للسائل شيئا بل رده إلى نظره فالحزم في مثل هذا أن ينظر الرجل أي الطريقين أولى بالسلوك أحد ذينك الطريقين أو غيرهما ولو كان كل من قال إن طريقي آمن موصل يكون أولى بالتصديق ممن توقف لكان كل مفتر وجاهل يدعي في المسائل المشتبهة أن قولي فيها هو الصواب وأنا قاطع بذلك فيكون اتباعي أولى من طريق هؤلاء الذين ينظرون ويستدلون وكان ينبغي أن يكون الشيوخ الكذابون الذين يضمنون لمريدهم الجنة وأن لهم في الآخرة كذا وكذا وأن كل من أحبهم دخل الجنة وأن من أعطاهم المال أعطوه

 

الحال الذي يقر به إلى ذي الجلال أولى بالاتباع من ذوي العلم والصدق والعدل الذين لا يضمنون له إلا ما ضمنه الله ورسوله لمن أطاعه وكان أيضا ينبغي أن يكون أئمة الإسماعيلية كالمعز والحاكم وأمثالهما أولى بالاتباع من أئمة الإثني عشرية لأن أولئك يدعون من علم الغيب وكشف باطن الشريعة وعلو الدرجة أعظم مما تدعيه الإثنا عشرية لأصحابهم ويضمنون له هذا مع استحلال المحرمات وترك الواجبات فيقولون له قد أسقطنا عنك الصلاة والصوم والحج والزكاة وضمنا لك بموالاتنا الجنة ونحن قاطعون بذلك والاثنا عشرية يقولون لا يستحق الجنة حتى يؤدي الواجبات ويترك المحرمات فإن كان اتباع الجازم بمجرد جزمه أولى كان اتباع هؤلاء أولى من اتباع من يقول أنت إذا أذنبت يحتمل أن تعاقب ويحتمل أن يعفى عنك فيبقى بين الخوف والرجاء ونظائر هذا كثيرة فتبين أن مجرد الإقدام على الجزم لا يدل على علم صاحبه ولا على صدقه وأن التوقف والإمساك حتى يتبين الدليل هو عادة العقلاء.

الوجه الرابع: أن يقال قوله إنهم جازمون بحصول النجاة لهم دون أهل السنة كذب فإنه إن أراد بذلك أن كل واحد ممناعقتد اعتقادهم يدخل الجنة وإن ترك الواجبات وفعل المحرمات فليس هذا قول الإمامية ولا يقوله عاقل وإن كان حب علي حسنة لا يضر معها سيئة فلا يضره ترك الصلوات ولا الفجور بالعلويات ولا نيل أغراضه بسفك دماء بني هاشم إذا كان يحب عليا فإن قالوا المحبة الصادقة تستلزم الموافقة عاد الأمر إلى انه لا بد من أداء الواجبات وترك المحرمات وإن أراد بذلك أنهم يعتقدون أن كل من اعتقد الاعتقاد الصحيح وأدى الواجبات وترك المحرمات يدخل الجنة فهذا اعتقاد أهل السنة فإنهم يجزمون بالنجاة لكل من اتقى الله كما نطق به القرآن وإنما يتوقفون في الشخص المعين لعدم العلم بدخوله في المتقين فإنه إذا علم أنه مات على التقوى علم أنه من أهل الجنة ولهذا يشهدون بالجنة لمن شهد له الرسول صلى

 

الله عليه وسلم ولهم فيمن استفاض في الناس حسن الثناء عليه قولان فتبين أنه ليس في الإمامية جزم محمود اختصوا به عن أهل السنة والجماعة وإن قالوا إنا نجزم لكل شخص رأيناه ملتزما للواجبات عندنا تاركا للمحرمات بأنه من أهل الجنة من غير أن يخبرنا بباطنه معصوم قيل هذه المسألة لا تتعلق بالإمامية بل إن كان إلى هذا طريق صحيح فهو طريق لأهل السنة وهم بسلوكه أحذق وإن لم يكن هنا طريق صحيح إلى ذلك كان ذلك قولا بلا علم فلا فضيلة فيه بل في عدمه ففي الجملة لا يدعون علما صحيحا إلا وأهل السنة أحق به وما ادعوه من الجهل فهو نقص وأهل السنة أبعد عنه والقول بكون الرجل المعين من أهل الجنة قد يكون سببه إخبار المعصوم وقد يكون سببه تواطؤ شهادات المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرضكما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت وجبت ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال وجبت وجبت فقالوا يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت قال هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار قالوا بم يا ر سول الله قال بالثناء الحسن والثناء السيءوقد يكون سبب ذلك تواطؤ رؤيا المؤمنين فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لم يبق بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل المؤمن الصالح أو ترى له وسئل عن قوله تعالى لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة (سورة يونس). قال هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له وقد فسرها أيضا بثناء المؤمنين فقيل يا رسول الله الرجل يعمل

 

 

العمل لنفسه فيحمده الناس عليه فقال تلك عاجل بشرى المؤمن والرؤيا قد تكون من الله وقد تكون من حديث النفس وقد تكون من الشيطان فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على أمر كان حقا كما إذا تواطأت رواياتهم أو رأيهم فإن الواحد قد يغلط أو يكذب وقد يخطىء في الرأي أو يتعمد الباطل فإذا إجتمعوا لم يجتمعوا على ضلالة وإذا تواترت الروايات أورثت العلم وكذلك الرؤيا قال النبي صلى الله عليه وسلم أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في السبع الأواخر فمن كان منكم متحريها فيلتحرها في السبع الأواخروهذه الأسباب كلها عند أهل السنة أكمل وأتم مما هي عند الشيعة فلا طريق لهم إلى العلم بالسعادة وحصولها إلا وذلك الطريق أكمل لأهل السنة.

الوجه الخامس: أن أهل السنة يجزمون بحصول النجاة لأئمتهم أعظم من جزم الرافضة وذلك أن أئمتهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وهم جازمون بحصول النجاة لهؤلاء فإنهم يشهدون أن العشرة في الجنة ويشهدون أن الله قال لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم بل يقولونإنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء أكثر من ألف وأربعمائة إمام لأهل السنة يشهدون أنه لا يدخل النار منهم أحد وهي شهادة بعلم كما دل على ذلك الكتاب والسنة.

الوجه السادس: أن يقال أهل السنة يشهدون بالنجاة إما مطلقا وإما معينا شهادة مستندة إلى علم وأما الرافضة فإنهم إن شهدوا شهدوا بما لا يعلمون أو شهدوا بالزور الذي يعلمون أنه كذب فهم كما قال الشافعي رحمه الله ما رأيت قوما أشهد بالزور من الرافضة.

 

الوجه السابع: أن الإمام الذي شهد له بالنجاة إما أن يكون هو المطاع في كل شيء وإن نازعه غيره من المؤمنين أو هو المطاع فيما يأمر به من طاعة الله ورسوله وفيما يقوله باجتهاده إذا لم يعلم أن غيره أولى منه ونحو ذلك فإن كان الإمام هو الأول فلا إمام لأهل السنة بهذا الإعتبار إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس عندهم من يجب أن يطاع في كل شيء إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون كما قال مجاهد والحاكم ومالك وغيرهم كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشهدون لإمامهم أنه خير الخلائق ويشهدون بأن كل من ائتم به ففعل ما أمر به وترك ما نهى عنه دخل الجنة وهذه الشهادة بهذا وهذا هم فيها أتم من الرافضة من شهادتهم للعسكريين وأمثالهما بانه من أطاعهم دخل الجنة فثبت أن إمام أهل السنة أكمل وشهادتهم له ولهم إذا أطاعوهأكمل ولا سواء ولكن قال الله تعالى آلله خير أما يشركون (سورة النمل). فعند المقابلة يذكر فضل الخير المحض على الشر المحض وإن كان الشر المحض لا خير فيه وإن أرادوا بالإمام الإمام المقيد فذاك لا يوجب أهل السنة طاعته إن لم يكن ما أمر به موافقا لأمر الإمام المطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم إذا أطاعوه فيما أمر الله بطاعته فيه فإنما هم مطيعون لله ورسوله فلا يضرهم توقفهم في الإمام المقيد هل هو في الجنة أم لا كما لا يضر أتباع المعصوم عندهم إذا أطاعوا نوابه مع أن نوابه قد يكونون من أهل النار لا سيما ونواب المعصوم عندهم لا يعلم أنهم يأمرون بما يأمر به المعصوم لعدم العلم بما يقوله معصومهم وأما أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فهي معلومة فمن أمر بها فقد علم أنه وافقها ومن أمر بخلافها علم أنه خالفها وما خفى منها فاجتهد فيه نائبه فهذا خير من طاعة نائب لمن تدعى

 

عصمته ولا أحد يعلم بشيء مما أمر به هذا الغائب المنتظر فضلا عن العلم بكون نائبه موافقا أو مخالفا فإن ادعوا أن النواب عالمون بأمر من قبله فعلم علماء الأمة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل من علم هؤلاء بقول من يدعون عصمته ولو طولب أحدهم بنقل صحيح ثابت بما يقولونه عن علي أو عن غيره لما وجدوا إلى ذلك سبيلا وليس لهم من الإسناد والعلم بالرجال الناقلين ما لأهل السنة.

الوجه الثامن: أن يقال إن الله قد ضمن السعادة لمن أطاعه وأطاع رسوله وتوعد بالشقاء لمن لم يفعل ذلك فمناط السعادة طاعة الله ورسوله كما قال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (سورة النساء). وأمثال ذلك وإذا كان كذلك والله تعالى يقول فاتقوا الله مااستطعتم (سورة التغابن). فمن اجتهد في طاعة الله ورسوله بحسب استطاعته كان من أهل الجنة فقول الرافضة لن يدخل الجنة إلا من كان إماميا كقول اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم

 

قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ومن المعلوم أن المنتظر الذي يدعيه الرافضي لا يجب على أحد طاعته فإنه لا يعلم له قول منقول عنه فإذا من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم دخل الجنة وإن لم يؤمن بهذا الإمام ومن آمن بهذا الإمام لم يدخل الجنة إلا إذا أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي مدار السعادة وجودا وعدما وهي الفارقة بين أهل الجنة والنار ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس والله سبحانه وتعالى قد دل الخلق على طاعته بما بينه لهم فتبين أن أهل السنة جازمون بالسعادة والنجاة لمن كان من أهل السنة.تم بحمد الله الجزء الثالث من كتاب منهاج السنة في نقض كلام الشيعة القدرية لابن تيمية ويتلوه إن شاء الله

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اسم الكتاب: منهاج السنة النبوية

///

الجزء الرابع///

بسم الله الرحمن الرحيم

*

فصل قال الرافضي: الوجه الرابع أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن الأئمة المعصومين المشهورين بالفضل والعلم والزهد والورع والاشتغال في كل وقت بالعبادة والدعاء وتلاوة القران والماداومة على ذلك من زمن الكفولية الى اخر العمر ومنهم من يعلم الناس العلوم ونزل في حقهم هل أتى واية الطهارة وإيجاب المودة لهم واية الابتهال وغير ذلك وكان علي رضي الله عنه يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة ويتلو القران مع شدة ابتلائه بالحروب والجهاد فأولهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعله الله نفس رسول الله حيث قال وأنفسنا وأنفسكم وواخاه رسول الله وزوجه ابنته وفضله لا يخفى وظهرت منه معجزات كثيرة حتى ادعى قوم فيه الربوية وقتلهم وصار إلى مقالتهم اخرون إلى هذه الغاية كالغلاة والنصيرية وكان ولداه سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدا شباب أهل الجنة إمامين بنص النبي صلى الله عليه وسلم وكانا أزهد الناس وأعلمهم في زمانهما وجاهدا في الله حق جهادة حتى قتلا ولبس الحسن الصوف تحت ثيابه الفاخرة من

 

غير أن يشعر أحد بذلك وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يوما الحسين على فخذه الأيمن وإبراهيم على فخذه الأيسر فنزل جبرائيل عليه السلام وقال إن الله تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما فاختر من شئت منهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا مات الحسين بكيت أنا وعلى وفاطمة وإذا مات إبراهيم بكيت أنا عليه فاختار موت إبراهيم فمات بعد ثلاثة أيام وكان أذا جاء الحسين بعد ذلك يقبله ويقول أهلا ومرحبا بمن فديته بابني إبراهيم وكان علي بن الحسين زين العابدين يصوم نهاره ويقوم ليله ويتلو الكتاب العزيز ويصلى كل يوم وليلة ألف ركعة ويدعو كل ركعتين بالأدعية المنقولة عنه وعن ابائه ثم يرمي الصحيفة كالمتضجر ويقول أني لي بعبادة على وكان يبكي كثيرا حتى أخذت الدموع من لحم خديه وسجد حتى سمى ذا الثفنات وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد العابدين وكان قد حج هشام بن عبد الملك فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يكنه من الزحام فجاء زين العابدين فوقف الناس له وتنحوا عن الحجر حتى استلمه ولم يبق عند الحجر سواه فقال هشام بن عبد الملك من هذا فقال الفرزدق الشاعر هذا الذي تعرف البحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم وهذا التقى النقى الطاهر العلم يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحكيم إذا ما جاء يستلم

 

إذا رأته قريش قال قائلها إلى مكامر هذا ينتهى الكرم إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم هذا ابن فاكمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا يغضي حياء ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم ينشق نور الهدى عن صبح غرته كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم مشتقة من رسول الله نبعته طابت عناصره والخيم والشيم الله شرفه قدنا وفضله جرى بذاك له في لوجه القلم من معشر حبهم دين ويغضهم كفر وقربهم ملجا ومعتصم لا يستطيع جواد بعد غايتهم ولا يدانيهم قوم وإن كرموا هم الغيوث إذا أومة أزمت والأسد أسد الشرى والرأى محتدم لا ينقص العسر بسطا من أكفهم سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا ما قال لا قط إلا في تشهده ويترق به الإحسان والنعم يستدفع السوء والبلوي بحبهم ويسترق به الإحسان والنعم مقدم بعد ذكر الله ذكرهم في كل بر ومختوم به الكلم من يعرف الله يعف أولية ذا فالدين من بيت هذا ناله الأمم فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بين مكة والمدينة فقال الفرزدق هذه الأبيات وبعث بها إليه أتحبسني بين المدينة والتي إليها قلوب الناس يهوى منبيها تقلب رأسا لم يكن رأس سيد وعينا له حولاء باد عيوبها فبعث إليه الإمام زين العابدين بألف دينار فردها وقال إنما قلت هذا غضبا لله ولرسوله فما اخذ عليه أجرا فقال علي بن الحسن نحن أهل بيت لا يعود إلينا ما خرج منا فقبلها الفرزدق

 

وكان بالمدينة قوم يأتيهم رزقهم ليلا ولا يعرفون ممن هو فلما مات زين العابدين انقطع ذلك عنهم وعرفوا أنه كان مه وكان ابنه محمد الباقر أعظم الناس زهدا وعبادة بقر السجود جبهته وكان أعلم أهل وقته سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الباقر وجاء جابر بن عبد الله الأنصاري إليه وهو صغير في الكتاب فقال له جدك رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عليك فقال وعلى جدي السلام فقيل لجابر كيف هذا قال كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسين في حجره وهو يلاعبه فقال يا جابر يولد له ولد اسمه على إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم سيد العابدين فيقوم ولده ثم يولد له مولود اسمه محمد الباقر يبقر العلم بقرا فإذا رأيته فاقرئه مني السلام وروى عنه أبو حنيفة وغيره وكان ابنه الصادق عليه السلام أفضل أهل زمانه وأعبدهم قال علماء السيرة إنه اشتغل بالعبادة عن طلب الرياسة وقال عمربن أبي المقدام كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد الصادق علمت أنه من سلالة النبيين وهو الذي نشر فقه الإمامية والمعارف الحقيقة والعقائد اليقينية وكان لا يخبر بأمر إلا وقع وبه سموه الصادق الأمين وكان عبد الله بن الحسن جمع أكابر العلويين للبيعة لولديه فقال الصادق هذا الأمر لا يتم فاغتاظ من ذلك فقال أنه لصاحب القباء الأصفر وأشار بذلك إلى المنصور فلما سمع المنصور بذلك فرح لعلمه بوقوع ما يخبر به وعلم أن الأمر يصل إليه ولما هرب كان يقول أين قول صادقهم وبعد ذلك انتهى الأمر إليه وكان ابنه موسى الكائط يدعى بالعبد الصالح وكان أعبد أهل زمانه يقوم الليل ويصوم النهار وسمي الكاظم لأنه كان إذ بلغه عن

 

أحد شيء بعث إليه بمال ونقل فضله الموافق والمخالف قال ابن الجوزي من الحنابلة روى عن شقيق البلخي قال خرجت حاجا سنة تسع وأربعين ومائة فنزلت القادسية فإذا شاب حسن الوجه شديد السمرة عليه ثوب صوف مشتمل بشملة في رجليه نعلان وقد جلس منفردا عن الناس فقلت في نفسي هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كلا على الناس والله لأمضين إليه أوبخه فدنوت منه فلما راني مقبلا قال يا شقيق اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم فقلت في نفسي هذا عبد صالح قد نطق على ما في خاطري لألحقنه ولأسألته أن يحاللني فغاب عن عيني فلما نزلنا واقصة إذا به يصلي وأعضاؤه تضطرب ودموعه تتحادر فقلت أمضي إليه وأعتذر فأوجز في صلاته ثم قال يا شقيق وإني لغفار لمن تاب وامن وعمل صالحا ثم اهتدى فقلت هذا من الأبدال قد تكلم على سرى مرتين فلما نزلنا زبالة إذا به قائم على البئر وبيده ركوة يريد أن يستقى ماء فسقطت الركوة من يده في البئر فرفع طرفه إلى السماء وقال أنت ربى إذا ظمئت إلى الما وقوتي إذا أردت الطعاما يا سيدي مالي سواها قال شقيق فوالله لقد رأيت البئر قد ارتفع ماؤها فأخذ الركوة وملأها توضأ وصلى أربع ركعات ثم مال إلى كثيب رمل هناك فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويشرب فقلت أطعمني من فضل ما رزقك الله أو ما أنعم الله عليك فقال يا شقيق لم تزل نعم الله علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكر ما شربت والله ألذ منه ولا أطيب منه ريحا فشبعت ورويت وأقمت أياما لا أشتهى طعاما

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق