الاثنين، 27 نوفمبر 2023

ج6. البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

 

ج6. البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

نَعَامَةٌ بَيْضَاءُ عَلَيْهَا رَاكِبٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ مِثْلُ اللَّبَنِ فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ بْنَ مِرْدَاسٍ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّمَاءَ كَفَتْ أَحْرَاسَهَا، وَأَنَّ الْحَرْبَ تَجَرَّعَتْ أَنْفَاسَهَا، وَأَنَّ الْخَيْلَ وَضَعَتْ أَحْلَاسَهَا، وَأَنَّ الَّذِي نَزَلَ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَا، صَاحِبُ النَّاقَةِ الْقَصْوَا قَالَ: فَرَجَعْتُ مَرْعُوبًا قَدْ رَاعَنِي مَا رَأَيْتُ، وَسَمِعْتُ حَتَّى جِئْتُ وَثَنًا لَنَا يُدْعَى الضِّمَارَ، وَكُنَّا نَعْبُدُهُ، وَنُكَلَّمُ مَنْ جَوْفِهِ فَكَنَسْتُ مَا حَوْلَهُ، ثُمَّ تَمَسَّحْتُ بِهِ وَقَبَّلْتُهُ فَإِذَا صَائِحٌ مَنْ جَوْفِهِ يَقُولُ
قُلْ لِلْقَبَائِلِ مِنْ سُلَيْمٍ كُلِّهَا هَلَكَ الضَّمَارُ وَفَازَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ
هَلَكَ الضِّمَارُ وَكَانَ يُعْبَدُ مَرَّةً قَبْلَ الْكِتَابِ مَعَ النَّبِيِّ مُحَمَّدِ
إِنَّ الَّذِي وَرِثَ النُّبُوَّةَ وَالْهُدَى بِعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَدِ
قَالَ: فَخَرَجْتُ مَرْعُوبًا حَتَّى أَتَيْتُ قَوْمِي فَقَصَصْتُ عَلَيْهِمُ الْقِصَّةَ، وَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ، وَخَرَجْتُ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ قَوْمِيبَنِي حَارِثَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي: يَا عَبَّاسُ كَيْفَ كَانَ إِسْلَامُكَ ؟ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ قَالَ: فَسُرَّ بِذَلِكَ، وَأَسْلَمْتُ أَنَا وَقَوْمِي.
وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي

عَاصِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بِهِ، ثُمَّ رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْأَصْمَعِيِّ حَدَّثَنِي الْوَصَّافِيُّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ إِسْحَاقَ الْخُزَاعِيِّ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ قَالَ: أَوَّلُ إِسْلَامِي أَنَّ مِرْدَاسًا أَبِي لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَانِي بِصَنَمٍ لَهُ يُقَالَ لَهُ: ضِمَارٌ فَجَعَلْتُهُ فِي بَيْتٍ، وَجَعَلْتُ آتِيهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً فَلَمَّا ظَهَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتُ صَوْتًا مُرْسَلًا فِي جَوْفِ اللَّيْلِ رَاعَنِي فَوَثَبْتُ إِلَى ضِمَارٍ مُسْتَغِيثًا، وَإِذَا بِالصَّوْتِ مِنْ جَوْفِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
قَلْ لِلْقَبِيلَةِ مِنْ سُلَيْمٍ كِلِّهَا هَلَكَ الْأَنِيسُ وَعَاشَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ
أَوْدَى ضِمَارُ وَكَانَ يُعْبَدُ مَرَّةً قَبْلَ الْكِتَابِ إِلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدِ
إِنَّ الَّذِي وَرِثَ النُّبُوَّةَ وَالْهُدَى بَعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَدِ
قَالَ: فَكَتَمْتُهُ النَّاسَ فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ مِنَ الْأَحْزَابِ، بَيْنَا أَنَا فِي إِبِلِي بِطَرَفِ الْعَقِيقِ مَنْ ذَاتِ عِرْقٍ رَاقِدًا سَمِعْتُ صَوْتًا، وَإِذَا بِرَجُلٍ عَلَى جَنَاحِ نَعَامَةٍ، وَهُوَ يَقُولُ: النُّورُ الَّذِي وَقَعَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ، مَعَ صَاحِبِ النَّاقَةِ الْعَضْبَاءِ، فِي دِيَارِ إِخْوَانِ بَنِي الْعَنْقَاءِ. فَأَجَابَهُ هَاتِفٌ مِنْ شِمَالِهِ وَهُوَ يَقُولُ:

بَشِّرِ الْجِنَّ وَإِبْلَاسَهَا أَنْ وَضَعَتِ الْمَطِيُّ أَحْلَاسَهَا
وَكَلَأَتِ السَّمَاءُ أَحْرَاسَهَا
قَالَ: فَوَثَبْتُ مَذْعُورًا، وَعَلِمْتُ أَنَّ مُحَمَّدًا مُرْسَلٌ فَرَكِبْتُ فَرَسِي، وَاحْتَثَثْتُ السَّيْرَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ فَبَايَعْتُهُ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ إِلَى ضِمَارٍ فَأَحْرَقْتُهُ بِالنَّارِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْشَدْتُهُ شِعْرًا أَقُولُ فِيهِ
لَعَمْرُكَ إِنِّي يَوْمَ أَجْعَلُ جَاهِلًا ضِمَارًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مُشَارِكًا
وَتَرْكِي رَسُولَ اللَّهِ وَالْأَوْسَ حَوْلَهُ أُولَئِكَ أَنْصَارٌ لَهُ مَا أُولَئِكَا
كَتَارِكِ سَهْلِ الْأَرْضِ وَالْحَزْنَ يَبْتَغِي لِيَسْلُكَ فِي وَعْثِ الْأُمُورِ الْمَسَالِكَا
فَآمَنْتُ بِاللَّهِ الَّذِي أَنَا عَبْدُهُ وَخَالَفْتُ مَنْ أَمْسَى يُرِيدُ الْمَهَالِكَا
وَوَجَّهْتُ وَجْهِي نَحْوَ مَكَّةَ قَاصِدًا أُبَايِعُ نَبِيَّ الْأَكْرَمِينَ الْمُبَارَكَا
نَبِيٌّ أَتَانَا بَعْدَ عِيسَى بِنَاطِقٍ مِنَ الْحَقِّ فِيهِ الْفَصْلُ فِيهِ كَذَلِكَا
أَمِينٌ عَلَى الْقُرْآنِ أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مَبْعُوثٍ يُجِيبُ الْمَلَائِكَا
تَلَافَى عُرَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ انْتِقَاضِهَا فَأَحْكَمَهَا حَتَّى أَقَامَ الْمَنَاسِكَا
عَنَيْتُكَ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا تَوَسَّطْتَ فِي الْفَرْعَيْنِ وَالْمَجْدِ مَالِكا

وَأَنْتَ الْمُصَفَّى مِنْ قُرَيْشٍ إِذَا سَمَتْ عَلَى ضُمْرِهَا تَبْقَى الْقُرُونَ الْمُبَارَكَا
إِذَا انْتَسَبَ الْحَيَّانِ كَعْبٌ وَمَالِكٌ وَجَدْنَاكَ مَحْضًا وَالنِّسَاءَ الْعَوَارِكَا
قَالَ الْخَرَائِطِيُّ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلَوِيُّ بِمِصْرَ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ مِنْ آلِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْ خَثْعَمٍ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مِمَّا دَعَانَا إِلَى الْإِسْلَامِ أَنَّا كُنَّا قَوْمًا نَعْبُدُ الْأَوْثَانَ فَبَيْنَا نَحْنُ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ وَثَنٍ لَنَا، إِذْ أَقْبَلَ نَفَرٌ يَتَقَاضَوْنَ إِلَيْهِ، يَرْجُونَ الْفَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، لِشَيْءٍ شَجَرَ بَيْنَهُمْ إِذْ هَتَفَ بِهِمْ هَاتِفٌ مِنَ الصَّنَمِ فَجَعَلَ يَقُولُ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ذَوُو الْأَجْسَامِ مِنْ بَيْنِ أَشْيَاخٍ إِلَى غُلَامِ
مَا أَنْتُمْ وَطَائِشُ الْأَحْلَامِ وَمُسْنِدُ الْحُكْمِ إِلَى الْأَصْنَامِ
أَكُلُّكُمْ فِي حِيرَةِ النِّيَامِ أَمْ لَا تَرَوْنَ مَا أَرَى أَمَامِي
مِنْ سَاطِعٍ يَجْلُو دُجَى الظَّلَامِ قَدْ لَاحَ لِلنَّاظِرِ مِنْ تِهَامِ
ذَاكَ نَبِيٌّ سَيِّدُ الْأَنَامِ قَدْ جَاءَ بَعْدَ الْكُفْرِ بِالْإِسْلَامِ

أَكْرَمَهُ الرَّحْمَنُ مِنْ إِمَامِ وَمِنْ رَسُولٍ صَادِقِ الْكَلَامِ
أَعْدَلَ ذِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ يَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ
وَالْبِرِّ وَالصِّلَاتِ لِلْأَرْحَامِ وَيَزْجُرُ النَّاسَ عَنِ الْآثَامِ
وَالرِّجْسِ وَالْأَوْثَانِ وَالْحَرَامِ مِنْ هَاشِمٍ فِي ذِرْوَةِ السَّنَامِ
مُسْتَعْلِنًا فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْنَا ذَلِكَ تَفَرَّقْنَا عَنْهُ، وَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْنَا.
وَقَالَ الْخَرَائِطِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْبَلَوِيُّ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَكْبَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ: رَافِعُ بْنُ عُمَيْرٍ وَكَانَ أَهْدَى النَّاسِ لِلطَّرِيقِ، وَأَسْرَاهُمْ بِلَيْلٍ، وَأَهْجَمَهُمْ عَلَى هَوْلٍ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّيهِ لِذَلِكَ دُعْمُوصَ الْعَرَبِ، لِهِدَايَتِهِ وَجَرَاءَتِهِ عَلَى السَّيْرِ فَذَكَرَ عَنْ بَدْءِ إِسْلَامِهِ قَالَ: إِنِّي لَأَسِيرُ بِرَمْلِ عَالِجٍ ذَاتَ لَيْلَةٍ إِذْ غَلَبَنِي النَّوْمُ فَنَزَلْتُ عَنْ رَاحِلَتِي وَأَنَخْتُهَا وَتَوَسَّدْتُ ذِرَاعَهَا وَنِمْتُ، وَقَدْ تَعَوَّذْتُ قَبْلَ نَوْمِي فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذَا الْوَادِي مِنَ الْجِنِّ مِنْ أَنْ أُؤْذَى أَوْ أُهَاجَ فَرَأَيْتُ فِي مَنَامِي رَجُلًا شَابًّا يَرْصُدُ نَاقَتِي، وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ يُرِيدُ أَنْ يَضَعَهَا فِي نَحْرِهَا فَانْتَبَهْتُ لِذَلِكَ فَزِعًا فَنَظَرْتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَمْ أَرَ شَيْئًا فَقُلْتُ: هَذَا حُلْمٌ، ثُمَّ عُدْتُ فَغَفَوْتُ فَرَأَيْتُ فِي مَنَامِي مِثْلَ رُؤْيَايَ الْأُولَى فَانْتَبَهْتُ

فَدُرْتُ حَوْلَ نَاقَتِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَإِذَا نَاقَتِي تُرْعَدُ، ثُمَّ غَفَوْتُ فَرَأَيْتُ مِثْلَ ذَلِكَ فَانْتَبَهْتُ فَرَأَيْتُ نَاقَتِي تَضْطَرِبُ وَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بَرْجَلٍ شَابٍّ كَالَّذِي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ بِيَدِهِ حَرْبَةٌ، وَرَجُلٍ شَيْخٍ مُمْسِكٍ بِيَدِهِ يَرُدُّهُ عَنْهَا وَهُوَ يَقُولُ
يَا مَالِكُ بْنَ مُهَلْهِلِ بْنِ دِثَارِ مَهْلًا فِدًى لَكَ مِئْزَرِي وَإِزَارِي
عَنْ نَاقَةِ الْإِنْسِيِّ لَا تَعْرِضْ لَهَا وَاخْتَرْ بِهَا مَا شِئْتَ مِنْ أَثْوَارِي
وَلَقَدْ بَدَا لِي مِنْكَ مَا لَمْ أَحْتَسِبْ أَلَّا رَعَيْتَ قَرَابَتِي وَذِمَارِي
تَسْمُو إِلَيْهِ بِحَرْبَةٍ مَسْمُومَةٍ تَبًّا لِفِعْلِكَ يَا أَبَا الْغَفَّارِ
لَوْلَا الْحَيَاءُ وَأَنَّ أَهْلَكَ جِيرَةٌ لَعَلِمْتَ مَا كَشَّفْتَ مِنْ أَخْبَارِي
قَالَ: فَأَجَابَهُ الشَّابُّ وَهُوَ يَقُولُ
أَأَرَدْتَ أَنْ تَعْلُو وَتَخْفِضَ ذِكْرَنَا فِي غَيْرِ مُزْرِيةٍ أَبَا الْعَيْزَارِ
مَا كَانَ فِيهِمْ سَيِّدٌ فِيمَا مَضَى إِنَّ الْخِيَارَ هُمُو بَنُو الْأَخْيَارِ
فَاقْصِدْ لِقَصْدِكَ يَا مُعَكْبِرُ إِنِّمَا كَانَ الْمُجِيرُ مُهَلْهِلَ بْنَ دِثَارِ
قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمَا يَتَنَازَعَانِ، إِذْ طَلَعَتْ ثَلَاثَةُ أَثْوَارٍ مِنَ الْوَحْشِ فَقَالَ الشَّيْخُ لِلْفَتَى: قُمْ يَا ابْنَ أُخْتِ، فَخُذْ أَيُّهَا شِئْتَ فَدَاءً لِنَاقَةِ جَارِي الْإِنْسِيِّ. فَقَامَ الْفَتَى فَأَخَذَ مِنْهَا ثَوْرًا وَانْصَرَفَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الشَّيْخِ فَقَالَ: يَا هَذَا إِذَا نَزَلْتَ وَادِيًا مِنَ الْأَوْدِيَةِ فَخِفْتَ هَوْلَهُ فَقُلْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ رَبِّ مُحَمَّدٍ مِنْ هَوْلِ هَذَا الْوَادِي وَلَا تَعُذْ بِأَحَدٍ مِنَ الْجِنِّ فَقَدْ بَطَلَ أَمْرُهَا قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: وَمَنْ مُحَمَّدٌ هَذَا ؟ قَالَ: نَبِيٌّ عَرَبِيٌّ لَا شَرْقِيٌّ وَلَا غَرْبِيٌّ بُعِثَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. قُلْتُ:

وَأَيْنَ مَسْكَنُهُ ؟ قَالَ: يَثْرِبُ ذَاتُ النَّخْلِ قَالَ: فَرَكِبْتُ رَاحِلَتِي حِينَ بَرَقَ لِيَ الصُّبْحُ وَجَدَدْتُ السَّيْرَ حَتَّى تَقَحَّمْتُ الْمَدِينَةَ فَرَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَنِي بِحَدِيثِي قَبْلَ أَنْ أَذْكُرَ لَهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَدَعَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمْتُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَكُنَّا نَرَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [ الْجِنِّ: 6 ].
وَرَوَى الْخَرَائِطِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِذَا كُنْتَ بِوَادٍ تَخَافُ السَّبْعَ فَقُلْ: أَعُوذُ بِدَانْيَالَ وَالْجُبِّ مِنْ شَرِّ الْأَسَدِ.
وَرَوَى الْبَلَوِيُّ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قِصَّةَ قِتَالِ عَلِيٍّ الْجِنَّ بِالْبِئْرِ ذَاتِ الْعَلَمِ الَّتِي بِالْجُحْفَةِ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَقِي لَهُمُ الْمَاءَ فَأَرَادُوا مَنْعَهُ، وَقَطَعُوا الدَّلْوَ فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ، وَهِيَ قِصَّةٌ مُطَوَّلَةٌ مُنْكَرَةٌ جِدًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْخَرَائِطِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحَارِثِ مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ الدِّمَشْقِيُّ

وَغَيْرُهُ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِنْتِ شُرَحْبِيلَ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا مَجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَذَاكَرُونَ فَضَائِلَ الْقُرْآنِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَوَاتِيمُ سُورَةِ النَّحْلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُورَةُ يس، وَقَالَ عَلِيٌّ: فَأَيْنَ أَنْتُمْ، عَنْ فَضِيلَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ ؟ أَمَا إِنَّهَا خَمْسُونَ كَلِمَةً فِي كُلِّ كَلِمَةٍ سَبْعُونَ بَرَكَةً. قَالَ: وَفِي الْقَوْمِ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يكَرِبَ لَا يُحِيرُ جَوَابًا فَقَالَ: أَيْنَ أَنْتُمْ عَنْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ: حَدِّثْنَا يَا أَبَا ثَوْرٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ جَهَدَنِي الْجُوعُ فَأَقْحَمْتُ فَرَسِي فِي الْبَرِّيَّةِ، فَمَا أَصَبْتُ إِلَّا بَيْضَ النَّعَامِ، فَبَيْنَا أَنَا أَسِيرُ، إِذَا أَنَا بِشَيْخٍ عَرَبِيٍّ فِي خَيْمَةٍ، وَإِلَى جَانِبِهِ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا شَمْسٌ طَالِعَةٌ، وَمَعَهُ غُنَيْمَاتٌ لَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: اسْتَأْسِرْ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ فَرَفَعَ رَأَسَهُ إِلَيَّ، وَقَالَ: يَا فَتَى إِنْ أَرَدْتَ قِرًى فَانْزِلْ، وَإِنْ أَرَدْتَ مَعُونَةً أَعَنَّاكَ، فَقُلْتُ لَهُ: اسْتَأْسِرْ فَقَالَ
عَرَضْنَا عَلَيْكَ النُّزْلَ مِنَّا تَكَرُّمًا فَلَمْ تَرْعَوِي جَهْلًا كَفِعْلِ الْأَشَائِمِ
وَجِئْتَ بِبُهْتَانٍ وَزُورٍ وَدُونَ مَا تَمَنَّيْتَهُ بِالْبَيْضِ حَزُّ الْحَلَاقِمِ

قَالَ: وَوَثَبَ إِلَيَّ وَثْبَةً، وَهُوَ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَكَأَنِّي مَثَلْتُ تَحْتَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَقْتُلُكَ أَمْ أُخَلِّي عَنْكَ ؟ قُلْتُ: بَلْ خَلِّ عَنِّي، قَالَ: فَخَلَّى عَنِّي، ثُمَّ إِنْ نَفْسِي حَدَّثَتْنِي بِالْمُعَاوَدَةِ فَقُلْتُ: اسْتَأْسِرْ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ فَقَالَ:
بِبِسْمِ اللَّهِ وَالرَّحْمَنِ فُزْنَا هُنَالِكَ وَالرَّحِيمِ بِهِ قَهَرْنَا
وَمَا تُغْنِي جَلَادَةُ ذِي حِفَاظٍ إِذَا يَوْمًا لِمَعْرَكَةٍ بَرَزْنَا
ثُمَّ وَثَبَ لِي، وَثْبَةً كَأَنِّي مَثَلْتُ تَحْتَهُ فَقَالَ: أَقْتُلُكَ أَمْ أُخَلِّي عَنْكَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلْ خَلِّ عَنِّي فَخَلَّى عَنِّي فَانْطَلَقْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ قُلْتُ فِي نَفْسِي: يَا عَمْرُو، أَيَقْهَرُكَ هَذَا الشَّيْخُ وَاللَّهِ لَلْمَوْتُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْحَيَاةِ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: اسْتَأْسِرْ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، فَوَثَبَ إِلَيَّ وَثْبَةً وَهُوَ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَكَأَنِّي مَثَلْتُ تَحْتَهُ فَقَالَ: أَقْتُلُكَ أَمْ أُخَلِّي عَنْكَ ؟ قُلْتُ: بَلْ خَلِّ عَنِّي فَقَالَ: هَيْهَاتَ يَا جَارِيَةُ، ائْتِينِي بِالْمُدْيَةِ فَأَتَتْهُ بِالْمُدْيَةِ فَجَزَّ نَاصِيَتِي، وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا ظَفِرَتْ بِرَجُلٍ فَجَزَّتْ نَاصِيَتَهُ اسْتَعْبَدَتْهُ فَكُنْتُ مَعَهُ أَخْدِمُهُ مُدَّةً، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: يَا عَمْرُو أُرِيدُ أَنْ تَرْكَبَ مَعِيَ الْبَرِّيَّةَ، وَلَيْسَ بِي مِنْكَ وَجَلٌ; وَإِنِّي بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَوَاثِقٌ. قَالَ: فَسِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا وَادِيًا أَشِبًا مُهَوِّلًا مُغَوِّلًا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَلَمْ يَبْقَ

طَيْرٌ فِي وَكْرِهِ إِلَّا طَارَ، ثُمَّ أَعَادَ الصَّوْتَ فَلَمْ يَبْقَ سَبْعٌ فِي مَرْبِضِهِ إِلَّا هَرَبَ، ثُمَّ أَعَادَ الصَّوْتَ فَإِذَا نَحْنُ بِحَبَشِيٍّ قَدْ خَرَجَ عَلَيْنَا مِنَ الْوَادِي كَالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ، فَقَالَ لِي: يَا عَمْرُو إِذْ رَأَيْتَنَا قَدِ اتَّحَدْنَا فَقُلْ: غَلَبَهُ صَاحِبِي بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمَا قَدِ اتَّحَدَا قُلْتُ: غَلَبَهُ صَاحِبِي بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلَمْ يَصْنَعِ الشَّيْخُ شَيْئًا فَرَجَعَ إِلَيَّ وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ قَدْ خَالَفْتَ قَوْلِي. قُلْتُ أَجَلْ وَلَسْتُ بِعَائِدٍ. فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتَنَا قَدِ اتَّحَدْنَا فَقُلْ: غَلَبَهُ صَاحِبِي بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقُلْتُ: أَجَلْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمَا قَدِ اتَّحَدَا قُلْتُ: غَلَبَهُ صَاحِبِي بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ: فَاتَّكَأَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ فَبَعَجَهُ بِسَيْفِهِ فَاشْتَقَّ جَوْفَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ شَيْئًا كَهَيْئَةِ الْقِنْدِيلِ الْأَسْوَدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَمْرُو هَذَا غِشُّهُ وَغِلُّهُ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرِي مَنْ تِلْكَ الْجَارِيَةُ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: تِلْكَ الْفَارِعَةُ بِنْتُ السَّلِيلِ الْجُرْهُمِيِّ، وَكَانَ أَبُوهَا مِنْ خِيَارِ الْجِنِّ، وَهَؤُلَاءِ أَهْلُهَا، وَبَنُو عَمِّهَا يَغْزُونِي مِنْهُمْ كُلَّ عَامٍ رَجُلٌ، يَنْصُرُنِي اللَّهُ عَلَيْهِ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ رَأَيْتَ مَا كَانَ مِنِّي إِلَى الْحَبَشِيِّ وَقَدْ غَلَبَ عَلَيَّ الْجُوعُ فَائْتِنِي بِشَيْءٍ آكُلُهُ.
فَأَقْحَمْتُ بِفَرَسِي الْبَرِّيَّةَ، فَمَا أَصَبْتُ إِلَّا بَيْضَ النَّعَامِ، فَأَتَيْتُهُ بِهِ فَوَجَدْتُهُ نَائِمًا، وَإِذَا تَحْتَ

رَأْسِهِ شَيْءٌ كَهَيْئَةِ الْخَشَبَةِ فَاسْتَلَلْتُهُ، فَإِذَا هُوَ سَيْفٌ عَرْضُهُ شِبْرٌ فِي سَبْعَةِ أَشْبَارٍ فَضَرَبْتُ سَاقَيْهِ ضَرْبَةً أَبَنْتُ السَّاقَيْنِ مَعَ الْقَدَمَيْنِ فَاسْتَوَى عَلَى فِقَارِ ظَهْرِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: قَاتَلَكَ اللَّهُ مَا أَغْدَرَكَ يَا غَدَّارُ. قَالَ عُمَرُ: ثُمَّ مَاذَا صَنَعْتَ ؟ قُلْتُ: فَلَمْ أَزَلْ أَضْرِبُهُ بِسَيْفِي حَتَّى قَطَّعْتُهُ إِرْبًا إِرْبًا. قَالَ: فَوَجَمَ لِذَلِكَ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
بِالْغَدْرِ نِلْتَ أَخَا الْإِسْلَامِ عَنْ كَثَبٍ مَا إِنْ سَمِعْتُ كَذَا فِي سَالِفِ الْعَرَبِ
وَالْعُجْمُ تَأْنَفُ مَمَّا جِئْتَهُ كَرَمًا تَبًّا لِمَا جِئْتَهُ فِي السَّيِّدِ الْأَرَبِ
إِنِّي لَأَعْجَبُ أَنِّي نِلْتَ قِتْلَتَهُ أَمْ كَيْفَ جَازَاكَ عِنْدَ الذَّنْبِ لَمْ تَنُبِ
قِرْمٌ عَفَا عِنْكَ مَرَّاتٍ وَقَدْ عَلِقَتْ بِالْجِسْمِ مِنْكَ يَدَاهُ مَوْضِعَ الْعَطَبِ
لَوْ كُنْتُ آخُذُ فِي الْإِسْلَامِ مَا فَعَلُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالصُّلُبِ
إِذًا لَنَالَتْكَ مِنْ عَدْلِي مُشَطِّبَةٌ تَدْعُو لِذَائِقِهَا بِالْوَيْلِ وَالْحَرَبِ
قَالَ: ثُمَّ مَا كَانَ مِنْ حَالِ الْجَارِيَةِ ؟ قُلْتُ: ثُمَّ إِنِّي أَتَيْتُ الْجَارِيَةَ فَلَمَّا رَأَتْنِي قَالَتْ: مَا فَعَلَ الشَّيْخُ ؟ قُلْتُ: قَتَلَهُ الْحَبَشِيُّ فَقَالَتْ: كَذَبْتَ بَلْ قَتَلْتَهُ أَنْتَ بِغَدْرِكَ، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ
عَيْنُ جُودِي لِلْفَارِسِ الْمِغْوَارِ ثُمَّ جُودِي بِوَاكِفَاتٍ غِزَارِ

لَا تَمَلِّي الْبُكَاءَ إِذْ خَانَكِ الدَّ هْرُ بِوَافٍ حَقِيقَةً صَبَّارِ
وَتَقِيٍّ وَذِي وَقَارٍ وَحِلْمٍ وَعَدِيلِ الْفَخَارِ يَوْمَ الْفَخَارِ
لَهْفَ نَفْسِي عَلَى بَقَائِكَ عَمْرُو أَسْلَمَتْكَ الْأَعْمَارُ لِلْأَقْدَارِ
وَلَعَمْرِي لَوْ لَمْ تَرُمْهُ بِغَدْرٍ رُمْتَ لَيْثًا بِصَارِمٍ بِتَّارِ
قَالَ: فَأَحْفَظَنِي قَوْلُهَا فَاسْتَلَلْتُ سَيْفِي، وَدَخَلْتُ الْخَيْمَةَ لِأَقْتُلَهَا فَلَمْ أَرَ فِي الْخَيْمَةِ أَحَدًا فَاسْتَقْتُ الْمَاشِيَةَ، وَجِئْتُ إِلَى أَهْلِي. وَهَذَا أَثَرٌ عَجِيبٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّيْخَ كَانَ مِنَ الْجَانِّ، وَكَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ، وَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَفِيمَا تَعَلَّمَهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وَكَانَ يَتَعَوَّذُ بِهَا.
وَقَالَ الْخَرَائِطِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلَوِيُّ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدَّتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: كَانَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَذْكُرَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّجَاشِيَّ بَعْدَ رُجُوعِ أَبْرَهَةَ مِنْ مَكَّةَ قَالَا: فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ قَالَ لَنَا: اصْدُقَانِي أَيُّهَا الْقُرَشِيَّانِ هَلْ وُلِدَ فِيكُمْ مَوْلُودٌ أَرَادَ أَبُوهُ ذَبْحَهُ فَضَرَبَ عَلَيْهِ بِالْقِدَاحِ فَسَلِمَ وَنُحِرَتْ عَنْهُ إِبِلٌ كَثِيرَةٌ ؟ قُلْنَا: نَعَمْ قَالَ: فَهَلْ لَكُمَا عِلْمٌ بِهِ مَا فَعَلَ ؟ قُلْنَا: تَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالَ لَهَا: آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ تَرَكَهَا حَامِلًا وَخَرَجَ قَالَ: فَهَلْ تَعْلَمَانِ وُلِدَ أَمْ لَا ؟ قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: أُخْبِرُكَ أَيُّهَا

الْمَلِكُ أَنِّي لَيْلَةً قَدْ بِتُّ عِنْدَ وَثَنٍ لَنَا كُنَّا نُطِيفُ بِهِ وَنَعْبُدُهُ إِذْ سَمِعْتُ مِنْ جَوْفِهِ هَاتِفًا يَقُولُ:
وُلِدَ النَّبِيُّ فَذَلَّتِ الْأَمْلَاكُ وَنَأَى الضَّلَالُ وَأَدْبَرَ الْإِشْرَاكُ
ثُمَّ انْتَكَسَ الصَّنَمُ عَلَى وَجْهِهِ. فَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: عِنْدِي كَخَبَرِهِ أَيُّهَا الْمَلِكُ. قَالَ: هَاتِ قَالَ: أَنَا فِي مِثْلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا حَدِيثَهُ خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ أَهْلِي وَهُمْ يَذْكُرُونَ حَمْلَ آمِنَةَ حَتَّى أَتَيْتُ جَبَلَ أَبِي قُبَيْسٍ; أُرِيدُ الْخُلُوَّ فِيهِ لِأَمْرٍ رَابَنِي إِذْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ لَهُ جَنَاحَانِ أَخْضَرَانِ فَوَقَفَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ ثُمَّ أَشْرَفَ عَلَى مَكَّةَ فَقَالَ: ذَلَّ الشَّيْطَانْ، وَبَطَلَتِ الْأَوْثَانْ، وَوُلِدَ الْأَمِينُ ثُمَّ نَشَرَ ثَوْبًا مَعَهُ وَأَهْوَى بِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَرَأَيْتُهُ قَدْ جَلَّلَ مَا تَحْتَ السَّمَاءِ وَسَطَعَ نُورٌ كَادَ أَنْ يَخْتَطِفَ بَصَرِي وَهَالَنِي مَا رَأَيْتُ وَخَفَقَ الْهَاتِفُ بِجَنَاحَيْهِ حَتَّى سَقَطَ عَلَى الْكَعْبَةِ فَسَطَعَ لَهُ نُورٌ أَشْرَقَتْ لَهُ تِهَامَةُ وَقَالَ: ذَكَتِ الْأَرْضُ وَأَدَّتْ رَبِيعَهَا وَأَوْمَأَ إِلَى الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى الْكَعْبَةِ فَسَقَطَتْ كُلُّهَا. قَالَ النَّجَاشِيُّ وَيْحَكُمَا ! أُخْبِرُكُمَا عَمَّا أَصَابَنِي إِنِّي لَنَائِمٌ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمَا فِي قُبَّةٍ وَقْتَ خَلْوَتِي، إِذْ خَرَجَ عَلَيَّ مِنَ الْأَرْضِ عُنُقٌ وَرَأَسٌ وَهُوَ يَقُولُ: حَلَّ الْوَيْلُ بِأَصْحَابِ الْفِيلْ،

رَمَتْهُمْ طَيْرٌ أَبَابِيلْ، بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلْ، هَلَكَ الْأَشْرَمْ، الْمُعْتَدِي الْمُجْرِمْ، وَوُلِدَ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ، الْمَكِّيُّ الْحَرَمِيُّ، مَنْ أَجَابَهُ سَعَدْ، وَمَنْ أَبَاهُ عَنَدْ.
ثُمَّ دَخَلَ الْأَرْضَ فَغَابَ فَذَهَبْتُ أَصِيحُ فَلَمْ أُطِقِ الْكَلَامَ، وَرُمْتُ الْقِيَامَ فَلَمْ أُطِقِ الْقِيَامَ، فَصَرَعْتُ الْقُبَّةَ بِيَدِي فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلِي فَجَاءُونِي فَقُلْتُ: احْجُبُوا عَنِّي الْحَبَشَةَ فَحَجَبُوهُمْ عَنِّي ثُمَّ أُطْلِقَ عَنْ لِسَانِي وَرِجْلِي.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ فِي تَرْجَمَةِ الْحَارِثِ بْنِ هَانِئِ بْنِ الْمُدْلِجِ بْنِ الْمِقْدَادِ بْنِ زَمْلِ بِنِ عَمْرٍو الْعُذْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَمِلِ بْنِ عَمْرٍو الْعُذْرِيِّ قَالَ: كَانَ لِبَنِي عُذْرَةَ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ: حَمَامٌ. وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهُ وَكَانَ فِي بَنِي هِنْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ ضِنَّةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ عُذْرَةَ وَكَانَ سَادِنُهُ رَجُلًا يُقَالَ لَهُ: طَارِقٌ وَكَانُوا يَعْتِرُونَ عِنْدَهُ فَلَمَّا ظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْنَا صَوْتًا يَقُولُ: يَا بَنِي هِنْدِ بْنِ حَرَامٍ ظَهَرَ الْحَقُّ وَأَوْدَى حَمَامُ، وَدَفَعَ الشِّرْكَ الْإِسْلَامُ. قَالَ: فَفَزِعْنَا لِذَلِكَ وَهَالَنَا فَمَكَثْنَا أَيَّامًا ثُمَّ سَمِعْنَا صَوْتًا وَهُوَ يَقُولُ: يَا طَارِقُ يَا طَارِقْ، بُعِثَ النَّبِيُّ

الصَّادِقْ، بِوَحْيٍ نَاطِقْ، صَدَعَ صَادِعٌ بِأَرْضِ تِهَامَةْ، لِنَاصِرِيهِ السَّلَامَةْ، وَلِخَاذِلِيهِ النَّدَامَةْ، هَذَا الْوَدَاعُ مِنِّي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةْ. قَالَ زَمِلٌ: فَوَقَعَ الصَّنَمُ لِوَجْهِهِ. قَالَ زَمِلٌ: فَابْتَعْتُ رَاحِلَةً، وَرَحَلْتُ حَتَّى أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي وَأَنْشَدْتُهُ شِعْرًا قُلْتُهُ:
إِلَيْكَ رَسُولَ اللَّهِ أَعْمَلْتُ نَصَّهَا وَكَلَّفْتُهَا حَزْنًا وَقَوْزًا مِنَ الرَّمْلِ
لِأَنْصُرَ خَيْرَ النَّاسِ نَصْرًا مُؤَزَّرًا وَأَعْقِدُ حَبْلًا مِنْ حِبَالِكَ فِي حَبْلِي
وَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ أَدِينُ بِهِ مَا أَثْقَلَتْ قَدَمِي نَعْلِي
قَالَ: فَأَسْلَمْتُ وَبَايَعَتْهُ وَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا سَمِعْنَا فَقَالَ: ذَاكَ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْأَنَامِ كَافَّةً أَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَأَنِّي رَسُولُهُ وَعَبْدُهُ، وَأَنْ يَحُجُّوا الْبَيْتَ وَيَصُومُوا شَهْرًا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ فَمَنْ أَجَابَنِي فَلَهُ الْجَنَّةُ نُزُلَا، وَمَنْ عَصَانِي كَانَتِ النَّارُ لَهُ مُنْقَلَبًا. قَالَ: فَأَسْلَمْنَا وَعَقَدَ لَنَا لِوَاءً

وَكَتَبَ لَنَا كِتَابًا نُسْخَتُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ لِزَمِلِ بْنِ عَمْرٍو وَمِنْ أَسْلَمَ مَعَهُ خَاصَّةً إِنِّي بَعَثْتُهُ إِلَى قَوْمِهِ عَامِدًا فَمِنْ أَسْلَمَ فَفِي حِزْبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ أَبَى فَلَهُ أَمَانُ شَهْرَيْنِ شَهِدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُنْذِرِ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَانِيِّ قَالَ: كَانَ مِنَّا رَجُلٌ يُقَالَ لَهُ: مَازِنُ بْنُ الْغَضُوبَةِ. يَسْدُنُ صَنَمًا بِقَرْيَةٍ يُقَالَ لَهَا: سَمَايَا مِنْ عُمَانَ وَكَانَتْ تُعَظِّمُهُ بَنُو الصَّامِتِ وَبَنُو حُطَامَةَ وَمَهْرَةُ وَهُمْ أَخْوَالُ مَازِنٍ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حُوَيْصٍ أَحَدِ بَنِي نُمْرَانَ. قَالَ مَازِنٌ: فَعَتَرْنَا يَوْمًا عِنْدَ الصَّنَمِ عَتِيرَةً وَهِيَ الذَّبِيحَةُ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ الصَّنَمِ يَقُولُ: يَا مَازِنُ، اسْمَعْ تُسَرَّ، ظَهَرَ خَيْرٌ وَبَطَنَ شَرٌّ، بُعِثَ نَبِيٌّ مِنْ مُضَرْ، بِدِينِ اللَّهِ الْأَكْبَرْ، فَدَعْ نَحِيَتًا مَنْ حَجَرْ; تَسْلَمْ مِنْ حَرِّ سَقَرْ، قَالَ: فَفَزِعْتُ لِذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا ثُمَّ عَتَرْنَا بَعْدَ أَيَّامٍ عَتِيرَةً أُخْرَى، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ الصَّنَمِ يَقُولُ: أَقْبِلْ إِلَيَّ أَقْبِلْ، تَسْمَعْ مَا لَا تَجْهَلْ، هَذَا نَبِيٌّ مُرْسَلْ، جَاءَ بِحَقٍّ مُنْزَلْ، فَآمِنْ بِهِ

كَيْ تَعْدِلْ، عَنْ حَرِّ نَارٍ تُشْعَلْ، وَقُودُهَا الْجَنْدَلْ. قَالَ مَازِنٌ: فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا لَعَجَبٌ، وَإِنَّ هَذَا لَخَيْرٌ يُرَادُ بِي وَقَدِمَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنَ الْحِجَازِ فَقُلْتُ: مَا الْخَبَرُ وَرَاءَكَ ؟ فَقَالَ: ظَهَرَ رَجُلٌ يُقَالَ لَهُ: أَحْمَدُ يَقُولُ لِمَنْ أَتَاهُ: أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ فَقُلْتُ: هَذَا نَبَأُ مَا سَمِعْتُ فَثُرْتُ إِلَى الصَّنَمِ فَكَسَرْتُهُ جُذَاذًا وَرَكِبْتُ رَاحِلَتِي حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلْإِسْلَامِ فَأَسْلَمْتُ وَقُلْتُ:
كَسَرْتُ بَاجِرَ أَجْذَاذًا وَكَانَ لَنَا رَبًّا نُطِيفُ بِهِ ضَلًّا بِتَضْلَالِ
بِالْهَاشِمِيِّ هَدَانَا مِنْ ضَلَالَتِنَا وَلَمْ يَكُنْ دِينُهُ مِنِّي عَلَى بَالِ
يَا رَاكِبًا بَلِّغَنْ عَمْرًا وَإِخْوَتَهُ أَنِّي لِمَنْ قَالَ رَبِّي بَاجِرٌ قَالِ
يَعْنِي: بِعَمْرٍو الصَّامِتَ وَإِخْوَتِهُ حُطَامَةَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرُؤٌ مُولَعٌ بِالطَّرَبِ وَبِالْهَلُوكِ مِنَ النِّسَاءِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَلَحَّتْ عَلَيْنَا السُّنُونَ فَأَذْهَبْنَ الْأَمْوَالَ وَأَهْزَلْنَ السَّرَارِيَّ وَلَيْسَ لِي وَلَدٌ، فَادْعُو اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَ عَنِّي مَا أَجِدُ، وَيَأْتِيَنَا بِالْحَيَا، وَيَهَبَ لِي وَلَدًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ أَبْدِلْهُ

بِالطَّرَبِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، وَبِالْحَرَامِ الْحَلَالَ، وَبِالْإِثْمِ وَبِالْعَهْرِ عِفَّةً، وَآتِهِ بِالْحَيَا، وَهَبْ لَهُ وَلَدًا. قَالَ: فَأَذْهَبُ اللَّهُ عَنِّي مَا أَجِدُ وَأُخْصِبَتْ عُمَانُ، وَتَزَوَّجْتُ أَرْبَعَ حَرَائِرَ وَحَفِظْتُ شَطْرَ الْقُرْآنِ، وَوَهَبَ لِي حَيَّانَ بْنَ مَازِنٍ وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
إِلَيْكَ رَسُولَ اللَّهِ خَبَّتْ مَطِيَّتِي تَجَوبُ الْفَيَافِي مِنْ عُمَانَ إِلَى الْعَرْجِ
لِتَشْفَعَ لِي يَا خَيْرَ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى فَيَغْفِرَ لِي رَبِّي فَأَرْجِعَ بِالْفَلْجِ
إِلَى مَعْشَرٍ خَالَفْتُ فِي اللَّهِ دِينَهُمْ فَلَا رَأْيُهُمْ رَأْيِي وَلَا شَرْجُهُمْ شَرْجِي
وَكُنْتُ امْرَأً بِالْخَمْرِ وَالْعَهْرِ مُولَعًا شَبَابِيَ حَتَّى آذَنَ الْجِسْمُ بِالنَّهْجِ
فَبَدَّلَنِي بِالْخَمْرِ خَوْفًا وَخَشْيَةً وَبِالْعَهْرِ إِحْصَانًا فَحَصَّنَ لِي فَرْجِي
فَأَصْبَحْتُ هَمِّي فِي الْجِهَادِ وَنِيَّتِي فَلِلَّهِ مَا صَوْمِي وَلِلَّهِ مَا حَجِّي
قَالَ: فَلَمَّا أَتَيْتُ قَوْمِي أَنَّبُونِي وَشَتَمُونِي وَأَمَرُوا شَاعِرًا لَهُمْ فَهَجَانِي فَقُلْتُ: إِنْ رَدَدْتُ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا أَهْجُو نَفْسِي فَرَحَلْتُ عَنْهُمْ، فَأَتَتْنِي مِنْهُمْ زُلْفَةٌ عَظِيمَةٌ وَكُنْتُ الْقَيِّمَ بِأُمُورِهِمْ فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَمٍّ، عِبْنَا عَلَيْكَ أَمَرًا وَكَرِهْنَا ذَلِكَ، فَإِنْ أَبَيْتَ ذَلِكَ فَارْجِعْ وَقُمْ بِأُمُورِنَا، وَشَأْنُكَ وَمَا تَدِينُ بِهِ. فَرَجَعْتُ مَعَهُمْ وَقُلْتُ:

لَبُغْضُكُمْ عِنْدَنَا مُرٌّ مَذَاقَتُهُ وَبُغْضُنَا عِنْدَكُمْ يَا قَوْمَنَا لَبَنُ
لَا يَفْطِنُ الدَّهْرُ إِنْ بُثَّتْ مَعَائِبُكُمْ وَكُلُّكُمْ حِينَ يُثْنَى عَيْبُنَا فَطِنُ
شَاعِرُنَا مُفْحَمٌ عَنْكُمْ وَشَاعِرُكُمْ فِي حَدْبِنَا مُبْلِغٌ فِي شَتْمِنَا لَسِنُ
مَا فِي الْقُلُوبِ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا وَغِرٌ وَفِي قُلُوبِكُمُ الْبَغْضَاءُ وَالْإِحَنُ
قَالَ مَازِنٌ: فَهَدَاهُمُ اللَّهُ بَعْدُ إِلَى الْإِسْلَامِ جَمِيعًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ فِي مُغَازِيهِ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ يَعْنِي عَمَّهُ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّهُ ذُكِرَ لِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: هَتَفَ هَاتِفٌ مِنَ الْجِنِّ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ فَقَالَ:
قَبَّحَ اللَّهُ رَأْيَكُمْ آلَ فِهْرٍ مَا أَرَقَّ الْعُقُولَ وَالْأَفْهَامَ
حِينَ تَعْصِي لِمَنْ يَعِيبُ عَلَيْهَا دِينَ آبَائِهَا الْحُمَاةِ الْكِرَامِ
حَالَفَ الْجِنُّ جِنَّ بُصْرَى عَلَيْكُمُ وَرِجَالَ النَّخِيلِ وَالآطَامِ

تُوشِكُ الْخَيْلُ أَنْ تَرَوْهَا تَهَادَى تَقْتُلُ الْقَوْمَ فِي حَرَامٍ بِهَامِ
هِلْ كَرِيمٌ مِنْكُمُ لَهُ نَفْسُ حُرٍّ مَاجِدُ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَعْمَامِ
ضَارِبٌ ضَرْبَةً تَكُونُ نَكَالًا وَرَوَاحًا مِنْ كُرْبَةٍ وَاغْتِمَامِ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَصْبَحَ هَذَا الشِّعْرُ حَدِيثًا لِأَهْلِ مَكَّةَ يَتَنَاشَدُونَهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا شَيْطَانٌ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْأَوْثَانِ يُقَالَ لَهُ: مِسْعَرٌ وَاللَّهُ مُخْزِيهِ فَمَكَثُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِذَا هَاتِفٌ يَهْتِفُ عَلَى الْجَبَلِ يَقُولُ
نَحْنُ قَتَلْنَا فِي ثَلَاثٍ مِسْعَرَا إِذْ سَفَّهَ الْجِنَّ وَسَنَّ الْمُنْكَرَا
قَنَّعْتُهُ سَيْفًا حُسَامًا مُشْهَرَا بِشَتْمِهِ نَبِيَّنَا الْمُطَهَّرَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ اسْمُهُ سَمْجٌ آمَنَ بِي سَمَّيْتُهُ عَبْدَ اللَّهِ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ فِي طَلَبِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَالَ عَلِيٌّ: جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُوسَى بْنِ أَبِي حَرْبٍ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْفَرَجِ الرِّيَاشِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ

أَبِي ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ فِي حَاجَةٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ فَسَمِعْتُ هَاتِفًا يَقُولُ:
أَبَا عَمْرٍو تَنَاوَبَنِي السُّهُودُ وَرَاحَ النَّوْمُ وَامْتَنَعَ الْهُجُودُ
لِذِكْرِ عِصَابَةٍ سَلَفُوا وَبَادُوا وَكُلُّ الْخَلْقِ قَصْرُهُمُ يَبِيدُ
تَوَلَّوْا وَارِدِينَ إِلَى الْمَنَايَا حِيِاضًا لَيْسَ مَنْهَلَهَا الْوُرُودُ
مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ وَبَقِيتُ خَلْفًا وَحِيدًا لَيْسَ يُسْعِفُنِي وَحِيدُ
سُدًى لَا أَسْتَطِيعُ عِلَاجَ أَمْرٍ إِذَا مَا عَالَجَ الطِّفْلُ الْوَلِيدُ
فَلَأْيًا مَا بَقِيتُ إِلَى أُنَاسٍ وَقَدْ بَاتَتْ بِمَهْلِكِهَا ثَمُودُ
وَعَادٌ وَالْقُرُونُ بِذِي شُعُوبٍ سَوَاءٌ كُلُّهُمْ إِرَمٌ حَصِيدُ
قَالَ: ثُمَّ صَاحَ بِهِ آخَرُ: يَا خَرْعَبْ، ذَهَبَ بِكَ الْعَجَبْ، إِنَّ الْعَجَبَ كُلَّ الْعَجَبْ، بَيْنَ زُهْرَةَ وَيَثْرِبْ،. قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا شَاحِبْ ؟ قَالَ: نَبِيُّ السَّلَامْ، بُعِثَ بِخَيْرِ الْكَلَامْ، إِلَى جَمِيعِ الْأَنَامْ، فَاخْرُجْ مِنَ الْبَلَدِ الْحَرَامْ، إِلَى

نَخِيلٍ وَآطَامْ. قَالَ: مَا هَذَا النَّبِيُّ الْمُرْسَلْ، وَالْكِتَابُ الْمُنَزَّلْ، وَالْأُمِّيُّ الْمُفَضَّلْ ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ. قَالَ: هَيْهَاتَ، فَاتَ عَنْ هَذَا سِنِّي وَذَهَبَ عَنْهُ زَمَنِي لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَالنَّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ نَرْمِي غَرَضًا وَاحِدًا وَنَشْرَبُ حَلَبًا بَارِدًا وَلَقَدْ خَرَجْتُ بِهِ مِنْ دَوْحَةٍ فِي غَدَاةٍ شَبِمَةٍ وَطَلَعَ مَعَ الشَّمْسِ وَغَرَبَ مَعَهَا يَرْوِي مَا يَسْمَعُ وَيُثْبِتُ مَا يُبْصِرُ وَلَئِنْ كَانَ هَذَا مِنْ وَلَدِهِ لَقَدْ سُلَّ السَّيْفُ، وَذَهَبَ الْخَوْفُ، وَدُحِضَ الزِّنَا وَهَلَكَ الرِّبَا. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي مَا يَكُونُ ؟ قَالَ: ذَهَبَتِ السَّرَّاءَ وَالْمَجَاعَةْ، وَالشِّدَّةُ وَالشَّجَاعَةْ، إِلَّا بَقِيَّةً فِي خُزَاعَةْ. وَذَهَبَتِ الضَّرَّاءُ وَالْبُؤْسُ، وَالْخُلُقُ الْمَنْقُوسُ إِلَّا بَقِيَّةً مِنَ الْخَزْرَجِ وَالْأَوْسِ. وَذَهَبَتِ الْخُيَلَاءُ وَالْفَخْرُ، وَالنَّمِيمَةُ وَالْغَدْرُ، إِلَّا بَقِيَّةً فِي بَنِي بَكْرٍ - يَعْنِي ابْنَ هَوَازِنَ - وَذَهَبَ الْفِعْلُ الْمُنَدِّمْ، وَالْعَمَلُ الْمُؤَثِّمْ، إِلَّا بَقِيَّةً فِي خَثْعَمْ. قَالَ: أَخْبِرْنِي مَا يَكُونُ ؟ قَالَ: إِذَا غُلِبَتِ الْبَرَّةْ، وَلُطِمَتِ الْحُرَّةْ، فَاخْرُجْ مِنْ بِلَادِ الْهِجْرَةْ، وَإِذَا كُفَّ

السَّلَامْ، وَقُطِعَتِ الْأَرْحَامْ، فَاخْرُجْ مِنَ الْبَلَدِ الْحَرَامْ، قَالَ: أَخْبِرْنِي مَا يَكُونُ ؟ قَالَ: لَوْلَا أُذُنٌ تَسْمَعْ، وَعَيْنٌ تَلْمَعْ; لَأَخْبَرْتُكَ بِمَا يُفْزِعْ. ثُمَّ قَالَ:
لَا مَنَامٌ هَدَّأْتَهُ بِنَعِيمٍ يَا ابْنَ غَوْطٍ وَلَا صَبَاحٌ أَتَانَا
قَالَ: ثُمَّ صَرْصَرَ صَرْصَرَةً كَأَنَّهَا صَرْصَرَةُ حُبْلَى فَذَهَبَ الْفَجْرُ فَذَهَبْتُ لِأَنْظُرَ فَإِذَا عَظَايَةٌ وَثُعْبَانٌ مَيِّتَانِ. قَالَ: فَمَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيٍّ عَنِ النَّضْرِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ مُوسَى عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامٍ، عَنْ شَهْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: لَمَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ خَرَجْتُ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لِبَعْضِ الْحَاجَةِ قَالَ: فَقَضَيْتُ حَاجَتِي ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ نِمْتُ فَفَزِعْتُ مِنَ اللَّيْلِ بِصَائِحٍ يَقُولُ
أَبَا عَمْرٍو تَنَاوَبَنِي السُّهُودُ وَرَاحَ النَّوْمُ وَانْقَطَعَ الْهُجُودُ
وَذَكَرَ مِثْلَهُ بِطُولِهِ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ

عَلِيٍّ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا أَبُو غَزِيَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى عَنِ الْعَطَّافِ بْنِ خَالِدٍ الْوَابِصَيِّ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ تَمِيمًا الدَّارِيَّ يَقُولُ: كُنْتُ بِالشَّامِ حِينَ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي فَأَدْرَكَنِي اللَّيْلُ فَقُلْتُ: أَنَا فِي جِوَارِ عَظِيمِ هَذَا الْوَادِي اللَّيْلَةَ. قَالَ: فَلَمَّا أَخَذْتُ مَضْجَعِي إِذَا أَنَا بِمُنَادٍ يُنَادِي لَا أَرَاهُ: عُذْ بِاللَّهِ فَإِنَّ الْجِنَّ لَا تُجِيرُ أَحَدًا عَلَى اللَّهِ فَقُلْتُ: ايْمُ اللَّهِ تَقُولُ ؟ فَقَالَ: قَدْ خَرَجَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ رَسُولُ اللَّهِ وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ بِالْحَجُونِ فَأَسْلَمْنَا وَاتَّبَعْنَاهُ وَذَهَبَ كَيْدُ الْجِنِّ وَرُمِيَتْ بِالشُّهُبِ فَانْطَلِقْ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأَسْلِمْ. قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا أَصْبَحْتُ ذَهَبْتُ إِلَى دَيْرِ أَيُّوبَ فَسَأَلْتُ رَاهِبًا وَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ فَقَالَ الرَّاهِبُ: قَدْ صَدَقُوكَ يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ، وَمُهَاجَرُهُ الْحَرَمُ وَهُوَ خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا تُسْبَقْ إِلَيْهِ قَالَ تَمِيمٌ: فَتَكَلَّفْتُ الشُّخُوصَ حَتَّى جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْتُ.
وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْهُذَلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَاعِدَةَ الْهُذَلِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ صَنَمِنَا سُوَاعٍ، وَقَدْ جَلَبْنَا إِلَيْهِ غَنَمًا لَنَا، مِائَتَيْ شَاةٍ قَدْ أَصَابَهَا جَرَبٌ، فَأَدْنَيْنَاهَا مِنْهُ لِنَطْلُبَ بَرَكَتَهُ فَسَمِعْتُ مُنَادِيًا مِنْ جَوْفِ الصَّنَمِ يُنَادِي: قَدْ ذَهَبَ كَيْدُ الْجِنِّ وَرُمِينَا بِالشُّهُبِ لِنَبِيٍّ اسْمُهُ أَحْمَدُ

قَالَ: فَقُلْتُ: غَوَيْتُ وَاللَّهِ. فَصَرَفْتُ وَجْهَ غَنَمِي مُنْجِدًا إِلَى أَهْلِي فَلَقِيتُ رَجُلًا فَخَبَّرَنِي بِظُهُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ هَكَذَا مُعَلَّقًا ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ السِّنْدِيِّ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ عَطَاءٍ الظَّفَرِيِّ - مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ مِنْ وَلَدِ رَاشِدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ - عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَاشِدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهُ قَالَ: كَانَ الصَّنَمُ الَّذِي يُقَالَ لَهُ: سُوَاعٌ بِالْمَعْلَاةِ مِنْ رُهَاطٍ تَدِينُ لَهُ هُذَيْلٌ وَبَنُو ظَفَرِ بْنِ سُلَيْمٍ فَأَرْسَلَتْ بَنُو ظَفَرٍ رَاشِدَ بْنَ عَبْدِ رَبِّهِ بِهَدِيَّةٍ مِنْ سُلَيْمٍ إِلَى سُوَاعٍ قَالَ رَاشِدٌ: فَأَلْقَيْتُ مَعَ الْفَجْرِ إِلَى صَنَمٍ قَبْلَ صَنَمِ سُوَاعٍ فَإِذَا صَارِخٌ يَصْرُخُ مِنْ جَوْفِهِ: الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبْ، مِنْ خُرُوجِ نَبِيٍّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبْ، يُحَرِّمُ الزِّنَا وَالرِّبَا وَالذَّبْحَ لِلْأَصْنَامِ وَحُرِسَتِ السَّمَاءُ، وَرُمِينَا بِالشُّهُبْ، الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبْ. ثُمَّ هَتَفَ صَنَمٌ آخَرُ مِنْ جَوْفِهِ تُرِكَ الضِّمَارُ وَكَانَ يُعْبَدْ، خَرَجَ أَحْمَدْ، يُصَلِّي الصَّلَاةَ، وَيَأْمُرُ بِالزَّكَاةِ

وَالصِّيَامِ، وَالْبِرِّ وَالصِّلَاتِ لِلْأَرْحَامِ ثُمَّ هَتَفَ مِنْ جَوْفِ صَنَمٍ آخَرَ هَاتِفٌ يَقُولُ:
إِنَّ الَّذِي وَرِثَ النُّبُوَّةَ وَالْهُدَى بَعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَدِ
نَبِيٌّ أَتَى يُخَبِّرُ بِمَا قَدْ سَبَقْ وَبِمَا يَكُونُ مِنَ الْغَدِ
قَالَ رَاشِدٌ: فَأَلْفَيْتُ سُوَاعًا مَعَ الْفَجْرِ وَثَعْلَبَانِ يَلْحَسَانِ مَا حَوْلَهُ وَيَأْكُلَانِ مَا يُهْدَى لَهُ، ثُمَّ يُعَرِّجَانِ عَلَيْهِ بِبَوْلِهِمَا. فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ رَاشِدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ:
أَرَبٌّ يَبُولُ الثَّعْلَبَانِ بَرَأْسِهِ لَقَدْ ذَلَّ مَنْ بالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ
وَذَلِكَ عِنْدَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُهَاجَرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَسَامَعَ النَّاسُ بِهِ فَخَرَجَ رَاشِدٌ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمَدِينَةَ، وَمَعَهُ كَلْبٌ لَهُ وَاسْمُ رَاشِدٍ: يَوْمَئِذٍ ظَالِمٌ وَاسْمُ كَلْبِهِ: رَاشِدٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اسْمُكَ قَالَ: ظَالِمٌ. قَالَ: فَمَا اسْمُ كَلْبِكَ ؟ قَالَ: رَاشِدٌ. قَالَ: اسْمُكَ رَاشِدٌ وَاسْمُ كَلْبِكَ ظَالِمٌ. وَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَعَهُ. ثُمَّ طَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطِيعَةً بِرُهَاطٍ، وَوَصَفَهَا لَهُ فَأَقْطَعَهُ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَعْلَاةِ مِنْ رُهَاطٍ شَأْوَ الْفَرَسِ وَرَمْيَتُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَجَرٍ وَأَعْطَاهُ إِدَاوَةً مَمْلُوءَةً مِنْ مَاءٍ وَتَفَلَ فِيهَا، وَقَالَ لَهُ: فَرِّغْهَا فِي أَعْلَى الْقَطِيعَةِ وَلَا تَمْنَعِ النَّاسَ فُضُولَهَا فَفَعَلَ. فَجَعَلَ الْمَاءَ مَعِينًا يَجْرِي إِلَى الْيَوْمِ فَغَرَسَ عَلَيْهَا النَّخْلَ وَيُقَالَ: إِنَّ رُهَاطًا كُلَّهَا تَشْرَبُ مِنْهُ فَسَمَّاهَا النَّاسُ مَاءَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَهْلُ رُهَاطٍ يَغْتَسِلُونَ بِهَا وَبَلَغَتْ رَمْيَةُ رَاشِدٍ الرَّكِيبَ الَّذِي يُقَالَ لَهُ: رَكِيبُ الْحَجَرِ وَغَدَا رَاشِدٌ عَلَى سُوَاعٍ فَكَسَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْخُزَاعِيُّ الْأَهْوَازِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ بْنِ دِلْهَاثِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْرِعِ بْنِ يَاسِرِ بْنِ سُوَيْدٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ دِلْهَاثٍ عَنْ أَبِيهِ إِسْمَاعِيلَ أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ مُسْرِعِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ أَبَاهُ يَاسِرًا حَدَّثَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ قَالَ: خَرَجْتُ حَاجًّا فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَرَأَيْتُ

فِي الْمَنَامِ وَأَنَا بِمَكَّةَ نُورًا سَاطِعًا مِنَ الْكَعْبَةِ حَتَّى أَضَاءَ فِي جَبَلِ يَثْرِبَ وَأَشْعَرِ جُهَيْنَةَ فَسَمِعْتُ صَوْتًا فِي النُّورِ وَهُوَ يَقُولُ: انْقَشَعَتِ الظَّلْمَاءُ وَسَطَعَ الضِّيَاءُ وَبُعِثَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ أَضَاءَ إِضَاءَةً أُخْرَى حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى قُصُورِ الْحِيرَةِ وَأَبْيَضِ الْمَدَائِنِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا فِي النُّورِ وَهُوَ يَقُولُ: ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَكُسِرَتِ الْأَصْنَامُ وَوُصَلَتِ الْأَرْحَامُ، فَانْتَبَهْتُ فَزِعًا فَقُلْتُ لِقَوْمِي: وَاللَّهِ لَيَحْدُثَنَّ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ حَدَثٌ، وَأَخْبَرْتُهُمْ بِمَا رَأَيْتُ فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى بِلَادِنَا جَاءَنَا رَجُلٌ فَأَخْبَرَنَا أَنَّ رَجُلًا يُقَالَ لَهُ: أَحْمَدُ قَدْ بُعِثَ، فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ فَقَالَ: يَا عَمْرُو بْنَ مُرَّةَ إِنِّي الْمُرْسَلُ إِلَى الْعِبَادِ كَافَّةً أَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَآمُرُهُمْ بِحَقْنِ الدِّمَاءِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَرَفْضِ الْأَصْنَامِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرٍ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فَمَنْ أَجَابَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ عَصَى فَلَهُ النَّارُ، فَآمِنْ يَا عَمْرُو بْنَ مُرَّةَ يُؤَمِّنْكَ اللَّهُ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ. فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ آمَنْتُ بِكُلِّ مَا جِئْتَ بِهِ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَإِنْ أَرْغَمَ ذَلِكَ كَثِيرًا مِنَ الْأَقْوَامِ. ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ أَبْيَاتًا قُلْتُهَا حِينَ سَمِعْتُ بِهِ وَكَانَ لَنَا صَنَمٌ وَكَانَ أَبِي سَادِنًا لَهُ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَكَسَرْتُهُ ثُمَّ لَحِقْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَقُولُ:
شَهِدْتُ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَأَنَّنِي لِآلِهَةِ الْأَحْجَارِ أَوَّلُ تَارِكِ
فَشَمَّرْتُ عَنْ سَاقِي إِزَارَ مُهَاجِرٍ إِلَيْكَ أَدِبُّ الْغَوْرَ بَعْدَ الدَّكَادِكِ

لِأَصْحَبَ خَيْرَ النَّاسِ نَفْسًا وَوَالِدًا رَسُولَ مَلِيكِ النَّاسِ فَوْقَ الْحَبَائِكِ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرْحَبًا بِكَ يَا عَمْرُو بْنَ مُرَّةَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ابْعَثْ بِي إِلَى قَوْمِي لَعَلَّ اللَّهَ أَنَّ يَمُنَّ بِي عَلَيْهِمْ كَمَا مَنَّ بِكَ عَلِيَّ، فَبَعَثَنِي إِلَيْهِمْ وَقَالَ: عَلَيْكَ بِالْقَوْلِ السَّدِيدِ وَلَا تَكُنْ فَظًّا، وَلَا مُتَكَبِّرًا، وَلَا حَسُودًا. فَأَتَيْتُ قَوْمِي فَقُلْتُ لَهُمْ: يَا بَنِي رِفَاعَةَ، ثُمَّ يَا بَنِي جُهَيْنَةَ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، أَدْعُوكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأُحَذِّرُكُمُ النَّارَ، وَآمُرُكُمْ بِحَقْنِ الدِّمَاءِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَعِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَفْضِ الْأَصْنَامِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، شَهْرٍ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، فَمَنْ أَجَابَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ عَصَى فَلَهُ النَّارُ، يَا مَعْشَرَ جُهَيْنَةَ إِنَّ اللَّهَ - وَلَهُ الْحَمْدُ - جَعَلَكُمْ خِيَارَ مَنْ أَنْتُمْ مِنْهُ، وَبَغَّضَ إِلَيْكُمْ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ مَا حَبَّبَ إِلَى غَيْرِكُمْ مِنَ الرَّفَثِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَيَخْلُفُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَةِ أَبِيهِ، وَالتِّرَاتِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَأَجِيبُوا هَذَا النَّبِيَّ الْمُرْسَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ تَنَالُوا شَرَفَ الدُّنْيَا وَكَرَامَةَ الْآخِرَةِ، سَارِعُوا سَارِعُوا فِي ذَلِكَ تَكُنْ لَكُمْ فَضِيلَةٌ عِنْدَ اللَّهِ فَأَجَابُوا إِلَّا رَجُلًا مِنْهُمْ قَامَ فَقَالَ: يَا عَمْرُو بْنَ مُرَّةَ أَمَرَّ اللَّهُ عَلَيْكَ عَيْشَكَ، أَتَأْمُرُنَا أَنْ نَرْفُضَ آلِهَتَنَا، وَنُفَرِّقَ جَمَاعَتَنَا بِمُخَالَفَةِ دِينِ آبَائِنَا إِلَى مَا يَدْعُو هَذَا الْقُرَشِيُّ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ ؟ ! لَا وَلَا مَرْحَبًا وَلَا كَرَامَةَ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ

إِنَّ ابْنَ مُرَّةَ قَدْ أَتَى بِمَقَالَةٍ لَيْسَتْ مَقَالَةَ مَنْ يُرِيدُ صَلَاحَا
إِنِّي لَأَحْسَبُ قَوْلَهُ وَفَعَالَهُ يَوْمًا وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ رِيَاحَا
أَتُسَفِّهُ الْأَشْيَاخَ مِمَّنْ قَدْ مَضَى مَنْ رَامَ ذَلِكَ لَا أَصَابَ فَلَاحَا
فَقَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ: الْكَاذِبُ مِنِّي وَمِنْكَ أَمَرَّ اللَّهُ عَيْشَهُ وَأَبْكَمَ لِسَانَهُ وَأَكْمَهَ بَصَرَهُ. قَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ حَتَّى سَقَطَ فُوهُ وَكَانَ لَا يَجِدُ طَعْمَ الطَّعَامِ وَعَمِيَ وَخَرِسَ. وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ حَتَّى أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَحَّبَ بِهِمْ وَحَبَاهُمْ وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا هَذِهِ نُسْخَتُهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ بِكِتَابٍ صَادِقٍ وَحَقٍّ نَاطِقٍ مَعَ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ لِجُهَيْنَةَ بْنِ زَيْدٍ: إِنَّ لَكُمْ بُطُونَ الْأَرْضِ وَسُهُولَهَا وَتِلَاعَ الْأَوْدِيَةِ وَظُهُورَهَا تَرْعَوْنَ نَبَاتَهُ وَتَشْرَبُونَ صَافِيَهُ عَلَى أَنْ تُقِرُّوا بِالْخُمْسِ، وَتُصَلُّوا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَفِي التَّبِعَةِ وَالصُّرَيْمَةِ شَاتَانِ إِنِ اجْتَمَعَتَا وَإِنْ تَفَرَّقَتَا فَشَاةٌ شَاةٌ، لَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْمِيرَةِ صَدَقَةٌ، وَلَا عَلَى الْوَارِدَةِ لَبِقَةٌ، وَشَهِدَ مَنْ حَضَرَنَا مِنَ

الْمُسْلِمِينَ بِكِتَابِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ دِينَهُ وَبَيَّنَ بُرْهَانَ الْقُرَانِ لِعَامِرِ
كِتَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ نُورٌ لِجَمْعِنَا وَأَحْلَافِنَا فِي كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ
إِلَى خَيْرِ مَنْ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا وَأَفْضَلِهَا عِنْدَ اعْتِكَارِ الضَّرَائِرِ
أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا تَقَطَّعَتْ بُطُونُ الْأَعَادِي بِالظُّبَا وَالْخَوَاطِرِ
فَنَحْنُ قَبِيلٌ قَدْ بُنِيَ الْمَجْدُ حَوْلَنَا إِذَا اجْتُلِيَتْ فِي الْحَرْبِ هَامُ الْأَكَابِرِ
بَنُو الْحَرْبِ نَفْرِيهَا بِأَيْدٍ طَوِيلَةٍ وَبِيضٍ تَلَأْلَأَ فِي أَكُفِّ الْمَغَاوِرِ
تَرَى حَوْلَهُ الْأَنْصَارَ تَحْمِي أَمِيرَهُمْ بِسُمْرِ الْعَوَالِي وَالصِّفَاحِ الْبَوَاتِرِ
إِذَا الْحَرْبُ دَارَتْ عِنْدَ كُلِّ عَظِيمَةٍ وَدَارَتْ رَحَاهَا بِاللِّيُوثِ الْهَوَاصِرِ

تَبَلَّجَ مِنْهُ اللَّوْنُ وَازْدَادَ وَجْهُهُ كَمِثْلِ ضِيَاءِ الْبَدْرِ بَيْنَ الزَّوَاهِرِ
وَقَالَ: أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْمُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ وَالْأَجْلَحُ عَنِ الشَّعْبِيِّ حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ جُهَيْنَةَ قَالَ: مَرِضَ مِنَّا رَجُلٌ مَرَضًا شَدِيدًا فَثَقُلَ حَتَّى حَفَرْنَا لَهُ قَبْرَهُ، وَهَيَّأْنَا أَمْرَهُ، فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ فَتَحَ عَيْنَيْهِ وَأَفَاقَ فَقَالَ: أَحْفَرْتُمْ لِي ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَمَا فَعَلَ الْفَصْلُ ؟ وَهُوَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ قُلْنَا: صَالِحٌ مَرَّ آنِفًا يَسْأَلُ عَنْكَ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُجْعَلَ فِي حُفْرَتِي إِنَّهُ أَتَانِي آتٍ حِينَ أُغْمِيَ عَلَيَّ فَقَالَ: ابْكِ هُبَلْ، أَمَا تَرَى حُفْرَتَكَ تُنْتَثَلْ، وَأُمُّكَ قَدْ كَادَتْ تَثْكَلْ ؟ أَرَأَيْتُكَ إِنْ حَوَّلْنَاهَا عَنْكَ بِالْمِحْوَلْ، ثُمَّ مَلَأْنَاهَا بِالْجَنْدَلْ، وَقَذَفْنَا فِيهَا الْفَضَلْ، الَّذِي مَضَى فَأَجْزَأَكْ، وَظَنَّ أَنْ لَنْ يَفْعَلْ، أَتَشْكُرُ لِرَبِّكَ وَتُصَلِّ وَتَدَعُ دِينَ مَنْ أَشْرَكَ وَضَلَّ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: قُمْ قَدْ بَرِئْتَ. قَالَ: فَبَرِئَ الرَّجُلُ وَمَاتَ الْفَضْلُ، فَجُعِلَ فِي حُفْرَتِهِ. قَالَ الْجُهَنِيُّ: فَرَأَيْتُ الْجُهَنِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُصَلِّي وَيَسُبُّ الْأَوْثَانَ وَيَقَعُ فِيهَا.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَجْلِسٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنِ الْجِنِّ فَقَالَ خُرَيْمُ بْنُ فَاتِكٍ الْأَسَدِيُّ: أَلَا

أُحَدِّثُكَ كَيْفَ كَانَ إِسْلَامِي ؟ قَالَ: بَلَى قَالَ: إِنِّي يَوْمًا فِي طَلَبِ ذَوْدٍ لِي، أَنَا مِنْهَا عَلَى أَثَرٍ، تَنْصَبُ وَتَصْعَدُ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِأَبْرَقِ الْعِرَاقِ، أَنَخْتُ رَاحِلَتِي وَقُلْتُ: أَعُوذُ بِعَظِيمِ هَذِهِ الْبَلْدَةِ، أَعُوذُ بِرَئِيسِ هَذَا الْوَادِي. فَإِذَا بِهَاتِفٍ يَهْتِفُ بِي
وَيْحَكَ عُذْ بِاللَّهِ ذِي الْجَلَالِ وَالْمَجْدِ وَالنَّعْمَاءِ وَالْإِفْضَالِ
ثُمَّ اتْلُ آيَاتٍ مِنَ الْأَنْفَالِ وَوَحِّدِ اللَّهَ وَلَا تُبَالِي
قَالَ: فَذُعِرْتُ ذُعْرًا شَدِيدًا ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي فَقُلْتُ:
يَا أَيُّهَا الْهَاتِفُ مَا تَقُولُ أَرَشَدٌ عِنْدَكَ أَمْ تَضْلِيلُ
بَيِّنْ هَدَاكَ اللَّهُ مَا الْحَوِيلُ
قَالَ: فَقَالَ:
هَذَا رَسُولُ اللَّهِ ذُو الْخَيْرَاتِ بِيَثْرِبَ يَدْعُو إِلَى النَّجَاةِ
يَأَمْرُ بِالْبِرِّ وَبِالصَّلَاةِ وَيَزَعُ النَّاسَ عَنِ الْهَنَاتِ
قَالَ: قُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ لَا أَبْرَحُ حَتَّى آتِيَهُ، وَأُومِنَ بِهِ فَنَصَبْتُ رِجْلِي فِي غَرْزِ رَاحِلَتِي وَقُلْتُ:
أَرْشِدْنِي أَرْشِدْنِي هُدِيتَا لَا جُعْتَ مَا عِشْتَ وَلَا عَرِيتَا
وَلَا بَرِحْتَ سَيِّدًا مَقِيتًا لَا تُؤْثِرِ الْخَيْرَ الَّذِي أُتِيتَا

عَلَى جَمِيعِ الْجِنِّ مَا بَقِيَتَا فَقَالَ:
صَاحَبَكَ اللَّهُ وَأَدَّى رَحْلَكَا وَعَظَّمَ الْأَجْرَ وَعَافَى نَفْسَكَا
آمِنْ بِهِ أَفْلَجَ رَبِّي حَقَّكَا وَانْصُرْهُ أَعَزَّ رَبِّي نَصْرَكَا
قَالَ: قُلْتُ: مَنْ أَنْتَ عَافَاكَ اللَّهُ حَتَّى أُخْبِرَهُ إِذَا قَدِمْتَ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ: أَنَا مَالِكُ بْنُ مَالِكٍ وَأَنَا نَقِيبُهُ عَلَى جِنِّ نَصِيبِينَ، وَكَفَيْتُ إِبِلَكَ حَتَّى أَضُمَّهَا إِلَى أَهْلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّاسُ أَرْسَالٌ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ كَأَنَّهُ الْبَدْرُ يَخْطُبُ النَّاسَ فَقُلْتُ: أُنِيخُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَأَدْخُلُ عَلَيْهِ فَأُسَلِّمُ وَأُخْبِرُهُ عَنْ إِسْلَامِي. فَلَمَّا أَنَخْتُ خَرَجَ إِلَيَّأَبُو ذَرٍ فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا وَسَهْلًا قَدْ بَلَغَنَا إِسْلَامُكَ فَادْخُلْ فَصَلِّ. فَفَعَلْتُ ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَنِي بِإِسْلَامِي فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: أَمَا إِنَّ صَاحِبَكَ قَدْ وَفَّى لَكَ وَهُوَ أَهْلُ ذَلِكَ وَأَدَّى إِبِلَكَ إِلَى أَهْلِكَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي تَرْجَمَةِ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ مِنْ مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ

قَائِلًا: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ الْيَسِيرِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّامِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْإِسْكَنْدَرِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ خُرَيْمُ بْنُ فَاتِكٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا أُخْبِرُكَ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ إِسْلَامِي ؟ قَالَ: بَلَى. فَذَكَرَهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَخَرَجَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَالَ: ادْخُلْ فَقَدْ بَلَغَنَا إِسْلَامُكَ. فَقُلْتُ: لَا أُحْسِنُ الطُّهُورَ فَعَلِّمْنِي فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّهُ الْبَدْرُ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى صَلَاةً يَحْفَظُهَا وَيَعْقِلُهَا إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ. فَقَالَ لِي عُمَرُ: لَتَأْتِيَنِّي عَلَى هَذَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ لَأُنَكِّلَنَّ بِكَ، فَشَهِدَ لِي شَيْخُ قُرَيْشٍ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَأَجَازَ شَهَادَتَهُ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ تَسْنِيمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَلِيفَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِخُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ: حَدِّثْنِي بِحَدِيثٍ يُعْجِبُنِي. فَذَكَرَ مِثْلَ السِّيَاقِ الْأَوَّلِ سَوَاءً.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْقُرَشِيُّ الدِّمَشْقِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ بِنْتِ شُرَحْبِيلَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّكَ تَذْكُرُ سَطِيحًا تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ لَمْ يَخْلُقْ مِنْ بَنِي آدَمَ شَيْئًا يُشْبِهُهُ ؟ قَالَ: قَالَ: نَعَمْ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ سَطِيحًا الْغَسَّانِيَّ لَحْمًا عَلَى وَضَمٍ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ عَظْمٌ وَلَا عَصَبٌ إِلَّا الْجُمْجُمَةُ وَالْكَفَّانِ وَكَانَ يُطْوَى مِنْ رِجْلَيْهِ إِلَى تَرْقُوَتِهِ كَمَا يُطْوَى الثَّوْبُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ يَتَحَرَّكُ إِلَّا لِسَانُهُ فَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ حُمِلَ عَلَى وَضَمِهِ فَأُتِيَ بِهِ مَكَّةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَبْدُ شَمْسٍ وَهَاشِمٌ ابْنَا عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ وَالْأَحْوَصُ بْنُ فِهْرٍ وَعَقِيلُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍّ فَانْتَمَوْا إِلَى غَيْرِ نَسَبِهِمْ.
وَقَالُوا: نَحْنُ أُنَاسٌ مَنْ جُمَحَ أَتَيْنَاكَ، بَلَغَنَا قُدُومُكَ فَرَأَيْنَا أَنَّ إِتْيَانَنَا إِيَّاكَ حَقٌّ لَكَ وَاجِبٌ عَلَيْنَا وَأَهْدَى إِلَيْهِ عَقِيلٌ صَفِيحَةً هِنْدِيَّةً وَصَعْدَةً رُدَيْنِيَّةً فَوُضَعِتْ عَلَى بَابِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لَيَنْظُرُوا أَهَلْ يَرَاهَا سَطِيحٌ أَمْ لَا. فَقَالَ: يَا عَقِيلُ نَاوِلْنِي يَدَكَ فَنَاوَلَهُ يَدَهُ فَقَالَ: يَا عَقِيلُ وَالْعَالِمِ الْخَفِيَّةْ، وَالْغَافِرِ الْخَطِيَّةْ، وَالذِّمَّةِ الْوَفِيَّةْ، وَالْكَعْبَةِ الْمَبْنِيَّةْ، إِنَّكَ لَجَاءٍ بِالْهَدِيَّةْ، الصَّفِيحَةِ الْهِنْدِيَّةْ، وَالصَّعْدَةِ الرُّدَيْنِيَّةْ. قَالُوا: صَدَقْتَ يَا سَطِيحُ فَقَالَ: وَالْآتِي بِالْفَرَحْ، وَقَوْسِ قُزَحْ، وَسَائِرِ الْفَرَحْ، وَاللَّطِيمِ الْمُنْبَطِحْ، وَالنَّخْلِ وَالرُّطَبِ وَالْبَلَحْ، إِنَّ الْغُرَابَ حَيْثُ مَرَّ سَنَحْ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَوْمَ لَيْسُوا مَنْ جُمَحْ، وَأَنَّ نَسَبَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ

ذِي الْبِطَحْ، قَالُوا: صَدَقْتَ يَا سَطِيحُ، نَحْنُ أَهْلُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ أَتَيْنَاكَ لِنَزُورَكَ ; لِمَا بَلَغَنَا مِنْ عِلْمِكَ فَأَخْبِرْنَا عَمَّا يَكُونُ فِي زَمَانِنَا هَذَا وَمَا يَكُونُ بَعْدَهُ فَلَعَلَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ عِلْمٌ.
قَالَ: الْآنَ صَدَقْتُمْ خُذُوا مِنِّي وَمِنْ إِلْهَامِ اللَّهِ إِيَّايَ أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ فِي زَمَانِ الْهَرَمِ، سَوَاءٌ بَصَائِرُكُمْ وَبَصَائِرُ الْعَجَمِ، لَا عِلْمَ عِنْدَكُمْ وَلَا فَهْمَ، وَيَنْشَأُ مِنْ عَقِبِكُمْ ذَوُو فَهْمٍ يَطْلُبُونَ أَنْوَاعُ الْعِلْمِ، فَيَكْسِرُونَ الصَّنَمَ وَيَبْلُغُونَ الرَّدْمَ وَيَقْتُلُونَ الْعَجَمْ يَطْلُبُونَ الْغُنْمَ. قَالُوا: يَا سَطِيحُ فَمِنْ يَكُونُ أُولَئِكَ ؟ فَقَالَ لَهُمْ: وَالْبَيْتِ ذِي الْأَرْكَانِ، وَالْأَمْنِ وَالسُّكَّانِ، لَيَنْشَؤُنَّ مِنْ عَقِبِكُمْ وِلْدَانٌ يَكْسِرُونَ الْأَوْثَانَ، وَيُنْكِرُونَ عِبَادَةَ الشَّيْطَانِ، وَيُوَحِّدُونَ الرَّحْمَنَ، وَيَنْشُرُونَ دِينَ الدَّيَّانِ، يُشْرِفُونَ الْبُنْيَانَ، وَيَسْتَفْتُونَ الْفِتْيَانَ. قَالُوا: يَا سَطِيحُ مِنْ نَسْلِ مَنْ يَكُونُ أُولَئِكَ ؟ قَالَ: وَأَشْرَفِ الْأَشْرَافِ وَالْمُفْضِي لِلْإِسْرَافِ وَالْمُزَعْزِعِ الْأَحْقَافِ وَالْمُضْعِفِ الْأَضْعَافِ لَيَنْشَؤُنَّ الْآلَافُ مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ وَعَبْدِ مَنَافٍ نُشُوءًا يَكُونُ فِيهِ اخْتِلَافٌ، قَالُوا: يَا سَوْءَتَاهُ يَا سَطِيحُ فَمَا تُخْبِرُنَا مِنَ الْعِلْمِ بِأَمْرِهِمْ وَمِنْ

أَيِّ بَلَدٍ يَخْرُجُ أُولَئِكَ ؟
فَقَالَ: وَالْبَاقِي الْأَبَدْ، وَالْبَالِغِ الْأَمَدْ، لَيَخْرُجَنَّ مَنْ ذَا الْبَلَدْ، فَتًى يَهْدِي إِلَى الرَّشَدْ، يَرْفُضُ يَغُوثَ وَالْفِنَدْ، يَبْرَأُ مِنْ عِبَادَةِ الضِّدَدْ، يَعْبُدُ رَبًّا انْفَرَدْ، ثُمَّ يَتَوَفَّاهُ اللَّهُ مَحْمُودًا، مِنَ الْأَرْضِ مَفْقُودًا، وَفِي السَّمَاءِ مَشْهُودًا، ثُمَّ يَلِي أَمْرَهُ الصِّدِّيقْ، إِذَا قَضَى صَدَقْ، وفِي رَدِّ الْحُقُوقِ لَا خَرِقٌ وَلَا نَزِقْ، ثُمَّ يَلِي أَمْرَهُ الْحَنِيفْ، مُجَرِّبٌ غِطْرِيفْ، وَيَتْرُكُ قَوْلَ الْعَنِيفْ، قَدْ ضَافَ الْمَضِيفْ، وَأَحْكَمَ التَّحْنِيفْ، ثُمَّ يَلِي أَمْرَهُ دَاعِيًا لِأَمْرِهِ مُجَرِّبًا، فَيَجْتَمِعُ لَهُ جُمُوعًا وَعُصَبًا، فَيَقْتُلُونَهُ نِقْمَةً عَلَيْهِ وَغَضَبًا، فَيُؤْخَذُ الشَّيْخُ فَيُذْبَحُ إِرَبًا، فَيَقُومُ بِهِ رِجَالٌ خُطَبَاءُ، ثُمَّ يَلِي أَمْرَهُ النَّاصِرْ، يَخْلِطُ الرَّأْي بِرَأْي النَّاكِرْ، يُظْهِرُ فِي الْأَرْضِ الْعَسَاكِرْ، ثُمَّ يَلِي بَعْدَهُ ابْنُهُ يَأْخُذُ جَمْعَهُ، وَيَقِلُّ حَمْدُهُ، وَيَأْخُذُ الْمَالَ، وَيَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيُكْثِرُ الْمَالَ لِعَقِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ ثُمَّ يَلِي مِنْ بَعْدِهِ عِدَّةُ مُلُوكْ، لَا شَكَّ الدَّمُ فِيهِمْ مَسْفُوكْ، ثُمَّ يَلِي مَنْ بَعْدِهِمُ الصُّعْلُوكْ،

يَطْوِيهِمْ كَطَيِّ الدُّرْنُوكْ، ثُمَّ يَلِي مِنْ بَعْدِهِ عُظْهُورٌ يُقْصِي الْخَلْقَ وَيُدْنِي مُضَرَ، يَفْتَتِحُ الْأَرْضَ افْتِتَاحًا مُنْكَرًا، ثُمَّ يَلِي قَصِيرُ الْقَامَةْ، بِظَهْرِهِ عَلَامَةْ، يَمُوتُ مَوْتًا وَسَلَامَةْ، ثُمَّ يَلِي قَلِيلًا بَاكِرْ، يَتْرُكُ الْمُلْكَ بَائِرْ، ثُمَّ يَلِي أَخُوهُ بِسُنَّتِهِ سَابِرْ، يَخْتَصُّ بِالْأَمْوَالِ وَالْمَنَابِرْ، ثُمَّ يَلِي مِنْ بَعْدِهِ أَهْوَجْ، صَاحِبُ دُنْيَا وَنَعِيمٍ مُخْلِجْ، يَتَشَاوَرُهُ مُعَاشِرُهُ وَذَوُوهُ، يَنْهَضُونَ إِلَيْهِ يَخْلَعُونَهُ بِأَخْذِ الْمُلْكِ وَيَقْتُلُونَهُ، ثُمَّ يَلِي أَمْرَهُ مِنْ بَعْدِهِ السَّابِعْ، يَتْرُكُ الْمُلْكَ مَحَلًّا ضَائِعْ، بَنُوهُ فِي مُلْكِهِ كَالْمُشَوَّهِ جَائِعْ، عِنْدَ ذَلِكَ يَطْمَعُ فِي الْمُلْكِ كُلُّ عُرْيَانْ، وَيَلِي أَمْرَهُ اللَّهْفَانْ، يُرْضِي نِزَارًا جَمْعُ قَحْطَانْ، إِذَا الْتَقَيَا بِدِمَشْقَ جَمْعَانْ، بَيْنَ بُنْيَانَ وَلُبْنَانَ، يُصَنَّفُ الْيَمَنُ يَوْمَئِذٍ صِنْفَانْ، صِنْفُ الْمَسَرَّةِ وَصِنْفُ الْمَخْذُولِ لَا تَرَى إِلَّا حِبَاءً مَحْلُولْ، وَأَسِيرًا مَغْلُولْ، بَيْنَ الْقِرَابِ

وَالْخُيُولْ، عِنْدَ ذَلِكَ تُخْرَبُ الْمَنَازِلْ، وَتُسْلَبُ الْأَرَامِلْ، وَتُسْقِطُ الْحَوَامِلْ، وَتَظْهَرُ الزَّلَازِلْ، وَتَطْلُبُ الْخِلَافَةَ وَائِلْ، فَتَغْضَبُ نِزَارْ، فَتُدْنِي الْعَبِيدَ وَالْأَشْرَارْ، وَتُقْصِي الْأَمْثَالَ وَالْأَخْيَارْ، وَتَغْلُو الْأَسْعَارْ، فِي صَفَرِ الْأَصْفَارْ، يَغُلُّ كُلُّ جَبَّارٍ مِنْهُ، ثُمَّ يَسِيرُونَ إِلَى خَنَادِقَ وَإِنَّهَا ذَاتُ أَشْعَارٍ وَأَشْجَارْ، تَصُدُّ لَهُ الْأَنْهَارْ، وَيَهْزِمُهُمْ أَوَّلَ النَّهَارْ، تَظْهَرُ الْأَخْيَارْ، فَلَا يَنْفَعُهُمْ نَوْمٌ وَلَا قَرَارْ، حَتَّى يَدْخُلَ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارْ، فَيُدْرِكَهُ الْقَضَاءُ وَالْأَقْدَارْ.
ثُمَّ يَجِيءُ الرُّمَاةْ، تَلُفُّ مُشَاةْ، لِقَتْلِ الْكُمَاةْ، وَأَسْرِ الْحُمَاةْ، وَمَهْلِكِ الْغُوَاةْ، هُنَالِكَ يُدْرَكُ فِي أَعْلَى الْمِيَاهْ، ثُمَّ يَبُورُ الدِّينُ وَتُقْلَبُ الْأُمُورْ، وَتُكْفَرُ الزَّبُورْ، وَتُقْطَعُ الْجُسُورْ، فَلَا يُفْلِتُ إِلَّا مَنْ كَانَ فِي جَزَائِرِ الْبُحُورْ، ثُمَّ تَبُورُ الْحُبُوبْ، وَتَظْهَرُ الْأَعَارِيبْ، لَيْسَ فِيهِمْ مُعِيبْ، عَلَى أَهْلِ الْفُسُوقِ وَالرِّيبْ، فِي زَمَانٍ عَصِيبْ، لَوْ كَانَ لِلْقَوْمِ حَيَاءٌ وَمَا تُغْنِي الْمُنَى. قَالُوا: ثُمَّ مَاذَا يَا سَطِيحُ ؟ قَالَ: ثُمَّ يَظْهَرُ رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ الْيَمَنْ، كَالشَّطَنْ، يُذْهِبُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِهِ الْفِتَنْ.
وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ كَتَبْنَاهُ لِغَرَابَتِهِ وَمَا تَضَمَّنَ مِنَ الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قِصَّةُ شِقٍّ وَسَطِيحٍ مَعَ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ مَلِكِ الْيَمَنِ وَكَيْفَ بَشَّرَا بِوُجُودِ رَسُولِ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ قِصَّةُ سَطِيحٍ مَعَ ابْنِ أُخْتِهِ عَبْدِ الْمَسِيحِ حِينَ أَرْسَلَهُ مَلِكُ بَنِي سَاسَانَ لِارْتِجَاسِ الْإِيوَانِ وَخُمُودِ النِّيرَانِ وَرُؤْيَا الْمُوبَذَانِ وَذَلِكَ لَيْلَةَ مَوْلِدِ الَّذِي نُسِخَ بِشَرِيعَتِهِ سَائِرُ الْأَدْيَانِ.

بَابُ كَيْفَ بَدَأَ الْوَحْيُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذِكْرُ أَوَّلِ شَيْءٍ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ
كَانَ ذَلِكَ وَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْعُمُرِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ عُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ،

وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقَالَ: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ ". قَالَ: " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [ الْعَلَقِ: 15 ]، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَقَالَ: " زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي ". فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: " لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي " فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ، لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا ; إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ وَكَانَ امْرَءًا تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا

شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: " يَا بْنَ عَمِّ ! اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا بْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي كَانَ نُزِّلَ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ " فَقَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - - فِيمَا بَلَغَنَا - حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقَرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. هَكَذَا وَقَعَ مُطَوَّلًا فِي بَابِ التَّعْبِيرِ مِنَ " الْبُخَارِيِّ ". قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ

بَصَرِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [ الْمُدَّثِّرِ: 1 - 5 ] فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ. ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَأَبُو صَالِحٍ يَعْنِي عَنِ اللَّيْثِ وَتَابَعَهُ هِلَالُ بْنُ رَدَّادٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ: بَوَادِرُهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهُ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ مُطَوَّلًا فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْوَحْيِ إِسْنَادًا وَمَتْنًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ يُونُسَ وَمَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُمَا، وَقَدْ رَمَزْنَا فِي الْحَوَاشِي عَلَى زِيَادَاتِ مُسْلِمٍ وَرِوَايَاتِهِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَانْتَهَى سِيَاقُهُ إِلَى قَوْلِ وَرَقَةَ: أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.

فَقَوْلُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ يُقَوِّي مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ وَأَنَا نَائِمٌ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ، فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: " مَا أَقْرَأُ ". فَغَتَّنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَائِشَةَ سَوَاءً. فَكَانَ هَذَا كَالتَّوْطِئَةِ لِمَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنَ الْيَقَظَةِ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهَذَا فِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَلَكُ فِي الْيَقَظَةِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي كِتَابِهِ " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَجْلَحِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُؤْتَى بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي الْمَنَامِ حَتَّى تَهْدَأَ قُلُوبُهُمْ، ثُمَّ يَنْزِلُ الْوَحْيُ بَعْدُ وَهَذَا مِنْ قِبَلِ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ نَفْسِهِ وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ يُؤَيِّدُهُ مَا قَبْلَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا بَعْدَهُ.

ذِكْرُ عُمُرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقْتَ بِعْثَتِهِ وَتَارِيخِهَا
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَزَلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَقُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ إِسْرَافِيلُ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَكَانَ يُعَلِّمُهُ الْكَلِمَةَ وَالشَّيْءَ، وَلَمْ يَنْزِلِ الْقُرْآنُ، فَلَمَّا مَضَتْ ثَلَاثُ سِنِينَ قُرِنَ بِنُبُوَّتِهِ جِبْرِيلُ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِهِ عِشْرِينَ سَنَةً، عَشْرًا بِمَكَّةَ، وَعَشْرًا بِالْمَدِينَةِ، فَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. فَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى الشَّعْبِيِّ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ إِسْرَافِيلَ قُرِنَ مَعَهُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ.
وَأَمَّا الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ: وَحَدِيثُ عَائِشَةَ لَا يُنَافِي هَذَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ أَمْرِهِ الرُّؤْيَا، ثُمَّ وُكِّلَ بِهِ إِسْرَافِيلُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ يَخْلُو فِيهَا بِحِرَاءٍ، فَكَانَ يُلْقِي إِلَيْهِ الْكَلِمَةَ بِسُرْعَةٍ، وَلَا يُقِيمُ مَعَهُ ; تَدْرِيجًا لَهُ وَتَمْرِينًا إِلَى أَنْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، فَعَلَّمَهُ بَعْدَمَا غَطَّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. فَحَكَتْ عَائِشَةُ مَا جَرَى لَهُ مَعَ جِبْرِيلَ، وَلَمْ تَحْكِ مَا جَرَى لَهُ مَعَ إِسْرَافِيلَ اخْتِصَارًا لِلْحَدِيثِ، أَوْ لَمْ تَكُنْ وَقَفَتْ عَلَى قِصَّةِ إِسْرَافِيلَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ

عَبَّاسٍ: أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ عَشْرًا، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَهَكَذَا رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ثُمَّ رَوَى أَحْمَدُ عَنْ غُنْدَرٍ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنْبَأَنَا عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، سَبْعَ سِنِينَ يَرَى الضَّوْءَ، وَيَسْمَعُ الصَّوْتَ، وَثَمَانِيَ سِنِينَ يُوحَى إِلَيْهِ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَى عَجَائِبَ قَبْلَ بِعْثَتِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَإِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الْخَلَاءَ وَالِانْفِرَادَ عَنْ قَوْمِهِ؛ لِمَا يَرَاهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَالسُّجُودِ لِلْأَصْنَامِ، وَقَوِيَتْ مَحَبَّتُهُ

لِلْخَلْوَةِ عِنْدَ مُقَارَبَةِ إِيحَاءِ اللَّهِ إِلَيْهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ جَارِيَةَ - قَالَ وَكَانَ وَاعِيَةً - عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ إِلَى حِرَاءٍ، فِي كُلِّ عَامٍ شَهْرًا مِنَ السَّنَةِ يَتَنَسَّكُ فِيهِ وَكَانَ مِنْ نُسُكِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْمَسَاكِينِ، حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ مِنْ مُجَاوَرَتِهِ، لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ. وَهَكَذَا رَوَى عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ الْمُتَعَبِّدِينَ فِي قُرَيْشٍ أَنَّهُمْ يُجَاوِرُونَ فِي حِرَاءٍ لِلْعِبَادَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ:
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ وَرَاقٍ لِبِرٍّ فِي حِرَاءٍ وَنَازِلِ
هَكَذَا صَوَّبَهُ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْبَيْتِ، كَمَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ وَأَبُو شَامَةَ

وَشَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَقَدْ تَصَحَّفَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَقَالَ فِيهِ: وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءٍ وَنَازِلِ وَهَذَا رَكِيكٌ وَمُخَالِفٌ لِلصَّوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحِرَاءٌ، يُقْصَرُ وَيُمَدُّ، وَيُصْرَفُ وَيُمْنَعُ، وَهُوَ جَبَلٌ بِأَعْلَى مَكَّةَ عَلَى ثَلَاثِ أَمْيَالٍ مِنْهَا، عَنْ يَسَارِ الْمَارِّ إِلَى مِنًى، لَهُ قُلَّةٌ مُشْرِفَةٌ عَلَى الْكَعْبَةِ مُنْحَنِيَةٌ، وَالْغَارُ فِي تِلْكَ الْحَنْيَةِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ
فَلَا وَرَبِّ الْآمِنَاتِ الْقُطَّنِ وَرَبِّ رُكْنٍ مِنْ حِرَاءٍ مُنْحَنِي
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ. تَفْسِيرٌ بِالْمَعْنَى، وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ التَّحَنُّثِ مِنْ حَيْثُ الْبِنْيَةِ، فِيمَا قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ: الدُّخُولُ فِي الْحِنْثِ، وَلَكِنْ سُمِعَتْ أَلْفَاظٌ قَلِيلَةٌ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهَا الْخُرُوجُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَتَحَنَّثَ أَيْ خَرَجَ مِنَ الْحِنْثِ، وَتَحَوَّبَ، وَتَحَرَّجَ، وَتَأَثَّمَ، وَتَهَجَّدَ وَهُوَ تَرْكُ الْهُجُودِ، وَهُوَ النَّوْمُ

لِلصَّلَاةِ، وَتَنَجَّسَ وَتَقَذَّرَ أَوْرَدَهَا أَبُو شَامَةَ. وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ قَوْلِهِ: يَتَحَنَّثُ أَيْ يَتَعَبَّدُ. فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ هَذَا، إِنَّمَا هُوَ يَتَحَنَّفُ، مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ: التَّحَنُّثُ، وَالتَّحَنُّفُ. يُبْدِلُونَ الْفَاءَ مِنَ الثَّاءِ، كَمَا قَالُوا: جَدَثَ، وَجَدَفَ. كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ:
لَوْ كَانَ أَحْجَارِي مَعَ الْأَجْدَافِ
يُرِيدُ الْأَجْدَاثَ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: " فُمَّ ". فِي مَوْضِعِ " ثُمَّ ". قُلْتُ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفُومِهَا [ الْبَقَرَةِ: 61 ] أَنَّ الْمُرَادَ ثُومُهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعَبُّدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَبْلَ الْبَعْثَةِ، هَلْ كَانَ عَلَى شَرْعٍ أَمْ لَا ؟ وَمَا ذَلِكَ الشَّرْعُ ؟ فَقِيلَ: شَرْعُ نُوحٍ. وَقِيلَ: شَرْعُ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ الْأَقْوَى. وَقِيلَ: مُوسَى. وَقِيلَ: عِيسَى. وَقِيلَ: كُلُّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ شَرْعٌ عِنْدَهُ اتَّبَعَهُ وَعَمِلَ بِهِ. وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَمُنَاسَبَاتِهَا مَوَاضِعُ أُخَرُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ بِغَارِ حِرَاءٍ. أَيْ جَاءَ بَغْتَةً عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ،

كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ. [ الْقَصَصِ: 86 ] وَقَدْ كَانَ نُزُولُ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهِيَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وَهِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ "، وَكَمَا سَيَأْتِي أَيْضًا فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، كَمَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ، فَقَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وُلِدَ نَبِيُّكُمْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَنُبِّئَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. وَهَكَذَا قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أُوحِيَ إِلَيْهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَهُمْ.
ثُمَّ قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ أَنَّهُ وُلِدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَفِيهِ بُعِثَ، وَفِيهِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ بُعِثَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمَا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ [ الْبَقَرَةِ: 185 ] فَقِيلَ: فِي ثَانِي عَشْرِهِ. وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ابْتِدَاءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ. وَقِيلَ: فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ أَبُو الْعَوَّامِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لَسْتٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي " تَفْسِيرِهِ " عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ، وَلِهَذَا ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُ جِبْرِيلَ: اقْرَأْ. فَقَالَ: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ ". فَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ " نَفْيٌ، أَيْ لَسْتُ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ. وَمِمَّنْ رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَقَبْلَهُ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ. فَقَوْلُهُ بَعِيدٌ ; لِأَنَّ الْبَاءَ لَا تُزَادُ فِي الْإِثْبَاتِ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ

أَبِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ خَائِفٌ يُرْعَدُ: " مَا قَرَأْتُ كِتَابًا قَطُّ، وَلَا أُحْسِنُهُ، وَمَا أَكْتُبُ، وَمَا أَقْرَأُ. فَأَخَذَهُ جِبْرِيلُ، فَغَتَّهُ غَتًّا شَدِيدًا، ثُمَّ تَرَكَهُ، فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَرَى شَيْئًا أَقْرَأُهُ، وَمَا أَكْتُبُ. يُرْوَى: " فَغَطَّنِي " كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ". وَ " غَتَّنِي ". وَيُرْوَى " قَدْ غَتَّنِي " أَيْ خَنَقَنِي " حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ " يُرْوَى بِضَمِّ الْجِيمِ، وَفَتْحِهَا، وَبِالنَّصْبِ، وَبِالرَّفْعِ، وَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ ثَلَاثًا.
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ ; لِيَبْلُوَ صَبْرَهُ، وَيُحْسِنَ تَأْدِيبَهُ، فَيَرْتَاضَ لِاحْتِمَالِ مَا كَلَّفَهُ بِهِ مِنْ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَلِذَلِكَ كَانَ يَعْتَرِيهِ مِثْلُ حَالِ الْمَحْمُومِ وَتَأْخُذُهُ الرُّحَضَاءُ أَيِ الْبُهْرُ وَالْعَرَقُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأُمُورٍ مِنْهَا ; أَنْ يَسْتَيْقِظَ لِعَظَمَةِ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ، بَعْدَ هَذَا الصَّنِيعِ الْمُشِقِّ عَلَى النُّفُوسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [ الْمُزَّمِّلِ: 5 ] وَلِهَذَا كَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِذَا جَاءَهُ الْوَحْيُ يَحْمَرُّ وَجْهُهُ، وَيَغِطُّ كَمَا يَغِطُّ الْبَكْرُ مِنَ الْإِبِلِ، وَيَتَفَصَّدُ جَبِينُهُ عَرَقًا فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ.
وَقَوْلُهُ: فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ. وَفِي

رِوَايَةٍ: بَوَادِرُهُ، جَمْعُ بَادِرَةٍ. قَالَ أَبُو عَبِيدٍ: وَهِيَ لَحْمَةٌ بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ عُرُوقٌ تَضْطَّرِبُ عِنْدَ الْفَزَعِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: تَرْجُفُ بَآدِلُهُ. وَاحِدَتُهَا بَادِلَةٌ. وَقِيلَ: بَادِلٌ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعُنُقِ وَالتَّرْقُوَةِ. وَقِيلَ: أَصِلُ الثَّدْيِ. وَقِيلَ: لَحْمُ الثَّدْيَيْنِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
فَقَالَ: " زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي ". فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، قَالَ لِخَدِيجَةَ: " مَالِي ؟ أَيُّ شَيْءٍ عَرَضَ لِي ؟ " وَأَخْبَرَهَا مَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ، ثُمَّ قَالَ: " لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ". وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَاهَدَ أَمْرًا لَمْ يَعْهَدْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا كَانَ فِي خَلَدِهِ. وَلِهَذَا قَالَتْ خَدِيجَةُ: أَبْشِرْ، كَلَّا وَاللَّهِ، لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا. قِيلَ: مِنَ الْخِزْيِ. وَقِيلَ: مِنَ الْحُزْنِ. وَهَذَا لِعِلْمِهَا بِمَا أَجْرَى اللَّهُ بِهِ جَمِيلَ الْعَوَائِدِ فِي خُلُقِهِ أَنَّ مَنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْخَيْرِ لَا يُخْزَى فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ ذَكَرَتْ لَهُ مِنْ صِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ، مَا كَانَ مِنْ سَجَايَاهُ الْحَسَنَةِ، فَقَالَتْ: إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَقَدْ كَانَ مَشْهُورًا بِذَلِكَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُوَافِقِ وَالْمُفَارِقِ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ: أَيْ عَنْ غَيْرِكَ، تُعْطِي صَاحِبَ الْعَيْلَةِ مَا يُرِيحُهُ مِنْ ثِقَلِ مُؤْنَةِ عِيَالِهِ. وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ. أَيْ تَسْبِقُ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، فَتُبَادِرُ إِلَى إِعْطَاءِ الْفَقِيرِ، فَتَكْسِبُ حَسَنَتَهُ قَبْلَ غَيْرِكَ، وَيُسَمَّى الْفَقِيرُ

مَعْدُومًا ; لِأَنَّ حَيَاتَهُ نَاقِصَةٌ، فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ إِنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التِّهَامِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ "
عُدَّ ذَا الْفَقْرِ مَيِّتًا وَكِسَاهُ كَفَنًا بَالِيًا وَمَأْوَاهُ قَبْرَا
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: الصَّوَابُ: وَتُكْسِبُ الْمُعْدَمَ. أَيْ تَبْذُلُ إِلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ: وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ. تُعْطِيهِ مَالًا يَعِيشُ بِهِ. وَاخْتَارَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْدُومِ هَاهُنَا الْمَالُ الْمُعْطَى، أَيْ يُعْطِي الْمَالَ لِمَنْ هُوَ عَادِمُهُ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّكَ تَكْسَبُ بِاتَّجَارِكَ الْمَالَ الْمَعْدُومَ أَوِ النَّفِيسَ الْقَلِيلَ النَّظِيرِ، فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَأَغْرَقَ فِي النَّزْعِ، وَتَكَلَّفَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ ; فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُمْدَحُ بِهِ غَالِبًا، وَقَدْ ضَعَّفَ هَذَا الْقَوْلَ عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَتَقْرِي الضَّيْفَ أَيْ تُكْرِمُهُ فِي تَقْدِيمِ قِرَاهُ، وَإِحْسَانِ مَأْوَاهُ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. وَيُرْوَى: الْخَيْرِ. أَيْ إِذَا وَقَعَتْ نَائِبَةٌ لِأَحَدٍ فِي خَيْرٍ أَعَنْتَ فِيهَا، وَقُمْتَ مَعَ صَاحِبِهَا حَتَّى يَجِدَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَخَذَتْهُ فَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى ابْنِ عَمِّهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَكَانَ شَيْخًا

كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ خَبَرِهِ مَعَ ذِكْرِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَفَارَقَهُمْ وَارْتَحَلَ إِلَى الشَّامِ، هُوَ وَزَيْدُ بْنُ عَمْرٍو وَعُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ فَتَنَصَّرُوا كُلُّهُمْ ; لِأَنَّهُمْ وَجَدُوهُ أَقْرَبَ الْأَدْيَانِ - إِذْ ذَاكَ - إِلَى الْحَقِّ، إِلَّا زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَإِنَّهُ رَأَى فِيهِ دَخَلًا وَتَخْبِيطًا، وَتَبْدِيلًا، وَتَحْرِيفًا، وَتَأْوِيلًا، فَأَبَتْ فِطْرَتُهُ الدُّخُولَ فِيهِ أَيْضًا، وَبَشَّرُوهُ الْأَحْبَارُ وَالرُّهْبَانُ بِوُجُودِ نَبِيٍّ، قَدْ أَزِفَ زَمَانُهُ، وَاقْتَرَبَ أَوَانُهُ، فَرَجَعَ يَتَطَلَّبُ ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى فِطْرَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، لَكِنِ اخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَأَدْرَكَهَا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَكَانَ يَتَوَسَّمُهَا فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَدَّمْنَا، بِمَا كَانَتْ خَدِيجَةُ تَنْعَتُهُ لَهُ وَتَصِفُهُ لَهُ، وَمَا هُوَ مُنْطَوٍ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ الطَّاهِرَةِ الْجَمِيلَةِ، وَمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ، وَلِهَذَا لَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ، أَخَذَتْ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَاءَتْ بِهِ إِلَيْهِ، فَوَقَفَتْ بِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: ابْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. فَلَمَّا قَصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ مَا رَأَى، قَالَ وَرَقَةُ: سُبُّوحٌ سُبُّوحٌ، هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى وَلَمْ يَذْكُرْ عِيسَى، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا بَعْدَ مُوسَى ; لِأَنَّهُ كَانَتْ شَرِيعَتُهُ مُتَمِّمَةً وَمُكَمِّلَةً لِشَرِيعَةِ مُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَنَسَخَتْ بَعْضَهَا، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا قَالَ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [ آلِ عِمْرَانَ: 50 ]
وَقَوْلُ وَرَقَةَ هَذَا كَمَا قَالَتِ الْجِنُّ:

يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [ الْأَحْقَافِ: 30 ]
ثُمَّ قَالَ وَرَقَةُ: يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، أَيْ يَا لَيْتَنِي أَكُونُ الْيَوْمَ شَابًّا، مُتَمَكِّنًا مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. يَعْنِي: حَتَّى أُخْرَجَ مَعَكَ، وَأَنْصُرَكَ، فَعِنْدَهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ ! قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ فِرَاقَ الْوَطَنِ شَدِيدٌ عَلَى النُّفُوسِ.
فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. أَيْ ; أَنْصُرْكَ نَصْرًا عَزِيزًا أَبَدًا.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ. أَيْ: تُوُفِّيَ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِقَلِيلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الَّذِي صَدَرَ عَنْهُ تَصْدِيقٌ بِمَا وَجَدَ، وَإِيمَانٌ بِمَا حَصَلَ مِنَ الْوَحْيِ، وَنِيَّةٌ صَالِحَةٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ خَدِيجَةَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُهُ، فَرَأَيْتُ عَلَيْهِ ثِيَابَ بَيَاضٍ، فَأَحْسَبُهُ لَوْ كَانَ مِنْ،

أَهْلِ النَّارِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثِيَابُ بَيَاضٍ وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، لَكِنْ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ وَهِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى عَنْ سُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فَقَالَ: أَبْصَرْتُهُ فِي بُطْنَانِ الْجَنَّةِ، وَعَلَيْهِ السُّنْدُسُ وَسُئِلَ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَقَالَ: يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ وَسُئِلَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ أَخْرَجْتُهُ مِنْ غَمْرَةٍ مِنْ جَهَنَّمَ إِلَى ضَحْضَاحٍ مِنْهَا وَسُئِلَ عَنْ خَدِيجَةَ ; لِأَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَ الْفَرَائِضِ وَأَحْكَامِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ أَبْصَرْتُهَا عَلَى نَهَرٍ فِي الْجَنَّةِ فِي بَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ. إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ فِي " الصَّحِيحِ ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو

أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَسُبُّوا وَرَقَةَ ; فَإِنِّي رَأَيْتُ لَهُ جَنَّةً أَوْ جَنَّتَيْنِ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَرُوِي مُرْسَلًا، وَهُوَ أَشْبَهُ.
وَرَوَى الْحَافِظَانِ الْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابَيْهِمَا " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِخَدِيجَةَ: " إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً، وَقَدْ خَشِيتُ وَاللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا أَمْرٌ ". قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ ! مَا كَانَ اللَّهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصَدُقُ الْحَدِيثَ. فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَلَيْسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَمَّ، ذَكَرَتْ لَهُ خَدِيجَةُ، فَقَالَتْ: يَا عَتِيقُ، اذْهَبْ مَعَ مُحَمَّدٍ إِلَى وَرَقَةَ. فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْذَ بِيَدِهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَى وَرَقَةَ. قَالَ: " وَمَنْ أَخْبَرَكَ ؟ " قَالَ: خَدِيجَةُ. فَانْطَلَقَا إِلَيْهِ، فَقَصَّا عَلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً خَلْفِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ. فَأَنْطَلِقُ هَارِبًا

فِي الْأَرْضِ ". فَقَالَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ، إِذَا أَتَاكَ فَاثْبُتْ، حَتَّى تَسَمَعَ مَا يَقُولُ لَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي فَأَخْبِرْنِي. فَلَمَّا خَلَا نَادَاهُ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى بَلَغَ وَلَا الضَّالِّينَ [ الْفَاتِحَةِ: 17 ]. قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَأَتَى وَرَقَةَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: أَبْشِرْ، ثُمَّ أَبْشِرْ، فَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ الَّذِي بَشَّرَ بِكَ ابْنُ مَرْيَمَ، وَإِنَّكَ عَلَى مِثْلِ نَامُوسِ مُوسَى، وَإِنَّكَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنَّكَ سَتُؤْمَرُ بِالْجِهَادِ بَعْدَ يَوْمِكَ هَذَا، وَلَئِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ لَأُجَاهِدَنَّ مَعَكَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَقَدْ رَأَيْتُ الْقَسَّ فِي الْجَنَّةِ، عَلَيْهِ ثِيَابُ الْحَرِيرِ ; لِأَنَّهُ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي يَعْنِي وَرَقَةَ. هَذَا لَفْظُ الْبَيْهَقِيِّ وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَفِيهِ غَرَابَةٌ، وَهُوَ كَوْنُ الْفَاتِحَةِ أَوَّلَ مَا نَزَلَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ شِعْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِضْمَارِهِ الْإِيمَانَ، وَعَقْدِهِ عَلَيْهِ، وَتَأَكُّدِهِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ حِينَ أَخْبَرَتْهُ خَدِيجَةُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَ غُلَامِهَا مَيْسَرَةَ وَكَيْفَ كَانَتِ الْغَمَامَةُ تُظَلِّلُهُ فِي هَجِيرِ الْقَيْظِ، فَقَالَ وَرَقَةُ فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا قَدَّمْنَاهَا قَبْلَ هَذَا مِنْهَا: قَوْلُهُ:
لَجَجْتُ وَكُنْتُ فِي الذِّكْرَى لَجُوجًا لِأَمْرٍ طَالَمَا بَعَثَ النَّشِيجَا
وَوَصْفٍ مِنْ خَدِيجَةَ بَعْدَ وَصْفٍ فَقَدْ طَالَ انْتِظَارِي يَا خَدِيجَا

بِبَطْنِ الْمَكَّتَيْنِ عَلَى رَجَائِي حَدِيثَكِ أَنْ أَرَى مِنْهُ خُرُوجًا
بِمَا خَبَّرْتِنَا مِنْ قَوْلِ قَسٍّ مِنَ الرُّهْبَانِ أَكْرَهُ أَنْ يَعُوجَا
بِأَنَّ مُحَمَّدًا سَيَسُودُ قَوْمًا وَيَخْصِمُ مَنْ يَكُونُ لَهُ حَجِيجَا
وَيُظْهِرُ فِي الْبِلَادِ ضِيَاءَ نُورٍ يُقِيمُ بِهِ الْبَرِيَّةَ أَنْ تَمُوجَا
فَيَلْقَى مَنْ يُحَارِبُهُ خَسَارًا وَيَلْقَى مَنْ يُسَالِمُهُ فُلُوجَا
فَيَا لَيْتَنِي إِذَا مَا كَانَ ذَاكُمْ شَهِدْتُ وَكُنْتُ أَوَّلَهُمْ وُلُوجَا
وُلُوجًا فِي الَّذِي كَرِهَتْ قُرَيْشٌ وَلَوْ عَجَّتْ بِمَكَّتِهَا عَجِيجَا
أُرَجِّي بِالَّذِي كَرِهُوا جَمِيعًا إِلَى ذِي الْعَرْشِ إِذْ سَفَلُوا عُرُوجَا
فَإِنْ يَبْقَوْا وَأَبْقَ يَكُنْ أُمُورٌ يَضِجُّ الْكَافِرُونَ لَهَا ضَجِيجَا
وَقَالَ أَيْضًا فِي قَصِيدَتِهِ الْأُخْرَى
وَأَخْبَارَ صِدْقٍ خَبَّرَتْ عَنْ مُحَمَّدٍ يُخَبِّرُهَا عَنْهُ إِذَا غَابَ نَاصِحُ
بِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ مُرْسَلٌ إِلَى كُلِّ مَنْ ضُمَّتْ عَلَيْهِ الْأَبَاطِحُ

وَظَنِّي بِهِ أَنْ سَوْفَ يُبْعَثُ صَادِقًا كَمَا أُرْسِلَ الْعَبْدَانِ هُودٌ وَصَالِحُ
وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمُ حَتَّى يُرَى لَهُ بِهَاءٌ وَمَنْشُورٌ مِنَ الذِّكْرِ وَاضِحُ
وَيَتْبَعُهُ حَيًّا لُؤَيُّ بْنُ غَالِبٍ شَبَابُهُمْ وَالْأَشْيَبُونَ الْجَحَاجِحُ
فَإِنْ أَبْقَ حَتَّى يُدْرِكُ النَّاسَ دَهْرُهُ فَإِنِّي بِهِ مُسْتَبْشِرُ الْوُدِّ فَارِحُ
وَإِلَّا فَإِنِّي يَا خَدِيجَةُ فَاعْلَمِي عَنْ أَرْضِكِ فِي الْأَرْضِ الْعَرِيضَةِ سَائِحُ
وَقَالَ يُونُسُ عَنْ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ وَرَقَةُ
فَإِنْ يَكُ حَقًّا يَا خَدِيجَةُ فَاعْلِمِي حَدِيثَكِ إِيَّانَا فَأَحْمَدُ مُرْسَلُ
وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعَهُمَا مِنَ اللَّهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ
يَفُوزُ بِهِ مَنْ فَازَ فِيهَا بِتَوْبَةٍ وَيَشْقَى بِهِ الْعَاتِي الْغَرِيرُ الْمُضَلَّلُ
فَرِيقَانِ مِنْهُمْ فِرْقَةٌ فِي جِنَانِهِ وَأُخْرَى بِأَحْوَازِ الْجَحِيمِ تُعَلَّلُ
إِذَا مَا دَعَوْا بِالْوَيْلِ فِيهَا تَتَابَعَتْ مَقَامِعُ فِي هَامَاتِهِمْ ثُمَّ تُشْعَلُ
فَسُبْحَانَ مَنْ تَهْوِي الرِّيَاحُ بِأَمْرِهِ وَمَنْ هُوَ فِي الْأَيَّامِ مَا شَاءَ يَفْعَلُ
وَمَنْ عَرْشُهُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ كُلِّهَا وَأَقْضَاؤُهُ فِي خَلْقِهِ لَا تُبَدَّلُ

وَقَالَ وَرَقَةُ أَيْضًا:
يَا لِلرِّجَالِ وَصَرْفِ الدَّهْرِ وَالْقَدَرِ وَمَا لِشَيْءٍ قَضَاهُ اللَّهُ مِنْ غِيَرِ
حَتَّى خَدِيجَةُ تَدْعُونِي لِأُخْبِرَهَا وَمَا لَهَا بِخَفِيِّ الْغَيْبِ مِنْ خَبَرِ
جَاءَتْ لِتَسْأَلَنِي عَنْهُ لِأُخْبِرَهَا أَمْرًا أُرَاهُ سَيَأْتِي النَّاسَ مِنْ أُخَرِ
فَخَبَّرَتْنِي بِأَمْرٍ قَدْ سَمِعْتُ بِهِ فِيمَا مَضَى مِنْ قَدِيمِ الدَّهْرِ
وَالْعُصُرِ بِأَنَّ أَحْمَدَ يَأْتِيهِ فَيُخْبِرُهُ جِبْرِيلُ أَنَّكَ مَبْعُوثٌ إِلَى الْبَشَرِ
فَقُلْتُ عَلَّ الَّذِي تَرْجِينَ يُنْجِزُهُ لَكِ الْإِلَهُ فَرَجِّي الْخَيْرَ
وَانْتَظِرِي وَأَرْسِلِيهِ إِلَيْنَا كَيْ نُسَائِلَهُ عَنْ أَمْرِهِ مَا يَرَى فِي النَّوْمِ وَالسَّهَرِ
فَقَالَ حِينَ أَتَانَا مَنْطِقًا عَجَبًا يَقِفُّ مِنْهُ أَعَالِي الْجِلْدِ وَالشَّعَرِ
إِنِّي رَأَيْتُ أَمِينَ اللَّهِ وَاجَهَنِي فِي صُورَةٍ أُكْمِلَتْ مِنْ أَعْظَمِ الصُّوَرِ
ثُمَّ اسْتَمَرَّ فَكَادَ الْخَوْفُ يَذْعَرُنِي مِمَّا يُسَلِّمُ مِنْ حَوْلِي مِنَ الشَّجَرِ
فَقُلْتُ ظَنِّي وَمَا أَدْرِي أَيَصْدُقُنِي أَنْ سَوْفَ يُبْعَثُ يَتْلُو مُنْزَلَ السُّوَرِ
وَسَوْفَ أُبْلِيكَ إِنْ أَعْلَنْتَ دَعْوَتَهُمْ مِنَ الْجِهَادِ بِلَا مَنٍّ وَلَا كَدَرِ

هَكَذَا أَوْرَدَ ذَلِكَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنَ " الدَّلَائِلِ "، وَعِنْدِي فِي صِحَّتِهَا عَنْ وَرَقَةَ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ وَكَانَ وَاعِيَةً، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَرَادَ اللَّهُ كَرَامَتَهُ وَابْتَدَأَهُ بِالنُّبُوَّةِ كَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَةٍ أَبْعَدَ حَتَّى تَحَّسَرَ عَنْهُ الْبُيُوتُ، وَيُفْضِي إِلَى شِعَابِ مَكَّةَ وَبُطُونِ أَوْدِيَتِهَا، فَلَا يَمُرُّ بِحَجَرٍ، وَلَا شَجَرٍ، إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَيَلْتَفِتُ حَوْلَهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ، وَخَلْفَهُ، فَلَا يَرَى إِلَّا الشَّجَرَ وَالْحِجَارَةَ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ يَرَى وَيَسْمَعُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِمَا جَاءَ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ، وَهُوَ بِحِرَاءٍ فِي رَمَضَانَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ، مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ يَقُولُ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ اللَّيْثِيِّ: حَدِّثْنَا يَا عُبَيْدُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ مَا ابْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ النُّبُوَّةِ حِينَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ. قَالَ: فَقَالَ عُبَيْدٌ وَأَنَا حَاضِرٌ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَمَنْ عِنْدَهُ

مِنَ النَّاسِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَاوِرُ فِي حِرَاءٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ شَهْرًا. قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَحَنَّثُ بِهِ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَالتَّحَنُّثُ التَّبَرُّرُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَاوِرُ ذَلِكَ الشَّهْرَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ، يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْمَسَاكِينِ، فَإِذَا قَضَى جِوَارَهُ مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ، كَانَ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ جِوَارِهِ الْكَعْبَةَ، قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، فَيَطُوفُ بِهَا سَبْعًا أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِهِ فِيهِ مَا أَرَادَ مِنْ كَرَامَتِهِ مِنَ السَّنَةِ الَّتِي بَعَثَهُ فِيهَا، وَذَلِكَ الشَّهْرُ رَمَضَانُ، خَرَجَ إِلَى حِرَاءٍ كَمَا كَانَ يَخْرُجُ لِجِوَارِهِ، وَمَعَهُ أَهْلُهُ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ فِيهَا بِرِسَالَتِهِ، وَرَحِمَ الْعِبَادَ بِهِ، جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ، وَأَنَا نَائِمٌ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ، فِيهِ كِتَابٌ فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: " مَا أَقْرَأُ " قَالَ: فَغَتَّنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: " مَا أَقْرَأُ " قَالَ: فَغَتَّنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: " مَا أَقْرَأُ ". قَالَ: فَغَتَّنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ الْمَوْتُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: " مَاذَا أَقْرَأُ ؟ " مَا أَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا افْتِدَاءً مِنْهُ أَنْ يَعُودَ لِي بِمِثْلِ مَا صَنَعَ بِي فَقَالَ:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [ الْعَلَقِ: 15 ]. قَالَ: " فَقَرَأْتُهَا، ثُمَّ انْتَهَى وَانْصَرَفَ عَنِّي، وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي، فَكَأَنَّمَا كَتَبَ فِي قَلْبِي كِتَابًا " قَالَ: " فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي وَسَطٍ مِنَ الْجَبَلِ، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، قَالَ: فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ أَنْظُرُ، فَإِذَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافٍّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ. فَوَقَفْتُ أُنْظُرُ إِلَيْهِ، فَمَا أَتَقَدَّمُ وَمَا أَتَأَخَّرُ، وَجَعَلْتُ أَصْرِفُ وَجْهِي عَنْهُ فِي آفَاقِ السَّمَاءِ، فَمَا أَنْظُرُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا إِلَّا رَأَيْتُهُ كَذَلِكَ، فَمَا زِلْتُ وَاقِفًا مَا أَتَقَدَّمُ أَمَامِي وَمَا أَرْجِعُ وَرَائِي، حَتَّى بَعَثَتْ خَدِيجَةُ رُسُلَهَا فِي طَلَبِي، فَبَلَغُوا مَكَّةَ، وَرَجَعُوا إِلَيْهَا، وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنِّي، وَانْصَرَفْتُ رَاجِعًا إِلَى أَهْلِي، حَتَّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَجَلَسْتُ إِلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، أَيْنَ كُنْتَ ؟ فَوَاللَّهِ لَقَدْ بَعَثْتُ رُسُلِي فِي طَلَبِكَ حَتَّى بَلَغُوا مَكَّةَ، وَرَجَعُوا إِلَيَّ. ثُمَّ حَدَّثْتُهَا بِالَّذِي رَأَيْتُ، فَقَالَتْ: أَبْشِرْ يَا ابْنَ الْعَمِّ، وَاثْبُتْ فَوَالَّذِي نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَرْجُو أَنَّ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ. ثُمَّ قَامَتْ فَجَمَعَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا، ثُمَّ انْطَلَقَتْ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ وَرَقَةُ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، وَالَّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ، لَئِنْ كُنْتِ صَدَقْتِنِي، يَا خَدِيجَةُ، لِقَدْ جَاءَهُ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَإِنَّهُ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقُولِي لَهُ: فَلْيَثْبُتْ. فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْهُ بِقَوْلِ وَرَقَةَ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِوَارَهُ، وَانْصَرَفَ صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، بَدَأَ بِالْكَعْبَةِ فَطَافَ بِهَا

فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّكَ لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَقَدْ جَاءَكَ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي جَاءَ مُوسَى، وَلَتُكَذَّبَنَّهْ، وَلَتُؤْذَيَنَّهْ، وَلَتُخْرَجَنَّهْ، وَلَتُقَاتَلَنَّهْ، وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَأَنْصُرَنَّ اللَّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ، ثُمَّ أَدْنَى رَأْسَهُ مِنْهُ، فَقَبَّلَ يَأْفُوخَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَنْزِلِهِ
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ كَالتَّوْطِئَةِ لِمَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنَ الْيَقَظَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الْمَنَامَ كَانَ بَعْدَ مَا رَآهُ فِي الْيَقَظَةِ صَبِيحَةَ لَيْلَتَئِذٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ وَكَانَ فِيمَا بَلَغَنَا أَوَّلَ مَا رَأَى يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَاهُ رُؤْيَا فِي الْمَنَامِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَذَكَرَهَا لِامْرَأَتِهِ خَدِيجَةَ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ عَنِ التَّكْذِيبِ، وَشَرَحَ صَدْرَهَا لِلتَّصْدِيقِ، فَقَالَتْ: أَبْشِرْ ; فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَصْنَعَ بِكَ إِلَّا خَيْرًا. ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا، فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ رَأَى بَطْنَهُ شُقَّ، ثُمَّ غُسِلَ وَطُهِّرَ، ثُمَّ أُعِيدَ كَمَا كَانَ. قَالَتْ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ فَأَبْشِرْ. ثُمَّ اسْتَعْلَنَ لَهُ جِبْرِيلُ، وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَأَجْلَسَهُ عَلَى مَجْلِسٍ كَرِيمٍ مُعْجِبٍ، كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " أَجْلَسَنِي

عَلَى بِسَاطٍ كَهَيْئَةِ الدُّرْنُوكِ فِيهِ الْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ ". فَبَشَّرَهُ بِرِسَالَةِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: اقْرَأْ. فَقَالَ: " كَيْفَ أَقْرَأُ " فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عِلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ
قَالَ: وَيَزْعُمُ نَاسٌ أَنَّ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: فَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَاتَّبَعَ مَا جَاءَهُ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مُنْقَلِبًا إِلَى بَيْتِهِ، جَعَلَ لَا يَمُرُّ عَلَى شَجَرٍ، وَلَا حَجَرٍ، إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا مُوقِنًا أَنَّهُ قَدْ رَأَى أَمْرًا عَظِيمًا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، قَالَ: " أَرَأَيْتُكِ الَّتِي كُنْتُ أُحَدِّثُكِ أَنِّي رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ ؟ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ اسْتَعْلَنَ إِلَيَّ، أَرْسَلَهُ إِلَيَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ". وَأَخْبَرَهَا بِالَّذِي جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا سَمِعَ مِنْهُ. فَقَالَتْ: أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِكَ إِلَّا خَيْرًا، وَاقْبَلِ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ; فَإِنَّهُ حَقٌّ، وَأَبْشِرْ ; فَإِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. ثُمَّ انْطَلَقَتْ مَكَانَهَا، فَأَتَتْ غُلَامًا لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ نَصْرَانِيًّا مِنْ أَهْلِ نِينَوَى، يُقَالُ لَهُ: عَدَّاسٌ. فَقَالَتْ لَهُ: يَا عَدَّاسُ أُذَكِّرُكَ بِاللَّهِ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي هَلْ عِنْدَكَ عِلْمٌ مِنْ جِبْرِيلَ ؟ فَقَالَ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، مَا شَأْنُ جِبْرِيلَ يُذْكَرُ بِهَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي أَهْلُهَا أَهْلُ الْأَوْثَانِ !. فَقَالَتْ: أَخْبِرْنِي بِعِلْمِكَ فِيهِ. قَالَ: فَإِنَّهُ أَمِينُ اللَّهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ، وَهُوَ صَاحِبُ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.

فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ مِنْ عِنْدِهِ، فَجَاءَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ فَذَكَرَتْ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا أَلْقَاهُ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهَا وَرَقَةُ: يَا بُنَيَّةَ أَخِي، مَا أَدْرِي لَعَلَّ صَاحِبَكِ النَّبِيُّ الَّذِي يَنْتَظِرُ أَهْلُ الْكِتَابِ، الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَئِنْ كَانَ إِيَّاهُ، ثُمَّ أَظْهَرَ دُعَاءَهُ وَأَنَا حَيٌّ، لَأُبْلِيَنَّ اللَّهَ فِي طَاعَةِ رَسُولِهِ، وَحُسْنِ مُؤَازَرَتِهِ لِلصَّبْرِ وَالنَّصْرِ. فَمَاتَ وَرَقَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَكَانَتْ خَدِيجَةُ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ إِيرَادِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ: وَالَّذِي ذُكِرَ فِيهِ مِنْ شَقِّ بَطْنِهِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً مِنْهُ لِمَا صُنِعَ بِهِ فِي صِبَاهُ يَعْنِي شَقَّ بَطْنِهِ عِنْدَ حَلِيمَةَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ شُقَّ مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ ثَالِثَةً حِينَ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ وَرَقَةَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ طَرْخَانَ التَّيْمِيِّ قَالَ بَلَغَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولًا، عَلَى رَأْسِ خَمْسِينَ سَنَةً مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ اخْتَصَّهُ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْكَرَامَةِ رُؤْيَا كَانَ يَرَاهَا، فَقَصَّ ذَلِكَ عَلَى زَوْجَتِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، فَقَالَتْ لَهُ: أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِكَ إِلَّا خَيْرًا. فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي حِرَاءٍ، وَكَانَ يَفِرُّ إِلَيْهِ مِنْ قَوْمِهِ، إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ، فَدَنَا مِنْهُ، فَخَافَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخَافَةً

شَدِيدَةً، فَوَضَعَ جِبْرِيلُ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ احْطُطْ وِزْرَهُ، وَاشْرَحْ صَدْرَهُ، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، يَا مُحَمَّدُ، أَبْشِرْ ; فَإِنَّكَ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، اقْرَأْ. فَقَالَ لَهُ نَبِيُّ اللَّهِ وَهُوَ خَائِفٌ يُرْعَدُ: " مَا قَرَأْتُ كِتَابًا قَطُّ، وَلَا أُحْسِنُهُ، وَمَا أَكْتُبُ، وَمَا أَقْرَأُ ". فَأَخَذَهُ جِبْرِيلُ، فَغَتَّهُ غَتًّا شَدِيدًا، ثُمَّ تَرَكَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اقْرَأْ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ مِثْلَهُ، فَأَجْلَسَهُ عَلَى بِسَاطٍ كَهَيْئَةِ الدُّرْنُوكِ، فَرَأَى فِيهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَحُسْنِهِ كَهَيْئَةِ اللُّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ، وَقَالَ لَهُ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ الْآيَاتِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: لَا تَخَفْ يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ انْصَرَفَ، وَأَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَمُّهُ، فَقَالَ: " كَيْفَ أَصْنَعُ وَكَيْفَ أَقُولُ لِقَوْمِي ؟ ". ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ خَائِفٌ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ مِنْ أَمَامِهِ فِي صُورَةِ نَفْسِهِ، فَأَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرًا عَظِيمًا مَلَأَ صَدْرَهُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: لَا تَخَفْ يَا مُحَمَّدُ، جِبْرِيلُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، فَأَيْقِنْ بِكَرَامَةِ اللَّهِ ; فَإِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمُرُّ عَلَى شَجَرٍ ; وَلَا حَجَرٍ ; إِلَّا هُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَاطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ، وَعَرَفَ كَرَامَةَ اللَّهِ إِيَّاهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى زَوْجَتِهِ خَدِيجَةَ أَبْصَرَتْ مَا بِوَجْهِهِ مِنْ تَغَيُّرِ لَوْنِهِ، فَأَفْزَعَهَا ذَلِكَ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنْهُ جَعَلَتْ تَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ، وَتَقُولُ: لَعَلَّكَ لِبَعْضِ مَا كُنْتَ تَرَى وَتَسْمَعُ قَبْلَ الْيَوْمِ. فَقَالَ: " يَا خَدِيجَةُ، أَرَأَيْتِ الَّذِي كُنْتُ أَرَى فِي الْمَنَامِ، وَالصَّوْتَ الَّذِي كُنْتُ أَسْمَعُ فِي الْيَقَظَةِ وَأُهَالُ مِنْهُ ؟ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ قَدِ اسْتَعْلَنَ لِي، وَكَلَّمَنِي، وَأَقْرَأَنِي كَلَامًا فَزِعْتُ مِنْهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَيَّ

فَأَخْبَرَنِي أَنِّي نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَأَقْبَلْتُ رَاجِعًا، فَأَقْبَلْتُ عَلَى شَجَرٍ وَحِجَارَةٍ، فَقُلْنَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ". فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: أَبْشِرْ ; فَوَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَنْ يَفْعَلَ بِكَ إِلَّا خَيْرًا، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِي تَنْتَظِرُهُالْيَهُودُ، قَدْ أَخْبَرَنِي بِهِ نَاصِحٌ ; غُلَامِي وَبَحِيرَى الرَّاهِبُ وَأَمَرَنِي أَنْ أَتَزَوَّجَكَ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً. فَلَمْ تَزَلْ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى طَعِمَ وَشَرِبَ وَضَحِكَ، ثُمَّ خَرَجَتْ إِلَى الرَّاهِبِ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنْهُ، وَعَرَفَهَا. قَالَ: مَا لَكِ يَا سَيِّدَةَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ ؟ فَقَالَتْ: أَقْبَلْتُ إِلَيْكَ لِتُخْبِرَنِي عَنْ جِبْرِيلَ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّنَا الْقُدُّوسِ ! مَا بَالُ جِبْرِيلَ يُذْكَرُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الَّتِي يَعْبُدُ أَهْلُهَا الْأَوْثَانَ ؟ ! جِبْرِيلُ أَمِينُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَهُوَ صَاحِبُ مُوسَى وَعِيسَى. فَعَرَفْتُ كَرَامَةَ اللَّهِ لِمُحَمَّدٍ، ثُمَّ أَتَتْ عَبْدًا لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ يُقَالُ لَهُ: عَدَّاسٌ. فَسَأَلَتْهُ فَأَخْبَرَهَا بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَهَا بِهِ الرَّاهِبُ وَأَزْيَدَ. قَالَ: جِبْرِيلُ كَانَ مَعَ مُوسَى حِينَ أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَكَانَ مَعَهُ حِينَ كَلَّمَهُ اللَّهُ عَلَى الطُّورِ، وَهُوَ صَاحِبُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ الَّذِي أَيَّدَهُ اللَّهُ بِهِ. ثُمَّ قَامَتْ مِنْ عِنْدِهِ فَأَتَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ فَسَأَلَتْهُ عَنْ جِبْرِيلَ، فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَأَلَهَا: مَا الْخَبَرُ ؟ فَأَحْلَفَتْهُ أَنْ يَكْتُمَ مَا تَقُولُ لَهُ، فَحَلَفَ لَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ ذَكَرَ لِي وَهُوَ صَادِقٌ أَحَلِفَ بِاللَّهِ مَا كَذَبَ وَلَا كُذِبَ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِحِرَاءٍ، وَأَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَقْرَأَهُ آيَاتٍ أُرْسِلَ بِهَا. قَالَ: فَذُعِرَ وَرَقَةُ لِذَلِكَ، وَقَالَ: لَئِنْ كَانَ جِبْرِيلُ قَدِ اسْتَقَرَّتْ قَدَمَاهُ عَلَى الْأَرْضِ لَقَدْ نَزَلَ عَلَى خَيْرِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَمَا نَزَلَ إِلَّا عَلَى نَبِيٍّ، وَهُوَ صَاحِبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، يُرْسِلُهُ اللَّهُ

إِلَيْهِمْ، وَقَدْ صَدَقْتُكِ عَنْهُ، فَأَرْسِلِي إِلَيَّ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَسْأَلُهُ، وَأَسْمَعُ مِنْ قَوْلِهِ وَأُحَدِّثُهُ ; فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ جِبْرِيلَ ; فَإِنَّ بَعْضَ الشَّيَاطِينِ يَتَشَبَّهُ بِهِ لِيُضِلَّ بِهِ بَعْضَ بَنِي آدَمَ، وَيُفْسِدُهُمْ حَتَّى يَصِيرَ الرَّجُلُ بَعْدَ الْعَقْلِ الرَّضِيِّ مُدَلَّهًا مَجْنُونًا. فَقَامَتْ مِنْ عِنْدِهِ وَهِيَ وَاثِقَةٌ بِاللَّهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ بِصَاحِبِهَا إِلَّا خَيْرًا، فَرَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا قَالَ وَرَقَةُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [ الْقَلَمِ: 1، 2 ] الْآيَاتِ. فَقَالَ لَهَا: " كَلَّا وَاللَّهِ، إِنَّهُ لَجِبْرِيلُ ". فَقَالَتْ لَهُ: أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَهُ فَتُخْبِرَهُ ; لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُ. فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا الَّذِي جَاءَكَ، جَاءَكَ فِي نُورٍ أَوْ ظُلْمَةٍ ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صِفَةِ جِبْرِيلَ، وَمَا رَآهُ مِنْ عَظَمَتِهِ، وَمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ وَرَقَةُ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا جِبْرِيلُ، وَأَنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ، فَقَدْ أَمَرَكَ بِشَيْءٍ تُبَلِّغُهُ قَوْمَكَ، وَإِنَّهُ لَأَمْرُ نُبُوَّةٍ، فَإِنْ أُدْرِكْ زَمَانَكَ أَتَّبِعْكَ. ثُمَّ قَالَ: أَبْشِرِ ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِمَا بَشَّرَكَ اللَّهُ بِهِ.
قَالَ: وَذَاعَ قَوْلُ وَرَقَةَ وَتَصْدِيقُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ. قَالَ: وَفَتَرَ الْوَحْيُ، فَقَالُوا: لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَتَتَابَعَ. وَلَكِنَّ اللَّهَ قَلَاهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [ الضُّحَى: 1، 2 ] وَ أَلَمْ نَشْرَحْ [ الشَّرْحِ: 1 ] بِكَمَالِهِمَا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ حَدَّثَنَا

أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ مَوْلَى الزُّبَيْرِ أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَيْنَهُ مِمَّا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ نُبُوَّتِهِ: يَا ابْنَ عَمِّ، تَسْتَطِيعُ أَنَّ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ إِذَا جَاءَكَ ؟ فَقَالَ: " نَعَمْ ". فَقَالَتْ: إِذَا جَاءَكَ فَأَخْبِرْنِي. فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَهَا إِذْ جَاءَ جِبْرِيلُ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ ". فَقَالَتْ: أَتَرَاهُ الْآنَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَتْ: فَاجْلِسْ إِلَى شِقِّيَ الْأَيْمَنِ. فَتَحَوَّلَ فَجَلَسَ، فَقَالَتْ: أَتَرَاهُ الْآنَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَتْ: فَتَحَوَّلْ فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي. فَتَحَوَّلَ فَجَلَسَ فِي حِجْرِهَا، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ الْآنَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". فَتَحَسَّرَتْ رَأْسَهَا، فَشَالَتْ خِمَارَهَا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ الْآنَ ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَتْ: مَا هَذَا بِشَيْطَانٍ، إِنَّ هَذَا لَمَلَكٌ، يَا ابْنَ عَمِّ، فَاثْبُتْ وَأَبْشِرْ ثُمَّ آمَنَتْ بِهِ وَشَهِدَتْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَثْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنٍ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ أُمِّي فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ تُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، عَنْ خَدِيجَةَ إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُهَا تَقُولُ: أَدْخَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِرْعِهَا، فَذَهَبَ عِنْدَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ مِنْ خَدِيجَةَ تَصْنَعُهُ تَسْتَثْبِتُ بِهِ الْأَمْرَ احْتِيَاطًا

لِدِينِهَا وَتَصْدِيقًا، فَأَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ كَانَ وَثِقَ بِمَا قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ وَأَرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَمَا كَانَ مِنْ تَسْلِيمِ الشَّجَرِ وَالْحَجَرِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْلِيمًا.
وَقَدْ قَالَ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ ": حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ حَدَّثَنِي سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إِنَّ بِمَكَّةَ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ لَيَالِي بُعِثْتُ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ إِذَا مَرَرْتُ عَلَيْهِ
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ الْكَبِيرِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ، فَخَرَجَ فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ شَجَرٌ، وَلَا جَبَلٌ، إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَدْخُلُ مَعَهُ الْوَادِيَ فَلَا يَمُرُّ

بِحَجَرٍ وَلَا شَجَرٍ إِلَّا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَأَنَا أَسْمَعُهُ.

فَصْلٌ
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ: ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً، حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُؤُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذُرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ: إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقَرُّ نَفْسُهُ فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُحَدِّثُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، قَالَ: " فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى

الْأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي، فَقُلْتُ: " زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي "، فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ قَالَ: ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ فَهَذَا كَانَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ لَا مُطْلَقًا، ذَاكَ قَوْلُهُ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وَاللَّائِقُ حَمْلُ كَلَامِهِ مَا أَمْكَنَ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، فَإِنَّ فِي سِيَاقِ كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ مَجِيءِ الْمَلَكِ الَّذِي عَرَفَهُ ثَانِيًا بِمَا عَرَفَهُ بِهِ أَوَّلًا إِلَيْهِ
ثُمَّ قَوْلُهُ: يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ. دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ الْوَحْيِ عَلَى هَذَا الْإِيحَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ ؟ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. فَقُلْتُ: أَوِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فَقَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ ؟ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فَقُلْتُ: وَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ؟

فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِّي جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ، فَاسْتَبْطَنْتُ الْوَادِيَ، فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ بَيْنَ يَدَيَّ وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ فَأَخَذَتْنِي رِعْدَةٌ، أَوْ قَالَ وَحْشَةٌ، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَأَمَرْتُهُمْ فَدَثَّرُونِي ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ حَتَّى بَلَغَ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ " فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجُئِثْتُ مِنْهُ " وَهَذَا صَرِيحٌ فِي تَقَدُّمِ إِتْيَانِهِ إِلَيْهِ وَإِنْزَالِهِ الْوَحْيَ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ سُورَةُ وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى إِلَى آخِرِهَا. قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: وَلِهَذَا كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِهَا فَرَحًا. وَهُوَ قَوْلٌ بَعِيدٌ يَرُدُّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ صَاحِبَيِ " الصَّحِيحِ " مِنْ أَنَّ أَوَّلَ الْقُرْآنِ نُزُولًا بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَلَكِنْ نَزَلَتْ سُورَةُ وَالضُّحَى بَعْدَ فَتْرَةٍ أُخْرَى كَانَتْ لَيَالِيَ يَسِيرَةً، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ

عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: مَا أَرَى شَيْطَانَكَ إِلَّا تَرَكَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى
وَبِهَذَا الْأَمْرِ حَصَلَ الْإِرْسَالُ إِلَى النَّاسِ، وَبِالْأَوَّلِ حَصَلَتِ النُّبُوَّةُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ مُدَّةُ الْفَتْرَةِ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ. وَالظَّاهِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهَا الْمُدَّةُ الَّتِي اقْتَرَنَ مَعَهُ مِيكَائِيلُ كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَلَا يَنْفِي هَذَا تَقَدُّمَ إِيحَاءِ جِبْرِيلَ إِلَيْهِ أَوَّلًا اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ثُمَّ حَصَلَتِ الْفَتْرَةُ الَّتِي اقْتَرَنَ مَعَهُ مِيكَائِيلُ، ثُمَّ اقْتَرَنَ بِهِ جِبْرِيلُ بَعْدَ نُزُولِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ بَعْدَ هَذَا وَتَتَابَعَ أَيْ تَدَارَكَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَقَامَ حِينَئِذٍ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرِّسَالَةِ أَتَمَّ الْقِيَامَ، وَشَمَّرَ عَنْ سَاقِ الْعَزْمِ، وَدَعَا إِلَى اللَّهِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ، وَالْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ، فَآمَنَ بِهِ حِينَئِذٍ كُلُّ لَبِيبٍ نَجِيبٍ سَعِيدٍ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَعِصْيَانِهِ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَادَرَ إِلَى التَّصْدِيقِ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَمِنَ الْغِلْمَانِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ زَوْجَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنَ الْمَوَالِيَ مَوْلَاهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْكَلْبِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى إِيمَانِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ بِمَا وَجَدَ مِنَ الْوَحْيِ، وَمَاتَ فِي الْفَتْرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

فَصْلٌ فِي مَنْعِ الْجَانِّ وَمَرَدَةِ الشَّيَاطِينِ مِنَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ حِينَ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ ; لِئَلَّا يَخْتَطِفَ أَحَدُهُمْ مِنْهُ وَلَوْ حَرْفًا وَاحِدًا، فَيُلْقِيهِ عَلَى لِسَانِ وَلِيِّهِ فَيَلْتَبِسُ الْأَمْرُ وَيَخْتَلِطُ الْحَقُّ
فَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَلُطْفِهِ بِخَلْقِهِ أَنْ حَجَبَهُمْ عَنِ السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [ الْجِنِّ: 8 - 10 ] وَقَالَ تَعَالَى وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [ الشُّعَرَاءِ: 210 - 212 ]
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، وَهُوَ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْجِنُّ يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاءِ يَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ، فَإِذَا سَمِعُوا الْكَلِمَةَ زَادُوا فِيهَا تِسْعًا، فَأَمَّا الْكَلِمَةُ فَتَكُونُ حَقًّا، وَأَمَّا مَا زَادُوا فَيَكُونُ بَاطِلًا، فَلَمَّا بُعِثَ

النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنِعُوا مَقَاعِدَهُمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِإِبْلِيسَ وَلَمْ تَكُنِ النُّجُومُ يُرْمَى بِهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: هَذَا لِأَمْرٍ قَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ، فَبَعَثَ جُنُودَهُ فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمًا، يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَتَوْهُ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي قَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ، فَرَجَعَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ ؟ قَالُوا: حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَأُرْسِلَتْ عَلَيْنَا الشُّهُبُ. فَقَالُوا: مَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ شَيْءِ حَدَثَ، فَاضْرِبُوا مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا. فَمَرَّ النَّفَرُ الَّذِينَ أَخَذُوا نَحْوَ تِهَامَةَ، وَهُوَ بِنَخْلَةَ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ، وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ، فَقَالُوا: هَذَا الَّذِي حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَبَرِ السَّمَاءِ. فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [ الْجِنِّ: 1، 2 ] فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [ الْجِنِّ: 1 ] الْآيَةَ أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ".

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إِنَّهُ لَمْ تَكُنْ قَبِيلَةٌ مِنَ الْجِنِّ إِلَّا وَلَهُمْ مَقَاعِدُ لِلسَّمْعِ، فَإِذَا نَزَلَ الْوَحْيُ سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ صَوْتًا كَصَوْتِ الْحَدِيدَةِ أَلْقَيْتَهَا عَلَى الصَّفَا. قَالَ: فَإِذَا سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ خَرُّوا سُجَّدًا، فَلَمْ يَرْفَعُوا رُؤُوسَهُمْ حَتَّى يَنْزِلَ، فَإِذَا نَزَلَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَكُونُ فِي السَّمَاءِ، قَالُوا: الْحَقَّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ، أَوْ مَوْتٍ، أَوْ شَيْءٍ مِمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ تَكَلَّمُوا بِهِ. فَقَالُوا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا. فَتَسْمَعُهُ الشَّيَاطِينُ فَيُنْزِلُونَهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِمْ. فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُحِرُوا بِالنُّجُومِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَلِمَ بِهَا ثَقِيفٌ، فَكَانَ ذُو الْغَنَمِ مِنْهُمْ يَنْطَلِقُ إِلَى غَنَمِهِ، فَيَذْبَحُ كُلَّ يَوْمٍ شَاةً، وَذُو الْإِبِلِ فَيَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ بَعِيرًا، فَأَسْرَعَ النَّاسُ فِي أَمْوَالِهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَفْعَلُوا، فَإِنْ كَانَتِ النُّجُومُ الَّتِي يَهْتَدُونَ بِهَا وَإِلَّا فَإِنَّهُ لِأَمْرٍ حَدَثَ. فَنَظَرُوا فَإِذَا النُّجُومُ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا كَمَا هِيَ لَمْ يَزُلْ مِنْهَا شَيْءٌ فَكَفُّوا، وَصَرَفَ اللَّهُ الْجِنَّ فَسَمِعُوا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ، قَالُوا: أَنْصِتُوا. وَانْطَلَقَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى إِبْلِيسَ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: هَذَا حَدَثٌ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ فَأْتُونِي مِنْ كُلِّ أَرْضٍ

بِتُرْبَةٍ. فَأَتَوْهُ بِتُرْبَةِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: هَاهُنَا الْحَدَثُ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ بِهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدَانَ الْعَبْسِيِّ عَنِ ابْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمْ يُرْمَ بِنَجْمٍ مُنْذُ رُفِعَ عِيسَى، حَتَّى تَنَبَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرُمِيَ بِهَا، فَرَأَتْ قُرَيْشٌ أَمْرًا لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَجَعَلُوا يُسَيِّبُونَ أَنْعَامَهُمْ، وَيُعْتِقُونَ أَرِقَّاءَهُمْ، يَظُنُّونَ أَنَّهُ الْفَنَاءُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ أَهْلَ الطَّائِفِ، فَفَعَلَتْ ثَقِيفٌ مَثَلَ ذَلِكَ، فَبَلَغَ عَبْدَ يَالِيلَ بْنَ عَمْرٍو مَا صَنَعَتْ ثَقِيفٌ، قَالَ: وَلِمَ فَعَلْتُمْ مَا أَرَى ؟ قَالُوا: رُمِيَ بِالنُّجُومِ فَرَأَيْنَاهَا تَهَافَتُ مِنَ السَّمَاءِ. فَقَالَ: إِنَّ إِفَادَةَ الْمَالِ بَعْدَ ذَهَابِهِ شَدِيدٌ، فَلَا تَعْجَلُوا، وَانْظُرُوا ; فَإِنْ تَكُنْ نُجُومًا تُعْرَفُ، فَهُوَ عِنْدَنَا مِنْ فَنَاءِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَتْ نُجُومًا لَا تُعْرَفُ فَهُوَ لِأَمْرٍ قَدْ حَدَثَ. فَانْظُرُوا فَإِذَا هِيَ لَا تُعْرَفُ، فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: الْأَمْرُ فِيهِ مُهْلَةٌ بَعْدُ، هَذَا عِنْدَ ظُهُورِ نَبِيٍّ. فَمَا مَكَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ إِلَى أَمْوَالِهِ، فَجَاءَ عَبْدُ يَالِيلَ فَذَاكَرَهُ أَمْرَ النُّجُومِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ظَهَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَدَّعِي أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. فَقَالَ عَبْدُ يَالِيلَ فَعِنْدَ ذَلِكَ رُمِيَ بِهَا.

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ خَالِدٍ عَنْ حَصِينٍ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَتِ النُّجُومُ لَا يُرْمَى بِهَا حَتَّى بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَيَّبُوا أَنْعَامَهُمْ، وَأَعْتَقُوا رَقِيقَهُمْ، فَقَالَ عَبْدُ يَالِيلَ: انْظُرُوا، فَإِنْ كَانَتِ النُّجُومُ الَّتِي تُعْرَفَ فَهُوَ عِنْدَ فَنَاءِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْرَفُ فَهُوَ لِأَمْرٍ قَدْ حَدَثَ. فَنَظَرُوا فَإِذَا هِيَ لَا تُعْرَفُ. قَالَ: فَأَمْسِكُوا. فَلَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَهُمْ خُرُوجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ تَكُنْ سَمَاءُ الدُّنْيَا تُحْرَسُ فِي الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ، فَلَعَلَّ مُرَادَ مَنْ نَفَى ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تُحْرَسُ حِرَاسَةً شَدِيدَةً، وَيَجِبُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى هَذَا لِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ إِذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ: " مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِذَا رُمِيَ بِهَذَا ؟ " قَالَ: كُنَّا نَقُولُ مَاتَ عَظِيمٌ، وَوُلِدَ عَظِيمٌ. فَقَالَ: " لَا وَلَكِنْ... " فَذَكَرَ الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ فِي أَوَّلِ بَدْءِ الْخَلْقِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي " السِّيرَةِ " قِصَّةَ رَمْيِ النُّجُومِ، وَذَكَرَ عَنْ كَبِيرِ ثَقِيفٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ فِي النَّظَرِ فِي النُّجُومِ: إِنْ كَانَتْ أَعْلَامَ السَّمَاءِ أَوْ غَيْرَهَا. وَلَكِنْ سَمَّاهُ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمْ تَكُنِ السَّمَاءُ تُحْرَسُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ نَبِيٌّ أَوْ دِينٌ لِلَّهِ ظَاهِرٌ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَبْلَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ اتَّخَذَتِ الْمَقَاعِدَ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، يَسْتَمِعُونَ مَا يَحْدُثُ فِي السَّمَاءِ مِنْ أَمْرٍ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا، رُجِمُوا لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي، فَفَزِعَ لِذَلِكَ أَهْلُ الطَّائِفِ، فَقَالُوا: هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ لِمَا رَأَوْا مِنْ شِدَّةِ النَّارِ فِي السَّمَاءِ وَاخْتِلَافِ الشُّهُبِ، فَجَعَلُوا يُعْتِقُونَ أَرِقَّاءَهُمْ، وَيُسَيِّبُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ: وَيْحَكُمُ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الطَّائِفِ أَمْسِكُوا عَنْ أَمْوَالِكُمْ، وَانْظُرُوا إِلَى مَعَالِمِ النُّجُومِ، فَإِنْ رَأَيْتُمُوهَا مُسْتَقِرَّةً فِي أَمْكِنَتِهَا فَلَمْ يَهْلِكْ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَجْلِ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ وَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَرَوْهَا فَقَدْ هَلَكَ أَهْلُ السَّمَاءِ. فَنَظَرُوا فَرَأَوْهَا فَكَفُّوا عَنْ أَمْوَالِهِمْ، وَفَزِعَتِ الشَّيَاطِينُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فَأَتَوْا إِبْلِيسَ، فَقَالَ: ائْتُونِي مِنْ كُلِّ أَرْضٍ بِقَبْضَةٍ مِنْ تُرَابٍ، فَأَتَوْهُ، فَشَمَّ، فَقَالَ: صَاحِبُكُمْ بِمَكَّةَ. فَبَعَثَ سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ، فَقَدِمُوا مَكَّةَ، فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَدَنَوْا مِنْهُ حِرْصًا عَلَى الْقُرْآنِ حَتَّى كَادَتْ كَلَاكِلُهُمْ تُصِيبُهُ، ثُمَّ

أَسْلَمُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَمْرَهُمْ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ أَبِي حَكِيمٍ يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْبَحَ كُلُّ صَنَمٍ مُنَكَّسًا، فَأَتَتِ الشَّيَاطِينُ إِبْلِيسَ، فَقَالُوا لَهُ: مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ صَنَمٍ إِلَّا وَقَدْ أَصْبَحَ مُنَكَّسًا. قَالَ: هَذَا نَبِيٌّ قَدْ بُعِثَ، فَالْتَمِسُوهُ فِي قُرَى الْأَرْيَافِ. فَالْتَمَسُوهُ، فَقَالُوا: لَمْ نَجِدْهُ. فَقَالَ: أَنَا صَاحِبُهُ. فَخَرَجَ يَلْتَمِسُهُ، فَنُودِيَ: عَلَيْكَ بِحَبَّةِ الْقَلْبِ. يَعْنِي مَكَّةَ، فَالْتَمَسَهُ بِهَا، فَوَجَدَهُ بِهَا عِنْدَ قَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَخَرَجَ إِلَى الشَّيَاطِينِ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ وَجَدْتُهُ مَعَهُ جِبْرِيلُ، فَمَا عِنْدَكُمْ ؟ قَالُوا: نُزَيِّنُ الشَّهَوَاتِ فِي أَعْيُنِ أَصْحَابِهِ، وَنُحَبِّبُهَا إِلَيْهِمْ. قَالَ: فَلَا آسَى إِذًا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي تَنَبَّأَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنِعَتِ الشَّيَاطِينُ السَّمَاءَ، وَرُمُوا بِالشُّهُبِ، فَجَاؤُوا إِلَى إِبْلِيسَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَمْرٌ قَدْ حَدَثَ، هَذَا نَبِيٌّ قَدْ خَرَجَ عَلَيْكُمْ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ مَخْرَجِ

بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ: فَذَهَبُوا إِلَى الشَّامِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ. فَقَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا صَاحِبُهُ. فَخَرَجَ فِي طَلَبِهِ بِمَكَّةَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِرَاءٍ مُنْحَدِرًا مَعَهُ جِبْرِيلُ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: قَدْ بُعِثَ أَحْمَدُ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ، فَمَا عِنْدَكُمْ ؟ قَالُوا: الدُّنْيَا نُحَبِّبُهَا إِلَى النَّاسِ. قَالَ فَذَاكَ إِذًا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ كَانَتِ الشَّيَاطِينُ يَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنِعُوا، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى إِبْلِيسَ، فَقَالَ: لَقَدْ حَدَثَ أَمْرٌ. فَرَقِيَ فَوْقَ أَبِي قُبَيْسٍ، وَهُوَ أَوَّلُ جَبَلٍ وُضِعَ عَلَى الْأَرْضِ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي خَلْفَ الْمَقَامِ. فَقَالَ أَذْهَبُ فَأَكْسِرُ عُنُقَهُ. فَجَاءَ يَخْطِرُ، وَجِبْرِيلُ عِنْدَهُ، فَرَكَضَهُ جِبْرِيلُ رَكْضَةً طَرَحَهُ فِي كَذَا وَكَذَا، فَوَلَّى الشَّيْطَانُ هَارِبًا. ثُمَّ رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ كِلَاهُمَا عَنْ رَبَاحِ بْنِ أَبِي مَعْرُوفٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا. وَقَالَ: فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ فَرَمَاهُ بِعَدَنَ.

فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ إِتْيَانِ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ مَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ وَثَانِي مَرَّةٍ أَيْضًا.
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ ؟ فَقَالَ: " أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا، فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ " قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ، وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا. أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ بِهِ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهِ نَحْوَهُ وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَأَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ. وَقَدْ رَوَاهُ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ

قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ ؟ فَذَكَرُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَائِشَةَ.
وَفِي حَدِيثِ الْإِفْكِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَوَاللَّهِ، مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَجْلِسَهُ، وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ، حَتَّى أَنَّهُ كَانَ يَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْوَحْيِ الَّذِي يَنْزِلَ عَلَيْهِ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ أَمْلَى عَلَيَّ يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِيِّ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَحْيُ يُسْمَعُ عِنْدَ وَجْهِهِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِي نُزُولِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 1 ] وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ثُمَّ قَالَ النَّسَائِيُّ: مُنْكَرٌ، لَا نَعْرِفُ أَحَدًا رَوَاهُ غَيْرَ يُونُسَ بْنَ سُلَيْمٍ وَلَا نَعْرِفُهُ.

وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كَرَبَهُ ذَلِكَ وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ وَفِي رِوَايَةٍ وَغَمَّضَ عَيْنَيْهِ وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ حِينَ نَزَلَتْ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ النِّسَاءِ: 95 ] فَلَمَّا شَكَى ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرَارَتَهُ نَزَلَتْ: غَيْرُ أُولَى الضَّرَرِ [ النِّسَاءِ: 95 ]، قَالَ: وَكَانَتْ فَخِذُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فَخِذِي، وَأَنَا أَكْتُبُ، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ كَادَتْ فَخِذُهُ تَرُضُّ فَخِذِي
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَطَاءٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ قَالَ لِي عُمَرُ: أَيَسُرُّكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُوحَى إِلَيْهِ ؟ فَرَفَعَ طَرَفَ الثَّوْبِ عَنْ وَجْهِهِ، وَهُوَ يُوحَى إِلَيْهِ بِالْجِعْرَانَةِ، فَإِذَا هُوَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ، وَهُوَ يَغِطُّ كَمَا يَغِطُّ الْبَكْرُ وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ لَمَّا نَزَلَ الْحِجَابُ، وَإِنَّ

سَوْدَةَ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْمَنَاصِعِ لَيْلًا، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ، فَرَجَعَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَتْهُ، وَهُوَ جَالِسٌ يَتَعَشَّى، وَالْعَرْقُ فِي يَدِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، وَالْعَرْقُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: " إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ ". فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْوَحْيُ يُغَيِّبُ عَنْهُ إِحْسَاسَهُ بِالْكُلِّيَّةِ ; بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَالِسٌ لَمْ يَسْقُطْ، وَلَمْ يَسْقُطِ الْعَرْقُ أَيْضًا مِنْ يَدِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ دَائِمًا عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ تَرَبَّدَ لِذَلِكَ جَسَدُهُ وَوَجْهُهُ، وَأَمْسَكَ عَنْ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يُكَلِّمْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ تُحِسُّ بِالْوَحْيِ ؟ قَالَ: " نَعَمْ، أَسْمَعُ صَلَاصِلَ، ثُمَّ أَثْبُتُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَمَا مِنْ مَرَّةٍ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا ظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تَفِيظُ مِنْهُ "

وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ خَالِهِ الْفَلَتَانِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ دَامَ بَصَرُهُ مَفْتُوحَةً عَيْنَاهُ، وَفَرَّغَ سَمْعَهُ وَقَلْبَهُ لِمَا يَأْتِيهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ قُتَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ غُرَابٍ عَنِ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي عَوْنٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ صُدِعَ، وَغَلَّفَ رَأْسَهُ بِالْحِنَّاءِ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ شَيْبَانُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، قَالَتْ إِنِّي لَآخِذَةٌ بِزِمَامِ

الْعَضْبَاءِ ; نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْمَائِدَةُ كُلُّهَا، وَكَادَتْ مِنْ ثِقَلِهَا تَدُقُّ عَضُدَ النَّاقَةِ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " سُورَةُ الْمَائِدَةِ "، وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَحْمِلَهُ، فَنَزَلَ عَنْهَا. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ صَبَّاحِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، حَدَّثَتْنِي أُمُّ عَمْرٍو، عَنْ عَمِّهَا، أَنَّهُ كَانَ فِي مَسِيرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ " الْمَائِدَةِ " فَانْدَقَّ عُنُقُ الرَّاحِلَةِ مِنْ ثِقَلِهَا. وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " نُزُولُ سُورَةِ " الْفَتْحِ " عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَكَأَنَّهُ يَكُونُ تَارَةً وَتَارَةً، بِحَسَبِ الْحَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنْوَاعَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ "، وَمَا ذَكَرَهُ الْحَلِيمِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

فَصْلٌ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [ الْقِيَامَةِ: 16 - 19 ] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [ طه: 114 ]. وَكَانَ هَذَا فِي الِابْتِدَاءِ ; كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى أَخْذِهِ مِنَ الْمَلَكِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيُسَاوِقُهُ فِي التِّلَاوَةِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُنْصِتَ لِذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الْوَحْيِ، وَتَكَفَّلَ لَهُ أَنْ يَجْمَعَهُ فِي صَدْرِهِ، وَأَنْ يُيَسِّرَ عَلَيْهِ تِلَاوَتَهُ، وَتَبْلِيغَهُ، وَأَنْ يُبَيِّنَهُ لَهُ، وَيُفَسِّرَهُ، وَيُوَضِّحَهُ، وَيُوقِفَهُ عَلَى الْمُرَادِ مِنْهُ ; وَلِهَذَا قَالَ: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا، وَقَالَ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ أَيْ فِي صَدْرِكَ وَقُرْآنَهُ أَيْ وَأَنْ تَقْرَأَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ أَيْ تَلَاهُ عَلَيْكَ الْمَلَكُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ أَيْ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَتَدَبَّرْهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ

جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، فَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، قَالَ: جَمْعَهُ فِي صَدْرِكَ، ثُمَّ تَقْرَؤُهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ، قَالَ: فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.

فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُصَدِّقٌ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ، قَدْ قَبِلَهُ بِقَبُولِهِ، وَتَحَمَّلَ مِنْهُ مَا حَمَلَهُ، عَلَى رِضَا الْعِبَادِ وَسُخْطِهِمْ، وَلِلنُّبُوَّةِ أَثْقَالٌ وَمُؤْنَةٌ، لَا يَحْمِلُهَا وَلَا يَسْتَضْلِعُ بِهَا إِلَّا أَهْلُ الْقُوَّةِ وَالْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ لِمَا يَلْقَوْنَ مِنَ النَّاسِ، وَمَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا جَاءُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ، عَلَى مَا يَلْقَى مِنْ قَوْمِهِ مِنَ الْخِلَافِ وَالْأَذَى
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَآمَنَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَصَدَّقَتْ بِمَا جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ، وَوَازَرَتْهُ عَلَى أَمْرِهِ، وَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَصَدَّقَتْ بِمَا جَاءَ

مِنْهُ، فَخَفَّفَ اللَّهُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِهِ ; لَا يَسْمَعُ شَيْئًا يَكْرَهُهُ ; مِنْ رَدٍّ عَلَيْهِ، وَتَكْذِيبٍ لَهُ، فَيُحْزِنُهُ ذَلِكَ إِلَّا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا، إِذَا رَجَعَ إِلَيْهَا تُثَبِّتُهُ، وَتُخَفِّفُ عَنْهُ، وَتُصَدِّقُهُ، وَتُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَمْرَ النَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِرْتُ أَنْ أُبَشِّرَ خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ، وَلَا نَصَبَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ: قَالَ: ابْنُ هِشَامٍ الْقَصَبُ: هَاهُنَا اللُّؤْلُؤُ الْمُجَوَّفُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَذْكُرُ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْعِبَادِ مِنَ النُّبُوَّةِ سِرًّا إِلَى مَنْ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ مَنْ أَهْلِهِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: كَانَتْ خَدِيجَةُ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ رَسُولَهُ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ.
قُلْتُ: يَعْنِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَأَمَّا أَصْلُ الصَّلَاةِ فَقَدْ وَجَبَ

فِي حَيَاةِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ خَدِيجَةُ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَصَدَّقَ بِمَا جَاءَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ افْتُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، فَهَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي، فَانْفَجَرَتْ لَهُ عَيْنٌ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَتَوَضَّأَ جِبْرِيلُ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَجَدَ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَجَاءَهُ مَا يُحِبُّ مِنَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِيَدِ خَدِيجَةَ حَتَّى أَتَى بِهَا إِلَى الْعَيْنِ، فَتَوَضَّأَ كَمَا تَوَضَّأَ جِبْرِيلُ، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ، ثُمَّ كَانَ هُوَ وَخَدِيجَةُ يُصَلِّيَانِ سِرًّا
قَلْتُ: صَلَاةُ جِبْرِيلَ هَذِهِ غَيْرُ الصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّاهَا بِهِ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَبَيَّنَ لَهُ أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ; أَوَّلَهَا وَآخِرَهَا ; فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ فَرْضِيَّتِهَا لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَوَّلِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ مُتَقَدِّمِي الْإِسْلَامِ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ، وَهُمَا يُصَلِّيَانِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا مُحَمَّدُ مَا هَذَا ؟ قَالَ: " دِينُ اللَّهِ الَّذِي اصْطَفَى لِنَفْسِهِ، وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ، فَأَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِلَى عِبَادَتِهِ، وَأَنْ تَكْفُرَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى ". فَقَالَ عَلِيٌّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ أَسْمَعْ بِهِ قَبْلَ الْيَوْمِ، فَلَسْتُ بِقَاضٍ أَمْرًا حَتَّى أُحَدِّثَ بِهِ أَبَا طَالِبٍ. فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُفْشِيَ عَلَيْهِ سَرَّهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعْلِنَ أَمْرُهُ. فَقَالَ لَهُ: " يَا عَلِيُّ إِذَا لَمْ تُسْلِمْ فَاكْتُمْ ". فَمَكَثَ عَلِيٌّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَوْقَعَ فِي قَلْبِ عَلِيٍّ الْإِسْلَامَ،

فَأَصْبَحَ غَادِيًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى جَاءَهُ، فَقَالَ: مَاذَا عَرَضْتَ عَلَيَّ يَا مُحَمَّدُ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَكْفُرُ بِاللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَتَبْرَأُ مِنَ الْأَنْدَادِ ". فَفَعَلَ عَلِيٌّ وَأَسْلَمَ، وَمَكَثَ يَأْتِيهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ أَبِي طَالِبٍ وَكَتَمَ عَلِيٌّ إِسْلَامَهُ، وَلَمْ يُظْهِرْهُ. وَأَسْلَمَ ابْنُ حَارِثَةَ، يَعْنِي زَيْدًا فَمَكَثَا قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ يَخْتَلِفُ عَلِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَانَ مِمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الْإِسْلَامِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: وَكَانَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّ قُرَيْشًا أَصَابَتْهُمْ أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَكَانَ مِنْ أَيْسَرِ بَنِي هَاشِمٍ: " يَا عَبَّاسُ إِنَّ أَخَاكَ أَبَا طَالِبٍ كَثِيرُ الْعِيَالِ، وَقَدْ أَصَابَ النَّاسَ مَا تَرَى مِنْ هَذِهِ الْأَزْمَةِ، فَانْطَلِقْ حَتَّى نُخَفِّفَ عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ " فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا، فَاتَّبَعَهُ عَلِيٌّ وَآمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي الْأَشْعَثِ الْكِنْدِيُّ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي إِيَاسِ بْنِ عُفَيِّفٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عُفَيِّفٍ وَكَانَ عُفَيِّفٌ أَخَا الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ

لِأُمِّهِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ امْرَأً تَاجِرًا، فَقَدِمْتُ مِنًى أَيَّامَ الْحَجِّ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ امْرَأً تَاجِرًا، فَأَتَيْتُهُ أَبْتَاعُ مِنْهُ وَأَبِيعُهُ، قَالَ: فَبَيْنَا نَحْنُ إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ مَنْ خِبَاءٍ فَقَامَ يُصَلِّي تِجَاهَ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ خَرَجَتِ امْرَأَةٌ فَقَامَتْ تُصَلِّي، وَخَرَجَ غُلَامٌ فَقَامَ يُصَلِّي مَعَهُ، فَقُلْتُ: يَا عَبَّاسُ مَا هَذَا الدِّينُ ؟ إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَا نَدْرِي مَا هُوَ ؟ فَقَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، وَأَنَّ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ سَتُفْتَحُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ امْرَأَتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ آمَنَتْ بِهِ، وَهَذَا الْغُلَامُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ آمَنَ بِهِ. قَالَ عُفَيِّفٌ: فَلَيْتَنِي كُنْتُ آمَنْتُ يَوْمَئِذٍ فَكُنْتُ أَكُونُ ثَانِيًا. وَتَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: إِذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ خِبَاءٍ قَرِيبٍ مِنْهُ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا رَآهَا قَدْ مَالَتْ قَامَ يُصَلِّي. ثُمَّ ذَكَرَ قِيَامَ خَدِيجَةَ وَرَاءَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ خُثَيْمٍ عَنْ أَسَدِ بْنِ عَبْدَةَ الْبَجَلِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُفَيِّفٍ عَنْ عُفَيِّفٍ قَالَ: جِئْتُ زَمَنَ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى مَكَّةَ فَنَزَلْتُ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَحَلَّقَتْ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْكَعْبَةِ، أَقْبَلَ شَابٌّ فَرَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ، فَقَامَ مُسْتَقْبِلَهَا، فَلَمْ يَلْبَثْ حَتَّى

جَاءَ غُلَامٌ فَقَامَ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَامَتْ خَلْفَهُمَا، فَرَكَعَ الشَّابُّ فَرَكَعَ الْغُلَامُ وَالْمَرْأَةُ، فَرَفَعَ الشَّابُّ فَرَفَعَ الْغُلَامُ وَالْمَرْأَةُ، فَخَرَّ الشَّابُّ سَاجِدًا فَسَجَدَا مَعَهُ. فَقُلْتُ يَا عَبَّاسُ أَمْرٌ عَظِيمٌ. فَقَالَ: أَمْرٌ عَظِيمٌ. فَقَالَ: أَتَدْرِي مَنْ هَذَا ؟ فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: هَذَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ابْنُ أَخِي. أَتَدْرِي مَنِ الْغُلَامُ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. أَتَدْرِي مَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي خَلْفَهُمَا ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: هَذِهِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ زَوْجَةُ ابْنِ أَخِي، وَهَذَا حَدَّثَنِي أَنَّ رَبَّكَ رَبَّ السَّمَاءِ أَمَرَهُ بِهَذَا الَّذِي تَرَاهُمْ عَلَيْهِ، وَايْمُ اللَّهِ مَا أَعْلَمُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ كُلِّهَا أَحَدًا عَلَى هَذَا الدِّينِ غَيْرَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ سَوَادَةَ بْنِ الْجَعْدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَبُو حَازِمٍ وَالْكَلْبِيُّ قَالُوا: عَلِيٌّ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ.
وَحَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: أَوَّلُ ذَكَرٍ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَلَّى مَعَهُ وَصَدَّقَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الْإِسْلَامِ.

قَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَسْلَمَ عَلِيٌّ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَأَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ عَلِيًّا أَسْلَمَ بَعْدَ مَا تَنَبَّأَ رَسُولُ اللَّهِ بِسَنَةٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَدِيجَةُ، وَأَوَّلُ رَجُلَيْنِ أَسْلَمَا أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَأَسْلَمَ عَلِيٌّ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَ عَلِيٌّ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ خَوْفًا مِنْ أَبِيهِ، حَتَّى لَقِيَهُ أَبُوهُ، قَالَ: أَسْلَمْتَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَآزِرِ ابْنَ عَمِّكَ وَانْصُرْهُ. قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بَلْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى عَلِيٌّ.
وَحَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الضَّرِيرُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَحْرٍ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَصَلَّى عَلِيٌّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ.

وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: فَذَكَرْتُهُ لِلنَّخَعِيِّ فَأَنْكَرَهُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ، وَأَخُو رَسُولِهِ، وَأَنَا الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ، لَا يَقُولُهَا بَعْدِي إِلَّا كَاذِبٌ مُفْتَرٍ، صَلَّيْتُ قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الرَّازِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى الْعَبْسِيِّ وَهُوَ شِيعِيٌّ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ صَالِحٍ الْأَسَدِيِّ الْكُوفِيِّ وَثَّقُوهُ، وَلَكِنْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانَ مِنْ عُتُقِ الشِّيعَةِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: رَوَى أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ وَالْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو ثِقَةٌ، وَأَمَّا شَيْخُهُ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ فَقَدْ قَالَ فِيهِ عَلِيُّ

بْنُ الْمَدِينِيِّ: هُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ. وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " الثِّقَاتِ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ بِكُلِّ حَالٍ وَلَا يَقُولُهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ ؟ هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ أَصْلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ آخَرُونَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا أَنَّ خَدِيجَةَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النِّسَاءِ، وَظَاهِرُ السِّيَاقَاتِ، وَقَبْلَ الرِّجَالِ أَيْضًا. وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمَوَالِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْغِلْمَانِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ كَانَ صَغِيرًا دُونَ الْبُلُوغِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا إِذْ ذَاكَ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَإِسْلَامُهُ كَانَ أَنْفَعَ مِنْ إِسْلَامِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ ; إِذْ كَانَ صَدْرًا مُعَظَّمًا، وَرَئِيسًا فِي قُرَيْشٍ مُكَرَّمًا، وَصَاحِبَ مَالٍ، وَدَاعِيَةً إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ مُحَبَّبًا مُتَأَلِّفًا يَبْذُلُ الْمَالَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
قَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا تَقُولُ قُرَيْشٌ يَا مُحَمَّدُ مِنْ تَرْكِكَ آلِهَتَنَا، وَتَسْفِيهِكَ عُقُولَنَا، وَتَكْفِيرِكَ آبَاءَنَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بَلَى، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ

وَنَبِيُّهُ بَعَثَنِي ; لِأُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ، وَأَدْعُوَكَ إِلَى اللَّهِ بِالْحَقِّ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَلْحَقُّ، أَدْعُوكَ يَا أَبَا بَكْرٍ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا تَعْبُدْ غَيْرَهُ، وَالْمُوَالَاةِ عَلَى طَاعَتِهِ. وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ. فَلَمْ يُقِرَّ، وَلَمْ يُنْكِرْ، فَأَسْلَمَ وَكَفَرَ بِالْأَصْنَامِ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ، وَأَقَرَّ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ التَّمِيمِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ عِنْدَهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَنَظَرٌ، إِلَّا أَبَا بَكْرٍ مَا عَكَمَ عَنْهُ حِينَ ذَكَرْتُهُ، وَلَا تَرَدَّدَ فِيهِ ". عَكَمَ، أَيْ تَلَبَّثَ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ، مُنْكَرٌ ; فَإِنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ وَغَيْرَهُ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَكَانَ يَعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ، وَأَمَانَتِهِ، وَحُسْنِ سَجِيَّتِهِ، وَكَرْمِ أَخْلَاقِهِ، مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى الْخَلْقِ، فَكَيْفَ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ ؟ ! وَلِهَذَا بِمُجَرَّدِ مَا ذَكَرَ لَهُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ بَادَرَ إِلَى تَصْدِيقِهِ، وَلَمْ يَتَلَعْثَمْ، وَلَا عَكَمَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ إِسْلَامِهِ فِي كِتَابِنَا الَّذِي أَفْرَدْنَاهُ فِي سِيرَتِهِ، وَأَوْرَدْنَا فَضَائِلَهُ وَشَمَائِلَهُ، وَأَتْبَعْنَا ذَلِكَ بِسِيرَةِ الْفَارُوقِ أَيْضًا، وَأَوْرَدْنَا مَا رَوَاهُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَمَا رَوَى عَنْهُ مِنَ الْآثَارِ وَالْأَحْكَامِ وَالْفَتَاوَى، فَبَلَغَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مُجَلَّدَاتٍ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي حَدِيثِ مَا كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنَ الْخُصُومَةِ، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ. وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي ؟ مَرَّتَيْنِ، فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا. وَهَذَا كَالنَّصِّ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ سَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَسْتُ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا، أَلَسْتُ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ، أَلَسْتُ صَاحِبَ كَذَا ؟.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ بُهْلُولِ بْنِ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ عَنِ الْحَارِثِ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَأَوَّلُ مَنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الرِّجَالِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَقَالَ شُعْبَةُ: عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ ابْنِ جَرِيرٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ

مُرَّةَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فَأَنْكَرَهُ. وَقَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ، عَنْ أَبِي أَرْوَى الدَّوْسِيِّ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ رَجُلٍ، قَالَ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ، فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانَ
إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ أَوْفَاهَا وَأَعْدَلَهَا
بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْلَاهَا بِمَا حَمَلَا وَالتَّالِيَ الثَّانِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ
وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا عَاشَ حَمِيدًا لِأَمْرِ اللَّهِ مُتَّبِعًا
بِأَمْرِ صَاحِبِهِ الْمَاضِي وَمَا انْتَقَلَا
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا شَيْخٌ لَنَا، عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ أَوْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيُّ النَّاسِ أَوَّلُ إِسْلَامًا ؟ قَالَ:

أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ فَذَكَرَهُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: حَدَّثَنِي سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ قَالَ: أَدْرَكْتُ مَشْيَخَتَنَا مِنْهُمْ ; مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَعُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ لَا يَشُكُّونَ أَنَّ أَوَّلَ الْقَوْمِ إِسْلَامًا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قُلْتُ: وَهَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَسَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمَا قَالَا: لَمْ يَكُنْ أَوَّلَهُمْ إِسْلَامًا، وَلَكِنْ كَانَ أَفْضَلَهُمْ إِسْلَامًا، قَالَ سَعْدٌ: وَقَدْ آمَنَ قَبْلَهُ خَمْسَةٌ.
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ، وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ زِرٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ ; رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعَمَّارٌ وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ وَبِلَالٌ وَالْمِقْدَادُ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرُعَ الْحَدِيدِ، وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا، إِلَّا بِلَالًا ; فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ. عَنْ مَنْصُورٍ. عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا.
فَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ قَائِلًا: أَخْبَرَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا كِنَانَةُ بْنُ جَبَلَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي: أَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَوَّلُكُمْ إِسْلَامًا ؟ قَالَ: لَا، وَلَقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِينَ، وَلَكِنْ كَانَ أَفْضَلَنَا إِسْلَامًا. فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ إِسْنَادًا وَمَتْنًا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. ثُمَّ

رَوَى مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: مَنْ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النِّسَاءِ ؟ قَالَ: خَدِيجَةُ. قُلْتُ: فَمِنَ الرِّجَالِ ؟ قَالَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. وَكَذَا قَالَ عُرْوَةُ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ. وَقَدْ أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِالْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ أَبُو بَكْرٍ وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِنَ الْمَوَالِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَمِنَ الْغِلْمَانِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَأَظْهَرَ إِسْلَامَهُ، دَعَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مَأْلَفًا لِقَوْمِهِ، مُحَبَّبًا سَهْلًا، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَكَانَ رَجُلًا تَاجِرًا ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ، وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ وَيَأْلَفُونَهُ، لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرِ لِعِلْمِهِ، وَتِجَارَتِهِ، وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ مِمَّنْ يَغْشَاهُ وَيَجْلِسُ إِلَيْهِ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ فِيمَا بَلَغَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَانْطَلَقُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُمْ أَبُو بَكْرٍ فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، وَأَنْبَأَهُمْ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، فَآمَنُوا، وَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّفَرُ الثَّمَانِيَةُ الَّذِينَ سَبَقُوا فِي الْإِسْلَامِ فَصَدَّقُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وَآمَنُوا بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَالِبِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: حَضَرْتُ سُوقَ بُصْرَى، فَإِذَا رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، يَقُولُ سَلُوا أَهْلَ الْمَوْسِمِ: أَفِيهِمْ رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ الْحَرَمِ ؟ قَالَ طَلْحَةُ: قُلْتُ: نَعَمْ أَنَا. فَقَالَ: هَلْ ظَهَرَ أَحْمَدُ بَعْدُ ؟ قُلْتُ: وَمَنْ أَحْمَدُ ؟ قَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ، وَهُوَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، مَخْرَجُهُ مِنَ الْحَرَمِ، وَمُهَاجَرُهُ إِلَى نَخْلٍ، وَحَرَّةٍ، وَسِبَاخٍ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُسْبَقَ إِلَيْهِ. قَالَ طَلْحَةُ: فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا قَالَ. فَخَرَجْتُ سَرِيعًا حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّةَ. فَقُلْتُ: هَلْ كَانَ مِنْ حَدَثٍ ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَمِينُ تَنَبَّأَ، وَقَدِ اتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقُلْتُ: أَتَبِعْتَ هَذَا الرَّجُلَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَانْطَلِقْ إِلَيْهِ، فَادْخُلْ عَلَيْهِ، فَاتَّبِعْهُ ; فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ، فَأَخْبَرَهُ طَلْحَةُ بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِطَلْحَةَ فَدَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ طَلْحَةُ وَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ، فَسُّرَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ أَخَذَهُمَا نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ الْعَدَوِيَّةِ وَكَانَ يُدْعَى أَسَدَ قُرَيْشٍ فَشَدَّهُمَا فِي حَبْلٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمَا بَنُو تَيْمٍ ; فَلِذَلِكَ سُمِّي أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةُ الْقَرِينَيْنِ.

وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ اكْفِنَا شَرَّ ابْنِ الْعَدَوِيَّةِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَطْرَابُلُسِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيُّ قَاضِي الْمِصِّيصَةِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي أَبِي عُبَيْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَقِيَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فُقِدْتَ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِكَ، وَاتَّهَمُوكَ بِالْعَيْبِ لِآبَائِهَا وَأُمَّهَاتِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ كَلَامِهِ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ فَانْطَلَقَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ أَحَدٌ أَكْثَرُ سُرُورًا مِنْهُ بِإِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ وَمَضَى أَبُو بَكْرٍ فَرَاحَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَسْلَمُوا، ثُمَّ جَاءَ الْغَدَ بِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبِي

سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ وَالْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ فَأَسْلَمُوا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ: فَحَدَّثَنِي أَبِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانُوا ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، أَلَحَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الظُّهُورِ، فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّا قَلِيلٌ ". فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُلِحُّ حَتَّى ظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ، كُلُّ رَجُلٍ فِي عَشِيرَتِهِ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ، فَكَانَ أَوَّلَ خَطِيبٍ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَثَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَضُرِبُوا فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَوُطِئَ أَبُو بَكْرٍ وَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَدَنَا مِنْهُ الْفَاسِقُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِنَعْلَيْنِ مَخْصُوفَيْنِ وَيُحَرِّفُهُمَا لِوَجْهِهِ، وَنَزَا عَلَى بَطْنِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى مَا يُعْرَفُ وَجْهُهُ مِنْ أَنْفِهِ، وَجَاءَ بَنُو تَيْمٍ يَتَعَادَوْنَ، فَأَجْلَتِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَحَمَلَتْ بَنُو تَيْمٍ أَبَا بَكْرٍ فِي ثَوْبٍ حَتَّى أَدْخَلُوهُ مَنْزِلَهُ، وَلَا يَشُكُّونَ فِي مَوْتِهِ، ثُمَّ رَجَعَتْ بَنُو تَيْمٍ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ لَنَقْتُلَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ. فَرَجَعُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَجَعَلَ أَبُو قُحَافَةَ وَبَنُو تَيْمٍ يُكَلِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَجَابَ، فَتَكَلَّمَ آخِرَ النَّهَارِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ فَمَسُّوا مِنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَعَذَلُوهُ، ثُمَّ قَامُوا، وَقَالُوا لِأُمِّهِ أُمِّ الْخَيْرِ: انْظُرِي أَنْ تُطْعِمِيهِ شَيْئًا، أَوْ تَسْقِيهِ إِيَّاهُ. فَلَمَّا خَلَتْ بِهِ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ وَجَعَلَ يَقُولُ: مَا فَعَلَ

رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا لِي عَلْمٌ بِصَاحِبِكَ. فَقَالَ: اذْهَبِي إِلَى أُمِّ جَمِيلِ بِنْتِ الْخَطَّابِ فَاسْأَلِيهَا عَنْهُ. فَخَرَجَتْ حَتَّى جَاءَتْ أُمَّ جَمِيلٍ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ يَسْأَلُكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. فَقَالَتْ: مَا أَعْرِفُ أَبَا بَكْرٍ وَلَا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَإِنْ كُنْتِ تُحِبِّينَ أَنْ أَذْهَبَ مَعَكِ إِلَى ابْنِكِ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَضَتْ مَعَهَا حَتَّى وَجَدَتْ أَبَا بَكْرٍ صَرِيعًا دَنِفًا، فَدَنَتْ أُمُّ جَمِيلٍ وَأَعْلَنَتْ بِالصِّيَاحِ، وَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّ قَوْمَا نَالُوا هَذَا مِنْكَ لَأَهْلُ فِسْقٍ وَكُفْرٍ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَنْتَقِمَ اللَّهُ لَكَ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ قَالَتْ: هَذِهِ أَمُّكَ تَسْمَعُ. قَالَ: فَلَا شَيْءَ عَلَيْكِ مِنْهَا. قَالَتْ: سَالِمٌ صَالِحٌ. قَالَ: أَيْنَ هُوَ ؟ قَالَتْ: فِي دَارِ ابْنِ الْأَرْقَمِ. قَالَ: فَإِنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَذُوقَ طَعَامًا وَلَا أَشْرَبَ شَرَابًا أَوْ آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَمْهَلَتَا حَتَّى إِذَا هَدَأَتِ الرِّجْلُ وَسَكَنَ النَّاسُ، خَرَجَتَا بِهِ يَتَّكِئُ عَلَيْهِمَا حَتَّى أَدْخَلَتَاهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَأَكَبَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَبَّلَهُ، وَأَكَبَّ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَرَقَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رِقَّةً شَدِيدَةً. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ بِي بَأْسٌ إِلَّا مَا نَالَ الْفَاسِقُ مِنْ وَجْهِي، وَهَذِهِ أُمِّي بَرَّةٌ بِوَلَدِهَا، وَأَنْتَ مُبَارَكٌ، فَادْعُهَا إِلَى اللَّهِ، وَادْعُ اللَّهَ لَهَا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَسْتَنْقِذَهَا بِكَ مِنَ النَّارِ. قَالَ: فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعَاهَا إِلَى اللَّهِ، فَأَسْلَمَتْ، وَأَقَامُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدَّارِ شَهْرًا، وَهُمْ تِسْعَةٌ

وَثَلَاثُونَ رَجُلًا. وَقَدْ كَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسْلَمَ يَوْمَ ضُرِبَ أَبُو بَكْرٍ وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَأَصْبَحَ عُمَرُ وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَأَسْلَمَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلُ الْبَيْتِ تَكْبِيرَةً سُمِعَتْ بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ أَبُو الْأَرْقَمِ وَهُوَ أَعْمَى كَافِرٌ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِبَنِيَّ غَيْرَ الْأَرْقَمِ ; فَإِنَّهُ كَفَرَ. فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَا نُخْفِي دِينَنَا وَنَحْنُ عَلَى الْحَقِّ، وَيَظْهَرُ دِينُهُمْ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ. قَالَ: يَا عُمَرُ إِنَّا قَلِيلٌ قَدْ رَأَيْتَ مَا لَقِينَا. فَقَالَ عُمَرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا يَبْقَى مَجْلِسٌ جَلَسْتُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا أَظْهَرْتُ فِيهِ الْإِيمَانَ. ثُمَّ خَرَجَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ مَرَّ بِقُرَيْشٍ وَهِيَ تَنْتَظِرُهُ، فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: يَزْعُمُ فَلَانٌ أَنَّكَ صَبَأْتَ. فَقَالَ عُمَرُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَوَثَبَ الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهِ، وَوَثَبَ عَلَى عُتْبَةَ فَبَرَكَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ، وَأَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي عَيْنَيْهِ، فَجَعَلَ عُتْبَةُ يَصِيحُ، فَتَنَحَّى النَّاسُ، فَقَامَ عُمَرُ فَجَعَلَ لَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا أَخَذَ شَرِيفَ مَنْ دَنَا مِنْهُ، حَتَّى أَعْجَزَ النَّاسَ، وَاتَّبَعَ الْمَجَالِسَ الَّتِي كَانَ يُجَالِسُ فِيهَا فَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ، قَالَ: مَا عَلَيْكَ بِأَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا بَقِيَ مَجْلِسٌ كُنْتُ أَجْلِسُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلَّا أَظْهَرْتُ فِيهِ الْإِيمَانَ غَيْرَ هَائِبٍ وَلَا خَائِفٍ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَرَجَ عُمَرُ أَمَامَهُ وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى طَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى الظُّهْرَ مُعْلِنًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى دَارِ الْأَرْقَمِ وَمَعَهُ عُمَرُ ثُمَّ

انْصَرَفَ عُمَرُ وَحْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالصَّحِيحُ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ خُرُوجِ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْبَعْثَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا كَيْفِيَّةَ إِسْلَامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي كِتَابِ سِيرَتِهِمَا عَلَى انْفِرَادِهَا، وَبَسَطْنَا الْقَوْلَ هُنَالِكَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ مَا بُعِثَ وَهُوَ بِمَكَّةَ، وَهُوَ حِينَئِذٍ مُسْتَخْفِيًا، فَقُلْتُ: مَا أَنْتَ ؟ قَالَ: " أَنَا نَبِيٌّ ". فَقُلْتُ: وَمَا النَّبِيُّ ؟ قَالَ: " رَسُولُ اللَّهِ ". قُلْتُ: آللَّهُ أَرْسَلَكَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قُلْتُ: بِمَ أَرْسَلَكَ ؟ قَالَ: " بِأَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَكْسِرَ الْأَصْنَامَ، وَتَصِلَ الْأَرْحَامَ ". قَالَ: قُلْتُ: نِعْمَ مَا أَرْسَلَكَ بِهِ، فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا ؟ قَالَ: " حُرٌّ وَعَبْدٌ ". يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَبِلَالًا قَالَ: فَكَانَ عَمْرٌو يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا رُبُعُ الْإِسْلَامِ. قَالَ: فَأَسْلَمْتُ. قُلْتُ: فَأَتَّبِعُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " لَا، وَلَكِنِ الْحَقْ بِقَوْمِكَ، فَإِذَا أُخْبِرْتَ أَنِّي قَدْ خَرَجْتُ فَاتَّبِعْنِي ". وَيُقَالُ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " حُرٌّ وَعَبْدٌ ". اسْمُ جِنْسٍ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ بِأَبِي بَكْرٍ وَبِلَالٍ فَقَطْ فِيهِ نَظَرٌ ; فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ قَدْ أَسْلَمُوا قَبْلَ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ وَقَدْ كَانَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَسْلَمَ قَبْلَ بِلَالٍ أَيْضًا، فَلَعَلَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ رُبُعُ الْإِسْلَامِ بِحَسَبِ عِلْمِهِ ; فَإِنَّ

الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذْ ذَاكَ يَسْتَسِرُّونَ بِإِسْلَامِهِمْ لَا يَطَّلِعُ عَلَى أَمْرِهِمْ كَثِيرُ أَحَدٍ مِنْ قَرَابَاتِهِمْ، دَعِ الْأَجَانِبَ، دَعْ أَهْلَ الْبَادِيَةِ مِنَ الْأَعْرَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ. أَمَّا قَوْلُهُ: مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، فَسَهْلٌ، وَيُرْوَى: إِلَّا فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ فِيهِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ ; إِذْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ بِالْإِسْلَامِ. وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الصِّدِّيقَ وَعَلِيًّا وَخَدِيجَةَ، وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ أَسْلَمُوا قَبْلَهُ، كَمَا قَدْ حَكَى الْإِجْمَاعُ عَلَى تَقَدُّمِ إِسْلَامِ هَؤُلَاءِ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْهُمُ ; ابْنُ الْأَثِيرِ وَنَصَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْ هَؤُلَاءِ أَسْلَمَ قَبْلَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ. فَمُشْكِلٌ ; وَمَا أَدْرِي عَلَى مَاذَا يُوضَعُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَخْبَرَ بِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا يَافِعًا أَرْعَى غَنَمًا لِعُقْبَةَ بْنِ

أَبِي مُعَيْطٍ بِمَكَّةَ، فَأَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَقَدْ فَرَّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ أَوْ فَقَالَا: عِنْدَكَ يَا غُلَامُ لَبَنٌ تَسْقِينَا ؟ قُلْتُ: إِنِّي مُؤْتَمَنٌ، وَلَسْتُ بِسَاقِيكُمَا. فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ جَذَعَةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ بَعْدُ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَأَتَيْتُهُمَا بِهَا، فَاعْتَقَلَهَا أَبُو بَكْرٍ وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الضَّرْعَ، وَدَعَا فَحَفَلَ الضَّرْعُ، وَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ بِصَخْرَةٍ مُتَقَعِّرَةٍ فَحَلَبَ فِيهَا، ثُمَّ شَرِبَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ ثُمَّ سَقَيَانِي، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: " اقْلِصْ ". فَقَلَصَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الطَّيِّبِ يَعْنِي الْقُرْآنَ فَقَالَ: " إِنَّكَ غُلَامٌ مُعَلَّمٌ ". فَأَخَذْتُ مِنْ فِيهِ سَبْعِينَ سُورَةً مَا يُنَازِعُنِي فِيهَا أَحَدٌ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَفَّانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ بِهِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ الْأَصْبِهَانِيُّ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْجَهْمِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَرَجِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: كَانَ إِسْلَامُ خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَدِيمًا، وَكَانَ أَوَّلَ إِخْوَتُهُ أَسْلَمَ، وَكَانَ بَدْءُ إِسْلَامِهِ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ وُقِفَ بِهِ عَلَى شَفِيرِ النَّارِ، فَذَكَرَ مِنْ سِعَتِهَا مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَيَرَى فِي النَّوْمِ

كَأَنَّ آتِيًا أَتَاهُ يَدْفَعُهُ فِيهَا، وَيَرَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخِذًا بِحَقْوَيْهِ لَا يَقَعُ، فَفَزِعَ مِنْ نَوْمِهِ. فَقَالَ: أَحَلِفُ بِاللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لِرُؤْيَا حَقٍّ. فَلَقِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أُرِيدَ بِكَ خَيْرًا، هَذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاتَّبِعْهُ ; فَإِنَّكَ سَتَتَّبِعُهُ، وَتَدْخُلُ مَعَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالْإِسْلَامُ يَحْجِزُكَ أَنْ تَدْخُلَ فِيهَا، وَأَبُوكَ وَاقِعٌ فِيهَا. فَلَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِأَجْيَادَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِلَامَ تَدْعُو ؟ قَالَ: " أَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَتَخْلَعُ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ حَجَرٍ لَا يَسْمَعُ، وَلَا يُبْصِرُ، وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يَدْرِي مَنْ عَبَدَهُ مِمَّنْ لَا يَعْبُدُهُ ". قَالَ خَالِدٌ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِسْلَامِهِ، وَتَغَيَّبَ خَالِدٌ وَعَلِمَ أَبُوهُ بِإِسْلَامِهِ، فَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهِ، فَأُتِي بِهِ، فَأَنَّبَهُ، وَضَرَبَهُ بِمِقْرَعَةٍ فِي يَدِهِ حَتَّى كَسَرَهَا عَلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَمْنَعَنَّكَ الْقُوتَ. فَقَالَ خَالِدٌ: وَإِنْ مَنَعْتَنِي، فَإِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُنِي مَا أَعِيشُ بِهِ. وَانْصَرَفَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ يُكْرِمُهُ وَيَكُونُ مَعَهُ.

ذِكْرُ إِسْلَامِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ وَكَانَ وَاعِيَةً أَنَّ أَبَا جَهْلٍ اعْتَرَضَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الصَّفَا، فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ، وَنَالَ مِنْهُ مَا يَكْرَهُ مِنَ الْعَيْبِ لِدِينِهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَأَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى إِذَا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ رَفَعَ الْقَوْسَ فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَةً شَجَّهُ مِنْهَا شَجَّةً مُنْكَرَةً، وَقَامَتْ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إِلَى حَمْزَةَ ; لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ مِنْهُ، وَقَالُوا: مَا نَرَاكَ يَا حَمْزَةُ إِلَّا قَدْ صَبَأْتَ. قَالَ حَمْزَةُ: وَمَنْ يَمْنَعُنِي وَقَدِ اسْتَبَانَ لِي مِنْهُ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ الَّذِي يَقُولُ حَقٌّ، فَوَاللَّهِ لَا أَنْزِعُ، فَامْنَعُونِي إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ ; فَإِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ سَبَبْتُ ابْنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا. فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمْزَةُ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ عَزَّ وَامْتَنَعَ، فَكَفُّوا عَمَّا كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ مِنْهُ، وَقَالَ حَمْزَةُ فِي ذَلِكَ شِعْرًا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ رَجَعَ حَمْزَةُ إِلَى بَيْتِهِ، فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: أَنْتَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ، اتَّبَعْتَ هَذَا الصَّابِئَ، وَتَرَكْتَ دِينَ آبَائِكَ، لَلْمَوْتُ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا صَنَعْتَ. فَأَقْبَلَ عَلَى حَمْزَةَ بَثُّهُ، وَقَالَ: مَا صَنَعْتُ ! اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ رُشْدًا فَاجْعَلْ تَصْدِيقَهُ فِي قَلْبِي، وَإِلَّا فَاجْعَلْ لِي مِمَّا وَقَعْتُ فِيهِ مَخْرَجًا. فَبَاتَ بِلَيْلَةٍ لَمْ يَبِتْ بِمِثْلِهَا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، حَتَّى أَصْبَحَ فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا بْنَ أَخِي، إِنِّي قَدْ وَقَعْتُ فِي أَمْرٍ لَا أَعْرِفُ الْمَخْرَجَ مِنْهُ، وَإِقَامَةُ مِثْلِي عَلَى مَا لَا أَدْرِي مَا هُوَ أَرُشْدٌ هُوَ أَمْ غَيٌّ، شَدِيدٌ، فَحَدِّثْنِي حَدِيثًا فَقَدِ اشْتَهَيْتُ يَا بْنَ أَخِي أَنْ تُحَدِّثَنِي. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَّرَهُ وَوَعَظَهُ، وَخَوَّفَهُ وَبَشَّرَهُ، فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الصَّادِقُ شَهَادَةَ الصِّدْقِ، فَأَظْهِرْ يَا بْنَ أَخِي دِينَكَ، فَوَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ وَأَنِّي عَلَى دِينِيَ الْأَوَّلِ. فَكَانَ حَمْزَةُ مِمَّنْ أَعَزَّ اللَّهُ بِهِ الدِّينَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ بِهِ.

ذِكْرُ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرُّومِيِّ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ مَالِكِ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: كُنْتُ رُبُعَ الْإِسْلَامِ ; أَسْلَمَ قَبْلِي ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، وَأَنَا الرَّابِعُ، أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَرَأَيْتُ الِاسْتِبْشَارَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هَذَا سِيَاقٌ مُخْتَصَرٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: إِسْلَامُ أَبِي ذَرٍّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنِ الْمُثَنَّى عَنْ أَبِي جَمْرَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَخِيهِ: ارْكَبْ إِلَى هَذَا الْوَادِي، فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ ائْتِنِي. فَانْطَلَقَ الْأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ، وَسَمِعَ مِنْ كَلَامِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَكَلَامًا مَا هُوَ بِالشِّعْرِ. فَقَالَ: مَا شَفَيْتَنِي مِمَّا أَرَدْتُ. فَتَزَوُّدَ وَحَمَلَ شَنَّةً فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَالْتَمَسَ

رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَعْرِفُهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ، حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيْلِ اضْطَجَعَ، فَرَآهُ عَلِيٌّ فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ، فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ، فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا يَرَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَمْسَى فَعَادَ إِلَى مَضْجَعِهِ، فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَا آنَ لِلرَّجُلِ يَعْلَمُ مَنْزِلَهُ ؟ فَأَقَامَهُ فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ لَا يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْءٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ، فَعَادَ عَلِيٌّ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَقَامَ مَعَهُ، فَقَالَ: أَلَا تُحَدِّثُنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ ؟ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لَتُرْشِدَنِّي، فَعَلْتُ. فَفَعَلَ فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: فَإِنَّهُ حَقٌّ، وَإِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَاتَّبِعْنِي، فَإِنِّي إِنْ رَأَيْتُ شَيْئًا أَخَافُ عَلَيْكَ قُمْتُ كَأَنِّي أُرِيقُ الْمَاءَ، وَإِنْ مَضَيْتُ فَاتَّبِعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي. فَفَعَلَ، فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَخَلَ مَعَهُ، فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي ". فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ قَامَ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ، فَأَتَى الْعَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: وَيَلْكُمُ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ، وَأَنَّ طَرِيقَ تِجَارَتِكُمْ إِلَى الشَّامِ ؟ فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ بِمِثْلِهَا، فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا إِلَيْهِ، فَأَكَبَّ الْعَبَّاسُ عَلَيْهِ هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ جَاءَ إِسْلَامُهُ مَبْسُوطًا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، وَغَيْرِهِ:
فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ

حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَرَجْنَا مِنْ قَوْمِنَا غِفَارٍ وَكَانَ يُحِلُّونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ أَنَا وَأَخِي أُنَيْسٌ وَأُمُّنَا، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى نَزَلْنَا عَلَى خَالٍ لَنَا ذِي مَالٍ وَذِي هَيْئَةٍ، فَأَكْرَمَنَا خَالُنَا وَأَحْسَنَ إِلَيْنَا، فَحَسَدَنَا قَوْمُهُ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ عَنْ أَهْلِكَ خَلَفَكَ إِلَيْهِمْ أُنَيْسٌ. فَجَاءَ خَالُنَا فَنَثَا مَا قِيلَ لَهُ. فَقُلْتُ لَهُ: أَمَّا مَا مَضَى مِنْ مَعْرُوفِكَ فَقَدْ كَدَّرْتَهُ وَلَا جِمَاعَ لَنَا فِيمَا بَعْدُ. قَالَ: فَقَرَّبْنَا صِرْمَتَنَا فَاحْتَمَلْنَا عَلَيْهَا، وَتَغَطَّى خَالُنَا ثَوْبَهُ وَجَعَلَ يَبْكِي. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى نَزَلْنَا حَضْرَةَ مَكَّةَ. قَالَ: فَنَافَرَ أُنَيْسٌ رَجُلًا عَنْ صِرْمَتِنَا وَعَنْ مِثْلِهَا، فَأَتَيَا الْكَاهِنَ فَخَيَّرَ أُنَيْسًا فَأَتَانَا بِصِرْمَتِنَا وَمِثْلِهَا، وَقَدْ صَلَّيْتُ يَا بْنَ أَخِي قَبْلَ أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ سِنِينَ، قَالَ: قُلْتُ: لِمَنْ ؟ قَالَ: لِلَّهِ. قُلْتُ: فَأَيْنَ تَوَجَّهُ ؟ قَالَ: حَيْثُ وَجَّهَنِيَ اللَّهُ. قَالَ: وَأُصَلِّي عِشَاءً حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ أُلْقِيتُ كَأَنِّي خِفَاءٌ حَتَّى تَعْلُوَنِي الشَّمْسُ. قَالَ: فَقَالَ أُنَيْسٌ: إِنَّ لِي حَاجَةً بِمَكَّةَ، فَاكْفِنِي حَتَّى آتِيَكَ.

قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَرَاثَ عَلَيَّ، ثُمَّ أَتَانِي، فَقُلْتُ: مَا حَبَسَكَ ؟ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ عَلَى دِينِكَ. قَالَ: فَقُلْتُ: مَا يَقُولُ النَّاسُ لَهُ ؟ قَالَ: يَقُولُونَ إِنَّهُ شَاعِرٌ وَسَاحِرٌ. وَكَانَ أُنَيْسٌ شَاعِرًا. قَالَ: فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ الْكُهَّانَ، فَمَا يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ، وَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ، فَوَاللَّهِ مَا يَلْتَئِمُ لِسَانَ أَحَدٍ أَنَّهُ شِعْرٌ، وَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ أَنْتَ كَافِيَّ حَتَّى أَنْطَلِقَ. قَالَ: نَعَمْ، وَكُنْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، عَلَى حَذَرٍ ; فَإِنَّهُمْ قَدْ شَنِفُوا لَهُ وَتَجَهَّمُوا لَهُ. قَالَ فَانْطَلَقْتُ حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّةَ، فَتَضَعَّفْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَقُلْتُ: أَيْنَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي تَدْعُونَهُ الصَّابِئَ ؟ قَالَ: فَأَشَارَ إِلَيَّ، قَالَ: الصَّابِئُ. فَمَالَ أَهْلُ الْوَادِي عَلَيَّ بِكُلِّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَارْتَفَعْتُ حِينَ ارْتَفَعْتُ كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ، فَأَتَيْتُ زَمْزَمَ فَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا وَغَسَلْتُ عَنِّي الدَّمَ، وَدَخَلْتُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا، فَلَبِثْتُ بِهِ يَا بْنَ أَخِي ثَلَاثِينَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَا لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ،

فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ. قَالَ: فَبَيْنَا أَهْلُ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ إِضْحِيَانَ، وَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أَسْمِخَةِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ غَيْرُ امْرَأَتَيْنِ، فَأَتَتَا عَلَيَّ وَهُمَا تَدْعُوَانِ إِسَافًا وَنَائِلَةَ، فَقُلْتُ: أَنْكِحَا أَحَدَهُمَا الْآخَرَ. فَمَا ثَنَاهُمَا ذَلِكَ. فَقُلْتُ: وَهُنَّ مِثْلُ الْخَشَبَةِ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ. قَالَ: فَانْطَلَقَتَا تُوَلْوِلَانِ وَتَقُولَانِ: لَوْ كَانَ هَاهُنَا أَحَدٌ مِنْ أَنْفَارِنَا. قَالَ: فَاسْتَقْبَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا هَابِطَانِ مِنَ الْجَبَلِ، فَقَالَ: مَا لَكُمَا ؟ فَقَالَتَا: الصَّابِئُ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا. قَالَا مَا قَالَ لَكُمَا ؟ قَالَتَا: قَالَ لَنَا كَلِمَةً تَمْلَأُ الْفَمَ. قَالَ: وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ وَصَاحَبُهُ حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ صَلَّى. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: " عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، مِمَّنْ أَنْتَ ؟ " قَالَ: قُلْتُ: مِنْ غِفَارٍ. قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ فَوَضَعَهَا عَلَى جَبْهَتِهِ قَالَ:

فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَرِهَ أَنِ انْتَمَيْتُ إِلَى غِفَارٍ. قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ آخُذَ بِيَدِهِ فَقَذَفَنِي صَاحِبُهُ، وَكَانَ أَعْلَمَ بِهِ مِنِّي. قَالَ: مَتَّى كَنْتَ هَاهُنَا ؟ قَالَ: قُلْتُ: كُنْتُ هَاهُنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ مِنْ بَيْنِ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ. قَالَ: فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ ؟ قُلْتُ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ، حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ ". قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي طَعَامِهِ اللَّيْلَةَ. قَالَ: فَفَعَلَ. قَالَ: فَانْطَلَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا حَتَّى فَتَحَ أَبُو بَكْرٍ بَابًا، فَجَعَلَ يَقْبِضُ لَنَا مِنْ زَبِيبِ الطَّائِفِ. قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ بِهَا، فَلَبِثْتُ مَا لَبِثْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنِّي قَدْ وُجِّهْتُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ، وَلَا أَحْسَبُهَا إِلَّا يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ، لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُهُمْ بِكَ، وَيَأْجُرُكَ فِيهِمْ ". قَالَ: فَانْطَلَقْتُ، حَتَّى أَتَيْتُ أَخِي أُنَيْسًا قَالَ: فَقَالَ لِي: مَا صَنَعْتَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: صَنَعْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. قَالَ: فَمَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكَ، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. ثُمَّ أَتَيْنَا أُمَّنَا، فَقَالَتْ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكُمَا، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. فَتَحَمَّلْنَا حَتَّى أَتَيْنَا قَوْمَنَاغِفَارًا، قَالَ: فَأَسْلَمَ بَعْضُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، وَكَانَ يَؤُمُّهُمْ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءَ بْنِ رَحَضَةَ الْغِفَارِيُّ، وَكَانَ سَيِّدَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَقَالَ بَقِيَّتُهُمْ: إِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْلَمْنَا. فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْلَمَ بَقِيَّتُهُمْ، قَالَ: وَجَاءَتْ أَسْلَمُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِخْوَانُنَا نُسْلِمُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ

عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ نَحْوَهُ. وَقَدْ رَوَى قِصَّةَ إِسْلَامِهِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ زِيَادَاتٌ غَرِيبَةٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ إِسْلَامِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ فِي كِتَابِ الْبِشَارَاتِ بِمَبْعَثِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

ذِكْرُ إِسْلَامِ ضِمَادٍ
رَوَى مُسْلِمٌ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ ضِمَادٌ مَكَّةَ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَزِدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ يَرْقَى مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ سُفَهَاءِ النَّاسِ يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ. فَقَالَ: أَيْنَ هَذَا الرَّجُلُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَشْفِيَهُ عَلَى يَدَيَّ ؟ فَلَقِيتُ مُحَمَّدًا، فَقُلْتُ: إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيَاحِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدَيَّ مَنْ شَاءَ، فَهَلُمَّ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ: " إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ". ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سُمِعْتُ مِثْلَ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ، فَهَلُمَّ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَبَايَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: " وَعَلَى قَوْمِكَ ؟ ". فَقَالَ: وَعَلَى قَوْمِي. فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِيَّةً، فَمَرُّوا بِقَوْمِ ضِمَادٍ، فَقَالَ صَاحِبُ الْجَيْشِ لِلسَّرِيَّةِ: هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ شَيْئًا ؟فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَصَبْتُ مِنْهُمْ

مِطْهَرَةً. فَقَالَ: رُدَّهَا عَلَيْهِمْ ; فَإِنَّهُمْ قَوْمُ ضِمَادٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ لَهُ ضِمَادٌ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ ; فَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " إِسْلَامَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَعْيَانِ فَصْلًا طَوِيلًا، وَاسْتَقْصَى ذَلِكَ اسْتِقْصَاءً حَسَنًا، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَثَابَهُ.
وَقَدْ سَرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَسْمَاءَ مَنْ أَسْلَمَ قَدِيمًا مِنَ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ: ثُمَّ أَسْلَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَبُو سَلَمَةَ وَالْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ وَقُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَظْعُونٍ وَخَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْعُودُ بْنُ الْقَارِيِّ وَسَلِيطُ بْنُ عَمْرٍو وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ سَلَمَةَ بْنِ مُخَرِّبَةَ،

التَّمِيمِيَّةُ، وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَحَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجَلَّلِ، وَأَخُوهُ حَطَّابُ بْنُ الْحَارِثِ وَامْرَأَتُهُ فُكَيْهَةُ بَنْتُ يَسَارٍ، وَمَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيُّ وَالسَّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ وَامْرَأَتُهُ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي عَوْفِ بْنِ صُبَيْرَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ، وَالنَّحَّامُ وَاسْمُهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسِيدٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ وَأُمَيْنَةُ ابْنَةُ خَلَفِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ مِنْ خُزَاعَةَ، وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَرِينِ بْنِ ثَعْلَبَةَ التَّمِيمِيُّ

حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ وَعَامِرُ بْنُ الْبُكَيْرِ وَعَاقِلُ بْنُ الْبُكَيْرِ وَإِيَاسُ بْنُ الْبُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ نَاشِبِ بْنِ غِيرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ وَكَانَ اسْمُ عَاقِلٍ غَافِلًا فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَاقِلًا وَهُمْ حُلَفَاءُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ أَرْسَالًا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، حَتَّى فَشَا أَمْرُ الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ وَتُحُدِّثَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنَ الْبِعْثَةِ بِأَنْ يَصْدَعَ بِمَا أُمِرَ، وَأَنْ يَصْبِرَ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّوْا ذَهَبُوا فِي الشِّعَابِ، وَاسْتَخْفَوْا بِصَلَاتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَبَيْنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي نَفَرٍ يُصَلُّونَ بِشِعَابِ مَكَّةَ إِذْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، فَنَاكَرُوهُمْ وَعَابُوا عَلَيْهِمْ مَا يَصْنَعُونَ حَتَّى قَاتَلُوهُمْ، فَضَرَبَ سَعْدٌ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِلَحْيِ جَمَلٍ فَشَجَّهُ، فَكَانَ أَوَّلَ دَمٍ أُهْرِيقَ فِي الْإِسْلَامِ. وَرَوَى الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ " مِنْ طَرِيقِ الْوَقَّاصِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا. وَفِيهِ أَنَّ الْمَشْجُوجَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ.

بَابُ أَمْرِ اللَّهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ إِلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَأَمْرِهِ لَهُ بِالصَّبْرِ، وَالِاحْتِمَالِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ الْمُعَانِدِينَ الْمُكَذِّبِينَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ إِلَيْهِمْ وَذِكْرِ مَا لَقِيَ مِنَ الْأَذِيَّةِ مِنْهُمْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [ الشُّعَرَاءِ: 214 - 220 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ. [ الزُّخْرُفِ: 44 ]

. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [ الْقِصَصِ: 85 ]. أَيْ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ وَأَوْجَبَ عَلَيْكَ تَبْلِيغَ الْقُرْآنِ لَرَادُّكَ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ وَهِيَ الْمَعَادُ، فَيَسْأَلُكَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [ الْأَعْرَافِ: 6 ]، وَقَالَ تَعَالَى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ الْحِجْرِ: 92، 93 ]. وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ تَقَصَّيْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا " التَّفْسِيرِ "، وَبَسَطْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، وَأَوْرَدْنَا أَحَادِيثَ جَمَّةً فِي ذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " أَتَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّفَا، فَصَعِدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ نَادَى: " يَا صَبَاحَاهُ ". فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ بَيْنَ رَجُلٍ يَجِيءُ إِلَيْهِ وَبَيْنَ رَجُلٍ يَبْعَثُ رَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي لُؤَيٍّ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، صَدَّقْتُمُونِي ". قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: " فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ".

فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَمَا دَعَوْتَنَا إِلَّا لِهَذَا ؟ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [ الْمَسَدِ: 1 ] وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ نَحْوَهُ.
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا زَائِدَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرَيْشًا فَعَمَّ وَخَصَّ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا مَعْشَرَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ. وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَهُ طُرُقٌ أُخَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " وَغَيْرِهِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ " أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ وَاسْتَكْتَمَنِي اسْمَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ "، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَرَفْتُ أَنِّي إِنْ بَادَأْتُ بِهَا قَوْمِي رَأَيْتُ مِنْهُمْ مَا أَكْرَهُ، فَصَمَتُّ، فَجَاءَنِيجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ عَذَّبَكَ رَبُّكَ. قَالَ عَلِيٌّ: فَدَعَانِي، فَقَالَ: " يَا عَلِيُّ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُنْذِرَ عَشِيرَتِيَ الْأَقْرَبِينَ، فَاصْنَعْ لَنَا يَا عَلِيُّ شَاةً عَلَى صَاعٍ مِنْ

طَعَامٍ، وَأَعِدَّ لَنَا عُسَّ لَبَنٍ، ثُمَّ اجْمَعْ لِي بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ". فَفَعَلْتُ فَاجْتَمَعُوا لَهُ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، يَزِيدُونَ رَجُلًا أَوْ يَنْقُصُونَ، فِيهِمْ أَعْمَامُهُ ; أَبُو طَالِبٍ وَحَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ وَأَبُو لَهَبٍ الْكَافِرُ الْخَبِيثُ، فَقَدَّمْتُ إِلَيْهِمْ تِلْكَ الْجَفْنَةَ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا حِذْيَةً، فَشَقَّهَا بِأَسْنَانِهِ، ثُمَّ رَمَى بِهَا فِي نَوَاحِيهَا، وَقَالَ: " كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ ". فَأَكَلَ الْقَوْمُ حَتَّى نَهِلُوا عَنْهُ مَا يُرَى إِلَّا آثَارُ أَصَابِعِهِمْ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَأْكُلُ مِثْلَهَا. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اسْقِهِمْ يَا عَلِيُّ ". فَجِئْتُ بِذَلِكَ الْقَعْبِ، فَشَرِبُوا مِنْهُ حَتَّى نَهِلُوا جَمِيعًا، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَشْرَبُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُكَلِّمَهُمْ بَدَرَهُ أَبُو لَهَبٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: لَهَدَّ ! مَا سَحَرَكُمْ صَاحِبُكُمْ. فَتَفَرَّقُوا، وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا عَلِيُّ عُدْ لَنَا بِمِثْلِ الَّذِي كُنْتَ صَنَعْتَ لَنَا بِالْأَمْسِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ; فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ بِدَرَنِي إِلَى مَا سَمِعْتَ قَبْلَ أَنْ أُكَلِّمَ الْقَوْمَ ". فَفَعَلْتُ، ثُمَّ جَمَعْتُهُمْ لَهُ، فَصَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا صَنَعَ بِالْأَمْسِ، فَأَكَلُوا

حَتَّى نَهِلُوا عَنْهُ، وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَأْكُلُ مِثْلَهَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اسْقِهِمْ يَا عَلِيُّ ". فَجِئْتُ بِذَلِكَ الْقَعْبِ فَشَرِبُوا مِنْهُ حَتَّى نَهِلُوا جَمِيعًا، وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَيَشْرَبُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ بَدَرَهُ أَبُو لَهَبٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، إِلَى الْكَلَامِ، فَقَالَ: " لَهَدَّ مَا سَحَرَكُمْ صَاحِبُكُمْ ! فَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا عَلِيُّ عُدْ لَنَا بِمِثْلِ الَّذِي كُنْتَ صَنَعْتَ بِالْأَمْسِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ; فَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ بِدَرَنِي إِلَى مَا سَمِعْتَ قَبْلَ أَنْ أُكَلِّمَ الْقَوْمَ ". فَفَعَلْتُ، ثُمَّ جَمَعْتُهُمْ لَهُ، فَصَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا صَنَعَ بِالْأَمْسِ، فَأَكَلُوا حَتَّى نَهِلُوا عَنْهُ، ثُمَّ سَقَيْتُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الْقَعْبِ حَتَّى نَهِلُوا عَنْهُ، وَايْمُ اللَّهِ ! إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ لَيَأْكُلُ مِثْلَهَا وَيَشْرَبُ مِثْلَهَا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ شَابًّا مِنَ الْعَرَبِ جَاءَ قَوْمَهُ بِأَفْضَلَ مِمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ ; إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ". هَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ شَيْخٍ أَبْهَمَ اسْمَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الرَّازِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْفَضْلِ الْأَبْرَشِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ أَبِي مَرْيَمَ بْنِ الْقَاسِمِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيٍّ فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: " وَإِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ": " وَقَدْ

أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَدْعُوَكُمْ إِلَيْهِ، فَأَيُّكُمْ يُؤَازِرُنِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَخِي ". وَكَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ عَنْهَا جَمِيعًا، وَقُلْتُ وَلَإِنِّي لَأَحْدَثُهُمْ سِنًّا، وَأَرْمَصُهُمْ عَيْنًا، وَأَعْظَمُهُمْ بَطْنًا، وَأَحْمَشُهُمْ سَاقًا: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَكُونُ وَزِيرَكَ عَلَيْهِ. فَأَخَذَ بِرَقَبَتِي، فَقَالَ: " إِنَّ هَذَا أَخِي، وَكَذَا وَكَذَا، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا ". قَالَ: فَقَامَ الْقَوْمُ يَضْحَكُونَ وَيَقُولُونَ لِأَبِي طَالِبٍ: قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تَسْمَعَ لِابْنِكَ وَتُطِيعَ ! تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ الْقَاسِمِ أَبُو مَرْيَمَ وَهُوَ كَذَّابٌ شِيعِيٌّ، اتَّهَمَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ، وَضَعَّفَهُ الْبَاقُونَ. وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ " عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عِيسَى بْنِ مَيْسَرَةَ الْحَارِثِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ " قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اصْنَعْ لِي رِجْلَ شَاةٍ بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، وَإِنَاءٍ لَبَنًا، وَادْعُ لِي بَنِي هَاشِمٍ، فَدَعَوْتُهُمْ، وَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ لَأَرْبَعُونَ غَيْرَ رَجُلٍ أَوْ أَرْبَعُونَ وَرَجُلٌ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَبَدَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكَلَامَ

فَقَالَ: " أَيُّكُمْ يَقْضِي عَنِّي دَيْنِي، وَيَكُونُ خَلِيفَتِي فِي أَهْلِي ؟ ". قَالَ: فَسَكَتُوا وَسَكَتَ الْعَبَّاسُ خَشْيَةَ أَنْ يُحِيطَ ذَلِكَ بِمَالِهِ، قَالَ: وَسَكَتُّ أَنَا لِسِنِّ الْعَبَّاسِ ثُمَّ قَالَهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَسَكَتَ الْعَبَّاسُ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ، قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " أَنْتَ ". قَالَ وَإِنِّي يَوْمَئِذٍ لَأَسْوَأُهُمْ هَيْئَةً، وَإِنِّي لَأَعْمَشُ الْعَيْنَيْنِ، ضَخْمُ الْبَطْنِ، حَمْشُ السَّاقَيْنِ. وَهَذِهِ الطَّرِيقُ فِيهَا شَاهِدٌ لِمَا تَقَدَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ فِيهَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيِّ وَرَبِيعَةَ بْنِ نَاجِذٍ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، أَوْ كَالشَّاهِدِ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: مَنْ يَقْضِي عَنِّي دَيْنِي وَيَكُونُ خَلِيفَتِي فِي أَهْلِي يَعْنِي: إِذَا مُتُّ، وَكَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَشِيَ إِذَا قَامَ بِإِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ إِلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَاسْتَوْثَقَ مَنْ يَقُومُ بَعْدَهُ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، وَيَقْضِي عَنْهُ، وَقَدْ أَمَّنَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ الْآيَةَ. [ الْمَائِدَةِ: 67 ]
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَمَرَّ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَيْلًا وَنَهَارًا، وَسِرًّا

وَجِهَارًا، لَا يَصْرِفُهُ عَنْ ذَلِكَ صَارِفٌ، وَلَا يَرُدُّهُ عَنْهُ رَادٌّ، وَلَا يَصُدُّهُ عَنْهُ صَادٌّ، يَتْبَعُ النَّاسَ فِي أَنْدِيَتِهِمْ وَمَجَامِعِهِمْ وَمَحَافِلِهِمْ، وَفِي الْمَوَاسِمِ، وَمَوَاقِفِ الْحَجِّ ; يَدْعُو مَنْ لَقِيَهُ مِنْ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَضَعِيفٍ وَقَوِيٍّ، وَغَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، جَمِيعُ الْخَلْقِ فِي ذَلِكَ عِنْدَهُ شَرَعٌ سَوَاءٌ، وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ آحَادِ النَّاسِ مِنْ ضُعَفَائِهِمُ الْأَشِدَّاءُ الْأَقْوِيَاءُ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِالْأَذِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَيْهِ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَامْرَأَتُهُ أُمُّ جَمِيلٍ أَرْوَى بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ طَبْعًا، فَكَانَ يَحْنُو عَلَيْهِ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ، وَيُدَافِعُ عَنْهُ وَيُحَامِي، وَيُخَالِفُ قَوْمَهُ فِي ذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ عَلَى دِينِهِمْ وَعَلَى خُلَّتِهِمْ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِ امْتَحَنَ قَلْبَهُ بِحُبِّهِ حَبًّا طَبْعِيًّا لَا شَرْعِيًّا، فَكَانَ اسْتِمْرَارُهُ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِمَّا صَنَعَهُ لِرَسُولِهِ مِنَ الْحِمَايَةِ ; إِذْ لَوْ كَانَ أَسْلَمَ أَبُو طَالِبٍ لَمَا كَانَ لَهُ عِنْدَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَجَاهَةٌ وَلَا كَلِمَةٌ، وَلَا كَانُوا يَهَابُونَهُ وَيَحْتَرِمُونَهُ، وَلَاجْتَرَؤُوا عَلَيْهِ وَلَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ إِلَيْهِ، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ وَقَدْ قَسَّمَ خَلْقَهُ أَنْوَاعًا وَأَجْنَاسًا، فَهَذَانَ الْعَمَّانِ كَافِرَانِ أَبُو طَالِبٍ وَأَبُو لَهَبٍ وَلَكِنَّ هَذَا يَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَذَلِكَ فِي

الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ سُورَةً فِي كِتَابِهِ تُتْلَى عَلَى الْمَنَابِرِ، وَتُقْرَأُ فِي الْمَوَاعِظِ وَالْخُطَبِ، تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ، يُقَالُ لَهُ: رَبِيعَةُ بْنُ عَبَّادٍ مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَكَانَ جَاهِلِيًّا فَأَسْلَمَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ، وَهُوَ يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا ". وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ وَضِيءُ الْوَجْهِ، أَحْوَلُ، ذُو غَدِيرَتَيْنِ، يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ. يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ. ثُمَّ رَوَاهُ هُوَ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْفَقِيهُ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَزْهَرِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ رَبِيعَةَ الدِّيلِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذِي الْمَجَازِ يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ تَقِدُ وَجْنَتَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ، وَدِينِ آبَائِكُمْ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ قِيلَ: هَذَا أَبُو لَهَبٍ.
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ كِنَانَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ، وَهُوَ يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا ". وَإِذَا رَجُلٌ خَلْفَهُ يُسْفِي عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَإِذَا هُوَ أَبُو جَهْلٍ وَإِذَا هُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ تَتْرُكُوا عِبَادَةَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى. كَذَا قَالَ: أَبُو جَهْلٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَبُو لَهَبٍ وَسَنَذْكُرُ بَقِيَّةَ تَرْجَمَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا أَبُو طَالِبٍ فَكَانَ فِي غَايَةِ الشَّفَقَةِ وَالْحُنُوِّ الطَّبِيعِيِّ، كَمَا سَيَظْهَرُ مِنْ صَنَائِعِهِ، وَسَجَايَاهُ، وَاعْتِمَادِهِ فِيمَا يُحَامِي بِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ أَخْبَرَنِي عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: جَاءَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا: إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ هَذَا قَدْ آذَانَا فِي نَادِينَا وَمَسْجِدِنَا، فَانْهَهُ عَنَّا. فَقَالَ: يَا عَقِيلُ انْطَلِقْ فَأْتِنِي بِمُحَمَّدٍ. فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ مِنْ كِبْسٍ أَوْ قَالَ حِفْشٍ يَقُولُ: بَيْتٍ صَغِيرٍ. فَجَاءَ بِهِ فِي الظَّهِيرَةِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ، قَالَ: إِنْ بَنِي عَمِّكَ هَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّكَ تُؤْذِيهِمْ فِي نَادِيهِمْ وَمَسْجِدِهِمْ، فَانْتَهِ عَنْ أَذَاهُمْ، فَحَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: " تَرَوْنَ هَذِهِ الشَّمْسَ ". قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: " فَمَا أَنَا بِأَقْدَرَ عَلَى أَنْ أَدَعَ ذَلِكَ مِنْكُمْ عَلَى أَنْ تَسْتَشْعِلُوا مِنْهَا شُعْلَةً ". فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ مَا كَذَبَ ابْنُ أَخِي قَطُّ، فَارْجِعُوا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ " عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْهُ بِهِ. وَهَذَا لَفْظُهُ.

ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ قَالَتْ لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنْ قَوَّمَكَ قَدْ جَاءُونِي، وَقَالُوا كَذَا وَكَذَا، فَأَبْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنَ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ أَنَا وَلَا أَنْتَ، فَاكْفُفْ عَنْ قَوْمِكَ مَا يَكْرَهُونَ مِنْ قَوْلِكَ، فَظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ، وَضَعُفَ عَنِ الْقِيَامِ مَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا عَمِّ، لَوْ وُضِعَتِ الشَّمْسُ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرُ فِي يَسَارِي، مَا تَرَكْتُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِي طَلَبِهِ " ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَكَى، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ لَهُ حِينَ رَأَى مَا بَلَغَ الْأَمْرُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا بْنَ أَخِي. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: امْضِ عَلَى أَمْرِكَ، وَافْعَلْ مَا أَحْبَبْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أُسْلِمُكَ لِشَيْءٍ أَبَدًا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي ذَلِكَ
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا فَامْضِي لِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ
أَبْشِرْ وَقَرَّ بِذَاكَ مِنْكَ عُيُونَا وَدَعَوْتَنِي وَعَلِمْتُ أَنَّكَ نَاصِحِي
فَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ قِدْمُ أَمِينَا وَعَرَضْتَ دِينًا قَدْ عَرَفْتُ بِأَنَّهُ
مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا

لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حَذَارِيَ سُبَّةً
لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ لِأَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَصَمَهُ بِعَمِّهِ مَعَ خِلَافِهِ إِيَّاهُ فِي دِينِهِ، وَقَدْ كَانَ يَعْصِمُهُ حَيْثُ لَا يَكُونُ عَمُّهُ بِمَا شَاءَ، لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ قَدِيمًا مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ جَرَتْ بَيْنَ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا قَامَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ أَبَى إِلَّا مَا تَرَوْنَ ; مِنْ عَيْبِ دِينِنَا، وَشَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا، وَسَبِّ آلِهَتِنَا، وَإِنِّي أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَجْلِسُ لَهُ غَدًا بِحَجَرٍ، فَإِذَا سَجَدَ فِي صَلَاتِهِ، فَضَخْتُ بِهِ رَأْسَهُ، فَلْيَصْنَعْ بَعْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ مَا بَدَا لَهُمْ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ أَخَذَ حَجَرًا، ثُمَّ جَلَسَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْتَظِرُهُ، وَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا كَانَ يَغْدُو، وَكَانَتْ قِبْلَتُهُ الشَّامَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَّى بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْأَسْوَدِ وَالْيَمَانِيِّ، وَجَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي، وَقَدْ غَدَتْ قُرَيْشٌ فَجَلَسُوا فِي أَنْدِيَتِهِمْ يَنْتَظِرُونَ، فَلَمَّا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَمَلَ

أَبُو جَهْلٍ الْحَجَرَ، ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَهُ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُ رَجَعَ مُنْبَهِتًا مُمْتَقِعًا لَوْنُهُ مَرْعُوبًا، قَدْ يَبِسَتْ يَدَاهُ عَلَى حِجْرِهِ، حَتَّى قَذَفَ الْحَجَرَ مِنْ يَدِهِ، وَقَامَتْ إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: لَهُ مَا بِكَ يَا أَبَا الْحَكَمِ ؟ فَقَالَ: قُمْتُ إِلَيْهِ لِأَفْعَلَ مَا قَلْتُ لَكُمُ الْبَارِحَةَ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ عَرَضَ لِي دُونَهُ فَحْلٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَامَتِهِ، وَلَا قَصَرَتِهِ، وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، فَهَمَّ أَنْ يَأْكُلَنِي. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَذُكِرَ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " ذَلِكَ جِبْرِيلُ، لَوْ دَنَا مِنِّي لَأَخَذَهُ ".
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِي أَبُو النَّضْرِ الْفَقِيهُ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ الدَّارِمِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ عَنْ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ إِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا سَاجِدًا أَنْ أَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ. فَخَرَجْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِ أَبِي جَهْلٍ فَخَرَجَ غَضْبَانَ حَتَّى جَاءَ الْمَسْجِدَ، فَعَجَّلَ أَنْ يَدْخُلَ مِنَ الْبَابِ فَاقْتَحَمَ الْحَائِطَ، فَقُلْتُ: هَذَا يَوْمُ شَرٍّ. فَاتَّزَرْتُ ثُمَّ اتَّبَعْتُهُ. فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ [ الْعَلَقِ: 1، 2 ] فَلَمَّا بَلَغَ شَأْنَ أَبِي جَهْلٍ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [ الْعَلَقِ: 6، 7 ] فَقَالَ إِنْسَانٌ لِأَبِي جَهْلٍ: يَا أَبَا الْحَكَمِ هَذَا مُحَمَّدٌ.

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَرَى ؟ وَاللَّهِ لَقَدْ سَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ عَلَيَّ، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخِرَ السُّورَةِ سَجَدَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا ". وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ. قَالَ دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ أَبُو جَهْلٍ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكَ أَنْ تُصَلِّيَ يَا مُحَمَّدُ ؟ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا بِهَا أَحَدٌ أَكْثَرَ نَادِيًا مِنِّي. فَانْتَهَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ جِبْرِيلُ: فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [ الْعَلَقِ: 17، 18 ] وَاللَّهِ لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ الْعَذَابِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَزِيدَ أَبُو يَزِيدَ حَدَّثَنَا فُرَاتٌ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ. قَالَ: فَقَالَ: " لَوْ فَعَلَ

لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا ".
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ عَادَ مُحَمَّدٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ لَأَقْتُلَنَّهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ حَتَّى بَلَغَ مِنَ الْآيَةِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ [ الْعَلَقِ: 15 - 18 ] فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي، فَقِيلَ: مَا يَمْنَعُكَ ؟ قَالَ: قَدِ اسْوَدَّ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنَ الْكَتَائِبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ تَحَرَّكَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، وَلَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ. فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي ; لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ. قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا

وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ. قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ ؟ قَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقًا مِنْ نَارٍ، وَهَوْلًا، وَأَجْنِحَةً. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا ". قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَا أَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمْ لَا كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ طَرْخَانَ التَّيْمِيِّ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا عَلَى قُرَيْشٍ غَيْرَ يَوْمٍ وَاحِدٍ ; فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي، وَرَهْطٌ مِنْ قُرَيْشٍ جُلُوسٌ، وَسَلَى جَزُورٍ قَرِيبٌ مِنْهُ، فَقَالُوا: مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّلَى فَيُلْقِيهِ عَلَى ظَهْرِهِ ؟ فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ: أَنَا فَأَخَذَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَلَمْ يَزَلْ سَاجِدًا حَتَّى جَاءَتْ فَاطِمَةُ، فَأَخَذَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِهَذَا الْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ أَوْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ شُعْبَةُ الشَّاكُّ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ

قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ جَمِيعًا، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ، غَيْرَ أُبَيٍّ أَوْ أُمَيَّةَ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلًا ضَخْمًا فَتَقَطَّعَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ " صَحِيحِهِ " وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِهِ، وَالصَّوَابُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ ; فَإِنَّهُ الَّذِي قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَخُوهُ أُبَيٌّ إِنَّمَا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَالسَّلَى: هُوَ الَّذِي يَخْرُجُ مَعَ وَلَدِ النَّاقَةِ كَالْمَشِيمَةِ لِوَلَدِ الْمَرْأَةِ.
وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ " الصَّحِيحِ " أَنَّهُمْ لَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ اسْتَضْحَكُوا، حَتَّى جَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ. أَيْ يَمِيلُ هَذَا عَلَى هَذَا مِنْ شِدَّةِ الضَّحِكِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَفِيهِ: أَنَّ فَاطِمَةَ لَمَّا أَلْقَتْهُ عَنْهُ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ فَسَبَّتْهُمْ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ رَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ سَكَنَ عَنْهُمُ الضَّحِكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا عَلَى الْمَلَأِ مِنْهُمْ جُمْلَةً، وَعَيَّنَ فِي دُعَائِهِ سَبْعَةً، وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ تَسْمِيَةُ سِتَّةٍ مِنْهُمْ، وَهُمْ: عُتْبَةُ وَأَخُوهُ شَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَنَسِيتُ السَّابِعَ. قُلْتُ: وَهُوَ عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ وَقَعَ تَسْمِيَتُهُ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ".

قِصَّةُ الْإِرَاشِيِّ
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الثَّقَفِيُّ قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ إِرَاشٍ بِإِبِلٍ لَهُ مَكَّةَ، فَابْتَاعَهَا مِنْهُ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فَمَطَلَهُ بِأَثْمَانِهَا، فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى نَادِي قُرَيْشٍ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَنْ رَجُلٌ يُعْدِينِي عَلَى أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ ; فَإِنِّي غَرِيبٌ وَابْنُ سَبِيلٍ، وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقِّي ؟ فَقَالَ أَهْلُ الْمَجْلِسِ: تَرَى ذَلِكَ الرَّجُلَ ؟ وَهُمْ يَهْزَؤُونَ بِهِ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِمَا يَعْلَمُونَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ مِنَ الْعَدَاوَةِ: اذْهَبْ إِلَيْهِ، فَهُوَ يُؤَدِّيكَ عَلَيْهِ، فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَامَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامَ مَعَهُ، قَالُوا لِرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُمْ: اتْبَعْهُ فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُ ؟ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى جَاءَهُ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: " مُحَمَّدٌ، فَاخْرُجْ ". فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَمَا فِي وَجْهِهِ قَطْرَةُ دَمٍ، وَقَدِ انْتُقِعَ لَوْنُهُ، فَقَالَ: " أَعْطِ هَذَا الرَّجُلَ حَقَّهُ ". فَقَالَ: لَا تَبْرَحْ حَتَّى أُعْطِيَهُ الَّذِي لَهُ. قَالَ: فَدَخَلَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ بِحَقِّهِ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ

لِلْإِرَاشِيِّ: " الْحَقْ بِشَأْنِكَ ". فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيُّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَقَالَ: جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا ; فَقَدْ أَخَذْتُ الَّذِي لِي. وَجَاءَ الرَّجُلُ الَّذِي بَعَثُوا مَعَهُ، فَقَالُوا: وَيْحَكَ، مَاذَا رَأَيْتَ ؟ قَالَ: عَجَبًا مِنَ الْعَجَبِ، وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَخَرَجَ وَمَا مَعَهُ رُوحُهُ، فَقَالَ: " أَعْطِ هَذَا الرَّجُلَ حَقَّهُ ". فَقَالَ: نَعَمْ، لَا تَبْرَحْ حَتَّى أُخْرِجَ إِلَيْهِ حَقَّهُ، فَدَخَلَ فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ حَقَّهُ فَأَعْطَاهُ. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالُوا لَهُ: وَيْلَكَ مَا لَكَ ؟ ! فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَنَعْتَ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكُمُ، وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيَّ بَابِي، وَسَمِعْتُ صَوْتَهُ، فَمُلِئْتُ رُعْبًا، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَيْهِ، وَإِنَّ فَوْقَ رَأْسِهِ لَفَحْلًا مِنَ الْإِبِلِ، مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَامَتِهِ، وَلَا قَصَرَتِهِ، وَلَا أَنْيَابِهِ لِفَحْلٍ قَطُّ، فَوَاللَّهِ لَوْ أَبَيْتُ لَأَكَلَنِي.

فَصْلٌ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بْنَ الْعَاصِ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ، إِذْ أَقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ وَدَفَعَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ [ غَافِرٍ: 28 ] الْآيَةَ تَابَعَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
وَقَالَ عَبْدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قِيلَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. قَالَ

الْبَيْهَقِيُّ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ كَمَا رَوَاهُ عَبْدَةُ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ رَوَاهُ فِي أَمَاكِنَ مِنْ " صَحِيحِهِ "، وَصَرَّحَ فِي بَعْضِهَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ أَشْبَهُ لِرِوَايَةِ عُرْوَةَ عَنْهُ، وَكَوْنُهُ عَنْ عَمْرٍو أَشْبَهُ لِتَقَدُّمِ هَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: مَا أَكْثَرُ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُهُ مِنْ عَدَاوَتِهِ، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ، سَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَشَتَمَ آبَاءَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَسَبَّ آلِهَتَنَا وَصَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، أَوْ كَمَا قَالُوا. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ فَغَمَزُوهُ بِبَعْضِ الْقَوْلِ، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَضَى فَلَمَّا مَرَّ بِهِمُ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَعَرَفْتُهَا فِي وَجْهِهِ، فَمَضَى، ثُمَّ مَرَّ الثَّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَقَالَ: " أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ ". فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتَّى مَا مِنْهُمْ مِنْ رَجُلٍ

إِلَّا وَكَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ، حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ: انْصَرِفْ أَبَا الْقَاسِمِ رَاشِدًا، فَمَا كُنْتَ بِجَهُولٍ. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ حَتَّى إِذَا بَادَأَكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ ! فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا ؟ لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " نَعَمْ، أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ ". وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجَامِعِ رِدَائِهِ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ يَبْكِي دُونَهُ، وَيَقُولُ: وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَأَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ

فَصْلٌ ( فِي تَأْلِيبِ الْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، وَاجْتِمَاعِهِمْ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ الْقَائِمِ فِي مَنْعِهِ وَنُصْرَتِهِ، وَحِرْصِهِمْ عَلَيْهِ أَنْ يُسْلِمَهُ إِلَيْهِمْ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِحَوَلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ )
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ

وَأُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلَّا مَا يُوَارِي إِبِطَ بِلَالٍ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ وَمَنَعَهُ، وَقَامَ دُونَهُ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَمْرِ اللَّهِ مُظْهِرًا لِدِينِهِ لَا يَرُدُّهُ عَنْهُ شَيْءٌ، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُعْتِبُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ مِنْ فِرَاقِهِمْ، وَعَيْبِ آلِهَتِهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ قَدْ حَدِبَ عَلَيْهِ، وَقَامَ دُونَهُ، فَلَمْ يُسْلِمْهُ لَهُمْ، مَشَى رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ إِلَى أَبِي طَالِبٍ ; عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَّيٍّ وَأَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَاسْمُهُ الْعَاصُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَّيٍّ وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَأَبُو جَهْلٍ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقْظَةَ

بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ بْنِ عَامِرِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَوْ مَنْ مَشَى مِنْهُمْ فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ قَدْ سَبَّ آلِهَتَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، وَسَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَضَلَّلَ آبَاءَنَا، فَإِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ عَنَّا وَإِمَّا أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنَّكَ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ فَنَكْفِيكَهُ. فَقَالَ لَهُمْ أَبُو طَالِبٍ قَوْلًا رَفِيقًا، وَرَدَّهُمْ رَدًّا جَمِيلًا، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، يُظْهِرُ دِينَ اللَّهِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ شَرَى الْأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، حَتَّى تَبَاعَدَ الرِّجَالُ وَتَضَاغَنُوا، وَأَكْثَرَتْ قُرَيْشٌ ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهَا، فَتَوَامَرُوا فِيهِ، وَحَضَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَشَوْا إِلَىأَبِي طَالِبٍ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ إِنَّ لَكَ سِنًّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا، وَإِنَّا قَدِ اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَلَمْ تَنْهَهُ عَنَّا، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا ; مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا، حَتَّى تَكُفَّهُ عَنَّا أَوْ نُنَازِلَهُ وَإِيَّاكَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى يَهْلِكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ. أَوْ كَمَا قَالُوا. ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَعَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ فِرَاقُ قَوْمِهِ وَعَدَاوَتُهُمْ، وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِسْلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا خِذْلَانِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ قُرَيْشًا حِينَ قَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فَقَالَ لَهُ: يَا بْنَ أَخِي، إِنْ قَوْمَكَ قَدْ جَاءُونِي، فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا لِلَّذِي قَالُوا لَهُ فَأَبْقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلَا تُحَمِّلْنِي مِنَ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ. قَالَ: فَظَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ فِيهِ بِدَاءٌ، وَأَنَّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ، وَأَنَّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا عَمِّ، وَاللَّهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ ". قَالَ: ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَكَى، ثُمَّ قَامَ، فَلَمَّا وَلَّى نَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: أَقْبِلْ يَا بْنَ أَخِي. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اذْهَبْ يَا بْنَ أَخِي، فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أُسْلِمُكَ لِشَيْءٍ أَبَدًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا حِينَ عَرَفُوا أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ أَبَى خِذْلَانَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِسْلَامَهُ، وَإِجْمَاعَهُ لِفِرَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ وَعَدَاوَتِهِ، مَشَوْا إِلَيْهِ بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالُوا لَهُ فِيمَا بَلَغَنِي: يَا أَبَا طَالِبٍ هَذَا عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنَهَدُ فَتًى فِي قُرَيْشٍ، وَأَجْمَلُهُ فَخُذْهُ، فَلَكَ عَقْلُهُ وَنَصْرُهُ، وَاتَّخِذْهُ وَلَدًا فَهُوَ لَكَ، وَأَسْلِمْ إِلَيْنَا ابْنَ أَخِيكَ هَذَا الَّذِي قَدْ خَالَفَ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ، وَفَرَّقَ جَمَاعَةَ قَوْمِكَ، وَسَفَّهَ أَحْلَامَهَا، فَنَقْتُلَهُ، فَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ بِرَجُلٍ. قَالَ: وَاللَّهِ لَبِئْسَ مَا تَسُومُونَنِي ! أَتُعْطُونَنِي ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ لَكُمْ، وَأُعْطِيكُمُ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ ! هَذَا وَاللَّهِ مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا. قَالَ: فَقَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ

عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ: وَاللَّهِ يَا أَبَا طَالِبٍ لَقَدْ أَنْصَفَكَ قَوْمُكَ، وَجَهَدُوا عَلَى التَّخَلُّصِ مِمَّا تَكْرَهُ، فَمَا أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا. فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِلْمُطْعِمِ: وَاللَّهِ مَا أَنْصَفُونِي، وَلَكِنَّكَ قَدْ أَجْمَعْتَ خِذْلَانِي، وَمُظَاهَرَةَ الْقَوْمِ عَلَيَّ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ. أَوْ كَمَا قَالَ، فَحَقِبَ الْأَمْرُ، وَحَمِيَتِ الْحَرْبُ، وَتَنَابَذَ الْقَوْمُ، وَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ عِنْدَ ذَلِكَ، يُعَرِّضُ بِالْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ وَيَعُمُّ مَنْ خَذَلَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَمَنْ عَادَاهُ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ، وَيَذْكُرُ مَا سَأَلُوهُ وَمَا تَبَاعَدَ مِنْ أَمْرِهِمْ:
أَلَا قُلْ لِعَمْرٍو وَالْوَلِيدِ وَمُطْعِمٍ أَلَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ حِيَاطَتِكُمْ بَكْرُ مِنَ الْخُورِ حَبْحَابٌ كَثِيرٌ رُغَاؤُهُ
يُرَشُّ عَلَى السَّاقَيْنِ مِنْ بَوْلِهِ قَطْرُ تَخَلَّفَ خَلْفَ الْوِرْدِ لَيْسَ بِلَاحِقٍ
إِذَا مَا عَلَا الْفَيْفَاءَ قِيلَ لَهُ وَبْرُ أَرَى أَخَوَيْنَا مِنْ أَبِينَا وَأُمِّنَا
إِذَا سُئِلَا قَالَا إِلَى غَيْرِنَا الْأَمْرُ بَلَى لَهُمَا أَمْرٌ وَلَكِنْ تَجَرْجَمَا
كَمَا جَرْجَمَتْ مِنْ رَأْسِ ذِي عَلَقٍ الصَّخْرُ أَخُصُّ خُصُوصًا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا
هُمَا نَبَذَانَا مِثْلَ مَا نُبِذَ الْجَمْرُ هُمَا أَغْمَزَا لِلْقَوْمِ فِي أَخَوَيْهِمَا
فَقَدْ أَصْبَحَا مِنْهُمْ أَكُفُّهُمَا صُفْرُ

هُمَا أَشْرَكَا فِي الْمَجْدِ مَنْ لَا أَبَا لَهُ
مِنَ النَّاسِ إِلَّا أَنْ يُرَسَّ لَهُ ذِكْرُ وَتَيْمٌ وَمَخْزُومٌ وَزُهْرَةُ مِنْهُمُ
وَكَانُوا لَنَا مَوْلًى إِذَا بُغِيَ النَّصْرُ فَوَاللَّهِ لَا تَنْفِكُّ مِنَّا عَدَاوَةٌ
وَلَا مِنْكُمُ مَا دَامَ مِنْ نَسْلِنَا شَفْرُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَتَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتَيْنِ أَقْذَعَ فِيهِمَا.

فَصْلٌ فِي مُبَالَغَتِهِمْ فِي الْأَذِيَّةِ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا تَذَامَرُوا بَيْنَهُمْ عَلَى مَنْ فِي الْقَبَائِلِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ أَسْلَمُوا مَعَهُ، فَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يُعَذِّبُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَمَنَعَ اللَّهُ مِنْهُمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ قَامَ أَبُو طَالِبٍ حِينَ رَأَى قُرَيْشًا يَصْنَعُونَ مَا يَصْنَعُونَ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَدَعَاهُمْ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقِيَامِ دُونَهُ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، وَقَامُوا مَعَهُ، وَأَجَابُوهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ عَدُوِّ اللَّهِ فَقَالَ فِي ذَلِكَ: يَمْدَحُهُمْ وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى مَا وَافَقُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَدَبِ وَالنُّصْرَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
إِذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرٍ فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرُّهَا وَصَمِيمُهَا وَإِنْ حُصِّلَتْ أَشْرَافُ عَبْدِ مَنَافِهَا
فَفِي هَاشِمٍ أَشْرَافُهَا وَقَدِيمُهَا وَإِنْ فَخَرَتْ يَوْمًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا
هُوَ الْمُصْطَفَى مِنْ سِرِّهَا وَكَرِيمُهَا

تَدَاعَتْ قُرَيْشٌ غَثُّهَا وَسَمِينُهَا
عَلَيْنَا فَلَمْ تَظْفَرْ وَطَاشَتْ حُلُومُهَا وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً
إِذْ مَا ثَنَوْا صُغْرَ الرِّقَابِ نُقِيمُهَا وَنَحْمِي حِمَاهَا كُلَّ يَوْمِ كَرِيهَةٍ
وَنَضْرِبُ عَنْ أَحْجَارِهَا مَنْ يَرُومُهَا بِنَا انْتَعَشَ الْعُودُ الذَّوَاءُ وَإِنَّمَا
بِأَكْنَافِنَا تَنْدَى وَتَنْمِي أُرُومُهَا

فَصْلٌ
فِيمَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا تَعَنَّتُوا عَلَيْهِ فِي أَسْئِلَتِهِمْ إِيَّاهُ أَنْوَاعًا مِنَ الْآيَاتِ، وَخَرْقِ الْعَادَاتِ، عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ، لَا عَلَى وَجْهِ طَلَبِ الْهُدَى وَالرَّشَادِ ; فَلِهَذَا لَمْ يُجَابُوا إِلَى كَثِيرٍ مِمَّا طَلَبُوا، وَلَا مَا إِلَيْهِ رَغِبُوا ; لِعِلْمِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَوْ عَايَنُوا وَشَاهَدُوا مَا أَرَادُوا، لَاسْتَمَرُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَلَظَلُّوا فِي غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ. [ الْأَنْعَامِ: 109 - 111 ] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [ يُونُسَ: 96 - 97 ]

وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [ الْإِسْرَاءِ: 59 ] وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [ الْإِسْرَاءِ: 90 - 93 ]. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا يُشَابِهُهَا فِي أَمَاكِنِهَا فِي التَّفْسِيرِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ رَوَى يُونُسُ وَزِيَادٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ شَيْخٌ مَنْ أَهْلِ مِصْرَ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اجْتَمَعَ عِلْيَةٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ وَعَدَّدَ أَسْمَاءَهُمْ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ابْعَثُوا إِلَى مُحَمَّدٍ فَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ حَتَّى تُعْذِرُوا فِيهِ. فَبَعَثُوا إِلَيْهِ إِنَّ أَشْرَافَ قَوْمِكَ قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ لِيُكَلِّمُوكَ. فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَرِيعًا، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُمْ فِي أَمْرِهِ بَدَاءٌ، وَكَانَ حَرِيصًا يُحِبُّ رُشْدَهُمْ، وَيَعِزُّ عَلَيْهِ عَنَتُهُمْ، حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا قَدْ بَعَثْنَا إِلَيْكَ لِنُعْذِرَ فِيكَ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا

نَعْلَمُ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ أَدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مَا أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ ; لَقَدْ شَتَمْتَ الْآبَاءَ، وَعِبْتَ الدِّينَ، وَسَفَّهْتَ الْأَحْلَامَ، وَشَتَمْتَ الْآلِهَةَ، وَفَرَّقْتَ الْجَمَاعَةَ، وَمَا بَقِيَ مِنْ قَبِيحٍ إِلَّا وَقَدْ جِئْتَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَطْلُبُ الشَّرَفَ فِينَا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنَّ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رَئِيًّا تَرَاهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْكَ وَكَانُوا يُسَمُّونَ التَّابِعَ مِنَ الْجِنِّ الرَّئِيَّ فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ، بَذَلْنَا أَمْوَالَنَا فِي طَلَبِ الطِّبِّ حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ أَوْ نُعْذِرَ فِيكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا بِي مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُكُمْ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا الشَّرَفَ فِيكُمْ، وَلَا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا نَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ". أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، فَإِنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابِلٍ مِنَّا مَا عَرَضْنَا عَلَيْكَ، فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَضْيَقَ بِلَادًا، وَلَا أَقَلَّ مَالًا، وَلَا أَشَدَّ عَيْشًا مِنَّا. فَسَلْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ بِمَا بَعَثَكَ بِهِ فَلْيُسَيِّرْ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَالَ الَّتِي قَدْ ضَيَّقَتْ عَلَيْنَا، وَلَيَبْسُطْ لَنَا بِلَادَنَا، وَلْيُجْرِ فِيهَا أَنْهَارًا كَأَنْهَارِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَلْيَبْعَثْ لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِنَا، وَلْيَكُنْ فِيمَنْ يُبْعَثُ لَنَا مِنْهُمْ قُصَّيُّ بْنُ كِلَابٍ ; فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخًا صَدُوقًا، فَنَسْأَلَهُمْ عَمَّا تَقُولُ أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ ؟ فَإِنْ فَعَلْتَ مَا سَأَلْنَاكَ وَصَدَّقُوكَ، صَدَّقْنَاكَ وَعَرَفْنَا بِهِ مَنْزِلَتَكَ

عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ بَعَثَكَ رَسُولًا كَمَا تَقُولُ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا بِهَذَا بُعِثْتُ، إِنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ، فَقَدْ بَلَّغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوهُ، فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ، أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ". قَالُوا: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَنَا هَذَا فَخُذْ لِنَفْسِكَ ; فَسَلْ رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ لَنَا مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ، وَيُرَاجِعُنَا عَنْكَ، وَتَسْأَلُهُ فَيَجْعَلُ لَنَا جِنَانًا وَكُنُوزًا وَقُصُورًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَيُغْنِيكَ عَمَّا نَرَاكَ تَبْتَغِي، فَإِنَّكَ تَقُومُ فِي الْأَسْوَاقِ، وَتَلْتَمِسُ الْمَعَايِشَ كَمَا نَلْتَمِسُهُ، حَتَّى نَعْرِفَ فَضْلَ مَنْزِلَتِكَ مِنْ رَبِّكَ، إِنَّ كُنْتَ رَسُولًا كَمَا تَزْعُمُ. فَقَالَ لَهُمْ: " مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، مَا أَنَا بِالَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هَذَا، وَمَا بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ بِهَذَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَإِنْ تَقْبَلُوا مَا جِئْتُكُمْ بِهِ، فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ، أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ". قَالُوا: فَأَسْقِطِ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ أَنَّ رَبَّكَ إِنْ شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلَ. فَقَالَ: " ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ فَعَلَ بِكُمْ ذَلِكَ ". فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، مَا عَلِمَ رَبُّكَ أَنَّا سَنَجْلِسُ مَعَكَ، وَنَسْأَلُكَ عَمَّا سَأَلْنَاكَ عَنْهُ، وَنَطْلُبُ مِنْكَ مَا نَطْلُبُ، فَيَتَقَدَّمُ إِلَيْكَ وَيُعْلِمُكَ مَا تُرَاجِعُنَا بِهِ، وَيُخْبِرُكَ مَا هُوَ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ بِنَا إِذَا لَمْ نَقْبَلْ مِنْكَ مَا جِئْتَنَا بِهِ ؟ فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ إِنَّمَا يُعَلِّمُكَ هَذَا رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ، يُقَالُ لَهُ: الرَّحْمَنُ. وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِالرَّحْمَنِ أَبَدًا، فَقَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، أَمَا وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ وَمَا فَعَلْتَ بِنَا حَتَّى نُهْلِكَكَ أَوْ تُهْلِكَنَا. وَقَالَ قَائِلُهُمْ: نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَهِيَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِاللَّهِ

وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا. فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُمْ وَقَامَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَخْزُومٍ وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ عَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عَرَضَ عَلَيْكَ قَوْمُكَ مَا عَرَضُوا فَلَمْ تَقْبَلْهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ لِأَنْفُسِهِمْ أُمُورًا ; لِيَعْرِفُوا بِهَا مَنْزِلَتَكَ مِنَ اللَّهِ فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أَنْ تُعَجِّلَ مَا تُخَوِّفُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، فَوَاللَّهِ لَا أُومِنُ لَكَ أَبَدًا، حَتَّى تَتَّخِذَ إِلَى السَّمَاءِ سُلَّمًا، ثُمَّ تَرْقَى فِيهِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى تَأْتِيَهَا وَتَأْتِيَ مَعَكَ بِنُسْخَةٍ مَنْشُورَةٍ، وَمَعَكَ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ أَنَّكَ كَمَا تَقُولُ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَظَنَنْتُ أَنِّي لَا أُصَدِّقُكَ. ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَهْلِهِ حَزِينًا أَسِفًا ; لِمَا فَاتَهُ مِمَّا طَمِعَ فِيهِ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ دَعَوْهُ وَلِمَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتِهِمْ إِيَّاهُ
وَهَذَا الْمَجْلِسُ الَّذِي اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مَجْلِسُ ظُلْمٍ وَعُدْوَانٍ وَعِنَادٍ، وَلِهَذَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ وَالرَّحْمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ أَلَّا يُجَابُوا لِي مَا سَأَلُوا ; لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ، فَيُعَاجِلُهُمْ بِالْعَذَابِ.
كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُنَحِّيَ عَنْهُمُ الْجِبَالُ فَيَزْدَرِعُوا، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَنْ

تَسْتَأْنِيَ بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤْتِيَهُمُ الَّذِي سَأَلُوا، فَإِنْ كَفَرُوا أُهْلِكُوا كَمَا أُهْلِكَتْ مَنْ قَبْلَهُمْ. قَالَ: " لَا، بَلْ أَسَتَأْنِي بِهِمْ ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا [ الْإِسْرَاءِ: 59 ] الْآيَةَ وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ عِمْرَانَ أَبِي الْحَكَمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا وَنُؤْمِنُ بِكَ. قَالَ: " وَتَفْعَلُونَ ؟ ". قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: فَدَعَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ الصَّفَا لَهُمْ ذَهَبًا، فَمَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ بَابَ الرَّحْمَةِ وَالتَّوْبَةِ. قَالَ: " بَلِ التَّوْبَةُ وَالرَّحْمَةُ ". وَهَذَانَ إِسْنَادَانِ جَيِّدَانِ، وَقَدْ جَاءَ مُرْسَلًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ ; مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فَقُلْتُ: لَا يَا رَبُّ، أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِذَا جُعْتُ، تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ، حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ ". لَفْظُ أَحْمَدَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ مَنْ أَهْلِ مِصْرَ قَدِمَ عَلَيْنَا مُنْذُ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَعَقَبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا لَهُمَا: سَلُوهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ وَصِفَا لَهُمْ صِفَتَهُ، وَأَخْبِرَاهُمْ بِقَوْلِهِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَهُمْ عِلْمُ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ. فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَسَأَلَا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَصَفَا لَهُمْ أَمْرَهُ وَبَعْضَ قَوْلِهِ، وَقَالَا: إِنَّكُمْ أَهْلُ التَّوْرَاةِ وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا. قَالَ: فَقَالَتْ لَهُمْ أَحْبَارُ يَهُودَ: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِنَّ فَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرَّجُلُ مُتَقَوِّلٌ، فَرَوا فِيهِ رَأْيَكُمْ ; سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ ؟ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ، وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ

طَافَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، مَا كَانَ نَبَؤُهُ ؟ وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، مَا هِيَ ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِذَلِكَ فَهُوَ نَبِيٌّ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ فَهُوَ رَجُلٌ مُتَقَوِّلٌ، فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ. فَأَقْبَلَ النَّضْرُ وَعُقْبَةُ حَتَّى قَدِمَا عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَمَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ أُمُورٍ. فَأَخْبَرَاهُمْ بِهَا. فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنَا. فَسَأَلُوهُ عَمَّا أَمَرُوهُمْ بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أُخْبِرُكُمْ غَدًا بِمَا سَأَلْتُمْ عَنْهُ ". وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، لَا يُحْدِثُ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَحْيًا، وَلَا يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ، حَتَّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكَّةَ، وَقَالُوا: وَعَدَنَا مُحَمَّدٌ غَدًا، وَالْيَوْمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، قَدْ أَصْبَحْنَا فِيهَا لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءٍ مِمَّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ، وَحَتَّى أَحْزَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكْثُ الْوَحْيِ عَنْهُ، وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ، ثُمَّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِسُورَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إِيَّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ، وَخَبَرُ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْفِتْيَةِ وَالرَّجُلِ الطَّوَّافِ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [ الْإِسْرَاءِ: 85 ] وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي " التَّفْسِيرِ " مُطَوَّلًا فَمَنْ أَرَادَهُ فَعَلَيْهِ بِكَشْفِهِ مِنْ هُنَاكَ.

وَنَزَلَ قَوْلُهُ: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [ الْكَهْفِ: 9 ]. ثُمَّ شَرَعَ فِي تَفْصِيلِ أَمْرِهِمْ، وَاعْتَرَضَ فِي الْوَسَطِ بِتَعْلِيمِهِ الِاسْتِثْنَاءَ، تَحْقِيقًا لَا تَعْلِيقًا، فِي قَوْلِهِ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [ الْكَهْفِ: 23، 24 ] ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ مُوسَى ; لِتَعَلُّقِهَا بِقِصَّةِ الْخَضِرِ ثُمَّ ذِي الْقَرْنَيْنِ ثُمَّ قَالَ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [ الْكَهْفِ: 83 ] ثُمَّ شَرَحَ أَمْرَهُ، وَحَكَى خَبَرَهُ، وَقَالَ فِي سُورَةِ " سُبْحَانَ ": وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أَيْ خَلْقٌ عَجِيبٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَمْرٌ مِنْ أَمْرِهِ، قَالَ لَهَا: كُونِي. فَكَانَتْ، وَلَيْسَ لَكُمُ الِاطِّلَاعُ عَلَى كُلِّ مَا خَلَقَهُ، وَتَفْسِيرُ كَيْفِيَّتِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَصْعُبُ عَلَيْكُمْ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [ الْإِسْرَاءِ: 85 ] وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ فَتَلَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ. فَإِمَّا أَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّةً ثَانِيَةً، أَوْ ذَكَرَهَا جَوَابًا، وَإِنْ كَانَ نُزُولُهَا مُتَقَدِّمًا، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَاسْتَثْنَاهَا مِنْ سُورَةِ " سُبْحَانَ "، فَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا خَشِيَ أَبُو طَالِبٍ دَهْمَاءَ الْعَرَبِ أَنْ يَرْكَبُوهُ مَعَ

قَوْمِهِ، قَالَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي تَعَوَّذَ فِيهَا بِحَرَمِ مَكَّةَ، وَبِمَكَانِهَا مِنْهَا، وَتَوَدَّدَ فِيهَا أَشْرَافَ قَوْمِهِ، وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ يُخْبِرُهُمْ وَغَيْرَهُمْ فِي شِعْرِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تَارِكُهِ لِشَيْءٍ أَبَدًا حَتَّى يَهْلِكَ دُونَهُ، فَقَالَ:
وَلَمَّا رَأَيْتُ الْقَوْمَ لَا وُدَّ فِيهِمُ وَقَدْ قَطَّعُوا كُلَّ الْعُرَى وَالْوَسَائِلِ وَقَدْ صَارَحُونَا بِالْعَدَاوَةِ وَالْأَذَى
وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ الْعَدُوِّ الْمُزَايِلِ وَقَدْ حَالَفُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنَّةً
يَعَضُّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا بِالْأَنَامِلِ صَبَرْتُ لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ. سَمْحَةٍ
وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ الْمَقَاوِلِ وَأَحْضَرْتُ عِنْدَ الْبَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي
وَأَمْسَكْتُ مِنْ أَثْوَابِهِ بِالْوَصَائِلِ قِيَامًا مَعًا مُسْتَقْبِلِينَ رِتَاجَهُ
لَدَى حَيْثُ يَقْضِي حَلْفَهُ كُلُّ نَافِلِ وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ
بِمُفْضَى السُّيُولِ مِنْ إِسَافٍ وَنَائِلِ مُوَسَّمَةَ الْأَعْضَادِ أَوْ قَصَرَاتِهَا
مُخَيَّسَةً بَيْنَ السَّدِيسِ وَبَازِلِ تَرَى الْوَدْعَ فِيهَا وَالرُّخَامَ وَزِينَةً
بِأَعْنَاقِهَا مَعْقُودَةً كَالْعَثَاكِلِ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ
عَلَيْنَا بِسُوءٍ أَوْ مُلِحٍّ بِبَاطِلِ

وَمِنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةٍ
وَمِنْ مُلْحَقٍ فِي الدِّينِ مَا لَمْ نُحَاوِلِ وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ
وَرَاقٍ لِبِرٍّ فِي حِرَاءٍ وَنَازِلِ وَبِالْبَيْتِ حَقِّ الْبَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكَّةٍ
وَبِاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلِ وَبِالْحَجَرِ الْمُسْوَدِّ إِذْ يَمْسَحُونَهُ
إِذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضُّحَى وَالْأَصَائِلِ وَمَوْطِئِ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةً
عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ وَأَشْوَاطٍ بَيْنَ الْمَرْوَتَيْنِ إِلَى الصَّفَا
وَمَا فِيهِمَا مِنْ صُورَةٍ وَتَمَاثِلِ وَمَنْ حَجَّ بَيْتَ اللَّهِ مِنْ كُلِّ رَاكِبٍ
وَمِنْ كُلِّ ذِي نَذْرٍ وَمِنْ كُلِّ رَاجِلِ وَبِالْمَشْعَرِ الْأَقْصَى إِذَا عَمَدُوا لَهُ
إِلَالًا إِلَى مُفْضَى الشِّرَاجِ الْقَوَابِلِ وَتَوْقَافِهِمْ فَوْقَ الْجِبَالِ عَشِيَّةً
يُقِيمُونَ بِالْأَيْدِي صُدُورَ الرَّوَاحِلِ وَلَيْلَةِ جَمْعٍ وَالْمَنَازِلِ مِنْ مِنًى
وَهَلْ فَوْقَهَا مِنْ حُرْمَةٍ وَمَنَازِلِ وَجَمْعٍ إِذَا مَا الْمُقْرِبَاتُ أَجَزْنَهُ
سِرَاعًا كَمَا يَخْرُجْنَ مِنْ وَقْعِ وَابِلِ وَبِالْجَمْرَةِ الْكُبْرَى إِذَا صَمَدُوا لَهَا
يَؤُمُّونَ. قَذْفًا رَأْسَهَا بِالْجَنَادِلِ وَكِنْدَةَ إِذْ هُمْ بِالْحِصَابِ عَشِيَّةً
تُجِيزُ بِهِمْ حُجَّاجُ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ

حَلِيفَانِ شَدَّا عَقْدَ مَا احْتَلَفَا لَهُ
وَرَدَّا عَلَيْهِ عَاطِفَاتِ الْوَسَائِلِ وَحَطْمِهِمُ سُمْرَ الصِّفَاحِ وَسَرْحَهُ
وَشِبْرِقَهُ وَخْدَ النَّعَامَ الْجَوَافِلِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ مُعَاذٍ لِعَائِذٍ
وَهَلْ مِنْ مُعِيذٍ يَتَّقِي اللَّهَ عَاذِلِ يُطَاعُ بِنَا الْعِدَى وَوَدُّوا لَوَ انَّنَا
تُسَدُّ بِنَا أَبْوَابُ تُرْكٍ وَكَابُلِ كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نَتْرُكَ مَكَّةً
وَنَظْعَنُ إِلَّا أَمْرُكُمْ فِي بَلَابِلِ كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نُبْزَى مُحَمَّدًا
وَلَمَّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلِ وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ
وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ وَيَنْهَضَ قَوْمٌ بِالْحَدِيدِ إِلَيْكُمُ
نُهُوضَ الرَّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصَّلَاصِلِ وَحَتَّى نَرَى ذَا الضِّغْنِ يَرْكَبُ رَدْعَهُ
مِنَ الطَّعْنِ فِعْلَ الْأَنْكَبِ الْمُتَحَامِلِ وَإِنَّا لَعَمْرُ اللَّهِ إِنْ جَدَّ مَا أَرَى
لَتَلْتَبِسَنْ أَسْيَافُنَا بِالْأَمَاثِلِ بِكَفَّيْ فَتًى مِثْلِ الشِّهَابِ سَمَيْدَعٍ
أَخِي ثِقَةٍ حَامِي الْحَقِيقَةِ بَاسِلِ شُهُورًا وَأَيَّامًا وَحَوْلًا مُجَرَّمًا
عَلَيْنَا وَتَأْتِي حُجَّةٌ بَعْدَ قَابِلِ

وَمَا تَرْكُ قَوْمٍ لَا أَبَا لَكَ سَيِّدًا
يَحُوطُ الذِّمَارَ غَيْرَ ذَرْبٍ مُوَاكِلِ وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
ثِمَالَ الْيَتَامَى عِصْمَةً لِلْأَرَامِلِ يَلُوذُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ
فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أَسِيدٌ وَبِكْرُهُ
إِلَى بُغْضِنَا وَجَزَّآنَا لِآكِلِ وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ
وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ تِلْكَ الْقَبَائِلِ أَطَاعَا أُبَيًّا وَابْنَ عَبْدِ يَغُوثِهِمْ
وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا مَقَالَةَ قَائِلِ كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ وَنَوْفَلٍ
وَكُلٌّ تَوَلَّى مُعْرِضًا لَمْ يُجَامِلِ فَإِنْ يُلْفَيَا أَوْ يُمْكِنِ اللَّهُ مِنْهُمَا
نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا بِصَاعِ الْمُكَايِلِ. وَذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أَبَى غَيْرَ بُغْضِنَا
لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ يُنَاجِي بِنَا فِي كُلِّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ
فَنَاجِ أَبَا عَمْرٍو بِنَا ثُمَّ خَاتَلِ وَيُؤْلِي لَنَا بِاللَّهِ مَا إِنْ يَغُشُّنَا
بَلَى قَدْ نَرَاهُ جَهْرَةً غَيْرَ حَائِلِ أَضَاقَ عَلَيْهِ بُغْضُنَا كُلَّ تَلْعَةٍ
مِنَ الْأَرْضِ بَيْنَ أَخْشُبٍ فَمُجَادِلِ

وَسَائِلْ أَبَا الْوَلِيدِ مَاذَا حَبَوْتَنَا
بِسَعْيِكَ فِينَا مُعْرِضًا كَالْمُخَاتِلِ وَكُنْتَ امْرَأً مِمَّنْ يُعَاشُ بِرَأْيِهِ
وَرَحْمَتِهِ فِينَا وَلَسْتَ بِجَاهِلِ فَعُتْبَةُ لَا تَسْمَعْ بِنَا قَوْلَ كَاشِحٍ
حَسُودٍ كَذُوبٍ مُبْغِضٍ ذِي دَغَاوِلِ وَمَرَّ أَبُو سُفْيَانَ عَنِّي مُعْرِضًا
كَمَا مَرَّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ الْمَقَاوِلِ يَفِرُّ إِلَى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ
وَيَزْعُمُ أَنِّي لَسْتُ عَنْكُمْ بِغَافِلِ وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ الْمُنَاصِحِ أَنَّهُ
شَفِيقٌ وَيُخْفِي عَارِمَاتِ الدَّوَاخِلِ أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذُلْكَ فِي يَوْمِ نَجْدَةٍ
وَلَا مُعْظِمٍ عِنْدَ الْأُمُورِ الْجَلَائِلِ وَلَا يَوْمِ خَصْمٍ إِذْ أَتَوْكَ أَلِدَّةً
أُولِي جَدَلٍ مِنَ الْخُصُومِ الْمُسَاجِلِ أَمُطْعِمُ إِنَّ الْقَوْمَ سَامُوكَ خُطَّةً
وَإِنِّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْتُ بِوَائِلِ جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا
عُقُوبَةَ شَرٍّ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلِ بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يُخِسُّ شَعِيرَةً
لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدَّلُوا
بَنِي خَلَفٍ قَيْضَا بِنَا وَالْغَيَاطِلِ وَنَحْنُ الصَّمِيمُ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ
وَآلِ قُصَيٍّ فِي الْخُطُوبِ الْأَوَائِلِ

وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلَّبُوا
عَلَيْنَا الْعِدَى مِنْ كُلِّ طِمْلٍ وَخَامِلِ فَعَبْدَ مَنَافٍ أَنْتُمْ خَيْرُ قَوْمِكُمْ
فَلَا تُشْرِكُوا فِي أَمْرِكُمْ كَلَّ وَاغِلِ لَعَمْرِي لَقَدْ وَهَنْتُمُ وَعَجَزْتُمُ
وَجِئْتُمْ بِأَمْرٍ مُخْطِئٍ لِلْمَفَاصِلِ وَكُنْتُمْ حَدِيثًا حَطْبَ قَدْرٍ وَأَنْتُمُ
أَلَانَ حِطَابُ أَقْدُرٍ وَمَرَاجِلِ لِيَهْنِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عُقُوقُنَا
. وَخِذْلَانُنَا وَتَرْكُنَا فِي الْمَعَاقِلِ فَإِنْ نَكُ قَوْمًا نَتَّئِرْ مَا صَنَعْتُمُ
وَتَحْتَلِبُوهَا لِقْحَةً غَيْرَ بَاهِلِ وَسَائِطُ كَانَتْ فِي لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ
نَفَاهُمْ إِلَيْنَا كُلَّ صَقْرٍ حُلَاحِلِ وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرُّ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى
وَأَلْأَمُ حَافٍ مِنْ مَعَدٍّ وَنَاعِلِ فَأَبْلِغْ قُصَيًّا أَنْ سَيُنْشَرُ أَمْرُنَا
وَبَشِّرْ قُصِيًّا بَعْدَنَا بِالتَّخَاذُلِ وَلَوْ طَرَقَتْ لَيْلًا قُصَيًّا عَظِيمَةٌ
إِذَا مَا لَجَأْنَا دُونَهُمْ فِي الْمَدَاخِلِ وَلَوْ صَدَقُوا ضَرْبًا خِلَالَ بُيُوتِهِمْ
لَكُنَّا أُسًى عِنْدَ النِّسَاءِ الْمَطَافِلِ فَكُلُّ صَدِيقٍ وَابْنُ أُخْتٍ نَعُدُّهُ
لَعَمْرِي وَجَدْنَا غِبَّهُ غَيْرَ طَائِلِ

سِوَى أَنَّ رَهْطًا مِنْ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ
بَرَاءٌ إِلَيْنَا مِنْ مَعَقَّةِ خَاذِلِ وَهَنَّا لَهُمْ حَتَّى تَبَدَّدَ جَمْعُهُمْ
وَيَحْسُرَ عَنَّا كُلُّ بَاغٍ وَجَاهِلِ وَكَانَ لَنَا حَوْضُ السِّقَايَةِ فِيهِمُ
وَنَحْنُ الْكُدَى مِنْ غَالِبٍ وَالْكَوَاهِلِ شَبَابٌ مِنَ الْمُطَّيِّبِينَ وَهَاشِمٍ
كَبِيضِ السُّيُوفِ بَيْنَ أَيْدِي الصَّيَاقِلِ فَمَا أَدْرَكُوا ذَحْلًا وَلَا سَفَكُوا دَمًا
وَلَا حَالَفُوا إِلَّا شِرَارَ الْقَبَائِلِ بِضَرْبٍ تَرَى الْفِتْيَانَ فِيهِ كَأَنَّهُمْ
ضَوَارِي أُسُودٍ فَوْقَ لَحْمٍ خَرَادِلِ بَنِي أَمَةٍ مَحْبُوبَةٍ هِنْدِكِيَّةٍ
بَنِي جُمَحٍ عُبَيْدِ قَيْسِ بْنِ عَاقِلِ وَلَكِنَّنَا نَسْلٌ كِرَامٌ لِسَادَةٍ
بِهِمْ نُعِيَ الْأَقْوَامُ عِنْدَ الْبَوَاطِلِ وَنِعْمَ ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ غَيْرَ مُكَذَّبٍ
زُهَيْرٌ حُسَامًا مُفْرَدًا مَنْ حَمَائِلِ أَشَمُّ مِنَ الشُّمِّ الْبَهَالِيلِ يَنْتَمِي
إِلَى حَسَبٍ فِي حَوْمَةِ الْمَجْدِ فَاضِلِ لَعَمْرِي لَقَدْ كُلِّفْتُ وَجْدًا بِأَحْمَدٍ
وَإِخْوَتِهِ دَأْبَ الْمُحِبِّ الْمُوَاصِلِ فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النَّاسِ أَيُّ مُؤَمَّلٍ
إِذَا قَاسَهُ الْحُكَّامُ عِنْدَ التَّفَاضُلِ

حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ
يُوَالِي إِلَهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ كَرِيمُ الْمَسَاعِي مَاجِدٌ وَابْنُ مَاجِدٍ
لَهُ إِرْثُ مَجْدٍ ثَابِتٍ غَيْرِ نَاصِلِ وَأَيَّدَهُ رَبُّ. الْعِبَادِ بِنَصْرِهِ
وَأَظْهَرَ دِينًا حَقُّهُ غَيْرُ زَائِلِ فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ أَجِيءَ بِسُبَّةٍ
تُجَرُّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي الْمَحَافِلِ لَكُنَّا اتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ
مِنَ الدَّهْرِ جِدًّا غَيْرَ قَوْلِ التَّهَازُلِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبٌ
لَدَيْنَا وَلَا يُعْنَى بِقَوْلِ الْأَبَاطِلِ فَأَصْبَحَ فِينَا أَحْمَدٌ فِي أَرُومَةٍ
تُقَصِّرُ عَنْهَا سُورَةُ الْمُتَطَاوِلِ حَدِبْتُ بِنَفْسِي دُونَهُ وَحَمَيْتُهُ
وَدَافَعْتُ عَنْهُ بِالذَّرَا وَالْكَلَاكِلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا مَا صَحَّ لِي مِنْ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ أَكْثَرَهَا.
قُلْتُ: هَذِهِ قَصِيدَةٌ عَظِيمَةٌ فَصِيحَةٌ بَلِيغَةٌ جِدًّا ; لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَهَا إِلَّا

مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ، وَهِيَ أَفْحَلُ مِنَ الْمُعَلَّقَاتِ السَّبْعِ، وَأَبْلَغُ فِي تَأْدِيَةِ الْمَعْنَى مِنْهَا جَمِيعًا، وَقَدْ أَوْرَدَهَا الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ " مُطَوَّلَةً بِزِيَادَاتٍ أُخَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ ( تَعْذِيبُ قُرَيْشٍ لِلْمُسْلِمِينَ لِاتِّبَاعِهِمُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ )
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّهُمْ عَدَوْا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَاتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَصْحَابِهِ، فَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلُوا يَحْبِسُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ بِالضَّرْبِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَبِرَمْضَاءِ مَكَّةَ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ ; مَنِ اسْتَضْعَفُوهُ مِنْهُمْ، يَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُفْتَنُ مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ الَّذِي يُصِيبُهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْلُبُ لَهُمْ، وَيَعْصِمُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَكَانَ بِلَالٌ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ لِبَعْضِ بَنِي جُمَحَ مُوَلَّدًا مِنْ مُوَلَّدِيهِمْ، وَهُوَ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ وَكَانَ اسْمُ أُمِّهِ حَمَامَةَ، وَكَانَ صَادِقَ الْإِسْلَامِ، طَاهِرَ الْقَلْبِ، وَكَانَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ يُخْرِجُهُ إِذَا حَمِيَتِ الظَّهِيرَةُ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: لَا وَاللَّهِ لَا تَزَالُ هَكَذَا حَتَّى تَمُوتَ، أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، وَتَعْبُدَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. فَيَقُولُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ: أَحَدٌ أَحَدٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ يَمُرُّ بِهِ وَهُوَ يُعَذَّبُ بِذَلِكَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، فَيَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ وَاللَّهِ يَا بِلَالُ. ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَمَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِهِ مِنْ بَنِي جُمَحَ، فَيَقُولُ:

أَحْلِفُ بِاللَّهِ، لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذَا لَأَتَّخِذَنَّهُ حَنَانًا.
قُلْتُ: قَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ وَرَقَةَ تُوُفِّيَ بَعْدَ الْبَعْثَةِ فِي فَتْرَةِ الْوَحْيِ، وَإِسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ نُزُولِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فَكَيْفَ يَمُرُّ وَرَقَةُ بِبِلَالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ ؟ وَفِيهِ نَظَرٌ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مُرُورَ أَبِي بَكْرٍ بِبِلَالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ، فَاشْتَرَاهُ مِنْ أُمَيَّةَ بِعَبْدٍ لَهُ أَسْوَدَ، فَأَعْتَقَهُ وَأَرَاحَهُ مِنَ الْعَذَابِ، وَذَكَرَ مُشْتَرَاهُ لِجَمَاعَةٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ ; مِنْهُمْ بِلَالٌ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَأُمُّ عُبَيْسٍ، وَزِنِّيرَةُ الَّتِي أُصِيبَ بَصَرُهَا ثُمَّ رَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا، وَالنَّهْدِيَّةُ وَابْنَتُهَا اشْتَرَاهُمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، بَعَثَتْهُمَا سَيِّدَتُهُمَا تَطْحَنَانِ لَهَا، فَسَمِعَهَا وَهِيَ تَقُولُ لَهُمَا: وَاللَّهِ لَا أُعْتِقُكُمَا أَبَدًا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حِلًّا يَا أُمَّ فُلَانٍ. فَقَالَتْ: حِلًّا، أَنْتَ أَفْسَدْتَهُمَا فَأَعْتِقْهُمَا. قَالَ: فَبِكَمْ هُمَا ؟ قَالَتْ: بِكَذَا وَكَذَا. قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُمَا، وَهُمَا حُرَّتَانِ، أَرْجِعَا إِلَيْهَا طَحِينَهَا. قَالَتَا: أَوْ نَفْرَغُ مِنْهُ يَا أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ نَرُدُّهُ إِلَيْهَا ؟ قَالَ: ذَلِكَ إِنْ شِئْتُمَا: وَاشْتَرَى جَارِيَةً بَنِي مُؤَمَّلٍ حَيٌّ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَتِيقٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، قَالَ: قَالَ أَبُو قُحَافَةَ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي أَرَاكَ تَعْتِقُ ضِعَافًا، فَلَوْ أَنَّكَ إِذْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ أَعْتَقْتَ رِجَالًا جُلَدَاءَ يَمْنَعُونَكَ وَيَقُومُونَ دُونَكَ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا أَبَتِ إِنِّي إِنَّمَا أُرِيدُ مَا أُرِيدُ. قَالَ: فَيُتَحَدَّثُ أَنَّهُ مَا أُنْزِلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ إِلَّا فِيهِ وَفِيمَا قَالَ أَبُوهُ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [ اللَّيْلِ: 57 ] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ زِرٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ سَبْعَةٌ ; رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعَمَّارٌ وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ وَبِلَالٌ وَالْمِقْدَادُ فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنَعَهُ اللَّهُ بِعَمِّهِ وَأَبُو بَكْرٍ مَنَعَهُ اللَّهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ، وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلَّا بِلَالًا فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ، فَأَخَذُوهُ فَأَعْطَوْهُ الْوِلْدَانَ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ بَنُو مَخْزُومٍ يَخْرُجُونَ بِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَبِيهِ

وَأُمِّهِ وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ إِسْلَامٍ إِذَا حَمِيَتِ الظَّهِيرَةُ يُعَذِّبُونَهُمْ بِرَمْضَاءِ مَكَّةَ، فَيَمُرُّ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقُولُ فِيمَا بَلَغَنِي: صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمُ الْجَنَّةُ
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عِصْمَةَ الْعَدْلِ حَدَّثَنَا السَّرِيُّ بْنُ خُزَيْمَةَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِعَمَّارٍ وَأَهْلِهِ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ، فَقَالَ: " أَبْشِرُوا آلَ عَمَّارٍ وَآلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ ". فَأَمَّا أُمُّهُ فَقَتَلُوهَا ; تَأْبَى إِلَّا الْإِسْلَامَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَوَّلُ شَهِيدٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ اسْتُشْهِدَ أُمُّ عَمَّارٍ سُمَيَّةُ، طَعَنَهَا أَبُو جَهْلٍ بِحَرْبَةٍ فِي قُبُلِهَا. وَهَذَا مُرْسَلٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ الْفَاسِقُ الَّذِي يُغْرِي بِهِمْ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ، إِذَا سَمِعَ بِالرَّجُلِ قَدْ أَسْلَمَ لَهُ شَرَفٌ وَمَنَعَةٌ، أَنَّبَهُ وَخَزَّاهُ، وَقَالَ: تَرَكْتَ دِينَ أَبِيكَ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، لَنُسَفِّهَنَّ حِلْمَكَ، وَلَنُفَيِّلَنَّ رَأْيَكَ،

وَلَنَضَعَنَّ شَرَفَكَ. وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا قَالَ: وَاللَّهِ لَنُكْسِدَنَّ تِجَارَتَكَ، وَلَنُهْلِكَنَّ مَالَكَ. وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا ضَرَبَهُ، وَأَغْرَى بِهِ. لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَبْلُغُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْعَذَابِ مَا يُعْذَرُونَ بِهِ فِي تَرْكِ دِينِهِمْ ؟ قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ، إِنْ كَانُوا لَيَضْرِبُونِ أَحَدَهُمْ وَيُجِيعُونَهُ وَيُعَطِّشُونَهُ، حَتَّى مَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْتَوِيَ جَالِسًا مِنْ شِدَّةِ الضُّرِّ الَّذِي بِهِ، حَتَّى يُعْطِيَهُمْ مَا سَأَلُوهُ مِنَ الْفِتْنَةِ، حَتَّى يَقُولُوا لَهُ: اللَّاتُ وَالْعُزَّى إِلَهُكَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. افْتِدَاءً مِنْهُمْ ; مِمَّا يَبْلُغُونَ مِنْ جُهْدِهِمْ.
قُلْتُ: وَفِي مِثْلِ هَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ الْآيَةَ [ النَّحْلِ: 106 ] فَهَؤُلَاءِ كَانُوا مَعْذُورِينَ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْإِهَانَةِ وَالْعَذَابِ الْبَلِيغِ. أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَيْنًا، وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ

بِمُحَمَّدٍ. فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ، ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: فَإِنِّي إِذَا مُتُّ ثُمَّ بُعِثْتُ، جِئْتَنِي وَلِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأُعْطِيكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا إِلَى قَوْلِهِ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا [ مَرْيَمَ: 77 - 80 ] أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: كُنْتُ قَيْنًا بِمَكَّةَ فَعَمِلْتُ لِلْعاصِ بْنِ وَائِلٍ سَيْفًا، فَجِئْتُ أَتَقَاضَاهُ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا بَيَانٌ وَإِسْمَاعِيلُ قَالَا: سَمِعْنَا قَيْسًا يَقُولُ: سَمِعْتُ خَبَّابًا يَقُولُ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بِبُرْدَةٍ وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً، فَقَلْتُ أَلَا تَدْعُو اللَّهَ ؟ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ، فَقَالَ: " قَدْ كَانَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مِفْرَقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ". زَادَ بَيَانٌ " وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ " وَفِي

رِوَايَةٍ: " وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ". انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ. وَقَدْ رَوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ خَبَّابٍ وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ. ح وَابْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِدَّةَ الرَّمْضَاءِ، فَمَا أَشْكَانَا. يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: فَلَمْ يُشْكِنَا. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ وَهْبٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ خَبَّابًا يَقُولُ: شَكَوْنَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِدَّةَ الرَّمْضَاءِ، فَلَمْ يُشْكِنَا. قَالَ شُعْبَةُ: يَعْنِي فِي الظُّهْرِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّ الرَّمْضَاءِ. زَادَ الْبَيْهَقِيُّ: فِي وُجُوهِنَا وَأَكُفِّنَا، فَلَمْ يُشْكِنَا. وَفِي رِوَايَةٍ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّلَاةَ فِي الرَّمْضَاءِ، فَلَمْ يُشْكِنَا. وَرَوَاهُ ابْنُ

مَاجَهْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيِّ عَنْ وَكِيعٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ الْعَبْدِيِّ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّ الرَّمْضَاءِ، فَلَمْ يُشْكِنَا. وَالَّذِي يَقَعُ لِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُخْتَصَرٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ شَكَوْا إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَلْقَوْنَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ التَّعْذِيبِ بِحَرِّ الرَّمْضَاءِ، وَأَنَّهُمْ يَسْحَبُونَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ فَيَتَّقُونَ بِأَكُفِّهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ، وَسَأَلُوا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لَهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، أَوْ يَسْتَنْصِرَ عَلَيْهِمْ، فَوَعَدَهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْجِزْهُ لَهُمْ فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ عَمَّنْ كَانَ قَبْلَهُمْ ; أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْقَوْنَ مِنَ الْعَذَابِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا أَصَابَهُمْ، وَلَا يَصْرِفُهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِمْ، وَيُبَشِّرُهُمْ أَنَّ اللَّهَ سَيُتِمُّ هَذَا الْأَمْرَ، وَيُظْهِرُهُ، وَيُعْلِيهِ، وَيَنْشُرُهُ، وَيَنْصُرُهُ فِي الْأَقَالِيمِ وَالْآفَاقِ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ; وَلِهَذَا قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي وُجُوهِنَا وَأَكُفِّنَا، فَلَمْ يُشْكِنَا أَيْ لَمْ يَدْعُ لَنَا فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، فَمَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ الْإِبْرَادِ أَوْ عَلَى وُجُوبِ مُبَاشَرَةِ الْمُصَلِّي بِالْكَفِّ، كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ فَفِيهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ: مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِقَامَتِهِ الْحُجَّةَ الدَّامِغَةَ عَلَيْهِمْ، وَاعْتِرَافِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بِالْحَقِّ، وَإِنْ أَظْهَرُوا الْمُخَالِفَةَ ; عِنَادًا وَحَسَدًا، وَبَغْيًا، وَجُحُودًا
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: يَا عَمِّ، إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا. قَالَ: لِمَ ؟ قَالَ: لِيُعْطُوكَهُ، فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ. قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي أَكْثَرُهَا مَالًا. قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ. قَالَ: وَمَاذَا أَقُولُ ؟ فَوَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمُ بِرَجَزِهِ، وَلَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي، وَلَا

بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُهُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُوَ وَلَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ. قَالَ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ. قَالَ: فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ فِيهِ. فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثِرُ ; يَأْثُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ فَنَزَلَتْ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا الْآيَاتِ. [ الْمُدَّثِّرِ: 11 - 13 ] هَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الصَّنْعَانِيِّ بِمَكَّةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا. وَفِيهِ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ النَّحْلِ: 90 ]
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ وَنَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمُ، فَقَالَ: إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا وَلَا

تَخْتَلِفُوا فَيُكَذِّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَرُدُّ قَوْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا. فَقِيلَ: يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ فَقُلْ: وَأَقِمْ لَنَا رَأَيَا نَقُومُ بِهِ. فَقَالَ: بَلْ أَنْتُمْ، فَقُولُوا وَأَنَا أَسْمَعُ. فَقَالُوا: نَقُولُ: كَاهِنٌ. فَقَالَ: مَا هُوَ بِكَاهِنٍ ; فَقَدْ رَأَيْتُ الْكُهَّانَ، فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكُهَّانِ. فَقَالُوا: نَقُولُ: مَجْنُونٌ. فَقَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ، وَلَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ، وَعَرَفْنَاهُ فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ وَلَا تَخَالُجِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ. فَقَالَ نَقُولُ: شَاعِرٌ. فَقَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ بِرَجَزِهِ، وَهَزَجِهِ، وَقَرِيضِهِ، وَمَقْبُوضِهِ، وَمَبْسُوطِهِ، فَمَا هُوَ بِالشِّعْرِ قَالُوا فَنَقُولُ: هُوَ سَاحِرٌ. قَالَ: مَا هُوَ بِسَاحِرٍ، قَدْ رَأَيْنَا السُّحَّارَ وَسِحْرَهُمْ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِ، وَلَا بِعَقْدِهِ. قَالُوا: فَمَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ ؟ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ أَصْلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَإِنَّ فَرْعَهُ لَجَنًى، فَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا عُرِفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ لَأَنْ تَقُولُوا: سَاحِرٌ. فَتَقُولُوا: هُوَ سَاحِرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجَتِهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ. فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ، فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ لِلنَّاسِ حَتَّى قَدِمُوا الْمَوْسِمَ، لَا يَمُرُّ بِهِمْ أَحَدٌ إِلَّا حَذَّرُوهُ إِيَّاهُ، وَذَكَرُوا لَهُمْ أَمَرَهُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْوَلِيدِ قَوْلَهُ: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا الْآيَاتِ. وَفِي أُولَئِكَ النَّفَرِ

قَوْلَهُ: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ الْحِجْرِ: 91 - 93 ]
قُلْتُ: وَفِي ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 5 ]. فَحَارُوا مَاذَا يَقُولُونَ فِيهِ، فَكُلُّ شَيْءٍ يَقُولُونَهُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْحَقِّ مَهْمَا قَالَهُ أَخْطَأَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [ الْفَرْقَانِ: 9 ]
وَقَالَ الْإِمَامُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنِ الْأَجْلَحِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ عَنِ الذَّيَّالِ بْنِ حَرْمَلَةَ الْأَسَدِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: اجْتَمَعَ قُرَيْشٌ يَوْمًا، فَقَالُوا: انْظُرُوا أَعْلَمَكُمْ بِالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ، فَلْيَأْتِ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، فَلْيُكَلِّمْهُ وَلْيَنْظُرْ مَاذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا غَيْرَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. فَقَالُوا: أَنْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ. فَأَتَاهُ عُتْبَةُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْكَ، فَقَدْ عَبَدُوا الْآلِهَةَ الَّتِي عِبْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ خَيْرٌ مِنْهُمْ فَتَكَلَّمْ حَتَّى

نَسْمَعَ قَوْلَكَ، إِنَّا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا سَخْلَةً قَطُّ أَشْأَمَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْكَ ; فَرَّقْتَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَّ أَمْرَنَا، وَعِبْتَ دِينَنَا، وَفَضَحْتَنَا فِي الْعَرَبِ، حَتَّى لَقَدْ طَارَ فِيهِمْ أَنَّ فِي قُرَيْشٍ سَاحِرًا، وَأَنَّ فِي قُرَيْشٍ كَاهِنًا، وَاللَّهِ مَا نَنْتَظِرُ إِلَّا مِثْلَ صَيْحَةِ الْحُبْلَى، أَنْ يَقُومَ بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ حَتَّى نَتَفَانَى، أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنْ كَانَ إِنَّمَا بِكَ الْحَاجَةُ، جَمَعْنَا لَكَ حَتَّى تَكُونَ أَغْنَى قُرَيْشٍ رَجُلًا، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا بِكَ الْبَاءَةُ فَاخْتَرْ أَيَّ نِسَاءِ قُرَيْشٍ شِئْتَ، فَلْنُزَوِّجْكَ عَشْرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَرَغْتَ ؟ ". قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِلَى أَنْ بَلَغَ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ فَقَالَ عُتْبَةُ: حَسْبُكَ حَسْبُكَ، مَا عِنْدَكَ غَيْرَ هَذَا ؟ قَالَ: " لَا ". فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ ؟ قَالَ مَا تَرَكْتُ شَيْئًا أَرَى أَنَّكُمْ تُكَلِّمُونَهُ إِلَّا كَلَّمْتُهُ. قَالُوا: فَهَلْ أَجَابَكَ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ: لَا وَالَّذِي نَصَبَهَا بَنِيَّةً، مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَ، غَيْرَ أَنَّهُ أَنْذَرَكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ. قَالُوا: وَيْلَكَ يُكَلِّمُكَ الرَّجُلُ بِالْعَرَبِيَّةِ لَا تَدْرِي مَا قَالَ ؟ ! قَالَ: لَا وَاللَّهِ، مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَ، غَيْرَ ذِكْرِ الصَّاعِقَةِ.

وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنِ الْأَجْلَحِ بِهِ. وَفِيهِ كَلَامٌ، وَزَادَ: وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا بِكَ الرِّيَاسَةُ عَقَدْنَا أَلْوِيَتَنَا لَكَ، فَكُنْتَ رَأْسَنَا مَا بَقِيتَ. وَعِنْدَهُ: أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ أَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ، وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى أَهْلِهِ، وَاحْتَبَسَ عَنْهُمْ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ مَا نَرَى عُتْبَةَ إِلَّا صَبَأَ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَأَعْجَبَهُ طَعَامُهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ أَصَابَتْهُ، انْطَلِقُوا بِنَا إِلَيْهِ. فَأَتَوْهُ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ يَا عُتْبَةُ مَا جِئْنَا إِلَّا أَنَّكَ صَبَوْتَ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَأَعْجَبَكَ أَمْرُهُ، فَإِنْ كَانَ بِكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا يُغْنِيكَ عَنْ طَعَامِ مُحَمَّدٍ. فَغَضِبَ وَأَقْسَمَ بِاللَّهِ لَا يُكَلِّمُ مُحَمَّدًا أَبَدًا، وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، وَلَكِنِّي أَتَيْتُهُ وَقَصَّ عَلَيْهِمُ الْقِصَّةَ فَأَجَابَنِي بِشَيْءٍ وَاللَّهِ مَا هُوَ بِسِحْرٍ وَلَا بِشِعْرٍ وَلَا كِهَانَةٍ، قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حَتَّى بَلَغَ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [ فُصِّلَتْ: 113 ] فَأَمْسَكْتُ بِفِيهِ، وَنَاشَدْتُهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِبْ، فَخِفْتُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْكُمُ الْعَذَابُ.

ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَكَانَ سَيِّدًا حَلِيمًا قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ وَحْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَلَا أَقُومُ إِلَى هَذَا فَأُكَلِّمُهُ فَأَعْرِضُ عَلَيْهِ أُمُورًا، لَعَلَّهُ يَقْبَلُ بَعْضَهَا وَيَكُفُّ عَنَّا ؟ قَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ. فَقَامَ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِيمَا قَالَ لَهُ عُتْبَةُ وَفِيمَا عَرَضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَالِ، وَالْمُلْكِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ زِيَادٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَقَالَ عُتْبَةُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَلَا أَقُومُ إِلَى مُحَمَّدٍ فَأُكَلِّمُهُ، وَأَعْرِضُ عَلَيْهِ أُمُورًا لَعَلَّهُ يَقْبَلُ بَعْضَهَا، فَنُعْطِيهِ أَيُّهَا شَاءَ وَيَكُفُّ عَنَّا وَذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَزِيدُونَ وَيَكْثُرُونَ فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ فَقُمْ إِلَيْهِ فَكَلِّمْهُ. فَقَامَ إِلَيْهِ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنَ السِّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ، وَالْمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ، وَسَفَّهْتَ

بِهِ أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَكَفَّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنِّي حَتَّى أَعْرِضَ عَلَيْكَ أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا، لَعَلَّكَ تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا. قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعُ ". قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا، جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا، سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ، وَإِنْ كُنْتُ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رَئِيًّا تَرَاهُ، لَا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ عَنْ نَفْسِكَ طَلَبْنَا لَكَ الطِّبَّ، وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا، حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَ التَّابِعُ عَلَى الرَّجُلِ، حَتَّى يُدَاوَى مِنْهُ. أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ. حَتَّى إِذَا فَرَغَ عُتْبَةُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَمِعُ مِنْهُ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ ؟ ". قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " فَاسْمَعْ مِنِّي ". قَالَ: أَفْعَلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَؤُهَا، فَلَمَّا سَمِعَ بِهَا عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا، وَأَلْقَى بِيَدَيْهِ خَلْفَهُ أَوْ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا ; لِيَسْمَعَ مِنْهُ، حَتَّى انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى السَّجْدَةِ فَسَجَدَهَا، ثُمَّ قَالَ: " سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ ؟ ". قَالَ: سَمِعْتُ. قَالَ: " فَأَنْتَ وَذَاكَ ". ثُمَّ قَامَ عُتْبَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: نَحْلِفُ بِاللَّهِ، لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ. فَلَمَّا جَلَسُوا إِلَيْهِ، قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ ؟ قَالَ: وَرَائِي أَنِّي وَاللَّهِ قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا

مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلَا الْكِهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، خَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ وَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ نَبَأً، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ، فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ، فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، قَالُوا: سَحَرَكَ وَاللَّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ. قَالَ: هَذَا رَأْيِي لَكُمْ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ شِعْرًا قَالَهُ أَبُو طَالِبٍ يَمْدَحُ فِيهِ عُتْبَةَ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الْأَصْبَهَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ الْآدَمِيُّ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أَيُّوبَ أَحْمَدُ بْنُ بِشْرٍ الطَّيَالِسِيُّ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى بْنُ زُرْعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَتَى أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا قَوْمِ، أَطِيعُونِي فِي هَذَا الْأَمْرِ الْيَوْمَ، وَاعْصُونِي فِيمَا بَعْدَهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ كَلَامًا مَا سَمِعَتْ أُذُنَايَ كَلَامًا مِثْلَهُ، وَمَا دَرَيْتُ مَا أَرُدُّ عَلَيْهِ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ

عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ وَأَبَا سُفْيَانَ وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْمَعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ، فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا لِيَسْتَمِعَ مِنْهُ، وَكُلٌّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ صَاحِبِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا أَصْبَحُوا وَطَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فَتَلَاوَمُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَا تَعُودُوا فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا. ثُمَّ انْصَرَفُوا، حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ، عَادَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى مَجْلِسِهِ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ. ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ، أَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ، فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرَّقُوا، فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالُوا: لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَتَعَاهَدَ أَنْ لَا نَعُودَ فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ. فَقَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا. فَقَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ ؟ فَقَالَ: مَاذَا سَمِعْتُ ! تَنَازَعْنَا نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ ; أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَجَاثَيْنَا عَلَى الرُّكَبِ، وَكُنَّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ ؟ وَاللَّهِ لَا نَسْمَعُ بِهِ أَبَدًا، وَلَا نُصَدِّقُهُ. فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ

ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ يَوْمٍ عَرَفْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي كُنْتُ أَمْشِي أَنَا وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ مَكَّةَ، إِذْ لَقِيَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي جَهْلٍ: " يَا أَبَا الْحَكَمِ هَلُمَّ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ ". فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ أَنْتَ مُنْتَهٍ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا ؟ هَلْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ نَشْهَدَ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ ؟ فَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّ قَدْ بَلَّغْتَ، فَوَاللَّهِ لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ مَا تَقُولُ حَقٌّ لَاتَّبَعْتُكَ. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقْبَلَ عَلِيٌّ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ مَا يَقُولُ حَقٌّ، وَلَكِنْ يَمْنَعُنِي شَيْءٌ ; إِنَّ بَنِي قُصَيٍّ، قَالُوا: فِينَا الْحِجَابَةُ. فَقُلْنَا: نَعَمْ. ثُمَّ قَالُوا: فِينَا السِّقَايَةُ. فَقُلْنَا: نَعَمْ. ثُمَّ قَالُوا: فِينَا النَّدْوَةُ. فَقُلْنَا: نَعَمْ. ثُمَّ قَالُوا فِينَا اللِّوَاءُ. فَقُلْنَا: نَعَمْ. ثُمَّ أَطْعَمُوا وَأَطْعَمْنَا، حَتَّى إِذَا تَحَاكَّتِ الرُّكَبُ، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ. وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو بَكْرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ

حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: مَرَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي سُفْيَانَ وَهُمَا جَالِسَانِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا نَبِيُّكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَتَعْجَبُ أَنْ يَكُونَ مِنَّا نَبِيٌّ ! فَالنَّبِيُّ يَكُونُ فِيمَنْ أَقَلُّ مِنَّا وَأَذَلُّ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: عَجَبٌ أَنْ يَخْرُجَ غُلَامٌ مِنْ بَيْنِ شُيُوخٍ نَبِيًّا. وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْمَعُ فَأَتَاهُمَا، فَقَالَ: " أَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا سُفْيَانَ فَمَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ غَضِبْتَ، وَلَكِنَّكَ حَمِيتَ لِلْأَصْلِ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا الْحَكَمِ فَوَاللَّهِ لَتَضْحَكَنَّ قَلِيلًا، وَلَتَبْكِيَنَّ كَثِيرًا ". فَقَالَ: بِئْسَمَا تَعِدُنِي يَا ابْنَ أَخِي مِنْ نُبُوَّتِكَ. هَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِيهِ غَرَابَةٌ.
وَقَوْلُ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُ وَعَنْ أَضِرَابِهِ: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [ الْفَرْقَانِ: 41 - 42 ]
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَارٍ بِمَكَّةَ: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا [ الْإِسْرَاءِ: 110 ]. قَالَ: كَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَسَبُّوا مَنْ أَنْزَلَهُ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ. قَالَ: فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ أَيْ بِقِرَاءَتِكَ، فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ، فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعُهُمُ الْقُرْآنَ، حَتَّى يَأْخُذُوهُ عَنْكَ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا

وَهَكَذَا رَوَاهُ صَاحِبَا " الصَّحِيحِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي بِشْرٍ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ بِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَهَرَ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ يُصَلِّي، تَفَرَّقُوا عَنْهُ، وَأَبَوْا أَنْ يَسْتَمِعُوا مِنْهُ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ بَعْضَ مَا يَتْلُو وَهُوَ يُصَلِّي اسْتَرَقَ السَّمْعَ دُونَهُمْ ; فَرَقًا مِنْهُمْ، فَإِنْ رَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ يَسْتَمِعُ، ذَهَبَ خَشْيَةَ أَذَاهُمْ، فَلَمْ يَسْتَمِعْ، فَإِنْ خَفَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْمَعِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ مِنْ قِرَاءَتِهِ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ فَيَتَفَرَّقُوا عَنْكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا فَلَا يَسْمَعُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَهَا مِمَّنْ يَسْتَرِقُ ذَلِكَ، لَعَلَّهُ يَرْعَوِي إِلَى بَعْضِ مَا يَسْمَعُ، فَيَنْتَفِعُ بِهِ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا

بَابُ هِجْرَةِ مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِرَارًا بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَذِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانُوا يُعَامِلُونَهُمْ بِهِ مِنَ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ، وَالْإِهَانَةِ الْبَالِغَةِ، وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ حَجَزَهُمْ عَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنَعَهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ خُرُوجَهُمْ إِلَيْهَا فِي رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْبِعْثَةِ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَأَنَّهُمُ انْتَهَوْا إِلَى الْبَحْرِ مَا بَيْنَ مَاشٍ وَرَاكِبٍ، فَاسْتَأْجَرُوا سَفِينَةً بِنِصْفِ دِينَارٍ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَامْرَأَتُهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ وَامْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَامْرَأَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ،

وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَنْزِيُّ وَامْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ، وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ. وَيُقَالُ: حَاطِبُ بْنُ عَمْرٍو وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانُوا اثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ رَجُلًا، سِوَى نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ. فَشَكَّ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ كَانُوا ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ بِمَكَانِهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ، قَالَ لَهُمْ: " لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ; فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجَا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ. فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ; مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ، وَفِرَارًا إِلَى اللَّهِ بِدِينِهِمْ، فَكَانَتْ أَوَّلَ هِجْرَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ مِنَ

الْمُسْلِمِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَوْجَتُهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَكَذَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ عَنْ عَبَّاسٍ الْعَنْبَرِيِّ عَنْ بَشَّارِ بْنِ مُوسَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ الْبُرْجُمِيِّ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَهْلِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَمِعْتُ النَّضْرَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ يَعْنِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ خَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَأَبْطَأَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرُهُمَا، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ مَنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ رَأَيْتُ خَتْنَكَ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ. قَالَ: " عَلَى أَيِّ حَالٍ رَأَيْتِهِمَا ؟ ". قَالَتْ: رَأَيْتُهُ قَدْ حَمَلَ امْرَأَتَهُ عَلَى حِمَارٍ مِنْ هَذَا الدِّبَابَةِ، وَهُوَ يَسُوقُهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " صَحِبَهُمَا اللَّهُ، إِنَّ عُثْمَانَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ بِأَهْلِهِ بَعْدَ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ وَزَوْجَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَوَلَدَتْ لَهُ بِالْحَبَشَةِ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَامْرَأَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَوَلَدَتْ لَهُ بِهَا زَيْنَبَ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، حَلِيفُ آلِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَنْزِ بْنِ وَائِلٍ وَامْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ، وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ الْعَامِرِيُّ وَامْرَأَتُهُ أُمُّ كُلْثُومِ،

بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَيُقَالُ: حَاطِبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَهَا فِيمَا قِيلَ وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ فَهَؤُلَاءِ الْعَشَرَةُ أَوَّلُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فِيمَا بَلَغَنِي. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَوَلَدَتْ لَهُ بِهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ وَتَتَابَعَ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى اجْتَمَعُوا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ.
وَقَدْ زَعَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ الْهِجْرَةَ الْأُولَى إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، كَانَتْ حِينَ دَخَلَ أَبُو طَالِبٍ وَمَنْ حَالَفَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الشِّعْبِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَزَعَمَ أَنَّ خُرُوجَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِنَّمَا كَانَ فِي الْهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ عَوْدِ بَعْضِ مَنْ كَانَ خَرَجَ أَوَّلًا حِينَ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَسْلَمُوا وَصَلُّوا فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ وَكَانَ فِيمَنْ قَدِمَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَلَمْ يَجِدُوا مَا أُخْبِرُوا بِهِ مِنْ إِسْلَامِ الْمُشْرِكِينَ صَحِيحًا، فَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ، وَمَكَثَ آخَرُونَ بِمَكَّةَ، وَخَرَجَ آخَرُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ. وَهِيَ الْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِيمَنْ خَرَجَ ثَانِيًا، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ خُرُوجِهِ فِي الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ أَظْهَرُ. كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. لَكِنَّهُ كَانَ فِي زُمْرَةٍ ثَانِيَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَوَّلًا، وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ، وَالْمُتَرْجِمُ عَنْهُمْ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ وَغَيْرِهِ كَمَا سَنُورِدُهُ مَبْسُوطًا، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ سَرَدَ الْخَارِجِينَ صُحْبَةَ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُمْ ; عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ مُحَرَّثِ بْنِ شِقٍّ الْكِنَانِيُّ، وَأَخُوهُ خَالِدٌ وَامْرَأَتُهُ أَمِينَةُ بِنْتُ خَلَفِ بْنِ أَسْعَدَ الْخُزَاعِيِّ وَوَلَدَتْ لَهُ بِهَا سَعِيدًا وَأَمَةَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ الزُّبَيْرُ فَوَلَدَتْ لَهُ عَمْرًا وَخَالِدًا. قَالَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ وَأَخُوهُ عُبَيْدُ اللَّهِ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَقَيْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَامْرَأَتُهُ بَرَكَةُ بِنْتُ يَسَارٍ مَوْلَاةُ أَبِي سُفْيَانَ، وَمُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ، وَهُوَ مِنْ مَوَالِي آلِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهُوَ مِنْ دَوْسٍ. قَالَ: وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ حَلِيفُ آلِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَسَنَتَكَلَّمُ مَعَهُ فِي هَذَا وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ وَيَزِيدُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ وَعَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ وَطُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ أَبِي كَثِيرِ بْنِ عَبْدٍ وَسُوَيْبِطُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حَرْمَلَةَ وَجَهْمُ بْنُ قَيْسٍ

الْعَبْدَرِيُّ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَرْمَلَةَ بِنْتُ عَبْدِ الْأَسْوَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَوَلَدَاهُ عَمْرُو بْنُ جَهْمٍ وَخُزَيْمَةُ بْنُ جَهْمٍ وَأَبُو الرُّومِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ وَفِرَاسُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ وَعَامِرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَخُو سَعْدٍ وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ وَامْرَأَتُهُ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي عَوْفِ بْنِ صُبَيْرَةَ وَوَلَدَتْ لَهُ بِهَا عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَخُوهُ عُتْبَةُ وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَالْحَارِثُ بْنُ خَالِدِ بْنِ صَخْرٍ التَّيْمِيُّ وَامْرَأَتُهُ رَيْطَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ جُبَيْلَةَ وَوَلَدَتْ لَهُ بِهَا مُوسَى وَعَائِشَةَ، وَزَيْنَبَ، وَفَاطِمَةَ وَعَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ وَشَمَّاسُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الشَّرِيدِ الْمَخْزُومِيُّ قَالَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ شَمَّاسًا لِحُسْنِهِ، وَأَصْلُ اسْمِهِ عُثْمَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَهُبَّارُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُشَامُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَمُعَتِّبُ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَامِرٍ وَيُقَالُ لَهُ: عَيْهَامَةُ وَهُوَ مِنْ حُلَفَاءِ بَنِي مَخْزُومٍ. قَالَ: وَقُدَامَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ أَخَوَا عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَالسَّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَحَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَعْمَرٍ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجَلِّلِ، وَابْنَاهُ

مِنْهَا مُحَمَّدٌ وَالْحَارِثُ وَأَخُوهُ حَطَّابٌ وَامْرَأَتُهُ فُكَيْهَةُ بِنْتُ يَسَارٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبٍ وَامْرَأَتُهُ حَسَنَةُ، وَابْنَاهُ مِنْهَا جَابِرٌ وَجُنَادَةُ وَابْنُهَا مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدُ الْغَوْثِ بْنُ مُزَاحِمِ بْنِ تَمِيمٍ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ وَعُثْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ أُهْبَانَ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ وَهُشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ بْنِ سَعِيدٍ وَقَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ وَإِخْوَتُهُ الْحَارِثُ وَمَعْمَرٌ وَالسَّائِبُ وَبِشْرٌ وَسَعِيدٌ أَبْنَاءُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ وَأَخُو بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيٍّ لِأُمِّهِ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو التَّمِيمِيُّ وَعُمَيْرُ بْنُ رِئَابِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ مُهَشَّمِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمٍ وَحَلِيفٌ لِبَنِي سَهْمٍ، وَهُوَ مَحْمِيَةُ بْنُ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيُّ وَمَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ وَعُرْوَةُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى وَعَدِيُّ بْنُ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَابْنُهُ النُّعْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَخْرَمَةَ الْعَامِرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَسَلِيطُ بْنُ عَمْرٍو وَأَخُوهُ السَّكْرَانُ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، وَمَالِكُ بْنُ زَمْعَةَ وَامْرَأَتُهُ عَمْرَةُ بِنْتُ السَّعْدِيِّ، وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرٍو الْعَامِرِيُّ

وَحَلِيفُهُمْ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ وَهُوَ مِنَ الْيَمَنِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ الْفِهْرِيُّ وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ وَهِيَ أُمُّهُ وَاسْمُهَا دَعْدُ بِنْتُ جَحْدَمِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ ظَرِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ وَهُوَ سُهَيْلُ بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سَرْحِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ وَعِيَاضُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدَّادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ضَبَّةَ وَيُقَالُ: بَلْ رَبِيعَةُ بْنُ هِلَالِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ضَبَّةَ وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدَّادِ بْنِ رَبِيعَةَ وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ غَنْمِ بْنِ زُهَيْرٍ وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ لَقِيطٍ وَأَخُوهُ الْحَارِثُ الْفِهْرِيُّونَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانَ جَمِيعُ مَنْ لَحِقَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَهَاجَرَ إِلَيْهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى أَبْنَائِهِمُ الَّذِينَ خَرَجُوا بِهِمْ صِغَارًا وَوُلِدُوا بِهَا ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، إِنْ كَانَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فِيهِمْ، وَهُوَ يُشَكُّ فِيهِ.
قُلْتُ: وَذِكْرُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ فِيمَنْ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى

أَرْضِ الْحَبَشَةِ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى سَمِعْتُ حُدَيْجًا أَخَا زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى النَّجَاشِيِّ وَنَحْنُ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانِينَ رَجُلًا، فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَجَعْفَرٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْفُطَةَ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَأَبُو مُوسَى فَأَتَوُا النَّجَاشِيَّ وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ بِهَدِيَّةٍ، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَى النَّجَاشِيِّ سَجَدَا لَهُ، ثُمَّ ابْتَدَرَاهُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَا لَهُ: إِنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي عَمِّنَا نَزَلُوا أَرْضَكَ وَرَغِبُوا عَنَّا وَعَنْ مِلَّتِنَا. قَالَ: فَأَيْنَ هُمْ ؟ قَالَا: فِي أَرْضِكَ، فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: أَنَا خَطِيبُكُمُ الْيَوْمَ، فَاتَّبَعُوهُ. فَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْجُدْ. فَقَالُوا لَهُ: مَا لَكَ لَا تَسْجُدُ لِلْمَلِكِ ؟ قَالَ: إِنَّا لَا نَسْجُدُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولًا، ثُمَّ أَمَرَنَا أَنْ لَا نَسْجُدَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. قَالَ عَمْرٌو: فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَكَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. قَالَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأُمِّهِ ؟ قَالُوا: نَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ، هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ، أَلْقَاهَا إِلَى الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ الَّتِي لَمْ يَمَسَّهَا بَشَرٌ، وَلَمْ يَفْرِضْهَا وَلَدٌ. قَالَ: فَرَفَعَ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَبَشَةِ وَالْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ، وَاللَّهِ مَا

يَزِيدُونَ عَلَى الَّذِي نَقُولُ فِيهِ مَا يَسْوَى هَذَا، مَرْحَبًا بِكُمْ وَبِمَنْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِهِ، أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ الَّذِي نَجِدُ فِي الْإِنْجِيلِ، وَأَنَّهُ الرَّسُولُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، انْزِلُوا حَيْثُ شِئْتُمْ، وَاللَّهِ لَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ لَأَتَيْتُهُ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أَحْمِلُ نَعْلَيْهِ، وَأَمَرَ بِهَدِيَّةِ الْآخَرَيْنِ فَرُدَّتْ إِلَيْهِمَا، ثُمَّ تَعَجَّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَدْرَكَ بَدْرًا، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَغْفَرَ لَهُ حِينَ بَلَغَهُ مَوْتُهُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَسِيَاقٌ حَسَنٌ. وَفِيهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ مِمَّنْ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ مُدْرَجًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ; فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " الدَّلَائِلِ ": حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلَابِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ ( ح ) وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلَّوَيْهِ الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مُوسَى الْخُتَّلِيُّ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ ( ح ) وَحَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرَوَيْهِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَنْطَلِقَ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى أَرْضِ النَّجَاشِيِّ فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا، فَبَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ

وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ وَجَمَعُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدِيَّةً، وَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ فَأَتَيَاهُ بِالْهَدِيَّةِ، فَقَبِلَهَا، وَسَجَدَا لَهُ، ثُمَّ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنَّ نَاسًا مِنْ أَرْضِنَا رَغِبُوا عَنْ دِينِنَا، وَهُمْ فِي أَرْضِكَ. قَالَ لَهُمُ النَّجَاشِيُّ: فِي أَرْضِي ؟ ! قَالَا: نَعَمْ. فَبَعَثَ إِلَيْنَا. فَقَالَ لَنَا جَعْفَرٌ: لَا يَتَكَلَّمُ مِنْكُمْ أَحَدٌ، أَنَا خَطِيبُكُمُ الْيَوْمَ. فَانْتَهَيْنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ وَهُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِهِ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَنْ يَمِينِهِ وَعُمَارَةُ عَنْ يَسَارِهِ، وَالْقِسِّيسُونَ جُلُوسٌ سِمَاطَيْنِ وَقَدْ قَالَ لَهُمْ عَمْرٌو وَعُمَارَةُ: إِنَّهُمْ لَا يَسْجُدُونَ لَكَ فَلَمَّا انْتَهَيْنَا، بَدَرَنَا مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ: اسْجُدُوا لِلْمَلِكِ. فَقَالَ جَعْفَرٌ: لَا نَسْجُدُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ فِينَا رَسُولًا، وَهُوَ الرَّسُولُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَنُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَنُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَأَمَرَنَا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ. فَأَعْجَبَ النَّجَاشِيَّ قَوْلُهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْمَلِكَ، إِنَّهُمْ يُخَالِفُونَكَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. فَقَالَ النَّجَاشِيُّ لِجَعْفَرٍ: مَا يَقُولُ صَاحِبُكُمْ فِي ابْنِ مَرْيَمَ ؟ قَالَ: يَقُولُ فِيهِ قَوْلَ اللَّهِ ; هُوَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، أَخْرَجَهُ مِنَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، الَّتِي لَمْ يَقْرَبْهَا بَشَرٌ، وَلَمْ يَفْرِضْهَا وَلَدٌ. فَتَنَاوَلَ النَّجَاشِيُّ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ فَرَفَعَهُ، فَقَالَ:

يَا مَعْشَرَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ، مَا يَزِيدُ هَؤُلَاءِ عَلَى مَا تَقُولُونَ فِي ابْنِ مَرْيَمَ وَلَا وَزْنَ هَذِهِ، مَرْحَبًا بِكُمْ وَبِمَنْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى، وَلَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ لَأَتَيْتُهُ حَتَّى أُقَبِّلَ نَعْلَيْهِ، امْكُثُوا فِي أَرْضِي مَا شِئْتُمْ. وَأَمَرَ لَنَا بِطَعَامٍ وَكُسْوَةٍ، وَقَالَ: رَدُّوا عَلَى هَذَيْنَ هَدِيَّتَهُمَا. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَجُلًا قَصِيرًا، وَكَانَ عُمَارَةُ رَجُلًا جَمِيلًا، وَكَانَا أَقْبَلَا فِي الْبَحْرِ، فَشَرِبَا، وَمَعَ عَمْرٍو امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا شَرِبَا، قَالَ عُمَارَةُ لِعَمْرٍو: مُرِ امْرَأَتَكَ فَلْتُقَبِّلْنِي. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَلَا تَسْتَحِي ؟ ! فَأَخَذَ عُمَارَةُ عُمَرًا فَرَمَى بِهِ فِي الْبَحْرِ، فَجَعَلَ عَمْرٌو يُنَاشِدُ عُمَارَةَ حَتَّى أَدْخَلَهُ السَّفِينَةَ، فَحَقَدَ عَلَيْهِ عَمْرٌو فِي ذَلِكَ، فَقَالَ عَمْرٌو لِلنَّجَاشِيِّ: إِنَّكَ إِذَا خَرَجْتَ خَلَفَكَ عُمَارَةُ فِي أَهْلِكَ. فَدَعَا النَّجَاشِيُّ بِعُمَارَةَ فَنَفَخَ فِي إِحْلِيلِهِ فَطَارَ مَعَ الْوَحْشِ
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ "، مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَلِيٍّ الْحَسَنِ بْنِ سَلَّامٍ السَّوَّاقِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَمَرَ لَنَا بِطَعَامٍ وَكُسْوَةٍ. قَالَ: وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا مُوسَى كَانَ بِمَكَّةَ، وَأَنَّهُ خَرَجَ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَالصَّحِيحُ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُمْ بَلَغَهُمْ مَخْرَجُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ بِالْيَمَنِ، فَخَرَجُوا مُهَاجِرِينَ فِي بِضْعٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا فِي سَفِينَةٍ، فَأَلْقَتْهُمْ سَفِينَتُهُمْ إِلَى النَّجَاشِيِّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ،

فَوَافَقُوا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُمْ، فَأَمَرَهُمْ جَعْفَرٌ بِالْإِقَامَةِ، فَأَقَامُوا عِنْدَهُ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمَنَ خَيْبَرَ. قَالَ: فَأَبُو مُوسَى شَهِدَ مَا جَرَى بَيْنَ جَعْفَرٍ وَبَيْنَ النَّجَاشِيِّ فَأَخْبَرَ عَنْهُ. قَالَ: وَلَعَلَّ الرَّاوِيَ وَهِمَ فِي قَوْلِهِ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَنْطَلِقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا، فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَكُمْ أَنْتُمْ أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ وَأَبِي عَامِرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَرَّادِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مُطَوَّلًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا قِصَّةُ جَعْفَرٍ مَعَ النَّجَاشِيِّ فَإِنَّ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ رَوَاهَا فِي تَرْجَمَةِ

جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ " تَارِيخِهِ " مِنْ رِوَايَةِ نَفْسِهِ وَمِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَلَى يَدَيْهِمَا جَرَى الْحَدِيثُ. وَمِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ كَمَا سَيَأْتِي ; فَأَمَّا رِوَايَةُ جَعْفَرٍ فَإِنَّهَا عَزِيزَةٌ جِدًّا ; رَوَاهَا ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ السَّمَرْقَنْدِيِّ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ النَّقُورِ عَنْ أَبِي طَاهِرٍ الْمُخْلِّصِ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُعْفِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ عَنْ مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَتْ قُرَيْشٌ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ بِهَدِيَّةٍ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى النَّجَاشِيِّ فَقَالُوا لَهُ وَنَحْنُ عِنْدَهُ: قَدْ صَارَ إِلَيْكَ نَاسٌ مِنْ سَفَلَتِنَا وَسُفَهَائِنَا فَادْفَعْهُمْ إِلَيْنَا. قَالَ: لَا، حَتَّى أَسْمَعَ كَلَامَهُمْ. قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيْنَا. فَقَالَ: مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ: قُلْنَا: إِنْ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولًا، فَآمَنَّا بِهِ وَصَدَّقْنَاهُ. فَقَالَ لَهُمُ النَّجَاشِيُّ: أَعَبِيدٌ هُمْ لَكُمْ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَلَكُمْ عَلَيْهِمْ دَيْنٌ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ. قَالَ: فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي عِيسَى غَيْرَ مَا تَقُولُ. قَالَ: إِنْ لَمْ يَقُولُوا فِي عِيسَى مِثْلَ قَوْلِي، لَمْ أَدَعْهُمْ فِي أَرْضِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا، فَكَانَتِ الدَّعْوَةُ الثَّانِيَةُ أَشَدَّ عَلَيْنَا مِنَ

الْأُولَى، قَالَ: مَا يَقُولُ صَاحِبُكُمْ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ؟ قُلْنَا: يَقُولُ: هُوَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، أَلْقَاهَا إِلَى عَذْرَاءَ بَتُولٍ. قَالَ: فَأَرْسَلَ فَقَالَ: ادْعُوا لِي فُلَانًا الْقَسَّ، وَفُلَانًا الرَّاهِبَ. فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ؟ فَقَالُوا: أَنْتَ أَعْلَمُنَا، فَمَا تَقُولُ ؟ قَالَ النَّجَاشِيُّ وَأَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى مَا قَالَ هَؤُلَاءِ مِثْلَ هَذَا. ثُمَّ قَالَ: أَيُؤْذِيكُمْ أَحَدٌ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَنَادَى مُنَادٍ مَنْ آذَى أَحَدًا مِنْهُمْ فَأَغْرِمُوهُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ. ثُمَّ قَالَ: أَيَكْفِيكُمْ ؟ قُلْنَا: لَا. فَأَضْعَفَهَا. قَالَ: فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ، وَظَهَرَ بِهَا، قُلْنَا لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ ظَهَرَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَتَلَ الَّذِينَ كُنَّا حَدَّثْنَاكَ عَنْهُمْ، وَقَدْ أَرَدْنَا الرَّحِيلَ إِلَيْهِ، فَزَوِّدْنَا. قَالَ: نَعَمْ. فَحَمَلَنَا وَزَوَّدَنَا، ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ بِمَا صَنَعْتُ إِلَيْكُمْ، وَهَذَا صَاحِبِي مَعَكُمْ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَقُلْ لَهُ يَسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ جَعْفَرٌ: فَخَرَجْنَا حَتَّى أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ، فَتَلَقَّانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاعْتَنَقَنِي، ثُمَّ قَالَ: " مَا أَدْرِي أَنَا بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَفْرَحُ، أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ ! " وَوَافَقَ ذَلِكَ فَتْحُ خَيْبَرَ، ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ رَسُولُ النَّجَاشِيِّ: هَذَا جَعْفَرٌ فَسَلْهُ مَا صَنَعَ بِهِ صَاحِبُنَا ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَعَلَ بِنَا كَذَا وَكَذَا، وَحَمَلَنَا وَزَوَّدَنَا، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. وَقَالَ لِي: قُلْ لَهُ يَسْتَغْفِرْ لِي. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ دَعَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلنَّجَاشِيِّ ". فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ جَعْفَرٌ: فَقَلْتُ لِلرَّسُولِ: انْطَلِقْ فَأَخْبِرْ صَاحِبَكَ بِمَا رَأَيْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.

وَأَمَّا رِوَايَةُ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَدْ قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْنَا مَكَّةُ، وَأُوذِيَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفُتِنُوا، وَرَأَوْا مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْفِتْنَةِ فِي دِينِهِمْ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ فِي مَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَمِنْ عَمِّهِ، لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَكْرَهُ وَمِمَّا يَنَالُ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مَلِكًا لَا يُظْلَمُ أَحَدٌ عِنْدَهُ، فَالْحَقُوا بِبِلَادِهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَكُمْ فَرَجًا وَمَخْرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ ". فَخَرَجْنَا إِلَيْهَا أَرْسَالًا حَتَّى اجْتَمَعْنَا بِهَا، فَنَزَلْنَا بِخَيْرِ دَارٍ إِلَى خَيْرِ جَارٍ آمِنِينَ عَلَى دِينِنَا، وَلَمْ نَخْشَ فِيهَا ظُلْمًا، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّا قَدْ أَصَبْنَا دَارًا وَأَمْنًا، اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا، لِيُخْرِجُونَا مِنْ بِلَادِهِ وَلِيَرُدَّنَا عَلَيْهِمْ، فَبَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ فَجَمَعُوا لَهُ هَدَايَا وَلِبَطَارِقَتِهِ، فَلَمْ يَدَعُوا مِنْهُمْ رَجُلًا إِلَّا هَيَّؤُوا لَهُ هَدِيَّةً عَلَى حِدَةٍ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعُوا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا فِيهِمْ، ثُمَّ ادْفَعُوا إِلَيْهِ هَدَايَاهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَرُدَّهُمْ عَلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ فَافْعَلُوا. فَقَدِمَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ بِطْرِيقٌ مِنْ بَطَارِقَتِهِ إِلَّا قَدَّمُوا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ وَكَلَّمُوهُ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّمَا قَدِمَنَا عَلَى هَذَا الْمَلِكِ فِي سُفَهَائِنَا، فَارَقُوا أَقْوَامَهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ. فَبَعَثَنَا قَوْمُهُمْ لِيَرُدَّهُمُ الْمَلِكُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا نَحْنُ كَلَّمْنَاهُ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يَفْعَلَ. فَقَالُوا: نَفْعَلُ. ثُمَّ قَدَّمُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، وَكَانَ مِنْ أَحَبِّ مَا

يُهْدُونَ إِلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ الْأُدُمُ وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّهُمْ أَهْدَوْا إِلَيْهِ فَرَسًا وَجُبَّةَ دِيبَاجٍ فَلَمَّا أَدْخَلُوا عَلَيْهِ هَدَايَاهُ، قَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّ فِتْيَةً مِنَّا سُفَهَاءَ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاؤُوا بَدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ، وَقَدْ لَجَؤُوا إِلَى بِلَادِكَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمْ عَشَائِرُهُمْ، آبَاؤُهُمْ وَأَعْمَامُهُمْ وَقَوْمُهُمْ لِتَرُدَّهُمْ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا. فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ: صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَوْ رَدَدْتَهُمْ عَلَيْهِمْ، كَانُوا هُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ فَتَمْنَعَهُمْ لِذَلِكَ. فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: لَا، لَعَمْرُ اللَّهِ لَا أَرُدُّهُمْ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ، فَأُكَلِّمَهُمْ وَأَنْظُرَ مَا أَمْرُهُمْ، قَوْمٌ لَجَؤُوا إِلَى بِلَادِي، وَاخْتَارُوا جِوَارِي عَلَى جِوَارِ غَيْرِي، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولُونَ رَدَدْتُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ، وَلَمْ أَدْخُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَلَمْ أُنْعِمْهُمْ عَيْنًا وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ أُمَرَاءَهُ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى أَسْمَعَ كَلَامَهُمْ، وَأَعْلَمَ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ هُمْ عَلَيْهِ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، سَلَّمُوا وَلَمْ يَسْجُدُوا لَهُ، فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّهْطُ أَلَا تُحَدِّثُونِي مَا لَكُمْ لَا تُحَيُّونِي كَمَا يُحَيِّينِي مَنْ أَتَانَا مِنْ قَوْمِكُمْ ؟ وَأَخْبِرُونِي مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى، وَمَا دِينُكُمْ ؟ أَنَصَارَى

أَنْتُمْ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: أَفَيَهُودٌ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ فَعَلَى دِينِ قَوْمِكُمْ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمَا دِينُكُمْ ؟ قَالُوا: الْإِسْلَامُ. قَالَ: وَمَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالُوا: نَعْبُدُ اللَّهَ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. قَالَ: مَنْ جَاءَكُمْ بِهَذَا ؟ قَالُوا: جَاءَنَا بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَنْفُسِنَا، قَدْ عَرَفْنَا وَجْهَهُ وَنَسَبَهُ، بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْنَا كَمَا بَعَثَ الرُّسُلَ إِلَى مَنْ قَبْلَنَا، فَأَمَرَنَا بِالْبَرِّ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَفَاءِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَنَهَانَا أَنْ نَعْبُدَ الْأَوْثَانَ، وَأَمَرَنَا بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَصَدَّقْنَاهُ وَعَرَفْنَا كَلَامَ اللَّهِ، وَعَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا فَعَلْنَا ذَلِكَ عَادَانَا قَوْمُنَا، وَعَادَوُا النَّبِيَّ الصَّادِقَ وَكَذَّبُوهُ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، وَأَرَادُونَا عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَفَرَرْنَا إِلَيْكَ بِدِينِنَا وَدِمَائِنَا مِنْ قَوْمِنَا. قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمِنَ الْمِشْكَاةِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا أَمْرُ مُوسَى. قَالَ جَعْفَرٌ: وَأَمَّا التَّحِيَّةُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخْبَرَنَا أَنَّ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ السَّلَامُ، وَأَمَرَنَا بِذَلِكَ فَحَيَّيْنَاكَ بِالَّذِي يُحَيِّي بَعْضُنَا بَعْضًا، وَأَمَّا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَعَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَابْنُ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ. فَأَخَذَ عُودًا وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زَادَ ابْنُ مَرْيَمَ عَلَى هَذَا وَزْنَ هَذَا الْعُودِ. فَقَالَ عُظَمَاءُ الْحَبَشَةِ: وَاللَّهِ لَئِنْ سَمِعَتِ الْحَبَشَةُ لَتَخْلَعَنَّكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقُولُ فِي عِيسَى غَيْرَ هَذَا أَبَدًا. وَمَا أَطَاعَ اللَّهُ النَّاسَ فِيَّ حِينِ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، فَأُطِيعَ النَّاسَ فِي دِينِ اللَّهِ، مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ النَّجَاشِيُّ فَجَمَعَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُ النَّجَاشِيِّ اجْتَمَعَ الْقَوْمُ، فَقَالُوا: مَاذَا تَقُولُونَ ؟ فَقَالُوا: وَمَاذَا

نَقُولُ ؟ نَقُولُ وَاللَّهِ مَا نَعْرِفُ، وَمَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِنَا، وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا كَانَ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، كَانَ الَّذِي يُكَلِّمُهُ مِنْهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ ؟ فَارَقْتُمْ دِينَ قَوْمِكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي يَهُودِيَّةٍ، وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، فَمَا هَذَا الدِّينُ ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا عَلَى الشِّرْكِ، نَعْبُدُ الْأَوْثَانَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، وَنَسْتَحِلُّ الْمَحَارِمَ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ، فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا، لَا نُحِلُّ شَيْئًا وَلَا نُحَرِّمُهُ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا، نَعْرِفُ وَفَاءَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، فَدَعَانَا إِلَى أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَصِلَ الْأَرْحَامَ، وَنَحْمِيَ الْجِوَارَ، وَنُصَلِّيَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَنَصُومَ لَهُ، وَلَا نَعْبُدَ غَيْرَهُ.
وَقَالَ زِيَادٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ ; لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ قَالَ: فَعَدُّوا عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ

دِينِنَا، لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا، وَضَيَّقُوا عَلَيْنَا، وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بِلَادِكَ، وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ، وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. قَالَتْ: فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِمَّا جَاءَ بِهِ ؟ وَقَدْ دَعَا أَسَاقِفَتَهُ فَأَمَرَهُمْ فَنَشَرُوا الْمَصَاحِفَ حَوْلَهُ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَعَمْ. قَالَ: هَلُمَّ فَاتْلُ عَلَيَّ مِمَّا جَاءَ بِهِ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ كهيعص [ مَرْيَمَ: 1 ] فَبَكَى وَاللَّهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيَخْرُجُ مِنَ الْمِشْكَاةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا مُوسَى، انْطَلِقُوا رَاشِدِينَ، لَا وَاللَّهِ لَا أَرُدُّهُمْ عَلَيْكُمْ، وَلَا أُنْعِمُكُمْ عَيْنًا. فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَاعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُ غَدًا بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ، وَلَأُخْبِرُنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ إِلَهَهُ الَّذِي يَعْبُدُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا خَالَفُونَا فَإِنَّ لَهُ رَحِمًا وَلَهُمْ حَقًّا. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَخَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى قَوْلًا عَظِيمًا. فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ عَنْهُ. فَبَعَثَ وَاللَّهِ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: مَاذَا تَقُولُونَ لَهُ فِي عِيسَى إِنْ هُوَ سَأَلَكُمْ عَنْهُ ؟ فَقَالُوا: نَقُولُ وَاللَّهِ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ فِيهِ وَالَّذِي أَمَرَنَا نَبِيُّنَا أَنْ نَقُولَهُ فِيهِ. فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ بَطَارِقَتُهُ فَقَالَ: مَا

تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ. فَدَلَّى النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ فَأَخَذَ عُودًا بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ فَقَالَ: مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مِمَّا قُلْتَ هَذَا الْعُوَيْدَ. فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ. فَقَالَ: وَإِنْ تَنَاخَرْتُمْ وَاللَّهِ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ فِي الْأَرْضِ وَالسُّيُومُ: الْآمِنُونَ فِي الْأَرْضِ مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ، ثَلَاثًا، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا، وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ. وَالدَّبْرُ بِلِسَانِهِمُ: الذَّهَبُ. وَقَالَ زِيَادٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: دَبْرَى وَهُوَ الْجَبَلُ بِلُغَتِهِمْ. ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: فَوَاللَّهِ مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، وَلَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعَ النَّاسَ فِيهِ، رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا، وَاخْرُجَا مِنْ بِلَادِي، فَخَرَجَا مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ. قَالَتْ: فَأَقَمْنَا مَعَ خَيْرِ جَارٍ فِي خَيْرِ دَارٍ، فَلَمْ يَنْشَبْ أَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ يُنَازِعُهُ فِي مِلْكِهِ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا حُزْنًا حَزِنَّا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْهُ. فَرَقًا مِنْ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ الْمَلِكُ عَلَيْهِ. فَيَأْتِي مَلِكٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ يَعْرِفُهُ، فَجَعَلْنَا نَدْعُو اللَّهَ

وَنَسْتَنْصِرُهُ لِلنَّجَاشِيِّ فَخَرَجَ إِلَيْهِ سَائِرًا، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ فَيَحْضُرُ الْوَقْعَةَ حَتَّى يَنْظُرَ عَلَى مَنْ تَكُونُ ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا: أَنَا. فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ يَسْبَحُ عَلَيْهَا فِي النِّيلِ، حَتَّى خَرَجَ مِنْ شِقِّهِ الْآخَرِ إِلَى حَيْثُ الْتَقَى النَّاسُ، فَحَضَرَ الْوَقْعَةَ، فَهَزَمَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَلِكَ وَقَتَلَهُ، وَظَهَرَ النَّجَاشِيُّ عَلَيْهِ، فَجَاءَنَا الزُّبَيْرُ فَجَعَلَ يَلْمَعُ لَنَا بِرِدَائِهِ، وَيَقُولُ: أَلَا فَأَبْشِرُوا، فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ النَّجَاشِيَّ. قُلْتُ: فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا أَنَّنَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ قَطُّ فَرَحَنَا بِظُهُورِ النَّجَاشِيِّ ثُمَّ أَقَمْنَا عِنْدَهُ حَتَّى خَرَجَ مَنْ خَرَجَ مِنَّا رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ، وَأَقَامَ مَنْ أَقَامَ
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَحَدَّثْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ عُرْوَةُ: أَتُدْرِي مَا قَوْلُهُ: مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي، فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ. وَلَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعَ النَّاسَ فِيهِ ؟ فَقُلْتُ: لَا، مَا حَدَّثَنِي ذَلِكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ. فَقَالَ عُرْوَةُ: فَإِنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَلِكَ قَوْمِهِ، وَكَانَ لَهُ أَخٌ، لَهُ مَنْ صُلْبِهِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَلَمْ يَكُنْ لِأَبِي النَّجَاشِيِّ وَلَدٌ غَيْرُ النَّجَاشِيِّ فَأَدَارَتِ الْحَبَشَةُ رَأْيَهَا بَيْنَهَا، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا قَتَلْنَا أَبَا النَّجَاشِيِّ وَمَلَّكْنَا أَخَاهُ، فَإِنَّ لَهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا

مِنْ صُلْبِهِ فَتَوَارَثُوا الْمُلْكَ، لَبَقِيَتِ الْحَبَشَةُ عَلَيْهِمْ دَهْرًا طَوِيلًا، لَا يَكُونُ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ. فَعَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَمَلَّكُوا أَخَاهُ، فَدَخَلَ النَّجَاشِيُّ لِعَمِّهِ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ، فَلَا يُدَبِّرُ أَمْرَهُ غَيْرُهُ، وَكَانَ لَبِيبًا حَازِمًا مِنَ الرِّجَالِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْحَبَشَةُ مَكَانَهُ مِنْ عَمِّهِ، قَالُوا: لَقَدْ غَلَبَ هَذَا الْغُلَامُ عَلَى أَمْرِ عَمِّهِ، فَمَا نَأْمَنُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَلَيْنَا، وَقَدْ عَرَفَ أَنَّا قَتَلْنَا أَبَاهُ، فَلَئِنْ فَعَلَ لَمْ يَدَعْ مِنَّا شَرِيفًا إِلَّا قَتَلَهُ، فَكَلِّمُوهُ فِيهِ فَلْيَقْتُلْهُ أَوْ لَيُخْرِجَنَّهُ مِنْ بِلَادِنَا. فَمَشَوْا إِلَى عَمِّهِ، فَقَالُوا: قَدْ رَأَيْنَا مَكَانَ هَذَا الْفَتَى مِنْكَ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّا قَتَلْنَا أَبَاهُ وَجَعَلْنَاكَ مَكَانَهُ، وَإِنَّا لَا نَأْمَنُ أَنْ يَمْلِكَ عَلَيْنَا فَيَقْتُلَنَا، فَإِمَّا أَنْ تَقْتُلَهُ، وَإِمَّا أَنَّ تُخْرِجَهُ مِنْ بِلَادِنَا. قَالَ: وَيْحَكُمْ: قَتَلْتُمْ أَبَاهُ بِالْأَمْسِ، وَأَقْتُلُهُ الْيَوْمَ ؟ بَلْ أُخْرِجُهُ مِنْ بِلَادِكُمْ. فَخَرَجُوا بِهِ فَوَقَفُوهُ فِي السُّوقِ وَبَاعُوهُ مِنْ تَاجِرٍ مِنَ التُّجَّارِ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ بِسَبْعِمِائَةٍ، فَقَذَفَهُ فِي سَفِينَةٍ، فَانْطَلَقَ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ هَاجَتْ سَحَابَةٌ مِنْ سَحَائِبِ الْخَرِيفِ، فَخَرَجَ عَمُّهُ يَتَمَطَّرُ تَحْتَهَا، فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فَقَتَلَتْهُ، فَفَزِعُوا إِلَى وَلَدِهِ، فَإِذَا هُمْ مُحْمِقُونَ، لَيْسَ فِي أَحَدٍ مِنْهُمْ خَيْرٌ، فَمَرَجَ عَلَى الْحَبَشَةِ أَمْرُهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّ مَلِكَكُمُ الَّذِي لَا يُصْلِحُ أَمْرَكُمْ غَيْرُهُ لَلَّذِي بِعْتُمُ الْغَدَاةَ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ بِأَمْرِ الْحَبَشَةِ حَاجَةٌ فَأَدْرِكُوهُ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ. فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ فَأَدْرَكُوهُ فَرَدُّوهُ، فَعَقَدُوا عَلَيْهِ تَاجَهُ، وَأَجْلَسُوهُ عَلَى سَرِيرِهِ وَمَلَّكُوهُ، فَقَالَ التَّاجِرُ: رُدُّوا عَلَيَّ مَالِي كَمَا أَخَذْتُمْ مِنِّي غُلَامِي. فَقَالُوا: لَا نُعْطِيكَ. فَقَالَ: إِذًا وَاللَّهِ لَأُكَلِّمَنَّهُ. فَقَالُوا: وَإِنْ. فَمَشَى إِلَيْهِ فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنِّي

ابْتَعْتُ غُلَامًا فَقَبَضَ مِنِّي الَّذِينَ بَاعُوهُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ عَدَوْا عَلَى غُلَامِي فَنَزَعُوهُ مِنْ يَدِي وَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيَّ مَالِي. فَكَانَ أَوَّلَ مَا خُبِرَ بِهِ مِنْ صَلَابَةِ حُكْمِهِ وَعَدْلِهِ أَنْ قَالَ: لَتَرُدُّنَّ عَلَيْهِ مَالَهُ، أَوْ لَتَجْعَلُنَّ يَدَ غُلَامِهِ فِي يَدِهِ فَلْيَذْهَبَنَّ بِهِ حَيْثُ شَاءَ. فَقَالُوا: بَلْ نُعْطِيهِ مَالَهُ. فَأَعْطَوْهُ إِيَّاهُ. فَلِذَلِكَ يَقُولُ: مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ فَآخُذَ الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي. وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعَ النَّاسَ فِيهِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: كَانَ أَبُو النَّجَاشِيِّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ، فَمَاتَ وَالنَّجَاشِيُّ غُلَامٌ صَغِيرٌ، فَأَوْصَى إِلَى أَخِيهِ: إِنَّ إِلَيْكَ مُلْكَ قَوْمِكَ حَتَّى يَبْلُغَ ابْنِي فَإِذَا بَلَغَ فَلَهُ الْمُلْكُ. فَرَغِبَ أَخُوهُ فِي الْمُلْكِ، فَبَاعَ النَّجَاشِيَّ مِنْ بَعْضِ التُّجَّارِ، فَمَاتَ عَمُّهُ مِنْ لَيْلَتِهِ وَقَضَى، فَرَدَّتِ الْحَبَشَةُ النَّجَاشِيَّ حَتَّى وَضَعُوا التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ مُخْتَصَرًا، وَسِيَاقُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَحْسَنُ وَأَبْسَطُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالَّذِي وَقَعَ فِي سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ إِنَّمَا هُوَ ذِكْرُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَالَّذِي ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَالْأُمَوِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، أَنَّهُمَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ أَحَدُ السَّبْعَةِ الَّذِينَ دَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تَضَاحَكُوا يَوْمَ وَضْعِ سَلَى الْجَزُورِ عَلَى ظَهْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ سَاجِدٌ عِنْدَ الْكَعْبَةِ. وَهَكَذَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمَا حِينَ خَرَجَا مِنْ مَكَّةَ كَانَتْ زَوْجَةُ عَمْرٍو مَعَهُ، وَعُمَارَةُ كَانَ شَابًّا حَسَنًا، فَاصْطَحَبَا فِي السَّفِينَةِ، وَكَانَ عُمَارَةُ طَمِعَ فِي امْرَأَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَأَلْقَى عَمْرًا فِي الْبَحْرِ لِيُهْلِكَهُ، فَسَبَحَ حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهَا. فَقَالَ لَهُ عُمَارَةُ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تُحْسِنُ السِّبَاحَةَ لَمَا أَلْقَيْتُكَ. فَحَقَدَ عَمْرٌو عَلَيْهِ، فَلَمَّا لَمْ يُقْضَ لَهُمَا حَاجَةٌ فِي الْمُهَاجِرِينَ مِنَ النَّجَاشِيِّ وَكَانَ عُمَارَةُ قَدْ تَوَصَّلَ إِلَى بَعْضِ أَهْلِ النَّجَاشِيِّ، فَوَشَى بِهِ عَمْرٌو فَأَمَرَ بِهِ النَّجَاشِيُّ فَسُحِرَ حَتَّى ذَهَبَ عَقْلُهُ، وَسَاحَ فِي الْبَرِّيَّةِ مَعَ الْوُحُوشِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْأُمَوِيُّ قِصَّةً مُطَوَّلَةً جِدًّا، وَأَنَّهُ عَاشَ إِلَى زَمَنِ إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَنَّهُ تَقَصَّدَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ وَمَسَكَهُ. فَجَعَلَ يَقُولُ: أَرْسِلْنِي، أَرْسِلْنِي وَإِلَّا مِتُّ. فَلَمَّا لَمْ يُرْسِلْهُ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قُرَيْشًا بَعَثَتْ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِي أَمْرِ الْمُهَاجِرِينَ مَرَّتَيْنِ ; الْأُولَى مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُمَارَةَ وَالثَّانِيَةُ مَعَ عَمْرٍو وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ. نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " الدَّلَائِلِ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْبِعْثَةَ الثَّانِيَةَ كَانَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ لِيَنَالُوا مِمَّنْ هُنَاكَ ثَأْرًا فَلَمْ يُجِبْهُمُ النَّجَاشِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، إِلَى شَيْءٍ مِمَّا سَأَلُوا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ زِيَادٌ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ

قُرَيْشٍ كَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ أَبْيَاتًا يَحُضُّهُ فِيهَا عَلَى الْعَدْلِ، وَعَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى مَنْ نَزَلَ عِنْدَهُ مَنْ قَوْمِهِ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ فِي النَّأْيِ جَعْفَرٌ وَعَمْرٌو وَأَعْدَاءُ الْعَدُوِّ الْأَقَارِبُ وَمَا نَالَتْ أَفْعَالُ النَّجَاشِيِّ جَعْفَرًا
وَأَصْحَابَهُ أَوْ عَاقَ ذَلِكَ شَاغِبُ تَعَلَّمْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ أَنَّكَ مَاجِدٌ
كَرِيمٌ فَلَا يَشْقَى لَدَيْكَ الْمُجَانِبُ تَعَلَّمْ بِأَنَّ اللَّهَ زَادَكَ بَسْطَةً
وَأَسْبَابَ خَيْرٍ كُلُّهَا بِكَ لَازِبُ
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يُكَلِّمُ النَّجَاشِيَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ جَعْفَرًا هُوَ الْمُتَرْجِمُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ كَانَ يَتَحَدَّثُ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُرَى عَلَى قَبْرِهِ نُورٌ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الرَّازِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ: لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُرَى عَلَى قَبْرِهِ نُورٌ.
وَقَالَ زِيَادٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ اجْتَمَعَتِ الْحَبَشَةُ فَقَالُوا لِلنَّجَاشِيِّ: إِنَّكَ فَارَقْتَ دِينَنَا. وَخَرَجُوا عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، فَهَيَّأَ لَهُمْ سُفُنًا، وَقَالَ: ارْكَبُوا فِيهَا، وَكُونُوا كَمَا أَنْتُمْ، فَإِنْ هُزِمْتُ فَامْضُوا حَتَّى تَلْحَقُوا بِحَيْثُ شِئْتُمْ، وَإِنْ ظَفِرْتُ فَاثْبُتُوا. ثُمَّ عَمَدَ إِلَى كِتَابٍ فَكَتَبَ فِيهِ: هُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَيَشْهَدُ أَنَّ عِيسَى عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ. ثُمَّ جَعَلَهُ فِي قَبَائِهِ عِنْدَ الْمَنْكِبِ الْأَيْمَنِ وَخَرَجَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَصَفُّوا لَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَبَشَةِ، أَلَسْتُ أَحَقَّ النَّاسِ بِكُمْ ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَكَيْفَ رَأَيْتُمْ سِيرَتِي فِيكُمْ ؟ قَالُوا: خَيْرَ سِيرَةٍ. قَالَ: فَمَا لَكُمْ ؟ قَالُوا: فَارَقْتَ دِينَنَا، وَزَعَمْتَ أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ. قَالَ: فَمَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ فِي عِيسَى ؟ قَالُوا: نَقُولُ هُوَ ابْنُ اللَّهِ. فَقَالَ النَّجَاشِيُّ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ عَلَى قَبَائِهِ: وَهُوَ يَشْهَدُ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا. وَإِنَّمَا يَعْنِي عَلَى مَا كَتَبَ، فَرَضُوا وَانْصَرَفُوا، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ صَلَّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مَوْتُ النَّجَاشِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ مَاتَ النَّجَاشِيُّ: " مَاتَ الْيَوْمَ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَقُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمْ أَصْحَمَةَ ". وَرُوِي ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ تَسْمِيَتُهُ أَصْحَمَةَ وَفِي رِوَايَةٍ: مَصْحَمَةُ. وَهُوَ أَصْحَمَةُ بْنُ أَبْجَرَ وَكَانَ عَبْدًا صَالِحًا، لَبِيبًا، ذَكِيًّا، عَادِلًا، عَالِمًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ اسْمُ النَّجَاشِيِّ مَصْحَمَةُ. وَفِي نُسْخَةٍ صَحَّحَهَا الْبَيْهَقِيُّ: أَصْحَمُ، وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ: عَطِيَّةُ.
قَالَ: وَإِنَّمَا النَّجَاشِيُّ اسْمُ الْمَلِكِ، كَقَوْلِكَ: كِسْرَى، وَهِرَقْلُ.
قُلْتُ: كَذَا، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ بِهِ قَيْصَرَ، فَإِنَّهُ عَلَمٌ لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ الشَّامَ مَعَ الْجَزِيرَةِ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَكِسْرَى عَلَمٌ عَلَى مَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ، وَفِرْعَوْنُ عَلَمٌ لِمَنْ

مَلَكَ مِصْرَ كَافَّةً. وَالْمُقَوْقِسُ لِمَنْ مَلَكَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَتُبَّعٌ لِمَنْ مَلَكَ الْيَمَنَ، وَالشَّحْرُ وَالنَّجَاشِيُّ لِمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ، وَبَطْلَيْمُوسُ لِمَنْ مَلَكَ الْيُونَانَ، وَقِيلَ: الْهِنْدَ. وَخَاقَانُ لِمَنْ مَلَكَ التُّرْكَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا صَلَّى عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ يَوْمَ مَاتَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ ; فَلِهَذَا صَلَّى عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: فَالْغَائِبُ إِنْ كَانَ قَدْ صُلِّيَ عَلَيْهِ بِبَلَدِهِ، لَا تُشْرَعُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ بِبَلَدٍ أُخْرَى، وَلِهَذَا لَمْ يُصَلَّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ لَا أَهْلُ مَكَّةَ وَلَا غَيْرُهُمْ، وَهَكَذَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ صُلِّيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ الْبَلْدَةِ الَّتِي صُلِّيَ عَلَيْهِ فِيهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَشُهُودُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، الصَّلَاةَ عَلَى النَّجَاشِيِّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا مَاتَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ فِي السَّنَةِ، الَّتِي قَدِمَ بَقِيَّةُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَوْمَ فَتْحِ خَيْبَرَ ; وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أَنَا أُسَرُّ ; بِفَتْحِ خَيْبَرَ، أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ". وَقَدِمُوا مَعَهُمْ بِهَدَايَا وَتُحَفٍ مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصُحْبَتُهُمْ أَهْلُ السَّفِينَةِ الْيَمَنِيَّةِ ; أَصْحَابُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقَوْمُهُ مِنَ الْأَشْعَرِيِّينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَعَ جَعْفَرٍ وَهَدَايَا النَّجَاشِيِّ

ابْنُ أَخِي النَّجَاشِيِّ ذُو مِخْبَرٍ. أَوْ ذُو مِخْمَرٍ أَرْسَلَهُ لِيَخْدِمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِوَضًا عَنْ عَمِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: تُوُفِّيَ النَّجَاشِيُّ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا الْفَقِيهُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الطُّوسِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ الرَّقِّيُّ حَدَّثَنَا أَبِي الْعَلَاءُ بْنُ هِلَالٍ حَدَّثَنَا أَبِي هِلَالُ بْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ النَّجَاشِيِّ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ يَخْدِمُهُمْ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: نَحْنُ نَكْفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: " إِنَّهُمْ كَانُوا لِأَصْحَابِي مُكْرِمِينَ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُكَافِئَهُمْ ".
ثُمَّ قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الْأَصْبَهَانِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ النَّجَاشِيِّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَامَ يَخْدِمُهُمْ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: نَحْنُ

نَكْفِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: " إِنَّهُمْ كَانُوا لِأَصْحَابِنَا مُكْرِمِينَ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُكَافِئَهُمْ ". تَفَرَّدَ بِهِ طَلْحَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ حَدَّثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، جَلَسَ فِي بَيْتِهِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ، مَا لَهُ لَا يَخْرُجُ ؟ فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ أَصْحَمَةَ يَزْعُمُ أَنَّ صَاحِبَكُمْ نَبِيٌّ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ عَلَى قُرَيْشٍ، وَلَمْ يُدْرِكُوا مَا طَلَبُوا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَدَّهُمُ النَّجَاشِيُّ بِمَا يَكْرَهُونَ، وَأَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَكَانَ رَجُلًا ذَا شَكِيمَةٍ لَا يُرَامُ مَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، امْتَنَعَ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِحَمْزَةَ حَتَّى عَازُّوا قُرَيْشًا، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَا كُنَّا نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نُصَلِّيَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ فَلَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ قَاتَلَ قُرَيْشًا، حَتَّى صَلَّى عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ.
قُلْتُ: وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا زِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
وَقَالَ زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ: حَدَّثَنِي مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ

قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ إِسْلَامَ عُمَرَ كَانَ فَتْحًا، وَإِنَّ هِجْرَتَهُ كَانَتْ نَصْرًا، وَإِنَّ إِمَارَتَهُ كَانَتْ رَحْمَةً، وَلَقَدْ كُنَّا وَمَا نُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَتَّى أَسْلَمَ عُمَرُ فَلَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ قَاتَلَ قُرَيْشًا، حَتَّى صَلَّى عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ إِسْلَامُ عُمَرَ بَعْدَ خُرُوجِ مَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْحَبَشَةِ. حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أُمِّهِ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ بِنْتِ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّا لَنَتَرَحَّلُ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَقَدْ ذَهَبَ عَامِرٌ فِي بَعْضِ حَاجَتِنَا، إِذْ أَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيَّ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ. قَالَتْ: وَكُنَّا نَلْقَى مِنْهُ بَلَاءً ; أَذًى لَنَا وَشِدَّةً عَلَيْنَا. قَالَتْ: فَقَالَ إِنَّهُ لَلِانْطِلَاقُ يَا أُمَّ عَبْدِ اللَّهِ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَاللَّهِ لَنَخْرُجَنَّ فِي أَرْضِ اللَّهِ إِذْ آذَيْتُمُونَا، وَقَهَرْتُمُونَا، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ لَنَا مَخْرَجًا. قَالَتْ: فَقَالَ: صَحِبَكُمُ اللَّهُ. وَرَأَيْتُ لَهُ رِقَّةً لَمْ أَكُنْ أَرَاهَا، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ أَحْزَنَهُ فِيمَا أَرَى خُرُوجُنَا. قَالَتْ: فَجَاءَ عَامِرٌ بِحَاجَتِهِ تِلْكَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَ عُمَرَ آنِفًا وَرِقَّتَهُ وَحُزْنَهُ عَلَيْنَا. قَالَ: أَطَمِعْتِ فِي إِسْلَامِهِ ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: لَا يُسْلِمُ الَّذِي رَأَيْتِ حَتَّى يُسْلِمَ حِمَارُ الْخَطَّابِ. قَالَتْ: يَأْسًا مِنْهُ ; لِمَا كَانَ يَرَى مِنْ غِلْظَتِهِ وَقَسْوَتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ.
قُلْتُ: هَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ تَمَامَ الْأَرْبَعِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ

الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الْحَبَشَةِ كَانُوا فَوْقَ الثَّمَانِينَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ تَمَامَ الْأَرْبَعِينَ بَعْدَ خُرُوجِ الْمُهَاجِرِينَ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ هَاهُنَا فِي قِصَّةِ إِسْلَامِ عُمَرَ وَحْدَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسِيَاقُهَا: فَإِنَّهُ قَالَ: وَكَانَ إِسْلَامُ عُمَرَ فِيمَا بَلَغَنِي أَنَّ أُخْتَهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْخَطَّابِ وَكَانَتْ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ كَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ، وَأَسْلَمَ زَوْجُهَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَهُمْ مُسْتَخْفُونَ بِإِسْلَامِهِمْ مِنْ عُمَرَ وَكَانَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّحَّامُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ قَدْ أَسْلَمَ أَيْضًا مُسْتَخْفِيًا بِإِسْلَامِهِ، فَرَقًا مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ يَخْتَلِفُ إِلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ الْخَطَّابِ يُقْرِئُهَا الْقُرْآنَ، فَخَرَجَ عُمَرُ يَوْمًا مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ، يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَهْطًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي بَيْتٍ عِنْدَ الصَّفَا، وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعِينَ، مِنْ بَيْنِ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمُّهُ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ الصِّدِّيقُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّنْ كَانَ أَقَامَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَخْرُجْ فِيمَنْ خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَلَقِيَهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا عُمَرُ ؟ قَالَ: أُرِيدُ مُحَمَّدًا هَذَا الصَّابِئُ الَّذِي فَرَّقَ أَمْرَ قُرَيْشٍ، وَسَفَّهَ أَحْلَامَهَا، وَعَابَ دِينَهَا، وَسَبَّ آلِهَتَهَا، فَأَقْتُلُهُ. فَقَالَ لَهُ نُعَيْمٌ: وَاللَّهِ لَقَدْ غَرَّتْكَ نَفْسُكَ يَا عُمَرُ أَتَرَى بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَارِكِيكَ تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَقَدْ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا ؟ أَفَلَا تَرْجِعُ إِلَى أَهْلِ بَيْتِكَ فَتُقِيمَ أَمْرَهُمْ ؟ قَالَ:

وَأَيُّ أَهْلِ بَيْتِي ؟ قَالَ: خَتْنُكَ وَابْنُ عَمِّكَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَأُخْتُكَ فَاطِمَةُ، فَقَدْ وَاللَّهِ أَسْلَمَا، وَتَابَعَا مُحَمَّدًا عَلَى دِينِهِ فَعَلَيْكَ بِهِمَا. فَرَجَعَ عُمَرُ عَامِدًا إِلَى أُخْتِهِ وَخَتْنِهِ، وَعِنْدَهُمَا خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ مَعَهُ صَحِيفَةٌ فِيهَا " طَهَ " يُقْرِئُهُمَا إِيَّاهَا، فَلَمَّا سَمِعُوا حِسَّ عُمَرَ تَغَيَّبَ خَبَّابٌ فِي مَخْدَعٍ لَهُمْ أَوْ فِي بَعْضِ الْبَيْتِ، وَأَخَذَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ الصَّحِيفَةَ فَجَعَلَتْهَا تَحْتَ فَخِذِهَا، وَقَدْ سَمِعَ عُمَرُ حِينَ دَنَا إِلَى الْبَابِ قِرَاءَةَ خَبَّابٍ عَلَيْهِمَا، فَلَمَّا دَخَلَ، قَالَ: مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ الَّتِي سَمِعْتُ ؟ قَالَا لَهُ: مَا سَمِعْتَ شَيْئًا. قَالَ: بَلَى، وَاللَّهِ لَقَدْ أُخْبِرْتُ أَنَّكُمَا تَابَعْتُمَا مُحَمَّدًا عَلَى دِينِهِ. وَبَطَشَ بِخَتْنِهِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ فَقَامَتْ إِلَيْهِ أُخْتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطَّابِ لِتَكُفَّهُ عَنْ زَوْجِهَا، فَضَرَبَهَا فَشَجَّهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ، قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ وَخَتْنُهُ: نَعَمْ قَدْ أَسْلَمْنَا، وَآمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ. فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا بِأُخْتِهِ مِنَ الدَّمِ، نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ وَارْعَوَى، وَقَالَ: لِأُخْتِهِ أَعْطِينِي هَذِهِ الصَّحِيفَةَ الَّتِي سَمِعْتُكُمْ تَقْرَؤُونَ آنِفًا، أَنْظُرُ مَا هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ. وَكَانَ عُمَرُ كَاتِبًا، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ، قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ: إِنَّا نَخْشَاكَ عَلَيْهَا. قَالَ: لَا تَخَافِي. وَحَلَفَ لَهَا بِآلِهَتِهِ لَيَرُدَّنَّهَا إِذَا قَرَأَهَا إِلَيْهَا. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ، طَمِعَتْ فِي إِسْلَامِهِ. فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي، إِنَّكَ نَجَسٌ عَلَى شِرْكِكَ، وَإِنَّهُ لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الطَّاهِرُ. فَقَامَ عُمَرُ فَاغْتَسَلَ، فَأَعْطَتْهُ الصَّحِيفَةَ، وَفِيهَا

" طَهَ "، فَقَرَأَهَا، فَلَمَّا قَرَأَ مِنْهَا صَدْرًا، قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَكْرَمَهُ ! فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ خَرَجَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ يَا عُمَرُ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ خَصَّكَ بِدَعْوَةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنِّي سَمِعْتُهُ أَمْسِ وَهُوَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ أَيِّدِ الْإِسْلَامَ بِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ". فَاللَّهَ اللَّهَ يَا عُمَرُ. فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: فَدُلَّنِي يَا خَبَّابُ عَلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى آتِيَهُ فَأُسْلِمَ. فَقَالَ لَهُ خَبَّابٌ: هُوَ فِي بَيْتٍ عِنْدَ الصَّفَا، مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. فَأَخَذَ عُمَرُ سَيْفَهُ فَتَوَشَّحَهُ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ، قَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَظَرَ مِنْ خَلَلِ الْبَابِ فَرَآهُ مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فَزِعٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ. فَقَالَ حَمْزَةُ: فَأْذَنْ لَهُ، فَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ خَيْرًا بَذَلْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ شَرًّا قَتَلْنَاهُ بِسَيْفِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ائْذَنْ لَهُ ". فَأَذِنَ لَهُ الرَّجُلُ، وَنَهَضَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى لَقِيَهُ فِي الْحُجْرَةِ، فَأَخَذَ بِحُجْزَتِهِ أَوْ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ، ثُمَّ جَبَذَهُ جَبْذَةً شَدِيدَةً، فَقَالَ: " مَا جَاءَ بِكَ يَا بْنَ الْخَطَّابِ ؟ فَوَاللَّهِ مَا أَرَى أَنْ تَنْتَهِيَ حَتَّى يُنْزِلَ اللَّهُ بِكَ قَارِعَةً ". فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُكَ لَأُومِنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، قَالَ: فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكْبِيرَةً عَرَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ أَنَّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ، فَتَفَرَّقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَانِهِمْ، وَقَدْ عَزُّوا فِي

أَنْفُسِهِمْ حِينَ أَسْلَمَ عُمَرُ مَعَ إِسْلَامِ حَمْزَةَ وَعَرَفُوا أَنَّهُمَا سَيَمْنَعَانِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَنْتَصِفُونَ بِهِمَا مِنْ عَدُوِّهِمْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَهَذَا حَدِيثُ الرُّوَاةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، عَنْ إِسْلَامِ عُمَرَ حِينَ أَسْلَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ الْمَكِّيُّ عَنْ أَصْحَابِهِ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَمَّنْ رَوَى ذَلِكَ، أَنَّ إِسْلَامَ عُمَرَ فِيمَا تَحَدَّثُوا بِهِ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كُنْتُ لِلْإِسْلَامِ مُبَاعِدًا، وَكُنْتُ صَاحِبَ خَمْرٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أُحِبُّهَا وَأَشْرَبُهَا، وَكَانَ لَنَا مَجْلِسٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ بِالْحَزْوَرَةِ، فَخَرَجْتُ لَيْلَةً أُرِيدُ جُلَسَائِي أُولَئِكَ، فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ مِنْهُمْ أَحَدًا. فَقُلْتُ: لَوْ أَنِّي جِئْتُ فُلَانًا الْخَمَّارَ، لَعَلِّي أَجِدُ عِنْدَهُ خَمْرًا فَأَشْرَبَ مِنْهَا، فَخَرَجْتُ فَجِئْتُهُ فَلَمْ أَجِدْهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: لَوْ أَنِّي جِئْتُ الْكَعْبَةَ فَطُفْتُ سَبْعًا أَوْ سَبْعَيْنِ. قَالَ: فَجِئْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمٌ يُصَلِّي وَكَانَ إِذَا صَلَّى اسْتَقْبَلَ الشَّامَ، وَجَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ، وَكَانَ مُصَلَّاهُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْأَسْوَدِ وَالْيَمَانِيِّ. قَالَ: فَقُلْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ: وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي اسْتَمَعْتُ لِمُحَمَّدٍ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَسْمَعَ مَا يَقُولُ. فَقُلْتُ: لَئِنْ دَنَوْتُ مِنْهُ أَسْتَمِعُ مِنْهُ لَأُرَوِّعَنَّهُ. فَجِئْتُ مِنْ قِبَلِ الْحِجْرِ، فَدَخَلْتُ تَحْتَ ثِيَابِهَا فَجَعَلْتُ أَمْشِي رُوَيْدًا، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمٌ يُصَلِّي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، حَتَّى قُمْتُ فِي قِبْلَتِهِ مُسْتَقْبِلَهُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا ثِيَابُ الْكَعْبَةِ. قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُ الْقُرْآنَ رَقَّ لَهُ قَلْبِي، وَبَكَيْتُ، وَدَخَلَنِي الْإِسْلَامُ،

فَلَمْ أَزَلْ فِي مَكَانِي قَائِمًا، حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ، وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ خَرَجَ عَلَى دَارِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ وَكَانَ مَسْكَنُهُ فِي الدَّارِ الرَّقْطَاءِ الَّتِي كَانَتْ بِيَدِ مُعَاوِيَةَ قَالَ عُمَرُ: فَتَبِعْتُهُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ بَيْنَ دَارِ عَبَّاسٍ وَدَارِ ابْنِ أَزْهَرَ أَدْرَكْتُهُ، فَلَمَّا سَمِعَ حِسِّي عَرَفَنِي، فَظَنَّ أَنِّي إِنَّمَا اتَّبَعْتُهُ لِأُؤذِيَهُ، فَنَهَمَنِي ثُمَّ قَالَ: " مَا جَاءَ بِكَ يَا بْنَ الْخَطَّابِ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ ! " قَالَ قُلْتُ: جِئْتُ لَأُومِنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: " قَدْ هَدَاكَ اللَّهُ يَا عُمَرُ ! ". ثُمَّ مَسَحَ صَدْرِي، وَدَعَا لِي بِالثَّبَاتِ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْتَهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
قُلْتُ: وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ كَيْفِيَّةَ إِسْلَامِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ مُطَوَّلًا فِي أَوَّلِ سِيرَتِهِ الَّتِي أَفْرَدْتُهَا عَلَى حِدَةٍ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ قَالَ أَيُّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ ؟ فَقِيلَ لَهُ: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيُّ. فَغَدَا عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَغَدَوْتُ أَتْبَعُ أَثَرَهُ وَأَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ، وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ كُلَّ مَا رَأَيْتُ حَتَّى جَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَعَلِمْتَ يَا جَمِيلُ أَنِّي أَسْلَمْتُ وَدَخَلْتُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ ؟ قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا رَاجَعَهُ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَاتَّبَعَهُ عُمَرُ وَاتَّبَعْتُ

أَبِي، حَتَّى قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ أَلَا إِنَّ ابْنَ الْخَطَّابِ قَدْ صَبَأَ. قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ: كَذَبَ، وَلَكِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَثَارُوا إِلَيْهِ، فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ، حَتَّى قَامَتِ الشَّمْسُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ. قَالَ: وَطَلَحَ فَقَعَدَ، وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنْ لَوْ قَدْ كُنَّا ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا لَكُمْ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا. قَالَ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ، عَلَيْهِ حُلَّةٌ حِبَرَةٌ وَقَمِيصٌ مُوَشَّى، حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ ؟ فَقَالُوا: صَبَأَ عُمَرُ. قَالَ: فَمَهْ ! رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا، فَمَاذَا تُرِيدُونَ ؟ أَتَرَوْنَ بَنِي عَدِيٍّ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبَهُمْ هَكَذَا ؟ ! خَلُّوا عَنِ الرَّجُلِ. قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ عَنْهُ. قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ: يَا أَبَتِ، مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْكَ بِمَكَّةَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ، وَهُمْ يُقَاتِلُونَكَ ؟ قَالَ: ذَاكَ، أَيْ بُنَّيَّ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ إِسْلَامِ عُمَرَ ; لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ عَرَضَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ أُحُدٌ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ كَانَ مُمَيِّزًا يَوْمَ أَسْلَمَ أَبُوهُ، فَيَكُونُ إِسْلَامُهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِنَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْبِعْثَةِ بِنَحْوٍ مِنْ تِسْعِ سِنِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَاكِمُ أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِشْرُونَ رَجُلًا وَهُوَ بِمَكَّةَ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مِنَ النَّصَارَى، حِينَ ظَهَرَ خَبَرُهُ، مَنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَوَجَدُوهُ فِي الْمَجْلِسِ فَكَلَّمُوهُ وَسَاءَلُوهُ، وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مُسَاءَلَتِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّا أَرَادُوا، دَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا سَمِعُوا فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، ثُمَّ اسْتَجَابُوا لَهُ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ، فَلَمَّا قَامُوا مِنْ عِنْدِهِ اعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْلٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ مِنْ رَكْبٍ، بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ فَتَأْتُونَهُمْ بِخَبَرِ الرَّجُلِ، فَلَمْ تَطْمَئِنَّ مَجَالِسُكُمْ عِنْدَهُ حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ بِمَا قَالَ لَكُمْ، مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ مِنْكُمْ. أَوْ كَمَا قَالُوا، فَقَالُوا لَهُمْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لَا نُجَاهِلُكُمْ، لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ، لَا نَأْلُو أَنْفُسَنَا خَيْرًا. فَيُقَالُ: إِنَّ النَّفَرَ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ. وَيُقَالُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِنَّ فِيهِمْ نَزَلَتْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [ الْقِصَصِ: 52 - 55 ]

فَصْلٌ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ ": بَابُ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى النَّجَاشِيِّ. ثُمَّ رَوَى عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: " هَذَا كِتَابٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى النَّجَاشِيِّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ الْأَصْحَمِ عَظِيمِ الْحَبَشَةِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَدْعُوكَ بِدَعَايَةِ اللَّهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُهُ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [ آلِ عِمْرَانَ: 64 ] فَإِنْ أَبَيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ النَّصَارَى مِنْ قَوْمِكَ ".
هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ قِصَّةِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ. وَفِي ذِكْرِهِ هَاهُنَا نَظَرٌ ; فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ إِنَّمَا هُوَ إِلَى النَّجَاشِيِّ الَّذِي كَانَ بَعْدَ الْمُسْلِمِ صَاحِبِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، وَذَلِكَ حِينَ كَتَبَ إِلَى مُلُوكِ الْأَرْضِ، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ

قُبَيْلَ الْفَتْحِ، كَمَا كَتَبَ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ قَيْصَرِ الشَّامِ، وَإِلَى كِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ، وَإِلَى صَاحِبِ مِصْرَ، وَإِلَى النَّجَاشِيِّ
قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَتْ كُتُبُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ وَاحِدَةً، يَعْنِي نُسْخَةً وَاحِدَةً، وَكُلُّهَا فِيهَا هَذِهِ الْآيَةُ، وَهِيَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، بِلَا خِلَافٍ ; فَإِنَّهُ مِنْ صَدْرِ السُّورَةِ، وَقَدْ نَزَلَ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ آيَةً مِنْ أَوَّلِهَا فِي وَفْدِ نَجْرَانَ، كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ "، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. فَهَذَا الْكِتَابُ إِلَى الثَّانِي، لَا إِلَى الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: " إِلَى النَّجَاشِيِّ الْأَصْحَمِ " لَعَلَّ " الْأَصْحَمَ " مُقْحَمٌ مِنَ الرَّاوِي بِحَسَبِ مَا فَهِمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَنْسَبُ مِنْ هَذَا هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفَقِيهِ بِمُرْوَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِي شَأْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، إِلَى النَّجَاشِيِّ الْأَصْحَمِ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الْمَلِكَ الْقُدُّوسَ الْمُؤْمِنَ الْمُهَيْمِنَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْبَتُولِ الطَّيِّبَةِ الْحَصِينَةِ، فَحَمَلَتْ بِعِيسَى فَخَلَقَهُ مِنْ رُوحِهِ وَنَفَخَهُ، كَمَا خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وَنَفَخَهُ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْمُوَالَاةِ

عَلَى طَاعَتِهِ وَأَنْ تَتَّبِعَنِي فَتُؤْمِنَ بِي، وَبِالَّذِي جَاءَنِي ; فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمُ ابْنَ عَمِّي جَعْفَرًا وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا جَاؤُوكَ فَاقْرِهِمْ، وَدَعِ التَّجَبُّرَ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ وَجُنُودَكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ بَلَّغْتُ وَنَصَحْتُ، فَاقْبَلُوا نَصِيحَتِي، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ". فَكَتَبَ النَّجَاشِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ مِنَ النَّجَاشِيِّ الْأَصْحَمِ بْنِ أَبْجَرَ: سَلَامٌ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الَّذِي هَدَانِي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَقَدْ بَلَغَنِي كِتَابُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِيمَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ عِيسَى مَا يَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ، وَقَدْ عَرَفْنَا مَا بَعَثْتَ بِهِ إِلَيْنَا، وَقَدْ قَرَيْنَا ابْنَ عَمِّكَ وَأَصْحَابَهُ، فَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَادِقًا مُصَدَّقًا، وَقَدْ بَايَعْتُكَ وَبَايَعْتُ ابْنَ عَمِّكَ، وَأَسْلَمْتُ عَلَى يَدَيْهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَرِيحَا بْنِ الْأَصْحَمِ بْنِ أَبْجَرَ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ آتِيَكَ، فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنَّ مَا تَقُولُ حَقٌّ.

فَصْلٌ
فِي ذِكْرِ مُخَالَفَةِ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي نَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَحَالُفِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَيْهِمْ، عَلَى أَنْ لَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ، حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَصْرِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي شَعْبِ أَبِي طَالِبٍ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَكِتَابَتِهِمْ بِذَلِكَ صَحِيفَةً ظَالِمَةً فَاجِرَةً، وَمَا ظَهَرَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ آيَاتِ النُّبُوَّةِ وَدَلَائِلِ الصِّدْقِ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: ثُمَّ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ اشْتَدُّوا عَلَى

الْمُسْلِمِينَ كَأَشَدِّ مَا كَانُوا، حَتَّى بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ الْجُهْدُ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ، وَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ فِي مَكْرِهَا أَنْ يَقْتُلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَانِيَةً، فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ عَمَلَ الْقَوْمِ جَمَعَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُدْخِلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِعْبَهُمْ، وَأَمَرَهَمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِمَّنْ أَرَادُوا قَتْلَهُ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ، مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَعَلَهُ حَمِيَّةً، وَمِنْهُمْ مَنْ فَعَلَهُ إِيمَانًا وَيَقِينًا، فَلَمَّا عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ مَنَعُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ، اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أَنْ لَا يُجَالِسُوهُمْ، وَلَا يُبَايِعُوهُمْ، وَلَا يَدْخُلُوا بُيُوتَهُمْ، حَتَّى يُسَلِّمُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْقَتْلِ، وَكَتَبُوا فِي مَكْرِهِمْ صَحِيفَةً وَعُهُودًا وَمَوَاثِيقَ، لَا يَقْبَلُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَبَدًا صُلْحًا، وَلَا تَأْخُذُهُمْ بِهِمْ رَأْفَةٌ، حَتَّى يُسْلِمُوهُ لِلْقَتْلِ. فَلَبِثَ بَنُو هَاشِمٍ فِي شِعْبِهِمْ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ وَالْجَهْدُ، وَقَطَعُوا عَنْهُمُ الْأَسْوَاقَ، فَلَا يَتْرُكُوا لَهُمْ طَعَامًا يَقَدَمُ مَكَّةَ وَلَا بَيْعًا إِلَّا بَادَرُوهُمْ إِلَيْهِ فَاشْتَرَوْهُ ; يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنْ يُدْرِكُوا سَفْكَ دَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ إِذَا أَخَذَ النَّاسُ مَضَاجِعَهُمْ، أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاضْطَجَعَ عَلَى فِرَاشِهِ ; حَتَّى يَرَى ذَلِكَ مَنْ أَرَادَ بِهِ مَكْرًا وَاغْتِيَالًا لَهُ، فَإِذَا نَوَّمَ النَّاسُ، أَمَرَ أَحَدَ بَنِيهِ أَوْ إِخْوَتِهِ أَوْ بَنِي عَمِّهِ فَاضْطَجَعَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَ بَعْضَ فُرُشِهِمْ فَيَنَامَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ رَأْسُ ثَلَاثِ سِنِينَ، تَلَاوَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَمِنْ قُصَيٍّ، وَرِجَالٌ مِنْ سِوَاهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ وَلَدَتْهُمْ نِسَاءٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا الرَّحِمَ، وَاسْتَخَفُّوا بِالْحَقِّ، وَاجْتَمَعَ أَمْرُهُمْ مِنْ لَيْلَتِهِمْ عَلَى نَقْضِ مَا تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ مِنْ

الْغَدْرِ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُ، وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَى صَحِيفَتِهِمُ الْأَرَضَةَ، فَلَحَسَتْ كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، وَيُقَالُ: كَانَتْ مُعَلَّقَةً فِي سَقْفِ الْبَيْتِ فَلَمْ تَتْرُكِ اسْمًا لِلَّهِ فِيهَا إِلَّا لَحَسَتْهُ، وَبَقِيَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ شِرْكٍ وَظُلْمٍ وَقَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَأَطْلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ عَلَى الَّذِي صَنَعَ بِصَحِيفَتِهِمْ، فَذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي طَالِبٍ فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: لَا وَالثَّوَاقِبِ، مَا كَذَبَنِي. فَانْطَلَقَ يَمْشِي بِعِصَابَتِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ وَهُوَ حَافِلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ عَامِدِينَ لِجَمَاعَتِهِمْ، أَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ شِدَّةِ الْبَلَاءِ فَأَتَوْهُمْ لِيُعْطُوهُمْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَكَلَّمَ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ: قَدْ حَدَثَتْ أُمُورٌ بَيْنَكُمْ لَمْ نَذْكُرْهَا لَكُمْ، فَأْتُوا بِصَحِيفَتِكُمُ الَّتِي تَعَاهَدْتُمْ عَلَيْهَا، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ صُلْحٌ. وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، خَشْيَةَ أَنْ يَنْظُرُوا فِي الصَّحِيفَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوا بِهَا، فَأَتَوْا بِصَحِيفَتِهِمْ مُعْجَبِينَ بِهَا، لَا يَشُكُّونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدْفُوعٌ إِلَيْهِمْ، فَوَضَعُوهَا بَيْنَهُمْ، وَقَالُوا: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَقْبَلُوا، وَتَرْجِعُوا إِلَى أَمْرٍ يَجْمَعُ قَوْمَكُمْ، فَإِنَّمَا قَطَعَ بَيْنِنَا وَبَيْنَكُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، جَعَلْتُمُوهُ خَطَرًا لِهَلَكَةِ قَوْمِكُمْ وَعَشِيرَتِكُمْ وَفَسَادِهُمْ. فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: إِنَّمَا أَتَيْتُكُمْ لِأُعْطِيَكُمْ أَمْرًا لَكُمْ فِيهِ نَصَفٌ ; إِنَّ ابْنَ أَخِي قَدْ أَخْبَرَنِي وَلَمْ يَكَذِبْنِي، أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ الَّتِي فِي أَيْدِيكُمْ، وَمَحَا كُلَّ اسْمٍ هُوَ لَهُ فِيهَا، وَتَرَكَ فِيهَا غَدْرَكُمْ وَقَطِيعَتَكُمْ إِيَّانَا، وَتَظَاهُرَكُمْ عَلَيْنَا بِالظُّلْمِ، فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ ابْنُ أَخِي

كَمَا قَالَ، فَأَفِيقُوا، فَوَاللَّهِ لَا نُسْلِمُهُ أَبَدًا حَتَّى نَمُوتَ مِنْ عِنْدِ آخِرِنَا، وَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَ بَاطِلًا، دَفَعْنَاهُ إِلَيْكُمْ، فَقَتَلْتُمُوهُ أَوِ اسْتَحْيَيْتُمْ. قَالُوا: قَدْ رَضِينَا بِالَّذِي تَقُولُ. فَفَتَحُوا الصَّحِيفَةَ، فَوَجَدُوا الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَخْبَرَ خَبَرَهَا، فَلَمَّا رَأَتْهَا قُرَيْشٌ كَالَّذِي قَالَ أَبُو طَالِبٍ قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ هَذَا قَطُّ إِلَّا سِحْرٌ مِنْ صَاحَبِكُمْ، فَارْتَكَسُوا، وَعَادُوا بِشَرِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَالشِّدَّةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى رَهْطِهِ، وَالْقِيَامِ بِمَا تَعَاهَدُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: إِنَّ أَوْلَى بِالْكَذِبِ وَالسِّحْرِ غَيْرَنَا، فَكَيْفَ تَرَوْنَ، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي اجْتَمَعْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ قَطِيعَتِنَا أَقْرَبُ إِلَى الْجِبْتِ وَالسِّحْرِ مِنْ أَمْرِنَا، وَلَوْلَا أَنَّكُمُ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى السِّحْرِ، لَمْ تَفْسَدْ صَحِيفَتُكُمْ وَهِيَ فِي أَيْدِيكُمْ ; طَمَسَ اللَّهُ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ اسْمِهِ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ بَغْيٍ تَرَكَهُ، أَفَنَحْنُ السَّحَرَةُ أَمْ أَنْتُمْ ؟ ! فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ النَّفَرُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَبَنِي قُصَيٍّ، وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَلَدَتْهُمْ نِسَاءٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ; مِنْهُمْ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَهُشَامُ بْنُ عَمْرٍو وَكَانَتِ الصَّحِيفَةُ عِنْدَهُ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ فِي رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَوُجُوهِهِمْ: نَحْنُ بُرَآءُ مِمَّا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلٍ. وَأَنْشَأَ أَبُو طَالِبٍ يَقُولُ الشِّعْرَ فِي شَأْنِ صَحِيفَتِهِمْ، وَيَمْتَدِحُ النَّفَرَ الَّذِينَ تَبَرَّؤُوا مِنْهَا، وَنَقَضُوا مَا كَانَ فِيهَا مِنْ عَهْدٍ، وَيَمْتَدِحُ النَّجَاشِيَّ

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَكَذَا رَوَى شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ. يَعْنِي مِنْ طَرِيقٍ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. يَعْنِي كَسِيَاقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ هِجْرَةُ الْحَبَشَةِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ إِلَى الشِّعْبِ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ فِي ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَالْأَشْبَهُ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ إِنَّمَا قَالَ قَصِيدَتَهُ اللَّامِيَّةَ، الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا، بَعْدَ دُخُولِهِمُ الشِّعْبَ أَيْضًا فَذِكْرُهَا هَاهُنَا أَنْسَبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ: مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: فَلَمَّا مَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الَّذِي بُعِثَ بِهِ، وَقَامَتْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ دُونَهُ، وَأَبَوْا أَنْ يُسْلِمُوهُ، وَهُمْ مِنْ خِلَافِهِ عَلَى مِثْلِ مَا قَوْمُهُمْ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُمْ أَنِفُوا أَنْ يَسْتَذِلُّوا وَيُسْلِمُوا أَخَاهُمْ لِمَا قَارَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمَّا فَعَلَتْ ذَلِكَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، وَعَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى مُحَمَّدٍ، اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَكْتُبُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ، وَلَا يَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ، وَلَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ، وَكَتَبُوا صَحِيفَةً فِي ذَلِكَ،

وَعَلَّقُوهَا بِالْكَعْبَةِ، ثُمَّ عَدَوْا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ فَأَوْثَقُوهُمْ وَآذَوْهُمْ، وَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَيْهِمْ، وَعَظُمَتِ الْفِتْنَةُ، وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا. ثُمَّ ذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا فِي دُخُولِهِمْ شِعْبَ أَبِي طَالِبٍ وَمَا بَلَغُوا فِيهِ مِنْ فِتْنَةِ الْجَهْدِ الشَّدِيدِ، حَتَّى كَانَ يُسْمَعُ أَصْوَاتُ صِبْيَانِهِمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنْ وَرَاءِ الشِّعْبِ ; مِنَ الْجُوعِ، حَتَّى كَرِهَ عَامَّةُ قُرَيْشٍ مَا أَصَابَهُمْ، وَأَظْهَرُوا كَرَاهِيَتَهُمْ لِصَحِيفَتِهِمُ الظَّالِمَةِ، وَذَكَرُوا أَنَّ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ أَرْسَلَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ الْأَرَضَةَ، فَلَمْ تَدَعْ فِيهَا اسْمًا هُوَ لِلَّهِ إِلَّا أَكَلَتْهُ، وَبَقِيَ فِيهَا الظُّلْمُ وَالْقَطِيعَةُ وَالْبُهْتَانُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْقِصَّةِ كَرِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَأَتَمَّ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ عَنْ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَزَلُوا بَلَدًا أَصَابُوا مِنْهُ أَمْنًا وَقَرَارًا، وَأَنَّ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَنَعَ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، وَأَنَّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ، فَكَانَ هُوَ وَحَمْزَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، وَجَعَلَ الْإِسْلَامُ يَفْشُو فِي الْقَبَائِلِ، فَاجْتَمَعُوا وَأْتَمَرُوا أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابًا يَتَعَاقَدُونَ فِيهِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَلَى أَنْ لَا يَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ وَلَا يُنْكِحُوهُمْ، وَلَا يَبِيعُوهُمْ شَيْئًا وَلَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ كَتَبُوا فِي صَحِيفَةٍ، ثُمَّ تَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ عَلَّقُوا الصَّحِيفَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ ; تَوْكِيدًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ كَاتِبُ الصَّحِيفَةِ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:

وَيُقَالُ: النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَشُلَّ بَعْضُ أَصَابِعِهِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ الَّذِي كَتَبَ الصَّحِيفَةَ طَلْحَةُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ.
قُلْتُ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مَنْصُورُ بْنُ عِكْرِمَةَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ الَّذِي شُلَّتْ يَدُهُ، فَمَا كَانَ يَنْتَفِعُ بِهَا، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُ بَيْنَهَا: انْظُرُوا إِلَى مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَتِ الصَّحِيفَةُ مُعَلَّقَةً فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا فَعَلَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ، انْحَازَتْ بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَدَخَلُوا مَعَهُ فِي شِعْبِهِ، وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، وَخَرَجَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَبُو لَهَبٍ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ، فَظَاهَرَهُمْ. وَحَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ لَقِيَ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، حِينَ فَارَقَ قَوْمَهُ وَظَاهَرَ عَلَيْهِمْ قُرَيْشًا، فَقَالَ: يَا ابْنَةَ عُتْبَةَ هَلْ نَصَرْتُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَفَارَقْتُ مَنْ فَارَقَهَا وَظَاهَرَ عَلَيْهَا ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا يَا أَبَا عُتْبَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ مَا يَقُولُ: يَعِدُنِي مُحَمَّدٌ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا، يَزْعُمُ أَنَّهَا كَائِنَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَمَاذَا وَضَعَ فِي يَدِي بَعْدَ

ذَلِكَ. ثُمَّ يَنْفُخُ فِي يَدَيْهِ فَيَقُولُ: تَبًّا لَكُمَا، لَا أَرَى فِيكُمَا شَيْئًا مِمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [ الْمَسَدِ: 1 ]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ عَلَى ذَلِكَ قُرَيْشٌ، وَصَنَعُوا فِيهِ الَّذِي صَنَعُوا، قَالَ أَبُو طَالِبٍ:
أَلَا أَبْلِغَا عَنِّي عَلَى ذَاتِ بَيْنِنَا لُؤَيًّا وَخُصَّا مِنْ لُؤَيٍّ بَنِي كَعْبِ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّا وَجَدْنَا مُحَمَّدًا
نَبِيًّا كَمُوسَى خُطَّ فِي أَوَّلِ الْكُتْبِ وَأَنَّ عَلَيْهِ فِي الْعِبَادِ مَحَبَّةً
وَلَا خَيْرَ مِمَّنْ خَصَّهُ اللَّهُ بِالْحُبِّ وَأَنَّ الَّذِي أَلْصَقْتُمْ مِنْ كِتَابِكُمْ
لَكُمْ كَائِنٌ نَحْسًا كَرَاغِيَةِ السَّقْبِ أَفِيقُوا أَفِيقُوا قَبْلَ أَنْ يُحْفَرَ الثَّرَى
وَيُصْبِحَ مَنْ لَمْ يَجْنِ ذَنْبًا كَذِي الذَّنْبِ وَلَا تَتْبَعُوا أَمْرَ الْوُشَاةِ وَتَقْطَعُوا
أَوَاصِرَنَا بَعْدَ الْمَوَدَّةِ وَالْقُرْبِ وَتَسْتَجْلِبُوا حَرْبًا عَوَانًا وَرُبَّمَا
أَمَرَّ عَلَى مَنْ ذَاقَهُ حَلَبُ الْحَرْبِ فَلَسْنَا وَرَبِّ الْبَيْتِ نُسْلِمُ أَحَمَدًا
لِعَزَّاءَ مِنْ عَضِّ الزَّمَانِ وَلَا كَرْبِ

وَلَمَّا تَبِنْ مِنَّا وَمِنْكُمْ سَوَالِفٌ
وَأَيْدٍ أُتِرَّتْ بِالْقُسَاسِيَّةِ الشُّهْبِ بِمُعْتَرَكٍ ضَيْقٍ تَرَى كِسَرَ الْقَنَا
بِهِ وَالنُّسُورَ الطُّخْمَ يَعْكُفْنَ كَالشَّرْبِ كَأَنَّ مُجَالَ الْخَيْلِ. فِي حَجَرَاتِهِ
وَمَعْمَعَةَ الْأَبْطَالِ مَعْرَكَةُ الْحَرْبِ أَلَيْسَ أَبُونَا هَاشِمٌ شَدَّ أَزْرَهُ
وَأَوْصَى بَنِيهِ بِالطِّعَانِ وَبِالضَّرْبِ وَلَسْنَا نَمْلُّ الْحَرْبَ حَتَّى تَمَلَّنَا
وَلَا نَشْتَكِي مَا قَدْ يَنُوبُ مِنَ النَّكْبِ وَلَكِنَّنَا أَهْلُ الْحَفَائِظِ وَالنُّهَى
إِذَا طَارَ أَرْوَاحُ الْكُمَاةِ مِنَ الرُّعْبِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامُوا عَلَى ذَلِكَ سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، حَتَّى جَهِدُوا، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ إِلَّا سِرًّا، مُسْتَخْفِيًا بِهِ مَنْ أَرَادَ صِلَتَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِيمَا يَذْكُرُونَ لَقِيَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ مَعَهُ

غُلَامٌ يَحْمِلُ قَمْحًا، يُرِيدُ بِهِ عَمَّتَهُ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ، وَهِيَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ فِي الشِّعْبِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ، وَقَالَ: أَتَذْهَبُ بِالطَّعَامِ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ ؟ ! وَاللَّهِ لَا تَذْهَبُ أَنْتَ وَطَعَامُكَ حَتَّى أَفْضَحَكَ بِمَكَّةَ. فَجَاءَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ فَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهُ ؟ فَقَالَ: يَحْمِلُ الطَّعَامَ إِلَى بَنِي هَاشِمٍ. فَقَالَ لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: طَعَامٌ كَانَ لِعَمَّتِهِ عِنْدَهُ، بَعَثَتْ إِلَيْهِ، أَتَمْنَعُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامِهَا ؟ ! خَلِّ سَبِيلَ الرَّجُلِ. قَالَ: فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ حَتَّى نَالَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَخَذَ لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ لَحْيَ بِعِيرٍ، فَضَرَبَهُ بِهِ فَشَجَّهُ، وَوَطِئَهُ وَطْئًا شَدِيدًا وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَرِيبٌ يَرَى ذَلِكَ، وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِهِمْ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ يَدْعُو قَوْمَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَسِرًّا وَجِهَارًا، مُنَادِيًا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا يَتَّقِي فِيهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ مَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَقَامَ عَمُّهُ وَقَوْمُهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ دُونَهُ، وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا أَرَادُوا مِنَ الْبَطْشِ بِهِ يَهْمِزُونَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَيُخَاصِمُونَهُ، وَجَعَلَ الْقُرْآنُ يَنْزِلُ فِي قُرَيْشٍ بِأَحْدَاثِهِمْ، وَفِيمَنْ نَصَبَ لِعَدَاوَتِهِ، مِنْهُمْ مَنْ سَمَّى لَنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فِي عَامَّةٍ مَنْ ذَكَرَ اللَّهُ مِنَ الْكُفَّارِ. فَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَبَا لَهَبٍ وَنُزُولَ السُّورَةِ فِيهِ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ وَنُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [ الْهَمْزَةِ: 1 ] السُّورَةِ بِكَمَالِهَا فِيهِ وَالْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ وَنُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا [ مَرْيَمَ: 77 ] فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَقَوْلَهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَتَتْرُكَنَّ سَبَّ آلِهَتِنَا، أَوْ لَنَسُبُّنَّ إِلَهَكَ. وَنُزُولَ قَوْلِ اللَّهِ فِيهِ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ الْآيَةَ [ الْأَنْعَامِ: 108 ] وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عَلْقَمَةُ بْنُ كَلَدَةَ قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ وَجُلُوسَهُ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَجَالِسِهِ، حَيْثُ يَتْلُو الْقُرْآنَ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ، فَيَتْلُو عَلَيْهِمُ النَّضْرُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ رُسْتُمَ وَأَسْفَنْدِيَارَ وَمَا جَرَى بَيْنَهُمَا مِنَ الْحُرُوبِ فِي زَمَنِ الْفُرْسِ، ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ، مَا مُحَمَّدٌ بِأَحْسَنَ حَدِيثًا مِنِّي، وَمَا حَدِيثُهُ إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، اكْتَتَبَهَا كَمَا اكْتَتَبْتُهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [ الْفَرْقَانِ: 5 ] وَقَوْلَهُ

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [ الْجَاثِيَةِ: 7 ]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنَا، يَوْمًا مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حَتَّى جَلَسَ مَعَهُمْ، وَفِي الْمَجْلِسِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ، فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ فَكَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَفْحَمَهُ، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 98 - 100 ] ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ حَتَّى جَلَسَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لَهُ: وَاللَّهِ مَا قَامَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لِابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ آنِفًا وَمَا قَعَدَ، وَقَدْ زَعَمَ مُحَمَّدٌ، أَنَّا وَمَا نَعْبُدُ مِنْ آلِهَتِنَا هَذِهِ، حَصَبُ جَهَنَّمَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَخَصَمْتُهُ، فَسَلُوا مُحَمَّدًا ; أَكُلُّ مَا نَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ ؟ فَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَالْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى. فَعَجِبَ الْوَلِيدُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ الزِّبَعْرَى وَرَأَوْا أَنَّهُ قَدِ احْتَجَّ وَخَاصَمَ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " كُلُّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ، إِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ، وَمَنْ

أَمَرَتْهُمْ بِعِبَادَتِهِ ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِيمَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 101، 102 ] أَيْ ; عِيسَى، وَعُزَيْرٌ وَمَنْ عُبِدَ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ الَّذِينَ مَضَوْا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَنَزَلَ فِيمَا يَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَأَنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 26 ] وَالْآيَاتُ بَعْدَهَا. وَنَزَلَ فِي إِعْجَابِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِ ابْنِ الزِّبَعْرَى وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [ الزُّخْرُفِ: 57، 58 ] وَهَذَا الْجَدَلُ الَّذِي سَلَكُوهُ بَاطِلٌ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ عَرَبٌ وَمِنْ لُغَتِهِمْ أَنَّ " مَا " لِمَا لَا يَعْقِلُ، فَقَوْلُهُ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ. إِنَّمَا أُرِيدَ بِذَلِكَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَحْجَارِ الَّتِي كَانَتْ صُوَرَ أَصْنَامٍ، وَلَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُمْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَلَا الْمَسِيحَ، وَلَا عُزَيْرًا وَلَا أَحَدًا مِنَ الصَّالِحِينَ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ، لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى، فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا ضَرَبُوهُ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنَ الْمَثَلِ جَدَلٌ بَاطِلٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ثُمَّ قَالَ إِنْ هُوَ أَيْ عِيسَى إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ أَيْ بِنُبُوَّتِنَا

وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [ الزُّخْرُفِ: 59 ] أَيْ دَلِيلًا عَلَى تَمَامِ قُدْرَتِنَا عَلَى مَا نَشَاءُ حَيْثُ خَلَقْنَاهُ مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، وَقَدْ خَلَقْنَا حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَخَلَقْنَا آدَمَ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا، وَخَلَقْنَا سَائِرَ بَنِي آدَمَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ أَيْ أَمَارَةً وَدَلِيلًا عَلَى قُدْرَتِنَا الْبَاهِرَةِ وَرَحْمَةٍ مِنَّا [ مَرْيَمَ: 21 ] نَرْحَمُ بِهَا مَنْ نَشَاءُ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ الْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقٍ وَنُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى، فِيهِ: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [ الْقَلَمِ: 10 ] الْآيَاتِ. وَذَكَرَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ حَيْثُ قَالَ: أَيَنْزِلُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَأُتْرَكُ وَأَنَا كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا، وَيُتْرُكُ أَبُو مَسْعُودٍ عَمْرُو بْنُ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيُّ سَيِّدُ ثَقِيفٍ ؟ ! فَنَحْنُ عَظِيمَا الْقَرْيَتَيْنِ. وَنُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [ الزُّخْرُفِ: 31 ] وَالَّتِي بَعْدَهَا. وَذَكَرَ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ حِينَ قَالَ لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ: أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّكَ جَالَسْتَ مُحَمَّدًا، وَسَمِعْتَ مِنْهُ، وَجْهِي مِنْ وَجْهِكَ حَرَامٌ، إِلَّا أَنْ تَتْفُلَ فِي وَجْهِهِ. فَفَعَلَ ذَلِكَ عَدُوُّ اللَّهِ عُقْبَةُ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا [ الْفَرْقَانِ: 27، 28 ] وَالَّتِي بَعْدَهَا.

قَالَ: وَمَشَى أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ بِعَظْمٍ بَالٍ قَدْ أَرَمَّ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ هَذَا بَعْدَ مَا أَرَمَّ ؟ ! ثُمَّ فَتَّهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ نَفَخَهُ فِي الرِّيحِ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " نَعَمْ، أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ وَإِيَّاكَ بَعْدَ مَا تَكُونَانِ هَكَذَا، ثُمَّ يُدْخِلُكَ النَّارَ ". وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [ يس: 78، 79 ] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
قَالَ وَاعْتَرَضَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي، وَهُوَ يَطُوفُ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ، الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وَتَعْبُدْ مَا نَعْبُدُ، فَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [ الْكَافِرُونَ: 1، 2 ] إِلَى آخِرِهَا. وَلَمَّا سَمِعَ أَبُو جَهْلٍ بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الزَّقُّومُ، هُوَ تَمُرُّ يُضْرَبُ بِالزُّبْدِ، ثُمَّ قَالَ: هَلُمُّوا فَلْنَتَزَقَّمْ ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ [ الدُّخَانِ: 43، 44 ] قَالَ: وَوَقَفَ

الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَلِّمُهُ، وَقَدْ طَمِعَ فِي إِسْلَامِهِ، فَمَرَّ بِهِ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ عَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَنْكَثَةَ الْأَعْمَى، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَ يَسْتَقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى أَضْجَرَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ شَغَلَهُ عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْوَلِيدِ وَمَا طَمِعَ فِيهِ مِنْ إِسْلَامِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ انْصَرَفَ عَنْهُ عَابِسًا، وَتَرَكَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [ عَبَسَ: 1، 2 ] إِلَى قَوْلِهِ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ [ عَبَسَ: 14 ] وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ جَاءَهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَنْ عَادَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ إِلَى مَكَّةَ، وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهُمْ إِسْلَامُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَانَ النَّقْلُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَكِنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَلَسَ يَوْمًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ [ النَّجْمِ: 1، 2 ] يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى خَتَمَهَا وَسَجَدَ، فَسَجَدَ مَنْ هُنَاكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ. وَكَانَ لِذَلِكَ سَبَبٌ ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ الْحَجِّ: 52 ] وَذَكَرُوا قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ، وَقَدْ أَحْبَبْنَا الْإِضْرَابَ عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا ; لِئَلَّا يَسْمَعَهَا مَنْ لَا يَضَعُهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا، إِلَّا أَنَّ أَصْلَ الْقِصَّةِ فِي " الصَّحِيحِ ".
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَجَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ الْأَسْوَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَرَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّجْمَ بِمَكَّةَ، فَسَجَدَ فِيهَا، وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ، فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا. فَرَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ حَدَّثَنَا رَبَاحٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ سُورَةَ النَّجْمِ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَنْ عِنْدَهُ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَأَبَيْتُ أَنْ أَسْجُدَ، وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ الْمُطَّلِبُ فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَسْمَعُ أَحَدًا يَقْرَؤُهَا إِلَّا سَجَدَ مَعَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ

عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بِهِ. وَقَدْ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ، بِأَنَّ هَذَا سَجَدَ وَلَكِنَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتِكْبَارًا، وَذَلِكَ الشَّيْخُ الَّذِي اسْتَثْنَاهُابْنُ مَسْعُودٍ لَمْ يَسْجُدْ بِالْكُلِّيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّاقِلَ لَمَّا رَأَى الْمُشْرِكِينَ قَدْ سَجَدُوا مُتَابَعَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَقَدَ أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، وَاصْطَلَحُوا مَعَهُ، وَلَمْ يَبْقَ نِزَاعٌ بَيْنَهُمْ، فَطَارَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ وَانْتَشَرَ حَتَّى بَلَغَ مُهَاجِرَةَ الْحَبَشَةِ بِهَا، فَظَنُّوا صِحَّةَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ طَامِعِينَ بِذَلِكَ، وَثَبَتَتْ جَمَاعَةٌ، وَكِلَاهُمَا مُحْسِنٌ مُصِيبٌ فِيمَا فَعَلَ، فَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَسْمَاءَ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ ; عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَامْرَأَتُهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَامْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَسُوَيْبِطُ بْنُ سَعْدٍ وَطُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَامْرَأَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَشَمَّاسُ بْنُ عُثْمَانَ وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَقَدْ حُبِسَا بِمَكَّةَ حَتَّى مَضَتْ بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَهُوَ مِمَّنْ شُكَّ فِيهِ، أَخَرَجَ إِلَى الْحَبَشَةِ أَمْ لَا وَمُعَتِّبُ بْنُ عَوْفٍ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَابْنُهُ السَّائِبُ وَأَخَوَاهُ قُدَامَةُ

وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا مَظْعُونٍ وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ وَقَدْ حُبِسَ بِمَكَّةَ إِلَى بَعْدِ الْخَنْدَقِ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَامْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَخْرَمَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَقَدْ حُبِسَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ فَانْحَازَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَشَهِدَ مَعَهُمْ بَدْرًا وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ وَامْرَأَتُهُ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ سُهَيْلٍ، وَالسَّكْرَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَامْرَأَتُهُ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ وَقَدْ مَاتَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَخَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرٍ وَسُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سَرْحٍ فَجَمِيعُهُمْ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هِجْرَةُ الْحَبَشَةِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ ". فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قَبِلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. فِيهِ عَنْ أَبِي مُوسَى وَأَسْمَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي مُوسَى وَهُوَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَسَيَأْتِي حَدِيثُ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ حِينَ قَدِمَ مَنْ كَانَ تَأَخَّرَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُصَلِّي، فَيَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فَتَرُدُّ عَلَيْنَا، قَالَ: " إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغُلًا "
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَهُوَ يُقَوِّي تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الثَّابِتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [ الْبَقَرَةِ: 238 ] فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ، وَنُهِينَا عَنِ الْكَلَامِ. عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ الصَّحَابَةِ ; فَإِنَّ زَيْدًا أَنْصَارِيٌّ مَدَنِيٌّ، وَتَحْرِيمُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ ثَبَتَ بِمَكَّةَ، فَتَعَيَّنَ الْحَمْلُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا ذِكْرُهُ الْآيَةَ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ فَمُشْكِلٌ، وَلَعَلَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّهَا الْمُحَرِّمَةُ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُحَرِّمُ لَهُ غَيْرَهَا مَعَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّنْ دَخَلَ مَعَهُمْ بِجِوَارِ ; عُثْمَانَ بْنُ مَظْعُونٍ فِي جِوَارِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ فِي جِوَارِ خَالِهِ أَبِي طَالِبٍ ; فَإِنَّ أُمَّهُ بَرَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فَإِنَّ صَالِحَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حَدَّثَنِي، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: لَمَّا رَأَى عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ مَا فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْبَلَاءِ، وَهُوَ يَرُوحُ وَيَغْدُو فِي أَمَانٍ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ غُدُوِّي وَرَوَاحِي آمِنًا فِي جِوَارِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَأَصْحَابِي وَأَهْلُ دِينِي يَلْقَوْنَ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْأَذَى فِي اللَّهِ مَا لَا يُصِيبُنِي، لَنَقْصٌ كَثِيرٌ فِي نَفْسِي. فَمَشَى إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ وَفَتْ ذِمَّتُكَ، قَدْ رَدَدْتُ إِلَيْكَ جِوَارَكَ. قَالَ: لِمَ يَا بْنَ أَخِي ؟ لَعَلَّهُ آذَاكَ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِي ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِهِ. قَالَ: فَانْطَلِقْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَارْدُدْ عَلَيَّ جِوَارِي عَلَانِيَةً كَمَا أَجَرْتُكَ عَلَانِيَةً. قَالَ: فَانْطَلَقَا، فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا الْمَسْجِدَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ: هَذَا عُثْمَانُ قَدْ جَاءَ يَرُدُّ عَلَيَّ جِوَارِي. قَالَ: صَدَقَ، قَدْ وَجَدْتُهُ وَفِيًّا كَرِيمَ الْجِوَارِ، وَلَكِنِّي قَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ لَا أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْهِ جِوَارَهُ. ثُمَّ انْصَرَفَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ فِي مَجْلِسٍ مِنْ قُرَيْشٍ يَنْشُدُهُمْ، فَجَلَسَ

مَعَهُمْ عُثْمَانُ فَقَالَ لَبِيدٌ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ
فَقَالَ عُثْمَانُ: صَدَقْتَ. فَقَالَ لَبِيدٌ:
وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ
فَقَالَ عُثْمَانُ: كَذَبْتَ ; نَعِيمُ الْجَنَّةِ لَا يَزُولُ. فَقَالَ لَبِيدٌ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ مَا كَانَ يُؤْذَى جَلِيسُكُمْ، فَمَتَى حَدَثَ هَذَا فِيكُمْ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنَّ هَذَا سَفِيهٌ فِي سُفَهَاءَ مَعَهُ، قَدْ فَارَقُوا دِينَنَا، فَلَا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ مِنْ قَوْلِهِ. فَرَدَّ عَلَيْهِ عُثْمَانُ حَتَّى شَرِيَ أَمْرُهُمَا فَقَامَ إِلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَلَطَمَ عَيْنَهُ فَخَضَّرَهَا، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَرِيبٌ يَرَى مَا بَلَغَ عُثْمَانَ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ يَا بْنَ أَخِي، إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ عَمَّا أَصَابَهَا لَغَنِيَّةً، وَلَقَدْ كُنْتَ فِي ذِمَّةٍ مَنِيعَةٍ. قَالَ: يَقُولُ عُثْمَانُ: بَلْ وَاللَّهِ إِنَّ عَيْنِيَ الصَّحِيحَةَ لَفَقِيرَةٌ إِلَى مِثْلِ مَا أَصَابَ أُخْتَهَا فِي اللَّهِ، وَإِنِّي لَفِي جِوَارِ مَنْ هُوَ أَعَزُّ مِنْكَ وَأَقْدَرُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ. فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: هَلُمَّ يَا بْنَ أَخِي إِنْ شِئْتَ إِلَى جِوَارِكَ فَعُدْ. قَالَ: لَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ فَحَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ لَمَّا اسْتَجَارَ بِأَبِي طَالِبٍ مَشَى إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا طَالِبٍ هَذَا مَنَعْتَ مِنَّا ابْنَ أَخِيكَ مُحَمَّدًا، فَمَا لَكَ وَلِصَاحِبِنَا تَمْنَعُهُ مِنَّا،

قَالَ: إِنَّهُ اسْتَجَارَ بِي وَهُوَ ابْنُ أُخْتِي، وَإِنْ أَنَا لَمْ أَمْنَعِ ابْنَ أُخْتِي، لَمْ أَمْنَعِ ابْنَ أَخِي، فَقَامَ أَبُو لَهَبٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَكْثَرْتُمْ عَلَى هَذَا الشَّيْخِ، مَا تَزَالُونَ تَتَوَاثَبُونَ عَلَيْهِ فِي جِوَارِهِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ، وَاللَّهِ لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَنَقُومَنَّ مَعَهُ فِي كُلِّ مَا قَامَ فِيهِ، حَتَّى يَبْلُغَ مَا أَرَادَ. قَالَ: فَقَالُوا: بَلْ نَنْصَرِفُ عَمَّا تَكْرَهُ يَا أَبَا عُتْبَةَ. وَكَانَ لَهُمْ وَلِيًّا وَنَاصِرًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَبْقَوْا عَلَى ذَلِكَ، فَطَمِعَ فِيهِ أَبُو طَالِبٍ حِينَ سَمِعَهُ يَقُولُ مَا يَقُولُ، وَرَجَا أَنْ يَقُومَ مَعَهُ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ يُحَرِّضُ أَبَا لَهَبٍ عَلَى نُصْرَتِهِ وَنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
وَإِنَّ امْرَأً أَبُو عُتَيْبَةَ عَمُّهُ لَفِي رَوْضَةٍ مَا أَنْ يُسَامُ الْمَظَالِمَا
أَقُولُ لَهُ وَأَيْنَ مِنْهُ نَصِيحَتِي أَبَا مُعْتِبٍ ثَبِّتْ سَوَادَكَ قَائِمَا
وَلَا تَقْبَلَنَّ الدَّهْرَ مَا عِشْتَ خُطَّةً تُسَبُّ بِهَا إِمَّا هَبَطْتَ الْمُوَاسِمَا
وَوَلِّ سَبِيلَ الْعَجْزِ غَيْرَكَ مِنْهُمُ فَإِنَّكَ لَمْ تُخْلَقْ عَلَى الْعَجْزِ لَازِمَا
وَحَارِبْ فَإِنَّ الْحَرْبَ نِصْفٌ وَلَنْ تَرَى أَخَا الْحَرْبِ يُعْطِي الْخَسْفَ حَتَّى يُسَالَمَا
وَكَيْفَ وَلَمْ يَجْنُوا عَلَيْكَ عَظِيمَةً وَلَمْ يَخْذُلُوكَ غَانِمًا أَوْ مُغَارِمَا
جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا وَتَيْمًا وَمَخْزُومًا عُقُوقًا وَمَأْثَمَا
بِتَفْرِيقِهِمْ مِنْ بَعْدِ وُدٍّ وَأُلْفَةٍ جَمَاعَتَنَا كَيْمَا يَنَالُوا الْمَحَارِمَا

كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ نُبْزَى مُحَمَّدًا وَلَمَّا تَرَوْا يَوْمًا لَدَى الشِّعْبِ قَائِمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَقِيَ مِنْهَا بَيْتٌ تَرَكْنَاهُ.



ذِكْرُ عَزْمِ الصِّدِّيقِ عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَكَّةُ، وَأَصَابَهُ فِيهَا الْأَذَى، وَرَأَى مِنْ تَظَاهُرِ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ مَا رَأَى، اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْهِجْرَةِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُهَاجِرًا، حَتَّى إِذَا سَارَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْأَحَابِيشِ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: اسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ أَحَدُ بَنِي بَكْرٍ مِنْ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: اسْمُهُ مَالِكٌ فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا أَبَا بَكْرٍ ؟ قَالَ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، وَآذَوْنِي، وَضَيَّقُوا عَلَيَّ. قَالَ: وَلِمَ ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَزِينُ الْعَشِيرَةَ، وَتُعِينُ عَلَى النَّوَائِبِ، وَتَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، ارْجِعْ فَإِنَّكَ فِي جِوَارِي. فَرَجَعَ مَعَهُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ قَامَ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَلَا يَعْرِضْ لَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِخَيْرٍ.

قَالَتْ: فَكَفُّوا عَنْهُ. قَالَتْ: وَكَانَ لِأَبِي بَكْرٍ مَسْجِدٌ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ فِي بَنِي جُمَحَ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا، إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ اسْتَبْكَى. قَالَتْ: فَيَقِفُ عَلَيْهِ الصِّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ وَالنِّسَاءُ، يَعْجَبُونَ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ هَيْئَتِهِ. قَالَتْ: فَمَشَى رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى ابْنِ الدَّغِنَّةِ فَقَالُوا: يَا بْنَ الدَّغِنَةِ إِنَّكَ لَمْ تُجِرْ هَذَا الرَّجُلَ لِيُؤْذِيَنَا، إِنَّهُ رَجُلٌ إِذَا صَلَّى وَقَرَأَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ يَرِقُّ، وَكَانَتْ لَهُ هَيْئَةٌ وَنَحْوٌ، فَنَحْنُ نَتَخَوَّفُ عَلَى صِبْيَانِنَا وَنِسَائِنَا وَضُعَفَائِنَا أَنْ يَفْتِنَهُمْ، فَأْتِهِ فَمُرْهُ بِأَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، فَلْيَصْنَعْ فِيهِ مَا شَاءَ. قَالَتْ: فَمَشَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ إِنِّي لَمْ أُجِرْكَ لِتُؤْذِيَ قَوْمَكَ، وَقَدْ كَرِهُوا مَكَانَكَ الَّذِي أَنْتَ بِهِ، وَتَأَذَّوْا بِذَلِكَ مِنْكَ، فَادْخُلْ بَيْتَكَ فَاصْنَعْ فِيهِ مَا أَحْبَبْتَ. قَالَ: أَوْ أَرُدُّ عَلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ. قَالَ: فَارْدُدْ عَلَيَّ جِوَارِي. قَالَ: قَدْ رَدَدْتُهُ عَلَيْكَ. قَالَتْ: فَقَامَ ابْنُ الدَّغِنَةِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ قَدْ رَدَّ عَلَيَّ جِوَارِي، فَشَأْنُكُمْ بِصَاحِبِكُمْ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَفَرِّدًا بِهِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ

إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَرَفَيِ النَّهَارِ بِكُرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ، فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ فَأَعْبُدَ رَبِّي. فَقَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ مِثْلُهُ، إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَأَنَا لَكَ جَارٌ، ارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ. فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يُخْرَجُ مِثْلُهُ، وَلَا يَخْرُجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ؟ ! فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ، وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ، وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَتَقَذَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ،

وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً، لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَأَعْلَنَ فِي الصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتَتِنَ أَبْنَاؤُنَا وَنِسَاؤُنَا، فَانْهَهُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي قَدْ عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ. فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ فِي هِجْرَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا سَيَأْتِي مَبْسُوطًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: لَقِيَهُ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حِينَ خَرَجَ مِنْ جِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ عَامِدٌ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَحَثَا عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، فَمَرَّ بِأَبِي بَكْرٍ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَوِ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَا تَرَى مَا يَصْنَعُ هَذَا السَّفِيهُ ؟ فَقَالَ: أَنْتَ فَعَلْتَ

ذَلِكَ بِنَفْسِكَ. وَهُوَ يَقُولُ: أَيْ رَبِّ، مَا أَحْلَمَكَ ! أَيْ رَبِّ، مَا أَحْلَمَكَ ! أَيْ رَبِّ، مَا أَحْلَمَكَ !
فَصْلٌ: كُلُّ هَذِهِ الْقِصَصِ ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ مُعْتَرِضًا بِهَا بَيْنَ تَعَاقُدِ قُرَيْشٍ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، وَكِتَابَتِهِمْ عَلَيْهِمُ الصَّحِيفَةَ الظَّالِمَةَ، وَحَصْرِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي الشِّعْبِ، وَبَيْنَ نَقْضِ الصَّحِيفَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا، وَهِيَ أُمُورٌ مُنَاسِبَةٌ لِهَذَا الْوَقْتِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ أَرَادَ الْمَغَازِيَ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى ابْنِ إِسْحَاقَ

نَقْضُ الصَّحِيفَةِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هَذَا وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي مَنْزِلِهِمُ الَّذِي تَعَاقَدَتْ فِيهِ قُرَيْشٌ عَلَيْهِمْ، فِي الصَّحِيفَةِ الَّتِي كَتَبُوهَا، ثُمَّ إِنَّهُ قَامَ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَلَمْ يَبْلُ فِيهَا أَحَدٌ أَحْسَنَ مِنْ بَلَاءِ هِشَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ نَصْرِ بْنِ جُزَيْمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ أَخِي نَضْلَةَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَ هِشَامٌ لِبَنِي هَاشِمٍ وَاصِلًا، وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِي قَوْمِهِ، فَكَانَ فِيمَا بَلَغَنِي يَأْتِي بِالْبَعِيرِ، وَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي الشِّعْبِ لَيْلًا، قَدْ أَوْقَرَهُ طَعَامًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بِهِ فَمَ الشِّعْبِ، خَلَعَ خِطَامَهُ مِنْ رَأْسِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ عَلَى جَنْبَيْهِ، فَدَخَلَ الشِّعْبَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ قَدْ أَوْقَرَهُ بُرًّا، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ مَشَى إِلَى زُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ

وَكَانَتْ أُمُّهُ عَاتِكَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا زُهَيْرُ أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ تَأْكُلَ الطَّعَامَ، وَتَلْبَسَ الثِّيَابَ، وَتَنْكِحَ النِّسَاءَ، وَأَخْوَالُكَ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ لَا يُبَاعُونَ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ، وَلَا يَنْكِحُونَ وَلَا يُنْكَحُ إِلَيْهِمْ ؟ أَمَا إِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَوْ كَانُوا أَخْوَالَ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ ثُمَّ دَعَوْتَهُ إِلَى مِثْلِ مَا دَعَاكَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، مَا أَجَابَكَ إِلَيْهِ أَبَدًا. قَالَ: وَيْحَكَ يَا هِشَامُ ! فَمَاذَا أَصْنَعُ ؟ إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مَعِي رَجُلٌ آخَرُ لَقُمْتُ فِي نَقْضِهَا. قَالَ: قَدْ وَجَدْتَ رَجُلًا. قَالَ: مَنْ هُوَ ؟ قَالَ: أَنَا. قَالَ لَهُ زُهَيْرٌ: أَبْغِنَا ثَالِثًا. فَذَهَبَ إِلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَالَ لَهُ: يَا مُطْعِمُ أَقَدْ رَضِيتَ أَنْ يَهْلِكَ بَطْنَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَنْتَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ. مُوَافِقٌ لِقُرَيْشٍ فِيهِ ؟ ! أَمَا وَاللَّهِ، لَئِنْ أَمْكَنْتُمُوهُمْ مِنْ هَذِهِ لَتَجِدُنَّهُمْ إِلَيْهَا مِنْكُمْ سِرَاعًا. قَالَ: وَيْحَكَ ! فَمَاذَا أَصْنَعُ ؟ إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ. قَالَ: قَدْ وَجَدْتَ لَكَ ثَانِيًا. قَالَ: مَنْ ؟ قَالَ: أَنَا. قَالَ: أَبْغِنَا ثَالِثًا. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: مَنْ هُوَ ؟ قَالَ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ. قَالَ: أَبْغِنَا رَابِعًا. فَذَهَبَ إِلَى أَبِي الْبَخْتَرِيِّ بْنِ هِشَامٍ فَقَالَ لَهُ نَحْوًا مِمَّا قَالَ لِلْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَالَ: وَهَلْ تَجِدُ أَحَدًا يُعِينُ عَلَى هَذَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَنْ هُوَ ؟ قَالَ: زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ وَالْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ وَأَنَا مَعَكَ. قَالَ: أَبْغِنَا خَامِسًا. فَذَهَبَ إِلَى زَمْعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ. فَكَلَّمَهُ وَذَكَرَ لَهُ قَرَابَتَهُمْ وَحَقَّهُمْ، فَقَالَ لَهُ: وَهَلْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تَدْعُونِي إِلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ سَمَّى الْقَوْمَ. فَاتَّعَدُوا خَطْمَ الْحَجُونِ لَيْلًا بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَاجْتَمَعُوا هُنَالِكَ، وَأَجْمَعُوا

أَمْرَهُمْ، وَتَعَاقَدُوا عَلَى الْقِيَامِ فِي الصَّحِيفَةِ حَتَّى يَنْقُضُوهَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ: أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَتَكَلَّمُ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إِلَى أَنْدِيَتِهِمْ، وَغَدَا زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَلَيْهِ حُلَّةٌ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، أَنَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَنَلْبَسُ الثِّيَابَ، وَبَنُو هَاشِمٍ هَلْكَى، لَا يَبْتَاعُونَ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ ؟ وَاللَّهِ، لَا أَقْعُدُ حَتَّى تُشَقَّ هَذِهِ الصَّحِيفَةُ الْقَاطِعَةُ الظَّالِمَةُ. قَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَكَانَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ: كَذَبْتَ، وَاللَّهِ لَا تُشَقُّ. قَالَ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ: أَنْتَ وَاللَّهِ أَكْذَبُ، مَا رَضِينَا كِتَابَهَا حَيْثُ كُتِبَتْ. قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: صَدَقَ زَمْعَةُ لَا نَرْضَى مَا كُتِبَ فِيهَا، وَلَا نُقِرُّ بِهِ. قَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ: صَدَقْتُمَا وَكَذَبَ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ، نَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا، وَمِمَّا كُتِبَ فِيهَا. قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ قُضِيَ بِلَيْلٍ، تُشُووِرَ فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ. وَأَبُو طَالِبٍ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، وَقَامَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ إِلَى الصَّحِيفَةِ لِيَشُقَّهَا، فَوَجَدَ الْأَرَضَةَ قَدْ أَكَلَتْهَا إِلَّا " بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ "، وَكَانَ كَاتِبُ الصَّحِيفَةِ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ فُشَلَّتْ يَدُهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِي طَالِبٍ: يَا عَمِّ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَلَّطَ الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ، فَلَمْ تَدَعْ فِيهَا اسْمًا هُوَ لِلَّهِ إِلَّا أَثْبَتَتْهُ فِيهَا، وَنَفَتْ مِنْهَا الظُّلْمَ وَالْقَطِيعَةَ وَالْبُهْتَانَ ". فَقَالَ: أَرَبُّكَ أَخْبَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا يَدْخُلُ عَلَيْكَ أَحَدٌ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ! إِنَّ ابْنَ أَخِي أَخْبَرَنِي بِكَذَا وَكَذَا، فَهَلُمَّ صَحِيفَتَكُمْ فَإِنْ كَانَتْ كَمَا قَالَ، فَانْتَهُوا عَنْ قَطِيعَتِنَا، وَانْزِلُوا عَنْهَا. وَإِنْ كَانَ

كَاذِبًا، دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ ابْنَ أَخِي. فَقَالَ الْقَوْمُ: قَدْ رَضِينَا فَتَعَاقَدُوا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ نَظَرُوا فَإِذَا هِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَزَادَهُمْ ذَلِكَ شَرًّا، فَعِنْدَ ذَلِكَ صَنَعَ الرَّهْطُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ مَا صَنَعُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا مُزِّقَتْ وَبَطَلَ مَا فِيهَا، قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَامُوا فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ، يَمْدَحُهُمْ:
أَلَا هَلْ أَتَى بَحْرِيَّنَا صُنْعُ رَبِّنَا عَلَى نَأْيِهِمْ وَاللَّهُ بِالنَّاسِ أَرْوَدُ فَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ الصَّحِيفَةَ مُزِّقَتْ
وَأَنَّ كَلَّ مَا لَمْ يَرْضَهُ اللَّهُ مُفْسَدُ تَرَاوَحَهَا إِفْكٌ وَسِحْرٌ مَجَمَّعٌ
وَلَمْ يُلْفَ سِحْرٌ آخِرَ الدَّهْرِ يَصْعَدُ تَدَاعَى لَهَا مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِقَرْقَرٍ
فَطَائِرُهَا فِي رَأْسِهَا يَتَرَدَّدُ وَكَانَتْ كِفَاءً وَقْعَةٌ بِأَثِيمَةٍ
لِيُقْطَعَ مِنْهَا سَاعِدٌ وَمُقَلَّدُ وَيَظْعَنَ أَهْلُ الْمَكَّتَيْنِ فَيَهْرُبُوا
فَرَائِصُهُمْ مِنْ خَشْيَةِ الشَّرِّ تُرْعَدُ

وَيُتْرَكَ حَرَّاثٌ يُقَلِّبُ أَمْرَهُ
أَيُتْهِمُ فِيهَا عِنْدَ ذَاكَ. وَيُنْجِدُ وَتَصْعَدُ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ كَتِيبَةٌ
لَهَا حُدُجٌ سَهْمٌ وَقَوْسٌ وَمِرْهَدُ فَمَنْ يَنْشَ مِنْ حُضَّارِ مَكَّةَ عِزُّهُ
فَعِزَّتُنَا فِي بَطْنِ مَكَّةَ أَتْلَدُ نَشَأْنَا بِهَا وَالنَّاسُ فِيهَا قَلَائِلٌ
فَلَمْ نَنْفَكِكْ نَزْدَادُ خَيْرًا وَنُحْمَدُ وَنُطْعِمُ حَتَّى يَتْرُكَ النَّاسُ فَضْلَهُمْ
إِذَا جَعَلَتْ أَيْدِي الْمُفِيضِينَ تُرْعَدُ جَزَى اللَّهُ رَهْطًا بِالْحَجُونِ تَتَابَعُوا
عَلَى مَلَأٍ يَهْدِي لِحَزْمٍ وَيُرْشِدُ قُعُودًا لَدَى خَطْمِ الْحَجُونِ كَأَنَّهُمْ
مَقَاوِلَةٌ بَلْ هُمْ أَعَزُّ وَأَمْجَدُ

أَعَانَ عَلَيْهَا كُلُّ صَقْرٍ كَأَنَّهُ إِذَا مَا
مَشَى فِي رَفْرَفِ الدِّرْعِ أَحْرَدُ جَرِيءٌ عَلَى جُلَّى الْخُطُوبِ كَأَنَّهُ
شِهَابٌ بِكَفَّيْ قَابِسٍ يَتَوَقَّدُ مِنَ الْأَكْرَمِينَ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ
إِذَا سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ يَتَرَبَّدُ طَوِيلُ النِّجَادِ خَارِجٌ نِصْفُ سَاقِهِ
عَلَى وَجْهِهِ يُسْقَى الْغَمَامُ وَيُسْعَدُ عَظِيمُ الرَّمَادِ سَيِّدٌ وَابْنُ سَيِّدٍ
يَحُضُّ عَلَى مَقْرَى الضُّيُوفِ وَيَحْشُدُ وَيَبْنِي لِأَبْنَاءِ الْعَشِيرَةِ صَالِحًا
إِذَا نَحْنُ طُفْنَا فِي الْبِلَادِ وَيَمْهَدُ أَلَظَّ بِهَذَا الصُّلْحِ كُلُّ مُبَرَّأٍ
عَظِيمِ اللِّوَاءِ أَمْرُهُ ثُمَّ يُحْمَدُ قَضَوْا مَا قَضَوْا فِي لَيْلِهِمْ
ثُمَّ أَصْبَحُوا عَلَى مَهَلٍ وَسَائِرُ النَّاسِ رُقَّدُ هُمُ رَجَعُوا سَهْلَ بْنَ بَيْضَاءَ رَاضِيًا
وَسُرَّ أَبُو بَكْرٍ بِهَا وَمُحَمَّدُ مَتَى شُرِّكَ الْأَقْوَامُ فِي جُلِّ أَمْرِنَا
وَكُنَّا قَدِيمًا قَبْلَهَا نُتَوَدَّدُ وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً
وَنُدْرِكُ مَا شِئْنَا وَلَا نَتَشَدَّدُ فَيَالَ قُصَيٍّ هَلْ لَكُمْ فِي نُفُوسِكُمْ
وَهَلْ لَكُمْ فِيمَا يَجِيءُ بِهِ غَدُ

فَإِنِّي وَإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ قَائِلٌ
لَدَيْكَ الْبَيَانُ لَوْ تَكَلَّمْتَ أَسْوَدُ
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: أَسْوَدُ اسْمُ جَبَلٍ قُتِلَ بِهِ قَتِيلٌ، وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَقَالَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ: لَدَيْكَ الْبَيَانُ لَوْ تَكَلَّمْتَ أَسْوَدُ. أَيْ: يَا أَسْوَدُ، لَوْ تَكَلَّمْتَ لَأَبَنْتَ لَنَا عَمَّنْ قَتَلَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ: شِعْرَ حَسَّانَ يَمْدَحُ الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ وَهُشَامَ بْنَ عَمْرٍو ; لِقِيَامِهِمَا فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ الظَّالِمَةِ الْفَاجِرَةِ الْغَاشِمَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأُمَوِيُّ هَاهُنَا أَشْعَارًا كَثِيرَةً اكْتَفَيْنَا بِمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ صَالِحٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَتَى خَرَجَ بَنُو هَاشِمٍ مِنَ الشِّعْبِ ؟ قَالَا: فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ. يَعْنِي مِنَ الْبِعْثَةِ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ.
قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَوْجَتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَصْلٌ ( ذِكْرُ عَدَاوَةِ قُرَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَنْفِيرِ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَالْقَادِمِينَ إِلَى مَكَّةَ )
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ إِبْطَالِ الصَّحِيفَةِ قِصَصًا كَثِيرَةً، تَتَضَمَّنُ نَصْبَ عَدَاوَةِ قُرَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَنْفِيرَ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَالْقَادِمِينَ إِلَى مَكَّةَ لِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِظْهَارَ اللَّهِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدَيْهِ ; دِلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَتَكْذِيبًا لَهُمْ فِيمَا يَرْمُونَهُ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ وَالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ، وَيَرْمُونَهُ مِنَ الْجُنُونِ وَالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالتَّقَوُّلِ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ; فَذَكَرَ قِصَّةَ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدَّوْسِيِّ مُرْسَلَةً، وَكَانَ سَيِّدًا مُطَاعًا شَرِيفًا فِي " دَوْسٍ ". وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مَكَّةَ، فَاجْتَمَعَ بِهِ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ وَحَذَّرُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَهَوْهُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ، أَوْ يَسْمَعَ كَلَامَهُ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا بِي، حَتَّى أَجْمَعْتُ أَنْ لَا أَسْمَعَ مِنْهُ شَيْئًا وَلَا أُكَلِّمَهُ، حَتَّى حَشَوْتُ أُذُنِيَّ حِينَ غَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ كُرْسُفًا ; فَرَقًا مِنْ أَنْ يَبْلُغَنِي شَيْءٌ مِنْ قَوْلِهِ، وَأَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَهُ. قَالَ: فَغَدَوْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، قَالَ: فَقُمْتُ مِنْهُ قَرِيبًا، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُ كَلَامًا حَسَنًا. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاثُكْلَ أُمِّي ! وَاللَّهِ إِنِّي لَرَجُلٌ لَبِيبٌ شَاعِرٌ، مَا يَخْفَى عَلَيَّ الْحَسَنُ مِنَ الْقَبِيحِ، فَمَا يَمْنَعُنِي أَنَّ أَسْمَعَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ مَا يَقُولُ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ حَسَنًا قَبِلْتُهُ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا تَرَكْتُهُ. قَالَ: فَمَكَثْتُ حَتَّى انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ، دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ قَوْمَكَ قَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا، لِلَّذِي قَالُوا. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا بَرِحُوا بِي يُخَوِّفُونَنِي أَمْرَكَ حَتَّى سَدَدْتُ أُذُنَيَّ بِكُرْسُفٍ ; لِئَلَّا أَسْمَعَ قَوْلَكَ، ثُمَّ أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُسْمِعَنِي قَوْلَكَ، فَسَمِعْتُ قَوْلًا حَسَنًا، فَاعْرِضْ عَلَيَّ أَمْرَكَ. قَالَ: فَعَرَضَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيَّ الْقُرْآنَ، فَلَا وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ قَوْلًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَلَا أَمْرًا أَعْدَلَ مِنْهُ. قَالَ: فَأَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، وَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي امْرُؤٌ مُطَاعٌ فِي قَوْمِي، وَإِنِّي رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ، وَدَاعِيهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي آيَةً تَكُونُ لِي عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِيمَا أَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. قَالَ: فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً ". قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَى قَوْمِي، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةٍ تُطْلِعُنِي عَلَى الْحَاضِرِ، وَقَعَ نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيَّ مِثْلُ الْمِصْبَاحِ. قَالَ: فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ فِي غَيْرِ وَجْهِي ; فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَظُنُّوا بِهَا مُثْلَةً وَقَعَتْ فِي وَجْهِي لِفِرَاقِي دِينَهُمْ. قَالَ: فَتَحَوَّلَ فَوَقَعَ فِي رَأْسِ سَوْطِي. قَالَ: فَجُعِلَ الْحَاضِرُ يَتَرَاءَوْنَ ذَلِكَ النُّورَ فِي رَأْسِ سَوْطِي كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلَّقِ، وَأَنَا أَنْهَبِطُ عَلَيْهِمْ مِنَ الثَّنِيَّةِ، حَتَّى جِئْتُهُمْ فَأَصْبَحْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا نَزَلْتُ أَتَانِي أَبِي، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، فَقُلْتُ: إِلَيْكَ عَنِّي يَا أَبَتِ، فَلَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي. قَالَ: وَلِمَ يَا بُنَيَّ ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَسْلَمْتُ وَتَابَعْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، دِينِي دِينُكَ. فَقُلْتُ: فَاذْهَبْ فَاغْتَسِلْ وَطَهِّرْ ثِيَابَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي حَتَّى أُعَلِّمَكَ مِمَّا عَلِمْتُ. قَالَ: فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ. قَالَ: ثُمَّ جَاءَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَ.
قَالَ: ثُمَّ

أَتَتْنِي صَاحِبَتِي، فَقُلْتُ: إِلَيْكِ عَنِّي، فَلَسْتُ مِنْكِ وَلَسْتَ مِنِّي. قَالَتْ: وَلِمَ ؟ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ: قُلْتُ: فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ الْإِسْلَامُ، وَتَابَعْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَتْ: فَدِينِي دِينُكَ. قَالَ: قُلْتُ: فَاذْهَبِي إِلَى حِنَى ذِي الشَّرَى، فَتَطَهَّرِي مِنْهُ. وَكَانَ ذُو الشَّرَى صَنَمًا لِدَوْسٍ، وَكَانَ الْحِمَى حِمَى حَمَوْهُ لَهُ، بِهِ وَشَلٌ مِنْ مَاءٍ يَهْبِطُ مِنْ جَبَلٍ. قَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَتَخْشَى عَلَى الصَّبِيَّةِ مِنْ ذِي الشَّرَى شَيْئًا ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، أَنَا ضَامِنٌ لِذَلِكَ. قَالَ: فَذَهَبَتْ فَاغْتَسَلَتْ، ثُمَّ جَاءَتْ فَعَرَضْتُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَتْ، ثُمَّ دَعَوْتُ دَوْسًا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَبْطَؤُوا عَلَيَّ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى دَوْسٍ الزِّنَا فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ. قَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَادْعُهُمْ وَارْفُقْ بِهِمْ ". قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ بِأَرْضِ دَوْسٍ أَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ، ثُمَّ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْ أَسْلَمَ مَعِي مِنْ قَوْمِي، وَرَسُولُ اللَّهِ بِخَيْبَرَ، حَتَّى نَزَلْتُ الْمَدِينَةَ بِسَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ بَيْتًا مِنْ دَوْسٍ، فَلَحِقْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ. فَأَسْهَمَ لَنَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَمْ أَزَلْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إِذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْعَثْنِي إِلَى ذِي الْكَفَّيْنِ صَنَمِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ حَتَّى أَحْرِقَهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجَ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ الطُّفَيْلُ وَهُوَ يُوقِدُ عَلَيْهِ النَّارَ، يَقُولُ:

يَا ذَا الْكَفَّيْنِ لَسْتُ مِنْ عُبَّادِكَا مِيلَادُنَا أَقْدَمُ مِنْ مِيلَادِكَا
إِنِّي حَشَوْتُ النَّارَ فِي فُؤَادِكَا
قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَانَ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ، حَتَّى قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ خَرَجَ الطُّفَيْلُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَارَ مَعَهُمْ حَتَّى فَرَغُوا مِنْ طُلَيْحَةَ وَمِنْ أَرْضِ نَجْدٍ كُلِّهَا، ثُمَّ سَارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْيَمَامَةِ وَمَعَهُ ابْنُهُ عَمْرُو بْنُ الطُّفَيْلِ فَرَأَى رُؤْيَا وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا فَاعْبُرُوهَا لِي ; رَأَيْتُ أَنَّ رَأْسِي حُلِقَ، وَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ فَمِي طَائِرٌ، وَأَنَّهُ لَقِيَتْنِي امْرَأَةٌ فَأَدْخَلَتْنِي فِي فَرْجِهَا، وَأَرَى ابْنِي يَطْلُبُنِي طَلَبًا حَثِيثًا، ثُمَّ رَأَيْتُهُ حُبِسَ عَنِّي. قَالُوا: خَيْرًا. قَالَ: أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ، فَقَدْ أَوَّلْتُهَا. قَالُوا: مَاذَا ؟ قَالَ: أَمَّا حَلْقُ رَأْسِي فَوَضْعُهُ، وَأَمَّا الطَّائِرُ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ فَرُوحِي، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي أَدْخَلَتْنِي فِي فَرْجِهَا فَالْأَرْضُ تُحْفَرُ لِي فَأُغَيَّبُ فِيهَا، وَأَمَّا طَلَبُ ابْنِي إِيَّايَ ثُمَّ حَبْسُهُ عَنِّي، فَإِنِّي أَرَاهُ سَيَجْهَدُ أَنْ يُصِيبَهُ مَا أَصَابَنِي. فَقُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى شَهِيدًا بِالْيَمَامَةِ، وَجُرِحَ ابْنُهُ جِرَاحَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ اسْتَبَلَّ مِنْهَا، ثُمَّ قُتِلَ عَامَ الْيَرْمُوكِ زَمَنَ عُمَرَ شَهِيدًا رَحِمَهُ اللَّهُ. هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو مُرْسَلَةً بِلَا إِسْنَادٍ.
وَلِخَبَرِهِ شَاهِدٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ; قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الطُّفَيْلُ

وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ دَوْسًا قَدِ اسْتَعْصَتْ. قَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَأْتِ بِهِمْ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:قَدِمَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ، فَقُلْتُ: هَلَكَتْ دَوْسٌ. فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَأْتِ بِهِمْ ". إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍأَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدَّوْسِيَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنَعَةٍ ؟ قَالَ: حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَأَبَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي ذَخَرَ اللَّهُ لِلْأَنْصَارِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ، هَاجَرَ إِلَيْهِ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَمَرِضِ فَجَزِعَ فَأَخَذَ مَشَاقِصَ فَقَطَعَ

بِهَا بِرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: فَمَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ يُصْلَحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ. قَالَ: فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ جُنْدَبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَبْدِي بَادَرَنِي بِنَفْسِهِ، فَحَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ". فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ ; أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَاكَ مُشْرِكًا، وَهَذَا مُؤْمِنٌ، وَيَكُونُ قَدْ جُعِلَ هَذَا الصَّنِيعُ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا فِي دُخُولِهِ النَّارَ، وَإِنْ كَانَ شِرْكُهُ مُسْتَقِلًّا، إِلَّا أَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى هَذَا لِتَعْتَبِرَ أُمَّتُهُ. الثَّانِي: قَدْ يَكُونُ

هَذَاكَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ، وَهَذَا غَيْرُ عَالِمٍ لِحَدَاثَةِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ. الثَّالِثُ: قَدْ يَكُونُ ذَاكَ فَعَلَهُ مُسْتَحِلًّا لَهُ، وَهَذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِلًّا، بَلْ مُخْطِئًا. الرَّابِعُ: قَدْ يَكُونُ أَرَادَ ذَاكَ بِصَنِيعِهِ الْمَذْكُورِ، أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، بِخِلَافِ هَذَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ غَيْرَ ذَلِكَ. الْخَامِسُ: قَدْ يَكُونُ هَذَاكَ قَلِيلَ الْحَسَنَاتِ، فَلَمْ تُقَاوِمْ كِبَرَ ذَنْبِهِ الْمَذْكُورِ، فَدَخَلَ النَّارَ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ كَثِيرَ الْحَسَنَاتِ، فَقَاوَمَتِ الذَّنْبَ، فَلَمْ يَلِجِ النَّارَ، بَلْ غُفِرَ لَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ بَقِيَ الشَّيْنُ فِي يَدِهِ فَقَطْ، وَحَسُنَتْ هَيْئَةُ سَائِرِهِ، فَغَطَّى الشَّيْنَ مِنْهُ، فَلَمَّا رَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، قَالَ لَهُ: مَا لَكَ ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ يُصْلَحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ. فَلَمَّا قَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا لَهُ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ، وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ ". أَيْ فَأَصْلِحْ مِنْهَا مَا كَانَ فَاسِدًا. وَالْمُحَقَّقُ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَاحِبِ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو.

قِصَّةُ أَعْشَى بْنِ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي خَلَّادُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ السَّدُوسِيُّ، وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ أَعْشَى بْنَ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ الْإِسْلَامَ، فَقَالَ يَمْدَحُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاكَ لَيْلَةً أَرْمَدَا وَبَتَّ كَمَا بَاتَ السَّلِيمُ مُسَهَّدًا وَمَا ذَاكَ مِنْ عِشْقِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا
تَنَاسَيْتَ قَبْلَ الْيَوْمِ خُلَّةً مُهْدَدَا وَلَكِنْ أَرَى الدَّهْرَ الَّذِي هُوَ خَائِنٌ
إِذَا أَصْلَحَتْ كَفَّايَ عَادَ فَأَفْسَدَا كُهُولًا وَشُبَّانًا فَقَدْتُ وَثَرْوَةً
فَلِلَّهِ هَذَا الدَّهْرُ كَيْ تَرَدَّدَا

وَمَا زِلْتُ أَبْغِي الْمَالَ مُذْ أَنَا يَافِعٌ
وَلِيدًا وَكَهْلًا حِينَ شِبْتُ وَأَمْرَدَا وَأَبْتَذِلُ الْعِيسَ الْمَرَاقِيلَ تَعْتَلِي
مَسَافَةَ مَا بَيْنَ النُّجَيْرِ فَصَرْخَدَا أَلَا أيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ يَمَّمَتْ
فَإِنَّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا فَإِنْ تَسْأَلِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سَائِلٍ
حَفِيٍّ عَنِ الْأَعْشَى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدَا أَجَدَّتْ بِرِجْلَيْهَا نِجَاءً وَرَاجَعَتْ
يَدَاهَا خِنَاقًا لَيِّنًا غَيْرَ أَحْرَدَا وَفِيهَا إِذَا مَا هَجَّرَتْ عَجْرَفِيَّةٌ
إِذَا خِلْتَ حِرْبَاءَ الظَّهِيرَةِ أَصَيْدَا

وَآلَيْتُ لَا آوِي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ
وَلَا مِنْ حَفًى حَتَّى تُلَاقِي مُحَمَّدَا مَتَى مَا تُنَاخِي عِنْدَ بَابِ ابْنِ هَاشِمٍ
تُرَاحِي وَتَلْقَى مِنْ فَوَاضِلِهِ نَدَى نَبِيٌّ يَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَذِكْرُهُ
أَغَارَ لَعَمْرِي فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا لَهُ صَدَقَاتٌ مَا تُغِبُّ وَنَائِلٌ
فَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمِ مَانِعَهُ غَدَا أَجِدَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَصَاةَ مُحَمَّدٍ
نَبِيِّ الْإِلَهِ حَيْثُ أَوْصَى وَأَشْهَدَا إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى
وَلَاقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ
فَتُرْصِدَ لِلْأَمْرِ الَّذِي كَانَ أَرَصَدَا فَإِيَّاكَ وَالْمَيْتَاتِ لَا تَقْرَبَنَّهَا
وَلَا تَأْخُذَنْ سَهْمًا حَدِيدًا لِتَفْصِدَا وَذَا النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنَّهُ
وَلَا تَعْبُدِ الْأَوْثَانَ وَاللَّهَ فَاعْبُدَا وَلَا تَقْرَبَنَّ حُرَّةً كَانَ سِرُّهَا
عَلَيْكَ حَرَامًا فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا

وَذَا الرَّحِمِ الْقُرْبَى فَلَا تَقْطَعَنَّهُ.
لِعَاقِبَةٍ وَلَا الْأَسِيرَ الْمُقَيَّدَا وَسَبِّحْ عَلَى حِينِ الْعَشِيَّةِ وَالضُّحَى
وَلَا تَحْمَدِ الشَّيْطَانَ وَاللَّهَ فَاحْمَدَا وَلَا تَسْخَرَنَّ مِنْ بَائِسٍ ذِي ضَرَارَةٍ
وَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَالَ لِلْمَرْءِ مُخْلِدَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَلَمَّا كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، اعْتَرَضَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ جَاءَ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُسْلِمَ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا بَصِيرٍ إِنَّهُ يُحَرِّمُ الزِّنَا. فَقَالَ الْأَعْشَى: وَاللَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَأَمْرٌ مَا لِي فِيهِ مِنْ أَرَبٍ. فَقَالَ: يَا أَبَا بَصِيرٍ إِنَّهُ يُحَرِّمُ الْخَمْرَ. فَقَالَ الْأَعْشَى: أَمَّا هَذِهِ فَوَاللَّهِ إِنَّ فِي النَّفْسِ مِنْهَا لَعُلَالَاتٍ، وَلَكِنِّي مُنْصَرِفٌ فَأَتَرَوَّى مِنْهَا عَامِي هَذَا، ثُمَّ آتِيهِ فَأُسْلِمُ. فَانْصَرَفَ، فَمَاتَ فِي عَامِهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعُدْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. هَكَذَا أَوْرَدَ ابْنُ هِشَامٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ هَاهُنَا، وَهُوَ كَثِيرُ الْمُؤَاخَذَاتِ لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهَذَا مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ ابْنُ هِشَامٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّ الْخَمْرَ إِنَّمَا حُرِّمَتْ بِالْمَدِينَةِ، بَعْدَ وَقْعَةِ بَنِي النَّضِيرِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ عَزْمَ الْأَعْشَى عَلَى الْقُدُومِ لِلْإِسْلَامِ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَفِي شِعْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ:

أَلَا أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ يَمَّمَتْ فَإِنَّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا
وَكَانَ الْأَنْسَبُ وَالْأَلْيَقُ بِابْنِ هِشَامٍ أَنَّ يُؤَخِّرَ ذِكْرَ هَذِهِ الْقِصَّةِ إِلَى مَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَلَا يُورِدَهَا هَاهُنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهَذِهِ غَفْلَةٌ مِنَ ابْنِ هِشَامٍ وَمَنْ تَابَعَهُ، فَإِنَّ النَّاسَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ لَمْ يَنْزِلْ تَحْرِيمُهَا إِلَّا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ أُحُدٍ. وَقَدْ قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّ الْقَائِلَ لِلْأَعْشَى هُوَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي دَارِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ الْقَائِلَ لَهُ ذَلِكَ، هُوَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فِي بِلَادِ قَيْسٍ، وَهُوَ مُقْبِلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: وَقَوْلُهُ: ثُمَّ آتِيهِ فَأُسْلِمُ. لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كُفْرِهِ، بِلَا خِلَافٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَاهُنَا قِصَّةَ الْإِرَاشِيِّ وَكَيْفَ اسْتَعْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَبِي جَهْلٍ فِي ثَمَنِ الْجَمَلِ الَّذِي ابْتَاعَهُ مِنْهُ، وَكَيْفَ أَذَلَّ اللَّهُ أَبَا جَهْلٍ وَأَرْغَمَ أَنْفَهُ، حَتَّى أَعْطَاهُ ثَمَنَهُ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْوَحْيِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ ذَلِكَ.

قِصَّةُ مُصَارَعَةِ رُكَانَةَ وَكَيْفَ أَرَاهُ الشَّجَرَةَ الَّتِي دَعَاهَا فَأَقْبَلَتْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَحَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ: وَكَانَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أَشَدَّ قُرَيْشٍ، فَخَلَا يَوْمًا بِرَسُولِ اللَّهِ فِي بَعْضِ شِعَابِ مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " يَا رُكَانَةُ أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ وَتَقْبَلُ مَا أَدْعُوكَ إِلَيْهِ ؟ " قَالَ: إِنِّي لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي تَقُولُ حَقٌّ لَاتَّبَعْتُكَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَفَرَأَيْتَ إِنْ صَرَعْتُكَ، أَتَعْلَمُ أَنَّ مَا أَقُولُ حَقٌّ ؟ ". قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " فَقُمْ حَتَّى أُصَارِعَكَ ". قَالَ: فَقَامَ رُكَانَةُ إِلَيْهِ فَصَارَعَهُ، فَلَمَّا بَطَشَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَضْجَعَهُ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: عُدْ يَا مُحَمَّدُ. فَعَادَ فَصَرَعَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَلْعَجَبُ أَتَصْرَعُنِي ؟ ! قَالَ: " وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ إِنْ شِئْتَ أُرِيكَهُ، إِنِ اتَّقَيْتَ اللَّهَ وَاتَّبَعْتَ أَمْرِي ". قَالَ وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: أَدْعُو لَكَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ الَّتِي تَرَى فَتَأْتِيَنِي ". قَالَ: ادْعُهَا. فَدَعَاهَا، فَأَقْبَلَتْ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ لَهَا: " ارْجِعِي إِلَى مَكَانِكِ ". فَرَجَعَتْ إِلَى مَكَانِهَا، قَالَ: فَذَهَبَ رُكَانَةُ إِلَى قَوْمِهِ. فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، سَاحِرُوا بِصَاحِبِكُمْ أَهْلَ الْأَرْضِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسْحَرَ مِنْهُ

قَطُّ. ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِالَّذِي رَأَى وَالَّذِي صَنَعَ. هَكَذَا رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُرْسَلَةً بِهَذَا السِّيَاقِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْحَسَنِ الْعَسْقَلَانِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رُكَانَةَ صَارَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ، وَلَا نَعْرِفُ أَبَا الْحَسَنِ وَلَا ابْنَ رُكَانَةَ.
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ يَزِيدَ بْنَ رُكَانَةَ صَارَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَرَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ مَرَّةٍ عَلَى مِائَةٍ مِنَ الْغَنَمِ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَا وَضَعَ ظَهْرِي إِلَى الْأَرْضِ أَحَدٌ قَبْلَكَ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْكَ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَامَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَدَّ عَلَيْهِ غَنَمَهُ.
وَأَمَّا قِصَّةُ دُعَائِهِ الشَّجَرَةَ فَأَقْبَلَتْ، فَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " بَعْدَ السِّيرَةِ، مِنْ طُرُقٍ جَيِّدَةٍ صَحِيحَةٍ فِي مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي الْأَشَدَّيْنِ أَنَّهُ صَارَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ قُدُومِ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ رَاكِبًا إِلَى مَكَّةَ فَأَسْلَمُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بَعْدَ قِصَّةِ النَّجَاشِيِّ

وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسَ إِلَيْهِ الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ ; خَبَّابٌ وَعَمَّارٌ وَأَبُو فُكَيْهَةَ يَسَارٌ مَوْلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَصُهَيْبٌ وَأَشْبَاهُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، هَزِئَتْ بِهِمْ قُرَيْشٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَؤُلَاءِ أَصْحَابُهُ كَمَا تَرَوْنَ، أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ ؟ ! لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ خَيْرًا، مَا سَبَقَنَا هَؤُلَاءِ إِلَيْهِ، وَمَا خَصَّهُمُ اللَّهُ بِهِ دُونَنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْأَنْعَامِ: 52 - 54 ]. قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرًا مَا يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إِلَى مَبِيعَةِ غُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ، يُقَالُ لَهُ: جَبْرٌ. عَبْدٌ لِبَنِي الْحَضْرَمِيِّ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا كَثِيرًا مِمَّا يَأْتِي بِهِ إِلَّا جَبْرٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ:

إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [ النَّحْلِ: 103 ]
ثُمَّ ذَكَرَ نُزُولَ سُورَةِ " الْكَوْثَرِ " فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ حِينَ قَالَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّهُ أَبْتَرُ، لَا عَقِبَ لَهُ ; فَإِذَا مَاتَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [ الْكَوْثَرِ: 3 ]. أَيِ الْمَقْطُوعُ الذِّكْرِ بَعْدَهُ، وَلَوْ خَلَفَ أُلُوفًا مِنَ النَّسْلِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَلَيْسَ الذِّكْرُ وَالصِّيتُ وَلِسَانُ الصِّدْقِ بِكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ وَالْأَنْسَالِ وَالْعَقِبِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ فِي " التَّفْسِيرِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ أَنَّ الْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حِينَ مَاتَ الْقَاسِمُ ابْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ قَدْ بَلَغَ أَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ، وَيَسِيرَ عَلَى النَّجِيبَةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ نُزُولَ قَوْلِهِ: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ [ الْأَنْعَامِ: 8 ]، وَذَلِكَ بِسَبَبِ قَوْلِ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ وَزَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ وَالْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ وَالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ: لَوْلَا أُنْزِلُ عَلَيْكَ مَلَكٌ يُكَلِّمُ النَّاسَ عَنْكَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنَا بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَهَمَزُوهُ، وَاسْتَهْزَؤُوا بِهِ، فَغَاظَهُ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [ الْأَنْعَامِ: 10 ]
قُلْتُ: وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ [ الْأَنْعَامِ: 34 ]. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [ الْحِجْرِ: 95 ]. قَالَ سُفْيَانُ: عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمُسْتَهْزِئُونَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ أَبُو زَمْعَةَ وَالْحَارِثُ بْنُ عَيْطَلٍ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَشَكَاهُمْ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَرَاهُ الْوَلِيدَ فَأَشَارَ جِبْرِيلُ إِلَى أَبْجَلِهِ، وَقَالَ: كُفِيتَهُ. ثُمَّ أَرَاهُ

الْأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ فَأَوْمَأَ إِلَى عُنُقِهِ، وَقَالَ: كُفِيتَهُ. ثُمَّ أَرَاهُ الْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ فَأَوْمَأَ إِلَى رَأْسِهِ، وَقَالَ: كُفِيتَهُ. ثُمَّ أَرَاهُ الْحَارِثَ بْنَ عَيْطَلٍ فَأَوْمَأَ إِلَى بَطْنِهِ، وَقَالَ: كُفِيتَهُ. وَمَرَّ بِهِ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَأَوْمَأَ إِلَى أَخْمَصِهِ، وَقَالَ: كُفِيتَهُ. فَأَمَّا الْوَلِيدُ فَمَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَهُوَ يَرِيشُ نَبْلًا لَهُ، فَأَصَابَ أَبْجَلَهُ فَقَطَعَهَا، وَأَمَّا الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ فَخَرَجَ فِي رَأْسِهِ قُرُوحٌ، فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ فَعَمِيَ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ نَزَلَ تَحْتَ سَمُرَةٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِيَّ، أَلَا تَدْفَعُونَ عَنِّي، قَدْ قُتِلْتُ. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا نَرَى شَيْئًا. وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا بَنِيَّ، أَلَا تَمْنَعُونَ عَنِّي، قَدْ هَلَكْتُ، هَا هُوَ ذَا الطَّعْنِ بِالشَّوْكِ فِي عَيْنِي. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: مَا نَرَى شَيْئًا. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى عَمِيَتْ عَيْنَاهُ. وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ عَيْطَلٍ فَأَخَذَهُ الْمَاءُ الْأَصْفَرُ فِي بَطْنِهِ حَتَّى خَرَجَ خُرْؤُهُ مِنْ فِيهِ، فَمَاتَ مِنْهَا، وَأَمَّا الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ يَوْمًا، إِذْ دَخَلَ فِي رَأْسِهِ شِبْرِقَةٌ حَتَّى امْتَلَأَتْ مِنْهَا، فَمَاتَ مِنْهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: فَرَكِبَ إِلَى الطَّائِفِ عَلَى حِمَارٍ فَرَبَضَ بِهِ عَلَى شِبْرِقَةٍ يَعْنِي شَوْكَةً فَدَخَلَتْ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ شَوْكَةٌ فَقَتَلَتْهُ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ عُظَمَاءُ الْمُسْتَهْزِئِينَ كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ خَمْسَةَ نَفَرٍ، وَكَانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ وَشَرَفٍ فِي قَوْمِهِمْ ;الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ أَبُو زَمْعَةَ دَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَعْمِ بَصَرَهُ، وَأَثْكِلْهُ وَلَدَهُ ". وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ وَالْحَارِثُ بْنُ الطُّلَاطِلَةِ. وَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِيهِمْ: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [ الْحِجْرِ: 94 - 96 ]. وَذَكَرَ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، فَقَامَ وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى جَنْبِهِ، فَمَرَّ بِهِ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ فَرَمَى فِي وَجْهِهِ بِوَرَقَةٍ خَضْرَاءَ فَعَمِيَ، وَمَرَّ بِهِ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ فَأَشَارَ إِلَى بَطْنِهِ فَاسْتَسْقَى بَطْنُهُ، فَمَاتَ مِنْهُ حَبَنًا، وَمَرَّ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فَأَشَارَ إِلَى أَثَرِ جُرْحٍ بِأَسْفَلِ كَعْبِهِ، كَانَ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِسِنِينَ، مِنْ مُرُورِهِ بِرَجُلٍ يَرِيشُ نَبْلًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ، فَتَعَلَّقَ سَهْمٌ بِإِزَارِهِ فَخَدَشَهُ خَدْشًا يَسِيرًا، فَانْتَقَضَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَمَاتَ، وَمَرَّ بِهِ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَأَشَارَ إِلَى أَخْمَصِ رِجْلِهِ، فَخَرَجَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ يُرِيدُ الطَّائِفَ، فَرَبَضَ بِهِ عَلَى

شِبْرِقَةٍ، فَدَخَلَتْ فِي أَخْمَصِ رِجْلِهِ شَوْكَةٌ فَقَتَلَتْهُ، وَمَرَّ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ الطُّلَاطِلَةِ فَأَشَارَ إِلَى رَأْسِهِ فَامْتَخَضَ قَيْحًا فَقَتَلَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ الثَّلَاثَةَ ; وَهُمْ خَالِدٌ وَهِشَامٌ وَالْوَلِيدُ فَقَالَ لَهُمْ: أَيْ بَنِيَّ، أُوصِيكُمْ بِثَلَاثٍ ; دَمِي فِي خُزَاعَةَ فَلَا تُطِلُّوهُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُمْ مِنْهُ بَرَاءٌ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُسَبُّوا بِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَرِبَايَ فِي ثَقِيفٍ، فَلَا تَدَعُوهُ حَتَّى تَأْخُذُوهُ، وَعُقْرِي عِنْدَ أَبِي أُزَيْهِرٍ الدَّوْسِيِّ فَلَا يَفُوتَنَّكُمْ بِهِ، وَكَانَ أَبُو أُزَيْهِرٍ قَدْ زَوَّجَ الْوَلِيدَ بِنْتًا لَهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهَا عَنْهُ، فَلَمْ يُدْخِلْهَا عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ، وَكَانَ قَدْ قَبَضَ عُقْرَهَا مِنْهُ، وَهُوَ صَدَاقُهَا، فَلَمَّا مَاتَ الْوَلِيدُ وَثَبَتْ بَنُو مَخْزُومٍ عَلَى خُزَاعَةَ يَلْتَمِسُونَ مِنْهُمْ عَقْلَ الْوَلِيدِ وَقَالُوا: إِنَّمَا قَتَلَهُ سَهْمُ صَاحِبِكُمْ. فَأَبَتْ عَلَيْهِمْ خُزَاعَةُ ذَلِكَ، حَتَّى تَقَاوَلُوا أَشْعَارًا وَغَلُظَ بَيْنَهُمُ الْأَمْرُ، ثُمَّ أَعْطَتْهُمْ خُزَاعَةُ بَعْضَ الْعَقْلِ وَاصْطَلَحُوا وَتَحَاجَزُوا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ عَدَا هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى أَبِي أُزَيْهِرٍ وَهُوَ بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ، وَكَانَتِ ابْنَتُهُ تَحْتَ أَبِي سُفْيَانَ وَذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ فَعَمَدَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فَجَمَعَ النَّاسَ لِبَنِي مَخْزُومٍ، وَكَانَ أَبُوهُ غَائِبًا، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ غَاظَهُ مَا صَنَعَ ابْنُهُ يَزِيدُ فَلَامَهُ عَلَى ذَلِكَ وَضَرَبَهُ، وَوَدَى أَبَا أُزَيْهِرٍ وَقَالَ لِابْنِهِ: أَعَمَدْتَ إِلَى أَنْ تَقْتُلَ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي رَجُلٍ مِنْ دَوْسٍ ! وَكَتَبَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ قَصِيدَةً لَهُ يُحَرِّضُ أَبَا سُفْيَانَ فِي دَمِ أَبِي أُزَيْهِرٍ فَقَالَ: بِئْسَ مَا ظَنَّ حَسَّانُ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضُنَا بَعْضًا، وَقَدْ ذَهَبَ أَشْرَافُنَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَمَّا أَسْلَمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَشَهِدَ الطَّائِفَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَهُ فِي رِبَا أَبِيهِ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَزَلْنَ فِي ذَلِكَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ الْبَقَرَةِ: 278 ] وَمَا بَعْدَهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي أُزَيْهِرٍ ثَأْرٌ نَعْلَمُهُ حَتَّى حَجَزَ الْإِسْلَامُ

بَيْنَ النَّاسِ، إِلَّا أَنَّ ضِرَارَ بْنَ الْخَطَّابِ بْنِ مِرْدَاسٍ الْفِهْرَيَّ خَرَجَ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى أَرْضِ دَوْسٍ، فَنَزَلُوا عَلَى امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ غَيْلَانَ مَوْلَاةٌ لِدَوْسٍ، وَكَانَتْ تَمْشُطُ النِّسَاءَ وَتُجَهِّزُ الْعَرَائِسَ، فَأَرَادَتْ دَوْسٌ قَتْلَهُمْ بِأَبِي أُزَيْهِرٍ فَقَامَتْ دُونَهُ أُمُّ غَيْلَانَ، وَنِسْوَةٌ كُنَّ مَعَهَا حَتَّى مَنَعَتْهُمْ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: يُقَالُ: إِنَّهَا أَدْخَلَتْهُ بَيْنَ دِرْعِهَا وَبَدَنِهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَلَمَّا كَانَتْ أَيَّامُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَتَتْهُ أُمُّ غَيْلَانَ، وَهِيَ تَرَى أَنَّ ضِرَارًا أَخُوهُ، فَقَالَ لَهَا عُمَرُ: لَسْتُ بِأَخِيهِ إِلَّا فِي الْإِسْلَامِ، وَقَدْ عَرَفْتُ مِنَّتَكِ عَلَيْهِ. فَأَعْطَاهَا عَلَى أَنَّهَا بَنْتُ سَبِيلٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَكَانَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ لَحِقَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِعَرْضِ الرُّمْحِ، وَيَقُولُ: انْجُ يَا بْنَ الْخَطَّابِ لَا أَقْتُلُكَ. فَكَانَ عُمَرُ يَعْرِفُهَا لَهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

فَصْلٌ
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا دُعَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قُرَيْشٍ، حِينَ اسْتَعْصَتْ عَلَيْهِ، بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، وَأَوْرَدَ مَا أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَمْسٌ مَضَيْنَ ; اللِّزَامُ، وَالرُّومُ، وَالدُّخَانُ، وَالْبَطْشَةُ، وَالْقَمَرُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:إِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبْطَؤُوا عَنِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: " اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ ". قَالَ: فَأَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ حَتَّى فَحَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالْمَيْتَةَ، وَحَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجُوعِ، ثُمَّ دَعَا فَكَشَفَ اللَّهُ عَنْهُمْ. ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةَ: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ [ الدُّخَانِ: 15 ]. قَالَ: فَعَادُوا فَكَفَرُوا فَأُخِّرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَوْ قَالَ: فَأُخِّرُوا إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ

يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَانَ لَا يُكْشَفُ عَنْهُمْ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [ الدُّخَانِ: 16 ] قَالَ: يَوْمُ بَدْرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، قَالَ:لَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ النَّاسِ إِدْبَارًا، قَالَ: " اللَّهُمَّ سَبْعًا كَسَبْعِ يُوسُفَ ". فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ، حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ وَالْجُلُودَ وَالْعِظَامَ، فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّكَ بُعِثْتَ رَحْمَةً، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسُقُوا الْغَيْثَ، فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ سَبْعًا، فَشَكَا النَّاسُ كَثْرَةَ الْمَطَرِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا ". فَانْحَدَرَتِ السَّحَابَةُ عَنْ رَأْسِهِ، فَسُقِيَ النَّاسُ حَوْلَهُمْ. قَالَ: لَقَدْ مَضَتْ آيَةُ الدُّخَانِ، وَهُوَ الْجُوعُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ وَآيَةُ الرُّومِ، وَالْبَطْشَةُ الْكُبْرَى، وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُرِيدُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى، وَالدُّخَانَ، وَآيَةَ اللِّزَامِ، كُلُّهَا حَصَلَتْ بِبَدْرٍ. قَالَ: وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ. ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ

عَبَّاسٍ: قَالَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَغِيثُ مِنَ الْجُوعِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا حَتَّى أَكَلُوا الْعِهْنَ بِالدَّمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 76 ] قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ فِي قِصَّةِ أَبِي سُفْيَانَ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ مَرَّتَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
ثُمَّ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ قِصَّةَ فَارِسَ وَالرُّومِ وَنُزُولَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [ الرُّومِ: 1 - 5 ] ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ ; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ

فَارِسُ عَلَى الرُّومِ ; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ، فَذَكَرَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ لِأَبِي بَكْرٍ فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " أَمَا إِنَّهُمْ سَيَظْهَرُونَ ". فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ لِلْمُشْرِكِينَ، فَقَالُوا: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا، إِنْ ظَهَرُوا كَانَ لَكَ كَذَا وَكَذَا، وَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا. فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " أَلَا جَعَلْتَهُ أُرَاهُ قَالَ دُونَ الْعَشْرِ ". قَالَ: فَظَهَرَتِ الرُّومُ بَعْدَ ذَلِكَ
وَقَدْ أَوْرَدْنَا طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي " التَّفْسِيرِ "، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُبَاحِثَ أَيِ الْمُرَاهِنَ لِأَبِي بَكْرٍ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَأَنَّ الرَّهْنَ كَانَ عَلَى خَمْسِ قَلَائِصَ، وَأَنَّهُ كَانَ إِلَى مُدَّةٍ فَزَادَ فِيهَا الصِّدِّيقُ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الرَّهْنِ، وَأَنَّ غَلَبَةَ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَوْ كَانَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا أُسَيْدٌ الْكِلَابِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ الْعَلَاءَ بْنَ الزُّبَيْرِ الْكِلَابِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ غَلَبَةَ فَارِسَ الرُّومَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الرُّومِ فَارِسَ، ثُمَّ رَأَيْتُ غَلَبَةَ الْمُسْلِمِينَ فَارِسَ وَالرُّومَ، وَظُهُورَهُمْ عَلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، كُلُّ ذَلِكَ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.

فَصْلٌ فِي الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ عُرُوجِهِ مِنْ هُنَاكَ إِلَى السَّمَاوَاتِ، وَمَا رَأَى هُنَالِكَ مِنَ الْآيَاتِ
ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَحَادِيثَ الْإِسْرَاءِ فِي أَوَائِلِ الْبَعْثَةِ، وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَذَكَرَهَا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ بَعْدَ الْبِعْثَةِ بِنَحْوٍ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أُسَرِي بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسَنَةٍ. قَالَ: وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ. ثُمَّ رَوَى عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: فُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَمْسُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ، قَبْلَ مُهَاجَرِهِ بِسِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا. فَعَلَى قَوْلِ السُّدِّيِّ يَكُونُ الْإِسْرَاءُ فِي شَهْرِ ذِي الْقِعْدَةِ، وَعَلَى

قَوْلِ الزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ يَكُونُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَا عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفِيلِ، يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ بُعِثَ، وَفِيهِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفِيهِ هَاجَرَ وَفِيهِ مَاتَ. فِيهِ انْقِطَاعٌ. وَقَدِ اخْتَارَهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سُرُورٍ الْمَقْدِسِيُّ فِي " سِيرَتِهِ "، وَقَدْ أَوْرَدَ حَدِيثًا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ، ذَكَرْنَاهُ فِي " فَضَائِلِ شَهْرِ رَجَبٍ "، أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمْعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ، وَهِيَ لَيْلَةُ الرَّغَائِبِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِيهَا الصَّلَاةُ الْمَشْهُورَةُ، وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَنْشُدُ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ عُرِّجَ بِالنَّبِيِّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَوَّلَ رَجَبِ
وَهَذَا الشِّعْرُ عَلَيْهِ رَكَاكَةٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ اسْتِشْهَادًا لِمَنْ يَقُولُ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ مُسْتَقْصَاةً، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [ الْإِسْرَاءِ: 1 ] فَلْتُكْتَبْ مِنْ هُنَاكَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسَانِيدِ وَالْعَزْوِ وَالْكَلَامِ عَلَيْهَا، وَمَعَهَا، فَفِيهَا مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَلْنَذْكُرْ مُلَخَّصَ كَلَامِ ابْنِ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْفُصُولِ: ثُمَّ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مِنْ إِيلِيَاءَ، وَقَدْ فَشَا الْإِسْلَامُ بِمَكَّةَ، فِي قُرَيْشٍ وَفِي الْقَبَائِلِ كُلِّهَا، قَالَ: وَكَانَ مِنَ الْحَدِيثِ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ مَسْرَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَعَائِشَةَ، وَمُعَاوِيَةَ وَأُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ وَابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، كُلٌّ يُحَدِّثُ عَنْهُ بَعْضَ مَا ذُكِرَ لِي مِنْ أَمْرِهِ وَكَانَ فِي مَسْرَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا ذُكِرَ لِي مِنْهُ بَلَاءٌ وَتَمْحِيصٌ، وَأَمْرٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فِي قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، فِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَهُدًى وَرَحْمَةٌ وَثَبَاتٌ لِمَنْ آمَنَ وَصَدَّقَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عَلَى يَقِينٍ، فَأُسْرِيَ بِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَكَمَا شَاءَ، لِيُرِيَهُ مِنْ آيَاتِهِ مَا أَرَادَ، حَتَّى عَايَنَ مَا عَايَنَ مِنْ أَمْرِهِ، وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، وَقُدْرَتِهِ الَّتِي يَصْنَعُ بِهَا مَا يُرِيدُ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا بَلَغَنِي، يَقُولُ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبُرَاقِ، وَهِيَ الدَّابَّةُ الَّتِي كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ، تَضَعُ حَافِرَهَا فِي مُنْتَهَى طَرْفِهَا، فَحُمِلَ عَلَيْهَا، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ صَاحِبُهُ، يَرَى الْآيَاتِ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَوَجَدَ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، قَدْ جُمِعُوا لَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ، ثُمَّ أُتِيَ بِثَلَاثَةِ آنِيَةٍ ; مِنْ لَبَنٍ، وَخَمْرٍ، وَمَاءٍ. فَذَكَرَ أَنَّهُ شَرِبَ إِنَاءَ اللَّبَنِ، " فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ: هُدِيتَ وَهُدِيَتْ أُمَّتُكَ ".

وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِيَاقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مُرْسَلًا.، أَنَّ جِبْرِيلَ أَيْقَظَهُ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَرْكَبَهُ الْبُرَاقَ، وَهُوَ " دَابَّةٌ أَبْيَضُ، بَيْنَ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، وَفِي فَخِذَيْهِ جَنَاحَانِ يَحْفِزُ بِهِمَا رِجْلَيْهِ، يَضَعُ حَافِرَهُ فِي مُنْتَهَى طَرْفِهِ، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ مَعِي لَا يَفُوتُنِي وَلَا أَفُوتُهُ ".
قُلْتُ: وَفِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ عَنْ قَتَادَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ رُكُوبَ الْبُرَاقِ، شَمَسَ بِهِ، فَوَضَعَ جِبْرِيلُ يَدَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا تَسْتَحِيَ يَا بُرَاقُ مِمَّا تَصْنَعُ ! فَوَاللَّهِ مَا رَكِبَكَ عَبْدٌ لِلَّهِ قَبِلَ مُحَمَّدٍ أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ. قَالَ: فَاسْتَحَى حَتَّى ارْفَضَّ عَرَقًا، ثُمَّ قَرَّ حَتَّى رَكِبْتُهُ. قَالَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ: فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَضَى مَعَهُ جِبْرِيلُ حَتَّى انْتَهَى بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَوَجَدَ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى بِهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِيَارَهُ إِنَاءَ اللَّبَنِ عَلَى إِنَاءِ الْخَمْرِ، وَقَوْلَ جِبْرِيلَ لَهُ: هُدِيتَ وَهُدِيَتْ أُمَّتُكَ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْخَمْرُ. قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَكَّةَ فَأَصْبَحَ يُخْبِرُ قُرَيْشًا بِذَلِكَ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَذَّبَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَارْتَدَّتْ طَائِفَةٌ بَعْدَ إِسْلَامِهَا،

وَبَادَرَ الصِّدِّيقُ إِلَى التَّصْدِيقِ وَقَالَ: إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، أَفَلَا أُصَدِّقُهُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ ! وَذَكَرَ أَنَّ الصِّدِّيقَ سَأَلَهُ عَنْ صِفَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَذَكَرَهَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: فَيَوْمَئِذٍ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ. قَالَ الْحَسَنُ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا [ الْإِسْرَاءِ: 60 ] الْآيَةَ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا بَلَغَهُ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا مِنْ بَيْتِي، نَامَ عِنْدِي تِلْكَ اللَّيْلَةَ بَعْدَ مَا صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، فَلَمَّا كَانَ قُبَيْلَ الْفَجْرِ أَهَبَّنَا، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، قَالَ: " يَا أُمَّ هَانِئٍ، لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَكُمُ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فِي هَذَا الْوَادِي، ثُمَّ جِئْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، ثُمَّ قَدْ صَلَّيْتُ الْغَدَاةَ مَعَكُمُ الْآنَ كَمَا تَرَيْنَ ". ثُمَّ قَامَ لِيَخْرُجَ فَأَخَذْتُ بِطَرَفِ رِدَائِهِ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَا تُحَدِّثْ بِهَذَا الْحَدِيثِ النَّاسَ، فَيُكَذِّبُوكَ وَيُؤْذُوكَ. قَالَ: " وَاللَّهِ لَأُحَدِّثَنَّهُمُوهُ ". فَأَخْبَرَهُمْ فَكَذَّبُوهُ، فَقَالَ: " وَآيَةُ ذَلِكَ، أَنِّي مَرَرْتُ بَعِيرِ بَنِي فُلَانٍ بِوَادِي كَذَا وَكَذَا، فَأَنْفَرَهُمْ حِسُّ الدَّابَّةِ، فَنَدَّ لَهُمْ بِعِيرٌ، فَدَلَلْتُهُمْ عَلَيْهِ وَأَنَا مُوَجَّهٌ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ

حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِضَجْنَانَ مَرَرْتُ بَعِيرِ بَنِي فُلَانٍ، فَوَجَدْتُ الْقَوْمَ نِيَامًا، وَلَهُمْ إِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ، قَدْ غَطُّوا عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَكَشَفْتُ غِطَاءَهُ وَشَرِبْتُ مَا فِيهِ، ثُمَّ غَطَّيْتُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ، وَآيَةُ ذَلِكَ، أَنَّ عِيرَهُمْ يَصُوبُ الْآنَ مِنْ ثَنِيَّةِ التَّنْعِيمِ الْبَيْضَاءِ، يَقَدَمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ، إِحْدَاهُمَا سَوْدَاءُ وَالْأُخْرَى بَرْقَاءُ. قَالَتْ: فَابْتَدَرَ الْقَوْمُ الثَّنِيَّةَ، فَلَمْ يَلْقَهُمْ أَوَّلُ مِنَ الْجَمَلِ الَّذِي وَصَفَ لَهُمْ، وَسَأَلُوهُمْ عَنِ الْإِنَاءِ وَعَنِ الْبَعِيرِ فَأَخْبَرُوهُمْ، كَمَا ذَكَرَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ
وَذَكَرَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ أَسْبَاطٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ أَنَّ الشَّمْسَ كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ ذَلِكَ الْعِيرُ، فَدَعَا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، فَحَبَسَهَا حَتَّى قَدِمُوا كَمَا وَصَفَ لَهُمْ. قَالَ: فَلَمْ تَحْتَبِسِ الشَّمْسُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَعَلَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَخْبَرَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَمَّا فَرَغْتُ مِمَّا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أُتِيَ بِالْمِعْرَاجِ، وَلَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَهُوَ الَّذِي يَمُدُّ إِلَيْهِ مَيِّتُكُمْ عَيْنَيْهِ إِذَا حُضِرَ،

فَأَصْعَدَنِي فِيهِ صَاحِبِي، حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ، يُقَالُ لَهُ: بَابُ الْحَفَظَةِ. عَلَيْهِ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُ: إِسْمَاعِيلُ. تَحْتَ يَدِهِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ، تَحْتَ يَدَيْ كُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكَ ". قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودُ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [ الْمُدَّثِّرِ: 31 ] ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ مُطَوَّلٌ جِدًّا، وَقَدْ سُقْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ وَلَفْظِهِ بِكَمَالِهِ فِي " التَّفْسِيرِ " وَتَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ مِنْ غَرَائِبِ الْأَحَادِيثِ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَكَذَا فِي سِيَاقِ حَدِيثِ أُمِّ هَانِئٍ ; فَإِنَّ الثَّابِتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْحِجْرِ. وَفِي سِيَاقِهِ غَرَابَةٌ أَيْضًا مِنْ وُجُوهٍ، قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا هُنَاكَ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَجِيئَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ، ثُمَّ جَاءَهُ الْمَلَائِكَةُ لَيْلَةً أُخْرَى وَلَمْ يَقُلْ فِي ذَلِكَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ. بَلْ جَاءَهُ بَعْدَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَكَانَ الْإِسْرَاءُ قَطْعًا بَعْدَ

الْإِيحَاءِ ; إِمَّا بِقَلِيلٍ كَمَا زَعَمَهُ طَائِفَةٌ، أَوْ بِكَثِيرٍ نَحْوٍ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ، كَمَا زَعَمَهُ آخَرُونَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَغُسِلَ صَدْرُهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ غَسْلًا ثَانِيًا، أَوْ ثَالِثًا، عَلَى قَوْلٍ ; لِأَنَّهُ مَطْلُوبٌ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى وَالْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ. ثُمَّ رَكِبَ الْبُرَاقَ رِفْعَةً لَهُ وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا، فَلَمَّا جَاءَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ رَبَطَهُ بِالْحَلَقَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرْبِطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلَّى فِي قِبْلَتِهِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ. وَأَنْكَرَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُخُولَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَرَبْطَهُ الدَّابَّةَ وَصَلَاتَهُ فِيهِ. وَهَذَا غَرِيبٌ، وَالنَّصُّ الْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي اجْتِمَاعِهِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَصَلَاتِهِ بِهِمْ ; أَكَانَ قَبْلَ عُرُوجِهِ إِلَى السَّمَاءِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ، أَوْ بَعْدَ نُزُولِهِ مِنْهَا. كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ بَعْضُ السِّيَاقَاتِ، وَهُوَ أَنْسَبُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّ صَلَاتَهُ بِالْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ فِي السَّمَاءِ. وَهَكَذَا تَخَيُّرُهُ مِنَ الْآنِيَةِ اللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْمَاءِ ; هَلْ كَانَتْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَمَا تَقَدَّمَ، أَوْ فِي السَّمَاءِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَمْرِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ نُصِبَ لَهُ الْمِعْرَاجُ، وَهُوَ السُّلَّمُ، فَصَعِدَ فِيهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَلَمْ يَكُنِ الصُّعُودُ عَلَى الْبُرَاقِ، كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ النَّاسِ، بَلْ كَانَ الْبُرَاقُ مَرْبُوطًا عَلَى بَابِ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ; لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ إِلَى مَكَّةَ، فَصَعِدَ مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ فِي الْمِعْرَاجِ حَتَّى جَاوَزَ السَّابِعَةَ، وَكُلَّمَا جَاءَ سَمَاءً، تَلَقَّتْهُ مِنْهَا مُقَرَّبُوهَا، وَمَنْ فِيهَا مِنْ أَكَابِرِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ،

وَذَكَرَ أَعْيَانَ مَنْ رَآهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ; كَآدَمَ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَيَحْيَى وَعِيسَى فِي الثَّانِيَةِ، وَإِدْرِيسَ فِي الرَّابِعَةِ، وَمُوسَى فِي السَّادِسَةِ، عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّابِعَةِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ صَلَاةً وَطَوَافًا، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ جَاوَزَ مَرَاتِبَهُمْ كُلَّهُمْ، حَتَّى ظَهَرَ لِمُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ، وَرُفِعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَنَبْقُهَا كَقِلَالِ هَجَرَ، وَغَشِيَهَا عِنْدَ ذَلِكَ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ ; أَلْوَانٌ مُتَعَدِّدَةٌ بَاهِرَةٌ، وَرَكِبَتْهَا الْمَلَائِكَةُ مِثْلَ الْغِرْبَانِ عَلَى الشَّجَرِ كَثْرَةً، وَفَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَغَشِيَهَا مِنْ نُورِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَرَأَى هُنَاكَ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ مَا بَيْنَ كُلِّ جَنَاحَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [ النَّجْمِ: 13 - 17 ] أَيْ: مَا زَاغَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَلَا ارْتَفَعَ عَنِ الْمَكَانِ الَّذِي حُدَّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الثَّبَاتُ الْعَظِيمُ، وَالْأَدَبُ الْكَرِيمُ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَا الثَّانِيَةُ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو

ذَرٍّ وَعَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَالْأُولَى هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [ النَّجْمِ: 5 - 10 ] وَكَانَ ذَلِكَ بِالْأَبْطَحِ تَدَلَّى جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي " التَّفْسِيرِ " كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَأَمَّا قَوْلُ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: ثُمَّ دَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَقَدْ يَكُونُ مِنْ فَهْمِ الرَّاوِي فَأَقْحَمَهُ فِي الْحَدِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا، فَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بَلْ هُوَ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى أُمَّتِهِ الصَّلَوَاتِ لَيْلَتَئِذٍ، خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَخْتَلِفُ بَيْنَ مُوسَى وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. حَتَّى وَضَعَهَا الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، إِلَى خَمْسٍ. وَقَالَ: " هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ". فَحَصَلَ لَهُ التَّكْلِيمُ مِنَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ لَيْلَتَئِذٍ، وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ كَالْمُطْبِقِينَ عَلَى هَذَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الرُّؤْيَةِ ; فَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ

وَطَائِفَةٌ، وَأَطْلَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ الرُّؤْيَةَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْيِيدِ. وَمِمَّنْ أَطْلَقَ الرُّؤْيَةَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِالرُّؤْيَةِ بِالْعَيْنَيْنِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَبَالَغَ فِيهِ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ آخَرُونَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى الرُّؤْيَةِ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ: الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ عَنْهُ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ فِي " فَتَاوِيهِ ". وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ ; لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "،قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ ؟ فَقَالَ: " نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ " وَفِي رِوَايَةٍ: رَأَيْتُ نُورًا ". قَالُوا: وَلَمْ يُمْكِنْ رُؤْيَةُ الْبَاقِي بِالْعَيْنِ الْفَانِيَةِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى فِيمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ: يَا مُوسَى، إِنَّهُ لَا يَرَانِي حَيٌّ إِلَّا مَاتَ، وَلَا يَابِسٌ إِلَّا تَدَهْدَهَ. وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ هَبَطُوا مَعَهُ

تَكْرِيمًا لَهُ وَتَعْظِيمًا، عِنْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْعَظِيمَةِ، كَمَا هِيَ عَادَةُ الْوَافِدِينَ ; لَا يَجْتَمِعُونَ بِأَحَدٍ قَبْلَ الَّذِي طُلِبُوا إِلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، يَقُولُ لَهُ جِبْرِيلُ عِنْدَ مَقْدَمِ ذَاكَ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ: هَذَا فُلَانٌ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَلَوْ كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ بِهِمْ قَبْلَ صُعُودِهِ، لَمَا احْتَاجَ إِلَى تَعَرُّفٍ بِهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّهُ قَالَ: " فَلَمَّا حَانَتِ الصَّلَاةُ أَمَمْتُهُمْ ". وَلَمْ يَحِنْ وَقْتٌ إِذْ ذَاكَ إِلَّا صَلَاةُ الْفَجْرِ فَتَقَدَّمَهُمْ إِمَامًا بِهِمْ عَنْ أَمْرِ جِبْرِيلَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْتَفَادَ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذَا، أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ يُقَدَّمُ فِي الْإِمَامَةِ عَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ ; حَيْثُ كَانَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مَحَلَّتَهُمْ وَدَارَ إِقَامَتِهِمْ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ فَرَكِبَ الْبُرَاقَ، وَعَادَ إِلَى مَكَّةَ فَأَصْبَحَ بِهَا، وَهُوَ فِي غَايَةِ الثَّبَاتِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَقَدْ عَايَنَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأُمُورِ الَّتِي لَوْ رَآهَا أَوْ بَعْضَهَا غَيْرُهُ، لَأَصْبَحَ مُنْدَهِشًا أَوْ طَائِشَ الْعَقْلِ، وَلَكِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْبَحَ وَاجِمًا، أَيْ سَاكِنًا، يَخْشَى إِنْ بَدَأَ فَأَخْبَرَ قَوْمَهُ بِمَا رَأَى، أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى تَكْذِيبِهِ، فَتَلْطَّفَ بِإِخْبَارِهِمْ أَوَّلًا بِأَنَّهُ جَاءَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَذَلِكَأَنَّ أَبَا جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُوَ جَالِسٌ وَاجِمٌ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ خَبَرٍ ؟ فَقَالَ: " نَعَمْ ". فَقَالَ: وَمَا هُوَ ؟ فَقَالَ: " إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ". قَالَ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ؟ ! قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ لَكَ لِتُخْبِرَهُمْ، أَتُخْبِرُهُمْ بِمَا أَخْبَرْتَنِي بِهِ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". فَأَرَادَ أَبُو جَهْلٍ جَمْعَ قُرَيْشٍ لِيَسْمَعُوا مِنْهُ ذَلِكَ، وَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمْعَهُمْ لِيُخْبِرَهُمْ ذَلِكَ وَيُبَلِّغَهُمْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَيَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ. فَاجْتَمَعُوا مِنْ أَنْدِيَتِهِمْ، فَقَالَ: أَخْبِرْ قَوْمَكَ بِمَا أَخْبَرْتَنِي بِهِ. فَقَصَّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ مَا رَأَى،

وَأَنَّهُ جَاءَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَصَلَّى فِيهِ، فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ، وَبَيْنَ مُصَفِّرٍ، تَكْذِيبًا لَهُ وَاسْتِبْعَادًا لِخَبَرِهِ، وَطَارَ الْخَبَرُ بِمَكَّةَ، وَجَاءَ النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَقُولُهُ. فَقَالَ: إِنْ كَانَ قَالَهُ فَلَقَدْ صَدَقَ. ثُمَّ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَوْلَهُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ، فَاسْتَعْلَمَهُ عَنْ صِفَاتِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ; لِيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ وَيَعْلَمُوا صِدْقَهُ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ. وَفِي " الصَّحِيحِ " أَنَّ الْمُشْرِكِينَ هُمُ الَّذِينَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ. قَالَ: " فَجَعَلْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ، فَالْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضَ الشَّيْءِ، فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، حَتَّى جَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ دُونَ دَارِ عَقِيلٍ وَأَنْعَتُهُ لَهُمْ ". فَقَالُوا: أَمَّا الصِّفَةُ فَقَدْ أَصَابَ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِخْبَارِهِ لَهُمْ بِمُرُورِهِ بِعِيرِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ شُرْبِهِ مَاءَهُمْ. فَأَقَامَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ، وَاسْتَنَارَتْ لَهُمُ الْمَحَجَّةُ، فَآمَنَ مَنْ آمَنَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ رَبِّهِ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [ الْإِسْرَاءِ: 60 ] أَيِ ; اخْتِبَارًا لَهُمْ وَامْتِحَانًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، مِنْ أَنَّ الْإِسْرَاءَ كَانَ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ السِّيَاقَاتِ مِنْ رُكُوبِهِ وَصُعُودِهِ فِي

الْمِعْرَاجِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [ الْإِسْرَاءِ: 1 ] وَالتَّسْبِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الْخَارِقَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَالْعَبْدُ عِبَارَةٌ عَنْهُمَا، وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مَنَامًا لَمَا بَادَرَ كَفَّارُ قُرَيْشٍ إِلَى التَّكْذِيبِ بِهِ وَالِاسْتِبْعَادِ لَهُ، إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ أَمْرٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا.
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ: " ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ فَإِذَا أَنَا فِي الْحِجْرِ ". مَعْدُودٌ فِي غَلَطَاتِ شَرِيكٍ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ يُسَمَّى يَقَظَةً، كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، حِينَ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الطَّائِفِ فَكَذَّبُوهُ. قَالَ " فَرَجَعْتُ مَهْمُومًا، فَلَمِ اسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍحِينَ جَاءَ بِابْنِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُحَنِّكَهُ، فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاشْتَغَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَدِيثِ مَعَ النَّاسِ، فَرَفَعَ أَبُو أُسَيْدٍ ابْنَهُ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَجِدِ الصَّبِيَّ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: رُفِعَ. فَسَمَّاهُ الْمُنْذِرَ وَهَذَا الْحَمْلُ أَحْسَنُ مِنَ التَّغْلِيطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: مَا فُقِدَ جَسَدُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّ اللَّهَ أَسْرَى

بِرُوحِهِ قَالَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْرَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كَانَتْ رُؤْيَا مِنَ اللَّهِ صَادِقَةً.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا ; لِقَوْلِ الْحَسَنِ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، وَكَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [ الصَّافَّاتِ: 102 ] وَفِي الْحَدِيثِ:تَنَامُ عَيْنِي وَقَلْبِي يَقْظَانُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ قَدْ جَاءَهُ، وَعَايَنَ فِيهِ مَا عَايَنَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، عَلَى أَيِّ حَالَيْهِ كَانَ، نَائِمًا أَوْ يَقْظَانَ، كُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ وَصِدْقٌ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَوَقَّفَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي ذَلِكَ، وَجَوَّزَ كُلًّا مِنَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ وَلَا يُتَمَارَى، أَنَّهُ كَانَ يَقْظَانَ لَا مَحَالَةَ ; لِمَا تَقَدَّمَ، وَلَيْسَ مُقْتَضَى كَلَامِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ جَسَدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا فُقِدَ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ، أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَنَامًا كَمَا فَهِمَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بَلْ قَدْ يَكُونُ وَقَعَ الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ حَقِيقَةً، وَهُوَ يَقْظَانُ لَا نَائِمٌ، وَرَكِبَ الْبُرَاقَ، وَجَاءَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَصَعِدَ السَّمَاوَاتِ، وَعَايَنَ مَا عَايَنَ، حَقِيقَةً

وَيَقَظَةً لَا مَنَامًا، لَعَلَّ هَذَا مُرَادُ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَمُرَادُ مَنْ تَابَعَهَا عَلَى ذَلِكَ، لَا مَا فَهِمَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ الْمَنَامَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ: وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ وُقُوعَ مَنَامٍ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ، طِبْقَ مَا وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ، أَنَّهُ رَأَى مِثْلَ مَا وَقَعَ لَهُ يَقَظَةً، مَنَامًا قَبْلَهُ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِرْهَاصِ وَالتَّوْطِئَةِ وَالتَّثْبِيتِ وَالْإِينَاسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ هَلْ كَانَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ كُلٌّ فِي لَيْلَةٍ عَلَى حِدَةٍ ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْإِسْرَاءَ فِي الْيَقَظَةِ، وَالْمِعْرَاجَ فِي الْمَنَامِ. وَقَدْ حَكَى الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ فِي " شَرْحِهِ الْبُخَارِيَّ " عَنْ طَائِفَةٍ، أَنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْإِسْرَاءَ مَرَّتَانِ، مَرَّةٌ بِرُوحِهِ مَنَامًا، وَمَرَّةٌ بِبَدَنِهِ وَرُوحِهِ يَقَظَةً. وَقَدْ حَكَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْفَقِيهِ الْمَالِكِيِّ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ الْأَحَادِيثَ ; فَإِنَّ فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ عَنْ أَنَسٍ: وَذَلِكَ فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَتَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: " ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ، فَإِذَا أَنَا فِي الْحِجْرِ ". وَهَذَا مَنَامٌ، وَدَلَّ غَيْرُهُ عَلَى الْيَقَظَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي تَعَدُّدَ الْإِسْرَاءِ فِي الْيَقَظَةِ أَيْضًا، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا أَرْبَعُ إِسْرَاءَاتٍ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ بَعْضَهَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَقَدْ حَاوَلَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ،

أَنْ يُوَفِّقَ بَيْنَ اخْتِلَافِ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ بِالْجَمْعِ بِالتَّعَدُّدِ، فَجَعَلَ ثَلَاثَ إِسْرَاءَاتٍ، مَرَّةً مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَطْ عَلَى الْبُرَاقِ، وَمَرَّةً مِنْ مَكَّةَ إِلَى السَّمَاوَاتِ عَلَى الْبُرَاقِ أَيْضًا، لِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَمَرَّةً مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ إِلَى السَّمَاوَاتِ.
فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِهَذِهِ الثَّلَاثِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ صِفَاتٍ، وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى ذَلِكَ، فَلْيَنْظُرْ فِيمَا جَمَعْنَاهُ مُسْتَقْصًى فِي كِتَابِنَا " التَّفْسِيرِ " عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا حَمَلَهُ، أَنَّ التَّقْسِيمَ انْحَصَرَ فِي ثَلَاثِ صِفَاتٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِلَى السَّمَاوَاتِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْحَصْرِ الْعَقْلِيِّ الْوُقُوعُ كَذَلِكَ فِي الْخَارِجِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ، ذَكَرَ الْإِسْرَاءَ بَعْدَ ذِكْرِهِ مَوْتَ أَبِي طَالِبٍ فَوَافَقَ ابْنَ إِسْحَاقَ فِي ذِكْرِهِ الْمِعْرَاجَ فِي أَوَاخِرِ الْأَمْرِ، وَخَالَفَهُ فِي ذِكْرِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ أَخَّرَ ذِكْرَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى الْإِسْرَاءِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِسْرَاءِ وَبَيْنَ الْمِعْرَاجِ، فَبَوَّبَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَابًا عَلَى حِدَةٍ، فَقَالَ: بَابُ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ، كُنْتُ فِي الْحِجْرِ، فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ ". وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ بِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَحْوِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ قَالَ: " بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الْحِجْرِ مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَدَّ قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ ". فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي مَا يَعْنِي بِهِ ؟ قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مِنْ قَصِّهِ

إِلَى شِعْرَتِهِ. " فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ، وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ ". فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ: وَهُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ ؟ قَالَ أَنَسٌ: نَعَمْ. يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ. فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: " مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ " ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ، إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى، وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ، قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا. فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا، ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قَالَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِدْرِيسُ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ

الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ، قَالَ: هَذَا هَارُونُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ ؟ قَالَ: أَبْكِي ; لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ. فَقُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ. ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ

اللَّبَنَ، فَقَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ. ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ. فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ. فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ ؟ فَقُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ. قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلِّمُ. قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَانِي مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي ". هَكَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ هَاهُنَا، وَقَدْ رَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ " صَحِيحِهِ " وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ. وَرُوِّينَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَمِنْ طُرُقٍ

كَثِيرَةٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُسْتَقْصًى بِطُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ فِي التَّفْسِيرِ. وَلَمْ يَقَعْ فِي هَذَا السِّيَاقِ ذِكْرُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانَ بَعْضُ الرُّوَاةِ يَحْذِفُ بَعْضَ الْخَبَرِ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَوْ يَنْسَاهُ أَوْ يَذْكُرُ مَا هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَهُ، أَوْ يَبْسُطُ تَارَةً فَيَسُوقُهُ كُلَّهُ، وَتَارَةً يُحَدِّثُ مُخَاطِبَهُ بِمَا هُوَ الْأَنْفَعُ لَهُ. وَمَنْ جَعَلَ كُلَّ رِوَايَةٍ إِسْرَاءً عَلَى حِدَةٍ - كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِهِمْ - فَقَدْ أَبْعَدَ جِدًّا ; وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ السِّيَاقَاتِ فِيهَا السَّلَامُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا تَعْرِيفُهُ بِهِمْ. وَفِي كُلِّهَا يُفْرَضُ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُدَّعَى تَعَدُّدُ ذَلِكَ ؟ هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَالِاسْتِحَالَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ، أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ: هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ.

فَصْلٌ
وَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صَبِيحَةِ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، جَاءَهُ جِبْرِيلُ عِنْدَ الزَّوَالِ، فَبَيَّنَ لَهُ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ وَأَوْقَاتَهَا، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ فَاجْتَمَعُوا، وَصَلَّى بِهِ جِبْرِيلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى الْغَدِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَأْتَمُّونَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقْتَدِي بِجِبْرِيلَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ،أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ، فَبَيَّنَ لَهُ الْوَقْتَيْنِ، فَهُمَا الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَمَا بَيْنَهُمَا الْوَقْتُ الْمُوَسَّعُ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَوْسِعَةً فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ. وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَبُرَيْدَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَكُلُّهَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَمَوْضِعُ بَسْطِ ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا الْأَحْكَامِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
فَأَمَّا مَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ. وَكَذَا رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ

، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَرَوَاهُ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْهَا. وَهَذَا مُشْكِلٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تُتِمُّ الصَّلَاةَ فِي السَّفَرِ، وَكَذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [ النِّسَاءِ: 101 ]. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ ذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ صَلَاةَ الْحَضَرِ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ أَرْبَعًا، كَمَا ذَكَرَهُ مُرْسَلًا مِنْ صِلَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ أَرْبَعًا، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا، يَجْهَرُ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَالْعِشَاءَ أَرْبَعًا يَجْهَرُ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَالصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ يَجْهَرُ فِيهِمَا.
قُلْتُ: فَلَعَلَّ عَائِشَةَ أَرَادَتْ أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ تَكُونُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ لَمَّا فُرِضَتِ الْخَمْسُ فُرِضَتْ حَضَرًا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَرُخِّصَ فِي السَّفَرِ أَنَّ يُصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، كَمَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ قَدِيمًا وَعَلَى هَذَا لَا يَبْقَى إِشْكَالٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ فِي انْشِقَاقِ الْقَمَرِ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعْلِ اللَّهِ لَهُ آيَةً عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ وَفْقَ إِشَارَتِهِ الْكَرِيمَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ [ الْقَمَرِ: 13 ]. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَجَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ مَنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ تُفِيدُ الْقَطْعَ عِنْدَ مَنْ أَحَاطَ بِهَا وَنَظَرَ فِيهَا، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مَا تَيَسَّرَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَقَدْ تَقَصَّيْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا " التَّفْسِيرِ " فَذَكَرْنَا الطُّرُقَ وَالْأَلْفَاظَ مُحَرَّرَةً. وَنَحْنُ نُشِيرُ هَاهُنَا إِلَى أَطْرَافٍ مِنْ طُرُقِهَا، وَنَعْزُوهَا إِلَى الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَحُذَيْفَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ

وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا أَنَسٌ: فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَةً، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ. وَهَذَا مِنْ مُرْسَلَاتِ الصَّحَابَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَلَقَّاهُ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَوْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ عَنِ الْجَمِيعِ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ. زَادَ الْبُخَارِيُّ: وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ. وَزَادَ مُسْلِمٌ: وَشُعْبَةَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمُ الْقَمَرَ شِقَّتَيْنِ، حَتَّى رَأَوْا حِرَاءً بَيْنَهُمَا. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَأَمَّا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ

مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةً عَلَى هَذَا الْجَبَلِ، وَفِرْقَةً عَلَى هَذَا الْجَبَلِ. فَقَالُوا: سَحَرَنَا مُحَمَّدٌ. فَقَالُوا: إِنْ كَانَ سَحَرَنَا، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ وَغَيْرِهِ عَنْ حُصَيْنٍ بِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ وَهُشَيْمٍ كِلَاهُمَا عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ بِهِ فَزَادَ رَجُلًا فِي الْإِسْنَادِ.
وَأَمَّا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: فَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " الدَّلَائِلِ " مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ بِالْمَدَائِنِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ أَلَا وَإِنَّ السَّاعَةَ قَدِ اقْتَرَبَتْ، أَلَا وَإِنَّ الْقَمَرَ قَدِ انْشَقَّ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِفِرَاقٍ، أَلَا وَإِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارُ وَغَدًا السِّبَاقُ. فَلَمَّا كَانَتِ الْجُمُعَةُ الثَّانِيَةُ، انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي إِلَى الْجُمُعَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ مِثْلَهُ، وَزَادَ: أَلَا وَإِنَّ السَّابِقَ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْجَنَّةِ. فَلَمَّا كُنَّا فِي الطَّرِيقِ، قُلْتُ لِأَبِي: مَا يَعْنِي

بِقَوْلِهِ: غَدًا السِّبَاقُ ؟ قَالَ: مَنْ سَبَقَ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا بَكْرٌ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ مُضَرَ عَنْ جَعْفَرٍ هُوَ ابْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عِرَاكٍ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى ثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ قَالَ: قَدْ مَضَى ذَلِكَ، كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، انْشَقَّ الْقَمَرُ حَتَّى رَأَوْا شِقَّيْهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ مُرْسَلَاتِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ

سَهْلٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ وَالْعَاصُ بْنُ هِشَامٍ وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ وَزَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَنُظَرَاؤُهُمْ، فَقَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَشُقَّ لَنَا الْقَمَرَ فِرْقَتَيْنِ نِصْفًا عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، وَنِصْفًا عَلَى قُعَيْقِعَانَ. فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنْ فَعَلْتُ تُؤْمِنُوا ؟ " قَالُوا: نَعَمْ. وَكَانَتْ لَيْلَةَ بَدْرٍ، فَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا سَأَلُوا، فَأَمْسَى الْقَمَرُ قَدْ مَثُلَ نِصْفًا عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، وَنِصْفًا عَلَى قُعَيْقِعَانَ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنَادِي: " يَا أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ وَالْأَرْقَمَ بْنَ أَبِي الْأَرْقَمِ اشْهَدُوا ".
ثُمَّ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ الرَّازِيُّ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زِيَادٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: انْتَهَى أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: هَلْ مِنْ آيَةٍ نَعْرِفُ بِهَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ؟ فَهَبَطَ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَحْتَفِلُوا هَذِهِ اللَّيْلَةَ، فَسَيَرَوْنَ آيَةً إِنِ انْتَفَعُوا بِهَا. فَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَقَالَةِ جِبْرِيلَ، فَخَرَجُوا لَيْلَةَ الشَّقِّ، لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ نِصْفَيْنِ، نِصْفًا عَلَى الصَّفَا، وَنِصْفًا عَلَى الْمَرْوَةِ، فَنَظَرُوا، ثُمَّ قَالُوا بِأَبْصَارِهِمْ فَمَسَحُوهَا، ثُمَّ أَعَادُوا النَّظَرَ فَنَظَرُوا، ثُمَّ مَسَحُوا أَعْيُنَهُمْ ثُمَّ نَظَرُوا، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ ذَاهِبٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
ثُمَّ رَوَى عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَتْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا أَرِنَا آيَةً حَتَّى نُؤْمِنَ بِهَا، فَسَأَلَ رَبَّهُ، فَأَرَاهُمُ الْقَمَرَ فَصَارَ قَمَرَيْنِ، أَحَدُهُمَا عَلَى الصَّفَا وَالْآخَرُ عَلَى الْمَرْوَةِ قَدْرَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ غَابَ. فَقَالُوا: هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَزَّارُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:كَسَفَ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: سَحَرَ الْقَمَرَ، فَنَزَلَتْ:

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَفِيهِ أَنَّهُ كَسَفَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَعَلَّهُ حَصَلَ لَهُ انْشِقَاقٌ فِي لَيْلَةِ كُسُوفِهِ، وَلِهَذَا خَفِيَ أَمْرُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ فِي بَعْضِ لَيَالِي الشِّتَاءِ حَيْثُ يَكُونُ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي الْبُيُوتِ، أَوْ سَتَرَهُ غَيْمٌ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَمَعَ هَذَا قَدْ شُوهِدَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أُرِّخَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ بِلَادِ الْهِنْدِ، وَبُنِيَ بِنَاءٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَأُرِّخَ بِلَيْلَةِ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ.
وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ: فَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قَالَ: وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انْشَقَّ فِلْقَتَيْنِ، فِلْقَةً مِنْ دُونِ الْجَبَلِ، وَفِلْقَةً مِنْ خَلْفِ الْجَبَلِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللَّهُمَّ اشْهَدْ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ. قَالَ مُسْلِمٌ كَرِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِقَّتَيْنِ، حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اشْهَدُوا ". وَهَكَذَا أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِهِ. وَمِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَخْبَرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِنًى، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اشْهَدُوا ". وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ نَحْوَ الْجَبَلِ. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: بِمَكَّةَ. وَتَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ أَسْنَدَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ حَدِيثَ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ ذَلِكَ فِي " مُسْنَدِهِ "، فَقَالَ: ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: هَذَا سِحْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ. فَقَالُوا: انْظُرُوا مَا يَأْتِيكُمْ بِهِ

السُّفَّارُ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْحَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ. قَالَ: فَجَاءَ السُّفَّارُ فَقَالُوا ذَلِكَ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ حَتَّى صَارَ فِرْقَتَيْنِ، فَقَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِأَهْلِ مَكَّةَ: هَذَا سِحْرٌ سَحَرَكُمْ بِهِ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ، انْظُرُوا السُّفَّارَ، فَإِنْ كَانُوا رَأَوْا مَا رَأَيْتُمْ فَقَدْ صَدَقَ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَرَوْا مِثْلَ مَا رَأَيْتُمْ فَهُوَ سِحْرٌ سَحَرَكُمْ بِهِ. قَالَ: فَسُئِلَ السُّفَّارُ - قَالَ وَقَدِمُوا مِنْ كُلِّ وِجْهَةٍ - فَقَالُوا: رَأَيْنَا. وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ، وَزَادَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ، مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ - قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَأَيْتُ الْجَبَلَ بَيْنَ فُرْجَتَيِ الْقَمَرِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ

جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ أَسْبَاطٍ، عَنْ سِمَاكٍ بِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الطَّلْحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْوَادِعِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ حَتَّى صَارَ فِرْقَتَيْنِ، فَتَوَارَتْ فِرْقَةٌ خَلْفَ الْجَبَلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اشْهَدُوا، اشْهَدُوا ".
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَلَانِسِيُّ، حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، ثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ بِمَكَّةَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَحَدَ شِقَّيْهِ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي بِمِنًى، وَنَحْنُ بِمَكَّةَ.
وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ أَبُو سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:انْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ، فَرَأَيْتُهُ فِرْقَتَيْنِ
ثُمَّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُمَيْرٍ،

عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:رَأَيْتُ الْقَمَرَ وَاللَّهِ مُنْشَقًّا بِاثْنَتَيْنِ، بَيْنَهُمَا حِرَاءُ
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ الصَّغِيرِ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ فِلْقَتَيْنِ; فِلْقَةٌ ذَهَبَتْ، وَفِلْقَةٌ بَقِيَتْ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:لَقَدْ رَأَيْتُ جَبَلَ حِرَاءَ مِنْ بَيْنِ فِلْقَتَيِ الْقَمَرِ، فَذَهَبَتْ فِلْقَةٌ، فَتَعَجَّبَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: هَذَا سِحْرٌ مَصْنُوعٌ سَيَذْهَبُ.
وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: " اشْهَدْ يَا أَبَا بَكْرٍ ". وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: سَحَرَ الْقَمَرَ حَتَّى انْشَقَّ.
فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ قَوِيَّةُ الْأَسَانِيدِ، تُفِيدُ الْقَطْعَ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا وَعَرَفَ عَدَالَةَ رِجَالِهَا. وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْقُصَّاصِ مِنْ أَنَّ الْقَمَرَ سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، حَتَّى دَخَلَ فِي كُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ مِنَ الْكُمِّ الْآخَرِ، فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ كَذِبٌ مُفْتَرًى، لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَالْقَمَرُ حِينَ انْشَقَّ لَمْ يُزَايِلِ السَّمَاءَ، غَيْرَ أَنَّهُ حِينَ أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْشَقَّ عَنْ إِشَارَتِهِ، فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ، فَسَارَتْ وَاحِدَةٌ حَتَّى صَارَتْ مِنْ وَرَاءِ حِرَاءَ، وَنَظَرُوا إِلَى الْجَبَلِ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ

شَاهَدَ ذَلِكَ. وَمَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَنَسٍ فِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ ": فَانْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ مَرَّتَيْنِ. فِيهِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ فِرْقَتَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ فِي وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ زَوْجَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
وَقِيلَ: بَلْ هِيَ تُوُفِّيَتْ قَبْلَهُ. وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. وَهُمَا الْمُشْفِقَانِ; هَذَاكَ فِي الظَّاهِرِ، وَهَذِهِ فِي الْبَاطِنِ هَذَاكَ كَافِرٌ، وَهَذِهِ مُؤْمِنَةٌ صِدِّيقَةٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ خَدِيجَةَ وَأَبَا طَالِبٍ هَلَكَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ، فَتَتَابَعَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَصَائِبُ، بِهُلْكِ خَدِيجَةَ، وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ عَلَى الْإِسْلَامِ، يَسْكُنُ إِلَيْهَا، وَبِهُلْكِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ لَهُ عَضُدًا وَحِرْزًا فِي أَمْرِهِ، وَمَنَعَةً وَنَاصِرًا عَلَى قَوْمِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ مُهَاجَرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ، نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَطْمَعُ بِهِ فِي حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ، حَتَّى اعْتَرَضَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، فَنَثَرَ

عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، فَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ، وَالتُّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ إِحْدَى بَنَاتِهِ، فَجَعَلَتْ تَغْسِلُهُ وَتَبْكِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا تَبْكِي يَا بُنَيَّةُ; فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكِ ". - وَيَقُولُ بَيْنَ ذَلِكَ - " مَا نَالَتْنِي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ ".
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَنَّ أَحَدَهُمْ رُبَّمَا طَرَحَ الْأَذَى فِي بُرْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نُصِبَتْ لَهُ. قَالَ: فَكَانَ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ - كَمَا حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُرْوَةَ - يَخْرُجُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى الْعُوْدِ فَيَقِفُ بِهِ عَلَى بَابِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا بَنِي عَبْدَ مَنَافٍ، أَيُّ جِوَارٍ هَذَا ؟ ثُمَّ يُلْقِيهِ فِي الطَّرِيقِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا اشْتَكَى أَبُو طَالِبٍ، وَبَلَغَ قُرَيْشًا ثِقَلُهُ، قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ: إِنَّ حَمْزَةَ وَعُمَرَ قَدْ أَسْلَمَا، وَقَدْ فَشَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ فِي قَبَائِلِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، فَانْطَلِقُوا بِنَا إِلَى أَبِي طَالِبٍ فَلْيَأْخُذْ لَنَا عَلَى ابْنِ أَخِيهِ وَلْيُعْطِهِ مِنَّا، فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَبْتَزُّونَا أَمْرَنَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ،عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا مَشَوْا إِلَى أَبِي طَالِبٍ وَكَلَّمُوهُ، وَهُمْ أَشْرَافُ

قَوْمِهِ; عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فِي رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى وَتَخَوَّفْنَا عَلَيْكَ، وَقَدْ عَلِمْتَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَادْعُهُ فَخُذْ لَنَا مِنْهُ وَخُذْ لَهُ مِنَّا; لِيَكُفَّ عَنَّا، وَلِنَكُفَّ عَنْهُ، وَلِيَدَعَنَا وَدِينَنَا، وَلِنَدَعَهُ وَدِينَهُ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ، فَجَاءَهُ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، هَؤُلَاءِ أَشْرَافُ قَوْمِكَ قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ، لِيُعْطُوكَ وَلِيَأْخُذُوا مِنْكَ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ، كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُعْطُونِيهَا، تَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ، وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ ". فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: نَعَمْ وَأَبِيكَ، وَعَشْرَ كَلَمَّاتٍ. قَالَ: " تَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ ". قَالَ: فَصَفَّقُوا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَتُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا، إِنَّ أَمْرَكَ لَعَجَبٌ! قَالَ: ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا هَذَا الرَّجُلُ بِمُعْطِيكُمْ شَيْئًا مِمَّا تُرِيدُونَ، فَانْطَلِقُوا وَامْضُوا عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا. قَالَ: فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ: وَاللَّهِ يَا ابْنَ أَخِي، مَا رَأَيْتُكَ سَأَلْتَهُمْ شَطَطًا. قَالَ: فَطَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ: أَيْ عَمِّ، فَأَنْتَ فَقُلْهَا، أَسْتَحِلُّ لَكَ بِهَا الشَّفَاعَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَى حِرْصَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ لَوْلَا مَخَافَةُ السُّبَّةِ عَلَيْكَ، وَعَلَى بَنِي أَبِيكَ مِنْ بَعْدِي، وَأَنْ تَظُنَّ قُرَيْشٌ أَنِّي إِنَّمَا قُلْتُهَا جَزَعًا مِنَ الْمَوْتِ، لَقُلْتُهَا، لَا

أَقُولُهَا إِلَّا لِأَسُرَّكَ بِهَا. قَالَ: فَلَمَّا تَقَارَبَ مِنْ أَبِي طَالِبٍ الْمَوْتُ، نَظَرَ الْعَبَّاسُ إِلَيْهِ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَأَصْغَى إِلَيْهِ بِأُذُنِهِ. قَالَ: فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ لَقَدْ قَالَ أَخِي الْكَلِمَةَ التِي أَمَرْتَهُ أَنْ يَقُولَهَا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ أَسْمَعْ. قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أُولَئِكَ الرَّهْطِ: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [ ص: 2، 1 ] الْآيَاتِ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ ". وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْغُلَاةِ، إِلَى أَنَّ أَبَا طَالِبٍ مَاتَ مُسْلِمًا بِقَوْلِ الْعَبَّاسِ هَذَا الْحَدِيثَ: يَا ابْنَ أَخِي! لَقَدْ قَالَ الْكَلِمَةَ التِي أَمَرْتَهُ أَنْ يَقُولَهَا. يَعْنِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ; أَحَدُهَا، أَنَّ فِي السَّنَدِ مُبْهَمًا لَا يُعْرُفُ حَالُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ. وَهَذَا إِبْهَامٌ فِي الِاسْمِ وَالْحَالِ، وَمِثْلُهُ يُتَوَقَّفُ فِيهِ لَوِ انْفَرَدَ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ نَحْوًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ الْعَبَّاسِ. وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا، عَنِ

الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ الْكُوفِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَهُ بِغَيْرِ زِيَادَةِ قَوْلِ الْعَبَّاسِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ مِنْ سِيَاقِ الْبَيْهَقِيِّ، فِيمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَرِضَ أَبُو طَالِبٍ، فَجَاءَتْ قُرَيْشٌ، وَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَ رَأْسِ أَبِي طَالِبٍ مَجْلِسُ رَجُلٍ، فَقَامَ أَبُو جَهْلٍ كَيْ يَمْنَعَهُ ذَاكَ، وَشَكَوْهُ إِلَى أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، مَا تُرِيدُ مِنْ قَوْمِكَ ؟ فَقَالَ: " يَا عَمِّ، إِنَّمَا أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً، تَذِلُّ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْجِزْيَةَ الْعَجَمُ، كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ ". قَالَ: مَا هِيَ ؟ قَالَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ". قَالَ: فَقَالُوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا، إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ! قَالَ: وَنَزَلَ فِيهِمْ: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ الْآيَاتِ، إِلَى قَوْلِهِ إِلَّا اخْتِلَاقٌ [ ص: 1 - 7 ]
ثُمَّ قَدْ عَارَضَهُ - أَعْنِي سِيَاقَ ابْنِ إِسْحَاقَ - مَا هُوَ أَصَحُّ مِنْهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَائِلًا: حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: " أَيْ عَمِّ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ ". فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ

بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟ فَلَمْ يَزَالَا يُكَلَمَّانِهِ، حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ ". فَنَزَلَتْ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [ التَّوْبَةِ: 113 ] وَنَزَلَتْ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [ الْقَصَصِ: 56 ] وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَعَبْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ بِنَحْوِهِ. وَقَالَ فِيهِ: فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ لَهُ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ آخَرَ مَا قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ - يَعْنِي بَعْدَ ذَلِكَ -: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى وَنَزَلَ فِي أَبِي طَالِبٍ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ.
وَهَكَذَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ

كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ، أَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا عَمَّاهُ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيَّرَنِي قُرَيْشٌ; يَقُولُونَ: مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ إِلَّا جَزَعُ الْمَوْتِ. لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، وَلَا أَقُولُهَا إِلَّا لِأُقِرَّ بِهَا عَيْنَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
وَهَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ حِينَ عَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَأَبَى أَنْ يَقُولَهَا، وَقَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ الْأَشْيَاخِ. وَكَانَ آخِرَ مَا قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَيُؤَكِّدُ هَذَا كُلَّهُ مَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ قَالَ: قَلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ. قَالَ: هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ طُرُقٍ عَنْ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق