تدوين السنة ومنزلتها
الكتاب: تدوين السنة ومنزلتها لعبد المنعم السيد نجم
الناشر: الجامعة الإسلامية، المدينة المنورة
الطبعة: السنة الحادية عشر - العدد الثالث - ربيع الأول 1399هـ
عدد الأجزاء: 1
لفضيلة الدكتور عبد المنعم نجم الأستاذ المساعد بكلية الحديث بالجامعة الإسلامية
نريد بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموع ما صدر عنه من قول أو فعل أو تقرير، ولا شك أن رسول الله مبلغ عن الله {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} 1، ومبين عن الله مراده {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 2؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين ما أراد القرآن أحيانا بالقول وحده، وأحيانا بالفعل وحده، وأحيانا بهما، كما صلى وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وحج وقال: "خذوا عني مناسككم"؛ فهي إذا شارحة للقرآن تبين مجمله وتقيد مطلقه، وتؤول مشكله، فليس في السنة شيء إلا والقرآن دلّ على معناه دلالة إجمالية، أو تفصيلة وتلك الدلالة من وجوه.
منها ما هو عام جدا، وهو ما ورد في القرآن من إيجاب اتباع الرسول صلى اله عليه وسلم، نحو قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3، وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 4 إلى غير ذلك من الآيات ومنها الوجه المشهور عند العلماء، كالأحاديث في بيان ما أجمل ذكره من الأحكام، إما يحسب كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه أو مواقعه أو لواحقه، أو ما أشبه ذلك، كبيانها للصلاة والزكاة وغير ذلك مما وقع في السنة بيانا للقرآن.
__________
1 انظر كشف الظنون في أساس العلوم والفنون
2 الآية 67 من سورة المائدة
3 آية 7 من سورة الحشر
4 الآية 65 من سورة النساء
(1/27)
السنة من الوحي:
السنة النبوية بالمعنى المتقدم - ما أضيف للنبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال والتقريرات - هي أحد قسمي الوحي الإلهي الذي نزل به جبريل الأمين على النبي صلى الله عليه وسلم،
(1/27)
والقسم الثاني من الوحي هو القرآن الكريم.
فالسنة النبوية من الوحي، بذلك نطق الكتاب العزيز {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى} 1، وبذلك جاءت السنة نفسها؛ فقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجه، عن المقدام بن معد يكرب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه"2.
يقول المنذري في مختصر السنن: وأخرجه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه.
يقول الإمام الخطابي في معالم السنن: "قوله " أوتيت الكتاب ومثله معه" يحتمل وجهين من التأويل، أحدهما: أن يكون معناه: أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو مثل ما أعطى من الوحي الظاهر المتلو.
ويحتمل أن يكون معناه: أنه أوتي الكتاب وحيا يتلى، وأوتي من البيان، أي أذن له أن يبين ما في الكتاب ويعم ويخص، وأن يزيد عليه فيشرح ما ليس له في الكتاب ذكر، فيكون ذلك في وجوب الحكم ولزوم العمل به كالظاهر المتلو من القرآن.
وقوله: "يوشك شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن" فانه يحذر بذلك مخالفة السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس له في القرآن ذكر، على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض؛ فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي قد ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا.
(والأريكة) : السرير، ويقال: إنه لا يسمى أريكة حتى يكون في حجلةiii.
وإنما أراد بهذه الصفة: أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت، ولم يطلبوا العلم ولم يغدوا ولم يروحوا في طلبه في مظانه واقتباسه من أهله".
ثم يقول الخطابي: "وفي الحديث دليل على أنه لا حاجة بالحديث أن يعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حجة بنفسه".
__________
iالآية 10 من سورة النجم، وانظر الحديث والمحدثين للشيخ أبي زهو.
ii انظر سنن أبي داود جـ 2 ص 505 كتاب السنة باب فما لزوم السنة ط ا.
iii الحجلة بفتحتين: واحدة حجال العروس، وهى بيت يزين بالثياب والأسرة والستور اهـ. مختار الصحاح ص124ط7.
(1/28)
عرض الحديث على القرآن:
أما ما رواه بعضهم أنه قال: "إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله؛ فان وافقه فخذوه وإن
(1/28)
خالفه فدعوه" فإنه حديث باطل لا أصل له، وقد حكى زكريا بن يحي الساجي عن يحي بن معين أنه قال: هذا حديث وضعته الزنادقة.
ويقول الخطابي: "وقد روي هذا من حديث الشاميين، عن يزيد بن ربيعة عن أبى الأشعث عن ثوبان. ويزيد بن ربيعة هذا مجهول، ولا يعرف له سماع من أبي الأشعث، وأبو الأشعث لا يروي عن ثوبان وإنما يروي عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان". اهـ1.
وعلى هذا فالسنة صنو الكتاب العزيز، والذي جاءنا بالقرآن هو الذي نطق بالسنة؛ فلا يستغنى بأحدهما عن الآخر، وروى أبو داود بسنده عن عبد الله بن أبى رافع عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه".
قال المنذري: وأخرجه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن، وذكر أن بعضهم رواه مرسلا2. وروى الحافظ ابن عبد البر بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك بأحدكم يقول: هذا كتاب الله ما كان فيه من حلال أحللناه وما كان فيه من حرام حرمناه، ألا من بلغه عني حديث فكذب به فقد كذب الله ورسو له والذي حدثه" 3.
__________
1 انظر مختصر وشرح سنن بي داود جـ7 ص1 حديث 4436.
2 انظر مختصر سنن أبي داود المنذرى جـ7 ص 10 حديث 4441.
3 انظر جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله لأيى عمر يوسف بن عبد البر النورى القرطبي المتوفى 463هـ.
(1/29)
شرف علم الحديث:
لا يختلف اثنان في أن علم الحديث أشرف علم بعد كتاب الله، كيف لا وهو المرتبة الثانية بعد القرآن، والمصدر الثاني للشريعة الإسلامية، نطق به الذي جاءنا بالقرآن من عند الله، المعطى جوامع الكلم المفوض إليه من الله أمر التبيين والتحصيل، روى أبو داود بسنده عن العرباض بن سارية.. فقال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي؛ فانه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين؛ تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" 4.
قال الإمام الخطابي: "والنواجذ آخر الأضراس، واحدها: ناجذ، وإنما أراد بذلك الجد في لزوم السنة؛ فعل من أمسك الشيء بين أضراسه وعض عليه منعاً له أن ينتزع، وذلك أشد ما يكون من التمسك بالشيء، إذا كان ما يمسكه بمقاديم فمه أقرب تناولا وأسهل انتزاعا. وفي قوله: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" دليل على أن الواحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولا وخالفه فيه غيره من الصحابة كان المصير إلى قول الخليفة أولى"5.
__________
4 انظر سنن أبي داود جـ 2 كتاب السنة باب في لزوم السنة ص 506 ط 1.
5 انظر مختصر المنذري جـ7 ص12 حديث 4443.
(1/29)
يقول الإمام النووي: "إن من أهم العلوم تحقيق معرفة الأحاديث النبويات، أعني معرفة متونها، صحيحها وحسنها وضعيفها وبقية أنواعها المعروفة، ودليل ذلك أن شرعنا مبني على الكتاب العزيز والسنن المرويات، وعلى السنن المحكمات، وقد اتفق العلماء على أن من شرط المجتهد من القاضي والمفتي أن يكون عالما بالأحاديث الحكميات، فثبت بما ذكرناه أن الاشتغال بالحديث من أجَلّ العلوم الراجحات وأفضل أنواع الخير وآكد القربات، وكيف لا يكون كذلك؟ وهو مشتمل على بيان أفضل المخلوقات، عليه من الله الكريم أفضل الصلوات والسلام والبركات الخ"1.
ويقول العلامة الشهاب أحمد المنبتي الدمشقي الحنفي "إن علم الحديث علم رفيع القدر عظيم الفخر، شريف الذكر، لا يعنى به إلا كل حبر، ولا يحرمه إلا كل غمر، لا تفنى محاسنه على ممر الدهر، لم يزل في القديم والحديث يسمو عزة وجلالة، وكم عزّ به من كشف الله له مخبآت أسراره وجلاله؛ إذ به يعرف المراد من كلام رب العالمين، ويظهر المقصود من حبله المتصل المتين، ومنه يدرى شمائل من سما ذاتا ووصفا واسما، ووقف على أسرار بلاغة من شرف الخلائق عربا وعجما.
وناهيك بعلم من المصطفى صلى الله عليه وسلم بدايته وإليه مستنده وغايته، وحسب الراوي للحديث مشرفا وفضلا وجلالة ونبلا، أن يكون أول سلسلة آخرها الرسول، وإلى حضرته الشريفة بها الانتهاء والوصول.
وطالما كان السلف يقاسون في تحمله شدائد الأسفار، ليأخذوه عن أهله بالمشافهة، ولا يقنعون بالنقل من الأسفار، فربما ارتكبوا غارب الإغتراب بالارتحال إلى البلدان الشاسعة لأخذ حديث عن إمام انحصرت روايته فيه، أو لبيان وضع حديث تتبعوا سنده حتى انتهى إلى من يختلق الكذب ويفتريه.
وتأسى بهم من بعدهم من نقلة الأحاديث النبوية؛ فضبطوا الأسانيد وقيدوا منها كل شريد، وسبروا الرواة بين تجريح وتعديل، وسلكوا في تحرير المتن أقوم سبيل، ولا غرض لهم إلا الوقوف على الصحيح من أقوال المصطفى وأفعاله، ونفي الشبهة بتحقيق السند واتصاله؛ فهذه هي المنقبة التي تتسابق إليها الهمم العوالي"2.
وفي كتاب الخطة: "اعلم أن آنف3 العلوم الشرعية ومفتاحها، ومشكاة الأدلة السمعية ومصباحها، ومبنى شرائع الإسلام وأساسها، ومستند الروايات الفقهية كلها، ومركز المعاملات ومحط حارها وقارها هو علم الحديث الشريف الذي تعرف به جوامع الكلم، وتنفجر منه ينابيع الحكم وتدور عليه رحى الشرع بالأسر، وهو ملك كل نهي وأمر، ولولاه، لقال:
__________
1 انظر مقدمة صحيح مسلم.
2 انظر قواعد التحديث.
3 آنف: أول.
(1/30)
من شاء وخبط الناس خبط عشواء وركبوا متن عمياء.. وهو تلو كلام الله العلام، وثاني أدلة الأحكام ...
تم قال: وما الحق إلا فيما قاله صلى الله عليه وسلم أو عمل به أو قرره أو أشار إليه أو تفكر فيه أو خطر بباله أو هجس في خلده واستقام عليه.
فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب، والعمل بهما في كل إياب وذهاب، ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء، ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} 1.
فياله من علم مزج بدمه الحق والهدى، ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى.
وقد كان الإمام محمد بن علي بن الحسين رحمه الله يقول: "إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث". لقد صدق فإنه لو تأمل بالنظر العميق والفكر الدقيق، لعلم أن لكل علم خاصية تتحصل بمزاولته للنفس الإنسانية كيفية من الكيفيات الحسنة أو السيئة، وهذا العلم تعطي مزاولته صاحبه معنى الصحابة؛ لأنها في الحقيقة هي الإطلاع على جزئيات أحواله صلى الله عليه وسلم ومشاهدة أوضاعه في العبادات والعادات كلها، وعند بعد الزمان يتمكن هذا المعنى بمزاولته في مدركة المزاول، ويرتسم في خياله بحيث يصير في حكم المشاهدة والعيان، وإليه أشار القائل بقوله:
أهل الحديث هموا أهل النبي وإن ... لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
ويروى عن بعض الصلحاء أنه قال: "أشد البواعث وأقوى الدواعي لي على تحصيل علم الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم".
فالحاصل أن أهل الحديث - كثر الله سوادهم، ورفع عمادهم - لهم نسبة خاصة ومعرفة مخصوصة بالنبي صلى اله عليه وسلم لا يشاركهم فيها أحد من العالمين، فضلا عن الناس أجمعين؛ لأنهم الذين لا يزال يجري ذكر صفاته العليا وأحواله الكريمة وشمائله الشريفة على لسانهم". اهـ بتصرفi.
__________
1 انظر قواعد التحديث
(1/31)
فضل نشر الحديث وروايته:
روى أبو داود بسنده عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى بلغه؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" 2.
__________
2 انظر سنن أبي داود كتاب العلم فضل نشر العلم جـ 2ص 289.
(1/31)
قال المنذري: وأخرجه الترمذي والنسائي. وقال الترمذي: حديث حسن. وأخرجه ابن ماجه من حديث عبّاد والد يحيي عن زيد بن ثابت. اهـ1.
وروي: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها".
وفيه روايات عدة لهذا الحديث.
قال سفيان بن عيينة: "ليس من أهل الحديث أحد إلا في وجهه نضرة لهذا الحديث".
يقول الإمام الخطابي:" في قوله "نضر الله " معناه: الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة، يقال بتخفيف الضاد وتثقيلها، وأجودهما التخفيف.
وفي قوله: "ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه" دليل على كراهة اختصار الحديث لمن ليس بالمتناهي في الفقه؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد قطع طريق الاستنباط والاستدلال لمعاني الكلام من طريق التفهم، وفي ضمنه وجوب التفقه والحث على استنباط معاني الحديث، واستخراج المكنون من سره". اهـ.
وقد قيل في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} 2 ليس لأهل الحديث منقبة أشرف من ذلك؛ لأنه لا إمام لهم غيره صلى الله عليه وسلم3.
وقد ورد في شرف الحديث وأصحابه، وفضل الإسناد وأربابه أخبار كثيرة؛ فمن ذلك حديث أسامة بن زبد رفعه: " بحمل هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"، وهذا الحديث رواه من الصحابة علي وعمر وابن مسعود وابن عباس وجابر بن سمرة ومعاذ وأبو هريرة وأبو أمامة، وأورده ابن عدى من طرق كثيرة كلها ضعيفة، كما صرح به الدارقطني وأبو نعيم وابن عبد البر.
لكن يمكن أن يتقوّى بتعدد طرقه ويكون حسنا لغيره، كما جزم به العلائي.
وفيه تخصيص حملة السنة بهذه المنقبة العلية؛ لأنهم يحمون مشارع الشريعة ومتون الروايات من تحريف الغالين الذين غلوا في الدين، وتأويل الجاهلين بنقل النصوص المحكمة لرد المتشابه إليها.
قال النووي في أول تهذيبه: "وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بصيانة هذا العلم بحفظه، وعدالة ناقليه، وأن الله يوفق في كل عصر خلقا من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف فلا يضيع، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر، وهكذا وقع، وهو من أعلام النبوة، ولا يضر كون بعض الفساق يعرف شيئا من علم الحديث؛ فان الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أن غيرهم لا يعرف شيئا". اهـ.
__________
1 انظر مختصر المنذرى ومعالم السنن للخطايى جـ 5 ص253 باب جامع في فضل العلم.
2 سورة الإسراء آية 71.
3 كذا في تدريب الراوي ص 170.
(1/32)
على أنه قد يقال: ما يعرفه الفساق من العلم ليس بعلم؛ لعدم عملهم". اهـ1.
وقال العراقي: "قال ابن عبد البر: كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبدا على العدالة حتى يتبين جرحه، واستدل على ذلك بحديث رواه من طريق أبي جعفر العقيلي من رواية ابن رفاعة السلامي عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله …به" أورده العقيلي في الضعفاء في ترجمة معان بن رفاعة، وقال: لا يعرف إلا به، ورواه ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل.
وفي كتاب علل الحلال: أن أحمد بن حنبل سئل عن هذا الحديث فقيل له: كأنه كلام موضوع؟ فقال: لا هو صحيح؟ فقيل له: ممن سمعته؟ قال: عن غير واحد …الخ "2.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل3.
__________
1 انظر القول السديد في اتصال الأسانيد للشيخ أحمد عثمان العدوي المعروف بالمنبتي مصطلح 38 مخطوط تيمور.
2 انظر فتح المغيث شرح ألفية الحديث.
3 انظر قواعد التحديث ص 50
(1/33)
تدوين الحديث وأطواره منذ فجر الإسلام حتى عصر أصحاب الصحاح الستة
لما كان الحديث من أصل الفروض وجب الاعتناء به، والاهتمام بضبطه وحفظه؛ فلذلك يسر الله للعلماء الثقات الذين حفظوا قوانينه وأحاطوا به؛ فتناقلوه كابرا عن كابر، وأوصله كما سمعه أولهم إلى أخرهم، وحببه الله إليهم لحكمه حفظ دينه وحراسة شريعته؛ فلم يزل هذا العلم من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم غضا طريا، والدين محكم الأساس قوي البنيان.
أشرف العلوم وأجلها لدى الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين خلفا عن سلف، لا يشرف بينهم أحد بعد حفظ كتاب الله إلا بقدر ما يحفظ منه، ولا يعظم في النفوس إلا بحسب ما سمع من الأحاديث؛ فتوفرت الرغبات فيه، فما زال لهم من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن انقطعت الهمم شغف على تعلمه، حتى لقد كان أحدهم يرحل المراحل ذوات العدد ويفني الأموال والعدد ويقطع الفيافي والمفاوز، ويجوب البلاد شرقا وغربا في طلب حديث واحد يسمعه من راويه؛ فمنهم من يكون الباعث له على الرحلة طلب ذلك الحديث لذاته، ومنهم من تقترن بتلك الرغبة سماعه من ذلك الراوي بعينه إما لثقته في نفسه، وإما لعلو إسناده؛ فانبعثت العزائم إلى تحصيله.
وكان اعتمادهم أولا على الحفظ والضبط في القلوب، غير ملتفتين إلى ما يكتبونه محافظة على هذا العلم، كحفظهم كتاب الله، ولا معولين على ما يسطرونه وذلك لسرعة حفظهم وسيلان أذهانهم.
(1/33)
فلما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار، وتفرقت الصحابة في الأقطار، وكثرت الفتوحات، ومات معظم الصحابة وتفرقت أصحابهم وأتباعهم وقلّ الضبط، وكاد الباطل يلتبس بالحق احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة؛ لأنها الأصل، فإن الخاطر يغفل، والقلم يحفظ؛ فمارسوا الدفاتر وسايروا المحابر وعقدوا العزم وأجابوا في نظم قلائده أفكارهم، وأنفقوا في تحصيله أعمارهم، واستغرقوا في تقييدهم ليلهم ونهارهم، فأبرزوا تصانيف كثرت صنوفها، ودونوا دواوين ظهرت شفوفها؛ فاتخذها العالمون قدوة، ونصبها العارفون قبلة.
(1/34)
الحديث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم والعرب في جهالة جهلاء وضلالة عمياء موروثة عن ذي قبل، فكان من رحمة الله بهم وبالإنسانية جمعاء أن أرسل فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.
والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، أشرف الناس نسبا وأكرمهم أما وأبا وأصلا ومحتدا.
ومن الحكمة البالغة أن بدأ بالدعوة سرا حتى لا يفجأ القوم بها، خاصة وهم غارقون في جهلهم يتخبطون في غيهم، فتبعه أفراد قلائل، لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، ثم جهر بالدعوة إلى الله؛ فدخل في الدين خلق كثير، دخلوا الإسلام عن بينة من أمره، واستمعوا إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، فخالطت أنوار الإيمان قلوبهم، لا سيما وهم متعطشون إلى ما ينقذهم من ظلمات الشرك ويهديهم إلى صراط مستقيم؛ فصادف الإسلام قلوبا مستعدة متهيأة فتمكن فيها كل التمكن، وجرى الإيمان فيهم مجرى الدم في عروقهم، ذلك أنهم عرفوا من النبي عليه السلام أن هذا الدين هو طريق سعادتهم ومعقد عزهم وسبب نهضتهم وتقدمهم، فعقدوا عليه خناصرهم، وأحبوا رسول الله حبا يسمو على الأبناء والآباء، وانكبوا على ما جاءهم به من القرآن يحفظونه، وعلى ما حدثهم في بنائه العظيم بعد القرآن الكريم، كما علموا أمر الله باتباعها، وتحذيره الشديد من مخالفة أمره، اعتقدوا هذا بقلوبهم ووضعوه نصب أعينهم.
ملكت الآيات والأحاديث على الصحابة مشاعرهم، وسيطرت على ألبابهم وحواسهم، وأفسحت قلوبهم حبا لله ورسوله عليه السلام، وألهبت نفوسهم نشاطا نحو العلم والعمل؛ فلم يدخروا وسعا في حفظ الأحكام والسن.
وإلى جانب هذه الحمية الدينية، استعداد فطري ونشاط طبيعي هو استعداد الحافظة ونشاط الذاكرة وسرعة الخاطر ووفرة الذكاء وكمال العبقرية.
فالصحابة عرب خلص أميون لا يقرؤون ولا يكتبون، فكل اعتمادهم على ملكاتهم في الحفظ، واعتبر ذلك بحالهم في الجاهلية، فقد حفظوا أنساهم ومناقبهم وأشعارهم وخطبهم، وكثيرا ما كانت تقع بينهم
(1/34)
المفاخرة المفاخرة بالأنساب والأحساب فلا يسعفهم غير اللسان يثيرون به ما حفظوه من أخبارهم، وأخبار خصومهم، مما يرفع من شأن أعدائهم.
ساعدهم حبهم للتفاخر بالأحساب والأنساب، والتنابز والمثالب بالألقاب، مع ما رسخ فيهم من عصبية قبلية على إجادة الحفظ والضبط ونشاط في الذاكرة لم يتوفر لأمة من الأمم؛ فكانت هذه الصدور الحافظة مهدا لآي الذكر الحكيم، وكانت هذه القلوب الواعية أوعية لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فاندفع الصحابة إلى تلقي حديث رسول الله بنهم عظيم وشوق كبير، وأظهر الله بهم دينه على الدين كله.
وتظاهر العامل الروحي والعامل الفطري؛ فأتى القوم بما لم يأت به أمة من يوم أن بعث الله رسله إلى الخلق، فحفظوا كتاب ربهم وسنة نبيهم.
(1/35)
الطريقة التي تلقى الصحابة بها الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
لم يكن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يجيد الكتابة إلا نفر قليل؛ فقد كانت الأمية غالبة عليهم، فكان اعتمادهم في تلقي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم على استعدادهم في الحفظ، كما أنهم نهوا عن كتابة الحديث في بدء الأمر خوف اختلاطه بالقرآن الكريم، وكان الصحابة يتلقون الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إما بطريقة المشافهة، وإما بطريقة المشاهدة لأفعاله وتقريراته، وإما بطريق السماع ممن سمع منه صلى الله عليه وسلم، أو شاهد أفعاله وتقريراته؛ لأنهم لم يكونوا جميعا يحضرون مجالسه صلى الله عليه وسلم، بل كان منهم من يتخلف لبعض حاجاته.
(1/35)
كتابة الحديث في عهد النبي عليه السلام:
تقدم أن الصحابة قد اعتمدوا على الحفظ في تلقي ما يأتيهم به النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم البعض أن قلة التدوين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعود بالدرجة الأولى إلى ندرة وسائل الكتابة، وأنا لست مع من يقول بذلك؛ لأنها لم تكن قليلة إلى هذا الحد الذي يبالغ فيه، وهي - على كل حال - قلة نسبية، قد تكون أحد العوامل في ترك كتابة الحديث، ولكنها بلا ريب ليست العامل الوحيد، فما منعت ندرة هذه الأدوات صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم من تجشم المشاق وركوب الصعاب في كتابة القرآن كله في اللخاف والعسب والأكتاف والأقناب وقطع الأديم، ولو أنهم أرادوا تدوينه مثل القرآن لفعلوا، ولكن الصحابة بتوجيه من نبيهم ومن تلقاء أنفسهم كانوا منصرفين إلى تلقي القرآن، مشغولين بجمعه في الصدور والسطور، وكان كتاب الله يستغرق جل أوقاتهم، كما يملك عليهم مشاعرهم، وحديث رسول الله حينئذ أكثر من أن يحصوه، فله في كل حادثة قول، وفي كل استفتاء توضيح، وفي كثير
(1/35)
من الوحي القرآني تبيان وتفسير، فأنى للكتبة منهم الوقت لمتابعة الرسول عليه السلام في كتابة جميع ما يقوله أو يعمله أو يقر الناس عليه، خاصة وأن الكاتبين منهم قليل.
ومع ذلك قام بعض هؤلاء الكاتبين بتقيد جميع ما سمعه ورآه من النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرهم على ذلك حين أمن التباس السنة بالقرآن، على حين كتب أفراد آخرون أشياء قليلة، وظل سائرهم بين قارئ كاتب لكنه مشغول بالقرآن شغلا لا يتيح له كتابة الحديث، فغدا يسمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم ويعمل به ولا يجد الحاجة لتقييده، وبين أمي يحفظ من القرآن والحديث ما تيسر له في صدره، وهو ما كان عليه أكثر الصحابة في بدء الإسلام ومطلع فجره.
وانصرف الصحابة إلى القرآن جمعا له في الصدور والسطور، واشتغالهم به عن كل شئ سواه كان جزءا من التوجيه النبوي الحكيم لهؤلاء التلامذة الخالدين من الأميين والكاتبين، وهو توجيه متدرج مع الحياة والأحياء متطور مع الأحداث التي تعاقبت على المجتمع الإسلامي، فما كان لهذا التوجيه أن يجمد على صورة واحدة، بل روعي فيه الزمان، وروعيت الأشخاص.
فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابة الأحاديث أول نزول الوحي مخافة التباس أقواله وشروحه وسيرته بالقرآن، ولا سيما إذا كتب هذا كله في صحيفة واحدة مع القرآن.1
وقال: " لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" 2.
__________
1 وقد أشار إلى ذلك الخطابي في معالم السنن فقال: (يشبه أن يكون النهي متقدما، وآخر الأمرين الإباحة) .
وقد قيل: إنه إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة؛ لئلا يختلط به ويشتبه على القارئ، فأما أن يكون نفس الكتاب مخطوطا وتقييد العلم بالخط منهيا عنه فلا. اهـ مختصر جـ5 ص 346 كتاب العلم حديث 3499.
2 صحيح مسلم بشرح النووي جـ18 ص 129 كتاب الزهد من حديث أبي سعيد الخدري. وقد أعل بعضهم هذا الحديث ووقفه على أبي سعيد الخدري قال: ابن حجر في الفتح ج1 ص 218: ومنهم من أعل حديث أبي سعيد وقال: الصواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاري وغيره اهـ. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الباعث الحثيث ص 148: وهذا غير جيد؛ فإن الحديث الصحيح. وملحظ الشيخ شاكر لأن الحديث معروف متدوال بين العلماء وفي كتب الحديث.
(1/36)
الصحف المكتوبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
ثم أذن بذلك إذنا عاما حين نزل أكثر الوحي وحفظه الكثيرون، وأمن اختلاطه بسواه، فقال عليه الصلاة والسلام: " قيدوا العلم بالكتاب" 3.
من المؤكد أن بعض الصحابة كتبوا طائفة من الأحاديث في حياته صلى الله عليه وسلم، ومنهم من كتبها بإذن خاص من النبي صلى الله عليه وسلم.
من تلك الصحف: صحيفة سمرة بن جندب (60هـ) ، كان قد جمع أحاديث كثيرة في نسخة كبيرة ورثها ابنه سليمان ورواها عنه، وهي التي يقول فيها ابن سيرين: في رسالة سمرة إلى بنيه علم كثير.
__________
3 رواه ابن عبد البر عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قيدوا العلم بالكتاب". ورواه موقوفا على عمر بن الخطاب وابن عباس مثله، وعن أنس أيضا أنه كان يقول لبنيه: يا بني قيدوا العلم بالكتاب اهـ جامع بيان العلم وفضله جـ 1 باب الرخصة في كتاب العلم ص 86.
انظر مسند عبد الله بن عمرو في مسند أحمد 2/158-226.
(1/36)
ومن أشهر الصحف المكتوبة في العصر النبوي (الصحيفة الصادقة) التي كتبها جامعها عبد الله بن عمرو بن العاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اشتملت على ألف حديث، كما يقول ابن الأثير1، ومحتواها محفوظ في مسند أحمد بن حنبل2، حتى ليصح أن نصفها بأنها أصدق وثيقة تاريخية تثبت كتابة الحديث على عهده صلوات الله عليه، وهذه الوثيقة كانت نتيجة محتومة لفتوى النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو وإرشاده الحكيم له؛ فقد جاء عبد الله يستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الكتابة قائلا: أكتب كل ما أسمع؟ قال: "نعم"، قال: في الرضا والغضب؟ قال: "نعم؛ فإني لا أقول في ذلك إلا حقا".
وسأذكر الحديث فيما بعد، والذي يظهر لي أنه لا بد أن يكون عبد الله بن عمرو قد أخذ في كتابة الحديث بعد هذه الفتوى الصريحة من الرسول الكريم، وتلك الصحيفة الصادقة كانت ثمرة هذه الفتوى، وآية اشتغال عبد الله بن عمرو بكتابة هذه الصحيفة وسواها من الصحف أيضا قول أبي هريرة الصحابي الجليل: "ما في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب"3.
وقد أتيح لمجاهد بن جبر (103هـ) أن يرى هذه الصحيفة عند صاحبها عبد الله بن عمرو4، وكان عبد الله بن عمرو - لشدة حرصه على هذه الصحيفة - لا يسمح لأعزّ الناس عليه بتناولها، ورؤية مجاهد لها لم تكن إلا عرضا؛ فإنه قال: "أتيت عبد الله بن عمرو؛ فتناولت صحيفة تحت مفرشه فمنعني، قلت: ما كنت تمنعني شيئا! قال: هذه الصحيفة الصادقة، فيها ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه أحد، إذا سلمت هذه وكتاب الله والوهط فلا أبالي علام كانت عليه الدنيا! والوهط أرض كان يزرعها"5.
ولقد شاعت في عصر الصابة صحيفة خطيرة الشأن أمر النبي عليه السلام نفسه بكتابتها في السنة الأولى للهجرة، فكانت أشبه (بدستور) للدولة الفتية الناشئة آنذاك في المدينة، وهي الصحيفة التي دون فيها كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حقوق المهاجرين والأنصار واليهود، ولفظ الكتابة صريح في مطلعها: "هذا كتاب محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس"6. وقد تكررت فيها عبارة أهل هذه الصحيفة وغير ذلك من الصحف.
__________
1 جامع العلم لابن عبد البر ج1 ص84 باب الرخصة في كتابة العلم.
2 تهذيب التهذيب ج8، والمحدث الفاصل نقل الدكتور صبحي الصالحي.
3 جامع بيان العلم، وأسد الغابة لابن الأثير ترجمة عبد الله بن عمرو ح3 ص350 ط الشعب.
4 أسد الغابة - المرجع السابق.
5 أسد الغابة - المرجع السابق.
6 راجع الوثائق السياسية في العهد النبوي للدكتور محمد حميدة رقم 1.
(1/37)
عصر الخلفاء الراشدين:
سار الأمر على ما تقدم، حتى إذا كان عهد الخلفاء الراشدين لم يتغير الحال، فقد كانت آراء هؤلاء الخلفاء في التشدد في الرواية والتورع عن الكتابة امتدادا لآراء إخوانهم الصحابة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم! فهذا أبو بكر يجمع بعض الأحاديث ثم يحرقها، يقول الذهبي بسنده: حدثني القاسم بن محمد قالت عائشة: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت خمسمائة حديث فبات ليلته يتقلب كثيرا، قالت فغمني فقلت: أتتقلب بشكوى أو لشيء يقلقك؟ فلما أصبح قال: أي بنية! هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فدعا بنار فحرقها، فقلت: لِم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت، ولم يكن كما حدثني؛ فأكون قد نقلت ذاك فهذا لا يصح". اهـ 1.
وكان أبو بكر أول من احتاط في قبول الأخبار؛ فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذويب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال:" ما أجد لك في كتاب الله شيئا، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئا، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله عليه السلام يعطيها السدس، فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر.
ومن مراسيل ابن أبي مليكة: أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم؟ فقال: (إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافا؛ فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله؛ فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه) . فهذا المرسل يدلك أن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري، لا سداد باب الرواية، ألا تراه لما نزل به أمر الجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنة، فلما أخبره الثقة ما اكتفى حتى استظهر الثقة بثقة آخر، ولم يقل حسبنا كتاب الله كما تقول الخوارج". اهـ.
وهذا عمر بن الخطاب لا يلبث أن يعدل عن كتابه السنن بعد أن عزم على تدوينها.
عن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، فاستفتى أصحاب الني صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأشاروا عليه بأن يكتبنها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا2.
وفي رواية أخرى: أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة، ثم بدا له أن يكتبها ثم كتب في الأمصار: من كان عنده شئ فليمحه3.
__________
1 تذكرة الحفاظ جـ اص5.
2 انظر جامع بيان العلم لابن عبد البرجـ1 ص 77 باب كراهية كتابة العلم وتخليده في مصحف.
3 تذكرة الحفاظ جـ 1ص 7 ط 3.
(1/38)
والخلفاء الراشدون لم يتشددوا في أمر الكتابة وحدها، بل بلغ بهم الورع أن راحوا يتشددون حتى في الرواية.
وعمر بن الخطاب هو الذي سنّ للمحدثين التثبت في النقل، وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب؛ فروى الجريري (سعيد ابن إياس) عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلّم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات، فلم يؤذن له فرجع، فأرسل عمر في أثره، فقال: لِم رجعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع"، قال: لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن بك! فجاءنا أبو موسى منتقعا لونه ونحن جلوس فقلنا: ما شأنك، فأخبرنا وقال: فهل سمع أحد منكم؟ فقلنا: نعم كلنا سمعه، فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر فأخبره.
أحب عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صاحب آخر؟ ففي هذا دليل على أن الخير إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم؛ إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد، وقد كان عمر من وجله أن يخطئ الصاحب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يقلوا الرواية عن نبيهم؛ لئلا يتشاغل الناس بالأحاديث عن حفظ القرآن اهـ1.
أقول: ومن هنا بدأ علم أصول الحديث أو مصطلح الحديث، وأنه نشأ مع الرواية فكانا توأمين ولدا وعاشا معا.
فإذا رأينا كلا من أبي بكر وعمر - بعد هذا - يكتبان الحديث أو ينصحان بكتابتهi، وأن كثيرا من كبار الصحابة في عصرهما كانوا كذلك ينصحون بالكتابة ويأمرون بها أمرا صريحا، أدركنا علة ذلك التشدد الذي وصفناه قبل، وثبت لنا - كما قال إسماعيل بن إبراهيم بن علية البصري (200 هـ) أن الصحابة إنما كرهوا الكتابة لأن من كان قبلكم اتخذوا الكتب؛ فأعجبوا بها؛ فكانوا يكرهون أن يشتغلوا عن القرآن2.
وكما قال الخطيب البغدادي: "إن كراهة من كره الكتابة من الصدر الأول: إنما هي لئلا يضاهي بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه"3
رأي آخر:
يقول الشيخ أبو بكر بن عقال الصقلي في فوائده على ما رواه ابن بشكوال: "إنما لم يجمع الصحابة سنن رسول الله صار الله عليه وسلم في مصحف كما جمعوا القرآن؛ لأن السنن انتشرت وخفي محفوظها من
__________
1 انظر الحديث ومصطلحه.
2 تذكرة الحفاظ
3 انظر علم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحي.
(1/39)
مدخولها، فوكل أهلها في نقلها إلى حفظهم، ولم يوكلوا من القرآن إلى مثل ذلك، وألفاظ السنن غير محروسة من الزيادة والنقصان كما حرص الله كتابه ببديع النظم الذي أعجز الخلق عن الإتيان بمثله؛ فكانوا في الذي جمعوه من القرآن مجتمعين، وفي حروف السنن ونقل نظم الكلام نصا مختلفين، فلم يصح تدوين ما اختلفوا فيه، ولو طمعوا في ضبط السنن كما اقتدوا على ضبط القرآن لما قصوا في جمعها، ولكنهم خافوا إن دونوا ما لا يتنازعون فيه أن يجعل العمدة في القول على المدوّن، فيكذبوا ما خرج عن الديوان فتبطل سنن كثيرة، فوسعوا طريق الطلب للأمة فاعتنوا بجمعها على قدر عناية كل واحد في نفسه، فصارت السنن عندهم مضبوطات، فمنها ما أصيب في النقل حقيقة الألفاظ المحفوطة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي السنن السالمة من العلل، ومنها ما حفظ معناها ونسي لفظها، ومنها ما اختلفت الروايات في نقل ألفاظها، واختلف أيضا رواتها في الثقة والعدالة، وهي تلك السنن التي تدخلها العلل فاعتبر صحيحها من سقيمها أهل المعرفة بها على أصول صحيحة وأركان وثيقة لا يخلص منها طعن طعان ولا يوهنها كيد كائد". انتهى1.
__________
1 انظر شروط الأئمة الخمسة ص48.
(1/40)
حول النهي والإباحة:
اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الكتابة، فكرهها طائفة منهم لحديث أبي سعيد الخدري قال: "لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن، ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه" 2.
قال القاضي عياض:" كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم، فكرهها كثيرون منهم، وأجازها أكثرهم، ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال الخلاف، ومن مليح قولهم في ذلك: يعيبون علينا أن نكتب العلم وندوّنه وقد قال الله عزّ وجلّ: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 3.
وجاء في الإباحة والنهي حديثان؛ فحديث النهي وهو ما رواه مسلم عن أبي سعيد: "لا تكتبوا عني الحديث"، وحديث الإباحة: "اكتبوا لأبي شاه" متفق عليه.
روى أبو داود بسنده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: حدثني أبو هريرة قال: لما فتحت مكة قام النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الخطبة خطبة النبي قال: فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه فقال: يا رسول الله! اكتبوا لي فقال: "اكتبوا لأبي شاه".
وبيّن في الرواية الثانية: أنها الخطبة التي سمعها يومئذ منه4.
__________
2 انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج18 ص129 ط المصرية.
3 سورة طه - آية 52.
4 انظر سنن أبي داود - كتاب العلم - ج2 ص286.
(1/40)
ورواه بن عبد البر بمثله1.
وروى أبو داود بسنده عن عبد الله بن عمرو، قال: كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال: "أكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق" 2.
وقد تقدم حديث أبي هريرة "ليس أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو…الحديث3.
وقد اختلف في الجمع بينها وبين حديث أبي سعيد السابق، فقيل هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب، ويحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من لا يوثق بحفظه كحديث "اكتبوا لأبي شاه"، وحديث صحيفة علي رضي الله عنه4، وحديث كتاب عمرو بن حزم الذي فيه الفرائض والسنن والديات، وحديث كتاب الصدقة ونصاب الزكاة الذي بعث به أبو بكر رضي الله عنه أنسا حين وجهه إلى البحرين، وحديث أبي هريرة أن ابن عمرو ابن العاص كان يكتب ولا أكتب.
وقيل إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث، وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن فلما أمن ذلك أذن في الكتابة، وقيل: إنما نهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ5؛ لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية فربما كتبوه معها فنهوا عن ذلك لخوف الاشتباه، وقيل: النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه، والإذن في غيره6.
قال ابن القيم:" قد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الكتابة والإذن فيها، والإذن متأخر فيكون ناسخا لحديث النهي، وقد صحّ عن النبي أنه قال لهم في مرض موته: " إئتوني اللوح والدوار والكتف لأكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا" وهذا كتابة كلامه بإذنه" اهـ7.
وقد قال ابن الصلاح: "ثم إنه زال ذلك الخلاف، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة". ولقد صدق رحمه الله8.
__________
1 انظر جامع بيان العلم وفضله جـ1 ص84 باب الرخصة في كتاب العلم
2 انظر سنن أبي داود جـ2 ص 286، وأبو شاه: بالهاء الأصلية وشاه لفظ فارسي معناه الملك، قيل لفظه بالهاء وقفا ووصلا وقيل بنون وصلا كما في الإصابة.
3 فتح الباري كتاب العلم باب كتاب العلم ص 217وانظر بيان العلم لابن عبد البرجـ1ص84.
4 انظر فتح الباري كتاب العلم باب كتاب العلم جـ 1ص 214
5 ينظر شرح النووي على صحيح مسلم جـ18 كتاب الزهد ص 129.
6 ينظر تدريب الراوي.
7 انظر مختصر المنذري جـ5 ص 245 حديث 3497 باب رواية حديث أهل الكتاب.
8 مقدمة ابن الصلاح ص 171، النوع الخامس والعشرون في كتابه الحديث.
(1/41)
عصر التابعين وتابعيهم:
وإذا انتقلنا إلى عصر التابعين هالتنا تلك الروايات المتضافرة على كراهة كبار التابعين وأوساطهم وأواخرهم للكتابة، ثم لا نلبث أن تجد كثيرا منهم يتساهلون في أمرها، يرخصون بها أو يحضون عليها، ونجدها أصبحت أمرا رسميا في عصر أوساطهم.
والأسباب التي حملت الخلفاء الراشدين على الكراهة على التدوين، هي التي حملت التابعين عليها، فإذا بطلت أسباب هذه الكراهة قال الجميع قولا واحدا، وأخذوا به وأجمعوا عليه، وهو جواز كتابة العلم، بل وإيثار تقييده التشجيع عليه.
هنا جاء دور الخليفة الورع التقي عمر بن عبد العزيز، حين أمر رسميا بالشروع في تدوين الحديث، إنما استند إلى آراء العلماء، ولعله لم يقدم على ذلك إلا بعد أن استشارهم أو اطمأن إلى تأييد كثرتهم، وإن كانت الأخبار المتضافرة توحي بتفرده في هذه الفكرة؛ لما له في القلوب من منزلة ولا سيما بين معاصريه الواثقين بتقواه وورعه.
ويتضح من جملة الأخبار المروية في هذا الشأن أن خوف عمر عبد العزيز من دروس العلم وذهاب أهله هو الذي حمله على الأمر بالتدوين.
(1/42)
التدوين العام للحديث:
يقول الحافظ ابن حجر في مقدمته:" اعلم - علمني الله وإياك - أن آثار النبي صلى الله عليه وسلم، لم تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدوّنة في الجوامع ولا مرتبة لأمرين:
أحدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك، كما ثبت في صحيح مسلم؛ خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.
وثانيهما: لسعة حفظهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة".
أقول: نفي كتابة الآثار المشار إليها، ليس على إطلاقه؛ فقد وجد من كتب أن عهد الني صلى الله عليه وسلم وأقره بل طلب عليه السلام أن يكتب كتابا لأصحابه، كما تقدم.
فيحمل كلام ابن حجر على الكتابة العامة.
يقول ابن حجر: "فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح (توفي 160 هـ) ، وسعيد بن أبي عروبة (156هـ) وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة؛ فدونوا الأحكام.
فصنف الإمام مالك "الموطأ" وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، ومن بعدهم (توفي 179 هـ) .
(1/42)
وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح بمكة (توفي ببغداد 150 وقيل: 151) 1.
وصنف أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي بالشام (156هـ) ، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة (توفي 161 هـ) ، وحماد بن سلمة بن دينار أبو سلمة بالبصرة (نوفي 176هـ) ، ومعمر بن راشد باليمن (المتوفى 153هـ) ، وجرير بن عبد الحميد بالري (توفي 188هـ) ، وعبد الله بن المبارك بخراسان (المتوفى 181هـ) .
ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث الني صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلك على رأس المائتين؛ فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندا (توفي 213هـ) ، وصنف مسدد بن مسرهد البصري مسندا، وصنف أسد بن موسى الأموي مسندا (توفي 212هـ) ، وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزبل مصر مسندا.
ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم، فقلّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد؛ أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم من النبلاء.
ومنهم من صنف على الأبواب والمسانيد معا، كأبي بكر بن أبي شيبة.
ولما رأى البخاري هذه التصانيف ورواها وجدها جامعة للصحيح والحسن، والكثير منها يشمله التضعيف؛ فحرك همته لجمع الحديث الصحيح، وقوى همته لذلك ما سمعه من أستاذه الإمام إسحاق بن راهويه حيث قال لمن عنده والبخاري فيهم: "لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال البخاري: فوقع ذلك في قلبي وأخذت في جمع الجامع الصحيح". انتهى2.
يقول السيوطي: "وهؤلاء المذكورون في أول من جمع كلهم من أثناء المائة الثانية".
__________
1 يقول بروكلمان عن النجوم الزاهرة: إن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، كان جده جريج عبدا روميا، وأصل اسمه جريجوريونرس، كان أول من صنف أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جمع كتابه في الآثار وحروف التفسير، أحاديث لمجاهد وعطاء وغيرهما بمكة، ولكنه لم ينل من الخليفة المنصور ما كان يرجو من العطاء يقول: وقد بقيت بقايا قليلة من مجموعات القدماء من رجال الحديث منذ المرحلة الأولى للتدوين تشتمل عليها دور الكتب قي استانبول. وذكر فايسفيلر أوصاف هذه الأجزاء قي كتابه عن مخطوطات الحديث في مكتبات استانبول.
2 نظر هدى الساري. وانظر تنوير الحوالك ج1ص5 وتدريب الراوي ص 39 ط 1.
(1/43)
وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة عمر1 بن عبد العزيز بأمره؛ ففي صحيح البخاري: "وكتب عمر بن عبد العزيز أبي أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء) ، وأخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان بلفظ: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمعوه". قال في فتح الباري: "يستفاد من هذا ابتداء تدوين الحديث النبوي، ثم أفاد أن أول من دونه بأمر عم بن عبد العزيز ابن شهاب الزهري". اهـ2.
وأخرج الهروي في ذم الكلام من طريق يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن دينار قال:"لم يكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث، إنما كانوا يؤدونها لفظا، ويأخذونها حفظا، إلا كتاب الصدقات"3.
__________
1 عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، الإمام أمير المؤمنين أبو حفص الأموي القرشي، مولده بالمدينة زمن يزيد، ونشأ في مصر في ولاية أبيه عليها، حدث عن عبد الله بن جعفر وأنس بن مالك وسعيد بن المسيب وطائفة، وكان إماما فقيها مجتهدا، عارفا بالسنن كبير الشأن ثبتا حجة حافظا قانتا لله أواها منيبا، حدث عنه ابناه عبد الله وعبد العزيز والزهري وأيوب وأبو بكر بن حزم، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وهما من شيوخه، وأمه أم عاصم بنت عمر بن الخطاب، وكان مليحا أبيض جميل الشكل حسن اللحية، بجبهته أثر حافر فرس شحه في صغره، وذا كان يقال له أشج بني أمية، وفي آخر أيامه خطه الشيب، عاش أربعين سنة، ويعد له وزهده يضرب به المثل رضي الله عنه.
قال الشافعي: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز، وقد ولي أولاً إمرة المدينة خلافة الوليد، وبنى المسجد وزخرفه، وكان إذ ذاك لا يذكر بكثير عمل ولا زهد، ولكن تجدد له لما استخلف وقلبه الله فصار بعد حسن السيرة والقيام بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري، وفي العلم مع الزهري، ولكن موته قرب من شيوخه فلم ينشر عمله، عن أبي جعفر الباقر قال: إن نجيب بني أمية عمر بن عبد العزيز؛ إنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة، وقال مجاهد: أتينا لنعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه، وقال ميمون بن مهران: ما كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلامذة.
قال ابن سعد: ولد سنة 63، وكان ثقة مأمونا له فقه وعلم وورع، وروى حديثا كثيرا، وكان إمام عدل، سمعت عبد الله بن داود يقول: ولد مقتل الحسين سنة (61) ، وقال أنس بن مالك: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، وقال الذهبي: سيرته تحتمل مجلدا، ومات بدير سمعان وقبره هناك يزار، ومات في رجب سنة إحدى ومائة، وله أربعون سنة سوى ستة أشهر.. اهـ. مقدمة تحفة الأحوذي ج2 ص471.
2 انظر تدريب الراوي ص40 ط1.
3 روى أبو داود بسنده عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة، فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فقرنه بسيفه، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض، فكان فيه: في خمس من الإبل شاة ... الحديث.
وروى عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: (هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه في الصدقة، وهي عند آل عمر بن الخطاب، قال ابن شهاب: أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر، فوعيتها على وجهها، وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبد الله بن عمر، وسلم بن عبد الله بن عمر، فذكر الحديث. اهـ. مختصر سنن أبي داود للمنذري ج2 ص185، حديث 1510، 1512 من كتاب الزكاة باب زكاة السائمة.
(1/44)
والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء حتى خيف عليه الدروس وأسرع في العلماء الموت، أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر الحزمي، فيما كتب إليه: أن انظر ما كان من سنة أو حديث فاكتبه.
وقال مالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن: "أخبرنا يحي بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الأمصار إلى أبي بكر بن عمرو بن حزم1 به. علقه البخاري في صحيحه"2.
وروى عبد الرزاق عن ابن وهب، سمعت مالكا يقول: "كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى، وأن يعملوا بما عندهم، ويكتب إلى أبي بكر بن حزم أن يجمع السنن، ويكتب بها إليه، فتوفي عمر بن عبد العزيز وقد كتب ابن حزم كتبا قبل أن يبعث بها إلينا ... " اهـ3. وفي رواية أن عمر بن عبد العزيز، كتب إلى عامله على المدينة أبي بكر بن حزم يأمره: "..انظر ما كان من حديث رسول الله أو سنة ماضية، أو حديث عمرة4 فاكتبه"، وقد ضم إليها في بعض الروايات اسم القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (107هـ) .
وكلاهما من تلاميذ عائشة؛ فكانا أعلم الناس بأحاديثها عن رسول الله، ولقد قام أبو بكر بن حزم بما عهد إليه عمر، ولكن هذا الخليفة العظيم لحق بربه قبل أن يطلعه على نتائج سعيه، على أن عمر كان قد كتب إلى أهل الآفاق وإلى عماله في الأمصار بمثل ما كتب إلى ابن حزم5.
وكان أول من استجاب له في حياته وحقق له غايته عالم الحجاز والشام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري المدني6 الذي دون له في ذلك كتابا، فغدا عمر يبعث إلى كل أرض دفترا من دفاتره، وحق للزهري أن يفخر بعلمه قائلا: "لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني"7.
ويخيل إلى الباحث عندما يبلغ هذه المرحلة من الدراسة أن فكرة كره التدوين قد اختفت إلى الأبد، وأنها في هذا العصر بدأت تنسى.
__________
1 انظر تنوير الحوالك ص 15 هـ قال ابن حجر في فتح الباري: أبو بكر بن حزم، هو ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، نسب إلى جد أبيه، ولجده عمرو صحبة، ولأبيه محمد رؤية، وأبو بكر تابعي فقيه استعمله عمر بن عبد العزيز على إمرة المدينة وقضائها، ولهذا كتب إليه، ولا يعرف له اسم سوى أب بكر وقيل كنيته أبو عبد الملك، واسمه أبو بكر، وقيل اسمه (فاكتبه) يستفاد منه ابتداء تدوين الحديث النبوي، فكانوا فبل ذلك يعتمدون على الحفظ، فلما خاف عمر بن عبد العزيز وكان على رأس المائة الأولى من ذهاب العلم بموت العلماء رأى في تدوينه ضبطا له وبقاء الخ. - فتح الباري كتاب العلم باب كيف يقبض العلم ج1 ص204.
2 قال البخاري: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا يقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وليشفوا العلم، وليجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا، ورواه أيضا من طريق عبد الله بن دينار عن عمر بن عبد العزيز اهـ. جـ1 ص204 نفس الكتاب والباب السابقين.
3 انظر تدريب الراوي ص40 ط1.
4 عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة وقد روى الزهري عن عمرة بنت عبد الرحمن وآخرون وروت عائشة وأم سلمة وكانت عالمة اهـ جـ 8ص353- طبقات ابن سعد. ط الشعب.
5 الرسالة المستطرفة ص4.
6 محمد بن مسلم بن عبد الله بن عبيد الله بن شهاب الزهري أبو بكر المدني أحد الأعلام نزل الشام. روى عن ابن عمر وجابر وأنس وغيرهم من الصحابة وعنه أبو حنيفة ومالك وعمر بن عبد العزيز وغيرهم مات سنة أربع ومائة وعشرين ومائة اهـ إسعاف المبطأ للسيوطي ص37.
7الرسالة المتطرفة ص4.. أقول: قال أبو داود حديثه ألفان ومائتان، النصف فيها مسندا اهـ. مقدمة تحفة الأحوذي ص 475.
(1/45)
ومما تقدم يتبين لنا أن علماء التدوين قد طوفوا الدنيا كلها، وانتشروا في البلدان والأمصار وأحاطوا بها يجمعون ويكتبون في حركة نشطة دائبة يواصلون الليل بالنهار؛ ليسجلوا أجلّ وأخلد سجل عرفته البشرية على الإطلاق، على امتداد تاريخها الطويل، فبعد كتاب الله جندوا أنفسهم وأقلامهم ليدونوا مصدر شريعتهم، ومنبع عزهم الدائم.
وأقول: إن رأي أكثر العلماء في ذلك العصر من التردد في شأن الكتابة، بين الفعل والترك يرجع الى أمرين:
فالحرص على كلام رسول الله أن يضيع كالخوف عليه أن يشيع فيه غير الصحيح كانا عاملين كبيرين في توجيه العلماء نحو القول بكتابة الحديث تارة والنهى عنها تارة أخرى.
وإذا كان أوساط التابعين قد بدءوا يحذرون وضع الوضاعين فان أواخر التابعين أمسوا يصادفون كثيرا من نماذج الوضاعين وصور وضعهم؛ تأييدا للفرق والشيع المختلفة، فقد أمسى لزاما أن يشيع التدوين وينتشر في عصرهم حفظا للنصوص النبوية من عبث العابثين، وميزة التدوين في هذا العصر أن الحديث كان ممزوجا غالبا بفتاوى للصحابة والتابعين، كما في موطأ مالك.
(1/46)
خلاصة تدوين السنة
يبدأ هذا الدور من أوائل القرن الثاني إلى آخر القرن الثالث، وكان هذا الدور عصرا مجيدا للسنة، فقد تنبه رواتها إلى وجوب تصنيفها وتدوينها، ومعنى تصنيفها ضم الأحاديث التي من نوع واحد في الموضوع بعضها إلى بعض كأحاديث الصلاة وأحاديث الصيام وما شاكل ذلك.
وجدت هذه الفكرة في جميع الأمصار الإسلامية في أوقات متقاربة حتى لم يعرف من له فضيلة السبق إلى ذلك.
ونستطيع أن نحدد هذا الدور بثلاثة أطوار:
الطور الأول:
فكان من مدوني الطور الأول من هذا الدور الإمام مالك بن أنس بالمدينة، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة.. إلى آخر من تقدموا وتقدمت طريقتهم في التدوين أيضا.
الطور الثاني:
رأت طبقة ثانية بعد هؤلاء أن يفرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غيره، وذلك على رأس المائتين؛ فألفوا ما يعرف بالمسانيد.
والمسانيد من الكتب التي موضوعها جعل حديث كل صحابي على حدة صحيحا كان أو حسنا أو ضعيفا، وان اختلفت أنواعه، فتارة ترتب فيه أسماء الصحابة على حروف الهجاء، كما فعله غير واحد،
(1/46)
وهذا أسهل تناولا، وتارة ترتب على أسماء القبائل؛ فيقدم بنو هاشم ثم الأقرب فالأقرب إلى رسوله الله صلى الله عليه وسلم في النسب، وتارة ترتب على السابقة في الإسلام؛ فيقدم العشرة المبشرون بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل الحديبية، ثم من أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح، ثم من أسلم يوم الفتح، ثم أصاغر الصحابة سنا، ويختتم بالنساء.
الطور الثالث:
جاء بعد هذه الطبقة، طبقة أخرى رأت ما أمامها من هذه الثروة العظيمة، ففتح أمامها باب الاختيار، وفي طليعة هذه الطبقة الإمامان الجليلان شيخا السنة أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي المتوقي 256هـ، ومسلم بن الحجاج النيسابوري المتوفي سنة 261هـ؛ صنفا صحيحها بعد أن دققا في الرواية والاختيار، فكان إليهما المنتهى في ذلك.
وحذا حذوهما أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (فارس الحلبة) المتوفى 275 هـ، وأبو عيسى محمد بن عيسى السامي الترمذي المتوفى سنة 279هـ، وأبو عبد الرجمن أحمد بن شعيب النسائي المتوفى سنة 03 3، وأبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني المعروف بأن ماجه توفي 373هـ.
وكتبهم هي المعروفة في لسان أهل الحديث بالكتب الستة، وقد حازت عند المسلمين من القرن الثالث إلى وقتنا هذا درجة عظيمة من الاعتبار؛ لما لهم في رواتها من الثقة العظمى.
ليس هؤلاء هم الذين ألفوا في السنة فقط، بل وجد بجانبهم كثيرون سواهم، إلا أن هؤلاء هم الذين نالوا شهرة لم ينلها غيرهم.
ونستطيع أن نقول: لم تدون السنة الصحيحة وحدها مرتبة على الأبواب إلا في أتباع أتباع التابعين، وعلى رأسهم أصحاب الصحاح الستة، وفي أواخر القرن الثالث انتهى أمر السنة وفي أثناء هذا الدور، حتى صارت علما مستقلا له رجال قصروا عليه بحثهم، ولا يخفى على عاقل أن هذا العصر لأجلّ عصور أهل الحديث وعلم السنة، وأسعدها بخدمة التأليف والتدوين، ففيه ظهر جهابذة المحدثين، وكبار المؤلفين وحذاق الناقدين وعقلاء المدققين وعمدة المحققين، وفيه ظهرت أنوار كتب السنة الستة، وأشرقت شموسها، حتى كادت لا تغادر من صحيح الحديث وحسنه إلا النذر اليسير، ومن ذلك اعتمد عليها المستنبطون، واعتضد بها المناظرون، وعول عليها المطالعون ورجع إليها المصنفون، وبهذا أخذ علماء الفقه أجمعون.
وكاد يتم جمع الحديث وتدوينه وتأليفه وتهذيبه وترتيبه في هذا العصر المجيد: عصر إمامنا أبي داود السجستاني إمام أهل السنة، وحسبنا فخرا أن ننتهي بأطوار الحديث إلى طور الازدهار والاشتهار حيث وجد وأطل على الدنيا شمس المحدثين مالك زمام الحديث وطبيب علله أبو داود السجستاني، وفيه نشأ، فهو حبة عقده رحمه الله.
(1/47)
أما المتأخرون في عصر الرواية فيكون عملهم - في نهاية المطاف - تهذيبا وشرحا واختصارا للكتب الصحيحة المشهورة.
وهكذا مر الحديث النبوي بمراحل طويلة حتى وصل إلينا محررا مضبوطا.
(1/48)
أين كانت الدراية في أثناء المراحل المتقدمة؟
سايرت الدراية - أو علوم الحديث - الرواية في جميع الأطوار المتقدمة ولم تنفك عنها، وآية ذلك تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب عليه، روى مسلم بسنده عن أنس بن مالك أنه قال: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار" 1.
وفي الباب أحاديث كثيرة.
وما موقف أبي بكر وعمر، وحضهما على تكثير طرق الحديث لكي ترتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم إلا دليلا على ذلك. وقد تقدم.
ولكن فروعه لم تتشعب في عهد الصحابة؛ لثقتهم وعدالتهم، ولأنهم حملة الشريعة وتلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم.
وظل الأمر كذلك في عهد كبار التابعين، وبدأ أوساطهم يحذرون من الكذابين، ولكن ظهرت الفرق والشيع المختلفة ووجد من يؤيدهم، صادف أواخر التابعين نماذج من الوضاعين، ومن هنا دوّن الحديث وعلومه حفظا للنصوص النبوية من عبث العابثين.
وعلم من تعريف الحديث دراية أن واضعه هو ابن شهاب الزهري؛ فيكون ندا لعلم الحديث رواية.
ولذلك وجد في دور تدوين السنة رجال كان همهم البحث عن حال رواة الحديث من التابعين فمن بعدهم، ووصف كل رجل منهم بما يستحق من ضبط وإتقان وعدالة أو أضدادها، ويعرفون برجال الجرح والتعديل، فمن عدلوه قبلت روايته، ومن جرحوه ترك حديثه، وقد يختلفون في ذلك الشأن نجد من الرواة من أجمع على تعديله وضبطه وإتقانه، وذلك هو الغاية العليا، ومنهم من أجمع على تركه وذلك هو الغاية الدنيا، وبين ذلك درجات بعضها أدني من بعض، ومن الأسانيد ما هو كالشمس في الإشراق حتى يكاد سامعه يقطع بصدق رواته، ومنها ما هو دون ذلك.
__________
1 انظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ1ص66
(1/48)
قال الذهبي:" أول من زكى وجرح من التابعين - وإن كان قد وقع ذلك قبلهم - الشعبي وابن سيرين1، حفظ عنهما توثيق أناس وتضعيف آخرين، وسبب قلة ذلك في التابعين قلة متبوعهم من الضعفاء؛ إذ أكثر المتبوعين صحابة عدول، وأكثر المتبوعين في عصر الصحابة ثقات، ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض فيه الصحابة وكبار التابعين إلا الواحد، كالحارث الأعور2 والمختار الكذاب، فلما مضى القرن ودخل الثاني كان في أوائلهم من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء الذين شعفوا غالبا من قبل تحملهم وضبطهم الحديث، فتراهم يرفعون الموقوف ويرسلون كثيرا، ولهم غلط، كأبي هارون العبدي.
فلما كان عند آخر عصر التابعين - وهو حدود الخمسين ومائة - تكلم في التوثيق والتضعيف أئمة"3.
ويوضح الذهبي في موقع آخر أن علم مصطلح الحديث اشتغل به كبار التابعين، يقول في علم الحديث ولا رأيت أهل الحديث فأوائلهم كان لهم شيخ عالي الإسناد بينه وبين الله تعالى واحد معصوم عن معصوم سيد البشر عن جبريل عن الله عزّ وجلّ، فطلبه مثل أبي بكر وعمر وابن مسعود وأبي هريرة الحافظ وابن عباس وسادة الناس طالت أعمارهم وعلا سندهم وانتصبوا للرواية الرفيعة، فحمل عنهم، مثل مسروق وابن المسيب والحسن البصري وعروة وأشباههم من أصحاب الحديث وأرباب الرواية والدراية والصدق والعبادة والإتقان والزهادة الذين من طلبتهم مثل الزهري وقتادة ... الخ4.
__________
1 من ذلك ما رواه ابن سعد قال: روى جريرعن مغيرة عن الشعبي قال: حدثني الحارث الأعور وكان كذوبا.
وأما ابن سيرين فهو محمد بن سيرين ويكنى أبا بكر مولى أنس بن مالك، وكان ثقة مأمونا عاليا رفيعا فقيها إماما كثير العلم ورعا، وكان به صمم، ولد محمد بن سيرين لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وكان يقول: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذونه، وعن ابن عون قال: كان محمد بن سيرين إذا حدث كأنه يتقي شيئاً، كأنه يحذر شيئاً، وقال ابن عون: سمعت محمدا يقول: لو كنت متخذا كتابا لاتخذت رسائل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن سيرين لا يرى بأسا أن يكتب الحديث، فإذا حفظه محاه، عن أنس بن سيرين قال: لم يبلغ محمدا حديثا قط، أحدهما أشد من الآخر إلا أخذ بأشدهما قال: وكان لا يرى بأسا، وكان قد طوق لذلك. اهـ طبقات ابن سعد ج7 ص140 ط الشعب.
2 الحارث الأعور بن عبد الله بن كعب بن أسد بن خالد بن حوب، وقد روى الحارث عن علي وعبد الله بن مسعود، وكان له قول سوء، وهو ضعيف في روايته، قال ابن سعد بسنده: أن علي بن أبي طالب خطب الناس فقال: من يشتري علما بدرهم؟ فاشترى الحارث الأعور صحفا بدرهم، ثم جاء بها عليا فكتب له علما كثيرا، وكانت وفاة الحارث الأعور بالكوفة أيام عبد الله بن الزبير. اهـ طبقات ابن سعد ج5 ص116.
3 انظر تدريب الراوي حاشية ص299 ط 1 عبد الوهاب عبد اللطيف.
4 انظر بيان زغل العلم والطلب للحافظ الذهبي ص10 مطبعة التوفيق بدمشق 1347هـ.
(1/49)
مراحل الدراية
تقدم أن السنة كانت محفوظة في صدور العدول الأمناء، لا يعرف مكانها دس أو تغيير، ومن ذلك فقد كانت من بعض الصحابة وكبار التابعين رحلات إلى بعض البلدان لطلب الخبر وسماعه ممن سمع أو انفرد برواية؛ ومضت المائة، فكل رواة السنة إما صحابي عدل ضابط وإما تابعي كبير ثقة يتحرى الصدق ويتشدد في الرواية، إلا ما كان من اليسير الذي يقع لبعضهم من الأوهام والأخطاء.
ومع ذلك فقد تكلم الرواة من الصحابة جماعة منهم، ونقدوا بعض ما روى عنهم، فتكلم ابن عباس وأنس بن مالك والسيدة عائشة، وتكلم من كبار التابعين الشعبي وابن المسيب وابن سيرين وغيرهم، وكان القول منهم في الرجل الواحد بعد الرجال لقلة الضعفاء ذلك العصر.
ولما كانت أوائل المائة الثاني وعصر أوساط التابعين بعد الخمسين والمائة - وفيها كان أتباع التابعين، وظهرت الفرق السياسية وانتشرت النحل والعصبية، وزاحمت الثقافات الأعجمية المعارف الشرعية، وظهر من يتعمد الكذب، ترويجا لبدعته وانتصارا لمذهبه ونحلته - فاضطر العلماء الجهابذة من علماء الجرح والتعديل إلى اتساع النظر والاجتهاد في التفتيش عن الرواة ونقد الأسانيد, فتكلم شعبة ومالك ومعمر، ثم ابن المبارك وابن عيينة، ثم يحي بن سعيد القطان وتلامذته كعلي بن المدني ويحي بن معين.
وتكلم من علماء المائة الثالثة أحمد بن حنبل، وما نقله تلاميذه في أسئلتهم له ومحاورتهم معه، ومن أعظم ثمرات تلك المحاورات كتاب المسائل التي وجهها إليه تلميذه أبو داود السجستاني، فهو جامع شامل نافع، وأيضا رسالة أبي داود السجستاني إلى أهل مكة في ببان طريقته في سننه الشهيرة، وتعليقاته على أحاديثها التي تعتبر النواة لعلوم الحديث، وما كتبه تلميذ أبي داود أبو عيسى الترمذي الحافظ في كتابه "العلل المفرد" في آخر جامعه، وما بثه في الكلام على أحاديث جامعه في طيات الكتاب من تصحيح وتضعيف وتقوية وتعليل.
وللإمام البخاري التواريخ الثلاثة، ولغيره من علماء الجرح والتعديل من معاصريه ومن بعدهم.
- يتبع
-ان شاء الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق