الخميس، 30 نوفمبر 2023

ج10وج11وج12.كتاب منهاج السنة النبوية شيخ الإسلام بن تيمية

 

ج10وج11وج12.كتاب منهاج السنة النبوية 

شيخ الإسلام بن تيمية 

 

 قاتلهم الصديق رضي الله عنه هذا مع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم في الأحاديث الصحيحة وما روي من أنهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه في الحديث الذي رواه أبو أمامة رواه الترمذي وغيره أي أنهم شر على المسلمين من غيرهم فإنهم لم يكن أحد شرا على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم مكفرين لهم وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة ومع هذا فالصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان لم يكفروهم ولا جعلوهم مرتدين ولا اعتدوا عليهم بقول ولا فعل بل اتقوا الله فيهم وساروا فيهم السيرة العادلة وهكذا سائر فرق أهل البدع والأهواء من الشيعة والمعتزلة وغيرهم فمن كفر الثنتين والسبعين فرقةكلهم فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع أن حديث الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين وقد ضعفه ابن حزم وغيره لكن حسنه غيره أو صححه كما صححه الحاكم وغيره وقد رواه أهل السنن وروي من طرق وليس قوله ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة بأعظم من قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا (سورة النساء). وقوله ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوق نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا (سورة النساء). وأمثال ذلك من النصوص الصريحة بدخول من فعل ذلك النار

 

 

ومع هذا فلا نشهد لمعين بالنار لإمكان أنه تاب أو كانت له حسنات محت سيئاته أو كفر الله عنه بمصائب أو غير ذلك كما تقدم بل المؤمن بالله ورسوله باطنا وظاهرا الذي قصد اتباع الحق وما جاء به الرسول إذا أخطأ ولم يعرف الحق كان أولى أن يعذره الله في الآخرة من المتعمد العالم بالذنب فإن هذا عاص مستحق للعذاب بلا ريب وأما ذلك فليس متعمدا للذنب بل هو مخطىء والله قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان والعقوبة في الدنيا تكون لدفع ضرره عن المسلمين وإن كان في الآخرة خيرا ممن لم يعاقب كما يعاقب المسلم المتعدي للحدود ولا يعاقب أهل الذمة من اليهود والنصارى والمسلم في الآخرة خير منهم وأيضا فصاحب البدعة يبقى صاحب هوى يعمل لهواه لا ديانة ويصدر عن الحق الذي يخالفه هواه فهذا يعاقبه الله على هواه ومثل هذا يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة ومن فسق من السلف الخوارج ونحوهم كما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال فيهم قوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (سورة البقرة). فقد يكون هذا قصده لا سيما إذا تفرق الناس فكان ممن يطلب الرياسة له ولأصحابه وإذا كان المسلم الذي يقاتل الكفار قد يقاتلهم شجاعة وحمية ورياء وذلك ليس في سبيل الله فكيف بأهل البدع الذين يخاصمون ويقاتلون

 

 

عليها فإنهم يفعلون ذلك شجاعة وحمية وربما يعاقبون لما اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله لا لمجرد الخطأ الذي اجتهدوا فيه ولهذا قال الشافعي لأن أتكلم في علم يقال لي فيه أخطأت أحب إلي من أن أتكلم في علم يقال لي فيه كفرت فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفرا وقد يكون كفرا لأنه تبين له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق والآخر لم يتبين له ذلك فلا يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر إذا قاله أن يكفر من لم يعلم بحاله والناس لهم فيما يجعلونه كفرا طرق متعددة فمنهم من يقول الكفر تكذيب ما علم بالإضطرار من دين الرسول ثم الناس متفاوتون في العلم الضروري بذلك ومنهم من يقول الكفر هو الجهل بالله تعالى ثم قد يجعل الجهل بالصفة كالجهل بالموصوف وقد لا يجعلها وهم مختلفون في الصفات نفيا وإثباتا ومنهم من لا يحده بحد بل كل ما تبين أنه تكذيب لما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر جعله كفرا إلى طرق أخر ولا ريب أن الكفر متعلق بالرسالة فتكذيب الرسول كفر وبغضه

 

 

وسبه وعداوته مع العلم بصدقه في الباطن كفر عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة العلم وسائر الطوائف إلا الجهم ومن وافقه كالصالحي والأشعري وغيرهم فإنهم قالوا هذا كفر في الظاهر وأما في الباطن فلا يكون كفرا إلا إذا استلزم الجهل بحيث لا يبقى في القلب شيء من التصديق بالرب وهذا بناء على أن الإيمان في القلب لا يتفاضل ولا يكون في القلب بعض من الإيمان وهو خلاف النصوص الصريحة وخلاف الواقع ولبسط هذا موضع آخر والمقصود هنا أن كل من تاب من أهل البدع تاب الله عليه وإذا كان الذنب متعلقا بالله ورسوله فهو حق محض لله فيجب أن يكون الإنسان في هذا الباب قاصدا لوجه الله متبعا لرسوله ليكون عمله خالصا صوابا قال تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (سورة البقرة). وقال تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (سورة النساء). قال المفسرون وأهل اللغة معنى الآية أخلص دينه وعمله لله وهو محسن في عمله

 

 

وقال الفراء في قوله فقل أسلمت وجهي لله (سورة آل عمران). أخلصت عملي وقال الزجاج قصدت بعبادتي إلى الله وهو كما قالوا كما قد ذكر توجيهه في موضع آخر وهذا المعنى يدور عليه القرآن فإن الله تعالى أمر أن لا يعبد إلا إياه وعبادته فعل ما أمر وترك ما حظر والأول هو إخلاص الدين والعمل لله والثاني هو الإحسان وهو العمل الصالح ولهذا كان عمر يقول في دعائه اللهم أجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا وهذا هو الخالص الصواب كما قال الفضيل بن عياض في قوله ليبلوكم أيكم أحسن عملا (سورة هود). قال أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة والأمر بالسنة والنهي عن البدعة هو أمر بمعروف ونهي عن منكر وهو من أفضل الأعمال الصالحة فيجب أن يبتغي به وجه الله وإن يكون مطابقا للأمر وفي الحديث من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فينبغي أن يكون عليما بما يأمر به عليما بما ينهى عنه رفيقا فيما يأمر به رفيقا فيما

 

 

ينهى عنه حليما فيما يأمر به حليما فيما ينهى عنه فالعلم قبل الأمر والرفق مع الأمر والحلم بعد الأمر فإن لم يكن عالما لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم وإن كان عالما ولم يكن رفيقا كان كالطبيب الذي لا رفق فيه فيغلظ على المريض فلا يقبل منه وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد وقد قال تعالى لموسى وهارون فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (سورة طـــه). ثم إذا أمر ونهى فلا بد أن يؤذى في العادة فعليه أن يصبر ويحلم كما قال تعالى وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور (سورة لقمان).وقد أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع وهو إمام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر فإن الإنسان عليه أولا أن يكون أمره لله وقصده طاعة الله فيما أمره به وهو يحب صلاح المأمور أو إقامة الحجة عليه فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يقبله الله وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطا ثم إذا رد عليه ذلك وأوذي أو

 

 

نسب إلى أنه مخطىء وغرضه فاسد طلبت نفسه الانتصار لنفسه وأتاه الشيطان فكان مبدأ عمله لله ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه وربما اعتدى على ذلك المؤذي وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه وأنه على السنة فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلا سيىء القصد ليس له علم ولا حسن قصد فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله ويذموا من لم يذمه الله ورسوله وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم ويقولون هذا صديقنا وهذا عدونا وبلغة المغل هذا بال هذا باغي لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله ومعاداة الله ورسوله ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس قال الله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله (سورة الأنفال). فإذا لم يكن الدين كله لله وكانت فتنة وأصل الدين أن يكون الحب لله والبغض لله والموالاة لله والمعاداة لله والعبادة لله والإستعانة بالله والخوف من الله والرجاء

 

 

لله والإعطاء لله والمنع لله وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله الذي أمره أمر الله ونهيه نهي الله ومعاداته معاداة الله وطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة وهو الحق وهو الدين فإذا قدر أن الذي معه هوالحق المحض دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه أو فعل ذلك شجاعة وطبعا أو لغرض من الدنيا لم يكن لله ولم يكن مجاهدا في سبيل الله فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره معه حق وباطل وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وكفر بعضهم بعضا وفسق بعضهم بعضا ولهذا قال تعالى فيهم وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة سورة البينة وقال تعالى كان الناس أمة واحدة (سورة البقرة). يعني

 

 

فاختلفوا كما في (سورة يونس). وكذلك في قراءة بعض الصحابة وهذا على قراءة الجمهور من الصحابة والتابعين أنهم كانوا على دين الإسلام وفي تفسير ابن عطية عن ابن عباس أنهم كانوا على الكفر وهذا ليس بشيء وتفسير ابن عطية عن ابن عباس ليس بثابت عن ابن عباس بل قد ثبت عنه أنه قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام وقد قال في (سورة يونس). وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا (سورة يونس). فذمهم على الإختلاف بعد أن كانوا على دين واحد فعلم أنه كان حقا والاختلاف في كتاب الله على وجهين أحدهما أن يكون كله مذموما كقوله وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد (سورة البقرة). والثاني أن يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل كقوله تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله

 

 

ما اقتتل الذين من بعدهم من ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (سورة البقرة). لكن إذا أطلق الإختلاف فالجميع مذموم كقوله ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذ لك خلقهم (سورة هود). وقول النبي صلى الله عليه وسلم إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ولهذا فسروا الإختلاف في هذا الموضع بأنه كله مذموم قال الفراء في اختلافهم وجهان أحدهما كفر بعضهم بكتاب بعض والثاني تبديل ما بدلوا وهو كما قال فإن المختلفين كل منهم يكون معه حق وباطل فيكفر بالحق الذي مع الآخر ويصدق بالباطل الذي معه وهو تبديل ما بدل فالإختلاف لا بد أن يجمع النوعين ولهذا ذكر كل من السلف أنواعا من هذا أحدها الإختلاف في اليوم الذي يكون فيه الإجتماع فاليوم الذي أمروا به يوم الجمعة فعدلت عنه الطائفتان فهذه أخذت السبت وهذه أخذت الأحد وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من

 

 

بعدهم فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له الناس لنا فيه تبع اليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى وهذا الحديث يطابق قوله تعالى فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه (سورة البقرة). وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم والحديث الأول يبين أن الله تعالى هدى المؤمني لغير ما كان فيه المختلفون فلا كانوا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء وهو مما يبين أن الإختلاف كله مذموم والنوع الثاني القبلة فمنهم من يصلي إلى المشرق ومنهم من يصلي إلى المغرب وكلاهما مذموم لم يشرعه الله والثالث إبراهيم قالت اليهود كان يهوديا وقالت النصارى كان

 

 

نصرانيا وكلاهما كان من الإختلاف المذموم ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (سورة آل عمران). والرابع عيسى جعلته اليهود لغية وجعلته النصارى إلها والخامس الكتب المنزلة آمن هؤلاء ببعض وهؤلاء ببعض والسادس الدين أخذ هؤلاء بدين وهؤلاء بدين ومن هذا الباب قوله تعالى وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء (سورة البقرة). وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال اختصمت يهود المدينة ونصارى نجران عند النبي صلى الله عليه وسلم فقالت اليهود ليست النصارى على شيء ولا يدخل الجنة إلا من كان يهوديا وكفروا بالإنجيل وعيسى وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وكفروا بالتوراة وموسى فأنزل الله هذه الآية والتي قبلها واختلاف أهل البدع هو من هذا النمط فالخارجي يقول ليس الشيعي على شيء والشيعي يقول ليس الخارجي على شيء والقدري النافي يقول ليس المثبت على شيء والقدري الجبري المثبت يقول ليس النافي على شيء والوعيدية تقول ليست المرجئة على شيء والمرجئة تقول ليست الوعيدية على شيء بل ويوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية

 

 

المنتسبين إلى السنة فالكلابي يقول ليس الكرامى على شيء والكرامي يقول ليس الكلابي على شيء والأشعري يقول ليس السالمي على شيء والسلمي يقول ليس الأشعري على شيء ويصنف السالمي كأبي على الأهوازي كتابا في مثالب الأشعري ويصنف الأشعري كابن عساكر كتابا يناقض ذلك من كل وجه وذكر فيه مثالب السالمية وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها لا سيما وكثير منهم قد تلبس ببعض المقالات الأصولية وخلط هذا بهذا فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئا من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد وكذلك الحنفي يخلط بمذاهب أبي حنيفة شيئا من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة وهذا من جنس الرفض والتشيع لكنه تشيع في تفضيل بعض الطوائف والعلماء لا تشيع في تفضيل بعض الصحابة والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله

 

 

أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وطاعة رسوله يدور على ذلك ويتبعه أين وجده ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة فلا ينتصر لشخص انتصارا مطلقا عاما إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لطائفة انتصارا مطلقا عاما إلا للصحابة رضي الله عنهم أجمعين فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط بخلاف أصحاب عالم من العلماء قد فإنهم قد يجمعون على خطأ بل كل قول قالوه ولم يقله غيرهم من الأمة لا يكون إلا خطأ فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليس مسلما إلى عالم واحد وأصحابه ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم ولا بد أن يكون الصحابة والتابعون يعرفون ذلك الحق الذي بعث الله به الرسول قبل وجود المتبوعين الذين تنسب إليهم المذاهب في الأصول والفروع ويمتنع أن يكون هؤلاء جاءوا بحق يخالف ما جاء به الرسول فإن كل ما خالف الرسول فهو باطل ويمتنع أن يكون أحدهم علم من جهة الرسول ما يخالف الصحابة والتابعين لهم بإحسان فإن أولئك لم يجتمعوا على ضلالة فلابد أن يكون قوله إن

 

 

كان حقا مأخوذا عما جاء به الرسول موجودا فيمن قبله وكل قول قيل في دين الإسلام مخالف لما مضى عليه الصحابة والتابعون لم يقله أحد منهم بل قالوا خلافه فإنه قول باطل والمقصود هنا أن الله تعالى ذكر أن المختلفين جاءتهم البينة وجاءهم العلم وإنما اختلفوا بغيا ولهذا ذمهم الله وعاقبهم فإنهم لم يكونوا مجتهدين مخطئين بل كانوا قاصدين البغي عالمين بالحق معرضين عن القول وعن العمل به ونظير هذا قوله إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم (سورة آل عمران). قال الزجاج اختلفوا للبغي لا لقصد البرهان وقال تعالى ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (سورة يونس). وقال تعالى ولقد أتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن

 

 

الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين هذا بصائر للناس وهدى ورحمة (سورة الجاثية). فهذه المواضع من القرآن تبين أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم والبينات فاختلفوا للبغي والظلم لا لأجل اشتباه الحق بالباطل عليهم وهذ حال أهل الاختلاف المذموم من أهل الأهواء كلهم لا يختلفون إلا من بعد أن يظهر لهم الحق ويجيئهم العلم فيبغى بعضهم على بعض ثم المختلفون المذمومون كل منهم يبغى على الآخر فيكذب بما معه من الحق مع علمه أنه حق ويصدق بما مع نفسه من الباطل مع العلم أنه باطل وهؤلاء كلهم مذمومون ولهذا كان أهل الإختلاف المطلق كلهم مذمومين في الكتاب والسنة فإنه ما منهم إلا من خالف حقا واتبع باطلا ولهذا أمر الله الرسل أن تدعوا إلى دين واحد وهو دين الإسلام ولا يتفرقوا فيه وهو دين الأولين والآخرين من الرسل وأتباعهم قال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه (سورة الشورى). وقال في الآية الأخرى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم

 

 

فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون (سورة المؤمنون). أي كتبا اتبع كل قوم كتابا مبتدعا غير كتاب الله فصاروا متفرقين مختلفين لأن أهل التفرق والاختلاف ليسوا على الحنيفية المحضة التي هي الإسلام المحض الذي هو إخلاص الدين لله الذي ذكره الله في قوله وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيمو الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة سورة البينة وقال في الآية الأخرى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون (سورة الروم). فنهاه أن يكون من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وأعاد حرف من ليبين أن الثاني بدل من الأول والبدل هو المقصود بالكلام وما قبله توطئة له وقال تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم (سورة هود). إلى قوله ولو شاء ربك جعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم (سورة هود). فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون وقد ذكر في غير موضع أن دين الأنبياء كلهم الإسلام كما قال تعالى عن نوح وأمرت أن أكون من المسلمين (سورة النمل). وقال عن إبراهيم إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها

 

 

إبراهيم بينه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (سورة البقرة). وقال يوسف فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما والحقني بالصالحين (سورة يوسف). وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (سورة يونس). وقال عن السحرة ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين (سورة الأعراف). وقال عن بلقيس رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين (سورة النمل). وقال يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار (سورة المائدة). وقال وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد باننا مسلمون (سورة المائدة). وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وتنوع الشرائع لا يمنع أن يكون الدين واحدا وهو

 

 

الإسلام كالدين الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم فإنه هو دين الإسلام أولا وآخرا وكانت القبلة في أول الأمر بيت المقدس ثم صارت القبلة الكعبة وفي كلا الحالين الدين واحد وهو دين الإسلام فهكذا سائر ما شرع للأنبياء قبلنا ولهذا حيث ذكر الله الحق في القرآن جعله واحدا وجعل الباطل متعددا كقوله وأن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله (سورة الأنعام). وقوله أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة وقوله اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم (سورة النحل). وقوله ويهديك صراطا مستقيما (سورة الفتح). وقوله الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات (سورة البقرة). وهذا يطابق ما في كتاب الله من أن الإختلاف المطلق كله مذموم بخلاف المقيد الذي قيل فيه ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا (سورة البقرة). فهذا قد بين أنه اختلاف بين أهل الحق والباطل كما قال هذان خصمان اختصموا في ربهم (سورة الحج).

 

 

وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت المقتتلين يوم بدر في حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ابن عمه وعبيدة بن الحارث ابن عمه والمشركين الذين برزهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة وقد تدبرت كتب الإختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس إما نقلا مجردا مثل كتاب المقالات لأبي الحسن الأشعري وكتاب الملل والنحل للشهرستاني ولأبي عيسى الوراق أو مع انتصار لبعض الأقوال كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم فرأيت عامة الإختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم وأما الحق الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه وكأن عليه سلف الأمة فلا يوجد فيها في جميع مسائل الإختلاف بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه بل لا يعرفونه ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام ولهذا يوجد الحاذقمنهم المنصف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك إذ لم يجد في الإختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلي دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب كما قال أبو المعالي وقت السياق لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهونى عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار أهل الكلام والفلسفة وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهد وفي آخر عمره اشتغل بالحديث بالبخاري ومسلم وكذلك الشهر ستاني مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات والإختلاف وصنف فيها كتابه المعروف بنهاية الإقدام في علم الكلام وقال قد أشار علي من إشارته غنم وطاعته حتم أن أذكر له من مشكلات الأصول ما أشكل على ذوي العقول ولعله

 

 

استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاكف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم فأخبر أنه لم يجد إلا حائرا شاكا ومرتابا أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه فالأول في الجهل البسيط كظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكن يراها وهذا دخل في الجهل المركب ثم تبين له أنه جهل فندم ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججهم ولا يكاد يرجح شيئا للحيرة وكذلك الأمدي الغالب عليه الوقف والحيرة وأما الرازي فهو في الكتاب الواحد بل في الموضع الواحد منه ينصر قولا وفي موضع آخر منه أو من كتاب آخر ينصر نقيضه ولهذا استقر أمره على الحيرة والشك ولهذا لما ذكر أن أكمل العلوم العلم بالله وبصفاته وأفعاله ذكر أن على كل منها إشكال وقد ذكرتكلامه وبينت ما أشكل عليه وعلى هؤلاء في مواضع فإن الله قد أرسل رسله بالحق وخلق عباده على الفطرة فمن كمل فطرته بما أرسل الله به رسله وجد الهدى واليقين الذي لا ريب فيه ولم يتناقض لكن هؤلاء أفسدوا فطرتهم العقلية وشرعتهم السمعية بما حصل لهم من الشبهات والاختلاف الذي لم يهتدوا معه إلى الحق كما قد ذكر تفصيل ذلك في موضع غير هذا والمقصود هنا أنه لما ذكر ذلك قال ومن الذي وصل إلى هذا الباب ومن الذي ذاق هذا الشراب نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قبل وقالوا وقال لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروى غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه

 

 

(سورة فاطر). الرحمن على العرش استوى (سورة طـــه). واقرأ في النفي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (سورة الشورى). ولا يحيطون به علما (سورة طـــه). ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وهو صادق فيما أخبر به أنه لم يستفد من بحوثه في الطرق الكلامية والفلسفية سوى أن جمع قيل وقالوا وأنه لم يجد فيها ما يشفي عليلا ولا يروى غليلا فإن من تدبر كتبه كلها لمي جد فيها مسألة واحدة من مسائل أصول الدين موافقة للحق الذي يدل عليه المنقول والمعقول بل يذكر في المسألة عدة أقوال والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره وهكذا غيره من أهل الكلام والفلسفة ليس هذا من خصائصه فإن الحق واحد ولا يخرج عما جاءت به الرسل وهو الموافق لصريح العقل فطرة الله التي فطر الناس عليها وهؤلاء لا يعرفون ذلك بل هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وهم مختلفون في الكتاب وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد (سورة البقرة).وقال الإمام أحمد في خطبة مصنفة الذي صنفه في محبسه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابهه القرآن وتأولته على غير تأويله قال الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل الضلالة والعمى فكم من قتيل لإبليس قد أحبوه وكم من تائه ضال قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم ينقون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم

 

 

وهو كما وصفهم رحمه الله فإن المختلفين أهل المقالات المذكورة في كتب الكلام إما نقلا مجردا للأقوال وإما نقلا وبحثا وذكرا للجدال مختلفون في الكتاب كل منهم يوافق بعضا ويرد بعضا ويجعل ما يوافق رأيه هو المحكم الذي يجب اتباعه وما يخالفه هو المتشابه الذي يجب تأويله أو تفويضه وهذا موجود في كل من صنف في الكلام وذكر النصوص التي يحتج بها ويحتج بها عليه تجده يتأول النصوص التي تخالف قوله تأويلات لو فعلها غيره لأقام القيامة عليه ويتأول الآيات بما يعلم بالاضطرار أن الرسول لم يرده وبما لا يدل عليه اللفظ أصلا وبما هو خلاف التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين وخلاف نصوص أخرىولو ذكرت ما أعرفه من ذلك لذكرت خلقا ولا استثنى أحدا من أهل البدع لا من المشهورين بالبدع الكبار من معتزلي ورافضي ونحو ذلك ولا من المنتسبين إلى السنة والجماعة من كرامي وأشعري وسالمي ونحو ذلك وكذلك من صنف على طريقهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم هذا كله رأيته في كتبهم وهذا موجود في بحثهم في مسائل الصفات والقرآن ومسائل القدر ومسائل الأسماء والأحكام والإيمان والإسلام ومسائل الوعد والوعيد وغير ذلك وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضع من كتبنا غير هذا الكتاب درء تعارض العقل والنقل وغيره ومن أجمع الكتب التي رأيتها في مقالات الناس المختلفين في أصول الدين كتاب أبي الحسن الأشعري وقد ذكر فيه من المقالات وتفاصيلها ما لم يذكره غيره وذكر فيه مذهب أهل الحديث والسنة بحسب ما فهمه عنهم وليس في جنسه أقرب إليهم منه ومع هذا نفس القول الذي جاء به الكتاب والسنة وقال به الصحابة والتابعون لهم بإحسان في القرآن والرؤية

 

 

والصفات والقدر وغير ذلك من مسائل أصول الدين ليس في كتابه وقد استقصى ما عرفه من كلام المتكلمين وأما معرفة ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وآثار الصحابة فعلم آخر لا يعرفه أحد من هؤلاء المتكلمين المختلفين في أصول الدين ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها متفقين على ذم أهل الكلام فإن كلامهم لا بد أن يشتمل على تصديق بباطل وتكذيب بحق ومخالفة الكتاب والسنة فذموه لما فيه من الكذب والخطأ والضلال ولم يذم السلف من كان كلامه حقا فإن ما كان حقا فإنه هو الذي جاء به الرسول وهذا لا يذمه السلف العارفون بما جاء به الرسول ومع هذا فيستفاد من كلامهم نقض بعضهم على بعض وبيان فساد قوله فإن المختلفين كل كلامهم فيه شيء من الباطل وكل طائفة تقصد بيان بطلان قول الأخرى فيبقى الإنسان عند دلائل كثيرة تدل على فساد قول كل طائفة من الطوائف المختلفين في الكتاب وهذا مما مدح به الأشعري فإنه من بين من فضائح المعتزلة وتناقضأقوالهم وفسادها ما لم يبينه غيره لأنه كان منهم وكان قد درس الكلام على أبي على الجبائي أربعين سنة وكان ذكيا ثم إنه رجع عنهم وصنف في الرد عليهم ونصر في الصفات طريقة ابن كلاب لأنها أقرب إلى الحق والسنة من قولهم ولم يعرف غيرها فإنه لم يكن خبيرا بالسنة والحديث وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم وتفسير السلف للقرآن والعلم بالسنة المحضة إنما يستفاد من هذا ولهذا يذكر في المقالات مقالة المعتزلة مفصلة يذكر قول كل واحد منهم وما بينهم من النزاع في الدق والجل كما يحكى ابن أبي زيد مقالات أصحاب مالك وكما يحكي أبو الحسن القدوري اختلاف أصحاب أبي حنيفة ويذكر أيضا مقالات الخوارج والروافض لكن نقلة لها من كتب أرباب المقالات لا عن مباشرة

 

 

منه للقائلين ولا عن خبرة بكتبهم ولكن فيها تفصيل عظيم ويذكر مقالة ابن كلاب عن خبرة بها ونظر في كتبه ويذكر اختلاف الناس في القرآن من عدة كتب فإذا جاء إلى مقالة أهل السنة والحديث ذكر أمرا مجملا يلقى أكثره عن زكريا بن يحيى الساجي وبعضه عمن أخذ عنه من حنبلية بغداد ونحوهم وأين العلم المفصل من العلم المجمل وهو يشبه من بعض الوجوه علمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم تفصيلا وعلمنا بما في التوراة والإنجيل مجملا لما نقله الناس عن التوراة والإنجيل وبمنزلة علم الرجل الحنفي أو الشافعي أو المالكي أو الحنبلي بمذهبه الذي عرف أصوله وفروعه واختلاف أهله وأدلته بالنسبة إلى ما يذكرونه من خلاف المذهب الآخر فإنه إنما يعرفه معرفة مجملة

 

 

فهكذا معرفته بمذهب أهل السنة والحديث مع أنه من أعرف المتكلمين المصنفين في الاختلاف بذلك وهو أعرف به من جميع أصحابه من القاضي أبي بكر وابن فورك وأبي إسحاق وهؤلاء أعلم به من أبي المعالي وذويه ومن الشهرستاني ولهذا كان ما يذكره الشهرستاني من مذهب أهل السنة والحديث ناقصا عما يذكره الأشعري فإن الأشعري أعلم من هؤلاء كلهم بذلك نقلا وتوجيها وهذا كالفقيه الذي يكون أعرف من غيره من الفقهاء بالحديث وليس هو من علماء الحديث أو المحدث الذي يكون أفقه من غيره من المحدثين وليس هو من أئمة الفقه والمقرىء الذي يكون أخبر من غيره بالنحو والإعراب وليس هو من أئمة النحاة والنحوي الذي يكون أخبر من غيره بالقرآن وليس هو من أئمة القراء ونظائر هذا متعددة والمقصود هنا بيان ما ذكره الله في كتابه من ذم الإختلاف في الكتاب وهذا الإختلاف القولي وأما الإختلاف العملي وهو الإختلاف باليد والسيف والعصا والسوط فهو داخل في الإختلاف والخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم يدخلون في النوعين والملوك الذين يتقاتلون على محض الدنيا يدخلون في الثاني والذين يتكلمون في العلم ولا يدعون إلى قول ابتدعوه ويحاربون عليه من خالفهم لا بيد ولا بلسان هؤلاء هم أهل العلم وهؤلاء خطؤهم مغفور

 

 

لهم وليسوا مذمومين إلا أن يدخلهم هوى وعدوان أو تفريط في بعض الأمور فيكون ذلك من ذنوبهم فإن العبد مأمور بالتزام الصراط المستقيم في كل أموره وقد شرع الله تعالى أن نسأله ذلك في كل صلاة وهو أفضل الدعاء وأفرضه وأجمعه لكل خير وكل أحد محتاج إلى الدعاء به فلهذا أوجبه الله تعالى على العبد في كل صلاة فإنه وإن كان قد هدي هدى مجملا مثل إقراره بأن الإسلام حق والرسول حق فهو محتاج إلى التفصيل في كل ما يقوله ويفعله ويعتقده فيثبته أو ينفيه ويحبه أو يبغضه ويأمر به أو ينهى عنه ويحمده أو يذمه وهو محتاج في جميع ذلك إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فإن كثيرا ممن سمع ذم الكلام مجملا أو سمع ذم الطائفة الفلانية مجملا وهو لا يعرف تفاصيل الأمور من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية والعامة ومن كان متوسطا في الكلام لم يصل إلى الغايات التي منها تفرقوا واختلفوا تجده يذم القول وقائله بعبارة ويقبله بعبارة ويقرأ كتب التفسير والفقه وشروح الحديث وفيها تلك المقالات التي كان يذمها فيقبلها من أشخاص أخر يحسن الظن بهم وقد ذكروها بعبارة أخرى أو في ضمن تفسير آية أو حديث أو غير ذلك

 

 

وهذا مما يوجد كثيرا والسالم من سلمه الله حتى أن كثيرا من هؤلاء يعظم أئمة ويذم أقوالا قد يلعن قائلها أو يكفره وقد قالها أولئك الأئمة الذين يعظمهم ولو علم أنهم قالوها لما لعن القائل وكثير منها يكون قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرف ذلك فإن كان ممن قبلها من المتكلمين تقليديا فإنه يتبع من يكون في نفسه أعظم فإن ظن أن المتكلمين حققوا ما لم يحققه أتمتهم قلدهم وإن ظن أن الائمة أجل قدرا وأعرف بالحق وأتبع للرسول قلدهم وإن كان قد عرف الحجة الكلامية على ذلك القول وبلغه أن أئمة يعظمهم قالوا بخلافه أو جاء الحديث بخلافه بقي في الحيرة وإن رجح أحد الجانبين رجح على مضض وليس عنده ما يبني عليه وإنما يستقر قلبه بما يعرف صحة أحد القولين جزما فإن التقليد لا يورث الجزم فإذا جزم بأن الرسول قاله وهو عالم بأنه لا يقول إلا الحق جزم بذلك وإن خالفه بعض أهل الكلام وعلم الإنسان باختلاف هؤلاء ورد بعضهم على بعض وإن لم يعرف بعضهم فساد مقالة بعض هو من أنفع الأمور فإنه ما منهم إلا من قد فضل مقالته طوائف فإذا عرف رد الطائفة الأخرى على هذه

 

 

المقالة عرف فسادها فكان في ذلك نهى عما فيها من المنكر والباطل وكذلك إذا عرف رد هؤلاء على أولئك فإنه أيضا يعرف ما عند أولئك من الباطل فيتقي الباطل الذي معهم ثم من بين الله له الذي جاء به الرسول إما بأن يكون قولا ثالثا خارجا عن القولين وإما بأن يكون بعض قول هؤلاء وبعض قول هؤلاء وعرف أن هذا هو الذي كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وعليه دل الكتاب والسنة كان الله قد أتم عليه النعمة إذ هداه الصراط المستقيم وجنبه صراط أهل البغي والضلال وإن لم يتبين له كان امتناعه من موافقه هؤلاء على ضلالهم وهؤلاء على ضلالهم نعمة في حقه واعتصم بما عرفه من الكتاب والسنة مجملا وأمسك عن الكلام في تلك المسألة وكانت من جملة ما لم يعرفه فإن الإنسان لا يعرف الحق في كل ما تكلم الناس به وأنت تجدهم يحكون أقوالا متعددة في التفسير وشرح الحديث في مسائل الأحكام بل والعربية والطب وغير ذلك ثم كثير من الناس يحكي الخلاف ولا يعرف الحق وأما الخلاف الذي بين الفلاسفة فلا يحصيه أحد لكثرته ولتفرقهم فإن الفلسفة التي عند المتأخرين كالفارابي وابن سينا ومن نسج على منوالهما هي فلسفة أرسطو وأتباعه وهو صاحب التعاليم المنطق والطبيعي وما بعد الطبيعة والذي يحكيه الغزالي

 

 

والشهرستاني والرازي وغيرهم من مقالات الفلاسفة هو من كلام ابن سينا والفلاسفة أصناف مصنفة غير هؤلاء ولهذا يذكر القاضي أبو بكر في دقائق الكلام وقبله أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات غير الإسلاميين وهو كتاب كبير أكبر من مقالات الإسلاميين أقوالا كثيرة للفلاسفة لا يذكرها هؤلاء الذين يأخذون عن ابن سينا وكذلك غير الأشعري مثل أبي عيسى الوراق والنوبختي وأبي علي وأبي هاشم وخلق كثير من أهل الكلام والفلسفة والمقصود أن كتب أهل الكلام يستفاد منها رد بعضهم على بعض وهذا لا يحتاج إليه من لا يحتاج إلى رد المقالة الباطلة لكونها لم تخطر بقلبه ولا هناك من يخاطبه بها ولا يطالع كتابا هي فيه ولا ينتفع به من لم يفهم الرد بل قد يستضر به من عرف الشبهة ولم يعرف فسادها ولكن المقصود هنا أن هذا هو العلم الذي في كتبهم فإنهم يردون باطلا بباطل وكلا القولين باطل ولهذا كان مذموما ممنوعا منه عند السلف والأئمة وكثير منهم أو أكثرهم لا يعرف أن الذي يقوله باطل

 

 

وبكل حال فهم يذكرون من عيوب باطل غيرهم وذمة ما قد ينتفع به مثال ذلك تنازعهم في مسائل الأسماء والأحكام والوعد والوعيد فالخوارج والمعتزلة يقولون صاحب الكبائر الذي لم يتب منها مخلد في النار ليس معه شيء من الإيمان ثم الخوارج تقول هو كافر والمعتزلة توافقهم على الحكم لا على الاسم والمرجئة تقول هو مؤمن تام الإيمان لا نقص في إيمانه بل إيمانه كإيمان الأنبياء والأولياء وهذا نزاع في الاسم ثم تقول فقهاؤهم ما تقوله الجماعة في أهل الكبائر فيهم من يدخل النار وفيهم من لا يدخل كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة واتفق عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان فهؤلاء لا ينازعون أهل السنة والحديث في حكمه في الآخرة وإنما ينازعونهم في الإسم وينازعون أيضا فيمن قال ولم يفعل وكثير من متكلمة المرجئة تقول لا نعلم أن أحدا من أهل القبلة من أهل الكبائر يدخل النار ولا أن أحدا منهم لا يدخلها بل يجوز أن يدخلها جميع الفساق ويجوز أن لا يدخلها أحد منهم ويجوز دخول بعضهم ويقولون من أذنب وتاب لا يقطع بقبول توبته بل يجوز دخول أن يدخل النار أيضا فهم يقفون في هذا كله ولهذا سمو الواقفة وهذا قول القاضي أبي بكر وغيره من الأشعرية وغيرهم فيحتج أولئك بنصوص الوعيد وعمومها ويعارضهم هؤلاء بنصوص الوعد وعمومها فقال أولئك الفساق لا يدخلون في الوعد لأنهم لا

 

 

حسنات لهم لأنهم لم يكونوا من المتقين وقد قال الله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين (سورة المائدة). وقال تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى (سورة البقرة). وقال لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون (سورة الحجرات). وقال ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (سورة محمد). فهذه النصوص وغيرها تدل على أن الماضي من العمل قد يحبط بالسيئات وأن العمل لا يقبل إلا مع التقوى والوعد إنما هو للمؤمن وهؤلاء ليسوا مؤمنين بدليل قوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم (سورة الأنفال). وقوله إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون (سورة الحجرات). وبقوله أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ((سورة السجدة).). والفاسق ليس بمؤمن فلا يتناوله الوعد وبما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن وقوله من غشنا فليس منا ومن حمل علينا السلاح فليس منا ونحو ذلكوتقول المرجئة قوله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين (سورة المائدة). المراد به من اتقى الشرك ويقولون الأعمال لا تحبط إلا بالكفر قال تعالى لئن أشركت ليحبطن عملك سوة الزمر وقال ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله (سورة المائدة). ويقولون قد قال تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها سوة فاطر فقد أخبر أن الثلاثة يدخلون الجنة وقد حكي عن بعض غلاة المرجئة أن أحدا من أهل التوحيد لا يدخل النار ولكن هذا لا أعرف به قائلا معينا فأحكيه عنه ومن الناس من يحكيه عن مقاتل بن سليمان والظاهر أنه غلط عليه

 

 

وهؤلاء قد يحتجون بهذه الآية ويحتجون بقوله فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى سورة الليل وقد يحتج بعض الجهال بقوله ذلك يخوف الله به عباده (سورة الزمر). قال فالوعيد شيء يخوفكم به ويقولون أما قوله ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم (سورة محمد). فهذه في الكفار فإنه قال والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم (سورة محمد). وكذلك قوله إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم أتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (سورة محمد). فقد أخبر سبحانه أن هؤلاء ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى وأن الشيطان سول لهم وأملى لهم أي وسع لهم في العمر وكان هذا بسبب وعدهم للكفار بالموافقة فقال ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر ولهذا فسر السلف هؤلاء الذين كرهوا ما أنزل الله الذين كانوا سبب نزول هذه الآية بالمنافقين واليهود قالت الوعيدية الله تعالى إنما

 

 

وصفهم بمجرد كراهة ما نزل الله والكراهة عمل القلب وعند الجهمية الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه هذا قول جهم والصالحي والأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه وعند فقهاء المرجئة هو قول اللسان مع تصديق القلب وعلى القولين أعمال القلوب ليست من الإيمان عندهم كأعمال الجوارح فيمكن أن يكون الرجل مصدقا بلسانه وقلبه مع كراهة ما نزل الله وحينئذ فلا يكون هذا كافر عندهم والآية تتناوله وإذا دلت على كفره دلت على فساد قولهم قالوا وأما قولكم المتقون الذين اتقوا الشرك فهذا خلاف القرآن فإن الله تعالى قال إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون سورة المرسلات إن المتقين في جنات ونهر (سورة القمر). وقال ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (سورة البقرة). وقالت مريم إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (سورة مريم).ولم ترد به الشرك بل أرادت التقي الذي يتقي فلا يقدم على الفجور وقال تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب (سورة الطلاق). وقال تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم (سورة الأنفال). وقال تعالى إنه من يتق ويصبر فإن الله أجر المحسنين وقال تعالى لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (سورة آل عمران). وقال تعالى ثم جعلناكم على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إلى قوله والله ولي المتقين (سورة الجاثية). وقال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم (سورة الأحزاب). فهم قد آمنوا واتقوا الشرك فلم يكن الذي أمرهم به بعد ذلك مجرد ترك الشرك وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته سورة آل

 

 

عمران أفيقول مسلم إن قطاع الطريق الذين يسفكون دماء الناس ويأخذون أموالهم اتقوا الله حق تقاته لكونهم لم يشركوا وإن أهل الفواحش وشرب الخمر وظلم الناس اتقوا الله حق تقاته وقد قال السلف ابن مسعود وغيره كالحسن وعكرمة وقتادة ومقاتل حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يشكر فلا يكفر وأن يذكر فلا ينسى وبعضهم يرويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي تفسير الوالبي عن ابن عباس قال هو أن يجاهد العبد في الله حق جهاده وأن لا تأخذه في الله لومة لائم وأن يقوموا له بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم و في الآية أخرى فأتقوا الله ما استطعتم (سورة التغابن). وهذه مفسرة لتلك ومن قال من السلف هي ناسخة لها فمعناه أنها رافعة لما يظن من أن المراد من حق تقاته ما يعجز البشر عنه فإن الله لم يأمر بهذا قط ومن قال إن الله أمر به فقد غلط ولفظ النسخ في عرف السلف يدخل فيه كل ما فيه نوع رفع لحكم أو ظاهر أو ظن دلالة حتى يسموا تخصيص العام نسخا ومنهم من يسمى الإستثناء نسخا إذا تأخر نزوله

 

 

وقد قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم (سورة الحج). فهذ رفع لشيء ألقاه الشيطان ولم ينزله الله لكن غايته أن يظن أن الله أنزله وقد أخبر أنه نسخة وقد قال تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون (سورة الأعراف). فمن كان الشيطان لا يزال يمده في الغي وهو لا يتذكر ولا يبصر كيف يكون من المتقين وقد قال تعالى في آية الطلاق ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب (سورة الطلاق). وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يا أبا ذر لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم وكان ابن عباس وغيره من الصحابة إذا تعدى الرجل حد الله في الطلاق يقولون له لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا وفرجا ومعلوم أنه ليس المراد بالتقوى هنا مجرد تقوى الشرك ومن أواخر

 

 

ما نزل من القرآن وقيل إنها آخر آية نزلت قوله تعالى واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (سورة البقرة). فهل اتقاء ذلك هو مجرد ترك الشرك وإن فعل كل ما حرم الله عليه وترك كل ما أمر الله به وقد قال طلق بن حبيب ومع هذا كان سعيد بن جبير ينسبه إلى الإرجاء قال التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله وبالجملة فكون المتقين هم الأبرار الفاعلون للفرائض المجتنبون للمحارم هو من العلم العام الذي يعرفه المسلمون خلفا عن سلف والقرآن والأحاديث تقتضي ذلك قالت المرجئة أما احتجاجكم بقوله تعالى أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ((سورة السجدة).). فلا يصح لأن تمام الآية يدل على أن المراد بالفاسق المكذب فإنه قال وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون ((سورة السجدة).). فقد وصفهم بالتكذيب بعذاب الآخرة وهذا وصف المكذب لا العاصي وقالوا مع الجمهور للخوارج لو كان صاحب الكبيرة كافرا لكان مرتدا ووجب قتله والله تعالى قد أمر بجلد الزاني وأمر بجلد القاذف وأمر

 

 

بقطع السارق ومضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجلد الشارب فهذه النصوص صريحة بأن الزاني والشارب والسارق والقاذف ليسوا كفارا مرتدين يستحقون القتل فمن جعلهم كفارا فقد خالف نص القرآن والسنة المتواترة وقالوا لهم وللمعتزلة قد قال الله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (سورة الحجرات). قالوا فقد سماهم مؤمنين مع الإقتتال والبغي وقد أمر الله تعالى بالإصلاح بينهم وجعلهم إخوة المصلح بينهم الذي لم يقاتل فعلم أن البغي لا يخرج عن الإيمان ولا عن أخوة الإيمان قالت المرجئة وقوله ليس منا أي ليس مثلنا أو ليس من خيارنا فقيل لهم فلو لم يغش ولم يحمل السلاح أكان يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم أو كان يكون من خيارهم بمجرد هذا الكلام وقالت المرجئة نصوص الوعيد عامة ومنا من ينكر صيغ العمومومن أثبتها قال لا يعلم تناولها لكل فرد من أفراد العام فمن لم يعذب لم يكن اللفظ قد شمله فقيل للواقفة منهم عندكم يجوز أن لا يحصل الوعيد بأحد من أهل القبلة فيلزم تعطيل نصوص الوعيد ولا تبقى لا خاصة ولا عامة وليس مقصودنا هنا استيفاء الكلام في المسألة وإنما الغرض التمثيل بالمناظرات من الطرفين وأهل السنة والحديث وأئمة الإسلام المتبعون للصحابة متوسطون بين هؤلاء وهؤلاء لا يقولون بتخليد أحد من أهل القبلة في النار كما تقول الخوارج والمعتزلة لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة لأنه يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان وإخراجه من النار من يخرج بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن يشفع له من أهل الكبائر من أمته

 

 

وهذه أحاديث كثيرة مستفيضة متواترة عند أهل العلم بالحديث ولا يقولون إنا نقف في الأحكام المطلقة بل نعلم أن الله يدخل النار من يدخله من أهل الكبائر وناس آخرون لا يدخلونها لأسباب لكن تنازعوا هل يكون الداخلون بسبب اقتضى ذلك كعظم الذنوب وكثرتها والذين لم يدخلوها بسبب منع ذلك كالحسنات المعارضة ونحوها وأنه سبحانه وتعالى يفعل ما يفعله بحكمة وأسباب أم قد يفرق بين المتماثلين بمحض المشيئة فيعذب الشخص ويعفو عمن هو مثله من كل وجه بمحض المشيئة هذا لهم فيه قولان والنصوص وأقوال السلف توافق الأول وإنما قد نقف في الشخص المعين فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم لأن حقيقة باطنه وما مات عليه لا نحيط به لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيئ ولهم في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال منهم من لا يشهد بالجنة لأحد إلا للأنبياء وهذا قول محمد بن الحنفية والأوزاعي والثاني أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه نص وهذا قول كثير من أهل الحديث والثالث يشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أنتم شهداء الله في الأرض وقال يوشك أن

 

 

تعلموا أهل الجنة من أهل النار قالوا بم يا رسول الله قال بالثناء الحسن والثناء السيئ فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار وكان أبو ثور يقول أشهد أن أحمد بن حنبل في الجنة ويحتج بهذا وبسط هذه المسألة له موضع آخر والإيمان عندهم يتفاضل فيكون إيمان أكمل من إيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا فيقولون قوله إنما يتقبل الله من المتقين (سورة المائدة). أي ممن اتقاه في ذلك العمل ليس المراد به الخلو من الذنوب ولا مجرد الخلو من الشرك بل من اتقاه في عمل قبله منه وإن كانت له ذنوب أخرى بدليل قوله وأقم الصلاة طرفى النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات (سورة هود). فلو كانت الحسنة لا تقبل من صاحب السيئة لم تمحها وقد ثبت بالكتاب والسنة المتواترة الموازنة بين الحسنات والسيئات فلو كانت الكبيرة تحبط الحسنات لم تبق حسنة توزن معها

 

 

وقد ثبت في الصحيحين أن بغيا سقت كلبا فغفر الله لها بسقيه قالوا وابنا آدم لم يكن أحدهما مشركا ولكن لم يقصد التقرب إلى الله بالطيب من ماله كما جاء في الأثر فلهذا لم يتقبل الله قربانه وقد قال تعالى في حق المنافقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون (سورة التوبة). فجعل هذه موانع قبول النفقة دون مطلق الذنوب قال أهل الحديث والسنة ومن نفى عنه الإيمان فلأنه ترك بعض واجباته والعبادة ينفى اسمها بنفي بعض واجباتها لأنها لم تبق كاملة ولا يلزم من ذلك أن لا يبقى منه شيئ بل قد دلت النصوص على أنه يبقى بعضه ويخرج من النار من بقي معه بعضه ومعلوم أن العبادات فيها واجب كالحج فيه واجب إذا تركه كان حجة ناقصا يأثم بما ترك ولا إعادة عليه بل يجبره بدم كرمي الجمار وإن لم يجبره بقي في ذمته فكذلك الإيمان ينقص بالذنوب فإن تاب عاد وإلا بقي ناقصا نقصا يأثم به وقد يحرم في الحج أفعال إذا فعلها

 

 

نقص حجة ولم يبطل كالتطيب ولبس الثياب بل يجبر ذلك ولا يفسده من المحرمات إلا الجماع فكذلك لا يزيل الإيمان كله إلا الكفر المحض الذي لا يبقى مع صاحبه شيء من الإيمان قالوا وهذا هو الذي يحبط جميع الأعمال وأما ما دون ذلك فقد يحبط بعض العمل كما في آية المن والأذى فإن ذلك يبطل تلك الصدقة لا يبطل سائر أعماله والذين كرهوا ما أنزل الله كفار وأعمال القلوب مثل حب الله ورسوله وخشية الله ونحو ذلك كلها من الإيمان وكراهة ما أنزل الله كفر وأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وقد قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله (سورة المجادلة). وقوله في السابق والمقتصد والظالم لنفسه جنات عدن يدخلونها (سورة الرعد). لا يمنع أن يكون الظالم لنفسه قد عذب قبل هذا ثم يدخلها وقوله لا يصلاها إلا الأشقى سورة الليل لا يخلو إما أن يكون المراد بالصلي نوعا من التعذيب كما قيل إن الذي تصليه النار هو الذي تحيط به وأهل القبلة لا تحرق النار منهم مواضع السجود أو تكون نارا مخصوصة وقوله يخوف الله به عباده (سورة الزمر). كقول النبي صلى الله

 

 

عليه وسلم في الشمس والقمر إنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده وقد قال تعالى وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (سورة الإسراء). والآيات التي خوف الله بها عباده تكون سببا في شر ينزل بالناس فمن اتقى الله بفعل ما أمر به وفي ذلك الشر ولو كان مما لا حقيقة له أصلا لم يخف أحد إذا علم أنه لا شر في الباطن وإنما يبقى التخويف للجاهل الفدم كما يفزغ الصبيان بالخيال وقد قال تعالى ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون (سورة الزمر). فخوف العباد مطلقا وأمرهم بتقواه لئلا ينزل المخوف وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين والإنذار هو الإعلام بما يخاف منه وقد وجدت المخوفات في الدنيا وعاقب الله على الذنوب أمما كثيرة كما قصه في كتابه وكما شوهد من من الآيات وأخبر عن دخول أهل النار النار في غير موضع من القرآن وقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء (سورة فاطر). ولو كان الأمر كما يتوهمه الجاهل لكان إنما يخشاه من عباده الجهال الذين

 

 

يتخيلون ما لا حقيقة له وهذا كله مبسوط في موضعه وإنما الغرض هنا التمثيل بأقوال المختلفين التي كلها باطلة ومثال ذلك إذا تنازع في القدر القدرية من المعتزلة وغيرهم والقدرية المجبرة من الجهمية وغيرهم فقالوا جميعا إرادة الله هي محبته وهي رضاه ثم قالت المعتزلة وهو سبحانه يحب الإيمان والعمل الصالح ويكره الكفر والفسوق والعصيان فلا يكون مريدا له قالوا والدليل على ذلك قوله ولا يرضى لعباده الكفر (سورة الزمر). وقوله إذ يبيتون ما لا يرضى من القول (سورة النساء). وقوله والله لا يحب الفساد (سورة البقرة). والفقهاء متفقون على أن أفعال البر تنقسم إلى واجب ومستحب والمستحب هو ما أحبه الله ورسوله وأن المنهي عنه كله مكروه كرهه الله ورسوله والكراهة نوعان كراهة تحريم وكراهة تنزيه وقد قال تعالى لما ذكر المحرمات كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها (سورة الإسراء). وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعةالمال وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب قالوا فهل دليل على أنه يكون في العالم ما هو مكروه لله فلا يكون مرادا لله فيكون في العالم ما لا يريده الله وهو ما لم يأمر الله به أو ينه عنه قالوا والأمر لا يعقل أمرا إلا بإرادة الأمر لما أمر به المأمور ومن قدر أن الأمر يطلب المأمور به طلبا لا يكون إرادة ولا مستلزما للإرادة فهذا قد أدعى ما يعلم فساده بالضرورة وما يحتج به من التمثيل بأمر الممتحن فذاك لم يكن طالبا للمأمور به ولا مريدا له في الباطن بل أظهر أنه مريد طالب وقالوا قد قال الله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (سورة البقرة).

 

 

وقال تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (سورة المائدة). وقال تعالى يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حليم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (سورة النساء). وقال الله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (سورة الأحزاب). فهذه المرادات كلها قد أمر بها عباده فمنهم من أطاع ومنهم من عصى فعلم أنه قد يريد من العباد ما لا يفعلونه كما يأمرهم بما لا يفعلونه قالت القدرية الجبرية من الجهمية ومن اتبعهم بل إرادته تعالى تتناول ما وجد دون ما لم يوجد فإن المسلمين متفقون على قولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولأن إرادة ما علم أنه لا يكون تمن وقد قال سبحانه ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء (سورة إبراهيم). فكل ما يشاؤه فقد فعله وقال تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها فعلم أنه لم يشأ ذلك فلم يرد هدى كل أحد وإن كان قد أمر به

 

 

وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء (سورة الأنعام). فعلم أنه يريد الإضلال كما يريد شرح الصدر للإسلام وقال نوح ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم (سورة هود). فدل على أنه يريد إغواء من غوى وقد قال تعالى الله خالق كل شيء (سورة الرعد). فكل ما وجد من أفعال العباد وغيرها فإن الله خالقه قالوا وما أراده فقد أحبه ورضيه وقوله لا يحب الفساد (سورة البقرة). أي ممن لم يفسد أولا يحبه دينا وكذلك قوله ولا يرضى لعباده الكفر (سورة الزمر). أي ممن لم يكفر أو لا يرضاه دينا كما وأنه لا يحب الإيمان ممن لم يؤمن أو لا يحبه غير دين قال المنازعون لهم من المعتزلة وغيرهم فقد قال إذ يبيتون ما لا يرضى من القول (سورة النساء). وأولئك منافقون وذاك القول محرم عليهم وهو واقع منهم وقد أخبر أنه لا يرضاه فعلم أنه ما وقع من المعاصي لا يرضاه وكذلك قوله إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده

 

 

الكفر (سورة الزمر). أخبر أنه لا يرضاه بتقدير وقوعه ولا يقال أنه يرضى كل موجود وقولكم لا يرضاه دينا فالرضا في كتاب الله متعلق بنفس الفعل لا بشيء محذوف وكونه لا يرضاه دينا عندكم معناه لا يريد أن يثيب صاحبه عليه ومعلوم أن إبليس والشياطين لا يرضونه دينا بهذا الإعتبار مع أن إبليس يرضى الكفر ويختاره فإنه قد يحب ما يبغضه الله ويبغض ما يحبه الله ليغوي الناس بذلك قال الله تعالى عنه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (سورة الكهف). وقال تعالى ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن أعبدوني هذا صراط مستقيم (سورة يس). قالوا والأمة متفقة على أن الله سبحانه يحب الإيمان والعمل الصالح ويحب المتقين والمحسنين ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب المقسطين ولا يحب المعاصي ولا يرضاها واحتجاجنا بهذا الإجماع أقوى من احتجاجكم بقولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فإنهم كلهم يقولون إن الصلاة والصدقة والأعمال الصالحة يرضاها الله ورسوله ويحبها الله ورسوله ويقولون عن الفواحش والظلم هذا لا يرضاه الله ورسوله ولا يحبه الله ورسوله

 

 

فأنتم خالفتم الكتاب والسنة والإجماع في قولكم إن كل ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان فإن الله يحبه ويرضاه قالت القدرية المجبرة من الجهمية وغيرهم أنتم تقولون إن الله لم يختص المؤمنون بنعمة اهتدوا بها بل نعمته على الكفار والمؤمنين في الإيمان سواء وهذا خلاف الشرع والعقل فإن الله تعالى يقول ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون (سورة الحجرات). قال تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين وقال تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا (سورة الأنعام). وقال ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا (سورة النور). وقال تعالى وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه (سورة الأنفال). وقال الخليل عليه السلام ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك (سورة البقرة). وقال واجنبنى وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس (سورة إبراهيم). وقال تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين سورة التكوير

 

 

وقال فمن شاء أتخذ إلى ربه سبيلا (سورة المزمل). وقال وما تشآءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما سورة الإنسان وقال فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة (سورة المدثر). وقد أمرنا أن نقول في الصلاة اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في قوله تعالى فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (سورة النساء). والإنعام المطلق إنما يدخل فيه المؤمنون فدل ذلك على أن الطاعة الحاصلة من المؤمنين هو الذي أنعم بها ولو كانت نعمته عليهم كنعمته على الكفار لكان الجميع من المنعم عليهم أهل الصراط المستقيم وقوله تعالى غير المغضوب عليهم سورة الفاتحة صفة لا استثناء لأنه خفض غير كما تقول العرب إني لأمر بالصادق غير

 

 

الكاذب فالمغضوب عليهم والضالون لم يدخلوا في المنعم عليهم حتى يخرجوا بل بين أن هؤلاء مغايرون لأولئك كمغايرة الصادق للكاذب وقد قال تعالى من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا (سورة الكهف). فدل على أن كل من هداه الله اهتدى ولو هدى الكافر كما هدى المؤمن لاهتدى وقال الخليل رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا أغفر لي ولوالدي سورة ابراهيم فتبين أنه سبحانه هو الذي يجعله مقيم الصلاة وقال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا (سورة الأنبياء). وقال تعالى وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار (سورة القصص). فهو الذي جعل هؤلاء أئمة هدى وهؤلاء أئمة ضلال وقال تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم (سورة آل عمران). فبين أن لينه برحمة من الله وقال أهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق (سورة الأعراف). وقال تعالى لما ذكر الأنبياء ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون إلى قوله

 

 

أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده (سورة الأنعام). فأخبر أنه يخص بهذا الهدى من يشاء من عباده وأخبر أن هؤلاء هم الذين هداهم الله فعلم أنه خص بهذا الهدى من اهتدى به دون من لم يهتد به ودل على تخصيص المهتدين بأنه هداهم ولم يهد من لم يهتد والهدى يكون بمعنى البيان والدعوة وهذا يشترك فيه المؤمن والكافر كقوله تعالى وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى (سورة فصلت). ويكون بمعنى جعله مهتديا وهذا يختص بالمؤمنين وهو المطلوب بقوله اهدنا الصراط المستقيم سورة الفاتحة وبقوله هدى للمتقين (سورة البقرة). وذلك أن هدى بمعنى دل وأرشد قد يكون بالقوة فهذا مشترك وقد يكون بالفعل فهذا مختص كما تقول علمته فتعلم وعلمته فما تعلم وكذلك هديته فاهتدى وهديته فما اهتدى فالأول مختص بالمؤمنين والثاني مشترك وليس تعليمه وهداه كتعليم البشر بعضا فإن المعلم يقول والمتعلم يتعلم بأسباب لا يقدر عليها المعلم والله تعالى هو الذي يجعل العلم في قلوب من علمه ولهذا يطلب منه ذلك فيقال اهدنا الصراط المستقيم ولا يقال ذلك للبشر فإنهم لا يقدرون عليهويطلب العبد من الله أن يفهمه ويعلمه ويشرح صدره وأن يحبب إليه الإيمان والعمل الصالح ولا يطلب هذا من غير الله قال تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه (سورة الزمر). وقال فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا (سورة الأنعام). وقال ففهمناها سليمان (سورة الأنبياء). فخص سليمان بالتفهيم مع أنهما كانا حاكمين لم يخص أحدهما بعلم ظاهر وقال تعالى ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها سورة الشمس وكانت أكثر يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ومقلب القلوب وقال ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع

 

 

الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه وقد قال تعالى في دعاء المؤمنين ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب (سورة آل عمران). و قال تعالى ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله (سورة الكهف). وقال ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا (سورة يس). وقال ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة (سورة هود). وقال ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات (سورة البقرة). وقال ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ((سورة السجدة).). وقال ولو شاء ربك ما فعلوه (سورة الأنعام). وقال ولو شاء ربك ما أشركوا (سورة الأنعام). وقال إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لايبصرون (سورة يس). والآيات والنصوص المثبتة للقدر كثيرة جدا وهذا كله حجة على بطلان قول المعتزلة وغيرهم من القدرية النافية فصار مع هؤلاء نصوص يقولون بها ومع هؤلاء نصوص وكل من الطائفتين يتأول نصوص الأخرى بتأويلات فاسدة ويضم إلى النصوص التي يحتج بها أمور لا تدل عليها النصوص وأما أهل السنة والحديث من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وعلماء أهل السنة والحديث رضي الله عنهم فآمنوا بالكتاب كله ولم يحرقوا شيئا من النصوص وقالوا نحن نقول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ونقول إن الله خالق كل شيء وربه ومليكه فكل ما سوى الله مخلوق له حادث بمشيئته وقدرته ولا يكون في ملكه ما لا يشاؤه ويخلقه فلا يقدر أحد أن يمنع الله عما أراد أن يخلقه ويكونه فإن الواحد القهار ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم (سورة فاطر). وقالوا إن الله يأمر بالإيمان والعمل الصالح وينهى عن الكفر والفسوق والعصيان ويحب كل ما أمر به ويرضاه ويكره ما نهى عنه

 

 

ويسخطه وهو سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر قالوا وليس كل ما أمر العباد به وأراد منهم أن يفعلوه أراد هو أن يخلقه لهم ويعينهم عليه بل إعانته على الطاعة لمن أمره بها فضل منه كسائر النعم وهو يختص برحمته من يشاء والطائفتان غلطوا من حيث أنهم لم يميزوا بين إرادته لما يخلقه في عباده وإرادته لما يأمر به عباده وقد قال سبحانه ألا له الخلق والأمر (سورة الأعراف). فالرب خالق كل شيء وكل ما خلقه فبإرادته خلقه فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما لم يكن لم يرد أن يخلقه وما كان فقد أراد أن يخلقه وهو لا يريد أن يخلق إلا ما سبق علمه بأنه سيخلقه فإن العلم يطابق المعلوم وقد أمر العباد بالحسنات التي تنفعهم ونهاهم عن السيئات التي تضرهم والحسنات محبوبة لله مرضية والسيئات مكروهه له يسخطها ويسخط على أهلها وإن كان الجميع مخلوقا له فإنه خلق جبريل وإبليس وهو يحب جبريل ويبغض إبليس وخلق الجنة والنار وجعل الظلمات والنور وخلق الظل والحرور وخلق الموت والحياة وخلق الذكر والأنثى وخلق الأعمى والبصير

 

 

وقد قال لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون (سورة الحشر). وقال وما يستوى الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات (سورة فاطر). وقال أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون (سورة القلم). وقال أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (سورة ص). وقال أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (سورة الجاثية). وقد خلق الطيبات والخبائث وليس الطيبات كالخبائث ولا الفواكة والحبوب كالبول والعذرة وهو سبحانه إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وهو طيب لا يقبل إلا طيبا وهو نظيف يحب النظافة وجميل يحب الجمال وليس كل ما خلقه يصعد إليه ويكون طيبا محبوبا له له مرضيا عنده بل إنما يسكن في جنته من يناسبها ويصلح لها وكذلك النار قال تعالى طبتم فأدخلوها خالدين (سورة الزمر).وفي الصحيح أنه إذا عبر أهل الجنة الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فلا يدخلون الجنة إلا بعد التهذيب والتنقية كما قال تعالى طبتم فادخلوها خالدين (سورة الزمر). ولما قال إبليس أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فأخرج إنك من الصاغرين (سورة الأعراف). فبين سبحانه أنه ليس لمن في الجنة أن يتكبر وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان قال رجل يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا أفمن الكبر ذاك قال لا إن الله جميل يحب

 

 

الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس وقوله جميل يحب الجمال أي يحب أن يتجمل العبد له ويتزين كما قال تعالى خذوا زينتكم عند كل مسجد (سورة الأعراف). وهو يكره أن يصلي العبد له عريانا بل يكره سبحانه أن تصلي المرأة له مكشوفة الرأس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ولهذا لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة ويقولون إن الله أمرنا بهذا قال تعالى إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (سورة الأعراف). فتحسين النعل والثوب لعبادة الله هو من التجمل الذي يحبه الله ولو تزين به لمعصية لم يحب ذلك والمؤمن الذي نور الله قلبه بالإيمان يظهر نور الإيمان على وجهه ويكسى محبة ومهابة والمنافقبالعكس وأما الصورة المجردة سواء كانت حسنة مشتهاة كشهوة الرجال للنساء والنساء للرجال أو لم تكن مشتهاة فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ويقال ولا إلى لباسكم وقد قال تعالى وإذا تتلى عليهم أياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلكم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا (سورة مريم). والأثاث اللباس والمال والرئى المنظر والصورة وقال تعالى عن المنافقين وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون (سورة المنافقون). فبين أن لهم أجساما ومناظر قال ابن عباس كان ابن أبي جسيما فصيحا طلق اللسان قال المفسرون وصفهم الله بحسن الصورة وإبانة المنطق ثم أبان أنهم في عدم الفهم والإستغفار بمنزلة الخشب المسندة الممالة إلى الجدار والمراد أنها ليست بأشجار تثمر بل هي خشب مسندة إلى

 

 

حائط ثم عابهم بالجبن فقال يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون أي لايسمعون صوتا إلا ظنوا أنهم قد أتوا لما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم فصاحب الصورة الجميلة إذا كان من أهل هذه الأعمال التي يبغضها الله كان الله يبغضه ولا يحبه لجماله فإن الله لا ينظر إلى صورته وإنما ينظر إلى قلبه وعمله ويوسف الصديق وإن كان أجمل من غيره من الأنبياء وفي الصحيح أنه أعطى شطر الحسن فلم يكن بذلك أفضل من غيره بل غيره أفضل منه كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين ويوسف وإن كانت صورته أجمل فإن إيمان هؤلاء وأعمالهم كانت أفضل من إيمانه وعمله وهؤلاء أوذوا على نفس الإيمان والدعوة إلى الله فكان الذين عادوهم معادين لله ورسوله وكان صبرهم صبرا على توحيد الله وعبادته

 

 

وطاعته وهكذا سائر قصص الأنبياء التي في القرآن ويوسف عليه السلام إنما آذاه إخوته لتقريب أبيه له حسدا على حظ من حظوظ الأنفس لا على دين ولهذا كان صبره على التي راودته وحبس الذين حبسوه على ذلك أفضل له من صبره على أذى إخوته فإن هذا صبر على تقوى الله باختياره حتى لا يفعل المحرم وذلك صبر على أذى الغير الحاصل بغير اختياره فهذا من جنس صبر المصاب على مصيبته وذاك من جنس صبر المؤمن على الذين يأمرونه بالمعاصي ويدعونه إليها فيصبر على طاعة الله وعن معصيته ويغلب هواه وشهوته وهذا أفضل فأما صبر إبراهيم وموسى وعيسى ونبينا صلوات الله وسلامه عليهم على أذى الكفار وعدواتهم على الإيمان بالله ورسوله فذاك أفضل من هذا كله كما أن التوحيد والإيمان أفضل من مجرد ترك الزنا وكما أن تلك الطاعات أعظم فالصبر عليها وعلى معاداة أهلها أعظم وأيضا فهؤلاء كانوا يطلبون قتل من يؤمن وإهلاكه بكل طريق لا يحبون المؤمنين أصلا بخلاف يوسف فإنه إنما ابتلى بالحبس وكانت المرأة تحبه فلم تعاقبه بأكثر من ذلك وقوله تعالى نحن نقص عليك أحسن القصص (سورة يوسف). سواء كان القصص مصدر قص يقص قصصا أو كان مفعولا أي أحسن

 

 

المقصوص فذاك لا يختص بقصة يوسف بل قصة موسى أعظم منها قدرا وأحسن ولهذا كرر ذكرها في القرآن وبسطها قال تعالى فلما جاءه وقص عليه القصص (سورة القصص). ولهذا قال بما أوحينا إليك هذا القرآن (سورة يوسف). وقد قرىء أحسن القصص بالكسرة ولا تختص بقصة يوسف بل كل ما قصه الله فهو أحسن القصص فهو أحسن مقصوص وقد قصه الله أحسن قصص وقوله صلى الله عليه وسلم إن الله جميل يحب الجمال قاله جوابا للسائل في بيان ما يحبه الله من الأفعال وما يكرهه فإنه صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ومعلوم أن هذا الكبر من كسب العبد الداخل تحت قدرته ومشيئته وهو منهي عنه ومأمور بضده فخاف السائل أن يكون ما يتجمل به الإنسان فيكون أجمل به ممن لم يعمل مثله من الكبر المذموم فقال إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنا أفمن الكبر ذاك وحسن ثوبه ونعله هو مما حصل بفعله وقصده ليس هو شيئا مخلوقا فيه بغير كسبه كصورته فقال له لنبي صلى الله عليه وسلم إن الله جميل يحب الجمال ففرق بين الكبر الذي يمقته الله وبين الجمال

 

 

الذي يحبه الله ومعلوم أن الله إذا خلق شخصا أعظم من شخص وأكبر منه في بعض الصفات إما في جسمه وإما في قوته وإما في عقله وذكائه ونحو ذلك لم يكن هذا مبغضا فإن هذا ليس باختيار العبد بل هذا خلق فيه بغير اختياره بخلاف ما إذا كان هو متكبرا على غيره بذلك أو بغيره فيكون هذا من عمله الذي يمقته الله عليه كما قال لإبليس فما يكون لك أن تتكبر فيها (سورة الأعراف). كذلك من خلقه الله حسن اللون معتدل القامة جميل الصورة فهذا ليس من عمله الذي يحمد عليه أو يذم أو يثاب أو يعاقب ويحبه الله ورسوله عليه أو يبغضه عليه كما أنه إذا كان أسود أو قصيرا أو طويلا ونحو ذلك لم يكن هذا من عمله الذي يحمد عليه أو يذم ويثاب أو يعاقب ويحبه الله ورسوله عليه أو يبغضه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى ولهذا لما كان المنافقون لهم جمال في الصورة وليس في

 

 

قلوبهم إيمان شبهم الله سبحانه بالخشب المسندة اليابسة التي لا تثمر فالخشبة اليابسة إذا كانت لا ثمر فيها لا تمدح ولو كانت عظيمة وهكذا الصورة مع القلب نعم قد تكون الصورة عونا على الإيمان والعمل الصالح كما تكون القوة والمال وغير ذلك فيحمد صاحبها إذا استعان بها في طاعة الله وعف عن معاصيه ويكون حينئذ في الجمال الذي يحبه الله ولو كان أسود وفعل ما يحبه الله من الجمال كان أيضا فيه الجمال الذي يحبه الله والمقصود هنا ذكر ما يحبه الله ويرضاه وهو الذي يثاب أصحابه عليه ويدخلون الجنة ومن المعلوم أن الفرق بين مطلق الإدارة وبين المحبة موجود في الناس وغيرهم فالإنسان يريد كل ما يفعله باختياره وإن كان في ذلك ما هو بغيض إليه مكروه له يريده لأنه وسيلة إلى ما هو محبوب له كما يريد المريض تناول الدواء الذى يكرهه ويتألم منه لأنه وسيلة إلى من يحبه ما العافية وإلى زوال ما هو أبغض إليه من الآلام والجهمية والقدرية إنما لم تفرق بين ما يشاؤه وما يحبه لأنهم لا يثبتون لله محبة لبعض الأمور المخلوقة دون بعض وفرحا بتوبة التائب وكان أول من أنكر هذا الجعد بن درهم فضحى به خالد بن

 

 

عبد الله القسرى وقال ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله يكلم موسى تكليما ولا اتخذ إبراهيم خليلا تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا ثم نزل عن المنبر فذبحه فإنه الخلة من توابع المحبة فمن كان من أصله أن الله لا يحب ولا يحب لم يكن للخلة عنده معنى والرسل صلوات الله عليهم أجمعين إنما جاءوا بإثبات هذا الأصل وهو أن الله يحب بعض الأمور المخلوقة ويرضاها ويسخط بعض الأمور ويمقتها وأن أعمال العباد ترضية تارة وتسخطه أخرى قال تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (سورة محمد). وقال تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم (سورة الفتح). وقال فلما أسفونا انتقمنا منهم (سورة الزخرف). عن أبن عباس أغضبونا قال ابن قتيبة الأسف الغضب يقال أسفت

 

 

أسفا أي غضبت وقال الله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (سورة النساء). و قد ثبت في الصحيح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بارض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها فقال تحت شجرة ينتظر الموت فاستيقظ فإذا هو بدابته عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته والفرح إنما يكون بحصول المحبوب والمذنب كالعبد الآبق من مولاه الفار منه فإذا تاب فهو كالعائد إلى مولاه وإلى طاعته وهذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم يبين من محبة الله وفرحه بتوبة العبد ومن كراهته لمعاصيه ما يبين أن ذلك أعظم من التمثيل بالعبد الآبق فإن الإ نسان إذا فقد الدابة التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة فإنه يحصل عنده ما الله به عليم من التأذي من جهة فقد الطعام والشراب والمركب وكون الأرض مفازة لا يمكن الخلاص منها وإذا طلبها فلم يجدها يئس واطمأن إلى الموت وإذا استيقظ فوجدها كان عنده من الفرح ما لا يمكن التعبير عنه بوجود ما يحبه

 

 

ويرضاه بعد الفقد المنافي لذلك وهذا يبين من محبة الله للتوبة المتضمنة للإيمان والعمل الصالح ومن كراهته لخلاف ذلك ما يرد على منكر الفرق من الجهمية والقدرية فإن الطائفتين تجعل جميع الأشياء بالنسبة إليه سواء ثم القدرية يقولون هو يقصد نفع العبد لكون ذلك حسنا ولا يقصد الظلم لكونه قبيحا والجهمية يقولون إذا كان لا فرق بالنسبة إليه بين هذا وهذا امتنع أن يكون عنده شيء حسن وشيء قبيح وإنما يرجع ذلك إلى أمور إضافية للعباد فالحسن بالنسبة إلى العبد ما يلائمه وما ترتب عليه ثواب يلائمه والقبيح بالعكس ومن هنا جعلوا المحبة والإرادة سواء فلو أثبتوا أنه سبحانه يحب ويفرح بحصول محبوبه كما أخبر به الرسول تبين لهم حكمته وتبين أيضا أنه يفعل الأفعال لحكمة فإن الجهمية قالوا إذا كانت الأشياء بالنسبة إليه سواء امتنع أن يفعل لحكمة والمعتزلة قالوا يفعل لحكمة تعود إلى العباد فقالت لهم الجهمية تلك الحكمة يعود إليه منها حكم أو لا يعود فالأول خلاف الأصل الذي أصلتموه والثاني ممتنع فيمتنع أن أحدا يختار الحسن على

 

 

القبيح إن لم يكن له من فعل الحسن معنى يعود إليه فيكون فعل الحسن يناسبه بخلاف القبيح فإذا قدر نفي ذلك امتنع أن يفعل لحكمة ثم إن هده الصفة من أعظم صفات الكمال وكذلك كونه محبوبا لذاته هو أصل دين الرسل فإنهم كلهم دعوا إلى عبادة الله وحده وأن لا إله إلا هو والإله هو المستحق أن يعبد والعبادة لا تكون إلا بتعظيم ومحبة وإلا فمن عمل لغيره لعوض يعطيه إياه ولم يكن يحبه لم يكن عابدا له وقد قال تعالى يحبهم ويحبونه (سورة المائدة). وقال تعالى والذين آمنوا أشد حبا لله (سورة البقرة). وهؤلاء الذين ينفون أن الله يحب ويحب آخر أمرهم أنه لا يبقى عندهم فرق بالنسبة الى الله بين أوليائه وبين أعدائه ولا بين الإيمان والكفر ولا بين ما أمر به وما نهى عنه ولا بين بيوته التي هي المساجد وبين الحانات ومواضع الشرك وغاية ما يثبتونه من الفرق أن هذا علم على لذة تحصل للإنسان وهذا علم على ألم يحصل للإنسان فان كانوا من الصوفية الذينيجعلون الكمال في فناء العبد عن حظوظه دخلوا في مقام الفناء في توحيد الربوبية الذي يقولون فيه العارف لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة ويجعلون هذا غاية العرفان فيبقى عندهم لا فرق بين أولياء الله وأعدائه ولا بين الإيمان والكفر به ولا بين حمده والثناء عليه وعبادته وبين سبه وشتمه وجعله ثالث ثلاثة ولا بين رسول الله وبين أبي جهل ولا بين موسى وفرعون وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع وإن كان من المتكلمين الذين يقولون ما ثم إلا ما هو حظ للعبد من المخلوقات صاروا مسخرين في العبادات مستثقلين لها وفي قلوبهم مرتع للشيطان فإنه يقع لهم لم لا ينعم بالثواب بدون هذا التكليف فإذا أجابوا أنفسهم بأن هذا ألذ كان هذا من أبرد الأجوبة وأسمجها

 

 

فإن هذا إنما يقال في المناظرين وأما رب العالمين فلا أحد إلا وهو مقر بفضله وإحسانه ثم يقال قد حصل بطلب الألذ من شقاوة الأكثرين ما كان خلقهم في الجنة ابتداء بلا هذا الألذ أجود لهم وهو قادر على خلق لذات عظيمة إلى أمثال هذه الأجوبة وإن كان من المرجئة الذين إيمانهم بالوعيد ضعيف استرسلت نفسه في المحرمات وترك الواجبات حتى يكون من شر الخلق بخلاف من وجد حلاوة الإيمان بمحبة الله وعلمه بأنه يحب العبادات وأنه يحب أفعالا وأشخاصا ويبغض أفعالا وأشخاصا ويرضى عن هؤلاء ويغضب على هؤلاء ويفرح بتوبة التائبين إلى غير ذلك مما أخبر به الرسول فإن هذا هو الإسلام الذي به يشهد العبد أن لا إله إلا الله ومن لم يقل بالفرق فلم يجعل الله معبودا محبوبا فإنما يشهد أن لا رب إلا هو والمشركون كانوا يقرون بهذه الشهادة لم يشهدوا أن لا إله إلا الله والرسل عليهم الصلاة والسلام بعثوا بتوحيد الألوهية المتضمن توحيد الربوبية وأما توحيد الربوبية مجردا فقد كان المشركون يقرون بأن الله وحده خالق السموات والأرض كما أخبر الله بذلك عنهم في

 

 

غير موضع من القرآن قال تعالى ولئن سألتم من خلق السموات والأرض ليقولن الله (سورة الزمر). وقال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (سورة يوسف). وهذا قد بسطناه في موضع آخر وهؤلاء يدعون محبة الله في الإبتداء ويعظمون أمر محبته ويستحبون السماع بالغناء والدفوف والشبابات ويرونه قربة لأن ذلك بزعمهم يحرك محبه الله في قلوبهم وإذا حقق أمرهم وجدت محبتهم تشبه محبة المشركين لا محبة الموحدين فإن محبة الموحدين بمتابعة الرسول والمجاهدة في سبيل الله قال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم (سورة آل عمران). وقال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره (سورة التوبة). وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم (سورة المائدة). وهؤلاء لا يحققون متابعة الرسول ولا الجهاد في سبيل الله بل كثير

 

 

منهم أو أكثرهم يكرهون متابعة الرسول وهم من أبعد الناس عن الجهاد في سبيل الله بل يعاونون أعداءه ويدعون محبته لأن محبتهم من جنس محبة المشركين الذين قال الله فيهم وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية (سورة الأنفال). ولهذا يحبون سماع القصائد أعظم مما يحبون سماع القرآن ويجتهدون في دعاء مشايخهم والإستعانة بهم عند قبورهم وفي حياتهم في مغيبهم أعظم مما يجتهدون في دعاء الله والإستعانة به في المساجد والبيوت وهذا كله من فعل أهل الشرك ليس من فعل المخلصين لله دينهم كالصحابة والتابعين لهم بإحسان فأولئك أنكروا محبته وهؤلاء دخلوا في محبة المشركين والطائفتان خارجتان عن الكتاب والسنة فنفس محبته أصل لعبادته والشرك في محبته أصل الإشراك في عبادته وأولئك فيهم شبه من اليهود وعندهم كبر من جنس كبر اليهود وهؤلاء فيهم شبه من النصارى وفيهم شرك من جنس شرك النصارى والنصارى ضالون لهم عبادة ورحمة ورهبانية لكن بلا علم ولهذا يتبعون أهواءهم بلا علم قال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في

 

 

دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق (سورة النساء). وقال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (سورة المائدة). أي وسط الطريق وهي السبيل القصد الذي قال الله فيها وعلى الله قصد السبيل (سورة النحل). وهي الصراط المستقيم فأخبر بتقدم ضلالهم ثم ذكر صفة ضلالهم والأهواء هي إرادات النفس بغير علم فكل من فعل ما تريده نفسه بغير علم يبين أنه مصلحة فهو متبع هواه والعلم بالذي هو مصلحة العبد عند الله في الآخرة هو العلم الذي جاءت به الرسل قال تعالى فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله (سورة القصص). وقال تعالى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير (سورة البقرة). وقال تعالى فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق (سورة المائدة). وقال تعالى ثم جعلناكم على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (سورة الجاثية).ولهذا كان مشايخ الصوفية العارفون أهل الإستقامة يوصون كثيرا بمتابعة العلم ومتابعة الشرع لأن كثيرا منهم سلكوا في العبادة لله مجرد محبة النفس وإراداتها وهواها من غير اعتصام بالعلم الذي جاء به الكتاب والسنة فضلوا بسبب ذلك ضلالا يشبه ضلال النصارى ولهذا قال بعض الشيوخ وهو أبو عمرو بن نجيد كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل وقال سهل كل عمل بلا اقتداء فهو عيش النفس وكل عمل باقتداء فهو عذاب على النفس وقال أبو عثمان النيسابوري من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق

 

 

بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لأن الله تعالى يقول وإن تطيعوه تهتدوا (سورة النور). وقال بعضهم ما ترك أحد شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه وهو كما قالوا فإنه إذا لم يكن متبعا للأمر الذي جاء به الرسول كان يعمل بإرادة نفسه فيكون متبعا لهواه بغير هدى من الله وهذا عيش النفس وهو من الكبر فإنه شعبة من قول الذين قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله (سورة الأنعام). وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياضته واجتهاده في العبادة وتصفية نفسه إلى ما وصلت إليه الأنبياء من غير اتباع لطريقهم وفيهم طوائف يظنون أنهم صاروا أفضل من الأنبياء وأن الولي الذي يظنون هم أنه الولي أفضل من الأنبياء وفيهم من يقول إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء ويدعي في نفسه أنه خاتم الأولياء ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون إن هذاالوجود المشهود واجب بنفسه ليس له صانع مباين له لكن هذا يقول هو الله وفرعون أظهر الإنكار بالكلية لكن كان فرعون في الباطن أعرف منهم فإن كان مثبتا للصانع وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق كما يقول ذلك ابن عربي وأمثاله من الإتحادية والمقصود ذكر من عدل عن العبادات التي شرعها الرسول إلى عبادات بإرادته وذوقه ووجده ومحبته وهواه وأنهم صاروا في أنواع من الضلال من جنس ضلال النصارى ففيهم من يدعي إسقاط وساطة الأنبياء والوصول إلى الله بغير طريقهم ويدعي ما هو أفضل من النبوة ومنهم من يدعي الإتحاد والحلول الخاص إما لنفسه وإما لشيخه وإما لطائفته الواصلين إلى حقيقة التوحيد بزعمه وهذا قول النصارى والنصارى موصوفون بالغلو وكذلك هؤلاء

 

 

مبتدعة العباد الغلو فيهم وفي الرافضة ولهذا يوجد في هذين الصنفين كثير ممن يدعي إما لنفسه وإما لشيخه الإلهية كما يدعيه كثير من الإسماعيلية لائمتهم بني عبيد وكما يدعيه كثير من الغالية إما للاثنى عشر وإما لغيرهم من أهل البيت ومن غير أهل البيت كما تدعيه النصيرية وغيرهم وكذلك في جنس المبتدعة الخارجين عن الكتاب والسنة من أهل التعبد والتأله والتصوف منهم طوائف من الغلاة يدعون الإلهية ودعوى ما هو فرق النبوة وإن كان متفلسفا يجوز وجود نبي بعد محمد كالسهروردي المقتول في الزندقة وابن سبعين وغيرهما صاروايطلبون النبوة بخلاف ما أقر بما جاء به الشرع ورأى أن الشرع الظاهر لا سبيل إلى تغييره فإنه يقول النبوة ختمت لكن الولاية لم تختم ويدعي من الولاية ما هو أعظم من النبوة وما يكون للأنبياء والمرسلين وأن الأنبياء يستفيدون منها ومن هؤلاء من يقول بالحلول والإتحاد وهم في الحلول والإتحاد نوعان نوع يقول بالحلول والإتحاد العام المطلق كابن عربي وأمثاله ويقولون في النبوة إن الولاية أعظم منها كما قال ابن عربيمقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولى وقال ابن عربي في القصوص وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأنبياء وما يراه أحد من الأنبياء إلا من مشكاة خاتم الأنبياء وما يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة خاتم الأولياء حتى أن الرسل إذا رأوه لا يرونه إذا رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فإن الرسالة والنبوة أعنى رسالة التشريع ونبوته تنقطعان وأما الولاية فلا تنقطع أبدا فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف بمن دونهم من الأولياء وإن كان

 

 

خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه فإنه من وجه يكون أنزل ومن وجه يكون أعلى قال ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم البوة بالحائط من اللبن فرآها قد كملت إلا موضع لبنة فكان هو صلى الله عليه وسلم موضع اللبتة وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا فيرى ما مثله النبي صلى الله عليه وسلم ويرى نفسه في الحائط موضع لبنتين ويرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين فيكمل الحائط والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أن الحائط لبنة من ذهبولبنة من فضة واللبنة الفضة هي ظاهرة وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله في السر ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول قال فإن فهمت ما أشرنا إليه فقد حصل لك العلم النافع قلت وقد بسطنا الرد على هؤلاء في مواضع وبينا كشف ما هم عليه من الضلال والخيال والنفاق والزندقة وأما الذين يقولون بالإتحاد الخاص فهؤلاء منهم من يصرح بذلك وأما من كان عنده علم بالنصوص الظاهرة ورأى أن هذا يناقض ما عليه المسلمون في الظاهر فإنه يجعل هذا مما يشار إليه ويرمز به ولا يباح به ثم إن كان معظما للرسول والقرآن ظن أن الرسول كان يقول بذلك لكنه لم يبح به لأنه مما لا يمكن البشر أن يبوحوا به وإن كان

 

 

غير معظم للرسول زعم أنه تعدى حد الرسول وهذا الضلال حدث قديما من جهال العباد ولهذا كان العارفون كالجنيد بن محمد سيد الطائفة قدس الله روحه لما سئل عن التوحيد قال التوحيد إفراد الحدوث عن القدم فإنه كان عارفا ورأى أقواما ينتهي بهم الأمر إلى الإتحاد فلا يميزون بين القديم والمحدث وكان أيضا طائفة من أصحابه وقعوا في الفناء في توحيد الربوبية الذي لا يميز فيه بين المأمور والمحظور فدعاهم الجنيد إلى الفرق الثاني وهو توحيد الإلهية الذي يميز فيه بين المأمور والمحظور فمنهم من وافقه ومنهم من خالفه ومنهم لم يفهم كلامه وقد ذكر بعض ما جرى من ذلك أبو سعيد بن الأعرابي في طبقاتالنساك وكان من أصحاب الجنيد ومن شيوخ أبي طالب المكي كان من أهل العلم بالحديث وغيره ومن أهل المعرفة بأخبار الزهاد وأهل الحقائق وهذا الذي ذكره الجنيد من الفرق بين القديم والمحدث والفرق بين المأمور والمحظور بهما يزول ما وقع فيه كثير من الصوفية من هذا الضلال ولهذا كان الضلال منهم يذمون الجنيد على ذلك كابن عربي وأمثاله فإن له كتابا سماه الإسرا إلى المقام الأسرى مضمونه حديث نفس ووساوس شيطان حصلت في نفسه جعل ذلك معراجا كمعراج الأنبياء وأخذ يعيب على الجنيد وعلى غيره من الشيوخ ما ذكروه وعاب على الجنيد قوله التوحيد إفراد الحدوث عن القدم وقال قلت له يا جنيد ما يميز بين الشيئين إلا من كان خارجا عنهما وأنت إما

 

 

قديم أو محدث فكيف تميز وهذا جهل منه فإن المميز بين الشيئين هو الذي يعرف أن هذا غير هذا ليس من شرطه أن يكون ثالثا بل كل إنسان يميز بين نفسه وبين غيره وليس هو ثالثا والرب سبحانه يميز نفسه وبين غيره وليس هناك ثالث وهذا الذي ذمه الجنيد رحمه الله وأمثاله من الشيوخ العارفين وقع فيه خلق كثير حتى من أهل العلم بالقرآن وتفسيره والحديث والآثار ومن المعظمين لله ورسوله باطنا وظاهرا المحبين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذابين عنها وقعوا في هذا غلطا لا تعمدا وهم يحسبون أن هذا نهاية التوحيد كما ذكر ذلك صاحب منازل السائرينمع علمه وسنته ومعرفته ودينه وقد ذكر في كتابه منازل السائرين أشياء حسنة نافعة وأشياء باطلة ولكن هو فيه ينتهي إلى الفناء في توحيد الربوبية ثم إلى التوحيد الذي هو حقيقة الإتحاد ولهذا قال باب التوحيد قال الله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو (سورة آل عمران). التوحيد تنزيه الله عن الحدث قال وإنما نطق العلماء بما نطقوا به وأشار المحققون إلى ما أشاروا إليه في هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد وما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب العلل

 

 

قال والتوحيد على ثلاثة أوجه الأول توحيد العامة الذي يصح بالشواهد والثاني توحيدالخاصة وهو الذي يثبت بالحقائق والوجه الثالث توحيد قائم بالقدم وهو توحيد خاصة الخاصة فأما التوحيد الأول فهو شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد هذا هو التوحيد الظاهر الجلي الذي نفى الشرك الأعظم وعليه نصبت القبلة وبه وجبت الذمة وبه حقنت الدماء والأموال وانفصلت دار الإسلام من دار الكفر وصحت به الملة للعامة وإن لم يقوموا بحسن الإستدلال بعد أن سلموا من الشبهة والحيرة والريبة بصدق شهادة صححها قبول القلب هذا توحيد العامة الذي يصح بالشواهد والشواهد هي الرسالة والصنائع تجب بالسمع وتوجد بتبصير الحق وتنمو على مشاهدة الشواهدقال وأما التوحيد الثاني الذي يثبت بالحقائق فهو توحيد الخاصة وهو إسقاط الأسباب الظاهرة والصعود عن منازعات العقول وعن التعلق بالشواهد وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا ولا في التوكل سببا ولا في النجاة وسيلة فيكون مشاهدا سبق الحق بحكمه وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها وتعليقه إياها بأحايينها وإخفائه إياها في رسومها ويحقق معرفة العلل ويسلك سبيل إسقاط الحدث هذا توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء ويصفو في علم الجمع ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع قال وأما التوحيد الثالث فهو توحيد اختصه الحق لنفسه

 

 

واستحقه بقدره وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه والذي يشار به إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث وإثبات القدم على أن هذا الرمز في ذلك التوحيد علة لا يصح ذلك التوحيد إلا بإسقطها هذا قطب الإشارة إليه على ألسن علماء أهل هذا الطريق وإن زخرفوا له نعوتا وفصلوه فصولا فإن ذلك التوحيد تزيده العبارة خفاء والصفة نفورا والبسط صعوبة وإلى هذا التوحيد شخص أهل الرياضة وأرباب الأحوال وإليه قصد أهل التعظيم وإياه عنى المتكلمون في عين الجمع وعليه تصطلم الإشارات ثم لم ينطق عنه لسان ولم تشر إليه عبارة فإن التوحيد وراء ما يشير إليه مكون أو يتعاطاه خبر أو يقله سبب قال وقد أجبت في سالف الدهر سائلا سألني عن توحيد الصوفيةبهذه القوافي الثلاث ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لأحد قلت وقد بسطت الكلام على هذا وأمثاله في غير هذا الموضع لكن ننبه هنا على ما يليق بهذا الموضع فنقول أما التوحيد الأول الذي ذكره فهو التوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وبه بعث الله الأولين والآخرين من الرسل قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون (سورة الزخرف). وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة (سورة النحل). وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (سورة الأنبياء). وقد أخبر الله تعالى عن كل من الرسل مثل نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم أنهم قالوا لقومهم آعبدوا الله مالكم من إله غيره وهذا أول دعوة الرسل وآخرها

 

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أيضا من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة وقال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الحنة والقرآن كله مملوء من تحقيق هذا التوحيد والدعوة إليه وتعليق النجاة والفلاح واقتضاء السعادة في الآخرة به ومعلوم أن الناس متفاضلون في تحقيقه وحقيقته إخلاص الدين كله لله والفناء في هذا التوحيد مقرون بالبقاء وهو أن تثبت إلاهية الحق في قلبك وتنفي إلاهية ما سواه فتجمع بين النفي والإثبات فتقول لا إله إلا الله فالنفي هو الفناء والإثبات هو البقاء وحقيقته أن تفنى بعبادته عما سواه ومحبته عن محبة ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وبموالاته عن موالاة ما سواه وبسؤاله عن سؤال ما سواه وبالإستعاذه به عن الإستعاذة بما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل علىما سواه وبالتفويض إليه عن التفويض إلى ما سواه وبالإنابة إليه عن الإنابة إلى ما سواه وبالتحاكم إليه عن التحاكم إلى ما سواه وبالتخاصم إليه عن التخاصم إلى ما سواه وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قام يصلي من الليل وقد روي أنه كان يقوله بعد التكبير اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وقال تعالى قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم سورة الآنعام

 

 

وقال أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا سورة الآنعام وقال أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين (سورة الزمر). وقال تعالى قل إنني هداني ربي إلي صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها (سورة الأنعام). وهذا التوحيد كثير في القرآن وهو أول الدين وآخره وباطن الدين وظاهره وذروة سنام هذا التوحيد لأولى العزم من الرسل ثم للخليلين محمد وإبراهيم صلى الله عليهما وسلم تسليما فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلاوأفضل الرسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم إبراهيم فإنه قد ثبت في الصحيح عنه أنه قال عن خير البرية إنه إبراهيم وهو الإمام الذي جعله الله إماما وجعله أمة والأمة القدوة الذي يقتدى به فإنه حقق هذا التوحيد وهو الحنيفية ملته قال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شئ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر (سورة الممتحنة). وقال تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا

 

 

الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون (سورة الزخرف). وقال عن إبراهيم أنه قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شئ علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (سورة الأنعام). وقال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين (سورة الشعراء). والخليل هو الذي تخللت محبة خليله قلبه فلم يكن فيه مسلك لغيره كما قيل قد تخللت مسلك الروحى منى وبذا سمى الخليل خليلا وقد قيل إنه مأخوذ من الخليل وهو الفقير مشتق من الخلة بالفتح كما قيلوإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم والصواب أنه من الأول وهو مستلزم للثاني فإن كمال حبه لله هو محبة عبودية وافتقار ليست كمحبة الرب لعبده فإنها محبة استغناء وإحسان ولهذا قال تعالى وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا سورة الاسراء فالرب لا يوالي عبده من ذل كما يوالي المخلوق لغيره بل يواليه إحسانا إليه والولي من الولاية والولاية ضد العداوة وأصل الولاية الحب وأصل العداوة البغض وإذا قيل هو مأخوذ من الولي وهو القرب فهذا جزء معناه فإن الولي يقرب إلى وليه والعدو يبعد عن عدوه ولما كانت الخلة تستلزم كمال المحبة واستيعاب القلب لم يصلح للنبي صلى الله عليه وسلم أن يخالل مخلوقا بل قال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله

 

 

ولهذا امتحن الله إبراهيم بذبح ابنه والذبيح على القول الصحيح ابنه الكبير إسماعيل كما دلت على ذلك (سورة الصافات). وغير ذلك فإنه قد كان سأل ربه أن يهب له من الصالحين فبشره بالغلام الحليم إسماعيل فلما بلغ معه السعي أمره أن يذبحه لئلا يبقى في قلبه محبة مخلوق تزاحم محبة الخالق إذ كان قد طلبه وهو بكره وكذلك في التوراة يقول اذبح ابنك وحيدك وفي ترجمة أخرى بكرك ولكن ألحق المبدلون لفظ إسحاق وهو باطل فإن إسحاق هو الثاني من أولاده باتفاق المسلمين وأهل الكتاب فليس هو وحيده ولا بكره وإنما وحيده وبكره إسماعيل ولهذا لما ذكر الله قصة الذبيح في القرآن قال بعد هذا وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين (سورة الصافات). وقال في الآية الأخرى فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (سورة هود). فكيف يبشره بولد ثم يأمره بذبحه والبشارة بإسحاق وقعت لسارة وكانت قد غادرت من هاجر لما ولدت إسماعيل وأمر الله إبراهيم أن يذهب بإسماعيل وأمه إلى مكة ثم لما جاء الضيف وهم الملائكة لإبراهيم بشروها بإسحاق فكيف يأمره بذبح إسحاق مع بقاء إسماعيل وهي لم تصبر على وجود إسماعيل وحده بل غارت أن يكون له ابنمن غيرهما فكيف تصبر على ذبح ابنها وبقاء ابن ضرتها وكيف يأمر الله إبراهيم بذبح ابنه وأمه مبشرة به وبابن ابنه يعقوب وأيضا فالذبح إنما كان بمكة وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قرني الكبش في البيت فقال للحاجب إني رأيت قرني الكبش في الكعبة فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في الكعبة شيء يلهي المصلي وإبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا الكعبة بنص القرآن وإسحاق كان في الشام والمقصود بالأمر بالذبح أن لا يبقى في قلبه محبة لغير الله تعالى وهذا إذا كان له ابن واحد فإذا صار له ابنان فالمقصود لا

 

 

يحصل إلا بذبحهما جميعا وكل من قال إنه إسحاق فإنما أخذه عن اليهود أهل التحريف والتبديل كما أخبر الله تعالى عنهم وقد بسطنا هذه المسألة في مصنف مفرد والمقصود هنا أن الخليلين هما أكمل خاصة الخاصة توحيدا فلا يجوز أن يكون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من هو أكمل توحيدا من نبي من الأنبياء فضلا عن الرسل فضلا عن أولي العزم فضلا عن الخليلين وكمال توحيدهما بتحقيق إفراد الألوهية وهو أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلا بل يبقى العبد مواليا لربه في كل شيء يحب ما أحب ويبغض ما أبغض ويرضى بما رضي ويسخط بما سخط ويأمر بما أمر وينهى عما نهى وأما التوحيد الثاني الذي ذكره وسماه توحيد الخاصة فهو الفناء في توحيد الربوبية وهو أن يشهد ربوبية الرب لكل ما سواه وأنه وحده رب كل شيء ومليكه والفناء إذا كان في توحيد الألوهية وهو أنيستولي على القلب شهود معبوده وذكره ومحبته حتى لا يحس بشيء آخر مع العلم بثبوت ما أثبته الحق من الأسباب والحكم وعبادته وحده لا شريك له بالأمر والنهي ولكن غلب على القلب شهود الواحد كما يقال غاب بموجوده عن وجوده وبمعبوده عن عبادته وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته كما يذكر أن رجلا كان يحب آخر فوقع المحبوب في اليم فألقى المحب نفسه خلفه فقال له أنا وقعت فلماذا وقعت أنت فقال غبت بك عني فظننت أن أني فصاحب هذا الفناء إذا غلب في ذلك فهو معذور لعجزه عند غلبة ذكر الرب على قلبه عن شعوره بشئ آخر كما يعذر من سمع الحق فمات أو غشي عليه وكما عذر موسى صلى الله عليه وسلم لما صعق حين تجلى ربه للجبل وليس هذا الحال غاية السالكين ولا لازما لكل سالك ومن الناس من يظن أنه لا بد لكل سالك منه وليس كذلك فنبينا صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون هم أفضل وما أصاب أحدا منهم هذا الفناء ولا صعق ولا موت عند سماع القرآن وإنما تجد هذا الصعق في التابعين لا سيما في عباد البصريين

 

 

ومن الناس من يجعل هذا الفناء هو الغاية التي ينتهي إليها سير العارفين وهذا أضعف من الذي قبله وما يذكر عن أبي يزيد البسطامي من قوله ما في الجبة إلا الله وقوله أين أبو يزيد أنا أطلب أبا يزيد منذ كذا وكذا سنة ونحو ذلك فقد حملوه على أنه كان من هذا الباب ولهذا يقال عنه إنه كان إذا أفاق أنكر هذا فهذا ونحوه كفر لكن إذا زال العقل بسبب يعذر فيه الإنسان كالنوموالإغماء لم يكن مؤاخذا بما يصدر عنه في حال عدم التكليف ولا ريب أن هذا من ضعف العقل والتمييز وأما الفناء الذي يذكره صاحب المنازل فهو الفناء في توحيد الربوبية لا في توحيد الإلهية وهو يثبت توحيد الربوبية مع نفي الأسباب والحكم كما قول القدرية المجبرة كالجهم بن صفوان ومن اتبعه والأشعري وغيره وشيخ الإسلام وإن كان رحمه الله من أشد الناس مباينة للجهمية في الصفات وقد صنف كتابه الفاروق في الفرق بين المثبتة والمعطلة وصنف كتاب تكفير الجهمية وصنف كتاب ذم الكلام وأهله وزاد في هذا الباب حتى صار يوصف بالغلو في الإثبات للصفات لكنه في القدر على رأي الجهمية نفاة الحكم والأسباب

 

 

والكلام في الصفات نوع والكلام في القدر نوع وهذا الفناء عنده لا يجامع البقاء فإنه نفي لكل ما سوى حكم الرب بإرادته الشاملة التى تخصص أحد المتماثلين بلا مخصص ولهذا قال في باب التوبة في لطائف أسرار التوبة اللطيفة الثالثة أن مشاهدة العبد الحكم لم تدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم أي الحكم القدري وهو خلقه لكل شئ بقدرته وإرادته فإن من لم يثبت في الوجود فرقا بالنسبة إلى الرب بل يقول كل ما سواه محبوب له مرضي له مراد له سواء بالنسبة إليه ليس يحب شيئا ويبغض شيئا فإن مشاهدة هذا لا يكون معها استحسان حسنة ولا استقباح سيئة بالنسبة إلى الرب إذ الإستحسان والإستقباح على هذا المذهب لا يكون إلا بالنسبة إلى العبد يستحسن ما يلائمه ويستقبح ما ينافيه وفي عين الفناء لا يشهد نفسه ولا غيره بل لا يشهد إلا فعل ربه فعند هده المشاهدة لا يستحسن شيئا ويستقبح آخر على قول هؤلاء القدرية الجبرية المتبعين لجهم بن صفوان وأمثاله وهؤلاء وافقوا القدرية في أن مشيئة الرب وإرادته ومحبته ورضاه سواء ثم قالت القدرية النفاة وهو لا يحب الكفر والفسوق والعصيان فهو لا يريده ولا يشاؤه فيكون في ملكه ما لا يشاء

 

 

وقالت الجهمية المجبرة بل هو يشاء كل شيء فهو يريده ويحبه ويرضاه وأما السلف وأتباعهم فيفرقون بين المشيئة والمحبة وأما الإرادة فتكون تارة بمعنى المشيئة وتارة بمعنى المحبة وقد ذكر الأشعري القولين عن أهل السنة المثبتين للقدر قول من فرق بين المحبة والرضا وقول من سوى بينهما واختار هو التسوية وأبو المعالي يقول إن أبا الحسن أول من سوى بينهما لكني رأيته في الموجز قد حكى قوله عن سليمان بن حرب وعن ابن كلاب وعن الكرابيسي وعن داود بن علي وكذلك ابن عقيل يقول أجمع المسلمون على أن الله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان ولم يقل إنه يحبه غير الأشعري وأما القاضي أبو يعلى فهو في المعتمد يوافق الأشعري وفي مختصره ذكر القولين وذكر في المعتمد قول أبي بكر عبد العزيز أنه يقول بالفرق وتأول كلام أبي بكر بتأويل باطل لكن أهل الملل كلهم متفقون على أن الله يثيب على الطاعات ويعاقب على المعاصي وإن كانت المشيئة شامله للنوعين فهم يسلمون الفرق بالنسبة إلى العباد والمدعون للمعروفة والحقيقة والفناء فيهما يطلبون أن لا يكون لهم مراد بل يريدون ما يريد الحق تعالى فيقولون الكمال أن تفنى عن إرادتك وتبقى مع إرادة ربك وعندهم أن جميع الكائنات بالنسبة إلى

 

 

الرب سواء فلا يستحسنون حسنة ولا يستقبحون سيئة وهذا الذي قالوه ممتنع عقلا محرم شرعا ولكن المقصود هنا بيان قولهم ولهذا قال شيخ الإسلام في توحيدهم وهو التوحيد الثاني إنه إسقاط الأسباب الظاهرة فإن عندهم لم يخلق الله شيئا بسبب بل يفعل عنده لا به قال والصعود عن منازعات العقول وعن التعلق بالشواهد وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا ولا في التوكل سببا ولا في النجاة وسيلة وذلك لأن عندهم ليس في الوجود شيء يكون سببا لشيء أصلا ولا شيء جعل لأجل شيء ولا يكون شيء بشيئ فالشبع عندهم لا يكون بالأكل ولا العلم الحاصل في القلب بالدليل ولا ما يحصل للمتوكل من الرزق والنصر له سبب أصلا لا في نفسه ولا في نفس الأمر ولا الطاعات عندهم سبب للثواب ولا المعاصي سبب للعقاب فليس للنجاة وسيلة بل محض الإرادة الواحدة يصدر عنها كل حادث ويصدر مع الآخر مقترنا به اقترانا عاديا لا أن أحدهما معلق بالآخر أو سبب له أو حكمة له ولكن لأجل ما جرت به العادة من اقتران أحدهما بالآخر يجعل أحدهما أمارة وعلما ودليلا على الآخر بمعنى أنه إذا وجد أحد المقترنين عادة كان الآخر موجودا معه وليس العلم الحاصل في القلب حاصلا بهذا الدليل بل هذا أيضا من جملة الإقترانات العادية

 

 

ولهذا قال فيكون مشاهدا سبق الحق بحكمه وعلمه أى يشهد أنه علم ما سيكون وحكم به أي أراده وقضاه وكتبه وليس عندهم شيء إلا هذا وكثير من أهل هذا المذهب يتركون الأسباب الدنيوية ويجعلون وجود السبب كعدمه ومنهم قوم يتركون الأسباب الأخروية فيقولون إن سبق العلم والحكم أنا سعداء فنحن سعداء وإن سبق أنا أشقياء فنحن أشقياء فلا فائدة في العمل ومنهم من يترك الدعاء بناء على هذا الأصل الفاسد ولا ريب أن هذا الأصل الفاسد مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وأئمة الدين ومخالف لصريح المعقول ومخالف للحس والمشاهدة وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن إسقاط الأسباب نظرا إلى القدر فرد ذلك كما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار قالوا يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب فقال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق لهوفي الصحيح أيضا أنه قيل له يا رسول الله أرأيت ما يكدح الناس فيه اليوم ويعملون أشيء قضى عليهم ومضى أم فيما يستقبلون مما أتاهم فيه الحجة فقال بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم قالوا يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على كتابنا فقال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا فقال هي من قدر الله وقد قال تعالى في كتابه وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات سورة الآعراف

 

 

وقال وما أنزل الله من المساء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها (سورة الجاثية). وقال قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم (سورة التوبة). وقال ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا (سورة التوبة). وقال يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين (سورة البقرة). وقال يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام (سورة المائدة). وقال وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم (سورة الشورى). وقال ولكل قوم هاد (سورة الرعد). فكيف لا يشهد الدليل قال وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم (سورة الزمر). وقال إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم (سورة يونس). وقال والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ (سورة الطور). وقال كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم (سورة إبراهيم). وقال كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية (سورة الحاقة).

 

 

وقال ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون (سورة النحل). وقال إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا (سورة الأنفال). وقال ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب (سورة الطلاق). وقال فبما رحمة من الله لنت لهم سورة آلعمران وقال فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل (سورة النساء). وقال فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين (سورة الأنعام). وقال فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار (سورة المائدة). وقال وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا سورة الإنسان وقال إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب (سورة آل عمران). وقال إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون (سورة البقرة). وأمثال ذلك في القرآن كثيروفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد عسى أن تخلف فينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون فكيف يمكن أن يشهد أن الله لم ينصب على توحيده دليلا ولا جعل للنجاة من عذابه وسيلة ولا جعل لما يفعله المتوكل من عباده سببا وهو مسبب الأسباب وخالق كل شيء بسبب منه لكن الأسباب كما قال فيها أبو حامد وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهما الإلتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا تغيير في وجه العقل والأعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع والتوكل معنى يلتئم من معنى التوحيد والعقل والشرع فالموحد المتوكل لا يلتفت إلى الأسباب بمعنى أنه لا يطمئن إليها

 

 

ولا يثق بها ولا يرجوها ولا يخافها فإنه ليس في الوجود سبب يستقل بحكم بل كل سبب فهو مفتقر إلى أمور أخرى تضم إليه وله موانع وعوائق تمنع موجبه وما ثم سبب مستقل بالإحداث إلا مشيئة الله وحده فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وما شاء خلقه بالأسباب التي يحدثها ويصرف عنه الموانع فلا يجوز التوكل إلا عليه كما قال تعالى إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون (سورة آل عمران). وما سبق من علمه وحكمه فهو حق وقد علم وحكم بأن الششيء الفلاني يحدثه هو سبحانه بالسبب الفلاني فمن نظر إلى علمه وحكمه فليشهد الحدوث بما أحدثه وإذا نظر إلى الحدوث بلا سبب منه لم يكن شهوده مطابقا لعلمه وحكمه فمن شهد أن الله تعالى خلق الولد لا من أبوين لسبق علمه وحكمه فهذا شهوده عمى بل يشهد أن الله تبارك وتعالى سبق علمه وحكمه بأن يخلق الولد من الأبوين والأبوان سبب في وجوده فكيف يجوز أن يقال إنه سبق علمه وحكمه بحدوثه بلا سبب وإذا كان علمه وحكمه قد أثبت السبب فكيف أشهد الأمور بخلاف ما هي عليه في علمه وحكمه والعلل التي تنفي نوعان أحدهما أن تعتمد على الأسباب وتتوكل عليها وهذا شرك محرم والثاني أن تترك ما أمرت به من الأسباب

 

 

وهذا أيضا محرم بل عليك أن تعبده بفعل ما أمرك به من الأسباب وعليك أن تتوكل عليه في أن يعينك على ما أمرك به وأن يفعل هو ما لا تقدر أنت عليه بدون سبب منك فليست العلة إلا ترك ما أمرك به الرب أمر إيجاب أو استحباب ومن فعل ما أمر به كما أمر به فليس عنده علة ولكن قد يجهل حقيقة ما أمر به كما أمر به فيكون منه علة وقول القائل يسلك سبيل إسقاط الحدث إن أراد أنى أعتقد نفي حدوث شئ فهذا مكابرة وتكذيب بخلق الرب وجحد للصانع وإن أراد أنى أسقط الحدث من قلبي فلا أشهد محدثا وهو مرادهم فهذا خلاف ما أمرت به وخلاف الحق بل قد أمرت أن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأشهد حدوث المحدثات بمشيئته بما خلقه من الأسباب ولما خلقه من الحكم وما أمرت أن لا أشهد بقلبي حدوث شئ قط وقول القائل يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل إن أراده أنهيبقى على الوجه المأمور به بحيث يشهد أن الحق هو المحدث لكل ما سواه بما أحدثه من الأسباب ولما أراده من الحكمة فهذا حق وإن أراد أنى لا أشهد قط مخلوقا بل لا أشهد إلا القديم فقط فهذا نقص في الإيمان والتوحيد والتحقيق وهذا من باب الجهل والضلال وهذا إذا غلب على قلب العبد كان معذورا أما أن يكون هذا مما أمر الله به ورسوله فهذا خلاف الكتاب والسنة والإجماع ولما كان هذا مرادهم قال هذا توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء ويصفو في علم الجمع ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع فإن المراد بالجمع أن يشهد الأشياء كلها مجتمعة في خلق الرب ومشيئته وأنها صادرة بإرادته لا يرجح مثلا عن مثل فلا يفرق بين مأمور ومحظور وحسن وقبيح وأولياء الله وأعدائه والوقوف عند هذا الجمع هو الذي أنكره الجنيد وغيره من أئمة طريق أهل الله أهل الحق فإنهم أمروا بالفرق الثاني وهو أن يشهد مع هذا الجمع أن الرب فرق بين ما أمر به وبين ما نهى عنه فأحب هذا

 

 

وأبغض هذا وأثاب على هذا وعاقب على هذا فيحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ويشهد الفرق في الجمع والجمع في الفرق لا يشهد جمعا محضا ولا فرقا محضا وأما قوله ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع فسيأتي وهؤلاء شربوا من العين التي شرب منها نفاة القدر فإن أولئك الذين قالوا الأمر أنف قالوا إذا سبق علمه وحكمه بشيء امتنع أن يأمر بخلافه ووجب وجوده وفي ذلك إبطال الأمر والنهي لكن أولئك كانوا معظمين للأمر والنهي فظنوا أن إثبات ما سبق من العلم والحكم ينافيه فأثبتوا الشرع ونفوا القدر وهؤلاء اعتقدوا ذلك أيضا لكن أثبتوا القدر ونفوا عمن شاهده أن يستحسن حسنة يأمر بها أو يستقبح سيئة ينهى عنها فأثبتوا القدر وأبطلوا الشرع عمن شاهد القدر وهذا القول أشد منافاة لدين الإسلام من قول نفاة القدر قال وأما التوحيد الثالث فهو توحيد اختصه الحق لنفسه واستحقه بقدره إلى آخر كلامه وقد تقدم حكايته فهؤلاء هم الذين أنكر عليهم أئمة الطريق كالجنيد وغيره حيث لم يفرقوا بين القديم والمحدث وحقيقة قول هؤلاء الإتحاد والحلول الخاص من جنس قول النصارى في المسيح وهو أن يكون الموحد هو الموحد ولا يوحد

 

 

الله إلا الله وكل من جعل غير الله يوحد الله فهو جاحد عندهم كما قال ما وحد الواحد من واحد أي من واحد غيره إذ كل من وحده جاحد فإنه على قولهم هو الموحد والموحد ولهذا قال توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد يعني إذا تكلم العبد بالتوحيد وهو يرى أنه المتكلم فإنما ينطق عن نعت نفسه فيستعير ما ليس له فيتكلم به وهذه عارية أبطلها الواحد ولكن إذا فنى عن شهود نفسه وكان الحق هو المتكلم على لسانه حيث فنى من لم يكن وبقي من لم يزل فيكون الحق هو الناطق بنعت نفسه لا بنعت العبد ويكون هو الموحد وهو الموحد ولهذا قال توحيده إياه توحيده أي توحيد الحق إياه أي نفسه هو توحيده هو لا توحيد المخلوقين له فإن لا يوحده عندهم مخلوق بمعنى أنه هو الناطق بالتوحيد على لسان خاصته ليس الناطق هو المخلوق كما يقوله النصارى في المسيح إن اللاهوت تكلم بلسان الناسوت وحقيقة الأمر أن كل من تكلم بالتوحيد أو تصوره وهو يشهد غير الله فليس بموحد عندهم وإذا غاب وفنى عن نفسه بالكلية فتم له مقام توحيد الفناء الذي يجذبه إلى توحيد أرباب الجمع صار الحق هو

 

 

الناطق المتكلم بالتوحيد وكان هو الموحد وهو الموحد لا موحد غيره وحقيقة هذا القول لا يكون إلا بأن يصير الرب والعبد شيئا واحدا وهو الإتحاد فيتحد اللاهوت والناسوت كما يقول النصارى إن المتكلم بما كان يسمع من المسيح هو الله وعندهم أن الذين سمعوا منه هم رسل الله وهم عندهم أفضل من إبراهيم وموسى ولهذا تكلم بلفظ اللاهوت والناسوت طائفة من الشيوخ الذين وقعوا في الإتحاد والحلول مطلقا ومعينا فكانوا ينشدون قصيدة ابن الفارض ويتحلون بما فيها من تحقيق الإتحاد العام ويرون كل ما في الوجود هو مجلي ومظهر ظهر فيه عين الحق وإذا رأى أحدهم منظرا حسنا أنشد يتجلى في كل طرفة عين بلباس من الجمال جديد وينشد الآخر هيهات يشهد ناظري معكم سوى إذا أنتم عين الجوارح والقوى وينشد الثالث أعاين في كل الوجود جمالكم وأسمع من كل الجهات نداكموتلتذ إن مرت على جسدي يدى لأني في التحقيق لست سواكم ولما كان ظهور قول النصارى بين المسلمين مما يظهر أنه باطل لم يمكن أصحاب هذا الإتحاد أن يتكلموا به كما تكلمت به النصارى بل صار عندهم مما يشهد ولا ينطق به وهو عندهم من الأسرار التي لا يباح بها ومن باح بالسر قتل وقد يقول بعضهم إن الحلاج لما باح بهذا السر وجب قتله ولهذا قال هو توحيد اختصه الحق لنفسه واستحقه بقدره وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه فيقال أما توحيد الحق نفسه بنفسه وهو علمه بنفسه وكلامه الذي يخبر به عن نفسه كقوله شهد الله أنه لا إله إلا هو (سورة آل عمران). وقوله إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني (سورة طـــه). فذاك صفته القائمة به كما تقوم به سائر صفاته من حياته وقدرته وغير ذلك وذلك لا يفارق ذات الرب وينتقل إلى غيره أصلا كسائر صفاته بل صفات المخلوق لا تفارق ذاته وتنتقل إلى غيره فكيف بصفات الخالق

 

 

ولكن هو سبحانه ينزل على أنبيائه من علمه وكلامه ما أنزله كما أنزل القرآن وهو كلامه على خاتم الرسل وقد قال سبحانه شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم (سورة آل عمران). فهو سبحانه يشهد لنفسه بالوحدانية والملائكة يشهدون وأولوا العلم من عباده يشهدون والشهادات متطابقة متوافقة وقد يقال هذه الشهادة هي هذه بمعنى أنها نوعها وليس نفس صفة المخلوق هي نفس صفة الخالق ولكن كلام الله الذي أنزله على رسوله هو القرآن الذي يقرؤه المسلمون وهو كلامه سبحانه مسموعا من المبلغين له ليس تلاوة العباد له وسماع بعضهم من بعض بمنزلة سمع موسى له من الله بلا واسطة فإن موسى سمع نفس كلام الرب كما يسمع كلام المتكلم منه كما يسمع الصحابة كلام الرسول منه وأما سائر الناس فسمعوه مبلغا عن الله كما يسمع التابعون ومن بعدهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم مبلغا عنه ولهذا قال لرسوله بلغ ما أنزل إليك من ربك (سورة المائدة). وقال ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم (سورة الجن). وقال النبي صلى الله عليه وسلم بلغوا عني ولو آية وقالنضر الله أمرا سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وقال ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي وقول القائل وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه فيقال أفضل صفوته هم الأنبياء وأفضلهم الرسل وأفضل الرسل أولو العزم وأفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم وما ألاحه الله على أسرار هؤلاء فهو أكمل توحيد عرفه العباد وهم قد تكلموا بالتوحيد ونعتوه وبثوه وما يقدر أحد قط أن ينقل عن نبي من الأنبياء ولا

 

 

وارث نبي أنه يدعي أنه يعلم توحيدا لا يمكنه النطق به بل كل ما علمه القلب أمكن التعبير عنه لكن قد لا يفهمه إلا بعض الناس فأما أن يقال إن محمدا صلى الله عليه وسلم عاجز عن أن يبين ما عرفه الله من توحيده فهذا ليس كذلك ثم يقال إن أريد بهذا اللائح أن يكون الرب نفسه هو الموحد لنفسه في قلوب صفوته لاتحاده بهم أو حلوله فيهم فهذا قول النصارى وهو باطل شرعا وعقلا وإن أريد أنه يعرف صفوته من توحيده ومعرفته والإيمان به ما لا يعرفه غيرهم فهذا حق لكن ما قام بقلوبهم ليس هو نفس الرب الخالق تعالى بل هو العلم به ومحبته ومعرفته وتوحيده وقد يسمى المثل الأعلى ويفسر به قوله تعالى وله المثل الأعلى في السموات والأرض (سورة الروم). أي في قلوب أهل السموات والأرض ويقال له المثال الحبي والمثال العلمي وقد يخيل لناقص العقل إذا أحب شخصا محبة تامة بحيث فني في حبه حتى لا يشهد في قلبه غيره أن نفس المحبوب صار في قلبه وهو غالط في ذلك بل المحبوب في موضع آخر إما في بيته وإما في المسجد وإما فيموضع آخر ولكن الذي في قلبه هو مثاله وكثيرا ما يقول القائل أنت في قلبي وأنت في فؤادي والمراد هذا المثال لأنه قد علم أنه لم يعن ذاته فإن ذاته منفصلة عنه كما يقال أنت بين عيني وأنت دائما على لساني كما قال الشاعر مثالك في عبني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فكيف تغيب وقال آخر ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره فجعله ساكنا عامرا للقلب لا ينسى ولم يرد أن ذاته حصلت في قلبه كما يحصل الإنسان الساكن في بيته بل هذا الحاصل هو المثال العلمي وقال آخر ومن عجب أني احن إليهم وأسأل عنهم من لقيت وهم معي وتطلبهم عيني وهم في سوادها ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي ومن هذا الباب قول القائل القلب بيت الرب وما يذكرونه في الإسرائيليات من قوله ما وسعتني أرضى ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الورع اللين فليس المراد أن الله

 

 

نفسه يكون في قلب كل عبد بل في القلب معرفته ومحبته وعبادته والنائم يرى في المنام إنسانا يخاطبه ويشاهده ويجري معه فصولا وذلك المرئي قاعد في بيته أو ميت في قبره وإنما رأى مثاله وكذلك يرى في المرآة الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من المرئيات ويراها تكبر بكبر المرأة وتصغر بصغرها وتستدير باستدارتها وتصفوا بصفائها وتلك مثال المرئيات القائمة بالمرآة وأما نفس الشمس التي في السماء فلم تصر ذاتها في المرآة وقد خاطبني مرة شيخ من هؤلاء في مثل هذا وكان ممن يظن أن الحلاج قال أنا الحق لكونه كان في هذا التوحيد فقال الفرق بين فرعون والحلاج أن فرعون قال أنا ربكم الأعلى سورة النازعات وهو يشير إلى نفسه وأما الحلاج فكان فانيا عن نفسه والحق نطق على لسانه فقلت لت أفصار الحق في قلب الحلاج ينطق على لسانه كما ينطق الجني على لسان المصروعوهو سبحانه بائن عن قلب الحلاج وغيره من المخلوقات فقلب الحلاج أو غيره كيف يسع ذات الحق ثم الجني يدخل في جسد الإنسان ويشغل جميع أعضائه والإنسان المصروع لا يحس بما يقوله الجني ويفعله بأعضائه لا يكون الجني في قلبه فقط فإن القلب كل ما قام به فإنما هو عرض من الأعراض ليس شيئا موجودا قائما بنفسه ولهذا لا يكون الجني بقلبه الذي هو روحه وهولاء قد يدعون أن ذات الحق قامت بقلبه فقط فهذا يستحيل في حق المخلوق فكيف بالخالق جل جلاله وقد يحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد فإن الله قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم سمع الله لمن حمده فيقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد ما أردتم من الحلول

 

 

والاتحاد ولكن أراد أن الله بلغكم هذا الكلام على لسان رسوله وأخبركم أنه يسمع دعاء من حمده فاحمدوه أنتم وقولوا ربنا ولك الحمد حتى يسمع الله لكم دعاءكم فإن الحمد قبل الدعاء سبب لاستجابة الدعاء وهذا أمر معروف يقول المرسل لرسوله قل على لساني كذا وكذا ويقول الرسول لمرسله قلت على لسانك كذا وكذا ويقول المرسل أيضا قلت لكم على لسان رسولي كذا وكذا وقد قال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء (سورة الشورى). فالله تعالى إذا أرسل رسولا من الملائكة أو من البشر برسالة كان مكلما لعباده بواسطة رسوله بما أرسل به رسوله وكان مبينا لهم بذلك كما قال تعالى قد نبأنا الله من أخباركم (سورة التوبة). أي بواسطة رسوله وقال فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (سورة القيامة). وقال نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق (سورة القصص). وقال نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (سورة يوسف). فكانت تلك التلاوة والقراءة والقصص بواسطة جبريل فإنه سبحانه يكلم عباده بواسطة رسول يرسله فيوحي بإذنه ما يشاء ولهذا جاء بلفظالجمع فإن ما فعله المطاع بجنده يقال فيه نحن نفعل كذا والملائكة رسل الله فيما يخلقه ويأمر به فما خلقه وأمر به بواسطة رسله من الملائكة قال فيه نحن فعلنا كما قال تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (سورة القيامة). وفي الصحيحين عن ابن عباس قال إن علينا أن نجمعه في قلبك ثم أن نقرأه بلسانك فإذا قرأه جبريل فاستمع له حتى يفرغ كما قال في الآية الأخرى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه (سورة طـــه). أي لا تعجل بتلاوة ما يقرؤه جبريل عليك من قبل أن يقضي جبريل تلاوته بل استمع له حتى يقضي تلاوته ثم

 

 

بعد هذا اقرأ ما أنزله إليك وعلينا أن نجمع ذلك في قلبك وأن تقرأه بلسانك ثم أن تبينه للناس بعد ذهاب جبريل عنك وقوله والذي يشار إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث وإثبا القدم فيقال مرادهم بهذا نفي المحدث أي ليس هنا إلا القديم وهذا على وجهين فإن أريد به نفي المحدث بالكلية وأن العبد هو القديم فهذا شر من قول النصارى إلا أنه قريب إلى قول اليعقوبية من النصارى فإن اليعقوبية يقولون إن اللاهوت والناسوت امتزجا واختلطا فصارا جوهرا واحدا وأقنوما واحدا وطبيعة واحدة ويقول بعضهم إن اليدين اللتين سمرتا هما اليدان اللتان خلق بهما آدم وأما النسطورية فيقولون بحلول اللاهوت في الناسوت والملكانية يقولون شخص واحد له أقنوم واحد بطبيعتين ومشيئتين ويشبهونه بالحديدة والنار والنسطورية يشبهونه بالماء في الظروف واليعقوبية يشبهونه باختلاط الماء واللبن والماء والخمر

 

 

فقول القائل إسقاط الحدوث إن أراد به أن المحدث عدم فهذا مكابرة وإن أراد به إسقاط المحدث من قلب العبد وأنه لم يبق في قلبه إلا القديم فهذا إن أريد به ذات القديم فهو قول النسطورية من النصارى وإن أريد به معرفته والإيمان به وتوحيده أو قيل مثله أو المثل العلمي أو نوره أو نحو ذلك فهذا المعنى صحيح فإن قلوب أهل التوحيد مملوءة بهذا لكن ليس في قلوبهم ذات الرب القديم وصفاته القائمة به وأما أهل الاتحاد العام فيقولون ما في الوجود إلا الوجود القديم وهذا قول الجهمية وأبو أسماعيل لم يرد هذا فإنه قد صرح في غير موضع من كتبه بتكفير هؤلاء الجهمية الحلولية الذين يقولون إن الله بذاته في كل مكان وإنما يشير إلى ما يختص به بعض الناس ولهذا قال ألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته والإتحاد والحلول الخاص وقع فيه كثير من العباد والصوفية وأهل الأحوال فإنه يفجؤهم ما يعجزون عن معرفته وتضعف عقولهم عن تمييزه فيظنونه ذات الحق وكثير منهم يظن أنه رأى الله بعينه وفيهم من يحكي مخاطباته له ومعاتباته وذاك كله إنما هو في قلوبهم منالمثال العلمي الذي في قلوبهم بحسب إيمانهم به ومما يشبه المثال العلمي رؤية الرب تعالى في المنام فإنه يرى في صور مختلفة يراه كل عبد على حسب إيمانه ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم إيمانا من غيره رآه في أحسن صورة وهي رؤية منام بالمدينة كما نطقت بذلك الأحاديث المأثورة عنه وأما ليلة المعراج فليس في شيء من الأحاديث المعروفة أنه رآه ليلة المعراج لكن روي في ذلك حديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث رواه الخلال من طريق أبي عبيد وذكره القاضي أبو يعلى في إبطال التأويل والذي نص عليه الإمام أحمد في الرؤية هو ما جاء عن النبي صلى الله عليه

 

 

وسلم وما قاله أصحابه فتارة يقول رآه بفؤاده متبعا لأبي ذر فإنه روى بإسناده عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده وقد ثبت في صحيح مسلم أن ابا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال نور أني أراه ولم ينقل هذا السؤال عن غير أبي ذر وأما ما يذكره بعض العامة من أن أبا بكر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال نعم رأيته وأن عائشة سألته فقال لم أره فهو كذب لم يروه أحد من أهل العلم ولا يجيب النبي صلى الله عليه وسلم عن مسألة واحدة بالنفي والإثبات مطلقا فهو منزه عن ذلكفلما كان أبو ذر أعلم من غيره أتبعه أحمد مع ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال رآه بفؤاده مرتين وتارة يقول أحمد رآه فيطلق اللفظ ولا يقيده بعين ولا قلب اتباعا للحديث وتارة يستحسن قول من يقول رآه ولا يقول بعين ولا قلب ولم ينقل أحد من أصحاب أحمد الذين باشروه عنه أنه قال رآه بعينه وقد ذكر ما نقلوه عن أحمد الخلال في كتاب السنة وغيره وكذلك لم ينقل أحد بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال رآه بعينه بل الثابت عنه إما الأطلاق وإما التقييد بالفؤاد وقد ذكر طائفة من أصحاب أحمد كالقاضي إبي يعلى ومن اتبعه عن أحمد ثلاث روايات في رؤيته تعالى إحداها أنه رآه بعينه واختاروا ذلك وكذلك اختاره الأشعري وطائفة ولم ينقل هؤلاء عن

 

 

أحمد لفظا صريحا بذلك ولا عن ابن عباس ولكن المنقول الثابت عن أحمد من جنس النقول الثابتة عن ابن عباس إما تقييد الرؤية بالقلب وإما إطلاقها وأما تقييدها بالعين فلم يثبت لا عن أحمد ولا عن ابن عباس وأما من سوى النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر الإمام أحمد اتفاق السلف على أنه لم يره أحد بعينه وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وهذا لبسطه موضع آخر وإنما المقصود هنا أن كثيرا من السالكين يرد عليه من الأحوال ما يصطلمه حتى يظن أنه هو الحق وأن الحق فيه أو أن الحق يتكلم على لسانه أو أنه يرى الحق أو نحو ذلك وإنما يكون الذي يشاهدونه ويخاطبونه هو الشيطان وفيهم من يرى عرشا عليه نور ويرى الملائكةحول العرش ويكون ذلك الشيطان وتلك الشياطين حوله وقد جرى هذا لغير واحد.

*

فصل وقد اعترف طوائف بأنه يستحق أن يحب وأنكروا أنه يحب غيره إلا بمعنى الإرادة العامة فإن محبة المؤمنين لربهم أمر موجود في القلوب والفطر شهد به الكتاب والسنة واستفاض عن سلف الأمة وأهل الصفوة واتفق عليه أهل المعرفة بالله وقد ثبت أن التذاذ المؤمنين يوم القيامة بالنظر إلى الله أعظم لذة في الجنة ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة وفي حديث آخر رواه النسائي وغيره أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة

 

فقوله في الحديث الصحيح فما أعطاهم شيئا أحب اليهم من النظر إليه يبين أن اللذة الحاصلة بالنظر إليه أعظم من كل لذة في الجنة والإنسان في الدنيا يجد في قلبه بذكر الله وذكر محامده وآلائه وعبادته من اللذة ما لا يجده بشيء آخر وقال النبي صلى الله عليه وسلم جعلت قرة عيني في الصلاة وكان يقول أرحنا بالصلاة يا بلال وفي الحديث إذا مررتمبرياض الجنة فارتعوا قالوا وما رياض الجنة قال مجالس الذكر ومن هذا الباب قوله ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة فإن هذا كان أعظم مجالس الذكر والمنكرون لرؤيته من الجهمية والمعتزلة تنكر هذه اللذة وقد يفسرها من يتأول الرؤية بمزيد العلم على لذة العلم به كاللذة التي في الدنيا بذكره لكن تلك أكمل وهذا قول متصوفة الفلاسفة والنفاة كالفارابي وكأبي حامد وأمثاله فإن ما في كتبه من الإحياء وغيره من لذة النظر إلى وجهه هو بهذا المعنى والفلاسفة تثبت اللذة العقلية وأبو نصر الفارابيوأمثاله من المتفلسفة يثبت الرؤية لله ويفسرها بهذا المعنى وهذه اللذة أيضا ثابتة بعد الموت لكنهم مقصرون في تحقيقها وإثبات غيرها من لذات الآخرة كما هو مبسوط في موضعه وأما أبو المعالي وابن عقيل ونحوهما فينكرون أن يلتذ أحد بالنظر إليه وقال أبو المعالي يمكن أن يحصل مع النظر إليه لذة ببعض

 

 

المخلوقات من الجنة فتكون اللذة مع النظر بذلك المخلوق وسمع ابن عقيل رجلا يقول أسألك لذة النظر إلى وجهك فقال هب أن له وجها أفتلتذ بالنظر إليه وهذا ونحوه مما أنكر على ابن عقيل فإنه كان فاضلا ذكيا وكان تتلون آراؤه في هذه المواضع ولهذا يوجد في كلامه كثير مما يوافق فيه قول المعتزلة والجهمية وهذا من ذاك وكذلك أبو المعالي بني هذا على أصل الجهمية الذي وافقهم فيه الأشعري ومن وافقه كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما أن الله لا يحب ذاته ويزعمون أن الخلاف في ذلك مع الصوفية وهذا القول من بقايا أقوال جهم بن صفوان وأول من عرف في الإسلام أنه أنكر أن الله يحب او يحب الجهم بن صفوان وشيخه الجعد ابن درهم وكذلك هو أول من عرف أنه أنكر حقيقة تكليم الله لموسى وغيره وكان جهم ينفي الصفات والأسماء ثم انتقل بعض ذلك إلى المعتزلة وغيرهم فنفوا الصفات دون الأسماء وليس هذا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها بل كلهم متفقون على أن الله يستحق أن يحب وليس شيء أحق بأن يحب من الله سبحانه بل لا يصلح أن يحب غيره إلا لأجله وكل ما يحبه المؤمن من طعام وشراب ولباس وغير ذلك لا ينبغي أن يفعله إلا ليستعين به على عبادته

 

 

سبحانه المتضمنة لمحبته فإن الله إنما خلق الخلق لعبادته وخلق فيهم الشهوات ليتناولوا بها ما يستعينون به على عبادته ومن لم يعبد الله فإنه فاسد هالك والله لا يغفر أن يشرك به فيعبد معه غيره فكيف بمن عطل عبادته فلم يعبده ألبته كفرعون وأمثاله وقد قال تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (سورة النساء). والتعطيل ليس دون الشرك بل أعظم منه فالمستكبرون عن عبادته أعظم جرما من الذين يعبدونه ويعبدون معه غيره وهو لا يغفر لهم فأولئك أولى وما من مؤمن إلا وفي قلبه حب الله ولو أنكر ذلك بلسانه وهؤلاء الذين أنكروا محبته من أهل الكلام وهم مؤمنون لو رجعوا إلى فطرتهم التي فطروا عليها واعتبروا أحوال قلوبهم عند عبادته لوجدوا في قلوبهم من محبته ما لا يعبر عن قدره وهم من أكثر الناس نظرا في العلم به وبصفاته وذكره وذلك كله من محبته وإلا فما لا يحب لا تحرص النفوس على ذكره إلا لتعلق حاجتها به ولهذا يقال من أحب شيئا أكثر من ذكره والمؤمن يجد نفسه محتاجة إلى الله في تحصيل مطالبه ويجد في قلبه محبة الله غير هذا فهو محتاج إلى الله من جهة أنه ربه ومن جهة

 

 

أن إلهه قال تعالى إياك نعبد وإياك نستعين فلا بد أن يكون العبد عابدا لله ولا بد أن يكون مستعينا به ولهذا كان هذا فرضا على كل مسلم أن يقوله في صلاته وهذه الكلمة بين العبد وبين الرب وقد روي عن الحسن البصري رحمه الله أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع سرها في الأربعة وجمع سر الأربعة في القرآن وجمع سرالقرآن في الفاتحة وجمع سر الفاتحة في هاتين الكلمتين إياك نعبد وإياك نستعين ولهذا ثناها الله في كتابه في غير موضع من القرآن كقوله فاعبده وتوكل عليه (سورة هود). وقوله عليه توكلت وإليه أنيب (سورة هود). وقوله عليه توكلت وإليه متاب (سورة الرعد). وقوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه (سورة الطلاق). وأمثال ذلك وهم يتأولون محبته على محبة عبادته وطاعته فيقال لهم فيمتنع في الفطرة أن يحب الإنسان طاعة مطاع وعبادته إلا أن يكون محبا لله وإلا فمالا يحب في نفسه لا يحب الإنسان لا

 

 

طاعته ولا عبادته ومن كان إنما يحب الطاعة والعبادة للعوض المخلوق فهو لا يحب إلا ذلك العوض ولا يقال أن هذا يحب الله ألا ترى أن الكافر والظالم ومن يبغضه المؤمن قد يستأجر المؤمن على عمل يعمله فيعمل المؤمن لأجل ذلك العوض ولا يكون المؤمن محبا للكافر ولا للظالم إذا عمل له بعوض لأنه ليس مقصوده إلا العوض فمن كان لا يريد من الله إلا العوض على عمله فإنه لا يحبه قط إلا كما يحبر الفاعل لمن يستأجره ويعطيه العوض على عمله فإن كل محبوب إما أن يحبر لنفسه وإما أن يحب لغيره فما أحب لغيره فالمحبوب في نفس الأمر هو ذلك الغير وأما هذا فإنما أحب لكونه وسيلة إلى المحبوب والوسيلة قد تكون مكروهة غاية الكراهة لكن يتحملها الإنسان لأجل المقصود كما يتجرع المريض الدواء الكريه لأجل محبته للعافية ولا يقال إنه يحب ذلك الدواء الكريه فإن كان الرب سبحانه لا يحب إلا لما يخلقه من النعم فإنه لا يحب وقد قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله (سورة البقرة). فأخبر أن المؤمنين أشد حبا لله من المشركين وأن المشركين يحبون الأنداد كحب الله

 

 

ومن المعلوم أن المشركين يحبون آلهتهم محبة قوية كما قال تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم (سورة البقرة). وهذا وإن كان يقال إنه لما يظنونه فيهم من أنها تنفعهم فلا ريب أن الشيء يحب لهذا ولهذا ولكن إذا ظن فيه أنه متصف بصفات الكمال كانت محبته أشد مع قطع النظر عن نفعه والحديث الذي يروى أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني بحب الله وأحب أهل بيتي بحبي إسناده ضعيف فإن الله يحب أن يحب لذاته وإن كانت محبته واجبة لإحسانه وقول القائل المحبة للإحسان محبة العامة وتلك محبة الخاصة ليس بشيء بل كل مؤمن فأنه يحب الله لذاته ولو أنكر ذلك بلسانه ومن لم يكن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما لم يكن مؤمنا ومن قال إني لا أجد هذه المحبة في قلبي لله ورسوله فأحد الأمرين لازم إما أن يكون صادقا في هذالخبر فلا يكون مؤمنا فإن أبا جهل وأبا لهب

 

 

وأمثالهما إذا قالوا ذلك كانوا صادقين في هذا الخبر وهم كفار أخبروا عما في نفوسهم من الكفر مع أن هؤلاء في قلوبهم محبة الله لكن مع الشرك به فإنهم اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ولهذا أبغضوا الرسول وعادوه لأنه دعاهم إلى عبادة الله وحده ورفض ما يحبونه معه فنهاهم أن يحبوا شيئا كحبة فأبغضوه على هذا فقد يكون بعض هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله يفضل ذلك الند على الله في أشياء وهؤلاء قد يعلمون أن الله أجل وأعظم لكن تهوى نفوسهم ذلك الند أكثر والرب تعالى إذا جعل من يحب الأنداد كحبه مشركين فمن أحب الند أكثر كان أعظم شركا وكفرا كما قال تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم (سورة الأنعام). فلولا تعظيمهم لآلهتهم على الله لما سبوا الله إذا سبت آلهتهم وقال تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون (سورة الأنعام). وقال أبو سفيان يوم أحد أعل هبل أعل هبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه فقالوا وما نقول قال قولوا الله أعلى وأجل وقال أبو سفيان إن لنا العزى ولا عزى لكم قال ألا تجيبوه قالوا

 

 

وما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ويوجد كثير من الناس يحلف بند جعله لله وينذر له ويوالي في محبته ويعادي من يبغضه ويحلف به فلا يكذب ويوفي بما نذره له وهو يكذب إذا حلف بالله ولا يوفي بما نذره لله ولا يوالي في محبة الله ولا يعادي في الله كما يوالي ويعادي لذلك الند فمن قال إني لا أجد في قلبي أن الله أحد الي مما سواه فأحد الأمرين لازم إما أن يكون صادقا فيكون كافرا مخلدا في النار من الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وإما أن يكون غالطا في قوله لا أجد في قلبي هذا والإنسان قد يكون في قلبه معارف وإرادات ولا يدري أنها في قلبه فوجود الشيء في القلب شيء والدراية به شيء آخر ولهذا يوجد الواحد من هؤلاء يطلب تحصيل ذلك في قلبه وهو حاصل في قلبه فتراه يتعب تعبا كثيرا لجهله وهذا كالموسوس في الصلاة فإن كل من فعل فعلا باختياره وهو يعلم ما يفعله فلا بد أن ينويه ووجود ذلك بدون النية التي هي الإرادة ممتنع فمن كان يعلم أنه يقوم إلى الصلاة فهو يريد الصلاة ولا يتصور أن يصلي إلا وهو يريد الصلاة

 

 

فطلب مثل هذا لتحصيل النية من جهله بحقيقة النية ووجودها في نفسه وكذلك من كان يعلم أن غدا من رمضان وهو مسلم يعتقد وجوب الصوم وهو مريد للصوم فهذا نية الصوم وهو حين يتعشى يتعشى عشاء من يريد الصوم ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليالي شهر رمضان فليلة العيد يعلم أنه لا يصوم فلا يريد الصوم ولا ينويه ولا يتعشى عشاء من يريد الصوم وهذا مثل الذي يأكل ويشرب ويمشي ويركب ويلبس إذا كان يعلم أنه يفعل هذه الأفعال فلا بد أن يريدها وهذه نيتها فلو قال بلسانه أريد أن أضع يدي في هذا الإناء لآخذ لقمة آكلها كان احمق عند الناس فهكذا من يتكلم بمثل هذه الألفاظ في نية الصلاة والطهارة والصيام ومع هذا فتجد خلقا كثيرا من الموسوسين بعلم وعبادة يجتهد في تحصيل هذه النية أعظم مما يجتهد من يستخرج ما في قعر معدته من القيء أو من يبتلع الأدوية الكريهة وكذلك كثير من المعارف قد يكون في نفس الإنسان ضروريا وفطريا وهو يطلب الدليل عليه لإعراضه عما في نفسه وعدم شعوره بشعوره فهكذا كثير من المؤمنين يكون في قلبه محبة لله ورسوله وقد نظر في كلام الجهمية والمعتزلة نفاة المحبة واعتقد ذلك قولا صحيحا لما ظنه من صحة شبهاتهم أو تقليدا لهم فصار يقول بموجب ذلك الاعتقاد

 

 

وينكر ما في نفسه فإن نافي محبة الله يقول المحبة لا تكون إلا لما يناسب المحبوب ولا مناسبة بين القديم والحديث وبين الواجب والممكن وبين الخالق والمخلوق فيقال لفظ المناسبة لفظ مجمل فإنه يقال لا مناسبة بين كذا وكذا أي أحدهما أعظم من الأخر فلا ينسب هذا إلى هذا كما يقال لا نسبة لمال فلان إلى مال فلان ولا نسبة لعلمه أو جوده أو ملكه إلى علم فلا وجود فلان وملك فلان يراد به أن هذه النسبة حقيرة صغيرة كلا نسبة كما يقال لا نسبة للخردلة إلى الجبل ولا نسبة للتراب إلى رب الأرباب فإذا أريد بأنه لا نسبة للمحدث إلى القديم هذا المعنى ونحوه فهو صحيح وليست المحبة مستلزمة لهذه النسبة وإن أريد أن ليس في القديم معنى يحبه لأجله المحدث فهذا رأس المسألة فلم قلت إنه ليس بين المحدث والقديم ما يحب المحدث القديم لأجله ولم قلت إن القديم ليس متصفا بمحبة ما يحبه من مخلوقاته والمحبة لا تستلزم نقصا بل هي صفة كمال بل هي أصل الإرادة فكل إرادة فلا بد أن تستلزم محبة فإن الشيء إنما يراد لأنه محبوب أو لأنه وسيلة إلى المحبوب ولو قدر عدم المحبة لامتنعت الإرادة فإن المحبة لازمة للإرادة فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وكذلك المحبة

 

 

مستلزمة للإرادة فمن أحب شيئا فلا بد أن يتضمن حبه إياه إرادة لبعض متعلقاته ولهذا كان خلقه تعالى لمخلوقاته لحكمة والحكمة مرادة محبوبة فهو خلق ما خلق لمراد محبوب كما تقدم وهو سبحانه يحب عباده المؤمنين فيريد الإحسان إليهم وهم يحبونه فيريدون عبادته وطاعته وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وما من مؤمن إلا وهو يجد في قلبه للرسول من المحبة مالا يجد لغيره حتى أنه إذا سمع محبوبا له من أقاربه وأصدقائه يسب الرسول هان عليه عداوته ومهاجرته بل وقتله لحب الرسول وإن لم يفعل ذلك لم يكن مؤمنا قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبه الإيمان وأيدهم بروح منه (سورة المجادلة). بل قدقال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره (سورة التوبة). فتوعد من كان الأهل والمال أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من كن فبه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار فوجود حلاوة الإيمان في القلب لا تكون من محبة العوض الذي لم يحصل بعد بل الفاعل الذي لا يعمل إلا للكراء لا يجد حال العمل إلا التعب والمشقة وما يؤلمه فلو كان لا معنى لمحبة الله ورسوله إلا محبة

 

 

ما سيصير إليه العبد من الأجر لم يكن هنا حلاوة إيمان يجدها العبد في قلبه وهو في دار التكليف والإمتحان وهذا خلاف الشرع وخلاف الفطرة التي فطر الله عليها قلوب عباده فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مولود يولد على الفطرة وفي صحيح مسلم عنه أنه قال يقول الله تعالى خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا فالله فطر عباده على الحنيفية مله إبراهيم وأصلها محبة الله وحده فما من فطرة لم تفسد إلا وهي تجد فيها محبة الله تعالى لكن قد تفسد الفطرة إما لكبر وغرض فاسد كما في فرعون وإما بأن يشرك معه غيره في المحبة كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله (سورة البقرة). وأما أهل التوحيد الذين يعبدون الله مخلصين له الدين فإن فيقلوبهم محبة الله لا يماثله فيها غيره ولهذا كان الرب محمودا حمدا مطلقا على كل ما فعله وحمدا خاصا على إحسانه إلى الحامد فهذا حمد الشكر والأول حمده على كل ما فعله كما قال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور (سورة الأنعام). الحمد لله فاطر السموات والأرض الآية (سورة فاطر). والحمد ضد الذم والحمد خبر بمحاسن المحمود مقرون بمحبته والذم خبر بمساوىء المذموم مقرون ببغضه فلا يكون حمد لمحمود إلا مع محبته ولا يكون ذم لمذموم إلا مع بغضه وهو سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة وأول ما نطق به آدم الحمد لله رب العالمين وأول ما سمع من ربه يرحمك ربك وآخر دعوى أهل الجنة أن الحمد لله رب العالمين وأول من يدعى إلى الجنة الحمادون ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب لواء الحمد آدم فمن دونه تحت لوائه وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون فلا تكون عبادة إلا بحب المعبود ولا يكون حمد إلا بحب المحمود وهو سبحانه المعبود المحمود

 

 

وأول نصف الفاتحة الذي للرب حمده وآخره عبادته أوله الحمد لله رب العالمين وآخره إياك نعبد كما ثبت في حديث القسمة يقول الله تبارك وتعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد الحمد لله رب العالمين فيقول الله حمدني عبدي يقول العبد الرحمن الرحيم فيقول الله تعالى أثنى علي عبدي يقول العبد مالك يوم الدين فيقول الله تبارك وتعالى مجدني عبدي يقول العبد إياك نعبد وإياك نستعين فيقول الله تعالى هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد أهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة يقول الله تعالى هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل رواه مسلم في صحيحه وقال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير فجمع بين التوحيدوالتحميد كما قال تعالى فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين (سورة غافر). وكان ابن عباس يقول إذا قلت لا إله إلا الله فقل الحمد لله رب العالمين يتأول هذه الآية وفي سنن ابن ماجة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد للهوفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم وقال أيضا كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء

 

 

فلا بد في الخطب من الحمد لله ومن توحيده ولهذا كانت الخطب في الجمع والأعياد وغير ذلك مشتملة على هذين الأصلين وكذلك التشهد في آخر الصلاة أوله ثناء على الله وآخره الشهادتان ولا يكون الثناء إلا على محبوب ولا التأله إلا لمحبوب وقد بسطنا الكلام في حقائق هذه الكلمات في مواضع متعددة وإذا كان العباد يحمدونه ويثنون عليه ويحبونه فهو سبحانه أحق بحمد نفسه والثناء على نفسه والمحبة لنفسه كما قال أفضل الخلق لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فلا ثناء من مثن أعظم من ثناء الرب على نفسه ولا ثناء إلا بحب ولا حب من محبوب لمحبوب أعظم من محبة الرب لنفسه وكل ما يحبه من عباده فهو تابع لحبه لنفسه فهو يحب المقسطين والمحسنين والصابرين والمؤمنين ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويفرح بتوبة التائبين كل ذلك تبعا لمحبته لنفسه فإن المؤمن إذا كان يحب ما يحبه من المخلوقات لله فيكون حبه للرسول والصالحين تبعا لحبه لله فكيف الرب تعالى فيما يحبه من مخلوقاته إنما يحبه تبعا لحبه لنفسه وخلق المخلوقات لحكمته التي يحبهافما خلق شيئا إلا لحكمة وهو سبحانه قد قال أحسن كل شيء خلقه ((سورة السجدة).). وقال صنع الله الذي أتقن كل شيء (سورة النمل). وليس في أسمائه الحسنى إلا اسم يمدح به ولهذا كانت كلها حسنى والحسنى بخلاف السوأى فكلها حسنة والحسن محبوب ممدوح فالمقصود بالخلق ما يحبه ويرضاه وذلك أمر ممدوح ولكن قد يكون من لوازم ذلك ما يريده لأنه من لوازم ما يحبه ووسائله فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع كما يمتنع وجود العلم والإرادة بلا حياة ويمتنع وجود المولود مع كونه مولودا بلا ولادة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حديث الإستفتاح والخير كله بيديك والشر ليس إليك وقد قيل في تفسيره لا يتقرب به إليك بناء على أنه الأعمال المنهي عنها وقد قيل

 

 

لا يضاف إليك بناء على أنه المخلوق والشر المخلوق لا يضاف إلى الله مجردا عن الخير قط وإنما يذكر على أحد وجوه ثلاثة إما مع إضافته إلى المخلوق كقوله من شر ما خلق سورة الفلق وإما مع حذف الفاعل كقوله تعالى وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا (سورة الجن). ومنه في الفاتحة صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة فذكر الإنعام مضافا إليه وذكر الغضب محذوفا فاعله وذكر الضلال مضافا إلى العبد وكذلك قوله وإذا مرضت فهو يشفين (سورة الشعراء). وإما أن يدخل في العموم كقوله خالق كل شيء (سورة الأنعام). ولهذا إذا ذكر باسمه الخاص قرن بالخير كقوله في أسمائه الحسنى الضار النافع المعطي المانع الخافض الرافع المعز المذل فجمع بين الأسمين لما فيه من العموم والشمول الدال على وحدانيته وأنه وحده يفعل جميع هذه الأشياء ولهذا لا يدعى بأحد الإسمين كالضار والنافع والخافض والرافع بل يذكران جميعا ولهذا كان كل نعمة منه فضلا وكل نقمة منه عدلاوفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يمين الله ملأى لا يغضيها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع فالإحسان بيده اليمنى والعدل بيده الأخرى وكلتا يديه يمين مباركة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المقسطون عند الله يوم القيامة عن منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذي يعدلون في أهليهم وما ولوا ولبسط هذا موضع آخر والمقصود هنا أنه سبحانه إذا خلق ما يبغضه ويكرهه لحكمة يحبها ويرضاها فهو مريد لكل ما خلقه وإن كان بعض مخلوقاته إنما خلقه لغيره وهو يبغضه ولا يحبه وهذا الفرق بين المحبة والمشيئة هو مذهب السلف وأهل الحديث والفقهاء وأكثر متكلمي أهل السنة كالحنفية والكرامية

 

 

والمتقدمين من الحنبلية والمالكية والشافعية كما ذكر ذلك أبو بكر عبد العزيز في كتاب المقنع وهو أحد قولي الأشعري وعليه اعتمد أبو الفرج بن الجوزي ورجحه على قول من قال لا يحب الفساد للمؤمن أو لا يحبه دينا وذكر أبو المعالي أن هذا قول السلف وأن أول من جعلهما سواء من أهل الإثبات هو أبو الحسن والذين قالوا هذا من متأخري المالكية والشافعية والحنبلية كأبي المعالي والقاضي أبي يعلى وغيرهما هم في ذلك تبع للأشعري وبهذا الفرق يظهر أن الإرادة نوعان إرادة أن يخلق وإرادة لما أمر به فأما المأمور به فهو مراد إرادة شرعية دينية متضمنة أنه يحب ما أمر به ويرضاه وهذا معنى قولنا يريد من عبده فهو يريده له كما يريد الأمر الناصح للمأمور المنصوح يقول هذا خير لك وأنفع لك وهو إذا فعله أحبه الله ورضيه والمخلوقات مرادة إرادة خلقية كونية وهذه الإرادة متضمنة لما وقع دون ما لم يقع وقد يكون الشيء مرادا له غير محبوب بل أراده لإفضائه إلى وجود ما هو محبوب له أو لكونه شرطا في وجود ما هو محبوب له

 

 

فهذه الإرادة الخلقية هي المذكورة في قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا (سورة الأنعام). وفي قوله ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم (سورة هود). وفي قول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وفي قوله ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها ((سورة السجدة).). وأمثال ذلك والإرادة الأمرية هي المذكورة في قوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (سورة البقرة). وفي قوله والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (سورة النساء). وفي قوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم (سورة المائدة). وأمثال ذلك وإذا قيل الأمر هل يستلزم الإرادة أم يأمر بما لا يريد قيل هو لا يستلزم الإرادة الأولى وهي إرادة الخلق فليس كل ما أمر الله به أراد أن يخلقه وأن يجعل العبد المأمور فاعلا له والقدرية تنفى أن يريد ذلك لأنه عندهم لا يجعل أحدا فاعلا ولا

 

 

يخلق فعل أحد وأما أهل السنة فعندهم هو الذي جعل الأبرار أبرارا والمسلمين مسلمين وعندهم من أمره وجعله فاعلا للمأمور صار فاعلا له وإن لم يجعله فاعلا له لم يصر فاعلا له فأهل الإيمان والطاعة أراد منهم إيمانهم وطاعتهم أمرا وخلقا فأمرهم بذلك وأعانهم عليه وجعلهم فاعلين لذلك ولولا إعانته لهم على طاعته لما أطاعوه وأهل الكفر والمعصية أمرهم ولم يجعلهم مطيعين فلم يرد أن يخلق طاعتهم لكنه أمرهم بها وأرادها منهم إرادة شرعية دينية لكونها منفعة لهم ومصلحة إذا فعلوها ولم يرد هو أن يخلقها لما في ذلك من الحكمة وإذا كان يحبها بتقدير وجودها فقد يكون ذلك مستلزما لأمر يكرهه أو لفوات ما هو أحب إليه منه ودفعه أحب إليه من حصول ذلك المحبوب فيكون ترك هذا المحبوب لدفع المكروه أحب إليه من وجوده كما أن وجود المكروه المستلزم لوجود المحبوب يجعله مرادا لأجله إذا كان محبته له أعظم من محبته لعدم المكروه الذي هو الوسيلة وليس كل من نصحته بقولك عليك أن تعينه على الفعل الذي أمرته به فالأنبياء والصالحون دائما ينصحون الناس ويأمرونهم ويدلونهم على ما إذا فعلوه كان صلاحا لهم ولم يعاونونهم على أفعالهم وقد يكونون قادرين لكن مقتضى حكمتهم أن لا يفعلوا ذلك لأسباب متعددة

 

 

والرب تعالى على كل شيء قدير لكن ما من شيء إلا وله ضد ينافيه وله لازم لا بد منه فيمتنع وجود الضدين معا أو وجود الملزوم بدون اللازم كل من الضدين مقدور لله والله قادر على أن يخلقه لكن بشرط عدم الآخر فأما وجود الضدين معا فممتنع لذاته فلا يلزم من كونه قادرا على كل منهما وجود أحدهما مع الآخر والعباد قد لا يعلمون التنافي أو التلازم فلا يكونون عالمين بالامتناع فيظنونه ممكن الوجود مع حصول المحبوب المطلوب للرب وفرق بين العلم بالإمكان وعدم العلم بالإمتناع وإنما عندهم عدم العلم بالامتناع لا العلم بالإمكان والعدم لا فاعل له فأتوا من عدم علمهم وهو الجهل الذي هو أصل الكفر وهو سبحانه إذا اقتضت حكمته خلق شيء فلا بد من خلق لوازمه ونفي أضداده فإذا قال القائل لم لم يجعل معه الضد المنافي أو لم وجد اللازم كان لعدم علمه بالحقائق وهذا مثل أن يقول القائل هلا خلق زيدا قبل أبيه فيقال له يمتنع أن يكون ابنه ويخلق قبله أو يخلق حتى يخلق أبوه والناس تظهر لهم الحكمة في كثير من تفاصيل الأمور التي يتدبرونها كما تظهر لهم الحكمة في ملوحة ماء العين وعذوبة ماء الفم ومرارة

 

 

ماء الأذن وملوحة ماء البحر وذلك يدلهم على الحكمة فيما لم يعلموا حكمته فإن من رأى إنسانا بارعا في النحو أو الطب أو الحساب أو الفقه وعلم أنه أعلم منه بذلك إذا أشكل عليه بعض كلامه فلم يفهمه سلم ذلك إليه فرب العالمين الذي بهرت العول حكمته ورحمته الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا وهو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأرحم بعباده من الوالدة بولدها كيف لا يجب على العبد أن يسلم ما جهله من حكمته إلى ما علمه منها وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على المختلفين في الكتاب الذين يرد كل منهم قول الآخر وفي كلام كل منهم حق وباطل وقد ذكرنا مثالين مثالا في الأسماء والأحكام والوعد والوعيد ومثالا في الشرع والقدر ونذكر مثالا ثالثا في القرآن فإن الأئمة والسلف اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق بل هو الذي تكلم به بقدرته ومشيئته لم يقل أحد منهم إنه مخلوق ولا إنه قديم وصار المختلفون بعدهم على يقولون قوم يقول هو مخلوق خلقه الله في غيره والله لا يقوم به كلام ويقولون الكلام صفة فعل لا صفة ذات ومرادهم بالفعل ما كان منفصلا عن الفاعل غير قائم به وهذا لا يعقل أصلا ولا يعرف متكلم لا يقوم به كلامه

 

 

وقوم يقولون بل هو قديم لم يزل قائما بالذات أزلا وأبدا لا يتكلم لا بقدرته ولا مشيئته ولم يزل نداؤه لموسى أزليا وكذلك قوله يا إبراهيم يا موسى يا عيسى ثم صار هؤلاء حزبين حزبا عرفوا أن ما كان قديما لم يزل يمتنع أن يكون حروفا أو حروفا وأصواتا فإن الحروف متعاقبة الباء قبل السين والصوت لا يبقى بل يكون شيئا بعد شيء كالحركة فيمتنع أن يكون الصوت الذي سمعه موسى قديما لم يزل ولا يزال فقالوا كلامه معنى واحد قائم بذاته هو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي عنه والخبر بكل ما أخبر به إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وأن ذلك المعنى هو أمر بكل ما أمر به وهو نهي عن كل ما نهى عنه وهو خبر بكل ما أخبر به وكونه أمرا ونهيا وخبرا صفات له إضافية مثل قولنا زيد أب وعم وخال ليست أنواعا له ولا ينقسم الكلام إلى هذا وهذا قالوا والله لم يتكلم بالقرآن العربي ولا بالتوراة العبرانية ولا بالإنجيل السريانية ولا سمع موسى ولا غيره منه بأذنه صوتا ولكن القرآن العربي خلقه الله في غيره أو أحدثه جبريل أو محمد ليعبر به عما يراد إفهامه من ذلك المعنى الواحد

 

 

فقال لهم جمهور الناس هذا القول مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول فإنا نعلم بالإضطرار أن معنى آية الكرسي ليس هو معنى آية الدين ولا معنى قل هو الله أحد هو معنى تبت يدا أبي لهب وقد عرب الناس التوراة فوجودا فيها معاني ليست هي المعاني التي في القرآن ونحن نعلم قطعا أن المعاني التي أخبر الله بها في القرآن في قصة بدر وأحد والخندق ونحو ذلك لم ينزلها الله على موسى ابن عمران كما لم ينزل على محمد تحريم السبت ولا الأمر بقتال عباد العجل فكيف يكون كل كلام الله معنى واحدا ونحن نعلم بالاضطرار أن الكلام معانيه وحروفه تنقسم إلى خبر وإنشاء والإنشاء منه الطلب والطلب ينقسم إلى أمر ونهي وحقيقة الطلب غير حقيقة الخبر فكيف لا تكون هذه أقسام الكلام وأنواعه بل هو موصوف بها كلها وأيضا فالله تعالى يخبر أنه لما أتى موسى الشجرة ناداه فناداه في ذلك الوقت لم يناده في الأزل وكذلك قال ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم (سورة الأعراف). وقال إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (سورة آل عمران). وقال وإذ قال ربك للملائكة (سورة البقرة). إلى مواضع كثيرة من

 

 

القرآن تبين أنه تكلم بالكلام المذكور في ذلك الوقت فكيف يكون أزليا أبديا ما زال ولا يزال وكيف يكون لم يزل ولا يزال قائلا يا نوح اهبط بسلام منا (سورة هود). يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي (سورة آل عمران). يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا (سورة طـــه). يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا (سورة المزمل). آية وقال هؤلاء هذا القرآن العربي ليس هو كلام الله وقال هؤلاء كلام الله لا يتعدد ولا يتبعض فقال لهم الناس موسى لما كلمه الله أفهمه كلامه كله أو بعضه إن قلتم كله فقد صار موسى يعلم علم الله وإن قلتم بعضه فقد تبعض وهو عندكم واحد لا يتبعض وكذلك هذا القرآن العربي هو عندكم ليس كلام الله ولكنه عبارة عنه أفهو عبارة عن كله فهذا ممتنع أم عن بعضه فهذا ممتنع أيضا إلى كلام آخر يطول ذكره هنا وقال الحزب الثاني لما رأوا فساد هذا القول بل نقول إن القرآن قديم وإنه حروف أو حروف وأصوات وإن هذا القرآن العربي كلام الله كما دل على ذلك القرآن والسنة وإجماع المسلمين وفي القرآن مواضع كثيرة تبين أن هذا المنزل هو القرآن وهو كلام الله وأنه عربي وأخذوا يشنعون على أولئك إنكارهم أن يكون هذا كلام الله فإن

 

 

أولئك أثبتوا قرآنين قرآنا قديما وقرآنا مخلوقا فأخذ هؤلاء يشنعون على أولئك بإثبات قرآنين فقال لهم أولئك فأنتم إذا جعلتم القرآن العربي وهو قديم كلام الله لزم أن يكون مخلوقا وكنتم موافقين للمعتزلة فإن قولكم إن القرآن العربي قديم ممتنع في صرائح العقول ولم يقل ذلك أحد من السلف ونحن وجميع الطوائف ننكر عليكم هذا القول ونقول إنكم ابتدعتموه وخالفتم به المعقول والمنقول وإلا فكيف تكون السين المعينة المسبوقة بالباء المعينة قديمة أزلية وتكون الحروف المتعاقبة قديمة والصوت الذي كان في هذا الوقت قديما ولم يقل هذا أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم وإن كان بعض المتأخرين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يقولونه ويقوله ابن سالم وأصحابه وطائفة من أهل الكلام والحديث فليس في هؤلاء أحد من السلف وإن كان الشهرستاني ذكر في نهاية الإقدام أن هذا قول السلف والحنابلة فليس هو قول السلف ولا قول أحمد بن حنبل ولا أصحابه القدماء ولا جمهورهم فصار كثير من هؤلاء الموافقين للسالمية وأولئك الموافقين للكلابية بينهم منازعات ومخاصمات بل وفتن وأصل ذلك قولهم جميعا إن

 

 

القرآن قديم وهي أيضا بدعة لم يقلها أحد من السلف وإنما السلف كانوا يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وكان قولهم أولا إنه كلام الله كافيا عندهم فإما ما كان كلاما لمتكلم لا يجوز أن يكون منفصلا عنه فإن هذا مخالف للمعقول والمنقول في الكلام وفي جميع الصفات يمتنع أن يوصف الموصوف بصفة لا تكون قط قائمة به بل لا تكون إلا بائنة عنه وما يزعمه الجهمية والمعتزلة من أن كلامه وإرادته ومحبته وكراهته ورضاه وغضبه وغير ذلك كل ذلك مخلوقات له منفصلة عنه هو مما أنكره السلف عليهم وجمهور الخلف بل قالوا إن هذا من الكفر الذي يتضمن تكذيب الرسول وجحود ما يستحقه الله من صفاته وكلام السلف في رد هذا القول بل وإطلاق الكفر عليه كثير منتشر وكذلك لم يقل السلف إن غضبه على فرعون وقومه قديم ولا أن فرحه بتوبة التائب قديم وكذلك سائر ما وصف به نفسه من الجزاء لعباده على الطاعة والمعصية من رضاه وغضبه لم يقل أحد منهم إنه قديم فإن الخزاء لا يكون قبل العملوالقرآن صريح بأن أعمالهم كانت سببا لذلك كقوله فلما آسفونا انتقمنا منهم (سورة الزخرف). وقوله ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (سورة محمد). وقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله (سورة آل عمران). وأمثال ذلك بل قد ثبت في الصحيحين من حديث الشفاعة أن كلا من الرسل يقول إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وفي الصحيحين عن زيد بن خالد قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في إثر سماء كانت من الليل فلما انفتل من صلاته قال أتدرون ماذا قال ربكم الليلة قلنا الله ورسوله أعلم قال فإنه قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فمن قال مطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن بي كافر بالكوكب ومن قال مطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب

 

 

وفي الصحيح الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه وفي القرآن والحديث من هذا ما يطول ذكره وقد بسطنا هذا في كتاب درء تعارض العقل والنقل وغيره وقد أخبر الله تعالى في القرآن بندائه لعباده في أكثر من عشرة مواضع والنداء لا يكون إلا صوتا باتفاق أهل اللغة وسائر الناس والله أخبر أنه نادى موسى حين جاء الشجرة فقال فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين (سورة النمل). فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك (سورة طـــه). فلما أتاها نودي من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة (سورة القصص). وإذ نادى ربك موسى أن أئت القوم الظالمين (سورة الشعراء). وناديناه من جانب الطور الأيمن (سورة مريم). هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى سورة النازعات وما كنت بجانب الطور إذ نادينا (سورة القصص). ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون (سورة القصص).في موضعين ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين (سورة القصص). وناداهما ربهما (سورة الأعراف). فمن قال إنه لم يزل مناديا من الأزل إلى الأبد فقد خالف القرآن والعقل ومن قال إنه بنفسه لم يناد ولكن خلق نداء في شجرة أو غيرها لزم أن تكون الشجرة هي القائلة إني أنا الله وليس هذا كقول الناس نادى الأمير إذ أمر مناديا فإن المنادي عن الأمير يقول أمر الأمير بكذا ورسم السلطان بكذا لا يقول أنا أمرتكم ولو قال ذلك لأهانه الناس والمنادي قال لموسى إنني أنا الله لا إله إلا انا فاعبدني (سورة طـــه). إني أنا الله رب العالمين (سورة القصص). وهذا لا يجوز أن يقوله ملك إلا إذا بلغه عن الله كما نقرأ نحن القرآن والملك إذا أمره الله بالنداء قال كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني أحب فلانا فأحبه ثم ينادي جبريل في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فجبريل إذا

 

نادى في السماء قال إن الله يحب فلانا فأحبوه والله إذا نادى جبريل يقول يا جبريل إني أحب فلانا ولهذا لما نادت الملائكة زكريا قال تعالى فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى (سورة آل عمران). وقال وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (سورة آل عمران). ولا يجوز قط لمخلوق أن يقول إني أنا الله رب العالمين ولا يقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له والله تعالى إذا خلق صفة في محل كان المحل متصفا بها فإذا خلق في محل علما أو قدرة أو حياة أو حركة أو لونا أو سمعا أو بصرا كان ذلك المحل هو العالم به القادر المتحرك الحي المتلون السميع البصير فإن الرب لا يتصف بما يخلقه في مخلوقاته وإنما يتصف بصفاته القائمة به بل كل موصوف لا يوصف إلا بما يقوم به لا بما يقوم بغيره ولم يقم به فلو كان النداء مخلوقا في الشجرة لكانت هي القائلة إني أنا الله وإذا كان ما خلقه الرب في غيره كلاما له وليس له كلام إلا ما خلقه لزم أن يكون إنطاقه لأعضاء الإنسان يوم القيامة كلاما له وتسبيح الحصى كلاما له وتسليم الحجر على الرسول كلاما له بل يلزم أن يكون كل كلام في الوجود كلامه لأنه قد ثبت أنه خالق كل شيء

 

 

وهكذا طرد قول الحلولية الإتحادية كابن عربي فإنه قال وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه ولهذا قال سليمان بن داود الهاشمي من قال إن قوله إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني (سورة طـــه). مخلوق فقوله من جنس قول فرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى سورة النازعات فإن هذا مخلوق وهذا مخلوق يقول إن هذا يوجد أن يكون ما خلق فيه هذا القول هو القائل له كما كان فرعون هو القائل لما قام به قالوا وقولهم إن الكلام صفة فعل فيه تلبيس فيقال لهم أتريدون به أنه مفعول منفصل عن المتكلم أم تريدون به أنه قائم به فإن قلتم بالأول فهو باطل فلا يعرف قط متكلم بكلام وكلامه مستلزم كونه منفصلا عنه والفعل أيضا لابد أن لا يكون قائما بالفاعل كما قال السلف والأكثرون وإنما المفعول هو الذي يكون بائنا عنه

 

 

والمخلوق المنفصل عن الرب ليس هو خلقه إياه بل خلقه للسموات والأرض ليس هو نفس السموات والأرض والذين قالوا الخلق هو المخلوق فروا من أمور ظنوها محذورة وكان ما فروا إليه شرا مما فروا منه فإنهم قالوا لو كان الخلق غير المخلوق لكان إما قديما وإما حادثا فإن كان قديما لزم قدم المخلوق وإن كان حادثا فلا بد له من خلق آخر فيلزم التسلسل فقال لهم الناس بل هذا منقوض على أصلكم فإنكم تقولون إنه يريد بإرادة قديمة والمرادات كلها حادثة فإن كان هذا جائزا فلماذا لا يجوز أن يكون الخلق قديما والمخلوق حادثا وإن كان هذا غير جائز بل الإرادة تقارن المراد لزم جواز قيام الحوادث به وحينئذ فيجوز أن يقوم به خلق مقارن للمخلوق فلزم فساد قولكم على التقديرين وكذلك إذا قيل إن الخلق حادث فلم قلتم إنه محتاج إلى خلق آخر فإنكم تقولون المخلوقات كلها حادثة ولا تحتاج إلى خلق حادث فلم لا يجوز أن تكون مخلوقة بخلق حادث وهو لا يحتاج إلى خلق آخر ومعلوم أن حدوثها بخلق حادث أقرب إلى العقول من حدوثها كلها بلا خلق أصلا فإن كان كل حادث يفتقر إلى خلق بطل قولكم وإن

 

 

كان فيها مالا يفتقر إلى خلق جاز أن يكون الخلق نفسه لا يفتقر إلى خلق آخر وهذه المواضع مبسوطة في غير هذا الموضع والمقصود التمثيل بكلام المختلفين في الكتاب الذين في قول كل واحد منهم حق وباطل وأن الصواب ما دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان والناس لهم في طلب العلم والدين طريقان مبتدعان وطريق شرعي فالطريق الشرعي هو النظر فيما جاء به الرسول والإستدلال بأدلته والعمل بموجبها فلا بد من علم بما جاء به وعمل به لا يكفي أحدهما وهذا الطريق متضمن للأدلة العقلية والبراهين اليقينية فإن الرسول بين بالبراهين العقلية ما يتوقف السمع عليه والرسل بينوا للناس العقليات التي يحتاجون إليها كما ضرب الله في القرآن من كل مثل وهذا هو الصراط المستقيم الذي أمر الله عباده أن يسألوه هدايته وأما الطريقان المبتدعان فأحدهما طريق أهل الكلام البدعي والرأي البدعي فإن هذا فيه باطل كثير وكثير من أهله يفرطون فيما أمر الله به ورسوله من الأعمال فيبقى هؤلاء في فساد علم وفساد عمل وهؤلاء منحرفون إلى اليهودية الباطلة والثاني طريق أهل الرياضة والتصوف والعبادة البدعية وهؤلاء

 

 

منحرفون إلى النصرانية الباطلة فإن هؤلاء يقولون إذا صفى الإنسان نفسه على الوجه الذي يذكرونه فاضت عليه العلوم بلا تعلم وكثير من هؤلاء تكون عبادته مبتدعة بل مخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيبقون في فساد من جهة العمل وفساد من نقص العلم حيث لم يعرفوا ما جاء به الرسول وكثير ما يقع من هؤلاء وهؤلاء وتقدح كل طائفة في الأخرى وينتحل كل منهم اتباع الرسول والرسول ليس ما جاء به موافقا لما قال هؤلاء ولا هؤلاء ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (سورة آل عمران). وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه على طريقة أهل البدع من أهل الكلام والرأي ولا على طريقة أهل البدع من أهل العبادة والتصوف بل كان على ما بعثه الله من الكتاب والحكمة وكثير من أهل النظر يزعمون أنه بمجرد النظر يحصل العلم بلا عبادة ولا دين ولا تزكية للنفس وكثير من أهل الإرادة يزعمون أن طريق الرياضة بمجرده تحصل المعارف بلا تعلم ولا نظر ولا تدبر للقرآن والحديث

 

 

وكلا الفريقين غالط بل لتزكية النفس والعمل بالعلم وتقوى الله تأثير عظيم في حصول العلم لكن مجرد العمل لا يفيد ذلك إلا بنظر وتدبر وفهم لما بعث الله به الرسول ولو تعبد الإنسان ما عسى أن يتعبد لم يعرف ما خص الله به محمدا صلى الله عليه وسلم إن لم يعرف ذلك من جهته وكذلك لو نظر واستدل ماذا عسى أن ينظر لم يحصل له المطلوب إلا بالتعلم من جهته ولا يحصل التعلم المطابق النافع إلا مع العمل به وإلا فقد قال الله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم (سورة الصف). وقال وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة سورة الآنعام وقال تعالى وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم (سورة النساء). وقال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون سورة المطففين وقال أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون (سورة الأعراف). وقال ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما (سورة النساء).

 

 

وقال قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (سورة المائدة). وقال هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين (سورة آل عمران). وقال ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (سورة البقرة). وكذلك لو جاع وسهر وخلا وصمت وفعل ماذا عسى أن يفعل لا يكون مهتديا إن لم يتعبد بالعبادات الشرعية وإن لم يتلق علم الغيب من جهة الرسول قال تعالى لأفضل الخلق الذي كان أزكى الناس نفسا وأكملهم عقلا قبل الوحي وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا (سورة الشورى). وقال قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحى إلي ربي إنه سميع قريب (سورة سبأ). وقال فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (سورة طـــه). وقال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيظ له شيطانا فهو له

 

 

قرين (سورة الزخرف). أي عن الذكر الذي أنزلته قال المفسرون يعش عنه فلا يلتفت إلى كلامه ولا يخاف عقابه ومنه قوله وهذا ذكر مبارك أنزلناه (سورة الأنبياء). وقوله ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث (سورة الأنبياء). وشاهده في الآية الأخرى ومن أعرض عن ذكري (سورة طـــه). ثم قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (سورة طـــه). فكل من عشا عن القرآن فإنه يقيض له شيطان يضله ولو تعبد بما تعبد ويعش روى عن ابن عباس يعمى وكذلك قال عطاء وابن زيد ابن أسلم وكذلك أبو عبيدة قال تظلم عينه واختاره ابن قتيبة ورجحه على قول من قال يعرض والعشا ضعف في البصر ولهذا قيل فيه يعش وقالت طائفة يعرض وهو رواية الضحاك عن ابن عباس وقاله قتادة واختاره الفراء والزجاج وهذا صحيح من جهة المعنى فإن قوله يعش ضمن معنى يعرض ولهذا عدى بحرف الجار عن كما يقال أنت أعمى عن محاسن فلان إذا أعرضت فلم تنظر إليها فقوله يعش أي يكن أعشى عنها وهو دون العمى فلم ينظر إليها إلا نظرا ضعيفا

 

 

وهذا حال أهل الضلال الذين لم ينتفعوا بالقرآن فإنهم لا ينظرون فيه كما ينظرون في كلام سلفهم لأنهم يحسبون أنه لا يحصل المقصود وهم الذين عشوا عنه فقيضت لهم الشياطين تقترن بهم وتصدهم عن السبيل وهم يحسبون أنهم مهتدون ولهذا لا تجد في كلام من لم يتبع الكتاب والسنة بيان الحق علما وعملا أبدا لكثرة ما في كلامه من وساوس الشياطين وحدثني غير مرة رجل وكان من أهل الفضل والذكاء والمعرفة والدين أنه كان قد قرأ على شخص سماه لي وهو من أكابر أهل الكلام والنظر دروسا من المحصل لابن الخطيب وأشياء من إشارات ابن سينا قال فرأيت حالي قد تغير وكان له نور وهدى ورؤيت له منامات سيئة فرآه صاحب النسخة بحال سيئة فقص عليه الرؤيا فقال هي من كتابك وإشارات ابن سينا يعرف جمهور المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أن فيها إلحادا كثيرا بخلاف المحصل يظن كثير من الناس أن فيه بحوثا تحصل المقصود قال فبكيت عليه محصل في أصول الدين حاصله من بعد تحصيله أصل بلا دين أصل الضلالات والشك المبين فما فيه فأكثره وحي الشياطين قلت وقد سئلت أن أكتب على المحصل ما يعرف به الحق فيما

 

 

ذكره فكتبت من ذلك ما ليس هذا موضعه وكذلك تكلمت على ما في الإشارات في مواضع أخر والمقصود هنا التنبيه على الجمل فما في المحصل وسائر كتب الكلام المختلف أهله كتب الرازي وأمثاله من الكلابية ومن حذا حذوهم وكتب المعتزلة والشيعة والفلاسفة ونحو هؤلاء لا يوجد فيها ما بعث الله به رسله في أصول الدين بل يوجد فيها حق ملبوس بباطل ويكفيك نفس مسألة خلق الرب مخلوقاته لا تجد فيها إلا قول القدرية والجهمية والدهرية إما العلة التي تثبتها الفلاسفة الدهرية أو القادر الذي تثبته المعتزلة والجهمية ثم إن كان من الكلابية أثبت تلك الإرادة الكلابية ومن عرف حقائق هذه الأقوال تبين له أنها مع مخالفتها للكتاب والسنة وإجماع السلف مخالفة لصرائح العقول وكذلك قولهم في النبوات فالمتفلسفة تثبت النبوة على أصلهمالفاسد أنها قوة قدسية تختص بها بعض النفوس لكونها أقوى نيلا للعلم وأقوى تأثيرا في العالم وأقوى تخيلا لما تعقله في صور متخيلة وأصواب متخيلة وهذه الثلاثة هي عندهم خاصة النبي ومن اتصف بها فهو نبي القوة القدسية العلمية والتأثير في الهيولي وما يتخيله في نفسه من أصوات هي كلام الله ومن صور هي عندهم ملائكة الله ومعلوم عند من اعتبر العالم أن هذا القدر يوجد بكثير من آحاد الناس وأكثر الناس لهم نصيب من هذه الثلاثة ولهذا طمع كثير من هؤلاء في أن يصير نبيا ولهذا قال هؤلاء إن النبوة مكتسبة وإنما قالوا هنا لأنهم لم يثبتوا الله علما بالجزئيات ولا قدرة ولا كلاما يتكلم به تنزل به ملائكته ثم إن الجهمية والمعتزلة يردون عليهم تارة ردا مقاربا وتارة ردا ضعيفا لكونهم جعلوا صانع العالم يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح وجعلوا القادر المختار يرجح بل مرجح وزعم أكثرهم أنه مع وجود القدرة والداعي التام لا يجب وجود الفعل ففزعوا من الموجب بالذات ولفظ الموجب بالذات مجمل فالذي ادعته المتفلسفة باطل

 

 

فإنهم أثبتوا موجبا بذات مجردة عن الصفات يستلزم مفعولاته حتى لا يتأخر عنه شيء وأثبتوا له من الوحدة ما يضمنونه نفي صفاته وأفعاله القائمة به وقالوا الواحد لا يصدر عنه إلا واحد والواحد الذي ادعوه لا حقيقة له إلا في الأذهان لا في الأعيان والكلام على مذاهبهم وابطالها مبسوط في موضع آخر وقد بينا أنهم أكثر الناس تناقضا واضطرابا وأن دعواهم أنه علة موجبة للمعلول أزلا وأبدا فاسدة من وجوه كثيرة وأما إذا قيل هو موجب بالذات بمعنى أنه يوجب بمشيئته وقدرته ما يريد أن يفعله فهذا هو الفاعل بقدرته ومشيئته فتسمية المسمى له موجبا بذاته نزاع لفظي وأكثر الجهمية والقدرية لا يقولون إنه بقدرته ومشيئته يلزم وجود مقدوروه بل قد يحصل وقد لا يحصل فيرجح إن حصل بلا مرجح وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر والمقصود هنا أن الجهمية تثبت نبوة لا تستلزم فصل صاحبها ولا كماله ولا اختصاصه قط بشيء من صفات الكمال بل يجوز أن يجعل من هو من أجهل الناس نبيا ثم الجهمية المحضة عندهم يخلق الله كلاما في غيره فينزل به الملك وأما الكلابية فعندهم النبوة تعلق المعنى القائم بالذات بالنبي بمعنى أنت عبدي ورسولي فيقولون في النبوة من جنس ما قالوه في

 

 

أحكام أفعال العباد إنه ليس للحكم معنى إلا تعلق المعنى القائم بالذات به والمعنى القائم بالذات المتعلق به لا يثبتون في الإيمان والتقوى والأعمال الصالحة خاصة تميزت به عن السيئات حتى أمر بها لأجلها وكذلك في النبوة والمعتزلة ومن وافقهم يثبتون لله شريعة بالقياس على عبادة فيوجبون عليه من جنس ما يجب عليهم ويحرمون عليه من جنس ما يحرم عليهم ولا يجعلون أمره ونهيه وحبه وبغضه ورضاه وسخطه له ثأثير في الأعمال بل صفاتها ثابتة بدون الخطاب والخطاب مجرد كاشف بمنزلة الذي يخبر عن الشمس والقمر والكواكب بما هي متصفة به والله سبحانه قد أخبر أنه يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس والإصطفاء افتعال من التصفية كما أن الإختيار افتعال من الخيرة فيختار من يكون مصطفى وقد قال الله أعلم حيث يجعل رسالته (سورة الأنعام). فهو أعلم بمن يجعله رسولا ممن لم يجعله رسولا ولو كان كل الناس يصلح للرسالة لامتنع هذا وهو عالم بتعيين الرسول وأنه أحق من غيره بالرسالة كما دل القرآن على ذلك وقد قالت خديجة رضي الله عنها لما فجأ الوحي النبيصلى الله عليه وسلم وخاف من ذلك فقالت له كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق وكانت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها أعقل وأعلم من الجهمية حيث رأت أن من جعله الله على هذه الأخلاق الشريفة المتضمنة لعدله وإحسانه لا يخزيه الله فإن حكمة الرب تأبى ذلك وهؤلاء عندهم هذا لا يعلم بل قد يخزي من يكون كذلك وقد ينبأ شر الناس كأبي جهل وغيره ولهذا أنكر المازري وغيره على خديجة كما أنكروا على هرقل استدلاله بما استدل به في حديث أبي سفيان المشهور لما سأل عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم

 

 

والله سبحانه إذا اتخذ رسولا فضله بصفات أخرى لم تكون موجودة فيه قبل إرساله كما كان يظهر لكل من رأى موسى وعيسى ومحمد من أحوالهم وصفاتهم بعد النبوة وتلك الصفات غير الوحي الذي ينزل عليهم فلا يقال إن النبوة مجرد صفة إضافية كأحكام الأفعال كما تقوله الجهمية ولهذا لما صار كثير من أهل النظر كالرازي وأمثاله ليس عندهم إلا قول الجهمية والقدرية والفلاسفة تجدهم في تفسير القرآن وفي سائر كتبهم يذكرون أقوالا كثيرة متعددة كلها باطلة لا يذكرون الحق مثل تفسيره للهلال وقد قال تعالى يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج (سورة البقرة). فذكر قول أهل الحساب فيه وجعله من أقوال الفلاسفة وذكر قول الجهمية الذين يقولون إن القادر المختار يحدث فيه الضوء بلا سبب أصلا ولا لحكمة وكذلك إذا تكلم في المطر يذكر قول أولئك الذين يجعلونه حاصلا عن مجرد البخار المتصاعد والمنعقد في الجو وقول من يقول إنه أحدثه الفاعل المختار بلا سبب ويذكر قول من يقول إنه نزل منالأفلاك وقد يرجح هذا القول في تفسيره ويجزم بفساده في موضع آخر وهذا القول لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أئمة المسلمين بل سائر أهل العلم من المسلمين من السلف والخلف يقولون إن المطر نزل من السحاب ولفظ السماء في اللغة والقرآن اسم لكل ما علا فهو اسم جنس للعالي لا يتعين في شيء إلا بما يضاف إلى ذلك وقد قال فليمدد بسبب إلى السماء (سورة الحج). وقال أنزل الله من السماء ماء (سورة الأنعام). وقال أمتم من في السماء سورة تبارك والمراد بالجميع العلو ثم يتعين هنا بالسقف ونحوه وهنا بالسحاب وهناك بما فوق العالم كله فقوله أنزل من السماء ماء (سورة الأنعام). أي من العلو مع قطع النظر عن جسم معين لكن قد صرح في موضع آخر بنزوله من السحاب كما قي قوله أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (سورة الواقعة). والمزن السحاب

 

 

وقوله ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله (سورة النور). والودق المطر وقال تعالى الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله (سورة الروم). فأخبر سبحانه أنه يبسط السحاب في السماء وهذا مما يبين أنه لم يرد بالسماء هنا الأفلاك فإن السحاب لا يبسط في الأفلاك بل الناس يشاهدون السحاب يبسط في الجو وقد يكون الرجل في موضع عال إما على جبل أو على غيره والسحاب يبسط أسفل منه وينزل منه المطر والشمس فوقه والرازي لا يثبت على قول واحد بل هو دائما ينصر هنا قولا وهناك ما يناقضه لأسباب تقتضي ذلك وكثير من الناس يفهمون من القرآن ما لا يدل عليه وهو معنى فاسد ويجعلون ذلك يعارض العقل وقد بينا في مصنف مفرد درء تعارض العقل والنقل وذكرنا فيه عامة ما يذكرون من العقليات في معارضة الكتاب والسنة وبينا أن التعارض لا يقع إلا إذا كان ما سمى معقولا فاسدا وهذا هو الغالب على كلام أهل البدع أو أن يكون ما أضيف

 

 

إلى الشرع ليس منه إما حديث موضوع وإما فهم فاسد من نص لا يدل عليه وإما نقل إجماع باطل ومن هذا كثير من الناس ذم الأحكام النجومية ولا ريب أنها مذمومة بالشرع مع العقل وأن الخطأ فيها أضعاف الصواب وأن من اعتمد عليها في تصرفاته وأعرض عما أمر الله به ورسوله خسر الدنيا والآخرة لكن قد يردونها على طريقة الجهمية ونحوهم بأن يدعوا أنه لا أثر لشيء من العلويات في السفليات أصلا إما على طريقة الجهمية لكن تلك لا تنفي العادات الإقترانية وإن لم تثبت سببا ومسببا وحكمة وإما بناء على نفي العادة في ذلك ثم قد ينازعون في استدارة الأفلاك ويدعون شكلا آخر وقد بينا في جواب المسائل التي سئلت عنها في ذلك أن الأفلاك مستديرة عند علماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان كما ثبت ذلك عنهم بالأسانيد المذكورة في موضعها بل قد نقل إجماع المسلمين على ذلك غير واحد من علماء المسلمين الذين هم من أخبر الناس بالمنقولات كأبي الحسين بن المنادى أحد أكابر الطبقة الثانية منأصحاب الإمام أحمد وله نحو أربعمائة مصنف وأبي محمد بن حزم الأندلسي وأبي الفرج بن الجوزي وقد دل ذلك على الكتاب والسنة كما قد بسط في الإحاطة وغيرها وكذلك المطر معروف عند السلف والخلف بأن الله تعالى يخلقه من الهواء ومن البخار المتصاعد لكن خلقه للمطر من هذا كخلق الإنسان من نطفة وخلقه للشجر والزرع من الحب والنوى فهذا معرفة بالمادة التي خلق منها ونفس المادة لا توجب ما خلق منها باتفاق العقلاء بل لا بد مما به يخلق تلك الصورة على ذلك الوجه وهذا هو الدليل على القادر المختار الحكيم الذي يخلق المطر على قدر معلوم وقت الحاجة إليه والبلد الجرز يسوق إليه الماء من حيث أمطر كما قال أو

 

 

لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجزر فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون (سورة السجدة). فالأرض الجرز لا تمطر ما يكفيها كأرض مصر لو أمطرت المطر المعتاد لم يكفها فإنها أرض إبليز وإن أمطرت كثيرا مثل مطر شهر خربت المساكن فكان من حكمة الباري ورحمته أن أمطر مطرا أرضا بعيدة ثم ساق ذلك الماء إلى أرض مصر فهذه الآيات يستدل بها على علم الخالق وقدرته ومشيئته وحكمته وإثبات المادة التي خلق منها المطر والشجر والإنسان والحيوان مما يدل على حكمته ونحن لا نعرف شيئا قط خلق إلا من مادة ولا أخبر الله في كتابه بمخلوق إلا من مادة وكذلك كون كسوف الشمس وغيره سببا لبعض الحوادث هو مما دلت عليه النصوص الصحيحة ففي الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولالحياته ولكنهما آيتان من آيات الله عز وجل يخوف الله بهما عباده فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وقد ثبت عنه في الصحاح أنه صلى صلاة الكسوف بركوع زائد في كل ركعة وأنه طولها تطويلا لم يطوله في شيء من صلوات الجماعات وأمر عند الكسوف بالصلاة والذكر والدعاء والعتاقة والصدقة والإستغفار وقوله يخوف الله بهما عباده كقوله تعالى وما نرسل بالآيات إلا تخويفا (سورة الإسراء). ولهذا كانت الصلوات مشروعة عند الآيات عموما مثل تناثر الكواكب والزلزلة وغير ذلك والتخويف إنما يكون بما هو سبب للشر المخوف كالزلزلة والريح العاصف وإلا فما وجوده كعدمه لا يحصل به تخويف فعلم أن الكسوف سبب للشر ثم قد يكون عنه شر ثم القول فيه كالقول في سائر الأسباب هل هو سبب كما عليه جمهور الأمة أو هو مجرد اقتران عادة كما يقوله الجهمية وهو صلى الله عليه وسلم أخبر عند أسباب الشر بما يدفعها من

 

 

العبادات التي تقوي ما انعقد سببه من الخير وتدفع أو تضعف ما انعقد سببه من الشر كما قال إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض والفلاسفة تعترف بهذا لكن هل ذلك بناء على أن الله يدفع ذلك بقدرته وحكمته أو بناء على أن القوى النفسانية تؤثر هذا مبني على أصولهم في هذا الباب ويحكى عن بطليموس أنه قال ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بفنون اللغات تحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات وعنأبقراط أنه قال واعلم أن طبنا بالنسبة إلى طب أرباب الهياكل كطب العجائز بالنسبة إلى طبنا فالقوم كانوا معترفين بما وراء القوى الطبيعية والفلكية وليس ذلك مجرد القوى النفسانية كما يقوله ابن سينا وطائفة بل ملائكة ملء العالم العلوي والسفلي والجن أيضا لا يحصى عددهم إلا الله والله قد وكل الملائكة بتدبير هذا العالم بمشيئته وقدرته كما دلت على ذلك الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وكما يستدل على ذلك أيضا بأدلة عقلية والملائكة أحياء ناطقون ليسوا أعراضا قائمة بغيرها كما يزعمه كثير من المتفلسفة ولا هي مجرد العقول العشرة والنفوس التسعة بل هذه باطلة بأدلة كثيرة

 

 

وما يثبتونه من المجردات المفارقات لا يحصل معهم منه غير النفس الناطقة فإنها تفارق بدنها وما سوى ذلك فلا يثبت معهم على طريقهم إلا المجردات المعقولة في الأذهان وهي الكليات المعقولة ولكنهم يظنون ثبوت ذلك في الخارج كما يظن شيعة أفلاطون ثبوت المثل الأفلاطونية في الخارج فتثبت كليات قديمة أزلية أبدية مفارقة كإنسان كلي وهذا هو غلطهم حيث ظنوا ما هو في الأذهان موجودا في الأعيان وكذلك ما يثبتونه من الجواهر العقلية وهي أربعة العقل والنفس والمادة والصورة وطائفة منهم كشيعة أفلاطون تثبت جوهرا عقليا هو الدهر وجوهرا عقليا هو الخير وتثبت جوهرا عقليا هو المادة الأولى المعارضة للصورة وكل هذه العقليات التي يثبتونها إذا حققت غاية التحقيق تبين أنها أمور معقولة في النفس فيتصورها في نفسه فهي معقولات في قلبه وهي مجردة عن جزئياتها الموجودة في الخارج فإن العقل دائما ينتزع من الأعيان المعينة المشهودة كليات مشتركة عقلية كما يتصور زيدا وعمرا وبكرا ثم يتصور إنسانا مشتركا كليا ينطبق على زيد وعمر وبكر

 

 

ولكن هذا المشترك إنما هو في قلبه وذهنه يعقله بقلبه ليس في الخارج إنسان مشترك كلي يشترك فيه هذا وهذا بل كل إنسان يختص بذاته وصفاته لا يشاركه غيره في شيء مما قام به قط وإذا قيل الإنسانية مشتركة أو الحيوانية فالمراد أن في هذا حيوانية وإنسانية تشابه ما في هذا من الحيوانية والإنسانية ويشتركان في مسمى الإنسانية والحيوانية وذلك المسمى إذا أخذ مشتركا كليا لم يكن إلا في الذهن وهو تارة يوجد مطلقا بشرط الإطلاق فلا يكون إلا في الذهن عند عامة العقلاء إلا من أثبت المثل الأفلاطونية في الخارج وتارة يوجد مطلقا لا بشرط الإطلاق بحيث يتناول المعينات وهذا قد يقال إنه موجود في الخارج وهو موجود في الخارج معينا مقيدا مخصوصا فيقال هذا الإنسان وهذا الحيوان وهذا الفرس وأما وجوده في الخارج مع كونه مشتركا في الخارج فهذا باطل ولهذا كان من المعروف عندهم أن الكليات ثابتة في الأذهان لا في الأعيان ومن قال إن الكلي الطبيعي موجود في الخارج فمعناه الصحيح أن ما هو كلي إذا كان في الذهن يوجد في الخارج لكن لا يوجد في الخارج كليا وهذا كما يقال ما يتصوره الذهن قد يوجد في

 

 

الخارج وقد لا يوجد ولا يراد بذلك أن نفس الصورة الذهنية تكون بعينها في الخارج ولكن يراد به أن ما يتصور في الذهن قد يوجد في الخارج كما يوجد أمثاله في الخارج كما يتصور الإنسان دارا يبنيها وعملا يعمله ويقول الرجل لغيره جئت بما كان في نفسي وفعلت هذا كما كان في نفسي وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه زورت في نفسي مقالة فجاء أبو بكر في بديهته بأحسن منها وهذا كله معروف عند الناس فإن الشيء له وجود في نفسه وله مثال مطابق له في العلم ولفظ يدل على ذلك المثال العلمي وخط يطابق ذلك اللفظ ويقال له وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البنان ووجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي كالشمس الموجودة والكعبة الموجودة ثم إذا رأى الإنسان الشمس يمثلها في نفسه ثم يقول بلسانه شمس وكعبة ثم يكتب بخطه شمس وكعبة فإذا كتب وقيل هذه الشمس التي في السماء وهذه الكعبة التي يصلي إليها المسلمون لم يرد بذلك أن الخط هو الشمس والكعبة ولكن المعنى معروف كما إذا قال يا زيد فالمنادي لا ينادي الصوت وإذا قال ضربت

 

 

زيدا لم يرد أنه ضرب الحروف لكن قد عرف أنه إذا أطلق الأسماء المراد مسمياتها التي جعلت الأسماء دالة عليها وإذا كتبت الأسماء فالمراد بالخط ما يراد باللفظ فإذا قيل لما في الورقة هذه الكعبة من الحجاز فالمراد المسمى بالإسم اللفظي الذي طابقه الخط ومثل هذا كثير يعرفه كل أحد فإذا قيل لما في النفس ليس بعينه هو الموجود في الخارج فهو بهذا الإعتبار أي ما تصورته في النفس موجود في الخارج لكن يطابقه مطابقة المعلوم للعلم فإذا قيل الكلي الطبيعي في الخارج فهو بهذا الإعتبار أي يوجد في الخارج ما يطابقه الكلي الطبيعي فإنه المطلق لا بشرط فيطابق المعينات بخلاف المطلق بشرط الإطلاق فإن هذا لا يطابق المعينات وأما أن يقال إن في الخارج أمرا كليا مشتركا فيه بعينه هو في هذا المعين وهذا المعين فهذا باطل قطعا وإن كان قد قاله طائفة وأثبتوا ماهيات مجردة في الخارج عن المعينات وقالوا إن تلك الماهية غشيتها غواش غريبة وإن أسباب الماهية غير أسباب الوجود وهذا قد بسط الكلام عليه في الكلام على المنطق وعلى الإشارات وغير ذلك وبين أن الذي لا ريب فيه أن ما يتصور في الأذهان ليس هو الموجود في

 

 

الأعيان فمن عني بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج فهو مصيب في قوله الوجود مغاير للماهية وأما إذا عني بالماهية ما في الخارج وبالوجود ما في الخارج وبالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الذهن وإدعى أن في الذهن شيئين وأن في الخارج شيئين وجود وماهية فهذا يتخيل خيالا لا حقيقه له وبهذا التفصيل يزول الإشتباه الحاصل في هذا الموضع ولفظ الماهية مأخود من قول السائل ما هو وما هو سؤال عما يتصوره المسؤل ليجيب عنه وتلك هي الماهية للشيء في نفسه والمعنى المدلول عليه باللفظ لا بد أن يكون مطابقا للفظ فتكون دلالة اللفظ عليه بالمطابقة ودلالة اللفظ على بعض ذلك المعنى بالتضمن ودلالته على لازم ذلك المعنى بالإلتزام وليست دلالة المطابقة دلالة اللفظ على ما وضع له كما يظنه بعض الناس ولا دلالة التضمن استعمال اللفظ في جزء معناه ولا دلالة الإلتزام استعمال اللفظ في لازم معناه بل يجب الفرق بين ما وضع له اللفظ وبين ما عناه المتكلم باللفظ وبين ما يحمل المستمع عليه اللفظ فالمتكلم إذا استعمل اللفظ في

 

 

معنى فذلك المعنى هو الذي عناه باللفظ وسمي معنى لأنه عني به أي قصد وأريد بذلك فهو مراد المتكلم ومقصوده بلفظه ثم قد يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له وهو الحقيقة وقد يكون مستعملا في غير ما وضع له وهو المجاز وقد يكون المجاز من باب استعمال لفظ الجميع في البعض ومن باب استعمال الملزوم في اللازم وقد يكون في غير ذلك وذلك كله دلالة اللفظ على مجموع المعنى وهي دلالة المطابقة سواء كانت الدلالة حقيقة أو مجازية أو غير ذلك ثم ذلك المعنى المدلول عليه اللفظ إذا كان له جزء فدلالة اللفظ عليه تضمن لأن اللفظ تضمن ذلك الجزء ودلالته على لازم ذلك المعنى هي دلالة الملزوم وكل لفظ استعمل في معنى فدلالته عليه مطابقة لأن اللفظ طابق المعنى بأي لغة كان سواء سمي ذلك حقيقة أو مجازا فالماهية التي يعنيها المتكلم بلفظه دلالة لفظه عليها دلالة مطابقة ودلالته على ما دخل فيها دلالة تضمن ودلالته على ما يلزمها وهو خارج عنها دلالة الإلتزام

 

 

فإذا قيل الصفات الذاتية الداخلة في الماهية والخارجة عن الماهية وعني بالداخل ما دل عليه اللفظ بالتضمن وبالخارج ما دل عليه بالالتزام فهذا صحيح وهذا الدخول والخروج هو بحسب ما تصوره المتكلم فمن تصور حيوانا ناطقا فقال إنسان كانت دلالته على المجموع مطابقة وعلى أحدهما تضمن وعلى اللازم مثل كونه ضاحكا التزام وإذا تصور إنسانا ضاحكا كانت دلالة إنسان على المجموع مطابقة وعلى أحدهما تضمن وعلى اللازم مثل كونه ناطقا التزام وأما أن تكون الصفات اللازمة للموصوف في الخارج بعضها داخل في حقيقته وماهيته وبعضها خارج عن حقيقته وماهيته والداخل هو الذاتي والخارج ينقسم إلى لازم للماهية والوجود وإلى لازم للوجود دون الماهية فهذا كله مما قد بسط الكلام عليه في مواضع وبينا ما في المنطق اليوناني من الأغاليط التي بعضها من معلمهم الأول وبعضها من تغيير المتأخرين وتكلمنا على ما ذكره أئمتهم في ذلك واحدا واحدا كابن سيناوأبي البركات وغيرهما وأنه يوجد من كلامهم أنفسهم ومن رد بعضهم على بعض ما يبين أن ما ذكروه من تقسيم الصفات اللازمة للموصوف إلى هذه الأقسام الثلاثة تقسيم باطل إلا إذا جعل ذلك باعتبار ما في الذهن من الماهية لا باعتبار ماهية موجودة في الخارج وكذلك ما فرعوه على هذا من أن الإنسان مركب من الجنس والفصل فإن هذا التركيب ذهني لا حقيقة له في الخارج وتركبه من الحيوان والناطق من جنس تركبه من الحيوان والضاحك إذا جعل كل من الصفتين لازما ملزوما وأريد الضاحك بالقوة والناطق بالقوة وأما إذا قيل في الخارج الإنسان مركب من هذا وهذا فإن أريد به أن الإنسان موصوف بهذا وهذا فهذا صحيح وكذلك إذا فرق بين الصفات اللازمة للإنسان التي لا يكون إنسانا إلا بها كالحيوانية والناطقية والضاحكية وبين ما يعرض لبعض الناس كالسواد والبياض والعربية والعجمية فهذا صحيح أما إذا قيل هو مركب من صفاته اللازمة له وهي أجزاء له وهي

 

 

متقدمة عليه تقدما ذاتيا فإن الجزء قبل الكل والمفرد قبل المركب وأريد بذلك التركيب في الخارج فهذا كله تخليط فإن الصفة تابعة للموصوف فكيف تكون متقدمة عليه بوجه من الوجوه وإذا قيل هو مركب من الحيوانية والناطقية أو من الحيوان والناطق فإن أريد أنه مركب من جوهرين قائمين بأنفسهما لزم أن يكون في كل موصوف جواهر كثيرة بعدد صفاته فيكون في الإنسان جوهر هو جسم وجوهر هو حساس وجوهر هو نام وجوهر هو متحرك بالإرادة وجوهر هو ناطق ومعلوم أن هذا خطأ بل الإنسان جوهر قائم بنفسه موصوف بهذه الصفات فيقال جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق وإن أريد به أنه مركب من عرضين فالإنسان جوهر والجوهر لا يتركب من أعراض لاحقة له فضلا عن أن تكون سابقة له متقدمة عليه وهذا كله قد بسطناه في مواضع وإنما كان المقصود هنا أن هؤلاء الفلاسفة كثيرا ما يغلطون في جعل الأمور الذهنية المعقولة في النفس فيجعلون ذلك بعينه أمورا موجودة في الخارج فأصحاب فيثاغورس القائلون بالأعداد المجردة في الخارج من هنا كان غلطهم وأصحابأفلاطون الذي أثبتوا المثل الأفلاطونية من هنا كان غلطهم وأصحاب صاحبه أرسطو الذين أثبتوا جواهر معقولة مجردة في الخارج مقارنة للجواهر الموجودة المحسوسة كالمادة والصورة والماهية الزائدة على الوجود في الخارج من هنا كان غلطهم وهم إذا أثبتوا هذه الماهية قيل لهم أهي في الذهن أم في الخارج ففي أيهما أثبتوها ظهر غلطهم وإذا قالوا نثبتها مطلقة مع قطع النظر

 

 

عن هذا وهذا أو أعم من هذا وهذا قيل عدم نظر الناظر لا يغير الحقائق عما هي عليه في نفس الأمر إما في الذهن وإما في الخارج وما كان أعم منها فهو أيضا في الذهن فإنك إذا قدرت ماهية لا في الذهن ولا في الخارج لم تكن مقدرا إلا في الذهن ومعنى ذلك أن هذا التقدير في الذهن لا أن الماهية التي قيل عنها ليست في الذهن هي في الذهن بل الماهية التي تصورها الإنسان في ذهنه يمكنه تقديرها ليست في ذهنه مع أن تقديرها ليست في ذهنه هو في ذهنه وإن كان تقديرا ممتنعا بل يجب الفرق بين الماهية المقيدة بكونها في الذهن وبين الماهية المطلقة التي لا تتقدر بذهن ولا خارج مع العلم بأن هذه الماهية المطلقة لا تكون أيضا إلا في الذهن وإن أعرض الذهن عن كونها في الذهن فكونها في الذهن شيء والعلم بكونها في الذهن شيء آخر وهؤلاء يتصورون أشياء ويقدرونها وذلك لا يكون إلا في الذهن لكن حال ما يتصور الإنسان شيئا في ذهنه ويقدره قد لا يشعر بكونه في الذهن كمن رأى الشيء في الخارج فاشتغل بالمرئي عن كونه رائيا له وهذا يشبه ما يسميه بعضهم الفناء الذي يفنى بمذكوره عن ذكره

 

 

وبمحبوبه عن محبته وبمعبوده عن عبادته ونحو ذلك كما يقدر الشيء بخلاف ما هو عليه كما إذا قدر أن الجبل من ياقوت والبحر من زئبق فتقدير الأمور على خلاف ما هي عليه هو تقدير اعتقادات باطلة والإعتقادات الباطلة لا تكون إلا في الأذهان فمن قدر ماهية لا في الذهن ولا في الخارج فهو مثل من قدر موجودا لا واجبا ولا ممكنا ولا قديما ولا محدثا ولا قائما بنفسه ولا قائما بغيره وهذا التقدير في الذهن وقد بسطنا الكلام على ذلك لما بينا فساد احتجاج كثير من أهل النظر بالتقديرات الذهنية على الإمكانات الخارجية كما يقوله الرازي وغيره إنا يمكننا أن نقول الموجود إما داخل العالم وإما خارج العالم وإما لا داخل العالم ولا خارجه وكل موجود إما مباين لغيره وإما محايث له وإما لا مباين ولامحايث فهذا يدل على إمكان القسم الثالث وكذلك إذا قلنا الموجود إما متحيز وإما قائم بالمتحيز وإما لا متحيز ولا قائم بالمتحيز وهذا يدل على إمكان القسم الثالث وهذا غلط فإن هذا كقول القائل الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما لا قائم بنفسه ولا بغيره فدل على إمكان القسم الثالث فإن هذا غلط

 

 

وكذلك إذا قيل إما قديم وإما محدث وإما لا قديم ولا محدث وإما واجب وإما ممكن وإما لا واجب ولا ممكن وكذلك ما أشبه هذا ودخل الغلط على هؤلاء حيث ظنوا أن مجرد تقدير الذهن وفرضه يقتضي إمكان ذلك في الخارج وليس كذلك بل الذهن يفرض أمورا ممتنعة لا يجوز وجودها في الخارج ولا تكون تلك التقديرات إلا في الذهن لا في الخارج وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر ولكن المقصود هنا ذكر ما اختلف فيه الناس من جهة الذم والعقاب وبينا أن الحال يرجع إلى أصلين أحدهما أن كل ما تنازع فيه الناس هل يمكن كل أحد اجتهاد يعرف به الحق أم الناس ينقسمون إلى قادر على ذلك وغير قادر والأصل الثاني المجتهد العاجز عن معرفة الصواب هل يعاقبه الله أم لا يعاقب من اتقى الله ما استطاع وعجز عن معرفة بعض الصواب وإذا عرف هذان الأصلان فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ما يطعن به فيهم أكثره كذب والصدق منه غايته أن يكون ذنبا أو خطأ والخطأ مغفور والذنب له أسباب متعددة توجب المغفرة ولا يمكن أحد أن يقطع بأن واحدا منهم فعل من الذنوب ما يوجب النارلا محالة وكثير مما يطعن به على أحدهم يكون من محاسنه وفضائله فهذا جواب مجمل ثم نحن نتكلم على ما ذكرته الرافضة من المطاعن على وجه التفصيل كما ذكره أفضل الرافضة في زمنه صاحب هذا الكتاب لما ذكر أن الكلبي صنف كتابا في المثالب قال الرافضي وقد ذكر غيره منها أشياء كثيرة ونحن نذكر منها شيئا يسيرا منها ما رووه عن أبي بكر أنه قال على المنبر إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتصم بالوحي وإن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني وكيف يجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه مع أن الرعية تحتاج إليه

 

 

والجواب أن يقال هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق رضي الله عنه وأدلها على أنه لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا فلم يكن طالب رياسة ولا كان ظالما وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله فقال لهم إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها وإن زغت عنها فقوموني كما قال أيضا أيها الناس أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم والشيطان الذي يعتريه يعترى جميع بني آدم فإنه ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن قيل وأنت يا رسول الله قال وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير وفي الصحيح عنه قال لما مر به بعض الأنصار وهو يتحدث معصفية ليلا قال على رسلكما إنها صفية بنت حيي ثم قال إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئا إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ومقصود الصديق بذلك إني لست معصوما كالرسول صلى الله عليه وسلم وهذا حق وقول القائل كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية كلام جاهل بحقيقة الإمامة فإن الإمام ليس هو ربا لرعيته حتى يستغني عنهم ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا فلا بد له من إعانتهم ولا بد لهم من إعانته كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق إن سلك بهم الطريق اتبعوه وإن أخطأ عن الطريق نبهوه وأرشدوه وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم علي دفعه لكن إذا كان أكملهم علما وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لأحوالهم

 

 

وكذلك إمام الصلاة إن استقام صلوا بصلاته وإن سها سبحوا به فقوموه إذا زاغ وكذلك دليل الحاج إن مشى بهم في الطريق مشوا خلفه وإن غلط قوموه والناس بعدالرسول لا يتعلمون الدين من الإمام بل الأئمة والأمة كلهم يتعلمون الدين من الكتاب والسنة ولهذا لم يأمر الله عند التنازع برد الأمر إلى الأئمة بل قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية(سورة النساء). فأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول لا إلى الأئمة وولاة الأمور وإنما أمر بطاعة ولاة الأمور تبعا لطاعة الرسول ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما الطاعة في المعروف وقال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقال من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه

 

 

وقول القائل كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه مع أن الرعية تحتاج إليه وارد في كل متعاونين ومتشاركين يحتاج كل منهما إلى الاخر حتى الشركاء في التجارات والصناعات وإمام الصلاة هو بهذه المنزلة فإن المأمومين يحتاجون إليه وهو يحمل عنهم السهو وكذلك القراءة عند الجمهور وهو يستعين بهم إذا سها فينبهونه على سهوه ويقومونه ولو زاغ في الصلاة فخرج عن الصلاة الشرعية لم يتبعوه فيها ونظائره متعددة ثم يقال استعانة علي برغيته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة أبي بكر وكان تقويم أبي بكر لرعيته وطاعتهم له أعظم من تقويم علي لرعيته وطاعتهم له فإن أبا بكر كانوا إذا نازعوه أقام عليهم الحجة حتى يرجعوا إليه كما أقام الحجة على عمر في قتال مانعي الزكاة وغير ذلك وكانوا إذا أمرهم أطاعوه وعلي رضى الله عنه لما ذكر قوله في أمهات الأولاد وأنه اتفق رأيه ورأي عمر على أن لا يبعن ثم رأى أن يبعن فقال له قاضيه عبيدة السلماني رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة وكان يقول اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي وكانت رعيته كثيرة المعصية له وكانوا يشيرون عليه بالرأي الذي

 

 

يخالفهم فيه ثم يتبين له أن الصواب كان معهم كما أشار عليه الحسن بأمور مثل أن لا يخرج من المدينة دون المبايعة وأن لا يخرج إلى الكوفة وأن لا يقاتل بصفين وأشار عليه أن لا يعزل معاوية وغير ذلك من الأمور وفي الجملة فلا يشك عاقل أن السياسة انتظمت لأبي بكر وعمر وعثمان ما لم تنتظم لعلي رضي الله عنهم فإن كان هذا لكمال المتولي وكمال الرعية كانوا هم ورعيتهم أفضل وإن كان لكمال المتولي وحده فهو أبلغ في فضلهم وإن كان ذلك لفرط نقص رعية علي كان رعية علي أنقص من رعية أبي بكر رضي الله عنه وعمر وعثمان ورعيته هم الذين قاتلوا معه وأقروا بإمامته ورعية الثلاثة كانوا مقرين بإمامتهم فإذا كان المقرون بإمامة الثلاثة أفضل من المقرين بإمامة علي لزم أن يكون كل واحد من الثلاثة أفضل منه وأيضا فقد انتظمت السياسة لمعاوية ما لم تنتظم لعلي فيلزم أن تكون رعية معاوية خيرا من رعية علي ورعية معاوية شيعة عثمان وفيهم النواصب المبغضون لعلي فتكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي فيلزم على كل تقدير إما أن يكون الثلاثة أفضل من علي وإما أن تكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي والروافض وأيهما كان لزم فساد مذهب الرافضة فإنهم يدعون أن عليا أكمل

 

 

من الثلاثة وأن شيعته الذين قاتلوا معه أفضل من الذين بايعوا الثلاثة فضلا عن أصحاب معاوية والمعلوم باتفاق الناس أن الأمر انتظم للثلاثة ولمعاوية ما لم ينتظم لعلي فكيف يكون الإمام الكامل والرعية الكاملة على رأيهم أعظم اضطرابا وأقل انتظاما من الإمام الناقص والرعية الناقصة بل من الكافرة والفاسقة على رأيهم ولم يكن في أصحاب علي من العلم والدين والشجاعة والكرم إلا ما هو دون ما في رعية الثلاثة فلم يكونوا أصلح في الدنيا ولا في الدين ومع هذا فلم يكن للشيعة إمام ذو سلطان معصوم بزعمهم أعظم من علي فإذا لم يستقيموا معه كانوا أن لا يستقيموا مع من هو دونه أولى وأحرى فعلم أنهم شر وأنقص من غيرهم وهم يقولون المعصوم إنما وجبت عصمته لما في ذلك من اللطف بالمكلفين والمصلحة لهم فإذا علم أن مصلحة غير الشيعة في كل زمان خير من مصلحة الشيعة واللطف لهم أعظم من اللطف للشيعة علم أن ما ذكروه من إثبات العصمة باطل وتبين حينئذ حاجة الأئمة إلى الأمة وأن الصديق هو الذي قال الحق وأقام العدل أكثر من غيرهفصل قال الرافضي وقال أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم فإن كانت إمامته حقا كانت استقالته منها معصية وإن كانت باطلة لزم الطعن

*والجواب أن هذا كذب ليس في شيء من كتب الحديث ولا له إسناد معلوم فإنه لم يقل وعلي فيكم بل الذي ثبت عنه في الصحيح أنه قال يوم السقيفة بايعوا أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح فقال له عمر بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر كنت والله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من تأمري على قوم فيهم أبو بكر ثم لو قال وعلي فيكم لاستخلفه مكان عمر فإن أمره كان مطاعا

 

 

وأما قوله إن كانت إمامته حقا كانت استقالته منها معصية فيقال إن ثبت أنه قال ذلك فإن كونها حقا إما بمعنى كونها جائزة والجائز يجوز تركه وإما بمعنى كونها واجبة إذا لم يولوا غيره ولم يقيلوه وأما إذا أقالواه وولوا غيره لم تكن واجبة عليه والإنسان قد يعقد بيعا أو إجارة ويكون العقد حقا ثم يطلب الإقالة وهو لتواضعه وثقل الحمل عليه قد يطلب الإقالة وإن لم يكن هناك من هو أحق بها منه وتواضع الإنسان لا يسقط حقه.

*

فصل قال الرافضي وقال عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. ولو كانت إمامته صحيحة لم يستحق فاعلها القتل، فيلزم تطرق الطعن إلى عمر. وإن كانت باطلة لزم الطعن عليهما معا.

*والجواب أن لفظ الحديث سيأتي قال فيه فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن وقي الله شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر ومعناه أن بيعة أبي بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار لكونهكان متعينا لهذا الأمر كما قال عمر ليس فيكم من تقطع إليه الاعناق مثل أبي بكر وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه وتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم له على سائر الصحابة أمرا ظهرا معلوما فكانت دلالة النصوص على تعيينه تغني عن مشاورة وانتظار وتريث بخلاف غيره فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والإنتظار والتريث فمن بايع غير أبي بكر عن غير انتظار وتشاور لم يكن له ذلك وهذا قد جاء مفسرا في حديث عمر هذا في خطبته المشهورة الثابتة في الصحيح التي خطب بها مرجعه من الحج في آخر عمره وهذه الخطبة معروفة عند أهل العلم وقد رواها البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال كنت اقرىء رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذ رجع إلى عبد الرحمن بن عوف

 

فقال لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت فغضب عمر ثم قال إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغضبوهم أمورهم فقال عبد الرحمن فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول مقالتك متمكنا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها فقال عمر أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة قال ابن عباس فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلت بالرواح حين زاغت

 

 

الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف فأنكر علي وقال ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتابالله إن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تطروني كما أطرت النصاري عيسى بن مريم وقولوا عبد الله ورسوله ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو مات عمر لبايعت فلانا فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل

 

 

أبي بكر من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لأبي بكر يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان فذكرا ما تمالأ عليه القوم فقالا أين تريدون يا معشر المهاجرين فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا لا عليكم أن لا تقربوهم أقضوا أمركم فقلت والله لنأتينهم فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت من هذا فقالوا هذا سعد بن عبادة فقلت ما له قالوا يوعكفلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحصنونا من الأمر فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت فقال ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب

 

 

نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم إلا أن تسول لي نفسي عند الموت شيئا لا أجده الآن فقال قائل من الأنصار أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الإختلاف فقلت ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت قتل الله سعد بن عبادة قال عمر وإنا واللهما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما أن نخالفهم فيكون فساد فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا قال مالك وأخبرني ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن الرجلين اللذين لقياهما عويمر بن ساعدة ومعن بن عدي وهما ممن شهد بدرا قال ابن شهاب وأخبرني سعيد بن المسيب أن

 

 

الذي قال أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب الحباب بن المنذر وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبوبكر بالسنح فقام عمر يقول والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقال عمر والله ما كان يقع في قلبي إلا ذاك وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فجاء أبو بكر رضي الله عنه فكشف عن رسول صلى الله عليه وسلم فقبله فقال بأبي وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا ثم خرج فقال أيها الحالف على رسلك فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبوبكر وأثنى عليه وقال ألا من كان يعبد محمدا فإن محمد قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال الله تعالى إنك ميت وإنهم ميتون

 

 

(سورة الزمر). وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل أنقلبتم على أعاقبكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله سشيئا شيئا وسيجزي الله الشاكرين (سورة آل عمران). قال فنشج الناس يبكون واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا منا أمير ومنكم أمير فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر وكان عمر يقول والله ما أردت بذلك إلا أني هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه نحن الأمراء وأنتم الوزراء فقال حباب ابن المنذر لا والله لا نفعل منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب دارا وأعربهم أحسابا فبايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح فقال عمر بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس فقال قائل قتلتم سعد بن عبادة فقال عمر قتله الله وفي صحيح البخاري عن عائشة في هذه القصة قالت ما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها لقد خوف عمر الناس وإن فيهم

 

 

لنفاقا فردهم الله بذلك ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق الذي عليهم وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر وذلك الغد من يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم قال كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا يريد بذلك أن يكون آخرهم فإن يكن محمد قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا تهتدون به به هدى الله محمدا وإن إبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين وإنه أولى المسلمين بأموركم فقوموا فبايعوه وكانت طائفة منهم قد بايعوه قيل ذلك في سقيفة بني ساعدة وكانت بيعة العامة على المنبر وعنه قال سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ اصعد المنبر فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامةوفي طريق أخرى لهذه الخطبة أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.

*

فصل قال الرافضي وقال أبو بكر عند موته، ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق. وهذا يدل على أنه في شك من إمامته ولم تقع صوابا.

*والجواب أن هذا كذب على أبي بكر رضي الله عنه وهو لم يذكر له إسنادا ومعلوم أن من احتج في أي مسألة كانت بشيء من النقل فلا بد أن يذكر إسنادا تقوم به الحجة فكيف بمن يطعن في السابقين الأولين بمجرد حكاية لا إسناد لها ثم يقال هذا يقدح فيما تدعونه من النص على علي فإنه لو كان قد نص عل علي لم يكن للأنصار فيه حق ولم يكن في ذلك شك.

 

*

فصل قال الرافضي: وقال عند احتضاره ليت أمي لم تلدني يا ليتني كنت تبنة في لبنة. مع أنهم قد نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من محتضر يحتضر إلا ويرى مقعده من الجنة والنار.

*والجواب أن تكلمه بهذا عند الموت غير معروف بل هو باطل فلا ريب.

بل الثابت عنه أنه لما احتضر وتمثلت عنده عائشة بقول الشاعر لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر. فكشف عن وجهه وقال ليس كذلك ولكن قولي وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد (سورة ق).

ولكن نقل عنه أنه قال في صحته ليت أمي لم تلدني ونحو هذا قاله خوفا إن صح النقل عنه ومثل هذا الكلام منقول عن جماعة أنهم قالوه خوفا وهيبة من أهوال يوم القيامة حتى قال بعضهم لو خيرت بين أن أحاسب وأدخل الجنة وبين أن أصير ترابا لاخترت أن أصير ترابا.

وروى الإمام أحمد عن أبي ذر أنه قال والله لوددت أني شجرة تعضد. وقد روى أبو نعيم في حلية الأولياء قال حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن علي الصائغ حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا السري بن يحيى قال قال عبد الله بن مسعود لو وقفت بين الجنة والنار فقيل لي اختر في أيهما تكون أو تكون رمادا لاخترت أن أكون رمادا وروى الإمام أحمد بن حنبل حدثنا يحيي بن سعيد عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال قال رجل عند عبد الله بن مسعود ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين أكون من المقربين أحب إلي فقال عبد الله بن مسعود لكن ها هنا رجل ود أنه إذا مات لم يبعث يعني نفسه والكلام في مثل هذا هل هو مشروع أم لا له موضع آخر لكن

 

الكلام الصادر عن خوف العبد من الله يدل على إيمانه بالله وقد غفر الله لمن خافه حين أمر أهله بتحريقه وتذرية نصفه في البر ونصفه في البحر مع أنه لم يعمل خيرا قط وقال والله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه وقال ما حملك على ما صنعت قال من خشيتك يا رب فغفر له أخرجاه في الصحيحين فإذا كان مع شكه في القدرة والمعاد إذا فعل ذلك غفر له بخوفه من الله علم أن الخوف من الله من أعظم أسباب المغفرة للأمور الحقيقية إذا قدر أنها ذنوب.

*

فصل قال الرافضي وقال أبو بكر ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت بيدي على يد أحد الرجلين فكان هو الأمير وكنت الوزير. قال وهو يدل على أنه لم يكن صالحا يرتضي لنفسه الإمامة.

*والجواب أن هذا إن كان قاله فهو أدل دليل على أن عليا لم يكن هو الإمام وذلك إن قائل هذا إنما يقوله خوفا من الله أن يضيع حق الولاية وأنه إذا ولى غيره وكان وزيرا له كان أبرأ لذمته فلو كان علي هو الإمام لكانت توليته لأحد الرجلين إضاعة للإمامة أيضا وكان يكون وزيرا لظالم غيره وكان قد باع آخرته بدنيا غيره وهذا لا يفعله من يخاف الله ويطلب براءة ذمته وهذا كما لو كان الميت قد وصى بديون فاعتقد الوارث أن المستحق لها شخص فأرسلها إليه مع رسوله ثم قال يا ليتني أرسلتها مع من هو أدين منه خوفا أن يكون الرسول الأول مقصرا في الوفاء تفريطا أو خيانة وهناك شخص حاضر يدعي أنه المستحق للدين دون ذلك الغائب فلو علم الوارث أنه المستحق لكان يعطيه ولا يحتاج إلى الإرسال به إلى ذلك الغائب.

 

*

فصل قال الرافضي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته مرة بعد أخرى مكررا لذلك أنفذوا جيش أسامة لعن الله المتخلف عن جيش أسامة وكان الثلاثة معه ومنع أبو بكر وعمر من ذلك.

*والجواب أن هذا من الكذب المتفق على أنه كذب عند كل من يعرف السيرة ولم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر أو عثمان في جيش أسامة وإنما روي ذلك في عمر.

وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة وقد استخلفه يصلي بالمسلمين مدة مرضه وكان ابتداء مرضه من يوم الخميس إلى الخميس إلى يوم الإثنين اثني عشر يوما ولم يقدم في الصلاة بالمسلمين إلا أبا بكر بالنقل المتواتر ولم تكن الصلاة التي صلاها أبو بكر بالمسلمين في مرض النبي صلى الله عليه وسلم صلاة ولا صلاتين ولا صلاة يوم ولا يومين حتى يظن ما تدعيه الرافضة من التلبيس وأن عائشة قدمته بغير أمره بل كان يصلي بهم مدة مرضه فإن الناس متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بهم في مرض موته إلا أبو بكر وعلي أنه صلى بهم عدة أيام وأقل ما قيل إنه صلى بهم سبعة عشرة صلاة صلى بهم صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة وخطب بهم يوم الجمعة

 

هذا مما تواترت به الأحاديث الصحيحة ولم يزل يصلي بهم إلى فجر يوم الاثنين صلى بهم صلاة الفجر وكشف النبي صلى الله عليه وسلم الستارة فرآهم يصلون خلف أبي بكر فلما رأوه كادوا يفتنون في صلاتهم ثم أرخى الستارة وكان ذلك آخر عهدهم به وتوفي يوم الإثنين حين اشتد الضحى قريبا من الزوال وقد قيل إنه صلى به أكثر من ذلك من الجمعة التي قبل فيكون قد صلى بهم مدة مرضه كلها لكن خرج النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة واحدة لما وجد خفة في نفسه فتقدم وجعل أبا بكر عن يمينه فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون بأبي بكر وقد كشف الستارة يوم الإثنين صلاة الفجر وهم يصلون خلف أبي بكر ووجهه صلى الله عليه وسلم كأنه ورقة مصحف فسر بذلك لما رأى اجتماع الناس في الصلاة خلف أبي بكر ولم يروه بعدها وقد قيل إن آخر صلاة صلاها كانت خلف أبي بكر وقيل صلى خلفه غيرها فكيف يتصور أن يأمره بالخروج في الغزاة وهو يأمره بالصلاة بالناس

 

 

وأيضا فإنه جهز جيش أسامة قبل أن يمرض فإنه أمره على جيش عامتهم المهاجرون منهم عمر بن الخطاب في آخر عهده صلى الله عليه وسلم وكانوا ثلاثة آلاف وأمره أن يغير على أهل مؤتة وعلى جانب فلسطين حيث أصيب أبوه وجعفر وابن رواحة فتجهز أسامة ابن زيد للغزو وخرج في ثقله إلى الجرف وأقام بها أياما لشكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة فقال اغد على بركة الله والنصر والعافية ثم أغر حيث أمرتك أن تغير قال أسامة يا رسول الله قد أصبحت ضعيفا وأرجو أن يكون الله قد عافاك فاذن لي فأمكث حتى يشفيك الله فإني إن خرجت وأنت على هذه الحالة خرجت وفي نفسي منك قرحة وأكره أن أسأل عنك الناس فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بأيام فلما جلس أبو بكر للخلافة أنفذه مع ذلك الجيش غير أنه استأذنه في أن يأذن لعمر بن الخطاب في الإقامة لأنه ذو رأي ناصح للإسلام فأذن له وسار أسامة لوجهه الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب في ذلك العدو مصيبة عظيمة وغنم هو وأصحابه وقتل قاتل أبيه وردهم الله سالمين إلى المدينة

 

 

وإنما أنفذ جيش أسامة أبوبكر الصديق بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقال لا أحل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار عليه غير واحد أن يرد الجيش خوفا عليهم فإنهم خافوا أن يطمع الناس في الجيش بموت النبي صلى الله عليه وسلم فامتنع أبو بكر من رد الجيش وأمر بإنفاذه فلما رآهم الناس يغزون عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك مما أيد الله به الدين وشد به قلوب المؤمنين وأذل به الكفار والمنافقين وكان ذلك من كمال معرفة أبي بكر الصديق وإيمانه ويقينه وتدبيره ورأيه.

*

فصل قال الرافضي وأيضا لم يؤل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ألبتة عملا في وقته بل ولى عليه عمرو بن العاص تارة وأسامة أخرى ولما أنفذه بسورة براءة رده بعد ثلاثة أيام بوحي من الله. وكيف يرتضي العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله لأداء عشر آيات من براءة.

 

*والجواب أن هذا من أبين الكذب فإنه من المعلوم المتواتر عند أهل التفسير والمغازي والسير والحديث والفقه وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج عام تسع وهو أول حج كان في الإسلام من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يكن قبله حج في الإسلام إلا الحجة التي أقامها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية من مكة فإن مكة فتحت سنة ثمان أقام الحج ذلك العام عتاب بن أسيد الذي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة ثم أمر أبا بكر سنة تسع للحج بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك وفيها أمر أبا بكر بالمناداة في الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر على مثل هذه الولاية فولاية أبي بكر كانت من خصائصه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر على الحج أحد كتأمير أبي بكر ولم يستخلف على الصلاة أحدا كاستخلاف أبي بكر وكان علي من رعيته في هذه الحجة فإنه لحقه فقال أمير أو مأمور فقال علي بل مأمور وكان علي يصلي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين في هذه الولاية ويأتمر لأمره كما يأتمر له سائر من معه ونادى علي مع الناس في هذه الحجة بأمر أبي بكر وأما ولاية غير أبي بكر فكانت مما يشاركه فيها غيره كولاية علي

 

وغيره فلم يكن لعلي ولاية إلا ولغيره مثلها بخلاف ولاية أبي بكر فإنها من خصائصه ولم يول النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر لا أسامة بن زيد ولا عمرو بن العاص فأما تأمير أسامة عليه فمن الكذب المتفق على كذبه وأما قصة عمرو بن العاص فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أرسل عمرا في سرية وهي غزوة ذات السلاسل وكانت إلى بني عذرة وهم أخوال عمرو فأمر عمرا ليكون ذلك سببا لإسلامهم للقرابة التي له منهم ثم أردفه بأبي عبيدة ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين وقال تطاوعا ولا تختلفا فلما لحق عمرا قال أصلي بأصحابي وتصلي بأصحابك قال بل أنا أصلي بكم فإنما أنت مدد لي فقال له أبو عبيدة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أطاوعك فإن عصيتني أطعتك قال فإنى أعصيك فأراد عمرو أن ينازعه في ذلك فأشار عليه أبو بكر أن لا يفعل ورأى أبو بكر أن ذلك أصلح للأمر فكانوا يصلون خلف عمرو مع علم كل أحد أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة أفضل من عمرووكان ذلك لفضلهم وصلاحهم لأن عمرا كانت إمارته قد تقدمت لأجل ما في ذلك من تآلف قومه الذين أرسل إليهم لكونهم أقاربه ويجوز تولية المفضول لمصلحة راجحة كما أمر أسامة بن زيد ليأخذ بثأر أبيه زيد بن حارثة لما قتل في غزوة مؤتة فكيف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر على أبي بكر أحدا في شيء من الأمور بل قد علم بالنقل العام المتواتر أنه لم يكن أحد عنده أقرب إليه ولا أخص به ولا أكثر اجتماعا به ليلا و نهارا سرا وعلانية من أبي بكر

 

 

ولا كان أحد من الصحابة يتكلم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم قبله فيأمر فيأمر وينهى ويخطب ويفتي يوقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك راضيا بما يفعل ولم يكن ذلك تقدما بين يديه بل بإذن منه قد علمه وكان ذلك معونة للنبي صلى الله عليه وسلم وتبليغا عنه وتنفيذا لأمره لأنه كان أعلمهم بالرسول وأحبهم إلى الرسول واتبعهم له وأما قول الرافضي إنه لما أنفذه ببراءة رده بعد ثلاثة أيام فهذا من الكذب المعلوم أنه كذب فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أبا بكر على الحج ذهب كما أمره وأقام الحج في ذلك العام عام تسع للناس ولم يرجع إلى المدينة حتى قضى الحج وأنفذ فيه ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم فإن المشركين كانوا يحجون البيت وكانوا يطوفون بالبيت عراة وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهود مطلقة فبعث أبا بكر وأمره أن ينادي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فنادى بذلك من أمره أبو بكر بالنداء ذلك العام وكان علي بن أبي طالب من جملة من نادى بذلك في الموسم بأمر أبي بكر ولكن لما خرج أبو بكر أردفه النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب لينبذ إلى المشركين العهود قالوا وكان من عادة العرب أن لا يعقد العهود ولا يفسخها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته فبعث عليا لأجل فسخ العهود التي كانت مع المشركين خاصة لم يبعثه لشيء آخر ولهذا كان علي يصلي خلف

 

 

أبي بكر ويدفع بدفعه في الحج كسائر رعية أبي بكر الذين كانوا معه في الموسم وكان هذا بعد غزوة تبوك واستخلافه له فيها على من تركه بالمدينة وقوله له أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ثم بعد هذا أمر أبا بكر على الموسم وأردفه بعلي مأمورا عليه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان هذا مما دل على أن عليا لم يكن خليفة له إلا مدة مغيبه عن المدينة فقط ثم أمر أبا بكر عليه عام تسع ثم إنه بعد هذا بعث عليا وأبا موسى الأشعري ومعاذا إلى اليمن فرجع علي وأبو موسى إليه وهو بمكة في حجة الوداع وكل منهما قد أهل بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم فأما معاذ فلم يرجع إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

*

فصل قال الرافضي وقطع يسار سارق ولم يعلم أن القطع لليد اليمنى.

*والجواب أن قول القائل إن أبا بكر يجهل هذا من أظهر الكذب ولو قدر أن أبا بكر كان يجيز ذلك لكان ذلك قولا سائغالأن القرآن ليس في ظاهره ما يعين اليمين لكن تعيين اليمين في قراءة ابن مسعود فاقطعوا أيمانهما وبذلك مضت السنة ولكن أين النقل بذلك عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قطع اليسرى وأين الإسناد الثابت بذلك وهذه كتب أهل العلم بالآثار موجودة ليس فيها ذلك ولا نقل أهل العلم بالإختلاف ذلك قولا مع تعظيمهم لأبي بكر رضي الله عنه.

*فصل قال الرافضي وأحرق الفجاءة السلمي بالنار وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحراق بالنار.

*الجواب أن الإحراق بالنار عن علي أشهر وأظهر منه عن أبي بكر وأنه قد ثبت في الصحيح أن عليا أتى بقوم زنادقة من غلاة الشيعة فحرقهم بالنار فبلغ ذلك ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار لنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب الله ولضربت أعناقهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه فبلغ ذلك عليا فقال ويح ابن أم الفضل ما أسقطه على الهنات. فعلي حرق جماعة بالنار فإن كان ما فعله أبو بكر منكرا ففعل علي أنكر منه وإن كان فعل علي مما لا ينكر مثله على الأئمة فأبو بكر أولى أن لا ينكر عليه.

 

*

فصل قال الرافضي وخفي عليه أكثر أحكام الشريعة، فلم يعرف حكم الكلالة، وقال أقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان. وقضى في الجد بسبعين قضية، وهو يدل على قصوره في العلم.

*والجواب أن هذا من أعظم البهتان كيف يخفى عليه أكثر أحكام الشريعة ولم يكن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من يقضي ويفتي إلا هو، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مشاورة لأحد من أصحابه منه له ولعمر، ولم يكن أحد أعظم اختصاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم منه ثم عمر.

وقد ذكر غير واحد مثل منصور بن عبد الجبار السمعاني وغيره إجماع أهل العلم على أن الصديق أعلم الأمة. وهذا بين فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلها هو بعلم يبينه لهم وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة، كما بين لهم موت النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيتهم على الإيمان، وقراءته عليهم الآية ثم بين لهم موضع دفنه، وبين لهم قتال مانعي الزكاة لما استراب فيه عمر، وبين لهم أن الخلافة في قريش في سقيفة بني ساعدة لما ظن من ظن أنها تكون في غير قريش.

وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أول حجة حجت من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وعلم المناسك أدق ما في العبادات ولولا سعة علمه بها لم يستعمله. وكذلك الصلاة استخلفه فيها ولولا علمه بها لم يستخلفه ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه أنس من أبي بكر وهو أصح ما روي فيها وعليه اعتمد الفقهاء وفي الجملة لا يعرف لأبي بكر مسسائل من الشريعة غلط فيها وقد عرف لغيره مائل كثيرة كما بسط في موضعه وقد تنازعت الصحابة بعده في مسائل مثل الجد والإخوة ومثل

 

العمرتين ومثل العول وغير ذلك من مسائل الفرائض وتنازعوا في مسألة الحرام والطلاق الثلاث بكلمة والخلية والبرية والبتة وغير ذلك من مسائل الطلاق وكذلك تنازعوا في مسائل صارت مسائل نزاع بين الأمة إلى اليوم وكان تنازعهم في خلافة عمر نزاع اجتهاد محض كل منهم يقر صاحبه على اجتهاده كتنازع الفقهاء أهل العلم والدين وأما في خلافة عثمان فقوى النزاع في بعض الأمور حتى صار يحصل كلام غليظ من بعضهم لبعض ولكن لم يقاتل بعضهم بعضا باليد ولا بسيف ولا غيره وأما في خلافة علي فتغلظ النزاع حتى تقاتلوا بالسيوفوأما في خلافة أبي بكر فلم يعلم أنه استقر بينهم نزاع في مسألة واحدة من مسائل الدين وذلك لكمال علم الصديق وعدله ومعرفته بالأدلة التي تزيل النزاع فلم يكن يقع بينهم نزاع إلا أظهر الصديق من الحجة التي تفصل النزاع ما يزول معها النزاع وكان عامة الحجج الفاصلة للنزاع يأتي بها الصديق ابتداء وقليل من ذلك يقوله عمر أو غيره فيقره أبو بكر الصديق وهذا مما يدل على أن الصديق ورعيته أفضل من عمر ورعيته وعثمان ورعيته وعلي ورعيته فإن أبا بكر ورعيته أفضل الأئمة والأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم الأقوال التي خولف فيها الصديق بعد موته قوله فيها أرجح من قول من خالفه بعد موته وطرد ذلك الجد والإخوة فإن قول الصديق وجمهور الصحابة وأكابرهم أنه يسقط الإخوة وهو قول طوائف من العلماء وهو مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي العباس بن سريج من الشافعية وأبي حفص البرمكي من الحنابلة ويذكر ذلك رواية عن أحمد والذين قالوا بتوريث الإخوة مع الجد كعلي وزيد وابن مسعود اختلفوا اختلافا معروفا وكل منهم قال قولا خالفه فيه الآخر وانفرد بقوله عن سائر الصحابة وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع

 

 

في مصنف مفرد وبينا أن قول الصديق وجمهور الصحابة هو الصواب وهو القول الراجح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية من وجوه كثيرة ليس هذا موضع بسطها وكذلك ما كان عليه الأمر في زمن صديق الأمة رضي الله عنه من جواز فسخ الحج إلى العمرة بالتمتع وأن من طلق ثلاثا بكلمة واحدة لا يلزمه إلا طلقة واحدة هو الراجح دون من يحرم الفسخ ويلزم بالثلاث فإن الكتاب والسنة إنما يدل على ما كان عليه الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر دون القول المخالف لذلك ومما يدل على كمال حال الصديق وأنه أفضل من كل من ولى الأمة بل وممن ولى غيرها من الأمم بعد الأنبياء أنه من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الأولين والأخرين وأفضل من سائر الخلق من جميع العالمين وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال كانت بنو اسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء ويكثرون قالوا يا رسول الله فما تأمرنا قال فوا بيعة الأول فالأول ومن المعلوم أنه من تولى بعد الفاضل إذا كان فيه نقص كثير عن

 

 

سياسة الأول ظهر ذلك النقص ظهورا بينا وهذا معلوم من حال الولاة إذا تولى ملك بعد ملك أو قاض بعد قاض أو شيخ بعد شيخ أو غير ذلك فإن الثاني إذا كان ناقص الولاية نقصا بينا ظهر ذلك فيه وتغيرت الأمور التي كان الأول قد نظمها وألفها ثم الصديق تولى بعد أكمل الخلق سياسة فلم يظهر في الإسلام نقص بوجه من الوجوه بل قاتل المرتدين حتى عاد الأمر إلى ما كان عليه وأدخل الناس في الباب الذي خرجوا منه ثم شرع في قتال الكفار من أهل الكتاب وعلم الأمة ما خفي عليهم وقواهم لما ضعفوا وشجعهم لما جبنوا وسار فيهم سيرة توجب صلاح دينهم ودنياهم فأصلح الله بسببه الأمة في علمهم وقدرتهم ودينهم وكان ذلك مما حفظ الله به على الأمة دينها وهذا مما يحقق أنه أحق الناس بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما قول الرافضي لم يعرف حكم الكلالة حتى قال فيها برأيه فالجواب أن هذا من أعظم علمه فإن هذا الرأي الذي رآه في الكلالة قد اتفق عليه جماهير العلماء بعده فإنهم أخذوا في الكلالة بقول أبي بكر بكر وهو من لا ولد له ولا والد والقول بالرأي هو معروف عن سائر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وابن معروف عن سائر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل لكن الرأي الموافق للحق هو الذي يكون لصاحبهأجران كرأي الصديق فإن هذا خير من الرأي الذي غاية صاحبه أن يكون له أجر واحد وقد قال قيس بن عباد لعلي أرأيت مسيرك هذا ألعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأى رأيته فقال بلى رأي رأيته رواه أبو داود وغيره فإذا كان مثل هذا الرأى الذي حصل به من سفك الدماء ما حصل لا يمنع صاحبه أن يكون إماما فكيف بذلك الرأي الذي اتفق جماهير العلماء على حسنه وأما ما ذكره من قضائه في الجد بسبعين قضية فهذا كذب وليس هو قول أبي بكر ولا نقل هذا عن أبي بكر بل نقل هذا عن أبي

 

 

بكر يدل على غاية جهل هؤلاء الروافض وكذبهم ولكن نقل بعض الناس عن عمر أنه قضى في الجد بسبعين قضية ومع هذا هو باطل عن عمر فإنه لم يمت في خلافته سبعون جدا كل منهم كان لابن ابنه إخوة وكانت تلك الوقائع تحتمل سبعين قولا مختلفة بل هذا الاختلاف لا يحتمله كل جد في العالم فعلم أن هذا كذب وأما مذهب أبي بكر في الجد فإنه جعله أبا وهو قول بضعة عشر من الصحابة وهو مذهب كثير من الفقهاء كأبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي حفص البرمكي ويذكر رواية عن أحمد كما تقدم وهو أظهر القولين في الدليل ولهذا يقال لا يعرف لأبي بكر خطأ في الفتيا بخلاف غيره من الصحابة فإن قوله في الجد أظهر القولين والذين ورثوا الإخوة مع الجد وهم علي وزيد وابن مسعود وعمر في إحدى الروايتين عنه تفرقوا في ذلك وجمهور الفقهاء على قول زيد وهو قول مالك والشافعي وأحمد فالفقهاء في الجد إما على قول أبي بكر وإما على قول زيد الذي أمضاه عمر ولم يذهب أحد من أئمة الفتيا إلى قول علي في الجد وذلك مما يبين أن الحق لا يخرج عن أبي بكر وعمر فإن زيدا قاضي عمر مع أن قول أبي بكر أرجح من قول زيد

 

 

وعمر كان متوقفا في الجد وقال ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهن لنا الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا وذلك لأن الله تعالى سمى الجد أبا في غير موضع من كتابه كما قال تعالى أخرج أبويكم من الجنة (سورة الأعراف). وقوله ملة أبيكم إبراهيم (سورة الحج). وقد قال يا بني إسرائيل يا بني آدم في غير موضع وإذا كان ابن الابن ابنا كان أبو الأب أبا ولأن الجد يقوم مقام الأب في غير مورد النزاع فإنه يسقط ولد الأم كالأب ويقدم على جميع العصبات سوى البنين كالأب ويأخذ مع الولد السدس كالأب ويجمع له بين الفرض والتعصيب مع البنات كالأب وأما في العمريتين زوج وأبوين وزوجة وأبوين فإن الأم تأخذ ثلث الباقي والباقي للآب ولو كان معها جد لأخذت الثلث كله عند جمهور الصحابة والعلماء إلا ابن مسعود لأن الأم أقرب من الجد

 

 

وإنما الجدة نظير الجد والأم تأخذ مع الأب الثلث والجدة لا تأخذ مع الجد إلا السدس وهذا مما يقوى به الجد ولأن الإخوة مع الجد الأدنى كالأعمام مع الجد الأعلى وقد وقد اتفق المسلمون على أن الجد الأعلى يقدم على الأعمام فكذلك الجد الأدنى يقدم على الإخوة لأن نسبة الإخوة إلى الجد الأدنى كنسبة الأعمام إلى الجد الأعلى ولأن الأخوة لو كانوا لكونهم بني الأب يشاركون الجد لكان بنو الإخوة كذلك كما يقوم بنو البنين مقام آبائهم ولما كان بنو الإخوة لا يشاركون الجد كان آباؤهم الإخوة كذلك وعكسه البنون لما كان الجد يفرض له مع البنين فرض له مع بني البنين وأما الحجة التي تورى عن علي وزيد في أن الإخوة يشاركون الجد حيث شبهوا ذلك بأصل شجرة خرج منها فرع خرج منه غصنان فأخذ الغصنين أقرب إلى الآخر منه إلى الأصل وبنهر خرج منه نهر آخر ومنه جدولان فأحدهما إلى الآخر أقرب من الجدول إلى النهر الأول فمضمون هذه الحجة أن الإخوة أقرب إلى الميت من الجد ومن تدبر أصول الشريعة علم أن حجة أبي بكر وجمهور الصحابة لا تعارضها هذه الحجة فإن هذه لو كانت صحيحة لكان بنو الأخ أولى من الجد ولكان العم أولى من جد الأب فإن نسبة الإخوة من الأب إلى

 

 

الجد أبي الأب كنسبة الأعمام بني الجد الأعلى إلى الجد الأعلى جد الأب فلما أجمع المسلمون على أن الجد أولى من الأعمام كان الجد الأدنى أولى من الإخوة وهذه حجة مستقلة تقتضي ترجيح الجد على الإخوة وأيضا فالقائلون بمشاركة الإخوة للجد لهم أقوال متعارضة متناقضة لا دليل على شيء منها كما يعرف ذلك من يعرف الفرائض فعلم أن قول أبي بكر في الجد أصح الأقوال كما أن قوله دائما أصح الأقوال.

*

فصل قال الرافضي فأي نسبة له بمن قال سلوني قبل أن تفقدوني سلوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض قال أبو البختري رأيت عليا صعد المنبر بالكوفة وعليه مدرعة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدا بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمما بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إصبعه خاتم رسول الله صلىالله عليه وسلم فقعد على المنبر وكشف عن بطنه فقال سلوني من قبل أن تفقدوني فإنما بين الجوانح مني علم جم هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ما زقني رسول الله صلى الله عليه وسلم زقا من غير وحي إلى فوالله لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الله التوراة والإنجيل فتقول صدق علي قد أفتاكم بما أنزل الله في وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون.

*والجواب أما قول علي سلوني فإنما كان يخاطب بهذا أهل الكوفة ليعلمهم العلم والدين فإن غالبهم كانوا جهالا لم يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم.

وأما أبو بكر فكان الذين حول منبره هم أكابر

==============

ج11. كتاب : منهاج السنة النبوية

 

المؤلف : شيخ الإسلام بن تيمية

 

 

إذا كان هذا مما يقع معصية لله ورسوله فما يفعله ولى الأمر من إقامة حد وتعزير يكون تكفير الخطايا به أولى وكانوا في زمن عمر إذا شرب أحدهم الخمر جاء بنفسه إلى الأمير وقال طهرني وقد جاء ماعز بن مالك والغامدية إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبا منه التطهير وإذا كان كذلك فكون الرجل وليا لله لا يمنع أن يحتاج إلى ما يكفر الله به سيئاته من تأديب ولي الأمر الذي أمره الله عليه وغير ذلك وإذا قيل هم مجتهدون معذورون فيما أدبهم عليه عثمان فعثمان أولى أن يقال فيه كان مجتهدا معذورا فيما أدبهم عليه فإنه إمام مأمور بتقويم رعيته وكان عثمان أبعد عن الهوى وأولى بالعلم والعدل فيما أدبهم عليه رضي الله عنهم أجمعين ولو قدح رجل في علي بن أبي طالب بأنه قاتل معاوية وأصحابه وقاتل طلحة والزبير لقيل له علي بن أبي طالب أفضل وأولى بالعلم والعدل من الذين قاتلوه فلا يجوز أن يجعل الذين قاتلوه هم العادلين وهو ظالم لهم كذلك عثمان فيمن أقام عليه حدا أو تعزيرا هو أولى بالعلم والعدل منهم وإذا وجب الذب عن علي لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك فالذب عن عثمان لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك أولى

 

 

وقوله وطرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة ومعه ابنه مروان فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما ولى عثمان آواه ورده إلى المدينة وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره مع أن الله قال لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله الآية (سورة المجادلة). والجواب أن الحكم بن أبي العاص كان من مسلمة الفتح وكانوا ألفى رجل ومروان ابنه كان صغيرا إذ ذاك فإنه من أقران ابن الزبير والمسور بن مخرمة عمره حين الفتح سن التمييز إما سبع سنين أو أكثر بقليل أو أقل بقليل فلم يكن لمروان ذنب يطرد عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه وقالوا هو ذهب باختياره وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح ولا لها إسناد يعرف به أمرها ومن الناس من يروي أنه حاكى النبي صلى الله عليه وسلم في مشيته ومنهم من يقول غير ذلك ويقولون إنه نفاه إلى الطائف

 

 

والطلقاء ليس فيهم من هاجر بل قال النبي صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ولما قدم صفوان بن أمية مهاجرا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مكة ولما أتاه العباس برجل ليبايعه على الهجرة وأقسم عليه أخذ بيده وقال إني أبررت قسم عمي ولا هجرة بعد الفتح وكان العباس قد خرج من مكة إلى المدينة قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إليها عام الفتح فلقيه في الطريق فلم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه كما تقدم وقالوا هو ذهب باختياره والطرد هو النفي والنفي قد جاءت به السنة في الزاني وفي المخنثين وكانوا يعزرون بالنفي وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزر رجلا بالنفي لم يلزم أن يبقى منفيا طول الزمان فإن هذا لا يعرف في شىء من الذنوب ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه

 

 

منفيا دائما بل غاية النفي المقدر سنة وهو نفي الزاني والمخنث حتى يتوب من التخنيث فإن كان تعزير الحاكم لذنب حتى يتوب منه فإذا تاب سقطت العقوبة عنه وإن كانت على ذنب ماض فهو أمر اجتهادى لم يقدر فيه قدر ولم يوقت فيه وقت وإذا كان كذلك فالنفي كان في آخر الهجرة فلم تطل مدته في زمن أبي بكر وعمر فلما كان عثمان طالت مدته وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن أبي سرح إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان كاتبا للوحي وارتد عن الإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه فيمن أهدر ثم جاء به عثمان فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شفاعته فيه وبايعه فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم وقد رووا أن عثمان سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يرده فأذن له في ذلك ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب عبد الله بن سعيد بن أبي سرح وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد الثابت وأما قصة الحكم فعامة من ذكرها إنما ذكرها مرسلة وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه وقل أن يسلم لهم نقلهم من الزيادة والنقصان فلم يكن هنا نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان

 

 

والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له وثنائه عليه وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة ومبايعة له عنه لما أرسله إلى مكة وتقديم الصحابة له باختيارهم في الخلافة وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا يعرف حقيقته بل مثل هذا مثل الذين يعارضون المحكم بالمتشابه وهذا من فعل الذين في قلوبهم زيغ الذين يبتغون الفتنة ولا ريب أن الرافضة من شرار الزائغين الذين يبتغون الفتنة الذين ذمهم الله ورسوله وبالجملة فنحن نعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمر بنفي أحد دائما ثم يرده عثمان معصية لله ورسوله ولا ينكر ذلك عليه المسلمون وكان عثمان رضي الله عنه أتقى لله من أن يقدم على مثل هذا بل هذا مما يدخله الاجتهاد فلعل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يرداه لأنه لم يطلب ذلك منهما وطلبه من عثمان فأجابه إلى ذلك أو لعله لم يتبين لهما توبته وتبين ذلك لعثمان وغاية ما يقدر أن يكون هذا خطأ من الاجتهاد أو ذنبا وقد تقدم الكلام على ذلك

 

 

وأما استكتابه مروان فمروان لم يكن له في ذلك ذنب لأنه كان صغيرا لم يجر عليه القلم ومات النبي صلى الله عليه وسلم ومروان لم يبلغ الحلم باتفاق أهل العلم بل غايته أن يكون له عشر سنين أو قريب منها وكان مسلما باطنا وظاهرا يقرأ القرآن ويتفقه في الدين ولم يكن قبل الفتنة معروفا بشىء يعاب به فلا ذنب لعثمان في استكتابه وأما الفتنة فأصابت من هو أفضل من مروان ولم يكن مروان ممن يحاد الله ورسوله وأما أبوه الحكم فهو من الطلقاء والطلقاء حسن إسلام أكثرهم وبعضهم فيه نظر ومجرد ذنب يعزر عليه لا يوجب أن يكون منافقا في الباطن والمنافقون تجري عليهم في الظاهر أحكام الإسلام ولم يكن أحد من الطلقاء بعد الفتح يظهر المحادة لله ورسوله بل يرث ويورث ويصلي عليه ويدفن في مقابر المسلمين وتجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على غيره وقد عرف نفاق جماعة من الأوس والخزرج كعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله ومع هذا كان المؤمنون يتعصبون لهم أحيانا كما تعصب سعد بن عبادة لابن أبي بين يدى رسول الله صلى الله عليهوسلم وقال لسعد بن معاذ والله لا تقتله ولا تقدر على قتله وهذا وإن كان ذنبا من سعد لم يخرجه ذلك عن الإيمان بل سعد من أهل الجنة ومن السابقين الأولين من الأنصار فكيف بعثمان إذا آوى رجلا لا يعرف أنه منافق ولو كان منافقا لم يكن الإحسان إليه موجبا للطعن في عثمان فإن الله تعالى يقول لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (سورة الممتحنة). وقد ثبت في الصحيح أن أسماء بنت أبي بكر قالت يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها قال نعم صلى أمك وقد أوصت صفية بنت حيى بن أخطب لقرابة لها من اليهود فإذا كان الرجل المؤمن قد يصل أقاربه الكفار ولا يخرجه ذلك عن الإيمان فكيف إذا وصل أقاربه المسلمين وغاية ما فيهم أن يتهموا بالنفاق

 

 

و أم المؤمنين صفية بنت حيى بن أخطب كان أبوها من رءوس اليهود المحادين لله ورسوله وكانت هي امرأة صالحة من أمهات المؤمنين المشهود لها بالجنة ولما ماتت أوصت لبعض أقاربها من اليهود وكان ذلك مما تحمد عليه لا مما تذم عليه وهذا مما احتج به الفقهاء على جواز صلة المسلم لأهل الذمة بالصدقة عليهم والوصية لهم فكيف بأمير المؤمنين إذا أحسن إلى عمه المظهر للإسلام وهذا حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة لشهوده بدرا والحديبية وقال لمن قال إنه منافق ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأين حاطب من عثمان فلو قدر والعياذ بالله أن عثمان فعل مع أقاربه ما هو من هذا الجنس لكان إحساننا القول فيه والشهادة له بالجنة أولى بذلك من حاطب بن أبي بلتعة وأما قوله إنه نفى أبا ذر إلى الربذة وضربه ضربا وجيعا مع أن

 

 

النبي صلى الله عليه وسلم قال في حقه ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذى لهجة أصدق من أبي ذر وقال إن الله أوحى إلى أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم فقيل له من هم يا رسول الله قال علي سيدهم وسلمان والمقداد وأبو ذر فالجواب أن أبا ذر سكن الربذة ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس فإن أبا ذر رضي الله عنه كان رجلا صالحا زاهدا وكان من مذهبه أن الزهد واجب وأن ما أمسكه الإنسان فاضلا عن حاجته فهو كنز يكوي به في النار واحتج على ذلك بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة احتج بقوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله (سورة التوبة). وجعل الكنز ما يفضل عن الحاجة واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه قال يا أبا ذر ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا يمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار إلا دينارا أرصده لدين وأنه قال الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذاولما توفي عبد الرحمن بن عوف وخلف مالا جعل أبو ذر ذلك من الكنز الذي يعاقب عليه وعثمان يناظره في ذلك حتى دخل كعب ووافق عثمان فضربه أبو ذر وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام بهذا السبب وقد وافق أبا ذر على هذا طائفة من النساك كما يذكر عن عبد الواحد ابن زيد ونحوه ومن الناس من يجعل الشبلي من أرباب هذا القول وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة فنفى الوجوب فيما دون المائتين ولم يشترط كون صاحبها محتاجا إليها أم لا وقال جمهور الصحابة الكنز هو المال الذي لم تؤد حقوقه وقد قسم

 

 

الله تعالى المواريث في القرآن ولا يكون الميراث إلا لمن خلف مالا وقد كان غير واحد من الصحابة له مال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار بل ومن المهاجرين وكان غير واحد من الأنبياء له مال وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم ويذمهم على ما لم يذمهم الله عليه مع أنه مجتهد في ذلك مثاب على طاعته رضي الله عنه كسائر المجتهدين من أمثاله وقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إيجاب إنما قال ما أحب أن يمضي على ثالثة وعندي منه شىء فهذا يدل على استحباب إخراج ذلك قبل الثالثة لا على وجوبه وكذا قوله المكثرون هم المقلون دليل على أن من كثر ماله قلت حسناته يوم القيامة إذا لم يكثر الإخراج منه وذلك لا يوجب أن يكون الرجل القليل الحسنات من أهل النار إذا لم يأت كبيرة ولم يترك فريضة من فرائض الله وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقوم رعيته تقويما تاما فلا يعتدي لا الأغنياء والفقراء فلما كان في خلافة عثمان توسع الأغنياء في الدنيا حتى زاد كثير منهم على قدر المباح في المقداروالنوع وتوسع أبو ذر في الإنكار حتى نهاهم عن المباحات وهذا من أسباب الفتن بين الطائفتين فكان اعتزال أبي ذر لهذا السبب ولم يكن لعثمان مع أبي ذر غرض من الأغراض وأما كون أبي ذر من أصدق الناس فذاك لا يوجب أنه أفضل من غيره بل كان أبو ذر مؤمنا ضعيفا كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لاتأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير وأهل الشورى مؤمنون أقوياء وأبو ذر وأمثاله مؤمنون ضعفاء

 

 

فالمؤمنون الصالحون لخلافة النبوة كعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف أفضل من أبي ذر وأمثاله والحديث المذكور بهذا اللفظ الذي ذكره الرافضي ضعيف بل موضوع وليس له إسناد يقوم به وأما قوله إنه ضيع حدود الله فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه وكان أمير المؤمنين يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه فلحق بمعاوية وأراد أن يعطل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حده أمير المؤمنين وقال لا تبطل حدود الله وأنا حاضر فالجواب أما قوله إن الهرمزان كان مولى علي فمن الكذب الواضح فإن الهرمزان كان من الفرس الذين استنابهم كسرى على قتال المسلمين فأسره المسلمون وقدموا به على عمرفأظهر الإسلام فمن عليه عمر وأعتقه فإن كان عليه ولاء فهو للمسلمين وإن كان الولاء لمن باشر العتق فهو لعمر وإن لم يكن عليه ولاء بل هو كالأسير إذا من عليه فلا ولاء عليه فإن العلماء تنازعوا في الأسير إذا أسلم هل يصير رقيقا بإسلامه أم يبقى حرا يجوز المن عليه والمفاداة كما كان قبل الإسلام مع اتفاقهم على أنه عصم بالإسلام دمه وفي المسألة قولان مشهوران هما قولان في مذهب أحمد وغيره وليس لعلي سعى لا في استرقاقه ولا في إعتاقه ولما قتل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان الذي قتله أبو لؤلؤة الكافر المجوسي مولى المغيرة بن شعبة وكان بينه وبين الهرمزان مجانسة وذكر لعبيد الله بن عمر أنه رؤى عند الهرمزان حين قتل عمر فكان ممن أتهم بالمعاونة على قتل عمر وقد قال عبد الله بن عباس لما قتل عمر وقال له عمر قد كنت

 

 

أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة فقال إن شئت أن نقتلهم فقال كذبت أما بعد إذ تكلموا بلسانكم وصلوا إلى قبلتكم فهذا ابن عباس وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقا الذين كانوا بالمدينة لما اتهموهم بالفساد اعتقد جواز مثل هذا فكيف لا يعتقد عبد الله جواز قتل الهرمزان فلما استشار عثمان الناس في قتله فأشار عليه طائفة من الصحابة أن لا تقتله فإن أباه قتل بالامس ويقتل هو اليوم فيكون في هذا فساد في الإسلام وكأنهم وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان وهل كان من الصائلين الذين كانوا يستحقون الدفع أو من المشاركين في قتل عمر الذين يستحقون القتل وقد تنازع الفقهاء في المشتركين في القتل إذا باشر بعضهم دونبعض فقيل لا يجب القود إلا على المباشر خاصة وهو قول أبي حنيفة وقيل إذا كان السبب قويا وجب على المباشر والمتسبب كالمكره والمكره وكالشهود بالزنا والقصاص إذا رجعوا وقالوا تعمدنا وهذا مذهب الجمهور كمالك والشافعي وأحمد ثم إذا أمسك واحد وقتله الآخر فمالك يوجب القود على الممسك والقاتل وهو إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى يقتل القاتل ويحبس الممسك حتى يموت كما روى عن ابن عباس وقيل لا قود إلا على القاتل كقول أبي حنيفة والشافعي وقد تنازعوا أيضا في الآمر الذي لم يكره إذا أمر من يعتقد أن القتل محرم هل يجب القود على الآمر على قولين وأما الردء فيما يحتاج فيه إلى المعاونة كقطع الطريق فجمهورهم على أن الحد يجب على الردء والمباشرة جميعا وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد وكان عمر بن الخطاب يأمر بقتل الربيئة وهو الناطور لقطاع الطريق

 

 

وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر جاز قتله في أحد القولين قصاصا وعمر هو القائل في المقتول بصنعاء لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به وأيضا فقد تنازع الناس في قتل الأئمة هل يقتل قاتلهم حدا أو قصاصا على قولين في مذهب أحمد وغيره أحدهما أنهم يقتلون حدا كما يقتل القاتل في المحاربة حدا لأن قتل الأئمة فيه فساد عام أعظم من فساد قطاع الطريق فكان قاتلهم محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا وعلى هذا خرجوا فعل الحسن بن علي رضي الله عنهما لما قتل ابن ملجم قاتل علي وكذلك قتل قتلة عثمان وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان من المفسدين في الأرض المحاربين فيجب قتله لذلك ولو قدر أن المقتول معصوم الدم يحرم قتله لكن كان القاتل متأولا يعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة صار ذلك شبهة تدرأ القتل عن القاتل كما أن أسامة بن زيد لما قتل ذلك الرجل بعدما قال لا إله إلا الله واعتقد أن هذا القول لا يعصمه عزره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلام ولم يقتله لأنه كان متأولا لكن الذي قتله أسامة كان مباحا قبل القتل فشك في العاصم

 

 

وإذا كان عبيد الله بن عمر متأولا يعتقد أن الهرمزان أعان على قتل أبيه وأنه يجوز له قتله صارت هذه شبهة يجوز أن يجعلها المجتهد مانعة من وجوب القصاص فإن مسائل القصاص فيها مسائل كثيرة اجتهادية وأيضا فالهرمزان لم يكن له أولياء يطلبون دمه وإنما وليه ولي الأمر ومثل هذا إذا قتله قاتل كان للإمام قتل قاتله لأنه وليه وكان له العفو عنه إلى الديه لئلا تضيع حقوق المسلمين فإذا قدر أن عثمان عفا عنه ورأى قدر الدية أن يعطيها لآل عمر لما كان على عمر من الدين فإنه كان عليه ثمانون ألفا وأمر أهله أن يقضوا دينه من أموال عصبته عاقلته بني عدي وقريش فإن عاقلة الرجل هم الذين يحملون كله والدية لو طالب بها عبيد الله أو عصبة عبيد الله إذا كان قتله خطأ أو عفا عنه إلى الدية فهم الذين يؤدون دين عمر فإذا أعان بها في دين عمر كان هذا من محاسن عثمان التي يمدح بها لا يذم وقد كانت أموال بيت المال في زمن عثمان كثيرة وكان يعطى الناس عطاء كثيرا أضعاف هذا فكيف لا يعطى هذا لآل عمروبكل حال فكانت مسألة اجتهادية وإذا كانت مسألة اجتهادية وقد رأى طائفة كثيرة من الصحابة أن لا يقتل ورأى آخرون أن يقتل لم ينكر على عثمان ما فعله باجتهاده ولا على علي ما قاله باجتهاده وقد ذكرنا تنازع العلماء في قتل الأئمة هل هو من باب الفساد الذي يجب قتل صاحبه حتما كالقاتلين لأخذ المال أم قتلهم كقتل الآحاد الذين يقتل أحدهم الآخر لغرض خاص فيه فيكون على قاتل أحدهم القود وذكرنا في ذلك قولين وهما قولان في مذهب أحمد وغيره وذكرهما القاضي أبو يعلى وغيره فمن قال إن قتلهم حد قال إن جنايتهم توجب من الفتنة والفساد أكثر مما يوجبه جناية بعض قطاع الطريق لأخذ المال فيكون قاتل الأئمة من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا ويدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله

 

 

عليه وسلم أنه قال من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان فأمر بقتل الواحد المريد لتفريق الجماعة ومن قتل إمام المسلمين فقد فرق جماعتهم ومن قال هذا قال إن قاتل عمر يجب قتله حتما وكذلك قتله عثمان يجب قتلهم حتما وكذلك قاتل علي يجب قتله حتما وبهذا يجاب عن ابنه الحسن بن علي وغيره من يعترض عليهم فنقول كيف قتلوا قاتل علي وكان في ورثته صغار وكبار والصغار لم يبلغوا فيجاب عن الحسن بجوابين أحدهما أن قتله كان واجبا حتما لأن قتل علي وأمثاله من أعظم المحاربة لله ورسوله والفساد في الأرض ومنهم من يجيب بجواز انفراد الكبار بالقود كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وإذا كان قتل عمر وعثمان وعلي ونحوهم من باب المحاربة فالمحاربة يشترك فيها الردء والمباشر عند الجمهور فعلى هذا من أعانعلى قتل عمر ولو بكلام وجب قتله وكان الهرمزان ممن ذكر عنه أنه أعان على قتل عمر بن الخطاب وإذا كان الأمر كذلك كان قتله واجبا ولكن كان قتله إلى الأئمة فافتات عبيد الله بقتله وللإمام أن يعفو عمن افتات عليه وأما قوله إن عليا كان يريد قتل عبيد الله بن عمر فهذا لو صح كان قدحا في علي والرافضة لا عقول لهم يمدحون بما هو إلى الذم أقرب فإنها مسألة اجتهاد وقد حكم حاكم بعصمة الدم فكيف يحل لعلي نقضه وعلي ليس ولي المقتول ولا طلب ولي المقتول القود وإذا كان حقه لبيت المال فللإمام أن يعفو عنه وهذا مما يذكر في عفو عثمان وهو أن الهرمزان لم يكن له عصبة إلا السلطان وإذا قتل من لا ولى له كان الإمام أن يقتل قاتله وله أن لا يقتل قاتله ولكن يأخذ الدية والدية حق للمسلمين فيصرفها في مصارف الأموال وإذا ترك لآل عمر دية مسلم كان هذا بعض ما يستحقونه على المسلمين وبكل حال فلم يكن بعد عفو عثمان وحكمه بحقن دمه يباح قتله

 

 

أصلا وما أعلم في هذا نزاعا بين المسلمين فكيف يجوز أن ينسب إلى علي مثل ذلك ثم يقال يا ليت شعري متى عزم علي على قتل عبيد الله ومتى تمكن علي من قتل عبيد الله أو متى تفرغ له حتى ينظر في أمره وعبيد الله كان معه ألوف مؤلفة من المسلمين مع معاوية وفيهم خير من عبيد الله بكثير وعلي لم يمكنه عزل معاوية وهو عزل مجرد أفكان يمكنه قتل عبيد الله ومن حين مات عثمان تفرق الناس وعبد الله بن عمر الرجل الصالح لحق بمكة ولم يبايع أحدا ولم يزل معتزل الفتنة حتى اجتمع الناس على معاوية مع محبته لعلي ورؤيته له أنه هو المستحق للخلافة وتعظيمه له وموالاته له وذمه لمن يطعن عليه ولكن كان لا يرى الدخول في القتال بين المسلمين ولم يمتنع عن موافقة على إلا في القتال وعبيد الله بن عمر لحق معاوية بعد مقتل عثمان كما لحقه غيره ممن كانوا يميلون إلى عثمان وينفرون عن علي ومع هذا فلم يعرف لعبيدالله من القيام في الفتنة ما عرف لمحمد بن أبي بكر والأشتر النخعي وأمثالهما فإنه بعد القتال وقع الجميع في الفتنة وأما قبل مقتل عثمان فكان أولئك ممن أثار الفتنة بين المسلمين

 

 

ومن العجب أن دم الهرمزان المتهم بالنفاق والمحاربة لله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد تقام فيه القيامة ودم عثمان يجعل لا حرمة له وهو إمام المسلمين المشهود له بالجنة الذي هو وإخوانه أفضل الخلق بعد النبين ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء وأصبر الناس على من نال من عرضه وعلى من سعى في دمه فحاصروه وسعوا في قتله وقد عرف إرادتهم لقتله وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم وروى أنه قال لمماليكه من كف يده فهو حر وقيل له تذهب إلى مكة فقال لا أكون ممن الحد في الحرم فقيل له تذهب إلى الشام فقال لا أفارق دار هجرتي فقيل له فقاتلهم فقال لا أكون أول من خلف محمدا في أمته بالسيف فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين ومعلوم أن الدماء الكثيرة التي سفكت باجتهاد علي ومن قاتله لم يسفك قبلها مثلها من دماء المسلمين فإذا كان ما فعله علي مما لا يوجب القدح في علي بل كان دفع الظالمين لعلي من الخوارج وغيرهم من النواصب

 

 

القادحين في علي واجبا فلأن يجب دفع الظالمين القادحين في عثمان بطريق الأولى والأحرى إذ كان بعد عثمان عن استحلال دماء المسلمين أعظم من بعد علي عن ذلك بكثير كثير وكان من قدح في عثمان بأنه كان يستحل إراقة دماء المسلمين بتعطيل الحدود كان قد طرق من القدح في علي ماهو أعظم من هذا وسوغ لمن أبغض عليا وعاداه وقاتله أن يقول إن عليا عطل الحدود الواجبة على قتلة عثمان وتعطيل تلك الحدود إن كانت واجبة أعظم فسادا من تعطيل حد وجب بقتل الهرمزان وإذا كان من الواجب الدفع عن علي بأنه كان معذورا باجتهاد أو عجز فلأن يدفع عن عثمان بأنه كان معذورا بطريق الأولى وأما قوله أراد عثمان تعطيل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حده أمير المؤمنين فهذا كذب عليهما بل عثمان هو الذي أمر عليا بإقامة الحد عليهكما ثبت ذلك في الصحيح وعلي خفف عنه وجلده أربعين ولو جلده ثمانين لم ينكر عليه عثمان وقول الرافضي إن عليا قال لا يبطل حد الله وأنا حاضر فهو كذب وإن كان صدقا فهو من أعظم المدح لعثمان فإن عثمان قبل قول علي ولم يمنعه من إقامة الحد مع قدرة عثمان على منعه لو أراد فإن عثمان كان إذا أراد شيئا فعله ولم يقدر على علي منعه وإلا

 

 

فلو كان علي قادرا على منعه مما فعله من الأمور التي أنكرت عليه ولم يمنعه مما هو عنده منكر مع قدرته كان هذا قدحا في علي فإذا كان عثمان أطاع عليا فيما أمره به من إقامة الحد دل ذلك على دين عثمان وعدله وعثمان ولى الوليد بن عقبة هذا على الكوفة وعندهم أن هذا لم يكن يجوز فإن كان حراما وعلي قادر على منعه وجب على علي منعه فإذا لم يمنعه دل على جوازه عند علي أو على عجز علي وإذا عجز عن منعه عن الإمارة فكيف لا يعجز عن ضربه الحد فعلم أن عليا كان عاجزا عن حد الوليد لولا أن عثمان أراد ذلك فإذا أراده عثمان دل على دينه وقائل هذا يدعي أن الحدود ما زالت تبطل وعلي حاضر حتى في ولايته يدعون أنه كان يدع الحدود خوفا وتقية فإن كان قال هذا ولم يقله إلا لعلمه بأن عثمان وحاشيته يوافقونه على إقامة الحدود وإلا فلو كان يتقي منهم لما قال هذا ولا يقال إنه كان أقدر منهم على ذلك فإن قائل هذا يدعي أنه كان عاجزا لا يمكنه إظهار الحق بينهم

 

 

ودليل هذا أنه لم يمكنه عندهم إقامة الحد على عبيد الله بن عمر وعلى نواب عثمان وغيرهم والرافضة تتكلم بالكلام المتناقض الذي ينقض بعضه بعضا وأما قوله إنه زاد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو بدعة فصار سنة إلى الآن فالجواب أن عليا رضي الله عنه كان ممن يوافق على ذلك في حياة عثمان وبعد مقتله ولهذا لما صار خليفة لم يأمر بإزالة هذا الأذان كما أمر بما أنكره من ولاية طائفة من عمال عثمان بل أمر بعزل معاوية وغيره ومعلوم أن إبطال هذه البدعة كان أهون عليه من عزل أولئك ومقاتلتهم التي عجز عنها فكان علي إزالة هذه البدعة من الكوفة ونحوها من أعماله أقدر منه على إزالة أولئك ولو أزال ذلك لعلمه الناس ونقلوه فإن قيل كان الناس لا يوافقونه على إزالتها قيل فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على استحبابها واستحسانها حتى الذين قاتلوا مع علي كعمار وسهل بن حنيف وغيرهما من السابقين الأولين وإلا فهؤلاء الذين هم أكابر الصحابة لو أنكروا لم يخالفهم غيرهم وإن قدر أن في الصحابة من كان ينكر

 

 

هذا ومنهم من لا ينكره كان ذلك من مسائل الاجتهاد ولم يكن هذا مما يعاب به عثمان وقول القائل هي بدعة إن أراد بذلك أنه لم يكن يفعل قبل ذلك فكذلك قتال أهل القبلة بدعة فإنه لم يعرف أن إماما قاتل أهل القبلة قبل علي وأين قتال أهل القبلة من الأذان فإن قيل بل البدعة ما فعل بغير دليل شرعي قيل لهم فمن أين لكم أن عثمان فعل هذا بغير دليل شرعي وإن عليا قاتل أهل القبلة بدليل شرعي وأيضا فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحدث في خلافته العيد الثاني بالجامع فإن السنة المعروفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أنه لا يصلي في المصر إلا جمعة واحدة ولا يصلى يوم النحر والفطر إلا عيد واحد والجمعة كانوا يصلونها في المسجد والعيد يصلونه بالصحراء وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة وعرفة قبل الصلاة وفي العيد بعد الصلاة واختلف عنه في الاستسقاء فلما كان على عهد علي قيل له إن بالبلد ضعفاء لا يستطيعون

 

 

الخروج إلى المصلى فاستخلف عليهم رجلا صلى بالناس بالمسجد قيل إنه صلى ركعتين بتكبير وقيل بل صلى أربعا بلا تكبير وأيضا فإن ابن عباس عرف في خلافة علي بالبصرة ولم يرو عن علي أنه أنكر ذلك وما فعله عثمان من النداء الأول اتفق عليه الناس بعده أهل المذاهب الأربعة وغيرهم كما اتفقوا على ما سنه أيضا عمر من جمع الناس في رمضان على إمام واحد وأما ما سنة علي من إقامة عيدين فتنازع العلماء فيه وفي الجمعة على ثلاثة أقوال قيل إنه لا يشرع في المصر إلا جمعة واحدة وعيد واحد كقول مالك وبعض أصحاب أبي حنيفة لأنه السنة وقيل بل يشرع تعدد صلاة العيد في المصر دون الجمعة كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين لكل قائل هذا بناه على أن صلاة العيد لا يشترط لها الإقامة والعدد كما يشترط للجمعة وقالوا إنها تصلى في الحضر والسفر وهذا خلاف المتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين وقيل بل يجوز عند الحاجة أن تصلي جمعتان في المصر كما صلى على عيدين للحاجة وهذا مذهب أحمد بن حنبل في المشهور عنه وأكثر أصحاب أبي حنيفة وأكثر المتأخرين من

 

 

أصحاب الشافعي وهؤلاء يحتجون بفعل علي بن أبي طالب لأنه من الخلفاء الراشدين وكذلك أحمد بن حنبل جوز التعريف بالأمصار واحتج بأن ابن عباس فعله بالبصرة وكان ذلك في خلافة علي وكان ابن عباس نائبه بالبصرة فأحمد بن حنبل وكثير من العلماء يتبعون عليا فيما سنه كما يتبعون عمر وعثمان فيما سناه وآخرون من العلماء كمالك وغيره لا يتبعون عليا فيما سنه وكلهم متفقون على اتباع عمر وعثمان فيما سناه فإن جاز القدح في عمر وعثمان فيما سناه وهذا حاله فلأن يقدح في علي فيما سنه وهذا حاله بطريق الأولى وإن قيل بأن ما فعله على سائغ لا يقدح فيه لأنه باجتهاده أو لأنه سنة يتبع فيه فلأن يكون ما فعله عمر وعثمان كذلك بطريق الأولى ومن هذا الباب ما يذكر مما فعله عمر مثل تضعيف الصدقة التي هي جزية في المعنى على نصارى بني تغلب وأمثال ذلك ثم من العجب أن الرافضة تنكر شيئا فعله عثمان بمشهد من الأنصار والمهاجرين ولم ينكروه عليه واتبعه المسلمون كلهم عليه في أذان الجمعة وهم قد زادوا في الأذان شعارا لم يكن يعرف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا نقل أحد أن النبي صلى الله عليه

 

 

وسلم أمر بذلك في الأذان وهو قولهم وحي على خير العمل وغاية ما ينقل إن صح النقل أن بعض الصحابة كابن عمر رضي الله عنهما كان يقول ذلك أحيانا على سبيل التوكيد كما كان بعضهم يقول بين النداءين حي على الصلاة حي على الفلاح وهذا يسمى نداء الأمراء وبعضهم يسميه التثويب ورخص فيه بعضهم وكرهه أكثر العلماء ورووا عن عمر وابنه وغيرهما كراهة ذلك ونحن نعلم بالاضطرار أن الأذان الذي كان يؤذنه بلال وابن أم مكتوم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأبو محذورة بمكة وسعد القرظ في قباء لم يكن فيه هذا الشعار الرافضي ولو كان فيه لنقله المسلمون ولم يهملوه كما نقلوا ما هو أيسر منه فلما لم يكن في الذين نقلوا الأذان من ذكر هذه الزيادة علم أنها بدعة باطلة وهؤلاء الأربعة كانوا يؤذنون بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ومنه تعلموا الأذان وكانوا يؤذنون في أفضل المساجد مسجة مكة ومسجد المدينة ومسجد قباء وأذانهم متواتر عند العامة والخاصةومعلوم أن نقل المسلمين للأذان أعظم من نقلهم إعراب آية كقوله وأرجلكم ونحو ذلك ولا شيء أشهر في شعائر الإسلام من الأذان فنقله أعظم من نقل سائر شعائر الإسلام وإن قيل فقد اختلف في صفته قيل بل كل ما ثبت به النقل فهو صحيح سنة ولا ريب أن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة الأذان وفيه الترجيع والإقامة مثناة كالأذان ولا ريب أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ولم يكن في أذانه ترجيع فنقل إفراد الإقامة صحيح بلا ريب ونقل تثنيتها صحيح بلا ريب وأهل العلم بالحديث يصححون هذا وهذا وهذا مثل أنواع التشهدات المنقولات ولكن اشتهر بالحجاز آخرا إفراد الإقامة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم بلالا وأما الترجيع فهو يقال سرا وبعض الناس يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم علمه لأبي محذورة ليثبت الإيمان في قلبه لا أنه من الأذان فقد اتفقوا على

 

 

أنه لقنه أبا محذورة فلم يبق بين الناس خلاف في نقل الأذان المعروف وأما قوله وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل وعابوا أفعاله وقالوا له غبت عن بدر وهربت يوم أحد ولم تشهد بيعة الرضوان والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى فالجواب أما قوله وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل فإن أراد أنهم خالفوه خلافا يبيح قتله أو أنهم كلهم أمروا بقتله ورضوا بقتله وأعانوا على قتله فهذا مما يعلم كل أحد أنه من أظهر الكذب فإنه لم يقتله إلا طائفة قليلة باغية ظالمة قال ابن الزبير لعنت قتلة عثمان خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية فقتلهم الله كل قتلة ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب يعني هربوا ليلا وأكثر المسلمين كانوا غائبين وأكثر أهل المدينة الحاضرين لم يكونوا يعلمون أنهم يريدون قتله حتى قتلوه وإن أراد أن كل المسلمين خالفوه في كل ما فعله أو في كل ما أنكر عليه فهذا أيضا كذب فما من شىء أنكر عليه إلا وقد وافقه عليه

 

 

كثير من المسلمين بل من علمائهم الذين لا يتهمون بمداهنة والذين وافقوا عثمان على ما أنكر عليه أكثر وأفضل عند المسلمين من الذين وافقوا عليا على ما أنكر عليه إما في كل الأمور وإما في غالبها وبعض المسلمين أنكر عليه بعض الأمور وكثير من ذلك يكون الصواب فيه مع عثمان وبعضه يكون فيه مجتهدا ومنه ما يكون المخالف له مجتهدا إما مصيبا وإما مخطئا وأما الساعون في قتله فكلهم مخطئون بل ظالمون باغون معتدون وإن قدر أن فيهم من قد يغفر الله له فهذا لا يمنع كون عثمان قتل مظلوما والذي قال له غبت عن بدر وبيعة الرضوان وهربت يوم أحد قليل جدا من المسلمين ولم يعين منهم إلا اثنان أو ثلاثة أو نحو ذلك وقد اجابهم عثمان وابن عمر وغيرهما عن هذا السؤال وقالوا يوم بدر غاب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ليخلفه عن ابنة النبي صلى الله عليه وسلم فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره ويوم الحديبية بايع النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان بيده ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير له من يده لنفسه وكانت البيعة

 

 

بسببه فإنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم رسولا إلى أهل مكة بلغه انهم قتلوه فبايع أصحابه على أن لا يفروا وعلى الموت فكان عثمان شريكا في البيعة مختصا بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم له وطلبت منه قريش أن يطوف بالبيت دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فامتنع من ذلك وقال حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يرسل عمر فأخبره أنه ليس له بمكة شوكة يحمونه وأن عثمان له بمكة بنو أمية وهم من أشراف مكة فهم يحمونه وأما التولي يوم أحد فقد قال الله تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ماكسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (سورة آل عمران). فقد عفا الله عن جميع المتولين يوم أحد فدخل في العفو من هو دون عثمان فكيف لا يدخل هو فيه مع فضله وكثرة حسناتهفصل قال الرافضي وقد ذكر الشهرستاني وهو من أشد المتعصبين على الإمامية أن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فأول تنازع وقع في مرضه ما رواه البخاري بإسناده إلى أبن عباس قال لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي توفي فيه فقال ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده فقال عمر إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله وكثر اللغط فقال النبي صلى الله عليه وسلم قوموا عني لا ينبغي عند التنازع الجواب أن يقال ما ينقله الشهرستاني وأمثاله من المصنفين في الممل والنحل عامته مما ينقله بعضهم عن بعض وكثير من ذلك لم يحرر فيه

 

 

أقوال المنقول عنهم ولم يذكر الإسناد في عامة ما ينقله بل هو ينقل من كتب من صنف المقالات قبله مثل أبي عيسى الوراق وهو من المصنفين للرافضة المتهمين في كثر مما ينقلونه ومثل أبي يحيى وغيرهما من الشيعة وينقل أيضا من كتب بعض الزيدية والمعتزلة الطاعنين في كثير من الصحابة ولهذا تجد نقل الأشعري أصح من نقل هؤلاء لأنه أعلم بالمقالات وأشد احترازا من كذب الكذابين فيها مع أنه يوجد في نقله ونقل عامة من ينقل المقالات بغير ألفاظ أصحابها ولا إسناد عنهم من الغلط ما يظهر به الفرق بين قولهم وبين ما نقل عنهم حتى في نقل الفقهاء بعضهم مذاهب بعض فإنه يوجد فيها غلط كثير وإن لم يكن الناقل ممن يقصد الكذاب بل يقع الغلط على من ليس له غرض في الكذب عنه بل هو معظم له أو متبع له ورسول الله صلى الله عليه وسلم كل المؤمنين متفقون على موالاته وتعظيمه ووجوب الباعة ومع هذا فغير علماء الحديث يكثر في نقلهم الغلط عليه ويزيدون في كلامه وينقصون نقصا يفسد المعنى الذي قصده بل يغلطون في معرفة أموره المشهورة المتواترة عند العامة وغيرهم

 

 

ونحن وإن كنا قد بينا كذب كثير مما ينقله هذا الرافضي فمعلوم أن كثيرا ممن ينقل ذلك لم يتعمد الكذب لا هذا ولا نحوه لكن وقع إما تعمدا للكذب من بعضهم وإما غلطا وسوء حفظ ثم قبله الباقون لعدم علمهم ولهواهم فإن الهوى يعمى ويصم وصاحب الهوى يقبل ما وافق هواه بلا حجة توجب صدقة ويرد ما خالف هواه بلا حجة توجب رده وليس في الطوائف أكثر تكذيبا بالصدق وتصديقا بالكذب من الرافضة فإن رؤوس مذهبهم وأئمته والذين ابتدعوه وأسسوه كانوا منافقين زنادقة كما ذكر ذلك عن غير واحد من أهل العلم وهذا طاهر لمن تأمله بخلاف قول الخوارج فإنه كان عن جهل بتأول القرآن وغلو في تعظيم الذنوب وكذلك قول الوعيدية والقدرية كان عن تعظيم الذنوب وكذلك قول المرجئة كان أصل مقصودهم نفى التكفير عمن صدق الرسل ولهذا رؤوس المذاهب التي ابتدعوها لم يقل أحد أنهم زنادقة منافقون بخلاف الرافضة فإن رؤوسهم كانوا كذلك مع أن كثيرا منهم ليسوا منافقين ولا كفارا بل بعضهم له إيمان وعمل صالح ومنهم من هو مخطىء يغفر له خطاياه ومنهم من هو صاحب ذنب يرجى له مغفرة الله لكن الجهل بمعنى القرآن والحديث

 

 

شامل لهم كلهم فليس فيهم إمام من أئمة المسلمين في العلم والدين وأصل المذهب إنما ابتدعه زنادقة منافقون مرادهم إفساد دين الإسلام وقد رأيت كثيرا من كتب أهل المقالات التي ينقلون فيها مذاهب الناس ورأيت أقوال أولئك فرأيت فيها اختلافا كثيرا وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم ثم إن غالب كتب أهل الكلام والناقلين للمقالات ينقلون في أصول الملل والنحل من المقالات ما يطول وصفه ونفس ما بعث الله به رسوله وما يقوله أصحابه والتابعون لهم في ذلك الأصل الذي حكوا فيه أقوال الناس لا ينقلونه لا تعمدا منهم لتركه بل لأنهم لم يعرفوه بل ولا سمعوه لقلة خبرتهم بنصوص الرسول وأصحابه والتابعين وكتاب المقالات للأشعري أجمع هذه الكتب وأبسطها وفيه من الأقوال وتحريرها ما لا يوجد في غيرها وقد نقل مذهب أهل السنة والحديث بحسب ما فهمه وظنه قولهم وذكر أنه يقول بكل ما نقله عنهم وجاء بعده من أتباعه كابن فورك من لم يعجبه ما نقله عنهم فنقص

 

 

من ذلك وزاد مع هذا فلكون خبرته بالكلام أكثر من خبرته بالحديث ومقالات السلف وأئمة السنة قد ذكر في غير موضع عنهم أقوالا في النفي والإثبات لا تنقل عن أحد منهم أصلا مثل ذلك الإطلاق لا لفظا ولا معنى بل المنقول الثابت عنهم يكون فيه تفصيل في نفي ذلك اللفظ والمعنى المراد وإثباته وهم منكرون الإطلاق الذي أطلقه من نقل عنهم ومنكرون لبعض المعنى الذي أراده بالنفي والإثبات والشهرستاني قد نقل في غير موضع أقوالا ضعيفة يعرفها من يعرف مقالات الناس مع أن كتابه أجمع من أكثر الكتب المصنفة في المقالات وأجود نقلا لكن هذا الباب وقع فيه ما وقع ولهذا لما كان خبيرا بقول الأشعرية وقول ابن سينا ونحوه من الفلاسفة كان أجود ما نقله قول هاتين الطائفتين وأما الصحابة والتابعون وائمة السنة والحديث فلا هو ولا أمثاله يعرفون أقوالهم بل ولا سمعوها على وجهها بنقل أهل العلم لها بالأسانيد المعروفة وإنما سمعوا جملا تشتمل على حق وباطل ولهذا إذا اعتبرت مقالاتهم الموجودة في مصنفاتهم الثابتة بالنقل

 

 

عنهم وجد من ذلك ما يخالف تلك النقول عنهم وهذا من جنس نقل التواريخ والسير ونحو ذلك من المرسلات والمقاطيع وغيرهما مما فيه صحيح وضعيف وإذا كان كذلك فنقول ما علم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر من محاسن الصحابة وفضائلهم لا يجوز أن يدفع بنقول بعضها منقطع وبعضها محرف وبعضها لا يقدح فيما علم فإن اليقين لا يزول بالشك ونحن قد تيقنا ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف قبلنا وما يصدق ذلك من المنقولات المتواترة من أدلة العقل من أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها فكيف إذا علم بطلانها وأما قوله إن الشهرستاني من أشد المتعصبين على الإمامية فليس كذلك بل يميل كثير إلى أشياء من أمورهم بل يذكر أحيانا أشياء من كلام الإسماعيلية الباطنية وإن لم يكن الأمر كذلك وقد ذكر من اتهمه بعض الناس بأنه من الإسماعيلية وإن لم يكن الأمر كذلك وقد ذكر من اتهمه شواهد من كلامه وسيرته وقد يقال هو مع الشيعة بوجه ومع أصحاب الأشعرى بوجهوقد وقع في هذا كثير من أهل الكلام والوعاظ وكانوا يدعون بالأدعية المأثورة في صحيفة علي بن الحسين وإن كان أكثرها كذبا على علي ابن الحسين وبالجملة فالشهرستاني يظهر الميل إلى الشيعة إما بباطنه وإما مداهنة لهم فإن هذا الكتاب كتاب الملل والنحل صنفه لرئيس من رؤسائهم وكانت له ولاية ديوانية وكان للشهرستاني مقصود في استعطافه له وكذلك صنف له كتاب المصارعة بينه وبين ابن سينا لميله إلى التشيع والفلسفة وأحسن أحواله أن يكون من الشيعة إن لم يكن من الإسماعيلية أعني المصنف له ولهذا تحامل فيه للشيعة تحاملا بينا

 

 

وإذا كان في غير ذلك من كتبه يبطل مذهب الإمامية فهذا يدل على المداهنة لهم في هذا الكتاب لأجل من صنفه له وأيضا فهذه الشبهة التي حكاها الشهرستاني في أول كتاب الملل والنحل عن إبليس في مناظرته للملائكة لا تعلم إلا بالنقل وهو لم يذكر لها إسنادا بل لا إسناد لها أصلا فإن هذه لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة ولا عن أئمة المسلمين المشهورين ولا هي أيضا مما هو معلوم عند أهل الكتاب وهذه لا تعلم إلا بالنقل عن الأنبياء وإنما توجد في شيء من كتب المقالات وبعض كتب النصارى والشهرستاني أكثر ما ينقله من المقالات من كتب المعتزلة وهم يكذبون بالقدر فيشبه والله أعلم أن يكون بعض المكذبين بالقدر وضع هذه الحكاية ليجعلها حجة على المثبتين للقدر كما يضعون شعرا على لسان يهودي وغير ذلك فإنا رأينا كثيرا من القدرية يضعون على لسان الكفار ما فيه حجة على الله ومقصودهم بذلك التكذيب بالقدر

 

 

وأن من صدق به فقد جعل للخلق حجة على الخالق كما وجدنا كثيرا من الشيعة يضع حججا لهم على لسان بعض اليهود ليقال لأهل السنة أجيبوا هذا اليهودي ويخاطب بذلك من لا يحسن أن يبين فساد تلك الحجة من جهال العامة وأما قول القائل إن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فهذا من أظهر الكذب الباطل فإنه إن كان قصده أن هذا أول ذنب أذنب فهذا باطل ظاهر البطلان وإن كان قصده أن هذا أول اختلاف وقع بعد تلك الشبهة فهو باطل من وجوه أحدها أن شبهة إبليس لم توقع خلافا بين الملائكة ولا سمعها الآدميون منه حتى يوقع بينهم خلافا والثاني أن الخلاف ما زال بين بني آدم من زمن نوح واختلاف الناس قبل المسلمين أعظم بكثير من اختلاف المسلمين وقد قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (سورة البقرة). قال ابن عباس كان بين آدم

 

 

ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ثم اختلفوا بعد ذلك وقال تعالى وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا (سورة يونس). وقال تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم (سورة هود). وقالت المائكة لما قال تعالى إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك (سورة البقرة). وقد أخبر الله تعالى أن ابني آدم قتل أحدهما أخاه وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها فإنه أول من سن القتل وقال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (سورة البقرة).

 

 

وقد قال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات (سورة آل عمران). فهذه نصوص القرآن تخبر بالاختلاف والتفرق الذي كان في الأمم قبلنا وقال صلى الله عليه وسلم افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وقد أخبر الله من تكذيب قوم عاد وثمود وفرعون لأنبيائهم ما فيه عبرة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذروني ماتركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وقال تعالى عن أهل الكتاب قبلنا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله (سورة المائدة). وقال تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة (سورة المائدة). وأمثال ذلك مما يعلم بالاضطرار في الأمم قبلنا من الاختلاف

 

 

والنزاع والخلاف الواقع في غير أهل الملل أكثر منه في أهل الملل فكل من كان إلى متابعة الأنبياء أقرب كان الخلاف بينهم أقل فالخلاف المنقول عن فلاسفة اليونان والهند وأمثالهم أمرلا يحصيه إلا الله وبعده الخلاف عن أعظم الملل ابتداعا كالرافضة فينا وبعد ذلك الخلاف الذي بين المعتزلة ونحوهم وبعد ذلك خلاف الفرق المنتسبة إلى الجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية ونحوهم ثم بعد ذلك اختلاف أهل الحديث وهم أقل الطوائف اختلافا في أصولهم لأن ميراثهم من النبوة أعظم من ميراث غيرهم فعصمهم حبل الله الذي اعتصموا به فقال واعتصموا بحبل الله جميعا (سورة آل عمران). فكيف يقال مع الاختلاف الذي في الأمم قبلنا إن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم وكم قد وقع من الفساد والاختلاف قبل هذا والتحديد يشبهة إبليس والاختلاف الواقع في المرض باطل فأما شبهة إبليس فلا يعرف لها أثر إسناد كما تقدم والكذب ظاهر عليها وأما ما وقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يقع قبل ذلك ما هو أعظم منه وقد وقع قتال بين أهل قباء حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم

 

 

وقد تنازع المسلمون يوم بدر في الأنفال فقال الآخذون هي لنا وقال الذاهبون خلف العدو هي لنا وقال الحافظون لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي لنا حتى أنزل الله تعالى يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم (سورة الأنفال). وقد كان بين الأنصار خلاف في قصة الإفك حتى هم الحيان بالاقتتال فسكنهم النبي صلى الله عليه وسلم في شخص هل يجوز قتله أم لا يجوز وقد وقع نزاع بين الأنصار مرة بسبب يهودي كان يذكرهم حروبهم في الجاهلية التي كانت بين الأوس والخزرج حتى أختصموا وهموا بالقتال حتى أنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هوي إلى صراط مستقيم آل عمران وقد ثبت في الصحيح أنهم كانوا في سفر فاقتتل رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري يا للأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم دعوها فإنها منتنةوقد كان الصحابة يتنازعون في مراد النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كما ثبت في الصحيحين عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم الصلاة في الطريق فقال بعضهم نصلي ولا نترك الصلاة وقال بعضهم لا نصلي إلا في بني قريظة فصلوا بعد غروب الشمس فما عنف النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم وفي البخاري عن ابن الزبير أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد تميم قال أبو بكر أمر القعقاع بن معبد وقال عمر أمر الأقرع بن حابس فقال ما أردت إلا خلافي فقال ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية (سورة الحجرات). فكان عمر بعد ذلك لا يحدثه إلا كأخي السرار

 

 

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء أو يأذن فيه فيراجع فيه فينسخ الله ذلك الأمر الأول كما أنه لما أمرهم بكسر الأواني التي فيها لحوم الحمر قالوا ألا نريقها قال أريقوها ولما كانوا في سفر استأذنوه في نحر ظهورهم فأذن لهم حتى جاه عمر فقال يا رسول الله إن أذنت في ذلك نفد ظهرهم ولكن اجمع ما معهم وادع الله تبارك وتعالى فيه ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ومن ذلك حديث أبي هريرة لما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بغلته وقال اذهب فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فبشره بالجنة فلقيه عمر فقال فضربه في صدره وقال ارجع فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له عمر فلا تفعل فإني أخاف أن يتكل الناس عليها فخلهميعملون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلهم وأمثال ذلك كثير الوجه الثالث أن الذي وقع في مرضه كان من أهون الأشياء وأبينها وقد ثبت في الصحيح أنه قال لعائشة في مرضه ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ثم قال يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر فلما كان يوم الخميس هم أن يكتب كتابا فقال عمر ماله أهجر فشك عمر هل هذا القول من هجر الحمي أو هو مما يقول على عادته فخاف عمر أن يكون من هجر الحمى فكان هذا مما خفى على عمر كما خفى عليه موت النبي صلى الله عليه وسلم بل أنكره ثم قال بعضهم هاتوا كتابا وقال بعضهم لا تأتوا بكتاب فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة لأنهم يشكون هل أملاه مع تغيره بالمرض أم مع سلامته من ذلك فلا يرفع النزاع فتركه ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك

 

 

الوقت إذ لو كان كذلك لما ترك صلى الله عليه وسلم ما أمره الله به لكن ذلك مما رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر ورأى أن الخلاف لا بد أن يقع وقد سأل ربه لأمته ثلاثا فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة سأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه إياها وسأله أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه إياها وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعه إياها وهذا ثبت في الصحيح وقال ابن عباس الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب الكتاب فإنها رزية أي مصيبة في حق الذين شكوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وطعنوا فيها وابن عباس قال ذلك لما ظهر أهل الأهواء من الخوارج والروافض ونحوهم وإلا فابن عباس كان يفتي بما في كتاب الله فإن لم يجد في كتاب الله فبما في سنة رسول الله فإن لم يجد في سنة رسول الله صلىالله عليه وسلم فبما أفتى أبو بكر وعمر وهذا ثابت من حديث ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس ومن عرف حال ابن عباس علم أنه كان يفضل أبا بكر وعمر على علي رضي الله عنه ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك كتابة الكتاب باختياره فلم يكن في ذلك نزاع ولو استمر على إرادة الكتاب ما قدر أحد أن يمنعه ومثل هذا النزاع قد كان يقع في صحته ما هو أعظم منه والذي وقع بين أهل قباء وغيرهم كان أعظم من هذا بكثير حتى أنزل فيه وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما (سورة الحجرات). لكن روى أنه كان بينهم قتال بالجريد والنعال ومن جهل الرافضة أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه ولا في

 

 

شىء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل عليا خليفة كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة أبي بكر ثم يدعون مع هذا أنه كان قد نص على خلافة على نصا جليا قاطعا للعذر فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه فهم أيضا لا يطيعون الكتاب فأي فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا وأما قوله الخلاف الثاني الواقع في مرضه أنه قال جهزوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه فقال قوم يجب علينا امتثال أمره وأسامة قد برز وقال قوم قد اشتد مرضه ولا يسع قلوبنا المفارقة فالجواب أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالنقل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لعن الله من تخلف عنه ولا نقل هذا بإسناد ثبت بل ليس له إسناد في كتب أهل الحديث أصلا ولا امتنع أحد من أصحاب أسامة من الخروج معه لو خرج بل كان أسامة

 

 

هو الذي توقف في الخروج لما خاف أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم فقال كيف أذهب وأنت هكذا أسأل عنك الركبان فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم في المقام ولو عزم على أسامة في الذهاب لأطاعة ولو ذهب أسامة لم يتخلف عنه أحد ممن كان معه وقد ذهبوا جميعهم معه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخلف عنه أحد بغير إذنه وأبو بكر رضي الله عنه لم يكن في جيش أسامة باتفاق أهل العلم لكن روى أن عمر كان فيهم وكان عمر خارجا مع أسامة لكن طلب منه أبو بكر أن يأذن له في المقام عنده لحاجته إليه فأذن له مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات كان أحرص الناس على تجهيز أسامة هو وأبو بكر وجمهور الصحابة أشاروا عليه بأن لا يجهزه خوفا عليهم من العدو فقال أبو بكر رضي الله عنه والله لا أحل راية عقدها النبي صلى الله عليه وسلم وكان إنفاذه من أعظم المصالح التي فعلها أبو بكر رضي الله عنه في أول خلافته ولم يكن في شىء من ذلك نزاع مستقر أصلا والشهرستاني لا خبرة له بالحديث وآثار الصحابة والتابعين ولهذا نقل في كتابه هذا ما ينقله من اختلاف غير المسلمين واختلاف المسلمين ولم ينقل مع هذا مذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في الأصول

 

 

الكبار لأنه لم يكن يعرف هذا هو وأمثاله من أهل الكلام وإنما ينقلون ما يحدثونه في كتب المقالات وتلك فيها أكاذيب كثيرة من جنس مافي التواريخ ولكن أهل الفرية يزعمون أن الجيش كان فيه أبو بكر وعمر وأن مقصود الرسول كان إخراجهما لئلا ينازعا عليا وهذا إنما يكذبه ويفتريه من هو من أجهل الناس بأحوال الرسول والصحابة وأعظم الناس تعمدا للكذب وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم طول مرضه يأمر أبا بكر أن يصلي بالناس والناس كلهم حاضرون ولو ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس من ولاه لأطاعوه وكان المهاجرون والأنصار يحاربون من نازع أمر الله ورسوله وهم الذين نصروا دينه أولا وآخرا ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستخلف عليا في الصلاة هل كا يمكن أحدا أن يرده ولو أراد تأميره على الحج على أبي بكر ومن معه هل كان ينازعه أحد ولو قال لأصحابه هذا هو الأمير عليكم والإمام بعدي هل كان يقدر أحد أن يمنعه ذلك ومعه جماهير المسلمين من المهاجرين والأنصار كلهم مطيعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من يبغض عليا ولا من قتل علي أحدا من أقاربه وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح في عشرة آلاف سليم ألف مزينة ألف وجهينة ألف وغفار ألف ونحو ذلك والنبيصلى الله عليه وسلم يقول أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها ويقول قريش والأنصار وأسلم وغفار وجهينة موالى دون الناس ليس لهم مولى دون الله ورسوله وهؤلاء لم يقتل على أحدا منهم ولا أحدا من الأنصار وقد كان عمر رضي الله عنه أشد عداوة منذ أسلم للمشركين من على فكانوا يبغضونه أعظم من بغضهم لسائر الصحابة وكان الناس ينفرون عن عمر لغلظته وشدته أعظم من نفورهم عن علي حتى كره بعضهم توليه أبي بكر له وراجعوه لبغض النفوس للحق لأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم فلم

 

 

يكن قط سبب يدعو المسلمين إلى تأخير من قدمه النبي صلى الله عليه وسلم ونص عليه وتقدم من يريد تأخيره وحرمانه ولو أراد إخراجهما في جيش أسامة خوفا منهما لقال للناس لا تبايعوهما فياليت شعري ممن كان يخاف الرسول فقد نصره الله وأعزه وحوله المهاجرون والأنصار الذين لو أمرهم بقتل آبائهم وأبنائهم لفعلوا وقد أنزل الله سورة براءة وكشف فيها حال المنافقين وعرفهم المسلمين وكانوا مدحوضين مذمومين عند الرسول وأمته وأبو بكر وعمر كانا أقرب الناس عنده وأكرم الناس عليه وأحبهم إليه وأخصهم به وأكثر الناس له صحبة ليلا ونهارا وأعظمهم موافقة له ومحبة له وأحرص الناس على امتثال أمره وإعلاء دينه فكيف يجوز عاقل أن يكون هؤلاء عند الرسول من جنس المنافقين الذين كان أصحابه قد عرفوا إعراضه عنهم وإهانته لهم ولم يكن يقرب أحدا منهم بعد سورة براءة بل قال الله تعالى لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (سورة الأحزاب). فانتهوا عن إظهار النفاق وانقمعوا هذا وأبو بكر عنده أعز الناس وأكرمهم وأحبهم إليه

 

 

وأما قوله الخلاف الثالث في موته فالجواب لا ريب أن عمر خفي عليه موته أولا ثم أقر به من الغد واعترف بأنه كان مخطئا في إنكار موته فارتفع الخلاف وليس لفظ الحديث كما ذكره الشهرستاني ولكن في الصحيحين عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال اجلس يا عمر فأبي أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال أبو بكر أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه الآية (سورة آل عمران). قال والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله قد أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس كلهم فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها فأخبرني ابن المسيب أن عمر قال والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويتإلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات وأما قوله الخلاف الرابع في الإمامة وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينيه مثل ما سل على الإمامة في كل زمان فالجواب أن هذا من أعظم الغلط فإنه ولله الحمد لم يسل سيف على خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا كان بين المسلمين في زمنهم نزاع في الإمامة فضلا عن السيف ولا كان بينهم سيف مسلول علىشىء من الدين والأنصار تكلم بعضهم بكلام أنكره عليهم

 

 

أفاضلهم كأسيد بن حضير وعباد بن بشر وغيرهما ممن هو أفضل من سعد بن عبادة نفسا وبيتا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه قال خير دور الأنصار دار بني النجار ثم دار بني عبد الأشهل ثم دار بني الحارث بن الخزرج ثم دار بني ساعدة وفي كل دور الأنصار خير فأهل الدور الثلاثة المفضلة دار بني النجار وبني عبد الأشهل وبني الحارث بن الخزرج لم يعرف منهم من نازع في الإمامة بل رجال بني النجار كأبي أيوب الأنصارى وأبي طلحة وأبي بن كعب وغيرهم كلهم لم يختاروا إلا أبا بكر وأسيد بن حضير هو الذي كان مقدم الأنصار يوم فتح مكة عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عن يمينه وهو كان من بني عبد الأشهل وهو كان يأمر ببيعة أبي بكر رضي الله عنه وكذلك غيره من رجال الأنصار وإنما نازع سعد بن عبادة والحباب بن المنذر وطائفة قليلة ثم رجع هؤلاء وبايعوا الصديق ولم يعرف أنه تخلف منهم إلا سعد بن عبادة

 

 

وسعد وإن كان رجلا صالحا فليس هو معصوما بل له ذنوب يغفرها الله وقد عرف المسلمون بعضها وهو من أهل الجنة السابقين الأولين من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم فما ذكره الشهرستاني من أن الأنصار اتفقوا على تقديمهم سعد بن عبادة هو باطل باتفاق أهل المعرفة بالنقل والأحاديث الثابتة بخلاف ذلك وهو وأمثاله وإن لم يتعمدوا الكذب لكن ينقلون من كتب من ينقل عمن يتعمد الكذب وكذلك قول القائل إن عليا كان مشغولا بما أمره النبي صلى الله عليه وسلم من دفنه وتجهيزه وملازمة قبره فكذب ظاهر وهو مناقض لما يدعونه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن إلا بالليل لم يدفن بالنهار وقيل إنه إنما دفن من الليلة المقبلة ولم يأمر أحدا بملازمة قبره ولا لازم على قبره بل قبر في بيت عائشة وعلي أجنبي منها ثم كيف يأمر بملازمة قبره وقد أمر بزعمهم أن يكون إماما بعده ولم يشتغل بتجهيزه على وحده بل علي والعباس وبنو العباس ومولاه شقران وبعض الأنصار وأبو بكر وعمر وغيرهما على باب البيت حاضرين غسله وتجهيزه لم يكونوا حينئذا في بني ساعدة لكن السنة أن يتولى الميت أهله فتولى أهله غسله وأخروا دفنه ليصلي المسلمون عليه فإنهم صلوا عليه أفرادا واحدا بعد واحد

 

 

رجالهم ونساؤهم خلق كثير فلم يتسع يوم الاثنين لذلك مع تغسيله وتكفينه بل صلوا عليه يوم الثلاثاء ودفن يوم الأربعاء وأيضا فالقتال الذي كان في زمن علي لم يكن على الإمامة فإن أهل الجمل وصفين والنهروان لم يقاتلوا على نصب إمام غير على ولا كان معاوية يقول أنا الإمام دون على ولا قال ذلك طلحة والزبير فلم يكن أحد ممن قاتل عليا قبل الحكمين نصب إماما يقاتل علي طاعته فلم يكن شىء من هذا القتال على قاعدة من قواعد الإمامة المنازع فيها لم يكن أحد من المقاتلين يقاتل طعنا في خلافة الثلاثة ولا ادعاء للنص على غيرهم ولا طعنا في جواز خلافة علي فالأمر الذي تنازع فيه الناس من أمر الإمامة كنزاع الرافضة والخوارج المعتزلة وغيرهم ولم يقاتل عليه أحد من الصحابة أصلا ولا قال أحد منهم إن الإمام المنصوص عليه هو علي ولا قال إن الثلاثة كانت إمامتهم باطلة ولا قال أحد منهم إن عثمان وعليا وكل من والاهما كافر فدعوى المدعي أن أول سيف سل بين أهل القبلة كان مسلولا على قواعد الإمامة التي تنازع فيها الناس دعوى كاذبة ظاهرة الكذب يعرف كذبها بأدنى تأمل مع العلم بما وقع

 

 

وإنما كان القتال قتال فتنة عند كثير من العلماء وعند كثير منهم هو من باب قتال أهل العذل والبغي وهو القتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام لا على قاعدة دينية ولو أن عثمان نازعه منازعون في الإمامة وقاتلهم لكان قتالهم من جنس قتال علي وإن كان ليس بينه وبين أولئك نزاع في القواعد الدينية ولكن أول سيف سل على الخلاف في القواعد الدينية سيف الخوارج وقتالهم من أعظم القتال وهم الذين ابتدعوا أقوالا خالفوا فيها الصحابة وقاتلوا عليها وهم الذين تواترت النصوص بذكرهم كقوله صلى الله عليه وسلم تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق وعلي رضي الله عنه لم يقاتل أحدا على إمامة من قاتله ولا قاتله أحد على إمامته نفسه ولا ادعى أحد قط في زمن خلافته أنه أحق بالإمامة منه لا عائشة ولا طلحة ولا الزبير ولا معاوية وأصحابه ولا الخوارج بل كل الأمة كانوا معترفين بفضل علي وسابقته بعد قتل

 

 

عثمان وأنه لم يبق في الصحابة من يماثله في زمن خلافته كما كان عثمان كذلك لم ينازع قط أحد من المسلمين في إمامته وخلافته ولا تخاصم اثنان في أن غيره أحق بالإمامة منه فضلا عن القتال على ذلك وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وبالجملة فكل من له خبرة بأحوال القوم يعلم علما ضروريا أنه لم يكن بين المسلمين مخاصمة بين طائفتين في إمامة الثلاثة فضلا عن قتال وكذلك علي لم يتخاصم طائفتان في أن غيره أحق بالإمامة منه وإن كان بعض الناس كارها لولاية أحد من الأربعة فهذا لا بد منه فإن من الناس من كان كارها لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف لا يكون فيهم من يكره إمامة بعض الخلفاء لكن لم يكن بين الطوائف نزاع ظاهر في ذلك بالقول فضلا عن السيف كما بين أهل العلم نزاع في مقالات معروفة بينهم في المسائل العملية والعقائد العلمية وقد تجتمع طائفتان فيتنازعون ويتناظرون في بعض المسائل والخلفاء الأربعة لم يكن على عهدهم طائفتان يظهر بينهم النزاع

 

 

لا في تقديم أبي بكر على من بعده وصحة إمامته ولا في تقديم عمر وصحة إمامته ولا في تقديم عثمان وصحة إمامته ولا في أن عليا مقدم بعد هؤلاء وليس في الصحابة بعدهم من هو أفضل منه ولا تنازع طائفة من المسلمين بعد خلافة عثمان في أنه ليس في جيش علي أفضل منه لم تفضل طائفة معروفة عليه طلحة والزبير فضلا أن يفضل عليه معاوية فإن قاتلوه مع ذلك لشبهة عرضت لهم فلم يكن القتال له لا على أن غيره أفضل منه ولا أنه الإمام دونه ولم يتسم قط طلحة والزبير باسم الإمارة ولا بايعهما أحد على ذلك وعلي بايعه كثير من المسلمين وأكثرهم بالمدينة على أنه أمير المؤمنين ولم يبايع طلحة والزبير أحد على ذلك ولا طلب أحد منهما ذلك ولا دعا إلى نفسه فإنهما رضي الله عنهما كانا أفضل وأجل قدرا من أن يفعلا مثل ذلك وكذلك معاوية لم يبايعه أحد لما مات عثمان على الإمامة ولا حين كان يقاتل عليا بايعه أحد على الإمامة ولا تسمى بأمير المؤمنين ولا سماه أحد بذلك ولا ادعى معاوية ولاية قبل حكم الحكمين وعلي يسمى نفسه أمير المؤمنين في مدة خلافته والمسلمون معه

 

 

يسمونه أمير المؤمنين لكن الذين قاتلوه مع معاوية ما كانوا يقرون له بذلك ولا دخلوا في طاعته مع اعترافهم بأنه ليس في القوم أفضل منه ولكن ادعوا موانع تمنعهم عن طاعته ومع ذلك فلم يحاربوه ولا دعوه وأصحابه إلى أن يبايع معاوية ولا قالوا أنت وإن كنت أفضل من معاوية لكن معاوية أحق بالإمامة منك فعليك أن تتبعه وإلا قاتلناك كما يقول كثير من خيار الشيعة الزيدية إن عليا كان أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ولكن كانت المصلحة الدينية تقتضي خلافة هؤلاء لأنه كان في نفوس كثير من المسلمين نفور عن على بسبب من قتله من أقاربهم فما كانت الكلمة تتفق على طاعته فجاز توليه المفضول لأجل ذلك فهذا القول يقوله كثير من خيار الشيعة وهم الذين ظنوا أن عليا كان أفضل وعلموا أن خلافة أبي بكر وعمر حق لا يمكن الطعن فيها فجمعوا بين هذا وهذا بهذا الوجه وهؤلاء عذرهم آثار سمعوها وأمور ظنوها تقتضي فضل على عليهم كما يقع مثل ذلك في عامة المسائل المتنازع فيها بين الأمة يكون الصواب مع أحد القولين ولكن الآخرون معهم منقولات ظنوها صدقا ولم يكن لهم خبرة بأنها كذب ومعهم من الآيات والأحاديث الصحيحة تأويلات ظنوها مرادة ومن النص ولم تكن كذلك ومعهم نوع من القياس والرأي ظنوه حقا وهو باطل

 

 

فهذا مجموع ما يورث الشبه في ذلك إذا خلت النفوس عن الهوى وقل أن يخلو أكثر الناس عن الهوي إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى (سورة النجم). والمقصود أن جواز تولية المفضول لأسباب مانعه من توليه الفاضل هو قول ذهب إليه طوائف من السنة والشيعة ومع هذا فلم يكن الذين مع معاوية يقولون إنه الإمام والخليفة وإن على علي وأصحابه مبايعته وطاعته وإن كان علي أفضل لأن توليته أصلح فهذا لم يكونوا يقولونه ولا يقاتلون عليه وهذا مما هو معلوم لعموم أهل العلم ولا بدأوا عليا وأصحابه بقتال أصلا ولأن الخوارج بدأوه بذلك فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب لما اجتاز بهم فسألوه أن يحدثهم عن أبيه خباب بن الأرت فحدثهم حديثا في ترك الفتن وكان قصده رحمه الله رجوعهم عن الفتنة فقتلوه وبقي دمه مثل الشراك في الدماء فأرسل إليهم علي يقول سلموا إلينا قاتل عبد الله بن خباب فقالوا كلنا قتله ثم أغاروا على سرح الناس وهي الماشية التي أرسلوها تسرح مع الرعاء فلما رأى علي أنهم استحلوا دماء المسلمين وأموالهم ذكر النصوص التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم في صفتهم وفي الأمر بقتالهم ورأى تلك الصفة منطبقة عليهم فقاتلهم ونصره الله عليهم وفرح بذلك وسجد لله شكرا لما جاءه خبر المخدج أنه معهم فإنه هو كان العلامة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم واتفق الصحابة على قتالهم فقتاله للخوارج كان بنص من الرسول وبإجماع الصحابة

 

 

وأما قتال الجمل وصفين فقد ذكر علي رضي الله عنه أنه لم يكن معه نص من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان رأيا وأكثر الصحابة لم يوافقوه على هذا القتال بل أكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء كسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وأمثالهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان مع أنهم معظمون لعلي يحبونه ويوالونه ويقدمونه على من سواه ولا يرون أن أحدا أحق بالإمامة منه في زمنه لكن لم يوافقوه في رأيه في القتال وكان معهم نصوص سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم تدلهم على أن ترك القتال والدخول في الفتنة خير من القتال وفيها ما يقتضى النهي عن ذلك والآثار بذلك كثيرة معروفة وأما معاوية فلم يقاتل معه من السابقين الأولين المشهورين أحد بل كان مع علي بعض السابقين ولم يكن مع معاوية أحد وأكثرهم اعتزلوا الفتنة وقيل كان مع معاوية بعض السابقين الأولين وإن قاتل عمار بن ياسر هو أبو الغادية وكان ممن بايع تحت الشجرة وهم السابقون الأولون ذكر ذلك ابن حزم وغيره

 

 

والمقصود أن عليا لم يقاتله أحد على إمامة غيره ولا دعاه إلى أن يكون تحت ولاية غيره ثم إنه لما رفعت المصاحف ودعوا إلى التحكيم واتفقوا على ذلك وأجمعوا في العام القابل واتفق الحكمان على عزل علي ومعاوية وأن يكون الأمر شورى بين المسلمين وقال أحد الحكمين هذا عزل صاحبه وأنا لم أعزل صاحبي ومال أبو موسى إلى تولية عبد الله بن عمر فغضب عبد الله لذلك ولم يكن اتفاقهما على عزل معاوية عن كونه أمير المؤمنين فإنه لم يكن قبل هذا أمير المؤمنين بل عزله عن ولايته على الشام فإنه كان يقول أنا ولاني الخليفتان عمر وعثمان فأنا باق على ولايتي حتى يجتمع الناس على الإمام فاتفق الحكمان على أن يعزل علي عن إمرة المؤمنين ومعاوية عن إمرة الشام وكان مقصود أحدهما إبقاء صاحبه ولم يظهر ما في نفسه فلما أظهر ما في نفسه تفرق الناس عن غير اتفاق ولم يقع بعد هذا قتال فلو قدر أن معاوية في هذا الحال صار يدعى أصحابه أنه أمير المؤمنين دون علي فلم يمكنهم أن يقولوا إن عليا بعد ذلك قوتل على إمامة معاوية فتبين أن عليا لم يقاتله أحد على أن يكون غيره إماما وهو مطيع له فإن الذين كانوا يستحقون الإمامة أبو بكر وعمر وعثمان وكان هو أتقى لله من أن يخرج عليهم بقول أو فعل بل عثمان كان علي هو أول من بايعه قبل جمهور الناس

 

 

وأما معاوية فكان المسلمون أعلم وأعدل من أن يقولوا لعلي بايع معاوية بل يقولوا له بايع طلحة والزبير وهما من أهل الشورى فعبد الرحمن بن عوف مات في خلافة عثمان وبقي بعد موت عثمان أربعة فأما سعد فاعتزل الفتنة ولم يدخل في قتال أحد من المسلمين وعاش بعدهم كلهم وهو آخر العشرة موتا واعتزل بالعقيق ولما مات حمل على الأعناق فدفن بالبقيع وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص كان سعد ابن أبي وقاص في إبله فجاء ابنه عمر فلما رآه سعد قال أعوذ بالله من شر هذا الراكب فنزل فقال له أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون في الملك بينهم فضرب سعد في صدره وقال اسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي وابنه عمر هذا كان يحب الرياسة ولو حصلت على الوجه المذموم ولهذا لما ولى ولاية وقيل له لا نوليك حتى تتولى قتال الحسين وأصحابه كان هو أمير تلك السرية وأما سعد رضي الله عنه فكان مجاب الدعوة وكان مسددا في زمنه

 

 

وهو الذي فتح العراق وكسر جنود كسرى وكان يعلم أنه لا بد من وقوع فتن بين المسلمين وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيستبيح بيضتهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها والمقصود أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يقتتلوا قط لاختلافهم في قاعدة من قواعد الإسلام أصلا ولم يختلفوا في شىء من قواعد الإسلام لا في الصفات ولا في القدر ولا مسائل الأسماء والأحكام ولا مسائل الإمامة لم يختلفوا في ذلك بالاختصام بالأقوال فضلا عن الاقتتال بالسيف بل كانوا مثبتين لصفات الله التي أخبر بها عن نفسه نافين عنها تمثيلها بصفات المخلوقين مثبتين للقدر كما أخبر الله به ورسوله مثبتين للأمر والنهى والوعد والوعيد مثبتين لحكمة الله في خلقه وأمره مثبتين لقدرة العبد واستطاعته ولفعله مع إثباتهم للقدر ثم لم يكن في زمنهم من يحتج للمعاصي بالقدر ويجعل القدر حجة لمن عصى أو كفر ولا من يكذب بعلم الله ومشيئته الشاملة

 

 

وقدرته العامة وخلقه لكل شىء وينكر فضل الله وإحسانه ومنه على أهل الإيمان والطاعة وأنه هو الذي أنعم عليهم بالإيمان والطاعة وخصهم بهذه النعمة دون أهل الكفر والمعصية ولا من ينكر افتقار العبد إلى الله في كل طرفة عين وأنه لا حول ولا قوة إلا به في كل دق وجل ولا من يقول إن الله يجوز أن يأمر بالكفر والشرك وينهى عن عبادته وحده ويجوز أن يدخل إبليس وفرعون الجنة ويدخل الأنبياء النار وأمثال ذلك فلم يكن فيهم من يقول بقول القدرية النافية ولا القدرية الجبرية الجهمية ولا كان فيهم من يقول بتخليد أحد من أهل القبلة في النار ولا من يكذب بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر ولا من يقول إيمان الفساق كإيمان الأنبياء بل قد ثبت عنهم بالنقول الصحيحة القول بخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأن إيمان الناس يتفاضل وأن الإيمان يزيد وينقص ومن نقل عن ابن عباس أنه كان يقول بتخليد قاتل النفس فقد كذب عليه كما ذكر ذلك ابن حزم وغيره وأما المنقول عن ابن

 

 

عباس ففي توبة القاتل لا القول بتخليده وتوبته فيها روايتان عن أحمد كما قد بسط في موضعه فأين هذا من هذا ولا كان في الصحابة من يقول إن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا أئمة ولا كانت خلافتهم صحيحة ولا من يقول إن خلافتهم ثابتة بالنص ولامن يقول إن بعد مقتل عثمان كان غير علي أفضل منه ولا أحق منه بالإمامة فهذه القواعد الدينية التي اختلف فيها من بعد الصحابة لم يختلفوا فيها بالقول ولا بالخصومات فضلا عن السيف ولا قاتل أحد منهم على قاعدة في الإمامة فقبل خلافة علي لم يكن بينهم قتال في الإمامة ولا في ولايته لم يقاتله أحد على أنه يكون تابعا لذاك والذين قاتلوا عليا لم يقاتلوا لاختصاص علي دون الأئمة قبله بوصف بل الذين قاتلوا معه كانوا يقرون بإمامة من قبله وشائعا بينهم أن أبا بكر أفضل منه وقد تواتر عنه نفسه أنه كان يقول ذلك على المنبر ولم يظهر عن الشيعة الأول تقديم علي على أبي بكر وعمر فضلا عن الطعن في إمامتهما

 

 

وبكل حال فمن المعلوم للخاصة والعامة أهل السنة وأهل البدعة أن القتال في زمن علي لم يكن لمعاوية ومن معه إلا لكونهم لم يبايعوا عليا لم يكن لكونهم بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وأما الحرب التي كانت بين طلحة والزبير وبين علي فكان كل منهما يقاتل عن نفسه ظانا أنه يدفع صول غيره عليه لم يكن لعلي غرض في قتالهم ولا لهم غرض في قتاله بل كانوا قبل قدوم على يطلبون قتله عثمان وكان للقتلة من قبائلهم من يدفع عنهم فلم يتمكنوا منهم فلما قدم علي وعرفوه مقصودهم عرفهم أن هذا أيضا رأيه لكن لا يتمكن حتى ينتظم الأمر فلما علم بعض القتلة ذلك حمل على أحد العسكرين فظن الآخرون أنهم بدأوا بالقتال فوقع القتال بقصد أهل الفتنة لا بقصد السابقين الأولين ثم وقع قتال على الملك فلم يكن ما وقع قدحا في خلافة الثلاثة مثل الفتنة التي وقعت بين ابن الزبير وبين يزيد ثم بين مروان وابنه وهؤلاء كلهم كانوا متفقين على موالاة عثمان وقتال من قاتله فضلا عن أبي بكر وعمر وكذلك الفتنة التي وقعت بين يزيد وأهل المدينة فتنة الحرة فإنما كانت من بعض أهل المدينة أصحاب السلطان من بني أمية وأصحاب يزيد لم تكن لأجل أبي بكر وعمر أصلا بل كان كل من بالمدينة والشام من الطائفتين متفقين على ولاية أبي بكر وعمر

 

 

والحسين رضي الله عنه لما خرج إلى الكوفة إنما كان يطلب الولاية مكان يزيد لم يكن يقاتل على خلافة أبي بكر وعمر وكذلك الذين قتلوه ولم يكن هو حين قتل طالبا للولاية ولا كان معه جيش يقاتل به وإنما كان قد رجع منصرفا وطلب أن يرد إلى يزيد ابن عمه أو أن يرد إلى منزله بالمدينة أو يسير إلى الثغر فمنعه أولئك الظلمة من الثلاثة حتى يستأسر لهم فلم يقتل رضي الله عنه وهو يقاتل على ولاية بل قتل وهو يطلب الدفع عن نفسه لئلا يؤسر ويظلم والحسن أخوه قد كانت معه الجيوش العظيمة ومع هذا فقد نزل عن الأمر وسلم إلى معاوية وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أثنى عليه بذلك وقال إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ثم لما قتل الحسين قام من يطلب بدمه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي وقتلوا عبيد الله بن زياد ثم لما قدم مصعب بن الزبير قتل المختار فإنه كذب وادعى أنه يوحى إليه وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سيكون من ثقيف كذاب ومبير وكان الكذاب هو الذي سمى المختار

 

 

ولم يكن بالمختار والمبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي والفتنة التي وقعت في زمنه فتنة ابن الاشعث خرج عليه ومعه القراء كانت بظلمة وعسفه فلم يكن شىء من هذه لأجل خلافة أبي بكر وعمر بل كل هؤلاء كانوا متفقين على خلافة أبي بكر وعمر وإنما كانت على ولاية سلطان الوقت فإذا جاء قوم ينازعونه قام معه ناس وقام عليه أناس وهكذا كانت الفتن التي وقعت بعد هذا في زمن بني أمية فان زيد ابن علي بن الحسين لما خرج في خلافة هشام وطلب الأمر لنفسه كان ممن يتولى أبا بكر وعمر فلم يكن قتاله على قاعدة من قواعد الإمامة التي يقولها الرافضة ولما خرج أبو مسلم وشيعة بني هشام على بني أمية إنما قاتلوا من كان متوليا في ذلك الوقت وهو مروان بن محمد وأنصاره وما زال بنو العباس مثبتين لخلافة الأربعة مقدمين لأبي بكر وعمر وعثمان على المنابر فلم يقاتل أحد من شيعتهم ولا من شيعة بني أمية قدحا في خلافة الثلاثة والذين خرجوا عليهم مثل محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة إنما خرجا ومن معهما على المنصور لا

 

 

على من يتولى أبا بكر وعمر بل الذين كانوا معهما بالمدينة والبصرة كلهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر فهذه وأمثالها الفتن الكبار التي كانت في السلف وكذلك لما صار عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس ودامت ولايته مدة طويلة لم يكن النزاع بينه وبين العباسيين على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان فهذه الولايات الكبار التي كانت في الإسلام القائمون فيها والخارجون على الولاة لم يكن قتالهم فيها على قاعدة الإمامة التي يختلف فيها أهل السنة والرافضة وإنما ظهر من دعا إلى الرفض وتسمى بأمير المؤمنين وأظهر القتال على ذلك وحصل لهم ملك وأعوان مدة بني عبيد الله القداح الذين أقاموا بالمغرب مدة وبمصر نحو مائتي سنة وهؤلاء باتفاق أهل العلم والدين كانوا ملاحدة ونسبهم باطل فلم يكن لهم بالرسول اتصال نسب في الباطن ولا دين وإنما أظهروا النسب الكاذب وأظهروا التشيع ليتوسلوا بذلك إلى متابعة الشيعة إذ كانت أقل الطوائف عقلا ودينا وأكثرها جهلا وإلا فأمر

 

 

هؤلاء العبيدية المنتسبين إلى إسماعيل بن جعفر أظهر من أن يخفي على مسلم ولهذا جميع المسلمين الذين هم مؤمنون في طوائف الشيعة يتبرأون منهم فالزيدية والإمامية تكفرهم وتتبرأ منهم وإنما ينتسب إليهم الإسماعيلية الملاحدة الذين فيهم من الكفر ما ليس لليهود والنصارى كابن الصباح الذي أخرج لهم السكين وشر منهم قرامطة البحرين أصحاب أبي سعيد الجنابى فإن أولئك لم يكونوا يتظاهرون بدين الإسلام بالكلية بل قتلوا الحجاج وأخذوا الحجر الأسود فهذه وأمثالها الملاحم والفتن التي كانت في الإسلام ليس فيها ما وقع القتال فيه حقيقة على قاعدة الإمامة التي تدعيها الرافضة وإن ذكر بعض الخارجين ببعض البلاد من يدعو إلى نفسه ومعه من يقاتل فهؤلاء من جنس سكان الجبال وأهل البوادي ولأمصار الصغار من الرافضة وهم طائفة قليلة مقموعون مع جمهور المسلمين ليس لهم سيف مسلول على الجمهور حتى يقول القائل أعظم خلاف وقع بين الأمة خلاف الإمامة أو ما سل في الإسلام سيف مثل ما سل علي الإمامة في كل زمان

 

 

وإن كان صاحب هذا القول يعني به أنه إنما يقتتل الناس على الإمامة التي هي ولاية شخص في ذلك الزمان فقوم يقاتلون معه وقوم يخرجون عليه فهذا ليس من مذهب السنة والشيعة في شىء فإن من المعلوم أن الناس الذين دينهم واحد ونبيهم واحد إذا اقتتلوا فلا بد أن يكون لهؤلاءمن يقدمونه فيجعلونه متوليا ولهؤلاء من يقدمونه فيجعلونه متوليا فيقاتل كل قوم على إمارة من جعلوه هم إمامهم لكن هؤلاء لا يقاتلون على القاعدة الدينية من كون الإمامة ثبتت بالنص لعلي ولا أن خلافة الثلاثة باطلة بل عامة هؤلاء معترفون بإمامة الثلاثة ثم قد تبين أن الصحابة لم يقتتلوا على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان والنزاع بينهم فتبين أن خلافتهم كانت بلا سيف مسلول أصلا وإنما كان السيف مسلول في خلافة علي فإن كان هذا قدحا فالقدح يختص بمن كان السيف في زمانه بين الأمة وهذه حجة للخوارج وحجتهم أقوى من حجة الشيعة كما أن سيوفهم أقوى من سيوف الشيعة ودينهم أصح وهم صادقون لا يكذبون ومع هذا فقد ثبت بالسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليهوسلم واتفاق أصحابه أنهم مبتدعون مخطئون ضلال فكيف بالرافضة الذين هم أبعد منهم عن العقل والعلم والدين والصدق والشجاعة والورع وعامة خصال الخير ولم يعرف في الطوائف أعظم من سيف الخوارج ومع هذا فلم يقاتل القوم على خلافة أبي بكر وعمر بل هم متفقون على إمامتهما وموالاتهما وقوله الخلاف الخامس في فدك والتوارث رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم نحن معاشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة فيقال هذا أيضا اختلاف في مسألة شرعية وقد زال الخلاف فيها والخلاف في هذه دون الخلاف في ميراث الإخوة مع الجد وميراث الجدة مع ابنها وحجب الأم الأخوين وجعل الجد مع الأم كالأب وأمثال ذلك من مسائل الفرائض التي تنازعوا فيها فالخلاف في هذا أعظم لوجوه أحدها أنهم تنازعوا في ذلك ثم

 

 

لم يجتمعوا على قول واحد كما اجتمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث الثاني أنهم لم يرو لهم من النصوص الصريحة في هذه المسائل ماروى لهم في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم الثالث الخلاف هنا في قصة واحدة لا يتعدد والنزاع في هذه المسائل من جنس متعدد وعامة النزاع في تلك هي نزاع في قليل من المال هل يختص به ناس معينون وأولئك القوم قد أعطاهم أبو بكر وعمر من مال الله بقدر ما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم أضعافا مضاعفة ولو قدر أنها كانت ميراثا مع أن هذا باطل فإنما أخذ منهم قرية ليست كبيرة لم يأخذ منهم مدينة ولا قرية عظيمة وقد تنازع العلماء في مسائل الفرائض وغيرها ويكون النزاع في مواريث الهاشميين وغيرهم من أضعاف أموال فدك ولا ينسب المتنازعون فيها إلى ظلم إذا كانوا قائلين باجتهادهم فلو قدر أن الخلفاء اجتهدوا فأعطوا الميراث من لا يستحقه كان أضعاف هذا يقع من العلماء المجتهدين الذين هم دون الأئمة ولا يقدح ذلك في دينهم وإن قدر أنهم مخطئون في الباطن لأنهم تكلموا باجتهادهم فكيف بالخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم أجمعين

 

 

وإنما يعظم القول في مثل هذه الأمور أهل الجهل والهوى الذين لهم غرض في فتح باب الشر على الصحابة بالكذب والبهتان وقد تولى على بعد ذلك وصار فدك وغيرها تحت حكمه ولم يعطها لأولاد فاطمة ولا أخذ من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولا ولد العباس شيئا من ميراثه فلو كان ذلك ظلما وقدر على إزالته لكان هذا أهون عليه من قتالمعاوية وجيوشه أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم ولا يعطى هؤلاء قليلا من المال وأمره أهون بكثير وأما قوله الخلاف السادس في قتال مانعى الزكاة قاتلهم أبو بكر واجتهد عمر في ايام خلافته فرد السبايا والأموال إليهم وأطلق المحبوسين فهذا من الكذب الذي لا يخفى على من عرف أحوال المسلمين فإن مانعى الزكاة اتفق أبو بكر وعمر على قتالهم بعد أن راجعه عمر في ذلك كما في الصحيحين عن أبي هريرة أن عمر قال لأبي بكر يا خليفة رسول الله كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلمأمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم إلا بحقها وحسابهم على الله فقال أبو بكر ألم يقل إلا بحقها وحسابهم على الله فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق وفي الصحيحين تصديق فهم أبي بكر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فعمر وافق أبا بكر على قتال أهل الردة مانعي الزكاة وكذلك سائر الصحابة وأقر أولئك بالزكاة بعد امتناعهم منها ولم تسب لهم

 

 

ذرية ولا حبس منهم أحد ولا كان بالمدينة حبس لا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد أبي بكر فكيف يمون وهم في حبسه وأول حبس اتخذ في الإسلام بمكة اشترى عمر من صفوان بن أمية داره وجعلها حبسا بمكة ولكن من الناس من يقول سبى أبو بكر نساءهم وذراريهم وعمر أعاد ذلك عليهم وهذا إذا وقع ليس فيه بيان اختلافهما فإنه قد يكون عمر كان موافقا على جواز سبيهم لكن رد إليهم سبيهم كما رد النبي صلى الله عليه وسلم على هوازن سبيهم بعد أن قسمه بين المسلمين فمن طابت نفسه بالرد وإلا عوضه من عنده لما أتى أهلهم مسلمين فطلبوا رد ذلك إليهم وأهل الردة كان قد اتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة على أنهم لا يمكنون من ركوب الخيل ولا حمل السلاح بل يتركون يتبعون أذناب البقر حتى يرى الله خليفة رسوله والمؤمنين حسن إسلامهم فلما تبين لعمر حسن إسلامهم رد ذلك إليهم لأنه جائز وقوله الخلاف السابع في تنصيص أبي بكر على عمر في الخلافة فمن الناس من قال وليت علينا فظا غليظا

 

 

والجواب أن يقال إن جعل مثل هذا خلافا فقد كان مثل هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد طعن بعض الصحابة في إمارة زيد ابن حارثة وبعضهم في إمارة أسامة ابنه وقد كان غير واحد يطعن فيمن يوليه أبو بكر وعمر ثم إن القائل لها كان طلحة وقد رجع عن ذلك وهو من أشد الناس تعظيما لعمر كما أن الذين طعنوا في إمارة زيد وأسامة رجعوا عن طعنهم طاعة لله ورسوله وقوله الخلاف الثامن في إمرة الشورى واتفقوا بعد الاختلاف على إمارة عثمان والجواب أن هذا من الكذب الذي اتفق أهل النقل على أنه كذب فإنه لم يختلف أحد في خلافة عثمان ولكن بقي عبد الرحمن يشاور الناس ثلاثة أيام وأخبر أن الناس لا يعدلون بعثمان وأنه شاور حتى العذاري في خدورهن وإن كان في نفس أحد كراهة لم ينقل أو قال أحد شيئا ولم ينقل إلينا فمثل هذا قد يجري في مثل هذه الأمور والأمر الذي يتشاور فيه الناس لا بد فيه من كلام لكن لا يمكن الجزم بذلك بمجرد الحزر

 

 

فلما علمنا نقلا صحيحا أنه ما كان اختلاف في ولاية عثمان ولا أن طائفة من الصحابة قالت ولوا عليا أو غيره كما قال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير ولو وجد شيء من ذلك لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله كما نقل نزاع بعض الأنصار في خلافة أبي بكر فالمدعي لذلك مفتر ولهذا قال الإمام أحمد لم يتفق الناس على بيعة كما اتفقوا على بيعة عثمان وعثمان ولاه المسلمون بعد تشاورهم ثلاثة أيام وهو مؤتلفون متفقون متحابون متوادون معتصمون بحبل الله جميعا وقد أظهرهم الله وأظهر بهم ما بعث به نبيه من الهدى ودين الحق ونصرهم على الكفار وفتح بهم بلاد الشام والعراق وبعض خراسان فلم يعدلوا بعثمان غيره كما أخبر بذلك عبد الرحمن بن عوف ولهذا بايعه عبد الرحمن كما ثبت هذا في الأحاديث الصحيحة وأما ما ذكره بعض الناس من أنه اشترط على عثمان سيرة الشيخين فلم يجب إما لعجزه عن مثل سيرتهما وإما لأن التقليد غير واجب أو غير جائز وأنه اشترط على علي سيرة الشيخين فأجابه لإمكان متابعتهما أو جواز تقليدهما فهذا النقل باطل ليس له إسناد ثابت

 

 

فإنه مخالف للنقل الثابت في الصحيح الذي فيه أن عبد الرحمن بقي ثلاثة أيام لم يغتمض في لياليها بكثير نوم في كل ذلك يشاور المسلمين ولم يرهم يعدلون بعثمان غيره بل رأوه أحق وأشبه بالأمر من غيره وأن عبد الرحمن لم يشترط على علي إلا العدل فقال لكل منهما الله عليك إن وليتك لتعدلن وإن وليت عليك لتسمعن ولتطيعن فيقول نعم فشرط على المتولي العدل وعلى المتولي عليه السمع والطاعة وهذا حكم الله ورسوله كما دل عليه الكتاب والسنة وأما قوله ووقعت اختلافات كثيرة منها ردة الحكم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسمى طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان يشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجاباه إلى ذلك ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخا فيقال مثل هذا إن جعله اختلافا جعل كلما حكم خليفة بحكم ونازعه فيه قوم اختلافا وقد كان ذكرك لما اختلفوا فيه من المواريث

 

 

والطلاق وغير ذلك أصح وأنفع فإن الخلاف في ذلك ثابت منقول عند أهل العلم ينتفع الناس بذكره والمناظرة فيه وهو خلاف في أمر كلي يصلح أن تقع فيه المناظرة وأما هذه الأمور فغايتها جزئية ولا تجعل مسائل خلاف يتناظر فيها الناس هذا مع أن فيما ذكره كذبا كثيرا منه ما ذكره من أمر الحكم وأنه طرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسمى طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه استشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجاباه إلى ذلك وأن عمر نفاه من مقامة باليمن أربعين فرسخا فمن الذي نقل ذلك وأين إسناده ومتى ذهب هذا إلى اليمن وما الموجب لنفيه إلى اليمن وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ما يدعونه بالطائف وهي أقرب إلى مكة والمدينة من اليمن فإذا كان الرسول أقره قريبا منه فما الموجب لنفيه بعد ثبوته إلى اليمن وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن نفى الحكم باطل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينفه إلى الطائف بل هو ذهب بنفسه وذكر بعض الناس أنه نفاه ولم يذكروا إسنادا صحيحا بكيفية القصة وسببها وعلى هذا التقدير فليس فيمن يجب نفيه في الشريعة من يستحقالنفي الدائم بل ما من ذنب يستحق صاحبه النفي إلا ويمكن أن يستحق بعد ذلك الإعادة إلى وطنه فإن النفي إما مؤقت كنفي الزاني البكر عند جمهور العلماء سنة فهذا يعاد بعد السنة وإما نفي مطلق كنفي المخنث فهذا ينفي إلى أن يتوب وكذلك نفى عمر في تعزير الخمر وحينئذ فلا يمكن أن يقال إن ذنب الحكم الذي نفى من أجله لم يتب منه في مدة بضع عشرة سنة وإذا تاب من ذنبه مع طول هذه المدة جاز أن يعاد وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجر الثلاثة الذين خلفوا خمسين ليلة ثم تاب الله عليهم وكلمهم المسلمون وعمر رضي الله عنه نفى صبيغ بن عسل التميمي لما أظهر اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وضربه وأمر المسلمين بهجرة سنة بعد أن أظهر التوبة فلما تاب أمر المسلمين بكلامه

 

 

وبهذا أخذ أحمد وغيره في أن الداعي إلى البدعة إذا تاب يؤجل سنة كما أجل عمر صبيغا وكذلك الفاسق إذا تاب واعتبر مع التوبة صلاح العمل كما يقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين ثم لو قدر أنه كان يستحق النفي الدائم فغاية ذلك أن يكون اجتهادا اجتهده عثمان في رده لصاحبه أجر مغفور له أو ذنبا له أسباب كثيرة توجب غفرانه وقوله ومنها نفيه أبا ذر إلى الربذة وتزويجه مروان بن الحكم ابنته وتسليمه خمس غنائم إفريقية وقد بلغت مائتي ألف دينار فيقال أما قصة أبي ذر فقد تقدم ذكرها وأما تزويجه مروان ابنته فأي شيء في هذا مما يجعل اختلافا وأما إعطاؤه خمس غنائم إفريقية وقد بلغت مائتي ألف دينار فمن الذي نقل ذلك وقد تقدم قوله إنه أعطاه ألف ألف دينار والمعروف أن خمس إفريقية لم يبلغ ذلكونحن لا ننكر أن عثمان رضي الله عنه كان يحب بني أمية وكان يواليهم ويعطيهم أموالا كثيرة وما فعله من مسائل الاجتهاد التي تكلم فيها العلماء الذين ليس لهم غرض كما أننا لا ننكر أن عليا ولى أقاربه وقاتل وقتل خلقا كثيرا من المسلمين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون ويصلون لكن من هؤلاء من قاتله بالنص والإجماع ومنهم من كان قتاله من مسائل الاجتهاد التي تكلم فيها العلماء الذين لا غرض لهم وأمر الدماء أخطر من أمر الأموال والشر الذي حصل في الدماء بين الأمة أضعاف الشر الذي حصل بإعطاء الأموال فإذا كنا نتولى عليا ونحبه ونذكر ما دل عليه الكتاب والسنة من فضائله مع أن الذي جرى في خلافته أقرب إلى الملام مما جرى في خلافة عثمان وجرى في خلافة عثمان من الخير مالم يجر مثله في خلافته فلأن نتولى عثمان ونحبه ونذكر ما دل عليه الكتاب والسنة بطريق الأولى وقد ذكرنا أن ما فعله عثمان في المال فله ثلاثة مآخذ أحدها أنه عامل عليه والعامل يستحق مع الغنى

 

 

الثاني أن ذوي القربى هم ذوو قربى الإمام الثالث أنهم كانوا قبيلة كثيرة ليسوا مثل قبيلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فكان يحتاج إلى إعطائهم وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكر وعمر إلى توليه أقاربهما وإعطائهما وهذا مما نقل عن عثمان الاحتجاج به وقد قدمنا أنا لا ندعي عصمة في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذنب فضلا عن الخطأ في الاجتهاد وقد قال سبحانه وتعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ((سورة الزمر).). وقال تعالى أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون (سورة الأحقاف). وقوله ومنها ايواؤه عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد أن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه وتوليته مصر فالجواب إن كان المراد أنه لم يزل مهدر الدم حتى ولاه عثمان كما

 

 

يفهم من الكلام فهذا لا يقوله إلا مفرط في الجهل بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته فإن الناس كلهم متفقون على أنه في عام فتح مكة بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دم جماعة منهم عبد الله بن سعد أتى عثمان به النبي صلى الله عليه وسلم وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم بعد مراجعة عثمان له في ذلك وحقن دمه وصار من المسلمين المعصومين له ما لهم وعليه ما عليهم وقد كان هو من أعظم الناس معاداة للنبي عليه الصلاة والسلام وأسلم وحسن إسلامه وإنما كان صلى الله عليه وسلم أهدر دمه كما أهدر دماء قوم بغلظ كفرهم إما بردة مغلظة كمقيس ابن صبابة وعبد الله هذا كان كاتبا للوحي فارتد وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه ثم لما قدم به عثمان عفا عنه صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول بايع عبد الله فأعرض عنه مرتين أو ثلاثا ثم بايعه فقال أما فيكم رجل رشيد ينظر إلى وقد أعرضت عن هذا فيضرب عنقه فقال رجل من الأنصار يا رسول الله هلا أومضت إلى فقال ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين

 

 

ثم لما بايعه حسن إسلامه ولم يعلم منه بعد ذلك إلا الخير وكان محمودا عند رعيته في مغازيه وقد كانت عداوة غيره من الطلقاء أشد من عداوته مثل صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وأبي سفيان بن حرب وغيرهم وذهب ذلك كله كما قال تعالى عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم موده والله قدير والله غفور رحيم (سورة الممتحنة). فجعل بين أولئك وبين النبي صلى الله عليه وسلم مودة تجب تلك العداوة والله قدير على تقليب القلوب وهو غفور رحيم غفر الله ما كان من السيئات بما بدلوه من الحسنات وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون وأما قوله كان عامل جنوده معاوية بن أبي سفيان عامل الشام وعامل الكوفة سعيد بن العاص وبعده عبد الله بن عامر والوليد بن عقبة عامل البصرة فيقال أما معاوية فولاه عمر بن الخطاب لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان مكانه ثم ولاه عثمان رضي الله عنه الشام كله وكانت سيرتهفي أهل الشام من أحسن السير وكانت رعيته من أعظم الناس محبة له وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وكان معاوية تحبه رعيته وتدعو له وهو يحبها ويدعو لها وأما توليته لسعيد بن العاص فأهل الكوفة كانوا دائما يشكون من ولاتهم ولى عليهم سعد بن أبي وقاص وأبو موسى الأشعري وعمار ابن ياسر والمغيرة بن شعبة وهم يشكون منهم وسيرهم في هذا مشهورة ولا شك أنهم كانوا يشكون في زمن عثمان أكثر وقد علم أن عثمان وعليا رضي الله عنه كل منهما ولى أقاربه وحصل له بسبب ذلك من كلام الناس وغير ذلك ما حصل وأما قوله الخلاف التاسع في زمن أمير المؤمنين عليه السلام بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له فأولا خروج طلحة والزبير إلى مكة ثم حمل عائشة إلى البصرة ثم نصب

 

 

القتال معه ويعرف ذلك بحرب الجمل والخلاف بينه وبين معاوية وحرب صفين ومغادرة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري وكذا الخلاف بينه وبين الشراة المارقين بالنهروان وبالجملة كان على مع الحق والحق معه وظهر في زمانه الخوارج عليه مثل الأشعث بن قيس ومسعر بن فدكى التميمي وزيد بن حصين الطائي وغيرهم وظهر في زمنه الغلاة كعبد الله بن سبأ ومن الفرقتين ابتدأت الضلالة والبدع وصدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم يهلك فيه اثنان محب غال ومبغض قالفانظر بعين الإنصاف إلى كلام هذا الرجل هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعداهم والجواب أن يقال هذا الكلام مما يبين تحامل الشهرستاني في هذا الكتاب مع الشيعة كما تقدم وإلا فقد ذكر أبا بكر وعمر وعثمان ولم يذكر من أحوالهم أن الحق معهم دون من خالفهم ولما ذكر عليا قال وبالجملة كان الحق مع علي وعلي مع الحق والناقل الذي لا غرض له إما أن يحكى الأمور بالأمانة وإما أن يعطى كل ذي حق حقه فأما دعوى المدعي أن الحق كان مع علي وعلي مع الحق وتخصيصه بهذا دون أبي بكر وعمر وعثمان فهذا لا يقوله أحد من المسلمين غير الشيعة ومما يبين فساد هذا الكلام قوله إن الاختلاف وقع في زمن علي بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له ومن المعلوم أن كثيرا من المسلمين لم يكونوا بايعوه حتى كثير من أهل المدينة ومكة الذين رأوه لم يكونوا بايعوه من دع الذين كانوا بعيدين كأهل الشام ومصر والمغرب العراق وخراسان وكيف يقال مثل هذا في بيعة علي ولا يقال في بيعة عثمان التي اجتمع عليها المسلمون كلهم ولم يتنازع فيها اثنان

 

 

وكذلك ما ذكره من التعريض بالطعن على طلحة والزبير وعائشة من غير أن يذكر لهم عذرا ولا رجوعا وأهل العلم يعلمون أن طلحة والزبير لم يكونا قاصدين قتال علي ابتداء وكذلك أهل الشام لم يكن قصدهم قتاله وكذلك علي لم يكن قصده قتال هؤلاء ولا هؤلاء ولكن حرب الجمل جرى بغير اختياره ولا اختيارهم فإنهم كانوا قد اتفقوا على المصالحة وإقامة الحدود على قتله عثمان فتواطأت القتلة على إقامة الفتنة آخرا كما أقاموها أولا فحملوا على طلحة والزبير وأصحابهما فحملوا دفعا عنهم وأشعروا عليا أنهما حملا عليه فحمل على دفعا عن نفسه وكان كل منهما قصده دفع الصيال لا ابتداء القتال هكذا ذكر غير واحد من أهل العلم بالسير فإن كان الأمر قد جرى على وجه لا ملام فيه فلا كلام وإن كان قد وقع خطأ أو ذنب من أحدهما أو كليهما فقد عرف أن هذا لا يمنع ما دل عليه الكتاب والسنة من أنهم من خيار أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وعباهة الصالحين وأنهم من أهل الجنة

 

 

وقول هذا الرافضي انظر بعين الانصاف إلى كلام هذا الرجل هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعداهم فالجواب أن يقال أما الفتنة فإنما ظهرت في الإسلام من الشيعة فإنهم أساس كل فتنة وشر وهم قطب رحى الفتن فإن أول فتنة كانت في الإسلام قتل عثمان وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من نجا فقد نجا منهن موتي وقتل خليفة مضطهد بغير حق والدجال ومن استقرأ أخبار العالم في جميع الفرق تبين له أنه لم يكن قط طائفة أعظم اتفاقا على الهدى والرشد وأبعد عن الفتنة والتفرق والاختلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خير الخلق بشهادة الله لهم بذلك إذ يقول تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (سورة آل عمران). كما لم يكن في الأمم أعظم اجتماعا على الهدى وأبعد عن التفرق والاختلاف من هذه الأمة لأنهم أكمل اعتصاما بحبل الله الذي هو كتابه المنزل وما جاء به من نبيه المرسل وكل من كان أقرب إلى الإعتصام

 

 

بحبل الله وهو اتباع الكتاب والسنة كان أولى بالهدى والاجتماع والرشد والصلاح وأبعد عن الضلال والافتراق والفتنة واعتبر ذلك بالأمم فأهل الكتاب أكثر اتفاقا وعلما وخيرا من الخارجين عن الكتب والمسلمون أكثر أتفاقا وهدى ورحمة وخيرا من اليهود والنصارى فإن أهل الكتابين قبلنا تفرقوا وبدلوا ما جاءت به الرسل وأظهروا الباطل وعادوا الحق وأهله وإنه وإن كان يوجد في أمتنا نظير ما يوجد في الأمم قبلنا كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن الناس وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا فارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك لكن أمتنا لا تزال فيها طائفة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ولهذا لا يسلط الله عليهم عدوا من

 

 

غيرهم فيجتاحهم كما ثبت هذا وهذا في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة وأخبر أنه سأل ربه أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه ذلك وسأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم شديدا فمنعه ذلك ومن قبلنا كان الحق يغلب فيهم حتى لا تقوم به طائفة ظاهرة منصورة ولهذا كان العدو يسلط عليهم فيجتاحهم كما سلط على بني إسرائيل وخرب بيت المقدس مرتين فلم يبق لهم ملك ونحن ولله الحمد لم يزل لأمتنا سيف منصور يقاتلون على الحق فيكونون على الهدى ودين الحق الذي بعث الله به الرسول فلهذا لم نزل ولا نزال وأبعد الناس عن هذه الطائفة المهدية المنصورة هم الرافضة لأنهم أجهل وأظلم طوائف أهل الأهواء المنتسبين إلى القبلة وخيار هذه الأمة هم الصحابة فلم يكن في الأمة أعظم اجتماعا على الهدى ودين الحق ولا أبعد عن التفرق والاختلاف منهم وكل ما يذكر عنهم مما فيه نقص فهذا إذا قيس إلى ما يوجد في غيرهم من الأمة كان قليلا من كثير وإذا قيس ما يوجد في الأمة إلى ما يوجد في سائر الأمم

 

 

كان قليلا من كثير وإنما يغلط من يغلط أنه ينظر إلى السواد القليل في الثوب الأبيض ولا ينظر إلى الثوب الأسود الذي فيه بياض وهذا من الجهل والظلم بل يوزن هؤلاء بنظرائهم فيظهر الفضل والرجحان وأما ما يقترحه كل أحد في نفسه مما لم يخلق فهذا لا اعتبار به فهذا يقترح معصوما في الأئمة وهذا يقترح ما هو كالمعصوم وإن لم يسمه معصوما فيقترح في العالم والشيخ والأمير والملك ونحو ذلك مع كثرة علمه ودينه ومحاسنه وكثرة ما فعل الله على يديه من الخير يقترح مع ذلك أن لا يكون قد خفى عليه شيء ولا يخطىء في مسألة وأن يخرج عن حد البشرية فلا يغضب بل كثير من هؤلاء يقترح فيهم مالا يقترح في الأنبياء وقد أمر الله تعالى نوحا ومحمدا أن يقولا لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك (سورة هود). فيريد الجهال من المتبوع أن يكون عالما بكل ما يسئل عنه قادرا على كل ما يطلب منه غنيا عن الحاجات البشرية كالملائكة وهذا الاقتراح من ولاة الأمر كاقتراح الخوارج في عموم الأمة أن لا يكون لأحدهم ذنب ومن كان له ذنب كان عندهم كافرا مخلدا في النار

 

 

وكل هذا باطل خلاف ما خلقه الله وخلاف ما شرعه الله فاقتراح هؤلاء فيمن يوليه كاقتراح أولئك عليه فيمن يرسله وكاقتراح هؤلاء فيمن يرحمه ويغفر له والبدع مشتقة من الكفر فما من قول مبتدع إلا وفيه شعبة من شعب الكفر وكما أنه لم يكن في القرون أكمل من قرن الصحابة فليس في الطوائف بعدهم أكمل من أتباعهم فكل من كان للحديث والسنة وآثار الصحابة أتبع كان أكمل وكانت تلك الطائفة أولى بالاجتماع والهدى والاعتصام بحبل الله وأبعد عن التفرق والاختلاف والفتنة وكل من بعد عن ذلك كان أبعد عن الرحمة وأدخل في الفتنة فليس الضلال والغي في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في الرافضة كما أن الهدى والرشاد والرحمة ليس في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في أهل الحديث والسنة المحضة الذين لا ينتصرون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم خاصته وهو إمامهم المطلق الذي لا يغضبون لقول غيرهم إلا إذا اتبع قوله ومقصودهم نصر الله ورسوله وإذا كان الصحابة ثم أهل الحديث والسنة المحضة أولى

 

 

بالهدى ودين الحق وأبعد الطوائف عن الضلال والغي فالرافضة بالعكس وقد تبين أن هذا الكلام الذي ذكره هذا الرجل فيه من الباطل ما لا يخفى على عاقل ولا يحتج به إلا من هو جاهل وأن هذا الرجل كان له بالشيعة إلمام واتصال وأنه دخل في هواهم بما ذكره في هذا الكتاب مع أنه ليس من علماء النقل والآثار وإنما هو من جنس نقلة التواريخ التي لا يعتمد عليها أولو الأبصار ومن كان علمه بالصحابة وأحوالهم من مثل هذا الكتاب فقد خرج عن جملة أولى الألباب ومن الذي يدع كتب النقل التي اتفق أهل العلم بالمنقولات على صحتها ويدع ما تواتر به النقل في كتب الحديث على بعضها كالصحاح والسنن والمساند والمعجمات والأسماء والفضائل وكتب أخبار الصحابة وغير ذلك وكتب السير والمغازي وأن كانت دون ذلك وكتب التفسير والفقه وغير ذلك من الكتب التي من نظر فيها علم بالتواتر اليقيني ضد ما في النقل الباطل وعلم أن

 

 

الصحابة رضي الله عنهم كانوا أئمة الهدى ومصابيح الدجى وأن أصل كل فتنة وبليه هم الشيعة ومن انضوى إليهم وكثير من السيوف التي سلت في الإسلام إنما كانت من جهتهم وعلم أن أصلهم ومادتهم منافقون اختلقوا أكاذيب وابتدعوا آراء فاسدة ليفسدوا بها دين الإسلام ويستزلوا بها من ليس من أولى الأحلام فسعوا في قتل عثمان وهو أول الفتن ثم انزووا إلا على لا حبا فيه ولا في أهل البيت لكن ليقيموا سوق الفتنة بين المسلمين ثم هؤلاء الذين سعوا معه منهم من كفره بعد ذلك وقاتله كما فعلت الخوارج وسيفهم أول سيف سل على الجماعة ومنهم من أظهر الطعن على الخلفاء الثلاثة كما فعلت الرافضة وبهم تسترت الزنادقة كالغالية من النصيرية وغيرهم ومن القرامطة الباطنية والإسماعيلية وغيرهم فهم منشأ كل فتنة والصحابة رضي الله عنهم منشأ كل علم وصلاح وهدى ورحمة في الإسلام ولهذا تجد الشيعة ينتصرون لأعداء الإسلام المرتدين كبني حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب ويقولون إنهم كانوا مظلومين كما ذكر صاحب هذا الكتاب وينتصرون لأبي لؤلؤة الكافر المجوسي ومنهم من يقول اللهم أرض عن أبي لؤلؤة واحشرني معه ومنهم من يقول في بعض

 

 

ما يفعله من محاربتهم واثارات أبي لؤلؤة كما يفعلونه في الصورة التي يقدرون فيها صورة عمر من الجبس أو غيره وأبو لؤلؤة كافر باتفاق أهل الإسلام كان مجوسيا من عباد النيران وكان مملوكا للمغيرة بن شعبة وكان يصنع الأرحاء وعليه خراج للمغيرة كل يوم أربعة دراهم وكان قد رأى ما عمله المسلمون بأهل الذمة وإذا رأى سبيهم يقدم إلى المدينة يبقى في نفسه من ذلك وقد روى أنه طلب من عمر أن يكلم مولاه في خراجه فتوقف عمر وكان من نيته أن يكلمه فقتل عمر بغضا في الإسلام وأهله وحبا للمجوس وانتقاما للكفار لما فعل بهم عمر حين فتح بلادهم وقتل رؤساءهم وقسم أموالهم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الحديث الصحيح حيث يقول إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله وعمر هو الذي أنفق كنوزهما وهذا الحديث الصحيح مما يدل على صحةخلافته وأنه كان ينفق هذين الكنزين في سبيل الله الذي هو طاعته وطاعة رسوله وما يقرب إلى الله لم ينفق الأموال في أهواء النفوس المباحة فضلا عن المحرمة فهل ينتصر لأبي لؤلؤة مع هذا إلا من هو أعظم الناس كفرا بالله ورسوله وبغضا في الإسلام ومفرط في الجهل لا يعرف حال أبي لؤلؤة ودع ما يسمع وينقل عمن خلا فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإسلام فإنه يجد معظم ذلك من قبل الرافضة وتجدهم من أعظم الناس فتنا وشرا وأنهم لا يقعدون عما يمكنهم من الفتن والشر وإيقاع الفساد بين الأمة ونحن نعرف بالعيان والتواتر العام وما كان في زماننا من حين خرج جنكزخان ملك الترك الكفار وما جرى في الإسلام من الشر فلا يشك عاقل أن استيلاء الكفار المشركين الذين لا يقرون بالشهادتين ولا بغيرها من المباني الخمس ولا يصومون شهر رمضان ولا يحجون البيت العتيق ولا يؤمنون بالله ولا بملائكته ولا بكتبه ورسله واليوم الآخر

 

وأعلم من فيهم وأدين مشرك يعبد الكواكب والأوثان وغايته أن يكون ساحرا أو كاهنا له رئي من الجن وفيهم من الشرك والفواحش ما هم به شر من الكهان الذين يكونون في العرب فلا يشك عاقل أن استيلاء مثل هؤلاء على بلاد الإسلام وعلى أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم كذرية العباس وغيرهم بالقتل وسفك الدماء وسبي النساء وإستحلال فروجهن وسبي الصبيان واستعبادهم وإخراجهم عن دين الله إلى الكفر وقتل أهل العلم والدين من أهل القرآن والصلاة وتعظيم بيوت الأصنام التي يسمونها البذخانات والبيع والكنائس على المساجد ورفع المشركين وأهل الكتاب من النصارى وغيرهم على المسلمين بحيث يكون المشركون وأهل الكتاب أعظم عزا وأنفذ كلمة وأكثر حرمة من المسلمين إلى أمثال ذلك مما لا يشك عاقل أن هذا أضر على المسلمين من قتال بعضهم بعضا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما جرى على أمته من هذا كان كراهته له وغضبه منه أعظم من كراهته لإثنين مسلمين تقاتلا على الملك ولم يسب

 

 

أحدهما حريم الآخر ولا نفع كافرا ولا أبطل شيئا من شرائع الإسلام المتواترة وشعائره الظاهرة ثم مع هذا الرافضة يعاونون أولئك الكفار وينصرونهم على المسلمين كما قد شاهده الناس لما دخل هولاكو ملك الكفار الترك الشام سنة ثمان وخمسين وستمائة فإن الرافضة الذين كانوا بالشام بالمدائن والعواصم من أهل حلب وما حولها ومن أهل دمشق وما حولها وغيرهم كانوا من أعظم الناس أنصارا وأعوانا على إقامة ملكه وتنفيذ أمره في زوال ملك المسلمين وهكذا يعرف الناس عامة وخاصة ما كان بالعراق لما قدم هولاكون إلى العراق وقتل الخليفة وسفك فيها من الدماء مالا يحصيه إلا الله فكان وزير الخليفة ابن العلقمي والرافضة هم بطانته الذين أعانوه على ذلك بأنواع كثيرة باطنة وظاهرة يطول وصفها وهكذا ذكر أنهم كانوا مع جنكزخان وقد رآهم المسلمون بسواحل الشام وغيرها إذا اقتتل المسلمون والنصارى هواهم مع النصارى ينصرونهم بحسب الإمكان ويكرهون فتح مدائنهم كما كرهوا فتح عكا وغيرها ويختارون إدالتهم على المسلمين حتى أنهم لما انكسر

 

 

عسكر المسلمين سنة غازان سنة تسع وتسعين وخمسمائة وخلت الشام من جيش المسلمين عاثوا في البلاد وسعوا في أنواع من الفساد من القتل وأخذ الأموال وحمل راية الصليب وتفضيل النصارى على المسلمين وحمل السبي والأمول والسلاح من المسلمين إلى النصارى أهل الحرب بقبرس وغيرها فهذا وأمثاله قد عاينه الناس وتواتر عند من لم يعاينه ولو ذكرت أنا ما سمعته ورأيته من آثار ذلك لطال الكتاب وعند غيري من أخبار ذلك وتفاصيله مالا أعلمه فهذا أمر مشهود من معاونتهم للكفار على المسلمين ومن اختيارهم لظهور الكفر وأهله على الإسلام وأهله ولو قدر أن المسلمين ظلمة فسقه ومظهرون لأنواع من البدع التي هي أعظم من سب علي وعثمان لكان العاقل ينظر في خير الخيرين وشر الشرين ألا ترى أن أهل السنة وإن كانوا يقولون في الخوارج والروافض وغيرهما من أهل البدع ما يقولون لكن لا يعاونون الكفار على دينهم ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعة دون ذلك والرافضة إذا تمكنوا لا يتقون وانظر ما حصل لهم في دولة السلطان خدابندا الذي صنف له هذا الكتاب كيف ظهر فيهم من الشر الذي لو دام وقوي أبطلوا به عامة شرائع الإسلام لكن يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون

 

 

وأما الخلفاء والصحابة فكل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام والقرآن والعلم والمعارف والعبادات ودخول الجنة والنجاة من النار وانتصارهم على الكفار وعلو كلمة الله فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلغوا الدين وجاهدوا في سبيل الله وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة رضي الله عنهم عليه فضل إلى يوم القيامة وكل خير فيه الشيعة وغيرهم فهو ببركة الصحابة وخير الصحابة تبع لخير الخلفاء الراشدين فهم كانوا أقوم بكل خير في الدين والدنيا من سائر الصحابة فكيف يكون هؤلاء منبع الشر ويكون أولئك الرافضة منبع الخير ومعلوم أن الرافضي يوالي أولئك الرافضة ويعادي الصحابة فهل هذا إلا من شر من أعمى الله بصيرته فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وإذا قال القائل الجمهور الذين يتولون الثلاثة فيهم من الشر والفتن ما لم ينقل مثله عن علي فلا يقابل بين الرافضة والصحابة والجمهور فنقول الجواب من وجهين الأول أنا لم نذكر هذا للمقابلة بل ردا على من زعم أن الفتنة لم تخرج إلا عن الخلفاء الراشدين ونحن قد علمنا بالمعاينة والتواتر أن الفتن والشرور العظيمة التي لا تشابهها فتن

 

 

إنما تخرج عن طائفته التي يتولاها ويزعم أنهم هم المؤمنون أهل الجنة وعلمنا أن الخير العظيم الذي لا يوازيه خير إنما ظهر عن الصحابة والخلفاء الراشدين لنبين عظيم افتراء هذا المفترى وان مثله في ذلك مثل من قال من أتباع إخوانه الكذابين الذين يعظمون غير الأنبياء على الأنبياء كأئمة العبيديين وغيرهم من الملادحة وأتباع مسيلمة الكذاب وأبى لؤلؤة قاتل عمر ونحوهما ممن يعظمه هذا المفترى إذا قال انظر هل ظهرت الفتن إلا من موسى وعيسى ومحمد فيقال له بل الفتن إنما ظهرت عن أصحابك وإخوانك الذين يفترون على الله الكذب ويعظمون الكذابين المفترين كتعظيم العبيديين الملاحدة وتعظيم مسيلمة الكذاب وتعظيم الطوسي الملحد وأمثاله وقد رأيناك وأمثالك تعظمون هؤلاء الملاحدة علماءهم وولاتهم على أتباع الأنبياء فلكم أوفر نصيب من قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا

 

 

هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (سورة النساء). فإن مسيلمة الكذاب من أكابر الأئمة الذين كفروا وكذلك أمثاله من الملاحدة العبيديين وأمثالهم الذين كانوا يدعون الإلهية والنبوة أو يدعى أن الفيلسوف أعظم من الأنبياء ونحو ذلك من مقالات الذين كفروا فإن المبتدعة من الجهمية والرافضة وغيرهم الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا فيحق عليهم ما وعد الله به حيث قال أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (سورة النساء). ومن هؤلاء من يعظم الشرك والسحر والأحوال الشيطانية مما هو من الإيمان بالجبت والطاغوت فإن الجبت هو السحر والطاغوت الشيطان والأوثان الوجه الثاني أنا لو فرضنا المقابلة بين الجمهور والرافضة فما بين خير الطائفتين وشرهما نسبة فإنا لا ننكر أن في الجمهور شرا كثيرا لكن إذا جاءت المقابلة فلا بد من المعادلة كما أنا إذا قابلنا بين المسلمين والنصارى واليهود لم نستكثر ما في المسلمين من الشر لكن يجب العدل فإن الله أمر بالقسط والعدل وهو مما اتفقت العقول والشرائع على وجوبه وحسنه فتقول ما من شر يوجد في الجمهور إلا وفي الرافضة من جنسه ما هو

 

 

أعظم منه كما أنه مامن شر يكون في المسلمين إلا وفي اليهود والنصارى من جنسه ما هو أعظم منه وما من خير يكون في الشيعة إلا وفي الجمهور من جنسه ما هو أعظم منه كما أنه مامن خير يكون في بعض أهل الكتاب إلا وفي المسلمين من جنسه ما هو خير منه وأمهات الفضائل العلم والدين والشجاعة والكرم فاعتبر هذا في هؤلاء وهؤلاء فالجمهور فيهم من العلم بالقرآن ومعانيه وعلومه ما لا يوجد منه شيء عند الشيعة بعضهم تعلمه من أهل السنة وهم مع هذا مقصرون فمن صنف منهم تفسير القرآن فمن تفاسير أهل السنة يأخذ كما فعل الطوسي والموسوي فما في تفسيره من علم يستفاد هو مأخوذ من تفاسير أهل السنة وأهل السنة في هذا الموضع من يقر بخلافة الثلاثة فالمعتزلة داخلون في أهل السنة وهم إنما يستعينون في التفسير والمنقولات بكلام المعتزلة وكذلك بحوثهم العقلية فما كان فيها صوابا فإنما أخذوه عن أهل السنة والذين يمتازون به هو كلامهم في ثلب الصحابة والجمهور ودعوى النص ونحو ذلك مما هم به أخلق وهو بهم أشبه وأما الحديث فهم من أبعد الناس عن معرفته لا إسناده ولا متنه ولا يعرفون الرسول واحواله ولهذا إذا نقلوا شيئا من الحديث كانوا من

 

 

أجهل الناس به وأي كتاب وجدوا فيه ما يوافق هواهم نقلوه من غير معرفة بالحديث كما نجد هذا المصنف وأمثاله ينقلون ما يجدونه موافقا لأهوائهم ولو أنهم ينقلون ما لهم وعليهم من الكتب التي ينقلون منها مثل تفسير الثعلبي وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل وفضائل الصحابة لأبي نعيم وما في كتاب أحمد من زيادات القطيعي وزيادات ابن أحمد لانتصف الناس منهم لكنه لا يصدقون إلا بما يوافق قلوبهم وأما الفقه فهم من أبعد الناس عن الفقه وأصل دينهم في الشريعة هي مسائل ينقلونها عن بعض علماء أهل البيت كعلي بن الحسين وابنه أبي جعفر محمد وابنه جعفر بن محمد وهؤلاء رضي الله عنهم من أئمة الدين وسادات المسلمين لكن لا ينظرون في الإسناد إليهم هل ثبت النقل إليهم أم لا فإنه لا معرفة لهم بصناعة الحديث والإسناد ثم إن الواحد من هؤلاء إذا قال قولا لا يطلب دليله من الكتاب والسنة ولا ما يعارضه ولا يردون ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول كما أمر الله به ورسوله بل قد أصلوا لهم ثلاثة أصول أحدها أن هؤلاء معصومون والثاني أن كل ما يقولونه منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم والثالث أن إجماع العترة حجة وهؤلاء هم العترة

 

 

فصاروا لذلك لا ينظرون في دليل ولا تعليل بل خرجوا عن الفقه في الدين كخروج الشعرة من العجين وإذا صنف واحد منهم كتابا في الخلاف وأصول الفقه كالموسوي وغيره فإن كانت المسألة فيها نزاع بين العلماء أخذوا حجة من يوافقهم واحتجوا بما احتج به أولئك وأجابوا عما يعارضهم بما يجيب به أولئك فيظن الجاهل منهم أن هذا قد صنف كتابا عظيما في الخلاف أو الفقه أو الأصول ولا يدري الجاهل أن عامته استعارة من كلام علماء أهل السنة الذين يكفرهم ويعاديهم وما انفردوا به فلا يساوى مداده فإن المداد ينفع ولا يضر وهذا يضر ولا ينفع وإن كانت المسألة مما انفردوا به اعتمدوا على ذلك الأصول الثلاثة التي فيها من الجهل والضلال ما لا يخفى وكذلك كلامهم في الأصول والزهد والرقائق والعبادات والدعوات وغير ذلك وكذلك إذا نظرت ما فيهم من العبادة والأخلاق المحمودة تجده جزءا مما عليه الجمهور.

*

فصل قال الرافضي: الفصل الثالث في الأدلة الدالة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد رسول صلى الله عليه وسلم. الأدلة في ذلك كثيرة لا تحصى لكن نذكر المهم منها وننظم أربعة مناهج.

المنهج الأول في الأدلة العقلية وهي خمسة الأول أن الإمام يجب أن يكون معصوما ومتى كان ذلك كان الإمام هو عليا عليه السلام أما المقدمة الأولى فلأن الإنسان مدني بالطبع لا يمكن أن يعيش منفردا لافتقاره في بقائه إلى ما يأكل ويشرب ويلبس ويسكن ولا يمكن أن يفعلها بنفسه بل يفتقر إلى مساعدة

 

غيره بحيث يفرغ كل واحد منهم إلى ما يحتاج إليه صاحبه حتى يتم قيام النوع ولما كان الاجتماع في مظنه التغالب والتغابن بأن كل واحد من الأشخاص قد يحتاج إلى ما في يد غيره فتدعوه قوته الشهوانية إلى أخذه وقهره عليه وظلمه فيه فيؤدى ذلك إلى وقوع الهرج والمرج وإثارة الفتن فلا بد من نصب إمام معصوم يصدهم عن الظلم والتعدى ويمنعهم عن التغالب والقهر وينصف المظلوم من الظالم ويوصل الحق إلى مستحقه لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية وإلا لافتقر إلى إمام آخر لأن العلة المحوجة إلى نصب الإمام هي جواز الخطأ على الأمة فلو جاز الخطأ عليه لاحتاج إلى إمام آخر فإن كان معصوما كان هو الإمام وإلا لزم التسلسل وأما المقدمة الثانية فظاهرة لأن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا معصومين اتفاقا وعلي معصوم فيكون هو الإمام.

*والجواب عن ذلك أن نقول كلتا المقدمتين باطلة...

أما الأولى: فقوله لا بد من نصب إمام معصوم يصدهم عن الظلم والتعدي ويمنعهم عن التغالب والقهر وينصف المظلوم من الظالم ويوصل الحق إلى مستحقه لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية.

فيقال له نحن نقول بموجب هذا الدليل إن كان صحيحا فإن الرسول هو المعصوم وطاعته واجبة في كل زمان على كل أحد وعلم الأمة بأمره ونهيه أتم من علم آحاد الرعية بأمر الإمام الغائب كالمنتظر ونحوه بأمره ونهيه فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام معصوم والأمة تعرف أمره ونهيه ومعصومهم ينتهي إلى الغائب المنتظر الذي لو كان معصوما لم يعرف أحد لا أمره و لا نهية بل ولا كانت رعية على تعرف أمره ونهيه كما تعرف الأمة نبيها ونهيه بل عند أمه محمد صلى الله عليه وسلم من علم أمره ونهيه ما أغناهم عن كل إمام سواه بحيث أنهم لا يحتاجون قط إلى المتولى عليهم في شيء من معرفة دينهم ولا يحتاجون في العمل إلى ما يحتاجون فيه إلى التعاون وهم يعلمون أمره ونهيه أعظم من معرفة آحاد رعية المعصوم ولو قدر

 

وجوده بأمره فإنه لم يتول على الناس ظاهر من أدعيت له العصمة إلا علي ونحن نعلم قطعا أنه كان في رعيته باليمن وخراسان وغيرهما من لا يدري بماذا أمر ولا عماذا نهى بل نوابه كانوا يتصرفون بما لا يعرفه هو وأما الورثة الذين ورثوا علم محمد صلى الله عليه وسلم فهم يعرفون أمره ونهيه ويصدقون في الإخبار عنه أعظم من علم نواب علي بأمره ونهيه ومن صدقهم في الإخبار عنه وهم إنما يريدون أنه لا بد من إمام معصوم حي فنقول هذا الكلام باطل من وجوه أحدها أن هذا الإمام الموصوف لم يوجد بهذه الصفة أما في زماننا فلا يعرف إمام معروف يدعى فيه هذا ولا يدعي لنفسه بل مفقود غائب عند متبعيه ومعدوم لا حقيقة له عند العقلاء ومثل هذا لا يحصل به شيء من مقاصد الإمامة أصلا بل من ولى على الناس ولو كان فيه بعض الجهل وبعض الظلم كان أنفع لهم ممن لا ينفعهم بوجه من الوجوه وهؤلاء المنتسبون إلى الإمام المعصوم لا يوجدون مستعينين في أمورهم إلا بغيره بل هم ينتسبون إلى المعصوم وإنما يستعينون بكفور أو ظلوم فإذا كان المصدقون لهذا المعصوم المنتظر لم ينتفع به أحد

 

منهم لا في دينه ولا في دنياه لم يحصل لأحد به شيء من مقاصد الإمامة وإذا كان المقصود لا يحصل منه شيء لم يكن بنا حاجة إلى إثبات الوسيلة لأن الوسائل لا تراد إلا لمقاصدها فإذا جزمنا بانتفاء المقاصد كان الكلام في الوسيلة من السعي الفاسد وكان هذا بمنزلة من يقول الناس يحتاجون إلى من يطعمهم ويسقيهم وينبغي أن يكون الطعام صفته كذا والشراب صفته كذا وهذا عند الطائفة الفلانبة وتلك الطائفة قد علم أنها من أفقر الناس وأنهم معروفون بالإفلاس وأي فائدة في طلب ما يعلم عدمه واتباع مالا ينتفع به أصلا والإمام يحتاج إليه في شيئين إما في العلم لتبليغه وتعليمه وإما في العمل به ليعين الناس على ذلك بقوته وسلطانه وهذا المنتظر لا ينفع لا بهذا ولا بهذا بل ما عندهم من العلم فهو من كلام من قبله ومن العمل إن كان مما يوافقهم عليه المسلمون استعانوا بهم وإلا استعانوا بالكفار والملاحدة ونحوهم فهم أعجز الناس في العمل وأجهل الناس في العلم مع دعواهم ائتمامهم بالمعصوم الذي مقصوده العلم والقدرة ولم يحصل لهم لا علم ولا قدرة فعلم انتفاء هذا مما يدعونه

 

وأيضا فالأئمة الاثنا عشر لم يحصل لأحد من الأمة بأحد منهم جميع مقاصد الإمامة أما من دون على فإنما كان يحصل للناس من علمه ودينه مثل ما يحصل من نظرائه وكان علي بن الحسين وابنه أبو جعفر وابنه جعفر ابن محمد يعلمون الناس ما علمهم الله كما علمه و علماء زمانهم وكان في زمنهم من هو أعلم منهم وأنفع للأمة وهذا معروف عند أهل العلم ولو قدر أنهم كانوا أعلم وأدين فلم يحصل من أهل العلم والدين ما يحصل من ذوي الولاية من القوة والسلطان وإلزام الناس بالحق ومنعهم باليد عن الباطل وأما من بعد الثلاثة كالعسكريين فهؤلاء لم يظهر عليهم علم تستفيده الأمة ولا كان لهم يد تستعين به الأمة بل كانوا كأمثالهم من الهاشميين لهم حرمة ومكانة وفيهم من معرفة ما يحتاجون إليه في الإسلام والدين ما في أمثالهم وهو ما يعرفه كثير من عوام المسلمين وأما ما يختص به أهل العلم فهذا لم يعرف عنهم ولهذا لم يأخذ عنهم أهل العلم كما أخذوا عن أولئك الثلاثة ولو وجدوا ما يستفاد لأخذوا ولكن طالب العلم يعرف مقصوده وإذا كان للإنسان نسب شريف كان ذلك مما يعينه على قبول

 

الناس منه ألا ترى أن ابن عباس لما كان كثير العلم عرفت الأمه له ذلك واستفادت منه وشاع ذكره بذلك في الخاصة والعامة وكذلك الشافعي لما كان عنده من العلم والفقه ما يستفاد منه عرف المسلمون له ذلك واستفادوا ذلك منه وظهر ذكره بالعلم والفقه ولكن إذا لم يجد الإنسان مقصوده في محل لم يطلبه منه ألا ترى أنه لو قيل عن أحد إنه طبيب أو نحوي وعظم حتى جاء إليه الأطباء أو النحاة فوجدوه لا يعرف من الطب والنحو ما يطلبون أعرضوا عنه ولم ينفعه مجرد دعوى الجهال وتعظيمهم وهؤلاء الإمامية أخذوا عن المعتزلة أن الله يجب عليه الإقدار والتمكين واللطف بما يكون المكلف عنده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد مع تمكنه في الحالين ثم قالوا والإمامة واجبة وهي أوجب عندهم من النبوة لأن بها لطفا في التكاليف قالوا إنا نعلم يقينا بالعادات واستمرار الأوقات أن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإذا لم يكن لهم رئيس وقع الهرج والمرج بينهم وكانوا عن الصلاح أبعد ومن الفساد أقرب وهذه الحال مشعرة بقضية العقل معلومة لا ينكرها إلا من جهل

 

العادات ولم يعلم استمرار القاعدة المستمرة في العقل قالوا وإذا كان هذا لطفا في التكليف لزم وجوبه ثم ذكروا صفاته من العصمة وغيرها ثم أورد طائفة منهم على أنفسهم سؤالا فقالوا إذا قلتم إن الإمام لطف وهو غائب عنكم فأين اللطف الحاصل مع غيبته وإذا لم يكن لطفه حاصلا مع الغيبة وجاز التكليف بطل أن يكون الإمام لطفا في الدين وحينئذ يفسد القول بإمامة المعصوم وقالوا في الجواب عن هذا السؤال إنا نقول إن لطف الإمام حاصل في حالة الغيبة للعارفين به في حال الظهور وإنما فات اللطف لمن لم يقل بإمامته كما أن لطف المعرفة لم يحصل لمن لم يعرف الله تعالى وحصل لمن كان عارفا به قالوا وهذا يسقط هذا السؤال ويوجب القول بإمامة المعصومين فقيل لهم لو كان اللطف حاصلا في حال الغيبة كحال الظهور لوجب أن يستغنوا عن ظهوره ويتبعوه إلى أن يموتوا وهذا خلاف ما يذهبون إليه فأجابوا بأنا نقول إن اللطف في غيبته عند العارف به من باب التنفير والتبعيد عن القبائح مثل حال الظهور لكن نوجب ظهوره لشيء غير ذلك وهو رفع أيدي المتغلبين عن المؤمنين وأخذ الأموال ووضعها في مواضعها من أيدي الجبابرة ورفع ممالك الظلم التي لا يمكننا رفعها إلا بطريقة وجهاد الكفار الذي لا يمكن إلا مع ظهوره

 

فيقال لهم هذا كلام ظاهر البطلان وذلك أن الإمام الذي جعلتموه لطفا هو ما شهدت به العقول والعادات وهو ما ذكرتموه قلتم إن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد واشترطتم فيه العصمة قلتم لأن مقصود الأنزجار لا يحصل إلا بها ومن المعلوم أن الموجودين الذين كانوا قبل المنتظر لم يكن أحد منهم بهذه الصفة لم يكن أحد منهم منبسط اليد ولا متصرفا وعلي رضي الله عنه تولى الخلافة ولم يكن تصرفه وانبساطه تصرف من قبله وانبساطهم وأما الباقون فلم تكن أيديهم منبسطة ولا متصرفون بل كان يحصل بأحدهم ما يحصل بنظرائه وأما الغائب فلم يحصل به شيء فإن المعترف بوجوده إذا عرف أنه غاب من أكثر من أربعمائة سنة وستين سنة وأنه خائف لا يمكنه الظهور فضلا عن إقامة الحدود ولا يمكنه أن يأمر أحدا ولا ينهاه لم يزل الهرج والفساد بهذا ولهذا يوجد طوائف الرافضة أكثر الطوائف هرجا وفسادا واختلافا بالألسن والأيدي ويوجد من الإقتتال والاختلاف وظلم بعضهم لبعض ما لا يوجد فيمن لهم متول كافر فضلا عن متول مسلم فأي لطف حصل لمتبعيه به

 

واعتبر المدائن والقرى التي يقر أهلها بإمامة المنتظر مع القرى التي لا يقرون به تجد حال هؤلاء أعظم انتظاما وصلاحا في المعاش والمعاد حتى أن الخبير بأحوال العالم يجد بلاد الكفار لوجود رؤسائهم يقيمون مصلحة دنياهم أكثر انتظاما من كثير من الأرض التي ينسبون فيها إلى متابعة المنتظر لا يقيم لهم سببا من مصلحة دينهم ودنياهم ولو قدر أن اعترافهم بوجوده يخافون معه أن يظهر فيعاقبهم على الذنوب كان من المعلوم أن خوف الناس من ولاة أمورهم المشهورين أن يعاقبوهم أعظم من خوف هؤلاء من عقوبة المنتظر لهم ثم الذنوب قسمان منها ذنوب ظاهرة كظلم الناس والفواحش الظاهرة فهذه تخاف الناس فيها من عقوبة ولاة أمورهم أعظم مما يخافه الإمامية من عقوبة المنتظر فعلم أن اللطف الذي أوجبوه لا يحصل بالمنتظر أصلا للعارف به ولا لغيره وأما قولهم إن اللطف به يحصل للعارفين به كما يحصل في حال الظهور فهذه مكابرة ظاهرة فإنه إذا ظهر حصل به من إقامة الحدود والوعظ وغير ذلك ما يوجب أن يكون في ذلك لطف لا يحصل مع عدم الظهور

 

وتشبيههم معرفته بمعرفة الله في باب اللطف وأن اللطف به يحصل للعارف دون غيره قياس فاسد فإن المعرفة بأن الله موجود حى قادر يأمر بالطاعة ويثيب عليها وينهى عن المعصية ويعاقب عليها من أعظم الأسباب في الرغبة والرهبة منه فتكون هذه المعرفة داعية إلى الرغبة في ثوابه بفعل المأمور وترك المحظور والرهبة من عقابه إذا عصى لعلم العبد بأنه عالم قادر وأنه قد جرت سنته بإثابة المطيعين وعقوبة العاصين وأما شخص يعرف الناس أنه مفقود من أكثر من أربعمائة سنة وأنه لم يعاقب أحدا وأنه لم يثب أحدا بل هو خائف على نفسه إذا ظهر فضلا عن أن يأمر وينهى فكيف تكون المعرفة به داعية إلى فعل ما أمر وترك ما حظر بل المعرفة بعجزه وخوفه توجب الإقدام على فعل القبائح لا سيما مع طول الزمان وتوالي الأوقات وقتا بعد وقت وهو لم يعاقب أحدا ولم يثب أحدا بل لو قدر أنه يظهر في كل مائة سنة مرة فيعاقب لم يكن ما يحصل به من اللطف مثل ما يحصل بآحاد ولاة الأمر بل ولو قيل إنه يظهر في كل عشر سنين بل ولو ظهر في السنة مرة فإنه لا تكون منفعته كمنفعة ولاة الأمور الظاهرين للناس في كل وقت بل هؤلاء مع

 

ذنوبهم وظلمهم في بعض الأمور شرع الله بهم وما يفعلونه من العقوبات وما يبذلونه من الرغبات في الطاعات أضعاف ما يقام بمن يظهر بعد كل مدة فضلا عمن هو مفقود يعلم جمهور العقلاء أنه لا وجود له والمقرون به يعلمون أنه عاجز خائف لم يفعل قط ما يفعله آحاد الناس فضلا عن ولاة أمرهم وأي هيبة لهذا وأي طاعة وأي تصرف وأي يد منبسطة حتى إذا كان للناس رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا أقرب إلى الصلاح بوجوده ومن تدبر هذا علم أن هؤلاء القوم في غاية الجهل والمكابرة والسفسطه حيث جعلوا اللطف به في حال عجزه وغيبته مثل اللطف به في حال ظهوره وأن المعرفة به مع عجزه وخوفه وفقده لطف كما لو كان ظاهرا قادرا آمنا وأن مجرد هذه المعرفة لطف كما أن معرفة الله لطف الوجه الثاني أن يقال قولكم لا بد من نصب إمام معصوم يفعل هذه الأمور أتريدون أنه لا بد أن يخلق الله ويقيم من يكون متصفا بهذه الصفات أم يجب على الناس أن يبايعوا من يكون كذلك فإن أردتم الأول فالله لم يخلق أحدا متصفا بهذه الصفات فإن غاية ما عندكم أن تقولوا إن عليا كان معصوما لكن الله لم يمكنه ولم يؤيده

 

لا بنفسه ولا بجند خلقهم له حتى يفعل ما ذكرتموه بل أنتم تقولون إنه كان عاجزا مقهورا مظلوما في زمن الثلاثة ولما صار له جند قام له جند آخرون قاتلوه حتى لم يتمكن أن يفعل ما فعل الذين كانوا قبله الذين هم عندكم ظلمة فيكون الله قد أيد أولئك الذين كانوا قبله حتى تمكنوا من فعل ما فعلوه من المصالح ولم يؤيده حتى يفعل ذلك وحينئذ فما خلق الله هذا المعصوم المؤيد الذي اقترحتموه على الله وإن قلتم إن الناس يجب عليهم أن يبايعوه ويعاونوه قلنا أيضا فالناس لم يفعلوا ذلك سواء كانوا مطيعين أو عصاة وعلى كل تقدير فما حصل لأحد من المعصومين عندكم تأييد لا من الله ولا من الناس وهذه المصالح التي ذكرتموها لا تحصل إلا بتأييد فإذا لم يحصل ذلك لم يحصل مابه تحصل المصالح بل حصل أسباب ذلك وذلك لا يفيد المقصود الوجه الثالث أن يقال إذا كان لم يحصل مجموع مابه تحصل هذه المطالب بل فات كثير من شروطها فلم لا يجوز أن يكون الفائت هو العصمة وإذا كان المقصود فائتا إما بعدم العصمة وإما بعجز المعصوم فلا فرق بين عدمها بهذا أو بهذا فمن أين يعلم بدليل العقل أنه يجب على الله أن يخلق إماما معصوما وهو إنما يخلقه ليحصل به مصالح عباده وقد خلقه عاجزا لا يقدر على تلك المصالح بل حصل به من الفساد مالم يحصل إلا بوجوده

 

وهذا يتبين بالوجه الرابع وهو أنه لو لم يخلق هذا المعصوم لم يكن يجري في الدنيا من الشر أكثر مما جرى إذ كان وجوده لم يدفع شيئا من الشر حتى يقال وجوده دفع كذا بل وجوده أوجب أن كذب به الجمهور وعادوا شيعته وظلموه وظلموا أصحابه وحصل من الشرور التي لا يعلمها إلا الله بتقدير أن يكون معصوما فإنه بتقدير أن لا يكون علي رضي الله عنه معصوما ولا بقية الاثنى عشر ونحوهم لا يكون ما وقع من تولية الثلاثة وبني أمية وبني العباس فيه من الظلم والشر ما فيه بتقدير كونهم أئمة معصومين وبتقدير كونهم معصومين فما أزالوا من الشر إلا ما يزيله من ليس بمعصوم فصار كونهم معصومين إنما حصل به الشر لا الخير فكيف يجوز على الحكيم أن يخلق شيئا ليحصل به الخير وهو لم يحصل به إلا الشر لا الخير وإذا قيل هذا الشر حصل من ظلم الناس له قيل فالحكيم الذي خلقه إذا كان خلقه لدفع ظلمهم وهو يعلم أنه إذا خلقه زاد ظلمهم لم يكن خلقه حكمة بل سفها وصار هذا كتسليم إنسان ولده إلى من يأمره بإصلاحه وهو يعلم أنه لا يطيعه بل يفسده فهل يفعل هذا حكيم ومثل أن يبنى إنسان خانا في الطريق لتأوى إليه القوافل ويعتصموا

 

به من الكفار وقطاع الطريق وهو يعلم أنه إذا بناه اتخذه الكفار حصنا والقطاع مأوى لهم ومثل من يعطى رجلا مالا ينفقه في الغزاة والمجاهدين وهو يعلم أنه إنما ينفقه في الكفار والمحاربين أعداء الرسول ولا ريب أن هؤلاء الرافضة القدرية أخذوا هذه الحجج من أصول المعتزلة القدرية فلما كان أولئك يوجبون على الله الصلاح والأصلح أخذ هؤلاء ذلك منهم وأصل أولئك في أنه يجب على الله أن يفعل بكل مكلف ما هو الأصلح له في دينه ودنياه وهو أصل فاسد وإن كان الرب تعالى بحكمته ورحمته يفعل بحكمة لخلقه ما يصلحهم في دينهم ودنياهم والناس في هذا الأصل على ثلاثة أقوال فالقدرية يقولون يجب على الله رعاية الأصلح أو الصلاح في كل شخص معين ويجعلون ذلك الواجب من جنس ما يجب على الإنسان فغلطوا حيث شبهوا الله بالواحد من الناس فيما يجب عليه ويحرم عليه وكانوا هم مشبهة الأفعال فغلطوا من حيث لم يفرقوا بين المصلحة العامة الكلية وبين مصلحة آحاد الناس التي قد تكون مستلزمة لفساد عام ومضاده لصلاح عام

 

والقدرية المجبرة الجهمية لا يثبتون له حكمة ولا رحمة بل عندهم يفعل بمشيئة محضة لا لها حكمة ولا رحمة والجهم بن صفوان رأس هؤلاء كان يخرج إلى المبتلين من الجذمى وغيرهم فيقول أرحم الراحمين يفعل هذا يريد أنه ليس له رحمة فهؤلاء وأولئك في طرفين متقابلين والثالث قول الجمهور إن الله عليم حكيم رحيم قائم بالقسط وإنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها كما نطقت بذلك نصوص الكتاب والسنة وكما يشهد به الاعتبار حسا وعقلا وذلك واقع منه بحكمته ورحمته وبحكم أنه كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم لا بأن الخلق يوجبون عليه ويحرمون ولا بأنه يشبه المخلوق فيما يجب ويحرم بل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل وليس لمخلوق عليه حق إلا ما أحقه هو على نفسه المقدسة كقوله كتب ربكم على نفسه الرحمة (سورة الأنعام). وقوله وكان حقا علينا نصر المؤمنين (سورة الروم). وذلك بحكم وعده وصدقه في خبره وهذا متفق عليه بين المسلمين وبحكم كتابه على نفسه وحكمته ورحمته وهذا فيه تفصيل ونزاع مذكور في غير هذا الموضع ثم القدرية القائلون برعاية الأصلح يقولون إنما خلقهم لتعريضهم للثواب

 

فإذا قيل لهم فهو كان يعلم أن هذا الذي عرضه لا ينتفع مما خلقه له بل يفعل ما يضره فكان كمن يعطى شخصا مالا لينفقه في سبيل الله وسيفا ليقاتل به الكفار وهو يعلم أنه ينفقه في حرب المسلمين وقتالهم قالوا المكلف إنما أتى من جهة نفسه فهو الذي فرط بترك الطاعة أجابهم أهل السنة بجوابين أحدهما مبني على إثبات العلم والثاني مبني على إثبات المشيئة والقدرة التامة وأنه خالق كل شيء فقالوا على الأول إذا كان هو يعلم أن مقصوده بالفعل لم يحصل لم يكن فعله حكمة وإن كان بتفريط غيره والثاني أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو خالق كل شيء وهو يعلم أنه لا يشاء ويخلق ما به يكون ما ذكروه من المطلوب فيمتنع مع هذا أن يكون ما ذكروه هو المطلوب بالخلق وكل جواب للقدرية فهو جواب للرافضة ويجابون بأجوبة أخرى تجيبهم بها القدرية وإن وافقوهم على قاعدة التعليل والتجوير فيقولون إنما يجب خلق إمام معصوم إذا لم يكن قد خلق لهم ما يغنيهم عنه وبالجملة فحقيقة هذه الحجة أنها استدلال بالواجب على الواقع

 

فيقولون يجب عليه كذا فلا بد أن يكون قد فعل الواجب وليس هذا إلا هكذا والعلم بالواقع له طرق كثيرة قطعية يقينية تبين انتفاء هذا الذي ذكروا أنه واقع فإذا علمنا انتقاء الفائدة المطلوبة قطعا لم يمكن إثبات لازمها وهو الوسيلة فإنا نستدل على إثبات اللازم بإثبات الملزوم فإذا كان الملزوم قد علمنا انتفاءه قطعا لم يمكن إثبات لازمه ثم بعد ذلك آن أن نقدح في الإيجاب جملة وتفصيلا أو نقول الواجب من الجملة لا يتوقف على ما ادعوه من المعصوم ما لم يكن مثله في نواب معاوية وقول الرافضة من جنس قول النصارى إن الإله تجسد ونزل وإنه أنزل ابنه ليصلب ويكون الصلب مغفره لذنب آدم ليدفع الشيطان بذلك لهم فقيل لهم إذا كان قتله وصلبه وتكذيبه من أعظم الشر والمعصية فيكون قد أراد أن يزيل ذنبا صغيرا بذنب هو أكبر منه وهو مع ذلك لم يغير الشر بل زاد على ما كان فكيف يفعل شيئا لمقصود والحاصل إنما هو ضد المقصود الوجه الخامس إذا كان الانسان مدنيا بالطبع وإنما وجب نصب

 

 

المعصوم ليزيل الظلم والشر عن أهل المدينة فهل تقولون إن لم يزل في كل مدينة خلقها الله تعالى معصوم يدفع ظلم الناس أم لا فإن قلتم بالأول كان هذا مكابرة ظاهرة فهل في بلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب معصوم وهل كان في الشام عند معاوية معصوم وإن قلتم بل نقول هو في كل مدينة واحد وله نواب في سائر المدائن قيل فكل معصوم له نواب في جميع مدائن الأرض أم في بعضها فإن قلتم في الجميع كان هذا مكابرة وإن قلتم في البعض دون البعض قيل فما الفرق إذا كان ما ذكرتموه واجبا على الله وجميع المدائن حاجتهم إلى المعصوم واحدة الوجه السادس أن يقال هذا المعصوم يكون وحده معصوما أو كل من نوابه معصوما وهم لا يقولون بالثاني والقول به مكابرة فإن نواب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا معصومين ولا نواب علي بل كان في بعضهم من الشر والمعصية ما لم يكن مثله في نواب معاوية لأميرهم فأين العصمة وأن قلت يشترط فيه وحده قيل فالبلاد الغائبة عن الإمام لا سيما إذا لم يكن المعصوم قادرا على قهر نوابه بل هو عاجز ماذا ينتفعون بعصمة الإمام وهم يصلون

 

 

خلف غير معصوم ويحكم بينهم غير معصوم ويطيعون غير معصوم ويأخذ أموالهم غير معصوم فإن قيل الأمور ترجع إلى المعصومين قيل لو كان المعصوم قادرا ذا سلطان كما كان عمر وعثمان ومعاوية وغيرهم لم يتمكن أن يوصل إلى كل من رعيته العدل الواجب الذي يعلمه هو وغاية ما يقدر عليه أن يولى أفضل من يقدر عليه لكن إذا لم يجد إلا عاجزا أو ظالما كيف يمكنه تولية قادر عادل فإن قالوا إذا لم يخلق الله إلا هذا سقط عنه التكليف قيل فإذا لم يجب على الله أن يخلق قادرا عادلا مطلقا بل أوجب على الإمام أن يفعل ما يقدر عليه فكذلك الناس عليهم أن يولوا أصلح من خلقه الله تعالى وإن كان فيه نقص إما من قدرته وإما من عدله وقد كان عمر رضي الله عنه يقول اللهم إليك اشكو جلد الفاجر وعجز الثقة وما ساس العالم أحد مثل عمر فكيف الظن بغيره هذا إذا كان المتولى نفسه قادرا عادلا فكيف إذا كان المعصوم عاجزا بل كيف إذا كان مفقودا من الذي يوصل الرعية إليه حتى يخبروه بأحوالهم ومن الذي يلزمها بطاعته حتى تطيعه وإذا أظهر بعض نوابه

 

 

طاعته حتى يوليه ثم أخذ ما شاء من الأموال وسكن في مدائن الملوك فأي حيلة للمعصوم فيه فعلم أن المعصوم الواحد لا يحصل به المقصود إذا كان ذا سلطان فكيف إذا كان عاجزا مقهورا فكيف إذا كان مفقودا غائبا لا يمكنه مخاطبة أحد فكيف إذا كان معدوما لا حقيقه له الوجه السابع أن يقال صد غيره عن الظلم وإنصاف المظلوم منه وإيصال حق غيره إليه فرع على منع ظلمه واستيفاء حقه فإذا كان عاجزا مقهورا لا يمكنه دفع الظلم عن نفسه ولا استيفاء حقه من ولاية ومال لا حق امرأته من ميراثها فأي ظلم يدفع وأي حق يوصل فكيف إذا كان معدوما أوخائفا لا يمكنه أن يظهر في قرية او مدينة خوفا من الظالمين أن يقتلوه وهو دائما على هذه الحال أكثر من اربعمائة وستين سنة والأرض مملوءة من الظلم والفساد وهو لا يقدر أن يعرف بنفسه فكيف يدفع الظلم عن الخلق أو يوصل الحق إلى المستحق وما أخلق هؤلاء بقوله تعالى أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون أن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا (سورة الفرقان). الوجه الثامن أن يقال الناس في باب ما يقبح من الله على قولين منهم من يقول الظلم ممتنع منه وفعل القبيح مستحيل ومهما

 

 

فعله كان حسنا فهؤلاء يمتنع عندهم أن يقال يحسن منه كذا فضلا عن القول بالوجوب والقول الثاني قول من يقول إنه يجب عليه العدل والرحمة بإيجابه على نفسه كما قال تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة (سورة الأنعام). ويحرم الظلم بتحريمه على نفسه كما قال في الصحيح يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ويقول إن ذلك واجب بالعقل وعلى كل قول فهو سبحانه لم يقع منه ظلم ولم يخل بواجب فقد فعل ما يجب عليه وهو مع هذا لم يخلق ما تحصل به هذه المصالح المقصودة من المعصوم فإن كانت هذه المصالح تحصل بمجرد خلقه وهي لم تحصل لزم أن لا يكون خلقه واجبا وهو المطلوب وإن كانت لا تحصل إلا بخلقه وخلق أمور أخرى حتى يحصل بالمجموع المطلوب فهو لم يخلق ذلك المجموع سواء كان لم يخلق شيئا منه أو لم يخلق بعضه والإخلال بالواجب ممتنع عليه في القليل والكثير فلزم علي التقديرين أنه لا يجب عليه خلق الموجب لهذه المطالب وإذا لم يجب عليه ذلك فلا فرق بين أن يخلق معصوما لا يحصل به ذلك وبين أن لا يخلقه فلا يكون ذلك واجبا عليه وحينئذ فلا يلزم أن يكون موجودا فالقول بوجوب وجوده باطل على كل تقدير وإن قيل إن المطلوب يحصل بخلقه وبطاعة المكلفين له

 

 

قيل إن كانت طاعة المكلفين مقدورة لله ولم يخلقها فلم يخلق المصلحة المطلوبة بالمعصوم فلا تكون واجبه عليه وإن لم تكن مقدورة امتنع الوجوب بدونها في حق المكلف فكيف في حق الله وما لا يتم الوجوب إلا به وهو غير موجود فليس الأمر حينئذ بواجب ألا ترى أن الإنسان لا يجب عليه تحصيل مصلحة لا تحصل بدون فعل غيره إلا إذا أعانه ذلك الغير كالجمعة التي لا تجب إلا خلف إمام أو مع عدد فلا يجب على الإنسان أن يصليها إلا إذا حصل الإمام وسائر العدد والحج الذي لا يجب عليه السفر إليه إلا مع رفقة يأمن معهم أو مع من يكريه دابته فلا يجب عليه إذا لم يحصل من يفعل معه ذلك ودفع الظلم عن المظلوم إذا لم يمكن إلا بأعوان لم يجب على من لا أعوان له فإذا قالوا إن الرب يجب عليه تحصيل هذه المصالح لعباده الحاصلة بخلق المعصوم وهي لا تحصل إلا بوجود من يطيعه والله تعالى على هذا التقدير لا يمكنه أن يجعل الناس يطيعونه لم يكن خلق المعصوم واجبا عليه لعدم وجوب ما لا يحصل الواجب إلا به وعدم حصول المطلوب بالمعصوم وحده وإن قيل يخلقه لعل بعض الناس يطيعه قيل أولا هذا ممتنع ممن يعلم عواقب الأمور

 

 

وقيل ثانيا إذا كان شرط المطلوب قد يحصل وقد لا يحصل وهو في كثير من الأوقات أو غالبها أو جميعها لا يحصل أمكن أن يخلق غير المعصوم يكون عادلا في كثير من الأوقات أو بعضها فإن حصول المقصود ممن يعدل في كثير من الأمور ويظلم في بعضها إذا كانت مصلحة وجوده أكثر من مفسدته خير ممن لا يقدر على أن يعدل بحال ولا يدفع شيئا من الظلم فإن هذا لا مصلحة فيه بحال وإن قالوا الرب فعل ما يجب عليه من خلق المعصوم ولكن الناس فوتوا المصلحة بمعصيتهم له قيل أولا إذا كان يعلم أن الناس لا يعاونونه حتى تحصل المصلحة بل يعصونه فيعذبون لم يكن خلقه واجبا بل ولا حكمة على قولهم ويقال ثانيا ليس كل الناس عصاه بل بعض الناس عصوه ومنعوه وكثير من الناس تؤثر طاعته ومعرفة ما يقوله فكيف لا يمكن هؤلاء من طاعته فإذا قيل أولئك الظلمة منعوا هؤلاء قيل فإن كان الرب قادرا على منع الظلمة فهلا منعهم على قولهم وإن لم يكن ذلك مقدورا فهو يعلم أن حصول المصلحة غير مقدورة فلا يفعله فلم قلتم على هذا التقدير إنه يمكن خلق معصوم غير نبي

 

 

وهذا لازم لهم فإنهم إن قالوا إن الله خالق أفعال العباد أمكنه صرف دواعي الظلمة حتى يتمكن الناس من طاعته وإن قالوا ليس خالق أفعال العباد قيل فالعصمة إنما تكون بأن يريد الفاعل الحسنات ولا يريد السيئات وهو عندكم لا يقدر أن يغير إرادة أحد فلا يقدر على جعله معصوما وهذا أيضا دليل مستقل على إبطال خلق أحد معصوما على قول القدرية فإن العصمة إنما تكون بأن يكون العبد مريدا للحسنات غير مريد للسيئات فإذا كان هو المحدث للإرادة والله تعالى عند القدرية لا يقدر على إحداث إرادة أحد امتنع منه أن يجعل أحدا معصوما وإذا قالوا يخلق ما تميل به إرادته إلى الخير قيل إن كان ذلك ملجئا زال التكليف وإن لم يكن ملجئا لم ينفع وإن كان ذلك مقدورا عندكم فهلا فعله بجميع العبادة فإنه أصلح لهم إذا أوجبتم على الله أن يفعل الأصلح بكل عبد وذلك لا يمنع الثواب عندكم كما لا يمنعه في حق المعصوم الوجه التاسع أن يقال حاجة الإنسان إلى تدبير بدنه بنفسه أعظم من حاجة المدينة إلى رئيسها وإذا كان الله تعالى لم يخلق نفس الإنسان معصومة فكيف يجب عليه أن يخلق رئيسا معصوما مع أن الإنسان يمكنه أن يكفر بباطنه ويعصي بباطنه وينفرد بأمور

 

 

كثيرة من الظلم والفساد والمعصوم لا يعلمها وإن علمها لا يقدر على إزالتها فإذا لم يجب هذا فكيف يجب ذاك الوجه العاشر أن يقال المطلوب من الأئمة أن يكون الصلاح بهم أكثر من الفساد وأن يكون الإنسان معهم أقرب إلى المصلحة وأبعد عن المفسدة مما لو عدموا ولم يقم مقامهم أم المقصود بهم وجود صلاح لا فساد معه أم مقدار معين من الصلاح فإن كان الأول فهذا المقصود حاصل لغالب ولاة الأمور وقد حصل هذا المقصود على عهد أبي بكر وعمر وعثمان أعظم مما حصل على عهد علي وهو حاصل بخلفاء بني أمية وبني العباس أعظم مما هو حاصل بالاثنى عشر وهذا حاصل بملوك والترك والهند أكثر مما هو حاصل بالمنتظر الملقب صاحب الزمان فإنه ما من أمير يتولى ثم يقدر عدمه بلا نظير إلا كان الفساد في عدمه أعظم من الفساد في وجوده لكن قد يكون الصلاح في غيره أكثر منه كما قد قيل ستون سنة مع إمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمام وإن قيل بل المطلوب وجود صلاح لا فساد معه قيل فهذا لم يقع ولم يخلق الله ذلك ولا خلق أسبابا توجب ذلك لا محالة فمن أوجب ذلك وأوجب ملزوماته على الله كان إما مكابرا لعقله وإما ذاما لربه وخلق ما يمكن معه وجود ذلك لا يحصل به ذلك إن لم يخلق مايكون به ذلك

 

 

ومثل هذا يقال في أفعال العباد لكن القول في المعصوم أشد لأن مصلحته تتوقف على أسباب خارجة عن قدرته بل عن قدرة الله عند هؤلاء الذين هم معتزلة رافضة فإيجاب ذلك على الله أفسد من إيجاب خلق مصلحة كل عبد له الوجه الحادي عشر أن يقال قوله لو لم يكن الإمام معصوما لافتقر إلى إمام آخر لأن العلة المحوجة إلى الإمام هي جواز الخطأ على الأمة فلو جاز الخطأ عليه لاحتاج إلى إمام آخر فيقال له لم لا يجوز أن يكون إذا أخطأ الإمام كان في الأمة من ينبهه على الخطأ بحيث لا يحصل اتفاق المجموع على الخطأ لكن إذا أخطأ بعض الأمة نبهه الإمام أو نائبه أو غيره وإن أخطأ الإمام أو نائبه نبهه آخر كذلك وتكون العصمة ثابتة للمجموع لا لكل واحد من الأفراد كما يقوله أهل الجماعة وهذا كما أن كل واحد من أهل خبر التواتر يجوز عليه الخطأ وربما جاز عليه تعمد الكذب لكن المجموع لا يجوز عليهم ذلك في العادة وكذلك الناظرون إلى الهلال أو غيره من الأشياء الدقيقة قد يجوز الغلط على الواحد منهم ولا يجوز على العدد الكثير وكذلك الناظرون في الحساب والهندسة ويجوز على الواحد منهم الغلط في مسألة أو مسألتين فأما إذا كثر أهل المعرفة بذلك امتنع في العادة غلطهم

 

 

ومن المعلوم أن ثبوت العصمة لقوم اتفقت كلمتهم أقرب إلى العقل والوجود من ثبوتها لواحد فإن كانت العصمة لا تمكن للعدد الكثير في حال اجتماعهم على الشىء المعين فأن لا تمكن للواحد أولى وإن أمكنت للواحد مفردا فلأن تمكن له ولأمثاله مجتمعين بطريق الأولى والأحرى فعلم أن اثبات العصمة للمجموع أولى من إثباتها للواحد وبهذه العصمة يحصل المقصود المطلوب من عصمة الإمام فلا تتعين عصمة الإمام ومن جهل الرافضة إنهم يوجبون عصمة واحد من المسلمين ويجوزون على مجموع المسلمين الخطأ إذا لم يكن فيهم واحد معصوم والمعقول الصريح يشهد أن العلماء الكثيرين مع اختلاف اجتهاداتهم إذا اتفقوا على قول كان أولى بالصواب من واحد وأنه إذا أمكن حصول العلم بخبر واحد فحصوله بالأخبار المتواترة أولى ومما يبين ذلك أن الإمام شريك الناس في المصالح العامة إذ كان هو وحده لا يقدر أن يفعلها إلا أن يشترك هو وهم فيها فلا يمكنه أن يقيم الحدود ويستوفى الحقوق ولا يوفيها ولا يجاهد عدوا إلا أن يعينوه بل لا يمكنه أن يصلي بهم جمعة ولا جماعة إن لم يصلوا معه ولا يمكن أن يفعلوا ما يأمرهم به إلا بقواهم وإرادتهم فإذا كانوا مشاركين

 

 

له في الفعل والقدرة لا ينفرد عنهم بذلك فكذلك العلم والرأي لا يجب أن ينفرد به بل يشاركهم فيه فيعاونهم ويعاونونه وكما أن قدرته تعجز إلا بمعاونتهم فكذلك علمه يعجز إلا بمعاونتهم الوجه الثاني عشر أن يقال العلم الديني الذي يحتاج إليه الأئمة والأمة نوعان علم كلي كإيجاب الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والزكاة والحج وتحريم الزنا والسرقة والخمر ونحو ذلك وعلم جزئي كوجوب الزكاة على هذا ووجوب إقامة الحد على هذا ونحو ذلك فأما الأول فالشريعة مستقلة به لا تحتاج فيه إلى الإمام فإن النبي إما أن يكون قد نص على كليات الشريعة التي لا بد منها أو ترك منها ما يحتاج إلى القياس فإن كان الأول ثبت المقصود وإن كان الثاني فذلك القدر يحصل بالقياس وإن قيل بل ترك فيها مالا يعلم بنصه ولا بالقياس بل بمجرد قول المعصوم كان هذا المعصوم شريكا في النبوة لم يكن نائبا فإنه إذا

 

 

كان يوجب ويحرم من غير إسناد إلى نصوص النبي كان مستقلا لم يكن متبعا له وهذا لا يكون إلا نبيا فأما من لا يكون إلا خليفة لنبي فلا يستقل دونه وأيضا فالقياس إن كان حجة جاز إحالة الناس عليه وإن لم يكن حجة وجب أن ينص النبي على الكليات وأيضا فقد قال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (سورة المائدة). وهذا نص في أن الدين كامل لا يحتاج معه إلى غيره والناس في هذا الأصل على ثلاثة أقوال منهم من يقول النصوص قد انتظمت جميع كليات الشريعة فلا حاجة إلى القياس بل لا يجوز القياس ومنهم من يقول بل كثير من الحوادث لا يتناولها النصوص فالحاجة داعية إلى القياس ومن هؤلاء من قد يدعي أن أكثر الحوادث كذلك وهذا سرف منهم ومنهم من يقول بل النصوص تناولت الحوادث بطرق جلية أو خفية فمن الناس من لا يفهم تلك الأدلة أو لا يبلغه النص فيحتاج إلى القياس وإن كانت الحوادث قد تناولها النص أو يقول إن كل واحد من عموم النص القطعي والقياس المعنوي حجة وطريق يسلك السالك

 

 

إليه ما أمكنه وهما متفقان لا يتناقضان إلا لفساد أحدهما وهذا القول أقرب من غيره وأما الجزئيات فهذه لا يمكن النص على أعيانها بل لا بد فيها من الاجتهاد المسمى بتحقيق المناط كما أن الشارع لا يمكن أن ينص لكل مصل على جهة القبلة في حقه ولكل حاكم على عدالة كل شاهد وأمثال ذلك وإذا كان كذلك فإن ادعوا عصمة الإمام في الجزئيات فهذه مكابرة ولا يدعيها أحد فإن عليا رضي الله عنه كان يولى من تبين له خيانته وعجزه وغير ذلك وقد قطع رجلا بشهادة شاهدين ثم قالا أخطأنا فقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ففى الصحيحين عنه أنه قال إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضى بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وقد ادعى قوم من أهل الخير على ناس من أهل الشر يقال لهم

 

 

بنو أبيرق أنهم سرقوا لهم طعاما ودروعا فجاء قوم فبرأوا أولئك المتهمين فظن النبي صلى الله عليه وسلم صدق أولئك المبرئين لهم حتى أنزل الله تعالى عليه إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما الآيات (سورة النساء). وبالجملة الأمور نوعان كلية عامة وجزئية خاصة فأما الجزئيات الخاصة كالجزئى الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه مثل ميراث هذا الميت وعدل هذا الشاهد ونفقة هذه الزوجة ووقوع الطلاق بهذا الزوج وإقامة الحد على هذا المفسد وأمثال ذلك فهذا مما لا يمكن لا نبيا ولا إماما ولا أحدا من الخلق أن ينص على كل فرد فرد منه لأن أفعال بني آدم وأعيانهم يعجز عن معرفة أعيانها الجزئية علم واحد من البشر وعبارته لا يمكن بشر أن يعلم ذلك كله بخطاب الله له وإنما الغاية الممكنة ذكر الأمور الكلية العامة كما قال صلى الله عليه وسلم بعثت بجوامع الكلم فالإمام لايمكنه الأمر والنهي لجميع رعيته إلا بالقضايا الكلية العامة وكذلك إذا ولى نائبا لا يمكنه أن يعهد إليه إلا بقواعد كلية عامة ثم النظر في دخول الأعيان تحت تلك الكليات أو دخول نوع خاص تحت أعم منه لا بد فيه من نظر المتولى واجتهاده وقد يصيب تارة ويخطىء أخرى فإن اشترط عصمة كل واحد اشترط عصمة النواب في تلك الأعيان وهذا منتف بالضرورة واتفاق العقلاء وإن اكتفى بالكليات فالنبي يمكنه أن ينص على الكليات كما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم إذ ذكر ما يحرم من النساء وما يحل فجميع أقارب الرجل من النساء حرام عليه إلا بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته كما ذكر هؤلاء الأربع في (سورة الأحزاب). وكذلك في الأشربة حرم كل مسكر دون مالا يسكر وأمثال ذلك بل قد حصر المحرمات في قوله قل إنما حرم ربي الفواحش

 

 

ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (سورة الأعراف). فكل ما حرم تحريما مطلقا عاما لا يباح في حال فيباح في أخرى كالدم والميتة ولحم الخنزير وجميع الواجبات في قوله قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين (سورة الأعراف). الآية فالواجب كله محصور في حق الله وحق عبادة وحق الله على عبادة أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحقوق عباده العدل كما في الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه قال كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال حقهم على الله أن لا يعذبهم ثم إنه سبحانه فصل أنواع الفواحش والبغي وأنواع حقوق العباد في مواضع أخر ففصل المواريث وبين من يستحق الإرث ممن لا يستحقه وما يستحق الوارث بالفرض والتعصيب وبين ما يحل من المناكح وما يحرم وغير ذلك فإن كان يقدر على نصوص كلية تتناول الأنواع فالرسول أحق بهذا من الإمام وإن قيل لا يمكن فالإمام أعجز عن هذا من الرسول

 

 

والمحرمات المعينة لا سبيل إلى النص عليها لا لرسول الله ولا إمام بل لا بد فيها من الاجتهاد والمجتهد فيها يصيب تارة ويخطىء أخرى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر وكما قال لسعد بن معاذ وكان حكما في قضية معينة يؤمر فيها الحاكم أن يختار الأصلح فلما حكم بقتل المقاتلة وسبي الذرية من بني قريظة قال النبي صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة وكما كان يقول لمن يرسله أميرا على سرية أو جيش إذا حاصرت أهل الحصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك والأحاديث الثلاثة ثابتة في الصحيح فتبين بذلك أنه لا مصلحة في عصمة الإمام إلا وهي حاصلة بعصمة الرسول ولله الحمد والمنة والواقع يوافق هذا وإنا رأينا كل من كان إلى اتباع السنة والحديث واتباع الصحابة أقرب كانت مصلحتهم في الدنيا والدين أكمل وكل من كان أبعد من ذلك كان بالعكس ولما كانت الشيعة أبعد الناس عن اتباع المعصوم الذي لا ريب في

 

 

عصمته وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله بالهدى ودين الحق بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا الذي أخرج به الناس من الظلمات إلى النور وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد الذي فرق بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد والنور والظلمة وأهل السعادة وأهل الشقاوة وجعله القاسم الذي قسم به عباده إلى شقى وسعيد فأهل السعادة من آمن به وأهل الشقاوة من كذب به وتولى عن طاعته فالشيعة القائلون بالإمام المعصوم ونحوهم من أبعد الطوائف عن اتباع هذا المعصوم فلا جرم تجدهم من أبعد الناس عن مصلحة دينهم ودنياهم حتى يوجد ممن هو تحت سياسة أظلم الملوك وأضلهم من هو أحسن حالا منهم ولا يكونون في خير إلا تحت سياسة من ليس منهم ولهذا كانوا يشبهون اليهود في أحوال كثيرة منها هذا أنه ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وضربت عليهم المسكنة فلا يعيشون في الأرض إلا بأن يتمسكوا بحبل بعض ولاة الأمور الذي ليس بمعصوم ولا بد لهم من نسبة إلى الإسلام يظهرون بها خلاف ما في قلوبهم فما جاء به الكتاب والسنة يشهد له ما يرينا الله من الآيات في الآفاق وفي أنفسنا قال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق (سورة فصلت).

 

 

ومما أرانا أن رأينا آثار سبيل المتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم أصلح في دينهم ودنياهم من سبيل الإمام المعصوم بزعمهم وإن زعموا أنهم متبعون للرسول فهم من أجهل الناس بأقواله وأفعاله وأحواله وهذا الذي ذكرته كل من استقرأة في العالم وجده وقد حدثني الثقات الذين لهم خبرة بالبلاد الذين خبروا حال أهلها بما يبين ذلك ومثال ذلك أنه يوجد في الحجاز وسواحل الشام من الرافضة من ينتحلون المعصوم وقد رأينا حال من كان بسواحل الشام مثل جبل كسروان وغيره وبلغنا أخبار غيرهم فما رأينا في العالم طائفة أسوأ من حالهم في الدين والدنيا ورأينا الذين هم تحت سياسة الملوك على الإطلاق خيرا من حالهم فمن كان تحت سياسة ملوك الكفار حالهم في الدين والدنيا أحسن من أحوال ملاحدتهم كالنصيرية والإسماعيلية ونحوهم من الغلاة الذين يدعون الإلهية والنبوة في غير الرسول أو يتخلون عن هذا كله ويعتقدون دين الإسلام كالإمامية والزيدية فكل طائفة تحت سياسة ملوك السنة ولو أن الملك كان أظلم الملوك في الدين والدنيا حاله خير من حالهم فإن الأمر الذي يشترك

 

 

فيه أهل السنة ويمتازون به عن الرافضة تقوم به مصالح المدن وأهلها على بعض الوجوه وأما الأمر الذي يشترك فيه الرافضة ويمتازون عن به أهل السنة فلا تقوم به مصلحة مدينة واحدة ولا قربة ولا تجد أهل مدينة ولا قرية يغلب عليهم الرفض إلا ولا بد لهم من الاستعانة بغيرهم إما من أهل السنة وإما من الكفار وإلا فالرافضة وحدهم لا يقوم أمرهم قط كما أن اليهود وحدهم لا يقوم أمرهم قط بخلاف أهل السنة فإن مدائن كثيرة من أهل السنة يقومون بدينهم ودنياهم لا يحوجهم الله سبحانه وتعالى إلى كافر ولا رافضي والخلفاء الثلاثة فتحوا الأمصار وأظهروا الدين في مشارق الأرض ومغاربها ولم يكن معهم رافضي بل بنو أمية بعدهم مع إنحراف كثير منهم عن علي وسب بعضهم له غلبوا على مدائن الإسلام كلها من مشرق الأرض إلى مغربها وكان الإسلام في زمنهم أعز منه فيما بعد ذلك بكثير ولم ينتظم بعد انقراض دولتهم العامة لما جاءتهم الدولة العباسية صار إلى الغرب عبد الرحمن بن هشام الداخل إلى المغرب الذي يسمى صقر قريش واستولى هو ومن بعده على بلاد الغرب وأظهروا الإسلام فيها

 

 

وأقاموه وقمعوا من يليهم من الكفار وكانت لهم من السياسة في الدين والدنيا ما هو معروف عند الناس وكانوا من أبعد الناس عن مذاهب أهل العراق فضلا عن أقوال الشيعة وإنما كانوا على مذهب أهل المدينة وكان أهل العراق على مذهب الأوزاعي وأهل الشام وكانوا يعظمون مذهب أهل الحديث وينصره بعضهم في كثير من الأمور وهم من أبعد الناس عن مذهب الشيعة وكان فيهم من الهاشميين الحسينيين كثير ومنهم من صار من ولاة الأمور على مذهب أهل السنة والجماعة ويقال إن فيهم من كان يسكت ممن علي فلا يربع به في الخلافة لأن الأمة لم تجتمع عليه ولا يسبونه كما كان بعض الشيعة يسبه وقد صنف بعض علماء الغرب كتابا كبيرا في الفتوح فذكر فتوح النبي صلى الله عليه وسلم وفتوح الخلفاء بعده أبي بكر وعمر وعثمان ولم يذكر عليا مع حبه له وموالاته له لأنه لم يكن في زمنه فتوح وعلماء السنة كلهم مالك وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وغير هؤلاء كلهم يحب الخلفاء ويتولاهم ويعتقد إمامتهم وينكر على من يذكر أحدا منهم بسوء فلا يستجيزون ذكر علي ولا عثمان ولا غيرهما بما يقوله الرافضة والخوارج

 

 

وكان صار إلى المغرب طوائف من الخوارج والروافض كما كان هؤلاء في المشرق وفي بلاد كثيرة من بلاد الإسلام ولكن قواعد هذه المدائن لا تستمر على شيء من هذه المذاهب بل إذا ظهر فيها شيء من هذه المذاهب مدة أقام الله ما بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق الذي يظهر على باطلهم وبنو عبيد يتظاهرون بالتشيع واستولوا من المغرب على ما استولوا عليه وبنوا المهدية ثم جاءوا إلى مصر واستولوا عليها مائتي سنة واستولوا على الحجاز والشام نحو مائة سنة وملكوا بغداد في فتنة البساسيرى وانضم إليهم الملاحدة في شرق الأرض وغربها وأهل البدع والأهواء تحب ذلك منهم ومع هذا فكانوا محتاجين إلى أهل السنة ومحتاجين إلى مصانعتهم والتقية لهم ولهذا رأس مال الرافضة التقية وهي أن يظهر خلاف ما يبطن كما يفعل المنافق وقد كان المسلمون في أول الإسلام في غاية الضعف والقلة وهم يظهرون دينهم لا يكتمونه والرافضة يزعمون أنهم يعملون بهذه الآية قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه (سورة آل عمران). ويزعمون أنهم هم المؤمنون وسائر أهل القبلة كفار مع أن لهم في تكفير الجمهور قولين لكن قد رأيت غير واحد من أئمتهم يصرح في كتبه

 

 

وفتاويه بكفر الجمهور وأنهم مرتدون ودارهم دار ردة يحكم بنجاسة مائعها وأن من أنتقل إلى قول الجمهور منهم ثم تاب لم تقبل توبته لأن المرتد الذي يولد على الفطرة لا يقبل منه الرجوع إلى الإسلام وهذا في المرتد عن الإسلام قول لبعض السلف وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا لأن المرتد من كان كافرا فأسلم ثم رجع إلى الكفر بخلاف من يولد مسلما فجعل هؤلاء هذا في سائر الأمة فهم عندهم كفار فمن صار منهم إلى مذهبهم كان مرتدا وهذه الآية حجة عليهم فإن هذه الآية خوطب بها أولا من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين فقيل لهم لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين (سورة آل عمران). وهذه الآية مدنية باتفاق العلماء فإن (سورة آل عمران). كلها مدنية وكذلك البقرة والنساء والمائدة ومعلوم أن المؤمنين بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد منهم يكتم إيمانه ولا يظهر للكفار أنه منهم كما يفعله الرافضة مع الجمهور وقد اتفق المفسرون على أنها نزلت بسبب أن بعض المسلمين أراد إظهار مودة الكفار فنهوا عن ذلك وهم لا يظهرون المودة للجمهور وفي رواية الضحاك عن ابن عباس أن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من

 

 

اليهود فقال يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو فنزلت هذه الآية وفي رواية أبي صالح أن عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين كانوا يتولون اليهود ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظفر على النبي صلى الله عليه وسلم فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم وروى عن ابن عباس أن قوما من اليهود كانوا يباطنون قوما من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك وقال اجتنبوا هؤلاء فأبوا فنزلت هذه الآية وعن مقاتل بن حيان ومقاتل بن سليمان أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار مكة فنهاهم الله عن ذلك والرافضة من أعظم الناس إظهارا لمودة أهل السنة ولا يظهر أحدهم دينه حتى إنهم يحفظون من فضائل الصحابة والقصائد التي في مدحهم وهجاء الرافضة ما يتوددون به إلى أهل السنة ولا يظهر أحدهما دينه كما كان المؤمنون يظهرون دينهم للمشركين وأهل الكتاب فعلم أنهم من أبعد الناس عن العمل بهذه الآية وأما قوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقاة (سورة آل عمران). قال مجاهد إلا مصانعة والتقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي فإن هذا نفاق ولكن أفعل ما أقدر عليه

 

 

كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه ولكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله بل غايته أن يكون كمؤمن آل فرعون وأمرأة فرعون وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم ولا كان يكذب ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه بل كان يكتم إيمانه وكتمان الدين شيء وإظهار الدين الباطل شيء آخر فهذا لم يبحه الله قط إلا لمن أكره بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر والله تعالى قد فرق بين المنافق والمكره والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين لا من جنس حال المكره الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فإن هذا الإكراه لا يكون

 

 

عاما من جمهور بني آدم بل المسلم يكون أسيرا أو منفردا في بلاد الكفر ولا أحد يكرهه على كلمه الكفر ولا يقولها ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه وقد يحتاج إلى أن يلين لناس من الكفار ليظنوه منهم وهو مع هذا لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه بل يكتم ما في قلبه وفرق بين الكذب وبين الكتمان فكتمان ما في النفس يستعمله المؤمن حيث يعذره الله في الإظهار كمؤمن آل فرعون وأما الذي يتكلم بالكفر فلا يعذره إلا إذا أكره والمنافق الكذاب لا يعذر بحال ولكن في المعاريض مندوحة عن الكذب ثم ذلك المؤمن الذي يكتم إيمانه يكون بين الكفار الذين لا يعلمون دينه وهو مع هذا مؤمن عندهم يحبونه ويكرمونه لأن الإيمان الذي في قلبه يوجب أن يعاملهم بالصدق والأمانة والنصح وإرادة الخير بهم وإن لم يكن موافقا لهم على دينهم كما كان يوسف الصديق يسير في أهل مصر وكانوا كفارا وكما كان مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه ومع هذا كان يعظم موسى ويقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله (سورة غافر). وأما الرافضي فلا يعاشر أحدا إلا استعمل معه النفاق فإن دينه الذي في قلبه دين فاسد يحمله على الكذب والخيانة وغش الناس وإرادة السوء بهم فهو لا يألوهم خبالا ولا يترك شرا يقدر عليه إلا فعله بهم وهو ممقوت عند من لا يعرفه وإن لم يعرف أنه رافضي تظهر على وجهه سيما النفاق وفي لحن القول ولهذا تجده ينافق ضعفاء الناس ومن لا حاجة به إليه لما في قلبه من النفاق الذي يضعف قلبه

 

 

والمؤمن معه عزة الإيمان فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ثم هم يدعون الإيمان دون الناس والذلة فيهم أكثر منها في سائر الطوائف من المسلمين وقد قال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (سورة غافر). وهم أبعد طوائف أهل الإسلام عن النصرة وأولاهم بالخذلان فعلم أنهم أقرب طوائف أهل الإسلام إلى النفاق وأبعدهم عن الإيمان وآية ذلك أن المنافقين حقيقة الذين ليس فيهم إيمان من الملاحدة يميلون إلى الرافضة والرافضة تميل إليهم أكثر من سائر الطوائف وقد قال صلى الله عليه وسلم الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وقال ابن مسعود رضي الله عنه اعتبروا الناس بأخدانهم فعلم أن بين أرواح الرافضة وأرواح المنافقين اتفاقا محضا قدرا مشتركا وتشابها وهذا لما في الرافضة فإن النفاق شعب كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أربع

 

 

من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وفي رواية لمسلم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم والقرآن يشهد لهذا فإن الله وصف المنافقين في غير موضع بالكذب والغدر والخيانة وهذه الخصال لا توجد في طائفة أكثر منها في الرافضة ولا أبعد منها عن أهل السنة المحضة المتبعين للصحابة فهؤلاء أولى الناس بشعب الإيمان وأبعدهم عن شعب النفاق والرافضة أولى الناس بشعب النفاق وأبعدهم عن شعب الإيمان وسائر الطوائف قربهم إلى الإيمان وبعدهم عن النفاق بحسب سنتهم وبدعتهم وهذا كله مما يبين أن القوم أبعد الطوائف عن اتباع المعصوم الذي لا شك في عصمته وهو خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وما يذكرونه من خلاف السنة في دعوى الإمام المعصوم وغير ذلك فإنما هو في الأصل من ابتداع منافق زنديق كما قد ذكر ذلك أهل العلم

 

 

ذكر غير واحد منهم أن أول من ابتدع الرفض والقول بالنص على علي وعصمته كان منافقا زنديقا أراد فساد دين الإسلام وأراد أن يصنع بالمسلمين ما صنع بولص بالنصارى لكن لم يتأت له ما تأتى لبولص لضعف دين النصارى وعقلهم فإن المسيح صلى الله عليه وسلم رفع ولم يتبعه خلق كثير يعلمون دينه ويقومون به علما وعملا فلما ابتدع بولص ما ابتدعه من الغو في المسيح اتبعه على ذلك طوائف وأحبوا الغلو في المسيح ودخلت معهم ملوك فقام أهل الحق خالفوهم وأنكروا عليهم فقتلت الملوك بعضهم وداهن الملوك بعضهم وبعضهم اعتزلوا في الصوامع والديارات وهذه الأمة ولله الحمد لا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق فلا يتمكن ملحد ولا مبتدع من إفساده بغلو أو انتصار على أهل الحق ولكن يضل من يتبعه على ضلاله وأيضا فنواب المعصوم الذي يدعونه غير معصومين في الجزئيات وإذا كان كذلك فيقال إذا كانت العصمة في الجزئيات غير واقعة وإنما الممكن العصمة في الكليات فالله تعالى قادر أن ينص على الكليات بحيث لا يحتاج في معرفتها إلى الإمام ولا غيره وقادر أيضا أن يجعل نص النبي أكمل من نص الإمام وحينئذ فلا يحتاج إلى عصمة الإمام لا في الكليات ولا في الجزئيات

 

 

الوجه الثالث عشر أن يقال العصمة الثابتة للإمام أهي فعله للطاعات باختياره وتركه للمعاصي باختياره مع أن الله تعالى عندكم لا يخلق اختياره أم هي خلق الإرادة له أم سلبة القدرة على المعصية فإن قلتم بالأول وعندكم أن الله لا يخلق اختيار الفاعلين لزمكم أن الله لا يقدر على خلق معصوم وإن قلتم بالثاني بطل أصلكم الذي ذهبتم إليه في القدرة وإن قلتم سلب القدرة على المعصية كان المعصوم عندكم هو العاجز عن الذنب كما يعجز الأعمى عن نقط المصاحف والمقعد عن المشي والعاجز عن الشيء لا ينهى عنه ولا يؤمر به وإذا لم يؤمر وينه لم يستحق ثوابا على الطاعة فيكون المعصوم عندكم لا ثواب له على ترك معصية بل ولا على فعل طاعة وهذا غاية النقص وحينئذ فأي مسلم فرض كان خيرا من هذا المعصوم إذا أذنب ثم تاب لأنه بالتوبة محيت سيئاته بل بدل بكل سيئة حسنة مع حسناته المتقدمة فكان ثواب المكلفين خيرا من المعصوم عند هؤلاء وهذا يناقض قولهم غاية المناقضة

 

 

وأما المقدمة الثانية فلو قدر أنه لا بد من معصوم فقولهم ليس بمعصوم غير علي اتفاقا ممنوع بل كثير من الناس من عبادهم وصوفيتهم وجندهم وعامتهم يعتقدون في كثير من شيوخهم من العصمة من جنس ما تعتقده الرافضة في الاثنى عشر وربما عبروا هو ذلك بقولهم الشيخ محفوظ وإذا كانوا يعتقدون هذا في شيوخهم مع اعتقادهم أن الصحابة أفضل منهم فاعتقادهم ذلك في الخلفاء من الصحابة أولى وكثير من الناس فيهم من الغلو في شيوخهم من جنس ما في الشيعة من الغلو في الأئمة وأيضا فالإسماعيلية يعتقدون عصمة أئمتهم وهم غير الاثنى عشر وأيضا فكثير من أتباع بني أمية أو أكثرهم كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه ولا عذاب وأن الله لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء والله أمرهم بذلك وكلامهم في ذلك معروف كثير وقد أراد يزيد بن عبد الملك أن يسير بسيرة عمر بن العزيز فجاء إليه جماعة من شيوخهم فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أنه اذا ولى الله على الناس إماما تقبل الله منه الحسنات وتجاوز عنه السيئات

 

 

ولهذا تجد في كلام كثير من كبارهم الأمر بطاعة ولي الأمر مطلقا وأن من أطاعه فقد أطاع الله ولهذا كان يضرب بهم المثل يقال طاعة شامية وحينئذ فهؤلاء يقولون إن إمامهم لا يأمرهم إلا بما أمرهم الله به وليس فيهم شيعة بل كثير منهم يبغض عليا ويسبه ومن كان اعتقاده أن كل ما يأمر الإمام به فإنه مما أمر الله به وأنه تجب طاعته وأن الله يثيبه على ذلك ويعاقبه على تركه لم يحتج مع ذلك إلى معصوم غير إمامه وحينئذ فالجواب من وجهين أحدهما أن يقال كل من هذه الطوائف إذا قيل لها إنه لا بد لها من إمام معصوم تقول يكفيني عصمة الإمام الذي ائتممت به لا احتاج إلى عصمة الأثنى عشر لا علي ولا غيره ويقول هذا شيخي وقدوتي وهذا يقول إمامي الأموي والإسماعيلي بل كثير من الناس يعتقدون أن من يطيع الملوك لا ذنب له في ذلك كائنا من كان ويتأولون قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (سورة النساء). فإن قيل هؤلاء لا يعتد بخلافهم قيل هؤلاء خير من الرافضة الإسماعيلية

 

 

وأيضا فإن أئمة هؤلاء وشيوخهم خير من معدوم لا ينتفع به بحال فهم بكل حال خير من الرافضة وأيضا فبطلت حجة الرافضة بقولهم لم تدع العصمة إلا في علي وأهل بيته فإن قيل لم يكن في الصحابة من يدعي العصمة لأبي بكر وعمر وعثمان قيل إن لم يكن فيهم من يدعي العصمة لعلي بطل قولكم وإن كان فيهم من يدعي العصمة لعلي لم يمتنع أن يكون فيهم من يدعي العصمة للثلاثة بل دعوى العصمة لهؤلاء أولى فإنا نعلم يقينا أن جمهور الصحابة كانوا يفضلون أبا بكر وعمر بل على نفسه كان يفضلهما عليه كما تواتر عنه وحينئذ فدعواهم عصمة هذين أولى من دعوى عصمة علي فإن قيل فهذا لم ينقل عنهم قيل لهم ولا نقل عن واحد منهم القول بعصمة علي ونحن لا نثبت عصمة لا هذا ولا هذا لكن نقول ما يمكن أحدا أن ينفي نقل أحد منهم بعصمة أحد الثلاثة مع دعواهم أنهم كانوا يقولون بعصمة علي فهذا الفرق لا يمكن أحدا أن يدعيه ولا ينقله عن واحد منهم وحينئذ فلا يعلم زمان أدعى فيه العصمة لعلي أو لأحد من الاثنى عشر

 

 

ولم يكن من ذلك الزمان من يدعي عصمة غيرهم فبطل أن يحتج بانتفاء عصمة الثلاثة ووقوع النزاع في عصمة علي الوجه الرابع عشر أن يقال إما أن يجب وجود المعصوم في كل زما أن لا يجب فإن لم يجب بطل قولهم وإن وجب لم نسلم على هذا التقدير أن عليا كان هو المعصوم دون الثلاثة بل إذا كان هذا القول حقا لزم أن يكون أبو بكر وعمر وعثمان معصومين فإن أهل السنة متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر وأنهما أحق بالعصمة من علي فإن كانت العصمة ممكنة فهي إليهما أقرب وإن كانت ممتنعة فهي عنه أبعد وليس أحد من أهل السنة يقول بجواز عصمة علي دون أبي بكر وعمر وهم لا يسلمون انتفاء العصمة عن الثلاثة إلا مع انتفائها عن علي فأما انتفاؤها عن الثلاثة دون علي فهذا ليس قول أحد من أهل السنة وهذه كنبوة موسى وعيسى فإن المسلمين لا يسلمون نبوة أحد من هذين إلا مع نبوة محمد وليس في المسلمين من يقر بنبوتهما منفردة عن نبوة محمد بل المسلمون متفقون على كفر من أقر بنبوة بعضهم دون بعض وأن من كفر بنبوة محمد وأقر بأحد هذين فهو أعظم كفرا ممن أقر بمحمد وكفر بأحد هذين وإذا قيل إن الإيمان بمحمد مستلزم للإيمان بهما وكذلك

 

 

الإيمان بهما مستلزم للإيمان بمحمد وهكذا نفى العصمة وثبوت الإيمان والتقوى وولاية الله فأهل السنة لا يقولون بإيمان علي وتقواه وولايته لله إلا مقرونا بإيمان الثلاثة وتقواهم وولايتهم لله ولا ينفون العصمة عنهم إلا مقرونا بنفيها عن علي ومعنى ذلك أن الفرق باطل عندهم وإذا قال الرافضى لهم الإيمان ثابت لعلي بالإجماع والعصمة منتفية عن الثلاثة بالإجماع كان كقول اليهودي نبوة موسى ثابتة بالإجماع أو قول النصراني الإلهية منتفية عن محمد بالإجماع والمسلم يقول نفى الإلهية عن محمد وموسى كنفيها عن المسيح فلا يمكن أن أنفيها عن موسى ومحمد وأسلم ثبوتها للمسيح وإذا قال النصراني اتفقنا على أن هؤلاء ليسوا آلهة وتنازعنا في النصراني أن الله لا بد أن يظهر له في صورة البشر ولم يدع ذلك إلا في المسيح كان كتقرير الرافضى أنه لا بد من إمام معصوم ولم يدع ذلك إلا لعلي ونحن نعلم بالاضطرار أنه ليس لعيسى مزية يستحق أن يكون بها إلها دون موسى ومحمد كما يعلم بالاضطرار أن عليا لم يكن له مزية يستحق أن يكون بها معصوما دون أبي بكر وعمر ومن أراد التفريق منعناه ذلك وقلنا لا نسلم إلا التسوية في الثبوت أو الانتفاء

 

 

وإذا قال أنتم تعتقدون انتفاء العصمة عن الثلاثة قلنا نعتقد انتفاء العصمة عن علي ونعتقد أن انتفاءها عنه أولى من انتفائها عن غيره وأنهم أحق بها منه إن كانت ممكنة فلا يمكن مع هذا أن يحتج علينا بقولنا وأيضا فنحن إنما نسلم انتفاء العصمة عن الثلاثة لاعتقادنا أن الله لم يخلق إماما معصوما فإن قدر أن الله خلق إماما معصوما فلا يشك أنهم أحق بالعصمة من كل من جاء بعدهم ونفينا لعصمتهم لاعتقادنا هذا التقدير وهنا جواب ثالث عن أصل الحجة وهو أن يقال من أين علمتم أن عليا معصوم ومن سواه ليس بمعصوم فإن قالوا بالإجماع على ثبوت عصمة علي وانتفاء عصمة غيره كما ذكروه من حجتهم قيل لهم إن لم يكن الإجماع حجة بطلت هذه الحجة وإن كان حجة في إثبات عصمة علي التي هي الأصل أمكن أن يكون حجة في المقصود بعصمة من حفظ الشرع ونقله ولكن هؤلاء يحتجون بالإجماع ويردون كون الإجماع حجة فمن أين علموا أن عليا هو المعصوم دون من سواه فإن ادعوا التواتر عندهم عن النبي في عصمته كان القول في ذلك

 

 

كالقول في تواتر النص على إمامته وحينئذ فلا يكون لهم مستند آخر الجواب الرابع أن يقال الإجماع عندهم ليس بحجة إلا أن يكون قول المعصوم فيه فإن لم يعرفوا ثبوت المعصوم إلا به لزم الدور فإنه لا يعرف أنه معصوم إلا بقوله ولا يعرف أن قوله حجة إلا إذا عرف أنه معصوم فلا يثبت واحد منهما فعلم بطلان حجتهم على إثبات المعصوم وهذا يبين أن القوم ليس لهم مستند علمي أصلا فيما يقولون فإن الإجماع عندهم ليس بحجة بل لا يجوز عندهم أن تجتمع الأمة إلا إذا كان المعصوم فيهم فإن قول المعصوم وحده هو الحجة فيحتاجون حينئذ إلى العلم بالشخص المستقل حتى يعلم أن قوله حجة فإذا احتجوا بالإجماع لم تكن الحجة عندهم في الإجماع إلا قول المعصوم فيصير هذا مصادرة على المطلوب ويكون حقيقة قولهم فلان معصوم لأنه قال إني معصوم فغذا قيل لهم بم عرفتم أنه معصوم وأن من سواه ليسوا معصومين قالوا بأنه قال أنا معصوم ومن سواى ليس بمعصوم وهذا مما يمكن كل أحد أن يقوله فلا يكون حجة وصار هذا كقول القائل أنا صادق في كل ما أقوله فإن لم يعلم صدقه بغير قوله لم يعلم صدقه فيما يقوله

 

 

وحجتهم هذه من جنس حجة إخوانهم الملاحدة والإسماعيلية فإنهم يدعون إلى الإمام المعلم المعصوم ويقولون إن طرق العلم من الأدلة السمعية والعقلية لا يعرف صحتها إلا بتعليم المعلم المعصوم وكأنهم أخذوا هذا الأصل الفاسد عن إخوانهم الرافضة فلما ادعت الرافضة أنه لا بد من إمام معصوم في حفظ الشريعة وأقرت بالنبوة ادعت الإسماعيلية ما هو أبلغ فقالوا لا بد في جميع العلوم السمعية والعقلية من المعصوم وإذا كان هؤلاء ملاحدة في الباطن يقرون بالنبوات في الظاهر والشرائع ويدعون أن لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه الناس منها ويقولون بسقوط العبادات وحل المحرمات للخواص الواصلين فإن لهم طبقات في الدعوة ليس هذا موضعها وإنما المقصود أن كلتا الطائفتين تدعي الحاجة إلى معصوم غير الرسول لكن الاثنى عشرية يجعلون المعصوم أحد الأثنى عشر وتجعل الحاجة إليه في حفظ الشريعة وتبليغها وهؤلاء ملاحدة كفار

 

 

والإمامية في الجملة يعتقدون صحة الإسلام في الباطن إلا من كان منهم ملحدا فإن كثير من شيوخ الشيعة هو في الباطن على غير اعتقادهم إما متفلسف ملحد وإما غير ذلك ومن الناس من يقول إن صاحب هذا الكتاب ليس هو في الباطن على قولهم وإنما احتاج أن يتظاهر بهذا المذهب لما له في ذلك من المصلحة الدنيوية وهذا يقوله غير واحد ممن يحب صاحب هذا الكتاب ويعظمه والأشبه أنه وأمثاله حائرون بين أقوال الفلاسفة وأقوال سلفهم المتكلمين ومباحثهم تدل في كتبهم على الحيرة والاضطراب ولهذا صاحب هذا الكتاب يعظم الملاحدة كالطوسي وابن سينا وأمثالهما ويعظم شيوخ الإمامية ولهذا كثير من الإمامية تذمه وتسبه وتقول إنه ليس على طريق الإمامية وهكذا أهل كل دين تجد فضلاءهم في الغالب إما أن يدخلوا في دين الإسلام الحق وإما أن يصيروا ملاحدة مثل كثير من علماء النصارى هم في الباطن زنادقة ملاحدة وفيهم من هو في الباطن يميل إلى دين الإسلام وذلك لما ظهر لهم من فساد دين النصارى فإذا قدر أن الحاجة إلى المعصوم ثابتة فالكلام في تعينه فإذا طولب الإسماعيلي بتعيين معصومه وما الدليل على أن هذا هو

 

 

المعصوم دون غيره لم يأت بحجة أصلا وتناقضت أقواله وكذلك الرافضي أخذ من القدرية كلامهم في وجوب رعاية الأصلح وبني عليه أنه لا بد من معصوم وهي أقوال فاسدة ولكن إذا طولب بتعيينه لم يكن له حجة أصلا إلا مجرد قول من لم تثبت بعد عصمته إني معصوم فإن قيل إذا ثبت بالعقل أنه لا بد من معصوم فإذا قال علي أني معصوم لزم أن يكون هو المعصوم لأنه لم يدع هذا غيره قيل لهم لو قدر ثبوت معصوم في الوجود لم يكن مجرد قول شخص أنا معصوم مقبولا لإمكان كون غيره هو المعصوم وإن لم نعلم نحن دعواه وإن لم يظهر دعواه بل يجوز أن يسكت عن دعوى العصمة وإظهارها على أصلهم كما جاز للمنتظر أن يخفى نفسه خوفا من الظلمة وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن يكون في الأرض معصوم غير الاثنى عشر وإن لم يظهر ذلك ولم نعلمه كما أدعوا مثل ذلك في المنتظر فلم لم يبق معهم دليل على التعيين لا إجماع ولا دعوىومع هذا كله بتقدير دعوى على العصمة فإنما يقبل هذا لو كان علي قال ذلك وحاشاه من ذلك وهذا جواب خامس وهو أنه إذا لم تكن الحجة على العصمة إلا قول المعصوم إني معصوم فنحن راضون بقول علي في هذه المسألة فلا يمكن أحد أن ينقل عنه بإسناد ثابت أنه قال ذلك بل النقول المتواترة عنه تنفى اعتقاده في نفسه العصمة وهذا جواب سادس فإن إقراره لقضاته على أن يحكموا بخلاف رأيه دليل على أنه لم يعد نفسه معصوما وقد ثبت بالإسناد الصحيح أن عليا قال اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن وقد رأيت الآن أن يبعن فقال له عبيدة السلماني قاضيه رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة وكان شريح يحكم باجتهاده ولا يراجعه ولا يشاوره وعلي يقره على ذلك وكان يقول اقضوا كما كنتم تقضون وكان يفتي ويحكم باجتهاده ثم يرجع عن ذلك باجتهاده كأمثاله من الصحابة وهذه أقواله المنقولة عنه بالأسانيد الصحاح موجودة

 

 

ثم قد وجد من أقواله التي تخالف النصوص أكثر مما وجد من أقوال عمر وعثمان وقد جمع الشافعي من ذلك كتابا فيه خلاف علي وابن مسعود لما كان أهل العراق يناظرونه في المسألة فيقولون قال علي وابن مسعود ويحتجون بقولهما فجمع الشافعي كتابا ذكر فيه ما تركوه من قول علي وابن مسعود وجمع بعده محمد بن نصر المروزي كتابا أكبر من ذلك بكثير ذكره في مسألة رفع اليدين في الصلاة لما احتج عليه فيها بقول ابن مسعود وهذا كلام مع علماء يحتجون بالأدلة الشرعية من أهل الكوفة كأصحاب أبي حنيفة محمد بن الحسن وأمثاله فإن أكثر مناظرة الشافعي كانت مع محمد بن الحسن وأصحابه لم يدرك أبا يوسف ولا ناظره ولا سمع منه بل توفي أبو يوسف قبل أن يدخل الشافعي العراق توفي سنة ثلاث وثمانين وقدم الشافعي العراق سنة خمس وثمانين ولهذا إنما يذكر في كتبه أقوال أبي يوسف عن محمد بن الحسن عنه

 

 

وهؤلاء الرافضة في احتجاجهم على أن عليا معصوم بكون غيرهم ينفي العصمة عن غيرة احتجاجا لقولهم بقولهم وإثبات الجهل بالجهل ومن توابع ذلك ما رأيته في كتب شيوخهم أنهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين وكان أحد القولين يعرف قائله والآخر لا يعرف قائله فالصواب عندهم القول الذى لا يعرف قائله قالوا لأن قائله إذا لم يعرف كان من أقوال المعصوم فهل هذا إلا من أعظم الجهل ومن أين يعرف أن القول الآخر وإن لم يعرف قائله إنما قاله المعصوم ولو قدر وجوده أيضا لم يعرف أنه قاله كما لم يعرف أنه قاله الآخر ولم لا يجوز أن يكون المعصوم قد قال القول الذي يعوف وأن غيره قاله كما أنه يقول أقوالا كثيرة يوافق فيها غيره وأن القول الآخر قد قاله من لا يدري ما يقول بل قاله شيطان من شياطين الجن والإنس فهم يجعلون عدم العلم بالقول وصحته دليلا على صحته كما قالوا هنا عدم القول بعصمة غيره دليل على عصمته وكما جعلوا عدم العلم بالقائل دليلا على أنه قول المعصوم وهذا حال من أعرض عن نور السنة التي بعث الله بها رسوله فإنه يقع في ظلمات البدع ظلمات بعضها فوق بعضفصل قال الرافضى الوجه الثاني أن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه لما بينا من بطلان الاختيار وأنه ليس بعض المختارين لبعض الأمة أولى من البعض المختار الآخر ولادائه إلى التنازع والتشاجر والتشاجر فيؤدى نصب الإمام إلى أعظم أنواع الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبنا نصبه وغير علي من أئمتهم لم يكن منصوصا عليه بالإجماع فتعين أن يكون هو الإمام والجواب عن هذا بمنع المقدمتين أيضا لكن النزاع هنا في الثانية أظهر وأبين فإنه قد ذهب طوائف كثيرة من السلف والخلف من أهل الحديث والفقه والكلام إلى النص على أبي بكر وذهبت طائفة من الرافضة إلى النص على العباس

 

 

وحينئذ فقوله غير علي من أئمتهم لم يكن منصوصا عليه بالإجماع كذب متيقن فإنه لا إجماع على نفي النص عن غير علي وهذا الرافضي المصنف وإن كان من أفضل بني جنسه ومن المبرزين على طائفته فلا ريب أن الطائفة كلها جهال وإلا فمن له معرفة بمقالات الناس كيف يدعى مثل هذا الإجماع ونجيب هنا بجواب ثالث مركب وهو أن نقول لا يخلوا إما أن يعتبر النص في الإمامة وإما أن لا يعتبر فإن اعتبر منعنا المقدمة الثانية إن قلنا إن النص ثابت لأبي بكر وإن لم يعتبر بطلت المقدمة الأولى وهنا جواب رابع وهو أن نقول الإجماع عندكم ليس بحجة وإنما الحجة قول المعصوم فيعود الأمر إلى إثبات النص بقول الذي يدعى له العصمة ولم يثبت بعد لا نص ولا عصمة بل يكون قول القائل لم يعرف صحة قوله أنا المعصوم وأنا المنصوص على إمامتي حجة وهذا من أبلغ الجهل وهذه الحجة من جنس التي قبلها وجواب خامس وهو أن يقال ما تعنى بقولك يجب أن يكون منصوصا عليه لأنه لا بد من أن يقول هذا هو الخليفة من بعدي

 

 

فاسمعوا له وأطيعوا فيكون الخليفة بمجرد هذا النص أم لا يصير هذا إماما حتى تعقد له الإمامة مع ذلك فإن قلت بالأول قيل لا نسلم وجوب النص بهذا الاعتبار والزيدية مع الجماعة تنكر هذا النص وهم من الشيعة الذين لا يتهمون على علي وأما قوله إنه إذا لم يكن كذلك أدى إلى التنازع والتشاجر فيقال النصوص التي تدل على استحقاقه الإمامة وتعلم دلالتها بالنظر والاستدلال يحصل بها المقصود في الأحكام فليست كل الأحكام منصوصة نصا جليا يستوي في فهمه العام والخاص فإذا كانت الأمور الكلية التي تجب معرفتها في كل زمان يكتفي فيها بهذا النص فلأن يكتفي بذلك في القضية الجزئية وهو تولية إمام معين بطريق الأولى والأحرى فإنا قد بينا أن الكليات يمكن نص الأنبياء عليها بخلاف الجزئيات وأيضا فيه إذا كانت الأدلة ظاهرة في أن بعض الجماعة أحق بها من غيره استغنى بذلك عن استخلافه والدلائل الدالة على أن أبا بكر كان أحقهم بالإمامة ظاهرة بينة لمينازع فيها أحد من الصحابة ومن نازع من الأنصار لم ينازع في أن أبا بكر أفضل المهاجرين وإنما طلب أن يولى واحد من الأنصار مع واحد من المهاجرين فإن قيل إن كان لهم هوى منعوا ذلك بدلالة النصوص قيل وإذا كان لهم هوى عصوا تلك النصوص وأعرضوا عنها كما ادعيتم أنتم عليهم فمع قصدهم القصد الحق يحصل المقصود بهذا وبهذا ومع العناد لا ينفع هذا ولا هذا وجواب سادس أن يقال النص على الأحكام على وجهين نص كلي عام يتناول أعيانها ونص على الجزئيات فإذا قلتم لا بد من النص على الإمام إن أردتم النص على العام الكلي على ما يشترط للإمام وما يجب عليه وما يجب له كالنص على الحكام والمفتين والشهود وأئمة الصلاة والمؤذنين وأمراء الجهاد وغير هؤلاء ممن يتقلد شيئا من أمور المسلمين فهذه النصوص ثابتة ولله الحمد كثيره كما هي ثابتة على سائر الأحكام وإن قلتم لا بد من نص على أعيان من يتولى

 

 

قيل قد تقدم أن النص على جزئيات الأحكام لا يجب بل ولا يمكن والإمامة حكم من الأحكام فإن النص على كل من يتولى على المسلمين ولاية ما إلى قيام الساعة غير ممكن ولا واقع والنص على معين دون معين لا يحصل به النص على كل معين بل يكون نصا على بعض المعينين وحينئذ فإذا قيل يمكن النص على إمام ويفوض إليه النص على من يستخلفه قيل ويمكن أن ينص على من يستخلفه الإمام وعلى من يتخذه وزيرا والنص على ذلك أبلغ في المقصود وأيضا فالإمام المنصوص على عينه أهو معصوم فيمن يوليه أو ليس بمعصوم فإن كان معصوما لزم أن يكون نوابه كلهم معصومين وهذا كله باطل بالضرورة وإن لم يكن كذلك أمكن أن يستخلف غير معصوم فلا يحصل المقصود في سائر الأزمنة بوجود المعصوم فإن قيل هو معصوم فيمن يستخلفه بعده دون من يستخلفه في حياتهقيل الحاجة داعية إلى العصمة في كليهما وعلمه بالحاضر أعظم من علمه بالمستقبل فكيف يكون معصوما فيما يأتي وليس معصوما في الحاضر فإن قيل فالنص ممكن فلو نص النبي صلى الله عليه وسلم على خليفة قيل فنصه على خليفة بعده كتولية واحد في حياته ونحن لا نشترط العصمة لا في هذا ولا في هذا وجواب سابع وهو أن يقال أنتم أوجبتم النص لئلا يفضى إلى التشاجر المفضي إلى أعظم أنواع الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبتم نصبه فيقال الأمر بالعكس فإن أبا بكر رضي الله عنه تولى بدون هذا الفساد وعمر وعثمان توليا بدون هذا الفساد فإنما عظم هذا الفساد في الإمام الذي ادعيتم أنه منصوص عليه دون غيره فوقع في ولايته من أنواع التشاجر والفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبتم نصبه فكان ما جعلتموه وسيلة إنما حصل معه نقيض المقصود وحصل المقصود بدون وسيلتكم فبطل كون ما ذكرتموه وسيلة إلى المقصود

 

 

وهذا لأنهم أوجبوا على الله ما لا يجب عليه وأخبروا بما لم يكن فلزم من كذبهم وجهلهم هذا التناقض وجواب ثامن وهو أن يقال النص الذي يزيل هذا الفساد يكون على وجوه أحدها أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بولاية الشخص ويثنى عليه في ولايته فحينئذ تعلم الأمة أن هذا إن تولى كان محمودا مرضيا فيرتفع النزاع وإن لم يقل ولوه وهذا النص وقع لأبي بكر وعمر الثاني أن يخبر بأمور تستلزم صلاح الولاة وهذه النصوص وقعت في خلافة أبي بكر وعمر الثالث أن يأمر من يأتيه أن يأتي بعد موته شخصا يقوم مقامه فيدل على أنه خليفة من بعده وهذا وقع لأبي بكر الرابع أن يريد كتابة كتاب ثم يقول إن الله والمؤمنين لا يولون إلا فلانا وهذا وقع لأبي بكر الخامس أن يأمر بالاقتداء بعده بشخص فيكون هو الخليفة بعده السادس أن يأمر باتباع سنة خلفائه الراشدين المهديين ويجعلخلافتهم إلى مدة معينة فيدل على أن المتولين في تلك المدة هم الخلفاء الراشدون السابع أن يخص بعض الأشخاص بأمر يقتضي أنه هو المقدم عنده في الاستخلاف وهذا موجود لأبي بكر وهنا جواب تاسع وهو أن يقال ترك النص على معين أولى بالرسول فإنه إن كان النص ليكون معصوما فلا معصوم بعد الرسول وإن كان بدون العصمة فقد يحتج بالنص على وجوب اتباعه في كل مايقول ولا يمكن أحد بعد موت الرسول أن يراجع الرسول في أمره ليرده أو يعزله فكان أن لا ينص على معين أولى من النص وهذا بخلاف من يوليه في حياته فإنه إذا أخطأ أو أذنب أمكن الرسول بيان خطئه ورد ذنبه وبعد موته لا يمكنه ذلك ولا يمكن الأمة عزله لتولية الرسول إياه فكان عدم النص على معين مع علم المسلمين بدينهم أصلح للأمة وكذلك وقع وأيضا لو نص على معين ليؤخذ الدين منه كما تقوله الرافضة

 

 

بطلت حجة الله فإن ذلك لا يقوم به شخص واحد غير الرسول إذ لا معصوم إلا هو ومن تدبر هذه الأمور وغيرها علم أن ما اختاره الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته أكمل الأمور وجواب عاشر وهو أن النص على الجزئيات لا يمكن والكليات قد نص عليها فلو نص على معين وأمر بطاعته في تعيين الكليات كان هذا باطلا وإن أمر بطاعته في الجزئيات سواء وافقت الكليات أو خالفتها كان هذا باطلا وإن أمر بطاعته في الجزئيات إذا طابقت الكليات فهذا حكم كل متول وأيضا فلو نص على معين لكان من يتولى بعده إذا لم يكن منصوصا عليه يظن الظان أنه لا تجوز طاعته إذ طاعه الأول إنما وجبت بالنص ولا نص معه وإن قيل كل واحد ينص على الآخر فهذا إنما يكون إذا كان الثاني معصوما والعصمة منتفية عن غير الرسول وهذا مما يبين أن القول بالنص فرع على القول بالعصمة وذلك من أفسد الأقوال فكذلك هذا أعنى النص الذي تدعيه الرافضة وهو الأمر بطاعة المتولى في كل مايقوله من غير رد ما يقوله الكتاب إلى الكتابة والسنة إذا نوزع

 

 

وأما إذا كان يرد ما تنوزع فيه إلى الكتاب والسنة لم يحتج حينئذ إلى نص عليه لحفظ الدين فإن الدين محفوظ بدونه وبالجملة فالنص على معين إن أريد به أنه يطاع كما يطاع الرسول في كل ما يأمر به وينهى عنه ويبيحه وليس لأحد أن ينازعه في شىء كما ليس له أن ينازع الرسول وأنه يستبد بالأحكام والأمة معه كما كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا يكون لأحد بعد الرسول ولا يمكن هذا لغيره فإن أحدا بعده لا يأتيه الوحي كما كان يأتيه ولم يعرف أحد كل ما عرفه الرسول فلم يبق سبيل إلى مماثلته لا من جهته ولا من جهة الرب تعالى وإن أريد بالنص أنه يبين للأمة أن هذا أحق بأن يتولى عليكم من غيره وولاية هذا أحب إلى الله ورسوله وأصلح لكم في دينكم ودنياكم ونحو هذا مما يبين أنه أحق بالتقدم في خلافة النبوة فلا ريب أن النصوص الكثيرة بهذه المعاني دلت على خلافة أبي بكر وإن أريد أنه أمرهم أن يتابعوه كما أمرهم أبو بكر أن يتابعوا عمر ويعهد إليهم في ذلك فهذا إذا علم أن الأمة تفعله كان تركه خيرا

 

 

من فعله وإن خاف أن لا تفعله إلا بأمره كان الأمر أولى به ولهذا لما خشى عليهم أبو بكر رضي الله عنه أن يختلفوا بعده عهد إلى عمر ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يبايعون أبا بكر لم يأمرهم بذلك كما في الصحيحين أنه قال لعائشة ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ثم قال يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر فعلم أن الله لا يولى إلا أبا بكر والمؤمنون لا يبايعون إلا أبا بكر وكذلك سائر الأحاديث الصحيحة تدل على أنه علم ذلك وإنما كان ترك الأمر مع علمه أفضل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لأن الأمة إذا ولته طوعا منها بغير التزام وكان هو الذي يرضاه الله ورسوله كان أفضل للأمة ودل على علمها ودينها فإنها لو ألزمت بذلك لربما قيل إنها أكرهت على الحق وهي لا تختاره كما كان يجري مثل ذلك لبني إسرائيل ويظن الظان أنه كان في الأمة بقايا جاهلية من التقدم بالأنساب فإنهم كانوا يريدون أن لا يتولى إلا من هو من بني عبد مناف كما كان أبو سفيان وغيره

 

 

يختارون ذلك فلو ألزم المهاجرين والأنصار بهذا لظن الظان أنهم كانوا من جنس أبي سفيان وأمثاله وكانوا يعرفون اختصاص الصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم أولا وآخرا وموافقته له باطنا وظاهرا فقد يقول القائل إنهم كانوا في الباطن كارهين لمن يأمرهم بمثل ما أمرهم به الرسول لكن لما ألزمهم بذلك احتاجوا إلى التزامه لو لم يقدح فيهم بذلك لم يمدحوا إلا بمجرد الطاعة للأمر فإذا كانوا برضاهم واختيارهم اختاروا ما يرضاه الله ورسوله من غير إلزام كان ذلك أعظم لقدرهم وأعلى لدرجتهم وأعظم في مثوبتهم وكان ما اختاره الله ورسوله للمؤمنين به هو أفضل الأمور له ولهم ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن حارثة وبعده أسامة بن زيد وطعن بعض الناس في إمارتهما واحتاجوا مع ذلك إلى لزوم طاعتهما فلو ألزمهم بواحد لكان يظن بهم أن مثل هذا كان في نفوسهم وأنه ليس الصديق عندهم بالمنزلة التي لا يتكلم فيها أحد فلما اتفقوا على بيعته ولم يقل قط أحد إني أحق بهذا الأمر منه

 

 

لا قرشى ولا أنصارى فإن من نازع أولا من الأنصار لم تكن منازعته للصديق بل طلبوا أن يكون منهم أمير ومن قريش أمير وهذه منازعة عامة لقريش فلما تبين لهم أن هذا الأمر في قريش قطعوا المنازعة وقال لهم الصديق رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح قال عمر فكنت والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر وقال له بمحضر الباقين أنت خيرنا وأفضلنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة ثم بايعوا أبا بكر من غير طلب منه ولا رغبة بذلت لهم ولا رهبة فبايعه الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة والذين بايعوه ليلة العقبة والذين بايعوه لما كانوا يهاجرون إليه والذين بايعوه لما كانوا يسلمون من غير هجرة كالطلقاء وغيرهم ولم يقل أحد قط إني أحق بهذا من أبي بكر ولا قاله أحد في أحد بعينه إن فلانا أحق بهذا الأمر من أبي بكر وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية إن بيت الرسول أحق

 

 

بالولاية لكون العرب كانت في جاهليتها تقدم أهل بيت الرؤساء وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا كما نقل عن أبي سفيان وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من علي وإن قدر أنه رجح عليا فلعلمه بأن الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية والإسلام فأما الذين كانوا لا يحكمون إلا بحكم الإسلام المحض وهو التقديم بالإيمان والتقوى فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر ولا خالف أحد من هؤلاء ولا من هؤلاء في أنه ليس في القوم أعظم إيمانا وتقوى من أبي بكر فقدموه مختارين له مطيعين فدل ذلك على كمال إيمانهم وتقواهم واتباعهم لما بعث الله به نبيهم من تقديم الأتقى فالأتقى وكان ما اختاره الله لنبيهم صلى الله عليه وسلم ولهم أفضل لهم والحمد لله على أن هدى هذه الأمة وعلى أن جعلنا من أتباعهمفصل قال الرافضى الثالث أن الإمام يجب أن يكرن حافظا للشرع لانقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم وقصور الكتاب والسنة عن تفاصيل الأحكام الجزئية الواقعة إلى يوم القيامة فلا بد من إمام منصوب من الله تعالى معصوم من الزلل والخطأ لئلا يترك بعض الأحكام أو يزيد فيها عمدا أو سهوا وغير علي لم يكن كذلك بالإجماع والجواب من وجوه أحدها أنا لا نسلم أنه يجب أن يكون حافظا للشرع بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع وحفظ الشرع يحصل بمجموع الأمة كما يحصل بالواحد بل الشرع إذا نقله أهل التواتر كان خيرا من أن ينقله واحد منهم وإذا كان كل طائفة تقوم بهم الحجة تنقل بعصمة حصل المقصود وعصمة أهل التواتر حصل في نقلهم أعظم عند بني آدم كلهم من عصمة من ليس بنبي فإن أبا بكر وعمر وعثمان

 

 

وعليا ولو قيل إنهم معصومون فما نقله المهاجرون والأنصار أبلغ مما نقله هؤلاء وأيضا فإن كان أكثر الناس يطعنون في عصمة الناقل لم يحصل ا فكيف إذا كان كثير من الأمة يكفرة والتواتر يحصل بأخبار المخبرين الكثيرين وإن لم تعلم عدالتهم الوجه الثاني أن يقال أتريد به من يكون حافظا للشرع وإن لم يكن معصوما أو من يكون معصوما فإن اشترطت العصمة فهذا هو الوجه الأول وقد كررته وتقدم الجواب عليه وإن اشترطت مجرد الحفظ فلا نسلم أن عليا كان أحفظ للكتاب والسنة وأعلم بهما من أبي بكر وعمر بل هما كانا أعلم بالكتاب والسنة منه فبطل ما ادعاه من الإجماع الوجه الثالث أن يقال أتعني بكونه حافظا للشرع معصوما أنه لا يعلم صحة شىء من الشرع إلا بنقله أم يمكن أن يعلم صحة شىء من الشرع بدون نقله إن قلت بالثاني لم يحتج لا إلى حفظه ولا إلى عصمته فإنهإذا أمكن حفظ شىء من الشرع بدونه أمكن حفظ الآخر حتى يحفظ الشرع كله من غير حاجة إليه وإن قلت بل معناه أنه لا يمكن معرفة شىء من الشرع إلا بحفظه فيقال حينئذ لا تقوم حجة على أهل الأرض إلا بنقله ولا يعلم صحة نقله حتى يعلم أنه معصوم ولا يعلم أنه معصوم إلا بالإجماع على نفي عصمة من سواه فإن كان الإجماع معصوما أمكن حفظ الشرع به وإن لم يكن معصوما لم تعلم عصمته الوجه الرابع أن يقال فبماذا تثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عند من يقر بنبوته فإن قيل بما نقله الإمام من معجزاته قيل من لم يقر بنبوة محمد لم يقر بإمامة علي رضي الله عنه بطريق الأولى بل يقدح في هذا وهذا وإن قيل بما تنقله الأمة نقلا متواترا من معجزاته كالقرآن وغيره قيل فإذا كان نقل الأمة المتواتر حجة يثبت بها أصل نبوته فكيف لا يكون حجة يثبت بها فروع شريعته الوجه الخامس أن الإمام هل يمكنه تبليغ الشرع إلى من ينقله عنه بالتواتر أم لا يزال منقولا نقل الآحاد من إمام إلى إمام

 

 

فإن كان الإمام يمكنه ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يمكنه ذلك بطريق الأولى وحينئذ فلا حاجة إلى نقل الإمام وإن قيل لا يمكنه ذلك لزم أن يكون دين الإسلام لا ينقله إلا واحد بعد واحد والنقلة لا يكونون إلا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يمكن القادح في نبوته أن يقول إنهم يقولون عليه مايشاؤون ويصير دين المسلمين شرا من دين النصارى واليهود الذين يدعون أن أئمتهم يختصون بعلمه ونقله الوجه السادس أن ما ذكروه ينقص من قدر النبوة فإنه إذا كان الذي يدعي العصمة فيه وحفظ من عصبته كان ذلك من أعظم التهم التي توجب القدح في نبوته ويقال إن كان طالب ملك أقامه لأقاربه وعهد إليهم مايحفظون به الملك وأن لا يعرف ذلك غيرهم فإن هذا بأمر الملك أشبه منه بأمر الأنبياء الوجه السابع أن يقال الحاجة ثابتة إلى معصوم في حفظ الشرع ونقله وحينئذ فلماذا لا يجوز أن يكون الصحابة الذين حفظوا القرآن والحديث وبلغوه هم المعصومين الذين حصل بهم مقصود حفظ

 

 

الشرع وتبليغه ومعلوم أن العصمة إذا حصلت في الحفظ والتبليغ من النقلة حصل المقصود وإن لم يكونوا هم الأئمة الوجه الثامن أن يقال لماذا لا يجوز أن تكون العصمة في الحفظ والبلاغ ثابتة لكل طائفه بحسب ماحملته من الشرع فالقراء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه والمحدثون معصومون في حفظ الحديث وتبليغه والفقهاء معصومون في فهم الكلام والاستدلال على الأحكام وهذا هو الواقع المعلوم الذي أغنى الله به عن واحد معدوم الوجه التاسع أنه إذا كان لا يحفظ الشرع ويبلغه إلا واحد بعد واحد معصوم عن معصوم وهذا المنتظر له أكثر من أربعمائة وستين سنة لم يأخذ عنه أحد شيئا من الشرع فمن أين علمتم القرآن من أكثر من أربعمائة سنة ولم لا يجوز ان يكون هذا القرآن الذي تقرؤونه ليس فيه شىء من كلام الله وكذلك من أين لكم العلم بشىء من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه وأنتم لم تسمعوا شيئا من ذلك من معصوم لأن المعصوم إما مفقود وإما معدوم

 

 

فإن قالوا تواتر ذلك عند أصحابنا بنقلهم عن الأئمة المعصومين قيل فإذا كان تواتر أصحابكم عن الأئمة يوجب حفظ الشرع ونقله فلماذا لا يجوز أن يكون تواتر الأمة كلها عن نبيها أولى بحفظ الشرع ونقله من غير احتياج إلى نقل واحد عن واحد وهم يقولون إن ما بأيديهم من العلم الموروث عمن قبل المنتظر يغنيهم عن أخذ شىء من المنتظر فلماذا لا يكون ما بأيدي الأمة عن نبيها يغنيها عن أخذ شىء عمن بعده وإذا كانوا يدعون أن ماينقلونه عن واحد من الاثنى عشر ثابت فلماذا لا يكون ما تنقله الأمة عن نبيها ثابتا ومن المعلوم أن مجموع الأمة أضعاف أضعاف الرافضة بكثير وأنهم أحرص على حفظ دين نبيهم وتبليغه أقدر على ذلك من الرافضة على حفظ ما يقوله هؤلاء ونقله وهذا مما لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأمور الوجه العاشر أن يقال قولك لانقطاع الوحى وقصور النصوص عن تفاصيل الأحكام أتريد به قصورها عن بيان جزئى جزئى بعينه أو قصورها عن البيان الكلي المتناول للجزئيات

 

 

فإن ادعيت الأول قيل لك وكلام الإمام وكل أحد بهذه المنزلة فإن الأمير إذا خاطب الناس فلا بد أن يخاطبهم بكلام عام يعم الأعيان والأفعال وغير ذلك فإنه من الممتنع أن يعين بخطابه كل فعل من كل فاعل في كل وقت فإن هذا غير ممكن فإذا لا يمكنه إلا الخطاب العام الكلي والخطاب العام الكلي ممكن من الرسول وإن ادعيت أن نفس نصوص الرسول ليست عامة كلية قيل لك هذا ممنوع وبتقدير أن يمنع هذا في نصوص الرسول الذي هو أكمل من الإمام فمنع ذلك من نصوص الإمام أولى وأحرى فأنت مضطر في خطاب الإمام إلى أحد أمرين إما ثبوت عموم الألفاظ وإما ثبوت عموم المعاني بالاعتبار وأيهما كان أمكن إثباته في خطاب الرسول فلا يحتاج في بيانه الأحكام إلى الإمام الوجه الحادي عشر أن يقال وقد قال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم (سورة إبراهيم). وقال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (سورة النساء). وقال تعالى وما على الرسول إلا البلاغ المبين (سورة النور). وأمثال ذلك فيقال وهل قامت الحجة على الخلق ببيان الرسوم أم لا

 

 

فإن لم تقم بطلت هذه الآيات وما كان في معناها وإن قامت الحجة ببيان الرسول علم أنه لا يحتاج إلى معين آخر يفتقر الناس إلى بيانه فضلا عن حفظ تبليغه وأن ما جعل الله في الإنسان من القوة الناقلة لكلام الرسول وبيانه كافية من ذلك لا سيما وقد ضمن الله حفظ ما أنزله من الذكر فصار ذلك مأمونا أن يبدل أو يغير وبالجملة دعوى هؤلاء المخذولين أن دين الإسلام لا يحفظ ولا يفهم إلا بواحد معين من أعظم الإفساد لأصول الدين وهذا لا يقوله وهو يعلم لوازمه إلا زنديق ملحد قاصد لإبطال الدين ولا يروج هذا إلا على مفرط في الجهل والضلال الوجه الثاني عشر أن يقال قد علم بالاضطرار أن أكثر المسلمين بلغهم القرآن والسنة بدون نقل علي فإن عمر رضي الله عنه لما فتح الأمصار بعث إلى الشام والعراق من علماء الصحابة من علمهم وفقههم واتصل العلم من أولئك إلى سائر المسلمين ولم يكن ما بلغه علي للمسلمين أعظم مما بلغه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأمثالهما وهذا أمر معلوم ولو لم يحفظ الدين إلا بالنقل عن علي لبطل عامة الدين فإنه لا يمكن أن ينقل عن علي إلا أمر قليل لا يحصل به المقصودوالنقل عنه ليس متواترا وليس في زماننا معصوم يمكن الرجوع إليه فلا حول ولا قوة إلا بالله ما أسخف عقول الرافضة.

*

فصل قال الرافضي الرابع أن الله تعالى قادر على نصب إمام معصوم وحاجة العالم داعية إليه ولا مفسدة فيه فيجب نصبه وغير علي لم يكن كذلك إجماعا فتعين أن يكون الإمام هو علي أما القدرة فظاهرة وأما الحاجة فظاهرة أيضا لما بينا من وقوع التنازع بين العالم وأما انتفاء المفسدة فظاهر أيضا لأن المفسدة لازمة لعدمه وأما وجوب نصبه فلأن عند ثبوت القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل.

 

*والجواب أن هذا هو الوجه الأول بعينه ولكن قرره وقد تقدمت الأجوبة عنه بمنع المقدمة الأولى وبيان فساد هذا الاستدلال فإن مبناه على الاحتجاج بالإجماع فإن كان الإجماع معصوما أغنى عن عصمة علي وإن لم يكن معصوما بطلت دلالته على عصمة علي فبطل الدليل على التقديرين ومن العجب أن الرافضة تثبت أصولها على ما تدعيه من النص والإجماع وهم أبعد الأمة عن معرفة النصوص والإجماعات والاستدلال بها بخلاف السنة والجماعة فإن السنة تتضمن النص والجماعة تتضمن الإجماع فأهل السنة والجماعة هم المتبعون للنص والإجماع ونحن نتكلم على هذا التقرير ببيان فساده وذلك من وجوه أحدها أن يقال لا نسلم أن الحاجة داعية إلى نصب إمام معصوم وذلك لأن عصمة الأمة مغنية عن عصمته وهذا مما ذكره العلماء في حكمة عصمة الأمة قالوا لأن من كان من الأمم قبلنا كانوا إذا بدلوا دينهم بعث الله نبيايبين الحق وهذه الأمة لا نبي بعد نبيها فكانت عصمتها تقوم مقام النبوة فلا يمكن أحدا منهم أن يبدل شيئا من الدين إلا أقام الله من يبين خطأه فيما بدله فلا تجتمع الأمة على ضلال كما قال صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة وقال إن الله أجاركم على لسان نبيكم أن تجتمعوا على ضلالة إلى غير ذلك من الدلائل الدالة على صحة الإجماع الثاني إن أريد بالحاجة أن حالهم مع وجوده أكمل فلا ريب أن حالهم مع عصمة نواب الإمام أكمل وحالهم مع عصمة أنفسهم أكمل وليس كل ما تقدره الناس أكمل لكل منهم يفعله الله ولا يجب عليه فعله وإن أريد أنهم مع عدمه يدخلون النار أو لا يعيشون في الدنيا أو يحصل لهم نوع من الأذى

 

فيقال هب أن الأمر كذلك فلم قلت إن أزالة هذا واجب ومعلوم أن الأمراض والهموم والغموم موجودة والمصائب في الأهل والمال والغلاء موجود والجوائح التي تصيب الثمار موجودة وليس ما يصيب المظلوم من الضرر بأعظم مما يصيبه من هذه الأسباب والله تعالى لم يزل ذلك الثالث أن قوله عند ثبوت القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل يقال له لم قلت إن الداعي ثابت والصارف منتف وقوله حاجة العالم داعية إليه يقال له الداعي هو الذي يكون داعيا للفاعل فلم قلت إن مجرد الحاجة داعية للرب تعالى فيها وكذلك قوله وانتفاء الصارف وأنت لم تدع إلا عدم المفسدة التي ادعيتها فلم قلت لا مفسدة في ذلك كما يقال إن الواحد منا يحتاج إلى المال والصحة والقوة وغير ذلكالرابع أن قوله إن الله قادر على نصب إمام معصوم أتريد به معصوما بفعل الطاعات باختياره والمعاصي باختياره والله تعالى لم يخلق اختياره كما هو قولهم أم تريد به أنه معصوم يفعل الطاعات بغير اختيار يخلقه الله فيه فإن قالوا بالأول كان باطلا على أصلهم فإن الله عندهم لا يقدر على خلق مؤمن معصوم بهذا التفسير كما لا يقدر على خلق مؤمن وكافر عندهم بهذا التفسير فإن الله عندهم لا يقدر على فعل الحي المختار ولا يخلق إرادته المختصة بالطاعة دون المعصية وإن قالوا بهذا الثاني لم يكن لهذا المعصوم ثواب على فعل الطاعة ولا على ترك المعصية وحينئذ فسائر الناس يثابون على طاعتهم وترك معاصيهم أفضل منه فكيف يكون الإمام المعصوم الذي لا ثواب له أفضل من أهل الثواب فتبين انتقاض مذهبهم حيث جمعوا بين متناقضين بين إيجاب خلق معصوم على الله وبين قولهم إن الله لا يقدر على جعل أحد معصوما باختياره بحيث يثاب على فعله للطاعات وتركه للمعاصي الوجه الخامس أن يقال قولك يقدر على نصب إمام معصوم

 

 

لفظ مجمل فإنه يقال إن الله يقدر على جعل هذا الجسم أسود وأبيض ومتحركا وساكنا وميتا وحيا وهذا صحيح بمعنى أن الله إن شاء سوده وإن شاء بيضه وإن شاء أحياه وإن شاء أماته لكن ليس المراد أنه يصير أبيض وأسود في حال واحدة فإن اجتماع الضدين ممتنع لذاته فليس بشيء ولا يسمى شيئا باتفاق الناس ولا يدخل في عموم قوله والله على كل شيء قدير (سورة البقرة). وإذا كان كذلك فقولك قادر على نصب إمام معصوم إن أردت أنه قادر على أن ينصب إماما ويلهمه فعل الطاعات وترك المعاصي فلا ريب أن الله قادر على ذلك غيره كما هو قادر على أن يجعل جميع البشر معصومين كالإمام بجعل كل واحد من البشر نبيا وأمثال ذلك من مقدورات الله تعالى وإن أردت أنه مع ذلك تحصل حكمته المنافية لوجود ذلك التي يمتنع وجودها إلا مع عدم ذلك فهذا يستلزم الجمع بين الضدين فمن أين تعلم انتفاء جميع أنواع الحكمة التي تنافي وجود ذلك ولو لم يكن الأعظم أجر المطيعين إذا لم يكن لهم إمام معصوم فإن معرفة الطاعة والعمل بها حينئذ أشق فثوابه أكبر وهذا الثواب يفوت بوجود المعصوموأيضا فحفظ الناس للشرع وتفقههم في الدين واجتهادهم في معرفة الدين والعمل به تقل بوجود المعصوم فتفوت هذه الحكم والمصالح وأيضا فجعل غير النبي مماثلا للنبي في ذلك قد يكون من أعظم الشبه والقدح في خاصة النبي فإنه إذا وجب أن يؤمن بجميع ما يقوله هذا كما يجب الإيمان بجميع ما يقوله النبي لم تظهر خاصة النبوة فإن الله أمرنا أن نؤمن بجميع ما أتى به النبيون فلو كان لنا من يساويهم في العصمة لوجب الإيمان بجميع ما يقوله فيبطل الفرق الوجه السادس أن يقال المعصوم الذي تدعو الحاجة اليه أهو القادر على تحصيل المصالح وإزالة المفاسد أم هو عاجز عن ذلك الثاني ممنوع فإن العاجز لا يحصل به وجود المصلحة ولا دفع المفسدة بل القدرة شرط في ذلك فإن العصمة تفيد وجود داعية إلى

 

 

الصلاح لكن حصول الداعي بدون القدرة لا يوجب حصول المطلوب وإن قيل بل المعصوم القادر قيل فهذا لم يوجد وإن كان هؤلاء الاثنا عشر قادرين على ذلك ولم يفعلوه لزم أن يكونوا عصاه لا معصومين وإن لم يقدروا لزم أن يكونوا عاجزين فأحد الأمرين لازم قطعا أو كلاهما العجز وانتفاء العصمة وإذا كان كذلك فنحن نعلم بالضرورة انتفاء ما استدل به على وجوده والضروريات لا تعارض بالاستدلال الوجه السابع أن يقال هذا موجود في هذا الزمان وسائر الأزمنة وليس في هذا الزمان أحد يمكنه العلم بما يقوله فضلا عن كونه يجلب مصلحة أو يدفع مفسدة فكان ما ذكروه باطلا الوجه الثامن أنه سبحانه وإن كان قادرا على نصب معصوم فلا نسلم أنه لا مفسده في نصبه وهذا النفي العام لا بد له من دليل ولا يكفي في ذلك عدم العلم بالمفسدة فإن عدم العلم ليس علمابالعدم ثم من المفاسد في ذلك أن يكون طاعة من ليس بنبي وتصديقه مثل طاعة النبي مطلقا وإذا ساوى النبي في وجوب طاعته في كل شيء ووجوب تصديقه في كل شيء ونفى كل غلط منه فيقال فأي شيء خاصة النبي التي انفرد بها عنه حتى صار هذا نبيا وهذا ليس بنبي فإن قيل بنزول الوحي عليه قيل إذا كان المقصود بنزول الوحي عليه قد حصل له فقد استراح من التعب الذي كان يحصل للنبي وقد شاركه في المقصود وأيضا فعصمته إنما تكون بإلهام الحق له وهذا وحي وأيضا فإما أن يخبر بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر بما أمر به أو يخبر بأخبار وأوامر زائدة فإن كان الأول لم يكن إليه حاجة ولا فيه فائدة فإن هذا قد عرف بأخبار الرسول وأوامره وإن كان غير ذلك وهو معصوم فيه فهذا نبي فإنه ليس بمبلغ عن الأول وإذا قيل بل يحفظ ما جاء به الرسول

 

 

قيل يحفظه لنفسه أو للمؤمنين فإن كان لنفسه فلا حاجة بالناس إليه وإن كان للناس فبأي شىء يصل إلى الناس ما يحفظه أفبالتواتر أم بخبر الواحد فبأى طريق وصل ذلك منه إلى الناس الغائبين وصل من الرسول إليهم مع قلة الوسائط ففي الجملة لا مصلحة في وجود معصوم بعد الرسول إلا وهي حاصلة بدونه وفيه من الفساد مالا يزول إلا بعدمه فقولهم الحاجة داعية إليه ممنوع وقولهم المفسدة فيه معدومة ممنوع بل الأمر بالعكس فالمفسدة معه موجودة والمصلحة معه منتفية وإذا كان اعتقاد وجوده قد أوجب من الفساد ما أوجب فما الظن بتحقق وجوده.

*

فصل قال الرافضى الخامس أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته وعلي أفضل أهل زمانه على ما يأتي فيكون هو الإمام لقبح تقديم المفضول على الفاضل عقلا ونقلا قال تعالى أفمن يهدي إلىالحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون (سورة يونس).

 

*والجواب من وجوه أحدها منع المقدمة الثانية الكبرى فإنا لا نسلم أن عليا أفضل أهل زمانه بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر كما ثبت ذلك عن علي وغيره وسيأتي الجواب عما ذكروه وتقرير ما ذكرناه الثاني أن الجمهور من أصحابنا وغيرهم وإن كانوا يقولون يجب توليه الأفضل مع الإمكان لكن هذا الرافضي لم يذكر حجة على هذه المقدمة وقد نازعه فيها كثير من العلماء وأما الآية المذكورة فلا حجة فيها له لأن المذكور في الآية من يهدي إلى الحق ومن لا يهدي إلا أن يهدي والمفضول لا يجب أن يهدي إلا أن يهديه الفاضل بل قد يحصل له هدى كثير بدون تعلم من الفاضل وقد يكون الرجل يعلم ممن هو أفضل منه وإن كان ذلك الأفضل قد مات وهذا الحي الذي هو أفضل منه لم يتعلم منه شيئا وأيضا فالذي يهدي إلى الحق مطلقا هو الله والذي لا يهدي إلا أن يهدي صفة كل مخلوق لا يهدي إلا أن يهديه الله تعالى وهذا هو المقصود بالآية وهي أن عبادة الله أولى من عبادة خلقه كما قال في سياقها قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل

 

الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى (سورة يونس). فافتتح الآيات بقوله قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت (سورة يونس). الى قوله قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق (سورة يونس). وأيضا فكثير من الناس يقول ولاية الأفضل واجبة إذا لم تكن في ولاية المفضول مصلحة راجحة ولم يكن في ولاية الأفضل مفسدة وهذه البحوث يبحثها من يرى عليا أفضل من أبي بكر وعمر كالزيدية وبعض المعتزلة أو من يتوقف في ذلك كطائفة من المعتزلة وأما أهل السنة فلا يحتاجون إلى منع هذه المقدمة بل الصديق عندهم أفضل الأمة لكن المقصود أن نبين أن الرافضة وإن قالوا حقا فلا يقدرون أن يدلوا عليه بدليل صحيح لأنهم سدوا على أنفسهم كثيرا من طرق العلم فصاروا عاجزين عن بيان الحق حتى أنه لا يمكنهم تقرير إيمان علي على الخوارج ولا تقرير إمامته على المروانية ومن قاتله فإن ما يستدل به على ذلك قد أطلق جنسه على أنفسهم لأنهم لا يدرون ما يلزم أقوالهم الباطلة من التناقض والفساد لقوة جهلهم واتباعهم الهوى بغير علم

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اسم الكتاب:منهاج السنة النبوية

///

الجزء السابع///

*قال الرافضي المنهج الثاني في الأدلة المأخوذة من القرآن والبراهين الدالة على إمامة علي من الكتاب العزيز كثيرة الأول قوله تعالى أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون و قد أجمعوا أنها نزلت في علي قال الثعلبي في إسناده إلى أبي ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم بهاتين و إلا صمتا و رايته بهاتين و إلا عميتا يقول علي قائد البررة و قاتل الكفرة فمنصور من نصره و مخذول من خذله أما أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما صلاة الظهر فسال سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا فرفع السائل يده إلى السماء و قال اللهم أنك تشهد أني سالت في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يعطني أحد شيئا و كان علي راكعا فأومأ بخنصره اليمنى و كان متختما فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم و ذلك بعين النبي صلى الله عليه و سلم فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء و قال اللهم أن موسى سألك و قال رب اشرح لي صدري و يسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري و أشركه في أمري فأنزلت عليه قرأنا ناطقا سنشد عضدك بأخيك و نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا اللهم وأنا محمد نبيك و صفيك اللهم فاشرح لي صدري و يسر لي أمري و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري قال أبو ذر فما استتم كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزل عليه جبريل من عند الله فقال يا محمد اقرأ

 

قال وما اقرأ قال اقرأ أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون و نقل الفقيه ابن المغازلي الو اسطي الشافعي أن هذه نزلت في علي و الولي هو المتصرف وقد اثبت له الولاية في الآية كما أثبتها الله تعالى لنفسه و لرسوله.*و الجواب من وجوه:

أحدها: أن يقال ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنا بل كل ما ذكره كذب و باطل من جنس السفسطة و هو لو أفاده ظنونا كان تسميته براهين تسمية منكرة فإن البرهان في القرآن و غيره يطلق على ما يفيد العلم و اليقين كقوله تعالى و قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين. و قال تعالى آمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين. فالصادق لا بد له من برهان على صدقه و الصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل و سنبين أن شاء الله تعالى عند كل واحدة منها ما يبين كذبها فتسميه هذه براهين من أقبح الكذب.

ثم أنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عن بعض الناس مع أنه قد يكون كذبا عليه و أن كان صدقا فقد خالف أكثر الناس فأن كان قول الواحد الذي لم يعلم صدقه و قد خالفه الأكثرون برهانا فأنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله فتتعارض البراهين فتتناقض و البراهين لا تتناقض بل سنبين أن شاء الله تعالى قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدعيه من البراهين و أن الكذب في عامتها كذب ظاهر

 

لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه وأن البراهين الدالة على نبوة الرسول حق و أن القرآن حق و أن دين الإسلام حق تناقض ما ذكره من البراهين فإن غاية ما يدعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب و تأمل لوازمه وجده يقدح في الأيمان والقرآن و الرسول و هذا لأن اصل الرفض كان من وضع قوم زنادقة منافقين مقصودهم الطعن في القرآن و الرسول ودين الإسلام فوضعوا من الأحاديث ما يكون التصديق به طعنا في دين الإسلام و روجوها على أقوام فمنهم من كان صاحب هوى و جهل فقبلها لهواه و لم ينظر في حقيقتها و منهم من كان له نظر فتدبرها فوجدها تقدح في حق الإسلام فقال بموجبها و قدح بها في دين الإسلام أما لفساد اعتقاده في الدين وأما لاعتقاده أن هذه صحيحة و قدحت فيما كان يعتقده من دين الإسلام و لهذا دخلت عامة الزنادقة من هذا الباب فأن ما تنقله الرافضة من الأكاذيب تسلطوا به على الطعن في الإسلام و صارت شبها عند من لم يعلم أنه كذب و كان عنده خبرة بحقيقة الإسلام و ضلت طوائف كثيرة من الإسماعيلية و النصيرية و غيرهم من الزنادقة

 

الملاحدة المنافقين و كان مبدأ ضلالهم تصديق اللرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن و الحديث كأئمة العبيديين أنما يقيمون مبدأ دعوتهم بالأكاذيب التي اختلقتها الرافضة ليستجيب لهم بذلك الشيعة الضلال ثم ينقلون الرجل من القدح في الصحابة إلى القدح في علي ثم في النبي صلى الله عليه و سلم ثم في إلالاهية كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر و الناموس الأعظم و لهذا كان الرفض اعظم باب و دهليز إلى الكفر و الإلحاد.ثم نقول ثانيا الجواب عن هذه الآية حق من وجوه:

الأول: أنا نطالبه بصحة هذا النقل أو لايذكر هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة فأن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبي أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات الصادقين في نقلها ليس بحجة باتفاق أهل العلم أن لم نعرف ثبوت إسناده و كذلك إذا روى فضيلة لأبي بكر و عمر لم يجز اعتقاد ثبوت ذلك بمجرد ثبوت روايته باتفاق أهل العلم فالجمهور أهل السنة لا يثبتون بمثل هذا شيئا يريدون إثباته لا حكما و لا فضيلة و لا غير ذلك. و كذلك الشيعة وإذا كان بمجرده ليس بحجة باتفاق الطوائف كلها بطل الاحتجاج به و هكذا القول في كل ما نقله و عزاه إلى أبي نعيم أو الثعلبي أو النقاش أو ابن المغازلي و نحوهم.الثاني: قوله قد أجمعوا أنها نزلت في علي من اعظم الدعاوى الكاذبة بل اجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علي بخصوصه و أن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة و اجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع

 

و أما ما نقله من تفسير الثعلبي فقد اجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبي يروي طائفة من الأحاديث الموضوعات كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبي إمامة في فضل تلك السورة و كأمثال ذلك و لهذا يقولون هو كحاطب ليل. وهكذا الواحدي تلميذه و أمثالهما من المفسرين زيادة ينقلون الصحيح و الضعيف.

و لهذا لما كان البغوي عالما بالحديث اعلم به من الثعلبي و الواحدي و كان تفسيره مختصر تفسير الثعلبي لم يذكر في تفسيره شيئا من الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبي و لا ذكر تفاسير أهل البدع التي ذكرها الثعلبي مع أن الثعلبي فيه خير و دين لكنه لا خبرة له بالصحيح من الأحاديث زيادة ولا يميز بين السنة و البدعة في كثير من الأقوال.

و أما أهل العلم الكبار أهل التفسير مثل تفسير محمد بن جرير الطبري و بقي بن مخلد و ابن أبي حاتم و ابن المنذر و عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم و أمثالهم فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات دع من هو اعلم منهم مثل تفسير احمد بن حنبل و اسحق بن راهويه بل و لا يذكر مثل هذا عند ابن حميد و لا عبد الرزاق مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع و يروي كثيرا من فضائل علي و أن كانت ضعيفة لكنه اجل قدرا من أن يروي مثل هذا الكذب الظاهر.

وقد اجمع أهل العلم بالحديث إلى أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد من جنس الثعلبي و النقاش و الواحدي و أمثال هؤلاء المفسرين لكثرة ما يروونه من الحديث و يكون ضعيفا بل موضوعا فنحن لو لم نعلم كذب هؤلاء من وجوه أخرى لم يجز أن نعتمد عليه لكون الثعلبي و أمثاله رووه فكيف إذا كنا عالمين بأنه كذب وسنذكر أن شاء الله تعالى ما يبين كذبه عقلا و نقلا و إنما المقصود هنا

 

بيان افتراء هذا المصنف أو كثرة جهله حيث قال قد أجمعوا أنها نزلت في علي فيا ليت شعري من نقل هذا الإجماع من أهل العلم والعالمين بالإجماع في مثل هذه الأمور فإن نقل الإجماع في مثل هذا لا يقبل من غير اهل العلم بالمنقولات و ما فيها من إجماع و اختلاف.

فالمتكلم و المفسر و المؤرخ و نحوهم لو ادعى أحدهم نقلا مجردا بلا إسناد ثابت لم يعتمد عليه فكيف إذا ادعى إجماعا.الوجه الثالث: أن يقال هؤلاء المفسرون الذين نقل من كتبهم هم و من هم اعلم منهم قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدعى.

و الثعلبي قد نقل في تفسيره أن ابن عباس يقول نزلت في أبي بكر ونقل عن عبد الملك قال سألت أبا جعفر قال هم المؤمنون قلت فأن أناسا يقولون هو علي قال فعلي من الذين آمنوا.

و عن الضحاك مثله و روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه قال حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثنا معاوية بن صالح حدثنا علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه قال كل من آمن فقد تولى الله و رسوله الذين آمنوا قال و حدثنا أبو سعيد إلاشج عن المحاربي عن عبد الملك بن أبي سليمان قال سالت أبا جعفر محمد بن علي عن هذه الآية فقال هم الذين آمنوا قلت نزلت في علي قال علي من الذين آمنوا.و عن السدي مثله.الوجه الرابع: أنا نعفيه من الإجماع و نطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح و هذا الإسناد الذي ذكره الثعلبي إسناده ضعيف فيه رجال متهمون و أما نقل ابن المغازلي الو اسطي فاضعف و اضعف فأن هذا قد جمع في كتابه من الأحاديث الموضوعات ما لا يخفى أنه كذب على من له أدنى معرفة بالحديث والمطالبة بإسناد يتناول هذا و هذا.

 

الوجه الخامس: أن يقال لو كان المراد بالآية أن يؤتى الزكاة حال ركوعه كما يزعمون أن عليا تصدق بخاتمه في الصلاة لوجب أن يكون ذلك شرطا في الموالاة و أن لا يتولى المسلمون إلا عليا وحده فلا يتولى الحسن و لا الحسين و لا سائر بني هاشم و هذا خلاف إجماع المسلمين.الوجه السادس: أن قوله الذين صيغة جمع فلا يصدق على علي وحده.الوجه السابع: أن الله تعالى لا يثني على الإنسان إلا بما هو محمود عنده أما واجب و أما مستحب والصدقة والعتق و الهدية و الهبة و الإجارة و النكاح و الطلاق و غير ذلك من العقود في الصلاة ليست واجبة و لا مستحبة باتفاق المسلمين بل كثير منهم يقول أن ذلك يبطل الصلاة و أن لم يتكلم بل تبطل بإلاشارة المفهمة. و آخرون يقولون لا يحصل الملك بها لعدم الإيجاب الشرعي و لو كان هذا مستحبا لكان النبي صلى الله عليه و سلم يفعله و يحض عليه أصحابه و لكان علي يفعله في غير هذه الواقعة فلما لم يكن شيء من ذلك علم أن التصدق في الصلاة ليس من الأعمال الصالحة و إعطاء السائل لا يفوت فيمكن المتصدق إذا سلم أن يعطيه و أن في الصلاة لشغلا.الوجه الثامن: أنه لو قدر أن هذا مشروع في الصلاة لم يختص بالركوع بل يكون في القيام و القعود أولى منه في الركوع فكيف يقال لا ولي لكم إلا الذين يتصدقون في كل الركوع فلو تصدق المتصدق

 

في حال القيام و القعود أما كان يستحق هذه الموالاة فأن قيل هذه أراد بها التعريف بعلي على خصوصه قيل له أوصاف علي التي يعرف بها كثيرة ظاهرة فكيف يترك تعريفه الأمور المعروفة و يعرفه بأمر لا يعرفه إلا من سمع هذا و صدقه وجمهور إلامة لم تسمع هذا الخبر و لا هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة لا الصحاح و لا السنن و لا الجوامع ولا المعجمات و لا شيء من أمهات أحد الأمرين لازم أن قصد به المدح بالوصف فهو باطل و أن قصد به التعريف فهو باطل.الوجه التاسع: أن يقال قوله و يؤتون الزكاة و هم راكعون على قولهم يقتضي أن يكون قد أتى الزكاة في حالة ركوعه و علي رضي الله عنه لم يكن ممن تجب عليه على عهد النبي صلى الله عليه و سلم فأنه كان فقيرا و زكاة الفضة أنما تجب على من ملك النصاب حولا و علي لم يكن من هؤلاء.

 

الوجه العاشر: أن إعطاء الخاتم في الزكاة لا يجزي عند كثير من الفقهاء إلا إذا قيل بوجوب الزكاة في الحلي و قيل أنه يخرج من جنس الحلي و من جوز ذلك بالقيمة فالتقويم في الصلة متعذر و القيم تختلف باختلاف الأحوال.الوجه الحادي عشر: أن هذه آلية بمنزلة قوله و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و اركعوا مع الراكعين هذا أمر بالركوع وكذلك قوله يا مريم اقنتي لربك و اسجدي و اركعي مع الراكعين وهذا أمر بالركوع قد قيل ذكر ذلك ليبين أنهم يصلون الجماعة لأن المصلي في الجماعة أنما يكون مدركا للركعة بادراك ركوعها بخلاف الذي لم يدرك إلا السجود فأنه قد فاتته الركعة و أما القيام فلا يشترط فيه الإدراك و بالجملة الواو أما واو الحال و أما واو العطف و العطف هو الأكثر و هي المعروفة في مثل هذا الخطاب. و قوله أنما يصح إذا كانت واو الحال فأن لم يكن ثم دليل على تعيين ذلك بطلت الحجة فكيف إذا كانت الأدلة تدل على خلافة.الوجه الثاني عشر: أنه من المعلوم المستفيض عند أهل التفسير خلفا عن سلف أن هذه الآية نزلت في النهي عن موالاة الكفار و الأمر بموالاة المؤمنين لما كان بعض المنافقين مثل كعبد الله بن أبي يوالي اليهود و يقول أني أخاف الدوائر فقال بعض المؤمنين و هو عبادة بن الصامت أني

 

يا رسول الله أتولى الله و رسوله و أبرا إلى الله و رسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم ولهذا لمل جاءتهم بنو قينقاع و سبب تأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول فأنزل الله هذه الآية يبين فيها وجوب موالاة المؤمنين زيادة عموما و ينهى عن موالاة الكفار عموما. و قد تقدم كلام الصحابة و التابعين أنها عامة لا تختص بعلي.الوجه الثالث عشر: أن سياق الكلام يدل على ذلك لمن تدبر القرآن فأنه قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فأنه منهم أن الله لا يهدي القوم الظالمين فهذا نهى عن موالاة اليهود و النصارى. ثم قال فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده إلى قوله فاصبحوا خاسرين فهذا وصف الذين في قلوبهم مرض الذين يوالون الكفار المنافقين. ثم قال يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله واسع

 

عليم.

فذكر فعل المرتدين و أنهم لن يضروا الله شيئا و ذكر من يأتي به بدلهم ثم قال أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين رسوله يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة و هم راكعون و من يتولى الله و رسوله و الذين آمنوا فأن حزب الله هم الغالبون. فتضمن هذا الكلام ذكر أحوال من دخل في الإسلام من المنافقين و ممن يرتد عنه وحال المؤمنين الثابتين عليه ظاهرا و باطنا فهذا السياق مع أتيناه أتى بصيغة الجمع مما يوجب لمن تدبر ذلك علما يقينا لا يمكنه دفعه عن نفسه أن الآية عامة في كل المؤمنين المتصنفين بهذه الصفات لا تختص بواحد بعينه لا أبي بكر و لا عمر و لا عثمان و لا علي و لا غيرهم لكن هؤلاء أحق إلامة بالدخول فيها.الوجه الرابع عشر: أن الألفاظ المذكورة في الحديث مما يعلم أنها كذب على النبي صلى الله عليه و سلم فأن عليا ليس قائدا لكل البررة بل لهذه الأمة رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا هو أيضا قاتلا لكل الكفره بل قتل بعضهم كما قتل غيره بعضهم و ما أحد من المجاهدين القاتلين لبعض الكفار إلا و هو قاتل لبعض الكفرة و كذلك قوله منصور من نصره و مخذول من خذله هو خلاف

 

الواقع و النبي صلى الله عليه و سلم لا يقول إلا حقا لا سيما على قول الشيعة فأنهم يدعون أن إلامة كلها خذلته إلى قتل عثمان و من المعلوم أن الأمة كانت منصورة في أعصار الخلفاء الثلاثة نصرا لم يحصل لها بعده مثله ثم لما قتل عثمان و صار الناس ثلاثة أحزاب حزب نصره و قاتل معه و حزب قاتلوه و حزب خذلوه لم يقاتلوا لا مع هؤلاء و لا مع هؤلاء لم يكن الذين قاتلوا معه منصورين على الحزبين الآخرين و لا على الكفار بل أولئك الذين نصروا عليهم و صار الأمر لهم لما تولى معاوية فانتصروا على الكفار و فتحوا البلاد أنما كان علي منصورا كنصر أمثاله في قتال الخوارج و الكفار والصحابة الذين قاتلوا الكفار و المرتدين كانوا منصورين نصرا عظيما فالنصر وقع كما وعد الله به حيث قال أنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد. فالقتال الذي كان بأمر الله و أمر رسوله من المؤمنين للكفار و المرتدين و الخوارج كانوا فيه منصورين نصرا عظيما إذا اتقوا و صبروا فإن التقوى والصبر من تحقيق الإيمان الذي علق به النصر.

و أيضا فالدعاء الذي ذكره عن النبي صلى الله عليه و سلم عقب التصدق بالخاتم من اظهر الكذب فمن المعلوم أن الصحابة أنفقوا في سبيل الله وقت الحاجة إليه ما هو اعظم قدرا و نفعا من إعطاء سائل خاتما. و في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما نفعني مال كمال أبي بكر أن آمن الناس علي في صحبته و ذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. و قد تصدق عثمان بألف بعير في سبيل الله في غزوة العسرة حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم

 

والأنفاق في سبيل الله وفي إقامة الدين في أول الإسلام اعظم من صدقة على سائل محتاج و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم لا تسبوا أصحابي فوا الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم و لا نصيفه أخرجاه في الصحيحين. قال تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل أولئك اعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد و قاتلوا و كلا وعد الله الحسنى. فكذلك الإنفاق الذي صدر في أول الإسلام في إقامة الدين ما بقي له نظير يساويه و أما إعطاء السؤال لحاجتهم فهذا البر يوجد مثله إلى يوم القيامة فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم لأجل تلك النفقات العظيمة النافعة الضرورية لا يدعو بمثل هذا الدعاء فكيف يدعوا به لأجل إعطاء خاتم لسائل قد يكون كاذبا في سؤاله. ولا ريب أن هذا و مثله من كذب جاهل أراد أن يعارض ما ثبت لأبي بكر بقوله و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى و لسوف يرضى. بأن يذكر لعلي شيئا من هذا الجنس فما أمكنه أن يكذب أنه فعل ذلك في أول الإسلام فكذب هذه الأكذوبة التي لا تروج إلا على مفرط في الجهل. وأيضا فكيف يجوز أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم في المدينة بعد الهجرة و النصرة و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري مع أن الله قد اعزه بنصره و بالمؤمنين كما قال تعالي هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين. و قال إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن أن الله معنا فالذي كان معه حين نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا هو أبو بكر و كانا اثنين الله ثالثهما و كذلك لما كان يوم بدر لما صنع له عريش كان الذي دخل معه في العريش دون سائر الصحابة أبو بكر و كل من الصحابة له في نصر رسول الله صلى الله عليه و سلم سعي مشكور و عمل مبرور و روي أنه لما جاء علي بسيفه يوم أحد قال لفاطمة اغسليه يوم أحد

 

غير ذميم فقال النبي صلى الله عليه و سلم أن تك أحسنت فقد أحسن فلأن و فلأن و فلأن فعدد جماعة من الصحابة و لم يكن لعلي اختصاص بنصر النبي صلى الله عليه و سلم دون أمثاله و لا عرف موطن احتاج النبي صلى الله عليه و سلم فيه إلى معونة علي و حده لا باليد و لا باللسان و لا كان إيمان الناس برسول الله صلى الله عليه و سلم و طاعتهم له لأجل علي بسبب دعوة علي لهم و غير ذلك من الأسباب الخاصة كما كان هارون و موسى فإن بني إسرائيل كانوا يحبون هارون جدا ويهابون موسى و كان هارون يتألفهم و الرافضة تدعي أن الناس كانوا يبغضون عليا و أنهم لبغضهم له لم يبايعوه فكيف يقال أن النبي صلى الله عليه و سلم احتاج إليه كما احتاج موسى إلى هارون و هذا أبو بكر الصديق اسلم على يديه ستة أو خمسة من العشرة عثمان و طلحة و الزبير و سعد و عبد الرحمن بن عوف و أبو عبيده و لم يعلم أنه اسلم على يد علي و عثمان و غيرهما أحد من السابقين الأولين من المهاجرين و إلأنصار و مصعب بن عمير هو الذي بعثه النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة لما بايعه إلأنصار ليلة العقبة و اسلم على يده رؤوس إلأنصار كسعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته و اسيد بن حضير و غير هؤلاء

 

 

و كان أبو بكر يخرج مع النبي صلى الله عليه و سلم يدعو معه الكفار إلى الإسلام في الموسم و يعاونه معاونة عظيمة في الدعوة بخلاف غيره و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في الصحيح لو كنت متخذا من أهل الأرضى خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و قال أيها الناس أني جئت إليكم فقلت أني رسول الله فقلتم كذبت و قال أبو بكر صدقت فهل أنتم تاركو لي صاحبي ثم أن موسى دعا بهذا الدعاء قبل أن يبلغ الرسالة إلى الكفار ليعاون عليها و نبينا صلى الله عليه و سلم قد بلغ الرسالة لما بعثه الله بلغها وحده و أول من آمن به باتفاق أهل الأرض أربعة أول من آمن به من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة و من الصبيان علي و من الموالي زيد و كان أنفع الجماعة في الدعوه باتفاق الناس أبو بكر ثم خديجة لأن أبا بكر هو أول رجل حر بالغ آمن به باتفاق الناس و كان له قدر عند قريش لما كان فيه من المحاسن فكان آمن الناس عليه في صحبته و ذات يده و مع هذا فما دعا الله أن يشد أزره بأحد لا بأبي بكر و لا بغيره

 

بل قام مطيعا لربه متوكلا عليه صابرا له كما أمر بقوله قم فأنذر و ربك فكبر و ثيابك فطهر و الرجز فاهجر و لا تمنن تستكثر و لربك فاصبر و قال فاعبده و توكل عليه فمن زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل الله عز و جل أن يشد أزره بشخص من الناس كما سأل موسى أن يشد أزره بهارون فقد افترى على رسول الله صلى الله عليه و سلم و بخسه حقه ولا ريب أن الرفض مشتق من الشرك و الإلحاد و النفاق لكن تارة يظهر لهم ذلك فيه و تارة يخفى.الوجه الخامس عشر: أن يقال غاية ما في الآية أن المؤمنين عليهم موالاة الله و رسوله و المؤمنين فيوالون عليا و لا ريب أن موالاة علي واجبة على كل مؤمن كما يجب على كل مؤمن مولاة أمثاله من المؤمنين قال تعالى و أن تظاهرا عليه فأن الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين فبين الله أن كل صالح من المؤمنين فهو مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم الله مولاه و جبريل مولاه الصالح من المؤمنين متوليا على رسول الله كما أن الله مولاه وجبريل مولاه يأن يكون صالح المؤمنين متوليا على رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا متصرفا فيه و أيضا قال تعالى و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض

 

فجعل كل مؤمن وليا لكل مؤمن و ذلك لا يوجب أن يكون أميرا عليه معصوما لا يتولى عليه إلا هو و قال تعالى إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون الذين آمنوا و كانوا يتقون فكل مؤمن تقي فهو ولي الله و الله وليه كما قال تعالى الله ولي الذين آمنوا و قال ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم و قال أن الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله ثم آووا و نصروا إلى قوله و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله فهذه النصوص كلها ثبتت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض و أن هذا ولي هذا وهذا ولي هذا وأنهم أولياء الله و أن الله و ملائكته و المؤمنين موالي رسوله كما أن الله و رسوله و الذين آمنوا هم أولياء المؤمنين و ليس في شيء من هذه النصوص أن من كان وليا للآخر كان أميرا عليه دون غيره و أنه يتصرف فيه دون سائر الناس.الوجه السادس عشر: أن الفرق بين الولاية بالفتح و الولاية بالكسر معروف فالولاية ضد العداوة و هي المذكوره في هذه النصوص ليست هي الولاية بالكسر التي هي الإمارة و هؤلاء الجهال يجعلون الولي هو الأمير و لم يفرقوا بين الولاية و الولاية و الأمير يسمى

 

الوالي لا يسمى الولي و لكن قد يقال هو ولي الأمر كما يقال وليت أمركم و يقال أولو الأمر و أما إطلاق القول بالمولى وإراده الولي فهذا لا يعرف بل يقال في الولي المولى و لا يقال الوالي و لهذا قال الفقهاء إذا اجتمع في الجنازة الوالي و الولي فقيل يقدم الوالي وهو قول أكثرهم و قيل يقدم الولي فبين أن الولاية دلت على الموالاة المخالفة للمعاداة الثابتة لجميع المؤمنين بعضهم على بعض و هذا مما يشترك فيه الخلفاء الأربعة و سائر أهل بدر و أهل بيعة الرضوان فكلهم بعضهم أولياء بعض و لم تدل الآية على أحد منهم يكون أميرا على غيره بل هذا باطل من وجوه كثيرة إذ لفظ الولي و الولاية غير لفظ الوالي و الآية عامة في المؤمنين و المارة لا تكون عامة.الوجه السابع عشر: أنه لو أراد الولاية التي هي إلا مارة لقال أنما يتولى عليكم الله و رسوله و الذين آمنوا و لم يقل و من يتولى الله و رسوله فأنه لا يقال لمن ولي عليهم وال أنهم يقولون تولوه بل يقال تولى عليهم

 

الوجه الثامن عشر: أن الله سبحانه و تعالى لا يوصف بأنه متول على عباده و أنه أمير عليهم جل جلاله و تقدست أسماؤه فأنه خالقهم و رازقهم و ربهم و مليكهم له الخلق و الأمر و لا يقال أن الله أمير المؤمنين كما يسمى المتولي مثل علي و غيره أمير المؤمنين بل الرسول صلى الله عليه و سلم أيضا لا يقال أنه متول على الناس و أنه أمير عليهم فأن قدره اجل من هذا بل أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يكونوا يسمونه إلا خليفة رسول الله و أول من سمي من الخلفاء أمير المؤمنين هو عمر رضي الله عنه و قد روي أن عبد الله بن جحش كان أميرا في سرية فسمي أمير المؤمنين لكن إمارة خاصة في تلك السرية لم يسم أحد بإمارة المؤمنين عموما قبل عمر و كان خليقا بهذا الاسم و أما الولاية المخالفة للعداوة فأنه يتولى عباده المؤمنين فيحبهم و يحبونه و يرضى عنهم و يرضون عنه و من عادى له وليا فقد بارزه بالمحاربة وهذه الولاية من رحمته و إحسانه ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجته إليه قال تعالى و قل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل فالله تعالى ليس له ولي من الذل بل هو القائل من كان يريد العزة فلله العزة جميعا بخلاف الملوك و غيرهم ممن يتولاه لذاته إذا لم يكن له ولي ينصره

 

 

الوجه التاسع عشر: أنه ليس كل من تولى عليه إمام عادل يكون من حزب الله و يكون غالبا فأن أئمة العدل يتولون على المنافقين و الكفار كما كان في مدينة النبي صلى الله عليه و سلم تحت حكمه ذميون و منافقون و كذلك كان تحت ولاية علي كفار و منافقون و الله تعالى يقول ومن يتول الله و رسوله و الذين آمنوا فأن حزب الله هم الغالبون فلو أراد الإمارة لكان المعنى أن كل من تأمر عليهم الذين آمنوا يكونون من حزبه الغالبين و ليس كذلك و كذلك الكفار و المنافقون تحت أمر الله الذي هو قضاؤه و قدره مع كونه لا يتولاهم بل يبغضهم.

*

فصل قال الرافضي البرهان الثاني قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و أن لم تفعل فما بلغت رسالته اتفقوا في نزولها في علي و روى أبو نعيم الحافظ من الجمهور بإسناده عن عطية قال نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه و سلم في علي بن أبي طالب ومن تفسير الثعلبي قال معناه بلغ ما أنزل إليك من ربك في فضل علي فلما نزلت هذه الآيه اخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه و النبي صلى الله عليه و سلم مولى أبي بكر و عمر و باقي الصحابة بالإجماع فيكون علي مولاهم فيكون هو الإمام و من تفسير الثعلبي لما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا فاخذ بيد علي و قال من كنت مولاه فعلي مولاه فشاع ذلك و طار في البلاد فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى أتى الأبطح فنزل عن ناقته وأناخها فعقلها فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو في ملا من أصحابه فقال يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا اله إلا الله و أنك رسول الله فقبلنا منك و أمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك و أمرتنا أن نزكي أموالنا فقبلناه منك و أمرتنا أن نصوم شهرا فقبلناه منك و أمرتنا أن نحج البيت فقبلناه منك ثم لم ترض

 

بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك و فضلته علينا و قلت من كنت مولاه فعلي مولاه و هذا منك أم من الله قال النبي صلى الله عليه و سلم و الله الذي لا اله إلا هو هو من أمر الله فولى الحارث يريد راحلته و هو يقول اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته و خرج من دبره فقتله و أنزل الله تعالى سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله و قد روي هذه الرواية النقاش من علماء الجمهور في تفسيره.

*و الجواب من وجوه...

أحدها: أن هذا اعظم كذبا و فرية من الأول كما سنبينه أن شاء الله تعالى و قوله اتفقوا على نزولها في علي اعظم كذبا مما قاله في تلك الآيه فلم يقل لا هذا و لا ذاك أحد من العلماء الذين يدرون ما يقولون و أما ما يرويه أبو نعيم في الحلية أو في فضائل الخلفاء و النقاش و الثعلبي و الواحدي و نحوهم في التفسير فقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن فيما يروونه كثيرا من الكذب الموضوع واتفقوا على أن هذا الحديث المذكور الذي رواه الثعلبي في تفسيره هو من الموضوع وسنبين أدلة يعرف بها أنه موضوع و ليس الثعلبي من أهل العلم بالحديث ولكن المقصود هنا أنا نذكر قاعدة فنقول المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب والمرجع في التمييز بين هذا و هذا إلى أهل علم الحديث كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب ونرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك فلكل علم رجال يعرفون به

 

و العلماء بالحديث اجل هؤلاء قدرا و أعظمهم صدقا و أعلاهم منزلة و اكثر دينا وهم من اعظم الناس صدقا و أمانة و علما و خبرة فيما يذكرونه عن الجرح و التعديل مثل مالك و شعبة و سفيان و يحيى بن سعيد و عبد الرحمن بن المهدي و ابن المبارك ووكيع و الشافعي و احمد و إسحاق بن راهويه و أبي عبيد و ابن معين وابن المديني و البخاري ومسلم و أبي داود و أبي زرعة و أبي حاتم و النسائي و العجلي و أبي احمد بن عدي و أبي حاتم البستي و الدار قطني و أمثال هؤلاء خلق كثير لا يحصى عددهم من أهل العلم بالرجال و الجرح و التعديل و أن كان بعضهم اعلم بذلك من بعض و بعضهم اعدل من بعض في وزن كلامه كما أن الناس في سائر العلوم كذلك و قد صنف للناس كتبا في نقلة الأخبار كبارا و صغارا مثل الطبقات لابن سعد و تاريخي البخاري و الكتب المنقولة عن احمد بن حنبل و يحيى بن معين و غيرهما و قبلها عن يحيى بن سعيد القطان و غيره و كتاب يعقوب بن سفيان و ابن أبي خيثمة و ابن أبي حاتم و كتاب بن عدي و كتب أبي حازم و أمثال ذلك وصنفت كتب الحديث تارة على المساند فتذكر ما اسنده الصاحب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كمسند احمد و إسحاق و أبي داود

 

الطيالسي و أبي بكر بن أبي شيبة و محمد بن أبي عمر و العدني و احمد بن منيع و أبي يعلى الموصلي و أبي بكر البزار البصري و غيرهم وتارة على الأبواب فمنهم من قصد مقصده الصحيح كالبخاري و مسلم و ابن خزيمة و أبي حاتم و غيرهم و كذلك من خرج على الصحيحين كإلاسماعيلي و البرقاني و أبي نعيم غيرهم و منهم من خرج أحاديث السنن كأبي داود والنسائي ابن ماجة و غيرهم و منهم من خرج الجامع الذي يذكر فيه الفضائل و غيرها كالترمذي و غيره و هذا علم عظيم من اعظم علوم الإسلام و لا ريب أن الرافضة اقل معرفة بهذا الباب و ليس في أهل الأهواء و البدع اجهل منهم به فأن سائر أهل الأهواء كالمعتزلة و الخوارج مقصورون وفي معرفة هذا ولكن المعتزلة اعلم بكثير من الخوارج و الخوارج اعلم بكثير من الرافضة و الخوارج اصدق من الرافضة و أدين اورع بل الخوارج لا نعرف عنهم أنهم يتعمدون الكذب بل هم من اصدق الناس والمعتزلة مثل سائر الطوائف فيهم من يكذب و فيهم من يصدق لكن ليس لهم من العناية بالحديث و معرفته ما لأهل الحديث و السنة فأن هؤلاء يتدينون به فيحتاجون إلى أن يعرفوا ما هو الصدق

 

وأهل البدع سلكوا طريقا آخر ابتدعوها اعتمدوا عليها و لا يذكرون الحديث بل و لا القرآن في أصولهم للاعتضاد لا للاعتماد والرافضة اقل معرفة و عناية بهذا إذ كانوا لا ينظرون في الإسناد و لا في سائر الأدلة الشرعية و العقلية هل توافق ذلك أو تخالفه و لهذا لا يوجد لهم أسانيد متصلة صحيحة قط بل كل إسناد متصل لهم فلا بد من أن يكون فيه من هو معروف بالكذب أو كثرة الغلط وهم في ذلك شبيه باليهود و النصارى فأنه ليس لهم إسناد و الإسناد من خصائص هذه الأمة و هم من خصائص الإسلام ثم هو في الإسلام من خصائص أهل السنة و الرافضة من اقل الناس عناية إذ كانوا لا يصدقون إلا بما يوافق أهواءهم و علامة كذبه أنه يخالف هواهم و لهذا قال عبد الرحمن بن مهدي أهل العلم يكتبون ما لهم و ما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم ثم أن أولهم كانوا كثيري الكذب فانتقلت أحاديثهم إلى قوم لا يعرفون الصحيح من السقيم فلم يمكنهم التمييز إلا بتصديق الجميع أو تكذيب الجميع و الاستدلال على ذلك بدليل منفصل غير الإسناد

 

===========

 

ج12. كتاب : منهاج السنة النبوية

 

المؤلف : شيخ الإسلام بن تيمية

 

 

إذا كان هذا مما يقع معصية لله ورسوله فما يفعله ولى الأمر من إقامة حد وتعزير يكون تكفير الخطايا به أولى وكانوا في زمن عمر إذا شرب أحدهم الخمر جاء بنفسه إلى الأمير وقال طهرني وقد جاء ماعز بن مالك والغامدية إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبا منه التطهير وإذا كان كذلك فكون الرجل وليا لله لا يمنع أن يحتاج إلى ما يكفر الله به سيئاته من تأديب ولي الأمر الذي أمره الله عليه وغير ذلك وإذا قيل هم مجتهدون معذورون فيما أدبهم عليه عثمان فعثمان أولى أن يقال فيه كان مجتهدا معذورا فيما أدبهم عليه فإنه إمام مأمور بتقويم رعيته وكان عثمان أبعد عن الهوى وأولى بالعلم والعدل فيما أدبهم عليه رضي الله عنهم أجمعين ولو قدح رجل في علي بن أبي طالب بأنه قاتل معاوية وأصحابه وقاتل طلحة والزبير لقيل له علي بن أبي طالب أفضل وأولى بالعلم والعدل من الذين قاتلوه فلا يجوز أن يجعل الذين قاتلوه هم العادلين وهو ظالم لهم كذلك عثمان فيمن أقام عليه حدا أو تعزيرا هو أولى بالعلم والعدل منهم وإذا وجب الذب عن علي لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك فالذب عن عثمان لمن يريد أن يتكلم فيه بمثل ذلك أولى

 

 

وقوله وطرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة ومعه ابنه مروان فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما ولى عثمان آواه ورده إلى المدينة وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره مع أن الله قال لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله الآية (سورة المجادلة). والجواب أن الحكم بن أبي العاص كان من مسلمة الفتح وكانوا ألفى رجل ومروان ابنه كان صغيرا إذ ذاك فإنه من أقران ابن الزبير والمسور بن مخرمة عمره حين الفتح سن التمييز إما سبع سنين أو أكثر بقليل أو أقل بقليل فلم يكن لمروان ذنب يطرد عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه وقالوا هو ذهب باختياره وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح ولا لها إسناد يعرف به أمرها ومن الناس من يروي أنه حاكى النبي صلى الله عليه وسلم في مشيته ومنهم من يقول غير ذلك ويقولون إنه نفاه إلى الطائف

 

 

والطلقاء ليس فيهم من هاجر بل قال النبي صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ولما قدم صفوان بن أمية مهاجرا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مكة ولما أتاه العباس برجل ليبايعه على الهجرة وأقسم عليه أخذ بيده وقال إني أبررت قسم عمي ولا هجرة بعد الفتح وكان العباس قد خرج من مكة إلى المدينة قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إليها عام الفتح فلقيه في الطريق فلم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه كما تقدم وقالوا هو ذهب باختياره والطرد هو النفي والنفي قد جاءت به السنة في الزاني وفي المخنثين وكانوا يعزرون بالنفي وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزر رجلا بالنفي لم يلزم أن يبقى منفيا طول الزمان فإن هذا لا يعرف في شىء من الذنوب ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه

 

 

منفيا دائما بل غاية النفي المقدر سنة وهو نفي الزاني والمخنث حتى يتوب من التخنيث فإن كان تعزير الحاكم لذنب حتى يتوب منه فإذا تاب سقطت العقوبة عنه وإن كانت على ذنب ماض فهو أمر اجتهادى لم يقدر فيه قدر ولم يوقت فيه وقت وإذا كان كذلك فالنفي كان في آخر الهجرة فلم تطل مدته في زمن أبي بكر وعمر فلما كان عثمان طالت مدته وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن أبي سرح إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان كاتبا للوحي وارتد عن الإسلام وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه فيمن أهدر ثم جاء به عثمان فقبل النبي صلى الله عليه وسلم شفاعته فيه وبايعه فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم وقد رووا أن عثمان سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يرده فأذن له في ذلك ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب عبد الله بن سعيد بن أبي سرح وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد الثابت وأما قصة الحكم فعامة من ذكرها إنما ذكرها مرسلة وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه وقل أن يسلم لهم نقلهم من الزيادة والنقصان فلم يكن هنا نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان

 

 

والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له وثنائه عليه وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة ومبايعة له عنه لما أرسله إلى مكة وتقديم الصحابة له باختيارهم في الخلافة وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا يعرف حقيقته بل مثل هذا مثل الذين يعارضون المحكم بالمتشابه وهذا من فعل الذين في قلوبهم زيغ الذين يبتغون الفتنة ولا ريب أن الرافضة من شرار الزائغين الذين يبتغون الفتنة الذين ذمهم الله ورسوله وبالجملة فنحن نعلم قطعا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمر بنفي أحد دائما ثم يرده عثمان معصية لله ورسوله ولا ينكر ذلك عليه المسلمون وكان عثمان رضي الله عنه أتقى لله من أن يقدم على مثل هذا بل هذا مما يدخله الاجتهاد فلعل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يرداه لأنه لم يطلب ذلك منهما وطلبه من عثمان فأجابه إلى ذلك أو لعله لم يتبين لهما توبته وتبين ذلك لعثمان وغاية ما يقدر أن يكون هذا خطأ من الاجتهاد أو ذنبا وقد تقدم الكلام على ذلك

 

 

وأما استكتابه مروان فمروان لم يكن له في ذلك ذنب لأنه كان صغيرا لم يجر عليه القلم ومات النبي صلى الله عليه وسلم ومروان لم يبلغ الحلم باتفاق أهل العلم بل غايته أن يكون له عشر سنين أو قريب منها وكان مسلما باطنا وظاهرا يقرأ القرآن ويتفقه في الدين ولم يكن قبل الفتنة معروفا بشىء يعاب به فلا ذنب لعثمان في استكتابه وأما الفتنة فأصابت من هو أفضل من مروان ولم يكن مروان ممن يحاد الله ورسوله وأما أبوه الحكم فهو من الطلقاء والطلقاء حسن إسلام أكثرهم وبعضهم فيه نظر ومجرد ذنب يعزر عليه لا يوجب أن يكون منافقا في الباطن والمنافقون تجري عليهم في الظاهر أحكام الإسلام ولم يكن أحد من الطلقاء بعد الفتح يظهر المحادة لله ورسوله بل يرث ويورث ويصلي عليه ويدفن في مقابر المسلمين وتجري عليه أحكام الإسلام التي تجري على غيره وقد عرف نفاق جماعة من الأوس والخزرج كعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله ومع هذا كان المؤمنون يتعصبون لهم أحيانا كما تعصب سعد بن عبادة لابن أبي بين يدى رسول الله صلى الله عليهوسلم وقال لسعد بن معاذ والله لا تقتله ولا تقدر على قتله وهذا وإن كان ذنبا من سعد لم يخرجه ذلك عن الإيمان بل سعد من أهل الجنة ومن السابقين الأولين من الأنصار فكيف بعثمان إذا آوى رجلا لا يعرف أنه منافق ولو كان منافقا لم يكن الإحسان إليه موجبا للطعن في عثمان فإن الله تعالى يقول لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (سورة الممتحنة). وقد ثبت في الصحيح أن أسماء بنت أبي بكر قالت يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها قال نعم صلى أمك وقد أوصت صفية بنت حيى بن أخطب لقرابة لها من اليهود فإذا كان الرجل المؤمن قد يصل أقاربه الكفار ولا يخرجه ذلك عن الإيمان فكيف إذا وصل أقاربه المسلمين وغاية ما فيهم أن يتهموا بالنفاق

 

 

و أم المؤمنين صفية بنت حيى بن أخطب كان أبوها من رءوس اليهود المحادين لله ورسوله وكانت هي امرأة صالحة من أمهات المؤمنين المشهود لها بالجنة ولما ماتت أوصت لبعض أقاربها من اليهود وكان ذلك مما تحمد عليه لا مما تذم عليه وهذا مما احتج به الفقهاء على جواز صلة المسلم لأهل الذمة بالصدقة عليهم والوصية لهم فكيف بأمير المؤمنين إذا أحسن إلى عمه المظهر للإسلام وهذا حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة لشهوده بدرا والحديبية وقال لمن قال إنه منافق ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأين حاطب من عثمان فلو قدر والعياذ بالله أن عثمان فعل مع أقاربه ما هو من هذا الجنس لكان إحساننا القول فيه والشهادة له بالجنة أولى بذلك من حاطب بن أبي بلتعة وأما قوله إنه نفى أبا ذر إلى الربذة وضربه ضربا وجيعا مع أن

 

 

النبي صلى الله عليه وسلم قال في حقه ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذى لهجة أصدق من أبي ذر وقال إن الله أوحى إلى أنه يحب أربعة من أصحابي وأمرني بحبهم فقيل له من هم يا رسول الله قال علي سيدهم وسلمان والمقداد وأبو ذر فالجواب أن أبا ذر سكن الربذة ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس فإن أبا ذر رضي الله عنه كان رجلا صالحا زاهدا وكان من مذهبه أن الزهد واجب وأن ما أمسكه الإنسان فاضلا عن حاجته فهو كنز يكوي به في النار واحتج على ذلك بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة احتج بقوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله (سورة التوبة). وجعل الكنز ما يفضل عن الحاجة واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه قال يا أبا ذر ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا يمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار إلا دينارا أرصده لدين وأنه قال الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذاولما توفي عبد الرحمن بن عوف وخلف مالا جعل أبو ذر ذلك من الكنز الذي يعاقب عليه وعثمان يناظره في ذلك حتى دخل كعب ووافق عثمان فضربه أبو ذر وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام بهذا السبب وقد وافق أبا ذر على هذا طائفة من النساك كما يذكر عن عبد الواحد ابن زيد ونحوه ومن الناس من يجعل الشبلي من أرباب هذا القول وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة فنفى الوجوب فيما دون المائتين ولم يشترط كون صاحبها محتاجا إليها أم لا وقال جمهور الصحابة الكنز هو المال الذي لم تؤد حقوقه وقد قسم

 

 

الله تعالى المواريث في القرآن ولا يكون الميراث إلا لمن خلف مالا وقد كان غير واحد من الصحابة له مال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار بل ومن المهاجرين وكان غير واحد من الأنبياء له مال وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم ويذمهم على ما لم يذمهم الله عليه مع أنه مجتهد في ذلك مثاب على طاعته رضي الله عنه كسائر المجتهدين من أمثاله وقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إيجاب إنما قال ما أحب أن يمضي على ثالثة وعندي منه شىء فهذا يدل على استحباب إخراج ذلك قبل الثالثة لا على وجوبه وكذا قوله المكثرون هم المقلون دليل على أن من كثر ماله قلت حسناته يوم القيامة إذا لم يكثر الإخراج منه وذلك لا يوجب أن يكون الرجل القليل الحسنات من أهل النار إذا لم يأت كبيرة ولم يترك فريضة من فرائض الله وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقوم رعيته تقويما تاما فلا يعتدي لا الأغنياء والفقراء فلما كان في خلافة عثمان توسع الأغنياء في الدنيا حتى زاد كثير منهم على قدر المباح في المقداروالنوع وتوسع أبو ذر في الإنكار حتى نهاهم عن المباحات وهذا من أسباب الفتن بين الطائفتين فكان اعتزال أبي ذر لهذا السبب ولم يكن لعثمان مع أبي ذر غرض من الأغراض وأما كون أبي ذر من أصدق الناس فذاك لا يوجب أنه أفضل من غيره بل كان أبو ذر مؤمنا ضعيفا كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لاتأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير وأهل الشورى مؤمنون أقوياء وأبو ذر وأمثاله مؤمنون ضعفاء

 

 

فالمؤمنون الصالحون لخلافة النبوة كعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف أفضل من أبي ذر وأمثاله والحديث المذكور بهذا اللفظ الذي ذكره الرافضي ضعيف بل موضوع وليس له إسناد يقوم به وأما قوله إنه ضيع حدود الله فلم يقتل عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان مولى أمير المؤمنين بعد إسلامه وكان أمير المؤمنين يطلب عبيد الله لإقامة القصاص عليه فلحق بمعاوية وأراد أن يعطل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حده أمير المؤمنين وقال لا تبطل حدود الله وأنا حاضر فالجواب أما قوله إن الهرمزان كان مولى علي فمن الكذب الواضح فإن الهرمزان كان من الفرس الذين استنابهم كسرى على قتال المسلمين فأسره المسلمون وقدموا به على عمرفأظهر الإسلام فمن عليه عمر وأعتقه فإن كان عليه ولاء فهو للمسلمين وإن كان الولاء لمن باشر العتق فهو لعمر وإن لم يكن عليه ولاء بل هو كالأسير إذا من عليه فلا ولاء عليه فإن العلماء تنازعوا في الأسير إذا أسلم هل يصير رقيقا بإسلامه أم يبقى حرا يجوز المن عليه والمفاداة كما كان قبل الإسلام مع اتفاقهم على أنه عصم بالإسلام دمه وفي المسألة قولان مشهوران هما قولان في مذهب أحمد وغيره وليس لعلي سعى لا في استرقاقه ولا في إعتاقه ولما قتل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان الذي قتله أبو لؤلؤة الكافر المجوسي مولى المغيرة بن شعبة وكان بينه وبين الهرمزان مجانسة وذكر لعبيد الله بن عمر أنه رؤى عند الهرمزان حين قتل عمر فكان ممن أتهم بالمعاونة على قتل عمر وقد قال عبد الله بن عباس لما قتل عمر وقال له عمر قد كنت

 

 

أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة فقال إن شئت أن نقتلهم فقال كذبت أما بعد إذ تكلموا بلسانكم وصلوا إلى قبلتكم فهذا ابن عباس وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقا الذين كانوا بالمدينة لما اتهموهم بالفساد اعتقد جواز مثل هذا فكيف لا يعتقد عبد الله جواز قتل الهرمزان فلما استشار عثمان الناس في قتله فأشار عليه طائفة من الصحابة أن لا تقتله فإن أباه قتل بالامس ويقتل هو اليوم فيكون في هذا فساد في الإسلام وكأنهم وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان وهل كان من الصائلين الذين كانوا يستحقون الدفع أو من المشاركين في قتل عمر الذين يستحقون القتل وقد تنازع الفقهاء في المشتركين في القتل إذا باشر بعضهم دونبعض فقيل لا يجب القود إلا على المباشر خاصة وهو قول أبي حنيفة وقيل إذا كان السبب قويا وجب على المباشر والمتسبب كالمكره والمكره وكالشهود بالزنا والقصاص إذا رجعوا وقالوا تعمدنا وهذا مذهب الجمهور كمالك والشافعي وأحمد ثم إذا أمسك واحد وقتله الآخر فمالك يوجب القود على الممسك والقاتل وهو إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى يقتل القاتل ويحبس الممسك حتى يموت كما روى عن ابن عباس وقيل لا قود إلا على القاتل كقول أبي حنيفة والشافعي وقد تنازعوا أيضا في الآمر الذي لم يكره إذا أمر من يعتقد أن القتل محرم هل يجب القود على الآمر على قولين وأما الردء فيما يحتاج فيه إلى المعاونة كقطع الطريق فجمهورهم على أن الحد يجب على الردء والمباشرة جميعا وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد وكان عمر بن الخطاب يأمر بقتل الربيئة وهو الناطور لقطاع الطريق

 

 

وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر جاز قتله في أحد القولين قصاصا وعمر هو القائل في المقتول بصنعاء لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به وأيضا فقد تنازع الناس في قتل الأئمة هل يقتل قاتلهم حدا أو قصاصا على قولين في مذهب أحمد وغيره أحدهما أنهم يقتلون حدا كما يقتل القاتل في المحاربة حدا لأن قتل الأئمة فيه فساد عام أعظم من فساد قطاع الطريق فكان قاتلهم محاربا لله ورسوله ساعيا في الأرض فسادا وعلى هذا خرجوا فعل الحسن بن علي رضي الله عنهما لما قتل ابن ملجم قاتل علي وكذلك قتل قتلة عثمان وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان من المفسدين في الأرض المحاربين فيجب قتله لذلك ولو قدر أن المقتول معصوم الدم يحرم قتله لكن كان القاتل متأولا يعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة صار ذلك شبهة تدرأ القتل عن القاتل كما أن أسامة بن زيد لما قتل ذلك الرجل بعدما قال لا إله إلا الله واعتقد أن هذا القول لا يعصمه عزره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلام ولم يقتله لأنه كان متأولا لكن الذي قتله أسامة كان مباحا قبل القتل فشك في العاصم

 

 

وإذا كان عبيد الله بن عمر متأولا يعتقد أن الهرمزان أعان على قتل أبيه وأنه يجوز له قتله صارت هذه شبهة يجوز أن يجعلها المجتهد مانعة من وجوب القصاص فإن مسائل القصاص فيها مسائل كثيرة اجتهادية وأيضا فالهرمزان لم يكن له أولياء يطلبون دمه وإنما وليه ولي الأمر ومثل هذا إذا قتله قاتل كان للإمام قتل قاتله لأنه وليه وكان له العفو عنه إلى الديه لئلا تضيع حقوق المسلمين فإذا قدر أن عثمان عفا عنه ورأى قدر الدية أن يعطيها لآل عمر لما كان على عمر من الدين فإنه كان عليه ثمانون ألفا وأمر أهله أن يقضوا دينه من أموال عصبته عاقلته بني عدي وقريش فإن عاقلة الرجل هم الذين يحملون كله والدية لو طالب بها عبيد الله أو عصبة عبيد الله إذا كان قتله خطأ أو عفا عنه إلى الدية فهم الذين يؤدون دين عمر فإذا أعان بها في دين عمر كان هذا من محاسن عثمان التي يمدح بها لا يذم وقد كانت أموال بيت المال في زمن عثمان كثيرة وكان يعطى الناس عطاء كثيرا أضعاف هذا فكيف لا يعطى هذا لآل عمروبكل حال فكانت مسألة اجتهادية وإذا كانت مسألة اجتهادية وقد رأى طائفة كثيرة من الصحابة أن لا يقتل ورأى آخرون أن يقتل لم ينكر على عثمان ما فعله باجتهاده ولا على علي ما قاله باجتهاده وقد ذكرنا تنازع العلماء في قتل الأئمة هل هو من باب الفساد الذي يجب قتل صاحبه حتما كالقاتلين لأخذ المال أم قتلهم كقتل الآحاد الذين يقتل أحدهم الآخر لغرض خاص فيه فيكون على قاتل أحدهم القود وذكرنا في ذلك قولين وهما قولان في مذهب أحمد وغيره وذكرهما القاضي أبو يعلى وغيره فمن قال إن قتلهم حد قال إن جنايتهم توجب من الفتنة والفساد أكثر مما يوجبه جناية بعض قطاع الطريق لأخذ المال فيكون قاتل الأئمة من المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادا ويدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله

 

 

عليه وسلم أنه قال من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان فأمر بقتل الواحد المريد لتفريق الجماعة ومن قتل إمام المسلمين فقد فرق جماعتهم ومن قال هذا قال إن قاتل عمر يجب قتله حتما وكذلك قتله عثمان يجب قتلهم حتما وكذلك قاتل علي يجب قتله حتما وبهذا يجاب عن ابنه الحسن بن علي وغيره من يعترض عليهم فنقول كيف قتلوا قاتل علي وكان في ورثته صغار وكبار والصغار لم يبلغوا فيجاب عن الحسن بجوابين أحدهما أن قتله كان واجبا حتما لأن قتل علي وأمثاله من أعظم المحاربة لله ورسوله والفساد في الأرض ومنهم من يجيب بجواز انفراد الكبار بالقود كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين وإذا كان قتل عمر وعثمان وعلي ونحوهم من باب المحاربة فالمحاربة يشترك فيها الردء والمباشر عند الجمهور فعلى هذا من أعانعلى قتل عمر ولو بكلام وجب قتله وكان الهرمزان ممن ذكر عنه أنه أعان على قتل عمر بن الخطاب وإذا كان الأمر كذلك كان قتله واجبا ولكن كان قتله إلى الأئمة فافتات عبيد الله بقتله وللإمام أن يعفو عمن افتات عليه وأما قوله إن عليا كان يريد قتل عبيد الله بن عمر فهذا لو صح كان قدحا في علي والرافضة لا عقول لهم يمدحون بما هو إلى الذم أقرب فإنها مسألة اجتهاد وقد حكم حاكم بعصمة الدم فكيف يحل لعلي نقضه وعلي ليس ولي المقتول ولا طلب ولي المقتول القود وإذا كان حقه لبيت المال فللإمام أن يعفو عنه وهذا مما يذكر في عفو عثمان وهو أن الهرمزان لم يكن له عصبة إلا السلطان وإذا قتل من لا ولى له كان الإمام أن يقتل قاتله وله أن لا يقتل قاتله ولكن يأخذ الدية والدية حق للمسلمين فيصرفها في مصارف الأموال وإذا ترك لآل عمر دية مسلم كان هذا بعض ما يستحقونه على المسلمين وبكل حال فلم يكن بعد عفو عثمان وحكمه بحقن دمه يباح قتله

 

 

أصلا وما أعلم في هذا نزاعا بين المسلمين فكيف يجوز أن ينسب إلى علي مثل ذلك ثم يقال يا ليت شعري متى عزم علي على قتل عبيد الله ومتى تمكن علي من قتل عبيد الله أو متى تفرغ له حتى ينظر في أمره وعبيد الله كان معه ألوف مؤلفة من المسلمين مع معاوية وفيهم خير من عبيد الله بكثير وعلي لم يمكنه عزل معاوية وهو عزل مجرد أفكان يمكنه قتل عبيد الله ومن حين مات عثمان تفرق الناس وعبد الله بن عمر الرجل الصالح لحق بمكة ولم يبايع أحدا ولم يزل معتزل الفتنة حتى اجتمع الناس على معاوية مع محبته لعلي ورؤيته له أنه هو المستحق للخلافة وتعظيمه له وموالاته له وذمه لمن يطعن عليه ولكن كان لا يرى الدخول في القتال بين المسلمين ولم يمتنع عن موافقة على إلا في القتال وعبيد الله بن عمر لحق معاوية بعد مقتل عثمان كما لحقه غيره ممن كانوا يميلون إلى عثمان وينفرون عن علي ومع هذا فلم يعرف لعبيدالله من القيام في الفتنة ما عرف لمحمد بن أبي بكر والأشتر النخعي وأمثالهما فإنه بعد القتال وقع الجميع في الفتنة وأما قبل مقتل عثمان فكان أولئك ممن أثار الفتنة بين المسلمين

 

 

ومن العجب أن دم الهرمزان المتهم بالنفاق والمحاربة لله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد تقام فيه القيامة ودم عثمان يجعل لا حرمة له وهو إمام المسلمين المشهود له بالجنة الذي هو وإخوانه أفضل الخلق بعد النبين ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء وأصبر الناس على من نال من عرضه وعلى من سعى في دمه فحاصروه وسعوا في قتله وقد عرف إرادتهم لقتله وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم وروى أنه قال لمماليكه من كف يده فهو حر وقيل له تذهب إلى مكة فقال لا أكون ممن الحد في الحرم فقيل له تذهب إلى الشام فقال لا أفارق دار هجرتي فقيل له فقاتلهم فقال لا أكون أول من خلف محمدا في أمته بالسيف فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين ومعلوم أن الدماء الكثيرة التي سفكت باجتهاد علي ومن قاتله لم يسفك قبلها مثلها من دماء المسلمين فإذا كان ما فعله علي مما لا يوجب القدح في علي بل كان دفع الظالمين لعلي من الخوارج وغيرهم من النواصب

 

 

القادحين في علي واجبا فلأن يجب دفع الظالمين القادحين في عثمان بطريق الأولى والأحرى إذ كان بعد عثمان عن استحلال دماء المسلمين أعظم من بعد علي عن ذلك بكثير كثير وكان من قدح في عثمان بأنه كان يستحل إراقة دماء المسلمين بتعطيل الحدود كان قد طرق من القدح في علي ماهو أعظم من هذا وسوغ لمن أبغض عليا وعاداه وقاتله أن يقول إن عليا عطل الحدود الواجبة على قتلة عثمان وتعطيل تلك الحدود إن كانت واجبة أعظم فسادا من تعطيل حد وجب بقتل الهرمزان وإذا كان من الواجب الدفع عن علي بأنه كان معذورا باجتهاد أو عجز فلأن يدفع عن عثمان بأنه كان معذورا بطريق الأولى وأما قوله أراد عثمان تعطيل حد الشرب في الوليد بن عقبة حتى حده أمير المؤمنين فهذا كذب عليهما بل عثمان هو الذي أمر عليا بإقامة الحد عليهكما ثبت ذلك في الصحيح وعلي خفف عنه وجلده أربعين ولو جلده ثمانين لم ينكر عليه عثمان وقول الرافضي إن عليا قال لا يبطل حد الله وأنا حاضر فهو كذب وإن كان صدقا فهو من أعظم المدح لعثمان فإن عثمان قبل قول علي ولم يمنعه من إقامة الحد مع قدرة عثمان على منعه لو أراد فإن عثمان كان إذا أراد شيئا فعله ولم يقدر على علي منعه وإلا

 

 

فلو كان علي قادرا على منعه مما فعله من الأمور التي أنكرت عليه ولم يمنعه مما هو عنده منكر مع قدرته كان هذا قدحا في علي فإذا كان عثمان أطاع عليا فيما أمره به من إقامة الحد دل ذلك على دين عثمان وعدله وعثمان ولى الوليد بن عقبة هذا على الكوفة وعندهم أن هذا لم يكن يجوز فإن كان حراما وعلي قادر على منعه وجب على علي منعه فإذا لم يمنعه دل على جوازه عند علي أو على عجز علي وإذا عجز عن منعه عن الإمارة فكيف لا يعجز عن ضربه الحد فعلم أن عليا كان عاجزا عن حد الوليد لولا أن عثمان أراد ذلك فإذا أراده عثمان دل على دينه وقائل هذا يدعي أن الحدود ما زالت تبطل وعلي حاضر حتى في ولايته يدعون أنه كان يدع الحدود خوفا وتقية فإن كان قال هذا ولم يقله إلا لعلمه بأن عثمان وحاشيته يوافقونه على إقامة الحدود وإلا فلو كان يتقي منهم لما قال هذا ولا يقال إنه كان أقدر منهم على ذلك فإن قائل هذا يدعي أنه كان عاجزا لا يمكنه إظهار الحق بينهم

 

 

ودليل هذا أنه لم يمكنه عندهم إقامة الحد على عبيد الله بن عمر وعلى نواب عثمان وغيرهم والرافضة تتكلم بالكلام المتناقض الذي ينقض بعضه بعضا وأما قوله إنه زاد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو بدعة فصار سنة إلى الآن فالجواب أن عليا رضي الله عنه كان ممن يوافق على ذلك في حياة عثمان وبعد مقتله ولهذا لما صار خليفة لم يأمر بإزالة هذا الأذان كما أمر بما أنكره من ولاية طائفة من عمال عثمان بل أمر بعزل معاوية وغيره ومعلوم أن إبطال هذه البدعة كان أهون عليه من عزل أولئك ومقاتلتهم التي عجز عنها فكان علي إزالة هذه البدعة من الكوفة ونحوها من أعماله أقدر منه على إزالة أولئك ولو أزال ذلك لعلمه الناس ونقلوه فإن قيل كان الناس لا يوافقونه على إزالتها قيل فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على استحبابها واستحسانها حتى الذين قاتلوا مع علي كعمار وسهل بن حنيف وغيرهما من السابقين الأولين وإلا فهؤلاء الذين هم أكابر الصحابة لو أنكروا لم يخالفهم غيرهم وإن قدر أن في الصحابة من كان ينكر

 

 

هذا ومنهم من لا ينكره كان ذلك من مسائل الاجتهاد ولم يكن هذا مما يعاب به عثمان وقول القائل هي بدعة إن أراد بذلك أنه لم يكن يفعل قبل ذلك فكذلك قتال أهل القبلة بدعة فإنه لم يعرف أن إماما قاتل أهل القبلة قبل علي وأين قتال أهل القبلة من الأذان فإن قيل بل البدعة ما فعل بغير دليل شرعي قيل لهم فمن أين لكم أن عثمان فعل هذا بغير دليل شرعي وإن عليا قاتل أهل القبلة بدليل شرعي وأيضا فإن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحدث في خلافته العيد الثاني بالجامع فإن السنة المعروفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان أنه لا يصلي في المصر إلا جمعة واحدة ولا يصلى يوم النحر والفطر إلا عيد واحد والجمعة كانوا يصلونها في المسجد والعيد يصلونه بالصحراء وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة وعرفة قبل الصلاة وفي العيد بعد الصلاة واختلف عنه في الاستسقاء فلما كان على عهد علي قيل له إن بالبلد ضعفاء لا يستطيعون

 

 

الخروج إلى المصلى فاستخلف عليهم رجلا صلى بالناس بالمسجد قيل إنه صلى ركعتين بتكبير وقيل بل صلى أربعا بلا تكبير وأيضا فإن ابن عباس عرف في خلافة علي بالبصرة ولم يرو عن علي أنه أنكر ذلك وما فعله عثمان من النداء الأول اتفق عليه الناس بعده أهل المذاهب الأربعة وغيرهم كما اتفقوا على ما سنه أيضا عمر من جمع الناس في رمضان على إمام واحد وأما ما سنة علي من إقامة عيدين فتنازع العلماء فيه وفي الجمعة على ثلاثة أقوال قيل إنه لا يشرع في المصر إلا جمعة واحدة وعيد واحد كقول مالك وبعض أصحاب أبي حنيفة لأنه السنة وقيل بل يشرع تعدد صلاة العيد في المصر دون الجمعة كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين لكل قائل هذا بناه على أن صلاة العيد لا يشترط لها الإقامة والعدد كما يشترط للجمعة وقالوا إنها تصلى في الحضر والسفر وهذا خلاف المتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين وقيل بل يجوز عند الحاجة أن تصلي جمعتان في المصر كما صلى على عيدين للحاجة وهذا مذهب أحمد بن حنبل في المشهور عنه وأكثر أصحاب أبي حنيفة وأكثر المتأخرين من

 

 

أصحاب الشافعي وهؤلاء يحتجون بفعل علي بن أبي طالب لأنه من الخلفاء الراشدين وكذلك أحمد بن حنبل جوز التعريف بالأمصار واحتج بأن ابن عباس فعله بالبصرة وكان ذلك في خلافة علي وكان ابن عباس نائبه بالبصرة فأحمد بن حنبل وكثير من العلماء يتبعون عليا فيما سنه كما يتبعون عمر وعثمان فيما سناه وآخرون من العلماء كمالك وغيره لا يتبعون عليا فيما سنه وكلهم متفقون على اتباع عمر وعثمان فيما سناه فإن جاز القدح في عمر وعثمان فيما سناه وهذا حاله فلأن يقدح في علي فيما سنه وهذا حاله بطريق الأولى وإن قيل بأن ما فعله على سائغ لا يقدح فيه لأنه باجتهاده أو لأنه سنة يتبع فيه فلأن يكون ما فعله عمر وعثمان كذلك بطريق الأولى ومن هذا الباب ما يذكر مما فعله عمر مثل تضعيف الصدقة التي هي جزية في المعنى على نصارى بني تغلب وأمثال ذلك ثم من العجب أن الرافضة تنكر شيئا فعله عثمان بمشهد من الأنصار والمهاجرين ولم ينكروه عليه واتبعه المسلمون كلهم عليه في أذان الجمعة وهم قد زادوا في الأذان شعارا لم يكن يعرف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا نقل أحد أن النبي صلى الله عليه

 

 

وسلم أمر بذلك في الأذان وهو قولهم وحي على خير العمل وغاية ما ينقل إن صح النقل أن بعض الصحابة كابن عمر رضي الله عنهما كان يقول ذلك أحيانا على سبيل التوكيد كما كان بعضهم يقول بين النداءين حي على الصلاة حي على الفلاح وهذا يسمى نداء الأمراء وبعضهم يسميه التثويب ورخص فيه بعضهم وكرهه أكثر العلماء ورووا عن عمر وابنه وغيرهما كراهة ذلك ونحن نعلم بالاضطرار أن الأذان الذي كان يؤذنه بلال وابن أم مكتوم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأبو محذورة بمكة وسعد القرظ في قباء لم يكن فيه هذا الشعار الرافضي ولو كان فيه لنقله المسلمون ولم يهملوه كما نقلوا ما هو أيسر منه فلما لم يكن في الذين نقلوا الأذان من ذكر هذه الزيادة علم أنها بدعة باطلة وهؤلاء الأربعة كانوا يؤذنون بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ومنه تعلموا الأذان وكانوا يؤذنون في أفضل المساجد مسجة مكة ومسجد المدينة ومسجد قباء وأذانهم متواتر عند العامة والخاصةومعلوم أن نقل المسلمين للأذان أعظم من نقلهم إعراب آية كقوله وأرجلكم ونحو ذلك ولا شيء أشهر في شعائر الإسلام من الأذان فنقله أعظم من نقل سائر شعائر الإسلام وإن قيل فقد اختلف في صفته قيل بل كل ما ثبت به النقل فهو صحيح سنة ولا ريب أن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة الأذان وفيه الترجيع والإقامة مثناة كالأذان ولا ريب أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ولم يكن في أذانه ترجيع فنقل إفراد الإقامة صحيح بلا ريب ونقل تثنيتها صحيح بلا ريب وأهل العلم بالحديث يصححون هذا وهذا وهذا مثل أنواع التشهدات المنقولات ولكن اشتهر بالحجاز آخرا إفراد الإقامة التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم بلالا وأما الترجيع فهو يقال سرا وبعض الناس يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم علمه لأبي محذورة ليثبت الإيمان في قلبه لا أنه من الأذان فقد اتفقوا على

 

 

أنه لقنه أبا محذورة فلم يبق بين الناس خلاف في نقل الأذان المعروف وأما قوله وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل وعابوا أفعاله وقالوا له غبت عن بدر وهربت يوم أحد ولم تشهد بيعة الرضوان والأخبار في ذلك أكثر من أن تحصى فالجواب أما قوله وخالفه المسلمون كلهم حتى قتل فإن أراد أنهم خالفوه خلافا يبيح قتله أو أنهم كلهم أمروا بقتله ورضوا بقتله وأعانوا على قتله فهذا مما يعلم كل أحد أنه من أظهر الكذب فإنه لم يقتله إلا طائفة قليلة باغية ظالمة قال ابن الزبير لعنت قتلة عثمان خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية فقتلهم الله كل قتلة ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب يعني هربوا ليلا وأكثر المسلمين كانوا غائبين وأكثر أهل المدينة الحاضرين لم يكونوا يعلمون أنهم يريدون قتله حتى قتلوه وإن أراد أن كل المسلمين خالفوه في كل ما فعله أو في كل ما أنكر عليه فهذا أيضا كذب فما من شىء أنكر عليه إلا وقد وافقه عليه

 

 

كثير من المسلمين بل من علمائهم الذين لا يتهمون بمداهنة والذين وافقوا عثمان على ما أنكر عليه أكثر وأفضل عند المسلمين من الذين وافقوا عليا على ما أنكر عليه إما في كل الأمور وإما في غالبها وبعض المسلمين أنكر عليه بعض الأمور وكثير من ذلك يكون الصواب فيه مع عثمان وبعضه يكون فيه مجتهدا ومنه ما يكون المخالف له مجتهدا إما مصيبا وإما مخطئا وأما الساعون في قتله فكلهم مخطئون بل ظالمون باغون معتدون وإن قدر أن فيهم من قد يغفر الله له فهذا لا يمنع كون عثمان قتل مظلوما والذي قال له غبت عن بدر وبيعة الرضوان وهربت يوم أحد قليل جدا من المسلمين ولم يعين منهم إلا اثنان أو ثلاثة أو نحو ذلك وقد اجابهم عثمان وابن عمر وغيرهما عن هذا السؤال وقالوا يوم بدر غاب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ليخلفه عن ابنة النبي صلى الله عليه وسلم فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره ويوم الحديبية بايع النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان بيده ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير له من يده لنفسه وكانت البيعة

 

 

بسببه فإنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم رسولا إلى أهل مكة بلغه انهم قتلوه فبايع أصحابه على أن لا يفروا وعلى الموت فكان عثمان شريكا في البيعة مختصا بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم له وطلبت منه قريش أن يطوف بالبيت دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فامتنع من ذلك وقال حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يرسل عمر فأخبره أنه ليس له بمكة شوكة يحمونه وأن عثمان له بمكة بنو أمية وهم من أشراف مكة فهم يحمونه وأما التولي يوم أحد فقد قال الله تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ماكسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (سورة آل عمران). فقد عفا الله عن جميع المتولين يوم أحد فدخل في العفو من هو دون عثمان فكيف لا يدخل هو فيه مع فضله وكثرة حسناتهفصل قال الرافضي وقد ذكر الشهرستاني وهو من أشد المتعصبين على الإمامية أن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فأول تنازع وقع في مرضه ما رواه البخاري بإسناده إلى أبن عباس قال لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي توفي فيه فقال ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده فقال عمر إن الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله وكثر اللغط فقال النبي صلى الله عليه وسلم قوموا عني لا ينبغي عند التنازع الجواب أن يقال ما ينقله الشهرستاني وأمثاله من المصنفين في الممل والنحل عامته مما ينقله بعضهم عن بعض وكثير من ذلك لم يحرر فيه

 

 

أقوال المنقول عنهم ولم يذكر الإسناد في عامة ما ينقله بل هو ينقل من كتب من صنف المقالات قبله مثل أبي عيسى الوراق وهو من المصنفين للرافضة المتهمين في كثر مما ينقلونه ومثل أبي يحيى وغيرهما من الشيعة وينقل أيضا من كتب بعض الزيدية والمعتزلة الطاعنين في كثير من الصحابة ولهذا تجد نقل الأشعري أصح من نقل هؤلاء لأنه أعلم بالمقالات وأشد احترازا من كذب الكذابين فيها مع أنه يوجد في نقله ونقل عامة من ينقل المقالات بغير ألفاظ أصحابها ولا إسناد عنهم من الغلط ما يظهر به الفرق بين قولهم وبين ما نقل عنهم حتى في نقل الفقهاء بعضهم مذاهب بعض فإنه يوجد فيها غلط كثير وإن لم يكن الناقل ممن يقصد الكذاب بل يقع الغلط على من ليس له غرض في الكذب عنه بل هو معظم له أو متبع له ورسول الله صلى الله عليه وسلم كل المؤمنين متفقون على موالاته وتعظيمه ووجوب الباعة ومع هذا فغير علماء الحديث يكثر في نقلهم الغلط عليه ويزيدون في كلامه وينقصون نقصا يفسد المعنى الذي قصده بل يغلطون في معرفة أموره المشهورة المتواترة عند العامة وغيرهم

 

 

ونحن وإن كنا قد بينا كذب كثير مما ينقله هذا الرافضي فمعلوم أن كثيرا ممن ينقل ذلك لم يتعمد الكذب لا هذا ولا نحوه لكن وقع إما تعمدا للكذب من بعضهم وإما غلطا وسوء حفظ ثم قبله الباقون لعدم علمهم ولهواهم فإن الهوى يعمى ويصم وصاحب الهوى يقبل ما وافق هواه بلا حجة توجب صدقة ويرد ما خالف هواه بلا حجة توجب رده وليس في الطوائف أكثر تكذيبا بالصدق وتصديقا بالكذب من الرافضة فإن رؤوس مذهبهم وأئمته والذين ابتدعوه وأسسوه كانوا منافقين زنادقة كما ذكر ذلك عن غير واحد من أهل العلم وهذا طاهر لمن تأمله بخلاف قول الخوارج فإنه كان عن جهل بتأول القرآن وغلو في تعظيم الذنوب وكذلك قول الوعيدية والقدرية كان عن تعظيم الذنوب وكذلك قول المرجئة كان أصل مقصودهم نفى التكفير عمن صدق الرسل ولهذا رؤوس المذاهب التي ابتدعوها لم يقل أحد أنهم زنادقة منافقون بخلاف الرافضة فإن رؤوسهم كانوا كذلك مع أن كثيرا منهم ليسوا منافقين ولا كفارا بل بعضهم له إيمان وعمل صالح ومنهم من هو مخطىء يغفر له خطاياه ومنهم من هو صاحب ذنب يرجى له مغفرة الله لكن الجهل بمعنى القرآن والحديث

 

 

شامل لهم كلهم فليس فيهم إمام من أئمة المسلمين في العلم والدين وأصل المذهب إنما ابتدعه زنادقة منافقون مرادهم إفساد دين الإسلام وقد رأيت كثيرا من كتب أهل المقالات التي ينقلون فيها مذاهب الناس ورأيت أقوال أولئك فرأيت فيها اختلافا كثيرا وكثير من الناقلين ليس قصده الكذب لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم ثم إن غالب كتب أهل الكلام والناقلين للمقالات ينقلون في أصول الملل والنحل من المقالات ما يطول وصفه ونفس ما بعث الله به رسوله وما يقوله أصحابه والتابعون لهم في ذلك الأصل الذي حكوا فيه أقوال الناس لا ينقلونه لا تعمدا منهم لتركه بل لأنهم لم يعرفوه بل ولا سمعوه لقلة خبرتهم بنصوص الرسول وأصحابه والتابعين وكتاب المقالات للأشعري أجمع هذه الكتب وأبسطها وفيه من الأقوال وتحريرها ما لا يوجد في غيرها وقد نقل مذهب أهل السنة والحديث بحسب ما فهمه وظنه قولهم وذكر أنه يقول بكل ما نقله عنهم وجاء بعده من أتباعه كابن فورك من لم يعجبه ما نقله عنهم فنقص

 

 

من ذلك وزاد مع هذا فلكون خبرته بالكلام أكثر من خبرته بالحديث ومقالات السلف وأئمة السنة قد ذكر في غير موضع عنهم أقوالا في النفي والإثبات لا تنقل عن أحد منهم أصلا مثل ذلك الإطلاق لا لفظا ولا معنى بل المنقول الثابت عنهم يكون فيه تفصيل في نفي ذلك اللفظ والمعنى المراد وإثباته وهم منكرون الإطلاق الذي أطلقه من نقل عنهم ومنكرون لبعض المعنى الذي أراده بالنفي والإثبات والشهرستاني قد نقل في غير موضع أقوالا ضعيفة يعرفها من يعرف مقالات الناس مع أن كتابه أجمع من أكثر الكتب المصنفة في المقالات وأجود نقلا لكن هذا الباب وقع فيه ما وقع ولهذا لما كان خبيرا بقول الأشعرية وقول ابن سينا ونحوه من الفلاسفة كان أجود ما نقله قول هاتين الطائفتين وأما الصحابة والتابعون وائمة السنة والحديث فلا هو ولا أمثاله يعرفون أقوالهم بل ولا سمعوها على وجهها بنقل أهل العلم لها بالأسانيد المعروفة وإنما سمعوا جملا تشتمل على حق وباطل ولهذا إذا اعتبرت مقالاتهم الموجودة في مصنفاتهم الثابتة بالنقل

 

 

عنهم وجد من ذلك ما يخالف تلك النقول عنهم وهذا من جنس نقل التواريخ والسير ونحو ذلك من المرسلات والمقاطيع وغيرهما مما فيه صحيح وضعيف وإذا كان كذلك فنقول ما علم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر من محاسن الصحابة وفضائلهم لا يجوز أن يدفع بنقول بعضها منقطع وبعضها محرف وبعضها لا يقدح فيما علم فإن اليقين لا يزول بالشك ونحن قد تيقنا ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف قبلنا وما يصدق ذلك من المنقولات المتواترة من أدلة العقل من أن الصحابة رضي الله عنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء فلا يقدح في هذا أمور مشكوك فيها فكيف إذا علم بطلانها وأما قوله إن الشهرستاني من أشد المتعصبين على الإمامية فليس كذلك بل يميل كثير إلى أشياء من أمورهم بل يذكر أحيانا أشياء من كلام الإسماعيلية الباطنية وإن لم يكن الأمر كذلك وقد ذكر من اتهمه بعض الناس بأنه من الإسماعيلية وإن لم يكن الأمر كذلك وقد ذكر من اتهمه شواهد من كلامه وسيرته وقد يقال هو مع الشيعة بوجه ومع أصحاب الأشعرى بوجهوقد وقع في هذا كثير من أهل الكلام والوعاظ وكانوا يدعون بالأدعية المأثورة في صحيفة علي بن الحسين وإن كان أكثرها كذبا على علي ابن الحسين وبالجملة فالشهرستاني يظهر الميل إلى الشيعة إما بباطنه وإما مداهنة لهم فإن هذا الكتاب كتاب الملل والنحل صنفه لرئيس من رؤسائهم وكانت له ولاية ديوانية وكان للشهرستاني مقصود في استعطافه له وكذلك صنف له كتاب المصارعة بينه وبين ابن سينا لميله إلى التشيع والفلسفة وأحسن أحواله أن يكون من الشيعة إن لم يكن من الإسماعيلية أعني المصنف له ولهذا تحامل فيه للشيعة تحاملا بينا

 

 

وإذا كان في غير ذلك من كتبه يبطل مذهب الإمامية فهذا يدل على المداهنة لهم في هذا الكتاب لأجل من صنفه له وأيضا فهذه الشبهة التي حكاها الشهرستاني في أول كتاب الملل والنحل عن إبليس في مناظرته للملائكة لا تعلم إلا بالنقل وهو لم يذكر لها إسنادا بل لا إسناد لها أصلا فإن هذه لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة ولا عن أئمة المسلمين المشهورين ولا هي أيضا مما هو معلوم عند أهل الكتاب وهذه لا تعلم إلا بالنقل عن الأنبياء وإنما توجد في شيء من كتب المقالات وبعض كتب النصارى والشهرستاني أكثر ما ينقله من المقالات من كتب المعتزلة وهم يكذبون بالقدر فيشبه والله أعلم أن يكون بعض المكذبين بالقدر وضع هذه الحكاية ليجعلها حجة على المثبتين للقدر كما يضعون شعرا على لسان يهودي وغير ذلك فإنا رأينا كثيرا من القدرية يضعون على لسان الكفار ما فيه حجة على الله ومقصودهم بذلك التكذيب بالقدر

 

 

وأن من صدق به فقد جعل للخلق حجة على الخالق كما وجدنا كثيرا من الشيعة يضع حججا لهم على لسان بعض اليهود ليقال لأهل السنة أجيبوا هذا اليهودي ويخاطب بذلك من لا يحسن أن يبين فساد تلك الحجة من جهال العامة وأما قول القائل إن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فهذا من أظهر الكذب الباطل فإنه إن كان قصده أن هذا أول ذنب أذنب فهذا باطل ظاهر البطلان وإن كان قصده أن هذا أول اختلاف وقع بعد تلك الشبهة فهو باطل من وجوه أحدها أن شبهة إبليس لم توقع خلافا بين الملائكة ولا سمعها الآدميون منه حتى يوقع بينهم خلافا والثاني أن الخلاف ما زال بين بني آدم من زمن نوح واختلاف الناس قبل المسلمين أعظم بكثير من اختلاف المسلمين وقد قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (سورة البقرة). قال ابن عباس كان بين آدم

 

 

ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ثم اختلفوا بعد ذلك وقال تعالى وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا (سورة يونس). وقال تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم (سورة هود). وقالت المائكة لما قال تعالى إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك (سورة البقرة). وقد أخبر الله تعالى أن ابني آدم قتل أحدهما أخاه وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها فإنه أول من سن القتل وقال تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (سورة البقرة).

 

 

وقد قال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات (سورة آل عمران). فهذه نصوص القرآن تخبر بالاختلاف والتفرق الذي كان في الأمم قبلنا وقال صلى الله عليه وسلم افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وقد أخبر الله من تكذيب قوم عاد وثمود وفرعون لأنبيائهم ما فيه عبرة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذروني ماتركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وقال تعالى عن أهل الكتاب قبلنا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله (سورة المائدة). وقال تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة (سورة المائدة). وأمثال ذلك مما يعلم بالاضطرار في الأمم قبلنا من الاختلاف

 

 

والنزاع والخلاف الواقع في غير أهل الملل أكثر منه في أهل الملل فكل من كان إلى متابعة الأنبياء أقرب كان الخلاف بينهم أقل فالخلاف المنقول عن فلاسفة اليونان والهند وأمثالهم أمرلا يحصيه إلا الله وبعده الخلاف عن أعظم الملل ابتداعا كالرافضة فينا وبعد ذلك الخلاف الذي بين المعتزلة ونحوهم وبعد ذلك خلاف الفرق المنتسبة إلى الجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية ونحوهم ثم بعد ذلك اختلاف أهل الحديث وهم أقل الطوائف اختلافا في أصولهم لأن ميراثهم من النبوة أعظم من ميراث غيرهم فعصمهم حبل الله الذي اعتصموا به فقال واعتصموا بحبل الله جميعا (سورة آل عمران). فكيف يقال مع الاختلاف الذي في الأمم قبلنا إن مثار الفساد بعد شبهة إبليس الاختلاف الواقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم وكم قد وقع من الفساد والاختلاف قبل هذا والتحديد يشبهة إبليس والاختلاف الواقع في المرض باطل فأما شبهة إبليس فلا يعرف لها أثر إسناد كما تقدم والكذب ظاهر عليها وأما ما وقع في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يقع قبل ذلك ما هو أعظم منه وقد وقع قتال بين أهل قباء حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم

 

 

وقد تنازع المسلمون يوم بدر في الأنفال فقال الآخذون هي لنا وقال الذاهبون خلف العدو هي لنا وقال الحافظون لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي لنا حتى أنزل الله تعالى يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم (سورة الأنفال). وقد كان بين الأنصار خلاف في قصة الإفك حتى هم الحيان بالاقتتال فسكنهم النبي صلى الله عليه وسلم في شخص هل يجوز قتله أم لا يجوز وقد وقع نزاع بين الأنصار مرة بسبب يهودي كان يذكرهم حروبهم في الجاهلية التي كانت بين الأوس والخزرج حتى أختصموا وهموا بالقتال حتى أنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هوي إلى صراط مستقيم آل عمران وقد ثبت في الصحيح أنهم كانوا في سفر فاقتتل رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري يا للأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم دعوها فإنها منتنةوقد كان الصحابة يتنازعون في مراد النبي صلى الله عليه وسلم في حياته كما ثبت في الصحيحين عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم الصلاة في الطريق فقال بعضهم نصلي ولا نترك الصلاة وقال بعضهم لا نصلي إلا في بني قريظة فصلوا بعد غروب الشمس فما عنف النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم وفي البخاري عن ابن الزبير أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد تميم قال أبو بكر أمر القعقاع بن معبد وقال عمر أمر الأقرع بن حابس فقال ما أردت إلا خلافي فقال ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية (سورة الحجرات). فكان عمر بعد ذلك لا يحدثه إلا كأخي السرار

 

 

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء أو يأذن فيه فيراجع فيه فينسخ الله ذلك الأمر الأول كما أنه لما أمرهم بكسر الأواني التي فيها لحوم الحمر قالوا ألا نريقها قال أريقوها ولما كانوا في سفر استأذنوه في نحر ظهورهم فأذن لهم حتى جاه عمر فقال يا رسول الله إن أذنت في ذلك نفد ظهرهم ولكن اجمع ما معهم وادع الله تبارك وتعالى فيه ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ومن ذلك حديث أبي هريرة لما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بغلته وقال اذهب فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فبشره بالجنة فلقيه عمر فقال فضربه في صدره وقال ارجع فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له عمر فلا تفعل فإني أخاف أن يتكل الناس عليها فخلهميعملون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلهم وأمثال ذلك كثير الوجه الثالث أن الذي وقع في مرضه كان من أهون الأشياء وأبينها وقد ثبت في الصحيح أنه قال لعائشة في مرضه ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ثم قال يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر فلما كان يوم الخميس هم أن يكتب كتابا فقال عمر ماله أهجر فشك عمر هل هذا القول من هجر الحمي أو هو مما يقول على عادته فخاف عمر أن يكون من هجر الحمى فكان هذا مما خفى على عمر كما خفى عليه موت النبي صلى الله عليه وسلم بل أنكره ثم قال بعضهم هاتوا كتابا وقال بعضهم لا تأتوا بكتاب فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة لأنهم يشكون هل أملاه مع تغيره بالمرض أم مع سلامته من ذلك فلا يرفع النزاع فتركه ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك

 

 

الوقت إذ لو كان كذلك لما ترك صلى الله عليه وسلم ما أمره الله به لكن ذلك مما رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر ورأى أن الخلاف لا بد أن يقع وقد سأل ربه لأمته ثلاثا فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة سأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه إياها وسأله أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه إياها وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعه إياها وهذا ثبت في الصحيح وقال ابن عباس الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب الكتاب فإنها رزية أي مصيبة في حق الذين شكوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وطعنوا فيها وابن عباس قال ذلك لما ظهر أهل الأهواء من الخوارج والروافض ونحوهم وإلا فابن عباس كان يفتي بما في كتاب الله فإن لم يجد في كتاب الله فبما في سنة رسول الله فإن لم يجد في سنة رسول الله صلىالله عليه وسلم فبما أفتى أبو بكر وعمر وهذا ثابت من حديث ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس ومن عرف حال ابن عباس علم أنه كان يفضل أبا بكر وعمر على علي رضي الله عنه ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك كتابة الكتاب باختياره فلم يكن في ذلك نزاع ولو استمر على إرادة الكتاب ما قدر أحد أن يمنعه ومثل هذا النزاع قد كان يقع في صحته ما هو أعظم منه والذي وقع بين أهل قباء وغيرهم كان أعظم من هذا بكثير حتى أنزل فيه وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما (سورة الحجرات). لكن روى أنه كان بينهم قتال بالجريد والنعال ومن جهل الرافضة أنهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه ولا في

 

 

شىء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنه جعل عليا خليفة كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة أبي بكر ثم يدعون مع هذا أنه كان قد نص على خلافة على نصا جليا قاطعا للعذر فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه فهم أيضا لا يطيعون الكتاب فأي فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا وأما قوله الخلاف الثاني الواقع في مرضه أنه قال جهزوا جيش أسامة لعن الله من تخلف عنه فقال قوم يجب علينا امتثال أمره وأسامة قد برز وقال قوم قد اشتد مرضه ولا يسع قلوبنا المفارقة فالجواب أن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالنقل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لعن الله من تخلف عنه ولا نقل هذا بإسناد ثبت بل ليس له إسناد في كتب أهل الحديث أصلا ولا امتنع أحد من أصحاب أسامة من الخروج معه لو خرج بل كان أسامة

 

 

هو الذي توقف في الخروج لما خاف أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم فقال كيف أذهب وأنت هكذا أسأل عنك الركبان فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم في المقام ولو عزم على أسامة في الذهاب لأطاعة ولو ذهب أسامة لم يتخلف عنه أحد ممن كان معه وقد ذهبوا جميعهم معه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخلف عنه أحد بغير إذنه وأبو بكر رضي الله عنه لم يكن في جيش أسامة باتفاق أهل العلم لكن روى أن عمر كان فيهم وكان عمر خارجا مع أسامة لكن طلب منه أبو بكر أن يأذن له في المقام عنده لحاجته إليه فأذن له مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات كان أحرص الناس على تجهيز أسامة هو وأبو بكر وجمهور الصحابة أشاروا عليه بأن لا يجهزه خوفا عليهم من العدو فقال أبو بكر رضي الله عنه والله لا أحل راية عقدها النبي صلى الله عليه وسلم وكان إنفاذه من أعظم المصالح التي فعلها أبو بكر رضي الله عنه في أول خلافته ولم يكن في شىء من ذلك نزاع مستقر أصلا والشهرستاني لا خبرة له بالحديث وآثار الصحابة والتابعين ولهذا نقل في كتابه هذا ما ينقله من اختلاف غير المسلمين واختلاف المسلمين ولم ينقل مع هذا مذهب الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في الأصول

 

 

الكبار لأنه لم يكن يعرف هذا هو وأمثاله من أهل الكلام وإنما ينقلون ما يحدثونه في كتب المقالات وتلك فيها أكاذيب كثيرة من جنس مافي التواريخ ولكن أهل الفرية يزعمون أن الجيش كان فيه أبو بكر وعمر وأن مقصود الرسول كان إخراجهما لئلا ينازعا عليا وهذا إنما يكذبه ويفتريه من هو من أجهل الناس بأحوال الرسول والصحابة وأعظم الناس تعمدا للكذب وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم طول مرضه يأمر أبا بكر أن يصلي بالناس والناس كلهم حاضرون ولو ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس من ولاه لأطاعوه وكان المهاجرون والأنصار يحاربون من نازع أمر الله ورسوله وهم الذين نصروا دينه أولا وآخرا ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستخلف عليا في الصلاة هل كا يمكن أحدا أن يرده ولو أراد تأميره على الحج على أبي بكر ومن معه هل كان ينازعه أحد ولو قال لأصحابه هذا هو الأمير عليكم والإمام بعدي هل كان يقدر أحد أن يمنعه ذلك ومعه جماهير المسلمين من المهاجرين والأنصار كلهم مطيعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيهم من يبغض عليا ولا من قتل علي أحدا من أقاربه وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح في عشرة آلاف سليم ألف مزينة ألف وجهينة ألف وغفار ألف ونحو ذلك والنبيصلى الله عليه وسلم يقول أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها ويقول قريش والأنصار وأسلم وغفار وجهينة موالى دون الناس ليس لهم مولى دون الله ورسوله وهؤلاء لم يقتل على أحدا منهم ولا أحدا من الأنصار وقد كان عمر رضي الله عنه أشد عداوة منذ أسلم للمشركين من على فكانوا يبغضونه أعظم من بغضهم لسائر الصحابة وكان الناس ينفرون عن عمر لغلظته وشدته أعظم من نفورهم عن علي حتى كره بعضهم توليه أبي بكر له وراجعوه لبغض النفوس للحق لأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم فلم

 

 

يكن قط سبب يدعو المسلمين إلى تأخير من قدمه النبي صلى الله عليه وسلم ونص عليه وتقدم من يريد تأخيره وحرمانه ولو أراد إخراجهما في جيش أسامة خوفا منهما لقال للناس لا تبايعوهما فياليت شعري ممن كان يخاف الرسول فقد نصره الله وأعزه وحوله المهاجرون والأنصار الذين لو أمرهم بقتل آبائهم وأبنائهم لفعلوا وقد أنزل الله سورة براءة وكشف فيها حال المنافقين وعرفهم المسلمين وكانوا مدحوضين مذمومين عند الرسول وأمته وأبو بكر وعمر كانا أقرب الناس عنده وأكرم الناس عليه وأحبهم إليه وأخصهم به وأكثر الناس له صحبة ليلا ونهارا وأعظمهم موافقة له ومحبة له وأحرص الناس على امتثال أمره وإعلاء دينه فكيف يجوز عاقل أن يكون هؤلاء عند الرسول من جنس المنافقين الذين كان أصحابه قد عرفوا إعراضه عنهم وإهانته لهم ولم يكن يقرب أحدا منهم بعد سورة براءة بل قال الله تعالى لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (سورة الأحزاب). فانتهوا عن إظهار النفاق وانقمعوا هذا وأبو بكر عنده أعز الناس وأكرمهم وأحبهم إليه

 

 

وأما قوله الخلاف الثالث في موته فالجواب لا ريب أن عمر خفي عليه موته أولا ثم أقر به من الغد واعترف بأنه كان مخطئا في إنكار موته فارتفع الخلاف وليس لفظ الحديث كما ذكره الشهرستاني ولكن في الصحيحين عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال اجلس يا عمر فأبي أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر فقال أبو بكر أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه الآية (سورة آل عمران). قال والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله قد أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها الناس كلهم فما أسمع بشرا من الناس إلا يتلوها فأخبرني ابن المسيب أن عمر قال والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويتإلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات وأما قوله الخلاف الرابع في الإمامة وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينيه مثل ما سل على الإمامة في كل زمان فالجواب أن هذا من أعظم الغلط فإنه ولله الحمد لم يسل سيف على خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا كان بين المسلمين في زمنهم نزاع في الإمامة فضلا عن السيف ولا كان بينهم سيف مسلول علىشىء من الدين والأنصار تكلم بعضهم بكلام أنكره عليهم

 

 

أفاضلهم كأسيد بن حضير وعباد بن بشر وغيرهما ممن هو أفضل من سعد بن عبادة نفسا وبيتا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أنه قال خير دور الأنصار دار بني النجار ثم دار بني عبد الأشهل ثم دار بني الحارث بن الخزرج ثم دار بني ساعدة وفي كل دور الأنصار خير فأهل الدور الثلاثة المفضلة دار بني النجار وبني عبد الأشهل وبني الحارث بن الخزرج لم يعرف منهم من نازع في الإمامة بل رجال بني النجار كأبي أيوب الأنصارى وأبي طلحة وأبي بن كعب وغيرهم كلهم لم يختاروا إلا أبا بكر وأسيد بن حضير هو الذي كان مقدم الأنصار يوم فتح مكة عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عن يمينه وهو كان من بني عبد الأشهل وهو كان يأمر ببيعة أبي بكر رضي الله عنه وكذلك غيره من رجال الأنصار وإنما نازع سعد بن عبادة والحباب بن المنذر وطائفة قليلة ثم رجع هؤلاء وبايعوا الصديق ولم يعرف أنه تخلف منهم إلا سعد بن عبادة

 

 

وسعد وإن كان رجلا صالحا فليس هو معصوما بل له ذنوب يغفرها الله وقد عرف المسلمون بعضها وهو من أهل الجنة السابقين الأولين من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم فما ذكره الشهرستاني من أن الأنصار اتفقوا على تقديمهم سعد بن عبادة هو باطل باتفاق أهل المعرفة بالنقل والأحاديث الثابتة بخلاف ذلك وهو وأمثاله وإن لم يتعمدوا الكذب لكن ينقلون من كتب من ينقل عمن يتعمد الكذب وكذلك قول القائل إن عليا كان مشغولا بما أمره النبي صلى الله عليه وسلم من دفنه وتجهيزه وملازمة قبره فكذب ظاهر وهو مناقض لما يدعونه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن إلا بالليل لم يدفن بالنهار وقيل إنه إنما دفن من الليلة المقبلة ولم يأمر أحدا بملازمة قبره ولا لازم على قبره بل قبر في بيت عائشة وعلي أجنبي منها ثم كيف يأمر بملازمة قبره وقد أمر بزعمهم أن يكون إماما بعده ولم يشتغل بتجهيزه على وحده بل علي والعباس وبنو العباس ومولاه شقران وبعض الأنصار وأبو بكر وعمر وغيرهما على باب البيت حاضرين غسله وتجهيزه لم يكونوا حينئذا في بني ساعدة لكن السنة أن يتولى الميت أهله فتولى أهله غسله وأخروا دفنه ليصلي المسلمون عليه فإنهم صلوا عليه أفرادا واحدا بعد واحد

 

 

رجالهم ونساؤهم خلق كثير فلم يتسع يوم الاثنين لذلك مع تغسيله وتكفينه بل صلوا عليه يوم الثلاثاء ودفن يوم الأربعاء وأيضا فالقتال الذي كان في زمن علي لم يكن على الإمامة فإن أهل الجمل وصفين والنهروان لم يقاتلوا على نصب إمام غير على ولا كان معاوية يقول أنا الإمام دون على ولا قال ذلك طلحة والزبير فلم يكن أحد ممن قاتل عليا قبل الحكمين نصب إماما يقاتل علي طاعته فلم يكن شىء من هذا القتال على قاعدة من قواعد الإمامة المنازع فيها لم يكن أحد من المقاتلين يقاتل طعنا في خلافة الثلاثة ولا ادعاء للنص على غيرهم ولا طعنا في جواز خلافة علي فالأمر الذي تنازع فيه الناس من أمر الإمامة كنزاع الرافضة والخوارج المعتزلة وغيرهم ولم يقاتل عليه أحد من الصحابة أصلا ولا قال أحد منهم إن الإمام المنصوص عليه هو علي ولا قال إن الثلاثة كانت إمامتهم باطلة ولا قال أحد منهم إن عثمان وعليا وكل من والاهما كافر فدعوى المدعي أن أول سيف سل بين أهل القبلة كان مسلولا على قواعد الإمامة التي تنازع فيها الناس دعوى كاذبة ظاهرة الكذب يعرف كذبها بأدنى تأمل مع العلم بما وقع

 

 

وإنما كان القتال قتال فتنة عند كثير من العلماء وعند كثير منهم هو من باب قتال أهل العذل والبغي وهو القتال بتأويل سائغ لطاعة غير الإمام لا على قاعدة دينية ولو أن عثمان نازعه منازعون في الإمامة وقاتلهم لكان قتالهم من جنس قتال علي وإن كان ليس بينه وبين أولئك نزاع في القواعد الدينية ولكن أول سيف سل على الخلاف في القواعد الدينية سيف الخوارج وقتالهم من أعظم القتال وهم الذين ابتدعوا أقوالا خالفوا فيها الصحابة وقاتلوا عليها وهم الذين تواترت النصوص بذكرهم كقوله صلى الله عليه وسلم تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق وعلي رضي الله عنه لم يقاتل أحدا على إمامة من قاتله ولا قاتله أحد على إمامته نفسه ولا ادعى أحد قط في زمن خلافته أنه أحق بالإمامة منه لا عائشة ولا طلحة ولا الزبير ولا معاوية وأصحابه ولا الخوارج بل كل الأمة كانوا معترفين بفضل علي وسابقته بعد قتل

 

 

عثمان وأنه لم يبق في الصحابة من يماثله في زمن خلافته كما كان عثمان كذلك لم ينازع قط أحد من المسلمين في إمامته وخلافته ولا تخاصم اثنان في أن غيره أحق بالإمامة منه فضلا عن القتال على ذلك وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وبالجملة فكل من له خبرة بأحوال القوم يعلم علما ضروريا أنه لم يكن بين المسلمين مخاصمة بين طائفتين في إمامة الثلاثة فضلا عن قتال وكذلك علي لم يتخاصم طائفتان في أن غيره أحق بالإمامة منه وإن كان بعض الناس كارها لولاية أحد من الأربعة فهذا لا بد منه فإن من الناس من كان كارها لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف لا يكون فيهم من يكره إمامة بعض الخلفاء لكن لم يكن بين الطوائف نزاع ظاهر في ذلك بالقول فضلا عن السيف كما بين أهل العلم نزاع في مقالات معروفة بينهم في المسائل العملية والعقائد العلمية وقد تجتمع طائفتان فيتنازعون ويتناظرون في بعض المسائل والخلفاء الأربعة لم يكن على عهدهم طائفتان يظهر بينهم النزاع

 

 

لا في تقديم أبي بكر على من بعده وصحة إمامته ولا في تقديم عمر وصحة إمامته ولا في تقديم عثمان وصحة إمامته ولا في أن عليا مقدم بعد هؤلاء وليس في الصحابة بعدهم من هو أفضل منه ولا تنازع طائفة من المسلمين بعد خلافة عثمان في أنه ليس في جيش علي أفضل منه لم تفضل طائفة معروفة عليه طلحة والزبير فضلا أن يفضل عليه معاوية فإن قاتلوه مع ذلك لشبهة عرضت لهم فلم يكن القتال له لا على أن غيره أفضل منه ولا أنه الإمام دونه ولم يتسم قط طلحة والزبير باسم الإمارة ولا بايعهما أحد على ذلك وعلي بايعه كثير من المسلمين وأكثرهم بالمدينة على أنه أمير المؤمنين ولم يبايع طلحة والزبير أحد على ذلك ولا طلب أحد منهما ذلك ولا دعا إلى نفسه فإنهما رضي الله عنهما كانا أفضل وأجل قدرا من أن يفعلا مثل ذلك وكذلك معاوية لم يبايعه أحد لما مات عثمان على الإمامة ولا حين كان يقاتل عليا بايعه أحد على الإمامة ولا تسمى بأمير المؤمنين ولا سماه أحد بذلك ولا ادعى معاوية ولاية قبل حكم الحكمين وعلي يسمى نفسه أمير المؤمنين في مدة خلافته والمسلمون معه

 

 

يسمونه أمير المؤمنين لكن الذين قاتلوه مع معاوية ما كانوا يقرون له بذلك ولا دخلوا في طاعته مع اعترافهم بأنه ليس في القوم أفضل منه ولكن ادعوا موانع تمنعهم عن طاعته ومع ذلك فلم يحاربوه ولا دعوه وأصحابه إلى أن يبايع معاوية ولا قالوا أنت وإن كنت أفضل من معاوية لكن معاوية أحق بالإمامة منك فعليك أن تتبعه وإلا قاتلناك كما يقول كثير من خيار الشيعة الزيدية إن عليا كان أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ولكن كانت المصلحة الدينية تقتضي خلافة هؤلاء لأنه كان في نفوس كثير من المسلمين نفور عن على بسبب من قتله من أقاربهم فما كانت الكلمة تتفق على طاعته فجاز توليه المفضول لأجل ذلك فهذا القول يقوله كثير من خيار الشيعة وهم الذين ظنوا أن عليا كان أفضل وعلموا أن خلافة أبي بكر وعمر حق لا يمكن الطعن فيها فجمعوا بين هذا وهذا بهذا الوجه وهؤلاء عذرهم آثار سمعوها وأمور ظنوها تقتضي فضل على عليهم كما يقع مثل ذلك في عامة المسائل المتنازع فيها بين الأمة يكون الصواب مع أحد القولين ولكن الآخرون معهم منقولات ظنوها صدقا ولم يكن لهم خبرة بأنها كذب ومعهم من الآيات والأحاديث الصحيحة تأويلات ظنوها مرادة ومن النص ولم تكن كذلك ومعهم نوع من القياس والرأي ظنوه حقا وهو باطل

 

 

فهذا مجموع ما يورث الشبه في ذلك إذا خلت النفوس عن الهوى وقل أن يخلو أكثر الناس عن الهوي إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى (سورة النجم). والمقصود أن جواز تولية المفضول لأسباب مانعه من توليه الفاضل هو قول ذهب إليه طوائف من السنة والشيعة ومع هذا فلم يكن الذين مع معاوية يقولون إنه الإمام والخليفة وإن على علي وأصحابه مبايعته وطاعته وإن كان علي أفضل لأن توليته أصلح فهذا لم يكونوا يقولونه ولا يقاتلون عليه وهذا مما هو معلوم لعموم أهل العلم ولا بدأوا عليا وأصحابه بقتال أصلا ولأن الخوارج بدأوه بذلك فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب لما اجتاز بهم فسألوه أن يحدثهم عن أبيه خباب بن الأرت فحدثهم حديثا في ترك الفتن وكان قصده رحمه الله رجوعهم عن الفتنة فقتلوه وبقي دمه مثل الشراك في الدماء فأرسل إليهم علي يقول سلموا إلينا قاتل عبد الله بن خباب فقالوا كلنا قتله ثم أغاروا على سرح الناس وهي الماشية التي أرسلوها تسرح مع الرعاء فلما رأى علي أنهم استحلوا دماء المسلمين وأموالهم ذكر النصوص التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم في صفتهم وفي الأمر بقتالهم ورأى تلك الصفة منطبقة عليهم فقاتلهم ونصره الله عليهم وفرح بذلك وسجد لله شكرا لما جاءه خبر المخدج أنه معهم فإنه هو كان العلامة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم واتفق الصحابة على قتالهم فقتاله للخوارج كان بنص من الرسول وبإجماع الصحابة

 

 

وأما قتال الجمل وصفين فقد ذكر علي رضي الله عنه أنه لم يكن معه نص من النبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان رأيا وأكثر الصحابة لم يوافقوه على هذا القتال بل أكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء كسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وأمثالهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان مع أنهم معظمون لعلي يحبونه ويوالونه ويقدمونه على من سواه ولا يرون أن أحدا أحق بالإمامة منه في زمنه لكن لم يوافقوه في رأيه في القتال وكان معهم نصوص سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم تدلهم على أن ترك القتال والدخول في الفتنة خير من القتال وفيها ما يقتضى النهي عن ذلك والآثار بذلك كثيرة معروفة وأما معاوية فلم يقاتل معه من السابقين الأولين المشهورين أحد بل كان مع علي بعض السابقين ولم يكن مع معاوية أحد وأكثرهم اعتزلوا الفتنة وقيل كان مع معاوية بعض السابقين الأولين وإن قاتل عمار بن ياسر هو أبو الغادية وكان ممن بايع تحت الشجرة وهم السابقون الأولون ذكر ذلك ابن حزم وغيره

 

 

والمقصود أن عليا لم يقاتله أحد على إمامة غيره ولا دعاه إلى أن يكون تحت ولاية غيره ثم إنه لما رفعت المصاحف ودعوا إلى التحكيم واتفقوا على ذلك وأجمعوا في العام القابل واتفق الحكمان على عزل علي ومعاوية وأن يكون الأمر شورى بين المسلمين وقال أحد الحكمين هذا عزل صاحبه وأنا لم أعزل صاحبي ومال أبو موسى إلى تولية عبد الله بن عمر فغضب عبد الله لذلك ولم يكن اتفاقهما على عزل معاوية عن كونه أمير المؤمنين فإنه لم يكن قبل هذا أمير المؤمنين بل عزله عن ولايته على الشام فإنه كان يقول أنا ولاني الخليفتان عمر وعثمان فأنا باق على ولايتي حتى يجتمع الناس على الإمام فاتفق الحكمان على أن يعزل علي عن إمرة المؤمنين ومعاوية عن إمرة الشام وكان مقصود أحدهما إبقاء صاحبه ولم يظهر ما في نفسه فلما أظهر ما في نفسه تفرق الناس عن غير اتفاق ولم يقع بعد هذا قتال فلو قدر أن معاوية في هذا الحال صار يدعى أصحابه أنه أمير المؤمنين دون علي فلم يمكنهم أن يقولوا إن عليا بعد ذلك قوتل على إمامة معاوية فتبين أن عليا لم يقاتله أحد على أن يكون غيره إماما وهو مطيع له فإن الذين كانوا يستحقون الإمامة أبو بكر وعمر وعثمان وكان هو أتقى لله من أن يخرج عليهم بقول أو فعل بل عثمان كان علي هو أول من بايعه قبل جمهور الناس

 

 

وأما معاوية فكان المسلمون أعلم وأعدل من أن يقولوا لعلي بايع معاوية بل يقولوا له بايع طلحة والزبير وهما من أهل الشورى فعبد الرحمن بن عوف مات في خلافة عثمان وبقي بعد موت عثمان أربعة فأما سعد فاعتزل الفتنة ولم يدخل في قتال أحد من المسلمين وعاش بعدهم كلهم وهو آخر العشرة موتا واعتزل بالعقيق ولما مات حمل على الأعناق فدفن بالبقيع وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص كان سعد ابن أبي وقاص في إبله فجاء ابنه عمر فلما رآه سعد قال أعوذ بالله من شر هذا الراكب فنزل فقال له أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون في الملك بينهم فضرب سعد في صدره وقال اسكت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي وابنه عمر هذا كان يحب الرياسة ولو حصلت على الوجه المذموم ولهذا لما ولى ولاية وقيل له لا نوليك حتى تتولى قتال الحسين وأصحابه كان هو أمير تلك السرية وأما سعد رضي الله عنه فكان مجاب الدعوة وكان مسددا في زمنه

 

 

وهو الذي فتح العراق وكسر جنود كسرى وكان يعلم أنه لا بد من وقوع فتن بين المسلمين وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيستبيح بيضتهم فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها والمقصود أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يقتتلوا قط لاختلافهم في قاعدة من قواعد الإسلام أصلا ولم يختلفوا في شىء من قواعد الإسلام لا في الصفات ولا في القدر ولا مسائل الأسماء والأحكام ولا مسائل الإمامة لم يختلفوا في ذلك بالاختصام بالأقوال فضلا عن الاقتتال بالسيف بل كانوا مثبتين لصفات الله التي أخبر بها عن نفسه نافين عنها تمثيلها بصفات المخلوقين مثبتين للقدر كما أخبر الله به ورسوله مثبتين للأمر والنهى والوعد والوعيد مثبتين لحكمة الله في خلقه وأمره مثبتين لقدرة العبد واستطاعته ولفعله مع إثباتهم للقدر ثم لم يكن في زمنهم من يحتج للمعاصي بالقدر ويجعل القدر حجة لمن عصى أو كفر ولا من يكذب بعلم الله ومشيئته الشاملة

 

 

وقدرته العامة وخلقه لكل شىء وينكر فضل الله وإحسانه ومنه على أهل الإيمان والطاعة وأنه هو الذي أنعم عليهم بالإيمان والطاعة وخصهم بهذه النعمة دون أهل الكفر والمعصية ولا من ينكر افتقار العبد إلى الله في كل طرفة عين وأنه لا حول ولا قوة إلا به في كل دق وجل ولا من يقول إن الله يجوز أن يأمر بالكفر والشرك وينهى عن عبادته وحده ويجوز أن يدخل إبليس وفرعون الجنة ويدخل الأنبياء النار وأمثال ذلك فلم يكن فيهم من يقول بقول القدرية النافية ولا القدرية الجبرية الجهمية ولا كان فيهم من يقول بتخليد أحد من أهل القبلة في النار ولا من يكذب بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر ولا من يقول إيمان الفساق كإيمان الأنبياء بل قد ثبت عنهم بالنقول الصحيحة القول بخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأن إيمان الناس يتفاضل وأن الإيمان يزيد وينقص ومن نقل عن ابن عباس أنه كان يقول بتخليد قاتل النفس فقد كذب عليه كما ذكر ذلك ابن حزم وغيره وأما المنقول عن ابن

 

 

عباس ففي توبة القاتل لا القول بتخليده وتوبته فيها روايتان عن أحمد كما قد بسط في موضعه فأين هذا من هذا ولا كان في الصحابة من يقول إن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا أئمة ولا كانت خلافتهم صحيحة ولا من يقول إن خلافتهم ثابتة بالنص ولامن يقول إن بعد مقتل عثمان كان غير علي أفضل منه ولا أحق منه بالإمامة فهذه القواعد الدينية التي اختلف فيها من بعد الصحابة لم يختلفوا فيها بالقول ولا بالخصومات فضلا عن السيف ولا قاتل أحد منهم على قاعدة في الإمامة فقبل خلافة علي لم يكن بينهم قتال في الإمامة ولا في ولايته لم يقاتله أحد على أنه يكون تابعا لذاك والذين قاتلوا عليا لم يقاتلوا لاختصاص علي دون الأئمة قبله بوصف بل الذين قاتلوا معه كانوا يقرون بإمامة من قبله وشائعا بينهم أن أبا بكر أفضل منه وقد تواتر عنه نفسه أنه كان يقول ذلك على المنبر ولم يظهر عن الشيعة الأول تقديم علي على أبي بكر وعمر فضلا عن الطعن في إمامتهما

 

 

وبكل حال فمن المعلوم للخاصة والعامة أهل السنة وأهل البدعة أن القتال في زمن علي لم يكن لمعاوية ومن معه إلا لكونهم لم يبايعوا عليا لم يكن لكونهم بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وأما الحرب التي كانت بين طلحة والزبير وبين علي فكان كل منهما يقاتل عن نفسه ظانا أنه يدفع صول غيره عليه لم يكن لعلي غرض في قتالهم ولا لهم غرض في قتاله بل كانوا قبل قدوم على يطلبون قتله عثمان وكان للقتلة من قبائلهم من يدفع عنهم فلم يتمكنوا منهم فلما قدم علي وعرفوه مقصودهم عرفهم أن هذا أيضا رأيه لكن لا يتمكن حتى ينتظم الأمر فلما علم بعض القتلة ذلك حمل على أحد العسكرين فظن الآخرون أنهم بدأوا بالقتال فوقع القتال بقصد أهل الفتنة لا بقصد السابقين الأولين ثم وقع قتال على الملك فلم يكن ما وقع قدحا في خلافة الثلاثة مثل الفتنة التي وقعت بين ابن الزبير وبين يزيد ثم بين مروان وابنه وهؤلاء كلهم كانوا متفقين على موالاة عثمان وقتال من قاتله فضلا عن أبي بكر وعمر وكذلك الفتنة التي وقعت بين يزيد وأهل المدينة فتنة الحرة فإنما كانت من بعض أهل المدينة أصحاب السلطان من بني أمية وأصحاب يزيد لم تكن لأجل أبي بكر وعمر أصلا بل كان كل من بالمدينة والشام من الطائفتين متفقين على ولاية أبي بكر وعمر

 

 

والحسين رضي الله عنه لما خرج إلى الكوفة إنما كان يطلب الولاية مكان يزيد لم يكن يقاتل على خلافة أبي بكر وعمر وكذلك الذين قتلوه ولم يكن هو حين قتل طالبا للولاية ولا كان معه جيش يقاتل به وإنما كان قد رجع منصرفا وطلب أن يرد إلى يزيد ابن عمه أو أن يرد إلى منزله بالمدينة أو يسير إلى الثغر فمنعه أولئك الظلمة من الثلاثة حتى يستأسر لهم فلم يقتل رضي الله عنه وهو يقاتل على ولاية بل قتل وهو يطلب الدفع عن نفسه لئلا يؤسر ويظلم والحسن أخوه قد كانت معه الجيوش العظيمة ومع هذا فقد نزل عن الأمر وسلم إلى معاوية وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أثنى عليه بذلك وقال إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ثم لما قتل الحسين قام من يطلب بدمه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي وقتلوا عبيد الله بن زياد ثم لما قدم مصعب بن الزبير قتل المختار فإنه كذب وادعى أنه يوحى إليه وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سيكون من ثقيف كذاب ومبير وكان الكذاب هو الذي سمى المختار

 

 

ولم يكن بالمختار والمبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي والفتنة التي وقعت في زمنه فتنة ابن الاشعث خرج عليه ومعه القراء كانت بظلمة وعسفه فلم يكن شىء من هذه لأجل خلافة أبي بكر وعمر بل كل هؤلاء كانوا متفقين على خلافة أبي بكر وعمر وإنما كانت على ولاية سلطان الوقت فإذا جاء قوم ينازعونه قام معه ناس وقام عليه أناس وهكذا كانت الفتن التي وقعت بعد هذا في زمن بني أمية فان زيد ابن علي بن الحسين لما خرج في خلافة هشام وطلب الأمر لنفسه كان ممن يتولى أبا بكر وعمر فلم يكن قتاله على قاعدة من قواعد الإمامة التي يقولها الرافضة ولما خرج أبو مسلم وشيعة بني هشام على بني أمية إنما قاتلوا من كان متوليا في ذلك الوقت وهو مروان بن محمد وأنصاره وما زال بنو العباس مثبتين لخلافة الأربعة مقدمين لأبي بكر وعمر وعثمان على المنابر فلم يقاتل أحد من شيعتهم ولا من شيعة بني أمية قدحا في خلافة الثلاثة والذين خرجوا عليهم مثل محمد بن عبد الله بن الحسن بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة إنما خرجا ومن معهما على المنصور لا

 

 

على من يتولى أبا بكر وعمر بل الذين كانوا معهما بالمدينة والبصرة كلهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر فهذه وأمثالها الفتن الكبار التي كانت في السلف وكذلك لما صار عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس ودامت ولايته مدة طويلة لم يكن النزاع بينه وبين العباسيين على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان فهذه الولايات الكبار التي كانت في الإسلام القائمون فيها والخارجون على الولاة لم يكن قتالهم فيها على قاعدة الإمامة التي يختلف فيها أهل السنة والرافضة وإنما ظهر من دعا إلى الرفض وتسمى بأمير المؤمنين وأظهر القتال على ذلك وحصل لهم ملك وأعوان مدة بني عبيد الله القداح الذين أقاموا بالمغرب مدة وبمصر نحو مائتي سنة وهؤلاء باتفاق أهل العلم والدين كانوا ملاحدة ونسبهم باطل فلم يكن لهم بالرسول اتصال نسب في الباطن ولا دين وإنما أظهروا النسب الكاذب وأظهروا التشيع ليتوسلوا بذلك إلى متابعة الشيعة إذ كانت أقل الطوائف عقلا ودينا وأكثرها جهلا وإلا فأمر

 

 

هؤلاء العبيدية المنتسبين إلى إسماعيل بن جعفر أظهر من أن يخفي على مسلم ولهذا جميع المسلمين الذين هم مؤمنون في طوائف الشيعة يتبرأون منهم فالزيدية والإمامية تكفرهم وتتبرأ منهم وإنما ينتسب إليهم الإسماعيلية الملاحدة الذين فيهم من الكفر ما ليس لليهود والنصارى كابن الصباح الذي أخرج لهم السكين وشر منهم قرامطة البحرين أصحاب أبي سعيد الجنابى فإن أولئك لم يكونوا يتظاهرون بدين الإسلام بالكلية بل قتلوا الحجاج وأخذوا الحجر الأسود فهذه وأمثالها الملاحم والفتن التي كانت في الإسلام ليس فيها ما وقع القتال فيه حقيقة على قاعدة الإمامة التي تدعيها الرافضة وإن ذكر بعض الخارجين ببعض البلاد من يدعو إلى نفسه ومعه من يقاتل فهؤلاء من جنس سكان الجبال وأهل البوادي ولأمصار الصغار من الرافضة وهم طائفة قليلة مقموعون مع جمهور المسلمين ليس لهم سيف مسلول على الجمهور حتى يقول القائل أعظم خلاف وقع بين الأمة خلاف الإمامة أو ما سل في الإسلام سيف مثل ما سل علي الإمامة في كل زمان

 

 

وإن كان صاحب هذا القول يعني به أنه إنما يقتتل الناس على الإمامة التي هي ولاية شخص في ذلك الزمان فقوم يقاتلون معه وقوم يخرجون عليه فهذا ليس من مذهب السنة والشيعة في شىء فإن من المعلوم أن الناس الذين دينهم واحد ونبيهم واحد إذا اقتتلوا فلا بد أن يكون لهؤلاءمن يقدمونه فيجعلونه متوليا ولهؤلاء من يقدمونه فيجعلونه متوليا فيقاتل كل قوم على إمارة من جعلوه هم إمامهم لكن هؤلاء لا يقاتلون على القاعدة الدينية من كون الإمامة ثبتت بالنص لعلي ولا أن خلافة الثلاثة باطلة بل عامة هؤلاء معترفون بإمامة الثلاثة ثم قد تبين أن الصحابة لم يقتتلوا على خلافة أبي بكر وعمر وعثمان والنزاع بينهم فتبين أن خلافتهم كانت بلا سيف مسلول أصلا وإنما كان السيف مسلول في خلافة علي فإن كان هذا قدحا فالقدح يختص بمن كان السيف في زمانه بين الأمة وهذه حجة للخوارج وحجتهم أقوى من حجة الشيعة كما أن سيوفهم أقوى من سيوف الشيعة ودينهم أصح وهم صادقون لا يكذبون ومع هذا فقد ثبت بالسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليهوسلم واتفاق أصحابه أنهم مبتدعون مخطئون ضلال فكيف بالرافضة الذين هم أبعد منهم عن العقل والعلم والدين والصدق والشجاعة والورع وعامة خصال الخير ولم يعرف في الطوائف أعظم من سيف الخوارج ومع هذا فلم يقاتل القوم على خلافة أبي بكر وعمر بل هم متفقون على إمامتهما وموالاتهما وقوله الخلاف الخامس في فدك والتوارث رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم نحن معاشر الانبياء لا نورث ما تركناه صدقة فيقال هذا أيضا اختلاف في مسألة شرعية وقد زال الخلاف فيها والخلاف في هذه دون الخلاف في ميراث الإخوة مع الجد وميراث الجدة مع ابنها وحجب الأم الأخوين وجعل الجد مع الأم كالأب وأمثال ذلك من مسائل الفرائض التي تنازعوا فيها فالخلاف في هذا أعظم لوجوه أحدها أنهم تنازعوا في ذلك ثم

 

 

لم يجتمعوا على قول واحد كما اجتمعوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث الثاني أنهم لم يرو لهم من النصوص الصريحة في هذه المسائل ماروى لهم في ميراث النبي صلى الله عليه وسلم الثالث الخلاف هنا في قصة واحدة لا يتعدد والنزاع في هذه المسائل من جنس متعدد وعامة النزاع في تلك هي نزاع في قليل من المال هل يختص به ناس معينون وأولئك القوم قد أعطاهم أبو بكر وعمر من مال الله بقدر ما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم أضعافا مضاعفة ولو قدر أنها كانت ميراثا مع أن هذا باطل فإنما أخذ منهم قرية ليست كبيرة لم يأخذ منهم مدينة ولا قرية عظيمة وقد تنازع العلماء في مسائل الفرائض وغيرها ويكون النزاع في مواريث الهاشميين وغيرهم من أضعاف أموال فدك ولا ينسب المتنازعون فيها إلى ظلم إذا كانوا قائلين باجتهادهم فلو قدر أن الخلفاء اجتهدوا فأعطوا الميراث من لا يستحقه كان أضعاف هذا يقع من العلماء المجتهدين الذين هم دون الأئمة ولا يقدح ذلك في دينهم وإن قدر أنهم مخطئون في الباطن لأنهم تكلموا باجتهادهم فكيف بالخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم أجمعين

 

 

وإنما يعظم القول في مثل هذه الأمور أهل الجهل والهوى الذين لهم غرض في فتح باب الشر على الصحابة بالكذب والبهتان وقد تولى على بعد ذلك وصار فدك وغيرها تحت حكمه ولم يعطها لأولاد فاطمة ولا أخذ من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولا ولد العباس شيئا من ميراثه فلو كان ذلك ظلما وقدر على إزالته لكان هذا أهون عليه من قتالمعاوية وجيوشه أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم ولا يعطى هؤلاء قليلا من المال وأمره أهون بكثير وأما قوله الخلاف السادس في قتال مانعى الزكاة قاتلهم أبو بكر واجتهد عمر في ايام خلافته فرد السبايا والأموال إليهم وأطلق المحبوسين فهذا من الكذب الذي لا يخفى على من عرف أحوال المسلمين فإن مانعى الزكاة اتفق أبو بكر وعمر على قتالهم بعد أن راجعه عمر في ذلك كما في الصحيحين عن أبي هريرة أن عمر قال لأبي بكر يا خليفة رسول الله كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلمأمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم إلا بحقها وحسابهم على الله فقال أبو بكر ألم يقل إلا بحقها وحسابهم على الله فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق وفي الصحيحين تصديق فهم أبي بكر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فعمر وافق أبا بكر على قتال أهل الردة مانعي الزكاة وكذلك سائر الصحابة وأقر أولئك بالزكاة بعد امتناعهم منها ولم تسب لهم

 

 

ذرية ولا حبس منهم أحد ولا كان بالمدينة حبس لا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد أبي بكر فكيف يمون وهم في حبسه وأول حبس اتخذ في الإسلام بمكة اشترى عمر من صفوان بن أمية داره وجعلها حبسا بمكة ولكن من الناس من يقول سبى أبو بكر نساءهم وذراريهم وعمر أعاد ذلك عليهم وهذا إذا وقع ليس فيه بيان اختلافهما فإنه قد يكون عمر كان موافقا على جواز سبيهم لكن رد إليهم سبيهم كما رد النبي صلى الله عليه وسلم على هوازن سبيهم بعد أن قسمه بين المسلمين فمن طابت نفسه بالرد وإلا عوضه من عنده لما أتى أهلهم مسلمين فطلبوا رد ذلك إليهم وأهل الردة كان قد اتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة على أنهم لا يمكنون من ركوب الخيل ولا حمل السلاح بل يتركون يتبعون أذناب البقر حتى يرى الله خليفة رسوله والمؤمنين حسن إسلامهم فلما تبين لعمر حسن إسلامهم رد ذلك إليهم لأنه جائز وقوله الخلاف السابع في تنصيص أبي بكر على عمر في الخلافة فمن الناس من قال وليت علينا فظا غليظا

 

 

والجواب أن يقال إن جعل مثل هذا خلافا فقد كان مثل هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد طعن بعض الصحابة في إمارة زيد ابن حارثة وبعضهم في إمارة أسامة ابنه وقد كان غير واحد يطعن فيمن يوليه أبو بكر وعمر ثم إن القائل لها كان طلحة وقد رجع عن ذلك وهو من أشد الناس تعظيما لعمر كما أن الذين طعنوا في إمارة زيد وأسامة رجعوا عن طعنهم طاعة لله ورسوله وقوله الخلاف الثامن في إمرة الشورى واتفقوا بعد الاختلاف على إمارة عثمان والجواب أن هذا من الكذب الذي اتفق أهل النقل على أنه كذب فإنه لم يختلف أحد في خلافة عثمان ولكن بقي عبد الرحمن يشاور الناس ثلاثة أيام وأخبر أن الناس لا يعدلون بعثمان وأنه شاور حتى العذاري في خدورهن وإن كان في نفس أحد كراهة لم ينقل أو قال أحد شيئا ولم ينقل إلينا فمثل هذا قد يجري في مثل هذه الأمور والأمر الذي يتشاور فيه الناس لا بد فيه من كلام لكن لا يمكن الجزم بذلك بمجرد الحزر

 

 

فلما علمنا نقلا صحيحا أنه ما كان اختلاف في ولاية عثمان ولا أن طائفة من الصحابة قالت ولوا عليا أو غيره كما قال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير ولو وجد شيء من ذلك لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله كما نقل نزاع بعض الأنصار في خلافة أبي بكر فالمدعي لذلك مفتر ولهذا قال الإمام أحمد لم يتفق الناس على بيعة كما اتفقوا على بيعة عثمان وعثمان ولاه المسلمون بعد تشاورهم ثلاثة أيام وهو مؤتلفون متفقون متحابون متوادون معتصمون بحبل الله جميعا وقد أظهرهم الله وأظهر بهم ما بعث به نبيه من الهدى ودين الحق ونصرهم على الكفار وفتح بهم بلاد الشام والعراق وبعض خراسان فلم يعدلوا بعثمان غيره كما أخبر بذلك عبد الرحمن بن عوف ولهذا بايعه عبد الرحمن كما ثبت هذا في الأحاديث الصحيحة وأما ما ذكره بعض الناس من أنه اشترط على عثمان سيرة الشيخين فلم يجب إما لعجزه عن مثل سيرتهما وإما لأن التقليد غير واجب أو غير جائز وأنه اشترط على علي سيرة الشيخين فأجابه لإمكان متابعتهما أو جواز تقليدهما فهذا النقل باطل ليس له إسناد ثابت

 

 

فإنه مخالف للنقل الثابت في الصحيح الذي فيه أن عبد الرحمن بقي ثلاثة أيام لم يغتمض في لياليها بكثير نوم في كل ذلك يشاور المسلمين ولم يرهم يعدلون بعثمان غيره بل رأوه أحق وأشبه بالأمر من غيره وأن عبد الرحمن لم يشترط على علي إلا العدل فقال لكل منهما الله عليك إن وليتك لتعدلن وإن وليت عليك لتسمعن ولتطيعن فيقول نعم فشرط على المتولي العدل وعلى المتولي عليه السمع والطاعة وهذا حكم الله ورسوله كما دل عليه الكتاب والسنة وأما قوله ووقعت اختلافات كثيرة منها ردة الحكم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسمى طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان يشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجاباه إلى ذلك ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخا فيقال مثل هذا إن جعله اختلافا جعل كلما حكم خليفة بحكم ونازعه فيه قوم اختلافا وقد كان ذكرك لما اختلفوا فيه من المواريث

 

 

والطلاق وغير ذلك أصح وأنفع فإن الخلاف في ذلك ثابت منقول عند أهل العلم ينتفع الناس بذكره والمناظرة فيه وهو خلاف في أمر كلي يصلح أن تقع فيه المناظرة وأما هذه الأمور فغايتها جزئية ولا تجعل مسائل خلاف يتناظر فيها الناس هذا مع أن فيما ذكره كذبا كثيرا منه ما ذكره من أمر الحكم وأنه طرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يسمى طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه استشفع إلى أبي بكر وعمر أيام خلافتهما فما أجاباه إلى ذلك وأن عمر نفاه من مقامة باليمن أربعين فرسخا فمن الذي نقل ذلك وأين إسناده ومتى ذهب هذا إلى اليمن وما الموجب لنفيه إلى اليمن وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ما يدعونه بالطائف وهي أقرب إلى مكة والمدينة من اليمن فإذا كان الرسول أقره قريبا منه فما الموجب لنفيه بعد ثبوته إلى اليمن وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن نفى الحكم باطل فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينفه إلى الطائف بل هو ذهب بنفسه وذكر بعض الناس أنه نفاه ولم يذكروا إسنادا صحيحا بكيفية القصة وسببها وعلى هذا التقدير فليس فيمن يجب نفيه في الشريعة من يستحقالنفي الدائم بل ما من ذنب يستحق صاحبه النفي إلا ويمكن أن يستحق بعد ذلك الإعادة إلى وطنه فإن النفي إما مؤقت كنفي الزاني البكر عند جمهور العلماء سنة فهذا يعاد بعد السنة وإما نفي مطلق كنفي المخنث فهذا ينفي إلى أن يتوب وكذلك نفى عمر في تعزير الخمر وحينئذ فلا يمكن أن يقال إن ذنب الحكم الذي نفى من أجله لم يتب منه في مدة بضع عشرة سنة وإذا تاب من ذنبه مع طول هذه المدة جاز أن يعاد وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجر الثلاثة الذين خلفوا خمسين ليلة ثم تاب الله عليهم وكلمهم المسلمون وعمر رضي الله عنه نفى صبيغ بن عسل التميمي لما أظهر اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وضربه وأمر المسلمين بهجرة سنة بعد أن أظهر التوبة فلما تاب أمر المسلمين بكلامه

 

 

وبهذا أخذ أحمد وغيره في أن الداعي إلى البدعة إذا تاب يؤجل سنة كما أجل عمر صبيغا وكذلك الفاسق إذا تاب واعتبر مع التوبة صلاح العمل كما يقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين ثم لو قدر أنه كان يستحق النفي الدائم فغاية ذلك أن يكون اجتهادا اجتهده عثمان في رده لصاحبه أجر مغفور له أو ذنبا له أسباب كثيرة توجب غفرانه وقوله ومنها نفيه أبا ذر إلى الربذة وتزويجه مروان بن الحكم ابنته وتسليمه خمس غنائم إفريقية وقد بلغت مائتي ألف دينار فيقال أما قصة أبي ذر فقد تقدم ذكرها وأما تزويجه مروان ابنته فأي شيء في هذا مما يجعل اختلافا وأما إعطاؤه خمس غنائم إفريقية وقد بلغت مائتي ألف دينار فمن الذي نقل ذلك وقد تقدم قوله إنه أعطاه ألف ألف دينار والمعروف أن خمس إفريقية لم يبلغ ذلكونحن لا ننكر أن عثمان رضي الله عنه كان يحب بني أمية وكان يواليهم ويعطيهم أموالا كثيرة وما فعله من مسائل الاجتهاد التي تكلم فيها العلماء الذين ليس لهم غرض كما أننا لا ننكر أن عليا ولى أقاربه وقاتل وقتل خلقا كثيرا من المسلمين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون ويصلون لكن من هؤلاء من قاتله بالنص والإجماع ومنهم من كان قتاله من مسائل الاجتهاد التي تكلم فيها العلماء الذين لا غرض لهم وأمر الدماء أخطر من أمر الأموال والشر الذي حصل في الدماء بين الأمة أضعاف الشر الذي حصل بإعطاء الأموال فإذا كنا نتولى عليا ونحبه ونذكر ما دل عليه الكتاب والسنة من فضائله مع أن الذي جرى في خلافته أقرب إلى الملام مما جرى في خلافة عثمان وجرى في خلافة عثمان من الخير مالم يجر مثله في خلافته فلأن نتولى عثمان ونحبه ونذكر ما دل عليه الكتاب والسنة بطريق الأولى وقد ذكرنا أن ما فعله عثمان في المال فله ثلاثة مآخذ أحدها أنه عامل عليه والعامل يستحق مع الغنى

 

 

الثاني أن ذوي القربى هم ذوو قربى الإمام الثالث أنهم كانوا قبيلة كثيرة ليسوا مثل قبيلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فكان يحتاج إلى إعطائهم وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكر وعمر إلى توليه أقاربهما وإعطائهما وهذا مما نقل عن عثمان الاحتجاج به وقد قدمنا أنا لا ندعي عصمة في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذنب فضلا عن الخطأ في الاجتهاد وقد قال سبحانه وتعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ((سورة الزمر).). وقال تعالى أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون (سورة الأحقاف). وقوله ومنها ايواؤه عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد أن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه وتوليته مصر فالجواب إن كان المراد أنه لم يزل مهدر الدم حتى ولاه عثمان كما

 

 

يفهم من الكلام فهذا لا يقوله إلا مفرط في الجهل بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته فإن الناس كلهم متفقون على أنه في عام فتح مكة بعد أن كان النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دم جماعة منهم عبد الله بن سعد أتى عثمان به النبي صلى الله عليه وسلم وبايعه النبي صلى الله عليه وسلم بعد مراجعة عثمان له في ذلك وحقن دمه وصار من المسلمين المعصومين له ما لهم وعليه ما عليهم وقد كان هو من أعظم الناس معاداة للنبي عليه الصلاة والسلام وأسلم وحسن إسلامه وإنما كان صلى الله عليه وسلم أهدر دمه كما أهدر دماء قوم بغلظ كفرهم إما بردة مغلظة كمقيس ابن صبابة وعبد الله هذا كان كاتبا للوحي فارتد وافترى على النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه ثم لما قدم به عثمان عفا عنه صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول بايع عبد الله فأعرض عنه مرتين أو ثلاثا ثم بايعه فقال أما فيكم رجل رشيد ينظر إلى وقد أعرضت عن هذا فيضرب عنقه فقال رجل من الأنصار يا رسول الله هلا أومضت إلى فقال ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين

 

 

ثم لما بايعه حسن إسلامه ولم يعلم منه بعد ذلك إلا الخير وكان محمودا عند رعيته في مغازيه وقد كانت عداوة غيره من الطلقاء أشد من عداوته مثل صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وأبي سفيان بن حرب وغيرهم وذهب ذلك كله كما قال تعالى عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم موده والله قدير والله غفور رحيم (سورة الممتحنة). فجعل بين أولئك وبين النبي صلى الله عليه وسلم مودة تجب تلك العداوة والله قدير على تقليب القلوب وهو غفور رحيم غفر الله ما كان من السيئات بما بدلوه من الحسنات وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون وأما قوله كان عامل جنوده معاوية بن أبي سفيان عامل الشام وعامل الكوفة سعيد بن العاص وبعده عبد الله بن عامر والوليد بن عقبة عامل البصرة فيقال أما معاوية فولاه عمر بن الخطاب لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان مكانه ثم ولاه عثمان رضي الله عنه الشام كله وكانت سيرتهفي أهل الشام من أحسن السير وكانت رعيته من أعظم الناس محبة له وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وكان معاوية تحبه رعيته وتدعو له وهو يحبها ويدعو لها وأما توليته لسعيد بن العاص فأهل الكوفة كانوا دائما يشكون من ولاتهم ولى عليهم سعد بن أبي وقاص وأبو موسى الأشعري وعمار ابن ياسر والمغيرة بن شعبة وهم يشكون منهم وسيرهم في هذا مشهورة ولا شك أنهم كانوا يشكون في زمن عثمان أكثر وقد علم أن عثمان وعليا رضي الله عنه كل منهما ولى أقاربه وحصل له بسبب ذلك من كلام الناس وغير ذلك ما حصل وأما قوله الخلاف التاسع في زمن أمير المؤمنين عليه السلام بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له فأولا خروج طلحة والزبير إلى مكة ثم حمل عائشة إلى البصرة ثم نصب

 

 

القتال معه ويعرف ذلك بحرب الجمل والخلاف بينه وبين معاوية وحرب صفين ومغادرة عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري وكذا الخلاف بينه وبين الشراة المارقين بالنهروان وبالجملة كان على مع الحق والحق معه وظهر في زمانه الخوارج عليه مثل الأشعث بن قيس ومسعر بن فدكى التميمي وزيد بن حصين الطائي وغيرهم وظهر في زمنه الغلاة كعبد الله بن سبأ ومن الفرقتين ابتدأت الضلالة والبدع وصدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم يهلك فيه اثنان محب غال ومبغض قالفانظر بعين الإنصاف إلى كلام هذا الرجل هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعداهم والجواب أن يقال هذا الكلام مما يبين تحامل الشهرستاني في هذا الكتاب مع الشيعة كما تقدم وإلا فقد ذكر أبا بكر وعمر وعثمان ولم يذكر من أحوالهم أن الحق معهم دون من خالفهم ولما ذكر عليا قال وبالجملة كان الحق مع علي وعلي مع الحق والناقل الذي لا غرض له إما أن يحكى الأمور بالأمانة وإما أن يعطى كل ذي حق حقه فأما دعوى المدعي أن الحق كان مع علي وعلي مع الحق وتخصيصه بهذا دون أبي بكر وعمر وعثمان فهذا لا يقوله أحد من المسلمين غير الشيعة ومما يبين فساد هذا الكلام قوله إن الاختلاف وقع في زمن علي بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له ومن المعلوم أن كثيرا من المسلمين لم يكونوا بايعوه حتى كثير من أهل المدينة ومكة الذين رأوه لم يكونوا بايعوه من دع الذين كانوا بعيدين كأهل الشام ومصر والمغرب العراق وخراسان وكيف يقال مثل هذا في بيعة علي ولا يقال في بيعة عثمان التي اجتمع عليها المسلمون كلهم ولم يتنازع فيها اثنان

 

 

وكذلك ما ذكره من التعريض بالطعن على طلحة والزبير وعائشة من غير أن يذكر لهم عذرا ولا رجوعا وأهل العلم يعلمون أن طلحة والزبير لم يكونا قاصدين قتال علي ابتداء وكذلك أهل الشام لم يكن قصدهم قتاله وكذلك علي لم يكن قصده قتال هؤلاء ولا هؤلاء ولكن حرب الجمل جرى بغير اختياره ولا اختيارهم فإنهم كانوا قد اتفقوا على المصالحة وإقامة الحدود على قتله عثمان فتواطأت القتلة على إقامة الفتنة آخرا كما أقاموها أولا فحملوا على طلحة والزبير وأصحابهما فحملوا دفعا عنهم وأشعروا عليا أنهما حملا عليه فحمل على دفعا عن نفسه وكان كل منهما قصده دفع الصيال لا ابتداء القتال هكذا ذكر غير واحد من أهل العلم بالسير فإن كان الأمر قد جرى على وجه لا ملام فيه فلا كلام وإن كان قد وقع خطأ أو ذنب من أحدهما أو كليهما فقد عرف أن هذا لا يمنع ما دل عليه الكتاب والسنة من أنهم من خيار أولياء الله المتقين وحزبه المفلحين وعباهة الصالحين وأنهم من أهل الجنة

 

 

وقول هذا الرافضي انظر بعين الانصاف إلى كلام هذا الرجل هل خرج موجب الفتنة عن المشايخ أو تعداهم فالجواب أن يقال أما الفتنة فإنما ظهرت في الإسلام من الشيعة فإنهم أساس كل فتنة وشر وهم قطب رحى الفتن فإن أول فتنة كانت في الإسلام قتل عثمان وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من نجا فقد نجا منهن موتي وقتل خليفة مضطهد بغير حق والدجال ومن استقرأ أخبار العالم في جميع الفرق تبين له أنه لم يكن قط طائفة أعظم اتفاقا على الهدى والرشد وأبعد عن الفتنة والتفرق والاختلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خير الخلق بشهادة الله لهم بذلك إذ يقول تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (سورة آل عمران). كما لم يكن في الأمم أعظم اجتماعا على الهدى وأبعد عن التفرق والاختلاف من هذه الأمة لأنهم أكمل اعتصاما بحبل الله الذي هو كتابه المنزل وما جاء به من نبيه المرسل وكل من كان أقرب إلى الإعتصام

 

 

بحبل الله وهو اتباع الكتاب والسنة كان أولى بالهدى والاجتماع والرشد والصلاح وأبعد عن الضلال والافتراق والفتنة واعتبر ذلك بالأمم فأهل الكتاب أكثر اتفاقا وعلما وخيرا من الخارجين عن الكتب والمسلمون أكثر أتفاقا وهدى ورحمة وخيرا من اليهود والنصارى فإن أهل الكتابين قبلنا تفرقوا وبدلوا ما جاءت به الرسل وأظهروا الباطل وعادوا الحق وأهله وإنه وإن كان يوجد في أمتنا نظير ما يوجد في الأمم قبلنا كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن الناس وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا فارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك لكن أمتنا لا تزال فيها طائفة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ولهذا لا يسلط الله عليهم عدوا من

 

 

غيرهم فيجتاحهم كما ثبت هذا وهذا في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة وأخبر أنه سأل ربه أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطاه ذلك وسأله أن لا يهلكهم بسنة عامة فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم شديدا فمنعه ذلك ومن قبلنا كان الحق يغلب فيهم حتى لا تقوم به طائفة ظاهرة منصورة ولهذا كان العدو يسلط عليهم فيجتاحهم كما سلط على بني إسرائيل وخرب بيت المقدس مرتين فلم يبق لهم ملك ونحن ولله الحمد لم يزل لأمتنا سيف منصور يقاتلون على الحق فيكونون على الهدى ودين الحق الذي بعث الله به الرسول فلهذا لم نزل ولا نزال وأبعد الناس عن هذه الطائفة المهدية المنصورة هم الرافضة لأنهم أجهل وأظلم طوائف أهل الأهواء المنتسبين إلى القبلة وخيار هذه الأمة هم الصحابة فلم يكن في الأمة أعظم اجتماعا على الهدى ودين الحق ولا أبعد عن التفرق والاختلاف منهم وكل ما يذكر عنهم مما فيه نقص فهذا إذا قيس إلى ما يوجد في غيرهم من الأمة كان قليلا من كثير وإذا قيس ما يوجد في الأمة إلى ما يوجد في سائر الأمم

 

 

كان قليلا من كثير وإنما يغلط من يغلط أنه ينظر إلى السواد القليل في الثوب الأبيض ولا ينظر إلى الثوب الأسود الذي فيه بياض وهذا من الجهل والظلم بل يوزن هؤلاء بنظرائهم فيظهر الفضل والرجحان وأما ما يقترحه كل أحد في نفسه مما لم يخلق فهذا لا اعتبار به فهذا يقترح معصوما في الأئمة وهذا يقترح ما هو كالمعصوم وإن لم يسمه معصوما فيقترح في العالم والشيخ والأمير والملك ونحو ذلك مع كثرة علمه ودينه ومحاسنه وكثرة ما فعل الله على يديه من الخير يقترح مع ذلك أن لا يكون قد خفى عليه شيء ولا يخطىء في مسألة وأن يخرج عن حد البشرية فلا يغضب بل كثير من هؤلاء يقترح فيهم مالا يقترح في الأنبياء وقد أمر الله تعالى نوحا ومحمدا أن يقولا لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك (سورة هود). فيريد الجهال من المتبوع أن يكون عالما بكل ما يسئل عنه قادرا على كل ما يطلب منه غنيا عن الحاجات البشرية كالملائكة وهذا الاقتراح من ولاة الأمر كاقتراح الخوارج في عموم الأمة أن لا يكون لأحدهم ذنب ومن كان له ذنب كان عندهم كافرا مخلدا في النار

 

 

وكل هذا باطل خلاف ما خلقه الله وخلاف ما شرعه الله فاقتراح هؤلاء فيمن يوليه كاقتراح أولئك عليه فيمن يرسله وكاقتراح هؤلاء فيمن يرحمه ويغفر له والبدع مشتقة من الكفر فما من قول مبتدع إلا وفيه شعبة من شعب الكفر وكما أنه لم يكن في القرون أكمل من قرن الصحابة فليس في الطوائف بعدهم أكمل من أتباعهم فكل من كان للحديث والسنة وآثار الصحابة أتبع كان أكمل وكانت تلك الطائفة أولى بالاجتماع والهدى والاعتصام بحبل الله وأبعد عن التفرق والاختلاف والفتنة وكل من بعد عن ذلك كان أبعد عن الرحمة وأدخل في الفتنة فليس الضلال والغي في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في الرافضة كما أن الهدى والرشاد والرحمة ليس في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في أهل الحديث والسنة المحضة الذين لا ينتصرون إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم خاصته وهو إمامهم المطلق الذي لا يغضبون لقول غيرهم إلا إذا اتبع قوله ومقصودهم نصر الله ورسوله وإذا كان الصحابة ثم أهل الحديث والسنة المحضة أولى

 

 

بالهدى ودين الحق وأبعد الطوائف عن الضلال والغي فالرافضة بالعكس وقد تبين أن هذا الكلام الذي ذكره هذا الرجل فيه من الباطل ما لا يخفى على عاقل ولا يحتج به إلا من هو جاهل وأن هذا الرجل كان له بالشيعة إلمام واتصال وأنه دخل في هواهم بما ذكره في هذا الكتاب مع أنه ليس من علماء النقل والآثار وإنما هو من جنس نقلة التواريخ التي لا يعتمد عليها أولو الأبصار ومن كان علمه بالصحابة وأحوالهم من مثل هذا الكتاب فقد خرج عن جملة أولى الألباب ومن الذي يدع كتب النقل التي اتفق أهل العلم بالمنقولات على صحتها ويدع ما تواتر به النقل في كتب الحديث على بعضها كالصحاح والسنن والمساند والمعجمات والأسماء والفضائل وكتب أخبار الصحابة وغير ذلك وكتب السير والمغازي وأن كانت دون ذلك وكتب التفسير والفقه وغير ذلك من الكتب التي من نظر فيها علم بالتواتر اليقيني ضد ما في النقل الباطل وعلم أن

 

 

الصحابة رضي الله عنهم كانوا أئمة الهدى ومصابيح الدجى وأن أصل كل فتنة وبليه هم الشيعة ومن انضوى إليهم وكثير من السيوف التي سلت في الإسلام إنما كانت من جهتهم وعلم أن أصلهم ومادتهم منافقون اختلقوا أكاذيب وابتدعوا آراء فاسدة ليفسدوا بها دين الإسلام ويستزلوا بها من ليس من أولى الأحلام فسعوا في قتل عثمان وهو أول الفتن ثم انزووا إلا على لا حبا فيه ولا في أهل البيت لكن ليقيموا سوق الفتنة بين المسلمين ثم هؤلاء الذين سعوا معه منهم من كفره بعد ذلك وقاتله كما فعلت الخوارج وسيفهم أول سيف سل على الجماعة ومنهم من أظهر الطعن على الخلفاء الثلاثة كما فعلت الرافضة وبهم تسترت الزنادقة كالغالية من النصيرية وغيرهم ومن القرامطة الباطنية والإسماعيلية وغيرهم فهم منشأ كل فتنة والصحابة رضي الله عنهم منشأ كل علم وصلاح وهدى ورحمة في الإسلام ولهذا تجد الشيعة ينتصرون لأعداء الإسلام المرتدين كبني حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب ويقولون إنهم كانوا مظلومين كما ذكر صاحب هذا الكتاب وينتصرون لأبي لؤلؤة الكافر المجوسي ومنهم من يقول اللهم أرض عن أبي لؤلؤة واحشرني معه ومنهم من يقول في بعض

 

 

ما يفعله من محاربتهم واثارات أبي لؤلؤة كما يفعلونه في الصورة التي يقدرون فيها صورة عمر من الجبس أو غيره وأبو لؤلؤة كافر باتفاق أهل الإسلام كان مجوسيا من عباد النيران وكان مملوكا للمغيرة بن شعبة وكان يصنع الأرحاء وعليه خراج للمغيرة كل يوم أربعة دراهم وكان قد رأى ما عمله المسلمون بأهل الذمة وإذا رأى سبيهم يقدم إلى المدينة يبقى في نفسه من ذلك وقد روى أنه طلب من عمر أن يكلم مولاه في خراجه فتوقف عمر وكان من نيته أن يكلمه فقتل عمر بغضا في الإسلام وأهله وحبا للمجوس وانتقاما للكفار لما فعل بهم عمر حين فتح بلادهم وقتل رؤساءهم وقسم أموالهم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الحديث الصحيح حيث يقول إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله وعمر هو الذي أنفق كنوزهما وهذا الحديث الصحيح مما يدل على صحةخلافته وأنه كان ينفق هذين الكنزين في سبيل الله الذي هو طاعته وطاعة رسوله وما يقرب إلى الله لم ينفق الأموال في أهواء النفوس المباحة فضلا عن المحرمة فهل ينتصر لأبي لؤلؤة مع هذا إلا من هو أعظم الناس كفرا بالله ورسوله وبغضا في الإسلام ومفرط في الجهل لا يعرف حال أبي لؤلؤة ودع ما يسمع وينقل عمن خلا فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإسلام فإنه يجد معظم ذلك من قبل الرافضة وتجدهم من أعظم الناس فتنا وشرا وأنهم لا يقعدون عما يمكنهم من الفتن والشر وإيقاع الفساد بين الأمة ونحن نعرف بالعيان والتواتر العام وما كان في زماننا من حين خرج جنكزخان ملك الترك الكفار وما جرى في الإسلام من الشر فلا يشك عاقل أن استيلاء الكفار المشركين الذين لا يقرون بالشهادتين ولا بغيرها من المباني الخمس ولا يصومون شهر رمضان ولا يحجون البيت العتيق ولا يؤمنون بالله ولا بملائكته ولا بكتبه ورسله واليوم الآخر

 

وأعلم من فيهم وأدين مشرك يعبد الكواكب والأوثان وغايته أن يكون ساحرا أو كاهنا له رئي من الجن وفيهم من الشرك والفواحش ما هم به شر من الكهان الذين يكونون في العرب فلا يشك عاقل أن استيلاء مثل هؤلاء على بلاد الإسلام وعلى أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم كذرية العباس وغيرهم بالقتل وسفك الدماء وسبي النساء وإستحلال فروجهن وسبي الصبيان واستعبادهم وإخراجهم عن دين الله إلى الكفر وقتل أهل العلم والدين من أهل القرآن والصلاة وتعظيم بيوت الأصنام التي يسمونها البذخانات والبيع والكنائس على المساجد ورفع المشركين وأهل الكتاب من النصارى وغيرهم على المسلمين بحيث يكون المشركون وأهل الكتاب أعظم عزا وأنفذ كلمة وأكثر حرمة من المسلمين إلى أمثال ذلك مما لا يشك عاقل أن هذا أضر على المسلمين من قتال بعضهم بعضا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما جرى على أمته من هذا كان كراهته له وغضبه منه أعظم من كراهته لإثنين مسلمين تقاتلا على الملك ولم يسب

 

 

أحدهما حريم الآخر ولا نفع كافرا ولا أبطل شيئا من شرائع الإسلام المتواترة وشعائره الظاهرة ثم مع هذا الرافضة يعاونون أولئك الكفار وينصرونهم على المسلمين كما قد شاهده الناس لما دخل هولاكو ملك الكفار الترك الشام سنة ثمان وخمسين وستمائة فإن الرافضة الذين كانوا بالشام بالمدائن والعواصم من أهل حلب وما حولها ومن أهل دمشق وما حولها وغيرهم كانوا من أعظم الناس أنصارا وأعوانا على إقامة ملكه وتنفيذ أمره في زوال ملك المسلمين وهكذا يعرف الناس عامة وخاصة ما كان بالعراق لما قدم هولاكون إلى العراق وقتل الخليفة وسفك فيها من الدماء مالا يحصيه إلا الله فكان وزير الخليفة ابن العلقمي والرافضة هم بطانته الذين أعانوه على ذلك بأنواع كثيرة باطنة وظاهرة يطول وصفها وهكذا ذكر أنهم كانوا مع جنكزخان وقد رآهم المسلمون بسواحل الشام وغيرها إذا اقتتل المسلمون والنصارى هواهم مع النصارى ينصرونهم بحسب الإمكان ويكرهون فتح مدائنهم كما كرهوا فتح عكا وغيرها ويختارون إدالتهم على المسلمين حتى أنهم لما انكسر

 

 

عسكر المسلمين سنة غازان سنة تسع وتسعين وخمسمائة وخلت الشام من جيش المسلمين عاثوا في البلاد وسعوا في أنواع من الفساد من القتل وأخذ الأموال وحمل راية الصليب وتفضيل النصارى على المسلمين وحمل السبي والأمول والسلاح من المسلمين إلى النصارى أهل الحرب بقبرس وغيرها فهذا وأمثاله قد عاينه الناس وتواتر عند من لم يعاينه ولو ذكرت أنا ما سمعته ورأيته من آثار ذلك لطال الكتاب وعند غيري من أخبار ذلك وتفاصيله مالا أعلمه فهذا أمر مشهود من معاونتهم للكفار على المسلمين ومن اختيارهم لظهور الكفر وأهله على الإسلام وأهله ولو قدر أن المسلمين ظلمة فسقه ومظهرون لأنواع من البدع التي هي أعظم من سب علي وعثمان لكان العاقل ينظر في خير الخيرين وشر الشرين ألا ترى أن أهل السنة وإن كانوا يقولون في الخوارج والروافض وغيرهما من أهل البدع ما يقولون لكن لا يعاونون الكفار على دينهم ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعة دون ذلك والرافضة إذا تمكنوا لا يتقون وانظر ما حصل لهم في دولة السلطان خدابندا الذي صنف له هذا الكتاب كيف ظهر فيهم من الشر الذي لو دام وقوي أبطلوا به عامة شرائع الإسلام لكن يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون

 

 

وأما الخلفاء والصحابة فكل خير فيه المسلمون إلى يوم القيامة من الإيمان والإسلام والقرآن والعلم والمعارف والعبادات ودخول الجنة والنجاة من النار وانتصارهم على الكفار وعلو كلمة الله فإنما هو ببركة ما فعله الصحابة الذين بلغوا الدين وجاهدوا في سبيل الله وكل مؤمن آمن بالله فللصحابة رضي الله عنهم عليه فضل إلى يوم القيامة وكل خير فيه الشيعة وغيرهم فهو ببركة الصحابة وخير الصحابة تبع لخير الخلفاء الراشدين فهم كانوا أقوم بكل خير في الدين والدنيا من سائر الصحابة فكيف يكون هؤلاء منبع الشر ويكون أولئك الرافضة منبع الخير ومعلوم أن الرافضي يوالي أولئك الرافضة ويعادي الصحابة فهل هذا إلا من شر من أعمى الله بصيرته فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وإذا قال القائل الجمهور الذين يتولون الثلاثة فيهم من الشر والفتن ما لم ينقل مثله عن علي فلا يقابل بين الرافضة والصحابة والجمهور فنقول الجواب من وجهين الأول أنا لم نذكر هذا للمقابلة بل ردا على من زعم أن الفتنة لم تخرج إلا عن الخلفاء الراشدين ونحن قد علمنا بالمعاينة والتواتر أن الفتن والشرور العظيمة التي لا تشابهها فتن

 

 

إنما تخرج عن طائفته التي يتولاها ويزعم أنهم هم المؤمنون أهل الجنة وعلمنا أن الخير العظيم الذي لا يوازيه خير إنما ظهر عن الصحابة والخلفاء الراشدين لنبين عظيم افتراء هذا المفترى وان مثله في ذلك مثل من قال من أتباع إخوانه الكذابين الذين يعظمون غير الأنبياء على الأنبياء كأئمة العبيديين وغيرهم من الملادحة وأتباع مسيلمة الكذاب وأبى لؤلؤة قاتل عمر ونحوهما ممن يعظمه هذا المفترى إذا قال انظر هل ظهرت الفتن إلا من موسى وعيسى ومحمد فيقال له بل الفتن إنما ظهرت عن أصحابك وإخوانك الذين يفترون على الله الكذب ويعظمون الكذابين المفترين كتعظيم العبيديين الملاحدة وتعظيم مسيلمة الكذاب وتعظيم الطوسي الملحد وأمثاله وقد رأيناك وأمثالك تعظمون هؤلاء الملاحدة علماءهم وولاتهم على أتباع الأنبياء فلكم أوفر نصيب من قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا

 

 

هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (سورة النساء). فإن مسيلمة الكذاب من أكابر الأئمة الذين كفروا وكذلك أمثاله من الملاحدة العبيديين وأمثالهم الذين كانوا يدعون الإلهية والنبوة أو يدعى أن الفيلسوف أعظم من الأنبياء ونحو ذلك من مقالات الذين كفروا فإن المبتدعة من الجهمية والرافضة وغيرهم الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا فيحق عليهم ما وعد الله به حيث قال أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (سورة النساء). ومن هؤلاء من يعظم الشرك والسحر والأحوال الشيطانية مما هو من الإيمان بالجبت والطاغوت فإن الجبت هو السحر والطاغوت الشيطان والأوثان الوجه الثاني أنا لو فرضنا المقابلة بين الجمهور والرافضة فما بين خير الطائفتين وشرهما نسبة فإنا لا ننكر أن في الجمهور شرا كثيرا لكن إذا جاءت المقابلة فلا بد من المعادلة كما أنا إذا قابلنا بين المسلمين والنصارى واليهود لم نستكثر ما في المسلمين من الشر لكن يجب العدل فإن الله أمر بالقسط والعدل وهو مما اتفقت العقول والشرائع على وجوبه وحسنه فتقول ما من شر يوجد في الجمهور إلا وفي الرافضة من جنسه ما هو

 

 

أعظم منه كما أنه مامن شر يكون في المسلمين إلا وفي اليهود والنصارى من جنسه ما هو أعظم منه وما من خير يكون في الشيعة إلا وفي الجمهور من جنسه ما هو أعظم منه كما أنه مامن خير يكون في بعض أهل الكتاب إلا وفي المسلمين من جنسه ما هو خير منه وأمهات الفضائل العلم والدين والشجاعة والكرم فاعتبر هذا في هؤلاء وهؤلاء فالجمهور فيهم من العلم بالقرآن ومعانيه وعلومه ما لا يوجد منه شيء عند الشيعة بعضهم تعلمه من أهل السنة وهم مع هذا مقصرون فمن صنف منهم تفسير القرآن فمن تفاسير أهل السنة يأخذ كما فعل الطوسي والموسوي فما في تفسيره من علم يستفاد هو مأخوذ من تفاسير أهل السنة وأهل السنة في هذا الموضع من يقر بخلافة الثلاثة فالمعتزلة داخلون في أهل السنة وهم إنما يستعينون في التفسير والمنقولات بكلام المعتزلة وكذلك بحوثهم العقلية فما كان فيها صوابا فإنما أخذوه عن أهل السنة والذين يمتازون به هو كلامهم في ثلب الصحابة والجمهور ودعوى النص ونحو ذلك مما هم به أخلق وهو بهم أشبه وأما الحديث فهم من أبعد الناس عن معرفته لا إسناده ولا متنه ولا يعرفون الرسول واحواله ولهذا إذا نقلوا شيئا من الحديث كانوا من

 

 

أجهل الناس به وأي كتاب وجدوا فيه ما يوافق هواهم نقلوه من غير معرفة بالحديث كما نجد هذا المصنف وأمثاله ينقلون ما يجدونه موافقا لأهوائهم ولو أنهم ينقلون ما لهم وعليهم من الكتب التي ينقلون منها مثل تفسير الثعلبي وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل وفضائل الصحابة لأبي نعيم وما في كتاب أحمد من زيادات القطيعي وزيادات ابن أحمد لانتصف الناس منهم لكنه لا يصدقون إلا بما يوافق قلوبهم وأما الفقه فهم من أبعد الناس عن الفقه وأصل دينهم في الشريعة هي مسائل ينقلونها عن بعض علماء أهل البيت كعلي بن الحسين وابنه أبي جعفر محمد وابنه جعفر بن محمد وهؤلاء رضي الله عنهم من أئمة الدين وسادات المسلمين لكن لا ينظرون في الإسناد إليهم هل ثبت النقل إليهم أم لا فإنه لا معرفة لهم بصناعة الحديث والإسناد ثم إن الواحد من هؤلاء إذا قال قولا لا يطلب دليله من الكتاب والسنة ولا ما يعارضه ولا يردون ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول كما أمر الله به ورسوله بل قد أصلوا لهم ثلاثة أصول أحدها أن هؤلاء معصومون والثاني أن كل ما يقولونه منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم والثالث أن إجماع العترة حجة وهؤلاء هم العترة

 

 

فصاروا لذلك لا ينظرون في دليل ولا تعليل بل خرجوا عن الفقه في الدين كخروج الشعرة من العجين وإذا صنف واحد منهم كتابا في الخلاف وأصول الفقه كالموسوي وغيره فإن كانت المسألة فيها نزاع بين العلماء أخذوا حجة من يوافقهم واحتجوا بما احتج به أولئك وأجابوا عما يعارضهم بما يجيب به أولئك فيظن الجاهل منهم أن هذا قد صنف كتابا عظيما في الخلاف أو الفقه أو الأصول ولا يدري الجاهل أن عامته استعارة من كلام علماء أهل السنة الذين يكفرهم ويعاديهم وما انفردوا به فلا يساوى مداده فإن المداد ينفع ولا يضر وهذا يضر ولا ينفع وإن كانت المسألة مما انفردوا به اعتمدوا على ذلك الأصول الثلاثة التي فيها من الجهل والضلال ما لا يخفى وكذلك كلامهم في الأصول والزهد والرقائق والعبادات والدعوات وغير ذلك وكذلك إذا نظرت ما فيهم من العبادة والأخلاق المحمودة تجده جزءا مما عليه الجمهور.

*

فصل قال الرافضي: الفصل الثالث في الأدلة الدالة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد رسول صلى الله عليه وسلم. الأدلة في ذلك كثيرة لا تحصى لكن نذكر المهم منها وننظم أربعة مناهج.

المنهج الأول في الأدلة العقلية وهي خمسة الأول أن الإمام يجب أن يكون معصوما ومتى كان ذلك كان الإمام هو عليا عليه السلام أما المقدمة الأولى فلأن الإنسان مدني بالطبع لا يمكن أن يعيش منفردا لافتقاره في بقائه إلى ما يأكل ويشرب ويلبس ويسكن ولا يمكن أن يفعلها بنفسه بل يفتقر إلى مساعدة

 

غيره بحيث يفرغ كل واحد منهم إلى ما يحتاج إليه صاحبه حتى يتم قيام النوع ولما كان الاجتماع في مظنه التغالب والتغابن بأن كل واحد من الأشخاص قد يحتاج إلى ما في يد غيره فتدعوه قوته الشهوانية إلى أخذه وقهره عليه وظلمه فيه فيؤدى ذلك إلى وقوع الهرج والمرج وإثارة الفتن فلا بد من نصب إمام معصوم يصدهم عن الظلم والتعدى ويمنعهم عن التغالب والقهر وينصف المظلوم من الظالم ويوصل الحق إلى مستحقه لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية وإلا لافتقر إلى إمام آخر لأن العلة المحوجة إلى نصب الإمام هي جواز الخطأ على الأمة فلو جاز الخطأ عليه لاحتاج إلى إمام آخر فإن كان معصوما كان هو الإمام وإلا لزم التسلسل وأما المقدمة الثانية فظاهرة لأن أبا بكر وعمر وعثمان لم يكونوا معصومين اتفاقا وعلي معصوم فيكون هو الإمام.

*والجواب عن ذلك أن نقول كلتا المقدمتين باطلة...

أما الأولى: فقوله لا بد من نصب إمام معصوم يصدهم عن الظلم والتعدي ويمنعهم عن التغالب والقهر وينصف المظلوم من الظالم ويوصل الحق إلى مستحقه لا يجوز عليه الخطأ ولا السهو ولا المعصية.

فيقال له نحن نقول بموجب هذا الدليل إن كان صحيحا فإن الرسول هو المعصوم وطاعته واجبة في كل زمان على كل أحد وعلم الأمة بأمره ونهيه أتم من علم آحاد الرعية بأمر الإمام الغائب كالمنتظر ونحوه بأمره ونهيه فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام معصوم والأمة تعرف أمره ونهيه ومعصومهم ينتهي إلى الغائب المنتظر الذي لو كان معصوما لم يعرف أحد لا أمره و لا نهية بل ولا كانت رعية على تعرف أمره ونهيه كما تعرف الأمة نبيها ونهيه بل عند أمه محمد صلى الله عليه وسلم من علم أمره ونهيه ما أغناهم عن كل إمام سواه بحيث أنهم لا يحتاجون قط إلى المتولى عليهم في شيء من معرفة دينهم ولا يحتاجون في العمل إلى ما يحتاجون فيه إلى التعاون وهم يعلمون أمره ونهيه أعظم من معرفة آحاد رعية المعصوم ولو قدر

 

وجوده بأمره فإنه لم يتول على الناس ظاهر من أدعيت له العصمة إلا علي ونحن نعلم قطعا أنه كان في رعيته باليمن وخراسان وغيرهما من لا يدري بماذا أمر ولا عماذا نهى بل نوابه كانوا يتصرفون بما لا يعرفه هو وأما الورثة الذين ورثوا علم محمد صلى الله عليه وسلم فهم يعرفون أمره ونهيه ويصدقون في الإخبار عنه أعظم من علم نواب علي بأمره ونهيه ومن صدقهم في الإخبار عنه وهم إنما يريدون أنه لا بد من إمام معصوم حي فنقول هذا الكلام باطل من وجوه أحدها أن هذا الإمام الموصوف لم يوجد بهذه الصفة أما في زماننا فلا يعرف إمام معروف يدعى فيه هذا ولا يدعي لنفسه بل مفقود غائب عند متبعيه ومعدوم لا حقيقة له عند العقلاء ومثل هذا لا يحصل به شيء من مقاصد الإمامة أصلا بل من ولى على الناس ولو كان فيه بعض الجهل وبعض الظلم كان أنفع لهم ممن لا ينفعهم بوجه من الوجوه وهؤلاء المنتسبون إلى الإمام المعصوم لا يوجدون مستعينين في أمورهم إلا بغيره بل هم ينتسبون إلى المعصوم وإنما يستعينون بكفور أو ظلوم فإذا كان المصدقون لهذا المعصوم المنتظر لم ينتفع به أحد

 

منهم لا في دينه ولا في دنياه لم يحصل لأحد به شيء من مقاصد الإمامة وإذا كان المقصود لا يحصل منه شيء لم يكن بنا حاجة إلى إثبات الوسيلة لأن الوسائل لا تراد إلا لمقاصدها فإذا جزمنا بانتفاء المقاصد كان الكلام في الوسيلة من السعي الفاسد وكان هذا بمنزلة من يقول الناس يحتاجون إلى من يطعمهم ويسقيهم وينبغي أن يكون الطعام صفته كذا والشراب صفته كذا وهذا عند الطائفة الفلانبة وتلك الطائفة قد علم أنها من أفقر الناس وأنهم معروفون بالإفلاس وأي فائدة في طلب ما يعلم عدمه واتباع مالا ينتفع به أصلا والإمام يحتاج إليه في شيئين إما في العلم لتبليغه وتعليمه وإما في العمل به ليعين الناس على ذلك بقوته وسلطانه وهذا المنتظر لا ينفع لا بهذا ولا بهذا بل ما عندهم من العلم فهو من كلام من قبله ومن العمل إن كان مما يوافقهم عليه المسلمون استعانوا بهم وإلا استعانوا بالكفار والملاحدة ونحوهم فهم أعجز الناس في العمل وأجهل الناس في العلم مع دعواهم ائتمامهم بالمعصوم الذي مقصوده العلم والقدرة ولم يحصل لهم لا علم ولا قدرة فعلم انتفاء هذا مما يدعونه

 

وأيضا فالأئمة الاثنا عشر لم يحصل لأحد من الأمة بأحد منهم جميع مقاصد الإمامة أما من دون على فإنما كان يحصل للناس من علمه ودينه مثل ما يحصل من نظرائه وكان علي بن الحسين وابنه أبو جعفر وابنه جعفر ابن محمد يعلمون الناس ما علمهم الله كما علمه و علماء زمانهم وكان في زمنهم من هو أعلم منهم وأنفع للأمة وهذا معروف عند أهل العلم ولو قدر أنهم كانوا أعلم وأدين فلم يحصل من أهل العلم والدين ما يحصل من ذوي الولاية من القوة والسلطان وإلزام الناس بالحق ومنعهم باليد عن الباطل وأما من بعد الثلاثة كالعسكريين فهؤلاء لم يظهر عليهم علم تستفيده الأمة ولا كان لهم يد تستعين به الأمة بل كانوا كأمثالهم من الهاشميين لهم حرمة ومكانة وفيهم من معرفة ما يحتاجون إليه في الإسلام والدين ما في أمثالهم وهو ما يعرفه كثير من عوام المسلمين وأما ما يختص به أهل العلم فهذا لم يعرف عنهم ولهذا لم يأخذ عنهم أهل العلم كما أخذوا عن أولئك الثلاثة ولو وجدوا ما يستفاد لأخذوا ولكن طالب العلم يعرف مقصوده وإذا كان للإنسان نسب شريف كان ذلك مما يعينه على قبول

 

الناس منه ألا ترى أن ابن عباس لما كان كثير العلم عرفت الأمه له ذلك واستفادت منه وشاع ذكره بذلك في الخاصة والعامة وكذلك الشافعي لما كان عنده من العلم والفقه ما يستفاد منه عرف المسلمون له ذلك واستفادوا ذلك منه وظهر ذكره بالعلم والفقه ولكن إذا لم يجد الإنسان مقصوده في محل لم يطلبه منه ألا ترى أنه لو قيل عن أحد إنه طبيب أو نحوي وعظم حتى جاء إليه الأطباء أو النحاة فوجدوه لا يعرف من الطب والنحو ما يطلبون أعرضوا عنه ولم ينفعه مجرد دعوى الجهال وتعظيمهم وهؤلاء الإمامية أخذوا عن المعتزلة أن الله يجب عليه الإقدار والتمكين واللطف بما يكون المكلف عنده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد مع تمكنه في الحالين ثم قالوا والإمامة واجبة وهي أوجب عندهم من النبوة لأن بها لطفا في التكاليف قالوا إنا نعلم يقينا بالعادات واستمرار الأوقات أن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإذا لم يكن لهم رئيس وقع الهرج والمرج بينهم وكانوا عن الصلاح أبعد ومن الفساد أقرب وهذه الحال مشعرة بقضية العقل معلومة لا ينكرها إلا من جهل

 

العادات ولم يعلم استمرار القاعدة المستمرة في العقل قالوا وإذا كان هذا لطفا في التكليف لزم وجوبه ثم ذكروا صفاته من العصمة وغيرها ثم أورد طائفة منهم على أنفسهم سؤالا فقالوا إذا قلتم إن الإمام لطف وهو غائب عنكم فأين اللطف الحاصل مع غيبته وإذا لم يكن لطفه حاصلا مع الغيبة وجاز التكليف بطل أن يكون الإمام لطفا في الدين وحينئذ يفسد القول بإمامة المعصوم وقالوا في الجواب عن هذا السؤال إنا نقول إن لطف الإمام حاصل في حالة الغيبة للعارفين به في حال الظهور وإنما فات اللطف لمن لم يقل بإمامته كما أن لطف المعرفة لم يحصل لمن لم يعرف الله تعالى وحصل لمن كان عارفا به قالوا وهذا يسقط هذا السؤال ويوجب القول بإمامة المعصومين فقيل لهم لو كان اللطف حاصلا في حال الغيبة كحال الظهور لوجب أن يستغنوا عن ظهوره ويتبعوه إلى أن يموتوا وهذا خلاف ما يذهبون إليه فأجابوا بأنا نقول إن اللطف في غيبته عند العارف به من باب التنفير والتبعيد عن القبائح مثل حال الظهور لكن نوجب ظهوره لشيء غير ذلك وهو رفع أيدي المتغلبين عن المؤمنين وأخذ الأموال ووضعها في مواضعها من أيدي الجبابرة ورفع ممالك الظلم التي لا يمكننا رفعها إلا بطريقة وجهاد الكفار الذي لا يمكن إلا مع ظهوره

 

فيقال لهم هذا كلام ظاهر البطلان وذلك أن الإمام الذي جعلتموه لطفا هو ما شهدت به العقول والعادات وهو ما ذكرتموه قلتم إن الجماعة متى كان لهم رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا بوجوده أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد واشترطتم فيه العصمة قلتم لأن مقصود الأنزجار لا يحصل إلا بها ومن المعلوم أن الموجودين الذين كانوا قبل المنتظر لم يكن أحد منهم بهذه الصفة لم يكن أحد منهم منبسط اليد ولا متصرفا وعلي رضي الله عنه تولى الخلافة ولم يكن تصرفه وانبساطه تصرف من قبله وانبساطهم وأما الباقون فلم تكن أيديهم منبسطة ولا متصرفون بل كان يحصل بأحدهم ما يحصل بنظرائه وأما الغائب فلم يحصل به شيء فإن المعترف بوجوده إذا عرف أنه غاب من أكثر من أربعمائة سنة وستين سنة وأنه خائف لا يمكنه الظهور فضلا عن إقامة الحدود ولا يمكنه أن يأمر أحدا ولا ينهاه لم يزل الهرج والفساد بهذا ولهذا يوجد طوائف الرافضة أكثر الطوائف هرجا وفسادا واختلافا بالألسن والأيدي ويوجد من الإقتتال والاختلاف وظلم بعضهم لبعض ما لا يوجد فيمن لهم متول كافر فضلا عن متول مسلم فأي لطف حصل لمتبعيه به

 

واعتبر المدائن والقرى التي يقر أهلها بإمامة المنتظر مع القرى التي لا يقرون به تجد حال هؤلاء أعظم انتظاما وصلاحا في المعاش والمعاد حتى أن الخبير بأحوال العالم يجد بلاد الكفار لوجود رؤسائهم يقيمون مصلحة دنياهم أكثر انتظاما من كثير من الأرض التي ينسبون فيها إلى متابعة المنتظر لا يقيم لهم سببا من مصلحة دينهم ودنياهم ولو قدر أن اعترافهم بوجوده يخافون معه أن يظهر فيعاقبهم على الذنوب كان من المعلوم أن خوف الناس من ولاة أمورهم المشهورين أن يعاقبوهم أعظم من خوف هؤلاء من عقوبة المنتظر لهم ثم الذنوب قسمان منها ذنوب ظاهرة كظلم الناس والفواحش الظاهرة فهذه تخاف الناس فيها من عقوبة ولاة أمورهم أعظم مما يخافه الإمامية من عقوبة المنتظر فعلم أن اللطف الذي أوجبوه لا يحصل بالمنتظر أصلا للعارف به ولا لغيره وأما قولهم إن اللطف به يحصل للعارفين به كما يحصل في حال الظهور فهذه مكابرة ظاهرة فإنه إذا ظهر حصل به من إقامة الحدود والوعظ وغير ذلك ما يوجب أن يكون في ذلك لطف لا يحصل مع عدم الظهور

 

وتشبيههم معرفته بمعرفة الله في باب اللطف وأن اللطف به يحصل للعارف دون غيره قياس فاسد فإن المعرفة بأن الله موجود حى قادر يأمر بالطاعة ويثيب عليها وينهى عن المعصية ويعاقب عليها من أعظم الأسباب في الرغبة والرهبة منه فتكون هذه المعرفة داعية إلى الرغبة في ثوابه بفعل المأمور وترك المحظور والرهبة من عقابه إذا عصى لعلم العبد بأنه عالم قادر وأنه قد جرت سنته بإثابة المطيعين وعقوبة العاصين وأما شخص يعرف الناس أنه مفقود من أكثر من أربعمائة سنة وأنه لم يعاقب أحدا وأنه لم يثب أحدا بل هو خائف على نفسه إذا ظهر فضلا عن أن يأمر وينهى فكيف تكون المعرفة به داعية إلى فعل ما أمر وترك ما حظر بل المعرفة بعجزه وخوفه توجب الإقدام على فعل القبائح لا سيما مع طول الزمان وتوالي الأوقات وقتا بعد وقت وهو لم يعاقب أحدا ولم يثب أحدا بل لو قدر أنه يظهر في كل مائة سنة مرة فيعاقب لم يكن ما يحصل به من اللطف مثل ما يحصل بآحاد ولاة الأمر بل ولو قيل إنه يظهر في كل عشر سنين بل ولو ظهر في السنة مرة فإنه لا تكون منفعته كمنفعة ولاة الأمور الظاهرين للناس في كل وقت بل هؤلاء مع

 

ذنوبهم وظلمهم في بعض الأمور شرع الله بهم وما يفعلونه من العقوبات وما يبذلونه من الرغبات في الطاعات أضعاف ما يقام بمن يظهر بعد كل مدة فضلا عمن هو مفقود يعلم جمهور العقلاء أنه لا وجود له والمقرون به يعلمون أنه عاجز خائف لم يفعل قط ما يفعله آحاد الناس فضلا عن ولاة أمرهم وأي هيبة لهذا وأي طاعة وأي تصرف وأي يد منبسطة حتى إذا كان للناس رئيس مهيب مطاع متصرف منبسط اليد كانوا أقرب إلى الصلاح بوجوده ومن تدبر هذا علم أن هؤلاء القوم في غاية الجهل والمكابرة والسفسطه حيث جعلوا اللطف به في حال عجزه وغيبته مثل اللطف به في حال ظهوره وأن المعرفة به مع عجزه وخوفه وفقده لطف كما لو كان ظاهرا قادرا آمنا وأن مجرد هذه المعرفة لطف كما أن معرفة الله لطف الوجه الثاني أن يقال قولكم لا بد من نصب إمام معصوم يفعل هذه الأمور أتريدون أنه لا بد أن يخلق الله ويقيم من يكون متصفا بهذه الصفات أم يجب على الناس أن يبايعوا من يكون كذلك فإن أردتم الأول فالله لم يخلق أحدا متصفا بهذه الصفات فإن غاية ما عندكم أن تقولوا إن عليا كان معصوما لكن الله لم يمكنه ولم يؤيده

 

لا بنفسه ولا بجند خلقهم له حتى يفعل ما ذكرتموه بل أنتم تقولون إنه كان عاجزا مقهورا مظلوما في زمن الثلاثة ولما صار له جند قام له جند آخرون قاتلوه حتى لم يتمكن أن يفعل ما فعل الذين كانوا قبله الذين هم عندكم ظلمة فيكون الله قد أيد أولئك الذين كانوا قبله حتى تمكنوا من فعل ما فعلوه من المصالح ولم يؤيده حتى يفعل ذلك وحينئذ فما خلق الله هذا المعصوم المؤيد الذي اقترحتموه على الله وإن قلتم إن الناس يجب عليهم أن يبايعوه ويعاونوه قلنا أيضا فالناس لم يفعلوا ذلك سواء كانوا مطيعين أو عصاة وعلى كل تقدير فما حصل لأحد من المعصومين عندكم تأييد لا من الله ولا من الناس وهذه المصالح التي ذكرتموها لا تحصل إلا بتأييد فإذا لم يحصل ذلك لم يحصل مابه تحصل المصالح بل حصل أسباب ذلك وذلك لا يفيد المقصود الوجه الثالث أن يقال إذا كان لم يحصل مجموع مابه تحصل هذه المطالب بل فات كثير من شروطها فلم لا يجوز أن يكون الفائت هو العصمة وإذا كان المقصود فائتا إما بعدم العصمة وإما بعجز المعصوم فلا فرق بين عدمها بهذا أو بهذا فمن أين يعلم بدليل العقل أنه يجب على الله أن يخلق إماما معصوما وهو إنما يخلقه ليحصل به مصالح عباده وقد خلقه عاجزا لا يقدر على تلك المصالح بل حصل به من الفساد مالم يحصل إلا بوجوده

 

وهذا يتبين بالوجه الرابع وهو أنه لو لم يخلق هذا المعصوم لم يكن يجري في الدنيا من الشر أكثر مما جرى إذ كان وجوده لم يدفع شيئا من الشر حتى يقال وجوده دفع كذا بل وجوده أوجب أن كذب به الجمهور وعادوا شيعته وظلموه وظلموا أصحابه وحصل من الشرور التي لا يعلمها إلا الله بتقدير أن يكون معصوما فإنه بتقدير أن لا يكون علي رضي الله عنه معصوما ولا بقية الاثنى عشر ونحوهم لا يكون ما وقع من تولية الثلاثة وبني أمية وبني العباس فيه من الظلم والشر ما فيه بتقدير كونهم أئمة معصومين وبتقدير كونهم معصومين فما أزالوا من الشر إلا ما يزيله من ليس بمعصوم فصار كونهم معصومين إنما حصل به الشر لا الخير فكيف يجوز على الحكيم أن يخلق شيئا ليحصل به الخير وهو لم يحصل به إلا الشر لا الخير وإذا قيل هذا الشر حصل من ظلم الناس له قيل فالحكيم الذي خلقه إذا كان خلقه لدفع ظلمهم وهو يعلم أنه إذا خلقه زاد ظلمهم لم يكن خلقه حكمة بل سفها وصار هذا كتسليم إنسان ولده إلى من يأمره بإصلاحه وهو يعلم أنه لا يطيعه بل يفسده فهل يفعل هذا حكيم ومثل أن يبنى إنسان خانا في الطريق لتأوى إليه القوافل ويعتصموا

 

به من الكفار وقطاع الطريق وهو يعلم أنه إذا بناه اتخذه الكفار حصنا والقطاع مأوى لهم ومثل من يعطى رجلا مالا ينفقه في الغزاة والمجاهدين وهو يعلم أنه إنما ينفقه في الكفار والمحاربين أعداء الرسول ولا ريب أن هؤلاء الرافضة القدرية أخذوا هذه الحجج من أصول المعتزلة القدرية فلما كان أولئك يوجبون على الله الصلاح والأصلح أخذ هؤلاء ذلك منهم وأصل أولئك في أنه يجب على الله أن يفعل بكل مكلف ما هو الأصلح له في دينه ودنياه وهو أصل فاسد وإن كان الرب تعالى بحكمته ورحمته يفعل بحكمة لخلقه ما يصلحهم في دينهم ودنياهم والناس في هذا الأصل على ثلاثة أقوال فالقدرية يقولون يجب على الله رعاية الأصلح أو الصلاح في كل شخص معين ويجعلون ذلك الواجب من جنس ما يجب على الإنسان فغلطوا حيث شبهوا الله بالواحد من الناس فيما يجب عليه ويحرم عليه وكانوا هم مشبهة الأفعال فغلطوا من حيث لم يفرقوا بين المصلحة العامة الكلية وبين مصلحة آحاد الناس التي قد تكون مستلزمة لفساد عام ومضاده لصلاح عام

 

والقدرية المجبرة الجهمية لا يثبتون له حكمة ولا رحمة بل عندهم يفعل بمشيئة محضة لا لها حكمة ولا رحمة والجهم بن صفوان رأس هؤلاء كان يخرج إلى المبتلين من الجذمى وغيرهم فيقول أرحم الراحمين يفعل هذا يريد أنه ليس له رحمة فهؤلاء وأولئك في طرفين متقابلين والثالث قول الجمهور إن الله عليم حكيم رحيم قائم بالقسط وإنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها كما نطقت بذلك نصوص الكتاب والسنة وكما يشهد به الاعتبار حسا وعقلا وذلك واقع منه بحكمته ورحمته وبحكم أنه كتب على نفسه الرحمة وحرم على نفسه الظلم لا بأن الخلق يوجبون عليه ويحرمون ولا بأنه يشبه المخلوق فيما يجب ويحرم بل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل وليس لمخلوق عليه حق إلا ما أحقه هو على نفسه المقدسة كقوله كتب ربكم على نفسه الرحمة (سورة الأنعام). وقوله وكان حقا علينا نصر المؤمنين (سورة الروم). وذلك بحكم وعده وصدقه في خبره وهذا متفق عليه بين المسلمين وبحكم كتابه على نفسه وحكمته ورحمته وهذا فيه تفصيل ونزاع مذكور في غير هذا الموضع ثم القدرية القائلون برعاية الأصلح يقولون إنما خلقهم لتعريضهم للثواب

 

فإذا قيل لهم فهو كان يعلم أن هذا الذي عرضه لا ينتفع مما خلقه له بل يفعل ما يضره فكان كمن يعطى شخصا مالا لينفقه في سبيل الله وسيفا ليقاتل به الكفار وهو يعلم أنه ينفقه في حرب المسلمين وقتالهم قالوا المكلف إنما أتى من جهة نفسه فهو الذي فرط بترك الطاعة أجابهم أهل السنة بجوابين أحدهما مبني على إثبات العلم والثاني مبني على إثبات المشيئة والقدرة التامة وأنه خالق كل شيء فقالوا على الأول إذا كان هو يعلم أن مقصوده بالفعل لم يحصل لم يكن فعله حكمة وإن كان بتفريط غيره والثاني أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو خالق كل شيء وهو يعلم أنه لا يشاء ويخلق ما به يكون ما ذكروه من المطلوب فيمتنع مع هذا أن يكون ما ذكروه هو المطلوب بالخلق وكل جواب للقدرية فهو جواب للرافضة ويجابون بأجوبة أخرى تجيبهم بها القدرية وإن وافقوهم على قاعدة التعليل والتجوير فيقولون إنما يجب خلق إمام معصوم إذا لم يكن قد خلق لهم ما يغنيهم عنه وبالجملة فحقيقة هذه الحجة أنها استدلال بالواجب على الواقع

 

فيقولون يجب عليه كذا فلا بد أن يكون قد فعل الواجب وليس هذا إلا هكذا والعلم بالواقع له طرق كثيرة قطعية يقينية تبين انتفاء هذا الذي ذكروا أنه واقع فإذا علمنا انتقاء الفائدة المطلوبة قطعا لم يمكن إثبات لازمها وهو الوسيلة فإنا نستدل على إثبات اللازم بإثبات الملزوم فإذا كان الملزوم قد علمنا انتفاءه قطعا لم يمكن إثبات لازمه ثم بعد ذلك آن أن نقدح في الإيجاب جملة وتفصيلا أو نقول الواجب من الجملة لا يتوقف على ما ادعوه من المعصوم ما لم يكن مثله في نواب معاوية وقول الرافضة من جنس قول النصارى إن الإله تجسد ونزل وإنه أنزل ابنه ليصلب ويكون الصلب مغفره لذنب آدم ليدفع الشيطان بذلك لهم فقيل لهم إذا كان قتله وصلبه وتكذيبه من أعظم الشر والمعصية فيكون قد أراد أن يزيل ذنبا صغيرا بذنب هو أكبر منه وهو مع ذلك لم يغير الشر بل زاد على ما كان فكيف يفعل شيئا لمقصود والحاصل إنما هو ضد المقصود الوجه الخامس إذا كان الانسان مدنيا بالطبع وإنما وجب نصب

 

 

المعصوم ليزيل الظلم والشر عن أهل المدينة فهل تقولون إن لم يزل في كل مدينة خلقها الله تعالى معصوم يدفع ظلم الناس أم لا فإن قلتم بالأول كان هذا مكابرة ظاهرة فهل في بلاد الكفار من المشركين وأهل الكتاب معصوم وهل كان في الشام عند معاوية معصوم وإن قلتم بل نقول هو في كل مدينة واحد وله نواب في سائر المدائن قيل فكل معصوم له نواب في جميع مدائن الأرض أم في بعضها فإن قلتم في الجميع كان هذا مكابرة وإن قلتم في البعض دون البعض قيل فما الفرق إذا كان ما ذكرتموه واجبا على الله وجميع المدائن حاجتهم إلى المعصوم واحدة الوجه السادس أن يقال هذا المعصوم يكون وحده معصوما أو كل من نوابه معصوما وهم لا يقولون بالثاني والقول به مكابرة فإن نواب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا معصومين ولا نواب علي بل كان في بعضهم من الشر والمعصية ما لم يكن مثله في نواب معاوية لأميرهم فأين العصمة وأن قلت يشترط فيه وحده قيل فالبلاد الغائبة عن الإمام لا سيما إذا لم يكن المعصوم قادرا على قهر نوابه بل هو عاجز ماذا ينتفعون بعصمة الإمام وهم يصلون

 

 

خلف غير معصوم ويحكم بينهم غير معصوم ويطيعون غير معصوم ويأخذ أموالهم غير معصوم فإن قيل الأمور ترجع إلى المعصومين قيل لو كان المعصوم قادرا ذا سلطان كما كان عمر وعثمان ومعاوية وغيرهم لم يتمكن أن يوصل إلى كل من رعيته العدل الواجب الذي يعلمه هو وغاية ما يقدر عليه أن يولى أفضل من يقدر عليه لكن إذا لم يجد إلا عاجزا أو ظالما كيف يمكنه تولية قادر عادل فإن قالوا إذا لم يخلق الله إلا هذا سقط عنه التكليف قيل فإذا لم يجب على الله أن يخلق قادرا عادلا مطلقا بل أوجب على الإمام أن يفعل ما يقدر عليه فكذلك الناس عليهم أن يولوا أصلح من خلقه الله تعالى وإن كان فيه نقص إما من قدرته وإما من عدله وقد كان عمر رضي الله عنه يقول اللهم إليك اشكو جلد الفاجر وعجز الثقة وما ساس العالم أحد مثل عمر فكيف الظن بغيره هذا إذا كان المتولى نفسه قادرا عادلا فكيف إذا كان المعصوم عاجزا بل كيف إذا كان مفقودا من الذي يوصل الرعية إليه حتى يخبروه بأحوالهم ومن الذي يلزمها بطاعته حتى تطيعه وإذا أظهر بعض نوابه

 

 

طاعته حتى يوليه ثم أخذ ما شاء من الأموال وسكن في مدائن الملوك فأي حيلة للمعصوم فيه فعلم أن المعصوم الواحد لا يحصل به المقصود إذا كان ذا سلطان فكيف إذا كان عاجزا مقهورا فكيف إذا كان مفقودا غائبا لا يمكنه مخاطبة أحد فكيف إذا كان معدوما لا حقيقه له الوجه السابع أن يقال صد غيره عن الظلم وإنصاف المظلوم منه وإيصال حق غيره إليه فرع على منع ظلمه واستيفاء حقه فإذا كان عاجزا مقهورا لا يمكنه دفع الظلم عن نفسه ولا استيفاء حقه من ولاية ومال لا حق امرأته من ميراثها فأي ظلم يدفع وأي حق يوصل فكيف إذا كان معدوما أوخائفا لا يمكنه أن يظهر في قرية او مدينة خوفا من الظالمين أن يقتلوه وهو دائما على هذه الحال أكثر من اربعمائة وستين سنة والأرض مملوءة من الظلم والفساد وهو لا يقدر أن يعرف بنفسه فكيف يدفع الظلم عن الخلق أو يوصل الحق إلى المستحق وما أخلق هؤلاء بقوله تعالى أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون أن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا (سورة الفرقان). الوجه الثامن أن يقال الناس في باب ما يقبح من الله على قولين منهم من يقول الظلم ممتنع منه وفعل القبيح مستحيل ومهما

 

 

فعله كان حسنا فهؤلاء يمتنع عندهم أن يقال يحسن منه كذا فضلا عن القول بالوجوب والقول الثاني قول من يقول إنه يجب عليه العدل والرحمة بإيجابه على نفسه كما قال تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة (سورة الأنعام). ويحرم الظلم بتحريمه على نفسه كما قال في الصحيح يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ويقول إن ذلك واجب بالعقل وعلى كل قول فهو سبحانه لم يقع منه ظلم ولم يخل بواجب فقد فعل ما يجب عليه وهو مع هذا لم يخلق ما تحصل به هذه المصالح المقصودة من المعصوم فإن كانت هذه المصالح تحصل بمجرد خلقه وهي لم تحصل لزم أن لا يكون خلقه واجبا وهو المطلوب وإن كانت لا تحصل إلا بخلقه وخلق أمور أخرى حتى يحصل بالمجموع المطلوب فهو لم يخلق ذلك المجموع سواء كان لم يخلق شيئا منه أو لم يخلق بعضه والإخلال بالواجب ممتنع عليه في القليل والكثير فلزم علي التقديرين أنه لا يجب عليه خلق الموجب لهذه المطالب وإذا لم يجب عليه ذلك فلا فرق بين أن يخلق معصوما لا يحصل به ذلك وبين أن لا يخلقه فلا يكون ذلك واجبا عليه وحينئذ فلا يلزم أن يكون موجودا فالقول بوجوب وجوده باطل على كل تقدير وإن قيل إن المطلوب يحصل بخلقه وبطاعة المكلفين له

 

 

قيل إن كانت طاعة المكلفين مقدورة لله ولم يخلقها فلم يخلق المصلحة المطلوبة بالمعصوم فلا تكون واجبه عليه وإن لم تكن مقدورة امتنع الوجوب بدونها في حق المكلف فكيف في حق الله وما لا يتم الوجوب إلا به وهو غير موجود فليس الأمر حينئذ بواجب ألا ترى أن الإنسان لا يجب عليه تحصيل مصلحة لا تحصل بدون فعل غيره إلا إذا أعانه ذلك الغير كالجمعة التي لا تجب إلا خلف إمام أو مع عدد فلا يجب على الإنسان أن يصليها إلا إذا حصل الإمام وسائر العدد والحج الذي لا يجب عليه السفر إليه إلا مع رفقة يأمن معهم أو مع من يكريه دابته فلا يجب عليه إذا لم يحصل من يفعل معه ذلك ودفع الظلم عن المظلوم إذا لم يمكن إلا بأعوان لم يجب على من لا أعوان له فإذا قالوا إن الرب يجب عليه تحصيل هذه المصالح لعباده الحاصلة بخلق المعصوم وهي لا تحصل إلا بوجود من يطيعه والله تعالى على هذا التقدير لا يمكنه أن يجعل الناس يطيعونه لم يكن خلق المعصوم واجبا عليه لعدم وجوب ما لا يحصل الواجب إلا به وعدم حصول المطلوب بالمعصوم وحده وإن قيل يخلقه لعل بعض الناس يطيعه قيل أولا هذا ممتنع ممن يعلم عواقب الأمور

 

 

وقيل ثانيا إذا كان شرط المطلوب قد يحصل وقد لا يحصل وهو في كثير من الأوقات أو غالبها أو جميعها لا يحصل أمكن أن يخلق غير المعصوم يكون عادلا في كثير من الأوقات أو بعضها فإن حصول المقصود ممن يعدل في كثير من الأمور ويظلم في بعضها إذا كانت مصلحة وجوده أكثر من مفسدته خير ممن لا يقدر على أن يعدل بحال ولا يدفع شيئا من الظلم فإن هذا لا مصلحة فيه بحال وإن قالوا الرب فعل ما يجب عليه من خلق المعصوم ولكن الناس فوتوا المصلحة بمعصيتهم له قيل أولا إذا كان يعلم أن الناس لا يعاونونه حتى تحصل المصلحة بل يعصونه فيعذبون لم يكن خلقه واجبا بل ولا حكمة على قولهم ويقال ثانيا ليس كل الناس عصاه بل بعض الناس عصوه ومنعوه وكثير من الناس تؤثر طاعته ومعرفة ما يقوله فكيف لا يمكن هؤلاء من طاعته فإذا قيل أولئك الظلمة منعوا هؤلاء قيل فإن كان الرب قادرا على منع الظلمة فهلا منعهم على قولهم وإن لم يكن ذلك مقدورا فهو يعلم أن حصول المصلحة غير مقدورة فلا يفعله فلم قلتم على هذا التقدير إنه يمكن خلق معصوم غير نبي

 

 

وهذا لازم لهم فإنهم إن قالوا إن الله خالق أفعال العباد أمكنه صرف دواعي الظلمة حتى يتمكن الناس من طاعته وإن قالوا ليس خالق أفعال العباد قيل فالعصمة إنما تكون بأن يريد الفاعل الحسنات ولا يريد السيئات وهو عندكم لا يقدر أن يغير إرادة أحد فلا يقدر على جعله معصوما وهذا أيضا دليل مستقل على إبطال خلق أحد معصوما على قول القدرية فإن العصمة إنما تكون بأن يكون العبد مريدا للحسنات غير مريد للسيئات فإذا كان هو المحدث للإرادة والله تعالى عند القدرية لا يقدر على إحداث إرادة أحد امتنع منه أن يجعل أحدا معصوما وإذا قالوا يخلق ما تميل به إرادته إلى الخير قيل إن كان ذلك ملجئا زال التكليف وإن لم يكن ملجئا لم ينفع وإن كان ذلك مقدورا عندكم فهلا فعله بجميع العبادة فإنه أصلح لهم إذا أوجبتم على الله أن يفعل الأصلح بكل عبد وذلك لا يمنع الثواب عندكم كما لا يمنعه في حق المعصوم الوجه التاسع أن يقال حاجة الإنسان إلى تدبير بدنه بنفسه أعظم من حاجة المدينة إلى رئيسها وإذا كان الله تعالى لم يخلق نفس الإنسان معصومة فكيف يجب عليه أن يخلق رئيسا معصوما مع أن الإنسان يمكنه أن يكفر بباطنه ويعصي بباطنه وينفرد بأمور

 

 

كثيرة من الظلم والفساد والمعصوم لا يعلمها وإن علمها لا يقدر على إزالتها فإذا لم يجب هذا فكيف يجب ذاك الوجه العاشر أن يقال المطلوب من الأئمة أن يكون الصلاح بهم أكثر من الفساد وأن يكون الإنسان معهم أقرب إلى المصلحة وأبعد عن المفسدة مما لو عدموا ولم يقم مقامهم أم المقصود بهم وجود صلاح لا فساد معه أم مقدار معين من الصلاح فإن كان الأول فهذا المقصود حاصل لغالب ولاة الأمور وقد حصل هذا المقصود على عهد أبي بكر وعمر وعثمان أعظم مما حصل على عهد علي وهو حاصل بخلفاء بني أمية وبني العباس أعظم مما هو حاصل بالاثنى عشر وهذا حاصل بملوك والترك والهند أكثر مما هو حاصل بالمنتظر الملقب صاحب الزمان فإنه ما من أمير يتولى ثم يقدر عدمه بلا نظير إلا كان الفساد في عدمه أعظم من الفساد في وجوده لكن قد يكون الصلاح في غيره أكثر منه كما قد قيل ستون سنة مع إمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمام وإن قيل بل المطلوب وجود صلاح لا فساد معه قيل فهذا لم يقع ولم يخلق الله ذلك ولا خلق أسبابا توجب ذلك لا محالة فمن أوجب ذلك وأوجب ملزوماته على الله كان إما مكابرا لعقله وإما ذاما لربه وخلق ما يمكن معه وجود ذلك لا يحصل به ذلك إن لم يخلق مايكون به ذلك

 

 

ومثل هذا يقال في أفعال العباد لكن القول في المعصوم أشد لأن مصلحته تتوقف على أسباب خارجة عن قدرته بل عن قدرة الله عند هؤلاء الذين هم معتزلة رافضة فإيجاب ذلك على الله أفسد من إيجاب خلق مصلحة كل عبد له الوجه الحادي عشر أن يقال قوله لو لم يكن الإمام معصوما لافتقر إلى إمام آخر لأن العلة المحوجة إلى الإمام هي جواز الخطأ على الأمة فلو جاز الخطأ عليه لاحتاج إلى إمام آخر فيقال له لم لا يجوز أن يكون إذا أخطأ الإمام كان في الأمة من ينبهه على الخطأ بحيث لا يحصل اتفاق المجموع على الخطأ لكن إذا أخطأ بعض الأمة نبهه الإمام أو نائبه أو غيره وإن أخطأ الإمام أو نائبه نبهه آخر كذلك وتكون العصمة ثابتة للمجموع لا لكل واحد من الأفراد كما يقوله أهل الجماعة وهذا كما أن كل واحد من أهل خبر التواتر يجوز عليه الخطأ وربما جاز عليه تعمد الكذب لكن المجموع لا يجوز عليهم ذلك في العادة وكذلك الناظرون إلى الهلال أو غيره من الأشياء الدقيقة قد يجوز الغلط على الواحد منهم ولا يجوز على العدد الكثير وكذلك الناظرون في الحساب والهندسة ويجوز على الواحد منهم الغلط في مسألة أو مسألتين فأما إذا كثر أهل المعرفة بذلك امتنع في العادة غلطهم

 

 

ومن المعلوم أن ثبوت العصمة لقوم اتفقت كلمتهم أقرب إلى العقل والوجود من ثبوتها لواحد فإن كانت العصمة لا تمكن للعدد الكثير في حال اجتماعهم على الشىء المعين فأن لا تمكن للواحد أولى وإن أمكنت للواحد مفردا فلأن تمكن له ولأمثاله مجتمعين بطريق الأولى والأحرى فعلم أن اثبات العصمة للمجموع أولى من إثباتها للواحد وبهذه العصمة يحصل المقصود المطلوب من عصمة الإمام فلا تتعين عصمة الإمام ومن جهل الرافضة إنهم يوجبون عصمة واحد من المسلمين ويجوزون على مجموع المسلمين الخطأ إذا لم يكن فيهم واحد معصوم والمعقول الصريح يشهد أن العلماء الكثيرين مع اختلاف اجتهاداتهم إذا اتفقوا على قول كان أولى بالصواب من واحد وأنه إذا أمكن حصول العلم بخبر واحد فحصوله بالأخبار المتواترة أولى ومما يبين ذلك أن الإمام شريك الناس في المصالح العامة إذ كان هو وحده لا يقدر أن يفعلها إلا أن يشترك هو وهم فيها فلا يمكنه أن يقيم الحدود ويستوفى الحقوق ولا يوفيها ولا يجاهد عدوا إلا أن يعينوه بل لا يمكنه أن يصلي بهم جمعة ولا جماعة إن لم يصلوا معه ولا يمكن أن يفعلوا ما يأمرهم به إلا بقواهم وإرادتهم فإذا كانوا مشاركين

 

 

له في الفعل والقدرة لا ينفرد عنهم بذلك فكذلك العلم والرأي لا يجب أن ينفرد به بل يشاركهم فيه فيعاونهم ويعاونونه وكما أن قدرته تعجز إلا بمعاونتهم فكذلك علمه يعجز إلا بمعاونتهم الوجه الثاني عشر أن يقال العلم الديني الذي يحتاج إليه الأئمة والأمة نوعان علم كلي كإيجاب الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والزكاة والحج وتحريم الزنا والسرقة والخمر ونحو ذلك وعلم جزئي كوجوب الزكاة على هذا ووجوب إقامة الحد على هذا ونحو ذلك فأما الأول فالشريعة مستقلة به لا تحتاج فيه إلى الإمام فإن النبي إما أن يكون قد نص على كليات الشريعة التي لا بد منها أو ترك منها ما يحتاج إلى القياس فإن كان الأول ثبت المقصود وإن كان الثاني فذلك القدر يحصل بالقياس وإن قيل بل ترك فيها مالا يعلم بنصه ولا بالقياس بل بمجرد قول المعصوم كان هذا المعصوم شريكا في النبوة لم يكن نائبا فإنه إذا

 

 

كان يوجب ويحرم من غير إسناد إلى نصوص النبي كان مستقلا لم يكن متبعا له وهذا لا يكون إلا نبيا فأما من لا يكون إلا خليفة لنبي فلا يستقل دونه وأيضا فالقياس إن كان حجة جاز إحالة الناس عليه وإن لم يكن حجة وجب أن ينص النبي على الكليات وأيضا فقد قال تعالى اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (سورة المائدة). وهذا نص في أن الدين كامل لا يحتاج معه إلى غيره والناس في هذا الأصل على ثلاثة أقوال منهم من يقول النصوص قد انتظمت جميع كليات الشريعة فلا حاجة إلى القياس بل لا يجوز القياس ومنهم من يقول بل كثير من الحوادث لا يتناولها النصوص فالحاجة داعية إلى القياس ومن هؤلاء من قد يدعي أن أكثر الحوادث كذلك وهذا سرف منهم ومنهم من يقول بل النصوص تناولت الحوادث بطرق جلية أو خفية فمن الناس من لا يفهم تلك الأدلة أو لا يبلغه النص فيحتاج إلى القياس وإن كانت الحوادث قد تناولها النص أو يقول إن كل واحد من عموم النص القطعي والقياس المعنوي حجة وطريق يسلك السالك

 

 

إليه ما أمكنه وهما متفقان لا يتناقضان إلا لفساد أحدهما وهذا القول أقرب من غيره وأما الجزئيات فهذه لا يمكن النص على أعيانها بل لا بد فيها من الاجتهاد المسمى بتحقيق المناط كما أن الشارع لا يمكن أن ينص لكل مصل على جهة القبلة في حقه ولكل حاكم على عدالة كل شاهد وأمثال ذلك وإذا كان كذلك فإن ادعوا عصمة الإمام في الجزئيات فهذه مكابرة ولا يدعيها أحد فإن عليا رضي الله عنه كان يولى من تبين له خيانته وعجزه وغير ذلك وقد قطع رجلا بشهادة شاهدين ثم قالا أخطأنا فقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ففى الصحيحين عنه أنه قال إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضى بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وقد ادعى قوم من أهل الخير على ناس من أهل الشر يقال لهم

 

 

بنو أبيرق أنهم سرقوا لهم طعاما ودروعا فجاء قوم فبرأوا أولئك المتهمين فظن النبي صلى الله عليه وسلم صدق أولئك المبرئين لهم حتى أنزل الله تعالى عليه إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما الآيات (سورة النساء). وبالجملة الأمور نوعان كلية عامة وجزئية خاصة فأما الجزئيات الخاصة كالجزئى الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه مثل ميراث هذا الميت وعدل هذا الشاهد ونفقة هذه الزوجة ووقوع الطلاق بهذا الزوج وإقامة الحد على هذا المفسد وأمثال ذلك فهذا مما لا يمكن لا نبيا ولا إماما ولا أحدا من الخلق أن ينص على كل فرد فرد منه لأن أفعال بني آدم وأعيانهم يعجز عن معرفة أعيانها الجزئية علم واحد من البشر وعبارته لا يمكن بشر أن يعلم ذلك كله بخطاب الله له وإنما الغاية الممكنة ذكر الأمور الكلية العامة كما قال صلى الله عليه وسلم بعثت بجوامع الكلم فالإمام لايمكنه الأمر والنهي لجميع رعيته إلا بالقضايا الكلية العامة وكذلك إذا ولى نائبا لا يمكنه أن يعهد إليه إلا بقواعد كلية عامة ثم النظر في دخول الأعيان تحت تلك الكليات أو دخول نوع خاص تحت أعم منه لا بد فيه من نظر المتولى واجتهاده وقد يصيب تارة ويخطىء أخرى فإن اشترط عصمة كل واحد اشترط عصمة النواب في تلك الأعيان وهذا منتف بالضرورة واتفاق العقلاء وإن اكتفى بالكليات فالنبي يمكنه أن ينص على الكليات كما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم إذ ذكر ما يحرم من النساء وما يحل فجميع أقارب الرجل من النساء حرام عليه إلا بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته كما ذكر هؤلاء الأربع في (سورة الأحزاب). وكذلك في الأشربة حرم كل مسكر دون مالا يسكر وأمثال ذلك بل قد حصر المحرمات في قوله قل إنما حرم ربي الفواحش

 

 

ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (سورة الأعراف). فكل ما حرم تحريما مطلقا عاما لا يباح في حال فيباح في أخرى كالدم والميتة ولحم الخنزير وجميع الواجبات في قوله قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين (سورة الأعراف). الآية فالواجب كله محصور في حق الله وحق عبادة وحق الله على عبادة أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحقوق عباده العدل كما في الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه قال كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال حقهم على الله أن لا يعذبهم ثم إنه سبحانه فصل أنواع الفواحش والبغي وأنواع حقوق العباد في مواضع أخر ففصل المواريث وبين من يستحق الإرث ممن لا يستحقه وما يستحق الوارث بالفرض والتعصيب وبين ما يحل من المناكح وما يحرم وغير ذلك فإن كان يقدر على نصوص كلية تتناول الأنواع فالرسول أحق بهذا من الإمام وإن قيل لا يمكن فالإمام أعجز عن هذا من الرسول

 

 

والمحرمات المعينة لا سبيل إلى النص عليها لا لرسول الله ولا إمام بل لا بد فيها من الاجتهاد والمجتهد فيها يصيب تارة ويخطىء أخرى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر وكما قال لسعد بن معاذ وكان حكما في قضية معينة يؤمر فيها الحاكم أن يختار الأصلح فلما حكم بقتل المقاتلة وسبي الذرية من بني قريظة قال النبي صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة وكما كان يقول لمن يرسله أميرا على سرية أو جيش إذا حاصرت أهل الحصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك والأحاديث الثلاثة ثابتة في الصحيح فتبين بذلك أنه لا مصلحة في عصمة الإمام إلا وهي حاصلة بعصمة الرسول ولله الحمد والمنة والواقع يوافق هذا وإنا رأينا كل من كان إلى اتباع السنة والحديث واتباع الصحابة أقرب كانت مصلحتهم في الدنيا والدين أكمل وكل من كان أبعد من ذلك كان بالعكس ولما كانت الشيعة أبعد الناس عن اتباع المعصوم الذي لا ريب في

 

 

عصمته وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله بالهدى ودين الحق بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا الذي أخرج به الناس من الظلمات إلى النور وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد الذي فرق بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد والنور والظلمة وأهل السعادة وأهل الشقاوة وجعله القاسم الذي قسم به عباده إلى شقى وسعيد فأهل السعادة من آمن به وأهل الشقاوة من كذب به وتولى عن طاعته فالشيعة القائلون بالإمام المعصوم ونحوهم من أبعد الطوائف عن اتباع هذا المعصوم فلا جرم تجدهم من أبعد الناس عن مصلحة دينهم ودنياهم حتى يوجد ممن هو تحت سياسة أظلم الملوك وأضلهم من هو أحسن حالا منهم ولا يكونون في خير إلا تحت سياسة من ليس منهم ولهذا كانوا يشبهون اليهود في أحوال كثيرة منها هذا أنه ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وضربت عليهم المسكنة فلا يعيشون في الأرض إلا بأن يتمسكوا بحبل بعض ولاة الأمور الذي ليس بمعصوم ولا بد لهم من نسبة إلى الإسلام يظهرون بها خلاف ما في قلوبهم فما جاء به الكتاب والسنة يشهد له ما يرينا الله من الآيات في الآفاق وفي أنفسنا قال تعالى سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق (سورة فصلت).

 

 

ومما أرانا أن رأينا آثار سبيل المتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم أصلح في دينهم ودنياهم من سبيل الإمام المعصوم بزعمهم وإن زعموا أنهم متبعون للرسول فهم من أجهل الناس بأقواله وأفعاله وأحواله وهذا الذي ذكرته كل من استقرأة في العالم وجده وقد حدثني الثقات الذين لهم خبرة بالبلاد الذين خبروا حال أهلها بما يبين ذلك ومثال ذلك أنه يوجد في الحجاز وسواحل الشام من الرافضة من ينتحلون المعصوم وقد رأينا حال من كان بسواحل الشام مثل جبل كسروان وغيره وبلغنا أخبار غيرهم فما رأينا في العالم طائفة أسوأ من حالهم في الدين والدنيا ورأينا الذين هم تحت سياسة الملوك على الإطلاق خيرا من حالهم فمن كان تحت سياسة ملوك الكفار حالهم في الدين والدنيا أحسن من أحوال ملاحدتهم كالنصيرية والإسماعيلية ونحوهم من الغلاة الذين يدعون الإلهية والنبوة في غير الرسول أو يتخلون عن هذا كله ويعتقدون دين الإسلام كالإمامية والزيدية فكل طائفة تحت سياسة ملوك السنة ولو أن الملك كان أظلم الملوك في الدين والدنيا حاله خير من حالهم فإن الأمر الذي يشترك

 

 

فيه أهل السنة ويمتازون به عن الرافضة تقوم به مصالح المدن وأهلها على بعض الوجوه وأما الأمر الذي يشترك فيه الرافضة ويمتازون عن به أهل السنة فلا تقوم به مصلحة مدينة واحدة ولا قربة ولا تجد أهل مدينة ولا قرية يغلب عليهم الرفض إلا ولا بد لهم من الاستعانة بغيرهم إما من أهل السنة وإما من الكفار وإلا فالرافضة وحدهم لا يقوم أمرهم قط كما أن اليهود وحدهم لا يقوم أمرهم قط بخلاف أهل السنة فإن مدائن كثيرة من أهل السنة يقومون بدينهم ودنياهم لا يحوجهم الله سبحانه وتعالى إلى كافر ولا رافضي والخلفاء الثلاثة فتحوا الأمصار وأظهروا الدين في مشارق الأرض ومغاربها ولم يكن معهم رافضي بل بنو أمية بعدهم مع إنحراف كثير منهم عن علي وسب بعضهم له غلبوا على مدائن الإسلام كلها من مشرق الأرض إلى مغربها وكان الإسلام في زمنهم أعز منه فيما بعد ذلك بكثير ولم ينتظم بعد انقراض دولتهم العامة لما جاءتهم الدولة العباسية صار إلى الغرب عبد الرحمن بن هشام الداخل إلى المغرب الذي يسمى صقر قريش واستولى هو ومن بعده على بلاد الغرب وأظهروا الإسلام فيها

 

 

وأقاموه وقمعوا من يليهم من الكفار وكانت لهم من السياسة في الدين والدنيا ما هو معروف عند الناس وكانوا من أبعد الناس عن مذاهب أهل العراق فضلا عن أقوال الشيعة وإنما كانوا على مذهب أهل المدينة وكان أهل العراق على مذهب الأوزاعي وأهل الشام وكانوا يعظمون مذهب أهل الحديث وينصره بعضهم في كثير من الأمور وهم من أبعد الناس عن مذهب الشيعة وكان فيهم من الهاشميين الحسينيين كثير ومنهم من صار من ولاة الأمور على مذهب أهل السنة والجماعة ويقال إن فيهم من كان يسكت ممن علي فلا يربع به في الخلافة لأن الأمة لم تجتمع عليه ولا يسبونه كما كان بعض الشيعة يسبه وقد صنف بعض علماء الغرب كتابا كبيرا في الفتوح فذكر فتوح النبي صلى الله عليه وسلم وفتوح الخلفاء بعده أبي بكر وعمر وعثمان ولم يذكر عليا مع حبه له وموالاته له لأنه لم يكن في زمنه فتوح وعلماء السنة كلهم مالك وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وغير هؤلاء كلهم يحب الخلفاء ويتولاهم ويعتقد إمامتهم وينكر على من يذكر أحدا منهم بسوء فلا يستجيزون ذكر علي ولا عثمان ولا غيرهما بما يقوله الرافضة والخوارج

 

 

وكان صار إلى المغرب طوائف من الخوارج والروافض كما كان هؤلاء في المشرق وفي بلاد كثيرة من بلاد الإسلام ولكن قواعد هذه المدائن لا تستمر على شيء من هذه المذاهب بل إذا ظهر فيها شيء من هذه المذاهب مدة أقام الله ما بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق الذي يظهر على باطلهم وبنو عبيد يتظاهرون بالتشيع واستولوا من المغرب على ما استولوا عليه وبنوا المهدية ثم جاءوا إلى مصر واستولوا عليها مائتي سنة واستولوا على الحجاز والشام نحو مائة سنة وملكوا بغداد في فتنة البساسيرى وانضم إليهم الملاحدة في شرق الأرض وغربها وأهل البدع والأهواء تحب ذلك منهم ومع هذا فكانوا محتاجين إلى أهل السنة ومحتاجين إلى مصانعتهم والتقية لهم ولهذا رأس مال الرافضة التقية وهي أن يظهر خلاف ما يبطن كما يفعل المنافق وقد كان المسلمون في أول الإسلام في غاية الضعف والقلة وهم يظهرون دينهم لا يكتمونه والرافضة يزعمون أنهم يعملون بهذه الآية قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه (سورة آل عمران). ويزعمون أنهم هم المؤمنون وسائر أهل القبلة كفار مع أن لهم في تكفير الجمهور قولين لكن قد رأيت غير واحد من أئمتهم يصرح في كتبه

 

 

وفتاويه بكفر الجمهور وأنهم مرتدون ودارهم دار ردة يحكم بنجاسة مائعها وأن من أنتقل إلى قول الجمهور منهم ثم تاب لم تقبل توبته لأن المرتد الذي يولد على الفطرة لا يقبل منه الرجوع إلى الإسلام وهذا في المرتد عن الإسلام قول لبعض السلف وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا لأن المرتد من كان كافرا فأسلم ثم رجع إلى الكفر بخلاف من يولد مسلما فجعل هؤلاء هذا في سائر الأمة فهم عندهم كفار فمن صار منهم إلى مذهبهم كان مرتدا وهذه الآية حجة عليهم فإن هذه الآية خوطب بها أولا من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين فقيل لهم لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين (سورة آل عمران). وهذه الآية مدنية باتفاق العلماء فإن (سورة آل عمران). كلها مدنية وكذلك البقرة والنساء والمائدة ومعلوم أن المؤمنين بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد منهم يكتم إيمانه ولا يظهر للكفار أنه منهم كما يفعله الرافضة مع الجمهور وقد اتفق المفسرون على أنها نزلت بسبب أن بعض المسلمين أراد إظهار مودة الكفار فنهوا عن ذلك وهم لا يظهرون المودة للجمهور وفي رواية الضحاك عن ابن عباس أن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من

 

 

اليهود فقال يا رسول الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو فنزلت هذه الآية وفي رواية أبي صالح أن عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين كانوا يتولون اليهود ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظفر على النبي صلى الله عليه وسلم فنهى الله المؤمنين عن مثل فعلهم وروى عن ابن عباس أن قوما من اليهود كانوا يباطنون قوما من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك وقال اجتنبوا هؤلاء فأبوا فنزلت هذه الآية وعن مقاتل بن حيان ومقاتل بن سليمان أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار مكة فنهاهم الله عن ذلك والرافضة من أعظم الناس إظهارا لمودة أهل السنة ولا يظهر أحدهم دينه حتى إنهم يحفظون من فضائل الصحابة والقصائد التي في مدحهم وهجاء الرافضة ما يتوددون به إلى أهل السنة ولا يظهر أحدهما دينه كما كان المؤمنون يظهرون دينهم للمشركين وأهل الكتاب فعلم أنهم من أبعد الناس عن العمل بهذه الآية وأما قوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقاة (سورة آل عمران). قال مجاهد إلا مصانعة والتقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي فإن هذا نفاق ولكن أفعل ما أقدر عليه

 

 

كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه ولكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله بل غايته أن يكون كمؤمن آل فرعون وأمرأة فرعون وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم ولا كان يكذب ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه بل كان يكتم إيمانه وكتمان الدين شيء وإظهار الدين الباطل شيء آخر فهذا لم يبحه الله قط إلا لمن أكره بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر والله تعالى قد فرق بين المنافق والمكره والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين لا من جنس حال المكره الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان فإن هذا الإكراه لا يكون

 

 

عاما من جمهور بني آدم بل المسلم يكون أسيرا أو منفردا في بلاد الكفر ولا أحد يكرهه على كلمه الكفر ولا يقولها ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه وقد يحتاج إلى أن يلين لناس من الكفار ليظنوه منهم وهو مع هذا لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه بل يكتم ما في قلبه وفرق بين الكذب وبين الكتمان فكتمان ما في النفس يستعمله المؤمن حيث يعذره الله في الإظهار كمؤمن آل فرعون وأما الذي يتكلم بالكفر فلا يعذره إلا إذا أكره والمنافق الكذاب لا يعذر بحال ولكن في المعاريض مندوحة عن الكذب ثم ذلك المؤمن الذي يكتم إيمانه يكون بين الكفار الذين لا يعلمون دينه وهو مع هذا مؤمن عندهم يحبونه ويكرمونه لأن الإيمان الذي في قلبه يوجب أن يعاملهم بالصدق والأمانة والنصح وإرادة الخير بهم وإن لم يكن موافقا لهم على دينهم كما كان يوسف الصديق يسير في أهل مصر وكانوا كفارا وكما كان مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه ومع هذا كان يعظم موسى ويقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله (سورة غافر). وأما الرافضي فلا يعاشر أحدا إلا استعمل معه النفاق فإن دينه الذي في قلبه دين فاسد يحمله على الكذب والخيانة وغش الناس وإرادة السوء بهم فهو لا يألوهم خبالا ولا يترك شرا يقدر عليه إلا فعله بهم وهو ممقوت عند من لا يعرفه وإن لم يعرف أنه رافضي تظهر على وجهه سيما النفاق وفي لحن القول ولهذا تجده ينافق ضعفاء الناس ومن لا حاجة به إليه لما في قلبه من النفاق الذي يضعف قلبه

 

 

والمؤمن معه عزة الإيمان فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ثم هم يدعون الإيمان دون الناس والذلة فيهم أكثر منها في سائر الطوائف من المسلمين وقد قال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (سورة غافر). وهم أبعد طوائف أهل الإسلام عن النصرة وأولاهم بالخذلان فعلم أنهم أقرب طوائف أهل الإسلام إلى النفاق وأبعدهم عن الإيمان وآية ذلك أن المنافقين حقيقة الذين ليس فيهم إيمان من الملاحدة يميلون إلى الرافضة والرافضة تميل إليهم أكثر من سائر الطوائف وقد قال صلى الله عليه وسلم الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف وقال ابن مسعود رضي الله عنه اعتبروا الناس بأخدانهم فعلم أن بين أرواح الرافضة وأرواح المنافقين اتفاقا محضا قدرا مشتركا وتشابها وهذا لما في الرافضة فإن النفاق شعب كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أربع

 

 

من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وفي رواية لمسلم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم والقرآن يشهد لهذا فإن الله وصف المنافقين في غير موضع بالكذب والغدر والخيانة وهذه الخصال لا توجد في طائفة أكثر منها في الرافضة ولا أبعد منها عن أهل السنة المحضة المتبعين للصحابة فهؤلاء أولى الناس بشعب الإيمان وأبعدهم عن شعب النفاق والرافضة أولى الناس بشعب النفاق وأبعدهم عن شعب الإيمان وسائر الطوائف قربهم إلى الإيمان وبعدهم عن النفاق بحسب سنتهم وبدعتهم وهذا كله مما يبين أن القوم أبعد الطوائف عن اتباع المعصوم الذي لا شك في عصمته وهو خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وما يذكرونه من خلاف السنة في دعوى الإمام المعصوم وغير ذلك فإنما هو في الأصل من ابتداع منافق زنديق كما قد ذكر ذلك أهل العلم

 

 

ذكر غير واحد منهم أن أول من ابتدع الرفض والقول بالنص على علي وعصمته كان منافقا زنديقا أراد فساد دين الإسلام وأراد أن يصنع بالمسلمين ما صنع بولص بالنصارى لكن لم يتأت له ما تأتى لبولص لضعف دين النصارى وعقلهم فإن المسيح صلى الله عليه وسلم رفع ولم يتبعه خلق كثير يعلمون دينه ويقومون به علما وعملا فلما ابتدع بولص ما ابتدعه من الغو في المسيح اتبعه على ذلك طوائف وأحبوا الغلو في المسيح ودخلت معهم ملوك فقام أهل الحق خالفوهم وأنكروا عليهم فقتلت الملوك بعضهم وداهن الملوك بعضهم وبعضهم اعتزلوا في الصوامع والديارات وهذه الأمة ولله الحمد لا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق فلا يتمكن ملحد ولا مبتدع من إفساده بغلو أو انتصار على أهل الحق ولكن يضل من يتبعه على ضلاله وأيضا فنواب المعصوم الذي يدعونه غير معصومين في الجزئيات وإذا كان كذلك فيقال إذا كانت العصمة في الجزئيات غير واقعة وإنما الممكن العصمة في الكليات فالله تعالى قادر أن ينص على الكليات بحيث لا يحتاج في معرفتها إلى الإمام ولا غيره وقادر أيضا أن يجعل نص النبي أكمل من نص الإمام وحينئذ فلا يحتاج إلى عصمة الإمام لا في الكليات ولا في الجزئيات

 

 

الوجه الثالث عشر أن يقال العصمة الثابتة للإمام أهي فعله للطاعات باختياره وتركه للمعاصي باختياره مع أن الله تعالى عندكم لا يخلق اختياره أم هي خلق الإرادة له أم سلبة القدرة على المعصية فإن قلتم بالأول وعندكم أن الله لا يخلق اختيار الفاعلين لزمكم أن الله لا يقدر على خلق معصوم وإن قلتم بالثاني بطل أصلكم الذي ذهبتم إليه في القدرة وإن قلتم سلب القدرة على المعصية كان المعصوم عندكم هو العاجز عن الذنب كما يعجز الأعمى عن نقط المصاحف والمقعد عن المشي والعاجز عن الشيء لا ينهى عنه ولا يؤمر به وإذا لم يؤمر وينه لم يستحق ثوابا على الطاعة فيكون المعصوم عندكم لا ثواب له على ترك معصية بل ولا على فعل طاعة وهذا غاية النقص وحينئذ فأي مسلم فرض كان خيرا من هذا المعصوم إذا أذنب ثم تاب لأنه بالتوبة محيت سيئاته بل بدل بكل سيئة حسنة مع حسناته المتقدمة فكان ثواب المكلفين خيرا من المعصوم عند هؤلاء وهذا يناقض قولهم غاية المناقضة

 

 

وأما المقدمة الثانية فلو قدر أنه لا بد من معصوم فقولهم ليس بمعصوم غير علي اتفاقا ممنوع بل كثير من الناس من عبادهم وصوفيتهم وجندهم وعامتهم يعتقدون في كثير من شيوخهم من العصمة من جنس ما تعتقده الرافضة في الاثنى عشر وربما عبروا هو ذلك بقولهم الشيخ محفوظ وإذا كانوا يعتقدون هذا في شيوخهم مع اعتقادهم أن الصحابة أفضل منهم فاعتقادهم ذلك في الخلفاء من الصحابة أولى وكثير من الناس فيهم من الغلو في شيوخهم من جنس ما في الشيعة من الغلو في الأئمة وأيضا فالإسماعيلية يعتقدون عصمة أئمتهم وهم غير الاثنى عشر وأيضا فكثير من أتباع بني أمية أو أكثرهم كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه ولا عذاب وأن الله لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء والله أمرهم بذلك وكلامهم في ذلك معروف كثير وقد أراد يزيد بن عبد الملك أن يسير بسيرة عمر بن العزيز فجاء إليه جماعة من شيوخهم فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو أنه اذا ولى الله على الناس إماما تقبل الله منه الحسنات وتجاوز عنه السيئات

 

 

ولهذا تجد في كلام كثير من كبارهم الأمر بطاعة ولي الأمر مطلقا وأن من أطاعه فقد أطاع الله ولهذا كان يضرب بهم المثل يقال طاعة شامية وحينئذ فهؤلاء يقولون إن إمامهم لا يأمرهم إلا بما أمرهم الله به وليس فيهم شيعة بل كثير منهم يبغض عليا ويسبه ومن كان اعتقاده أن كل ما يأمر الإمام به فإنه مما أمر الله به وأنه تجب طاعته وأن الله يثيبه على ذلك ويعاقبه على تركه لم يحتج مع ذلك إلى معصوم غير إمامه وحينئذ فالجواب من وجهين أحدهما أن يقال كل من هذه الطوائف إذا قيل لها إنه لا بد لها من إمام معصوم تقول يكفيني عصمة الإمام الذي ائتممت به لا احتاج إلى عصمة الأثنى عشر لا علي ولا غيره ويقول هذا شيخي وقدوتي وهذا يقول إمامي الأموي والإسماعيلي بل كثير من الناس يعتقدون أن من يطيع الملوك لا ذنب له في ذلك كائنا من كان ويتأولون قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (سورة النساء). فإن قيل هؤلاء لا يعتد بخلافهم قيل هؤلاء خير من الرافضة الإسماعيلية

 

 

وأيضا فإن أئمة هؤلاء وشيوخهم خير من معدوم لا ينتفع به بحال فهم بكل حال خير من الرافضة وأيضا فبطلت حجة الرافضة بقولهم لم تدع العصمة إلا في علي وأهل بيته فإن قيل لم يكن في الصحابة من يدعي العصمة لأبي بكر وعمر وعثمان قيل إن لم يكن فيهم من يدعي العصمة لعلي بطل قولكم وإن كان فيهم من يدعي العصمة لعلي لم يمتنع أن يكون فيهم من يدعي العصمة للثلاثة بل دعوى العصمة لهؤلاء أولى فإنا نعلم يقينا أن جمهور الصحابة كانوا يفضلون أبا بكر وعمر بل على نفسه كان يفضلهما عليه كما تواتر عنه وحينئذ فدعواهم عصمة هذين أولى من دعوى عصمة علي فإن قيل فهذا لم ينقل عنهم قيل لهم ولا نقل عن واحد منهم القول بعصمة علي ونحن لا نثبت عصمة لا هذا ولا هذا لكن نقول ما يمكن أحدا أن ينفي نقل أحد منهم بعصمة أحد الثلاثة مع دعواهم أنهم كانوا يقولون بعصمة علي فهذا الفرق لا يمكن أحدا أن يدعيه ولا ينقله عن واحد منهم وحينئذ فلا يعلم زمان أدعى فيه العصمة لعلي أو لأحد من الاثنى عشر

 

 

ولم يكن من ذلك الزمان من يدعي عصمة غيرهم فبطل أن يحتج بانتفاء عصمة الثلاثة ووقوع النزاع في عصمة علي الوجه الرابع عشر أن يقال إما أن يجب وجود المعصوم في كل زما أن لا يجب فإن لم يجب بطل قولهم وإن وجب لم نسلم على هذا التقدير أن عليا كان هو المعصوم دون الثلاثة بل إذا كان هذا القول حقا لزم أن يكون أبو بكر وعمر وعثمان معصومين فإن أهل السنة متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر وأنهما أحق بالعصمة من علي فإن كانت العصمة ممكنة فهي إليهما أقرب وإن كانت ممتنعة فهي عنه أبعد وليس أحد من أهل السنة يقول بجواز عصمة علي دون أبي بكر وعمر وهم لا يسلمون انتفاء العصمة عن الثلاثة إلا مع انتفائها عن علي فأما انتفاؤها عن الثلاثة دون علي فهذا ليس قول أحد من أهل السنة وهذه كنبوة موسى وعيسى فإن المسلمين لا يسلمون نبوة أحد من هذين إلا مع نبوة محمد وليس في المسلمين من يقر بنبوتهما منفردة عن نبوة محمد بل المسلمون متفقون على كفر من أقر بنبوة بعضهم دون بعض وأن من كفر بنبوة محمد وأقر بأحد هذين فهو أعظم كفرا ممن أقر بمحمد وكفر بأحد هذين وإذا قيل إن الإيمان بمحمد مستلزم للإيمان بهما وكذلك

 

 

الإيمان بهما مستلزم للإيمان بمحمد وهكذا نفى العصمة وثبوت الإيمان والتقوى وولاية الله فأهل السنة لا يقولون بإيمان علي وتقواه وولايته لله إلا مقرونا بإيمان الثلاثة وتقواهم وولايتهم لله ولا ينفون العصمة عنهم إلا مقرونا بنفيها عن علي ومعنى ذلك أن الفرق باطل عندهم وإذا قال الرافضى لهم الإيمان ثابت لعلي بالإجماع والعصمة منتفية عن الثلاثة بالإجماع كان كقول اليهودي نبوة موسى ثابتة بالإجماع أو قول النصراني الإلهية منتفية عن محمد بالإجماع والمسلم يقول نفى الإلهية عن محمد وموسى كنفيها عن المسيح فلا يمكن أن أنفيها عن موسى ومحمد وأسلم ثبوتها للمسيح وإذا قال النصراني اتفقنا على أن هؤلاء ليسوا آلهة وتنازعنا في النصراني أن الله لا بد أن يظهر له في صورة البشر ولم يدع ذلك إلا في المسيح كان كتقرير الرافضى أنه لا بد من إمام معصوم ولم يدع ذلك إلا لعلي ونحن نعلم بالاضطرار أنه ليس لعيسى مزية يستحق أن يكون بها إلها دون موسى ومحمد كما يعلم بالاضطرار أن عليا لم يكن له مزية يستحق أن يكون بها معصوما دون أبي بكر وعمر ومن أراد التفريق منعناه ذلك وقلنا لا نسلم إلا التسوية في الثبوت أو الانتفاء

 

 

وإذا قال أنتم تعتقدون انتفاء العصمة عن الثلاثة قلنا نعتقد انتفاء العصمة عن علي ونعتقد أن انتفاءها عنه أولى من انتفائها عن غيره وأنهم أحق بها منه إن كانت ممكنة فلا يمكن مع هذا أن يحتج علينا بقولنا وأيضا فنحن إنما نسلم انتفاء العصمة عن الثلاثة لاعتقادنا أن الله لم يخلق إماما معصوما فإن قدر أن الله خلق إماما معصوما فلا يشك أنهم أحق بالعصمة من كل من جاء بعدهم ونفينا لعصمتهم لاعتقادنا هذا التقدير وهنا جواب ثالث عن أصل الحجة وهو أن يقال من أين علمتم أن عليا معصوم ومن سواه ليس بمعصوم فإن قالوا بالإجماع على ثبوت عصمة علي وانتفاء عصمة غيره كما ذكروه من حجتهم قيل لهم إن لم يكن الإجماع حجة بطلت هذه الحجة وإن كان حجة في إثبات عصمة علي التي هي الأصل أمكن أن يكون حجة في المقصود بعصمة من حفظ الشرع ونقله ولكن هؤلاء يحتجون بالإجماع ويردون كون الإجماع حجة فمن أين علموا أن عليا هو المعصوم دون من سواه فإن ادعوا التواتر عندهم عن النبي في عصمته كان القول في ذلك

 

 

كالقول في تواتر النص على إمامته وحينئذ فلا يكون لهم مستند آخر الجواب الرابع أن يقال الإجماع عندهم ليس بحجة إلا أن يكون قول المعصوم فيه فإن لم يعرفوا ثبوت المعصوم إلا به لزم الدور فإنه لا يعرف أنه معصوم إلا بقوله ولا يعرف أن قوله حجة إلا إذا عرف أنه معصوم فلا يثبت واحد منهما فعلم بطلان حجتهم على إثبات المعصوم وهذا يبين أن القوم ليس لهم مستند علمي أصلا فيما يقولون فإن الإجماع عندهم ليس بحجة بل لا يجوز عندهم أن تجتمع الأمة إلا إذا كان المعصوم فيهم فإن قول المعصوم وحده هو الحجة فيحتاجون حينئذ إلى العلم بالشخص المستقل حتى يعلم أن قوله حجة فإذا احتجوا بالإجماع لم تكن الحجة عندهم في الإجماع إلا قول المعصوم فيصير هذا مصادرة على المطلوب ويكون حقيقة قولهم فلان معصوم لأنه قال إني معصوم فغذا قيل لهم بم عرفتم أنه معصوم وأن من سواه ليسوا معصومين قالوا بأنه قال أنا معصوم ومن سواى ليس بمعصوم وهذا مما يمكن كل أحد أن يقوله فلا يكون حجة وصار هذا كقول القائل أنا صادق في كل ما أقوله فإن لم يعلم صدقه بغير قوله لم يعلم صدقه فيما يقوله

 

 

وحجتهم هذه من جنس حجة إخوانهم الملاحدة والإسماعيلية فإنهم يدعون إلى الإمام المعلم المعصوم ويقولون إن طرق العلم من الأدلة السمعية والعقلية لا يعرف صحتها إلا بتعليم المعلم المعصوم وكأنهم أخذوا هذا الأصل الفاسد عن إخوانهم الرافضة فلما ادعت الرافضة أنه لا بد من إمام معصوم في حفظ الشريعة وأقرت بالنبوة ادعت الإسماعيلية ما هو أبلغ فقالوا لا بد في جميع العلوم السمعية والعقلية من المعصوم وإذا كان هؤلاء ملاحدة في الباطن يقرون بالنبوات في الظاهر والشرائع ويدعون أن لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه الناس منها ويقولون بسقوط العبادات وحل المحرمات للخواص الواصلين فإن لهم طبقات في الدعوة ليس هذا موضعها وإنما المقصود أن كلتا الطائفتين تدعي الحاجة إلى معصوم غير الرسول لكن الاثنى عشرية يجعلون المعصوم أحد الأثنى عشر وتجعل الحاجة إليه في حفظ الشريعة وتبليغها وهؤلاء ملاحدة كفار

 

 

والإمامية في الجملة يعتقدون صحة الإسلام في الباطن إلا من كان منهم ملحدا فإن كثير من شيوخ الشيعة هو في الباطن على غير اعتقادهم إما متفلسف ملحد وإما غير ذلك ومن الناس من يقول إن صاحب هذا الكتاب ليس هو في الباطن على قولهم وإنما احتاج أن يتظاهر بهذا المذهب لما له في ذلك من المصلحة الدنيوية وهذا يقوله غير واحد ممن يحب صاحب هذا الكتاب ويعظمه والأشبه أنه وأمثاله حائرون بين أقوال الفلاسفة وأقوال سلفهم المتكلمين ومباحثهم تدل في كتبهم على الحيرة والاضطراب ولهذا صاحب هذا الكتاب يعظم الملاحدة كالطوسي وابن سينا وأمثالهما ويعظم شيوخ الإمامية ولهذا كثير من الإمامية تذمه وتسبه وتقول إنه ليس على طريق الإمامية وهكذا أهل كل دين تجد فضلاءهم في الغالب إما أن يدخلوا في دين الإسلام الحق وإما أن يصيروا ملاحدة مثل كثير من علماء النصارى هم في الباطن زنادقة ملاحدة وفيهم من هو في الباطن يميل إلى دين الإسلام وذلك لما ظهر لهم من فساد دين النصارى فإذا قدر أن الحاجة إلى المعصوم ثابتة فالكلام في تعينه فإذا طولب الإسماعيلي بتعيين معصومه وما الدليل على أن هذا هو

 

 

المعصوم دون غيره لم يأت بحجة أصلا وتناقضت أقواله وكذلك الرافضي أخذ من القدرية كلامهم في وجوب رعاية الأصلح وبني عليه أنه لا بد من معصوم وهي أقوال فاسدة ولكن إذا طولب بتعيينه لم يكن له حجة أصلا إلا مجرد قول من لم تثبت بعد عصمته إني معصوم فإن قيل إذا ثبت بالعقل أنه لا بد من معصوم فإذا قال علي أني معصوم لزم أن يكون هو المعصوم لأنه لم يدع هذا غيره قيل لهم لو قدر ثبوت معصوم في الوجود لم يكن مجرد قول شخص أنا معصوم مقبولا لإمكان كون غيره هو المعصوم وإن لم نعلم نحن دعواه وإن لم يظهر دعواه بل يجوز أن يسكت عن دعوى العصمة وإظهارها على أصلهم كما جاز للمنتظر أن يخفى نفسه خوفا من الظلمة وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن يكون في الأرض معصوم غير الاثنى عشر وإن لم يظهر ذلك ولم نعلمه كما أدعوا مثل ذلك في المنتظر فلم لم يبق معهم دليل على التعيين لا إجماع ولا دعوىومع هذا كله بتقدير دعوى على العصمة فإنما يقبل هذا لو كان علي قال ذلك وحاشاه من ذلك وهذا جواب خامس وهو أنه إذا لم تكن الحجة على العصمة إلا قول المعصوم إني معصوم فنحن راضون بقول علي في هذه المسألة فلا يمكن أحد أن ينقل عنه بإسناد ثابت أنه قال ذلك بل النقول المتواترة عنه تنفى اعتقاده في نفسه العصمة وهذا جواب سادس فإن إقراره لقضاته على أن يحكموا بخلاف رأيه دليل على أنه لم يعد نفسه معصوما وقد ثبت بالإسناد الصحيح أن عليا قال اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن وقد رأيت الآن أن يبعن فقال له عبيدة السلماني قاضيه رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة وكان شريح يحكم باجتهاده ولا يراجعه ولا يشاوره وعلي يقره على ذلك وكان يقول اقضوا كما كنتم تقضون وكان يفتي ويحكم باجتهاده ثم يرجع عن ذلك باجتهاده كأمثاله من الصحابة وهذه أقواله المنقولة عنه بالأسانيد الصحاح موجودة

 

 

ثم قد وجد من أقواله التي تخالف النصوص أكثر مما وجد من أقوال عمر وعثمان وقد جمع الشافعي من ذلك كتابا فيه خلاف علي وابن مسعود لما كان أهل العراق يناظرونه في المسألة فيقولون قال علي وابن مسعود ويحتجون بقولهما فجمع الشافعي كتابا ذكر فيه ما تركوه من قول علي وابن مسعود وجمع بعده محمد بن نصر المروزي كتابا أكبر من ذلك بكثير ذكره في مسألة رفع اليدين في الصلاة لما احتج عليه فيها بقول ابن مسعود وهذا كلام مع علماء يحتجون بالأدلة الشرعية من أهل الكوفة كأصحاب أبي حنيفة محمد بن الحسن وأمثاله فإن أكثر مناظرة الشافعي كانت مع محمد بن الحسن وأصحابه لم يدرك أبا يوسف ولا ناظره ولا سمع منه بل توفي أبو يوسف قبل أن يدخل الشافعي العراق توفي سنة ثلاث وثمانين وقدم الشافعي العراق سنة خمس وثمانين ولهذا إنما يذكر في كتبه أقوال أبي يوسف عن محمد بن الحسن عنه

 

 

وهؤلاء الرافضة في احتجاجهم على أن عليا معصوم بكون غيرهم ينفي العصمة عن غيرة احتجاجا لقولهم بقولهم وإثبات الجهل بالجهل ومن توابع ذلك ما رأيته في كتب شيوخهم أنهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين وكان أحد القولين يعرف قائله والآخر لا يعرف قائله فالصواب عندهم القول الذى لا يعرف قائله قالوا لأن قائله إذا لم يعرف كان من أقوال المعصوم فهل هذا إلا من أعظم الجهل ومن أين يعرف أن القول الآخر وإن لم يعرف قائله إنما قاله المعصوم ولو قدر وجوده أيضا لم يعرف أنه قاله كما لم يعرف أنه قاله الآخر ولم لا يجوز أن يكون المعصوم قد قال القول الذي يعوف وأن غيره قاله كما أنه يقول أقوالا كثيرة يوافق فيها غيره وأن القول الآخر قد قاله من لا يدري ما يقول بل قاله شيطان من شياطين الجن والإنس فهم يجعلون عدم العلم بالقول وصحته دليلا على صحته كما قالوا هنا عدم القول بعصمة غيره دليل على عصمته وكما جعلوا عدم العلم بالقائل دليلا على أنه قول المعصوم وهذا حال من أعرض عن نور السنة التي بعث الله بها رسوله فإنه يقع في ظلمات البدع ظلمات بعضها فوق بعضفصل قال الرافضى الوجه الثاني أن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه لما بينا من بطلان الاختيار وأنه ليس بعض المختارين لبعض الأمة أولى من البعض المختار الآخر ولادائه إلى التنازع والتشاجر والتشاجر فيؤدى نصب الإمام إلى أعظم أنواع الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبنا نصبه وغير علي من أئمتهم لم يكن منصوصا عليه بالإجماع فتعين أن يكون هو الإمام والجواب عن هذا بمنع المقدمتين أيضا لكن النزاع هنا في الثانية أظهر وأبين فإنه قد ذهب طوائف كثيرة من السلف والخلف من أهل الحديث والفقه والكلام إلى النص على أبي بكر وذهبت طائفة من الرافضة إلى النص على العباس

 

 

وحينئذ فقوله غير علي من أئمتهم لم يكن منصوصا عليه بالإجماع كذب متيقن فإنه لا إجماع على نفي النص عن غير علي وهذا الرافضي المصنف وإن كان من أفضل بني جنسه ومن المبرزين على طائفته فلا ريب أن الطائفة كلها جهال وإلا فمن له معرفة بمقالات الناس كيف يدعى مثل هذا الإجماع ونجيب هنا بجواب ثالث مركب وهو أن نقول لا يخلوا إما أن يعتبر النص في الإمامة وإما أن لا يعتبر فإن اعتبر منعنا المقدمة الثانية إن قلنا إن النص ثابت لأبي بكر وإن لم يعتبر بطلت المقدمة الأولى وهنا جواب رابع وهو أن نقول الإجماع عندكم ليس بحجة وإنما الحجة قول المعصوم فيعود الأمر إلى إثبات النص بقول الذي يدعى له العصمة ولم يثبت بعد لا نص ولا عصمة بل يكون قول القائل لم يعرف صحة قوله أنا المعصوم وأنا المنصوص على إمامتي حجة وهذا من أبلغ الجهل وهذه الحجة من جنس التي قبلها وجواب خامس وهو أن يقال ما تعنى بقولك يجب أن يكون منصوصا عليه لأنه لا بد من أن يقول هذا هو الخليفة من بعدي

 

 

فاسمعوا له وأطيعوا فيكون الخليفة بمجرد هذا النص أم لا يصير هذا إماما حتى تعقد له الإمامة مع ذلك فإن قلت بالأول قيل لا نسلم وجوب النص بهذا الاعتبار والزيدية مع الجماعة تنكر هذا النص وهم من الشيعة الذين لا يتهمون على علي وأما قوله إنه إذا لم يكن كذلك أدى إلى التنازع والتشاجر فيقال النصوص التي تدل على استحقاقه الإمامة وتعلم دلالتها بالنظر والاستدلال يحصل بها المقصود في الأحكام فليست كل الأحكام منصوصة نصا جليا يستوي في فهمه العام والخاص فإذا كانت الأمور الكلية التي تجب معرفتها في كل زمان يكتفي فيها بهذا النص فلأن يكتفي بذلك في القضية الجزئية وهو تولية إمام معين بطريق الأولى والأحرى فإنا قد بينا أن الكليات يمكن نص الأنبياء عليها بخلاف الجزئيات وأيضا فيه إذا كانت الأدلة ظاهرة في أن بعض الجماعة أحق بها من غيره استغنى بذلك عن استخلافه والدلائل الدالة على أن أبا بكر كان أحقهم بالإمامة ظاهرة بينة لمينازع فيها أحد من الصحابة ومن نازع من الأنصار لم ينازع في أن أبا بكر أفضل المهاجرين وإنما طلب أن يولى واحد من الأنصار مع واحد من المهاجرين فإن قيل إن كان لهم هوى منعوا ذلك بدلالة النصوص قيل وإذا كان لهم هوى عصوا تلك النصوص وأعرضوا عنها كما ادعيتم أنتم عليهم فمع قصدهم القصد الحق يحصل المقصود بهذا وبهذا ومع العناد لا ينفع هذا ولا هذا وجواب سادس أن يقال النص على الأحكام على وجهين نص كلي عام يتناول أعيانها ونص على الجزئيات فإذا قلتم لا بد من النص على الإمام إن أردتم النص على العام الكلي على ما يشترط للإمام وما يجب عليه وما يجب له كالنص على الحكام والمفتين والشهود وأئمة الصلاة والمؤذنين وأمراء الجهاد وغير هؤلاء ممن يتقلد شيئا من أمور المسلمين فهذه النصوص ثابتة ولله الحمد كثيره كما هي ثابتة على سائر الأحكام وإن قلتم لا بد من نص على أعيان من يتولى

 

 

قيل قد تقدم أن النص على جزئيات الأحكام لا يجب بل ولا يمكن والإمامة حكم من الأحكام فإن النص على كل من يتولى على المسلمين ولاية ما إلى قيام الساعة غير ممكن ولا واقع والنص على معين دون معين لا يحصل به النص على كل معين بل يكون نصا على بعض المعينين وحينئذ فإذا قيل يمكن النص على إمام ويفوض إليه النص على من يستخلفه قيل ويمكن أن ينص على من يستخلفه الإمام وعلى من يتخذه وزيرا والنص على ذلك أبلغ في المقصود وأيضا فالإمام المنصوص على عينه أهو معصوم فيمن يوليه أو ليس بمعصوم فإن كان معصوما لزم أن يكون نوابه كلهم معصومين وهذا كله باطل بالضرورة وإن لم يكن كذلك أمكن أن يستخلف غير معصوم فلا يحصل المقصود في سائر الأزمنة بوجود المعصوم فإن قيل هو معصوم فيمن يستخلفه بعده دون من يستخلفه في حياتهقيل الحاجة داعية إلى العصمة في كليهما وعلمه بالحاضر أعظم من علمه بالمستقبل فكيف يكون معصوما فيما يأتي وليس معصوما في الحاضر فإن قيل فالنص ممكن فلو نص النبي صلى الله عليه وسلم على خليفة قيل فنصه على خليفة بعده كتولية واحد في حياته ونحن لا نشترط العصمة لا في هذا ولا في هذا وجواب سابع وهو أن يقال أنتم أوجبتم النص لئلا يفضى إلى التشاجر المفضي إلى أعظم أنواع الفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبتم نصبه فيقال الأمر بالعكس فإن أبا بكر رضي الله عنه تولى بدون هذا الفساد وعمر وعثمان توليا بدون هذا الفساد فإنما عظم هذا الفساد في الإمام الذي ادعيتم أنه منصوص عليه دون غيره فوقع في ولايته من أنواع التشاجر والفساد التي لأجل إعدام الأقل منها أوجبتم نصبه فكان ما جعلتموه وسيلة إنما حصل معه نقيض المقصود وحصل المقصود بدون وسيلتكم فبطل كون ما ذكرتموه وسيلة إلى المقصود

 

 

وهذا لأنهم أوجبوا على الله ما لا يجب عليه وأخبروا بما لم يكن فلزم من كذبهم وجهلهم هذا التناقض وجواب ثامن وهو أن يقال النص الذي يزيل هذا الفساد يكون على وجوه أحدها أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بولاية الشخص ويثنى عليه في ولايته فحينئذ تعلم الأمة أن هذا إن تولى كان محمودا مرضيا فيرتفع النزاع وإن لم يقل ولوه وهذا النص وقع لأبي بكر وعمر الثاني أن يخبر بأمور تستلزم صلاح الولاة وهذه النصوص وقعت في خلافة أبي بكر وعمر الثالث أن يأمر من يأتيه أن يأتي بعد موته شخصا يقوم مقامه فيدل على أنه خليفة من بعده وهذا وقع لأبي بكر الرابع أن يريد كتابة كتاب ثم يقول إن الله والمؤمنين لا يولون إلا فلانا وهذا وقع لأبي بكر الخامس أن يأمر بالاقتداء بعده بشخص فيكون هو الخليفة بعده السادس أن يأمر باتباع سنة خلفائه الراشدين المهديين ويجعلخلافتهم إلى مدة معينة فيدل على أن المتولين في تلك المدة هم الخلفاء الراشدون السابع أن يخص بعض الأشخاص بأمر يقتضي أنه هو المقدم عنده في الاستخلاف وهذا موجود لأبي بكر وهنا جواب تاسع وهو أن يقال ترك النص على معين أولى بالرسول فإنه إن كان النص ليكون معصوما فلا معصوم بعد الرسول وإن كان بدون العصمة فقد يحتج بالنص على وجوب اتباعه في كل مايقول ولا يمكن أحد بعد موت الرسول أن يراجع الرسول في أمره ليرده أو يعزله فكان أن لا ينص على معين أولى من النص وهذا بخلاف من يوليه في حياته فإنه إذا أخطأ أو أذنب أمكن الرسول بيان خطئه ورد ذنبه وبعد موته لا يمكنه ذلك ولا يمكن الأمة عزله لتولية الرسول إياه فكان عدم النص على معين مع علم المسلمين بدينهم أصلح للأمة وكذلك وقع وأيضا لو نص على معين ليؤخذ الدين منه كما تقوله الرافضة

 

 

بطلت حجة الله فإن ذلك لا يقوم به شخص واحد غير الرسول إذ لا معصوم إلا هو ومن تدبر هذه الأمور وغيرها علم أن ما اختاره الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته أكمل الأمور وجواب عاشر وهو أن النص على الجزئيات لا يمكن والكليات قد نص عليها فلو نص على معين وأمر بطاعته في تعيين الكليات كان هذا باطلا وإن أمر بطاعته في الجزئيات سواء وافقت الكليات أو خالفتها كان هذا باطلا وإن أمر بطاعته في الجزئيات إذا طابقت الكليات فهذا حكم كل متول وأيضا فلو نص على معين لكان من يتولى بعده إذا لم يكن منصوصا عليه يظن الظان أنه لا تجوز طاعته إذ طاعه الأول إنما وجبت بالنص ولا نص معه وإن قيل كل واحد ينص على الآخر فهذا إنما يكون إذا كان الثاني معصوما والعصمة منتفية عن غير الرسول وهذا مما يبين أن القول بالنص فرع على القول بالعصمة وذلك من أفسد الأقوال فكذلك هذا أعنى النص الذي تدعيه الرافضة وهو الأمر بطاعة المتولى في كل مايقوله من غير رد ما يقوله الكتاب إلى الكتابة والسنة إذا نوزع

 

 

وأما إذا كان يرد ما تنوزع فيه إلى الكتاب والسنة لم يحتج حينئذ إلى نص عليه لحفظ الدين فإن الدين محفوظ بدونه وبالجملة فالنص على معين إن أريد به أنه يطاع كما يطاع الرسول في كل ما يأمر به وينهى عنه ويبيحه وليس لأحد أن ينازعه في شىء كما ليس له أن ينازع الرسول وأنه يستبد بالأحكام والأمة معه كما كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا يكون لأحد بعد الرسول ولا يمكن هذا لغيره فإن أحدا بعده لا يأتيه الوحي كما كان يأتيه ولم يعرف أحد كل ما عرفه الرسول فلم يبق سبيل إلى مماثلته لا من جهته ولا من جهة الرب تعالى وإن أريد بالنص أنه يبين للأمة أن هذا أحق بأن يتولى عليكم من غيره وولاية هذا أحب إلى الله ورسوله وأصلح لكم في دينكم ودنياكم ونحو هذا مما يبين أنه أحق بالتقدم في خلافة النبوة فلا ريب أن النصوص الكثيرة بهذه المعاني دلت على خلافة أبي بكر وإن أريد أنه أمرهم أن يتابعوه كما أمرهم أبو بكر أن يتابعوا عمر ويعهد إليهم في ذلك فهذا إذا علم أن الأمة تفعله كان تركه خيرا

 

 

من فعله وإن خاف أن لا تفعله إلا بأمره كان الأمر أولى به ولهذا لما خشى عليهم أبو بكر رضي الله عنه أن يختلفوا بعده عهد إلى عمر ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يبايعون أبا بكر لم يأمرهم بذلك كما في الصحيحين أنه قال لعائشة ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ثم قال يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر فعلم أن الله لا يولى إلا أبا بكر والمؤمنون لا يبايعون إلا أبا بكر وكذلك سائر الأحاديث الصحيحة تدل على أنه علم ذلك وإنما كان ترك الأمر مع علمه أفضل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لأن الأمة إذا ولته طوعا منها بغير التزام وكان هو الذي يرضاه الله ورسوله كان أفضل للأمة ودل على علمها ودينها فإنها لو ألزمت بذلك لربما قيل إنها أكرهت على الحق وهي لا تختاره كما كان يجري مثل ذلك لبني إسرائيل ويظن الظان أنه كان في الأمة بقايا جاهلية من التقدم بالأنساب فإنهم كانوا يريدون أن لا يتولى إلا من هو من بني عبد مناف كما كان أبو سفيان وغيره

 

 

يختارون ذلك فلو ألزم المهاجرين والأنصار بهذا لظن الظان أنهم كانوا من جنس أبي سفيان وأمثاله وكانوا يعرفون اختصاص الصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم أولا وآخرا وموافقته له باطنا وظاهرا فقد يقول القائل إنهم كانوا في الباطن كارهين لمن يأمرهم بمثل ما أمرهم به الرسول لكن لما ألزمهم بذلك احتاجوا إلى التزامه لو لم يقدح فيهم بذلك لم يمدحوا إلا بمجرد الطاعة للأمر فإذا كانوا برضاهم واختيارهم اختاروا ما يرضاه الله ورسوله من غير إلزام كان ذلك أعظم لقدرهم وأعلى لدرجتهم وأعظم في مثوبتهم وكان ما اختاره الله ورسوله للمؤمنين به هو أفضل الأمور له ولهم ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن حارثة وبعده أسامة بن زيد وطعن بعض الناس في إمارتهما واحتاجوا مع ذلك إلى لزوم طاعتهما فلو ألزمهم بواحد لكان يظن بهم أن مثل هذا كان في نفوسهم وأنه ليس الصديق عندهم بالمنزلة التي لا يتكلم فيها أحد فلما اتفقوا على بيعته ولم يقل قط أحد إني أحق بهذا الأمر منه

 

 

لا قرشى ولا أنصارى فإن من نازع أولا من الأنصار لم تكن منازعته للصديق بل طلبوا أن يكون منهم أمير ومن قريش أمير وهذه منازعة عامة لقريش فلما تبين لهم أن هذا الأمر في قريش قطعوا المنازعة وقال لهم الصديق رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح قال عمر فكنت والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر وقال له بمحضر الباقين أنت خيرنا وأفضلنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة ثم بايعوا أبا بكر من غير طلب منه ولا رغبة بذلت لهم ولا رهبة فبايعه الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة والذين بايعوه ليلة العقبة والذين بايعوه لما كانوا يهاجرون إليه والذين بايعوه لما كانوا يسلمون من غير هجرة كالطلقاء وغيرهم ولم يقل أحد قط إني أحق بهذا من أبي بكر ولا قاله أحد في أحد بعينه إن فلانا أحق بهذا الأمر من أبي بكر وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية إن بيت الرسول أحق

 

 

بالولاية لكون العرب كانت في جاهليتها تقدم أهل بيت الرؤساء وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا كما نقل عن أبي سفيان وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من علي وإن قدر أنه رجح عليا فلعلمه بأن الإسلام يقدم الإيمان والتقوى على النسب فأراد أن يجمع بين حكم الجاهلية والإسلام فأما الذين كانوا لا يحكمون إلا بحكم الإسلام المحض وهو التقديم بالإيمان والتقوى فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر ولا خالف أحد من هؤلاء ولا من هؤلاء في أنه ليس في القوم أعظم إيمانا وتقوى من أبي بكر فقدموه مختارين له مطيعين فدل ذلك على كمال إيمانهم وتقواهم واتباعهم لما بعث الله به نبيهم من تقديم الأتقى فالأتقى وكان ما اختاره الله لنبيهم صلى الله عليه وسلم ولهم أفضل لهم والحمد لله على أن هدى هذه الأمة وعلى أن جعلنا من أتباعهمفصل قال الرافضى الثالث أن الإمام يجب أن يكرن حافظا للشرع لانقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم وقصور الكتاب والسنة عن تفاصيل الأحكام الجزئية الواقعة إلى يوم القيامة فلا بد من إمام منصوب من الله تعالى معصوم من الزلل والخطأ لئلا يترك بعض الأحكام أو يزيد فيها عمدا أو سهوا وغير علي لم يكن كذلك بالإجماع والجواب من وجوه أحدها أنا لا نسلم أنه يجب أن يكون حافظا للشرع بل يجب أن تكون الأمة حافظة للشرع وحفظ الشرع يحصل بمجموع الأمة كما يحصل بالواحد بل الشرع إذا نقله أهل التواتر كان خيرا من أن ينقله واحد منهم وإذا كان كل طائفة تقوم بهم الحجة تنقل بعصمة حصل المقصود وعصمة أهل التواتر حصل في نقلهم أعظم عند بني آدم كلهم من عصمة من ليس بنبي فإن أبا بكر وعمر وعثمان

 

 

وعليا ولو قيل إنهم معصومون فما نقله المهاجرون والأنصار أبلغ مما نقله هؤلاء وأيضا فإن كان أكثر الناس يطعنون في عصمة الناقل لم يحصل ا فكيف إذا كان كثير من الأمة يكفرة والتواتر يحصل بأخبار المخبرين الكثيرين وإن لم تعلم عدالتهم الوجه الثاني أن يقال أتريد به من يكون حافظا للشرع وإن لم يكن معصوما أو من يكون معصوما فإن اشترطت العصمة فهذا هو الوجه الأول وقد كررته وتقدم الجواب عليه وإن اشترطت مجرد الحفظ فلا نسلم أن عليا كان أحفظ للكتاب والسنة وأعلم بهما من أبي بكر وعمر بل هما كانا أعلم بالكتاب والسنة منه فبطل ما ادعاه من الإجماع الوجه الثالث أن يقال أتعني بكونه حافظا للشرع معصوما أنه لا يعلم صحة شىء من الشرع إلا بنقله أم يمكن أن يعلم صحة شىء من الشرع بدون نقله إن قلت بالثاني لم يحتج لا إلى حفظه ولا إلى عصمته فإنهإذا أمكن حفظ شىء من الشرع بدونه أمكن حفظ الآخر حتى يحفظ الشرع كله من غير حاجة إليه وإن قلت بل معناه أنه لا يمكن معرفة شىء من الشرع إلا بحفظه فيقال حينئذ لا تقوم حجة على أهل الأرض إلا بنقله ولا يعلم صحة نقله حتى يعلم أنه معصوم ولا يعلم أنه معصوم إلا بالإجماع على نفي عصمة من سواه فإن كان الإجماع معصوما أمكن حفظ الشرع به وإن لم يكن معصوما لم تعلم عصمته الوجه الرابع أن يقال فبماذا تثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عند من يقر بنبوته فإن قيل بما نقله الإمام من معجزاته قيل من لم يقر بنبوة محمد لم يقر بإمامة علي رضي الله عنه بطريق الأولى بل يقدح في هذا وهذا وإن قيل بما تنقله الأمة نقلا متواترا من معجزاته كالقرآن وغيره قيل فإذا كان نقل الأمة المتواتر حجة يثبت بها أصل نبوته فكيف لا يكون حجة يثبت بها فروع شريعته الوجه الخامس أن الإمام هل يمكنه تبليغ الشرع إلى من ينقله عنه بالتواتر أم لا يزال منقولا نقل الآحاد من إمام إلى إمام

 

 

فإن كان الإمام يمكنه ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم يمكنه ذلك بطريق الأولى وحينئذ فلا حاجة إلى نقل الإمام وإن قيل لا يمكنه ذلك لزم أن يكون دين الإسلام لا ينقله إلا واحد بعد واحد والنقلة لا يكونون إلا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يمكن القادح في نبوته أن يقول إنهم يقولون عليه مايشاؤون ويصير دين المسلمين شرا من دين النصارى واليهود الذين يدعون أن أئمتهم يختصون بعلمه ونقله الوجه السادس أن ما ذكروه ينقص من قدر النبوة فإنه إذا كان الذي يدعي العصمة فيه وحفظ من عصبته كان ذلك من أعظم التهم التي توجب القدح في نبوته ويقال إن كان طالب ملك أقامه لأقاربه وعهد إليهم مايحفظون به الملك وأن لا يعرف ذلك غيرهم فإن هذا بأمر الملك أشبه منه بأمر الأنبياء الوجه السابع أن يقال الحاجة ثابتة إلى معصوم في حفظ الشرع ونقله وحينئذ فلماذا لا يجوز أن يكون الصحابة الذين حفظوا القرآن والحديث وبلغوه هم المعصومين الذين حصل بهم مقصود حفظ

 

 

الشرع وتبليغه ومعلوم أن العصمة إذا حصلت في الحفظ والتبليغ من النقلة حصل المقصود وإن لم يكونوا هم الأئمة الوجه الثامن أن يقال لماذا لا يجوز أن تكون العصمة في الحفظ والبلاغ ثابتة لكل طائفه بحسب ماحملته من الشرع فالقراء معصومون في حفظ القرآن وتبليغه والمحدثون معصومون في حفظ الحديث وتبليغه والفقهاء معصومون في فهم الكلام والاستدلال على الأحكام وهذا هو الواقع المعلوم الذي أغنى الله به عن واحد معدوم الوجه التاسع أنه إذا كان لا يحفظ الشرع ويبلغه إلا واحد بعد واحد معصوم عن معصوم وهذا المنتظر له أكثر من أربعمائة وستين سنة لم يأخذ عنه أحد شيئا من الشرع فمن أين علمتم القرآن من أكثر من أربعمائة سنة ولم لا يجوز ان يكون هذا القرآن الذي تقرؤونه ليس فيه شىء من كلام الله وكذلك من أين لكم العلم بشىء من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه وأنتم لم تسمعوا شيئا من ذلك من معصوم لأن المعصوم إما مفقود وإما معدوم

 

 

فإن قالوا تواتر ذلك عند أصحابنا بنقلهم عن الأئمة المعصومين قيل فإذا كان تواتر أصحابكم عن الأئمة يوجب حفظ الشرع ونقله فلماذا لا يجوز أن يكون تواتر الأمة كلها عن نبيها أولى بحفظ الشرع ونقله من غير احتياج إلى نقل واحد عن واحد وهم يقولون إن ما بأيديهم من العلم الموروث عمن قبل المنتظر يغنيهم عن أخذ شىء من المنتظر فلماذا لا يكون ما بأيدي الأمة عن نبيها يغنيها عن أخذ شىء عمن بعده وإذا كانوا يدعون أن ماينقلونه عن واحد من الاثنى عشر ثابت فلماذا لا يكون ما تنقله الأمة عن نبيها ثابتا ومن المعلوم أن مجموع الأمة أضعاف أضعاف الرافضة بكثير وأنهم أحرص على حفظ دين نبيهم وتبليغه أقدر على ذلك من الرافضة على حفظ ما يقوله هؤلاء ونقله وهذا مما لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأمور الوجه العاشر أن يقال قولك لانقطاع الوحى وقصور النصوص عن تفاصيل الأحكام أتريد به قصورها عن بيان جزئى جزئى بعينه أو قصورها عن البيان الكلي المتناول للجزئيات

 

 

فإن ادعيت الأول قيل لك وكلام الإمام وكل أحد بهذه المنزلة فإن الأمير إذا خاطب الناس فلا بد أن يخاطبهم بكلام عام يعم الأعيان والأفعال وغير ذلك فإنه من الممتنع أن يعين بخطابه كل فعل من كل فاعل في كل وقت فإن هذا غير ممكن فإذا لا يمكنه إلا الخطاب العام الكلي والخطاب العام الكلي ممكن من الرسول وإن ادعيت أن نفس نصوص الرسول ليست عامة كلية قيل لك هذا ممنوع وبتقدير أن يمنع هذا في نصوص الرسول الذي هو أكمل من الإمام فمنع ذلك من نصوص الإمام أولى وأحرى فأنت مضطر في خطاب الإمام إلى أحد أمرين إما ثبوت عموم الألفاظ وإما ثبوت عموم المعاني بالاعتبار وأيهما كان أمكن إثباته في خطاب الرسول فلا يحتاج في بيانه الأحكام إلى الإمام الوجه الحادي عشر أن يقال وقد قال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم (سورة إبراهيم). وقال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (سورة النساء). وقال تعالى وما على الرسول إلا البلاغ المبين (سورة النور). وأمثال ذلك فيقال وهل قامت الحجة على الخلق ببيان الرسوم أم لا

 

 

فإن لم تقم بطلت هذه الآيات وما كان في معناها وإن قامت الحجة ببيان الرسول علم أنه لا يحتاج إلى معين آخر يفتقر الناس إلى بيانه فضلا عن حفظ تبليغه وأن ما جعل الله في الإنسان من القوة الناقلة لكلام الرسول وبيانه كافية من ذلك لا سيما وقد ضمن الله حفظ ما أنزله من الذكر فصار ذلك مأمونا أن يبدل أو يغير وبالجملة دعوى هؤلاء المخذولين أن دين الإسلام لا يحفظ ولا يفهم إلا بواحد معين من أعظم الإفساد لأصول الدين وهذا لا يقوله وهو يعلم لوازمه إلا زنديق ملحد قاصد لإبطال الدين ولا يروج هذا إلا على مفرط في الجهل والضلال الوجه الثاني عشر أن يقال قد علم بالاضطرار أن أكثر المسلمين بلغهم القرآن والسنة بدون نقل علي فإن عمر رضي الله عنه لما فتح الأمصار بعث إلى الشام والعراق من علماء الصحابة من علمهم وفقههم واتصل العلم من أولئك إلى سائر المسلمين ولم يكن ما بلغه علي للمسلمين أعظم مما بلغه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وأمثالهما وهذا أمر معلوم ولو لم يحفظ الدين إلا بالنقل عن علي لبطل عامة الدين فإنه لا يمكن أن ينقل عن علي إلا أمر قليل لا يحصل به المقصودوالنقل عنه ليس متواترا وليس في زماننا معصوم يمكن الرجوع إليه فلا حول ولا قوة إلا بالله ما أسخف عقول الرافضة.

*

فصل قال الرافضي الرابع أن الله تعالى قادر على نصب إمام معصوم وحاجة العالم داعية إليه ولا مفسدة فيه فيجب نصبه وغير علي لم يكن كذلك إجماعا فتعين أن يكون الإمام هو علي أما القدرة فظاهرة وأما الحاجة فظاهرة أيضا لما بينا من وقوع التنازع بين العالم وأما انتفاء المفسدة فظاهر أيضا لأن المفسدة لازمة لعدمه وأما وجوب نصبه فلأن عند ثبوت القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل.

 

*والجواب أن هذا هو الوجه الأول بعينه ولكن قرره وقد تقدمت الأجوبة عنه بمنع المقدمة الأولى وبيان فساد هذا الاستدلال فإن مبناه على الاحتجاج بالإجماع فإن كان الإجماع معصوما أغنى عن عصمة علي وإن لم يكن معصوما بطلت دلالته على عصمة علي فبطل الدليل على التقديرين ومن العجب أن الرافضة تثبت أصولها على ما تدعيه من النص والإجماع وهم أبعد الأمة عن معرفة النصوص والإجماعات والاستدلال بها بخلاف السنة والجماعة فإن السنة تتضمن النص والجماعة تتضمن الإجماع فأهل السنة والجماعة هم المتبعون للنص والإجماع ونحن نتكلم على هذا التقرير ببيان فساده وذلك من وجوه أحدها أن يقال لا نسلم أن الحاجة داعية إلى نصب إمام معصوم وذلك لأن عصمة الأمة مغنية عن عصمته وهذا مما ذكره العلماء في حكمة عصمة الأمة قالوا لأن من كان من الأمم قبلنا كانوا إذا بدلوا دينهم بعث الله نبيايبين الحق وهذه الأمة لا نبي بعد نبيها فكانت عصمتها تقوم مقام النبوة فلا يمكن أحدا منهم أن يبدل شيئا من الدين إلا أقام الله من يبين خطأه فيما بدله فلا تجتمع الأمة على ضلال كما قال صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة وقال إن الله أجاركم على لسان نبيكم أن تجتمعوا على ضلالة إلى غير ذلك من الدلائل الدالة على صحة الإجماع الثاني إن أريد بالحاجة أن حالهم مع وجوده أكمل فلا ريب أن حالهم مع عصمة نواب الإمام أكمل وحالهم مع عصمة أنفسهم أكمل وليس كل ما تقدره الناس أكمل لكل منهم يفعله الله ولا يجب عليه فعله وإن أريد أنهم مع عدمه يدخلون النار أو لا يعيشون في الدنيا أو يحصل لهم نوع من الأذى

 

فيقال هب أن الأمر كذلك فلم قلت إن أزالة هذا واجب ومعلوم أن الأمراض والهموم والغموم موجودة والمصائب في الأهل والمال والغلاء موجود والجوائح التي تصيب الثمار موجودة وليس ما يصيب المظلوم من الضرر بأعظم مما يصيبه من هذه الأسباب والله تعالى لم يزل ذلك الثالث أن قوله عند ثبوت القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل يقال له لم قلت إن الداعي ثابت والصارف منتف وقوله حاجة العالم داعية إليه يقال له الداعي هو الذي يكون داعيا للفاعل فلم قلت إن مجرد الحاجة داعية للرب تعالى فيها وكذلك قوله وانتفاء الصارف وأنت لم تدع إلا عدم المفسدة التي ادعيتها فلم قلت لا مفسدة في ذلك كما يقال إن الواحد منا يحتاج إلى المال والصحة والقوة وغير ذلكالرابع أن قوله إن الله قادر على نصب إمام معصوم أتريد به معصوما بفعل الطاعات باختياره والمعاصي باختياره والله تعالى لم يخلق اختياره كما هو قولهم أم تريد به أنه معصوم يفعل الطاعات بغير اختيار يخلقه الله فيه فإن قالوا بالأول كان باطلا على أصلهم فإن الله عندهم لا يقدر على خلق مؤمن معصوم بهذا التفسير كما لا يقدر على خلق مؤمن وكافر عندهم بهذا التفسير فإن الله عندهم لا يقدر على فعل الحي المختار ولا يخلق إرادته المختصة بالطاعة دون المعصية وإن قالوا بهذا الثاني لم يكن لهذا المعصوم ثواب على فعل الطاعة ولا على ترك المعصية وحينئذ فسائر الناس يثابون على طاعتهم وترك معاصيهم أفضل منه فكيف يكون الإمام المعصوم الذي لا ثواب له أفضل من أهل الثواب فتبين انتقاض مذهبهم حيث جمعوا بين متناقضين بين إيجاب خلق معصوم على الله وبين قولهم إن الله لا يقدر على جعل أحد معصوما باختياره بحيث يثاب على فعله للطاعات وتركه للمعاصي الوجه الخامس أن يقال قولك يقدر على نصب إمام معصوم

 

 

لفظ مجمل فإنه يقال إن الله يقدر على جعل هذا الجسم أسود وأبيض ومتحركا وساكنا وميتا وحيا وهذا صحيح بمعنى أن الله إن شاء سوده وإن شاء بيضه وإن شاء أحياه وإن شاء أماته لكن ليس المراد أنه يصير أبيض وأسود في حال واحدة فإن اجتماع الضدين ممتنع لذاته فليس بشيء ولا يسمى شيئا باتفاق الناس ولا يدخل في عموم قوله والله على كل شيء قدير (سورة البقرة). وإذا كان كذلك فقولك قادر على نصب إمام معصوم إن أردت أنه قادر على أن ينصب إماما ويلهمه فعل الطاعات وترك المعاصي فلا ريب أن الله قادر على ذلك غيره كما هو قادر على أن يجعل جميع البشر معصومين كالإمام بجعل كل واحد من البشر نبيا وأمثال ذلك من مقدورات الله تعالى وإن أردت أنه مع ذلك تحصل حكمته المنافية لوجود ذلك التي يمتنع وجودها إلا مع عدم ذلك فهذا يستلزم الجمع بين الضدين فمن أين تعلم انتفاء جميع أنواع الحكمة التي تنافي وجود ذلك ولو لم يكن الأعظم أجر المطيعين إذا لم يكن لهم إمام معصوم فإن معرفة الطاعة والعمل بها حينئذ أشق فثوابه أكبر وهذا الثواب يفوت بوجود المعصوموأيضا فحفظ الناس للشرع وتفقههم في الدين واجتهادهم في معرفة الدين والعمل به تقل بوجود المعصوم فتفوت هذه الحكم والمصالح وأيضا فجعل غير النبي مماثلا للنبي في ذلك قد يكون من أعظم الشبه والقدح في خاصة النبي فإنه إذا وجب أن يؤمن بجميع ما يقوله هذا كما يجب الإيمان بجميع ما يقوله النبي لم تظهر خاصة النبوة فإن الله أمرنا أن نؤمن بجميع ما أتى به النبيون فلو كان لنا من يساويهم في العصمة لوجب الإيمان بجميع ما يقوله فيبطل الفرق الوجه السادس أن يقال المعصوم الذي تدعو الحاجة اليه أهو القادر على تحصيل المصالح وإزالة المفاسد أم هو عاجز عن ذلك الثاني ممنوع فإن العاجز لا يحصل به وجود المصلحة ولا دفع المفسدة بل القدرة شرط في ذلك فإن العصمة تفيد وجود داعية إلى

 

 

الصلاح لكن حصول الداعي بدون القدرة لا يوجب حصول المطلوب وإن قيل بل المعصوم القادر قيل فهذا لم يوجد وإن كان هؤلاء الاثنا عشر قادرين على ذلك ولم يفعلوه لزم أن يكونوا عصاه لا معصومين وإن لم يقدروا لزم أن يكونوا عاجزين فأحد الأمرين لازم قطعا أو كلاهما العجز وانتفاء العصمة وإذا كان كذلك فنحن نعلم بالضرورة انتفاء ما استدل به على وجوده والضروريات لا تعارض بالاستدلال الوجه السابع أن يقال هذا موجود في هذا الزمان وسائر الأزمنة وليس في هذا الزمان أحد يمكنه العلم بما يقوله فضلا عن كونه يجلب مصلحة أو يدفع مفسدة فكان ما ذكروه باطلا الوجه الثامن أنه سبحانه وإن كان قادرا على نصب معصوم فلا نسلم أنه لا مفسده في نصبه وهذا النفي العام لا بد له من دليل ولا يكفي في ذلك عدم العلم بالمفسدة فإن عدم العلم ليس علمابالعدم ثم من المفاسد في ذلك أن يكون طاعة من ليس بنبي وتصديقه مثل طاعة النبي مطلقا وإذا ساوى النبي في وجوب طاعته في كل شيء ووجوب تصديقه في كل شيء ونفى كل غلط منه فيقال فأي شيء خاصة النبي التي انفرد بها عنه حتى صار هذا نبيا وهذا ليس بنبي فإن قيل بنزول الوحي عليه قيل إذا كان المقصود بنزول الوحي عليه قد حصل له فقد استراح من التعب الذي كان يحصل للنبي وقد شاركه في المقصود وأيضا فعصمته إنما تكون بإلهام الحق له وهذا وحي وأيضا فإما أن يخبر بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر بما أمر به أو يخبر بأخبار وأوامر زائدة فإن كان الأول لم يكن إليه حاجة ولا فيه فائدة فإن هذا قد عرف بأخبار الرسول وأوامره وإن كان غير ذلك وهو معصوم فيه فهذا نبي فإنه ليس بمبلغ عن الأول وإذا قيل بل يحفظ ما جاء به الرسول

 

 

قيل يحفظه لنفسه أو للمؤمنين فإن كان لنفسه فلا حاجة بالناس إليه وإن كان للناس فبأي شىء يصل إلى الناس ما يحفظه أفبالتواتر أم بخبر الواحد فبأى طريق وصل ذلك منه إلى الناس الغائبين وصل من الرسول إليهم مع قلة الوسائط ففي الجملة لا مصلحة في وجود معصوم بعد الرسول إلا وهي حاصلة بدونه وفيه من الفساد مالا يزول إلا بعدمه فقولهم الحاجة داعية إليه ممنوع وقولهم المفسدة فيه معدومة ممنوع بل الأمر بالعكس فالمفسدة معه موجودة والمصلحة معه منتفية وإذا كان اعتقاد وجوده قد أوجب من الفساد ما أوجب فما الظن بتحقق وجوده.

*

فصل قال الرافضى الخامس أن الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته وعلي أفضل أهل زمانه على ما يأتي فيكون هو الإمام لقبح تقديم المفضول على الفاضل عقلا ونقلا قال تعالى أفمن يهدي إلىالحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي فما لكم كيف تحكمون (سورة يونس).

 

*والجواب من وجوه أحدها منع المقدمة الثانية الكبرى فإنا لا نسلم أن عليا أفضل أهل زمانه بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر كما ثبت ذلك عن علي وغيره وسيأتي الجواب عما ذكروه وتقرير ما ذكرناه الثاني أن الجمهور من أصحابنا وغيرهم وإن كانوا يقولون يجب توليه الأفضل مع الإمكان لكن هذا الرافضي لم يذكر حجة على هذه المقدمة وقد نازعه فيها كثير من العلماء وأما الآية المذكورة فلا حجة فيها له لأن المذكور في الآية من يهدي إلى الحق ومن لا يهدي إلا أن يهدي والمفضول لا يجب أن يهدي إلا أن يهديه الفاضل بل قد يحصل له هدى كثير بدون تعلم من الفاضل وقد يكون الرجل يعلم ممن هو أفضل منه وإن كان ذلك الأفضل قد مات وهذا الحي الذي هو أفضل منه لم يتعلم منه شيئا وأيضا فالذي يهدي إلى الحق مطلقا هو الله والذي لا يهدي إلا أن يهدي صفة كل مخلوق لا يهدي إلا أن يهديه الله تعالى وهذا هو المقصود بالآية وهي أن عبادة الله أولى من عبادة خلقه كما قال في سياقها قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل

 

الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى (سورة يونس). فافتتح الآيات بقوله قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت (سورة يونس). الى قوله قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق (سورة يونس). وأيضا فكثير من الناس يقول ولاية الأفضل واجبة إذا لم تكن في ولاية المفضول مصلحة راجحة ولم يكن في ولاية الأفضل مفسدة وهذه البحوث يبحثها من يرى عليا أفضل من أبي بكر وعمر كالزيدية وبعض المعتزلة أو من يتوقف في ذلك كطائفة من المعتزلة وأما أهل السنة فلا يحتاجون إلى منع هذه المقدمة بل الصديق عندهم أفضل الأمة لكن المقصود أن نبين أن الرافضة وإن قالوا حقا فلا يقدرون أن يدلوا عليه بدليل صحيح لأنهم سدوا على أنفسهم كثيرا من طرق العلم فصاروا عاجزين عن بيان الحق حتى أنه لا يمكنهم تقرير إيمان علي على الخوارج ولا تقرير إمامته على المروانية ومن قاتله فإن ما يستدل به على ذلك قد أطلق جنسه على أنفسهم لأنهم لا يدرون ما يلزم أقوالهم الباطلة من التناقض والفساد لقوة جهلهم واتباعهم الهوى بغير علم

 

بسم الله الرحمن الرحيم

اسم الكتاب:منهاج السنة النبوية

///

الجزء السابع///

*قال الرافضي المنهج الثاني في الأدلة المأخوذة من القرآن والبراهين الدالة على إمامة علي من الكتاب العزيز كثيرة الأول قوله تعالى أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون و قد أجمعوا أنها نزلت في علي قال الثعلبي في إسناده إلى أبي ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم بهاتين و إلا صمتا و رايته بهاتين و إلا عميتا يقول علي قائد البررة و قاتل الكفرة فمنصور من نصره و مخذول من خذله أما أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما صلاة الظهر فسال سائل في المسجد فلم يعطه أحد شيئا فرفع السائل يده إلى السماء و قال اللهم أنك تشهد أني سالت في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يعطني أحد شيئا و كان علي راكعا فأومأ بخنصره اليمنى و كان متختما فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم و ذلك بعين النبي صلى الله عليه و سلم فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء و قال اللهم أن موسى سألك و قال رب اشرح لي صدري و يسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي و اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري و أشركه في أمري فأنزلت عليه قرأنا ناطقا سنشد عضدك بأخيك و نجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا اللهم وأنا محمد نبيك و صفيك اللهم فاشرح لي صدري و يسر لي أمري و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري قال أبو ذر فما استتم كلام رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى نزل عليه جبريل من عند الله فقال يا محمد اقرأ

 

قال وما اقرأ قال اقرأ أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون و نقل الفقيه ابن المغازلي الو اسطي الشافعي أن هذه نزلت في علي و الولي هو المتصرف وقد اثبت له الولاية في الآية كما أثبتها الله تعالى لنفسه و لرسوله.*و الجواب من وجوه:

أحدها: أن يقال ليس فيما ذكره ما يصلح أن يقبل ظنا بل كل ما ذكره كذب و باطل من جنس السفسطة و هو لو أفاده ظنونا كان تسميته براهين تسمية منكرة فإن البرهان في القرآن و غيره يطلق على ما يفيد العلم و اليقين كقوله تعالى و قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين. و قال تعالى آمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم أن كنتم صادقين. فالصادق لا بد له من برهان على صدقه و الصدق المجزوم بأنه صدق هو المعلوم وهذا الرجل جميع ما ذكره من الحجج فيها كذب فلا يمكن أن يذكر حجة واحدة جميع مقدماتها صادقة فإن المقدمات الصادقة يمتنع أن تقوم على باطل و سنبين أن شاء الله تعالى عند كل واحدة منها ما يبين كذبها فتسميه هذه براهين من أقبح الكذب.

ثم أنه يعتمد في تفسير القرآن على قول يحكى عن بعض الناس مع أنه قد يكون كذبا عليه و أن كان صدقا فقد خالف أكثر الناس فأن كان قول الواحد الذي لم يعلم صدقه و قد خالفه الأكثرون برهانا فأنه يقيم براهين كثيرة من هذا الجنس على نقيض ما يقوله فتتعارض البراهين فتتناقض و البراهين لا تتناقض بل سنبين أن شاء الله تعالى قيام البراهين الصادقة التي لا تتناقض على كذب ما يدعيه من البراهين و أن الكذب في عامتها كذب ظاهر

 

لا يخفى إلا على من أعمى الله قلبه وأن البراهين الدالة على نبوة الرسول حق و أن القرآن حق و أن دين الإسلام حق تناقض ما ذكره من البراهين فإن غاية ما يدعيه من البراهين إذا تأمله اللبيب و تأمل لوازمه وجده يقدح في الأيمان والقرآن و الرسول و هذا لأن اصل الرفض كان من وضع قوم زنادقة منافقين مقصودهم الطعن في القرآن و الرسول ودين الإسلام فوضعوا من الأحاديث ما يكون التصديق به طعنا في دين الإسلام و روجوها على أقوام فمنهم من كان صاحب هوى و جهل فقبلها لهواه و لم ينظر في حقيقتها و منهم من كان له نظر فتدبرها فوجدها تقدح في حق الإسلام فقال بموجبها و قدح بها في دين الإسلام أما لفساد اعتقاده في الدين وأما لاعتقاده أن هذه صحيحة و قدحت فيما كان يعتقده من دين الإسلام و لهذا دخلت عامة الزنادقة من هذا الباب فأن ما تنقله الرافضة من الأكاذيب تسلطوا به على الطعن في الإسلام و صارت شبها عند من لم يعلم أنه كذب و كان عنده خبرة بحقيقة الإسلام و ضلت طوائف كثيرة من الإسماعيلية و النصيرية و غيرهم من الزنادقة

 

الملاحدة المنافقين و كان مبدأ ضلالهم تصديق اللرافضة في أكاذيبهم التي يذكرونها في تفسير القرآن و الحديث كأئمة العبيديين أنما يقيمون مبدأ دعوتهم بالأكاذيب التي اختلقتها الرافضة ليستجيب لهم بذلك الشيعة الضلال ثم ينقلون الرجل من القدح في الصحابة إلى القدح في علي ثم في النبي صلى الله عليه و سلم ثم في إلالاهية كما رتبه لهم صاحب البلاغ الأكبر و الناموس الأعظم و لهذا كان الرفض اعظم باب و دهليز إلى الكفر و الإلحاد.ثم نقول ثانيا الجواب عن هذه الآية حق من وجوه:

الأول: أنا نطالبه بصحة هذا النقل أو لايذكر هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة فأن مجرد عزوه إلى تفسير الثعلبي أو نقل الإجماع على ذلك من غير العالمين بالمنقولات الصادقين في نقلها ليس بحجة باتفاق أهل العلم أن لم نعرف ثبوت إسناده و كذلك إذا روى فضيلة لأبي بكر و عمر لم يجز اعتقاد ثبوت ذلك بمجرد ثبوت روايته باتفاق أهل العلم فالجمهور أهل السنة لا يثبتون بمثل هذا شيئا يريدون إثباته لا حكما و لا فضيلة و لا غير ذلك. و كذلك الشيعة وإذا كان بمجرده ليس بحجة باتفاق الطوائف كلها بطل الاحتجاج به و هكذا القول في كل ما نقله و عزاه إلى أبي نعيم أو الثعلبي أو النقاش أو ابن المغازلي و نحوهم.الثاني: قوله قد أجمعوا أنها نزلت في علي من اعظم الدعاوى الكاذبة بل اجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علي بخصوصه و أن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة و اجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع

 

و أما ما نقله من تفسير الثعلبي فقد اجمع أهل العلم بالحديث أن الثعلبي يروي طائفة من الأحاديث الموضوعات كالحديث الذي يرويه في أول كل سورة عن أبي إمامة في فضل تلك السورة و كأمثال ذلك و لهذا يقولون هو كحاطب ليل. وهكذا الواحدي تلميذه و أمثالهما من المفسرين زيادة ينقلون الصحيح و الضعيف.

و لهذا لما كان البغوي عالما بالحديث اعلم به من الثعلبي و الواحدي و كان تفسيره مختصر تفسير الثعلبي لم يذكر في تفسيره شيئا من الأحاديث الموضوعة التي يرويها الثعلبي و لا ذكر تفاسير أهل البدع التي ذكرها الثعلبي مع أن الثعلبي فيه خير و دين لكنه لا خبرة له بالصحيح من الأحاديث زيادة ولا يميز بين السنة و البدعة في كثير من الأقوال.

و أما أهل العلم الكبار أهل التفسير مثل تفسير محمد بن جرير الطبري و بقي بن مخلد و ابن أبي حاتم و ابن المنذر و عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم و أمثالهم فلم يذكروا فيها مثل هذه الموضوعات دع من هو اعلم منهم مثل تفسير احمد بن حنبل و اسحق بن راهويه بل و لا يذكر مثل هذا عند ابن حميد و لا عبد الرزاق مع أن عبد الرزاق كان يميل إلى التشيع و يروي كثيرا من فضائل علي و أن كانت ضعيفة لكنه اجل قدرا من أن يروي مثل هذا الكذب الظاهر.

وقد اجمع أهل العلم بالحديث إلى أنه لا يجوز الاستدلال بمجرد خبر يرويه الواحد من جنس الثعلبي و النقاش و الواحدي و أمثال هؤلاء المفسرين لكثرة ما يروونه من الحديث و يكون ضعيفا بل موضوعا فنحن لو لم نعلم كذب هؤلاء من وجوه أخرى لم يجز أن نعتمد عليه لكون الثعلبي و أمثاله رووه فكيف إذا كنا عالمين بأنه كذب وسنذكر أن شاء الله تعالى ما يبين كذبه عقلا و نقلا و إنما المقصود هنا

 

بيان افتراء هذا المصنف أو كثرة جهله حيث قال قد أجمعوا أنها نزلت في علي فيا ليت شعري من نقل هذا الإجماع من أهل العلم والعالمين بالإجماع في مثل هذه الأمور فإن نقل الإجماع في مثل هذا لا يقبل من غير اهل العلم بالمنقولات و ما فيها من إجماع و اختلاف.

فالمتكلم و المفسر و المؤرخ و نحوهم لو ادعى أحدهم نقلا مجردا بلا إسناد ثابت لم يعتمد عليه فكيف إذا ادعى إجماعا.الوجه الثالث: أن يقال هؤلاء المفسرون الذين نقل من كتبهم هم و من هم اعلم منهم قد نقلوا ما يناقض هذا الإجماع المدعى.

و الثعلبي قد نقل في تفسيره أن ابن عباس يقول نزلت في أبي بكر ونقل عن عبد الملك قال سألت أبا جعفر قال هم المؤمنون قلت فأن أناسا يقولون هو علي قال فعلي من الذين آمنوا.

و عن الضحاك مثله و روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه قال حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثنا معاوية بن صالح حدثنا علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه قال كل من آمن فقد تولى الله و رسوله الذين آمنوا قال و حدثنا أبو سعيد إلاشج عن المحاربي عن عبد الملك بن أبي سليمان قال سالت أبا جعفر محمد بن علي عن هذه الآية فقال هم الذين آمنوا قلت نزلت في علي قال علي من الذين آمنوا.و عن السدي مثله.الوجه الرابع: أنا نعفيه من الإجماع و نطالبه أن ينقل ذلك بإسناد واحد صحيح و هذا الإسناد الذي ذكره الثعلبي إسناده ضعيف فيه رجال متهمون و أما نقل ابن المغازلي الو اسطي فاضعف و اضعف فأن هذا قد جمع في كتابه من الأحاديث الموضوعات ما لا يخفى أنه كذب على من له أدنى معرفة بالحديث والمطالبة بإسناد يتناول هذا و هذا.

 

الوجه الخامس: أن يقال لو كان المراد بالآية أن يؤتى الزكاة حال ركوعه كما يزعمون أن عليا تصدق بخاتمه في الصلاة لوجب أن يكون ذلك شرطا في الموالاة و أن لا يتولى المسلمون إلا عليا وحده فلا يتولى الحسن و لا الحسين و لا سائر بني هاشم و هذا خلاف إجماع المسلمين.الوجه السادس: أن قوله الذين صيغة جمع فلا يصدق على علي وحده.الوجه السابع: أن الله تعالى لا يثني على الإنسان إلا بما هو محمود عنده أما واجب و أما مستحب والصدقة والعتق و الهدية و الهبة و الإجارة و النكاح و الطلاق و غير ذلك من العقود في الصلاة ليست واجبة و لا مستحبة باتفاق المسلمين بل كثير منهم يقول أن ذلك يبطل الصلاة و أن لم يتكلم بل تبطل بإلاشارة المفهمة. و آخرون يقولون لا يحصل الملك بها لعدم الإيجاب الشرعي و لو كان هذا مستحبا لكان النبي صلى الله عليه و سلم يفعله و يحض عليه أصحابه و لكان علي يفعله في غير هذه الواقعة فلما لم يكن شيء من ذلك علم أن التصدق في الصلاة ليس من الأعمال الصالحة و إعطاء السائل لا يفوت فيمكن المتصدق إذا سلم أن يعطيه و أن في الصلاة لشغلا.الوجه الثامن: أنه لو قدر أن هذا مشروع في الصلاة لم يختص بالركوع بل يكون في القيام و القعود أولى منه في الركوع فكيف يقال لا ولي لكم إلا الذين يتصدقون في كل الركوع فلو تصدق المتصدق

 

في حال القيام و القعود أما كان يستحق هذه الموالاة فأن قيل هذه أراد بها التعريف بعلي على خصوصه قيل له أوصاف علي التي يعرف بها كثيرة ظاهرة فكيف يترك تعريفه الأمور المعروفة و يعرفه بأمر لا يعرفه إلا من سمع هذا و صدقه وجمهور إلامة لم تسمع هذا الخبر و لا هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة لا الصحاح و لا السنن و لا الجوامع ولا المعجمات و لا شيء من أمهات أحد الأمرين لازم أن قصد به المدح بالوصف فهو باطل و أن قصد به التعريف فهو باطل.الوجه التاسع: أن يقال قوله و يؤتون الزكاة و هم راكعون على قولهم يقتضي أن يكون قد أتى الزكاة في حالة ركوعه و علي رضي الله عنه لم يكن ممن تجب عليه على عهد النبي صلى الله عليه و سلم فأنه كان فقيرا و زكاة الفضة أنما تجب على من ملك النصاب حولا و علي لم يكن من هؤلاء.

 

الوجه العاشر: أن إعطاء الخاتم في الزكاة لا يجزي عند كثير من الفقهاء إلا إذا قيل بوجوب الزكاة في الحلي و قيل أنه يخرج من جنس الحلي و من جوز ذلك بالقيمة فالتقويم في الصلة متعذر و القيم تختلف باختلاف الأحوال.الوجه الحادي عشر: أن هذه آلية بمنزلة قوله و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و اركعوا مع الراكعين هذا أمر بالركوع وكذلك قوله يا مريم اقنتي لربك و اسجدي و اركعي مع الراكعين وهذا أمر بالركوع قد قيل ذكر ذلك ليبين أنهم يصلون الجماعة لأن المصلي في الجماعة أنما يكون مدركا للركعة بادراك ركوعها بخلاف الذي لم يدرك إلا السجود فأنه قد فاتته الركعة و أما القيام فلا يشترط فيه الإدراك و بالجملة الواو أما واو الحال و أما واو العطف و العطف هو الأكثر و هي المعروفة في مثل هذا الخطاب. و قوله أنما يصح إذا كانت واو الحال فأن لم يكن ثم دليل على تعيين ذلك بطلت الحجة فكيف إذا كانت الأدلة تدل على خلافة.الوجه الثاني عشر: أنه من المعلوم المستفيض عند أهل التفسير خلفا عن سلف أن هذه الآية نزلت في النهي عن موالاة الكفار و الأمر بموالاة المؤمنين لما كان بعض المنافقين مثل كعبد الله بن أبي يوالي اليهود و يقول أني أخاف الدوائر فقال بعض المؤمنين و هو عبادة بن الصامت أني

 

يا رسول الله أتولى الله و رسوله و أبرا إلى الله و رسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم ولهذا لمل جاءتهم بنو قينقاع و سبب تأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول فأنزل الله هذه الآية يبين فيها وجوب موالاة المؤمنين زيادة عموما و ينهى عن موالاة الكفار عموما. و قد تقدم كلام الصحابة و التابعين أنها عامة لا تختص بعلي.الوجه الثالث عشر: أن سياق الكلام يدل على ذلك لمن تدبر القرآن فأنه قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فأنه منهم أن الله لا يهدي القوم الظالمين فهذا نهى عن موالاة اليهود و النصارى. ثم قال فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده إلى قوله فاصبحوا خاسرين فهذا وصف الذين في قلوبهم مرض الذين يوالون الكفار المنافقين. ثم قال يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله و لا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله واسع

 

عليم.

فذكر فعل المرتدين و أنهم لن يضروا الله شيئا و ذكر من يأتي به بدلهم ثم قال أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين رسوله يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة و هم راكعون و من يتولى الله و رسوله و الذين آمنوا فأن حزب الله هم الغالبون. فتضمن هذا الكلام ذكر أحوال من دخل في الإسلام من المنافقين و ممن يرتد عنه وحال المؤمنين الثابتين عليه ظاهرا و باطنا فهذا السياق مع أتيناه أتى بصيغة الجمع مما يوجب لمن تدبر ذلك علما يقينا لا يمكنه دفعه عن نفسه أن الآية عامة في كل المؤمنين المتصنفين بهذه الصفات لا تختص بواحد بعينه لا أبي بكر و لا عمر و لا عثمان و لا علي و لا غيرهم لكن هؤلاء أحق إلامة بالدخول فيها.الوجه الرابع عشر: أن الألفاظ المذكورة في الحديث مما يعلم أنها كذب على النبي صلى الله عليه و سلم فأن عليا ليس قائدا لكل البررة بل لهذه الأمة رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا هو أيضا قاتلا لكل الكفره بل قتل بعضهم كما قتل غيره بعضهم و ما أحد من المجاهدين القاتلين لبعض الكفار إلا و هو قاتل لبعض الكفرة و كذلك قوله منصور من نصره و مخذول من خذله هو خلاف

 

الواقع و النبي صلى الله عليه و سلم لا يقول إلا حقا لا سيما على قول الشيعة فأنهم يدعون أن إلامة كلها خذلته إلى قتل عثمان و من المعلوم أن الأمة كانت منصورة في أعصار الخلفاء الثلاثة نصرا لم يحصل لها بعده مثله ثم لما قتل عثمان و صار الناس ثلاثة أحزاب حزب نصره و قاتل معه و حزب قاتلوه و حزب خذلوه لم يقاتلوا لا مع هؤلاء و لا مع هؤلاء لم يكن الذين قاتلوا معه منصورين على الحزبين الآخرين و لا على الكفار بل أولئك الذين نصروا عليهم و صار الأمر لهم لما تولى معاوية فانتصروا على الكفار و فتحوا البلاد أنما كان علي منصورا كنصر أمثاله في قتال الخوارج و الكفار والصحابة الذين قاتلوا الكفار و المرتدين كانوا منصورين نصرا عظيما فالنصر وقع كما وعد الله به حيث قال أنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد. فالقتال الذي كان بأمر الله و أمر رسوله من المؤمنين للكفار و المرتدين و الخوارج كانوا فيه منصورين نصرا عظيما إذا اتقوا و صبروا فإن التقوى والصبر من تحقيق الإيمان الذي علق به النصر.

و أيضا فالدعاء الذي ذكره عن النبي صلى الله عليه و سلم عقب التصدق بالخاتم من اظهر الكذب فمن المعلوم أن الصحابة أنفقوا في سبيل الله وقت الحاجة إليه ما هو اعظم قدرا و نفعا من إعطاء سائل خاتما. و في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما نفعني مال كمال أبي بكر أن آمن الناس علي في صحبته و ذات يده أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. و قد تصدق عثمان بألف بعير في سبيل الله في غزوة العسرة حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم

 

والأنفاق في سبيل الله وفي إقامة الدين في أول الإسلام اعظم من صدقة على سائل محتاج و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم لا تسبوا أصحابي فوا الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم و لا نصيفه أخرجاه في الصحيحين. قال تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل أولئك اعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد و قاتلوا و كلا وعد الله الحسنى. فكذلك الإنفاق الذي صدر في أول الإسلام في إقامة الدين ما بقي له نظير يساويه و أما إعطاء السؤال لحاجتهم فهذا البر يوجد مثله إلى يوم القيامة فإذا كان النبي صلى الله عليه و سلم لأجل تلك النفقات العظيمة النافعة الضرورية لا يدعو بمثل هذا الدعاء فكيف يدعوا به لأجل إعطاء خاتم لسائل قد يكون كاذبا في سؤاله. ولا ريب أن هذا و مثله من كذب جاهل أراد أن يعارض ما ثبت لأبي بكر بقوله و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى و لسوف يرضى. بأن يذكر لعلي شيئا من هذا الجنس فما أمكنه أن يكذب أنه فعل ذلك في أول الإسلام فكذب هذه الأكذوبة التي لا تروج إلا على مفرط في الجهل. وأيضا فكيف يجوز أن يقول النبي صلى الله عليه و سلم في المدينة بعد الهجرة و النصرة و اجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به ظهري مع أن الله قد اعزه بنصره و بالمؤمنين كما قال تعالي هو الذي أيدك بنصره و بالمؤمنين. و قال إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن أن الله معنا فالذي كان معه حين نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا هو أبو بكر و كانا اثنين الله ثالثهما و كذلك لما كان يوم بدر لما صنع له عريش كان الذي دخل معه في العريش دون سائر الصحابة أبو بكر و كل من الصحابة له في نصر رسول الله صلى الله عليه و سلم سعي مشكور و عمل مبرور و روي أنه لما جاء علي بسيفه يوم أحد قال لفاطمة اغسليه يوم أحد

 

غير ذميم فقال النبي صلى الله عليه و سلم أن تك أحسنت فقد أحسن فلأن و فلأن و فلأن فعدد جماعة من الصحابة و لم يكن لعلي اختصاص بنصر النبي صلى الله عليه و سلم دون أمثاله و لا عرف موطن احتاج النبي صلى الله عليه و سلم فيه إلى معونة علي و حده لا باليد و لا باللسان و لا كان إيمان الناس برسول الله صلى الله عليه و سلم و طاعتهم له لأجل علي بسبب دعوة علي لهم و غير ذلك من الأسباب الخاصة كما كان هارون و موسى فإن بني إسرائيل كانوا يحبون هارون جدا ويهابون موسى و كان هارون يتألفهم و الرافضة تدعي أن الناس كانوا يبغضون عليا و أنهم لبغضهم له لم يبايعوه فكيف يقال أن النبي صلى الله عليه و سلم احتاج إليه كما احتاج موسى إلى هارون و هذا أبو بكر الصديق اسلم على يديه ستة أو خمسة من العشرة عثمان و طلحة و الزبير و سعد و عبد الرحمن بن عوف و أبو عبيده و لم يعلم أنه اسلم على يد علي و عثمان و غيرهما أحد من السابقين الأولين من المهاجرين و إلأنصار و مصعب بن عمير هو الذي بعثه النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة لما بايعه إلأنصار ليلة العقبة و اسلم على يده رؤوس إلأنصار كسعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته و اسيد بن حضير و غير هؤلاء

 

 

و كان أبو بكر يخرج مع النبي صلى الله عليه و سلم يدعو معه الكفار إلى الإسلام في الموسم و يعاونه معاونة عظيمة في الدعوة بخلاف غيره و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم في الصحيح لو كنت متخذا من أهل الأرضى خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و قال أيها الناس أني جئت إليكم فقلت أني رسول الله فقلتم كذبت و قال أبو بكر صدقت فهل أنتم تاركو لي صاحبي ثم أن موسى دعا بهذا الدعاء قبل أن يبلغ الرسالة إلى الكفار ليعاون عليها و نبينا صلى الله عليه و سلم قد بلغ الرسالة لما بعثه الله بلغها وحده و أول من آمن به باتفاق أهل الأرض أربعة أول من آمن به من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة و من الصبيان علي و من الموالي زيد و كان أنفع الجماعة في الدعوه باتفاق الناس أبو بكر ثم خديجة لأن أبا بكر هو أول رجل حر بالغ آمن به باتفاق الناس و كان له قدر عند قريش لما كان فيه من المحاسن فكان آمن الناس عليه في صحبته و ذات يده و مع هذا فما دعا الله أن يشد أزره بأحد لا بأبي بكر و لا بغيره

 

بل قام مطيعا لربه متوكلا عليه صابرا له كما أمر بقوله قم فأنذر و ربك فكبر و ثيابك فطهر و الرجز فاهجر و لا تمنن تستكثر و لربك فاصبر و قال فاعبده و توكل عليه فمن زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل الله عز و جل أن يشد أزره بشخص من الناس كما سأل موسى أن يشد أزره بهارون فقد افترى على رسول الله صلى الله عليه و سلم و بخسه حقه ولا ريب أن الرفض مشتق من الشرك و الإلحاد و النفاق لكن تارة يظهر لهم ذلك فيه و تارة يخفى.الوجه الخامس عشر: أن يقال غاية ما في الآية أن المؤمنين عليهم موالاة الله و رسوله و المؤمنين فيوالون عليا و لا ريب أن موالاة علي واجبة على كل مؤمن كما يجب على كل مؤمن مولاة أمثاله من المؤمنين قال تعالى و أن تظاهرا عليه فأن الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين فبين الله أن كل صالح من المؤمنين فهو مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم الله مولاه و جبريل مولاه الصالح من المؤمنين متوليا على رسول الله كما أن الله مولاه وجبريل مولاه يأن يكون صالح المؤمنين متوليا على رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا متصرفا فيه و أيضا قال تعالى و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض

 

فجعل كل مؤمن وليا لكل مؤمن و ذلك لا يوجب أن يكون أميرا عليه معصوما لا يتولى عليه إلا هو و قال تعالى إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون الذين آمنوا و كانوا يتقون فكل مؤمن تقي فهو ولي الله و الله وليه كما قال تعالى الله ولي الذين آمنوا و قال ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم و قال أن الذين آمنوا و هاجروا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله ثم آووا و نصروا إلى قوله و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله فهذه النصوص كلها ثبتت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض و أن هذا ولي هذا وهذا ولي هذا وأنهم أولياء الله و أن الله و ملائكته و المؤمنين موالي رسوله كما أن الله و رسوله و الذين آمنوا هم أولياء المؤمنين و ليس في شيء من هذه النصوص أن من كان وليا للآخر كان أميرا عليه دون غيره و أنه يتصرف فيه دون سائر الناس.الوجه السادس عشر: أن الفرق بين الولاية بالفتح و الولاية بالكسر معروف فالولاية ضد العداوة و هي المذكوره في هذه النصوص ليست هي الولاية بالكسر التي هي الإمارة و هؤلاء الجهال يجعلون الولي هو الأمير و لم يفرقوا بين الولاية و الولاية و الأمير يسمى

 

الوالي لا يسمى الولي و لكن قد يقال هو ولي الأمر كما يقال وليت أمركم و يقال أولو الأمر و أما إطلاق القول بالمولى وإراده الولي فهذا لا يعرف بل يقال في الولي المولى و لا يقال الوالي و لهذا قال الفقهاء إذا اجتمع في الجنازة الوالي و الولي فقيل يقدم الوالي وهو قول أكثرهم و قيل يقدم الولي فبين أن الولاية دلت على الموالاة المخالفة للمعاداة الثابتة لجميع المؤمنين بعضهم على بعض و هذا مما يشترك فيه الخلفاء الأربعة و سائر أهل بدر و أهل بيعة الرضوان فكلهم بعضهم أولياء بعض و لم تدل الآية على أحد منهم يكون أميرا على غيره بل هذا باطل من وجوه كثيرة إذ لفظ الولي و الولاية غير لفظ الوالي و الآية عامة في المؤمنين و المارة لا تكون عامة.الوجه السابع عشر: أنه لو أراد الولاية التي هي إلا مارة لقال أنما يتولى عليكم الله و رسوله و الذين آمنوا و لم يقل و من يتولى الله و رسوله فأنه لا يقال لمن ولي عليهم وال أنهم يقولون تولوه بل يقال تولى عليهم

 

الوجه الثامن عشر: أن الله سبحانه و تعالى لا يوصف بأنه متول على عباده و أنه أمير عليهم جل جلاله و تقدست أسماؤه فأنه خالقهم و رازقهم و ربهم و مليكهم له الخلق و الأمر و لا يقال أن الله أمير المؤمنين كما يسمى المتولي مثل علي و غيره أمير المؤمنين بل الرسول صلى الله عليه و سلم أيضا لا يقال أنه متول على الناس و أنه أمير عليهم فأن قدره اجل من هذا بل أبو بكر الصديق رضي الله عنه لم يكونوا يسمونه إلا خليفة رسول الله و أول من سمي من الخلفاء أمير المؤمنين هو عمر رضي الله عنه و قد روي أن عبد الله بن جحش كان أميرا في سرية فسمي أمير المؤمنين لكن إمارة خاصة في تلك السرية لم يسم أحد بإمارة المؤمنين عموما قبل عمر و كان خليقا بهذا الاسم و أما الولاية المخالفة للعداوة فأنه يتولى عباده المؤمنين فيحبهم و يحبونه و يرضى عنهم و يرضون عنه و من عادى له وليا فقد بارزه بالمحاربة وهذه الولاية من رحمته و إحسانه ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجته إليه قال تعالى و قل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا و لم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل فالله تعالى ليس له ولي من الذل بل هو القائل من كان يريد العزة فلله العزة جميعا بخلاف الملوك و غيرهم ممن يتولاه لذاته إذا لم يكن له ولي ينصره

 

 

الوجه التاسع عشر: أنه ليس كل من تولى عليه إمام عادل يكون من حزب الله و يكون غالبا فأن أئمة العدل يتولون على المنافقين و الكفار كما كان في مدينة النبي صلى الله عليه و سلم تحت حكمه ذميون و منافقون و كذلك كان تحت ولاية علي كفار و منافقون و الله تعالى يقول ومن يتول الله و رسوله و الذين آمنوا فأن حزب الله هم الغالبون فلو أراد الإمارة لكان المعنى أن كل من تأمر عليهم الذين آمنوا يكونون من حزبه الغالبين و ليس كذلك و كذلك الكفار و المنافقون تحت أمر الله الذي هو قضاؤه و قدره مع كونه لا يتولاهم بل يبغضهم.

*

فصل قال الرافضي البرهان الثاني قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و أن لم تفعل فما بلغت رسالته اتفقوا في نزولها في علي و روى أبو نعيم الحافظ من الجمهور بإسناده عن عطية قال نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه و سلم في علي بن أبي طالب ومن تفسير الثعلبي قال معناه بلغ ما أنزل إليك من ربك في فضل علي فلما نزلت هذه الآيه اخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم بيد علي فقال من كنت مولاه فعلي مولاه و النبي صلى الله عليه و سلم مولى أبي بكر و عمر و باقي الصحابة بالإجماع فيكون علي مولاهم فيكون هو الإمام و من تفسير الثعلبي لما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا فاخذ بيد علي و قال من كنت مولاه فعلي مولاه فشاع ذلك و طار في البلاد فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى أتى الأبطح فنزل عن ناقته وأناخها فعقلها فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو في ملا من أصحابه فقال يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا اله إلا الله و أنك رسول الله فقبلنا منك و أمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك و أمرتنا أن نزكي أموالنا فقبلناه منك و أمرتنا أن نصوم شهرا فقبلناه منك و أمرتنا أن نحج البيت فقبلناه منك ثم لم ترض

 

بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك و فضلته علينا و قلت من كنت مولاه فعلي مولاه و هذا منك أم من الله قال النبي صلى الله عليه و سلم و الله الذي لا اله إلا هو هو من أمر الله فولى الحارث يريد راحلته و هو يقول اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته و خرج من دبره فقتله و أنزل الله تعالى سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله و قد روي هذه الرواية النقاش من علماء الجمهور في تفسيره.

*و الجواب من وجوه...

أحدها: أن هذا اعظم كذبا و فرية من الأول كما سنبينه أن شاء الله تعالى و قوله اتفقوا على نزولها في علي اعظم كذبا مما قاله في تلك الآيه فلم يقل لا هذا و لا ذاك أحد من العلماء الذين يدرون ما يقولون و أما ما يرويه أبو نعيم في الحلية أو في فضائل الخلفاء و النقاش و الثعلبي و الواحدي و نحوهم في التفسير فقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أن فيما يروونه كثيرا من الكذب الموضوع واتفقوا على أن هذا الحديث المذكور الذي رواه الثعلبي في تفسيره هو من الموضوع وسنبين أدلة يعرف بها أنه موضوع و ليس الثعلبي من أهل العلم بالحديث ولكن المقصود هنا أنا نذكر قاعدة فنقول المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب والمرجع في التمييز بين هذا و هذا إلى أهل علم الحديث كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب ونرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة وكذلك علماء الشعر والطب وغير ذلك فلكل علم رجال يعرفون به

 

و العلماء بالحديث اجل هؤلاء قدرا و أعظمهم صدقا و أعلاهم منزلة و اكثر دينا وهم من اعظم الناس صدقا و أمانة و علما و خبرة فيما يذكرونه عن الجرح و التعديل مثل مالك و شعبة و سفيان و يحيى بن سعيد و عبد الرحمن بن المهدي و ابن المبارك ووكيع و الشافعي و احمد و إسحاق بن راهويه و أبي عبيد و ابن معين وابن المديني و البخاري ومسلم و أبي داود و أبي زرعة و أبي حاتم و النسائي و العجلي و أبي احمد بن عدي و أبي حاتم البستي و الدار قطني و أمثال هؤلاء خلق كثير لا يحصى عددهم من أهل العلم بالرجال و الجرح و التعديل و أن كان بعضهم اعلم بذلك من بعض و بعضهم اعدل من بعض في وزن كلامه كما أن الناس في سائر العلوم كذلك و قد صنف للناس كتبا في نقلة الأخبار كبارا و صغارا مثل الطبقات لابن سعد و تاريخي البخاري و الكتب المنقولة عن احمد بن حنبل و يحيى بن معين و غيرهما و قبلها عن يحيى بن سعيد القطان و غيره و كتاب يعقوب بن سفيان و ابن أبي خيثمة و ابن أبي حاتم و كتاب بن عدي و كتب أبي حازم و أمثال ذلك وصنفت كتب الحديث تارة على المساند فتذكر ما اسنده الصاحب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كمسند احمد و إسحاق و أبي داود

 

الطيالسي و أبي بكر بن أبي شيبة و محمد بن أبي عمر و العدني و احمد بن منيع و أبي يعلى الموصلي و أبي بكر البزار البصري و غيرهم وتارة على الأبواب فمنهم من قصد مقصده الصحيح كالبخاري و مسلم و ابن خزيمة و أبي حاتم و غيرهم و كذلك من خرج على الصحيحين كإلاسماعيلي و البرقاني و أبي نعيم غيرهم و منهم من خرج أحاديث السنن كأبي داود والنسائي ابن ماجة و غيرهم و منهم من خرج الجامع الذي يذكر فيه الفضائل و غيرها كالترمذي و غيره و هذا علم عظيم من اعظم علوم الإسلام و لا ريب أن الرافضة اقل معرفة بهذا الباب و ليس في أهل الأهواء و البدع اجهل منهم به فأن سائر أهل الأهواء كالمعتزلة و الخوارج مقصورون وفي معرفة هذا ولكن المعتزلة اعلم بكثير من الخوارج و الخوارج اعلم بكثير من الرافضة و الخوارج اصدق من الرافضة و أدين اورع بل الخوارج لا نعرف عنهم أنهم يتعمدون الكذب بل هم من اصدق الناس والمعتزلة مثل سائر الطوائف فيهم من يكذب و فيهم من يصدق لكن ليس لهم من العناية بالحديث و معرفته ما لأهل الحديث و السنة فأن هؤلاء يتدينون به فيحتاجون إلى أن يعرفوا ما هو الصدق

 

وأهل البدع سلكوا طريقا آخر ابتدعوها اعتمدوا عليها و لا يذكرون الحديث بل و لا القرآن في أصولهم للاعتضاد لا للاعتماد والرافضة اقل معرفة و عناية بهذا إذ كانوا لا ينظرون في الإسناد و لا في سائر الأدلة الشرعية و العقلية هل توافق ذلك أو تخالفه و لهذا لا يوجد لهم أسانيد متصلة صحيحة قط بل كل إسناد متصل لهم فلا بد من أن يكون فيه من هو معروف بالكذب أو كثرة الغلط وهم في ذلك شبيه باليهود و النصارى فأنه ليس لهم إسناد و الإسناد من خصائص هذه الأمة و هم من خصائص الإسلام ثم هو في الإسلام من خصائص أهل السنة و الرافضة من اقل الناس عناية إذ كانوا لا يصدقون إلا بما يوافق أهواءهم و علامة كذبه أنه يخالف هواهم و لهذا قال عبد الرحمن بن مهدي أهل العلم يكتبون ما لهم و ما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم ثم أن أولهم كانوا كثيري الكذب فانتقلت أحاديثهم إلى قوم لا يعرفون الصحيح من السقيم فلم يمكنهم التمييز إلا بتصديق الجميع أو تكذيب الجميع و الاستدلال على ذلك بدليل منفصل غير الإسناد==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق