مشاري راشد {سورة الطلاق}

Translate

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

ج1وج2.كتاب البداية والنهاية الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير

 

ج1وج2.كتاب البداية والنهاية

الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الاول والآخر، الباطن الظاهر، الذي هو بكل شئ عليم، الاول فليس قبله شئ، الآخر فليس بعده شئ، الظاهر فليس فوقه شئ الباطن، فليس دونه شئ، الازلي القديم الذي لم يزل موجودا بصفات الكمال، ولا يزال دائما مستمرا باقيا سرمديا بلا انقضاء ولا انفصال ولا زوال.
يعلم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، وعدد الرمال.
وهو العلي الكبير المتعال، العلي العظيم الذي خلق كل شئ فقدره تقديرا.
ورفع السموات بغير عمد، وزينها بالكواكب الزاهرات، وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وسوى فوقهن سريرا، شرجعا عاليا منيفا متسعا مقبيا مستديرا.
وهو العرش العظيم - له قوائم عظام، تحمله الملائكة الكرام، وتحفه الكروبيون عليهم الصلاة والسلام، ولهم زجل بالتقديس
والتعظيم.
وكذا أرجاء السموات مشحونة بالملائكة، ويفد منهم في كل يوم سبعون ألفا إلى البيت المعمور بالسماء الرابعة لا يعودون إليه، آخر ما عليهم في تهليل وتحميد وتكبير وصلاة وتسليم.
ووضع الارض للانام على تيار الماء.
وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام قبل خلق السماء، وأنبت فيها من كل زوجين اثنين، دلالة للالباء من جميع ما يحتاج العباد إليه في شتائهم وصيفهم، ولكل ما يحتاجون إليه ويملكونه من حيوان بهيم.
وبدأ خلق الانسان من طين، وجعل نسله من سلالة من ماء مهين، في قرار مكين.
فجعله سميعا بصيرا، بعد ان لم يكن شيئا مذكورا.
وشرفه بالعلم والتعليم.
خلق بيده الكريمة آدم أبا البشر، وصور جثته ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وخلق منه زوجه حواء أم البشر فآنس بها وحدته، وأسكنهما جنته، واسبغ عليهما نعمته.
ثم أهبطهما إلى الارض لما سبق في ذلك من حكمة الحكيم.
وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، وقسمهم بقدرة العظيم ملوكا ورعاة، وفقراء وأغنياء، وأحرارا وعبيدا، وحرائر وإماء.
وأسكنهم أرجاء الارض، طولها والعرض، وجعلهم

خلائف فيها يخلف البعض منهم البعض، إلى يوم الحساب والعرض على العليم الحكيم.
وسخر لهم الانهار من سائر الاقطار، تشق الاقاليم إلى الامصار، ما بين صغار وكبار، على مقدار الحاجات والاوطار، وأنبع لهم العيون والآبار.
وأرسل عليهم السحائب بالامطار، فأنبت لهم سائر صنوف الزرع والثمار.
وآتاهم من كل ما سألوه بلسان حالهم وقالهم: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار): فسبحان الكريم العظيم الحليم * وكان من أعظم نعمه عليهم.
وإحسانه إليهم، بعد أن خلقهم ورزقهم ويسر لهم السبيل وأنطقهم، أن أرسل رسله إليهم، وأنزل كتبه عليهم: مبينة حلاله وحرامه، وأخباره وأحكامه، وتفصيل كل شئ في المبدإ والمعاد إلى يوم القيامة.
فالسعيد من قابل الاخبار بالتصديق والتسليم، والاوامر بالانقياد والنواهي بالتعظيم.
ففاز
بالنعيم المقيم، وزحزح عن مقام المكذبين في الجحيم ذات الزقوم والحميم، والعذاب الاليم * أحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه يملا أرجاء السموات والارضين، دائما أبد الآبدين، ودهر الداهرين، إلى يوم الدين، في كل ساعة وآن ووقت وحين، كما ينبغي لجلاله العظيم، وسلطانه القديم ووجهه الكريم * وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ولد له ولا والد له، ولا صاحبة له، ولا نظير ولا وزير له ولا مشير له، ولا عديد ولا نديد ولا قسيم.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، المصطفى من خلاصة العرب العرباء من الصميم، خاتم الانبياء، وصاحب الحوض الاكبر الرواء، صاحب الشفاعة العظمى يوم القيامة، وحامل اللواء الذي يبعثه الله المقام المحمود الذي يرغب إليه فيه الخلق كلهم حتى الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم وعلى سائر اخوانه من النبيين والمرسلين، وسلم وشرف وكرم أزكى صلاة وتسليم، وأعلى تشريف وتكريم.
ورضي الله عن جميع أصحابه الغر الكرام، السادة النجباء الاعلام، خلاصة العالم بعد الانبياء.
ما اختلط الظلام بالضياء، وأعلن الداعي بالنداء وما نسخ النهار ظلام الليل البهيم.
(أما بعد) فهذا كتاب أذكر فيه بعون الله وحسن توفيقه ما يسره الله تعالى بحوله وقوته من ذكر مبدإ المخلوقات: من خلق العرش والكرسي والسموات، والارضين وما فيهن وما بينهن من الملائكة والجان والشياطين، وكيفية خلق آدم عليه السلام، وقصص النبيين، وما جرى مجرى ذلك إلى أيام بني إسرائيل وأيام الجاهلية حتى تنتهي النبوة إلى أيام نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه.
فنذكر سيرته كما ينبغي فتشفي الصدور والغليل، وتزيح الداء عن العليل.
ثم نذكر ما بعد ذلك إلى زماننا، ونذكر الفتن والملاحم وأشراط الساعة.
ثم البعث والنشور وأهوال القيامة، ثم صفة ذلك وما في ذلك اليوم، وما يقع فيه من الامور الهائلة.
ثم صفة النار، ثم صفة الجنان وما فيها من الخيرات الحسان، وغير ذلك وما يتعلق به، وما ورد في

ذلك من الكتاب والسنة والآثار والاخبار المنقولة المقبولة عند العلماء وورثة الانبياء، الآخذين من
مشكاة النبوة المصطفوية المحمدية على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام.
ولسنا نذكر من الاسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله مما لا يخالف كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب، مما فيه بسط لمختصر عندنا، أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا مما لا فائدة في تعيينه لنا فنذكره على سبيل التحلي به لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه.
وإنما الاعتماد والاستناد على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما صح نقله أو حسن وما كان فيه ضعف نبينه.
وبالله المستعان وعليه التكلان.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحيكم العلي العظيم.
فقد قال الله تعالى في كتابه (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا) وقد قص الله على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر ما مضى من خلق المخلوقات، وذكر الامم الماضين، وكيف فعل بأوليائه، وماذا أحل بأعدائه.
وبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لامته بيانا شافيا، سنورد عند كل فصل ما وصل إلينا عنه، صلوات الله وسلامه عليه.
من ذلك تلو الآيات الواردات (1) في ذلك فأخبرنا بما نحتاج إليه من ذلك، وترك ما لا فائدة فيه مما قد يتزاحم على علمه ويتراجم في فهمه طوائف من علماء أهل الكتاب مما لا فائدة فيه لكثير من الناس إليه.
وقد يستوعب نقله طائفة من علمائنا ولسنا نحذو حذوهم ولا ننحو نحوهم ولا نذكر منها إلا القليل على سبيل الاختصار.
ونبين ما فيه حق مما وافق ما عندنا، وما خالفه فوقع فيه الانكار.
فأما الحديث الذي رواه البخاري رحمه الله في صحيحه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائل ولا حرج، وحدثوا عني ولا تكذبوا علي ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " فهو محمول على الاسرائيليات المسكوت عنها عندنا.
فليس عندنا ما يصدقها ولا ما يكذبها، فيجوز روايتها للاعتبار.
وهذا هو الذي نستعمله في كتابنا هذا * فأما ما شهد له شرعنا بالصدق فلا حاجة بنا إليه استغناء بما عندنا.
وما شهد له شرعنا منها بالبطلان فذاك مردود لا يجوز حكايته، إلا على سبيل الانكار والابطال.
فإذا كان الله، سبحانه وله الحمد، قد أغنانا برسولنا محمد، صلى الله عليه وسلم، عن سائر الشرائع،
وبكتابه عن سائر الكتب، فلسنا نترامى على ما بأيديهم مما وقع فيه خبط وخلط، وكذب ووضع، وتحريف وتبديل، وبعد ذلك كله نسخ وتغيير.
فالمحتاج إليه قد بينه لنا رسولنا، وشرحه وأوضحه.
عرفه من عرفه، وجهله من جهله.
كما قال علي بن أبي طالب " كتاب الله فيه خير ما قبلكم ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم وهو الفضل ليس بالهزل.
من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله " وقال أبو ذر، رضي الله عنه: " لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يطير بجناحيه إلا أذكرنا منه علما "

وقال البخاري في كتاب بدء الخلق، وروي عن عيسى بن موسى غنجار عن رقية عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال " سمعت عمر بن الخطاب يقول قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم.
وأهل النار منازلهم " حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه " قال أبو مسعود الدمشقي في أطرافه هكذا قال البخاري، وإنما رواه عيسى غنجار عن أبي حمزة عن رقية، وقال الامام أحمد بن حنبل رحمه الله في مسنده: حدثنا أبو عاصم حدثنا عزرة بن ثابت، حدثنا علباء بن أحمر اليشكري: حدثنا أبو زيد الانصاري، قال قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلاة الصبح، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، ثم نزل فصلى الظهر.
ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى العصر ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غابت الشمس فحدثنا بما كان، وما هو كائن فأعلمنا أحفظنا " انفرد باخراجه مسلم فرواه في كتاب الفتن من صحيحه عن يعقوب بن ابراهيم الدورقي وحجاج بن الشاعر، جميعا عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد النبيل عن عزرة عن علباء عن أبي زيد عمرو بن أخطب بن رفاعة الانصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
فصل قال الله تعالى في كتابه العزيز (الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل) [ الزمر: 62 ] فكل ما سواه تعالى فهو مخلوق له، مربوب ومدبر، مكون بعد أن لم يكن
محدث بعد عدمه.
فالعرش الذي هو سقف المخلوقات إلى ما تحت الثرى، وما بين ذلك من جامد وناطق الجميع خلقه، وملكه وعبيده وتحت قهره وقدرته، وتحت تصريفه ومشيئته (خلق السموات والارض وما بينهما في ستة أيام.
ثم استوى على العرش.
يعلم ما يلج في الارض، وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وهو معكم أينما كنتم، والله بما تعملون بصير) [ الحديد: 4 ].
وقد أجمع العلماء قاطبة لا يشك في ذلك مسلم أن الله خلق السموات والارض، وما بينهما في ستة أيام كما دل عليه القرآن الكريم.
فاختلفوا في هذه الايام أهي كأيامنا هذه أو كل يوم كألف سنة مما تعدون ؟ على قولين كما بينا ذلك في التفسير، وسنتعرض لايرادة في موضعه.
واختلفوا هل كان قبل خلق السموات والارض شئ مخلوق قبلهما.
فذهب طوائف من المتكلمين إلى أنه لم يكن قبلهما شئ وأنهما خلقتا من العدم المحض.
وقال آخرون بل كان قبل السموات والارض مخلوقات أخر لقوله [ تعالى ] (وهو الذي خلق السموات والارض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) [ يونس: 3 ] الآية.
وفي حديث عمران بن حصين كما سيأتي " كان الله ولم يكن قبله شئ وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شئ ثم خلق السموات والارض " وقال الامام أحمد بن

حنبل حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة حدثنا أبو يعلى (1) بن عطاء عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي أنه قال " يا رسول الله أين كان (2) ربنا قبل أن يخلق السموات والارض ؟ قال: كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء (3) ثم خلق عرشه على الماء " ورواه عن يزيد بن هرون عن حماد بن سلمة به.
ولفظه أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه ؟ وباقيه سواء وأخرجه الترمذي عن أحمد بن منيع وابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح ثلاثتهم عن يزيد بن هرون، وقال الترمذي حسن.
واختلف هؤلاء في أيها خلق أولا ؟ فقال قائلون خلق القلم قبل هذه الاشياء كلها، وهذا هو اختيار ابن جرير، وابن الجوزي، وغيرهما قال ابن جرير، وبعد القلم السحاب الرقيق.
واحتجوا بالحديث الذي رواه الامام أحمد، وأبو داود
والترمذي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أول ما خلق الله القلم.
ثم قال له أكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة " لفظ أحمد (4).
وقال الترمذي حسن صحيح غريب.
والذي عليه الجمهور فيما نقله الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره (أن العرش مخلوق قبل ذلك) وهذا هو الذي رواه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس كما دل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه (5).
حيث قال: حدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو [ بن عبد الله بن عمرو ] بن السرح حدثنا ابن وهب أخبرني أبو هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الجيلي (6) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كتب الله مقادير الخلائق (7) قبل أن يخلق السموات والارض بخمسين ألف سنة، قال وعرشه على الماء قالوا فهذا التقدير هو كتابته بالقلم المقادير.
وقد دل هذا الحديث أن ذلك بعد خلق العرش فثبت تقديم العرش على القلم الذي كتب به المقادير.
وقد دل هذا الحديث أن ذلك بعد خلق العرش فثبت تقديم العرش على القلم الذي كتب به المقادير كما ذهب إلى ذلك الجماهير.
ويحمل حديث
__________
(1) مسند أحمد ج 4 / 11 و 12 وفي الروايتين عن يعلى بن عطاء وليس أبو يعلى.
(2) قوله أين كان: للسؤال عن المكانة دون المكان كما نص عليه ابن العربي في شرح الترمذي.
وفي عماء أي في حجاب معنوي يحول دون العلم به فيتفق الممدود والمقصور في المعنى.
قال يزيد بن هارون: عماء أي ليس معه شئ.
وهو أجود ما ذكره.
وحمل (في) على معنى (على) هنا لا يجدي ولا يبعد الامر عن التمكن.
(3) ما تحته هواء: قال البيهقي في الاسماء: أي ما تحت السماء هواء، والمراد بالسحاب ليس السحاب المعهود الذي فوقه هواء وتحته هواء بل المراد السحاب المعنوي والحجاب الذي يحجب عن العلم به سبحانه (قاله ابن العربي).
(4) مسند أحمد ج 5 / 317.
(5) 46 كتاب القدر (2) باب حجاج آدم صلى الله عليه وآله - 16 - 2653 ص 2044.
(6) عند مسلم: الحبلي.
(7) كتب الله مقادير الخلائق: قال العلماء: المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره، لا أصل التقدير.
فإن ذلك أزلي لا أول له.


القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم.
ويؤيد هذا ما رواه البخاري عن عمران بن حصين: قال قال أهل اليمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم " جئناك لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الامر فقال كان الله ولم يكن شئ قبله * وفي رواية معه، وفي رواية غيره " وكان عرشه على الماء.
وكتب في الذكر كل شئ وخلق السموات والارض " وفي لفظ: ثم خلق السموات والارض.
فسألوه عن ابتداء خلق السموات والارض.
ولهذا قالوا جئناك نسألك عن أول هذا الامر فأجابهم عما سألوا فقط.
ولهذا لم يخبرهم بخلق العرش كما أخبر به في حديث أبي رزين المتقدم.
قال ابن جرير وقال آخرون " بل خلق الله عزوجل الماء قبل العرش " رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالوا " ان الله كان عرشه على الماء (1)، ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء " وحكى ابن جرير عن محمد بن اسحاق أنه قال " أول ما خلق الله عزوجل النور والظلمة ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما، وجعل النور نهارا مضيئا مبصرا " قال ابن جرير وقد قيل: " إن الذي خلق ربنا بعد القلم الكرسي.
ثم خلق بعد الكرسي العرش، ثم خلق بعد ذلك الهواء والظلمة.
ثم خلق الماء فوضع عرشه على الماء " والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل فيما ورد في صفة خلق العرش والكرسي.
قال الله تعالى (رفيع الدرجات ذو العرش) [ غافر: 15 ] وقال تعالى (فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم) [ المؤمنون: 116 ] وقال الله (لا إله إلا هو رب العرش العظيم) [ المؤمنون: 86 ] وقال (وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد) [ البروج: 14 ].
وقال تعالى (الرحمن على العرش استوى) [ طه: 5 ] وقال (استوى على العرش) [ الرعد: 2 ] في غير ما آية من القرآن، وقال تعالى (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به
ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما) [ غافر: 7 ] وقال تعالى (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) [ الحاقة: 17 ] وقال تعالى (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) [ الزمر: 75 ] وفي الدعاء المروي في الصحيح في دعاء الكرب " لا إله إلا الله العظيم الحليم.
لا إله إلا الله رب العرش الكريم.
لا إله إلا الله رب السموات ورب الارض رب العرش الكريم ".
وقال الامام أحمد (2) حدثنا عبد الرزاق حدثنا يحيى بن العلاء عن عمه شعيب بن
__________
(1) قال ابن العربي: " وكان عرشه على الماء " والذي عندي أنه أراد بالعرش الخلق كله - وهو بهذا المعنى وعلى الماء بمعنى يمسكه بقدرته لا بعمد ترافده وأساس يعاضده.
(2) مسند أحمد ج 1 / 206 وسقط فيه الاحنف بن قيس.


خالد حدثني سماك بن حرب عن عبد الله بن عميرة عن الاحنف بن قيس عن عباس بن عبد المطلب قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فمرت سحابة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتدرون ما هذا قال قلنا السحاب قال والمزن قال قلنا والمزن قال والعنان قال فسكتنا فقال هل تدرون كم بين السماء والارض قال قلنا الله ورسوله أعلم.
قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكشف كل سماء (1) مسيرة خمسمائة سنة وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والارض، ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين ركبهن واظلافهن كما بين السماء والارض ثم على ظهورهم (2) العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والارض والله فوق ذلك وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شئ ".
هذا لفظ الامام أحمد.
ورواه أبو داود وابن ماجة والترمذي من حديث سماك باسناده نحوه.
وقال الترمذي هذا حديث حسن، وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك ووقفه ولفظ أبي داود " وهل تدرون بعد ما بين السماء والارض ؟ قالوا لا ندري " قال " بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتين أو ثلاثة وسبعون سنة " والباقي نحوه.
وقال أبو داود حدثنا عبد الاعلى بن حماد ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار، وأحمد بن سعيد
الرباطي قالوا حدثنا وهب بن جرير.
قال أحمد كتبناه من نسخته وهذا لفظه.
قال حدثنا أبي قال سمعت محمد بن اسحاق يحدث عن يعقوب بن عقبة عن جبير بن محمد بن جبير ابن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم اعرابي فقال يارسول الله جهدت الانفس وجاعت العيال (3) ونهكت الاموال وهلكت الانعام.
فاستسق الله لنا فانا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويحك أتدري ما تقول " وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه.
ثم قال " ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سمواته لهكذا " وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الزحل بالراكب.
قال ابن بشار في حديثه " ان الله فوق عرشه وعرشه فوق سمواته " وساق الحديث.
وقال عبد الاعلى وابن المثنى وابن بشار عن يعقوب بن عقبة وجبير بن محمد بن جبير عن أبيه عن جده، قال أبو داود والحديث بإسناد أحمد بن سعيد وهو الصحيح.
وافقه عليه جماعة منهم يحيى بن معين وعلي بن المديني ورواه جماعة منهم عن ابن اسحاق كما قال أحمد أيضا، وكان سماع عبد الاعلى وابن المثنى وابن بشار في نسخة واحدة فيما بلغني.
تفرد بإخراجها أبو داود، وقد صنف الحافظ أبو القاسم بن عساكر الدمشقي جزءا في الرد على هذا الحديث.
سماه (ببيان الوهم والتخليط الواقع في حديث الاطيط) واستفرغ وسعه في الطعن على محمد بن إسحاق بن بشار راويه.
وذكر كلام الناس فيه، ولكن قد روى هذا اللفظ من طريق أخرى عن غير محمد بن
__________
(1) كذا في الاصل، وفي المسند وكيف بالياء، ولعل الصواب كثف.
(2) في المسند: ثم فوق ذلك.
(3) كذا في الاصل، وفي سنن أبي داود: وضاعت العيال.


اسحاق، فرواه عبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما، وابن أبي عاصم والطبراني في كتابي السنة لهما، والبزار في مسنده والحافظ الضياء المقدسي في مختارته من طريق أبي إسحاق السبيعي عن عبد الله بن خليفة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال " أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت
ادع الله أن يدخلني الجنة قال فعظم الرب تبارك وتعالى وقال " إن كرسيه وسع السموات والارض وإن له أطيطا كأطيط الزحل الجديد من ثقله.
عبد الله بن خليفة هذا ليس بذاك المشهور.
وفي سماعه من عمر نظر.
ثم منهم من يرويه موقوفا ومرسلا، ومنهم من يزيد فيه زيادة غريبة والله أعلم * وثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس فانه أعلى الجنة وأوسط الجنة وفوقه عرش الرحمن ".
يروى وفوقه بالفتح على الظرفية، وبالضم.
قال شيخنا الحافظ المزي وهو أحسن، أي وأعلاها عرش الرحمن.
وقد جاء في بعض الآثار (أن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش وهو تسبيحه وتعظيمه) وما ذاك إلا لقربهم منه.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ (1).
وذكر الحافظ ابن الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتاب صفة العرش عن بعض السلف " أن العرش مخلوق من ياقوتة حمراء بعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة " وذكرنا عند قوله تعالى (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) [ المعارج: 4 ] أنه بعد ما بين العرش إلى الارض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة وإتساعه خمسون ألف سنة.
وقد ذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة ولذا سموه الفلك التاسع والفلك الاطلس والاثير.
وهذا ليس بجيد لانه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، والفلك لا يكون له قوائم ولا يحمل، وأيضا فانه فوق الجنة والجنة فوق السموات وفيها مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والارض فالبعد الذي بينه وبين الكرسي ليس هو نسبة فلك إلى فلك.
وأيضا فإن العرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك كما قال تعالى (ولها عرش عظيم) [ النمل: 23 ].
وليس هو فلكا ولا تفهم منه العرب ذلك.
والقرآن إنما نزل بلغة العرب فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم وهو سقف المخلوقات.
قال الله تعالى (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) [ غافر: 7 ] وقد تقدم في حديث الاوعال أنهم ثمانية، وفوق ظهورهن العرش،
وقال تعالى: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) [ الحاقة: 17 ] وقال شهر بن حوشب " حملة العرش ثمانية أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد
__________
(1) قال أبو علي بن محمد بن مهدي الطبري: الصحيح من التأويل في هذا أن يقال الاهتزاء هو الاستبشار والسرور (الاسماء والصفات ص 503).


علمك " وأربعة يقولون " سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك " فأما الحديث الذي رواه الامام أحمد حدثنا عبد الله بن محمد هو أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن اسحاق عن يعقوب بن عقبة (1) عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق أمية يعني ابن أبي الصلت في بيتين من شعره فقال: رجل وثور تحت رجل يمينه * والنسر للاخرى وليث مرصد (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق.
فقال: والشمس تطلع كل آخر ليلة * حمراء مطلع لونها متورد (3) تأبى فلا تبدو لنا في رسلها * إلا معذبة وإلا تجلد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدق " فانه حديث صحيح الاسناد رجاله ثقات.
وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم أربعة، فيعارضه حديث الاوعال.
اللهم إلا أن يقال إن اثبات هؤلاء الاربعة على هذه الصفات لا ينفي ما عداهم.
والله أعلم.
ومن شعر أمية بن أبي الصلت في العرش قوله: مجدوا الله فهو للمجد أهل * ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء العالي الذي بهر النا * س وسوى فوق السماء سريرا شرجعا لا يناله بصر العي * ن ترى حوله الملائك صورا صور جمع أصور وهو المائل العنق لنظره إلى العلو (4) والشرجع هو العالي المنيف.
والسرير هو العرش في اللغة.
ومن شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الذي عرض به عن القراءة لامرأته
حين اتهمته بجاريته.
شهدت بأن وعد الله حق * وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف * وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة كرام * ملائكة الآله مسومينا
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 256 وفيه يعقوب بن عتيبة ; وفي التقريب أبن عتبة وفي الكاشف ابن عتبة الثقفي ثقة من العلماء مات سنة 128 ه.
وقال إبراهيم بن سعد: كان ورعا مسلما يستعمل على الصدقات ويستعين به الولاة.
وكذلك هو ابن عتبة في الطبري والاغاني.
(2) قال الجاحظ في الحيوان 6 / 68 طبع مصر: وقد جاء في الخبر أن من الملائكة من هو في صورة الرجال ومنهم من هو في صورة الثيران، ومنهم من هو في صورة النسور ويدل على ذلك تصديق النبي صلى الله عليه وسلم لامية.
" وأورد البيت.
(3) في المسند: حمراء يصبح لونها بتورد.
(4) صور جمع أصور وهو المائل العنق لثقل حمله.
(اللسان).


ذكره ابن عبد البر وغير واحد من الائمة * وقال أبو داود حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام.
ورواه ابن أبي عاصم ولفظه محقق الطير (1) مسيرة سبعمائة عام.
وأما الكرسي فروى ابن جرير من طريق جويبر (2) وهو ضعيف - عن الحسن البصري أنه كان يقول لكرسي هو العرش وهذا لا يصح عن الحسن بل الصحيح عنه وعن غيره من الصحابة والتابعين أنه غيره وعن ابن عباس وسعيد بن جبير أنهما قالا في قوله تعالى (وسع كرسيه السموات والارض) (3) أي علمه والمحفوظ عن ابن عباس كما رواه الحاكم في مستدركه.
وقال إنه على شرط
الشيخين ولم يخرجاه من طريق سفيان الثوري عن عمار الدهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله عزوجل.
وقد رواه شجاع بن مخلد الفلاس في تفسيره عن أبي عاصم النبيل عن الثوري فجعله مرفوعا والصواب انه موقوف على ابن عباس وحكاه ابن جرير عن أبي موسى الاشعري والضحاك بن مزاحم واسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ومسلم البطين وقال السدي عن أبي مالك " الكرسي تحت العرش.
وقال السدي السموات والارض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش " وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال: " لو أن السموات السبع والارضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة " وقال ابن جرير حدثني يونس حدثنا ابن وهب قال: قال ابن زيد حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس " قال وقال أبو ذر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الارض " أول الحديث مرسل.
وعن أبي ذر منقطع.
وقد روي عنه من طريق أخرى موصولا فقال الحافظ أبو بكر بن مردوية في تفسيره أخبرنا سليمان بن أحمد الطبراني أنبأنا عبد الله بن وهيب المغربي أنبأنا محمد بن أبي سري العسقلاني أنبأنا محمد بن عبد الله التميمي عن القاسم بن محمد الثقفي عن أبي ادريس الخولاني عن أبي ذر الغفاري أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
__________
(1) قوله محقق الطير، كذا بالاصول ولم نعثر له على معنى..(2) يقال اسمه جابر وجويبر لقب، ابن سعيد الازدي أبو قاسم البلخي نزيل الكوفة.
تركوه.
قال ابن حجر: ضعيف جدا مات بعد المائة والاربعين (التقريب 1 / 136) (الكاشف 1 / 133).
(3) سورة البقرة الآية: 255.


الكرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده ما السموات السبع والارضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة * وقال
ابن جرير في تاريخه حدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي عن سفيان عن الاعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن قوله عزوجل وكان عرشه على الماء على أي شئ كان الماء ؟ قال: على متن الريح قال: والسموات والارضون وكل ما فيهن من شئ تحيط بها البحار ويحيط بذلك كله الهيكل ويحيط بالهيكل فيما قيل الكرسي.
وروى (1) عن وهب ابن منبه نحوه.
وفسر وهب الهيكل فقال شئ من أطراف السموات يحدق بالارضين والبحار كأطناب الفسطاط * وقد زعم بعض من ينتسب إلى علم الهيئة أن الكرسي عبارة عن الفلك الثامن الذي يسمونه فلك الكواكب الثوابت.
وفيما زعموه نظر لانه قد ثبت أنه أعظم من السموات السبع بشئ كثير ورد الحديث المتقدم بأن نسبتها إليه كنسبة حلقة ملقاة بأرض فلاة وهذا ليس نسبة فلك إلى فلك.
فإن قال قائلهم فنحن نعترف بذلك ونسميه مع ذلك فلكا فنقول الكرسي ليس في اللغة عبارة عن الفلك وإنما هو كما قال غير واحد من السلف بين يدي العرش كالمرقاة إليه.
ومثل هذا لا يكون فلكا.
وزعم أن الكواكب الثوابت مرصعة فيه لا دليل لهم عليه.
هذا مع اختلافهم في ذلك أيضا كما هو مقرر في كتبهم والله أعلم.
ذكر اللوح المحفوظ قال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا منجاب بن الحارث حدثنا إبراهيم بن يوسف حدثنا زياد بن عبد الله عن ليث عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال " ان الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور لله فيه في كل يوم ستون وثلثمائة لحظة يخلق ويرزق ويميت ويحيى ويعز ويذل ويفعل ما يشاء " وقال اسحاق بن بشر أخبرني مقاتل وابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس قال " إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده دينه الاسلام ومحمد عبده ورسوله.
فمن آمن بالله وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة " قال " واللوح المحفوظ لوح من درة بيضاء: طوله ما بين السماء والارض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب.
وحافتاه الدر والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه نور، وكلامه معقود بالعرش، واصله في حجر ملك " وقال أنس بن مالك، وغيره
من السلف " اللوح المحفوظ في جبهة إسرافيل " وقال مقاتل هو عن يمين العرش.
ما ورد في خلق السموات والارض وما بينهما قال الله تعالى (الحمد لله الذي خلق السموات والارض، وجعل الظلمات والنور ثم
__________
(1) أي ابن جرير.


الذين كفروا بربهم يعدلون) [ الانعام: 1 ] وقال تعالى (خلق السموات والارض وما بينهما في ستة أيام) [ هود: 7 ] في غير ما آية من القرآن وقد اختلف المفسرون في مقدار هذه الستة الايام على قولين.
فالجمهور على أنها كأيامنا هذه.
وعن ابن عباس، ومجاهد والضحاك، وكعب الاحبار: أن كل يوم منها كألف سنة مما تعدون.
رواهن ابن جرير، وابن أبي حاتم، واختار هذا القول الامام أحمد بن حنبل في كتابه الذي رد فيه على الجهمية، وابن جرير وطائفة من المتأخرين والله أعلم.
وسيأتي ما يدل على هذا القول.
وروى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم، وغيره أن أسماء الايام الستة " أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت " وحكى ابن جرير في أول الايام ثلاثة أقوال، فروى عن محمد بن اسحاق أنه قال " يقول أهل التوراة ابتدأ الله الخلق يوم الاحد، ويقول أهل الانجيل: ابتدأ الله الخلق يوم الاثنين، ونقول نحن المسلمون فيما انتهى إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأ الله الخلق يوم السبت " وهذا القول الذي حكاه ابن اسحاق عن المسلمين مال إليه طائفة من الفقهاء من الشافعية، وغيرهم.
وسيأتي فيه حديث أبي هريرة (خلق الله التربة يوم السبت) والقول بأنه الاحد رواه ابن جرير عن السدي عن أبي مالك، وأبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن جماعة من الصحابة ورواه أيضا عن عبد الله بن سلام، واختاره ابن جرير.
وهو نص التوراة، ومال إليه طائفة آخرون من الفقهاء.
وهو أشبه بلفظ الاحد ولهذا كمل الخلق في ستة أيام فكان آخرهن الجمعة فاتخذه المسلمون عيدهم في الاسبوع وهو اليوم الذي أضل الله عنه أهل الكتاب قبلنا كما سيأتي بيانه ان شاء الله.
وقال تعالى (هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شئ عليم)
[ البقرة: 29 ] وقال تعالى: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين.
ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين.
فقضاهن سبع سموات في يومين، وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح، وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) [ فصلت: 9 ] فهذا يدل على أن الارض خلقت قبل السماء لانها كالاساس للبناء كما قال تعالى: (الله الذي جعل لكم الارض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين) [ غافر: 64 ] قال تعالى (ألم نجعل الارض مهادا والجبال أوتادا إلى أن قال وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا) [ المرسلات: 25 ] وقال [ تعالى ] (أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون) [ الانبياء: 30 ] أي فصلنا ما بين السماء والارض حتى هبت الرياح ونزلت الامطار وجرت العيون، والانهار وانتعش الحيوان.
ثم قال (وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون) [ الانبياء: 32 ] أي عما خلق فيها من الكواكب الثوابت، والسيارات والنجوم

الزاهرات والاجرام النيرات، وما في ذلك من الدلالات على حكمة خالق الارض والسموات كما قال تعالى * (وكأين من آية في السموات والارض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) * [ يوسف: 105 ] فأما قوله تعالى (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والارض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها متاعا لكم ولانعامكم) [ النازعات: 28 ] فقد تمسك بعض الناس بهذه الآية على تقدم خلق السماء على خلق الارض.
فخالفوا صريح الآيتين المتقدمين ولم يفهموا هذه الآية الكريمة فان مقتضى هذه الآية أن دحي الارض وإخراج الماء والمرعى منها بالفعل بعد خلق السماء.
وقد كان ذلك مقدرا فيها بالقوة كما قال تعالى (وبارك فيها وقدر فيها
أقواتها) [ فصلت: 10 ] أي هيأ أماكن الزرع ومواضع العيون والانهار ثم لما أكمل خلق صورة العالم السفلي والعلوي دحى الارض أخرج منها ما كان مودعا فيها فخرجت العيون وجرت الانهار، ونبت الزرع والثمار ولهذا فسر الدحي بإخراج الماء والمرعى منها وإرسال الجبال فقال (والارض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها) وقوله (والجبال أرساها) [ المرسلات: 30 - 32 ] أي قررها في أماكنها التي وضعها فيها وثبتها وأكدها وأطدها وقوله (والسماء بنيناها بايد وإنا لموسعون، والارض فرشناها فنعم الماهدون، ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) [ الذاريات: 37 ] بأيد أي بقوة.
وأنا لموسعون، وذلك أن كل ما علا اتسع فكل سماء أعلى من التي تحتها فهي أوسع منها.
ولهذا كان الكرسي أعلى من السموات.
وهو أوسع منهن كلهن.
والعرش أعظم من ذلك كله بكثير.
وقوله بعد هذا (والارض فرشناها) أي بسطناها وجعلناها مهدا أي قارة ساكنة غير مضطربة ولا مائدة بكم.
ولهذا قال (فنعم الماهدون) والواو لا تقتضي الترتيب في الوقوع.
وإنما يقتضي الاخبار المطلق في اللغة والله أعلم * وقال البخاري حدثنا عمر بن جعفر بن غياث حدثنا أبي حدثنا الاعمش حدثنا جامع بن شداد عن صفوان بن محرز أنه حدثه عن عمران بن حصين قال " دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فأتاه ناس من بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم " قالوا قد بشرتنا فاعطنا مرتين ثم دخل عليه ناس من اليمن فقال " اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إن لم يقبلها بنو تميم " قالوا قد قبلنا يارسول الله قالوا جئناك نسألك عن هذا الامر.
قال " كان الله ولم يكن شئ غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شئ وخلق السموات والارض " فنادى مناد ذهبت ناقتك يا ابن الحصين فانطلقت فإذا هي تقطع دونها السراب فوالله لوددت اني كنت تركتها " هكذا رواه هاهنا وقد رواه في كتاب المغازي وكتاب التوحيد وفى بعض ألفاظه (ثم خلق السموات والارض) وهو لفظ النسائي أيضا.
وقال الامام أحمد بن حنبل (1) حدثنا حجاج حدثني ابن جريج أخبرني إسماعيل بن
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 327.


مية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال [ فيها ] يوم الاحد وخلق لشجر [ فيها ] يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاث (1) وخلق النور يوم الاربعاء وبث [ فيها ] لدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر خلق خلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل " وهكذا رواه مسلم عن سريج بن يونس وهرون بن عبد الله والنسائي عن هرون ويوسف بن سعيد ثلاثتهم عن حجاج بن محمد المصيصي الاعور عن ابن جريج به مثله سواء.
وقد رواه النسائي في التفسير عن ابراهيم ين يعقوب الجوزجاني عن محمد ابن الصباح عن أبي عبيدة الجداد عن الاخضر بن عجلان عن ابن جريح عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدي فقال يا أبا هريرة " إن الله خلق السموات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يوم السابع، وخلق التربة يوم السبت " وذكر تمامه بنحوه فقد اختلف فيه على ابن جريج وقد تكلم في هذا الحديث على ابن المديني والبخاري والبيهقي وغيرهم من الحفاظ قال البخاري في التأريخ، وقال بعضهم عن كعب وهو أصح يعني أن هذا الحديث مما سمعه أبو هريرة وتلقاه من كعب الاحبار فإنهما كانا يصطحبان ويتجالسان للحديث، فهذا يحدثه عن صحفه، وهذا يحدثه بما يصدقه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الحديث مما تلقاه أبو هريرة عن كعب عن صحفه، فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأكد رفعه بقوله " أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي " ثم في متنه غرابة شديدة.
فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر خلق السموات، وفيه ذكر خلق الارض وما فيها في سبعة أيام.
وهذا خلاف القرآن لان الارض خلقت في أربعة أيام ثم خلقت السموات في يومين من دخان.
وهو بخار الماء الذي ارتفع حين اضطرب الماء العظيم الذي خلق من ربذة الارض بالقدرة العظيمة البالغة كما قال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي خلق لكم ما في الارض
جميعا ثم استوى إلى (2) السماء فسواهن سبع سموات " قال إن الله كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء * ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ثم فتقها فجعل سبع أرضين في يومين (الاحد والاثنين) وخلق الارض على حوت وهو النون قال الله تعالى (نون والقلم وما يسطرون) (3) والحوت
__________
(1) في المسند: الثلاثاء وما بين معكوفين في الحديث زيادة من المسند.
(2) قال البيهقي في الاسماء ص 520: قال يحيى بن زياد الفراء: الاستواء في كلام العرب على جهتين: احداهما: ان يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته ; أو يستوي من اعوجاج، ووجه ثالث: أن تقول كان مقبلا علي فلان يشاتمني والي سواء على معنى أقبل إلي وعلي.
وعن ابن عباس قال: استوى: صعد.
(3) سورة القلم الآية 1.


في الماء والماء على صفات والصفات على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح.
وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء ولا في الارض فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الارض فأرسى عليها الجبال فقرت.
وخلق الله يوم الثلاثاء الجبال وما فيهن من المنافع.
وخلق يوم الاربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب وفتق السماء وكانت رتقا فجعلها سبع سموات في يومين الخميس والجمعة.
وإنما سمي يوم الجمعة لانه جمع فيه خلق السموات والارض وأوحى في كل سماء أمرها.
ثم قال خلق في كل سماء خلقها من الملائكة والبحار وجبال البرد وما لا يعلمه غيره.
ثم زين السماء بالكواكب فجعلها زينة وحفظا يحفظ من الشياطين.
فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش.
هذا الاسناد يذكر به السدي أشياء كثيرة فيها غرابة وكان كثير منها متلقى من الاسرائيليات.
فإن كعب الاحبار لما أسلم في زمن عمر كان يتحدث بين يدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأشياء من علوم أهل الكتاب فيستمع له عمر تأليفا له، وتعجبا مما عنده مما يوافق كثير منه الحق الذي ورد به الشرع المطهر فاستجاز كثير من الناس نقل ما يورده كعب الاحبار لهذا، ولما جاء من الاذن في التحديث عن بني إسرائيل لكن كثيرا ما يقع مما يرويه غلط كبير وخطأ
كثير * وقد روى البخاري في صحيحه (1) عن معاوية أنه كان يقول في كعب الاحبار (وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب) أي فيما ينقله لا أنه يتعمد ذلك والله أعلم.
ونحن نورد ما نورده من الذي يسوقه كثير من كبار الائمة المتقدمين عنهم.
ثم نتبع ذلك من الاحاديث بما يشهد له بالصحة أو يكذبه ويبقى الباقي مما لا يصدق ولا يكذب وبه المستعان وعليه التكلان.
قال البخاري حدثنا قتيبة حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي عن أبي زناد عن الاعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي " وكذا رواه مسلم (3) والنسائي عن قتيبة به.
ثم قال البخاري: (3)
__________
(1) صحيح البخاري - من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن انه سمع معاوية " يحدث رهطا من قريش بالمدينة.
وذكر كعب الاحبار فقال: انه كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا لنبلو مع ذلك عليه الكذب.
(2) البخاري - كتاب بدء الخلق - ج 4 / 73.
عند مسلم في 49 كتاب التوبة ج 14 (2751) عن قتيبة بن سعد وفيه: لما خلق الله.
وقوله عنده: قال العيني في شرح البخاري: والعندية ليست مكانية بل إشارة إلى كمال كونه مكنونا عن الخلق، مرفوعا عن حيز إدراكهم.
(3) في كتاب بدء الخلق.
باب ما جاء في سبع أرضين.

ما جاء في سبع أرضين وقوله تعالى (والله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير ; وان الله قد أحاط بكل شئ علما) (1) ثم قال حدثنا علي بن عبد الله أخبرنا ابن علية عن علي بن المبارك حدثنا يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن
أبي سلمة بن عبد الرحمن وكانت بينه وبين ناس خصومة في أرض فدخل على عائشة فذكر لها ذلك.
فقالت: يا أبا سلمة اجتنب الارض فان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من ظلم قيد شبر طوقه من سبع أرضين " ورواه أيضا في كتاب المظالم ومسلم من طرق عن يحيى بن كثير به * ورواه أحمد من حديث محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة به، ورواه أيضا عن يونس عن إبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة بمثله.
ثم قال البخاري حدثنا بشر بن محمد قال أخبرنا عبد الله عن موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم " من أخذ شيئا من الارض بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين " ورواه في المظالم أيضا عن مسلم بن إبراهيم عن عبد الله هو ابن المبارك عن موسى بن عقبة به وهو من أفراده.
وذكر البخاري هاهنا حديث محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض السنة اثني عشر شهرا " الحديث ومراده والله أعلم تقرير قوله تعالى (الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن) أي في العدد كما أن عدة الشهور الآن اثني عشر مطابقة لعدة الشهور عند الله في كتابه الاول فهذه مطابقة في الزمن كما أن تلك مطابقة في المكان.
ثم قال البخاري حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه خاصمته أروى (2) في حق زعمت أنه ائتقصه لها إلى مروان فقال سعيد رضي الله عنه أنا انتقص من حقها شيئا ؟ أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من أخذ شبرا من الارض ظلما فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين " ورواه (3).
وقال الامام أحمد حدثنا حسن وأبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عبد الله ابن لهيعة حدثنا عبد الله (4) بن أبي جعفر عن أبي عبد الرحمن عن ابن مسعود قال " قلت يارسول الله أي الظلم أعظم ؟ قال: ذراع من الارض ينتقصه المرء المسلم من حق أخيه فليس حصاة من الارض يأخذها
__________
(1) سورة الطلاق الآية 12.
(2) أروى بفتح الهمزة وسكون الراء وهي أروى بنت أبي أوس.
(3) قوله ورواه هكذا بالاصل: وفي البخاري: قال ابن أبي الزناد عن هشام عن أبيه (عروة) قال قال لي سعيد بن
زيد: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) مسند أحمد ج 1 / 397 وفيه: عبيد الله بدل عبد الله.


أحد إلا طوقها يوم القيامة إلى قعر الارض، ولا يعلم قعرها إلا الذي خلقها " تفرد به أحمد.
وهذا إسناد لا بأس به.
وقال الامام أحمد حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من أخذ شبرا من الارض بغير حقه طوقه من سبع أرضين " تفرد به من هذا الوجه وهو على شرط مسلم.
وقال أحمد حدثنا يحيى عن ابن عجلان حدثني أبي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من اقتطع شبرا من الارض بغير حقه طوقه إلى سبع أرضين " تفرد به أيضا وهو على شرط مسلم.
وقال أحمد أيضا حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أخذ من الارض شبرا بغير حقه طوقه من سبع أرضين " تفرد به أيضا وقد رواه الطبراني من حديث معاوية بن قرة عن ابن عباس مرفوعا مثله * فهذه الاحاديث كالمتواترة في إثبات سبع أرضين والمراد بذلك أن كل واحدة فوق الاخرى والتي تحتها في وسطها عند أهل الهيئة حتى ينتهي الامر إلى السابعة وهي صماء لا جوف لها، وفي وسطها المركز وهي نقطة مقدرة متوهمة.
وهو محط الاثقال، إليه ينتهي ما يهبط من كل جانب إذا لم يعاوقه مانع.
واختلفوا هل هن متراكمات بلا تفاصل أو بين كل واحدة والتي تليها خلاء على قولين وهذا الخلاف جار في الافلاك أيضا.
والظاهر أن بين كل واحدة والتي تليها خلاء على قولين.
وهذا الخلاف جار في الافلاك أيضا.
والظاهر أن بين كل واحدة منهن وبين الاخرى مسافة لظاهر قوله تعالى (الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن) الآية وقال الامام أحمد حدثنا شريح حدثنا الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة قال " بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مرت سحابة فقال " أتدرون ما هذه قلنا الله ورسوله أعلم قال العنان وزوايا الارض تسوقه إلى من لا يشكرونه من عباده ولا يدعونه أتدرون ما هذه فوقكم: قلنا الله ورسوله أعلم قال الرفيع موج مكفوف وسقف محفوظ أتدرون كم بينكم وبينها قلنا الله ورسوله أعلم.
قال مسيرة خمسمائة سنة.
ثم قال أتدرون ما الذي فوقها قلنا الله ورسوله أعلم قال مسيرة خمسمائة عام حتى عد سبع سموات * ثم قال أتدرون ما فوق ذلك قلنا الله ورسوله أعلم قال العرش أتدرون كم بينه وبين السماء السابعة قلنا الله ورسوله أعلم.
قال مسيرة خمسمائة عام.
ثم قال أتدرون ما هذه تحتكم قلنا الله وروسله أعلم قال أرض أتدرون ما تحتها قلنا الله ورسوله أعلم قال أرض أخرى أتدرون كم بينهما قلنا الله ورسوله أعلم.
قال مسيرة سبعمائة عام حتى عد سبع أرضين ثم قال وأيم الله لو دليتم أحدكم إلى الارض السفلى السابعة لهبط.
ثم قرأ هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم ورواه الترمذي عن عبد بن حميد، وغير واحد عن يونس بن محمد المؤدب عن شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة، قال حدث الحسن عن أبي هريرة وذكره إلا أنه ذكر أن بعد ما بين كل أرضين خمسمائة عام وذكر في آخره كلمة (1) ذكرناها عند تفسير هذه الآية من
__________
(1) في المسند: والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم رجلا بحبل إلى الارض السفلى لهبط على الله.
قال ابن

سورة الحديد ثم قال الترمذي هذا حديث غريب من هذا الوجه قال ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد أنهم قالوا لم يسمع الحسن من أبي هريرة * ورواه أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره من حديث أبي جعفر الرازي عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة فذكر مثل لفظ الترمذي سواء بدون زيادة في آخره ورواه ابن جرير في تفسيره عن بشر عن يزيد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلا وقد يكون هذا أشبه والله أعلم.
ورواه الحافظ أبو بكر البزار والبيهقي من حديث أبي ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لا يصح إسناده والله أعلم (1) * وقد تقدم عند صفة العرش من حديث الاوعال ما يخالف هذا في ارتفاع العرش عن السماء السابعة وما يشهد له.
وفيه وبعد ما بين كل سماءين خمسمائة عام، وكثفها أي سمكها خمسمائة عام * وأما ما ذهب إليه بعض المتكلمين على حديث (طوقه من سبع أرضين) أنها سبعة أقاليم.
فهو قول يخالف ظاهر الآية والحديث الصحيح وصريح كثير من ألفاظه مما يعتمد من الحديث الذي أوردناه من طريق الحسن عن أبي هريرة.
ثم إنه حمل الحديث والآية على خلاف ظاهرهما بلا مستند
ولا دليل والله أعلم.
وهكذا ما يذكره كثير من أهل الكتاب وتلقاه عنهم طائفة من علمائنا من أن هذه الارض من تراب والتي تحتها من حديد والاخرى من حجارة من كبريت والاخرى من كذا فكل هذا إذا لم يخبر به ويصح سنده إلى معصوم فهو مردود على قائله.
وهكذا الاثر المروي عن ابن عباس أنه قال: في كل أرض من الخلق مثل ما في هذه حتى آدم كآدمكم وإبراهيم كإبراهيمكم فهذا ذكره ابن جرير مختصرا واستقصاه البيهقي في الاسماء والصفات وهو محمول إن صح نقله عنه على أنه أخذه ابن عباس رضي الله عنه عن الاسرائيليات والله أعلم * وقال الامام أحمد حدثنا يزيد حدثنا العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما خلق الله الارض جعلت تميد فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت فتعجبت الملائكة من خلق الجبال فقالت يا رب هل من خلقك شئ أشد من الجبال قال نعم الحديد.
قالت يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الحديد قال نعم النار.
قالت يا رب فهل من خلقك شئ أشد من النار قال نعم الريح.
قالت يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الريح قال نعم ابن آدم يتصدق بيمينه يخفيها من شماله تفرد به أحمد * وقد ذكر أصحاب الهيئة إعداد جبال الارض في سائر بقاعها شرقا وغربا، وذكروا طولها وبعد إمتدادها وإرتفاعها وأوسعوا القول في ذلك بما يطول شرحه هنا.
وقد قال الله تعالى (ومن
__________
= العربي: والمقصود من الخبر ان نسبة الباري من الجهات إلى فوق كنسبته إلى تحت، إذ لا ينسب إلى الكون في واحدة منهما بذاته.
(1) قال البيهقي في الاسماء ص 506: هذه الرواية اشتهرت فيما بين الناس..والذي روي في آخر الحديث إشارة إلى نفي المكان عن الله تعالى وان العبد أينما كان فهو في القرب والبعد من الله تعالى سواء ; وانه الظاهر.


الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود) (1) قال ابن عباس وغير واحد الجدد الطرائق وقال عكرمة وغيره الغرابيب الجبال الطوال السود.
وهذا هو الشاهد من الجبال في سائر الارض تختلف باختلاف بقاعها وألوانها.
وقد ذكر الله تعالى في كتابه الجودي على التعيين وهو جبل عظيم
شرقي جزيرة ابن عمر إلى دجلة.
عند الموصل إمتداده من الجنوب إلى الشمال مسيرة ثلاثة أيام وإرتفاعه مسيرة نصف يوم وهو أخضر لان فيه شجرا من البلوط وإلى جانبه قرية يقال لها قرية الثمانين لسكني الذين نجوا في السفينة مع نوح عليه السلام في موضعها فيما ذكره غير واحد من المفسرين والله أعلم.
فصل في البحار والانهار قال الله تعالى (وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون.
وألقى في الارض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهدون.
وعلامات وبالنجم هم يهتدون.
أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) [ النحل: 14 - 15 ] وقال تعالى (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) [ فاطر: 12 ] وقال تعالى (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا) [ الفرقان: 53 ] وقال تعالى: (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان) [ الرحمن: 19 - 20 ] فالمراد بالبحرين البحر الملح المر وهو الاجاج والبحر العذب هو هذه الانهار السارحة بين أقطار والامصار لمصالح العباد قاله ابن جريج وغير واحد من الائمة.
وقال تعالى: (ومن آياته الجوار في البحر كالاعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور أو يوبقهن بما كسبوا ويعفو عن كثير) [ الشورى: 33 ] وقال تعالى (ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختال كفور) [ لقمان: 31 ] وقال تعالى: (إن في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف
الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون) [ الحج: 65 ] فامتن تعالى
__________
(1) سورة فاطر الآية 27.
الجدد جمع جدة.
قال الزهري: الطرائق أو الخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض..

على عباده بما خلق لهم من البحار والانهار فالبحر المحيط بسائر أرجاء الارض وما ينبت منه في جوانبها الجميع مالح الطعم مر وفي هذا حكمة عظيمة لصحة الهواء إذ لو كان حلوا لانتن الجو وفسد الهواء بسبب ما يموت فيه من الحيوانات فكان يؤدي إلى تفاني بني آدم ولكن اقتضت الحكمة البالغة أن يكون على هذه الصفة لهذه المصلحة.
ولهذا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحر قال: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " (1).
وأما الانهار فماؤها حلو عذب فرات سائغ شرابها لمن أراد ذلك.
وجعلها جارية سارحة ينبعها تعالى في أرض ويسوقها إلى أخرى رزقا للعباد.
ومنها كبار ومنها صغار بحسب الحاجة والمصلحة.
وقد تكلم أصحاب علم الهيئة والتفسير على تعداد البحار والانهار الكبار وأصول منابعها وإلى أين ينتهي سيرها بكلام فيه حكم ودلالات على قدرة الخالق تعالى، وأنه فاعل بالاختيار والحكمة - قوله تعالى (والبحر المسجور) [ الطور: 6 ] فيه قولان أحدهما أن المراد به البحر الذي تحت العرش المذكور في حديث الاوعال.
وأنه فوق السموات السبع بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء، وهو الذي ينزل منه المطر قبل البعث فتحيا منه الاجساد من قبورها.
وهذا القول هو اختيار الربيع بن أنس.
والثاني آن البحر اسم جنس يعم سائر البحار التي في الارض وهو قول الجمهور * واختلفوا في معنى البحر المسجور فقيل المملوء وقيل يصير يوم القيامة نارا تؤجج فيحيط بأهل الموقف كما ذكرناه في التفسير عن علي وابن عباس وسعيد بن جبير وابن مجاهد وغيرهم.
وقيل المراد به الممنوع المكفوف المحروس عن أن يطغى فيغمر الارض ومن عليها فيغرقوا.
رواه الوالبي عن ابن عباس وهو قول السدي وغيره ويؤيده الحديث الذي رواه الامام أحمد (1) حدثنا يزيد حدثنا
العوام حدثني شيخ كان مرابطا بالساحل قال " لقيت أبا صالح مولى عمر بن الخطاب فقال حدثنا عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات [ على الارض ] يستأذن الله عزوجل أن يتفصح عليهم فيكفه الله عزوجل " ورواه اسحاق بن راهوية
__________
(1) اخرجه أحمد في مسنده 2 / 227، 261، 278، 292 ; 3 / 273 ; 5 / 265.
وأبو داود في الطهارة والترمذي في الطهارة والنسائي في الطهارة والمياه والصيد.
وأخرجه ابن ماجة في الطهارة.
وفي موطأ مالك والدارمي في الوضوء والصيد.
(2) سورة الطور الآية 6.
في معنى المسجور قال مجاهد: الموقد ; وافقه الضحاك وشمر بن عطية ومحمد بن كعب والاخفش: انه بمنزلة التنور المسجور - الموقد المحمى -.
وعن ابن عباس قال: المسجور الذي ذهب ماؤه.
وقيل المسجور أي المفجور.
وعند المهايمي: أورده بعد السقف المرفوع للاشارة إلى أنه إذا ارتفع العمل إلى السماء فاض منها على العبد من العلوم ما يجعله بحرا من المحبة ما يسجر بنار الشوق إلى ربه.


عن يزيد بن هرون عن العوام بن حوشب حدثني شيخ مرابط قال " خرجت ليلة المحرس لم يخرج أحد من المحرس غيري فأتيت الميناء فصعدت فجعل يخيل إلي أن البحر يشرف يحاذي برؤوس الجبال فعل ذلك مرارا وأنا مستيقظ فلقيت أبا صالح فقال حدثنا عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات يستأذن الله أن يتفصح عليهم فيكفه الله عزوجل في إسناده رجل مبهم والله أعلم.
وهذا من نعمه تعالى على عباده أن كف شر البحر عن أن يطغى عليهم وسخره لهم يحمل مراكبهم ليبلغوا عليها إلى الاقاليم النائية بالتجارات وغيرها وهداهم فيه بما خلقه في السماء والارض من النجوم والجبال التي جعلها لهم علامات يهتدون بها في سيرهم وبما خلق لهم فيه من الآلئ والجواهر النفيسة العزيزة الحسنة الثمينة التي لا توجد إلا فيه وبما خلق فيه من الدواب الغريبة
وأحلها لهم حتى ميتتها كما قال تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه) وقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وفي الحديث الآخر " أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال " رواه أحمد وابن ماجة وفي إسناده نظر * وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده " وجدت في كتاب عن محمد بن معاوية البغدادي حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه قال " كلم الله هذا البحر الغربي وكلم البحر الشرقي فقال للغربي إني حامل فيك عبادا من عبادي فكيف أنت صانع بهم قال أغرقهم.
قال بأسك في نواحيك وحرمه الحلية والصيد، وكلم هذا البحر الشرقي فقال إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم قال أحملهم على يدي، وأكون لهم كالوالدة لولدها فأثابه الحلية والصيد * ثم قال لا تعلم أحدا.
ما رواه عن سهيل إلا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر وهو منكر الحديث.
قال وقد رواه سهيل عن عبد الرحمن بن أبي عياش عن عبد الله بن عمرو موقوفا.
قلت الموقوف على عبد الله بن عمرو بن العاص أشبه فإنه قد كان وجد يوم اليرموك ذاملتين مملوءتين كتبا من علوم أهل الكتاب فكان يحدث منهما بأشياء كثيرة من الاسرائيليات منها المعروف والمشهور والمنكور والمردود.
فأما المعروف فترد به عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو القاسم المدني قاضيها.
قال فيه الامام أحمد ليس بشئ وقد سمعته منه * ثم مزقت حديثه كان كذابا وأحاديثه مناكير * وكذا ضعفه بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والجوزجاني والبخاري وأبو داود والنسائي وقال ابن عدي عامة أحاديثه مناكير وأفظعها حديث البحر * قال علماء التفسير المتكلمون على العروض والاطوال والبحار والانهار والجبال والمساحات وما في الارض من المدن والخراب والعمارات والاقاليم السبعة الحقيقة في إصطلاحهم والاقاليم المتعددة العرفية وما في البلدان والاقاليم من الخواص والنباتات وما يوجد في كل قطر من صنوف

المعادن والتجارات قالوا الارض مغمورة بالماء العظيم إلا مقدار الربع منها وهو تسعون درجة
والعناية الالهية اقتضت إنحسار الماء عن هذا القدر منها لتعيش الحيوانات عليها وتنبت الزرع والثمار منها كما قال تعالى (والارض وضعها للانام فيها فاكهة والنخل ذات الاكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان) [ الرحمن: 10 - 13 ] قالوا المعمور من هذا البادي منها قريب الثلثين منه أو أكثر قليلا.
هو خمس وتسعون درجة.
قالوا فالبحر المحيط الغربي ويقال له أوقيانوس وهو الذي يتاخم بلاد المغرب وفيه الجزائر الخالدات وبينها وبين ساحله عشر درج مسافة شهر تقريبا وهو بحر لا يمكن سلوكه ولا ركوبه لكثرة موجه وإختلاف ما فيه من الرياح والامواج وليس فيه صيد ولا يستخرج منه شئ ولا يسافر فيه لمتجر ولا لغيره وهو آخذ في ناحية الجنوب حتى يسامت الجبال القمر ويقال جبال القمر التي منها أصل منبع نيل مصر ويتجاوز خط الاستواء * ثم يمتد شرقا ويصير جنوبي الارض.
وفيه هناك جزائر الزابج وعلى سواحله خراب كثير * ثم يمتد شرقا وشمالا حتى يتصل ببحر الصين والهند * ثم يمتد شرقا حتى يسامت (1) نهاية الارض الشرقية المكشوفة.
وهناك بلاد الصين.
ثم ينعطف في شرق الصين إلى جهة الشمال حتى يجاوز بلاد الصين ويسامت سد يأجوج ومأجوج.
ثم ينعطف ويستدير على أراضي غير معلومة الاحوال * ثم يمتد مغربا في شمال الارض ويسامت بلاد الروس ويتجاوزها ويعطف مغربا وجنوبا ويستدير على الارض ويعود إلى جهة الغرب وينبثق من الغربي إلى متن الارض الزقاق الذي ينتهي أقصاه إلى أطراف الشام من الغرب * ثم يأخذ في بلاد الروم حتى يتصل بالقسطنطينية وغيرها من بلادهم.
وينبعث من المحيط الشرقي بحار أخر فيها جزائر كثيرة، حتى إنه يقال: إن في بحر الهند ألف جزيرة وسبعمائة جزيرة فيها مدن وعمارات سوى الجزائر العاطلة ويقال لها البحر الاخضر فشرقيه بحر الصين وغربيه بحر اليمن وشماله بحر الهند وجنوبيه غير معلوم * وذكروا أن بين بحر الهند وبحر اليمن جبالا فاصلة بينهما وفيها فجاج يسلك المراكب بينها يسيرها لهم الذي خلقها كما جعل مثلها في البر أيضا قال الله تعالى (وجعلنا في الارض رواسي أن تميد بكم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلكم تهتدون) * وقد ذكر بطليموس أحد ملوك الهند في كتابه
المسمى بالمجسطي الذي عرب في زمان المأمون، وهو أصل هذه العلوم أن البحار المتفجرة من المحيط الغربي والشرقي والجنوبي والشمالي كثيرة جدا.
فمنها ما هو واحد، ولكن يسمى بحسب البلاد المتاخمة له.
فمن ذلك بحر القلزم.
والقلزم قرية على ساحله قريب من أيلة.
وبحر فارس وبحر الخزر وبحر ورنك وبحر الروم وبحر بنطش وبحر الازرق، مدينة على ساحله وهو بحر القرم أيضا ويتضايق حتى يصب في بحر الروم عند جنوبي القسطنطينية وهو خليج القسطنطينية،
__________
(1) يسامت: يسير.


ولهذا تسرع المراكب في سيرها من القرم إلى بحر الروم وتبطئ إذا جاءت من الاسكندرية إلى القرم لاستقبالها جريان الماء.
وهذا من العجائب في الدنيا فإن كل ماء جار فهو حلو إلا هذا وكل بحر راكد فهو ملح أجاج إلا ما يذكر عن بحر الخزر وهو بحر جرجان وبحر طبرستان أن فيه قطعة كبيرة ماء حلوا فراتا على ما أخبر به المسافرون عنه.
قال أهل الهيئة وهو بحر مستدير الشكل إلى الطول ما هو * وقيل إنه مثلث كالقلع وليس هو متصلا بشئ من البحر المحيط بل منفرد وحده، وطوله ثمانمائة ميل وعرضه ستمائة وقيل أكثر من ذلك والله أعلم.
ومن ذلك البحر الذي يخرج منه المد والجزر عند البصرة وفي بلاد المغرب نظيره أيضا يتزايد الماء من أول الشهر ولا يزال في زيادة إلى تمام الليلة الرابعة عشر منه وهو المد * ثم يشرع في النقص وهو الجزر إلى آخر الشهر * وقد ذكروا تحديد هذه البحار ومبتداها ومنتهاها وذكروا ما في الارض من البحيرات المجتمعة من الانهار وغيرها من السيول وهي البطائح * وذكروا ما في الارض من الانهار المشهورة الكبار، وذكروا ابتداءها وإنتهاءها ولسنا بصدد بسط ذلك والتطويل فيه وإنما نتكلم على ما يتعلق بالانهار الوارد ذكرها في الحديث.
وقد قال الله تعالى: (الله الذي خلق السموات والارض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الانهار وسخر لكم الشمس والقمر
دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار) ففي الصحيحين من طريق قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر سدرة المنتهى قال فإذا يخرج من أصلها نهران باطنان ونهران ظاهران.
فأما الباطنان ففي الجنة وأما الظهران فالنيل والفرات * وفي لفط في البخاري وعنصرهما أي مادتهما أو شكلهما وعلى صفتهما ونعتهما وليس في الدنيا مما في الجنة الاسماوية وفي صحيح مسلم من حديث عبيد الله بن عمر عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة ".
وقال الامام أحمد حدثنا ابن نمير ويزيد أنبأنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فجرت أربعة أنهار من الجنة الفرات والنيل وسيحان وجيحان " وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
وكأن المراد والله أعلم من هذا أن هذه الانهار تشبه أنهار الجنة في صفائها وعذوبتها وجريانها ومن جنس تلك في هذه الصفات ونحوها كما قال في الحديث الآخر الذي رواه الترمذي وصححه من طريق سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم " أي تشبه ثمر الجنة لا أنها مجتناة من الجنة، فان الحس يشهد بخلاف ذلك فتعين أن المراد غيره وكذا قوله صلى الله عليه وسلم " الحمى من فيح جهنم

فابردوها بالماء " وكذا قوله " إذا اشتد الحمى فأبردوها بالماء فإن شدة الحر من فيح جهنم " * وهكذا هذه الانهار أصل منبعها مشاهد من الارض * أما النيل.
وهو النهر الذي ليس في أنهار الدنيا له نظير في خفته ولطافته وبعد مسراه فيما بين مبتداه إلى منتهاه فمبتداه من الجبال القمر أي البيض ومنهم من يقول جبال القمر بالاضافة إلى الكوكب وهي في غربي الارض وراء خط الاستواء إلى الجانب الجنوبي.
ويقال إنها حمر ينبع من بينها عيون * ثم يجتمع من عشر مسيلات متباعدة.
ثم يجتمع كل خمسة منها في بحر.
ثم يخرج منها أنهار ستة.
ثم يجتمع كلها في بحيرة أخرى.
ثم يخرج منها نهر واحد هو النيل فيمر على بلاد
السودان الحبشة ثم على النوبة ومدينتها العظمى دمقلة ثم على أسوان ثم يفد على ديار مصر (1).
وقد تحمل إليها من بلاد الحبشة زيادات أمطارها واجترف من ترابها وهى محتاجة إليهما معا لان مطرها قليل لا يكفي زروعها وأشجارها.
وتربتها رمال لا تنبت شيئا حتى يجئ النيل بزيادته وطينه فينبت فيه ما يحتاجون إليه وهي من أحق الاراضي بدخولها في قوله تعالى (أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الارض الجرز فنخرج به رزعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) ثم يجاوز النيل مصر قليلا فيفترق شطرين عند قرية على شاطئه يقال لها شطنوف فيمر الغربي على رشيد ويصب في البحر المالح * وأما الشرق فتفترق أيضا عند جوجر فرقتين تمر الغربية منهما على دمياط من غربيها ويصب في البحر والشرقية منهما تمر على أشمون طناح فيصب هناك في بحيرة شرقي دمياط.
يقال لها بحيرة تنيس وبحيرة دمياط * وهذا بعد عظيم فيما بين مبتداه إلى منتهاه.
ولهذا كان ألطف المياه * قال ابن سينا له خصوصيات دون مياه سائر الارض * فمنها انه أبعدها مسافة من مجراه إلى أقصاه.
ومنها أنه يجري على صخور ورمال (1) ليس فيه خز ولا طحلب ولا أوحال ومنها أنه لا يخضر فيه حجر ولا حصاة وما ذاك إلا لصحة مزاجه وحلاوته ولطافته.
ومنها إن زيادته في أيام نقصان سائر الانهار.
ونقصانه في أيام زيادتها وكثرتها وأما ما يذكره بعضهم من أن أصل منبع النيل من مكان مرتفع أطلع عليه بعض الناس فرأى هناك هولا عظيما وجواري حسانا وأشياء غريبة وأن الذي أطلع على ذلك لا يمكنه الكلام بعد هذا فهو من خرافات المؤرخين وهذيانات الافاكين * وقد قال عبد الله بن لهيعة عن قيس بن الحجاج عمن حدثه قال " لما فتح عمرو بن عاص مصر أتى أهلها إليه حين دخل شهر بؤنة من أشهر العجم (القبطية) فقالوا: (أيها الامير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها فقال لهم وما ذاك قالوا إذا كان لثنتي عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الجلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو إن هذا لا يكون في الاسلام وأن الاسلام يهدم ما قبله فأقاموا بؤنة والنيل لا يجرى لا قليلا ولا كثيرا * وفي رواية فأقاموا بؤنة وأبيب ومسرى وهو لا يجري حتى هموا بالجلاء.
فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليه عمر إنك قد أصبت بالذي
فعلت وإني قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي هذا فألقها في النيل فلما قدم كتابه أخذ عمرو

البطاقة ففتحها فإذا فيها " من عند الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر (أما بعد) فان كنت تجري من قبلك فلا تجر وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله أن يجريك فألقى عمرو البطاقة في النيل فأصبح يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة وقطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم * وأما الفرات فأصلها من شمالي أررن الروم فتمر إلى قرب ملطيه ثم تمر على شميشاط.
ثم على البيرة قبليها ثم تشرق إلى بالس وقلعة جعبر ثم الرقة ثم إلى الرحبة شماليها ثم إلى عانة، ثم إلى هيت ثم إلى الكوفة ثم تخرج إلى فضاء العراق ويصب في بطائح كبار أي بحيرات وترد إليها ويخرج منها أنهار كبار معروفة.
وأما سيحان ويقال له سيحون أيضا فأوله من بلاد الروم ويجري من الشمال والغرب إلى الجنوب والشرق وهو غربي مجرى جيحان ودونه في القدر وهو ببلاد الارض التي تعرف اليوم ببلاد سيس وقد كانت في أول الدولة الاسلامية في أيدي المسلمين * فلما تغلب الفاطميون على الديار المصرية وملكوا الشام وأعمالها عجزوا عن صونها عن الاعداء فتغلب تقفور الارمني على هذه البلاد أعني بلاد سيس في حدود الثلاثمائة وإلى يومنا هذا.
والله المسؤل عودها إلينا بحوله وقوته.
ثم يجتمع سيحان وجيحان عند اذنه فيصيران نهرا واحدا.
ثم يصبان في بحر الروم بين أياس وطرسوس * وأما جيحان ويقال له جيحون أيضا وتسميه العامة جاهان.
وأصله في بلاد الروم ويسير في بلاد سيس من الشمال إلى الجنوب وهو يقارب الفرات في القدر * ثم يجتمع هو وسيحان عند اذنة فيصيران نهرا واحدا.
ثم يصبان في البحر عن إياس وطرسوس والله أعلم * فصل قال الله تعالى (الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر
الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى يدبر الامر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون * وهو الذي مد الارض فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى الليل النهار ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون * وفي الارض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل إن في ذلك لايات لقوم يعقلون) وقال تعالى (أمن خلق السموات والارض وأنزل لكم من السماء ماء فانبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون أمن جعل الارض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون) وقال تعالى (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه

تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) [ النحل 10 ] فذكر تعالى ما خلق في الارض من الجبال والاشجار والثمار والسهول والاوعار وما خلق من صنوف المخلوقات من الجمادات والحيوانات في البراري والقفار والبر والبحار ما يدل على عظمته وقدرته وحكمته ورحمته بخلقه وما سهل لكل دابة من الرزق الذي هي محتاجة إليه في ليلها ونهارها وصيفها وشتائها وصباحها ومائلها كما قال تعالى (وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين) [ هود: 6 ] وقد روى الحافظ أبو يعلى عن محمد بن المثنى عن عبيد بن واقد عن محمد بن عيسى بن كيسان عن محمد بن المنكدر عن جابر عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول خلق الله ألف أمة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر.
وأول شئ يهلك من هذه الامم الجراد فإذا هلك تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه.
(عبيد بن واقد) أبو عباد البصري ضعفه أبو حاتم وقال بن عدي عامة ما يرويه لا يتابع
عليه وشيخه أضعف منه.
قال الفلاس والبخاري منكر الحديث، وقال أبو زرعة لا ينبغي أن يحدث عنه.
وضعفه ابن حبان والدارقطني وأنكر عليه ابن عدي هذا الحديث بعينه وغيره والله أعلم * وقال تعالى (وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون) [ الانعام: 38 ].
ذكر ما يتعلق بخلق السموات وما فيهن من الآيات قد قدمنا أن خلق الارض قبل خلق السماء كما قال تعالى (هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شئ عليم) [ البقرة: 29 ] وقال تعالى (قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) [ فصلت: 9 ] وقال تعالى (أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والارض بعد ذلك دحاها) (1) فان الدحي غير الخلق، وهو بعد
__________
(1) سورة النازعات الآيات 27 -

خلق السماء وقال تعالى (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور * الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور.
ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير * ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير) [ الملك: 5 ] وقال تعالى (وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا) [ النبأ: 12 ] وقال تعالى (ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وجعل القمر فيهن نورا
وجعل الشمس سراجا) [ نوح: 15 ] وقال تعالى (الله الذي خلق سبع سموات والارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ علما) [ الطلاق: 12 ] وقال تعالى (تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا.
وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) [ الفرقان: 61 ] وقال تعالى (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملا الاعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب.
إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) [ الصافات: 6 ] وقال تعالى (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم.
إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) [ الحجر: 16 ] وقال تعالى (والسماء بنيناها بايد وإنا لموسعون) [ الانبياء: 32 ] وقال تعالى (وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) [ يس: 37 ] وقال تعالى: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون.
والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم.
والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) [ الانعام: 96 ] وقال تعالى (فالق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم.
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون) [ الاعراف: 54 ] وقال تعالى (إن ربكم الله الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين) [ الذاريات: 7 ] والآيات في هذا كثيرة جدا وقد تكلمنا على كل منها في التفسير * والمقصود أنه تعالى يخبر عن خلق السموات وعظمة إتساعها وإرتفاعها وأنها في غاية الحسن والبهاء والكمال والسناء كما قال تعالى (والسماء ذات الحبك) أي الخلق الحسن وقال تعالى
__________
= دحاها أي بسطها، وهذا يشير إلى كون الارض بعد السماء ; والعرب تقول: دحوت الشئ أدحوه دحوا:
بسطته.
وقيل: دحاها سواها وقيل دحاها: حرثها وشقها ومهدها الاقوات.


(فارجع البصر هلى ترى من فطور.
ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) [ الملك: 3 ] (1) أي خاسئا عن أن يرى فيها نقصا أو خللا وهو حسير أي كليل ضعيف ولو نظر حتى يعى ويكل ويضعف لما اطلع على نقص فيها ولا عيب لانه تعالى قد أحكم خلقها وزين بالكواكب أفقها كما قال (والسماء ذات البروج) [ البروج: 1 ] (2) أي النجوم * وقيل محال الحرس التي يرمي منها بالشهب لمسترق السمع ولا منافاة بين القولين وقال تعالى (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم) [ الحجر: 16 ] فذكر أنه زين منظرها بالكواكب الثوابت والسيارات (الشمس والقمر والنجوم الزاهرات) وأنه صان حوزتها عن حلول الشياطين بها وهذا زينة معنى * فقال وحفظناها من كل شيطان رجيم كما قال (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملا الاعلى) [ الصافات: 6 ].
قال البخاري في كتاب بدء الخلق وقال قتادة (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) [ فصلت: 12 ] خلق هذه النجوم الثلاث جعلها زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها فمن تأول بغير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به.
وهذا الذي قاله قتادة مصرح به في قوله تعالى (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) وقال تعالى (وهو الذى جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) [ الانعام: 97 ] فمن تكلف غير هذه الثلاث أي من علم أحكام ما تدل عليه حركاتها ومقارناتها في سيرها وأن ذلك يدل على حوادث أرضية فقد أخطأ.
وذلك أن أكثر كلامهم في هذا الباب ليس فيه إلا حدس وظنون كاذبة ودعاوى باطلة.
وذكر تعالى أنه خلق سبع سموات طباقا أي واحدة فوق واحدة * واختلف أصحاب الهيئة هل هن متراكمات أو متفاصلات بينهن خلاء على قولين.
والصحيح الثاني لما قدمنا من حديث عبد الله بن عميرة عن الاحنف عن العباس في حديث الاوعال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
أتدرون كم بين السماء والارض قلنا الله ورسوله أعلم، قال بينهما مسيرة خمسمائة عام.
ومن كل سماء إلى سماء خمسمائة سنة وكثف كل سماء خمسمائة سنة * الحديث بتمامه رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه * وفي الصحيحين من حديث أنس في حديث الاسراء قال فيه (ووجد في السماء الدنيا آدم فقال له جبرئيل هذا أبوك آدم فسلم عليه فرد عليه السلام.
وقال
__________
(1) سورة الملك الآية 3.
قال القرطبي 17 / 31 في الحبك سبعة أقوال: الخلق الحسن المستوي - ذات الزينة - ذات النجوم - ذات الطرائق - ذات الشدة - ذات الصفافة - المجرة التي في السماء.
(2) سورة البروج الآية 1.
قال القرطبي: ج 19 / 283 قسم أقسم به الله وجل وعز وفي البروج أربعة أقوال: النجوم - القصور - البروج فيها الحرس - البروج هي ذات الخلق الحسن - المنازل.


مرحبا وأهلا بابني نعم الابن أنت - إلى أن قال - ثم عرج إلى السماء الثانية * وكذا ذكر في الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة) فدل على التفاصل بينها لقوله ثم عرج بنا حتى أتينا السماء الثانية فاستفتح فقيل من هذا (الحديث) * وهذا يدل على ما قلناه والله أعلم.
وقد حكى ابن حزم وابن المنير وأبو الفرج ابن الجوزى وغير واحد من العلماء الاجماع على أن السموات كرة مستديرة * واستدل على ذلك بقوله كل في فلك يسبحون.
قال الحسن يدورون، وقال ابن عباس في فلكة مثل فلكة المغزل.
قالوا ويدل على ذلك أن الشمس تغرب كل ليلة من المغرب ثم تطلع في آخرها من المشرق كما قال أمية ابن أبي الصلت.
والشمس تطلع كل آخر ليلة * حمراء مطلع لونها متورد * تأبى فلا تبدو لنا في رسلها * إلا معذبة وإلا تجلد فأما الحديث الذي رواه البخاري حيث قال حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن الاعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابي ذر حين غربت الشمس تدرى أين تذهب قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها
تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها.
يقال لها إرجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) [ يس: 38 ].
هذا لفظه في بدء الخلق ورواه في التفسير * وفي التوحيد من حديث الاعمش أيضا ورواه مسلم في الايمان من طريق الاعمش ومن طريق يونس بن عبيد وأبو داود من طريق الحكم بن عتبة كلهم عن إبراهيم بن يزيد بن شريك عن أبيه عن أبي ذر به نحوه.
وقال الترمذي حسن صحيح * إذا علم هذا فإنه حديث لا يعارض ما ذكرناه من إستدارة الافلاك التي هي السموات على أشهر القولين ولا يدل على كرية العرش كما زعمه زاعمون.
قد أبطلنا قولهم فيما سلف ولا يدل على أنها تصعد إلى فوق السموات من جهتنا حتى تسجد تحت العرش بل هي تغرب عن أعيننا وهي مستمرة في فلكها الذي هي فيه وهو الرابع فيما قاله غير واحد من علماء التفسير.
وليس في الشرع ما ينفيه بل في الحس وهو الكسوفات ما يدل عليه ويقتضيه فإذا ذهبت فيه حتى تتوسطه وهو وقت نصف الليل مثلا في إعتدال الزمان بحيث يكون بين القطبين الجنوبي والشمالي فإنها تكون أبعد ما يكون من العرش لانه مقبب من جهة وجه العالم وهذا محل سجودها كما يناسبها كما أنها أقرب ما تكون من العرش وقت الزوال من جهتنا فإذا كانت في محل سجودها استأذنت الرب جل جلاله في طلوعها من الشرق فيؤذن لها فتبدو من جهة الشرق وهي مع ذلك كارهة لعصاة بني آدم أن تطلع عليهم ولهذا قال أمية.
تأبى فلا تبدو لنا في رسلها * إلا معذبة وإلا تجلد فإذا كان الوقت الذي يريد الله طلوعها من جهة مغربها تسجد على عادتها وتستأذن في

الطلوع من عادتها فلا يؤذن لها فجاء أنها تسجد أيضا ثم تستأذن فلا يؤذن لها ثم يسجد فلا يؤذن لها وتطول تلك الليلة كما ذكرنا في التفسير، فتقول يا رب إن الفجر قد اقترب وأن المدى بعيد فيقال لها إرجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فإذا رآها الناس آمنوا جميعا.
وذلك حين لا ينفع نفسا
إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، وفسروا بذلك قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها) قيل لوقتها الذي تؤمر فيه تطلع من مغربها * وقيل مستقرها موضعها الذي تسجد فيه تحت العرش.
وقيل منتهى سيرها وهو آخر الدنيا.
وعن ابن عباس أنه قرأ والشمس تجري لا مستقر لها أي ليست تستقر فعلى هذا تسجد وهي سائرة.
ولهذا قال تعالى (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) أي لا تدرك الشمس القمر فتطلع في سلطانه ودولته ولا هو أيضا ولا الليل سابق النهار أي ليس سابقه بمسافة يتأخر ذاك عنه فيها بل إذا ذهب النهار جاء الليل في أثره متعقبا له كما قال في الآية الاخرى (يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين) وقال تعالى (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) [ الفرقان: 62 ] أي يخلف هذا لهذا وهذا لهذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " فالزمان المحقق ينقسم إلى ليل ونهار وليس بينهما غيرهما * ولهذا قال تعالى (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى) [ لقمان: 29 ] فيولج من هذا في هذا، أي يأخذ من طول هذا في قصر هذا فيعتدلان كما في أول فصل الربيع يكون الليل قبل ذلك طويلا والنهار قصيرا فلا يزال الليل ينقص والنهار يتزايد حتى يعتدلا وهو أول الربيع * ثم يشرع النهار يطول ويتزايد والليل يتناقص حتى يعتدلا أيضا في أول فصل الخريف * ثم يشرع الليل يطول ويقصر النهار إلى آخر فصل الخريف * ثم يترجح النهار قليلا قليلا ويتناقص الليل شيئا فشيئا حتى يعتدلا في أول فصل الربيع كما قدمنا، وهكذا في كل عام.
ولهذا قال تعالى (وله اختلاف الليل والنهار) [ المؤمنون: 80 ] أي هو المتصرف في ذلك كله الحاكم الذي لا يخالف ولا يمانع ولهذا يقول في ثلاث آيات (1) عند ذكر السموات والنجوم والليل والنهار (ذلك تقدير العزيز العليم) أي العزيز الذي قد قهر كل شئ ودان له كل شئ فلا يمانع ولا يغالب العليم بكل شئ فقدر كل شئ تقديرا
على نظام لا يختلف ولا يضطرب.
وقد ثبت في الصحيحين (2) من حديث سفيان بن عيينة عن
__________
(1) يقول تعالى: (والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم) الانعام 96.
(والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) يس 38.
(وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم فصلت 12.
(2) رواه مسلم في 40 كتاب الالفاظ من الادب - 1 - باب النهي عن سب الدهر ح 2246 / ص 1762 والبخاري ح

الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الامر أقلب الليل والنهار " وفي رواية فأنا الدهر أقلب ليله ونهاره * قال العلماء كالشافعي وأبي عبيد القاسم بن سلام وغيرهما يسب الدهر أي يقول فعل بنا الدهر كذا يا خيبة الدهر، أيتم الاولاد، أرمل النساء.
قال الله تعالى (وأنا الدهر) أي أنا الدهر الذي يعنيه فإنه فاعل ذلك الذي أسنده إلى الدهر والدهر مخلوق، وإنما فعل هذا هو الله فهو يسب فاعل ذلك ويعتقده الدهر.
والله هو الفاعل لذلك الخالق لكل شئ المتصرف في كل شئ كما قال وأنا الدهر بيدي الامر أقلب ليله ونهاره وكما قال تعالى (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير * تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب) [ آل عمران: 27 ] وقال تعالى (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب.
ما خلق الله ذلك إلا بالحق.
يفصل الآيات لقوم يعلمون إن في إختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والارض لآيات لقوم يتقون) [ يونس: 5.
6 ] أي فاوت بين الشمس والقمر في نورهما وفي شكلهما وفي وقتهما وفي سيرهما فجعل هذا ضياء وهو شعاع الشمس برهان ساطع وضوء باهر والقمر نورا أي أضعف من برهان الشمس وجعله مستفادا من ضوئها وقدره منازل أي يطلع أول ليلة من الشهر صغيرا ضئيلا قليل النور لقربه من الشمس وقلة مقابلته لها فبقدر مقابلته لها يكون نوره ولهذا في الليلة الثانية يكون
أبعد منها بضعف ما كان في الليلة الاولى فيكون نوره بضعف النور أول ليلة * ثم كلما بعد إزداد نوره حتى يتكامل إبداره ليلة مقابلته إياها من المشرق وذلك ليلة أربع عشرة من الشهر * ثم يشرع في النقص لاقترابه إليها من الجهة الاخرى إلى آخر الشهر فيستتر حتى يعود كما بدأ في أول الشهر الثاني.
فبه تعرف الشهور وبالشمس تعرف الليالي والايام وبذلك تعرف السنين والاعوام ولهذا قال تعالى (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) وقال تعالى (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شئ فصلناه تفصيلا) [ الاسراء: 12 ] وقال تعالى (يسألونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس والحج) [ البقرة: 189 ].
وقد بسطنا القول على هذا كله في التفسير.
فالكواكب التي في السماء منها سيارات وهي المتخيرة في إصطلاح علماء التفسير وهو علم غالبه صحيح بخلاف علم الاحكام فإن غالبه باطل
__________
= رقم 2042.
وعند مسلم بيدي الليل والنهار بدل بيدي الامر.
أنا الدهر: قال العلماء هو مجاز وسببه أن العرب كان من شأنها أن تسب الدهر عند النوازل والحوادث والمصائب النازلة بها.
وأما الدهر بمعنى الزمان فلا فعل له بل مخلوق من جملة خلق الله.


ودعوى ما لا دليل عليه وهي سبعة.
القمر في سماء الدنيا وعطارد في الثانية والزهرة في الثالثة والشمس في الرابعة والمريخ في الخامسة والمشتري في السادسة وزحل في السابعة.
وبقية الكواكب يسمونها الثوابت وهي عندهم في الفلك الثامن وهو الكرسي في إصطلاح كثير من المتأخرين.
وقال آخرون بل الكواكب كلها في السماء الدنيا ولا مانع من كون بعضها فوق بعض * وقد يستدل على هذا بقوله تعالى (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) (1) وبقوله [ تعالى ]: (فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) [ فصلت: 12 ] فخص سماء الدنيا من بينهن بزينة الكواكب فإن دل هذا على كونها مرصعة فيها فذاك وإلا فلا مانع مما قاله الآخرون والله أعلم.
وعندهم أن الافلاك السبعة بل الثمانية تدور بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات تدور على خلاف فلكه من المغرب إلى المشرق.
فالقمر يقطع فلكه في شهر والشمس تقطع فلكها وهو الرابع في سنة.
فإذا كان السيران ليس بينهما تفاوت وحركاتهما متقاربة كان قدر السماء الرابعة بقدر السماء الدنيا ثنتي عشرة مرة وزحل يقطع فلكه وهو السابع في ثلاثين سنة فعلى هذا يكون بقدر السماء الدنيا ثلثمائة وستين مرة * وقد تكلموا على مقادير أجرام هذه الكواكب وسيرها وحركاتها وتوسعوا في هذه الاشياء حتى تعدوا إلى علم الاحكام وما يترتب على ذلك من الحوادث الارضية ومما لا علم لكثير منهم به.
وقد كان اليونانيون الذين كانوا يسكنون الشام قبل زمن المسيح عليه السلام بدهور لهم في هذا كلام كثير يطول بسطه، وهم الذين بنوا مدينة دمشق وجعلوا لها أبوابا سبعة وجعلوا على رأس كل باب هيكلا على صفة الكواكب السبعة، يعبدون كل واحد في هيكله، ويدعونه بدعاء يأثره عنهم غير واحد من أهل التواريخ وغيرهم.
وذكره صاحب السر المكتوم في مخاطبة الشمس والقمر والنجوم وغيره من علماء الحرنانيين (2) (فلاسفة حران في قديم الزمان).
وقد كانوا مشركين يعبدون الكواكب السبعة وهم طائفة من الصابئين * ولهذا قال الله تعالى (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) [ فصلت: 37 ] وقال تعالى إخبارا عن الهدهد أنه قال لسليمان عليه السلام مخبرا عن بلقيس وجنودها ملكة سبأ في اليمن وما والاها (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون.
أن لا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والارض ويعلم ما يخفون وما يعلنون.
الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) [ النمل: 23 ] وقال تعالى
__________
(1) سورة الملك الآية 5.
(2) الحرنانيين: علماء حران، حران بتشديد الراء وآخره نون اسم بلد وهو فعال، ويجوز أن يكون فعلان والنسبة إليه حرناني، وحراني على ما عليه العامة وهو القياس (معجم البلدان - لسان العرب مادة حرن).


(ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء) [ الحج: 18 ] وقال تعالى (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون * ولله يسجد ما في السموات وما في الارض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) [ النحل: 48 ] وقال تعالى (والله يسجد من في السموات والارض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) [ الرعد: 15 ] وقال تعالى (تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن وإن من شئ الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا) [ الاسراء: 44 ] والآيات في هذا كثيرة جدا.
ولما كان أشرف الاجرام المشاهدة في السموات والارض هي الكواكب وأشرفهن منظرا وأشرفهن معتبرا الشمس والقمر استدل الخليل على بطلان آلهية شئ منهن.
وذلك في قوله تعالى (فلما جن الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين) [ الانعام: 76 ] أي الغائببين (فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين.
فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون.
إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وما أنا من المشركين) [ الانعام: 77 ] فبين بطريق البرهان القطعي أن هذه الاجرام المشاهدات من الكواكب والقمر والشمس لا يصلح شئ منها للالهية لانها كلها مخلوقة مربوبة مدبرة مسخرة في سيرها لا تحيد عما خلقت له ولا تزيغ عنه إلا بتقدير متقن محرر لا تضطرب ولا تختلف * وذلك دليل على كونها مربوبة مصنوعة مسخرة مقهورة ولهذا قال تعالى (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسحدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) (1) وثبت في الصحيحين في صلاة الكسوف من حديث ابن عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال في خطبته يومئذ: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزوجل وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته " (2).
وقال البخاري في بدء الخلق حدثنا مسدد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله الداناج
__________
(1) سورة فصلت الآية 37.
(2) صحيح مسلم 10 كتاب الكسوف - 1 - باب صلاة الكسوف ح 901 ص 618 وما بعدها وصحيح البخاري ح رقم: 584.
يقال كسفت الشمس والقمر، وكسفا، وانكسفا وخسفا وخسفا وانخسفا بمعنى وجمهور أهل اللغة وغيرهم على أن الخسوف والكسوف يكون لذهاب ضوئهما كله أو بعضه.


حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الشمس والقمر مكوران يوم القيامة " انفرد به البخاري * وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار بأبسط من هذا السياق.
فقال: حدثنا إبراهيم بن زياد البغدادي حدثنا يونس بن محمد حدثنا عبد العزيز بن المختار عن عبد الله الداناج سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن زمن خالد بن عبد الله القسري في هذا المسجد مسجد الكوفة وجاء الحسن فجلس إليه فحدث قال حدثنا أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الشمس والقمر ثوران في النار يوم القيامة فقال الحسن وما دينهما فقال أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول وما دينهما ثم قال البزار لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه ولم يرو عبد الله الداناج عن أبي سلمة سوى هذا الحديث * وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي من طريق يزيد الرقاشي وهو ضعيف عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشمس والقمر ثوران عقيران في النار ".
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الاشج وعمر بن عبد الله الازدي حدثنا أبو أسامة عن مجالد عن شيخ من بجيلة عن ابن عباس (إذا الشمس كورت).
قال يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر ويبعث الله ريحا دبورا فتضرمها نارا.
فدلت هذه الآثار على أن الشمس والقمر من مخلوقات الله خلقها الله لما أراد * ثم يفعل فيها ما يشاء، وله الحجة الدافعة والحكمة البالغة فلا يسأل عما يفعل لعلمه
وحكمته وقدرته ومشيئته النافذة وحكمه الذي لا يرد ولا يمانع ولا يغالب * وما أحسن ما أورده الامام محمد بن إسحاق بن يسار في أول كتاب السيرة من الشعر لزيد بن عمرو بن نفيل في خلق السماء والارض والشمس والقمر وغير ذلك * قال ابن هشام هي لامية ابن أبي الصلت.
إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا * وقولا رضيا لا يني الدهر باقيا (1) إلى الملك الاعلى الذي ليس فوقه * إله ولا رب يكون مدانيا ألا أيها الانسان إياك والردى * فإنك لا تخفي من الله خافيا (2) وإياك لا تجعل مع الله غيره * فإن سبيل الرشد أصبح باديا حنانيك إن الجن كانت رجاءهم * وأنت إلهي ربنا ورجائيا (3) رضيت بك اللهم ربا فلن أرى * أدين إلها غيرك الله ثانيا (4) وأنت الذي من فضل من ورحمة * بعثت إلى موسى رسولا مناديا فقلت له إذهب وهرون فادعوا * إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
__________
(1) في ابن هشام: رصينا بدل رضيا، والرصين: الثابت.
(2) الردى: الهلاك والموت، والمراد هنا تحذير الانسان مما يأتي به الموت وما يكشفه من جزاء الاعمال.
(3) حنانيك: أي حنانا بعد حنان، يريد التكرار وليس الاقتصار على اثنين فقط ; ويقال: حنانا في الدنيا وآخر في الآخرة.
(4) بعده في الاغاني: أدين لرب يستجاب ولا أرى * أدين لمن لم يسمع الدهر داعيا

وقولا له آأنت سويت هذه * بلا وتد حتى اطمأنت كما هيا (1) وقولا له آأنت رفعت هذه * بلا عمد ارفق إذا بك بانيا (2) وقولا له آأنت سويت وسطها * منيرا إذا ماجنه الليل هاديا وقولا له من يرسل الشمس غدوة * فيصبح ما مست من الارض ضاحيا
وقولا له من ينبت الحب في الثرى * فيصبح منه البقل يهتز رابيا ويخرج منه حبه في رؤسه * وفي ذاك آيات لمن كان واعيا وأنت بفضل منك نجيت يونسا * وقد بات في أضعاف حوت لياليا وإني [ و ] لو سبحت باسمك ربنا * لاكثر إلا ما غفرت خطائيا (3) فرب العباد ألق سيبا ورحمة * علي وبارك في بني وماليا فإذا علم هذا فالكواكب التي في السماء من الثوابت والسيارات الجميع مخلوقة خلقها الله تعالى كما قال [ تعالى ]: (وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) (4) وأما ما يذكره كثير من المفسرين في قصة هاروت وماروت من أن الزهرة كانت امرأة فراوداها على نفسها فأبت إلا أن يعلماها الاسم الاعظم فعلماها فقالته فرفعت كوكبا إلى السماء فهذا أظنه من وضع الاسرائيليين وإن كان قد أخرجه كعب الاحبار وتلقاه عنه طائفة من السلف فذكروه على سبيل الحكاية والتحديث عن بني إسرائيل.
وقد روى الامام أحمد وابن حبان في صحيحه في ذلك حديثا رواه أحمد عن يحيى بن بكير عن زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر القصة بطولها * وفيه: " فمثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءتهما فسألاها نفسها " وذكر القصة.
وقد رواه عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن كعب الاحبار به.
وهذا أصح وأثبت.
وقد روى الحاكم في مستدركه وابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس فذكره وقال فيه وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب وذكر تمامه * وهذا أحسن لفظ روي في هذه القصة والله أعلم.
وهكذا الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن عبد الملك الواسطي حدثنا يزيد بن هرون حدثنا مبشر بن عبيد عن يزيد بن أسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدثنا عمرو بن عيسى حدثنا عبد الاعلى حدثنا إبرهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر سهيلا فقال: " كان عشارا ظلوما فمسخه الله شهابا " ثم قال لم يروه عن
__________
(1) هذه: يريد الارض.
(2) هذه: المراد السماء.
(3) المراد: إني لاكثر من الدعاء: باسمك ربنا إلا ما غفرت..وما " زائدة.
والتسبيح هنا: الصلاة أي: أنا لا اعتمد في صلاتي إلا على دعائك واستغفارك.
(4) سورة فصلت الاية 12.


زيد بن أسلم إلا مبشر بن عبيد وهو ضعيف الحديث ولا عن عمرو بن دينار إلا إبراهيم بن يزيد وهو لين الحديث * وإنما ذكرناه على ما فيه من علة لانا لم نحفظه إلا من هذين الوجهين (قلت) أما مبشر بن عبيد القرشي فهو أبو حفص الحمصي وأصله من الكوفة.
فقد ضعفه الجميع وقال فيه الامام أحمد والدارقطني كان يضع الحديث ويكذب وأما إبراهيم بن يزيد فهو الخوزي (1) وهو ضعيف باتفاقهم * قال فيه أحمد والنسائي متروك.
وقال ابن معين ليس بثقة وليس بشئ * وقال البخاري سكتوا عنه.
وقال أبو حاتم وأبو زرعة منكر الحديث ضعيف الحديث.
ومثل هذا الاسناد لا يثبت به شئ بالكلية.
وإذا أحسنا الظن قلنا هذا من أخبار بني إسرائيل كما تقدم من رواية ابن عمر عن كعب الاحبار.
ويكون من خرافاتهم التي لا يعول عليها والله أعلم.
المجرة وقوس قزح قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا عارم أبو النعمان (2) حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن هرقل كتب إلى معاوية وقال إن كان بقي فيهم شئ من النبوة فسيخبرني عما أسألهم عنه.
قال فكتب إليه يسأله عن المجرة وعن القوس وعن بقعة لم تصبها الشمس إلا ساعة واحدة.
قال فلما أتى معاوية الكتاب والرسول قال إن هذا الشئ ما كنت آبه له أن أسأل عنه إلى يومي هذا من لهذا ؟ قيل: ابن عباس فطوى معاوية كتاب هرقل فبعث به إلى ابن عباس فكتب إليه " أن القوس أمان لاهل الارض من الغرق.
والمجرة باب السماء الذي تنشق منه الارض.
وأما البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة من النهار فالبحر الذي أفرج عن بني إسرائيل وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنه * فأما الحديث الذي رواه الطبراني
حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج حدثنا إبراهيم بن مخلد حدثنا الفضل بن المختار عن محمد بن مسلم الطائفي عن ابن أبي يحيى عن مجاهد عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا معاذ إني مرسلك إلى قوم أهل كتاب فإذا سئلت عن المجرة التي في السماء فقل هي لعاب حية تحت العرش " فإنه حديث منكر جدا بل الاشبه أنه موضوع وراويه الفضل بن المختار هذا أبو سهل البصري * ثم انتقل إلى مصر قال فيه أبو حاتم الرازي هو مجهول حدث بالاباطيل.
وقال الحافظ أبو الفتح الازدي منكر الحديث جدا.
وقال ابن عدي لا يتابع على أحاديثه لا متنا ولا إسنادا
__________
(1) الخوزي بضم الخاء، أبو اسماعيل المكي مولى بني أمية متروك الحديث مات سنة 151 ه.
والخوزي ينسب إلى الخوز: شعب بمكة يسمى شعب الخوز - وليس منسوبا إلى خوزستان قال البخاري: سكتوا عنه وقال أحمد: متروك، تقريب التهذيب ج 1 / 46.
وقال الذهبي: مكى واه الكاشف ج 1 / 51.
(2) هو محمد بن الفضل السدوسي لقبه عارم، أبو الفضل البصري ثقة ثبت تغير في آخر عمره (تقريب التهذيب 2 / 200) وفي الصحيحين: أبو النعمان.
(والعجلي) في ثقات العجلي: ليس يعرف إلا بعارم متفق على توثيقه (2 ص 411).


وقال الله تعالى (هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال) [ الرعد: 12 ] وقال تعالى (إن في خلق السموات والارض وإختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون) [ البقرة: 164 ] وروى الامام أحمد عن يزيد بن هرون عن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن شيخ من بني غفار قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله ينشئ السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك " وروى موسى بن عبيدة بن سعد بن إبرهيم أنه قال إن نطقه الرعد وضحكه البرق.
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام عن عبيدالله الرازي عن
محمد بن مسلم قال بلغنا أن البرق ملك له أربعة وجوه وجه إنسان ووجه ثور ووجه نسر ووجه أسد فإذا مصع بذنبه فذاك البرق * وقد روى الامام أحمد والترمذي والنسائي والبخاري في كتاب الادب والحاكم في مستدركه من حديث الحجاج بن أرطأة حدثني ابن مطر عن سالم عن أبيه قال كان رسول الله إذا سمع الرعد والصواعق قال (اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك * وروى ابن جرير من حديث ليث عن رجل عن أبي هريرة رفعه كان إذا سمع الرعد قال: " سبحان من يسبح الرعد بحمده " وعن علي أنه كان يقول (سبحان من سبحت له) وكذا عن ابن عباس والاسود بن يزيد وطاوس وغيرهم * وروى مالك عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال سبحان ممن يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويقول (إن هذا وعيد شديد لاهل الارض * وروى الامام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال ربكم لو أن عبيدي أطاعوني لاسقيتهم المطر بالليل وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ولما أسمعتهم صوت الرعد فاذكروا الله فإنه لا يصيب ذاكرا " * وكل هذا مبسوط في التفسير ولله الحمد والمنة * باب ذكر خلق الملائكة وصفاتهم قال الله تعالى (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين) [ الانبياء: 26 ] وقال تعالى (تكاد السموات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الارض ألا إن الله هو الغفور الرحيم) [ الشورى: 5 ] وقال تعالى (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم * ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم) وقال تعالى (فان استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون)

[ غافر: 7 ] وقال (ومن عنده لا يستكبرون.
عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون) [ الانبياء: 19 ] وقال تعالى: (وما منا إلا له مقام معلوم.
وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون) [ الصافات: 165 ] وقال تعالى: (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا) [ مريم: 64 ] وقال تعالى (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) [ الانفطار: 12 ] وقال تعالى (وما يعلم جنود ربك إلا هو) [ المدثر: 31 ] وقال تعالى (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) [ الرعد: 23 ] وقال تعالى (الحمد لله فاطر السموات والارض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شئ قدير) [ فاطر: 1 ] وقال تعالى (يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا * الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا) [ الفرقان: 25 ] وقال تعالى (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا) [ الفرقان: 21 ] وقال تعالى (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فان الله عدو للكافرين) [ البقرة: 98 ] وقال تعالى (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) [ التحريم: 6 ] والآيات في ذكر الملائكة كثيرة جدا يصفهم تعالى بالقوة في العبادة وفي الخلق وحسن المنظر وعظمة الاشكال وقوة الشكل في الصور المتعددة كما قال تعالى: (ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب * وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات) [ هود: 76 ] الآيات فذكرنا في التفسير ما ذكره غير واحد من العلماء من أن الملائكة تبدوا لهم في صورة شباب حسان إمتحانا واختبارا حتى قامت على قوم لوط الحجة وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر * وكذلك كان جبريل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صفات متعددة فتارة يأتي في صورة دحية بن خليفة الكلبي (1) وتارة في صورة أعرابي وتارة في صورته التي خلق عليها.
له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين
المشرق والمغرب كما رآه على هذه الصفة مرتين.
مرة منهبطا من السماء إلى الارض.
وتارة عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى.
وهو قوله تعالى (علمه شديد القوى.
ذو مرة فاستوى.
وهو بالافق الاعلى.
ثم دنا فتدلى) (2) أي جبريل (3) كما ذكرناه عن غير واحد من الصحابة * منهم ابن مسعود وأبو هريرة وأبو ذر وعائشة (فكان قاب قوسين أو أدنى.
فأوحى إلى عبده ما
__________
(1) دحية بن خليفة الكلبي: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد أحدا وما بعدها وكان جبريل يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته أحيانا وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر رسولا سنة ست في الهدنة.
(3) سورة النجم الآيات 5 - 8.
(3) أما الحسن فيقول هو الله عزوجل.
القرطبي 17 / 85 قال: هو جبريل في قول سائر المفسرين.


أوحى) (1) أي إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ثم قال [ تعالى ]: (ولقد رآه نزلة أخرى.
عند سدرة المنتهى.
عندها جنة المأوى.
إذ يغشى السدرة ما يغشى.
ما زاغ البصر وما طغى) (2) وقد ذكرنا في أحاديث الاسراء في سورة سبحان أن سدرة المنتهى في السماء السابعة * وفي رواية في السادسة أي أصلها وفروعها في السابعة فلما غشيها من أمر الله ما غشيها * قيل غشيها نور الرب جل جلاله * وقيل غشيها فراش (3) من ذهب * وقيل غشيها ألوان متعددة كثيرة غير منحصرة * وقيل غشيها الملائكة مثل الغربان * وقيل غشيها من نور الله تعالى فلا يستطيع أحد أن ينعتها * أي من حسنها وبهائها.
ولا منافاة بين هذه الاقوال إذ الجميع ممكن حصوله في حال واحدة * وذكرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها كالقلال * " وفي رواية " كقلال هجر وإذا ورقها كآذان الفيلة " وإذا يخرج من أصلها نهران باطنان ونهران ظاهران.
فأما الباطنان ففي الجنة.
وأما الظاهران فالنيل والفرات * وتقدم الكلام على هذا في ذكر خلق الارض وما فيها من البحار والانهار * وفيه " ثم رفع لي البيت المعمور وإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم " * وذكر أنه وجد إبراهيم الخليل عليه السلام مستندا ظهره إلى البيت المعمور.
وذكرنا وجه المناسبة في هذا أن البيت المعمور هو في السماء السابعة بمنزلة الكعبة في
الارض * وقد روى سفيان الثوري وشعبة وأبو الاحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة أن ابن الكوا سأل علي بن أبي طالب عن البيت المعمور فقال هو مسجد في السماء يقال له الضراح، وهو بحيال الكعبة من فوقها.
حرمته في السماء كحرمة البيت في الارض يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة لا يعودون إليه أبدا * وهكذا روى علي بن ربيعة وأبو الطفيل عن علي مثله * وقال الطبراني أنبأنا الحسن بن علوية القطان حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار حدثنا إسحاق بن بشر أبو حذيفة حدثنا ابن جريج عن صفوان بن سليم عن كريب عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البيت المعمور في السماء يقال له الضراح وهو على مثل البيت الحرام بحياله لو سقط لسقط عليه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يرونه قط فإن له في السماء حرمة على قدر حرمة مكة ".
يعنى في الارض وهكذا قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والربيع بن أنس والسدي وغير واحد * وقال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لاصحابه: هل تدرون ما البيت المعمور قالوا الله ورسوله أعلم * قال قال مسجد في السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم * وزعم الضحاك أنه تعمره طائفة من الملائكة يقال لهم الجن من قبيلة إبليس لعنه الله كان يقول سدنته وخدامه منهم والله أعلم * وقال آخرون: في كل سماء بيت يعمره ملائكته بالعبادة فيه ويفدون إليه بالنوبة والبدل كما
__________
(1) سورة النجم الايتان 9 - 10.
(2) سورة النجم الآيات 13 - 17.
(3) وقيل جراد عن أنس بن مالك، القرطبي / - الفخر الرازي.


يعمر أهل الارض البيت العتيق بالحج في كل عام والاعتمار في كل وقت والطواف والصلاة في كل آن * قال سعيد بن يحيى بن سعيد الاموي في أوائل كتابه المغازي * حدثنا أبو عبيد في حديث مجاهد " أن الحرم حرم مناه (يعني قدره) من السموات السبع والارضين السبع وأنه رابع أربعة عشر بيتا في كل سماء بيت وفي كل أرض بيت لو سقطت سقط بعضها على بعض " ثم روى مجاهد
قال مناه أي مقابله وهو حرف مقصور.
ثم قال حدثنا أبو معاوية حدثنا الاعمش عن أبي سليمان مؤذن الحجاج سمعت عبد الله بن عمرو يقول " إن الحرم محرم في السموات السبع مقداره من الارض - وإن بيت المقدس مقدس في السموات السبع مقداره من الارض كما قال بعض الشعراء.
إن الذي سمك السماء بنى لها * بيتا دعائمه أشد وأطول واسم البيت الذي في السماء بيت العزة * واسم الملك الذي هو مقدم الملائكة فيها إسماعيل * فعلى هذا يكون السبعون ألفا من الملائكة الذين يدخلون في كل يوم إلى البيت المعمور ثم لا يعودون إليه.
آخر ما عليهم (أي لا يحصل لهم نوبة فيه إلى آخر الدهر) يكونون من سكان السماء السابعة وحدها.
ولهذا قال تعالى (وما يعلم جنود ربك إلا هو) (1) وقال الامام أحمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن مورق (2) عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد لو علمتم ما اعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عزوجل " (3) فقال أبو ذر (والله لوددت أني شجرة تعضد) ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث إسرائيل فقال الترمذي حسن غريب ويروى عن أبي ذر موقوفا * وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا حسين بن عرفة المصري حدثنا عروة بن عمران الرقي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم بن مالك عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما في السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا ما عبدناك حق عبادتك إلا أنا لا نشرك بك شيئا ".
فدل هذان الحديثان على أنه ما من موضع في السموات السبع إلا وهو مشغول بالملائكة وهم في صنوف من العبادة.
منهم من هو قائم أبدا.
ومنهم من هو راكع أبدا ومنهم من هو ساجد أبدا ومنهم من هو في صنوف أخر والله أعلم بها.
وهم دائمون في عبادتهم وتسبيحهم وأذكارهم وأعمالهم التي أمرهم الله بها، ولهم منازل عند ربهم كما قال تعالى (وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن
__________
(1) سورة المدثر الآية 31.
(2) مورق بتشديد الراء، بن مشمدخ بن عبد الله العجلي، أبو المعتمر البصري ثقة عابد مات بعد المائة / تقريب التهذيب 2 / 280.
(3) مسند أحمد ج 5 / 173.


المسبحون) (1) وقال صلى الله عليه وسلم: " ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها * قالوا وكيف يصفون عند ربهم قال يكملون الصف الاول ويتراصون في الصف " (2) * وقال صلى الله عليه وسلم: (فضلنا على الناس بثلاث * جعلت لنا الارض مسجدا وتربتها لنا طهورا وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة) (3).
وكذلك يأتون يوم القيامة بين يدي الرب جل جلاله صفوفا كما قال تعالى (وجاء ربك والملك صفا صفا) (4) ويقفون صفوفا بين يدي ربهم عز وجل يوم القيامة كما قال تعالى (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) (5) * والمراد بالروح ههنا بنو آدم قاله ابن عباس والحسن وقتادة * وقيل ضرب من الملائكة يشبهون بني آدم في الشكل * قاله ابن عباس ومجاهد وأبو صالح والاعمش * وقيل جبرئيل * قاله الشعبي وسعيد بن جبير والضحاك * وقيل ملك يقال له الروح بقدر جميع المخلوقات * قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (يوم يقوم الروح) قال هو ملك من أعظم الملائكة خلقا (6) * وقال ابن جرير حدثني محمد بن خلف العسقلاني حدثنا داود ابن الجراح عن أبي حمزة عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود قال الروح في السماء الرابعة هو أعظم السموات والجبال ومن الملائكة يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة يخلق الله من كل تسبيحة ملكا من الملائكة يحيي يوم القيامة صفا وحده * وهذا غريب جدا * وقال الطبراني حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكيم المصري حدثنا ابن وهب بن رزق أبو هبيرة حدثنا بشر بن بكر حدثنا الاوزاعي حدثني عطاء عن عبد الله بن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن لله ملكا لو قيل له التقم السموات والارضين بلقمة واحدة لفعل.
تسبيحه سبحانك حيث كنت " وهذا أيضا حديث غريب جدا * وقد يكون موقوفا * وذكرنا في
صفة حملة العرش عن جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام " رواه أبو داود
__________
(1) سورة الصافات الآيات 165.
(2) أخرجه مسلم في الصلاة ح 119 - وأبو داود في الصلاة 93 - 96 - 65، والنسائي في الامامة 28 - وابن ماجة في الاقامة ح 50 والامام أحمد في مسنده 2 / 98 و 5 / 101.
(3) أخرجه مسلم عن حذيفة بن اليمان - 5 - كتاب المساجد ح 4 / ص (1 / 371) والبيهقي في الدلائل ج 5 / 475 عن حذيفة.
وفيه: فضلت على الناس.
(4) سورة الفجر الآية 22.
(5) سورة النبأ الآية 38.
(6) قال القرطبي ج 19 / 187: اختلف في الروح على أقوال ثمانية:..وذكر منها: عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الروح جند من جنود الله ليسوا بملائكة لهم رؤوس وأيد وأرجل ".
فهم خلق على صورة بني آدم كالناس وليسوا بناس.
وقيل الروح: أرواح بني آدم.
قاله عطبة.
وقيل القرآن عن زيد بن أسلم.


وابن أبي حاتم ولفظه مخفق الطير سبعمائة عام.
وقد ورد في صفة جبريل عليه السلام أمر عظيم قال الله تعالى (علمه شديد القوى) قالوا كان من شدة قوته أنه رفع مدائن قوم لوط وكن سبعا بمن فيها من الامم وكانوا قريبا من أربعمائة ألف وما معهم من الدواب والحيوانات وما لتلك المدن من الاراضي والمعتملات والعمارات وغير ذلك * رفع ذلك كله على طرف جناحه حتى بلغ بهن عنان السماء حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب وصياح ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها فهذا هو شديد القوى.
وقوله (ذو مرة) أي خلق حسن وبهاء وسناء كما قال في الآية الاخرى (إنه لقول رسول كريم) [ الحاقة: 40 ]
أي جبريل رسول من الله كريم أي حسن المنظر (ذي قوة) أي له قوة وبأس شديد (عند ذي العرش مكين) أي له مكانة ومنزلة عالية رفيعة عند الله (ذي العرش المجيد) مطاع ثم أي مطاع في الملا الاعلى أمين أي ذي أمانة عظيمة ولهذا كان هو السفير بين الله وبين أنبيائه عليهم السلام الذي ينزل عليهم بالوحي.
فيه الاخبار الصادقة والشرائع العادلة * وقد كان يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وينزل عليه في صفات متعددة كما قدمنا.
وقد رآه على صفته التي خلقه الله عليها مرتين * له ستمائة جناح كما روى البخاري عن طلق بن غنام عن زائدة الشيباني قال سألت زرا عن قوله (فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى) قال حدثنا عبد الله يعني ابن مسعود أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح.
وقال الامام أحمد (1) حدثنا يحيى بن آدم حدثنا شريك عن جامع بن راشد عن أبي وائل عن عبد الله قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرئيل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الافق يسقط من جناحه التهاويل من الدر والياقوت ما الله به عليم.
وقال أحمد أيضا حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود في هذه الآية (ولقد راه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى) (2) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت جبريل وله ستمائة جناح ينتشر من ريشه التهاويل الدر والياقوت ".
وقال أحمد (3) حدثنا زيد بن الحباب حدثنا الحسين حدثني عاصم بن بهدلة سمعت شقيق بن سلمة يقول سمعت ابن مسعود يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت جبريل على السدرة المنتهى وله ستمائة جناح فسألت عاصما عن الاجنحة فأبى أن يخبرني قال فأخبرني بعض أصحابه أن الجناح ما بين المشرق والمغرب * وهذه أسانيد جيدة قوية انفرد بها أحمد *
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 460.
(2) سورة النجم الآية 13.
(3) مسند أحمد ج 1 / 407، والحسين هو بن واقد المروزي أبو عبد الله القاضي ثقة له أوهام.
قاضى مرو، قال ابن المبارك من مثله ؟ وثقه ابن معين وغيره مات سنة 159 ه وقيل سنة سبع وخمسين / تقريب التهذيب 1 / 180
الكاشف 1 / 173.


وقال أحمد حدثنا زيد بن الحباب حدثني حسين حدثني حصين حدثني شقيق سمعت ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتاني جبريل في خضر (1) تعلق به الدر " * إسناده صحيح * وقال ابن جرير حدثنا ابن بزيغ البغدادي قال حدثنا اسحاق بن منصور قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله (ما كذب الفؤاد ما رأى) قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا رفرف قد ملا ما بين السماء والارض * إسناد جيد قوي * وفي الصحيحين من حديث عامر الشعبي عن مسروق قال كنت عند عائشة فقلت أليس الله يقول (ولقد رآه بالافق المبين ولقد رآه نزلة أخرى) فقالت: أنا أول هذه الامة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: إنما ذاك جبريل لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين رآه منهبطا من السماء إلى الارض ساد أعظم خلقه ما بين السماء والارض.
وقال البخاري (2) حدثنا أبو نعيم حدثنا عمر بن ذر وحدثني يحيى بن جعفر حدثنا وكيع عن عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: " ألا تزورنا أكثر مما تزورنا قال فنزلت (وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا) (1) الآية * وروى البخاري (3) من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة * وقال البخاري (4) حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخر العصر شيئا فقال له عروة أما إن جبريل قد نزل فصلى أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر أعلم ما تقول يا عروة قال سمعت بشير بن أبي مسعود يقول سمعت أبا مسعود يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " نزل جبريل فأمني فصليت معه ثم صليت معه ثم صليت معه ثم صليت معهن ثم صليت معه " يحسب بأصابعه خمس صلوات.
ومن صفة إسرافيل عليه السلام وهو أحد حملة العرش وهو الذي ينفخ في الصور بأمر ربه نفخات ثلاثة * أولا هن نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة البعث كما سيأتي بيانه في موضعه من كتابنا هذا بحول الله وقوته وحسن توفيقه * والصور قرن ينفخ فيه.
كل دارة منه كما بين السماء والارض.
وفيه موضع أرواح العباد حين يأمره الله بالنفخ للبعث فإذا نفخ تخرج الارواح
__________
(1) مسند أحمد 1 / 407 وفيه: خضر حصين.
قال في التاج: الخصر اسم للرخص من الشجر إذا قطع وخضر.
(2) في كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة 4 / 80.
(3) نفس المصدر والباب ص 4 / 81.
(4) نفس المصدر والصفحة.


تتوهج فيقول الرب جل جلاله: " وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى البدن الذي كانت تعمره في الدنيا فتدخل على الاجساد في قبورها فتدب فيها كما يدب السم في اللديغ فتحيى الاجساد وتنشق عنهم الاجداث فيخرجون منها سراعا إلى مقام المحشر " كما سيأتي تفصيله في موضعه.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له " * قالوا كيف نقول يارسول الله قال: " قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل ".
على الله توكلنا " * رواه أحمد والترمذي من حديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري * وقال الامام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الاعمش عن سعد الطائي عن عطية العوفي عن أبي سعيد قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الصور فقال: " عن يمينه جبريل وعن يساره ميكائيل " عليهم السلام.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا محمد بن عمر أن ابن أبي ليلى (1) حدثني عن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس * قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل بناحية إذ انشق أفق السماء فأقبل إسرافيل يدنو من الارض ويتمايل فإذا ملك قد مثل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا محمد إن الله يأمرك أن تختار بين نبي عبد أو ملك نبي قال: " فأشار
جبريل إلي بيده (أن تواضع) فعرفت أنه لي ناصح فقلت: " عبد نبي " (2) فعرج ذلك الملك إلى السماء فقلت: يا جبريل قد كنت اردت أن أسألك عن هذا فرأيت من حالك ما شغلني عن المسألة فمن هذا يا جبريل ؟ فقال هذا إسرافيل عليه السلام خلقه الله يوم خلقه بين يديه صافا قدميه لا يرفع طرفه بينه وبين الرب سبعون نورا ما منها من نور يكاد يدنو منه إلا احترق بين يديه لوح فإذا أذن الله في شئ من السماء أو في الارض ارتفع ذلك اللوح فضرب جبهته فينظر فإن كان من عملي أمرني به وإن كان من عمل ميكائيل أمره به وإن كان من عمل ملك الموت أمره به * قلت " يا جبريل وعلى أي شئ أنت " قال: على الريح والجنود * قلت: " وعلى أي شئ ميكائيل " قال: على النبات والقطر قلت: " وعلى أي شي ملك الموت " قال: على قبض الانفس وما ظننت أنه نزل إلا لقيام الساعة وما الذي رأيت مني إلا خوفا من قيام الساعة * هذا حديث غريب من هذا الوجه * وفي صحيح مسلم (3) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق باذنك (4) إنك تهدي من تشاء إلى صراط
__________
(1) في تقريب التهذيب: محمد بن عمران بن محمد بن أبي ليلى، أبو عبد الرحمن الكوفي صدوق.
قال أبو حاتم صدوق أملى علينا من كتاب الفرائض من حفظه عن أبيه عن جده - ج 2 / 196 والكاشف ج 3 / 76.
(2) أخرجه البيهقي بنحوه عن ابن عباس ولم يسم الملك.
دلائل ج 1 / 334، وأخرجه أيضا أحمد في مسنده 2 / 231 عن أبي هريرة.
ولم يسم الملك أيضا وآخره قال: بل عبدا رسولا.
(3) في 6 كتاب صلاة المسافرين وقصرها 26 باب الدعاء في صلاة الليل وقيامها ح 200 (770) ص 1 / 534.
(4) قوله: اهدني.
باذنك: معناه ثبتني عليه.


مستقيم * وفي حديث الصور أن إسرافيل أول من يبعثه الله بعد الصعق لينفخ في الصور * وذكر محمد بن الحسن النقاش أن إسرافيل أول من سجد من الملائكة فجوزي بولاية اللوح المحفوظ * حكاه أبو القاسم السهيلي في كتابه (التعريف والاعلام.
بما أبهم في القرآن من الاعلام) * وقال
تعالى * من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال) (1) عطفهما على الملائكة لشرفهما فجبريل ملك عظيم قد تقدم ذكره * وأما ميكائيل فموكل بالقطر والنبات وهو ذو مكانة من ربه عز وجل ومن أشراف الملائكة المقربين * وقد قال الامام أحمد حدثنا أبو اليمان حدثنا ابن عباس عن عمارة بن غزنة الانصاري أنه سمع حميد بن عبيد مولى بني المعلى يقول سمعت ثابتا البناني يحدث عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل: مالي لم أر ميكائيل ضاحكا قط (2) فقال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار * فهؤلاء الملائكة المصرح بذكرهم في القرآن وفي الصحاح (3) هم المذكورون في الدعاء النبوي " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل * فجبريل ينزل بالهدى على الرسل لتبليغ الامم.
وميكائيل موكل بالقطر والنبات الذين يخلق منهما الارزاق في هذه الدار * وله أعوان يفعلون ما يأمرهم به بأمر ربه.
يصرفون الرياح والسحاب كما يشاء الرب جل جلاله.
وقد روينا أنه ما من قطرة تنزل من السماء إلا ومعها ملك يقررها في موضعها من الارض " وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور للقيام من القبور.
والحضور يوم البعث والنشور ليفوز الشكور.
ويجازي الكفور.
فذاك ذنبه مغفور.
وسعيه مشكور * وهذا قد صار عمله كالهباء المنثور.
وهو يدعو بالويل والثبور " فجبريل عليه السلام يحصل بما ينزل به الهدى * وميكائيل يحصل بما هو موكل به الرزق.
وإسرافيل يحصل بما هو موكل به النصر والجزاء * وأما ملك الموت فليس بمصرح باسمه في القرآن ولا في الاحاديث الصحاح.
وقد جاء تسميته في بعض الآثار بعزرائيل والله أعلم.
وقد قال الله تعالى * قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون) [ السجدة: 11 ] وله أعوان يستخرجون روح العبد من جثته حتى تبلغ الحلقوم فيتناولها ملك الموت بيده فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها منه فيلقوها في أكفان تليق بها كما قد بسط عند قوله: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) [ إبراهيم: 27 ].
ثم يصعدون بها فإن كانت صالحة فتحت لها أبواب السماء وإلا غلقت دونها وألقي بها إلى
الارض قال الله تعالى (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت
__________
(1) سورة البقرة الآية 98.
(2) مسند أحمد 3 / 224.
(3) أي الاحاديث الصحيحة.


وفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين * [ الانعام: 61 ].
وعن ابن عباس ومجاهد وغير واحد أنهم قالوا إن الارض بين يدي ملك الموت مثل الطست بتناول منها حيث يشاء وقد ذكرنا أن ملائكة الموت يأتون الانسان على حسب عمله إن كان مؤمنا اتاه ملائكة بيض الوجوه بيض الثياب طيبة الارواح.
وإن كان كافرا فبالضد من ذلك * عياذا بالله العظيم من ذلك * وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يحيى بن أبي يحيى المقري حدثنا عمرو بن شمر قال سمعت جعفر بن محمد قال سمعت أبي يقول نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الانصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن " فقال ملك الموت: يا محمد طب نفسا وقر عينا فإني بكل مؤمن رفيق * واعلم أن ما في الارض بيت مدر ولا شعر في بر ولا بحر إلا وأنا أتفحصهم في كل يوم خمس مرات حتى إني أعرف بصغيرهم وكبيرهم بأنفسهم والله يا محمد لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها.
قال جعفر بن محمد أبي هو الصادق بلغني بتفحصهم عند مواقيت الصلاة فإذا حضر عند الموت فإذا كان ممن يحافظ على الصلاة دنا منه الملك ودفع عنه الشيطان ولقنه الملك (لا إله إلا الله محمد رسول الله) في تلك الحال العظيمة.
هذا حديث مرسل وفيه نظر وذكرنا في حديث الصور من طريق إسمعيل بن رافع المدني القاص عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحديث) بطوله.
وفيه ويأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق فينفخ نفخة الصعق فيصعق أهل السموات وأهل الارض إلا من شاء الله فإذا هم قد خمدوا
جاء ملك الموت إلى الجبار عزوجل فيقول يا رب قد مات أهل السموات والارض إلا من شئت * فيقول الله وهو أعلم بمن بقي (فمن بقي) فيقول بقيت أنت الحي الذي لا يموت وبقيت حملة عرشك وبقي جبريل وميكائيل * فيقول ليمت جبريل وميكائيل فينطق الله العرش فيقول يا رب يموت جبريل وميكائيل فيقول: اسكت فإني كتبت الموت على كل من كان تحت عرسي فيموتان " ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار عزوجل فيقول يا رب قد مات جبريل وميكائيل فيقول الله وهو أعلم بمن بقي فمن بقي ؟ فيقول بقيت أنت الحي الذي لا يموت وبقيت حملة عرشك وبقيت أنا فيقول الله لتمت حملة عرشي.
فتموت.
ويأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل ثم يأتي ملك الموت فيقول يا رب قد مات حملة عرشك فيقول الله وهو أعلم بمن بقي (فمن بقي) فيقول بقيت أنت الحي الذي لا يموت وبقيت أنا فيقول الله أنت خلق من خلقي خلقتك لما أردت فمت فيموت فإذا لم يبق إلا الله الواحد القهار الاحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد * كان آخرا كما كان أولا * وذكر تمام الحديث بطوله رواه الطبراني وابن جرير والبيهقي ورواه الحافظ أبو موسى المديني في كتاب (الطوالات) وعنده زيادة غريبة وهي قوله فيقول الله له أنت خلق من خلقي خلقتك لما أردت فمت موتا لا تحيى بعده أبدا.

ومن الملائكة المنصوص على أسمائهم في القرآن هاروت وماروت في قول جماعة كثيرة من السلف * وقد ورد في قصتهما وما كان من أمرهما آثار كثيرة غالبها إسرائيليات * وروى الامام أحمد حديثا مرفوعا عن ابن عمر وصححه ابن حبان في تقاسيمه.
وفي صحته عندي نظر والاشبه أنه موقوف على عبد الله بن عمر ويكون مما تلقاه عن كعب الاحبار كما سيأتي بيانه والله أعلم * وفيه أنه تمثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر * وعن علي وابن عباس وابن عمر أيضا ان الزهرة كانت امرأة وأنهما لما طلبا منها ما ذكر أبت إلا أن يعلماها الاسم الاعظم فعلماها فقالته فارتفعت إلى السماء فصارت كوكبا * وروى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس قال وفي ذلك الزمان إمرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب.
وهذا اللفظ أحسن ما ورد في شأن الزهرة * ثم قيل
كان أمرهما وقصتهما في زمان إدريس * وقيل في زمان سليمان بن داود كما حررنا ذلك في التفسير.
وبالجملة فهو خبر إسرائيلي مرجعه إلى كعب الاحبار كما رواه عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب أحبار بالقصة * وهذا أصح إسنادا وأثبت رجالا والله أعلم.
ثم قد قيل إن المراد بقوله * وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت * (1) قبيلان من الجان قاله ابن حزم وهذا غريب وبعيد من اللفظ * ومن الناس من قرأ وما أنزل على الملكين بالكسر ويجعلهما علجين من أهل فارس.
قاله الضحاك.
ومن الناس من يقول هما ملكان من السماء ولكن سبق في قدر الله لهما ما ذكره من أمرهما إن صح به الخبر ويكون حكمهما كحكم إبليس إن قيل إنه من الملائكة لكن الصحيح أنه من الجن كما سيأتي تقريره.
ومن الملائكة المسمين في الحديث منكر ونكير عليهما السلام.
وقد استفاض في الاحاديث ذكرهما في سؤال القبر.
وقد أوردناها عند قوله تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) (2) وهما فتانا القبر موكلان بسؤال الميت في قبره عن ربه ودينه ونبيه ويمتحنان البر والفاجر وهما أزرقان أفرقان لهما أنياب وأشكال مزعجة وأصوات مفزعة أجارنا الله من عذاب القبر وثبتنا بالقول الثابت آمين * وقال البخاري حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا ابن وهب حدثني يونس عن ابن شهاب حدثني عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: " هل أتي عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟.
قال: " لقد لقيت من قومك (3) وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة (4) إذا عرضت نفسي على ابن عبد
__________
(1) سورة البقرة الآية 102.
(2) سورة إبراهيم الآية 27.
(3) قومك: أي قريش، وتقدير العبارة: لقد لقيت منهم ما لقيت.
(4) يوم العقبة: وهو اليوم الذي وقف به النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة بمنى داعيا الناس إلى الاسلام والى الله رب العالمين

ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب (1) فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا به عليك وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد فقال ذلك فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الاخشبين (2) فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا * ورواه مسلم من حديث ابن وهب به (3).
فصل ثم الملائكة عليهم السلام بالنسبة إلى ما هيأهم الله له أقسام * فمنهم حملة العرش كما تقدم ذكرهم ومنهم الكروبيون الذين هم حول العرش وهم أشرف الملائكة مع حملة العرش.
وهم الملائكة المقربون كما قال تعالى (لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله ولا الملائكة المقربون) (4) * ومنهم جبريل وميكائيل عليهما السلام.
وقد ذكر الله عنهم أنهم يستغفرون للمؤمنين بظهر الغيب كما قال تعالى: (ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم.
ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم.
إنك أنت العزيز الحكيم.
وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته.
وذلك هو الفوز العظيم) (5).
ولما كانت سجاياهم هذه السجية الطاهرة كانوا يحبون من اتصف بهذه الصفة فثبت في الحديث عن الصادق المصدوق أنه قال " إذا دعا العبد لاخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثل " (6).
__________
= موحدين له، فما أجيب إلا بالاذى وذلك اليوم أصبح معروفا.
(1) قرن الثعالب: هو قرن المنازل - وهو ميقات أهل نجد، وهو على مرحلتين من مكة، والقرن أصله كل جبل صغير ينقطع من جبل كبير.
(2) الاخشبان: جبلا مكة: أبو قبيس والجبل الذي يقابله.
(3) في (32) كتاب الجهاد والسير - 39 باب ما لقي النبي من أذى المشركين ح 111 - 1795 ص 3 / 420 والبخاري رقم / 1525 - (4) سورة النساء الآية 172.
(5) سورة غافر الآية 7.
(6) رواه الترمذي في صحيحه في بر / 50.
وأبو داود كتاب الصلاة - باب الدعاء بظهر الغيب ج 1534، ج 2 / 89.
وابن ماجة في المناسك (5).


ومنهم سكان السموات السبع يعمرونها عبادة دائبة ليلا ونهارا صباحا ومساء كما قال [ تعالى ]: (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) [ الانبياء: 20 ] فمنهم الراكع دائما والقائم دائما والساجد دائما * ومنهم الذين يتعاقبون زمرة بعد زمرة إلى البيت المعمور كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم.
ومنهم الموكلون بالجنان وإعداد الكرامة لاهلها وتهيئة الضيافة لساكنيها من ملابس ومصاغ ومساكن ومآكل ومشارب وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وخازن الجنة ملك يقال له رضوان جاء مصرحا به في بعض الاحاديث.
ومنهم الموكلون بالنار وهم الزبانية * ومقدموهم تسعة عشر وخازنها مالك وهو مقدم على جميع الخزنة.
وهم المذكورون في قوله تعالى (وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب) [ غافر: 49 ] الآية.
وقال تعالى (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك.
قال انكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون) [ الزخرف: 77 ] وقال تعالى (عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) [ التحريم: 6 ] وقال تعالى (عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم الا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أتوا الكتاب ويزداد الدين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين اؤتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا *
كذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء * وما يعلم جنود ربك إلا هو) [ المدثر: 31 ].
وهم الموكلون بحفظ بني آدم كما قال تعالى (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به.
ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار * له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظون من أمر الله ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال) [ الرعد: 10 ].
قال الوالبي عن ابن عباس (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) وهي الملائكة وقال عكرمة عن ابن عباس يحفظونه من أمر الله * قال ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه فإذا جاء قدر الله خلوا عنه وقال مجاهد ما من عبد إلا وملك موكل بحفظه في نومه.
ويقظته من الجن والانس والهوام.
وليس شئ يأتيه يريده إلا وقال وراءك إلا شئ يأذن الله فيه فيصيبه.
وقال أبو أسامة (1): ما من آدمي إلا ومعه ملك يذود عنه حتى يسلمه للذي قدر له.
وقال أبو مجلز جاء رجل إلى علي فقال: إن نفرا من مراد يريدون قتلك فقال إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وإن الاجل جنة (2) حصينة.
__________
(1) في القرطبي 9 / 293 أبو أمامة.
(2) في القرطبي: حصن.


ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد كما قال تعالى: (عن اليمين وعن الشمال قعيد.
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ ق: 18 ] وقال تعالى: (وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون) [ الانفطار: 12 ] قال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في تفسيره حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا وكيع حدثنا سفيان ومسعر عن علقمة بن يزيد عن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين الجنابة والغائط فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بجذم حائط أو بعيره أو يستره أخوه " هذا مرسل من هذا الوجه وقد وصله البزار في مسنده من طريق جعفر بن
سليمان * وفيه كلام عن علقمة عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ينهاكم عن التعري فاستحيوا من الله والذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات الغائط والجنابة والغسل.
فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستر بثوبه أو بجذم حائط أو بعيره.
ومعنى اكرامهم أن يستحي منهم فلا يملي عليهم الاعمال القبيحة التي يكتبونها فان الله خلقهم كراما في خلقهم وأخلاقهم * ومن كرمهم أنه قد ثبت في الحديث المروي في الصحاح والسنن والمسانيد من حديث جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب (1) وفي رواية عن عاصم بن ضمرة عن علي (ولا بول) وفي رواية رافع عن أبي سعيد مرفوعا لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا تمثال.
وفي رواية مجاهد عن أبي هريرة مرفوعا لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو تمثال.
وفي رواية ذكوان أبي صالح السماك عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تصحب الملائكة رفقة معهم كلب أو جرس.
ورواه زرارة بن أوفى عنه لا تصحب الملائكة رفقة معهم جرس.
وقال البزار حدثنا إسحاق بن سليمان البغدادي المعروف بالقلوس.
حدثنا بيان بن حمران حدثنا سلام عن منصور بن زاذان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن ملائكة الله يعرفون بني آدم - وأحسبه.
قال - ويعرفون أعمالهم فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسموه وقالوا أفلح الليلة فلان نجا الليلة فلان.
وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله ذكروه بينهم وسموه.
وقالوا هلك فلان الليلة * ثم قال سلام أحسبه سلام المدائني (2) وهو لين الحديث.
وقد قال البخاري حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق وكتاب الانبياء والمغازي والنكاح.
وأبو داود في اللباس - والترمذي - والنسائي في الطهارة والصيد ومالك في الموطأ " الاستئذان " والدارمي في الاستئذان.
والامام أحمد في مسنده 1 / 80 - 82 - 107 - 129 - 150.
(2) سلام بتشديد اللام، ابن سليم أو سلم أبو سليمان التميمي ويقال الطويل، المدائني متروك تقريب 1 / 342 قال
البخاري: تركوه الكاشف 1 / 330.


الاعرح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الملائكة يتعاقبون ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر.
ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم فيقول كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون.
وأتيناهم وهم يصلون * هذا اللفظ في كتاب بدء الخلق بهذا السياق وهذا اللفظ تفرد به دون مسلم من هذا الوجه * وقد أخرجاه في الصحيحين في البدء من حديث مالك عن أبي الزناد به * وقال البزار حدثنا زياد بن أيوب حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي حدثنا تمام بن نجيح عن الحسن يعني البصري عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من حافظين يرفعان إلى الله عزوجل ما حفظا في يوم فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفارا إلا قال الله غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة * ثم قال تفرد به تمام بن نجيح وهو صالح الحديث * قلت وقد وثقه ابن معين وضعفه البحاري وأبو حاتم وأبو زرعة والنسائي وابن عدي ورماه ابن حبان بالوضع وقال الامام أحمد لا أعرف حقيقة أمره والمقصود أن كل إنسان له حافظان ملكان اثنان واحد من بين يديه وآخر من خلفه يحفظانه من أمر الله بأمر الله عزوجل * وملكان كاتبان عن يمينه وعن شماله وكاتب اليمين أمير على كاتب الشمال.
كما ذكرنا ذلك عند قوله تعالى: (عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) [ ق: 18 ].
فأما الحديث الذي رواه الامام أحمد حدثنا أسود ابن عامر * حدثنا سفيان.
حدثنا منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عن عبد الله هو ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا وإياك يارسول الله قال وإياي ولكن الله أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير.
انفرد بإخراجه مسلم من حديث منصور به فيحتمل أن هذا القرين من الملائكة غير القرين بحفظ الانسان وإنما هو موكل به ليهديه ويرشده بإذن ربه إلى سبيل الخير وطريق الرشاد كما أنه قد وكل به القرين من الشياطين لا يألوه جهدا في الخبال والاضلال.
والمعصوم من عصمه الله عزوجل وبالله المستعان (1) وقال البخاري حدثنا أحمد بن يونس حدثنا إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن والاغر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الاول فالاول فإذا جلس الامام طووا الصحف
__________
(1) مسند أحمد: ج 1 / 385 - 401 ومنصور: هو منصور بن زاذان.
وفيه بحق بدل بخير.
وأخرجه مسلم في 50 كتاب صفات المنافقين 16 باب ح 69 (2814) ص 4 / 2167 قال القاضي: وأعلم أن الامة مجتمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان في جسمه وخاطره ولسانه.
وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه فأعلمنا أنه معنا، لنحترز منه بحسب الامكان.


وجاؤوا يسمعون الذكر وهكذا رواه منفردا به من هذا الوجه وهو في الصحيحين ومن وجه آخر * وقد قال الله تعالى (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) * وقال الامام أحمد حدثنا أسباط حدثنا الاعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم * وحدثنا الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) قال تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار * ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث أسباط * وقال الترمذي حسن صحيح * قلت وهو منقطع.
وقال البخاري حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم * قال: " فضل صلاة الجمع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة.
ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر " يقول أبو هريرة إقرؤا إن شئتم (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا) وقال البخاري حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن الاعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان لعنتها
الملائكة حتى تصبح " * تابعه شعبة وأبو حمزة وأبو داود وأبو معاوية عن الاعمش.
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أمن الامام فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " * وفي صحيح البخاري حدثنا إسماعيل بلفظ: " إذا قال الامام آمين فإن الملائكة تقول في السماء آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " * وفي صحيح البخاري حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن سمي (1) عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قال الامام سمع الله لمن حمده فقولوا (اللهم ربنا ولك الحمد) فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ".
ورواه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من حديث مالك * وقال الامام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد هو شك (يعني الاعمش) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ملائكة سياحين في الارض فضلا عن كتاب الناس فإذا وجدوا أقواما يذكرون الله فنادوا هلموا إلى بغيتكم فيجيئون بهم إلى السماء الدنيا فيقول الله أي شئ تركتم عبادي يصنعون فيقولون تركناهم يحمدونك ويمجدونك ويذكرونك فيقول وهل رأوني فيقولون لا فيقول كيف لو رأوني فيقولون لو رأوك لكانوا أشد تحميدا وتمجيدا وذكرا * قال فيقول فأي شئ يطلبون فيقولون يطلبون الجنة فيقول وهل رأوها فيقولون لا فيقول وكيف لو رأوها فيقولون لو رأوها لكانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا قال فيقول من أي يتعوذون، فيقولون من النار فيقول وهل رأوها فيقولون لا فيقول فكيف لو رأوها فيقولون لو رأوها كانوا أشد منها هربا وأشد منها خوفا.
قال فيقول أشهدكم أني قد غفرت لهم.
قال فيقول إن فيهم فلانا
__________
(1) سمي: مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ثقة قتل يوم قديد سنة 13 وفي التقريب سنة 30 وهو الصواب قتلته الحرورية: (1 / 333) (الكاشف 1 / 223).


الخطاء لم يردهم إنما جاء لحاجة فيقول هم القوم لا يشقي بهم جليسهم (1).
وهكذا رواه البخاري عن قتيبة عن جرير بن عبد الحميد عن الاعمش به.
وقال رواه شعبة عن الاعمش ولم يرفعه.
ورفعه سهيل عن أبيه.
وقد رواه أحمد عن عفان عن وهيب عن سهيل
عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه كما ذكره البخاري معلقا عن سهيل.
ورواه مسلم عن محمد بن حاتم عن بهز بن أسد عن وهب به.
وقد رواه الامام أحمد أيضا عن غندر عن شعبة عن سليمان (هو الاعمش) عن أبي صالح عن أبي هريرة كما أشار إليه البخاري رحمه الله * وقال الامام أحمد حدثنا أبو معاوية.
حدثنا الاعمش وابن نمير * وأخبرنا الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نفس عن مؤمن كربة عن كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة * ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة.
والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
ومن سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدا رسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده * ومن بطأ (2) به عمله لم يسرع به نسبه " * وكذا رواه مسلم من حديث أبي معاوية * (3) وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن أبي إسحاق عن الاغر (أبي مسلم) عن أبي هريرة وأبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: " ما اجتمع قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده * وكذا رواه أيضا من حديث إسرائيل وسفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق به نحوه * ورواه مسلم من حديث شعبة والترمذي من حديث الثوري وقال حسن صحيح * ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن آدم عن عمار بن زريق عن أبي إسحاق بإسناد نحوه * وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة * وفي مسند الامام أحمد والسنن عن أبي الدرداء مرفوعا (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع) أي تتواضع له كما قال تعالى (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) [ الاسراء: 24 ] وقال تعالى (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) [ الشعراء: 215 ] وقال الامام أحمد حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن لله ملائكة سياحين في الارض ليبلغوني عن أمتي لسلام * وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري وسليمان الاعمش كلاهما عن عبد الله بن لسائب به * وقال الامام أحمد.
حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة
__________
(1) مسند أحمد: ج 1 / 452 و 2 / 251.
(2) قوله ومن بطأ به عمله: معناه من كان عمله ناقصا لم يلحقه بمرتبة أصحاب الاعمال، فينبغي أن لا يتكل على شرف النسب وفضيلة الآباء، ويقصر في العمل.
(3) مسند أحمد: ج 2 / 252.
ومسلم في 48 كتاب الذكر والدعاء - 11 باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن 38 (2699) ص 4 / 2074.


قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم " وهكذا رواه مسلم عن محمد بن رافع وعبدة بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق به.
والاحاديث في ذكر الملائكة كثيرة جدا * وقد ذكرنا ما يسره الله تعالى وله الحمد.
فصل وقد اختلف الناس في تفضيل الملائكة على البشر على أقوال: فأكثر ما توجد هذه المسألة في كتب المتكلمين والخلاف فيها مع المعتزلة ومن وافقهم وأقدم كلام رأيته في هذه المسألة ما ذكره الحافظ بن عساكر في تاريخه في ترجمة أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص أنه حضر مجلسا لعمر بن عبد العزيز وعنده جماعة فقال عمر ما أحد أكرم على الله من كريم بني آدم.
واستدل بقوله تعالى (إن الذين آمنوا وعلموا الصالحات أولئك هم خير البرية) [ البينة: 7 ] ووافقه على ذلك أمية بن عمرو بن سعيد فقال عراك بن مالك ما أحد أكرم على الله من ملائكته هم خدمة داريه ورسله إلى أنبيائه.
واستدل بقوله تعالى (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) [ الاعراف: 20 ] فقال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القرظي ما تقول أنت يا أبا حمزة * فقال قد أكرم الله آدم فخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وجعل من ذريته الانبياء والرسل ومن يزوره الملائكة * فوافق عمر بن عبد العزيز في الحكم واستدل بغير دليله * وأضعف دلالة ما صرح به من الآية وهو قوله (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) مضمونه أنها ليست بخاصة بالبشر * فإن الله قد وصف الملائكة بالايمان في قوله
(ويؤمنون به) وكذلك الجان (وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به) [ الجن: 13 ] (وإنا منا المسلمون) قلت وأحسن ما يستدل به في هذه المسألة ما رواه عثمان بن سعيد الدارمي عن عبد الله بن عمرو مرفوعا وهو أصح، قال: لما خلق الله الجنة قالت الملائكة يا ربنا اجعل لنا هذه نأكل منها ونشرب فإنك خلقت الدنيا لبني آدم فقال الله، لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان.
باب خلق الجان وقصة الشيطان قال الله تعالى (خلق الانسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار فبأي آلاء ربكما تكذبان) [ الرحمن: 14 ] وقال تعالى (ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حمأ مسنون.
والجان خلقناه من قبل من نار السموم) [ الحجر: 26 - 27 ] وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وغير واحد (من مارج من نار) قالوا من طرف اللهب وفي رواية من خالصه وأحسنه * وقد ذكرنا آنفا من طريق الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من نار وخلق آدم مما وصف لكم رواه

مسلم * قال كثير من علماء التفسير خلقت الجن قبل آدم عليه السلام وكان قبلهم في الارض الحن والبن فسلط الله الجن عليهم فقتلوهم وأجلوهم عنها وأبادوهم منها وسكنوها بعدهم.
وذكر السدي في تفسيره عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش فجعل إبليس على ملك الدنيا وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لانهم خزان الجنة.
وكان إبليس مع ملكه خازنا فوقع في صدره إنما أعطاني الله هذا لمزية لي على الملائكة.
وذكر الضحاك عن ابن عباس أن الجن لما أفسدوا في الارض وسفكوا الدماء بعث الله إليهم إبليس ومعه جند من الملائكة فقتلوهم وأجلوهم عن الارض إلى جزائر البحور.
وقال محمد بن إسحاق عن خلاد عن عطاء عن طاوس عن ابن عباس كان اسم إبليس قبل
أن يرتكب المعصية عزازيل.
وكان من سكان الارض ومن أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما وكان من حي يقال لهم الجن * وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عنه كان اسمه عزازيل وكان من أشرف الملائكة من أولي الاجنحة الاربعة * وقد أسند عن حجاج عن ابن جريج قال ابن عباس كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة * وكان خازنا على الجنان وكان له سلطان سماء الدنيا.
وكان له سلطان الارض * وقال صالح مولى التوأمة عن ابن عباس كان يسوس ما بين السماء والارض رواه ابن جرير وقال قتادة عن سعيد بن المسيب كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا * وقال الحسن البصري لم يكن من الملائكة طرفة عين وأنه لاصل الجن كما أن آدم أصل البشر * وقال شهر ابن حوشب وغيره كان إبليس من الجن الذين طردوهم الملائكة فأسره بعضهم وذهب به إلى السماء.
رواه ابن جرير * قالوا فلما أراد الله خلق آدم ليكون في الارض هو وذريته من بعده وصور جثته منها جعل إبليس وهو رئيس الجان وأكثرهم عبادة إذ ذاك وكان اسمه عزازيل يطيف به فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك * وقال أما لئن سلطت عليك لاهلكنك ولئن سلطت علي لاعصينك فلما أن نفخ الله في آدم من روحه كما سيأتي وأمر الملائكة بالسجود له دخل إبليس منه حسد عظيم وامتنع من السجود له وقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، فخالف الامر واعترض على الرب عزوجل وأخطأ في قوله وابتعد من رحمة ربه وأنزل من مرتبته التي كان قد نالها بعبادته وكان قد تشبه بالملائكة ولم يكن من جنسهم لانه مخلوق من نار وهم من نور فخانه طبعه في أحوج ما كان إليه ورجع إلى أصله الناري (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين) [ الحجر: 30 ] وقال تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) [ الكهف: 50 ].
فأهبط إبليس من الملا الاعلى وحرم عليه قدر أن يسكنه فنزل إلى الارض حقيرا ذليلا مذؤما مدحورا متوعدا بالنار هو ومن اتبعه من الجن والانس إلا أنه مع ذلك جاهد كل الجهد على إضلال

بني آدم بكل طريق وبكل مرصد كما قال (أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا.
قال إذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الاموال والاولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا) [ الاسراء: 62 ].
وسنذكر القصة مستفاضة عند ذكر خلق آدم عليه السلام * والمقصود أن الجان خلقوا من النار وهم كبني آدم يأكلون ويشربون ويتناسلون * ومنهم المؤمنون ومنهم الكافرون كما أخبر تعالى عنهم في صورة الجن في قوله تعالى (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الارض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين) [ الاحقاف: 29 ] وقال تعالى (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا.
وانه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا.
وانه كان يقول سفيهنا على الله شططا.
وأن ظننا أن لن تقول الانس والجن على الله كذبا.
وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا.
وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا * وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملائت حرسا شديدا وشهبا.
وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا.
وانا لا ندري أشر أريد بمن في الارض أم أراد بهم ربهم رشدا * وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا * وأنا ظننا ان لن نعجز الله في الارض ولن نعجزه هربا.
وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا.
وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون.
فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا * وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا.
وأن لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه.
ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا) [ الجن: 1 ]
وقد ذكرنا تفسير هذه السورة وتمام القصة في آخر سورة الاحقاف * وذكرنا الاحاديث المتعلقة بذلك هنالك * وأن هؤلاء النفر كانوا من جن (نصيبين) وفي بعض الآثار من جن (بصرى) وأنهم مروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي بأصحابه ببطن نخلة من أرض مكة فوقفوا فاستمعوا لقراءته.
ثم اجتمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة كاملة فسألوه عن أشياء أمرهم بها ونهاهم عنها وسألوه الزاد فقال لهم (كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحما وكل روثة علف لدوابكم) ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجي بهما وقال: (إنهما زاد إخوانكم) [ أي ]: الجن.
ونهى عن البول في السرب لانها مساكن الجن.
وقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن فما جعل يمر فيها بآية (فبأي آلاء ربكما تكذبان) إلا قالوا ولا بشئ من الآئك ربنا نكذب فلك الحمد.
وقد أثنى عليهم

النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لما قرأ هذه السورة على الناس فسكتوا.
فقال (الجن كانو أحسن منكم ردا ما قرأت عليهم فبأي آلاء ربكما تكذبان إلا قالوا ولا بشئ من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد) رواه الترمذي عن جبير وابن جرير والبزار عن ابن عمر.
وقد اختلف في مؤمني الجن هل يدخلون الجنة أو يكون جزاء طائعهم أن لا يعذب بالنار فقط.
على قولين الصحيح أنهم يدخلون الجنة لعموم القرآن * ولعموم قوله تعالى (ولمن خاف مقام ربه جنتان.
فبأي آلاء ربكما تكذبان) [ الرحمن: 64 ] فامتن تعالى عليهم بذلك فلولا أنهم ينالونه لما ذكره وعده عليهم من النعم * وهذا وحده دليل مستقل كافي في المسألة وحده والله أعلم.
وقال البخاري حدثنا قتيبة عن مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه أن أبا سعيد الخدري قال له: (إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فانه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شئ إلا شهد له يوم القيامة) * قال أبو سعيد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم * انفرد به البخاري دون مسلم.
وأما كافرو الجن فمنهم الشياطين ومقدمهم الاكبر إبليس عدو آدم أبي البشر وقد سلطه هو وذريته على آدم وذريته.
وتكفل الله عزوجل بعصمة من آمن به وصدق رسله واتبع شرعه منهم.
كما قال (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا) [ الاسراء: 65 ] وقال تعالى (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين.
وما كان عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شئ حفيظ) [ سبأ: 20 ] وقال تعالى (يا بنى آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون) [ الاعراف: 27 ] وقال: (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون.
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون.
إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس مالك أن لا تكون من الساجدين قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حماء مسنون قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين.
قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون.
قال فانك من المنظرين.
إلى يوم الوقت المعلوم.
قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين.
إلا عبادك المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم.
ان عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين.
وإن جهنم لموعدهم أجمعين.
لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) [ الحجر: 21 ].


وقد ذكر تعالى هذه القصة في سورة البقرة وفي الاعراف وههنا وفي سورة سبحان وفي سورة طه وفي سورة ص * وقد تكلمنا على ذلك كله في مواضعه في كتابنا التفسير ولله الحمد * وسنوردها في قصة آدم إن شاء الله * والمقصود أن إبليس أنظره الله إلى يوم القيامة محنة لعباده وإختبارا منه لهم كما قال تعالى (وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك.
وربك على كل شئ حفيظ) * وقال تعالى (وقال الشيطان لما قضي الامر إن الله وعدكم وعد
الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم * وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها باذن ربهم تحيتهم فيها سلام) [ إبراهيم: 28 ].
فإبليس لعنه الله حي الآن منظر إلى يوم القيامة بنص القرآن * وله عرش على وجه البحر وهو جالس عليه ويبعث سراياه يلقون بين الناس الشر والفتن * وقد قال الله تعالى (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) [ النساء: 76 ] وكان اسمه قبل معصيته العظيمة عزازيل * قال النقاش وكنيته (أبو كردوس) ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد ما ترى قال أرى عرشا على الماء.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أخسأ فلن تعدو قدرك " فعرف أن مادة مكاشفته التي كاشفه بها شيطانية مستمدة من إبليس الذي هو يشاهد عرشه على البحر * ولهذا قال له أخسأ فلن تعدو قدرك أي لن تجاوز قيمتك الدنية الخسيسة الحقيرة.
والدليل على أن عرش إبليس على البحر الذي رواه الامام أحمد حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثني معاذ التميمي (1) عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عرش إبليس في البحر يبعث سراياه في كل يوم يفتنون الناس فأعظمهم عنده منزلة أعظمهم فتنة للناس " ورواه (2).
وقال أحمد حدثنا روح حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (عرش إبليس على البحر يبعث سراياه فيفتنون الناس فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة) تفرد به من هذا الوجه.
وقال أحمد حدثنا مؤمل حدثنا حماد حدثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن صائد: " ما ترى " قال أرى عرشا على الماء أو قال على البحر حوله
__________
(1) مسند أحمد: ج 1 / 332 ماعز التميمي بدل معاذ.
(2) ورواه بياض بالاصل.
والتقدير أن أحمد رواه بروايتين اخريين عن جابر من طريق أبي الزبير 3 / 384 ومن طريق
سفيان عن أبي الزبير عن جابر 3 / 332 وفيها: عرش إبليس على البحر.


حيات "، قال صلى الله عليه وسلم: " ذاك عرش إبليس " * هكذا رواه في مسند جابر.
وقال في مسند أبي سعيد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صائد: " ما ترى قال: أرى عرشا على البحر حوله الحيات "، فقال.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صدق ; ذاك عرش إبليس ".
وروى الامام أحمد من طريق معاذ التميمي وأبي الزبير (1) عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش (2) بينهم " * وروى الامام مسلم من حديث الاعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الشيطان يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة.
يجئ أحدهم فيقول ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا.
فيقول إبليس لا والله ما صنعت شيئا.
ويجئ أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله.
قال فيقربه ويدنيه ويقول نعم أنت " يروى بفتح النون بمعنى نعم أنت ذاك الذي تستحق الاكرام.
وبكسرها أي نعم منك * وقد استدل به بعض النحاة على جواز كون فاعل نعم مضمرا وهو قليل * واختار شيخنا الحافظ أبو الحجاج الاول ورجحه ووجهه بما ذكرناه والله أعلم.
وقد أوردنا هذا الحديث عند قوله تعالى (ما يفرقون به بين المرء وزوجه) (3) يعني أن السحر المتلقي عن الشياطين من الانس والجن يتوصل به إلى التفرقة بين المتآلفين غاية التآلف المتوادين المتحابين ولهذا يشكر إبليس سعى من كان السبب في ذلك.
فالذي ذمه الله يمدحه والذي يغضب الله يرضيه عليه لعنة الله * وقد أنزل الله عزوجل سورتي المعوذتين مطردة لانواع الشر وأسبابه وغاياته.
ولا سيما سورة (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) (4).
وثبت في الصحيحين عن أنس.
وفي صحيح البخاري عن صفية بنت حسين (5) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشيطان يجري من
ابن آدم مجرى الدم " (6).
__________
(1) في المسند ماعز التميمي وسقط اسم أبي الزبير.
(2) قوله في التحريش: متعلق بمقدر محذوف أي أن الشيطان سعى في التحريش بين المصلين عن طريق بث الخصومات والبغضاء والحروب والفتن وغيرها.
(3) سورة البقرة الآية 102.
(4) سورة الناس الآية 4.
(5) عند مسلم صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب.
(6) قال القاضي عياض وغيره: قيل هو على ظاهره وأن الله تعالى جعل له قوة وقدرة على الجري في باطن الانسان في مجاري دمه، وقيل هو على الاستعارة لكثرة إغوائه ووسوسته فكأنه لا يفارق الانسان كما لا يفارقه دمه.


وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا محمد بن جبير حدثنا عدي بن أبي عمارة حدثنا زياد النميري عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإن ذكر الله خنس وإن نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس " * ولما كان ذكر الله مطردة للشيطان عن القلب كان فيه تذكار للناس كما قال تعالى (واذكر ربك إذا نسيت) (1) " وقال صاحب موسى (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) (2) وقال تعالى (فأنساه الشيطان ذكر ربه) (3) يعني الساقي لما قال له يوسف اذكرني عند ربك نسي الساقي أن يذكره لربه يعني مولاه الملك.
وكان هذا النسيان من الشيطان (فلبث يوسف في السجن بضع سنين) (4) ولهذا قال بعده (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد امة) (5) أي مدة * وقرئ بعد أمة أي نسيان.
وهذا الذي قلنا من أن الناسي هو الساقي هو الصواب من القولين كما قررناه في التفسير والله أعلم.
وقال الامام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عاصم سمعت أبا تميمة يحدث عن رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عثر بالنبي صلى الله عليه وسلم حماره فقلت نفس الشيطان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تقل نفس الشيطان فإنك إذا قلت نفس الشيطان تعاظم وقال بقوتي صرعته وإذا قلت بسم الله تصاغر حتى
يصير مثل الذباب " * تفرد به أحمد وهو إسناد جيد * وقال أحمد حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا الضحاك ابن عثمان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أحدكم إذا كان في المسجد جاء الشيطان فأيس به كما يئس الرجل بدابته فإذا سكن له زنقه أو ألجمه (6) * قال أبو هريرة وأنتم ترون ذلك.
أما المزنوق فتراه مائلا كذا لا يذكر إلا الله * وأما الملجم ففاتح فاه لا يذكر الله عزوجل تفرد به أحمد * وقال الامام أحمد حدثنا ابن نمير حدثنا ثور يعني ابن يزيد عن مكحول عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العين حق ويحضرها الشيطان وحسد ابن آدم " * وقال الامام أحمد حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن ذر بن عبد الله الهمداني عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أحدث نفسي بالشئ - لان أخر من
__________
(1) سورة الكهف الآية 24.
(2) سورة الكهف الآية 63.
(3) سورة يوسف جزء من الآية 42.
(4) سورة يوسف جزء من الآية 42.
(5) سورة يوسف الآية 45.
أمة بالتشديد: الحين ولا تكون الحين إلا على حذف مضاف والامة الجماعة من الناس.
وقرأ ابن عباس أمة بفتح الهمزة وتخفيف الميم أي بعد نسيان وقيل أمه النسيان ذكره النحاس ورجل أمه ذاهب العقل.
قال صاحب اللسان أمه الرجل فهو مأموه وهو الذي ليس عقله معه.
وقرأ العقيلي بعد إمة أي بعد نعمة، أي بعد أن أنعم الله عليه بالنجاة.
(6) أيس بالشئ: استقل به، وزنقه: ضيق عليه.


السماء أحب إلي من أن أتكلم به.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة " * ورواه أبو داود والنسائي من حديث منصور زاد النسائي والاعمش كلاهما عن أبي ذر به.
وقال البخاري حدثنا يحي بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عروة قال قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته " (1) * وهكذا رواه مسلم من حديث الليث ومن حديث الزهري وهشام بن عروة كلاهما عن عروة به * وقد قال الله تعالى (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) (2) وقال تعالى (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون) (3) وقال تعالى (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله انه سميع عليم) (4) وقال تعالى (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.
إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) (5).
وروى الامام أحمد وأهل السنن من حديث أبي المتوكل عن أبي سعيد قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.
وجاء مثله من رواية جبير بن مطعم وعبد الله بن مسعود وأبي أسامة الباهلي (6).
وتفسيره في الحديث (فهمزه الموتة وهو الخنق الذي هو الصرع.
ونفخه الكبر.
ونفثه الشعر) وثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال " أعوذ بالله من الخبت والخبائث " قال كثير من العلماء استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم (7) * وروى الامام أحمد عن شريح عن عيسى بن يونس عن ثور عن الحسين عن ابن سعد الخير وكان من أصحاب عمر عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم: " ومن أتى الغائط فليستتر فان لم يجد إلا أن يجمع كثيبا فليستدبره فان الشيطان
__________
(1) عقيل هو عقيل بن خالد.
قوله فليستعذ بالله ولينته: معناه إذا عرض له الوسواس فليلجأ إلى الله في دفع شروره وليعرض عن التفكير بذلك.
وليعلم أن هذا كله من وسوسة الشيطان الذي يسعى إلى إغرائه وإفساده وليشغل نفسه بالتفكير بأمور أخرى بعيدا عن الاصغاء لوسوسة الشيطان.
(2) سورة الاعراف الآية 201.
(3) سورة المؤمنون الآيه 97.
(4) سورة الاعراف الآية 200.
(5) سورة النحل الآية 98.
(6) كذا أبو أسامة والصواب أبو أمامة الباهلي، وهو صدي بن عجلان صحابي مشهور سكن الشهابي ومات بها سنة 86 / التقريب ج 1 / 366 - كاشف 2 / 26.
(7) وقال ابن الاثير في النهاية: وقيل الخبث بسكون الباء، وهو خلاف طيب الفعل من فجور وغيره.
والخبائث يريد بها الافعال المذمومة والخصال الرديئة.


يلعب بمقاعد بني آدم من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج " * ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث ثور بن يزيد به.
وقال البخاري حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الاعمش عن عدي بن ثابت قال قال سليمان بن صرد استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس فأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لاعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد.
لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".
فقالوا للرجل ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني لست بمجنون.
ورواه أيضا مسلم وأبو داود والنسائي من طرق عن الاعمش.
وقال الامام أحمد حدثنا محمد بن عبيد حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع.
عن ابن عمر أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: " لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشمال فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله " * وهذا على شرط الصحيحين بهذا الاسناد وهو في الصحيح من غير هذا الوجه.
وروى الامام أحمد من حديث إسماعيل بن أبي حكيم عن عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أكل بشماله أكل معه الشيطان ومن شرب بشماله شرب معه الشيطان " * وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر أنبأنا شعبة عن أبي زياد الطحان سمعت أبا هريرة يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا يشرب قائما فقال له: " قه " قال: لم.
قال: " أيسرك أن يشرب معك الهر ".
قال: لا.
قال: " فإنه قد شرب معك من هو شر منه الشيطان " تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال أيضا: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن رجل عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو يعلم الذي يشرب وهو قائم ما في بطنه لاستقاء " قال: وحدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الزهري * وقال الامام حدثنا موسى حدثنا ابن لهيعة عن ابن الزبير أنه سأل جابرا سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دخل الرجل بيته فذكر اسم الله حين يدخل وحين يطعم قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء ههنا.
وان دخل ولم يذكر اسم الله عند دخوله قال أدركتم المبيت.
وان لم يذكر اسم الله عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء " ؟ قال نعم * وقال البخاري حدثنا محمد حدثنا عبدة حدثنا محمد عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى يبرز وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى يغيب ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فانها تطلع بين قرني الشيطان " (1) أو (الشياطين) لا أدري أي ذلك قال هشام * ورواه مسلم والنسائي من حديث هشام به * وقال البخاري حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى
__________
(1) بين قرني الشيطان: قيل المراد بقرنه أمته وشيعته وقيل: قرنه جانب رأسه.
هذا ظاهر الحديث.
ومعناه أن يدنو برأسه إلى الشمس في هذا الوقت ليكون الساجدون للشمس من الكفار كالساجدين له.
حينئذ يمكن أن يلبس على المصلي صلاته.
فكرهت الصلاة في هذا الوقت لسياق المعنى كما كرهت في مأوى الشيطان.


المشرق فقال " ها إن الفتنة ههنا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان " * هكذا رواه البخاري منفردا به من هذا الوجه * وفي السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نهى أن يجلس بين الشمس والظل.
وقال إنه مجلس الشيطان ".
وقد ذكروا في هذا معاني.
من أحسنها أنه لما كان الجلوس في مثل هذا الموضع فيه تشويه بالخلقة فيما يرى كان يحبه الشيطان لان خلقته في نفسه مشوه وهذا مستقر في الاذهان.
ولهذا قال تعالى: (طلعها كأنه رؤس الشياطين) (1) الصحيح أنهم الشياطين لا ضرب من الحيات كما زعمه من زعمه من المفسرين والله أعلم * فان النفوس مغروز فيها قبح الشياطين وحسن خلق الملائكة وإن لم يشاؤا.
ولهذا قال تعالى (طلعها كأنه رؤس الشياطين)
وقال النسوة لما شاهدن جمال يوسف (حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) (2).
وقال البخاري حدثنا يحيى بن جعفر حدثنا محمد بن عبد الله الانصاري حدثنا ابن جريج أخبرني عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استجنح) أو (كان جنح الليل) فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ فإذا ذهب ساعة من العشاء فحلوهم وأغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وأوك (3) سقاءك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله ولو تعرض عليه شيئا ".
ورواه أحمد عن يحيى عن ابن جريج وعنده فإن الشيطان لا يفتح مغلقا.
وقال الامام أحمد حدثنا وكيع عن قط (4) عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أغلقوا أبوابكم وخمروا آنيتكم وأوكوا أسقيتكم وأطفؤا سرجكم فان الشيطان لا يفتح بابا مغلقا ولا يكشف غطاء ولا يحل وكاء وإن الفويسقة تضرم البيت على أهله يعني الفأرة.
وقال البخاري حدثنا آدم حدثنا شعبة عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن كريب عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني فإن كان بينهما ولد لم يضره الشيطان ولم يسلط عليه ".
وحدثنا الاعمش عن سالم عن كريب عن ابن عباس مثله.
ورواه أيضا عن موسى بن إسماعيل عن همام عن منصور عن سالم عن كريب عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فرزقا ولدا لم يضره الشيطان " * وقال البخاري حدثنا إسماعيل حدثنا أخي عن سليمان عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد.
يضرب على كل عقدة مكانها " عليك ليل طويل فارقد " فان استيقظ فذكر الله انحلت عقدة.
فإن توضأ إنحلت عقدة.
فإن صلى إنحلت عقده كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان " هكذا رواه منفردا به من
__________
(1) سورة الصافات الآية 65.
(2) سورة يوسف الآية 31.
(3) أوك من الوكاء وهو كل ما شد رأسه من وعاء وغيرها.
(4) كذا في الاصول قط وليس الرواة من تسمى بهذا الاسم وفي المسند ج 3 / 301 ورد قطر.


هذا الوجه.
وقال البخاري حدثنا إبراهيم عن حمزة حدثني ابن أبي حازم عن يزيد يعني ابن الهادي عن محمد بن إبراهيم عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فاستنثر ثلاثا فإن الشيطان يبيت على خيشومه) ورواه مسلم عن بشر بن الحكم عن الدراوردي.
والنسائي عن محمد بن زنبور عن عبد العزيز بن أبي حازم كلاهما عن يزيد بن الهادي به.
وقال البخاري حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله قال " ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليله ثم أصبح قال ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه " أو قال (في أذنه).
ورواه مسلم عن عثمان واسحاق كلاهما عن جرير به.
وأخرجه البخاري أيضا والنسائي وابن ماجة من حديث منصور بن المعتمر به.
وقال البخاري حدثنا محمد بن يوسف أنبأنا الاوزاعي عن يحى ابن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط فإذا قضى أقبل فإذا ثوب بها أدبر فإذا قضى أقبل حتى يخطر بين الانسان وقلبه.
فيقول اذكر كذا وكذا حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا فإذا لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا سجد سجدتي السهو " هكذا رواه منفردا به من هذا الوجه.
وقال أحمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا جعفر يعني الاحمر عن عطاء بن السائب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " راصوا الصفوف فإن الشيطان يقوم في الخلل " (1) وقال أحمد حدثنا أبان حدثنا قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " راصوا الصفوف وقاربوا بينها وحاذوا بين الاعناق فوالذي نفس محمد بيده إني لارى الشيطان يدخل من خلل الصف كأنه الحذف " (2) * وقال البخاري حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا يونس عن حميد بن هلال عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مر بين يدي أحدكم شئ فليمنعه فإن أبى فليمنعه فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان " ورواه أيضا مسلم وأبو داود من حديث سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال به * وقال الامام أحمد حدثنا
أبو أحمد حدثنا بشير بن معبد حدثنا أبو عبيد حاجب سليمان قال رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي فذهبت أمر بين يديه فردني * ثم قال حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يصلي صلاة الصبح وهو خلفه يقرأ فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال " لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين الابهام والتي تليها ولولا دعوة أخي سليمان لاصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد بتلاعب به صبيان المدينة فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل * وروى أبو داود منه فمن استطاع إلى آخره عن أحمد بن أبي سريج عن أبي أحمد محمد بن عبد الله بن محمد بن الزبير به.
وقال البخاري حدثنا محمود حدثنا شبابة حدثنا شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه صلى صلاة فقال إن الشيطان عرض لي فسد علي لقطع الصلاة علي فأمكنني الله منه " فذكر الحديث * وقد رواه
__________
(1) مسند أحمد 3 / 154.
(2) مسند أحمد 3 / 260.


مسلم والنسائي من حديث شعبة به مطولا.
ولفظ البخاري عند تفسير قوله تعالى أخبارا عن سليمان عليه السلام أنه قال (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك أنت الوهاب) (1) من حديث روح وغندر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن عفريتا (2) من الجن تفلت علي البارحة " أو كلمة نحوها (3) ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك أنت الوهاب) قال روح فرده خاسئا * وروى مسلم من حديث أبي إدريس عن أبي الدرداء قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول: " اعوذ بالله منك " ثم قال: " ألعنك بلعنة الله ثلاثا " وبسط يده كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا يارسول الله قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك فقال: " إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجمله (4) في وجهي فقلت: " أعوذ بالله منك ".
ثلاث مرات.
ثم
قلت: ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثم أردت أخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لاصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة ".
وقال تعالى (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) (5) يعني الشيطان وقال تعالى (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) فالشيطان لا يألو الانسان خبالا جهده وطاقته في جميع أحواله وحركاته وسكناته كما صنف الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا كتابا في ذلك سماه (مصائد الشيطان).
وفيه فوائد جمة.
وفي سنن أبي داود إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يقول في دعائه.
وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت.
وروينا في بعض الاخبار أنه قال (يا رب وعزك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني) وقال الله تعالى (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) (6) فوعد الله هو الحق المصدق ووعد الشيطان هو الباطل.
وقد روى الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم في تفسيره من حديث عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن للشيطان للمة بابن آدم وللملك لمة.
فأما لمة الشيطان
__________
(1) سورة ص الآية 35.
(2) العفريت: العاتي المارد من الجن.
(3) عند مسلم.
يفتك علي: والفتك الاخذ في غفلة وخديعة.
(4) عند مسلم: ليجعله.
(5) سورة لقمان الآية 33.
(6) سورة البقرة الآية 268.


فأيعاد بالشر وتكذيب بالحق.
وأما لمة الملك فايعاد بالخير وتصديق بالحق.
فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله.
ومن وجد الاخرى فليتعوذ من الشيطان " (1) ثم قرأ (والشيطان يعدكم
الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم).
وقد ذكرنا في فضل سورة البقرة أن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه.
وذكرنا في فضل آية الكرسي أن من قرأها في ليلة لا يقربه الشيطان حتى يصبح.
وقال البخاري حدثنا عبد الله بن يوسف أنبأنا ملك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك " (2).
وأخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة من حديث ملك.
وقال الترمذي حسن صحيح.
وقال البخاري أنبأنا أبو اليمان أنبأنا شعيب عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: " كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب ".
تفرد به من هذا الوجه.
وقال البخاري حدثنا عاصم بن علي حدثنا ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " التثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع فإن أحدكم إذا قال (ها) ضحك الشيطان ".
ورواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه النسائي من حديث ابن أبي ذئب به * وفي لفظ " إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع فان الشيطان يدخل ".
وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق أنبأنا سفيان عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب العطاس ويبغض أو يكره التثاؤب فإذا قال أحدكم هاها فإنما ذلك الشيطان يضحك من جوفه.
ورواه الترمذي والنسائي من حديث محمد بن عجلان به.
وقال البخاري حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن أشعث عن أبيه عن مسروق قال: قالت عائشة سألت النبي صلى الله عليه وسلم: عن التفات الرجل في الصلاة فقال: " هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم ".
وكذا رواه أبو داود والنسائي من رواية أشعث بن أبي الشعثاء
سليم بن أسود المحاربي عن أبيه عن مسروق به.
وروى البخاري من حديث الاوزاعي عن يحيى بن أبي كثير حدثني عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فإذا حلم أحدكم حلما يخافه فليبصق عن يساره وليتعوذ بالله من شرها فإنها لا تضره ".
وقال الامام أحمد حدثنا
__________
(1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة (2 ; 25).
(2) أخرجه البخاري في أكثر من موضع (إيمان: 42) ومسلم في الايمان (46) والترمذي في الطهارة (41) وابن ماجة في المقدمة (9).


عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح فانه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزع في يده فيقع في حفرة من النار ".
أخرجاه من حديث عبد الرزاق.
وقال الله تعالى (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين واعتدنا لهم عذاب السعير) (1) وقال (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد.
لا يسمعون إلى الملا الاعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب.
إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) (2) وقال تعالى (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين.
وحفظناها من كل شيطان رجيم.
إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) (3) وقال تعالى (وما تنزلت به الشياطين.
وما ينبغي لهم وما يستطيعون انهم عن السمع لمعزولون) (4) وقال تعالى إخبارا عن الجان (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا.
وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) (5).
وقال البخاري: وقال الليث: حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن أبا الاسود أخبره عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الملائكة تحدث في العنان (والعنان الغمام) بالامر يكون في الارض فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة فيزيدون معها مائة كلمة.
هكذا رواه في صفة إبليس معلقا عن الليث به.
ورواه في صفة الملائكة عن
سعيد بن أبي مريم عن الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن عبد الرحمن أبي الاسود عن عروة عن عائشة بنحوه * تفرد بهذين الطريقين دون مسلم * وروى البخاري في موضع آخر ومسلم من حديث الزهري عن يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه قال: " قالت عائشة سأل ناس النبي صلى الله عليه وسلم: عن الكهان فقال " انهم ليسوا بشئ " * فقالوا يا رسول الله إنهم يحدثوننا أحيانا بشئ فيكون حقا فقال صلى الله عليه وسلم: " تلك الكلمة من الحق (6) يخطفها (7) من الجني فيقرقرها (8) في أذن وليه كقرقرة الدجاجة فيخلطون معها مائة كذبة * هذا لفظ البخاري.
__________
(1) سورة الملك الآية 5.
(2) سورة الصافات الآية 6.
(3) سورة الحجر الآية 16.
(4) سورة الشعراء الآية 210.
(5) سورة الجن الآية 8.
(6) عند مسلم من الجن، يعني الكلمة المسموعة من الجن أو التي تصح مما نقتله الجن.
(7) يخطفها: الخطف الاستراق والاخذ بسرعة.
(8) قرقرها: وعند مسلم " قرها ": قال أهل اللغة القر ترديد الكلام في إذن المخاطب حتى يفهمه، وقر الدجاجة صوتها إذا قطعته.
يقال: قرت تقرقرا وقريرا وتقول إذا رددته: قرقرت قرقرة.
قال الخطابي وغيره: معناه أن الجني يقذف الكلمة إلى وليه الكاهن فتسمعها الشياطين، كما تؤذن الدجاجة بصوتها رفيقاتها.


وقال البخاري حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال سمعت عكرمة يقول سمعت أبا هريرة يقول إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قضى الله الامر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان.
فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير.
فيسمعها مسترق السمع.
ومسترق السمع هكذا بعضه فوق
بعض.
ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه.
فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن.
فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا.
فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء انفرد به البخاري * وروى مسلم من حديث الزهري عن علي بن الحسين زين العابدين عن ابن عباس عن رجال من الانصار عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا.
وقال تعالى (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين.
وانهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون.
حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين) (1) وقال تعالى (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) (2) الآية وقال تعالى (وقال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد.
قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد.
ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) (3) وقال تعالى (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون.
ولتصغي إليه افئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) (4).
وقد قدمنا في صفة الملائكة ما رواه أحمد ومسلم من طريق منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه واسمه رافع عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا وإياك يا رسول الله قال وإياي ولكن الله أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير.
وقال الامام أحمد حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه واسمه حصين بن جندب وهو أبو ظبيان الجنبي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الشياطين قالوا وأنت يارسول الله قال نعم ولكن الله أعانني عليه
__________
(1) سورة الزخرف الآية 36.
(2) سورة فصلت الآية 25.
(3) سورة ق الآية 27.
(4) سورة الانعام الآية 111.


فأسلم (1) * تفرد به أحمد وهو على شرط الصحيح.
وقال الامام أحمد حدثنا هارون حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني أبو صخر عن يزيد بن قسيط حدثه أن عروة بن الزبير حدثه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خرج من عندها ليلا قالت فغرت عليه قالت فجاء فرأى ما أصنع فقال: " مالك يا عائشة أغرت " قالت: فقلت ومالي أن لا يغار مثلي على مثلك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفأخذك شيطانك " قالت: يا رسول الله أو معي شيطان.
قال: " نعم ".
قلت ومع كل إنسان.
قال: " نعم " قلت ومعك يا رسول الله ؟ قال: " نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى اسلم " * وهكذا رواه مسلم عن هارون وهو ابن سعيد الايلي بإسناده نحوه.
وقال الامام أحمد حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن المؤمن لينصى شيطانه كما ينصى أحدكم بعيره في السفر " تفرد به أحمد من هذا الوجه ومعنى لينصى شيطانه ليأخذ بناصيته فيغلبه ويقهره كما يفعل بالبعير إذا شرد ثم غلبه ".
وقوله تعالى إخبارا عن إبليس (قال فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم.
ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) (2).
قال الامام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو عقيل هو عبد الله بن عقيل الثقفي حدثنا موسى بن المسيب عن سالم بن أبي الجعد عن سبرة بن أبي فاكه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة فقعد له بطريق الاسلام فقال أتسلم وتذر دينك ودين آبائك.
قال فعصاه وأسلم قال وقعد له بطريق الهجرة فقال أتهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول فعصاه وهاجر.
ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهد النفس والمال فقال أتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال قال فعصاه وجاهد " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فمن فعل ذلك منهم كان حقا على الله أن يدخله الجنة.
وان قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة وان كان غرق كان
حقا على الله أن يدخله الجنة وان وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة.
وقال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري حدثني جبير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم سمعت عبد الله بن عمر يقول لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هذه الدعوات حين يصبح وحين يمسي " اللهم اني أسألك العافية في الدنيا والآخرة اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي
__________
(1) فأسلم فيها روايتان برفع الميم وفتحها.
فمن رفع قال: معناه أسلم أنا من شره وفتنته، ومن فتح الميم اعتبر أن القرين أسلم وصار مؤمنا.
قال الخطابي الصحيح الرفع ; ورجح القاضي عياض الفتح: على معنيين: بمعنى انقاد واستسلم وقيل، وهو الظاهر، صار مسلما مؤمنا.
والله أعلم.
(2) سورة الاعراف الآية 16.


وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي " قال وكيع يعني الخسف ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديث عبادة بن مسلم به (1).
وقال الحاكم صحيح الاسناد.
باب خلق آدم عليه السلام (2) قال الله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة.
قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك.
قال إني أعلم ما لا تعلمون.
وعلم آدم الاسماء كلها.
ثم عرضهم على الملائكة.
فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
قال يا آدم أنبئهم باسمائهم فلما أنبأهم باسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون.
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس.
أبى واستكبر وكان من الكافرين.
وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة.
وكلا منها رغدا حيث شئتما.
ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين.
فأزلهما الشيطان عنها فاخرجهما مما كانا فيه.
وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو.
ولكم
في الارض مستقر ومتاع إلى حين.
فتلقى آدم من ربه كلمات.
فتاب عليه انه هو التواب الرحيم.
قلنا اهبطوا منها جميعا فاما يأتينكم مني هدى.
فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (3) وقال تعالى (ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) (4) وقال تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء
__________
(1) في المسند: ج 2 / 25 عمارة بن مسلم وهو تحريف.
وعبادة أبويحيى البصري ثقة اضطرب فيه قول ابن حبان / الكاشف ج 2 / 57 تقريب التهذيب 1 / 395.
(2) ذكر اسم آدم في القرآن الكريم خمسا وعشرين مرة في خمس وعشرين آية في تسع سور: في: البقرة 31، 33، 34، 35، 36.
آل عمران 33، 59.
المائدة 27.
الاعراف 11، 19، 26، 27، 31، 35، 172.
الاسراء 61، 70.
الكهف 50.
مريم 58.
طه 115، 116، 117، 120، 121.
يس 60.
(3) سورة البقرة الآية 30.
(4) سورة آل عمران الآية 59.


واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام.
إن الله كان عليكم رقيبا) [ النساء: 1 ] كما قال (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا.
أن أكرمكم عند الله أتقاكم
ان الله عليم خبير) [ الحجرات: 13 ].
وقال تعالى (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) [ الاعراف: 189 ] الآية وقال تعالى (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين.
قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.
قال فاهبط منها.
فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج انك من الصاغرين.
قال انظرني إلى يوم يبعثون.
قال انك من المنظرين.
قال فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم.
ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين.
قال اخرج منها مذؤما مدحورا لمن تبعك منهم لاملان جهنم منكم أجمعين.
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين.
فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين.
وقاسمهما أني لكما لمن الناصحين.
فدلاهما بغرور.
فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخسفان عليهما من ورق الجنة.
وناداهما ربهما ألم انهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما ان الشيطان لكما عدو مبين.
قالا ربنا ظلمنا أنفسنا.
وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين.
قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون) [ الاعراف: 11 ].
كما قال في الآية الاخرى (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) [ طه: 55 ].
وقال تعالى (ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حمأ مسنون.
والجان خلقناه من قبل من نار السموم.
واذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون.
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون.
الا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين.
قال يا إبليس مالك أن لا تكون مع الساجدين.
قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون.
قال فاخرج منها فانك رجيم.
وان عليك اللعنة إلى يوم الدين.
قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون.
قال فانك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم.
قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين.
الا عبادك منهم
المخلصين * قال هذا صراط علي مستقيم.
ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين.
وان جهنم لموعدهم أجمعين.
لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) [ الحجر: 26 ] وقال تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس.
قال أأسجد لمن خلقت طينا.
قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا.
قال اذهب فمن تبعك منهم فان جهنم جزاؤكم جزاء موفورا.
واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الاموال والاولاد وعدهم وما يعدهم

الشيطان الا غرورا.
ان عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا) [ الكهف: 50 ] وقال تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم.
فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه.
أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا) [ الاسراء: 61 ].
وقال تعالى (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما.
واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى.
فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى.
ان لك ان لا تجوع فيها ولا تعرى.
وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى.
فوسوس إليه الشيطان.
قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى.
فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة.
وعصى آدم ربه فغوى.
ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى.
قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو.
فأما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى.
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى.
قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا.
قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) [ طه: 115 ].
وقال تعالى (قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون.
ما كان لي من علم بالملا الاعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي الا أنما أنا نذير مبين.
إذ قال ربك للملائكة اني خالق بشرا من طين.
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون.
إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين.
قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين.
قال
أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.
قال فاخرج منها فانك رجيم.
وان عليك لعنتي إلى يوم الدين.
قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون.
قال فانك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم.
قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين.
قال فالحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين.
قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين.
ان هو الا ذكر للعالمين.
ولتعلمن نبأه بعد حين) [ ص: 68 ].
فهذا ذكر هذه القصة من مواضع متفرقة من القرآن * وقد تكلمنا على ذلك كله في التفسير * ولنذكر ههنا مضمون ما دلت عليه هذه الآيات الكريمات وما يتعلق بها من الاحاديث الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم * والله المستعان.
فأخبر تعالى أنه خاطب الملائكة قائلا لهم (اني جاعل في الارض خليفة) (1) أعلم بما يريد أن يخلق من آدم وذريته الذين يخلف بعضهم بعضا كما قال (وهو الذي جعلكم خلائف الارض) [ الانعام: 165 ] فأخبرهم بذلك على سبيل التنويه بخلق آدم وذريته كما يخبر بالامر العظيم قبل كونه فقالت الملائكة سائلين على وجه الاستكشاف والاستعلام عن وجه الحكمة لا على
__________
(1) سورة البقرة الآية 30 ومعنى الخلافة: انه أي آدم سيكون له سلطان عليها متصرفا في موادها ليجعلها ملائمة لحاجاته.


وجه الاعتراض والتنقص لبني آدم والحسد لهم كما قد يتوهمه بعض جهلة المفسرين (1) * قالوا (اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) (2) قيل علموا ان ذلك كائن بما رأوا ممن كان قبل آدم من الجن والبن قاله قتادة.
وقال عبد الله بن عمر كانت الجن قبل آدم بألفي عام فسفكوا الدماء فبعث الله إليهم جندا من الملائكة فطردوهم إلى جزائر البحور * وعن ابن عباس نحوه.
وعن الحسن ألهموا ذلك * وقيل لما اطلعوا عليه من اللوح المحفوظ فقيل أطلعهم عليه هاروت وماروت عن ملك فوقهما يقال له الشجل.
رواه بن أبي حاتم عن ابي جعفر الباقر * وقيل لانهم علموا أن الارض لا يخلق منها إلا
من يكون بهذه المثابة غالبا (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) (3) أي نعبدك دائما لا يعصيك منا أحد * فان كان المراد بخلق هؤلاء أن يعبدوك فها نحن لا نفتر ليلا ولا نهارا (قال إني اعلم ما لا تعلمون) (4) أي أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هؤلاء ما لا تعلمون أي سيوجد منهم الانبياء والمرسلون والصديقون والشهداء ثم بين لهم شرف آدم عليهم في العلم فقال (وعلم آدم الاسماء كلها) (5) * قال ابن عباس هي هذه الاسماء التي يتعارف بها الناس إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وجمل وحمار وأشباه ذلك من الامم وغيرها * وفي رواية علمه اسم الصحفة والقدر حتى الفسوة والفسية * وقال مجاهد علمه اسم كل دابة وكل طير وكل شئ.
__________
(1) إن تساؤل الملائكة بعد أن آدهم أن يخلق الله خلقا غيرهم، مرده إلى خوفهم من أن يكون ذلك لتقصير وقع منهم، أو لمخالفة كانت من أحدهم، فأسرعوا بتساؤلهم لتبرئة أنفسهم وقالوا كيف تخلق غيرنا ؟ ونحن دائبون على التسبيح بحمدك وتقديس اسمك ؟ (2) سورة البقرة الآية 30 قالوا ذلك رغبة منهم فيما يزيل شبهتهم وينزع الوساوس من صدورهم، وامتد رجاؤهم إلى الله أن يستخلفهم في الارض يقول صاحب الظلال: ويوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد الحال، أو من تجارب سابقة في الارض، أو من إلهام البصيرة، ما يكشف لهم عن شئ من فطرة هذا المخلوق، أو من مقتضيات حياته على الارض، وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الارض، وانه سيسفك الدماء، ثم هم - بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق - يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له..وهو متحقق بوجودهم هم.
(3) سورة البقرة جزء من الآية 30.
(4) سورة البقرة جزء من الآية 30 وفيه جواب على تساؤلهم ورجائهم، وجواب اطمأنت به قلوبهم وثلجت به صدورهم.
(5) سورة البقرة الآية 31 قال النجار في قصص الانبياء ص 6: "..وأن آدم سمى كل شئ باسمه، وهذه مبالغة غير مقبولة لا أميل إليها، بل أميل إلى أنه سمى الاشياء التي وقع عليها حسه ومنها الطيور والبهائم والطيور وكل أنواع الحيوان الموجودة هناك ".
وقال صاحب الظلال: أعطاه سر القدرة على الرمز بالاسماء للمسميات وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الانسان على الارض ص 1 / 57.


وكذا قال سعيد بن جبير وقتادة وغير واحد * وقال الربيع علمه أسماء الملائكة، وقال عبد الرحمن بن زيد علمه أسماء ذريته والصحيح أنه علمه أسماء الذوات وأفعالها مكبرها ومصعرها كما أشار إليه ابن عباس رضي الله عنهما * وذكر البخاري هنا ما رواه هو ومسلم من طريق سعيد وهشام عن قتادة عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو البشر خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك اسماء كل شئ " وذكر تمام الحديث * (ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني باسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) قال الحسن البصري: " لما أراد الله خلق آدم قالت الملائكة لا يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه فابتلوا بهذا " وذلك قوله (ان كنتم صادقين) وقيل غير ذلك كما بسطناه في التفسير قالوا (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم) أي سبحانك أن يحيط أحد بشئ من علمك من غير تعليمك كما قال (ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء) (قال يا آدم أنبئهم باسمائهم فلما أنبأهم باسمائهم قال ألم أقل لكم اني أعلم غيب السموات والارض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) أي أعلم السر كما أعلم العلانية * وقيل إن المراد بقوله واعلم ما تبدون ما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها وبقوله وما كنتم تكتمون المراد بهذا الكلام ابليس حين أسر الكبر والتخيرة على آدم عليه السلام قاله سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك والثوري واختاره ابن جرير * وقال أبو العالية والربيع والحسن وقتادة (وما كنتم تكتمون) قولهم لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه * قوله (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس أبى واستكبر) (1) هذا إكرام عظيم من الله تعالى لآدم حين خلقه بيده ونفخ فيه من روحه كما قال (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (2) فهذه أربع تشريفات: خلقه له بيده الكريمة، ونفخه فيه من روحه، وأمره الملائكة بالسجود له، وتعليمه أسماء الاشياء ولهذا قال
له موسى الكليم حين اجتمع هو وإياه في الملا الاعلى وتناظرا كما سيأتي (أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شئ.
وهكذا يقول أهل المحشر يوم القيامة كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله تعالى وقال في الآية الاخرى (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس لم يكن من الساجدين * قال ما منعك ان لا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) (3) قال
__________
(1) سورة البقرة الآية 34.
(2) سورة الحجر الآية 29.
قال صاحب الظلال: إنه التكريم في أعلى صوره، لهذا المخلوق الذي يفسد في الارض ويسفك الدماء، ولكنه وهب من الاسرار ما يرفعه على الملائكة.
لقد وهب سر المعرفة، كما وهب سر الارادة المستقلة التي تختار الطريق..إن ازدواج طبيعته، وقدرته على تحكيم ارادته، واضطلاعه بأمانة الهداية إلى الله.
إن هذا كله بعض أسرار تكريمه.
(3) سورة الاعراف الآية 11.


الحسن البصري قاس إبليس وهو أول من قاس * وقال محمد بن سيرين أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس ولا القمر إلا بالمقاييس * رواهما ابن جرير ومعنى هذا أنه نظر نفسه بطريق المقايسة بينه وبين آدم فرأى نفسه أشرف من آدم فامتنع من السجود له مع وجود الامر له ولسائر الملائكة بالسجود.
والقياس إذا كان مقابلا بالنص كان فاسد الاعتبار * ثم هو فاسد في نفسه فإن الطين أنفع وخير من النار فإن الطين فيه الرزانة والحلم والاناة والنمو، والنار فيها الطيش والخفة والسرعة والاحراق (1) * ثم آدم شرفه الله بخلقه له بيده ونفخه فيه من روحه * ولهذا أمر الملائكة بالسجود له * كما قال (إذ قال ربك للملائكة أني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون.
إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال يا إبليس مالك أن لا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لاسجد لبشر
خلقته من صلصال من حمأ مسنون * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وان عليك اللعنة إلى يوم الدين) (2) استحق هذا من الله تعالى لانه استلزم تنقصه لآدم وازدراؤه به وترفعه عليه مخالفة الامر الآلهي، ومعاندة الحق في النص على آدم على التعيين وشرع في الاعتذار بما لا يجدي عنه شيئا - وكان اعتذاره أشد من ذنبه كما قال تعالى في سورة سبحان (واذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا * قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن اخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته الا قليلا * قال اذهب فمن تبعك منهم فان جهنم جزاؤكم جزاء موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الاموال والاولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان الا غرورا * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا) (3) وقال في سورة الكهف (واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) (4) أي خرج عن طاعة الله عمدا وعنادا واستكبارا عن امتثال أمره وما ذاك إلا لانه خانه طبعه ومادته الخبيثة أحوج ما كان إليها فانه مخلوق من نار كما قال وكما قدرنا في صحيح مسلم عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خلق الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم.
__________
(1) قال القرطبي في أحكامه 7 / 171: فإن الطين أفضل من النار من وجوه أربعة: - إن من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والاناه والحلم والحياء والصبر ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدة والارتفاع والاضطراب.
- إن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر ولم ينطق الخبر بأن في الجنة نارا.
- إن النار سبب العذاب.
- إن الطين مستغن عن النار، والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب.
(2) سورة الحجر الآيات 28 - 35.
(3) سورة الاسراء الآيات 61 - 65.
(4) سورة الكهف الآية 50.


قال الحسن البصري.
لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين قط.
وقال شهر بن حوشب.
كان من الجن فلما أفسدوا في الارض بعث الله إليهم جندا من الملائكة فقتلوهم وأجلوهم إلى جزائر البحار وكان إبليس ممن أسر فأخذوه معهم إلى السماء فكان هناك (1).
فلما أمرت اللملائكة بالسجود امتنع إبليس منه.
وقال ابن مسعود وابن عباس وجماعة من الصحابة وسعيد بن المسيب وآخرون: كان إبليس رئيس الملائكة بالسماء الدنيا.
قال ابن عباس وكان اسمه عزازيل (2).
وفي رواية عن الحارث قال النقاش وكنيته (أبو كردوس) قال ابن عباس: وكان من حي من الملائكة يقال لهم الجن وكانوا خزان الجنان وكان من أشرفهم وأكثرهم علما وعبادة وكان من أولي الاجنحة الاربعة فمسخه الله شيطانا رجيما.
وقال في سورة ص - (إذ قال ربك للملائكة اني خالق بشرا من طين.
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون.
إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين.
قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين.
قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاخرج منها فانك رجيم.
وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون.
قال فانك من المنظرين.
إلى يوم الوقت المعلوم.
قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين.
إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لاملئن جهنم منك وممن تبعك منهم أجعين) (3) وقال في سورة الاعراف (قال فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم.
ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) (4) أي بسبب اغوائك إياي لاقعدن لهم كل مرصد ولآتينهم من كل جهة منهم فالسعيد من خالفه والشقي من اتبعه.
وقال الامام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو عقيل (هو عبد الله بن عقيل الثقفي) حدثنا موسى بن المسيب عن سالم بن أبي الجعد عن سبرة بن أبي الفاكه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: " ان الشيطان يقعد لابن آدم بأطراقه " وذكر الحديث كما قدمناه في صفة إبليس.
وقد اختلف المفسرون في الملائكة المأمورين بالسجود لآدم.
أهم جميع الملائكة كما دل عليه عموم الآيات وهو قول الجمهور.
أو المراد بهم ملائكة الارض.
كما رواه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس.
وفيه انقطاع.
وفي السياق نكارة وان كان بعض المتأخرين قد رجحه
__________
(1) جاء في القرطبي 1 / 295: قال المهدوي: إن إبليس هو الذي قاتل الجن في الارض مع جند من الملائكة.
وعن ابن عباس: انه كان رئيس ملائكة السماء الدنيا وكان له سلطانها وسلطان الارض، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما وكان يسوس ما بين السماء والارض فرأى لنفسه بذلك شرفا وعظمة.
(2) كان اسمه بالسريانية عزازيل وبالعربية الحارث.
(3) سورة ص الآيات 71 - 85.
(4) سورة الاعراف الآية 16.


ولكن الاظهر من السياقات الاول ويدل عليه الحديث وأسجد له ملائكته وهذا عموم أيضا والله أعلم (1).
وقوله تعالى لابليس (اهبط منها) و (اخرج منها) دليل على أنه كان في السماء فأمر بالهبوط منها والخروج من المنزلة والمكانة التي كان قد نالها بعبادته وتشبهه بالملائكة في الطاعة والعبادة ثم سلب ذلك بكبره وحسده ومخالفته لربه فأهبط إلى الارض مذؤما مدحورا.
وأمر الله آدم عليه السلام أن يسكن هو وزوجته الجنة فقال (وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) (2).
وقال في الاعراف (قال اخرج منها مذؤما مدحورا لمن تبعك منهم لاملئن جهنم منكم أجمعين.
ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) (3) وقال تعالى (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم ان هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى.
ان لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) (4) وسياق هذه الآيات يقتضي أن خلق حواء كان قبل دخول آدم الجنة لقوله (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) وهذا قد صرح به اسحاق ابن بشار وهو ظاهر هذه الآيات.
ولكن حكى السدي عن أبي صالح وأبي مالك عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة أنهم قالوا اخرج ابليس من الجنة واسكن آدم الجنة فكان يمشي فيها وحشى ليس له فيها زوج يسكن إليها فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة.
خلقها الله من ضلعه.
فسألها من أنت قالت: امرأة.
قال: ولما خلقت ؟ قالت: لتسكن إلي ققالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه (ما اسمها يا آدم) قال: حواء قالوا: ولم كانت حواء ؟ قال لانها خلقت من شئ حي.
وذكر محمد بن إسحاق عن ابن عباس أنها خلقت من ضلعه الاقصر الايسر وهو نائم ولام مكانه لحما ومصداق هذا في قوله تعالى (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) (5) الآية وفي قوله تعالى (هو الذي خلقكم من
__________
(1) قال الفخر الرازي في تفسيره ج 1 / 238: قال الاكثرون ان جميع الملائكة مأمورون بالسجود لآدم واحتجوا عليه بوجهين: إن لفظ الملائكة صيغة الجمع وهي تفيد العموم.
الوجه الثاني: هو انه تعالى استثنى إبليس منهم.
ومنهم من قال أن ملائكة الارض.
أما الحكماء فإنهم يحملون الملائكة على الجواهر الروحانية وقالوا يستحيل أن تكون الارواح السماوية منقادة للنفوس الناطقة إنما المراد من الملائكة المأمورين بالسجود القوى الجسمانية البشرية المطيعة للنفس الناطقة.
(2) سورة البقرة الآية 35.
(3) سورة الاعراف الآية 118.
(4) سورة طه الآيات 117 - 119.
(5) سورة النساء الآية 1.


نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به) (1) الآية وسنتكلم عليها فيما بعد ان شاء الله تعالى.
وفي الصحيحين من حديث زائدة عن ميسرة الاشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " استوصوا بالنساء خيرا - فان المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شئ في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيرا " لفظ البخاري.
وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى (ولا تقربا هذه الشجرة) فقيل هي الكرم وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي وجعدة بن هبيرة ومحمد بن قيس والسدي في رواية عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة قال وتزعم يهود أنها الحنطة.
وهذا مروي عن ابن عباس والحسن البصري ووهب بن منبه وعطية العوفي وأبي مالك ومحارب بن دثار و عبد الرحمن بن أبي ليلى * قال وهب والحبة منه ألين من الزبد وأحلى من العسل * وقال الثوري عن أبي حصين عن أبي مالك ولا تقربا هذه الشجرة هي النخلة * وقال ابن جريج عن مجاهد هي التينة وبه قال قتادة وابن حريج وقال أبو العالية (2) كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي في الجنة حدث.
وهذا الخلاف قريب * وقد أبهم الله ذكرها وتعيينها * ولو كان في ذكرها مصلحة تعود إلينا لعينها لنا كما في غيرها من المحال التي تبهم في القرآن.
وإنما الخلاف الذي ذكروه في أن هذه الجنة التي دخلها آدم هل هي في السماء أو في الارض هو الخلاف الذي ينبغي فصله والخروج منه والجمهور على أنها هي التي في السماء وهي جنة المأوى لظاهر الآيات والاحاديث كقوله تعالى (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) والالف واللام ليست للعموم ولا لمعهود لفظي وإنما تعود على معهود ذهني وهو المستقر شرعا من جنة المأوى وكقول موسى عليه السلام لآدم عليه السلام (علام أخرجتنا ونفسك من الجنة) الحديث كما سيأتي الكلام عليه * وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الاشجعي واسمه سعد بن طارق عن أبي حازم سلمة بن دينار عن أبي هريرة * وأبو مالك عن ربعي عن حذيفة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجمع الله الناس فيقوم المؤمن حين تزلف (3) لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم " وذكر الحديث بطوله * وهذا فيه قوة جيدة ظاهرة
__________
(1) سورة الاعراف الآية 189.
(2) في تفسير الرازي: قاله الربيع بن أنس.
قال صاحب الظلال: لقد أبيحت لهما كل ثمار الجنة..إلا شجرة..شجرة واحدة، ربما كانت ترمز للمحظور الذي لابد منه في حياة الارض.
فبغير محظور لا تنبت الارادة.
1 / 58.
(3) عند مسلم (1) كتاب الايمان 329 (195) ص 1 / 187: حتى تزلف: أي تقرب كما قال تعالى: وأزلفت الجنة للمتقين: أي قربت.


في الدلالة على أنها جنة المأوى وليست تخلو عن نظر.
وقال آخرون بل الجنة التي أسكنها آدم لم تكن جنة الخلد لانه كلف فيها أن لا يأكل من تلك الشجرة ولانه نام فيها وأخرج منها ودخل عليه إبليس فيها وهذا مما ينافي أن تكون جنة المأوى.
وهذا القول محكي عن أبي بن كعب و عبد الله بن عباس ووهب بن منبه وسفيان بن عيينة واختاره ابن قتيبة في " المعارف " والقاضي منذر بن سعيد البلوطي في تفسيره وأفرد له مصنفا على حدة.
وحكاه عن أبي حنيفة الامام وأصحابه رحمهم الله.
ونقله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي بن خطيب الري في تفسيره عن أبي القاسم البلخي وأبي مسلم الاصبهاني (1).
ونقله القرطبي في تفسيره عن المعتزلة والقدرية * وهذا القول هو نص التوراة التي بأيدي أهل الكتاب * وممن حكى الخلاف في هذه المسألة أبو محمد بن حزم في الملل والنحل وأبو محمد بن عطية في تفسيره وأبو عيسى الرماني في تفسيره.
وحكى عن الجمهور الاول.
وأبو القاسم الراغب والقاضي الماوردي في تفسيره فقال واختلف في الجنة التي أسكناها يعني آدم وحواء على قولين * أحدهما أنها جنة الخلد * الثاني جنة أعدها الله لهما وجعلها دار ابتلاء وليست جنة الخلد التي جعلها دار جزاء.
ومن قال بهذا اختلفوا على قولين * أحدهما انها في السماء لانه أهبطهما منها وهذا قول الحسن * والثاني أنها في الارض لانه متحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار.
وهكذا قول ابن يحيى وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم والله أعلم بالصواب من ذلك.
هذا كلامه.
فقد تضمن كلامه حكاية أقوال ثلاثة واشعر كلامه أنه متوقف في المسألة.
ولقد
حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره في هذه المسألة أربعة أقوال هذه الثلاثة التي أوردها الماوردي.
ورابعها الوقف * وحكى القول بأنها في السماء وليست جنة المأوى عن أبي علي الجبائي (2).
وقد أورد أصحاب القول الثاني سؤالا يحتاج مثله إلى جواب فقالوا لا شك أن الله سبحانه وتعالى طرد
__________
(1) في تفسير الفخر الرازي: قال أبو مسلم الاصفهاني وأبو القاسم البلخي: هذه الجنة كانت في الارض.
وحملا الاهباط على الانتقال من بقعة إلى بقعة.
واحتجا عليه بوجوه..- لو كانت هي دار الثواب لكانت جنة الخلد.
- من دخل هذه الجنة لا يخرج منها.
- إن إبليس لما امتنع عن السجود لآدم لعن فما كان يقدر على أن يصل إلى جنة الخلد.
- إن الجنة التي هي دار الثواب لا يفنى نعيمها.
انه لا يجوز في حكمته تعالى أن يبتدئ الخلق في جنة يخلدهم فيها.
- لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم في الارض ولم يذكر..انه نقله إلى السماء.
ج 3 / 3.
(2) قال الجبائي: ان تلك الجنة كانت في السماء السابعة وأن الاهباط الاول كان منها إلى السماء الاولى والثاني من السماء إلى الارض.
تفسير الفخر الرازي ج 3 / 3.


إبليس حين امتنع من السجود عن الحضرة الالهية وأمره بالخروج عنها والهبوط منها وهذا الامر ليس من الاوامر الشرعية بحيث يمكن مخالفته وإنما هو أمر قدري لا يخالف ولا يمانع ولهذا قال (اخرج منها مذءوما مدحورا) (1) وقال (اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها) (2) وقال (اخرج منها فانك رجيم) (3) والضمير عائد إلى الجنة أو السماء أو المنزلة وأياما كان فمعلوم أنه ليس له الكون قدرا في المكان الذي طرد عنه وأبعد منه لا على سبيل الاستقرار ولا على سبيل المرور والاجتياز * قالوا ومعلوم من ظاهر سياقات القرآن أنه وسوس لآدم وخاطبه بقوله له (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) (4) وبقوله (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين.
أو تكونا من الخالدين.
وقاسمهما اني لكما لمن الناصحين.
فدلاهما بغرور) (5) الآية وهذا ظاهر في
اجتماعه معهما في جنتهما.
وقد اجيبوا عن هذا بأنه لا يمتنع أن يجتمع بهما في الجنة على سبيل المرور فيها لا على سبيل الاستقرار بها أو أنه وسوس لهما وهو على باب الجنة أو من تحت السماء.
وفي الثلاثة نظر.
والله أعلم.
ومما احتج به أصحاب هذه المقالة ما رواه عبد الله بن الامام أحمد في الزيادات عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن البصري عن يحيى بن ضمرة السعدي عن أبي بن كعب قال: أن آدم لما احتضر اشتهى قطفا من عنب الجنة.
فانطلق بنوه ليطلبوه له.
فلقيتهم الملائكة فقالوا أين تريدون يا بني آدم فقالوا إن أبانا اشتهى قطفا من عنب الجنة.
فقالوا لهم (ارجعوا فقد كفيتموه) فانتهوا إليه فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلى عليه جبريل ومن خلفه من الملائكة ودفنوه.
وقالوا.
(هذه سنتكم في موتاكم) وسيأتي الحديث بسنده.
وتمام لفظه عند ذكر وفاة آدم عليه السلام.
قالوا فلولا انه كان الوصول إلى الجنة التي كان فيها آدم التي اشتهى منها القطف ممكنا لما ذهبوا يطلبون ذلك فدل على أنها في الارض لا في السماء والله تعالى أعلم.
قالوا: والاحتجاج بأن الالف واللام في قوله ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة لم يتقدم عهد يعود عليه فهو المعهود الذهني مسلم ولكن هو ما دل عليه سياق الكلام فإن آدم خلق من الارض ولم ينقل أنه رفع إلى السماء وخلق ليكون في الارض وبهذا أعلم الرب الملائكة حيث قال (اني جاعل في الارض خليفة).
__________
(1) سورة الاعراف الآية 18.
(2) سورة الاعراف الآية 13.
(3) سورة الحجر الآية 34.
(4) سورة طه الآية 120.
(5) سورة الاعراف الآية 20.


قالوا: وهذا كقوله تعالى (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة) (1) فالالف واللام ليس للعموم ولم يتقدم معهود لفظي وإنما هي للمعهود الذهني الذي دل عليه السياق وهو البستان.
قالوا: وذكر الهبوط لا يدل على النزول من السماء قال الله تعالى: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك) (2) الآية وإنما كان في السفينة حين استقر على الجودي ونضب الماء عن وجه الارض أمر أن يهبط إليها هو ومن معه مباركا عليه وعليهم.
وقال الله تعالى (اهبطوا مصرا فان لكم ما سألتم) (3) الآية وقال تعالى (وإن منها لما يهبط من خشية الله) (4) الآية.
وفي الاحاديث واللغة من هذا كثير.
قالوا: ولا مانع بل هو الواقع أن الجنة التي أسكنها آدم كانت مرتفعة عن سائر بقاع الارض ذات أشجار وثمار وظلال ونعيم ونضرة وسرور كما قال تعالى (إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى) (5) أي لا يذل باطنك بالجوع ولا ظاهرك بالعرى.
(وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) (6) أي لا يمس باطنك حر الظمأ ولا ظاهرك حر الشمس.
ولهذا قرن بين هذا وهذا وبين هذا وهذا لما بينهما من الملايمة.
فلما كان منه ما كان من أكله من الشجرة التي نهي عنها اهبط إلى أرض الشقاء والتعب والنصب والكدر والسعي والنكد والابتلاء والاختبار والامتحان واختلاف السكان دينا واخلاقا واعمالا وقصودا وإرادات وأقوالا وأفعالا كما قال تعالى (ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين) (7) ولا يلزم من هذا أنهم كانوا في السماء كما قال تعالى (وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الارض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا) (6) ومعلوم انه كانوا فيها لم يكونوا في السماء.
قالوا: وليس هذا القول مفرعا على قول من ينكر وجود الجنة والنار اليوم ولا تلازم بينهما فكل من حكي عنه هذا القول من السلف واكثر الخلف ممن يثبت وجود الجنة والنار اليوم كما دلت عليه الآيات والاحاديث الصحاح كما سيأتي إيرادها في موضعها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
__________
(1) سورة القلم الآية 17.
(2) سورة هود الآية 48.
(3) سورة البقرة الآية 61.
(4) سورة البقرة الآية 74.
(5) سورة طه الآية 118.
(6) سورة طه الآية 119.
(7) سورة البقرة الآية 36.
(8) سوره الاسراء الآية 104.


وقوله تعالى (فأزلهما الشيطان عنها) أي عن (1) الجنة (فأخرجهما مما كانا فيه) أي من النعيم والنضرة والسرور إلى دار التعب والكد والنكد وذلك بما وسوس لهما وزينه في صدورهما كما قال تعالى (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما.
وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) (2) يقول ما نهاكما عن أكل هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين أي ولو أكلتما منها لصرتما كذلك (وقاسمهما) أي حلف لهما على ذلك (إني لكما لمن الناصحين) كما قال في الآية الاخرى (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) أي هل أدلك على الشجرة التي إذا أكلت منها حصل لك الخلد فيما أنت فيه من النعيم واستمررت في ملك لا يبيد ولا ينقضي وهذا من التغرير والتزوير والاخبار بخلاف الواقع.
والمقصود أن قوله شجرة الخلد التي إذا أكلت منها خلدت وقد تكون هي الشجرة التي قال الامام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن أبي الضحاك سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها شجرة الخلد " * وكذا رواه أيضا عن غندر وحجاج عن شعبة، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة أيضا به وقال غندر قلت لشعبة هي شجرة الخلد قال ليس فيها هي.
تفرد به الامام أحمد * وقوله (فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا
يخصفان عليهما من ورقة الجنة) (3) كما قال في " طه " (أكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) (4) وكانت حواء أكلت من الشجرة قبل آدم وهي التي حدته على أكلها والله أعلم.
وعليه يحمل الحديث الذي رواه البخاري حدثنا بشر بن محمد حدثنا عبد الله أنبأنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه لولا بنو اسرائيل لم يخنز (5) اللحم ولولا حواء لم تخن
__________
(1) قال القرطبي: أزلهما من الزلة وهي الخطيئة، أي استزلهما واوقعهما فيها.
(على اعتبار لفظة عن في هذه الآية بمعنى في قال صاحب الكشاف).
قال ابن كيسان: فازالهما من الزوال: أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية.
ج 1 / 311 وقال القفال: هو من الزلل يكون الانسان ثابت القدم على الشئ فينزل عنه ويصير متحولا عن ذلك الموضع.
التفسير الكبير 3 / 6.
(2) سورة الاعراف الآية 20.
(3) سورة الاعراف الآية 22.
(4) سورة طه الآية 121 جاء في تفسير القرطبي ج 7 / 180: أكلت حواء أولا فلم يصبها شئ، فلما أكل آدم حلت العقوبة.
(5) يخنز: ينتن.


أنثى زوجها.
تفرد به من هذا الوجه وأخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة به ورواه أحمد ومسلم عن هارون بن معروف عن أبي وهب عن عمرو بن حارث عن أبي يونس عن أبي هريرة به * وفي كتاب التوارة التي بين أيدي أهل الكتاب أن الذي دل حواء على الاكل من الشجرة هي الحية وكانت من أحسن الاشكال وأعظمها فأكلت حواء عن قولها وأطعمت آدم عليه السلام وليس فيها ذكر لابليس فعند ذلك انفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان فوصلا من ورق التين وعملا ميازر وفيها أنهما كان عريانين * وكذا قال وهب بن منبه كان لباسهما
نورا على فرجه وفرجها.
وهذا الذي في هذه التوراة التي بأيديهم غلط منهم وتحريف وخطأ في التعريب فإن نقل الكلام من لغة إلى لغة لا يكاد يتيسر لكل أحد ولا سيما ممن لا يعرف كلام العرب جيدا ولا يحيط علما بفهم كتابه أيضا فلهذا وقع في تعريبهم لها خطأ كثير لفظا ومعنى * وقد دل القرآن العظيم على أنه كان عليهما لباس في قوله (ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما) فهذا لا يرد لغيره من الكلام والله تعالى أعلم.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسن بن اسكاب حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ان الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه فأول ما بدا منه عورته فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة فأخذت شعره شجرة فنازعها فناداه الرحمن عزوجل يا آدم مني تفر فلما سمع كلام الرحمن قال يا رب لا ولكن استحياء * وقال الثوري عن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) وورق التين (1) * وهذا إسناد صحيح إليه وكأنه مأخوذ من أهل الكتاب وظاهر الآية يقتضي أعم من ذلك وبتقدير تسليمه فلا يضر والله تعالى أعلم.
وروى الحافظ بن عساكر من طريق محمد بن اسحاق عن الحسن بن ذكوان عن الحسن البصري عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ان أباكم آدم كان كالنخلة السحوق ستين ذراعا كثيرا لشعر مواري العورة فلما أصاب الخطيئة في الجنة بدت له سوأته فخرج من الجنة فلقيته شجرة فأخذت بناصيته فناداه ربه أفرارا مني يا آدم قال: بل حياء منك والله يا رب مما جئت به " * ثم رواه من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن يحيى بن ضمرة عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وهذا أصح فان الحسن لم يدرك أبيا * ثم أورده أيضا من طريق خيثمة بن سليمان الاطرابلسى عن محمد بن عبد الوهاب أبي قرصافة العسقلاني عن آدم بن أبي
__________
(1) جاء في تفسير القرطبي ج 7 / 181 قال: ويروى أن آدم عليه السلام لما بدت سوأته وظهرت عورته طاف على
أشجار الجنة يسل منها ورقة يغطي بها عورته فزجرته أشجار الجنة حتى رحمته شجرة التين فأعطته ورقة.


أياس عن شيبان عن قتادة عن أنس مرفوعا بنحوه * (وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) (1) وهذا اعتراف ورجوع إلى الانابة وتذلل وخضوع واستكانة وافتقار إليه تعالى في الساعة الراهنة وهذا السر ما سرى في أحد من ذريته إلا كانت عاقبته إلى خير في دنياه وأخراه (قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين) (2) وهذا خطاب لآدم وحواء وإبليس قيل والحية معهم أمروا أن يهبطوا من الجنة في حال كونهم متعادين متحاربين * وقد يستشهد لذكر الحية معهما بما ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر يقتل الحيات وقال ما سالمناهن منذ حاربناهن وقوله في سورة طة (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) (3) هو أمر لآدم وإبليس واستتبع آدم حواء وإبليس الحية * وقيل هو أمر لهم بصيغة التثنية كما في قوله تعالى (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين) (4) والصحيح ان هذا لما كان الحاكم لا يحكم إلا بين أثنين مدع ومدعى عليه قال وكنا لحكمهم شاهدين وأما تكريره الاهباط في سورة البقرة في قوله (وقلنا اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم.
قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) (5) فقال بعض المفسرين (6) المراد بالاهباط الاول الهبوط من الجنة إلى السماء الدنيا وبالثاني من السماء الدنيا إلى الارض.
وهذا ضعيف لقوله في الاول (قلنا اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين) فدل على أنهم أهبطوا إلى الارض بالاهباط الاول والله أعلم.
والصحيح أنه كرره لفظا وإن كان واحدا وناط مع كل مرة حكما فناط بالاول عداوتهم فيما بينهم وبالثاني الاشتراط عليهم أن من تبع هداه الذي ينزله عليهم بعد ذلك فهو السعيد ومن خالفه
__________
(1) سورة الاعراف الآيات 22 - 23.
(2) سورة الاعراف الآية 24.
(3) سورة طه الآية 123.
قال الرازي في اهبطا وجوه: - قال أبو مسلم الخطاب: لآدم ومعه ذريته ولابليس ومعه ذريته فلكونهما جنسين صح قوله اهبطا.
ولاجل اشتمال كل واحد من الجنسين على الكثرة صح قوله (فإما يأتينكم).
- قال صاحب الكشاف: لما كان آدم وحواء عليهما السلام أصلا للبشر جعلا كأنهما البشر أنفسهم فخوطبا مخاطبتهم (اهبطا).
ج 22 / 129.
(4) سورة الانبياء الآية 78.
(5) سورة البقرة الآيات 36 - 39.
(6) أبو علي الجبائي، كما تقدم عند الرازي.


فهو الشقي وهذا الاسلوب في الكلام له نظائر في القرآن الحكيم.
وروى الحافظ بن عساكر عن مجاهد قال: أمر الله ملكين أن يخرجا آدم وحواء من جواره فنزع جبريل الناج عن رأسه وحل ميكائيل الاكليل عن جبينه وتعلق به غصن فظن آدم أنه قد عوجل بالعقوبة فنكس رأسه يقول العفو العفو فقال الله فرارا مني قال بل حياء منك يا سيدي وقال الاوزاعي عن حسان هو بن عطية مكث آدم في الجنة مائة عام وفي رواية ستين عاما وبكى على الجنة سبعين عاما وعلى خطيئته سبعين عاما وعلى ولده حين قتل أربعين عاما * رواه بن عساكر.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن سعيد عن ابن عباس قال أهبط آدم عليه السلام إلى أرض يقال له دحنا بين مكة والطائف * وعن الحسن قال اهبط آدم بالهند وحواء بجدة وإبليس بدستميسان من البصرة على أميال واهبطت الحية بأصبهان رواه ابن أبي حاتم أيضا * وقال السدي نزل آدم بالهند ونزل معه بالحجر الاسود وبقبضة من ورق الجنة فبثه في الهند فنبتت شجرة الطيب هناك (1) * وعن ابن عمر قال اهبط آدم بالصفا وحواء
بالمروة.
رواه ابن أبي حاتم أيضا وقال عبد الرزاق قال معمر أخبرني عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الاشعري قال: إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الارض علمه صنعة كل شئ وزوده من ثمار الجنة فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير * وقال الحاكم في مستدركه أنبأنا أبو بكر بن بالوية عن محمد بن أحمد بن النضر عن معاوية بن عمر عن زائدة عن عمار بن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ما اسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس.
ثم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وفي صحيح مسلم من حديث الزهري عن الاعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها " وفي الصحيح من وجه آخر " وفيه تقوم الساعة " وقال أحمد حدثنا محمد بن مصعب حدثنا الاوزاعي عن أبي عمار عن عبد الله بن فروخ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير يوم طلعت فيه الشمس
__________
(1) قال القرطبي ج 1 / 319: اهبط آدم بسرنديب في الهند بجنبل يقال له بوذ / وفي المسعودي ومعجم البلدان: الراهون / ومعه الورق الذي خصفه من ورق الجنة فيبس فذرته الرياح فانتثر في بلاد الهند.
واهبط إبليس ببيسان / بلدة بمرو وبالشام وموضع باليمامة.
وفي المسعودي بالابلة (قرب البصرة من جانبها البحري) والحية وببيسان وقيل بسجستان (إحدى مدن خراسان) وفي المسعودي: بأصبهان راجع مروج الذهب ج 1 / 29.


يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة " على شرط مسلم (1).
فأما الحديث الذي رواه ابن عساكر من طريق أبي القاسم البغوي حدثنا محمد بن جعفر الوركاني حدثنا سعيد بن ميسرة عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هبط آدم وحواء عريانين جميعا عليهما ورق الجنة فأصابه الحر حتى قعد يبكي يقول لها يا حواء قد أذاني الحر قال فجاءه جبريل
بقطن وأمرها أن تغزل وعلمها وأمر آدم بالحياكة وعلمه أن ينسج وقال كان آدم لم يجامع امرأته في الجنة حتى هبط منها للخطيئة التي أصابتهما بأكلهما من الشجرة قال وكان كل واحد منهما ينام على حدة ينام أحدهما في البطحاء والآخر من ناحية أخرى حتى أتاه جبريل فأمره أن يأتي أهله قال وعلمه كيف يأتيها فلما أتاها جاءه جبريل فقال كيف وجدت امرأتك قال صالحة " فإنه حديث غريب ورفعه منكر جدا * وقد يكون من كلام بعض السلف وسعيد بن ميسرة هذا هو أبوعمران البكري البصري.
قال فيه البخاري منكر الحديث.
وقال بن حبان يروي الموضوعات وقال بن عدي مظلم الامر وقوله (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) (2) قيل هي قوله (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) (3) * روي هذا عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب وخالد بن معدان وعطاء الخراساني و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال آدم عليه السلام أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة، قال: نعم " فذلك قوله.
(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه) وهذا غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال الكلمات (اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين.
اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الراحمين اللهم لا إله إلا أنت سبحانك بحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم) * وروى الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه * قال قال آدم يا رب ألم تخلقني بيدك.
قيل له بلى.
ونفخت في من روحك قيل له بلى وعطست فقلت يرحمك الله وسبقت رحتمك غضبك قيل له بلى وكتبت علي أن أعمل هذا - قيل له بلى.
قال أفرأيت إن تبت هل أنت
__________
(1) في مروج الذهب 1 / 29: اسكنا الجنة لثلاث ساعات مضت منه (أي يوم خلقت حواء من آدم) فمكثا ثلاث
ساعات وهو ربع يوم بمائتي سنة وخمسين سنة من أعوام الدنيا.
(2) سورة البقرة الآية 37.
(3) سورة الاعراف الآية 23.


راجعي إلى الجنة.
قال نعم * ثم قال الحاكم صحيح الاسناد ولم يخرجاه * وروى الحاكم أيضا والبيهقي وابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما اقترف آدم الخطيئة قال يا رب أسألك بحق محمد أن غفرت لي فقال الله فكيف عرفت محمدا ولم أخلقه بعد ؟ فقال: يا رب لانك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم إنه لاحب الخلق إلي وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك * قال البيهقي تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه وهو ضعيف (1) والله أعلم وهذه الآية كقوله تعالى (وعصى آدم ربه فغوى.
ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) (2).
احتجاج آدم وموسى عليهما السلام قال البخاري حدثنا قتيبة حدثنا أيوب بن النجار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حاج موسى آدم (3) عليهما السلام فقال له: أنت الذي أخرجت الناس بذنبك من الجنة وأشقيتهم.
قال آدم: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن يخلقني أو قدره علي قبل أن يخلقني.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى " * وقد رواه مسلم عن عمرو الناقد والنسائي عن محمد بن عبد الله بن يزيد عن أيوب بن النجار به * قال أبو مسعود الدمشقي ولم يخرجاه عنه في الصحيحين سواه * وقد رواه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة * ورواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به.
وقال الامام أحمد حدثنا أبو كامل حدثنا إبراهيم حدثنا أبو شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احتج آدم موسى فقال له موسى أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنة فقال له آدم وأنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه تلومني على أمر قدر علي قبل أن أخلق * قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى فحج آدم موسى " مرتين * قلت وقد روى هذا الحديث البخاري ومسلم من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
__________
(1) ضعفه ابن معين والامام أحمد والنسائي: الميزان (2 / 564) وذكره العقيلي في الضعفاء الكبير (2 / 331).
(2) سورة طه الآية 122.
(3) قال أبو الحسن القابسي: معناه التقت أرواحهما في السماء فوقع الحجاج بينهما.
قال القاضي عياض: يحتمل انه على ظاهره وانهما اجتمعا بشخصيهما.


وقال الامام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه أغويت الناس واخرجتهم من الجنة قال فقال آدم وأنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه تلومني على عمل أعمله كتبه الله علي قبل أن يخلق السموات والارض قال: فحج آدم موسى " * وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا عن يحيى بن حبيب بن عدي عن معمر بن سليمان عن أبيه عن الاعمش به * قال الترمذي وهو غريب من حديث سليمان التيمي عن الاعمش قال وقد رواه بعضهم عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قلت هكذا رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن محمد بن مثنى عن معاذ بن أسد عن الفضل بن موسى عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد.
ورواه البزار أيضا حدثنا عمرو بن علي الفلاس حدثنا أبو معاوية حدثنا الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه، وقال أحمد حدثنا سفيان عن عمرو سمع طاووسا سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احتج آدم وموسى فقال موسى
يا آدم أنت أبونا خيبتنا (1) وأخرجتنا من الجنة فقال له آدم يا موسى أنت الذي اصطفاك الله بكلامه وقال مرة برسالته وخط لك بيده (2) أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة قال: حج آدم موسى حج آدم موسى حج آدم موسى " وهكذا رواه البخاري عن علي بن المديني حدثنا عن سفيان قال حفظناه من عمرو عن طاووس قال سمعت أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خببتنا وأخرجتنا من الجنة فقال له آدم يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى فحج آدم (3) موسى " هكذا ثلاثا.
قال سفيان حدثنا ابو الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله * وقد رواه الجماعة إلا ابن ماجة من عشر طرق عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه * وقال أحمد حدثنا عبد الرحمن حدثنا حماد عن عمار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقى آدم موسى فقال أنت آدم الذي خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته واسكنك الجنة ثم فعلت.
فقال أنت موسى الذي كلمك الله واصطفاك برسالته وأنزل عليك التوراة أنا أقدم أم الذكر قال لا بل الذكر فحج آدم موسى.
قال أحمد وحدثنا عفان حدثنا حماد عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وحميد
__________
(1) خيبتنا: أوقعتنا في الخيبة ; الحرمان والخسران، ومعناه كن سبب خيبتنا وإغوائنا بالخطيئة التي ترتب عليها إخراجك من الجنة.
(2) بيده: المراد وجهان: الايمان بها ولا يتعرض لتأويلها.
والثاني تأويلها بالقدرة.
(3) حج آدم: برفع آدم، وهو فاعل، باتفاق الجميع، أي غلبه بالحجة وظهر على موسى بها.


عن الحسن عن رجل قال حماد أظنه جندب بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لقى آدم موسى فذكر معناه.
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال أحمد حدثنا الحسن حدثنا جرير هو ابن حازم عن محمد هو ابن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقى آدم موسى فقال أنت
آدم الذي خلقك الله بيده واسكنك جنته وأسجد لك ملائكته ثم صنعت ما صنعت * قال آدم يا موسى أنت الذي كلمه الله وأنزل عليه التوراة * قال: نعم * قال فهل تجده مكتوبا علي قبل أن أخلق * قال نعم * قال: (فحج آدم موسى فحج آدم موسى، وكذا رواه حماد بن زيد عن أيوب وهشام (1) عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رفعه.
وكذا رواه علي بن عاصم عن خالد وهشام عن محمد بن سيرين * وهذا على شرطهما من هذه الوجوه * وقال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن عبد الاعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني أنس بن عياض عن الحارث بن أبي ذباب عن يزيد بن هرمز سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى.
قال موسى: أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته ثم أهبطت الناس إلى الارض بخطيئتك * قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه وأعطاك الالواح فيها تبيان كل شئ وقربك نجيا فبكم وجدت الله كتب التوراة * قال موسى بأربعين عاما * قال آدم فهل وجدت فيها (وعصى آدم ربه فغوى) (2) قال: نعم * قال أفتلومني على أن عملت عملا كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فحج آدم موسى ".
قال الحارث وحدثني عبد الرحمن بن هرمز بذلك عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رواه مسلم عن اسحق بن موسى الانصاري عن أنس بن عياض عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن يزيد بن هرمز والاعرج كلاهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احتج آدم وموسى فقال موسى لآدم يا آدم أنت الذي أدخلت ذريتك النار.
فقال آدم يا موسى اصطفاك الله برسالاته وبكلامه وأنزل عليك التوراة فهل وجدت أن أهبط.
قال نعم.
قال فحجه آدم " وهذا على شرطهما ولم يخرجاه من هذا الوجه * وفي قوله أدخلت ذريتك النار نكارة.
فهذه طرق هذا الحديث عن أبي هريرة رواه عنه حميد بن عبد الرحمن وذكوان أبو صالح السمان وطاووس ابن كيسان وعبد الرحمن بن هرمز الاعرج وعمار بن أبي عمار ومحمد بن سيرين
وهمام بن منبه ويزيد بن هرمز وأبو سلمة بن عبد الرحمن.
وقد رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي
__________
(1) هو هشام بن حسان.
(2) سورة طه الآية 121.


الله عنه فقال: حدثنا الحارث بن مسكين المصري حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال موسى عليه السلام يا رب أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة فأراه آدم عليه السلام * فقال أنت آدم * فقال له آدم نعم قال أنت الذي نفخ الله فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك الاسماء كلها * قال: نعم * قال: فما حملك على أن أخرجتنا ونفسك من الجنة فقال له آدم: من أنت قال: أنا موسى * قال: أنت موسى نبي بني إسرائيل أنت الذي كلمك الله من وراء الحجاب فلم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه * قال: نعم * قال تلومني على أمر قد سبق من الله عزوجل القضاء به قبل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فحج آدم موسى فحج آدم موسى " ورواه أبو داود عن أحمد بن صالح المصري عن ابن وهب به.
قال أبو يعلى، وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الملك بن الصباح المسمعي حدثنا عمران عن الرديني عن أبي مجلز عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر عن عمر قال أبو محمد أكبر ظني أنه رفعه * قال: " التقى آدم وموسى فقال موسى لآدم: أنت أبو البشر أسكنك الله جنته وأسجد لك ملائكته.
قال آدم: يا موسى أما تجده علي مكتوبا * قال فحج آدم موسى فحج آدم موسى " وهذا الاسناد أيضا لا بأس به والله أعلم.
وقد تقدم رواية الفضل بن موسى لهذا الحديث عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد * ورواية الامام أحمد له عن عفان عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن رجل * قال حماد أظنه جندب بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لقى آدم موسى " فذكر معناه.
وقد اختلف مسالك الناس في هذا الحديث فرده قوم من القدرية لما تضمن من إثبات القدر
السابق * واحتج به قوم من الجبرية وهو ظاهر لهم بادئ الرأي حيث قال " فحج آدم موسى " لما احتج عليه بتقديم كتابه وسيأتي الجواب عن هذا، وقال آخرون إنما حجه لانه لامه على ذنب قد تاب منه والتائب من الذنب كمن لا ذنب له * وقيل إنما حجه لانه أكبر منه وأقدم * وقيل لانه أبوه * وقيل لانهما في شريعتين متغايرتين * وقيل لانهما في دار البرزخ وقد انقطع التكليف فيما يزعمونه.
والتحقيق أن هذا الحديث روي بألفاظ كثيرة بعضها مروي بالمعنى.
وفيه نظر.
ومدار معظمها في الصحيحين وغيرهما على أنه لامه على إخراجه نفسه وذريته من الجنة فقال له آدم أنا لم أخرجكم وإنما أخرجكم الذي رتب الاخراج على أكلي من الشجرة والذي رتب ذلك وقدره وكتبه قبل أن أخلق هو الله عزوجل فأنت تلومني على أمر ليس له نسبة إلى أكثر ما أني نهيت عن الاكل من الشجرة فأكلت منها وكون الاخراج مترتبا على ذلك ليس من فعلي فأنا لم أخرجكم ولا نفسي من الجنة وإنما كان هذا من قدرة الله وصنعه وله الحكمة في ذلك فلهذا حج آدم موسى.
ومن كذب بهذا الحديث فمعاند لانه متواتر عن أبي هريرة رضي الله عنه وناهيك به عدالة

وحفظا وإتقانا * ثم هو مروي عن غيره من الصحابة كما ذكرنا.
ومن تأوله بتلك التأويلات المذكورة آنفا فهو بعيد من اللفظ والمعنى.
وما فيهم من هو أقوى مسلكا من الجبرية.
وفيما قالوه نظر من وجوه * (أحدها) أن موسى عليه السلام لا يلوم على أمر قد تاب منه فاعله (الثاني) أنه قد قتل نفسا لم يؤمر بقتلها وقد سأل الله في ذلك بقوله: (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له) (1) الآية (الثالث) أنه لو كان الجواب عن اللوم على الذنب بالقدر المتقدم كتابته على العبد لا نفتح هذا لكل من ليم على أمر قد فعله فيحتج بالقدر السابق فينسد باب القصاص والحدود ولو كان القدر حجة لاحتج به كل أحد على الامر الذي ارتكبه في الامور الكبار والصغار وهذا يفضي إلى لوازم فظيعة.
فلهذا قال من قال من العلماء بأن جواب آدم إنما كان احتجاجا بالقدر على المصيبة لا المعصية والله تعالى أعلم.
الاحاديث الواردة في خلق آدم قال الامام أحمد (2) حدثنا يحيى [ بن سعيد ] ومحمد بن جعفر حدثنا عوف حدثني قسامة بن زهير عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض فجاء بنو آدم على قدر الارض فجاء منهم الابيض والاحمر والاسود وبين ذلك.
والخبيث والطيب والسهل والحزن وبين ذلك ".
ورواه أيضا عن هوذة عن عوف عن قسامة بن زهير سمعت الاشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض فجاء بنو آدم على قدر الارض فجاء (3) منهم الابيض والاحمر والاسود وبين ذلك.
والسهل والحزن وبين ذلك.
والخبيث والطيب وبين ذلك ".
وكذا رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه من حديث عوف بن أبي جميلة الاعرابي عن قسامة بن زهير المازني البصري عن أبي موسى عبد الله بن قيس الاشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال الترمذي حسن صحيح.
وقد ذكر السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: (فبعث الله عزوجل جبريل في الارض ليأتيه بطين منها فقالت الارض أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ وقال رب: إنها عاذت بك فأعذتها فبعث ميكائيل فعاذت منه فأعاذها فرجع فقال كما قال جبريل فبعث ملك الموت فعاذت منه فقال وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره فأخذ من وجه الارض وخلطه ولم يأخذ من مكان واحد
__________
(1) سورة القصص الآية 16.
(2) مسند أحمد ج 4 / 400، 406.
(3) في المسند ج 4 / 406: جعل منهم.
الحزن: ما غلظ من الارض.


وأخذ من تربة بيضاء وحمراء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به فبل التراب حتى عاد طينا لازبا) واللازب هو الذي يلزق بعضه ببعض * ثم قال للملائكة (إني خالق بشرا من طين.
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) [ الحجر: 28 ] فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه فخلقه بشرا فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه وكان أشدهم منه فزعا إبليس فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة فذلك حين يقول (من صلصال كالفخار) ويقول لامر ما خلقت ودخل من فيه وخرج من دبره وقال للملائكة لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف لئن سلطت عليه لاهلكنه فلما بلغ الحين الذي يريد الله عزوجل أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة قل الحمد لله فقال الحمد لله فقال له الله رحمك ربك فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخلت الروح في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح إلى رجليه عجلان إلى ثمار الجنة وذلك حين يقول الله تعالى (خلق الانسان من عجل) [ الانبياء: 37 ] (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين) [ الحجر: 30 ] وذكر تمام القصة.
ولبعض هذا السياق شاهد من الاحاديث وإن كان كثير منه متلقى من الاسرائيليات فقال الامام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما خلق الله آدم تركه ما شاء أن يدعه فجعل إبليس يطيف به فلما رآه أجوف عرف أنه خلق لا يتمالك " وقال ابن حبان في صحيحه حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا هدبة بن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما نفخ في آدم فبلغ الروح رأسه عطس فقال الحمد لله رب العالمين فقال له تبارك وتعالى يرحمك الله ".
وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا يحيى بن محمد بن السكن حدثنا حبان بن هلال حدثنا مبارك بن فضالة عن عبيد الله عن حبيب عن حفص هو ابن عاصم بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب عن أبي هريرة رفعه قال: " لما خلق الله آدم عطس فقال الحمد لله فقال ربه رحمك ربك يا آدم " وهذا الاسناد لا بأس به ولم يخرجوه.
وقال عمر بن عبد العزيز " لما أمرت الملائكة بالسجود كان أول من سجد منهم اسرافيل فآتاه الله أن كتب القرآن في جبهته " رواه ابن عساكر وقال الحافظ
أبو يعلى حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا عمرو بن محمد عن اسمعيل بن رافع عن المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق آدم من تراب ثم جعله طينا ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنونا خلقه وصوره ثم تركه حتى إذا كان صلصالا كالفخار قال فكان إبليس يمر به فيقول لقد خلقت لامر عظيم.
ثم نفخ الله فيه من روحه فكان أول ما جرى فيه الروح بصره وخياشيمه فعطس فلقاه الله رحمة ربه فقال الله: يرحمك ربك.
ثم قال الله يا آدم اذهب إلى هؤلاء النفر فقل

لهم (1) فانظر ماذا يقولون ؟ فجاء فسلم عليهم فقالوا وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
فقال يا آدم هذا تحيتك وتحية ذريتك.
قال يا رب وما ذريتي قال اختر يدي يا آدم قال اختار يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين وبسط كفه فإذا من هو كائن من ذريته في كف الرحمن فإذا رجال منهم أفواههم النور فإذا رجل يعجب آدم نوره قال يا رب من هذا قال ابنك داود قال يا رب فكم جعلت له من العمر قال جعلت له ستين قال يا رب فأتم له من عمري حتى يكون له من العمر مائة سنة ففعل الله ذلك وأشهد على ذلك فلما نفذ عمر آدم بعث الله ملك الموت فقال آدم أو لم يبق من عمري أربعون سنة قال له الملك: أو لم تعطها ابنك داود فجحد ذلك فجحدت ذريته ونسي فنسيت ذريته * وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار والترمذي والنسائي في اليوم والليلة من حديث صفوان بن عيسى عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الترمذي حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وقال النسائي هذا حديث منكر وقد رواه محمد بن عجلان (2) عن سعيد المقبري عن أبيه عن عبد الله بن سلام * وقال الترمذي حدثنا عبد بن حميد حدثنا أبو نعيم حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما خلق آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي رب من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه فقال أي رب من هذا قال: هذا رجل من آخر الامم من ذريتك يقال له داود: قال رب وكم جعلت عمره
قال ستين سنة، قال: أي رب زده من عمري أربعين سنة فلما انقضى عمر آدم، جاءه ملك الموت، قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة، قال: أو لم تعطها ابنك داود.
قال فجحد فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته " ثم قال الترمذي حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وروى ابن أبي حاتم من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة مرفوعا " فذكره وفيه: " ثم عرضهم على آدم فقال يا آدم هؤلاء ذريتك وإذا فيهم الاجذم والابرص والاعمى وأنواع الاسقام فقال آدم: يا رب لم فعلت هذا بذريتي قال: كي تشكر نعمتي ".
ثم ذكر قصة داود.
وستأتي من رواية ابن عباس أيضا * وقال الامام أحمد في مسنده حدثنا الهيثم ابن خارجة حدثنا أبو الربيع عن يونس بن ميسرة عن أبي إدريس عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الدر وضرب كتفه اليسرى فأخرج
__________
(1) بياض بالاصل.
(2) في هامش المطبوعة: قوله عن سعيد المقبري.
صوابه عن أبيه عن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن سلام...

ذرية سوداء كأنهم الحمم.
فقال للذي في يمينه.
إلى الجنة ولا أبالي.
وقال للذي في كتفه اليسرى إلى النار ولا أبالي.
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا خلف بن هشام حدثنا الحكم بن سنان عن حوشب عن الحسن قال: " خلق الله آدم حين خلقه فأخرج أهل الجنة من صفحته اليمنى وأخرج أهل النار من صفحته اليسرى فألقوا على وجه الارض منهم الاعمى والاصم والمبتلى * فقال آدم يا رب ألا سويت بين ولدي * قال يا آدم أني أردت أن أشكر " وهكذا روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن بنحوه * وقد رواه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه فقال حدثنا محمد بن اسحاق بن خزيمة حدثنا محمد بن بشار حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن سعيد
المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله فحمد الله باذن الله فقال له ربه يرحمك ربك يا آدم اذهب إلى اولئك الملائكة إلى ملا منهم جلوس فسلم عليهم فقال السلام عليكم فقالوا وعليكم السلام ورحمة الله.
ثم رجع إلى ربه فقال هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم وقال الله ويداه مقبوضتان أختر أيهما شئت فقال اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة ثم بسطهما فإذا فيهما آدم وذريته فقال أي رب ما هؤلاء قال هؤلاء ذريتك وإذا كل إنسان منهم مكتوب عمره بين عينيه وإذا فيهم رجل أضوؤهم " أو " من أضوئهم لم يكتب له إلا أربعون سنة قال يا رب ما هذا ؟ قال: هذا ابنك داود وقد كتب الله عمره أربعين سنة * قال: أي رب زد في عمره فقال ذاك الذي كتب له قال: فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة قال أنت وذاك * أسكن الجنة.
فسكن الجنة ما شاء الله ثم هبط منها وكان آدم يعد لنفسه فأتاه ملك الموت فقال له آدم قد عجلت قد كتب لي ألف سنة قال بلى ولكنك جعلت لابنك داود منها ستين سنة فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي فنسيت ذريته فيومئذ أمر بالكتاب والشهود " هذا لفظه.
وقد قال البخاري حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا.
ثم قال اذهب فسلم على أولئك من الملائكة واستمع ما يجيبونك فانها تحيتك وتحية ذريتك فقال السلام عليكم فقالوا السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله فكل من يدخل الجنة على صورة آدم فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن ".
وهكذا رواه البخاري في كتاب الاستئذان عن يحيى بن جعفر ومسلم عن محمد بن رافع كلاهما عن عبد الرزاق به، وقال الامام أحمد حدثنا روح حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان طول آدم ستين ذراعا في سبع أذرع عرضا.
انفرد به أحمد.
وقال الامام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أول من جحد آدم إن أول من

جحد آدم إن أول من جحد آدم ان الله لما خلق آدم ومسح ظهره فأخرج منه ما هو ذاري إلى يوم القيامة فجعل يعرض ذريته عليه فرأى فيهم رجلا يزهر قال أي رب من هذا قال هذا ابنك داود قال أي رب كم عمره قال ستون عاما قال أي رب زد في عمره قال لا إلا أن أزيده من عمرك وكان عمر آدم ألف عام فزاده أربعين عاما.
فكتب الله عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة فلما احتضر آدم اتته الملائكة لقبضه قال إنه قد بقي من عمري أربعون عاما.
فقيل له إنك قد وهبتها لابنك داود.
قال ما فعلت وأبرز الله عليه الكتاب وشهدت عليه الملائكة " وقال أحمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول من جحد آدم قالها ثلاث مرات إن الله عزوجل لما خلقه مسح ظهره فأخرج ذريته فعرضهم عليه فرأى فيهم رجلا يزهر فقال أي رب زد في عمره قال لا إلا أن تزيده أنت من عمرك فزاده أربعين سنة من عمره.
فكتب الله تعالى عليه كتابا وأشهد عليه الملائكة فلما أراد أن يقبض روحه قال إنه بقي من أجلي أربعون سنة فقيل له: إنك قد جعلتها لابنك داود قال فجحد، قال: فأخرج الله الكتاب وأقام عليه البينة فأتمها لداود مائة سنة وأتم لآدم عمره ألف سنة * تفرد به أحمد وعلي بن زيد في حديثه نكارة * ورواه الطبراني عن علي بن عبد العزيز عن حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس وغير واحد عن الحسن قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول من جحد آدم " ثلاثا ; وذكره * وقال الامام مالك بن أنس في موطئه عن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) (1) الآية فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال: " ان الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية قال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من
أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة وإذا خلق الله العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار ".
وهكذا رواه الامام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو حاتم بن حبان في صحيحه من طرق عن الامام مالك به * وقال الترمذي هذا حديث حسن * ومسلم بن يسار لم يسمع عمر * وكذا قال أبو حاتم وأبو زرعة زاد أبو حاتم وبينهما نعيم بن ربيعة * وقد رواه أبو داود عن محمد بن مصفى عن بقية عن عمر بن جثعم عن زيد بن أبي أنيسة عن
__________
(1) سورة الاعراف الآية 172.

ج2. كتاب :البداية والنهاية

الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي

عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة قال كنت عند عمر بن الخطاب وقد سئل عن هذه الآية فذكر الحديث * قال الحافظ الدارقطني وقد تابع عمر بن جثعم أبو فروة بن يزيد بن سنان الرهاوي عن زيد بن أبي أنيسة قال وقولهما أولى بالصواب من قول مالك رحمه الله.
وهذه الاحاديث كلها دالة على استخراجه تعالى ذرية آدم من ظهره كالذر وقسمتهم قسمين أهل اليمين وأهل الشمال وقال هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي.
فأما الاشهاد عليهم واستنطاقهم بالاقرار بالوحدانية فلم يجئ في الاحاديث الثابتة.
وتفسير الآية التي في سورة الاعراف وحملها على هذا فيه نظر كما بيناه هناك.
وذكرنا الاحاديث والآثار مستقصاة بأسانيدها وألفاظ متونها.
فمن أراد تحريره فليراجعه ثم والله أعلم.
فأما الحديث الذي رواه أحمد حدثنا حسين بن محمد حدثنا جرير يعني ابن حازم عن كلثوم بن جبر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان (1) يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذراها فنثرها بين يديه.
ثم كلمهم قبلا قال: (ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا) إلى قوله (المبطلون) (2) فهو بإسناد جيد قوي على شرط مسلم * رواه النسائي وابن جرير
والحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد المروزي به.
وقال الحاكم صحيح الاسناد ولم يخرجاه إلا أنه اختلف فيه على كلثوم بن جبر فروي عنه مرفوعا وموقوفا.
وكذا روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا.
وهكذا رواه العوفي والوالبي والضحاك وأبو جمرة عن ابن عباس قوله * وهذا أكثر وأثبت والله أعلم.
وهكذا روي عن عبد الله بن عمر موقوفا ومرفوعا والموقوف أصح * واستأنس القائلون بهذا القول وهو أخذ الميثاق على الذرية وهم الجمهور بما قال الامام أحمد حدثنا حجاج حدثني شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة لو كان لك ما على الارض من شئ أكنت مفتديا به قال فيقول نعم.
فيقول قد أردت منك ما هو
__________
(1) نعمان: واد إلى جنب عرفة.
وقال القرطبي في أحكامه 7 / 316: واختلف في الموضع الذي أخذ فيه الميثاق حين أخرجوا على أربعة أقوال: - ببطن نعمان قاله ابن عباس.
- برهبا - أرض بالهند الذي هبط فيه آدم عليه السلام (قاله ابن عباس).
بين مكة والطائف قاله الكلبي.
- في السماء الدنيا قاله السدي.
(2) سورة الاعراف الآية 172 - 173.


أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي " أخرجاه من حديث شعبة به.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) (1) الآية والتي بعدها قال فجمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن منه إلى يوم القيامة فخلقهم ثم صورهم ثم استنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق وأشهد عليهم أنفسهم.
(ألست بربكم قالوا بلى) الآية قال فإني أشهد عليكم
السموات السبع والارضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم ان لا تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا.
اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئا وإني سأرسل اليكم رسلا ينذرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتابي - قالوا نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك فأقروا له يومئذ بالطاعة ورفع أباهم آدم فنظر إليهم فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك * فقال يا رب لو سويت بين عبادك فقال: إني أحببت أن أشكر.
ورأى فيهم الانبياء مثل السرج عليهم النور وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة فهو الذي يقول الله تعالى (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) [ الاحزاب: 7 ] وهو الذي يقول (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) [ الروم: 30 ] وفي ذلك قال (هذا نذير من النذر الاولى) [ النجم: 56 ] وفي ذلك قال (وما وجدنا لاكثرهم من عهد وان وجدنا أكثرهم لفاسقين) [ الاعراف: 102 ].
رواه الائمة عبد الله بن أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردوية في تفاسيرهم من طريق أبي جعفر * وروي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والسدي وغير واحد من علماء السلف بسياقات توافق هذه الاحاديث وتقدم أنه تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم امتثلوا كلهم الامر الالهي وامتنع إبليس من السجود له حسدا وعداوة له فطرده الله وأبعده وأخرجه من الحضرة الالهية ونفاه عنها وأهبطه إلى الارض طريدا ملعونا شيطانا رجيما.
وقد قال الامام أحمد حدثنا وكيع.
ويعلى ومحمد ابنا عبيد قالوا حدثنا الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " (إذا) قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسحود فعصيت فلي النار.
ورواه مسلم من حديث وكيع وأبي معاوية عن الاعمش به.
ثم لما أسكن آدم الجنة التي أسكنها سواء كانت في السماء أو في الارض على ما تقدم من الخلاف فيه أقام بها هو وزوجته حواء عليهما السلام يأكلان منها رغدا حيث شاآ فلما أكلا من الشجرة التي نهيا عنها سلبا ما كانا فيه من
__________
(1) سورة الاعراف الآية 172.


اللباس وأهبطا إلى الارض * وقد ذكرنا الاختلاف في مواضع هبوطه منها * واختلفوا في مقدار مقامه في الجنة فقيل بعض يوم من أيام الدنيا وقد قدمنا ما رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا وخلق آدم في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة وتقدم أيضا حديثه عنه وفيه (يعني) يوم الجمعة خلق آدم وفيه أخرج منها فإن كان اليوم الذي خلق فيه فيه أخرج وقلنا إن الايام الستة كهذه الايام فقد لبث بعض يوم من هذه.
وفي هذا نظر وإن كان إخراجه في غير اليوم الذي خلق فيه أو قلنا بأن تلك الايام مقدارها ستة آلاف سنة كما تقدم عن ابن عباس ومجاهد والضحاك واختاره ابن جرير فقد لبث هناك مدة طويلة.
قال ابن جرير ومعلوم أنه خلق في آخر ساعة من يوم الجمعة والساعة منه ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر فمكث مصورا طينا قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين سنة وأقام في الجنة فبل أن يهبط ثلاثا وأربعين سنة وأربعة أشهر والله تعالى أعلم * وقد روى عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن سوار خبر عطاء بن أبي رباح أنه كان لما أهبط رجلاه في الارض ورأسه في السماء فحطه الله إلى ستين ذراعا * وقد روى عن ابن عباس نحوه.
وفي هذا نظر لما تقدم من الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن " * وهذا يقتضي أنه خلق كذلك لا أطول من ستين ذراعا وأن ذريته لم يزالوا يتناقص خلقهم حتى الآن.
وذكر ابن جرير عن ابن عباس إن الله قال يا آدم إن لي حرما بحيال عرشي فانطلق فابن لي فيه بيتا فطف به كما تطوف ملائكتي بعرشي وأرسل الله له ملكا فعرفه مكانه وعلمه المناسك.
وذكر أن موضع كل خطوة خطاها آدم صارت قرية بعد ذلك.
وعنه أن أول طعام أكله آدم في الارض أن جاءه جبريل بسبع حبات من حنطة فقال ما هذا قال هذا من الشجرة التي نهيت عنها فأكلت منها فقال وما أصنع بهذا قال ابذره في الارض فبذره وكان كل حبة منها زنتها أزيد من مائة ألف فنبتت فحصده ثم درسه ثم ذراه ثم طحنه ثم عجنه ثم
خبزه فأكله بعد جهد عظيم وتعب ونكد وذلك قوله تعالى (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) (1).
وكان أول كسوتهما من شعر الضأن جزاه ثم غزلاه فنسج آدم له جبة ولحواء درعا وخمارا.
واختلفوا هل ولد لهما بالجنة شئ من الاولاد فقيل لم يولد لهما إلا في الارض * وقيل بل ولد لهما فيها فكان قابيل وأخته ممن ولد بها والله أعلم (2).
وذكروا أنه كان يولد في كل بطن ذكر وأنثى وأمر أن يزوج كل ابن أخت أخيه التي ولدت
__________
(1) سورة طه الاية 117.
(2) في الطبري: ان آدم كان يغشى حواء في الجنة فحملت له بقين بن آدم وتوأمته.
وفي رواية أخرى عنده: ان آدم غشى حواء بعد مهبطهما إلى الارض بمائة فولدت له قابيل وتوأمته.
1 / 71.


معه والآخر بالاخرى وهلم جرا ولم يكن تحل أخت لاخيها الذي ولدت معه.
قصة قابيل وهابيل (1) قال الله تعالى (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لاقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين * لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لاقتلك إني أخاف الله رب العالمين * إني أريد أن تبوء باثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين * فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين * فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه يواري سوأة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوأة أخي فأصبح من النادمين) (2) * قد تكلمنا على هذه القصة في سورة المائدة في التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد.
ولنذكر هنا ملخص ما ذكره أئمة السلف في ذلك * فذكر السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن بأنثى الاخرى وأن هابيل أراد أن يتزوج بأخت قابيل وكان أكبر من هابيل وأخت هابيل أحسن (3) فأراد هابيل أن يستأثر بها على أخيه وأمره آدم عليه السلام أن يزوجه إياها فأبى فأمرهما أن
يقربا قربانا وذهب آدم ليحج إلى مكة واستحفظ السموات على بنيه فأبين والارضين والجبال فأبين فتقبل قابيل بحفظ ذلك.
فلما ذهب قربا قربانهما فقرب هابيل جذعة سمينة وكان صاحب غنم وقرب قابيل حزمة من زرع من ردى زرعه فنزلت نار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل فغضب وقال (لاقتلنك) حتى لا تنكح أختي فقال (إنما يتقبل الله من المتقين) * وروي عن ابن عباس من وجوه أخر وعن عبد الله بن عمرو وقال عبد الله بن عمرو وأيم الله إن كان المقتول لاشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط إليه يده.
وذكر أبو جعفر الباقر أن آدم كان مباشرا لتقربهما القربان والتقبل من هابيل دون قابيل فقال قابيل لآدم إنما تقبل منه لانك دعوت له ولم تدع لي وتوعد أخاه فيما بينه وبينه.
فلما كان ذات ليلة أبطأ هابيل في الرعي فبعث آدم أخاه قابيل لينظر ما أبطأ به فلما ذهب إذا هو به فقال له تقبل منك
__________
(1) اختلف في ابني آدم: قال الحسن البصري ليسا لصلبه ; كانا رجلين من بني إسرائيل ; ورد عليه ابن عطية قال: هذا وهم.
التفسير الكبير للفخر الرازي 11 / 204.
قال القرطبي: والصحيح انهما ابناه لصلبه، هذا قول الجمهور من المفسرين وقاله ابن عباس وابن عمر 6 / 132.
لان القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلم ذلك من عمل الغراب، ولو كان من بني إسرائيل لما خفي عليه هذا الامر.
(2) سورة المائدة الآيات 27 - 31.
(3) ذكر القرطبي: اسم أخت قابيل اقليمياء وأخت هابيل اسمها ليوذا.


ولم يتقبل مني فقال (إنما يتقبل الله من المتقين).
فغضب قابيل عندها وضربه بحديدة كانت معه فقتله (1) * وقيل إنه إنما قتله بصخرة رماها على رأسه وهو نائم فشدخته * وقيل بل خنقه خنقا شديدا وعضا كما تفعل السباع فمات والله أعلم.
وقوله له لما توعده بالقتل (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لاقتلك إني أخاف الله رب العالمين) (2) دل على خلق حسن وخوف من الله تعالى وخشية منه وتورع أن يقابل
أخاه بالسوء الذي أراد منه أخوه مثله ولهذا ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار.
قالوا يارسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه " وقوله (إني أريد أن تبوء بإثمي وأثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين) (3) أي أني أريد ترك مقاتلتك وإن كنت أشد منك وأقوى إذ قد عزمت على ما عزمت عليه أن تبوء بإثمي وإثمك أي تتحمل إثم قتلي مع مالك من الآثام المتقدمة قبل ذلك قاله مجاهد والسدي وابن جرير وغير واحد وليس المراد أن آثام المقتول تتحول بمجرد قتله إلى القاتل كما قد توهمه بعض قال فان ابن جرير حكى الاجماع على خلاف ذلك.
وأما الحديث الذي يورده بعض من لا يعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما ترك القاتل على المقتول من ذنب " فلا أصل له ولا يعرف في شئ من كتب الحديث بسند صحيح ولا حسن ولا ضعيف أيضا ولكن قد يتفق في بعض الاشخاص يوم القيامة يطالب المقتول القاتل فتكون حسنات القاتل لا تفي بهذه المظلمة فتحول من سيئات المقتول إلى القاتل كما ثبت به الحديث الصحيح (4) في سائر المظالم والقتل من أعظمها والله أعلم.
وقد حررنا هذا كله في التفسير ولله الحمد.
وقد روى الامام أحمد وأبو داود والترمذي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال عند فتنة عثمان ابن عفان أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الساعي " قال أفرأيت إن دخل علي بيتي فبسط يده إلي ليقتلني قال: " كن كابن آدم ".
ورواه بن مردوية عن حذيفة بن اليمان مرفوعا وقال كن كخير ابني آدم.
وروى مسلم وأهل السنن إلا النسائي عن أبي ذر نحو هذا.
وأما الآخر فقد قال الامام أحمد حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الاعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن
__________
(1) هذا بعيد، لان الحديد لم يكن معروفا في تلك الازمان البعيدة في القدم.
(2) سورة المائدة الآية 28.
(3) سورة المائدة الآية 29.
(4) ذكره الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة ص 364 وقال تعقيبا على كلام ابن كثير " ومعناه صحيح ": يعني كما أخرجه ابن حبان عن ابن عمر مرفوعا بلفظ: " إن السيف محاء للخطايا ".


آدم الاول كفل من دمها لانه كان أول من سن القتل * ورواه الجماعة سوى أبي داود من حديث الاعمش به وهكذا روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص وإبراهيم النخعي أنهما قالا مثل هذا سواء * وبجبل قاسيون شمالي دمشق مغارة يقال لها مغارة الدم مشهورة بأنها المكان الذي قتل قابيل أخاه هابيل عندها وذلك مما تلقوه عن أهل الكتاب فالله أعلم بصحة ذلك (1) * وقد ذكر الحافظ بن عساكر في ترجمة أحمد بن كثير وقال إنه كان من الصالحين أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وهابيل، أنه استحلف هابيل ان هذا دمه فحلف له وذكر أنه سأل الله تعالى أن يجعل هذا المكان يستجاب عنده الدعاء فأجابه إلى ذلك وصدقه في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إنه وأبا بكر وعمر يزورون هذا المكان في كل يوم خميس * وهذا منام لو صح عن أحمد بن كثير هذا لم يترتب عليه حكم شرعي والله أعلم.
وقوله تعالى (فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوأة أخي فأصبح من النادمين) (2) ذكر بعضهم أنه لما قتله حمله على ظهره سنة وقال آخرون حمله مائة (3) سنة ولم يزل كذلك حتى بعث الله غرابين * قال السدي باسناده عن الصحابة أخوين فتقاتلا فقتل أحدهما الاخر فلما قتله عمد إلى الارض يحفر له فيها ثم ألقاه ودفنه وواراه فلما رآه يصنع ذلك قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي ففعل مثل ما فعل الغراب فواراه ودفنه.
وذكر أهل التواريخ والسير أن آدم حزن على ابنه هابيل حزنا شديدا (4) وأنه قال في ذلك شعرا وهو قوله فيما ذكره ابن جرير عن ابن حميد: تغيرت البلاد ومن عليها * فوجه الارض مغبر قبيح تغير كل ذي لون وطعم * وقل بشاشة الوجه المليح
(فأجيب آدم)
__________
(1) في القرطبي 6 / 139: قال ابن مسعود وابن عباس في ثور - جبل مكة - وقيل عند عقبة حراء - حكاه محمد بن جرير الطبري - وقال جعفر الصادق - رضي الله عنه - بالبصرة في موضع المسجد الاعظم.
ويقال قتله بأرض الهند.
ثم هرب إلى أرض عدن من اليمن وكان لهابيل يوم قتله قابيل عشرون سنة.
انظر تفسير الرازي 11 / 208.
(2) سورة المائدة الآية 31.
(3) في تفسير الكبير للرازي 11 / 209: حمله في جراب حتى تغير فبعث الله غرابا.
وفي القرطبي عن مجاهد: مائة سنة.
وقيل حتى أروح (أنتن).
(4) ومكث بعده مائة سنة لم يضحك قط.
وحزنه على ابنه فأمر طبيعي أما قوله الشعر فكلام غير مسلم به.
ويقال أن آدم وحواء أتيا قبره وبكيا أياما عليه.

أبا هابيل قد قتلا جميعا * وصار الحي كالميت الذبيح وجاء بشرة قد كان منها * على خوف فجابها يصيح وهذا الشعر فيه نظر وقد يكون آدم عليه السلام قال كلاما يتحزن به بلغته فألفه بعضهم إلى هذا وفيه أقوال والله أعلم (1) * وقد ذكر مجاهد أن قابيل عوجل بالعقوبة يوم قتل أخاه فعلقت ساقه إلى فخذه وجعل وجهه إلى الشمس كيفما دارت تنكيلا به وتعجيلا لذنبه وبغيه وحسده لاخيه لابويه (2) * وقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ".
والذي رأيته في الكتاب الذي بأيدي أهل الكتاب الذين يزعمون أنه التوراة أن الله عزوجل أجله وأنظره وأنه سكن في أرض نود في شرقي عدن وهم يسمونه قنين وأنه ولد له خنوخ ولخنوخ عند ر ولعندر محوايل ولمحوايل متوشيل ولمواشيل لامك وتزوج هذا امرأتين عدا وصلا فولدت عدا ولدا اسمه إبل وهو أول من سكن القباب واقتنى المال وولدت أيضا نوبل وهو أول من أخذ في
ضرب الونج والصنج وولدت صلا ولدا اسمه توبلقين وهو أول من صنع النحاس والحديد وبنتا اسمها نعمى وفيها أيضا أن آدم طاف على امرأته فولدت غلاما ودعت اسمه شيث (3) وقالت من أجل انه قد وهب لي خلفا من هابيل الذي قتله قابيل وولد لشيث أنوش قالوا وكان عمر أدم يوم ولد له شيث مائة وثلاثين سنة وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة وكان عمر شيث يوم ولد له أنوش مائة وخمسا وستين وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة وسبع سنين.
وولد له بنون وبنات غير أنوش فولد
__________
(1) في قول آدم شعرا أكثر من قول: قال القشيري وغيره: قال ابن عباس: ما قال آدم الشعر، وإن محمدا والانبياء كلهم في النهي عن الشعراء سواء.
لكن لما قتل هابيل رثاه آدم وهو سرياني، فهي مرثية بلسان السريانية أوصى بها إلى ابنه شيث.
فحفظت منه إلى زمن يعرب فترجمه وجهله شعرا يعرب بن قحطان.
وقال الالوسي: ذكر بعض علماء العربية أن في ذلك الشعر لحنا أو أقواء أو ارتكاب ضرورة والاولى عدم نسبته إلى يعرب أيضا لما فيه من الركاكة الظاهرة.
وقال صاحب الكشاف: ويروى أنه (آدم) رثاه بشعر.
قال وهو كذب بحت، وما الشعر إلا منحول ملحون، والانبياء معصومون عن الشعر ; فإن ذلك الشعر في غاية الركاكة لا يليق بالحمقى من المعلمين فكيف ينسب إلى من جعل الله علمه حجة على الملائكة.
(2) جاء في القرطبي 6 / 142: إن قابيل كان على ذروة جبل فنطحه ثور فوقع إلى السفح وقد تفرقت عروقه.
وقيل دعا عليه آدم فانخسفت به الارض.
وقيل: أنه هرب إلى عدن من أرض اليمن ; واستوحش ولزم البرية وذكر المسعودي في المروج 1 / 34: وفي زمن انوش قتل قاين (قابيل) قاتل أخيه هابيل.
(انظر تفسير الفخر الرازي ج 11 / 208 - وانظر قصة هابيل وقابيل في التوراة وهي لا تخالف ما جاء في القرآن تقريبا).
(3) في القرطبي 6 / 139 بعد قتل هابيل بخمس سنين.
وتفسيره هبة الله.


لانوش قينان وله من العمر تسعون سنة وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة وخمس عشرة سنة وولد له بنون وبنات فلما كان عمر قينان سبعين سنة ولد له مهلاييل وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة وأربعين
سنة وولد له بنون وبنات فلما كان لمهلاييل من العمر خمس وستون سنة ولد له يرد وعاش بعد ذلك ثمانمائة وثلاثين سنة وولد له بنون وبنات فلما كان ليرد مائة سنة واثنتان وستون سنة ولد له خنوخ وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة وولد له بنون وبنات فلما كان لخنوخ خمس وستون سنة ولد له متوشلح وعاش بعد ذلك ثمانمائة سنة وولد له بنون وبنات فلما كان لمتوشلح مائة وسبع وثمانون سنة ولد له لامك وعاش بعد ذلك سبعمائة واثنين وثمانين سنة وولد له بنون وبنات فلما كان للامك من العمر مائة واثنتان وثمانون سنة ولد له نوح وعاش بعد ذلك خمسمائة وخمسا وتسعين سنة.
وولد له بنون وبنات فلما كان لنوح خمسمائة سنة ولد له بنون سام وحام ويافث هذا مضمون ما في كتابهم صريحا.
وفي كون هذه التواريخ محفوظة فيما نزل من السماء نظر كما ذكره غير واحد من العلماء طاعنين عليهم في ذلك والظاهر أنها مقحمة فيها.
ذكرها بعضهم على سبيل الزيادة والتفسير.
وفيها غلط كثير كما سنذكره في مواضعه ان شاء الله تعالى * وقد ذكر الامام أبو جعفر بن جرير في تاريخه عن بعضهم أن حواء ولدت لآدم أربعين ولدا في عشرين بطنا قاله ابن إسحاق وسماهم والله تعالى أعلم.
وقيل مائة وعشرين بطنا في كل واحد ذكر وأنثى.
أولهم قابيل وأخته قليما.
واخرهم عبد المغيث وأخته أم المغيث * ثم انتشر الناس بعد ذلك وكثروا وامتدوا في الارض ونموا كما قال الله تعالى (يا أيها الناس اتقو ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) [ النساء: 1 ] الآية.
وقد ذكر أهل التاريخ أن آدم عليه السلام لم يمت حتى رأى من ذريته من أولاده وأولاد أولاده أربعمائة ألف (1) نسمة والله أعلم * وقال تعالى (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين إليها فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون) [ الاعراف: 189 ] الآيات فهذا تنبيه أولا بذكر آدم ثم استطرد إلى الجنس وليس المراد بهذا ذكر آدم وحواء بل لما جرى ذكر الشخص استطرد إلى الجنس كما في قوله تعالى (ولقد خلقنا الانسان
من سلالة من طين.
ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) [ المؤمنون: 12 ] وقال تعالى (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) [ الملك: 5 ] ومعلوم أن رجوم الشياطين ليست هي أعيان مصابيح السماء وإنما استطرد من شخصها إلى جنسها * فأما الحديث الذي رواه
__________
(1) في القرطبي عن ابن عباس: أربعين ألفا 6 / 135.
وفي المسعودي 1 / 33 أربعين ألفا.


الامام أحمد حدثنا عبد الصمد (1) حدثنا عمر بن إبراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة [ بن جندب ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فانه يعيش فسمته عبد الحارث فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره ".
وهكذا رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردوية في تفاسيرهم عند هذه الآية وأخرجه الحاكم في مستدركه كلهم من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث به * وقال الحاكم صحيح الاسناد ولم يخرجاه * وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه فهذه علة قادحة في الحديث أنه روي موقوفا على الصحابي وهذا أشبه والظاهر أنه تلقاه من الاسرائيليات * وهكذا روي موقوفا على ابن عباس.
والظاهر أن هذا متلقى عن كعب الاخبار ودونه والله أعلم * وقد فسر الحسن البصري هذه الآيات بخلاف هذا.
فلو كان عنده عن سمرة مرفوعا لما عدل عنه إلى غيره والله أعلم.
وأيضا فالله تعالى إنما خلق آدم وحواء ليكونا أصل البشر وليبث منهما رجالا كثيرا ونساء فكيف كانت حواء لا يعيش لها ولد كما ذكر في هذا الحديث إن كان محفوظا.
والمظنون بل المقطوع به ان رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم خطأ والصواب وقفه والله أعلم * وقد حررنا هذا في كتابنا التفسير ولله الحمد.
نعم قد كان آدم وحواء أتقى لله مما ذكر عنهما في هذا.
فان آدم أبو البشر الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شئ وأسكنه جنته * وقد روى ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر قال قالت يارسول الله كم الانبياء قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا.
قلت يا رسول الله كم الرسل منهم قال ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير (2).
قلت يارسول الله من
كان أولهم.
قال آدم.
قلت يارسول الله نبي مرسل قال: نعم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه من روحه ثم سواه قيلا ".
وقال الطبراني حدثنا إبراهيم بن نائلة الاصبهاني حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا نافع بن هرمز عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أخبركم بأفضل الملائكة جبريل وأفضل النبيين آدم وأفضل الايام يوم الجمعة وأفضل الشهور شهر رمضان وأفضل الليالي ليلة القدر وأفضل النساء مريم بنت عمران * وهذا إسناد ضعيف فإن نافعا أبا هرمز كذبه ابن معين وضعفه أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم وابن حبان وغيرهم والله أعلم.
وقال كعب الاحبار ليس أحد في الجنة له لحية إلا آدم.
لحيته سوداء إلى سرته.
وليس أحد يكنى في الجنة إلا آدم كنيته في الدنيا أبو البشر وفي الجنة أبو محمد * وقد روى ابن عدي من طريق
__________
(1) وهو عبد الصمد بن عبد الوارث.
(2) في الطبري: جما غفيرا.
ورواه عن عبد الرحمن بن وهب عن عمه عن الماضي بن محمد عن أبي سليمان عن القاسم بن محمد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم.


سبح (2) ابن أبي خالد عن حماد بن سلمة بن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله مرفوعا أهل الجنة يدعون بأسمائهم إلا آدم فإنه يكنى أبا محمد * ورواه ابن عدي أيضا من حديث علي بن أبي طالب وهو ضعيف من كل وجه والله أعلم.
وفي حديث الاسراء الذي في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بآدم وهو في السماء الدنيا قال له مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح قال: وإذا عن يمينه أسودة (2) وعن يساره اسودة.
فإذا نظر عن يمينه ضحك وإذا نظر عن شماله بكى.
فقلت يا جبريل ما هذا قال هذا آدم وهؤلاء نسم بنيه * فإذا نظر قبل أهل اليمين وهم أهل الجنة ضحك وإذا نظر قبل أهل الشمال وهم أهل النار بكى هذا معنى الحديث * وقال أبو بكر البزار حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا هشام بن حسان عن الحسن قال كان عقل أدم مثل عقل جميع ولده.
وقال بعض العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: " فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطى شطر الحسن " * قالوا
معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام * وهذا مناسب.
فإن الله خلق آدم وصوره بيده الكريمة ونفخ فيه من روحه فما كان ليخلق إلا أحسن الاشباه * وقد روينا عن عبد الله بن عمر وابن عمرو أيضا موقوفا ومرفوعا إن الله تعالى لما خلق الجنة قالت الملائكة يا ربنا اجعل لنا هذه فانك خلقت لبني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون.
فقال الله تعالى وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان.
وقد ورد الحديث المروي في الصحيحين وغيرهما من طرق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق آدم على صورته " وقد تكلم العلماء على هذا الحديث فذكروا فيه مسالك كثيرة ليس هذا موضع بسطها والله أعلم.
وفاة آدم ووصيته إلى ابنه شيث ومعنى شيث هبة الله وسمياه بذلك لانهما رزقاه بعد أن قتل هابيل (3) * قال أبو ذر في حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله أنزل مائة صحيفة وأربع صحف ".
على شيث خمسين صحيفة * قال محمد بن اسحاق ولما حضرت آدم الوفاة عهد إلى ابنه شيث وعلمه ساعات الليل والنهار وعلمه عبادات تلك الساعات وأعلمه بوقوع الطوفان بعد ذلك.
قال ويقال إن انتساب بني آدم اليوم كلها تنتهي إلى شيث.
وسائر أولاد آدم غيره انقرضوا وبادوا والله أعلم.
__________
(1) قوله سبح بن أبي خالد كذا بالاصل، ولم نجد فيما لدينا هذا الاسم.
وتحت يدنا: إسماعيل بن أبي خالد الكوفي الاحمسي الحافظ توفي عام 146 ه.
وإسماعيل بن أبي خالد الفدكي.
والاثنان لم يرويا عن حماد.
(2) أسودة: جمع من الناس.
(3) قال الطبري في تاريخه 1 / 76: بعد قتل هابيل قابيل بخمس سنين، وكان آدم عمره مائة وثلاثون سنة، وولده شيث ولدا فردا بغير توأم، هبة الله، خلف من هابيل.
واسمه بالعربية شث وبالسريانية شاث وبالعبرانية شيث.


ولما توفي آدم عليه السلام وكان ذلك يوم الجمعة جاءته الملائكة بحنوط وكفن من عند الله عز وجل من الجنة.
وعزوا فيه ابنه ووصيه شيثا عليه السلام * قال ابن اسحاق وكسفت الشمس
والقمر سبعة أيام بلياليهن * وقد قال عبد الله بن الامام أحمد حدثنا هدبة بن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن يحيى هو ابن ضمرة السعدي قال رأيت شيخا بالمدينة تكلم فسألت عنه فقالوا هذا أبي بن كعب.
فقال إن آدم لما حضره الموت قال لبنيه أي بني إني أشتهي من ثمار الجنة قال فذهبوا يطلبون له فاستقبلتهم الملائكة ومعهم أكفانه وحنوطه ومعهم الفوس (1) والمساحي (2) والمكاتل (3) فقالوا لهم يا بني آدم ما تريدون وما تطلبون أو ما تريدون وأين تطلبون قالوا أبونا مريض واشتهى من ثمار الجنة فقالوا لهم ارجعوا فقد قضى أبوكم فجاءوا فلما رأتهم حواء عرفتهم فلاذت بآدم فقال إليك عني فإني إنما أتيت من قبلك فخلي بيني وبين ملائكة ربي عزوجل فقبضوه وغسلوه وكفنوه وحنطوه وحفروا له ولحدوه * وصلوا عليه.
ثم ادخلوه قبره فوضعوه في قبره.
ثم حثوا عليه.
ثم قالوا يا بني آدم هذه سنتكم * إسناد صحيح إليه * وروى ابن عساكر من طريق شيبان بن فروخ عن محمد بن زياد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كبرت الملائكة على آدم أربعا وكبر أبو بكر على فاطمة أربعا وكبر عمر على أبي بكر أربعا وكبر صهيب على عمر أربعا " * قال ابن عساكر ورواه غيره عن ميمون فقال عن ابن عمر.
واختلفوا في موضع دفنه فالمشهور أنه دفن عند الجبل الذي أهبط منه في الهند (4) وقيل بجيل أبي قبيس بمكة * ويقال إن نوحا عليه السلام لما كان زمن الطوفان حمله هو وحواء في تابوت فدفنهما ببيت المقدس * حكى ذلك ابن جرير * وروى ابن عساكر عن بعضهم أنه قال رأسه عند مسجد إبراهيم ورجلاه عند صخرة بيت المقدس * وقد ماتت بعده حواء بسنة واحدة * واختلف في مقدار عمره عليه السلام.
فقدمنا في الحديث عن ابن عباس وأبي هريرة مرفوعا أن عمره اكتتب في اللوح المحفوظ ألف سنة.
وهذا لا يعارضه ما في التوراة من أنه عاش تسعمائة وثلاثين سنة لان قولهم هذا مطعون فيه مردود إذا خالف الحق الذي بأيدينا مما هو المحفوظ عن المعصوم * وأيضا فإن قولهم هذا يمكن الجمع بينه وبين ما في الحديث فإن ما في التوراة إن كان محفوظا محمول على مدة مقامه في الارض بعد الاهباط وذلك تسعمائة وثلاثون سنة شمسية وهي بالقمرية تسعمائة وسبع وخمسون
*
__________
(1) الفوس: جمع فأس.
(2) المساحي: آلة كالمجرفة يجرف بها الطين وغيره.
(3) المكاتل: جمع مكتل: وهو الزنبيل الذي يحمل فيه التمر.
(4) عن ابن عباس: جبل بوذ.
طبري 1 / 82.
وعن ابن إسحاق: في مشارف الفردوس عند قرية هي أول قرية كانت في الارض طبري 1 / 80 وفي المسعودي ج 1 / 33: قبره بمنى في مسجد الخيف، ومنهم من قال في كهف في جبل أبي قبيس.


سنة ويضاف إلى ذلك ثلاث وأربعون سنة مدة مقامه في الجنة قبل الاهباط على ما ذكره ابن جرير وغيره فيكون الجميع ألف سنة (1).
وقال عطاء الخراساني لما مات آدم بكت الخلائق عليه سبعة أيام * رواه ابن عساكر فلما مات آدم عليه السلام قام بأعباء الامر بعده ولده شيث عليه السلام.
وكان نبيا بنص الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر مرفوعا أنه أنزل عليه خمسون صحيفة.
فلما حانت وفاته أوصى إلى ابنه أنوش فقام بالامر بعده ثم بعده ولده قينن.
ثم من بعده ابنه مهلاييل (2) وهو الذي يزعم الاعاجم من الفرس أنه ملك الاقاليم السبعة وأنه أول من قطع الاشجار وبنى المدائن والحصون الكبار.
وأنه هو الذي بنى مدينة بابل ومدينة السوس الاقصى.
وأنه قهر إبليس وجنوده وشردهم عن الارض إلى أطرافها وشعاب جبالها وأنه قتل خلقا من مردة الجن والغيلان وكان له تاج عظيم وكان يخطب الناس ودامت دولته أربعين سنة.
فلما مات قام بالامر بعده ولده يرد فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ولده خنوخ (3) وهو إدريس عليه السلام على المشهور.
ادريس عليه السلام قال الله تعالى (واذكر في الكتاب ادريس انه كان صديقا نبيا * ورفعناه مكانا عليا) (4) فادريس عليه السلام قد أثنى الله عليه ووصفه بالنبوة والصديقية وهو خنوخ هذا وهو في عمود نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكره غير واحد من علماء النسب.
وكان أول بني آدم أعطى
النبوة بعد آدم وشيث عليهما السلام * وذكر ابن اسحاق أنه أول من خط بالقلم وقد أدرك من حياة آدم ثلاثمائة سنة وثماني سنين (5).
وقد قال طائفة من الناس إنه المشار إليه في حديث معاوية بن الحكم السلمي لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخط بالرمل فقال: " إنه كان نبي يخط به فمن وافق خطه فذاك " * ويزعم كثير من علماء التفسير والاحكام أنه أول من تكلم في ذلك ويسمونه هرمس الهرامسة (6) ويكذبون عليه أشياء كثيرة كما كذبوا على غيره من الانبياء والعلماء
__________
(1) قال المسعودي في مروجه 1 / 33: توفي يوم الجمعة لست خلون من نيسان في الساعة التي كان فيها خلقه، وكان عمره عليه السلام تسعماية سنة وثلاثون سنة.
(2) في الطبري: نسابو الفرس يسمونه أو شهنج وهو أول من استنبط الحديد 1 / 84.
(3) في الطبري والمسعودي أخنوخ ; الترجمة العربية لخنوخ اسمه في التوراة بالعبرية.
(4) سورة مريم الآية 56.
(5) جاء في الطبري: رواية أهل التوراة وكان عمره إلى أن رفع ثلاثمائة سنة وخمس وستين سنة.
وعند المسعودي ثلاث مائة سنة.
(6) قال القفطي في تاريخ الحكماء: اختلف الحكماء في مولده ومنشئه وعمن أخذ العلم قبل النبوة.
فقالت فرقة: ولد بمصر وسموه هرمس الهرامسة، =

والحكماء والاولياء * وقوله تعالى (ورفعناه مكانا عليا) هو كما ثبت في الصحيحين في حديث الاسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به وهو في السماء الرابعة * وقد روى ابن جرير عن يونس عن عبد الاعلى عن ابن وهب عن جرير بن حازم عن الاعمش عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف قال سأل ابن عباس كعبا وأنا حاضر فقال له: ما قول الله تعالى لادريس (ورفعناه مكانا عليا) فقال كعب: أما إدريس فإن الله أوحى إليه اني أرفع لك كل يوم مثل جميع عمل بني آدم (لعله من أهل زمانه) فأحب أن يزداد عملا فأتاه خليل له من الملائكة فقال [ له ]: ان الله أوحى إلي وكذا فكلم ملك الموت حتى أزداد عملا فحمله بين جناحيه ثم صعد به إلى السماء فلما كان في السماء
الرابعة تلقاه ملك الموت منحدرا فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس، فقال: وأين إدريس ؟ قال هو ذا على ظهري فقال ملك الموت فالعجب (1) بعثت وقيل لي اقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الارض فقبض روحه هناك فذلك قول الله عزوجل (ورفعناه مكانا عليا).
ورواه ابن أبي حاتم عند تفسيرها * وعنده فقال لذلك الملك: سل لي ملك الموت كم بقي من عمري ؟ فسأله وهو معه كم بقي من عمره ؟ فقال: لا أدري حتى أنظر، فنظر فقال: إنك لتسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين، فنظر الملك إلى تحت جناحه إلى إدريس فإذا هو قد قبض وهو لا يشعر * وهذا من الاسرائيليات وفي بعضه نكارة.
وقول ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله (ورفعناه مكانا عليا) قال إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى إن أراد أنه لم يمت إلى الآن ففي هذا نظر وإن أراد أنه رفع حيا إلى السماء ثم قبض هناك فلا ينافي ما تقدم عن كعب الاحبار والله أعلم * وقال العوفي عن ابن عباس في قوله (ورفعناه مكانا عليا) رفع إلى السماء السادسة فمات بها.
وهكذا قال الضحاك.
والحديث المتفق عليه من أنه في السماء الرابعة أصح وهو قول مجاهد وغير واحد * وقال الحسن البصري (ورفعناه مكانا عليا) قال إلى الجنة * وقال قائلون رفع في حياة أبيه يرد بن مهلاييل والله أعلم * وقد زعم بعضهم أن إدريس لم يكن قبل نوح بل في زمان بني إسرائيل.
قال البخاري ويذكر عن ابن مسعود وابن عباس أن إلياس هو إدريس، واستأنسوا في ذلك *
__________
= ومولده بمنف ; وباليونانية أرميس وعرب بهرمس ومعنى أرميس عطارد.
وقال أخرون اسمه باليونانية طرميس..وسماه الله في كتابه المبين " إدريس " وقال هؤلاء أن معلمه اسمه الغوثا ذيمون، المصري، وسموه أيضا اورين الثاني وإدريس عندهم أورين الثالث.
وقالوا: وخرج هرمس من مصر وجاب الارض كلها ثم عاد إليها ورفعه الله إليه بها، بعد 82 سنة من عمره.
وقالت فرقة إن إدريس ولد ببال ولها نشأ وأخذ بعلم شيث بن آدم وقال الشهرستاني: ان اغثاذيمون هو شيث.
مراجعة النجار: قصص الانبياء ص 25.
(1) في قصص الانبياء لابن كثير: يا للعجب !

بما جاء في حديث الزهري عن أنس في الاسراء: أنه لما مر به عليه السلام قال له: مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح ولم يقل كما قال آدم وإبراهيم: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قالوا فلو كان في عمود نسبه لقال له كما قال (1) له * وهذا لا يدل ولابد لانه قد لا يكون الراوي حفظه جيدا.
أو لعله قاله له على سبيل الهضم والتواضع، ولم ينتصب له في مقام الابوة كما انتصب لآدم أبي البشر، وإبراهيم الذي هو خليل الرحمن وأكبر أولي العزم بعد محمد صلوات الله عليهم أجمعين.
قصة نوح عليه السلام (2) هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ - وهو إدريس - بن يرد بن مهلاييل بن قينن بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر عليه السلام (3).
كان مولده بعد وفاة آدم بمائة سنة وست وعشرين سنة فيما ذكره ابن جرير وغيره.
وعلى تاريخ أهل الكتاب المتقدم يكون بين مولد نوح وموت آدم مائة وست وأربعون سنة وكان بينهما عشرة قرون كما قال الحافظ أبو حاتم بن حبان في صحيحه: حدثنا محمد بن عمر بن يوسف حدثنا محمد بن عبد الملك بن زنجويه حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام سمعت أبا سلام سمعت أبا أمامة أن رجلا قال: يارسول الله أنبي كان آدم ؟ قال: نعم مكلم.
قال: فكم كان بينه وبين نوح ؟ قال: عشرة قرون.
قلت وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الاسلام * فان كان المراد بالقرن مائة سنة - كما هو المتبادر عند كثير من الناس - فبينهما ألف سنة لا محالة لكن لا ينفي أن يكون أكثر باعتبار ما قيد به ابن عباس بالاسلام إذ قد يكون بينهما قرون أخر متأخرة لم يكونوا على الاسلام لكن حديث أبي أمامة يدل على الحصر في عشرة قرون وزادنا ابن عباس أنهم كلهم كانوا على الاسلام * وهذا يرد قول من زعم من أهل التواريخ وغيرهم من أهل الكتاب أن قابيل وبنيه عبدوا النار والله أعلم.
وان كان المراد بالقرن الجيل من الناس كما في قوله تعالى (وكم أهلكنا من القرون من بعد
__________
(1) في قصص ابن كثير: قالا ; والخبر رواه ابن عساكر في تاريخه (1 / 382 تهذيب).
(2) ورد ذكر نوح في ثلاثة وأربعين موضعا من القرآن الكريم في: آل عمران 23، النساء 163، الانعام 84، الاعراف 59 - 69، التوبة 70، يونس 71، هود 25 - 32 - 36 - 42 - 45 - 46 - 48 - 89، إبراهيم 9، الاسراء 3 - 17، مريم 58، الانبياء 76، الحج 42،، المؤمنون 23، الفرقان 37، الشعراء 105 - 106 - 116، العنكبوت 14، الاحزاب 7، الصافات 75 - 79 ص 12، غافر 5 - 31، الشورى 13، ق 12، الذاريات 46، النجم 52، القمر 9، الحديد 26، التحريم 10، نوح 1 - 21 - 26.
(3) قال في قصص الانبياء: أشك كثيرا في نسق هذا النسب لاني آعتقد أن بين نوح وآدم أكثر من ذلك.


نوح) [ الاسراء: 37 ] وقوله (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) وقال تعالى (وقرونا بين ذلك كثيرا) (1) وقال (وكم أهلكنا قبلهم من قرن) [ مريم: 74 ] وكقوله عليه السلام (خير القرون قرني) الحديث.
فقد كانا الجيل قبل نوح يعمرون الدهر الطويلة * فعلى هذا يكون بين آدم ونوح ألوف من السنين والله أعلم.
وبالجملة فنوح عليه السلام إنما بعثه الله تعالى لما عبدت الاصنام والطواغيت وشرع الناس في الضلالة والكفر فبعثه الله رحمة للعباد فكان أول رسول بعث إلى أهل الارض كما يقول له أهل الموقف يوم القيامة * وكان قومه يقال لهم بنو راسب فيما ذكره ابن جبير وغيره.
واختلفوا في مقدار سنه يوم بعث، فقيل كان ابن خمسين سنة.
وقيل ابن ثلاثمائة وخمسين سنة وقيل ابن اربعمائة وثمانين سنة.
حكاها ابن جرير، وعزا الثالثة منها إلى ابن عباس.
وقد ذكر الله قصته وما كان من قومه، وما أنزل بمن كفر به من العذاب بالطوفان، وكيف أنجاه وأصحاب السفينة، في غير ما موضع من كتابه العزيز * ففي الاعراف ويونس وهود والانبياء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت والصفات واقتربت وأنزل فيه سورة كاملة * فقال في سورة
الاعراف (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم.
قال الملا من قومه انا لنراك في ضلال مبين.
قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين.
أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون.
أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون.
فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين) [ الاعراف: 59 - 64 ] وقال في سورة يونس (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم ان كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا الي ولا تنظرون.
فان توليتم فما سألتكم من أجر ان أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين.
فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) (1) وقال تعالى في سورة هود (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه أني لكم نذير مبين * أن لا تعبدوا الا الله أني أخاف عليكم عذاب يوم أليم * فقال الملا الذين كفروا من قومه ما نراك الا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم اراذلنا بادئ الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين * قال يا قوم أرأيتم ان كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون.
ويا قوم لا أسألكم عليه مالا ان أجري الا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا انهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون * ويا قوم من ينصرني من الله أن طردتهم أفلا تذكرون * ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم
__________
(1) سورة يونس الآيات 71 - 73.


الغيب ولا أقول اني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين * قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله ان شاء وما أنتم بمعجزين * ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم ان كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون * أم يقولون افتراه قل ان افتريته
فعلي إجرامي وأنا برئ مما تجرمون * وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك الا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون * واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون * ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملا من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون * من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم * حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك الا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل * وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم * وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكانا من المغرقين * وقيل يا أرض ابلعي ماءك وياسماء أقلعي وغيض الماء وقضى الامر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين * ونادى نوح ربه فقال رب ان ابني من أهلي وان وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح انه ليس من أهلك انه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم اني أعظك أن تكون من الجاهلين * قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين * قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم * تلك من أنباء الغيب نوحيها اليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر ان العاقبة للمتقين) [ هود: 25 - 49 ] وقال تعالى في سورة الانبياء (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم * ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا انهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين) [ الانبياء: 76 - 77 ].
وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون.
فقال الملا الذين كفروا من قومه ما هذا الا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لانزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين * ان هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين * قال رب انصرني بما كذبون * فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيينا ووحينا
فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون * فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين * وقل رب انزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين * ان في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين) [ المؤمنون: 23 - 30 ].

وقال تعالى في سورة الشعراء (كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون.
أني لكم رسول أمين.
فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر ان أجري إلا على رب العالمين.
فاتقوا الله وأطيعون.
قالوا أنؤمن لك واتبعك الارذلون.
قال وما علمي بما كانوا يعملون * ان حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين.
إن أنا إلا نذير مبين.
قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين.
قال رب إن قومي كذبون.
فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين.
فانجيناه ومن معه في الفلك المشحون.
ثم أغرقنا بعد الباقين.
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين.
وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: 105 - 122 ].
وقال تعالى في سورة العنكبوت (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون.
فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين) [ العنكبوت: 14 - 15 ] وقال تعالى في سورة الصافات (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون.
ونجيناه وأهله من الكرب العظيم.
وجعلنا ذريته هم الباقين.
وتركنا عليه في الآخرين.
سلام على نوح في العالمين.
إنا كذلك نجزي المحسنين.
إنه من عبادنا المؤمنين ثم اغرقنا الآخرين) [ الصافات: 75 - 82 ] وقال تعالى في سورة اقتربت (كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر.
فدعا ربه اني مغلوب فانتصر.
ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر.
وفجرنا الارض عيونا
فالتقى الماء على أمر قد قدر.
وحملناه على ذات ألواح ودسر.
تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر.
ولقد تركناها آية فهل من مدكر.
فكيف كان عذابي ونذر.
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) [ القمر: 9 - 17 ] وقال تعالى (بسم الله الرحمن الرحيم انا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم.
قال يا قوم إني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون * قال رب اني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا.
وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا * ثم إني دعوتهم جهارا.
ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهارا * ما لكم لا ترجون لله وقارا * وقد خلقكم أطوارا * ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا * والله انبتكم من الارض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا * والله جعل لكم الارض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا * قال نوح رب

انهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا * وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا * مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا * وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا * رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا) [ نوح السورة بتمامها ].
وقد تكلمنا على كل موضع من هذه [ السورة ] في التفسير وسنذكر مضمون القصة مجموعا من هذه الاماكن المتفرقة ومما دلت عليه الاحاديث والآثار وقد جرى ذكره أيضا في مواضع متفرقة من القرآن فيها مدحه وذم من خالفه فقال تعالى في سورة النساء: " (إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى
نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) [ النساء: 163 - 165 ] وقال في سورة الانعام (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له اسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين * واسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم واخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) [ الانعام: 83 - 87 ] الآيات.
وتقدمت قصته في الاعراف.
وقال في سورة براءة (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) [ التوبة: 70 ] وتقدمت قصته في يونس وهود.
وقال في سورة ابراهيم (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب) [ ابراهيم: 9 ].
وقال في سورة سبحان (ذرية من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا) [ الاسراء: 3 ] وقال فيها أيضا (وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) [ الاسراء: 17 ] وتقدمت فصته في الانبياء والمؤمنون والشعراء والعنكبوت.

وقال في سورة الاحزاب (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) [ الاحزاب: 7 ] وقال في سورة صلى الله عليه وآله (كذبت
قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الاوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الايكة أولئك الاحزاب.
ان كل الا كذب الرسل فحق عقاب) [ ص: 11 - 13 ] وقال في سورة غافر (كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب.
وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار) [ غافر: 5 - 6 ] وقال في سورة الشورى (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه * الله يجتبى إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) [ الشورى: 13 ] وقال تعالى في سورة (ق) (كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الايكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد) [ ق: 13 - 14 ] وقال في الذاريات (وقوم نوح من قبل انهم كانوا قوما فاسقين) [ الذاريات: 46 ] وقال في النجم (وقوم نوح من قبل انهم كانوا هم أظلم وأطغى) [ النجم: 52 ] وتقدمت قصته في سورة اقتربت الساعة.
وقال تعالى في سورة الحديد (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) [ الحديد: 26 ] وقال تعالى في سورة التحريم (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين) [ التحريم: 10 ].
وأما مضمون ما جرى له مع قومه مأخوذا من الكتاب والسنة والآثار فقد قدمنا عن ابن عباس أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الاسلام رواه البخاري * وذكرنا أن المراد بالقرن الجيل أو المدة على ما سلف * ثم بعد تلك القرون الصالحة حدثت أمور اقتضت أن آل الحال بأهل ذلك الزمان إلى عبادة الاصنام وكان سبب ذلك ما رواه البخاري من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عند تفسير قوله تعالى (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا.
ولا يغوث ويعوق نسرا) [ نوح: 23 ] قال: (هذه) أسماء رجال صالحين من قوم نوح.
فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون (فيها)
أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت.
قال ابن عباس وصارت هذه الاوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد * وهكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة ومحمد بن اسحاق.
وقال ابن جرير في تفسيره حدثنا ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس قال كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم

الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم * وروى ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أنه قال ود ويغوث ويعوق وسواع ونسر أولاد آدم وكان ود أكبرهم وأبرهم به.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن منصور حدثنا الحسن بن موسى حدثنا يعقوب عن أبي المطهر قال ذكروا عند أبي جعفر هو الباقر وهو قائم يصلي بزيد بن المهلب قال: فلما انفتل من صلاته قال: ذكرتم يزيد بن المهلب أما أنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله.
قال ذكر ودا رجلا صالحا وكان محببا في قومه فلما مات عكفوا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان ثم قال إني أرى جزعكم على هذا الرجل فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه قالوا: نعم.
فصور لهم مثله.
قال ووضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه.
فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن أجعل في منزل كل واحد منكم تمثالا مثله ليكون له في بيته فتذكرونه.
قالوا: نعم، قال: فمثل لكل أهل بيت تمثالا مثله فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به.
قال وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به قال وتناسلوا ودرس أثر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلها يعبدونه من دون الله أولاد أولادهم، فكان أول ما عبد غير الله " ود " الصنم الذي سموه ودا.
ومقتضى هذا السياق أن كل صنم من هذه عبده طائفة من الناس * وقد ذكر أنه لما تطاولت
العهود والازمان جعلوا تلك الصور تماثيل مجسدة ليكون أثبت لهم ثم عبدت بعد ذلك من دون الله عزوجل * ولهم في عبادتها مسالك كثيرة جدا قد ذكرناها في مواضعها من كتابنا التفسير.
ولله الحمد والمنة.
وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما ذكرت عنده أم سلمة وأم حبيبة تلك الكنيسة التي رأينها (1) بأرض الحبشة، يقال لها مارية فذكرنا من حسنها وتصاوير فيها قال: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، ثم صوروا فيه تلك الصورة أولئك شرار الخلق عند الله عزوجل " (2).
والمقصود أن الفساد لما انتشر في الارض وعن البلاء بعبادة الاصنام فيها بعث الله عبده ورسوله نوحا عليه السلام يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهى عن عبادة ما سواه فكان
__________
(1) قوله رأينها بنون الجمع على أن أقل الجمع اثنان، أو على أنه كان معهما غيرهما من النسوة.
(القسطلاني).
(2) فتح الباري 8 / 48 / 427، 434.
ومسلم في صحيحه.
وأخرجه النسائي في سننه وأحمد في مسنده (6 / 51 حلبي).


أول رسول بعثه الله إلى أهل الارض كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي حيان عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة قال: " فيأتون آدم فيقولون يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك وأسكنك الجنة ألا تشفع لنا إلى ربك ؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا ؟ فيقول ربي قد غضب غضبا شديدا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله.
ونهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الارض وسماك الله عبدا شكورا ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى إلى ما بلغنا ؟ ألا تشفع لنا إلى ربك عزوجل ؟ فيقول ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله نفسي نفسي " (1).
وذكر تمام الحديث بطوله كما أورده البخاري في قصة نوح.
فلما بعث الله نوحا عليه السلام دعاهم إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له وأن لا يعبدوا معه صنما ولا تمثالا ولا طاغوتا وأن يعترفوا بوحدانيته وأنه لا إله غيره ولا رب سواه كما أمر الله تعالى من بعده من الرسل الذين هم كلهم من ذريته كما قال تعالى (وجعلنا ذريته هم الباقين) [ الصافات: 77 ] وقال فيه وفي إبراهيم (وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب) [ الحديد: 26 ] أي كل نبي من بعد نوح فمن ذريته.
وكذلك إبراهيم قال الله تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [ النحل: 36 ] وقال تعالى (واسئل من أرسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) [ الزخرف: 45 ] وقال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول الا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [ الانبياء: 25 ] ولهذا قال نوح لقومه (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) وقال (ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) وقال (يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون) وقال (يا قوم اني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون.
يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون * قال رب اني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا واني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ثم اني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا.
فقلت استغفروا ربكم انه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا * ما لكم لا ترجون لله وقارا.
وقد خلقكم أطوارا) الآيات الكريمات.
فذكر أنه دعاهم إلى الله بأنواع الدعوة في الليل والنهار والسر والاجهار بالترغيب تارة والترهيب أخرى وكل هذا فلم ينجح فيهم بل استمر أكثرهم على الضلالة والطغيان وعبادة
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه، والبخاري.
وأبو داود والترمذي وأحمد في مسنده 2 / 398.


الاصنام والاوثان ونصبوا له العداوة في كل وقت وأوان وتنقصوه وتنقصوا من آمن به وتوعدوهم بالرجم والاخراج ونالوا منهم وبالغوا في أمرهم (قال الملا من قومه) أي السادة الكبراء منهم (انا لنراك في ضلال مبين.
قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين) أي لست كما تزعمون من أني ضال بل على الهدى المستقيم رسول من رب العالمين أي الذي يقول للشئ كن فيكون (أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون) [ الاعراف: 60 - 62 ] وهذا شأن الرسول أن يكون بليغا أي فصيحا ناصحا أعلم الناس بالله عز وجل.
وقالوا له فيما قالوا: (ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادئ الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) [ هود: 27 ] تعجبوا أن يكون بشرا رسولا وتنقصوا بمن اتبعه ورأوهم أراذلهم (1) * وقد قيل: إنهم كانوا من أقياد الناس وهم ضعفاؤهم كما قال هرقل وهم أتباع الرسل (2) وما ذاك إلا لانه لا مانع لهم من اتباع الحق وقولهم: (بادئ الرأي) (3) أي بمجرد ما دعوتهم استجابوا لك من غير نظر ولا روية وهذا الذي رموهم به هو عين ما يمدحون بسببه رضي الله عنهم فإن الحق الظاهر لا يحتاج إلى روية ولا فكر ولا نظر بل يجب اتباعه والانقياد له متى ظهر.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دحا للصديق: " ما دعوت أحدا إلى الاسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم " ولهذا كانت بيعته يوم السقيفة أيضا سريعة من غير نظر ولا روية، لان أفضليته على من عداه ظاهرة جلية عند الصحابة رضي الله عنهم.
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يكتب الكتاب الذي أراد أن ينص فيه على خلافته فتركه.
وقال: " يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر " رضي الله عنه.
وقول كفرة قوم نوح له ولمن آمن به.
(وما نرى لكم علينا من فضل) [ هود: 27 ] أي لم يظهر لكم أمر بعد اتصافكم بالايمان ولا مزية علينا (بل نظنكم كاذبين.
قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) [ هود: 28 ].
وهذا تلطف في الخطاب معهم وترفق بهم في الدعوة إلى الحق كما قال تعالى: (فقولا له قولا
__________
(1) أرادوا: اخساؤهم وسقطهم وسفلتهم.
قال النحاس: الاراذل هم الفقراء، والذين لا حسب لهم والخسيسو
الصناعات.
قال القرطبي: الاراذل هنا: الفقراء والضعفاء.
(2) قال العلماء: إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة عن الاشراف.
وصعوبة الانفكاك عنها، والانفة من الانقياد للغير، والفقير خلي عن تلك الموانع.
فهو سريع إلى الاجابة والانقياد.
وهذا غالب أحوال أهل الدنيا.
(انظر أحكام القرطبي ج 9 / 23).
(3) بادي الرأي أي ظاهر الرأي، وباطنهم على خلاف ذلك وقال أبو عمرو بادئ الرأي بالهمز: أي أول الرأي: أي اتبعوك حين ابتدأوا ينظرون، ولو امعنوا النظر والفكر لم يتبعوك.


لينا لعله يتذكر أو يخشى) [ طه: 44 ] وقال تعالى (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) [ النحل: 125 ] وهذا منه يقول لهم (أرأيتم ان كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده) أي النبوة والرسالة (1) (فعميت عليكم) أي فلم تفهموها ولم تهتدوا إليها (أنلزمكموها) أي انغضبكم بها ونجبركم عليها (2) (وأنتم لها كارهون) أي ليس لي فيكم حيلة والحالة هذه (ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله) أي لست أريد منكم أجرة على إبلاغي إياكم ما ينفعكم في دنياكم وأخراكم إن أطلب ذلك إلا من الله الذي ثوابه خير لي وأبقى مما تعطونني أنتم.
وقوله (وما أنا بطارد الذين آمنوا انهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون) كأنهم طلبوا منه أن يبعد هؤلاء عنه ووعدوه أن يجتمعوا به إذا هو فعل ذلك فأبى عليهم ذلك وقال (انهم ملاقوا ربهم) أي فأخاف إن طردتهم أن يشكوني إلى الله عزوجل ولهذا قال (ويا قوم من ينصرني من الله ان طردتهم أفلا تذكرون) ولهذا لما سأل كفار قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد عنه ضعغاء المؤمنين كعمار وصهيب وبلال وخباب وأشباههم نهاه الله عن ذلك كما بيناه في سورتي الانعام والكهف (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك) أي بل أنا عبد رسول لا أعلم من علم الله إلا ما أعلمني به ولا أقدر إلا على ما
أقدرني عليه ولا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله (ولا أقول للذين تزدري أعينكم) يعني من أتباعه (لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم اني إذا لمن الظالمين) [ هود: 31 ] أي لا أشهد عليهم بأنهم لا خير لهم عند الله يوم القيامة الله أعلم بهم وسيجازيهم على ما في نفوسهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر كما قالوا في المواضع الاخر (أنؤمن لك واتبعك الارذلون.
قال وما علمي بما كانوا يعملون.
ان حسابهم إلا على ربي لو تشعرون.
وما أنا بطارد المؤمنين ان أنا إلا نذير مبين) [ الشعراء: 111 ].
وقد تطاول الزمان والمجادلة (3) بينه وبينهم كما قال تعالى (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) [ العنكبوت: 14 ] أي ومع هذه المدة الطويلة فما آمن به إلا القليل منهم وكان كل ما انقرض جبل وصوا من بعدهم بعدم الايمان به ومحاربته ومخالفته * وكان
__________
(1) وقيل الهداية إلى الله بالبراهين، وقيل بالايمان والاسلام.
وقال الرازي في تفسيره الكبير: المراد بتلك الرحمة: إما النبوة، وإما المعجزة الدالة على النبوة.
ج 17 / 213.
(2) جاء في أحكام القرطبي: قيل شهادة أن لا إله إلا الله وقيل الهاء ترجع إلى الرحمة، وقيل إلى البينة، أي انلزمكم قبولها ؟ وهو استفهام بمعنى الانكار، أي لا يمكنني أن اضطركم إلى المعرفة بها ; وقصد نوح بهذا القول أن يرد عليهم.
ج 9 / 25 - 26.
(3) الجدل في كلام العرب المبالغة في الخصومة.
قال في أحكام القرآن: والجدل في الدين محمود، ولهذا جادل نوح والانبياء قومهم حتى يظهر الحق ; فمن قبله الحج وأفلح، ومن رده خاب.
وأما الجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق فمذموم.
9 / 28.

الوالد إذا بلغ ولده وعقل عنه كلامه وصاه فيما بينه وبينه أن لا يؤمن بنوح أبدا ما عاش ودائما ما بقي وكانت سجاياهم تأبى الايمان واتباع الحق ولهذا قال (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) ولهذا قالوا (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله ان شاء وما أنتم بمعجزين) [ هود: 32: 33 ] أي إنما يقدر على ذلك الله عزوجل فإنه
الذي لا يعجزه شئ ولا يكترثه أمر بل هو الذي يقول للشئ كن فيكون (ولا ينفعكم نصحي ان أردت أن أنصح لكم ان كان الله يريد ان يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون) [ هود: 34 ] أي من يزد الله فتنته فلن يملك أحد هدايته هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو الفعال لما يريد وهو العزيز الحكيم العليم بمن يستحق الهداية ومن يستحق الغواية.
وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة (وأوحى إلى نوح انه لن يؤمن من قومك الا من قد آمن) [ هود: 36 ] تسلية له عما كان منهم إليه (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) وهذه تعزية لنوح عليه السلام في قومه أنه لن يؤمن منهم الا من قد آمن أي لا يسوأنك ما جرى فان النصر قريب والنبأ عجيب (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا انهم مغرقون) [ هود: 37 ] وذلك أن نوحا عليه السلام لما يئس من صلاحهم وفلاحهم ورأى أنهم لا خير فيهم وتوصلوا إلى أذيته ومخالفته وتكذيبه بكل طريق من فعال ومقال دعا عليهم دعوة غضب فلبى الله دعوته وأجاب طلبته قال الله تعالى (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون.
ونجيناه وقومه من الكرب العظيم) [ الصافات: 75 ].
وقال تعالى (ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم) [ الانبياء: 76 ].
وقال تعالى (قال رب ان قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين) [ الشعراء: 117 ] وقال تعالى (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر) [ القمر: 10 ] وقال تعالى (قال رب انصرني بما كذبون) [ المؤمنون: 39 ] وقال تعالى (مما خطيأتهم أغرفوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا.
وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا.
انك ان تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجرا كفار) [ نوح: 25 - 27 ] فاجتمع عليهم خطاياهم من كفرهم وفجورهم ودعوة نبيهم عليهم فعند ذلك امره الله تعالى أن يصنع الفلك وهي السفينة العظيمة التي لم يكن لها نظير قبلها ولا يكون بعدها مثلها.
وقدم الله تعالى إليه أنه إذا جاء أمره وحل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين أنه لا يعاوده فيهم ولا يراجعه فإنه لعله قد تدركه رقة على قومه عند معاينة العذاب النازل بهم فإنه ليس الخبر كالمعاينة ولهذا قال (ولا تخاطبني في الذين ظلموا انهم مغرقون ويصنع الفلك وكلما مر عليه
ملا من قومه سخروا منه) [ هود: 38 ] أي يستهزئون به استبعادا لوقوع ما توعدهم به (قال ان تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون) [ هود: 38 ] أي نحن الذين نسخر منكم ونتعجب منكم في استمراركم على كفركم وعنادكم الذي يقتضي وقوع العذاب بكم وحلوله عليكم (فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) [ هود: 39 ] وقد

كانت سجاياهم الكفر الغليظ والعناد البالغ في الدنيا وهكذا في الآخرة فإنهم يجحدون أيضا أن يكون جاءهم رسول.
كما قال البخاري حدثنا موسى بن اسمعيل حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الاعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجئ نوح عليه السلام وأمته فيقول الله عزوجل هل بلغت فيقول: نعم أي رب.
فيقول لامته: هل بلغكم فيقولون لا ما جاءنا من نبي فيقول لنوح من يشهد لك فيقول محمد وأمته فتشهد أنه قد بلغ " (1) وهو قوله (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) [ البقرة: 143 ] والوسط العدل.
فهذه الامة تشهد على شهادة نبيها الصادق المصدوق بأن الله قد بعث نوحا بالحق وأنزل عليه الحق وأمره به وأنه بلغه إلى أمته على أكمل الوجوه وأتمها ولم يدع شيئا مما ينفعهم في دينهم إلا وقد أمرهم به ولا شيئا مما قد يضرهم إلا وقد نهاهم عنه وحذرهم منه * وهكذا شأن جميع الرسل حتى أنه حذر قومه المسيح الدجال وان كان لا يتوقع خروجه في زمانهم حذرا عليهم وشفقة ورحمة بهم.
كما قال البخاري حدثنا عبدان حدثنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال سالم: قال ابن عمر: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله.
ثم ذكر الدجال فقال: " إني لانذركموه وما من نبي إلا وقد أنذره قومه.
لقد أنذره نوح قومه ولكني أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه تعلمون أنه أعور وأن الله ليس بأعور " وهذا الحديث في الصحيحين أيضا من حديث شيبان بن عبد الرحمن عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أحدثكم عن الدجال حديثا ما حدث به نبي قومه إنه أعور وانه يجئ معه بمثال الجنة والنار والتي يقول عليها الجنة هي النار وإني أنذركم كما أنذر
به نوح قومه " (2) لفظ البخاري.
وقد قال بعض علماء السلف لما استجاب الله له أمره أن يغرس شجرا ليعمل منه السفينة فغرسه وانتظره مائة سنة ثم نجره في مائة أخرى وقيل في أربعين (3) سنة فالله أعلم * قال محمد بن اسحق عن الثوري وكانت من خشب الساج * وقيل من الصنوبر.
وهو نص التوراة.
قال الثوري وأمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعا وعرضها خمسين ذراعا وأن يطلي ظاهرها وباطنها بالقار وان يجعل لها جؤجؤا أزور يشق الماء * وقال قتادة كان طولها ثلثمائة ذراع في عرض خمسين ذراعا وهذا الذي في التوراة على ما رأيته.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه 60 / 3 / 3339 فتح الباري.
ورواه أحمد في مسنده 3 / 32 ورواه السيوطي في الفتح الكبير وقال: رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي.
(2) الحديث رواه مسلم في كتاب الفتن 52 / ح 109 / 2936 والبخاري ح رقم 1577 عن أبي هريرة واللفظ لمسلم.
(3) قال الرازي في تفسيره: قيل اتخذها في سنتين (عن ابن عباس كما عند القرطبي) وقيل في أربع سنين.
وقال كعب، كما عند القرطبي، بناها في ثلاثين سنة، وقال ابن العربي: عملها في أربعين سنة.
التفسير الكبير - أحكام القرآن 9 / 31.


وقال الحسن البصري ستمائة في عرض ثلثمائة وعن ابن عباس ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة ذراع.
وقيل كان طولها ألفي ذراع وعرضها مائة ذراع.
قالوا كلهم وكان ارتفاعها ثلاثين ذراعا وكانت ثلاث طبقات.
كل واحدة عشرة أذرع.
فالسفلى للدواب والوحوش والوسطى للناس والعليا للطيور وكان بابها في عرضها ولها غطاء من فوقها مطبق عليها.
قال الله تعالى (قال رب انصرني بما كذبون فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا) [ المؤمنون: 26 - 27 ] أي بأمرنا لك وبمرأى منا لصنعتك لها ومشاهدتنا لذلك لنرشدك إلى الصواب في صنعتها (فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين واهلك الا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) [ المؤمنون 27 ] فتقدم إليه
بأمره العظيم العالي أنه إذا جاء أمره وحل بأسه أن يحمل في هذه السفينة من كل زوجين اثنين من الحيوانات وسائر ما فيه روح من المأكولات وغيره لبقاء نسلها وأن يحمل معه أهله أي أهل بيته إلا من سبق عليه القول منهم أي إلا من كان كافرا فانه قد نفذت فيه الدعوة التي لا ترد ووجب عليه حلول البأس الذي لا يرد وأمر أنه لا يراجعه فيهم إذا حل بهم ما يعاينه من العذاب العظيم الذي قد حتمه عليهم الفعال لما يريد كما قدمنا بيانه قبل.
والمراد بالتنور (1) عند الجمهور وجه الارض أي نبعت الارض من سائر أرجائها حتى نبعت التنانير التي هي محال النار.
وعن ابن عباس التنور عين في الهند وعن الشعبي بالكوفة وعن قتادة بالجزيرة * وقال علي بن أبي طالب المراد بالتنور فلق الصبح وتنوير الفجر أي إشراقه وضياؤه أي عند ذلك فاحمل فيها من كل زوجين اثنين وهذا قول غريب * وقوله تعالى (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) [ هود: 40 ] هذا أمر بأن عند حلول النقمة بهم أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين وفي كتاب أهل الكتاب أنه أمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج ومما لا يؤكل زوجين ذكرا وأنثى وهذا مغاير لمفهوم قوله تعالى في كتابنا الحق (إثنين) إن جعلنا ذلك مفعولا به.
وأما إن جعلناه توكيدا لزوجين والمفعول به محذوف فلا ينافي والله أعلم.
وذكر بعضهم ويروى عن ابن عباس أن أول ما دخل من الطيور الدرة (2) وآخر ما دخل من
__________
(1) قال الليث: التنور: لفظة عمت بكل لسان وصاحبه تنار.
وقال الازهري: هذا يدل على أن الاسم قد يكون أعجميا فتعربه العرب فيصير عربيا.
وتنور على بناء فعل لان أصل بنائه تنر وليس في كلام العرب نون قبل راء.
قاله صاحب أحكام القرآن وفي هامشه ورد: زنره: ملاه، وتزنر: دق والسنر: شراسة الخلق، وشنر عليه: عابه.
(2) قال ابن عباس: أول ما حمل: الاوزة.
والدرة: قال الدميري في كتاب حياة الحيوان الكبرى هي: الببغاء لمتقدمة وهو طائر لونه أخضر وهو في قدر الحمام يتخدها الناس للانتفاع بصوتها.
1 / 190 - 592.


الحيوانات الحمار * ودخل إبليس متعلقا بذنب الحمار.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن صالح حدثني الليث حدثني هشام بن سعد بن زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين قال أصحابه وكيف نطمئن أو كيف تطمئن المواشي ومعنا الاسد فسلط الله عليه الحمى فكانت أول حمى نزلت في الارض * ثم شكوا الفارة فقالوا الفويسقة (1) تفسد علينا طعامنا ومتاعنا فأوحى الله إلى الاسد فعطس فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها " هذا مرسل * وقوله (وأهلك إلا من سبق عليه القول) أي من استجيبت فيهم الدعوة النافذة ممن كفر فكان منهم ابنه يام (2) الذي غرق كما سيأتي بيانه (ومن آمن) أي واحمل فيها من آمن بك من أمتك قال الله تعالى (وما آمن معه إلا قليل) هذا مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ودعوتهم الاكيدة ليلا ونهارا بضروب المقال وفنون التلطفات والتهديد والوعيد تارة والترغيب والوعد أخرى.
وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة فعن ابن عباس كانوا ثمانين نفسا معهم نساؤهم.
وعن كعب الاحبار كانوا اثنين وسبعين نفسا.
وقيل كانوا عشرة وقيل إنما كانوا نوحا وبنيه الثلاثة وكنائنته الاربع بامرأة يام الذي انخزل وانعزل وسلل عن طريق النجاة فما عدل إذ عدل.
وهذا القول فيه مخالفة لظاهر الآية بل هي نص في أنه قد ركب معه غير أهله طائفة ممن آمن به كما قال (ونجني ومن معي من المؤمنين) وقيل كانوا سبعة وأما امرأة نوح وهي أم أولاده كلهم وهم حام وسام ويافث ويام وتسميه أهل الكتاب كعنان وهو الذي قد غرق وعابر وقد ماتت قبل الطوفان.
قيل إنها غرقت مع من غرق وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة فيحتمل أنها كفرت بعد ذلك أو أنها أنظرت ليوم القيامة والظاهر الاول قوله (لا تذر على الارض من الكافرين ديارا) قال الله تعالى (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين.
وقل رب انزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) [ المؤمنون: 28 - 29 ] أمره أن يحمد ربه على ما سخر له من هذه السفينة فنجاه بها وفتح بينه وبين
قومه وأقر عينه ممن خالفه وكذبه كما قال تعالى (الذي خلق الازواج كلها وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون.
لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون) [ الزخرف: 12 - 14 ].
وهكذا يؤمر بالدعاء في ابتداء الامور أن يكون على الخبر والبركة وأن تكون عاقبتها محمودة كما قال تعالى
__________
(1) الفويسقة: الفأرة وقيل سميت فويسقة لخروجها على الناس وإغتيالها إياهم في أموالهم بالفساد.
(الدميري 2 / 399).
(2) في أحكام القرطبي: كنعان وامرأته واعلة.
وفي الطبري: كنعان وهو الذي تسميه العرب يام وهو الذي غرق في الطوفان.


لرسوله صلى الله عليه وسلم حين هاجر (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) [ الاسراء: 80 ] وقد امتثل نوح عليه السلام هذه الوصية (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها ان ربي لغفور رحيم) [ هود 41 ] أي على اسم الله ابتداء سيرها وانتهاؤه (إن ربي لغفور رحيم) أي وذو عقاب أليم مع كونه غفورا رحيما لا يرد بأسه عن القوم المجرمين كما أحل بأهل الارض الذين كفروا به وعبدوا غيره.
قال الله تعالى (وهي تجري بهم في موج كالجبال).
وذلك أن الله تعالى أرسل من السماء مطرا لم تعهده الارض قبله ولا تمطره بعده كان كأفواه القرب وأمر الارض فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها كما قال تعالى (فدعا ربه أني مغلوب فانتصر.
ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر.
وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر.
وحملناه على ذات ألواح ودسر) [ القمر: 10 - 13 ].
والدسر السائر (1) (تجري بأعيننا) أي بحفظنا وكلا أتنا وحراستنا ومشاهدتنا لها جزاء لمن كان كفر.
وقد ذكر ابن جرير وغيره أن الطوفان كان في ثالث عشر شهر آب (2) في حساب القبط.
وقال تعالى (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية) أي السفينة (لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية) [ الحاقة: 11 ] قال جماعة من المفسرين ارتفع الماء على أعلى جبل بالارض خمسة عشر
ذراعا وهو الذي عند أهل الكتاب وقيل ثمانين ذراعا وعم جميع الارض طولها والعرض سهلها وحزنها وجبالها وقفارها ورمالها.
ولم يبق على وجه الارض ممن كان بها من الاحياء عين تطرف.
ولا صغير ولا كبير.
قال الامام مالك عن زيد بن أسلم: كان أهل ذلك الزمان قد ملاوا السهل والجبل * وقال عبد الرحمن (3) بن زيد بن أسلم (لم تكن بقعة في الارض إلا ولها مالك وحائز) رواهما ابن أبي حاتم (ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) [ هود: 42 - 43 ] وهذا الابن هو يام أخو سام وحام ويافث * وقيل اسمه كنعان.
__________
(1) في قصص الانبياء لابن كثير: المسامير.
وهو قول قتادة والقرظي وابن زيد وابن جبير.
وقال الحسن وعكرمة: هي صدر السفينة التي تضرب بها الموج لانها تدسر الماء أي تدفعه.
وقال ابن عباس: الدسر كلكل (صدر السفينة).
وقال الليث: خيط من ليف تشد به ألواح السفينة واحده الدسار.
وفي الصحاح: خيوط.
وفي الطبري: مسامير الحديد.
(2) تاريخ الطبري ج 1 / 96 دار القاموس ; لعشر ليال مضين من رجب كما في الطبري والكامل.
وعند المسعودي لتسع عشرة ليلة خلت من آذار.
(3) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المدني، العدوي مولاهم، ضعيف من الثامنة مات سنة 182 له تفسير (تقريب التهذيب 1 / 480.
الكاشف 2 / 146).


وكان كافرا عمل عملا غير صالح فخالف أباه في دينه ومذهبه فهلك مع من هلك هذا، وقد نجا مع أبيه الاجانب في النسب لما كانوا موافقين في الدين والمذهب (وقيل يا أرض ابلعي ماءك وياسماء أقلعي وغيض الماء وقضى الامر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين) [ هود: 44 ] أي لما فرغ من أهل الارض ولم يبق منها أحد ممن عبد غير الله عزوجل أمر الله
الارض أن تبلع ماءها وأمر السماء أن تقلع أي تمسك عن المطر (وغيض الماء) أي نقص (1) عما كان (وقضى الامر) أي وقع بهم الذي كان قد سبق في علمه وقدره من إحلاله بهم ما حل بهم.
(وقيل بعدا للقوم الظالمين) أي نودي عليهم بلسان القدرة بعدا لهم من الرحمة والمغفرة كما قال تعالى (فكذبوه فانجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا انهم كانوا قوما عمين) [ الاعراف: 64 ] وقال تعالى (فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) [ يونس: 73 ] وقال تعالى (ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا انهم كانوا قوم سوء فاغرقناهم أجمعين) [ الانبياء: 77 ] وقال تعالى (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون.
ثم أغرقنا بعد الباقين.
ان في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين.
وان ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: 119 - 122 ] وقال تعالى (فانجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين) وقال تعالى (ثم أغرقنا الآخرين) وقال (ولقد تركناها آية فهل من مدكر.
فكيف كان عذابي ونذر.
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) [ القمر: 15 - 17 ] وقال تعالى (مما خطيئاتهم أغرقوا فادخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله انصارا.
وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا.
انك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) [ نوح: 25 - 27 ] وقد استجاب الله تعالى - وله الحمد والمنة - دعوته فلم يبق منهم عين تطرف.
وقد روى الامامان أبو جعفر بن جرير وأبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما من طريق يعقوب ابن محمد الزهري عن قائد مولى عبد الله بن أبي رافع أن ابراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة اخبره أن عائشة أم المؤمنين أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فلو رحم الله من قوم نوح أحدا لرحم ام الصبي " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مكث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة - يعني إلا خمسين عاما - وغرس مائة سنة الشجر فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعلها سفينة ويمرون عليه ويسخرون منه ويقولون تعمل سفينة في البر كيف تجري قال سوف تعلمون * فلما فرغ ونبع الماء وصار في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبا شديدا خرجت به إلى الجبل حتى بلغت
ثلثه فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل.
فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها فغرقا فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي " * وهذا حديث غريب * وقد روي عن كعب الاحبار
__________
(1) وغيض الماء: يقال غاض الشئ وغضته أنا، في المصباح المنير: غاض: نضب أي ذهب في الارض.


ومجاهد وغير واحد شبيه لهذه القصة (1) * وأحرى بهذا الحديث أن يكون موقوفا متلقى عن مثل كعب الاحبار والله أعلم.
والمقصود أن الله لم يبق من الكافرين ديارا فكيف يزعم بعض المفسرين أن عوج بن عنق ويقال بن عناق كان موجودا من قبل نوح إلى زمان موسى ويقولون كان كافرا متمردا جبارا عنيدا ويقولون كان لغير رشده بل ولدته أمه عنق بنت آدم من زنا وإنه كان يأخذ من طوله السمك من قرار البحار ويشويه في عين الشمس وإنه كان يقول لنوح وهو في السفينة ما هذه القصيعة التي لك ويستهزئ به * ويذكرون أنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاث مائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلثا إلى غير ذلك من الهذيانات التي لولا انها مسطرة في كثير من كتب التفاسير وغيرها من التواريخ وأيام الناس لما تعرضنا لحكايتها لسقاطتها وركاكتها * ثم إنها مخالفة للمعقول والمنقول.
اما المعقول فكيف يسوغ فيه أن يهلك الله ولد نوح لكفره وأبوه نبي الامة وزعيم أهل الايمان ولا يهلك عوج بن عنق ويقال عناق وهو أظلم وأطغى على ما ذكروا.
وكيف لا يرحم الله منهم أحدا ولا أم الصبي ولا الصبي ويترك هذا الدعي الجبار العنيد الفاجر الشديد الكافر الشيطان المريد على ما ذكروا.
وأما المنقول فقد قال الله تعالى (ثم أغرقنا الآخرين وقال رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا) [ نوح: 26 ].
ثم هذا الطول الذي ذكروه مخالف لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن ".
فهذا نص الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى (إن هو إلا وحي يوحى) [ النجم: 4 ] أنه لم يزل الخلق ينقص حتى الآن أي لم يزل الناس في نقصان في طولهم من آدم إلى
يوم اخباره بذلك وهلم جرا إلى يوم القيامة.
وهذا يقتضي أنه لم يوجد من ذرية آدم من كان أطول منه فكيف يترك هذا ويذهل عنه ويصار إلى أقوال الكذبة الكفرة من أهل الكتاب الذين بدلوا كتب الله المنزلة وحرفوها وأولوها ووضعوها على غير مواضعها فما ظنك بما هم يستقلون بنقله أو يؤتمنون عليه وما أظن أن هذا الخبر عن عوج بن عناق إلا اختلافا من بعض زنادقتهم وفجارهم الذين كانوا أعداء الانبياء والله أعلم.
ثم ذكر الله تعالى مناشدة نوح ربه في ولده (2) وسؤاله له عن غرقه على وجه الاستعلام
__________
(1) رواه الطبري في تاريخه 1 / 90، ونقله القرطبي في أحكام القرآن قال: وحكي انه لما كثر الماء...وذكر القصة 9 / 41.
(2) قال تعالى: (ونادى نوح ربه، فقال رب أن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) [ هود: 45 ] وكان نوح يعتقد في ظنه انه مؤمن، وكان ابنه يسر الكفر ويظهر الايمان، فأوحى الله إليه: يا نوح انه ليس من

والاستكشاف ووجه السؤال أنك وعدتني بنجاة أهلي معي وهو منهم وقد غرق فأجيب بأنه ليس من أهلك أي الذين وعدت بنجاتهم أي أما قلنا لك (وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم) فكان هذا ممن سبق عليه القول منهم بأن سيغرق بكفره ولهذا ساقته الاقدار إلى أن انحاز عن حوزة أهل الايمان فغرق مع حزبه أهل الكفر والطغيان * ثم قال تعالى (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) [ هود: 48 ] هذا أمر لنوح عليه السلام لما نضب الماء عن وجه الارض وأمكن السعي فيها والاستقرار عليها أن يهبط من السفينة التي كانت قد استقرت بعد سيرها العظيم على ظهر جبل الجودي * وهو جبل بأرض الجزيرة مشهور وقد قدمنا ذكره عند خلق الجبال (بسلام منا وبركات) أي أهبط سالما مباركا عليك وعلى أمم من سيولد بعد أي من أولادك فان الله لم يجعل لاحد ممن كان معه من المؤمنين نسلا ولا عقبا سوى نوح عليه السلام قال تعالى (وجعلنا ذريته هم الباقين) فكل من على وجه الارض اليوم من سائر أجناس بني آدم ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة وهم " سام وحام ويافث.
قال الامام أحمد: حدثنا عبد الوهاب (1)، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم " ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي عن يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة مرفوعا نحوه.
وقال الشيخ أبو عمرو بن عبد البر وقد روي عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
قال والمراد بالروم هنا الروم الاول وهم اليونان المنتسبون إلى رومي بن لبطى بن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام * ثم روى من حديث اسمعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال: " ولد نوح ثلاثة سام ويافث وحام وولد كل واحد من هذه الثلاثة ثلاثة فولد سام العرب وفارس والروم.
وولد يافث الترك والسقالبة ويأجوج ومأجوج وولد حام القبط والسودان والبربر " قلت وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حدثنا ابراهيم بن هانئ وأحمد بن حسين بن عباد أبو العباس قالا: حدثنا محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي حدثني أبي، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولد لنوح سام وحام ويافث فولد لسام العرب وفارس والروم والخير فيهم.
وولد ليافث يأجوج ومأجوج والترك والسقالبة ولا
__________
= أهلك ولا من خاصة عشيرتك فقد سبقت له الشقاوة وحقت عليه كلمة الكفر.
فإياك بعدها أن تسألني عن شئ لا تعلمه أو تجادلني في أمر لا تدركه: (إني أعظك أن تكون من الجاهلية) [ سورة هود 46 ] (1) الخبر رواه ابن سعد في 1 / 42 وفيه عبد الوهاب بن عطاء العجلي، وأحمد في مسنده 5 / 8 وقال السيوطي في الفتح: رواه الحاكم في المستدرك وأحمد في المسند والترمذي عن سمرة.
والطبري 1 / 106 من طريق عثمان بن سعيد عن عباد بن العوام عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة.


خير فيهم * وولد لحام القبط والبربر والسودان " (1) ثم قال لا نعلم يروى مرفوعا إلا من هذا الوجه.
تفرد به محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه وقد حدث عنه جماعة من أهل العلم واحتملوا حديثه.
ورواه غيره عن يحيى بن سعيد مرسلا ولم يسنده وإنما جعله من قول سعيد.
قلت وهذا
الذي ذكره أبو عمرو وهو المحفوظ عن سعيد قوله * وهكذا روى عن وهب بن منبه مثله والله أعلم * ويزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي ضعيف بمرة لا يعتمد عليه * وقد قيل إن نوحا عليه السلام لم يولد له هؤلاء الثلاثة الاولاد إلا بعد الطوفان وإنما ولد له قبل السفينة كنعان الذي غرق وعابر مات قبل الطوفان * والصحيح ان الاولاد الثلاثة كانوا معه في السفينة هم ونساؤهم وأمهم وهو نص التوراة * وقد ذكر أن حاما واقع امرأته في السفينة فدعا عليه نوح أن تشوه خلقة نطفته فولد له ولد أسود وهو كنعان بن حام جد السودان * وقيل بل رأى أباه نائما وقد بدت عورته فلم يسترها وسترها أخواه فلهذا دعا عليه أن تغير نطفته وان يكون أولاده عبيدا لاخوته.
وذكر الامام أبو جعفر بن جرير (2) من طريق علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه قال (قال الحواريون لعيسى بن مريم لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدثنا عنها.
قال فانطلق بهم حتى أتى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه قال أتدرون ما هذا.
قالوا الله ورسوله أعلم.
قال هذا كعب (3) حام بن نوح.
وقال وضرب الكثيب بعصاه وقال قم باذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه [ و ] قد شاب * فقال له عيسى عليه السلام هكذا هلكت قال لا ولكني مت وأنا شاب ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت.
قال حدثنا عن سفينة نوح.
قال كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات فطبقة فيها الدواب والوحش وطبقة فيها الانس وطبقة فيها الطير.
فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله عزوجل إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة فاقبلا على الروث ولما وقع الفار يخرز السفينة بقرضه أوحى الله عزوجل إلى نوح عليه السلام أن اضرب بين عيني الاسد فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفأر.
فقال له عيسى كيف علم نوح عليه السلام أن البلاد قد غرقت قال بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف فلذلك لا يألف البيوت.
قال ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجلها (4) فعلم أن البلاد قد غرقت فطوقها الخضرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في أنس وأمان فمن ثم تألف البيوت.
قال فقالوا: (5) يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا
__________
(1) رواه الطبري 1 / 106 وابن سعد في الطبقات 1 / 42 - 43.
(2) تاريخ الطبري 1 / 91.
(3) في الطبري: قبر.
(4) في الطبري: برجليها.
(5) في الطبري: فقال الحواريون.


قال كيف يتبعكم من لا رزق له.
قال فقال له عد بإذن الله فعاد ترابا) وهذا أثر غريب جدا.
وروى غلباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس قال كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم وإنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يوما (1) وإن الله وجه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين (2) يوما ثم وجهها إلى الجودي فاستقرت عليه فبعث نوح عليه السلام الغراب ليأتيه بخبر الارض فذهب فوقع على الجيف فابطأ عليه فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ولطخت رجليها بالطين فعرف نوح أن الماء قد نضب فهبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها العربي وكان بعضهم لا يفقه كلام بعض فكان نوح عليه السلام يعبر عنهم.
وقال قتادة وغيره ركبوا في السفينة في اليوم العاشر من شهر رجب (3) فساروا مائة وخمسين يوما واستقرت بهم على الجودي شهرا.
وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم * وقد روى ابن جرير خبرا مرفوعا يوافق هذا وأنهم صاموا يومهم ذلك.
وقال الامام أحمد حدثا أبو جعفر حدثنا عبد الصمد بن حبيب الازدي عن أبيه حبيب بن عبد الله عن شبل عن أبي هريرة قال (مر النبي صلى الله عليه وسلم باناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء فقال: " ما هذا الصوم ؟ فقالوا هذا اليوم الذي نجا الله موسى وبني اسرائيل من الغرق، وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصام نوح وموسى عليهما السلام شكرا لله عزوجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " انا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم، [ فأمن أصحابه بالصوم ]
وقال لاصحابه: " من كان منكم أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان منكم قد أصاب من غد أهله فليتم بقية يومه " (4).
وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من وجه آخر والمستغرب ذكر نوح أيضا والله أعلم.
وأما ما يذكره كثير من الجهلة أنهم أكلوا من فضول أزوادهم ومن حبوب كانت معهم قد استصحبوها واطحنوا الحبوب يومئذ واكتحلوا بالاثمد لتقوية أبصارهم لما انهارت من الضياء بعد ما كانوا في ظلمة السفينة فكل هذا لا يصح فيه شئ وإنما يذكر فيه آثار منقطعة عن بني اسرائيل لا يعتمد عليها ولا يقتدى بها والله أعلم.
وقال محمد بن اسحاق لما أراد الله أن يكف ذلك الطوفان - أرسل ريحا على وجه الارض، فسكن الماء وانسدت ينابيع الارض، فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر، وكان استواء الفلك [ على الجودي ] فيما يزعم أهل التوراة - في الشهر السبع لسبع عشر ليلة مضت منه وفي أول يوم من الشهر العاشر رئيت رؤس الجبال * فلما مضى بعد ذلك أربعون يوما فتح نوح كوة الفلك التي
__________
(1) عند الطبري ستة أشهر ; وفي الكامل: كان بين إرسال الماء وبين أن غاض ستة أشهر وعشر ليال.
(2) عند الطبري والكامل: أسبوعا.
(3) في المسعودي: يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة خلت من آذار ; وفي الطبري والكامل فكالاصل.
(4) مسند أحمد ج 2 / 359 - 360 وما بين معكوفين من المسند ج 5 / 359 عن أبي هريرة.


صنع فيها ثم أرسل الغراب لينظر له ما فعل الماء فلم يرجع إليه فأرسل الحمامة فرجعت إليه لم يجد لرجلها موضعا فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها ثم مضت سبعة أيام ثم أرسلها لتنظر له ما فعل الماء فلم ترجع فرجعت حين أمست وفي فيها ورق زيتونة فعلم نوح أن الماء قد قل عن وجه الارض * ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع إليه فعلم نوح أن الارض قد برزت فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن ارسل نوح الحمامة ودخل يوم واحد من الشهر الاول من سنة اثنين، برر وجه الارض وظهر البر وكشف نوح غطاء الفلك * وهذا الذي ذكره ابن اسحاق هو بعينه مضمون سياق التوراة التي بأيدي أهل الكتاب * قال ابن اسحق وفي الشهر الثاني
من سنة اثنين في ست وعشرين ليلة منه (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى امم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) [ هود: 48 ] وفيما ذكر أهل الكتاب أن الله كلم نوحا قائلا له: اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك وجميع الدواب التي معك ولينموا وليكبروا (1) في الارض.
فخرجوا وابتنى نوح مذبحا لله عزوجل وأخذ من جميع الدواب الحلال والطير الحلال فذبحها قربانا إلى الله عزوجل وعهد الله إليه أن لا يعيد الطوفان على أهل الارض.
وجعل تذكارا لميثاقه إليه القوس الذي في الغمام وهو قوس وقزح الذي قدمنا عن إبن عباس أنه أمان من الغرق * قال بعضهم فيه إشارة إلى أنه قوس بلا وتر أي أن هذا الغمام لا يوجد منه طوفان كأول مرة.
وقد أنكرت طائفة من جهلة الفرس وأهل الهند وقوع الطوفان واعترف به آخرون منهم وقالوا إنما كان بأرض بابل ولم يصل الينا.
قالوا ولم نزل نتوارث الملك كابرا عن كابر من لدن كيومرث يعنون آدم إلى زماننا هذا.
وهذا قاله من قاله من زنادقة المجوس عباد النيران وأتباع الشيطان.
وهذه سفسطة منهم وكفر فظيع وجهل بليغ ومكابرة للمحسوسات وتكذيب لرب الارض والسموات وقد أجمع أهل الاديان الناقلون عن رسل الرحمن مع ما تواتر عند الناس في سائر الازمان على وقوع الطوفان وأنه عم جميع البلاد (2) ولم يبق الله أحدا من كفرة العباد استجابة لدعوة نبيه المؤيد المعصوم وتنفيذا لما سبق في القدر المحتوم.
ذكر شئ من اخبار نوح عليه السلام قال الله تعالى (إنه كان عبدا شكورا) [ الاسراء: 3 ].
قيل إنه كان يحمد الله على طعامه
__________
(1) وفي نسخة: وليكثروا.
(2) في الطوفان مسائل عديدة أجاب عنها الدكتور النجار في قصص الانبياء ص 36 - 37: الاولى: هل عم طوفان نوح الكرة الارضية.
والجواب: أن بعض العلماء يميل إلى عمومه.
ويقول بعض علماء الجيولوجيا: إننا كلما بحثنا في أعالي الجبال وجدنا بقايا حيوانية من الاحياء التي لا تعيش إلا في الماء: وهذا يستدعي وجود طوفان على هذه الجبال بل عدد
من الطوفانات لوجود الاختلاف في عمر هذه البقايا، فلا مانع من أن يكون طوفان نوح أحدها ويكون قد =

__________
= عم.
ويستأنس لذلك بقوله تعالى (وجعلنا ذريته هم الباقين).
ويميل فريق إلى أن الطوفان لم يكن عاما بل طغيان الماء كان على الجهة التي كان يسكنها نوح وقومه.
وأما بقية بقاع الارض فلم يعمها هذا الطوفان، ويستأنس لذلك بأن الهند كانوا يزعمون أن عمران بلادهم يمتد في الماضي إلى تاريخ أبعد من الذي قدرته التوراة لنوح وطوفانه.
وأن عمرانهم متصل من أعمق أجبال التاريخ إلى اليوم.
وأنتم تعلمون أني غير واثق من التاريخ الذي تقدره التوراة ; فربما كان نوح أبعد من ذلك بعدا يشمل ما يدعيه أهل الهند.
وعلى كل حالة فالمسألة ليس فيها نص من القرآن، بل كل ما فيه من هذه الناحية أن قوم نوح كفروا وعصوا الرسول فاغرقهم الله بالطوفان ونجى نوحا ومن معه في الفلك وجعل ذريته الباقين ; فالعموم يحتمل والخصوص محتمل.
والذي أميل إليه أن يكون خاصا وأن النوع الانساني لم يكن منتشرا في جميع الكرة بل كانوا منحصرين في الناحية التي عمها الطوفان، وأنهم قد هلكوا وبقي نوح وذريته.
الثانية: ما ذنب الاطفال من قوم نوح حتى هلكوا مع الآثمين من آبائهم وأمهاتهم ؟ والجواب: أن الله سبحانه وتعالى جرت عادته بأن النقمة لا تصيب الذين ظلموا خاصة وفي علم الظالمين بهلاك أولادهم معهم زيادة تعذيب ونكال لهم ; على أننا في كل يوم نرى الاطفال يهلكون بمختلف الامراض وليس ذلك عقابا للاطفال على ذنوب ارتكبوها أو آثام اقترفوها.
ولكن ذلك من باب وجود المسبب عند وجود سببه.
وتلك الاسباب هي الامراض والعلل التي هي جند الله (وما يعلم جنود ربك إلا هو) وبهذا لا نحتاج إلى ما تكلفه بعض العلماء والمفسرين: من أن الله تعالى أعقم أرحام نساء قوم نوح قبل الطوفان بأربعين سنة فلم يولد لهم في تلك المدة مولود، وبذلك اشترك جميع قومه في الاثم وهم مكلفون فحق عليهم العذاب وحاق بهم الهلاك.
على أننا نرى الزلازل تعمل عملها في الناس بلا تمييز بين البار والفاجر وتخسف الارض بسكانها كما حصل في سان فرنسيسكو بأمريكا في زلزالها المشهور وقد وقع في زماننا، وكما حصل في زلزال اليابان سنة 1923 وهو
قريب العهد منا جدا وكما يحصل في إيطاليا بسبب بركان " فيزوف " فقد تطغى حممه فتغطي البلاد القريبة منه فلا يشعر أهل القرية إلا بالحمم البركانية يسيل سيلها في طرق بلدهم فتهلكهم وتغطيها.
وهذا حاصل كثيرا.
وهذه الطيارات التي تسقط من الجو بأسباب مختلفة لا يهلك من هلك فيها بآثامهم ولا ينجو فيها الناجون ببرهم.
ولكن أحاظ قسمت وجدود.
وما حادثة المنطاد الانجليزي (ر 101) سنة 1930 منا ببعيدة، وكذلك البواخر الجبارة العظيمة الحجم والقوة " كتايتانك " التي غرقت منذ عشرين عاما والباخرة الانجليزية " لويزيتانيا " التي غرقت في أيام الحرب العظمى وكان في كلتيهما من العلماء والكتاب والاغنياء والمهندسين والمخترعين عدد عظيم، فقد هلكوا بآجالهم (إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).
الثالثة: أين جبل الجودي الذي استوت عليه سفينه نوح ؟ والجواب: جبل الجودي في نواحي ديار بكر من بلاد الجزيرة، وهو يتصل بجبال أرمينية.
قال في القاموس المحيط: والجودي جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوح عليه السلام، ويسمى في التوراة " أراراط ".
الرابعة: ما حجم سفينة نوح ؟

وشرابه ولباسه وشأنه كله وقال الامام أحمد: حدثنا أبو أسامة، حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن أبي بردة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الاكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها " وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث أبي أسامة.
والظاهر أن الشكور هو الذي يعمل بجميع الطاعات القلبية والقولية والعملية فإن الشكر (1) يكون بهذا وبهذا كما قال الشاعر.
أفادتكم النعماء مني ثلاثة * يدي ولساني والضمير المحجبا صومه عليه السلام وقال ابن ماجة باب صيام نوح عليه السلام حدثنا سهل بن أبي سهل حدثنا سعيد بن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة عن أبي فراس، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " صام نوح الدهر إلى يوم عيد الفطر ويوم الاضحى " هكذا رواه
ابن ماجه من طريق عبد الله بن لهيعة باسناده ولفظه (2) * وقد قال الطبراني: حدثنا أبو الزنباع روح بن فرج، حدثنا عمرو بن خالد الحراني، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي قتادة عن يزيد بن رباح أبي فراس أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " صام نوح الدهر الا يوم الفطر والاضحى وصام داود نصف الدهر وصام إبراهيم ثلاثة أيام من كل شهر، صام الدهر وأفطر الدهر ".
حجه عليه السلام وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا أبي عن زمعة هو ابن أبي صالح، عن سلمة بن وهرام (3)، عن عكرمة، عن ابن عباس قال حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أتى وادي عسفان قال: " يا أبا بكر أي واد هذا ؟ " قال: هذا وادي عسفان قال: " لقد مر بهذا الوادي نوح وهود وإبراهيم على بكرات لهم حمر خطمهم الليف أزرهم العباء وأرديتهم النمار يحجون البيت العتيق " فيه غرابة.
__________
(1) قال الفخر الرازي في تفسيره ج 20 / 154: الشكور الموحد الذي لا يرى حصول شئ من النعم إلا من فضل الله.
(2) قال البوصيري في الزوائد: هذا إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة..وذكره الالباني 4 / 459 في سلسلة الاحاديث الضعيفة.
وقال في أحكام القرآن ج 60 / 213: كان يشكر الله على نعمه ولا يرى الخير إلا من عنده.
(3) وفي نسخة دهران.
وهو سلمة بن وهرام اليماني وثقه ابن معين وغيره.
وضعفه أبو داود الكاشف ج 1 / 309.


وصيته لولده قال الامام أحمد حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن الصقعب (1) بن زهير عن زيد بن أسلم قال حماد أظنه عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من أهل البادية عليه جبة سيحان (2) مزرورة بالديباج فقال: " ألا إن صاحبكم هذا قد
وضع كل فارس بن فارس أو قال يريد أن يضع كل فارس بن فارس ورفع كل راع بن راع " قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجامع جبته وقال: لا أرى عليك لباس من لا يعقل ! ؟ * ثم قال: " إن نبي الله نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنه إني قاص عليك الوصية آمرك باثنتين وأنهاك عن اثنتين آمرك بلا إله إلا الله فان السموات السبع والارضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله.
ولو أن السموات السبع والارضين السبع كن حلقة مبهمة فضمتهن لا إله إلا الله، وسبحان الله وبحمده.
فإن بها صلات كل شئ وبها يرزق الخلق وأنهاك عن الشرك والكبر " قال: قلت - أو قيل - يارسول الله، هذا الشرك قد عرفناه فما الكبر أن يكون لاحدنا نعلان حسنان لهما شرا كان حسنان قال: " لا ".
قال: هو أن يكون لاحدنا حلة يلبسها ؟ قال: " لا ".
قال: هو أن يكون لاحدنا دابة يركبها ؟ قال: " لا ".
قال: هو أن يكون لاحدنا أصحاب يجلسون إليه ؟ قال: " لا " * قلت - أو قيل يا رسول الله فما الكبر ؟ قال: " سفه الحق وغمض (3) الناس ".
وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه * ورواه أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن اسحق عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: " كان في وصية نوح لابنه أوصيك بخصلتين وأنهاك عن خصلتين " فذكر نحوه * وقد رواه أبو بكر البزار عن إبراهيم بن سعيد عن أبي معاوية الضرير عن محمد بن اسحق عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه * والظاهر أنه عن عبد الله بن عمرو بن العاص كما رواه أحمد والطبراني والله أعلم.
ويزعم أهل الكتاب أن نوحا عليه السلام لما ركب السفينة كان عمره ستمائة سنة * وقدمنا عن ابن عباس مثله وزاد وعاش بعد ذلك ثلثمائة وخمسين سنة.
وفي هذا القول نظر * ثم إن لم
__________
(1) كذا في الاصل والمسند، وفي الاسماء للبيهقي: المصعب.
(2) في الهيثمي: سنجاب.
وفي المسند سيجان: جمع اساج الطيلسان الاخضر: قيل هو الطيلسان المقور ينسخ كذلك.
(3) في المسند والهيثمي وغمص، غمط الناس وعمص الغمط والغمص الاستهانة والاحتقار.
أخرج الحديث في
المسند ج 2 / 169، 170 والاسماء والصفات للبيهقي 128 عن ابن عمر ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ج 2 / 219.
وقال: رواه كله أحمد ورواه الطبراني بنحوه وزاد في رواية: وأوصيك بالتسبيح فإنها عبادة الخلق وبالتكبير.
ورواه البزار من حديث ابن عمر.
ورجال أحد ثقات.
ص 220.


يمكن الجمع بينه وبين دلالة القرآن فهو خطأ محض فإن القرآن يقتضي أن نوحا مكث في قومه بعد البعثة وقبل الطوفان ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون.
ثم الله أعلم كم عاش بعد ذلك فإن كان ما ذكر محفوظا عن ابن عباس من أنه بعث وله أربع مائة وثمانون سنة وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فيكون قد عاش على هذا ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة.
وأما قبره عليه السلام فروى ابن جرير والازرقي عن عبد الرحمن بن سابط أو غيره من التابعين مرسلا أن قبر نوح عليه السلام بالمسجد الحرام.
وهذا أقوى وأثبت من الذي يذكره كثير من المتأخرين من أنه ببلدة بالبقاع تعرف اليوم بكرك نوح وهناك جامع قد بني بسبب ذلك فيما ذكر والله أعلم.
قصة هود عليه السلام (1) وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام * ويقال إن هودا هو عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح.
ويقال هود بن عبد الله بن رباح بن الجارود (2) بن عاد بن عوص بن ارم ابن سام بن نوح عليه السلام * ذكره ابن جرير وكان من قبيلة يقال لهم عاد بن عوص بن سام بن نوح كانوا عربا يسكنون الاحقاف وهي جبال الرمل وكانت باليمن من عمان وحضرموت بأرض مطلة على البحر يقال لها الشحر (3) واسم واديهم مغيث * وكانوا كثيرا ما يسكنون الخيام ذوات الاعمدة الضخام كما قال تعالى (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد) [ الفجر: 6 ] أي عاد إرم وهم عاد الاولى * وأما عاد الثانية فمتأخرة كما سيأتي بيان ذلك في موضعه * وأما عاد الاولى فهم عاد (إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد)
[ الفجر: 8 ] أي مثل القبيلة * وقيل مثل العمد.
والصحيح الاول كما بيناه في التفسير.
ومن زعم أن ارم مدينة تدور في الارض فتارة في الشام وتارة في اليمن وتارة في الحجاز وتارة في غيرها فقد أبعد النجعة وقال ما لا دليل عليه ولا برهان يعول عليه ولا مستند يركن إليه * وفي
__________
(1) ذكر هود في القرآن الكريم سبع مرات.
فذكر في سورة الاعراف 65 وفي سورة هود: 50 - 53 - 58 - 60 - 89 وفي سورة الشعراء: 124.
(2) في الطبري الخلود وفي الكامل: الجلود.
(3) وهو قول القسطلاني ج 5 / 333.
وأرض الاحقاف تقع شمال حضرموت، وفي شمالها الربع الخالي وفي شرقها عمان.
فما في الاصل وما عند القسطلاني يخالف ما هو معروف ; لان الاحقاف في موقعها يجعل جنوبها مطل على المحيط الهندي.


صحيح بن حبان عن أبي ذر في حديثه الطويل في ذكر الانبياء والمرسلين قال فيه منهم أربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر * ويقال إن هودا عليه السلام أول من تكلم بالعربية * وزعم وهب بن منبه أن أباه أول من تكلم بها * وقال غيره أول من تكلم بها نوح * وقيل آدم وهو الاشبه.
قبل غير ذلك والله أعلم.
ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل عليه السلام العرب العاربة وهم قبائل كثيرة منهم عاد * وثمود * وجرهم * وطسم * وجديس * وأميم * ومدين * وعملاق * وعبيل * وجاسم * وقحطان * وبنو يقطن * وغيرهم.
وأما العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل * وكان اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة * وكان قد أخذ كلام العرب من جرهم الذين نزلوا عند أمه هاجر بالحرم كما سيأتي بيانه في موضعه (1) إن شاء الله تعالى ولكن أنطقه الله بها في غاية الفصاحة والبيان.
وكذلك كان يتلفظ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أن عادا وهم عاد الاولى كانوا اول من عبد الاصنام بعد الطوفان.
وكان أصنامهم ثلاثة صدا وصمودا وهرا (2).
فبعث الله فيهم أخاهم هودا عليه السلام فدعاهم إلى الله كما قال تعالى بعد ذكر قوم نوح وما كان من أمرهم في سورة الاعراف.
(والى عاد أخاهم هودا.
قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون.
قال الملا الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين.
قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين.
أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين.
أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة.
فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون.
قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.
قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب اتجاد لونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان.
فانتظروا إني معكم من المنتظرين.
فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين) [ الاعراف: 65 - 72 ] وقال تعالى بعد ذكر قصة نوح في سورة هود (والى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدو الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون.
يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون.
ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين.
قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين.
إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء.
قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما
__________
(1) الجزء الثاني من البداية والنهاية - في أخبار العرب.
(2) في الطبري: هباء بدل هرا وفي الكامل: ضرا وضمور والهبا.

تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون.
إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم.
فان تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شئ حفيظ.
ولما جاء أمرنا نجينا
هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ.
وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد.
وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود) [ هود: 50 - 60 ] وقال تعالى في سورة قد أفلح المؤمنون بعد قصة قوم نوح (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون.
وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون.
هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين.
إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين.
قال رب انصرني بما كذبون.
قال عما قليل ليصبحن نادمين.
فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين) [ المؤمنون: 31 - 41 ].
وقال تعالى في سورة الشعراء بعد قصة قوم نوح أيضا (كذبت عاد المرسلين.
إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون.
إني لكم رسول أمين.
فاتقو الله وأطيعون.
وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين.
أتبنون بكل ريع آية تعبثون.
وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون.
وإذا بطشتم بطشتم جبارين.
فاتقوا الله وأطيعون.
واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون.
أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون.
إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم.
قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين.
إن هذا إلا خلق الاولين.
وما نحن بمعذبين فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين.
وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: 123 - 140 ].
وقال تعالى في سورة حم السجدة (وأما عاد فاستكبروا في الارض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة.
أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون.
فارسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون) [ فصلت: 15 - 16 ]
وقال تعالى في سورة الاحقاف (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالاحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم.
قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.
قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به إليكم ولكني أراكم قوما تجهلون.
فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل

هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين) [ الاحقاف: 21 - 25 ].
وقال تعالى في الذاريات (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شئ أنت عليه إلا جعلته كالرميم) [ الذاريات 41 - 42 ].
وقال تعالى في النجم (وأنه أهلك عادا الاولى وثمود فما أبقى.
وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى.
والمؤتفكة أهوى.
فغشاها ما غشى فبأي آلاء ربك تتمارى) [ النجم 50 - 55 ].
وقال تعالى في سورة اقتربت (كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر.
تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر.
فكيف كان عذابي ونذر.
ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) [ القمر 18 - 22 ].
وقال في الحاقة (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية.
سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية.
فهل يرى لهم من باقية) [ الحاقة: 6 - 8 ].
وقال في سورة الفجر (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد.
التي لم يخلق مثلها في البلاد.
وثمود الذين جابو الصخر بالواد.
وفرعون ذي الاوتاد.
الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد.
فنصب عليهم ربك سوط عذاب.
إن ربك لبالمرصاد) [ الفجر: 6 - 14 ].
وقد تكلمنا على كل من هذه القصص في أماكنها من كتابنا التفسير ولله الحمد والمنة.
وقد جرى ذكر عاد في سورة براءة وإبراهيم والفرقان والعنكبوت وفي سورة صلى الله عليه وآله وفي سورة (ق) ولنذكر مضمون القصة مجموعا من هذه السياقات مع ما يضاف إلى ذلك من الاخبار * وقد قدمنا أنهم أول الامم (1) عبدوا الاصنام بعد الطوفان.
وذلك بين في قوله لهم (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة) [ الاعراف: 69 ] أي جعلهم أشد أهل زمانهم في الخلقة والشدة والبطش.
وقال في المؤمنون (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) [ المؤمنون: 31 ] وهم قوم هود (2) على الصحيح * وزعم آخرون أنهم ثمود لقوله (فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء) قالوا وقوم صالح هم الذين أهلكوا بالصيحة (وأما عاد فاهلكوا بريح صرصر عاتية) وهذا الذي قالوه لا يمنع من اجتماع الصيحة والريح العاتية
__________
(1) في الطبري والكامل: كانوا أهل أوثان.
(2) في أحكام القرآن: هم قوم عاد، لانه ما كانت أمة أنشئت في أثر قوم نوح إلا عاد.


عليهم كما سيأتي في قصة أهل مدين أصحاب الايكة فإنه اجتمع عليهم أنواع من العقوبات * ثم لا خلاف أن عادا قبل ثمود.
والمقصود أن عادا كانوا عربا جفاة كافرين عتاة متمردين في عبادة الاصنام فأرسل الله فيهم رجلا منهم يدعوهم إلى الله وإلى إفراده بالعبادة والاخلاص له فكذبوه وخالفوه وتنقصوه فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر فلما أمرهم بعبادة الله ورغبهم في طاعته واستغفاره ووعدهم على ذلك خير الدنيا والآخرة وتوعدهم على مخالفة ذلك عقوبة الدنيا والآخرة (قال الملا الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة) أي هذا الامر الذي تدعونا إليه سفه بالنسبة إلى ما نحن عليه من عبادة هذه الاصنام التى يرتجى منها النصر والرزق ومع هذا نظن أنك تكذب في دعواك أن الله أرسلك (قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين) أي ليس الامر كما تظنون ولا ما تعتقدون (أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين) والبلاغ يستلزم عدم الكذب في أصل المبلغ وعدم الزيادة فيه والنقص منه ويستلزم إبلاغه بعبارة فصيحة وجيزة جامعة مانعة لا لبس فيها ولا اختلاف
ولا اضطراب وهو مع هذا البلاغ على هذه الصفة في غاية النصح لقومه والشفقة عليهم والحرص على هدايتهم لا يبتغي منهم أجرا ولا يطلب منهم جعلا بل هو مخلص لله عزوجل في الدعوة إليه والنصح لخلقه لا يطلب أجره إلا من الذي أرسله فإن خير الدنيا والآخرة كله في يديه وأمره إليه ولهذا (قال يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون) [ هود: 51 ] أي مالكم عقل تميزون به وتفهمون أني أدعوكم إلى الحق المبين الذي تشهد به فطركم التي خلقتم عليها وهو دين الحق الذي بعث الله به نوحا وأهلك من خالفه من الخلق وها أنا أدعوكم إليه ولا أسألكم أجرا عليه بل أبتغي ذلك عند الله مالك الضر والنفع ولهذا قال مؤمن يس (اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون.
ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) وقال قوم هود له فيما قالوا (يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين.
إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) [ هود: 53 ] يقولون ما جئتنا بخارق يشهد لك بصدق ما جئت به وما نحن بالذين نترك عبادة أصنامنا عن مجرد قولك بلا دليل أقمته ولا برهان نصبته وما نظن إلا أنك مجنون فيما تزعمه وعندنا إنما أصابك هذا أن بعض آلهتنا غضب عليك فأصابك في عقلك فاعتراك جنون بسبب ذلك وهو قولهم (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) [ هود: 54 ] وهذا تحد منه لهم وتبر من آلهتم وتنقص منه لها وبيان أنها لا تنفع شيئا ولا تضر وأنها جماد حكمها حكمه وفعلها فعله.
فان كانت كما تزعمون من أنها تنصر وتنفع وتضر فها أنا برئ منها لاعن لها (فكيدوني ثم لا تنظرون) أنتم جميعا بجميع ما يمكنكم أن تصلوا إليه وتقدروا عليه (1) ولا تؤخروني ساعة واحدة ولا طرفة عين فإني لا أبالي بكم ولا أفكر فيكم ولا أنظر إليكم
__________
(1) (قوله فكيدوني لا تنظرون، من أعلام النبوة، وهو أن يكون الرسول وحده، مع كثرة أعدائه يدل على الثقة بنصر

(إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) [ هود: 56 ] أي أنا متوكل على الله ومتأيد به وواثق بجنابه الذي لا يضيع من لاذ به واستند إليه
فلست أبالي مخلوقا سواه ولست أتوكل إلا عليه ولا أعبد إلا إياه * وهذا وحده برهان قاطع على أن هودا عبد الله ورسوله وأنهم على جهل وضلال في عبادتهم غير الله لانهم لم يصلوا إليه بسوء ولا نالوا منه مكروها فدل على صدقه فيما جاءهم به وبطلان ما هم عليه وفساد ما ذهبوا إليه.
وهذا الدليل بعينه قد استدل به نوح عليه السلام قبله في قوله (يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون) [ يونس: 71 ].
وهكذا قال الخليل عليه السلام (ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شئ علما أفلا تتذكرون.
وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون.
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون.
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) [ الانعام: 80 - 83 ] * (وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون * أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) [ المؤمنون: 33 - 35 ] استبعدوا أن يبعث الله رسولا بشريا وهذه الشبهة أدلى بها كثير من جهلة الكفرة قديما وحديثا كما قال تعالى (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس) [ يونس: 2 ] وقال تعالى (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا.
قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) [ الاسراء: 94 - 95 ] ولهذا قال لهم هود عليه السلام (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم) [ الاعراف: 63 ] أي ليس هذا بعجيب فإن الله أعلم حيث يجعل رسالته وقوله (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون.
هيهات هيهات لما
__________
= الله، وكذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لقريش ; وقال نوح ص (فأجمعوا أمركم وشركاءكم).
وكان هود في علاقته بقومه الناصح الامين لهم ; ومرت هذه العلاقة ; بصبر هود واتزانه ورزانته ووقاره واخلاصه
والبعد عن الشوائب واسداء النصيحة الخالصة وتلطفه معهم وترغيبهم في الايمان.
أما قومه فقد ترقوا في عداوتهم لهود ; من رفضهم لنصائحه ودعواته ثم اتهامهم له في عقله إلى تحديه (فأتنا بما تعدنا - من العذاب).
وانذرهم هود بالهلاك ; واستحلال قوم غيرهم.
ولما لم تبق فائدة في النصيحة والدعوة والانذار..أحل الله تعالى بهم نقمته في الدنيا...

توعدون.
إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحي وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين * قال ربي انصرني ] [ المؤمنون: 35 - 39 ] * استبعدوا المعاد وأنكروا قيام الاجساد بعد صيرورتها ترابا وعظاما وقالوا هيهات هيهات أي بعيد بعيد هذا الوعد إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحي وما نحن بمبعوثين أي يموت قوم ويحيى آخرون * وهذا هو اعتقاد الدهرية كما يقول بعض الجهلة من الزنادقة أرحام تدفع وأرض تبلع.
وأما الدورية فهم الذين يعتقدون أنهم يعودون إلى هذه الدار بعد كل سنة وثلاثين ألف سنة وهذا كله كذب وكفر وجهل وضلال وأقوال باطلة وخيال فاسد بلا برهان ولا دليل يستميل عقل الفجرة الكفرة من بني آدم الذين لا يعقلون ولا يهتدون كما قال تعالى (ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ماهم مقترفون) [ الانعام: 113 ] وقال لهم فيما وعظهم به (أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) [ الشعراء: 128 ] يقول لهم أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عظيما هائلا كالقصور ونحوها تعبثون ببنائها لانه لا حاجة لكم فيه وما ذاك إلا لانهم كانوا يسكنون الخيام كما قال تعالى (ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد.
التي لم يخلق مثلها في البلاد) [ الفجر: 6 - 7 ] فعاد إرم هم عاد الاولى الذين كانوا يسكنون الاعمدة التي تحمل الخيام.
ومن زعم أن إرم مدينة من ذهب وفضة وهي تتنقل في البلاد فقد غلط وأخطأ وقال ما لا دليل عليه * وقوله (وتتخذون مصانع) قيل هي القصور * وقيل بروج الحمام * وقيل مآخذ
الماء (1) (لعلكم تخلدون) [ الشعراء: 129 ] أي رجاء منكم أن تعمروا في هذه الدار أعمارا طويلة (وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون.
واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون.
أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) [ الشعراء: 130 - 135 ] وقالوا له مما قالوا (أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين) [ الاعراف: 70 ] أي أجئتنا لنعبد الله وحده ونخالف أباءنا وأسلافنا وما كانوا عليه * فإن كنت صادقا فيما جئت به فأتنا بما تعدنا من العذاب والنكال فإنا لا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نصدقك (2) كما قالوا (سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين.
إن هذا الا خلق الاولين.
وما نحن بمعذبين) [ الشعراء: 136 - 138 ] أما على قراءة فتح الخاء فالمراد به اختلاق الاولين أي أن هذا الذي جئت به إلا إختلاق منك وأخذته من كتب الاولين * هكذا فسره غير واحد من الصحابة والتابعين * وأما على قراءة ضم الخاء واللام فالمراد به الدين أي أن هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الآباء والاجداد من أسلافنا ولن نتحول عنه ولا نتغير ولا
__________
(1) في أحكام القرآن: قال الكلبي منازل.
وقال ابن عباس ومجاهد: حصون مشيدة.
(2) طلبوا منه بتحد العذاب الذي خوفهم به وحذرهم منه.


نزال متمسكين به.
ويناسب كلا القراءتين الاولى والثانية قولهم (وما نحن بمعذبين) قال (قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجاد لونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين) [ الاعراف: 71 ] أي قد استحقيتم بهذه المقالة الرجس والغضب من الله أتعارضون عبادة الله وحده لا شريك له بعبادة أصنام أنتم نحتموها وسميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم اصطلحتم عليها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان أي لم ينزل على ما ذهبتم إليه دليلا ولا برهانا وإذا أبيتم قبول الحق وتماديتم في الباطل وسواء عليكم أنهيتكم عما أنتم فيه أم لا فانتظروا الآن عذاب الله الواقع بكم وبأسه الذي لا يرد ونكاله الذي لا يصد وقال تعالى (قال رب انصرني بما كذبون قال عما قليل ليصبحن نادمين فاخذتهم الصيحة
بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين) [ المؤمنون: 26 ] وقال تعالى (قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين.
قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون.
فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم.
تدمر كل شئ بامر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين) [ الاحقاف: 22 ] وقد ذكر الله تعالى خبر إهلاكهم في غير ما أية كما تقدم مجملا ومفصلا كقوله (فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين) [ الاعراف: 72 ] وكقوله (ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ.
وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا أن عادا كفروا ربهم الا بعدا لعاد قوم هود) [ هود: 58 - 60 ] وكقوله (فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين) [ المؤمنون: 41 ] وقال تعالى (فكذبوه فأهلكناهم ان في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين.
وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء 139 - 140 ].
وأما تفصيل إهلاكهم فلما قال تعالى (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما أستعجلتم به ريح فيها عذاب أليم) [ الاحقاف: 24 ] كان هذا أول ما ابتدأهم العذاب أنهم كانوا ممحلين مسنتين فطلبوا السقيا فرأوا عارضا في السماء وظنوه سقيا رحمة فإذا هو سقيا عذاب.
ولهذا قال تعالى (بل هو ما استعجلتم به) أي من وقوع العذاب وهو قولهم (فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) ومثلها في الاعراف.
وقد ذكر المفسرون وغيرهم ههنا الخبر الذي ذكره الامام محمد بن اسحق بن بشار (1) وقال فلما أبوا إلا الكفر بالله عزوجل أمسك عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك قال وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان فطلبوا من الله الفرج منه إنما يطلبونه بحرمه ومكان بيته وكان معروفا عند أهل ذلك الزمان وبه
__________
(1) كذا في الاصول بشار وهو تحريف والصواب يسار.


العماليق مقيمون وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له معاوية بن بكر (1) وكانت أمه من قوم عاد واسمها جلهدة ابنة الخيبري.
قال فبعث عاد وفدا (2) قريبا من سبعين رجلا ليستقوا لهم عند الحرم فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر يغنيهم الجرادتان قينتان لمعاوية وكانوا قد وصلوا إليه في شهر.
فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه واستحيى منهم أن يأمرهم بالانصراف عمل شعرا فيعرض لهم بالانصراف وأمر القينتين أن تغنيهم به فقال: ألا ياقيل ويحك قم فهينم * لعل الله يمنحنا (3) غماما فيسقي أرض عاد إن عادا * قد أمسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد فليس نرجو * به الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهم بخير * فقد أمست نساؤهم أياما (4) وإن الوحش يأتيهم جهارا * ولا يخشى لعادي سهاما وأنتم ههنا فيما اشتهيتم * نهاركم وليلكم تماما فقبح وفدكم من وفد قوم * ولا لقوا التحية والسلاما قال فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له فنهضوا إلى الحرم ودعوا لقومهم فدعا داعيهم وهو قيل ابن عنز فأنشأ الله سحابات ثلاثا: بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء [ ياقيل ] اختر لنفسك ولقومك من هذا السحاب فقال: اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه اخترت رمادا رمددا لا تبقي من عاد أحدا.
لا والدا يترك ولا ولدا.
إلا جعلته همدا إبلا بني اللودية الهمد (5) - قال وهو بطن من عاد كانوا مقيمين بمكة فلم يصبهم ما أصاب قومهم قال ومن بقي من أنسابهم وأعقابهم هم عاد الآخرة - قال: وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل ابن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد حتى تخرج عليهم من واد يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا فيقول تعالى (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شئ بأمر ربها) أي كل شئ أمرت به فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح فيما يذكرون
__________
(1) في الطبري: بكر بن معاوية.
وفي رواية ابن إسحاق عنده معاوية بن بكر.
(2) في الطبري: بعثوا قيل بن عثر ولقيم بن هزال بن هزيل بن عتيك ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلما يكتم إسلامه وجلهمة بن الخيبري ثم بعثوا لقمان بن عاد بن.
بن.
بن عاد الاكبر مع رهط كل منهم حتى بلغوا سبعين رجلا.
(3) في الطبري يسقينا.
(4) في الطبري: عياما.
والايم: المرأة التي فارقت زوجها.
(5) في الطبري: اللوذية الهمداني وهم بنو لقيم بن هزال بن هزيل بن هزيلة ابنة بكر.


امرأة من عاد يقال لها فهد (1) فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت.
فلما أفاقت قالوا ما رأيت يا فهد (2) قالت رأيت ريحا فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها فسخر ها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما والحسوم الدائمة فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك قال واعتزل هود عليه السلام فيما ذكر لي في حظيرة هو ومن معه من المؤمنين ما يصيبهم إلا ما يلين عليهم الجلود ويلتذ الانفس وإنها لتمر على عاد بالطعن فيما بين السماء والارض وتدمغهم بالحجارة * وذكر تمام القصة (3).
وقد روي الامام أحمد حديثا في مسنده (4) يشبه هذه القصة فقال حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي حدثنا عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن الحارث - وهو ابن حسان - ويقال ابن يزيد البكري قال: خرجت أشكو العلا بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت بالربذة، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها فقالت لي يا عبد الله إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة فهل أنت مبلغي إليه قال فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص بأهله وإذا راية سوداء تخفق وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت ما شأن الناس قالوا يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها قال: فجلست قال: فدخل منزله - أو قال رحله - فأستأذنت عليه فأذن لي فدخلت فسلمت.
فقال: " هل كان بينكم وبين بني تميم شئ ؟ " فقلت: نعم.
وكانت لنا الدبرة عليهم ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها فسألتني أن أحملها إليك وها هي بالباب.
فأذن
لها فدخلت فقلت يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين بني تميم حاجزا فاجعل الدهناء فإنها كانت لنا قال ; فحميت العجوز واستوفزت وقالت يا رسول الله فإلى أين تضطر مضرك قال: فقلت: إن مثلي ما قال الاول (معزى حملت حتفها) (5) حملت هذه الامة ولا أشعر أنها كانت لي خصما أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد قال هيه وما وافد عاد وهو أعلم بالحديث منه (1) ولكن يستطعمه، قلت: إن عادا قحطوا فبعثوا وفدا لهم يقال له قيل، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر ويغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان فلما مضى الشهر خرج إلى جبال تهامة (6) فقال اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه ولا إلى أسير فأفاديه.
اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر فأمي إلى سحابة منها سوداء فنودي منها خذها رمادا رمددا لا تبقي من عاد أحدا قال فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا كقدر ما يجري في
__________
(1) في الطبري: مهدد.
(2) روى الطبري الخبر في تاريخه 1 / 113 بتغيير طفيف في التعابير والالفاظ.
(3) مسند أحمد ج 3 / 482 وتاريخ الطبري ج 1 / 111، وروى الترمذي نحوه وقال: وقد روى غير واحد هذا الحديث عن سلام بن أبي المنذر عن عاصم، وعن أبي وائل عن الحارث بن حسان ويقال له: ابن يزيد.
(4) في الطبري: حيفا.
(5) في الطبري: قلت: على الخبير سقطت قال: وهو يستطعمني الحديث.
(6) في الطبري: مهرة.


خاتمي هذا من الريح حتى هلكوا.
قال أبو وائل وصدق وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وفدا لهم قالوا لا تكن كوافد عاد وهكذا رواه الترمذي عن عبد ين حميد بن زيد بن الحباب به ورواه النسائي من حديث سلام أبي المنذر عن عاصم بن بهدلة، ومن طريقه رواه ابن ماجة.
وهكذا أورد هذا الحديث وهذه القصة عند تفسير هذه القصة غير واحد من المفسرين كابن جرير وغيره * وقد يكون هذا السياق لاهلاك عاد الآخرة، فإن فيما ذكره ابن اسحاق وغيره ذكر لمكة، ولمن تبن
إلا بعد إبراهيم الخليل حين أسكن فيها هاجر وابنه إسماعيل فنزلت جرهم عندهم كما سيأتي وعاد الاولى قبل الخليل وفيه ذكر معاوية بن بكر وشعره، وهو من الشعر المتأخر عن زمان عاد الاولى، لا يشبه كلام المتقدمين.
وفيه أن في تلك السحابة شرر نار، وعاد الاولى إنما أهلكوا بريح صرصر.
وقد قال ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من أئمة التابعين هي الباردة والعاتية الشديدة الهبوب (سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما) [ الحاقة: 7 ] أي كوامل متتابعات * قيل كان أولها الجمعة وقيل الاربعاء (فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية) شبههم بأعجاز النخل التي لا رؤس لها وذلك لان الريح كانت تجئ إلى أحدهم فتحمله فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه فيبقى جثة بلا رأس كما قال (إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر) [ القمر: 19 ] أي في يوم نحس عليهم مستمر عذابه عليهم (تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر) [ القمر: 20 ] ومن قال إن اليوم النحس المستمر هو يوم الاربعاء وتشاءم به لهذا الفهم فقد أخطأ وخالف القرآن فإنه قال في الآية الاخرى (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات) [ فصلت: 16 ] ومعلوم أنها ثمانية أيام متتابعات فلو كانت نحسات في أنفسها لكانت جميع الايام السبعة المندرجة فيها مشؤمة وهذا لا يقوله أحد وإنما المراد في أيام نحسات أي عليهم وقال تعالى (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم) [ الذاريات: 41 ] أي التي لا تنتج خيرا فإن الريح المفردة لا تنثر سحابا ولا تلقح شجرا بل هي عقيم لا نتيجة خير لها ولهذا قال (ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم) [ الذاريات: 42 ] أي كالشئ البالي الفاني الذي لا ينتفع به بالكلية * وقد ثبت في الصحيحين من حديث شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " (1) * وأما قوله تعالى (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالاحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) [ الاحقاف: 21 ] فالظاهر أن عادا هذه هي عاد الاولى فإن سياقها شبيه بسياق قوم هود وهم الاولى.
ويحتمل أن يكون المذكورون في هذه القصة هم عاد الثانية.
ويدل عليه ما ذكرنا وما سيأتي
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 15 / 26 / 1035 الفتح ; وفي أكثر من رواية وراوه مسلم في صحيحه 9 / 4 / 17 وأحمد في منسده 1 / 23 - 324 - 341 - 355 - 373.
قال ابن حجر: الصبا يقال لها القبول لانها تقابل الكعبة لان مهبها من مشرق الشمس، والدبور ضد الصبا.


من الحديث عن عائشة رضي الله عنها * وأما قوله (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا) فإن عادا لما رأو هذا العارض وهو الناشئ في الجو كالسحاب ظنوه سحاب مطر فإذا هو سحاب عذاب اعتقدوه رحمة فإذا هو نقمة رجوا فيه الخير فنالوا منه غاية الشر قال الله تعالى (بل هو ما استجعلتم به) أي من العذاب ثم فسره بقوله (ريح فيها عذاب أليم) يحتمل أن ذلك العذاب هو ما أصابهم من الريح الصرصر العاتية الباردة الشديدة الهبوب التي استمرت عليهم سبع ليال بأيامها الثمانية فلم تبق منهم أحدا بل تتبعتهم حتى كانت تدخل عليهم كهوف الجبال والغيران فتلفهم وتخرجهم وتهلكهم وتدمر عليهم البيوت المحكمة والقصور المشيدة فكما منوا بقوتهم وشدتهم وقالوا من أشد منا قوة سلط الله عليهم ما هو أشد منهم قوة وأقدر عليهم وهو الريح العقيم * ويحتمل أن هذه الريح أثارت في آخر الامر سحابة ظن من بقي منهم أنها سحابة فيها رحمة بهم وغياث لمن بقي منهم فأرسلها الله عليهم شررا ونارا كما ذكره غير واحد ويكون هذا كما أصاب أصحاب الظلة من أهل مدين وجمع لهم بين الريح الباردة وعذاب النار وهو أشد ما يكون من العذاب بالاشياء المختلفة المتضادة مع الصيحة التي ذكرها في سورة قد أفلح المؤمنون والله أعلم.
وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي: حدثنا محمد بن يحيى بن الضريس، حدثنا ابن فضل (1) عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا بها إلا مثل موضع الخاتم فمرت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم بين السماء والارض فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عاد الريح وما فيها (قالوا هذا عارض ممطرنا) فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة ".
وقد رواه الطبراني عن عبدان بن أحمد، عن اسماعيل بن زكريا الكوفي، عن أبي مالك، عن مسلم الملائي، عن مجاهد وسعيد بن جبير عن
ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما فتح الله على عاد من الريح إلا مثل موضع الخاتم.
ثم أرسلت عليهم البدو إلى الحضر فلما رآها أهل الحضر قالوا هذا عارض ممطرنا مستقبل أو ديتنا وكان أهل البوادي فيها فألقى أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا ".
قال: عتت على خزائنها (2) حتى خرجت من خلال الابواب.
قلت: وقال غيره: خرجت بغير حساب.
والمقصود أن هذا الحديث في رفعه نظر.
ثم اختلف فيه على مسلم الملائي، وفيه نوع اضطراب والله أعلم * وظاهر الآية أنهم رأوا عارضا والمفهوم منه (3) لمعة السحاب كما دل عليه حديث الحارث بن حسان البكري ان جعلناه مفسرا لهذه القصة.
وأصرح منه في ذلك ما رواه
__________
(1) كذا بالاصل والصواب ابن فضيل وهو محمد بن فضيل بن غزوان، ثقة مشهور، قال ابن سعد: بعضهم لا يحتج به، المغني في الضعفاء (2 / 624 / 5907) تقريب التهذيب (2 / 200 / 628).
(2) في قصص الانبياء لابن كثير: خزانها وهو الصواب.
(3) لمعة تحريف، وما في قصص الانبياء لابن كثير: لغة.
هو الصواب.


مسلم في صحيحه حيث قال: حدثنا أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب [ قال ] سمعت بن جريح يحدثنا عن عطاء بن أبي رياح، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: " اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به " قالت: وإذا عببت (1) السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا أمطرت سري عنه (2) فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال لعله يا عائشة كما قال قوم عاد (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا) [ الاحقاف: 24 ] (3) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث ابن جريج.
طريق أخرى * قال الامام أحمد (4) حدثنا هرون بن معروف أنبأنا عبد الله بن وهب، أنبأنا عمرو وهو ابن الحارث، أن أبا النضر، حدثه عن سليمان بن يسار، عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا قط حتى أرى منه لهواته إنما كان يبتسم.
وقالت كان إذا
رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه قالت يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية فقال: " يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب.
قد عذب قوم نوح بالريح.
وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا " * فهذا الحديث كالصريح في تغاير القصتين كما أشرنا إليه أولا.
فعلى هذا تكون القصة المذكورة في سورة الاحقاف خبرا عن قوم عاد الثانية.
وتكون بقية السياقات في القرآن خبرا عن عاد الاولى والله أعلم بالصواب * وهكذا رواه مسلم عن هارون بن معروف وأخرجه البخاري وأبو داود من حديث ابن وهب * وقدمنا حج هود عليه السلام عند ذكر حج نوح عليه السلام.
وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه ذكر صفة قبر هود عليه السلام في بلاد اليمن.
وذكر آخرون أنه بدمشق وبجامعها مكان في حائطة القبلي يزعم بعض الناس أنه قبر هود عليه السلام والله أعلم.
__________
(1) كذا في الاصول.
وعند مسلم تخيلت.
قال أبو عبيدة وغيره: تخيلت من المخيلة بفتح الميم: وهي سحابة فيها رعد وبرق يخيل إليه انها ماطرة.
(2) سري عنه: انكشف عنه الهم.
قال صاحب النهاية: وقد تكرر ذكر هذه اللفظة في الحديث، وخاصة في ذكر نزول الوحي عليه.
وكلها بمعنى الكشف والازالة.
يقال: سروت الثوب، وسريته إذا خلعته.
والتشديد فيه للمبالغة.
(3) أخرجه مسلم في 9 كتاب صلاة الاستسقاء (3 باب) ح 15 ص 2 / 616.
(4) مسند أحمد ج 6 / 66 وصحيح مسلم 9 كتاب صلاة الاستسقاء (3 باب) 16 ح ص 2 / 616.
ولهواته: جمع لهاة.
وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أعلى الحنك.
قاله الاصمعي.


قصة صالح نبي ثمود عليه السلام (1) وهم قبيلة مشهورة يقال ثمود باسم جدهم ثمود أخي جديس وهما ابنا عابر بن ارم بن سام بن نوح وكانوا عربا من العاربة يسكنون الحجر الذي بين الحجاز وتبوك.
وقد مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك بمن معه من المسلمين كما سيأتي بيانه وكانوا بعد قوم عاد وكانوا
يعبدون الاصنام كأولئك فبعث الله فيهم رجلا منهم وهو عبد الله ورسوله صالح بن عبد بن ماسح (2) بن عبيد بن حاجر ابن ثمود بن عابر بن ارم بن سام بن نوح فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وأن يخلعوا الاصنام والانداد ولا يشركوا به شيئا فآمنت به طائفة منهم وكفر جمهورهم ونالوا منه بالمقال والفعال وهموا بقتله وقتلوا الناقة التي جعلها الله حجة عليهم فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر كما قال تعالى في سورة الاعراف (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم.
هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم.
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الارض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون من الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الارض مفسدين قال الملا الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون.
قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون.
فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) [ الاعراف: 73 - 79 ] وقال تعالى في سورة هود (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الارض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب.
قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نترك ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب.
قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله ان عصيته فما تزيدونني غير تحسير.
ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب.
فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب.
فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ.
إن ربك هو القوي العزيز.
وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود)
__________
(1) ذكر اسم صالح في القرآن تسع مرات، في سورة الاعراف: 73 - 75 - 77 وفي سورة هود في الآيات: 61 -
62 - 66 - 89، وفي سورة الشعراء: 142.
(2) في الطبري: صالح بن عبيد بن آسف بن ماسخ بن عبيد بن خادر بن ثمود بن جاثر بن ارم بن سام بن نوح.


[ هود: 61 - 67 ] وقال تعالى في سورة الحجر (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين.
وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين.
وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين.
فأخذتهم الصيحة مصبحين.
فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) [ الحجر: 70 - 84 ] وقال سبحانه وتعالى في سورة سبحان (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الاولون.
وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) [ الاسراء: 59 ] وقال تعالى في سورة الشعراء (كذبت ثمود المرسلين.
إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون.
إني لكم رسول أمين.
فاتقوا الله وأطيعون.
وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين.
أتتركون فيما هاهنا آمنين في جنات وعيون.
وزروع ونخل طلعها هضيم.
وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين.
فاتقوا الله وأطيعون.
ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون.
قالوا إنما أنت من المسحرين.
ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين.
قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم.
ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب عظيم.
فعقروها فأصبحوا نادمين.
فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وان ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: 141 - 159 ] وقال تعالى في سورة النمل (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون.
قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون.
قالوا اطيرنا بك وبمن معك.
قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون.
وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون.
قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون.
ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون.
فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين.
فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون.
وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) [ النمل: 45 - 53 ]
وقال تعالى في سورة حم السجدة (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون.
ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) [ فصلت: 17 - 18 ] وقال تعالى في سورة اقتربت (كذبت ثمود بالنذر.
فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه انا إذا لفي ضلال وسعر.
أألقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر.
سيعلمون غدا من الكذاب الاشر.
انا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر.
ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر.
فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي ونذر.
انا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) [ القمر: 23 - 32 ] وقال تعالى (كذبت ثمود بطغواها إذا انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها.
فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها) [ الشمس: 11 - 15 ] وكثيرا ما يقرن الله في كتابه بين ذكر عاد وثمود كما في سورة براءة وابراهيم والفرقان وسورة صلى الله عليه وآله وسورة (ق) والنجم والفجر * ويقال إن هاتين الامتين لا يعرف خبرهما

أهل الكتاب وليس لهما ذكر في كتابهم التوراة ولكن في القرآن ما يدل على أن موسى أخبر عنهما كما قال تعالى في سورة ابراهيم (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الارض جميعا فان الله لغني حميد.
ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات ] [ ابراهيم: 8 - 9 ] الآية.
الظاهر أن هذا من تمام كلام موسى مع قومه ولكن لما كان هاتان الامتان من العرب لم يضبطوا خبرهما جيدا ولا اعتنوا بحفظه وإن كان خبرهما كان مشهورا في زمان موسى عليه السلام * وقد تكلمنا على هذا كله في التفسير متقصيا ولله الحمد والمنة.
والمقصود الآن ذكر قصتهم وما كان من أمرهم وكيف نجى الله نبيه صالحا عليه السلام ومن آمن به وكيف قطع دابر القوم الذين ظلموا بكفرهم وعتوهم ومخالفتهم رسولهم عليه السلام * قد قدمنا أنهم كانوا عربا وكانوا بعد عاد ولم يعتبروا بما كان من أمرهم * ولهذا قال لهم نبيهم
عليه السلام (أعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم.
واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الارض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الارض مفسدين) [ الاعراف: 73 - 74 ] أي إنما جعلكم خلفاء من بعدهم لتعتبروا بما كان أمرهم وتعملوا بخلاف عملهم وأباح لكم هذه الارض تبنون في سهولها القصور وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين أي حاذقين في صنعتها وإتقانها وإحكامها فقابلوا نعمة الله بالشكر والعمل الصالح والعبادة له وحده لا شريك له وإياكم ومخالفته والعدول عن طاعته فإن عاقبة ذلك وخيمة ولهذا وعظهم بقوله (اتتركون فيما ههنا آمنين.
في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم) [ الشعراء: 146 - 148 ] أي متراكم كثير حسن بهي ناضج (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين.
الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون) [ الشعراء 149 - 152 ] وقال لهم أيضا (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الارض واستعمركم فيها) [ هود: 61 ] أي هو الذي خلقكم فأنشأكم من الارض وجعلكم عمارها أي أعطاكموها بما فيها من الزروع والثمار فهو الخالق الرزاق فهو الذي يستحق العبادة وحده لا سواه (فاستغفروه ثم توبوا إليه) أي أقلعوا عما أنتم فيه (1) وأقبلوا على عبادته فإنه يقبل منكم ويتجاوز عنكم (إن ربي قريب مجيب قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا) [ هود: 62 ] أي قد كنا نرجو أن يكون عقلك كاملا قبل هذه المقالة (2) وهي دعاؤك إيانا إلى إفراد
__________
(1) أي سلوه المغفرة من عبادة الاصنام.
(2) في أحكام القرآن: كنا نرجو أن تكون فينا سيدا قبل هذا، أي قبل دعوتك النبوة، وكانوا يرجون رجوع دينهم..وانقطع رجاؤهم لما دعاهم إلى الله.


العبادة وترك ما كنا نعبده من الانداد والعدول عن دين الآباء والاجداد ولهذا قالوا (اتنهانا أن نترك ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب - قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي
وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير) [ هود: 63 ] وهذا تلطف منه لهم في العبارة ولين الجانب وحسن تأت في الدعوة لهم إلى الخير أي فما ظنكم إن كان الامر كما أقول لكم وأدعوكم إليه ماذا عذركم عند الله وماذا يخلصكم بين يديه وأنتم تطلبون مني أن أترك دعاءكم إلى طاعته وأنا لا يمكنني هذا لانه واجب علي ولو تركته لما قدر أحد منكم ولا من غيركم أن يجيرني منه ولا ينصرني فأنا لا أزال أدعوكم إلى الله وحده لا شريك له حتى يحكم الله بيني وبينكم وقالوا له أيضا (إنما أنت من المسحرين) [ الشعراء: 153 ] أي من المسحورين يعنون مسحورا لا تدري ما تقول في دعائك إيانا إلى إفراد العبادة لله وحده وخلع ما سواه من الانداد وهذا القول عليه الجمهور إن المراد بالمسحرين المسحورين * وقيل من المسحرين أي ممن له سحر وهي الرئة كأنهم يقولون إنما أنت بشر له سحر والاول أظهر لقولهم بعد هذا ما أنت إلا بشر مثلنا * وقولهم (فأت بآية إن كنت من الصادقين) [ هود: 154 ] سألوا منه أن يأتيهم بخارق يدل على صدق ما جاءهم (قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب عظيم) [ هود: 156 ] وقال (قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) [ الاعراف: 73 ] وقال تعالى: (وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها) [ الاسراء: 59 ].
وقد ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يوما في ناديهم فجاءهم رسول الله صالح فدعاهم إلى الله وذكرهم وحذرهم ووعظهم وأمرهم فقالوا له إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة وأشاروا إلى صخرة هناك ناقة من صفتها كيت وكيت وذكروا أوصافا سموها ونعتوها وتعنتوا (1) فيها وأن تكون عشراء (2) طويلة من صفتها كذا وكذا فقال لهم النبي صالح عليه السلام أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقوني فيما أرسلت به.
قالوا نعم فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك ثم قام إلى مصلاه فصلى لله عزوجل ما قدر له ثم دعا ربه عزوجل أن يجيبهم إلى ما طلبوا فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أن تنفظر عن ناقة عظيمة عشراء، على الوجه المطلوب الذي طلبوا أو على الصفة التي نعتوا فلما عاينوها كذلك رأوا أمرا عظيما ومنظرا هائلا وقدرة
باهرة ودليلا قاطعا وبرهانا ساطعا (3) فآمن كثير منهم واستمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم
__________
(1) تعنتوا: تشددوا.
(2) عشراء: التي مضى لحملها عشرة أشهر أو هي كالنفساء من النساء.
(3) قال الرازي في تفسيره ج 18 / 19: وأعلم أن تلك الناقة كانت معجزة من وجوه: الاول: انه تعالى خلقها من الصخرة.
الثاني: انه تعالى خلقها في جوف الجبل ثم شق عنها الجبل.


ولهذا قال (فظلموا بها) أي جحدوا بها ولم يتبعوا الحق بسببها أي أكثرهم.
وكان رئيس الذين آمنوا جندع بن عمرو بن محلاه بن لبيد بن جواس.
وكان من رؤسائهم وهم بقية الاشراف بالاسلام قصدهم ذؤاب بن عمر بن لبيد والخباب صاحبا أوثانهم ورباب بن صمعر بن جمس ودعا جندع بن عمه شهاب بن خليفة وكان من اشرافهم فهم بالاسلام فنهاه أولئك فمال إليهم فقال في ذلك رجل من المسلمين يقال له مهرش بن غنمة بن الذميل رحمه الله: وكانت عصبة من آل عمرو * إلى دين النبي دعوا شهابا عزيز ثمود كلهم جميعا * فهم بأن يجيب ولو أجابا لاصبح صالح فينا عزيزا * وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا ولكن الغواة من آل حجر * تولوا بعد رشدهم ذابا (1) ولهذا قال لهم صالح عليه السلام (هذه ناقة الله لكم آية) [ هود: 64 ] أضافها الله سبحانه وتعالى إضافة تشريف وتعظيم كقوله بيت الله وعبد الله لكم آية أي دليلا على صدق ما جئتكم به (فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) [ هود: 64 ] فاتفق الحال على أن تبقى هذه الناقة بين أظهرهم ترعى حيث شاءت من أرضهم وترد الماء يوما بعد يوم وكانت إذا وردت الماء تشرب ماء البئر يومها ذلك فكانوا يرفعون حاجتهم من الماء في يومهم لغدهم ويقال إنهم كانوا يشربون من لبنها كفايتهم ولهذا (قال لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) ولهذا
قال تعالى (أنا مرسلوا الناقة فتنة لهم) [ القمر: 27 ] أي اختبارا لهم أيؤمنون بها أم يكفرون والله أعلم بما يفعلون (فارتقبهم) أي انتظر ما يكون من امرهم (واصطبر) على أذاهم فسيأتيك الخبر على جلية (ونبئهم ان الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر) [ القمر: 28 ] فلما طال عليهم الحال هذا اجتمع ملؤهم واتفق رأيهم على أن يعقروا هذه الناقة ليستريحوا منها ويتوفر عليهم ماؤهم وزين لهم الشيطان أعمالهم قال الله تعالى (فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين) [ الاعراف - 77 ] وكان الذي تولى قتلها منهم رئيسهم قدار بن سالف بن جندع وكان أحمر أزرق أصهب وكان يقال أنه ولد زانية ولد على فراش سالف وهو ابن رجل يقال له صيبان.
وكان فعله ذلك باتفاق جميعهم فلهذا نسب الفعل إلى جميعهم كلهم (2) *
__________
الثالث: انه تعالى خلقها حاملا من غير ذكر.
الرابع: خلقها دفعة واحدة من غير ولادة الخامس: ما روي انه كان لها شرب يوم ولكل القوم شرب يوم آخر.
السادس: كان يحصل منها لبن كثير يكفي لخلق عظيم.
(1) في قصص الانبياء لابن كثير: ذبابا.
(2) وفي نسخة قصص الانبياء لابن كثير: إليهم كلهم.
وهو مناسب.


وذكر ابن جرير وغيره من علماء المفسرين (1) أن امرأتين من ثمود اسم احداهما صدوق ابنة المحيا ابن زهير بن المختار وكانت ذات حسب ومال وكانت تحت رجل من أسلم ففارقته فدعت ابن عم لها يقال له مصرع بن مهرج بن المحيا وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة واسم الاخرى عنيزة بنت غنيم بن مجلز وتكنى أم عثمان وكانت عجوزا كافرة لها بنات من زوجها ذؤاب بن عمرو احد الرؤساء فعرضت بناتها الاربع على قدار بن سالف إن هو عقر الناقة فله أي بناتها شاء فانتدب هذان الشابان لعقرها وسعوا في قومهم بذلك فاستجاب لهم سبعة آخرون فصاروا تسعة وهم
المذكورون في قوله تعالى (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون) [ النمل: 48 ] وسعوا في بقية القبيلة وحسنوا لهم عقرها فأجابوهم إلى ذلك وطاوعوهم في ذلك فانطلقوا يرصدون الناقة فلما صدرت من وردها كمن لها مصرع فرماها بسهم فانتظم عظم ساقها وجاء النساء يزمرن القبيلة في قتلها وحسرن عن وجوههن ترغيبا لهم فابتدرهم قدار بن سالف فشد عليها بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرت ساقطة إلى الارض ورغت رغاة واحدة عظيمة تحذر ولدها ثم طعن في لبتها فنحرها وانطلق سقيها وهو فصيلها فصعد جبلا منيعا ودعا (2) ثلاثا.
وروى عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن أنه قال يا رب أين أمي ثم دخل في صخرة فغاب فيها ويقال بل اتبعوه فعقروه أيضا قال الله تعالى (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي ونذر) [ القمر: 29 - 30 ] وقال تعالى (إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها) [ الشمس: 12 - 13 ] أي احذروها (فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها) [ الشمس: 14 - 15 ].
قال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا هاشم - هو أبو عزرة - عن أبيه عبد الله بن زمعة (3) قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال (إذ انبعثت أشقاها) انبعث لها رجل من عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة (4).
أخرجاه من حديث هشام بن (5) عارم أي شهم عزيز أي رئيس منيع أي مطاع في قومه * وقال محمد بن اسحاق حدثني
__________
(1) تاريخ الطبري، وروح المعاني للالوسي.
(2) كذا في الاصل، وفي قصص الانبياء لابن كثير: ورغا.
وهو المناسب.
(3) في المسند 4 / 17: عن ابن نمير عن هشام عن أبيه عن عبد الله بن زمعة.
وهشام بن عروة ; وأبو عزرة تحريف / عن مسلم.
(4) رواه مسلم في 51 كتاب / 13 باب / ح 49 بزيادة: ذكر النساء فوعظ فيهم ثم قال: إلام يجلد أحدكم امرأته.
ورواه البخاري في الفتح: 65 / 91 / 4942 بزيادة " ذكر النساء..وعارم: قال أهل اللغة: هو الشرير المفسد الخبيث، وقيل: القوي الشرس.
(5) كذا بالاصول والنسخ المطبوعة: وفي قصص الانبياء لابن كثير: من حديث هشام به.


يزيد بن محمد بن خيثم عن محمد بن كعب عن محمد بن خيثم عن يزيد عن عمار بن ياسر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: " ألا أحدثك بأشقى الناس " قال: بلى.
قال: " رجلان أحدهما أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي بضربك يا علي على هذا - يعني قرنه - حتى تبتل منه هذه - يعني لحيته ".
رواه ابن أبي حاتم.
وقال تعالى (فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا ان كنت من المرسلين) [ الاعراف: 77 ] فجمعوا في كلامهم هذا بين كفر بليغ من وجوه: منها انهم خالفوا الله ورسوله في ارتكابهم النهي الاكيد في عقر الناقة التي جعلها الله لهم آية.
ومنها أنهم استعجلوا وقوع العذاب بهم فاستحقوه من وجهين * أحدهما الشرط عليهم في قوله (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) وفي آية " عظيم " وفي الاخرى " أليم " والكل حق * والثاني استعجالهم على ذلك.
ومنها أنهم كذبوا الرسول الذي قد قام الدليل القاطع على نبوته وصدقه وهم يعلمون ذلك علما جازما ولكن حملهم الكفر والضلال والعناد على استبعاد الحق ووقوع العذاب بهم * قال الله تعالى (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام (1) ذلك وعد غير مكذوب) [ هود: 65 ] وذكروا نهم لما عقروا الناقة كان أول من سطا عليها قدار بن سالف لعنه الله فعرقبها فسقطت إلى الارض ثم ابتدروها بأسيافهم يقطعونها فلما عاين ذلك سقيها وهو ولدها شرد عنهم فعلا أعلى الجبل هناك ورغا ثلاث مرات فلهذا قال لهم صالح (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) أي غير يومهم ذلك فلم يصدقوه أيضا في هذا الوعد الاكيد بل لما أمسوا هموا بقتله وأرادوا فيما يزعمون أن يلحقوه بالناقة (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله) [ النمل: 48 ] أي لنكسنه في داره مع أهله فلنقتلنه ثم نجحدن قتله وننكرن ذلك أن طالبنا أولياؤه بدمه.
ولهذا قالوا: (ثم لنقولن لوليه ما شهدنا
مهلك أهله وإنا لصادقون) [ النمل: 48 ] قال الله تعالى (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون.
فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين.
فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) [ النمل: 50 - 53 ] وذلك أن الله تعالى أرسل على أولئك النفر الذين قصدوا قتل صالح حجارة رضختهم سلفا وتعجيلا قبل قومهم وأصبحت ثمود يوم الخميس وهو اليوم الاول من أيام النظرة ووجوههم مصفرة كما أنذرهم صالح عليه السلام فلما أمسوا نادوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الاجل.
ثم أصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل.
وهو يوم الجمعة ووجوههم محمرة فلما أمسوا نادوا ألا قد مضى يومان من الاجل.
ثم أصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع وهو يوم السبت ووجوههم مسودة فلما
__________
(1) قال الرازي في تفسيره: قال ابن عباس: انه تعالى لما امهلهم تلك الايام الثلاثة فقد رغبهم في الايمان، وذلك لانهم لما عقروا الناقة انذرهم صالح عليه السلام بنزول العذاب..

أمسوا نادوا ألا قد مضى الاجل فلما كان صبيحة يوم الاحد تحنطوا وتأهبوا وقعدوا ينتظرون ماذا يحل بهم من العذاب والنكال والنقمة لا يدرون كيف يفعل بهم ولا من أي جهة يأتيهم العذاب فلما أشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم ورجفة شديدة من أسفل منهم ففاضت الارواح وزهقت النفوس وسكنت الحركات وخشعت الاصوات وحقت الحقائق فأصبحوا في دارهم جاثمين جثثا لا أرواح فيها ولا حراك بها.
قالوا ولم يبق منهم أحد إلا جارية كانت مقعدة واسمها كلبة - ابنت السلق - ويقال لها الذريعة وكانت شديدة الكفر والعداوة لصالح عليه السلام فلما رأت العذاب أطلقت رجلاها فقامت تسعى كأسرع شئ فأتت حيا من العرب فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها واستسقتهم ماء فلما شربت ماتت.
قال الله تعالى (كأن لم يغنوا فيها) أي لم يقيموا فيها في سعة ورزق وغناء (ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) [ هود: 60 ] أي نادى عليهم لسان القدر بهذا.
قال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم،
عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: " لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج (فعتوا عن أمر ربهم فعقروها).
وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله.
فقالوا من هو يا رسول الله قال: " هو أبو رغال.
فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه " (1).
وهذا الحديث على شرط مسلم وليس هو في شئ من الكتب الستة والله أعلم.
وقد قال عبد الرزاق أيضا: قال معمر، أخبرني إسماعيل بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال: " أتدرون من هذا " قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: " هذا قبر أبي رغال، رجل من ثمود، كان في حرم الله فمنعه حرم الله [ من ] عذاب الله.
فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ههنا، ودفن معه غصن من ذهب.
فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم فبحثوا عنه فاستخرجوا الغصن " * قال عبد الرزاق قال معمر قال الزهري: أبو رغال أبو ثقيف * هذا مرسل من هذا الوجه * وقد جاء من وجه آخر متصلا كما ذكره محمد بن اسحق في السيرة عن إسماعيل بن أمية عن بجير بن أبي بجير، [ قال ] سمعت عبد الله بن عمرو، [ يقول ] سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال: " إن هذا قبر أبي رغال.
وهو أبو ثقيف ; وكان من ثمود ; وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان
__________
(1) مسند أحمد ج 3 / 396 وتفرد به.
وأبو الزبير هو محمد بن مسلم، صدوق مشهور، اعتمده مسلم وروى له البخاري متابعة.
قال ابن حجر: صدوق إلا انه يدلس.
تقريب التقريب (2 / 207 / 697) المغني في الضعفاء للذهبي / 2 - 632).


فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه.
فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن " وهكذا رواه أبو داود من طريق محمد بن اسحق به * قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي رحمه الله هذا حديث حسن عزيز.
قلت تفرد به بجير بن أبي بجير هذا
ولا يعرف إلا بهذا الحديث ولم يرو عنه سوى اسماعيل بن أمية * قال شيخنا فيحتمل أنه وهم في رفعه وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو من زاملتيه والله أعلم.
قلت لكن في المرسل الذي قبله وفي حديث جابر أيضا شاهد له * والله أعلم.
وقوله تعالى (فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين) [ الاعراف: 79 ] إخبار عن صالح عليه السلام أنه خاطب قومه بعد هلاكهم وقد أخذ في الذهاب عن محلتهم إلى غيرها قائلا لهم (يا قوم لقد ابلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم) أي جهدت في هدايتكم بكل ما أمكنني وحرصت على ذلك بقولي وفعلي ونيتي (ولكن لا تحبون الناصحين) أي لم تكن سجاياكم تقبل الحق ولا تريده فلهذا صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب الاليم المستمر بكم المتصل إلى الابد وليس لي فيكم حيلة ولا لي بالدفع عنكم يدان والذي وجب علي من أداء الرسالة والنصح لكم قد فعلته وبذلته لكم ولكن الله يفعل ما يريد.
وهكذا خاطب النبي صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر بعد ثلاث ليال: وقف عليهم وقد ركب راحلته وأمر بالرحيل من أخر الليل فقال: " يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا، وقال لهم فيما قال: " بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقتني الناس وأخرجتموني وآواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم " فقال له عمر: يا رسول الله تخاطب أقواما قد جيفوا فقال: (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يجيبون).
وسيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله * ويقال إن صالحا عليه السلام إنتقل إلى حرم الله فأقام به حتى مات.
قال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان حين حج قال: " يا أبا بكر أي واد هذا ".
قال وادي عسفان قال: " لقد مر به هود وصالح عليهما السلام على بكرات خطمها الليف أزرهم العباء وأرديتهم النمار يلبون يحجون البيت العتيق " (1) * إسناد حسن * وقد تقدم في قصة نوح
عليه السلام من رواية الطبراني وفيه نوح وهود وإبراهيم.
__________
(1) مسند أحمد ج 1 / 232 وفيه زمعة بن صالح الجندي، اليماني، نزيل مكة، أبو وهب ضعيف / تقريب التهذيب / 1 - 293 - 65.


مرور النبي بوادي الحجر من أرض ثمود عام تبوك قال الامام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر قال لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود فعجنوا منها ونصبوا القدور فأمرهم رسول الله فاهراقوا القدور وعلفوا العجين الابل ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا [ فقال ] إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم (1) * وقال أحمد أيضا حدثنا عفان حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهو بالحجر لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم (2) * أخرجاه في الصحيحين من غير وجه * وفي بعض الروايات أنه عليه السلام لما مر بمنازلهم قنع رأسه وأسرع راحلته ونهى عن دخول منازلهم إلا أن تكونوا باكين وفي رواية فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم مثل ما أصابهم * صلوات الله وسلامه عليه.
وقال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هرون، حدثنا المسعودي، عن اسمعيل بن أوسط عن محمد بن أبي كبشة الانباري عن أبيه واسمه عمرو بن سعد ويقال عامر بن سعد رضي الله عنه قال لما كان في غزوة تبوك فسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس الصلاة جامعة قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره وهو يقول: " ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم " فناداه رجل تعجب منهم يا رسول الله قال أفلا أرئكم بأعجب من ذلك رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددوا فإن الله لا يعبأ بعذابكم
شيئا وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا * إسناد حسن ولم يخرجوه.
وقد ذكر أن قوم صالح كانت أعمارهم طويلة فكانوا يبنون البيوت من المدر فتخرب قبل موت الواحد منهم فنحتوا لهم بيوتا في الجبال.
وذكروا أن صالحا عليه السلام لما سألوه آية فأخرج الله لهم الناقة من الصخرة أمرهم بها وبالولد الذي كان في جوفها وحذرهم بأس الله إن هم نالوها بسوء وأخبرهم أنهم سيعقرونها ويكون سبب هلاكهم ذلك وذكر لهم صفة عاقرها وأنه أحمر أزرق أصهب فبعثوا القوابل في البلد متى وجدوا مولودا بهذه الصفة يقتلنه فكانوا على ذلك دهرا طويلا وانقرض جيل وأتى جيل آخر.
فلما كان في بعض الاعصار خطب رئيس من رؤسائهم على ابنه بنت
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه 53 / 1 / 2981 وأحمد في مسنده.
(2 / 72 - 91) والبخاري في الفتح 65 / 15 - 2 / 4702 والحميدي في مسنده وابن هشام في السيرة والواقدي في المغازي 1 / 397.
(2) مسند أحمد ج 2 / 66.


آخر مثله في الرياسة فزوجه فولد بينهما عاقر الناقة وهو قدار بن سالف فلم تتمكن القوابل من قتله لشرف أبويه وجديه فيهم فنشأ تشأة سريعة فكان يشب في الجمعة كما يشب غيره في شهر حتى كان من أمره أن خرج مطاعا فيهم رئيسا بينهم فسولت له نفسه عقر الناقة واتبعه على ذلك ثمانية من اشرافهم وهم التسعة الذين أرادوا قتل صالح عليه السلام.
فلما وقع من أمرهم ما وقع من عقر الناقة وبلغ ذلك صالحا عليه السلام جاءهم باكيا عليها فتلقوه يعتذرون إليه ويقولون إن هذا لم يقع عن ملا منا وإنما فعل هذا هؤلاء الاحداث فينا.
فيقال إنه أمرهم باستدراك سقبها حتى يحسنوا إليه عوضا عنها فذهبوا وراءه فصعد جبلا هناك فلما تصاعدوا فيه وراءه تعالى الجبل حتى ارتفع فلا يناله الطير وبكى الفصيل حتى سالت دموعه.
ثم استقبل صالحا عليه السلام ودعا (1) ثلاثا فعندها قال صالح تمتعوا في داركم ثلاثة أيام وذلك وعد غير مكذوب وأخبرهم أنهم يصبحون من غدهم صفرا ثم تحمر وجوههم في الثاني وفي اليوم الثالث تسود وجوههم * فلما كان في اليوم الرابع أتتهم صيحة فيها صوت كل صاعقة فأخذتهم فأصبحوا في دارهم (2) جاثمين * وفي بعض هذا السياق نظر
ومخالفة لظاهر ما يفهم من القرآن في شأنهم وقصتهم كما قدمنا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب (3) قصة إبراهيم خليل الرحمن هو إبراهيم بن تسارخ " 250 " بن ناحور " 148 " بن ساروغ " 230 " بن راعو " 239 " ابن فالغ " 439 " بن عابر " 464 " بن شالح " 433 " بن أرفخشذ " 438 " بن سام " 600 " ابن نوح عليه السلام (4) * هذا نص أهل الكتاب في كتابهم، وقد اعلمت على أعمارهم تحت أسمائهم بالهندي كما ذكروه من المدد وقدمنا الكلام على عمر نوح عليه السلام فأغنى عن إعادته * وحكى الحافظ ابن عساكر في ترجمة ابراهيم الخليل من تاريخه عن اسحق بن بشر الكاهلي صاحب كتاب " المبتدأ " ان اسم أم ابراهيم " أميلة " * ثم أورد عنه في خبر ولادتها له حكاية طويلة وقال
__________
(1) في الطبري والكامل: ورغا ثلاثا.
فقال صالح: لكل رغوة أجل يوم.
(2) في الطبري: ديارهم.
(3) نقل الخبر الطبري في تاريخه 1 / 117 - 118 دار القاموس.
والفصيل: ولد الناقة.
(4) نسبه الموجود في التوراة والتواريخ هو: إبراهيم بن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر بن شالح بن ارفكشاذ بن سام بن نوح عليه السلام وفي تهذيب ابن عساكر (2 / 136 - 137): إبراهيم بن ازار وهو تارخ بن ناحور بن شاروع بن أرغو بن فالغ بن شالح بن أرفشخد بن سام بن نوح ويكنى بأبي الضيفان.
وكما هو ملاحظ فأكثر الاسماء مخالفة لما في الاصل الذي نعتمده.


الكلبي اسمها " بونا " بنت كربنا بن كرثى من بني أرفخشذ بن سام بن نوح (1) وروى ابن عساكر من غير وجه عن عكرمة أنه قال كان إبراهيم عليه السلام يكنى أبا الضيفان (2).
قالوا ولما كان عمر تارخ خمسا وسبعين سنة ولد له إبراهيم عليه السلام وناحور وهاران
وولد لهاران لوط * وعندهم أن إبراهيم عليه السلام هو الاوسط وأن هاران مات في حياة أبيه في أرضه التي ولد فيها وهي أرض الكلدانيين يعنون أرض بابل * وهذا هو الصحيح المشهور عند أهل السير والتواريخ (3) والاخبار وصحح ذلك الحافظ ابن عساكر بعد ما روى من طريق هشام بن عمار عن الوليد عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول عن ابن عباس قال ولد ابراهيم بغوطة دمشق في قرية يقال لها برزة في جبل يقال له قاسيون * ثم قال والصحيح أنه ولد ببابل.
وإنما نسب إليه هذا المقام لانه صلى فيه إذ جاء معينا للوط عليه السلام.
قالوا فتزوج ابراهيم سارة (4) وناحور ملكا ابنة هاران يعنون بابنة اخيه.
قالوا وكانت سارة عاقرا لا تلد قالوا وانطلق تارخ بابنة إبراهيم وامرأته سارة وابن أخيه لوط بن هاران فخرج بهم من أرض الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين فنزلوا حران فمات فيها تارخ وله مائتان وخمسون سنة (5) وهذا يدل على أنه لم يولد بحران وإنما مولده بأرض الكلدانيين وهي أرض بابل وما والاها * ثم ارتحلوا قاصدين أرض الكنعانيين * وهي بلاد بيت المقدس فأقاموا بحران وهي أرض الكشدانيين في ذلك الزمان وكذلك أرض الجزيرة والشام أيضا وكانوا يعبدون الكواكب السبعة.
والذين عمروا مدينة دمشق كانوا على هذا الدين يستقبلون القطب الشمالي ويعبدون الكواكب السبعة بأنواع من الفعال والمقال * ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل لكوكب منها ويعملون لها أعيادا وقرابين * وهكذا كان أهل حران يعبدون الكواكب والاصنام وكل من كان على وجه الارض كانوا كفارا سوى إبراهيم الخليل وامرأته وابن أخيه لوط عليهم السلام وكان الخليل عليه السلام هو الذي أزال الله به تلك الشرور وأبطل به ذاك الضلال فان الله سبحانه وتعالى أتاه رشده في صغره وابتعثه رسولا واتخذه خليلا في كبره قال تعالى) (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين) [ الانبياء: 51 ] أي كان أهلا لذلك.
__________
(1) في الطبري: عن غير واحد من أهل العلم: اسمها أنموتا من ولد افراهم بن أرغو بن فالغ..من ولد سام.
وقيل اسمها: انمتلى بنت يكفور.
(2) تاريخ ابن عساكر 12 / 141 التهذيب.
(3) قال الطبري: اختلف في الموضع الذي كان منه والموضع الذي ولد فيه ; قالوا بالسوس من أرض الاهواز - بابل - بناحية كوثى من السواد - بالوركاء بناحية الزوابى - حران ونقله منها أبوه إلى بابل (1 / 119 والكامل لابن الاثير 1 / 94) (4) في سارة أقوال: في رواية للطبري ولابن الاثير: انها ابنة عمه هاران وفي رواية أخرى عنده عن السدي: انها ابنة ملك حران وقد طعنت في دين قومها وآمنت بالله تعالى مع إبراهيم.
(5) وفي المسعودي: مائتان وستين سنة 1 / 40.


وقال تعالى (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون.
وان تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده ان ذلك على الله يسير.
قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة.
ان الله على كل شئ قدير يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون.
وما أنتم بمعجزين في الارض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير.
والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم.
فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فانجاه الله من النار.
إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين.
فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي انه هو العزيز الحكيم.
ووهبنا له اسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب.
وآتيناه أجره في الدنيا وانه في الآخرة لمن الصالحين) [ العنكبوت: 16 - 27 ] ثم ذكر تعالى مناظرته لابيه وقومه كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وكان أول دعوته لابيه، وكان أبوه ممن يعبد الاصنام لانه أحق الناس بإخلاص النصيحة له كما قال تعالى (واذكر في الكتاب ابراهيم انه كان صديقا نبيا.
إذ قال لابيه.
يا أبت لم تعبد ما لا
يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا.
يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا.
يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا.
يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا.
قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لارجمنك واهجرني مليا.
قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا) [ مريم: 41 - 48 ].
فذكر تعالى ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة وكيف دعا أباه إلى الحق بألطف عبارة.
وأحسن إشارة بين له بطلان ما هو عليه من عبادة الاوثان التى لا تسمع دعاء عابدها ولا تبصر مكانه فكيف تغني عنه شيئا أو تفعل به خيرا من رزق أو نصر ؟ * ثم قال منبها على ما أعطاه الله من الهدى والعلم النافع وإن كان أصغر سنا من أبيه (يا أبت إنه قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا) أي مستقيما واضحا سهلا حنيفا يفضي بك إلى الخير في دنياك وأخراك (1) فلما عرض هذا الرشد عليه وأهدى هذه النصيحة إليه لم يقبلها منه ولا أخذها عنه بل تهدده وتوعده قال (أراغب أنت عن آلهتي يا ابراهيم لئن لم تنته لارجمنك) قيل بالمقال وقيل
__________
(1) قال في أحكام القرآن: أي أرشدك إلى دين مستقيم فيه النجاة.
11 / 111 وقوله: يا أبت دليل على شدة الحب والرغبة في صونه عن العقاب وإرشاده إلى الصواب../ الرازي 21 / 226 /.


بالفعال (1) (واهجرني مليا) أي واقطعني وأطل هجراني.
فعندها قال له ابراهيم (سلام عليك) أي لا يصلك مني مكروه ولا ينالك مني أذى بل أنت سالم من ناحيتي وزاده خيرا فقال (سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا) * قال ابن عباس وغيره أي لطيفا يعني في أن هداني لعبادته والاخلاص له ولهذا قال (واعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا) (2).
وقد استغفر له ابراهيم عليه السلام كما وعده في أدعيته.
فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه كما قال تعالى (وما كان استغفار ابراهيم لابيه الا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن ابراهيم لاواه حليم) (3)
وقال البخاري: حدثنا اسمعيل بن عبد الله، حدثني أخي عبد الحميد، عن أبن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يلقي إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول له أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون وأي خزي أخزى من أبي الابعد فيقول الله إني حرمت الجنة على الكافرين.
ثم يقال يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا هو بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقي في النار " (4) هكذا رواه في قصة إبراهيم منفردا.
وقال في التفسير وقال إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذؤيب (5) عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبى هريرة * وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن حفص بن عبد الله عن أبيه عن ابراهيم بن طهمان به.
وقد رواه البزار من حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وفي سياقه غرابة.
ورواه أيضا من حديث قتادة عن عقبة بن عبد الغافر عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال تعالى (وإذ قال إبراهيم لابيه آزر أتتخذ أصناما آلهة اني أراك وقومك في ضلال مبين) [ الانعام: 74 ] هذا يدل على أن اسم أبى إبراهيم آزر وجمهور أهل النسب منهم ابن عباس على أن اسم أبيه تارح وأهل الكتاب يقولون تارخ بالخاء المعجمة فقيل إنه لقب بصنم كان يعبده إسمه آزر * وقال ابن جرير والصواب أن اسمه آزر ولعل له اسمان علمان أو أحدهما لقب والآخر
__________
(1) قال الحسن: يعنى بالحجارة وقال الضحاك: بالقول أي لاشتمنك ; وقال ابن عباس: لاضربنك ; وقيل لاظهرن أمرك / القرطبي 11 / 111 ; وقال الرازي في الرجم قولان: الرجم باللسان - والرجم باليد.
(2) في القرطبي: أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلا وولدا يتقوى بهم حتى لا يستوحش بالاعتزال عن قومه ; (ومفارقته إياهم).
وقال في تفسير الرازي: في الرجم.
(3) سورة التوبة الآية 114.
(4) فتح الباري 60 / 8 / 3350 ورواه ابن عساكر في 2 / 137 التهذيب.
(5) كذا في الاصول وهو تحريف وفي البخاري ابن أبي ذئب ; وقد تقدم قبل قليل.


علم.
وهذا الذي قاله محتمل والله أعلم (1) * ثم قال تعالى (وكذلك نري إبراهيم ملكوت
__________
(1) يقول الدكتور النجار في قصص الانبياء معللا ص 70 - 71: " هو أبراهيم خليل الله بن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عامر بن شالح بن أرفكشاذ بن سام بن نوح عليه السلام.
هذا هو نسبه الموجود في التوراة والتواريخ.
وقد جاء في الكتاب الكريم قوله تعالى (وإذ قال إبراهيم لابيه آزر أتتخذ أصناما آلهة).
اختلف المفسرون في اسم أبي إبراهيم - فقال بعضهم أن لفظ " آزر " في الآية بدل من لفظ " أب " في " أبيه " ويكون مقول القول " أتتخذ أصناما آلهة) ألخ وقال آخرون اسمه " تارح " وان لفظ " آزر " كلمة ذم في لغته ومعناه " أعرج " قاله السهيلي في التكلمة.
وقال آخرون أن معناه الخاطئ والخرف وفي التكلمة " يا مخطئ يا خرف " وقيل معناه " يا شيخ " أو هي كلمة زجر عن الباطل " راجع ص 12 ج 3 تاج العروس ".
أقول: بعيد في نظري أن يكون إبراهيم عليه السلام قد واجه آباه بكلمات فيها تحقير أو عيب أو زجر كأعرج وخرف ومخطئ لان والد إبراهيم عليه السلام لما هدده بقوله (أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لارجمنك واهجرني مليا) لم يكن له جواب على هذه الجفوة القاسية وهذا التهديد العنيف إلا أن قال لابيه (سلام عليك سأستغفر لك ربي أنه كان بي حفيا).
وقال آخرون: أن تارح اسمه العلم، وان آزر وصف له كما قال البيضاوي.
أقول: إذا صح أن والد إبراهيم كان له اسم علمي واسم وصفي، يكون معناه القوي أو الناصر أو المعين ; لان لفظ آزر من الازر أي القوة والنصر والعون ومنه الوزير أي المعين " تاج العروس ص 11 ج 3 " وهي كذلك في اللغات السامية التي منها لغة إبراهيم، ومن ذلك عازر وعزير وعازر في العبرية.
فإن هذه المادة تفيد التقوية والنصرة والاعانة في تلك اللغة كما هي في اللغة العربية.
قال تعالى (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه.
الخ) ومعلوم أن العين والهمزة يتعاوران على موضع واحد.
وفي أسماء ملوك الاشوريين " اسرحدون " ولفظا " اسر " و " ازر " في غاية القرب.
وفيهم أيضا " توخلات
أبال ازار " وعلى ذلك فلا يبعد عن علماء الفيلولوجيا وعلماء اللغات السامية على الخصوص أن يثبتوا النسب بين هذه الالفاظ في اللغات السامية وقد جاء في دائرة المعارف الاسلامية ما نصه: " آزر " اسم أبي إبراهيم في القرآن - سورة الانعام الآية 74 - ويظهر أن في هذا بعض الخلط لان اسم أزر لم يرد مطلقا على أنه أبو إبراهيم في غير هذا الموضع.
كما أن تارح أو تارخ قد ورد في روايات بعض المؤرخين والمفسرين من المسلمين على أنه أبو إبراهيم أيضا.
ولذلك لجئوا إلى التحاليل للتوفيق بين هاتين الروايتين.
ولكن هذا التحايل لا قيمة له.
ويقول مراتشي Prodrani Maracci، ج 4 - ص 90 " ان صيغة آزر نشأت عن قراءة خاطئة Agae التي وردت في =

السموات والارض وليكون من الموقنين.
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين.
فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين.
فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون.
إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شئ علما أفلا تتذكرون.
وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالامن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون.
وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء ان ربك حكيم عليم) [ الانعام: 75 - 83 ] وهذا المقام مقام مناظرة لقومه وبيان لهم أن هذه الاجرام المشاهدة من الكواكب النيرة لا تصلح للالوهية ولا أن تعبد مع الله عزوجل لانها مخلوقة مربوبة مصنوعة مدبرة مسخرة تطلع تارة وتأفل أخرى فتغيب عن هذا العالم والرب تعالى لا يغيب عنه شئ ولا تخفى عليه خافية بل هو الدائم الباقي بلا زوال لا إله إلا هو ولا رب سواه فبين لهم اولا عدم صلاحية الكواكب.
قبل هو الزهرة لذلك ثم ترقى منها إلى القمر الذي هو أضوأ منها وأبهى من حسنها.
ثم ترقى إلى الشمس التي هي أشد الاجرام المشاهدة ضياء وسناء وبهاء فبين أنها
مسخرة مسيرة مقدرة مربوبة كما قال تعالى (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) [ فصلت: 37 ] ولهذا قال (فلما رأى الشمس بازغة) أي طالعة (قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون.
إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وما أنا من المشركين.
وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا) [ الانعام: 78 - 80 ] أي لست أبالي في هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله فإنها لا تنفع شيئا ولا تسمع ولا تعقل بل هي مربوبة ومسخرة كالكواكب ونحوها أو مصنوعة منحوتة منجورة.
والظاهر أن موعظته هذه في الكواكب لاهل حران فإنهم كانوا يعبدونها وهذا يرد قول من زعم أنه قال هذا حين خرج من السرب لما كان صغيرا كما ذكره ابن اسحق وغيره وهو مستند إلى أخبار اسرائيلية لا يوثق بها ولا سيما إذا خالفت الحق * وأما أهل بابل فكانوا يعبدون الاصنام وهم الذين ناظرهم في عبادتها وكسرها عليهم وأهانها وبين بطلانها كما قال تعالى (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا.
ثم يوم القيامة بكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا.
ومأواكم النار وما لكم من ناصرين) [ العنكبوت: 25 ] وقال في سورة الانبياء (ولقد
__________
تاريخ الكنيسة ليوز بيوس ; إلا أنه لم يعين لا هو ولا من نقلوا عنه الفقرة التي ورد فيها هذا الاسم.
اضف إلى ذلك أن هذا المؤرخ قد ذكر في مواضع متعددة.
ومهما يكن من شئ فإن ما ذهب إليه مراتشي بعيد الاحتمال ".


آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين.
إذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون.
قالوا وجدنا أباءنا لها عابدين.
قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين.
قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين.
قال بل ربكم رب السموات والارض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين.
وتالله لاكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين.
فجعلهم جذاذا الا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون.
قالوا من فعل هذا بآلهتنا انه لمن الظالمين.
قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له
إبراهيم.
قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم.
قال بل فعله كبيرهم هذا فاسئلوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون.
ثم نكسوا على رؤسهم.
لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.
قال أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون.
قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم ان كنتم فاعلين.
قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين) [ الانبياء: 51 - 70 ] وقال في سورة الشعراء (واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لابيه وقومه ما تعبدون.
قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين.
قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون.
قالوا بل وجدنا أباءنا كذلك يفعلون.
قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الاقدمون.
فإنهم عدو لي إلا رب العالمين.
الذي خلقني فهو يهدين.
والذي هو يطعمني ويسقين.
وإذا مرضت فهو يشفين.
والذي يميتني ثم يحيين.
والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكما والحقني بالصالحين) [ الشعراء: 69 - 83 ] وقال تعالى في سورة الصافات (وإن من شيعته لابراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم.
إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون.
ائفكا آلهة دون الله تريدون.
فما ظنكم برب العالمين.
فنظر نظرة في النجوم.
فقال إني سقيم.
فتولوا عنه مدبرين.
فراغ إلي آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون.
فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون.
قال أتعبدون ما تنحتون.
والله خلقكم وما تعملون.
قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم.
فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين) [ الصافات: 83 - 98 ] يخبر الله تعالى عن إبراهيم خليله عليه السلام أنه أنكر على قومه عبادة الاوثان وحقرها عندهم وصغرها وتنقصها فقال (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) أي معتكفون عندها وخاضعون لها قالوا (وجدنا آبائنا لها عابدين) ما كان حجتهم إلا صنيع الآباء والاجداد وما كانوا عليه من عبادة الانداد (قال لقد كنتم.
أنتم وأباؤكم في ضلال مبين) [ الانبياء: 52 ] كما قال تعالى (إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون.
أئفكا آلهة دون الله تريدون.
فما ظنكم برب العالمين) قال قتادة: فما ظنكم به أنه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم
غيره وقال لهم (هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون.
قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) سلموا له أنها لا تسمع داعيا ولا تنفع ولا تضر شيئا وإنما الحامل لهم على عبادتها الاقتداء بأسلافهم ومن هو مثلهم في الضلال من الاباء الجهال ولهذا قال لهم (أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وأباؤكم الاقدمون فانهم عدو لي إلا رب العالمين) وهذا برهان قاطع على بطلان آلهية ما

ادعوه من الاصنام لانه تبرأ منها وتنقص بها فلو كانت تضر لضرته أو تؤثر لاثرت فيه (قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين) يقولون هذا الكلام الذي تقوله لنا وتنتقص به آلهتنا وتطعن بسببه في آبائنا تقوله محقا جادا فيه أم لاعبا (قال بل ربكم رب السموات والارض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين) يعني بل أقول لكم ذلك جادا محقا وإنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ربكم ورب كل شئ فاطر السموات والارض الخالق لهما على غير مثال سبق فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له وأنا على ذلكم من الشاهدين.
وقوله (وتالله لاكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين) أقسم ليكيدن هذه الاصنام التي يعبدونها بعد أن تولوا مدبرين إلى عيدهم.
قيل إنه قال هذا خفية في نفسه وقال ابن مسعود سمعه (1) بعضهم، وكان لهم عيد يذهبون إليه في كل عام مرة إلى ظاهر البلد فدعاه أبوه ليحضره (2) فقال إني سقيم كما قال تعالى (فنظر نظرة في النجوم.
فقال إني سقيم).
عرض لهم في الكلام حتى توصل إلى مقصوده من إهانة أصنامهم ونصرة دين الله الحق في بطلان ما هم عليه من عبادة الاصنام التي تستحق أن تكسر وأن تهان غاية الاهانة * فلما خرجوا إلى عيدهم واستقر هو في بلدهم (راغ إلى آلهتهم) أي ذهب إليها مسرعا مستخفيا فوجدها في بهو عظيم وقد وضعوا بين أيديها أنواعا من الاطعمة قربانا إليها (فقال) لها على سبيل التهكم والازدراء (ألا تأكلون.
ما لكم لا تنطقون.
فراغ عليهم ضربا باليمين) لانها أقوى وأبطش وأسرع وأقهر فكسرها بقدوم (3) في يده كما قال تعالى (فجعلهم جذاذا) أي حطاما كسرها كلها (إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون) قيل إنه وضع القدوم في يد الكبير (4) إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الصغار.
فلما رجعوا من عيدهم ووجدوا ما حل بمعبودهم (قالوا من فعل هذا
بآلهتنا إنه لمن الظالمين).
وهذا فيه دليل ظاهر لهم لو كانوا يعقلون وهو ما حل بآلهتهم التي كانوا يعبدونها فلو كانت آلهة لدفعت عن أنفسها من أرادها بسوء لكنهم قالوا من جهلهم وقلة عقلهم وكثرة ضلالهم وخبالهم (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين.
قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) أي يذكرها بالعيب والتنقص لها والازدراء بها فهو المقيم عليها والكاسر لها.
وعلى قول ابن مسعود أي يذكرهم بقوله وتالله لاكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين (قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون) أي في الملا الاكبر على رؤس الاشهاد لعلهم يشهدون مقالته ويسمعون كلامه ويعاينون ما يحل به من الاقتصاص منه وكان هذا أكبر مقاصد الخليل عليه السلام أن يجتمع الناس كلهم
__________
(1) قال الطبري: فخرجوا إليه خرج معهم إبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال: إني سقيم.
وفي الكامل: لم يخرج معهم ; لانه كان يتوقع فرصة ينتهى بها ليفعل بأصنامهم ذلك (أي تكسيرها).
(2) في الكامل والطبري 1 / 122: سمعه ضعفي الناس ومن هو في آخرهم 1 / 96.
(3) في الطبري: حديدة - وفي الكامل: بفأس في يده ; وهي كذلك في رواية للطبري.
(4) أما في الطبري والكامل: فربط الفأس بيده.
(الصنم الاعظم).


فيقيم على جميع عباد الاصنام الحجة على بطلان ما هم عليه كما قال موسى عليه السلام لفرعون (موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) [ طه: 59 ] فلما اجتمعوا وجاؤوا به كما ذكروا (قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم.
قال بل فعله كبيرهم هذا) قيل معناه هو الحامل لي على تكسيرها (1) وإنما عرض لهم في القول (فاسئلوهم إن كانوا ينطقون) [ الانبياء: 62 - 63 ] وإنما أراد بقوله هذا أن يبادروا إلى القول بأن هذه لا تنطق فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون) أي فعادوا على أنفسهم بالملامة فقالوا إنكم أنتم الظالمون أي في تركها لا حافظ لها ولا حارس عندها (ثم نكسوا على رؤسهم) قال السدي أي ثم رجعوا إلى الفتنة فعلى هذا يكون قوله إنكم أنتم الظالمون أي في عبادتها * وقال قتادة أدركت
القوم حيرة سوء أي فاطرقوا ثم قالوا (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) أي لقد علمت يا إبراهيم أن هذه لا تنطق فكيف تأمرنا بسؤالها فعند ذلك قال لهم الخليل عليه السلام (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيأ ولا يضركم.
أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) [ البقرة: 258 ] كما قال (فأقبلوا إليه يزفون) قال مجاهد يسرعون * قال (أتعبدون ما تنحتون) أي كيف تعبدون أصناما أنتم تنحتونها من الخشب والحجارة وتصورونها وتشكلونها كما تريدون (والله خلقكم وما تعملون) وسواء كانت ما مصدرية أو بمعنى الذي قمقتضى الكلام أنكم مخلوقون وهذه الاصنام مخلوقة فكيف يعبد مخلوق لمخلوق مثله فإنه ليس عبادتكم لها بأولى من عبادتها لكم وهذا باطل فالآخر باطل للتحكم إذ ليست العبادة تصلح ولا تجب إلا للخالق وحده لا شريك له (قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم.
فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين) [ الصافات: 97 - 98 ].
عدلوا عن الجدال والمناظرة (2) لما انقطعوا وغلبوا ولم تبق لهم حجة ولا شبهة إلى استعمال قوتهم وسلطانهم لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم فكادهم الرب جل جلاله وأعلى كلمته ودينه وبرهانه كما قال تعالى (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين.
قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين) [ الانبياء: 68 - 70 ].
وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطبا من جميع ما يمكنهم من الاماكن فمكثوا مدة يجمعون له حتى أن المرآة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطبا لحريق ابراهيم * ثم عمدوا إلى جوبة (3) عظيمة فوضعوا فيها ذلك الحطب وأطلقوا فيه النار فاضطرمت وتأججت والتهبت وعلا لها شرر لم ير مثله قط * ثم وضعوا ابراهيم عليه السلام في كفة منجنيق
__________
(1) قال إبراهيم ساخرا منهم: ان هذا الكبير، الصنم الكبير، غضب من أن تعبدوا معه هذه الصفار وهو أكبر منها فكسرها.
ويتابع الطبري قائلا: فارعوا ورجعوا عنه فيما ادعوه عليه.
ج 1 / 122.
(2) أي فلما أعيتهم الحيلة فيه ووجدت موعظته منهم قلوبا غلقا وأذانا صما، عمدوا إلى ما يلجأ إليه القوي الجبار الذي لاحق معه بإزاء المحق الضعيف.
(3) الجوبة: الحفرة.


صنعه لهم رجل من الاكراد يقال له هزن (1) وكان أول من صنع المجانيق فخسف الله به الارض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه وهو يقول لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك فلما وضع الخليل عليه السلام في كفة المنجنيق مقيدا مكتوفا ثم ألقوه منه إلى النار قال حسبنا الله ونعم الوكيل كما روى البخاري عن ابن عباس أنه قال حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد حين قيل له (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا.
وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل.
فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) [ آل عمران: 173 ] الآية.
وقال أبو يعلى حدثنا أبو هشام الرفاعي حدثنا اسحق بن سليمان عن أبي جعفر الرازي عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال صلى الله عليه وسلم: " لما ألقي إبراهيم في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الارض واحد أعبدك " (2).
وذكر بعض السلف أن جبريل عرض له في الهواء فقال ألك حاجة فقال أما إليك فلا * ويروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنه قال جعل ملك المطر يقول متى أومر فأرسل المطر فكان أمر الله أسرع (قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم) [ الانبياء: 69 ] قال علي بن أبي طالب أي لا تضريه وقال ابن عباس وأبو العالية لولا أن الله قال وسلاما على إبراهيم لاذى إبراهيم بردها * وقال كعب الاحبار لم ينتفع أهل الارض يومئذ بنار ولم يحرق منه سوى وثاقه * وقال الضحاك يروى أن جبريل عليه السلام كان معه يمسح العرق عن وجهه لم يصبه منها شئ غيره * وقال السدي كان معه أيضا ملك الظل.
وصار ابراهيم عليه السلام في ميل الجوبة حوله النار وهو في روضة خضراء والناس ينظرون إليه لا يقدرون على الوصول إليه ولا هو يخرج إليهم فعن أبي هريرة أنه قال أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم إذ قال لما رأى ولده على تلك الحال نعم الرب ربك يا ابراهيم * وروى ابن عساكر (3) عن عكرمة أن أم ابراهيم نظرت إلى ابنها عليه السلام فنادته يا بني إني أريد أن أجئ إليك فادع الله أن ينجيني من حر النار حولك.
فقال نعم فأقبلت إليه لا
يمسها شئ من حر النار.
فلما وصلت إليه اعتنقته وقبلته ثم عادت * وعن المنهال بن عمرو أنه قال أخبرت أن ابراهيم مكث هناك إما أربعين وإما خمسين يوما وأنه قال ما كنت أياما وليالي أطيب عيشا إذ كنت فيها ووددت أن عيشي وحياتي كلها مثل إذ كنت فيها صلوات الله وسلامه عليه فأرادوا أن ينتصروا فخذلوا وأرادوا أن يرتفعوا فاتضعوا وأرادوا أن يغلبوا فغلبوا.
قال الله تعالى (وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين) وفي الآية الاخرى (الاسفلين) ففازوا بالخسارة والسفال هذا في
__________
(1) في الطبري والكامل: هيزن.
(2) ورواه ابن عساكر في تاريخه 2 / 147.
(3) في رواية مطولة تراجع في تاريخه 2 / 145.


الدنيا وأما في الآخرة فإن نارهم لا تكون عليهم بردا ولا سلاما ولا يلقون فيها تحية ولا سلاما بل هي كما قال تعالى (إنها ساءت مستقرا ومقاما).
قال البخاري حدثنا عبد الله (1) بن موسى، أو ابن سلام عنه، أنبأنا ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير، عن سعيد بن المسيب، عن أم شريك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ (2)، وقال: " وكان ينفخ على ابراهيم " * ورواه مسلم من حديث ابن جريج * وأخرجاه والنسائي وابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة كلاهما عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة به * وقال أحمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا ابن جريج أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي أمية أن نافعا مولى ابن عمر أخبره أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اقتلوا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم ".
قال فكانت عائشة تقتلهن * وقال احمد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن نافع أن امرأة دخلت على عائشة فإذا رمح منصوب فقالت ما هذا الرمح فقالت نقتل به الاوزاغ.
ثم حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن ابراهيم لما ألقي في النار جعلت الدواب كلها تطفئ عنه إلا الوزغ فإنه جعل ينفخها عليه * تفرد به أحمد من هذين الوجهين.
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا جرير، حدثنا نافع، حدثتني سمامة (3) مولاة الفاكه بن
المغيرة قالت: دخلت على عائشة فرأيت في بيتها رمحا موضوعا فقلت: يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح قالت هذا لهذه الاوزاغ نقتلهن به فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا: " أن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الارض دابة إلا تطفئ عنه النار غير الوزغ كان ينفخ عليه فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله (4) " * ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يونس بن محمد عن جرير بن حازم به.
ذكر مناظرة ابراهيم الخليل مع من ادعى الربوبية وهو أحد العبيد الضعفاء قال الله تعالى (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي وأميت.
قال ابراهيم فان الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر.
والله لا يهدي القوم الظالمين) [ البقرة: 258 ] يذكر تعالى مناظرة
__________
(1) في البخاري عبيد الله.
(2) الوزغ: حشرة يقال لكبيرها: سام أبرص.
(3) في المسند: سائبة روت عن عائشة وروى عنها نافع وابن عمر وذكرها ابن حبان في الثقات الكاشف ج 3 / 427.
(4) رواه أحمد في مسنده ج 6 / 83 - 200 والبخاري في الفتح 60 / 8 / 3359 ومسلم في صحيحه 7 / 41 وأبو داود في سننه كتاب الادب - باب قتل الاوزاغ وابن عساكر في تاريخه 2 / 146 تهذيب.
بوجوه مختلفة.


خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد الذي أدعى لنفسه الربوبية فأبطل الخليل عليه السلام دليله وبين كثرة جهله وقلة عقله وألجمه الحجة وأوضح له طريق المحجة.
قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والاخبار وهذا الملك هو ملك بابل واسمه النمرود ابن كنعان بن كوش بن سام بن نوح قاله مجاهد.
وقال غيره نمرود بن فالح بن عابر بن صالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح قال مجاهد وغيره وكان أحد ملوك الدنيا فإنه قد ملك الدنيا فيما ذكروا أربعة مؤمنان وكافران.
فالمؤمنان ذو القرنين وسليمان.
والكافران النمرود وبختنصر وذكروا أن نمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة وكان قد طغا وبغا وتجبر وعتا وآثر الحياة الدنيا * ولما دعاه
إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له حمله الجهل والضلال وطول الآمال على إنكار الصانع فحاج إبراهيم الخليل في ذلك وادعى لنفسه الربوبية.
فلما قال الخليل ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي وأميت.
قال قتادة والسدي ومحمد بن اسحق يعني أنه إذا أتي بالرجلين قد تحتم قتلهما فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر فكأنه قد أحيا هذا وأمات الآخر.
وهذا ليس بمعارضة للخليل بل هو كلام خارجي عن مقام المناظرة ليس بمنع ولا بمعارضة بل هو تشغيب محض وهو انقطاع في الحقيقة فإن الخليل استدل على وجود الصانع بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيوانات وموتها [ هذا دليل ] (1) على وجود فاعل ذلك الذي لا بد من استنادها إلى وجوده ضرورة عدم قيامها بنفسها ولا بد من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة من خلقها وتسخيرها وتسيير هذه الكواكب والرياح والسحاب والمطر وخلق هذه الحيوانات التي توجد مشاهدة ثم إماتتها ولهذا (قال ابراهيم ربي الذي يحي ويميت) فقول هذا الملك الجاهل أنا أحي وأميت إن عنى أنه الفاعل لهذه المشاهدات فقد كابر وعاند وإن عنى ما ذكره قتادة والسدي ومحمد بن اسحق فلم يقل شيئا يتعلق بكلام الخليل إذ لم يمنع مقدمة ولا عارض الدليل.
ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفى على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم ذكر دليلا آخر بين وجود الصانع وبطلان ما ادعاه النمرود وانقطاعه جهرة (قال فان الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيرها وقاهرها.
وهو الله الذي لا إله إلا هو خالق كل شئ * فان كنت كما زعمت من أنك الذي تحي وتميت فات بهذه الشمس من المغرب فإن الذي يحي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب بل قد قهر كل شئ ودان له كل شئ فان كنت كما تزعم فافعل هذا فإن لم تفعله فلست كما زعمت وأنت تعلم وكل أحد أنك لا تقدر على شئ من هذا بل أنت أعجز وأقل
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، ليستقيم بها المعنى.


من أن تخلق بعوضة أو تنصر منها فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهلة قومه ولم يبق له كلام يجيب الخليل به بل انقطع وسكت ولهذا قال (فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين).
وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم وبين النمرود يوم خرج من النار ولم يكن إجتمع به يومئذ فكانت بينهما هذه المناظرة * وقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم، أن النمرود كان عنده طعام، وكان الناس يفدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة، فكان بينهما هذه المناظرة ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطي الناس، بل خرج وليس معه شئ من الطعام * فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملا منه عدليه وقال أشغل أهلي إذا قدمت عليهم فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاما طيبا فعملت منه طعاما * فلما أستيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال أنى لكم هذا قالت من الذي جئت به فعرف أنه رزق رزقهموه الله عزوجل * قال زيد بن أسلم وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالايمان بالله فأبى عليه.
ثم دعاه الثانية فأبى عليه.
ثم الثالثة فأبى عليه.
وقال اجمع جموعك وأجمع جموعي فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس فأرسل الله عليه ذبابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودمائهم وتركتهم عظاما بادية ودخلت واحدة منها في منخر الملك فمكثت في منخرها أربعمائة سنة عذبه الله تعالى بها فكان يضرب رأسه بالمزارب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله عز وجل بها.
هجرة الخليل إلى بلاد الشام ثم الديار المصرية واستقراره في الارض المقدسة قال الله: (فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم.
ووهبنا له اسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب.
وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) [ العنكبوت: 26 - 27 ] وقال تعالى: (ونجيناه ولوطا إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين.
ووهبنا له اسحق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين.
وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا
وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين) [ الانبياء: 71 - 73 ] لما هجر قومه في الله وهاجر من بين أظهرهم وكانت امرأته عاقرا لا يولد لها ولم يكن له من الولد أحد بل معه ابن أخيه لوط بن هاران بن آزر وهبه الله تعالى بعد ذلك الاولاد الصالحين وجعل في ذريته النبوة والكتاب فكل نبي بعث بعده فهو من ذريته وكل كتاب نزل من السماء على نبي من الانبياء من بعده فعلى أحد نسله وعقبه خلعة من الله وكرامة له حين ترك بلاده وأهله وأقرباءه وهاجر إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عزوجل ودعوة الخلق إليه والارض التي قصدها بالهجرة أرض الشام وهي التي قال الله عزوجل (إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين)

قاله أبي بن كعب وأبو العالية وقتادة وغيرهم * وروى العوفي عن ابن عباس قوله (إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين) مكة ألم تسمع إلى قوله (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين).
وزعم كعب الاحبار أنها حران * وقد قدمنا عن نقل أهل الكتاب أنه خرج من أرض بابل هو وابن أخيه لوط وأخوه ناحور وامرأة ابراهيم سارة وامرأة أخيه ملكا فنزلوا حران فمات تارح أبو إبراهيم بها.
وقال السدي انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام فلقي ابراهيم سارة وهي ابنة ملك حران وقد طعنت على قومها في دينهم فتزوجها على أن لا يغيرها رواه ابن جرير (1) وهو غريب * والمشهور أنها ابنة عمه هاران الذي تنسب إليه حران ومن زعم أنها ابنة أخيه هاران أخت لوط كما حكاه السهيلي عن القتيبي والنقاش فقد أبعد النجعة وقال بلا علم وادعى أن تزويج بنت الاخ كان إذا ذاك مشروعا فليس له على ذلك دليل.
ولو فرض أن هذا كان مشروعا في وقت كما هو منقول عن الربانيين من اليهود فان الانبياء لا تتعاطاه والله أعلم * ثم المشهور أن ابراهيم عليه السلام لما هاجر من بابل خرج بسارة مهاجرا من بلاده كما تقدم والله أعلم.
وذكر أهل الكتاب أنه لما قدم الشام أوحى الله إليه إني جاعل هذه الارض لخلفك من بعدك فابتنى إبراهيم مذبحا لله شكرا على هذه
النعمة وضرب قبته شرقي بيت المقدس ثم انطلق مرتحلا إلى التيمن وأنه كان جوع أي قحط وشدة وغلاء فارتحلوا إلى مصر وذكروا قصة سارة مع ملكها وان إبراهيم قال لها قولي أنا أخته وذكروا خدام الملك إياها هاجر.
ثم أخرجهم منها فرجعوا إلى بلاد التيمن يعني أرض بيت المقدس وما والاها ومعه دواب وعبيد وأموال.
وقد قال البخاري حدثنا محمد بن محبوب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة قال لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتان منهن في ذات الله قوله (إني سقيم) وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وقال بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له ههنا رجل معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه وسأله عنها فقال من هذه قال أختي فأتى سارة فقال يا سارة ليس على وجه الارض مؤمن غيري وغيرك وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني فأرسل إليها فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ فقال ادعي الله لي ولا أضرك فدعت الله فأطلق ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشد فقال ادعي الله لي ولا أضرك فدعا بعض حجبته فقال إنك لم تأتني بإنسان وإنما أتيتني بشيطان فأخدمها هاجر فأتته وهو قائم يصلي فأومأ بيده مهيم فقالت رد الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره وأخدم هاجر * قال أبو هريرة فتلك أمكم يا بني ماء
__________
(1) تاريخ الطبري ج 1 / 125.


السماء (1) تفرد به من هذا الوجه موقوفا * وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار عن عمرو بن علي الفلاس عن عبد الوهاب الثقفي عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات كل ذلك في ذات الله قوله (إني سقيم) وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وبينما هو يسير في أرض جبار من الجبابرة إذ نزل منزلا فأتى الجبار فقيل له إنه قد نزل ههنا رجل معه امرأة من أحسن الناس.
فأرسل إليه فسأله عنها فقال إنها أختي فلما رجع إليها قال إن هذا سألني عنك فقلت إنك أختي وإنه ليس اليوم مسلم غيري وغيرك وإنك أختي فلا تكذبيني عنده فأنطلق بها فلما ذهب يتناولها أخذ فقال ادعي الله لي ولا أضرك
فدعت له فأرسل فذهب يتناولها فأخذ مثلها أو أشد منها.
فقال ادعي الله لي ولا أضرك فدعت فأرسل ثلاث مرات فدعا أدنى حشمة فقال إنك لم تأتني بإنسان ولكن أتيتني بشيطان أخرجها وأعطها هاجر فجاءت وإبراهيم قائم يصلي فلما أحس بها انصرف فقال مهيم فقالت كفى الله كيد الظالم وأخدمني هاجر (2).
وأخرجاه من حديث هشام * ثم قال البزار لا نعلم أسنده عن محمد عن أبي هريرة إلا هشام ورواه غيره موقوفا.
وقال الامام أحمد حدثنا علي بن حفص عن ورقاء هو ابن عمر اليشكري، عن أبي الزناد، عن الاعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات قوله حين دعي إلى آلهتهم فقال (إني سقيم) وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وقوله لسارة (انها أختي) قال ودخل إبراهيم قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة فقيل دخل إبراهيم الليلة بامرأة من أحسن الناس قال فأرسل إليه الملك أو الجبار من هذه معك قال أختي قال فأرسل بها قال فأرسل بها إليه وقال لا تكذبي قولي فإني قد أخبرته أنك أختي إن على الارض مؤمن غيري وغيرك فلما دخلت عليه قام إليها فأقبلت تتوضأ وتصلي وتقول اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر قال فغط حتى ركض برجله * قال أبو الزناد قال أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة إنها قالت اللهم إن يمت يقال هي قتله قال فأرسل قال: ثم قام إليها قال فقامت تتوضأ وتصلي وتقول اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر قال فغط حتى ركض برجله قال أبو الزناد وقال أبو سلمة عن أبي هريرة انها قالت اللهم ان يمت يقل هي قتلته قال فأرسل قال فقال في الثالثة أو الرابعة ما أرسلتم إلي إلا شيطانا أرجعوها إلى إبراهيم وأعطوها هاجر قال فرجعت فقالت
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (60 / 8 / 3358 الفتح) ورواه مسلم في صحيحه (43 كتاب - ح 154) ورواه أبو داود في سننه والترمذي وأحمد في مسنده 1 / 281 - 295، 2 / 403، 3 / 244 وأبو داود الطيالسي في مسنده (2711).
ومحمد: هو ابن سيرين.
قال الحافظ ابن حجر: ان ابن سيرين كان غالبا لا يصرح برفع كثير من حديثه.
(2) روى ابن عساكر نحوه في تاريخه 2 / 143، وانظر ما تقدم من تعليق في الحديث الذي قبله.


لابراهيم أشعرت أن الله رد كيد الكافرين وأخدم وليدة * تفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط الصحيح * وقد رواه البخاري عن أبي اليمان عن شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم به مختصرا * وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سفيان عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في كلمات ابراهيم الثلاث التي قال ما منها كلمة إلا ما حل (1) بها عن دين الله فقال إني سقيم وقال بل فعله كبيرهم هذا وقال للملك حين أراد امرأته هي أختي فقوله في الحديث هي أختي أي في دين الله وقوله لها إنه ليس على وجه الارض مؤمن غيري وغيرك يعني زوجين مؤمنين غيري وغيرك ويتعين حمله على هذا لان لوطا كان معهم وهو نبي عليه السلام وقوله لها لما رجعت إليه مهيم معناه ما الخبر فقالت إن الله رد كيد الكافرين.
وفي رواية الفاجر وهو الملك وأخدم جارية وكان إبراهيم عليه السلام من وقت ذهب بها إلى الملك قام يصلي لله عزوجل ويسأله أن يدفع عن أهله وأن يرد بأس هذا الذي أراد أهله بسوء وهكذا فعلت هي أيضا فلما أراد عدو الله أن ينال منها أمرا قامت إلى وضوئها وصلاتها ودعت الله عزوجل بما تقدم من الدعاء العظيم ولهذا قال تعالى (واستعينوا بالصبر والصلوة) [ البقرة: 45 ] فعصمها الله وصانها لعصمة عبده ورسوله وحبيبه وخليله إبراهيم عليه السلام.
وقد ذهب بعض العلماء إلى نبوة ثلاث نسوة سارة وأم موسى ومريم عليهن السلام * والذي عليه الجمهور أنهن صديقات رضي الله عنهن وأرضاهن * ورأيت في بعض الآثار أن الله عزوجل كشف الحجاب فيما بين إبراهيم عليه السلام وبينها فلم يزل يراها منذ خرجت من عنده إلى أن رجعت إليه وكان مشاهدا لها وهي عند الملك وكيف عصمها الله منه ليكون ذلك أطيب لقلبه وأقر لعينه وأشد لطمأنينته فإنه كان يحبها حبا شديدا لدينها وقرابتها منه وحسنها الباهر فإنه قد قيل إنه لم تكن امرأة بعد حواء إلى زمانها أحسن منها رضي الله عنها * ولله الحمد والمنة (2).
وذكر بعض أهل التواريخ أن فرعون مصر هذا كان أخا للضحاك الملك المشهور بالظلم وكان عاملا لاخيه على مصر (3) * ويقال كان اسمه سنان بن علوان بن عبيد بن عويج (4) بن عملاق بن لاود بن سام بن نوح.
وذكر ابن هشام في التيجان أن الذي أرادها عمرو بن امرئ القيس بن مايلون بن سبأ وكان على مصر نقله السهيلي فالله أعلم.
ثم إن الخليل عليه السلام رجع من بلاد مصر إلى أرض التيمن وهي الارض المقدسة التي
__________
(1) ماحل: جادل ودافع.
(2) استغل اليهود هذه الحادثة للطعن على إبراهيم عليه السلام كما طعنوا على لوط وداود عليهما السلام.
(3) ذكره الكامل لابن الاثير: 1 / 101 والطبري في رواية 1 / 151.
(4) في الكامل لابن الاثير: عولج وفي الطبري فكالاصل.


كان فيها ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل وصحبتهم هاجر القبطية المصرية ثم إن لوطا عليه السلام نزح بماله من الاموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك إلى أرض الغور المعروف بغور زغر فنزل بمدينة سدوم (1) وهي أم تلك البلاد في ذلك الزمان وكان أهلها أشرارا كفارا فجارا وأوحى الله تعالى إلى إبراهيم الخليل فأمره أن يمد بصره وينظر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا وبشره بأن هذه الارض كلها سأجعلها لك ولخلفك إلى آخر الدهر وسأكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب الارض * وهذه البشارة اتصلت بهذه الامة بل ما كملت ولا كانت أعظم منها في هذه الامة المحمدية * يؤيد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله زوي لي الارض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها " (2).
قالوا ثم أن طائفة من الجبارين تسلطوا على لوط عليه السلام فأسروه وأخذوا أمواله واستاقوا أنعامه فلما بلغ (3) أمواله وقتل من أعداء الله ورسوله خلقا كثيرا وهزمهم وساق في آثارهم حتى وصل إلى شرقي دمشق وعسكر بظاهرها عند برزة وأظن مقام إبراهيم إنما سمي لانه كان موقف جيش الخليل والله أعلم.
ثم رجع مؤيدا منصورا إلى بلاده وتلقاه ملوك بلاد بيت المقدس معظمين له مكرمين خاضعين
واستقر ببلاده صلوات الله وسلامه عليه.
ذكر مولد اسماعيل عليه السلام من هاجر قال أهل الكتاب: إن إبراهيم عليه السلام سأل الله ذرية طيبة وأن الله بشره بذلك وأنه لما كان لابراهيم ببلاد بيت المقدس عشرون سنة قالت سارة لابراهيم عليه السلام إن الرب قد أحرمني الولد فادخل على أمتي هذه لعل الله يرزقني منها ولدا فلما وهبتها له دخل بها إبراهيم عليه السلام فحين دخل بها حملت منه قالوا فلما حملت ارتفعت نفسها وتعاظمت على سيدتها فغارت منها سارة فشكت ذلك إلى إبراهيم فقال لها افعلي بها ما شئت فخافت هاجر فهربت فنزلت عند عين هناك فقال لها ملك من الملائكة لا تخافي فإن الله جاعل من هذا الغلام الذي حملت خيرا
__________
(1) في الطبري: 1 / 127: ونزل لوط بالمؤتفكة وهي من السبع (من أرض فلسطين) على مسيرة يوم وليلة ; وفي رواية أخرى 1 / 151: نزل الاردن.
وبعثه الله نبيا على المدائن الخمس: سدوم، وعمورا، وادموتا، وصاعورا وصابورا (المسعودي 1 / 42) ونزل إبراهيم السبع من أرض فلسطين / الطبري - الكامل.
(2) أخرجه الطبراني عن سلمان وجابر بن عبد الله.
وأخرجه البيهقي في الدلائل ج 6 / 527 عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان وفيه زيادة قال: وأعطيت الكنزين الاحمر والابيض وأني سألت ربي عزوجل لامتي ألا يهلكها بسنة عامة..زوي: جمع.
وسنة: قحط وجدب.
(3) سقط في الكلام ; وفي قصص الانبياء لابن كثير: فلما بلغ الخبر إبراهيم الخليل سار إليهم في ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا فاستنقذ لوطا عليه السلام واسترجع أمواله..

وأمرها بالرجوع وبشرها أنها ستلد ابنا وتسميه إسماعيل ويكون وحش الناس يده على الكل ويد الكل به ويملك جميع بلاد إخوته فشكرت الله عزوجل على ذلك.
وهذه البشارة إنما انطبقت على ولده محمد صلوات الله وسلامه عليه فإنه الذي سادت به العرب وملكت جميع البلاد غربا وشرقا وأتاها الله من العلم النافع والعمل الصالح ما لم تؤت أمة من الامم قبلهم وما ذاك إلا بشرف رسولها على سائر الرسل وبركة رسالته ويمن بشارته وكماله فيما جاء به وعموم بعثته لجميع أهل
الارض.
ولما رجعت هاجر وضعت اسماعيل عليه السلام قالوا وولدته ولابراهيم من العمر ست وثمانون سنة قبل مولد اسحق بثلاث عشرة سنة * ولما ولد اسماعيل أوحى الله إلى إبراهيم يبشره باسحق من سارة فخر لله ساجدا وقال له قد استجبت لك في اسماعيل وباركت عليه وكثرته ونميته (1) جدا كثيرا ويولد له اثنا عشر عظيما * وأجعله رئيسا لشعب عظيم وهذه أيضا بشارة بهذه الامة العظيمة وهؤلاء الاثنا عشر عظيما هم الخلفاء الراشدون الاثنا عشر المبشر بهم في حديث عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يكون اثنا عشر أميرا " ثم قال كلمة لم افهمها فسألت أبي ما قال قال " كلهم من قريش " أخرجاه في الصحيحين (2).
وفي رواية لا يزال هذا الامر قائما وفي رواية عزيزا حتى يكون اثنا عشر خليفة كلهم من قريش.
فهؤلاء منهم الائمة الاربع أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
ومنهم عمر بن عبد العزيز أيضا.
ومنهم بعض بني العباس وليس المراد أنهم يكونون اثني عشر نسقا بل لابد من وجودهم وليس المراد الائمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الرافضة الذين أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم المنتظر بسرداب سامرا وهو محمد بن الحسن العسكري فيما يزعمون فان أولئك لم يكن فيهم أنفع من علي وإبنه الحسن بن علي حين ترك القتال وسلم الامر لمعاوية وأخمد نار الفتنة وسكن رحى الحروب بين المسلمين والباقون من جملة الرعايا لم يكن لهم حكم على الامة في أمر من الامور * وأما ما يعتقدونه بسرداب سامرا فذاك هوس في الرؤوس وهذيان في النفوس لا حقيقة له ولا عين ولا أثر.
والمقصود أن هاجر عليها السلام لما ولد لها اسماعيل اشتدت غيرة سارة منها وطلبت من الخليل أن يغيب وجهها عنها فذهب بها وبولدها فسار بهما حتى وضعهما حيث مكة اليوم ويقال إن ولدها كان إذ ذاك رضيعا فلما تركهما هناك وولي ظهره عنهما قامت إليه هاجر وتعلقت بثيابه وقالت يا إبراهيم أين تذهب وتدعنا ههنا وليس معنا ما يكفينا فلم يجبها فلما ألحت عليه وهو لا يجيبها قالت له، الله أمرك بهذا ؟ قال: نعم.
قالت فإذا لا يضيعنا * وقد ذكر الشيخ أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله في كتاب النوادر أن سارة تغضبت على هاجر فخلفت لتقطعن ثلاثة أعضاء منها فأمرها
__________
(1) كذا في النسخ المطبوعة، ونسخ قصص الانبياء لابن كثير ; ولعله ويمنته وهي أكثر مناسبة للسياق.
(2) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 6 / 519 والبخاري في 93 كتاب الاحكام 51 باب الاستخلاف ومسلم في 33 كتاب الامارة (1) باب الناس تبع لقريش ص 1452.
وأبو داود في أول كتاب المهدي، وأحمد في المسنده 5 / 92.


الخليل أن تثقب أذنيها وأن تخفضها فتبر قسمها (1) * قال السهيلي فكانت أول من اختنن من النساء وأول من ثقبت أذنها منهن وأول من طولت ذيلها.
ذكر مهاجرة ابراهيم بابنه اسماعيل وأمه هاجر إلى جبال فاران وهي ارض مكة وبنائه البيت العتيق قال البخاري قال عبد الله بن محمد - هو أبو بكر بن أبي شيبة - حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن أيوب السختياني، وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، يزيد أحدهما على الآخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم اسماعيل اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها اسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفي إبراهيم منطلقا فتبعته أم اسماعيل فقالت يا إبراهيم: أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنس ولا شئ، فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: الله أمرك بهذا، قال: نعم.
قالت إذا لا يضيعنا.
ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال (ربنا إني اسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم.
ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) [ ابراهيم: 37 ] وجعلت أم اسماعيل ترضع اسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الارض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا
حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف ذراعها ثم سعت سعي الانسان المجهود، حتى إذا جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدا، فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فلذلك سعى الناس بينهما ".
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه، تريد نفسها.
ثم تسمعت فسمعت أيضا ; فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث.
فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء فجعلت تخوضه وتقول بيدها هكذا.
وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهي تفور بعد ما تغرف * قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله أم اسماعيل لو تركت زمزم " أو قال: " لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا " فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافى الضيعة، فإن ههنا بيت الله يبني هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت
__________
(1) أورده الطبري في تاريخه 1 / 130 وابن الاثير في الكامل 1 / 103 وفيهما فمن ثم خفص النساء.


مرتفعا من الارض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كذا فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا " (1) فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على الماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال: وأم اسمعيل عند الماء فقالوا تأذنين لنا أن ننزل عندك، قالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا: نعم * قال عبد الله بن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فألقى ذلك أم اسمعيل وهي تحب الانس فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم (2) وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم (3) وماتت أم اسمعيل فجاء ابراهيم بعد ما تزوج اسمعيل يطالع تركته فلم يجد اسمعيل فسأل امرأته فقالت: خرج يبتغي لنا.
ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت: نحن بشر في ضيق وشدة وشكت إليه * قال: فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء اسمعيل، كأنه آنس شيئا، فقال: هل
جاءكم من أحد ؟ فقالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة.
قال فهل أوصاك بشئ فقالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول لك غير عتبة بابك قال ذاك أبي وأمرني أن أفارقك، فالحق بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى (4) ولبث عنهم ابراهيم ما شاء الله * ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت خرج يبتغي لنا قال كيف أنتم، وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله فقال ما طعامكم ؟ قالت: اللحم قال فما شرابكم قالت: الماء.
قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ولم يكن لهم يومئذ حب (5).
ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه " [ قال: ] فهما لا يخلو عليهما أحد بعين مكة إلا لم يوافقاه (6).
قال: فإذا جاء زوجك فأقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه فلما جاء اسماعيل قال هل أتاكم من أحد قالت نعم أتانا شيخ حسن، قال الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير قال: فأوصاك بشئ قالت: نعم هو
__________
(1) عائفا: باحثا عن الماء.
(2) أنفسهم: زاحمهم في النفاسة وعلو الهمة.
(3) وهي جداء بنت سعد، امرأة من جرهم وهي التي امره أبوه بتطليقها.
(4) وهي رعلة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، وقيل اسمها السيدة.
(5) حب، بكسر الحاء، إناء من فخار يحفظ فيه الماء.
(6) كذا العبارة في الاصول والمعنى وغير مكتمل ; وفي العرائس للثعلبي ما يكتمل به المعنى: " فلو جاءت يومئذ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكانت مكة أكثر أرض الله برا وشعيرا وتمرا ".
(انظر الكامل لابن الاثير 1 / 104، الطبري 1 / 132).


يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي وأمرني أن أمسكك * ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك اسمعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم فلما رآه قام إليه
فصنعا كما يصنع الولد بالوالد والوالد بالولد * ثم قال يا اسمعيل إن الله أمرني بأمر قال فاصنع ما أمرك به ربك قال: وتعينني قال وأعينك قال فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل اسمعيل يأتي بالحجارة وابراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني واسمعيل يناوله الحجارة وهما يقولان (ربنا تقبل منا أنك أنت السميع العليم) [ البقرة: 127 ] قال وجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) ثم قال حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن كثير بن كثير، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما كان من ابراهيم وأهله ما كان خرج باسمعيل وأم اسمعيل ومعهم شنة فيها ماء * وذكر تمامه بنحر ما تقدم وهذا الحديث من كلام ابن عباس وموشح برفع بعضه وفي بعضه غرابة وكأنه مما تلقاه ابن عباس عن الاسرائيليات * وفيه أن اسمعيل كان رضيعا إذ ذاك * وعند أهل التوراة أن إبراهيم أمره الله بأن يختن ولده اسمعيل وكل من عنده من العبيد وغيرهم فختنهم وذلك بعد مضي تسع وتسعين سنة من عمره فيكون عمر اسمعيل يومئذ ثلاث عشرة سنة وهذا امتثال لامر الله عزوجل في أهله فيدل على أنه فعله على وجه الوجوب ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء أنه واجب على الرجال كما هو مقرر في موضعه.
وقد ثبت في الحديث الذي رواه البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " أختتن إبراهيم النبي عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم " * تابعه عبد الرحمن بن إسحق عن أبي الزناد وتابعه عجلان عن أبي هريرة ورواه محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة * وهكذا رواه مسلم عن قتيبة به * وفي بعض الالفاظ اختتن ابراهيم بعدما أتت عليه ثمانون سنة واختتن بالقدوم.
والقدوم هو الآلة وقيل موضع.
وهذا اللفظ لا ينافي الزيادة على الثمانين.
والله أعلم لما سيأتي من الحديث عند ذكر وفاته عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اختتن ابراهيم وهو ابن مائة وعشرين سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة ".
رواه ابن حبان في صحيحه.
وليس في هذا السياق ذكر قصة الذبيح وانه اسمعيل ولم يذكر في قد مات (1) ابراهيم عليه السلام إلا ثلاث مرات أولاهن بعد أن تزوج إسمعيل بعد موت هاجر، وكيف تركهم من حين صغر الولد، على ما ذكر إلى حين تزويجه، لا ينظر في حالهم.
وقد ذكر أن الارض كانت تطوى له وقيل: إنه كان يركب البراق إذا سار إليهم فكيف يتخلف عن مطالعة حالهم وهم في غاية الضرورة الشديدة
__________
(1) قد مات: المرات التي قدمها إبراهيم إلى ولده.
* ]

والحاجة الاكيدة * وكأن بعض هذا السياق متلقى من الاسرائيليات ومطرز بشئ من المرفوعات ولم يذكر فيه قصة الذبيح وقد دللنا (1) على أن الذبيح هو إسمعيل على الصحيح في سورة الصافات.
قصة الذبيح قال الله تعالى (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين.
رب هب لي من الصالحين.
فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني اذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين.
فلما أسلما وتله للجبين.
وناديناه ان يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا انا كذلك نجزي المحسنين.
ان هذا لهو البلاء المبين.
وفديناه بذبح عظيم.
وتركنا عليه في الآخرين.
سلام على إبراهيم.
كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين.
وبشرناه باسحق نبيا من الصالحين.
وباركنا عليه وعلى اسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) [ الصافات: 113 ].
يذكر تعالى عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بلاد قومه سأل ربه أن يهب له ولدا صالحا فبشره الله تعالى بغلام حليم وهو إسماعيل عليه السلام لانه أول من ولد له على رأس ست وثمانين سنة من عمر الخليل.
وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل الملل لانه أول ولده وبكره وقوله (فلما بلغ معه السعي) أي شب وصار يسعى في مصالحه كأبيه قال مجاهد (فلما بلغ معه السعي) أي شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل.
فلما كان هذا رئى ابراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده * هذا.
وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعا " رؤيا الانبياء وحي " (2) * قاله عبيد بن عمير أيضا وهذا اختبار من الله عزوجل لخليله في أن
يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كبر وقد طعن في السن بعدما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر وواد ليس به حسيس ولا أنيس ولا زرع ولا ضرع فامتثل أمر الله في ذلك وتركهما هناك ثقة بالله وتوكلا عليه، فجعل الله لهما فرجا ومخرجا ورزقهما من حيث لا يحتسبان.
ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا الذي قد أفرده عن أمر ربه وهو بكره ووحيده الذي ليس له غيره أجاب ربه، وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته، ثم عرض ذلك على ولده ليكون أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قسرا ويذبحه قهرا (قال يا بني اني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى) [ الصافات: 102 ] فبادر الغلام الحليم، سر والده الخليل إبراهيم، فقال: " يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين) * وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد قال الله تعالى (فلما أسلما وتله للجبين) قيل أسلما أي استسلما لامر الله وعزما على ذلك.
وقيل هذا من المقدم والمؤخر والمعنى تله للجبين أي ألقاه على وجهه.
قيل أراد أن يذبحه من قفاه
__________
(1) في تفسير ابن كثير ; راجع سورة الصافات.
وسيأتي الحديث عنه في الفصل القادم.
(2) الحديث في البخاري في رواية طويلة (4 / 5 / 138 فتح الباري).


لئلا يشاهده في حال ذبحه قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك.
وقيل بل أضجعه كما تضجع الذبائح وبقي طرف جبينه لاصقا بالارض ((واسلما) أي سمى إبراهيم وكبر وتشهد الولد للموت * قال السدي وغيره أمر السكين على حلقه فلم تقطع شيئا ويقال جعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس والله أعلم.
فعند ذلك نودي من الله عزوجل (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) أي قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك ومبادرتك إلى أمر ربك وبذلك ولدك للقربان كما سمحت ببدنك للنيران وكما مالك مبذول للضيفان ولهذا قال تعالى (إن هذا لهو البلاء المبين) أي الاختبار الظاهر البين وقوله (وفديناه بذبح عظيم) أي وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه.
والمشهور عن الجمهور أنه كبش أبيض أعين أقرن رآه مربوطا بسمرة في ثبير.
قال الثوري
عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا وقال سعيد بن جبير كان يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير وكان عليه عهن أحمر (1).
وعن ابن عباس هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء فذبحه وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه (2).
رواه ابن أبي حاتم.
قال مجاهد فذبحه بمنى وقال عبيد بن عمير ذبحه بالمقام.
فأما ما روي عن ابن عباس أنه كان وعلا وعن الحسن أنه كان تيسا من الاروى.
واسمه جرير فلا يكاد يصح عنهما * ثم غالب ماههنا من الآثار مأخوذ من الاسرائيليات * وفي القرآن كفاية عما جرى من الامر العظيم والاختبار الباهر وأنه فدى ذبح عظيم وقد ورد في الحديث أنه كان كبشا.
قال الامام أحمد، حدثنا سفيان، حدثنا منصور عن خاله نافع (3)، عن صفية بنت شيبة، قالت: أخبرتني إمرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارنا قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة - وقال مرة - إنها سألت عثمان لم دعاك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما (4) فخمرهما فانه لا ينبغي أن يكون في البيت شئ يشغل المصلي.
قال: سفيان: لم تزل قرنا الكبش في البيت حتى احترق البيت فاحترقا (5).
__________
(1) العهن: الصوف.
(2) الخبر في الطبري ج 1 / 141 - 142.
(3) في المسند: مسافح.
(4) تخمرهما: تغطيهما.
(5) الحديث في مسند أحمد ج 4 / 68، 5 / 380.
وفيه: - صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية حدثت عن عائشة وأم حبيبة.
وفي البخاري صرع بسماعها عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر الدارقطني ذلك.
(تقريب التهذيب 2 / 603) الكاشف 3 / 429.


وهذا روي عن ابن عباس أن رأس الكبش لم يزل معلقا عند ميزاب الكعبة قد يبس.
وهذا وحده
دليل على أن الذبيح اسمعيل لانه كان هو المقيم بمكة.
واسحق لا نعلم أنه قدمها في حال صغره والله أعلم.
وهذا هو الظاهر من القرآن بل كأنه نص على أن الذبيح هو اسمعيل لانه ذكر قصة الذبيح ثم قال بعده (وبشرناه باسحق نبيا من الصالحين) [ الصافات: 112 [ ومن جعله حالا (1) فقد تكلف، ومستنده أنه إسحق إنما هو اسرائيليات، وكتابهم فيه تحريف، ولا سيما ههنا قطعا لا محيد عنه، فان عندهم أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده وفي نسخة من المعربة بكره اسحق فلفظة اسحق ههنا مقحمة مكذوبة مفتراة لانه ليس هو الوحيد ولا البكر [ انما ] ذاك اسمعيل.
وإنما حملهم على هذا حسد العرب فإن إسمعيل أبو العرب الذين يسكنون الحجاز الذين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسحق والد يعقوب وهو اسرائيل الذين ينتسبون إليه فأرادوا أن يجروا هذا الشرف إليهم فحرفوا كلام الله وزادوا فيه وهم قوم بهت ولم يقروا بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.
وقد قال بأنه اسحق طائفة كثيرة من السلف وغيرهم (2).
وإنما أخذوه والله أعلم من كعب الاحبار أو صحف أهل الكتاب وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم حتى نترك لاجله ظاهر الكتاب العزيز ولا يفهم هذا من القرآن بل المفهوم بل المنطوق بل النص عند التأمل على أنه اسمعيل.
وما أحسن ما استدل محمد بن كعب القرظي على أنه اسمعيل وليس باسحق من قوله (فبشرناها باسحاق ومن وراء اسحق يعقوب) [ هود: 71 ] قال: فكيف تقع البشارة باسحق ؟ وأنه سيولد له يعقوب، ثم يؤمر بذبح إسحق، وهو صغير، قبل أن يولد له، هذا لا يكون لانه يناقض البشارة المتقدمة والله أعلم.
وقد اعترض السهيلي على هذا الاستدلال بما حاصله أن قوله (فبشرناها باسحاق) جملة تامة وقوله (ومن وراء إسحاق يعقوب) جملة أخرى ليست في حيز البشارة.
قال لانه لا يجوز من حيث العربية أن يكون مخفوضا إلا أن يعاد معه حرف الجر فلا يجوز أن يقال مررت بزيد ومن
__________
= منصور بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث العبدري الحجي المكي، وهو ابن صفية بنت شيبة ثقة.
تقريب التهذيب 2 / 276 قال أبو حاتم: صالح الحديث مات سنة 137 ه (الكاشف ج 3 / 156).
(1) أي من جعل كلمة - نبيا - حال من إسحاق فيكون التبشير به - بإسحاق - تبشيرا بنبوته لا بولادته.
(2) قال القرطبي 15 / 99: واختلف العلماء في المأمور بذبحه ; فقال أكثرهم: الذبيح اسحق.
وممن قال بذلك: العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله - ابن عباس - ابن مسعود - حماد بن زيد - جابر بن عبد الله - عبد الله بن عمر - عمر بن الخطاب - (هؤلاء من الصحابة) ومن التابعين وغيرهم: علقمة الشعبي مجاهد وسعيد بن جبير وكعب الاحبار وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والسدي والزهري ومالك بن أنس.
وقال الزجاج: الله أعلم أيهما الذبيح، وهذا مذهب ثالث.
أما المذهب الثاني ; فهم من قال: انه إسماعيل.


هو بعده عمرو حتى يقال ومن بعده بعمر.
وقال فقوله (ومن وراء إسحق يعقوب) منصوب بفعل مضمر تقديره (ووهبنا لاسحق يعقوب) وفي هذا الذي قاله نظر.
ورجح أنه اسحاق واحتج بقوله (فلما بلغ معه السعي) قال واسماعيل لم يكن عنده إنما كان في حال صغره هو وأمه بحيال مكة فكيف يبلغ معه السعي * وهذا أيضا فيه نظر لانه قد روي أن الخليل كان يذهب في كثير من الاوقات راكبا البراق إلى مكة يطلع على ولده وابنه ثم يرجع والله أعلم * فمن حكى القول عنه بأنه اسحق كعب الاحبار * وروي عن عمر والعباس وعلي وابن مسعود ومسروق وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والشعبي ومقاتل وعبيد بن عمر وأبي ميسرة وزيد بن أسلم وعبد الله بن شقيق والزهري والقاسم وابن أبي بردة ومكحول وعثمان بن حاضر والسدي والحسن وقتادة وأبي الهذيل وابن سابط وهو اختيار ابن جرير وهذا عجب منه وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ولكن الصحيح عنه وعن أكثر هؤلاء أنه اسماعيل عليه السلام.
قال مجاهد وسعيد والشعبي ويوسف بن مهران وعطاء وغير واحد عن ابن عباس هو اسماعيل عليه السلام وقال ابن جرير حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني عمرو بن قيس عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أنه قال المفدى اسماعيل وزعمت اليهود أنه اسحق وكذبت اليهود * وقال عبد الله بن الامام احمد عن أبيه هو اسماعيل * وقال ابن أبي حاتم سألت أبي عن الذبيح فقال الصحيح أنه اسماعيل عليه
السلام.
قال ابن أبي حاتم وروي عن علي وابن عمر وأبي هريرة وأبي الطفيل وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد والشعبي ومحمد بن كعب وأبي جعفر محمد بن علي وأبي صالح أنهم قالوا الذبيح هو اسماعيل عليه السلام * وحكاه البغوي أيضا عن الربيع بن أنس والكلبي وأبي عمر بن العلاء * قلت وروي عن معاوية (1) وجاء عنه أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا ابن الذبيحين فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز ومحمد بن إسحاق بن يسار وكان الحسن البصري يقول لا شك في هذا.
وقال محمد بن اسحاق عن بريدة عن سفيان بن فروة الاسلمي عن محمد بن كعب أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة إذ كان معه بالشام، يعني استدلاله بقوله بعد العصمة (2) (فبشرناه باسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب) فقال له عمر إن هذا الشئ ما كنت أنظر فيه وإني لاراه كما قلت ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه
__________
(1) روى الخبر الحاكم في مستدركه (2 / 551) من طريق عبد الله بن محمد العتبي، عن عبد الله بن سعيد عن الصنابحي.
قال الذهبي في الرواية: " قلت اسناده واه ".
وعلق عليه ابن كثير في التفسير: هذا حديث غريب جدا.
(2) " بعد العصمة " في النسخ المطبوعة وهو تحريف والصواب: بعد ذكر القصة.


وكان يرى أنه من علمائهم قال فسأله عمر بن عبد العزيز أي ابني ابراهيم أمر بذبحه فقال اسماعيل والله يا أمير المؤمنين وإن اليهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه والفضل والذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحق لان إسحق أبوهم * وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاة بأدلتها وآثارها في كتابنا التفسير ولله الحمد والمنة.
مولد اسحاق
قال الله تعالى (وبشرناه باسحق نبيا من الصالحين.
وباركنا عليه وعلى اسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) [ الصافات: 112 - 113 ] * وقد كانت البشارة به من الملائكة لابراهيم وسارة لما مروا بهم مجتازين ذاهبين إلى مدائن قوم لوط ليدمروا عليهم لكفرهم وفجورهم كما سيأتي بيانه في موضعه ان شاء الله تعالى قال الله تعالى (ولقد جاءت رسلنا ابراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ.
فلما رأى أيديهم لا تصل إليهم نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها باسحق ومن وراء اسحق يعقوب.
قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب.
قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) [ هود: 69 - 73 ] وقال تعالى (ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون.
قالوا لا توجل انا نبشرك بغلام عليم.
قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون.
قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين.
قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) [ الحجر: 51 - 56 ].
وقال تعالى (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين.
إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون.
فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين.
فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم.
فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم.
قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم) [ الذاريات: 24 - 30 ].
يذكر تعالى أن الملائكة قالوا وكانوا ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل لما وردوا على الخليل حسبهم أضيافا فعاملهم معاملة الضيوف شوى لهم عجلا سمينا من خيار بقره فلما قربه إليهم وعرض عليهم لم ير لهم همة إلى الاكل بالكلية، وذلك لان الملائكة ليس فيهم قوة الحاجة إلى الطعام (فنكرهم) ابراهيم (وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) [ هود: 70 ] أي لندمر عليهم فاستبشرت عند ذلك سارة غضبا لله عليهم وكانت قائمة على رؤس الاضياف كما جرت به عادة الناس من العرب وغيرهم فلما ضحكت استبشارا بذلك قال الله تعالى

(فبشرناها باسحق ومن وراء اسحق يعقوب) أي بشرتها الملائكة بذلك (فأقبلت امرأته في صرة) أي في صرخة (فصكت وجهها) [ الذاريات: 29 ] أي كما يفعل النساء عند التعجب (وقالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا) [ هود: 72 ] أي كيف يلد مثلي وأنا كبيرة وعقيم أيضا وهذا بعلي - أي زوجي - شيخا تعجبت من وجود ولد والحالة هذه.
ولهذا قالت (إن هذا لشئ عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) [ هود: 72 - 73 ] وكذلك تعجب ابراهيم عليه السلام استبشارا بهذه البشارة وتثبيتا لها وفرحا بها (قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون.
قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين) [ الحجر: 55 54 ] أكدوا الخبر بهذه البشارة وقرروه معه فبشروهما (بغلام عليم) [ الحجر: 53 ].
وهو اسحق وأخوه اسماعيل غلام حليم مناسب لمقامه وصبره وهكذا وصفه ربه بصدق الوعد والصبر.
وقال في الآية الاخرى (فبشرناها باسحق ومن وراء اسحق يعقوب) وهذا مما استدل به محمد بن كعب القرظي وغيره على أن الذبيح هو اسماعيل وأن اسحق لا يجوز أن يؤمر بذبحه بعد أن وقعت البشارة بوجوده ووجود ولده يعقوب المشتق من العقب من بعده.
وعند أهل الكتاب أنه أحضر مع العجل الحنيذ، وهو المشوي (1)، رغيفا من مكة فيه ثلاثة أكيال وسمن ولبن.
وعندهم أنهم أكلوا، وهذا غلط محض * وقيل كانوا يودون (2) أنهم يأكلون والطعام يتلاشى في الهواء.
وعندهم أن الله تعالى قال لابراهيم أما سارا امرأتك فلا يدعى اسمها سارا ولكن اسمها سارة وأبارك عليها وأعطيك منها ابنا وأباركه ويكون الشعوب وملوك الشعوب منه، فخر ابراهيم على وجهه - يعني ساجدا - وضحك قائلا في نفسه أبعد مائة سنة (3) يولد لي غلام أو سارة تلد وقد أتت عليها تسعون سنة.
وقال ابراهيم لله تعالى ليت إسماعيل يعيش قدامك فقال الله لابراهيم بحقي ان امرأتك سارة تلد لك غلاما وتدعو اسمه إسحق إلى مثل هذا الحين من قابل وأوثقه ميثاقي إلى الدهر ولخلفه من بعده وقد استجبت لك في اسماعيل وباركت عليه وكبرته ونميته جدا وكثيرا ويولد له أثنا عشر عظيما وأجعله رئيسا لشعب عظيم * وقد تكلمنا على هذا بما
تقدم والله أعلم.
فقوله تعالى (فبشرناها باسحق ومن وراء اسحق يعقوب) دليل على أنها تستمتع بوجود ولدها إسحاق ثم من بعده بولد ولده يعقوب أي يولد في حياتهما لتقر أعينهما به كما قرت بولده.
ولو لم يرد هذا لم يكن لذكر يعقوب وتخصيص التنصيص عليه من دون سائر نسل إسحق فائدة ولما عين بالذكر دل على أنهما يتمتعان به ويسران بولده كما سرا بمولد أبيه من قبله وقال تعالى (ووهبنا له اسحق ويعقوب كلا هدينا) [ الانعام: 84 ] وقال تعالى (فلما اعتزلهم وما
__________
(1) قال الطبري: التحناذ: الانضاج.
(2) كذا في النسخ المطبوعة يودون ; وما في قصص ابن كثير يرون وهو مناسب أكثر.
(3) في المسعودي: عشرين ومائة سنة وفي الطبري 120 سنة.


يعبدون من دون الله وهبنا له اسحق ويعقوب) [ مريم: 49 ] وهذا ان شاء الله ظاهر قوي ويؤيده ما ثبت في الصحيحين (1) من حديث سليمان بن مهران الاعمش، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر، قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع [ في الارض ] (2) أول ؟ قال: " المسجد الحرام " قلت: ثم أي ؟ قال: " المسجد الاقصى ".
قلت كم بينهما ؟ قال: " أربعون سنة " قلت: ثم أي ؟ قال: " ثم حيث أدركت الصلاة فصل فكلها مسجد ".
وعند أهل الكتاب أن يعقوب عليه السلام هو الذي أسس المسجد الاقصى وهو مسجد إيليا بيت المقدس شرفه الله * وهذا متجه ويشهد له ما ذكرناه من الحديث فعلى هذا يكون بناء يعقوب وهو اسرائيل عليه السلام بعد بناء الخليل وابنه إسماعيل المسجد الحرام بأربعين سنة سواء وقد كان بناؤهما ذلك بعد وجود اسحق لان إبراهيم عليه السلام لما دعا قال في دعائه كما قال تعالى (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الاصنام.
رب إنهن أضللن كثيرا من الناس من تبعني فانه مني ومن عصاني فانك غفور رحيم.
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم.
ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل افئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون.
ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من
شئ في الارض ولا في السماء.
الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل واسحق إن ربي لسميع الدعاء.
رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) [ ابراهيم: 35 - 41 ].
وما جاء في الحديث من أن سليمان بن داود عليهما السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثا كما ذكرناه عند قوله (رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي) [ الحج: 26 - 27 ] وكما سنورده في قصته فالمراد من ذلك والله أعلم أنه جدد بناءه كما تقدم من أن بينهما أربعين سنة ولم يقل أحد إن بين سليمان وإبراهيم أربعين سنة سوى ابن حبان في تقاسيمه وأنواعه وهذا القول لم يوافق عليه ولا سبق إليه.
بناء البيت العتيق قال الله تعالى (وإذ بوءنا لابراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود.
وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) [ الحج: 26 - 27 ] وقال تعالى (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين.
فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا.
ولله على الناس حج البيت من
__________
(1) في صحيح مسلم (5) كتاب المساجد ح 1 / 520 ص 1 / 370.
والبخاري ح رقم 1589.
(2) من مسلم.
وأول: بضم اللام، وهي ضمة بناء، لقطعه عن الاضافة.
مثل قبل وبعد.
والتقدير أول كل شئ.


استطاع إليه سببلا.
ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) [ آل عمران: 96 - 97 ] وقال تعالى (وإذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فاتمهن.
قال إني جاعلك للناس اماما.
قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين.
واذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود.
وإذ قال ابراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فامتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير.
واذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم) [ البقرة: 124 - 126 ].
يذكر تعالى عن عبده ورسوله وصفيه وخليله، إمام الحنفاء ووالد الانبياء [ إبراهيم ] عليه أفضل صلاة وتسليم أنه بنى البيت العتيق الذي هو أول مسجد وضع لعموم الناس يعبدون الله فيه وبوأه الله مكانه أي ارشده إليه ودله عليه * وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغيره أنه أرشد إليه بوحي من الله عزوجل.
وقد قدمنا في صفة خلق السموات أن الكعبة بحيال البيت المعمور بحيث أنه لو سقط لسقط عليها وكذلك معابد السموات السبع، كما قال بعض السلف إن في كل سماء بيتا يعبد الله فيه أهل كل سماء وهو فيها كالكعبة لاهل الارض فأمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام أن يبني له بيتا يكون لاهل الارض كتلك المعابد لملائكة السموات وأرشده الله إلى مكان البيت المهيأ له المعين لذلك منذ خلق السموات والارض كما ثبت في الصحيحين (1): " أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والارض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ".
ولم يجئ في خبر صحيح عن معصوم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه السلام * ومن تمسك في هذا بقوله مكان البيت فليس بناهض ولا ظاهر لان المراد مكانه المقدر في علم الله المقرر في قدرته المعظم عند الانبياء موضعه من لدن آدم إلى زمان إبراهيم * وقد ذكرنا أن آدم نصب عليه قبة وأن الملائكة قالوا له: قد طفنا قبلك بهذا البيت وأن السفينة طافت به أربعين (2) يوما أو نحو ذلك ولكن كل هذه الاخبار عن بني اسرائيل * وقد قررنا أنها لا تصدق ولا تكذب فلا يحتج بها فأما إن ردها الحق فهي مردودة.
وقد قال الله (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين) [ آل عمران: 96 ] أي أول بيت وضع لعموم الناس للبركة والهدى البيت الذي ببكة * قيل مكة وقيل محل الكعبة (فيه آيات بينات) [ آل عمران - 97 ] أي على أنه بناء الخليل والد الانبياء من بعده
__________
(1) مسلم في 15 كتاب الحج 81 - 82 تحريم مكة ح 445 / 1353 ص 2 / 986 من طريق مجاهد عن طاوس عن ابن عباس.
والبخاري حديث رقم 710.
(2) في الطبري: أسبوعا.
وفي تاريخ مكة للازرقي فكالاصل.


وإمام الحنفاء من ولده (1) الذين يقتدون به ويتمسكون بسنته ولهذا قال (مقام إبراهيم) أي الحجر الذي كان يقف عليه قائما لما ارتفع البناء عن قامته فوضع له ولده هذا الحجر المشهور ليرتفع عليه لما تعالى البناء وعظم الفناء كما تقدم في حديث ابن عباس الطويل.
وقد كان هذا الحجر ملصقا بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخره عن البيت قليلا لئلا يشغل المصلين عنده الطائفين بالبيت واتبع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا فإنه قد وافقه ربه في أشياء منها في قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم لو اتخذنا من مقام ابراهيم مصلى (2) فأنزل الله (واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى) [ البقرة: 135 ] وقد كانت آثار قدمي الخليل باقية في الصخرة إلى أول الاسلام وقد قال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة.
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه * وراق لبر في حراء ونازل (3) وبالبيت حق البيت من بطن مكة * وبالله إن الله ليس بغافل وبالحجر المسود إذ يمسحونه * إذ اكتنفوه بالضحى والاصائل وموطئ ابراهيم في الصخر رطبة * على قدميه حافيا غير ناعل يعني أن رجله الكريمة غاصت في الصخرة فصارت على قدر قدمه حافية لا منتعلة ولهذا قال تعالى (وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) أي في حال قولهما (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) [ البقرة: 128 ] فهما في غاية الاخلاص والطاعة لله عزوجل وهما يسألان من الله السميع العليم أن يتقبل منهما ما هما فيه من الطاعة العظيمة والسعي المشكور (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) [ البقره: 128 ].
والمقصود أن الخليل بنى أشرف المساجد في أشرف البقاع في واد غير ذي زرع ودعا لاهلها بالبركة وأن يرزقوا من الثمرات مع قلة المياه وعدم الاشجار والزروع والثمار، وأن يجعله حرما محرما وآمنا
محتما فاستجاب الله وله الحمد له مسألته ولبى دعوته وأتاه طلبته فقال تعالى (أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم) [ العنكبوت: 67 ] وقال تعالى (أو لم نمكن لهم حرمنا آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنا) [ القصص: 57 ] وسأل الله أن يبعث فيهم رسولا منهم أي من جنسهم وعلى لغتهم الفصيحة البليغة النصيحة، لتتم عليهم النعمتان الدنيوية والدينية سعادة الاولى والاخرى.
وقد استجاب الله له فبعث فيهم رسولا وأي رسول ختم به
__________
(1) قال مجاهد في قوله تعالى: (فيه آيات بينات): أثر قدميه في المقام.
(2) رواه البخاري في صحيحه: فتح الباري 8 / 128 وأحمد في مسنده وذكره السيوطي في الدر المنثور 1 / 118 ورواه ابن كثير في تفسيره مطولا.
(3) ثور: الجبل الذي فيه الغار، وقال الجوهري: جبل بمكة.


أنبياءه ورسله وأكمل له من الدين ما لم يؤت أحدا قبله وعم بدعوته أهل الارض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم في سائر الاقطار والامصار والاعصار إلى يوم القيامة.
كان هذا من خصائصه من بين سائر الانبياء لشرفه في نفسه وكمال ما أرسل به وشرف بقعته وفصاحة لغته وكمال شفقته على أمته ولطفه ورحمته وكريم محتده (1) وعظيم مولده وطيب مصدره ومورده ولهذا استحق ابراهيم الخليل عليه السلام إذ كان باني الكعبة لاهل الارض أن يكون منصبه ومحله وموضعه في منازل السموات، ورفيع الدرجات، عند البيت المعمور الذي هو كعبة أهل السماء السابعة، المبارك المبرور، الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه.
ثم لا يعودون إليه إلى يوم البعث والنشور، وقد ذكرنا في التفسير من سورة البقرة صفة بناية البيت وما ورد في ذلك من الاخبار والآثار بما فيه كفاية فمن أراده فليراجعه ثم ولله الحمد.
فمن ذلك ما قال السدي لما أمر الله إبراهيم واسماعيل أن يبنيا البيت ثم لم يدريا أين مكانه حتى بعث الله ريحا يقال له الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الاول واتبعاها بالمعاول يحفران، حتى وضعا الاساس، وذلك حين يقول تعالى
(وإذ بوأنا لابراهيم مكان البيت) [ الحج: 26 ] فلما بلغا القواعد بنيا الركن قال ابراهيم لاسماعيل يا بني اطلب لي [ حجرا حسنا أضعه هاهنا وقال: يا أبت إني كسلان تعب.
قال: على ذلك فانطلق.
وجاءه جبريل بالحجر ] (3) الاسود من الهند وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل النعامة (3) وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن.
فقال يا أبتي من جاءك بهذا ؟ قال: جاء به من هو أنشط منك فبنيا وهما يدعوان الله: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) وذكر ابن أبي حاتم أنه بناه من خمسة أجبل (4) وأن ذا القرنين وكان ملك الارض إذ ذاك مر بهما وهما يبنيانه فقال من أمركما بهذا فقال إبراهيم: الله أمرنا به فقال وما يدريني بما تقول فشهدت خمسة أكبش أنه أمره بذلك فآمن وصدق.
وذكر الازرقي أنه طاف مع الخليل بالبيت (5).
وقد كانت على بناء الخليل مدة طويلة ثم بعد ذلك بنتها قريش فقصرت بها عن قواعد إبراهيم من جهة الشمال مما يلي الشام على ما هي عليه
__________
(1) محتده: أصله ونسبه.
(2) ما بين معكوفين سقطت من النسخ المطبوعة، واستدركناها - كما يقتضي السياق - من قصص الانبياء لابن كثير وفي رواية الازرقي: أن إسماعيل ذهب يطوف في الجبال..وفي رواية أخرى: ان إسماعيل اتاه بحجر فلم يرضه إبراهيم فجاءه جبريل بهذا الحجر.
وعن عبد الله بن عمرو أن جبريل جاء بالحجر من الجنة.
(3) في الاصول النعامة وهو تحريف والصواب الثغامة: وهو نبات أبيض.
(4) في تاريخ مكة: قال قتادة ذكر لنا انه بناه من خمسة أجبل: من طور سيناء، وطور زيتا ولبنان والجودي وحرا.
1 / 63.
(5) تاريخ مكة 1 / 74.


اليوم * وفي الصحيحين من حديث مالك عن ابن شهاب عن سالم أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر بن عمر عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال " ألم تري إلى قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد ابراهيم " فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد ابراهيم ؟ فقال: " لولا حدثان
قومك " وفي رواية: " لولا أن قومك حديث (1) عهد بجاهلية " - أو قال بكفر - لانفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالارض ولادخلت فيها الحجر " (2) * وقد بناها ابن الزبير رحمه الله في أيامه على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبما أخبرته خالته عائشة أم المؤمنين عنه فلما قتله الحجاج في سنة ثلاث وسبعين كتب إلى عبد الملك بن مروان الخليفة إذ ذاك فاعتقدوا أن ابن الزبير إنما صنع ذلك من تلقاء نفسه فأمر بردها إلى ما كانت عليه فنقضوا الحائط الشامي وأخرجوا منها الحجر ثم سدوا الحائط وردموا الاحجار في جوف الكعبة فارتفع بابها الشرقي وسدوا الغربي بالكلية كما هو مشاهد إلى اليوم ثم لما بلغهم أن ابن الزبير إنما فعل هذا لما أخبرته عائشة أم المؤمنين، ندموا على ما فعلوا، وتأسفوا أن لو كانوا تركوه وما تولى من ذلك * ثم لما كان في زمن المهدي بن المنصور، استشار الامام مالك بن أنس، في ردها على الصفة التي بناها ابن الزبير، فقال له: إني أخشى أن يتخذها الملوك لعبة - يعني كلما جاء ملك بناها على الصفة التي يريد - فاستقر الامر على ما هي عليه اليوم.
ذكر ثناء الله ورسوله الكريم على عبده وخليله ابراهيم قال الله (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما.
قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) [ البقرة: 124 ].
ولما وفى ما أمره ربه به من التكاليف العظيمة جعله للناس إماما يقتدون به ويأتمون بهديه وسأل الله أن يكون هذه الامامة متصلة بسببه وباقية في نسبه وخالدة في عقبه فأجيب إلى ما سأل ورام.
وسلمت إليه الامامة بزمام واستثني من نيلها الظالمون واختص بها من ذريته العلماء العاملون.
كما قال تعالى (ووهبنا له اسحق ويعقوب.
وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب.
وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) [ العنكبوت: 27 ] * وقال تعالى (ووهبنا له اسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين.
وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين.
واسمعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين.
ومن آبائهم وذرياتهم واخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط
__________
(1) في البخاري: حديثو.
(2) أخرجه البخاري في 25 / 42 / 1573 فتح الباري وبرواية أخرى في 60 / 10 / 3368 فتح الباري ورواه مسلم في صحيحه 15 / 69 / 1333 ورواه النسائي وأبو داود والترمذي ومالك في الموطأ وأحمد في مسنده 6 / 113 - 177 - 247.


مستقيم) [ الانعام: 84 - 87 ] فالضمير في قوله ومن ذريته عائد على إبراهيم على المشهور.
ولوط وإن كان ابن أخيه إلا أنه دخل في الذرية تغليبا.
وهذا هو الحامل للقائل الآخر إن الضمير على نوح كما قدمنا في قصته والله أعلم.
وقال تعالى (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب) [ الحديد: 26 ] الآية.
فكل كتاب أنزل من السماء على نبي من الانبياء بعد إبراهيم الخليل فمن ذريته وشيعته.
وهذه خلعة سنية لا تضاهي ومرتبة عليه لا تباهى.
وذلك أنه ولد له لصلبه ولدان ذكران عظيمان اسمعيل من هاجر ثم إسحق من سارة وولد لهذا يعقوب وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه سائر أسباطهم فكانت فيهم النبوة وكثروا جدا بحيث لا يعلم عددهم إلا الذي بعثهم واختصهم بالرسالة والنبوة حتى ختموا بعيسى ابن مريم من بني اسرائيل وأما اسمعيل عليه السلام فكانت منه العرب على اختلاف قبائلها كما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى ولم يوجد من سلالته من الانبياء سوى خاتمهم على الاطلاق وسيدهم وفخر بني آدم في الدنيا والآخرة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي المكي ثم المدني صلوات الله وسلامه عليه فلم يوجد من هذا الفرع الشريف والغصن المنيف سوى هذه الجوهرة الباهرة والدرة الزاهرة وواسطه العقد الفاخرة وهو السيد الذي يفتخر به أهل الجمع ويغبطه الاولون والآخرون يوم القيامة.
وقد ثبت عنه في صحيح مسلم كما سنورده أنه قال: " سأقوم مقاما يرغب إلى الخلق كلهم حتى ابراهيم " (1) فمدح ابراهيم أباه مدحة عظيمة في هذا السياق ودل كلامه على أنه أفضل الخلائق بعده عند الخلاق في هذه الحياة الدنيا ويوم يكشف عن ساق.
وقال البخاري حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن المنهال عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول: " أن أباكما كان يعوذ بهما اسمعيل وإسحق.
أعوذ بكلمات الله التامة.
من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ".
ورواه أهل السنن (1) من حديث منصور به وقال تعالى (وإذ قال ابراهيم رب أرني كيف تحيى الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزأ ثم ادعهن يأتينك سعيا.
وأعلم أن الله عزيز حكيم) [ البقرة: 260 ] ذكر المفسرون لهذا السؤال اسبابا بسطناها في التفسير (2).
وقررناها بأتم تقرير * والحاصل أن الله عز وجل أجابه إلى ما سأل فأمره أن يعمد إلى أربعة من الطيور واختلفوا في تعينها على أقوال (3) والمقصود
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه 60 / 337110 فتح الباري ; وفي كتاب خلق أفعال العباد بروايات متعددة ; وأحمد في مسنده (2 / 181 - 290 - 375، 5 / 430، 6 / 6) ورواه الترمذي وأبو داود والدارمي ومالك في الموطأ.
(2) راجع تفسير ابن كثير الجزء الاول.
تفسير سورة البقرة.
(3) قال ابن إسحاق هي: الديك والطاووس والحمام والغراب وقال ابن عباس: الكركي والنسر بدل الحمام والغراب.


حاصل على كل تقدير فأمره أن يمزق لحومهن وريشهن ويخلط ذلك بعضه في بعض ثم يقسمه قسما ويجعل على كل جبل منهن جزأ ففعل ما أمر به ثم أمر أن يدعوهن بإذن ربهن فلما دعاهن جعل كل عضو يطير إلى صاحبه وكل ريشة تأتي إلى أختها حتى اجتمع بدن كل طائر على ما كان عليه وهو ينظر إلى قدرة الذي يقول للشئ كن فيكون فآتين إليه سعيا ليكون أبين له وأوضح لمشاهدته من أن يأتين طيرانا * ويقال إنه أمر أن يأخذ رؤوسهن في يده فجعل كل طائر يأتي فيلقي رأسه فيتركب على جثته كما كان فلا إله إلا الله، وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم قدرة الله تعالى على إحياء الموتى علما يقينا لا يحتمل النقيض، ولكن أحب أن يشاهد ذلك عيانا ويترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، فأجابه الله إلى سؤاله وأعطاه غاية مأموله * وقال تعالى (يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل الا من بعده أفلا تعقلون.
ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم
به علم.
فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين.
إن أولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين) [ ال عمران: 65 - 68 ] ينكر تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في دعوى كل من الفريقين كون الخليل على ملتهم وطريقتهم فبرأه الله منهم وبين كثرة جهلهم وقلة عقلهم في قوله ((وما أنزلت التوراة والانجيل الا من بعده) أي فكيف يكون على دينكم وأنتم إنما شرع لكم ما شرع بعده بمدد متطاولة ولهذا قال (أفلا تعقلون) إلى أن قال (ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين).
فبين أنه كان على دين الله الحنيف وهو القصد إلى الاخلاص، والانحراف وعمدا عن الباطل، إلى الحق الذي هو مخالف لليهودية والنصرانية والمشركية.
كما قال تعالى (ومن يرغب عن ملة ابراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين.
ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي.
قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم واسمعيل واسحق إلها واحدا
__________
(1) اختلف الناس في سؤال إبراهيم ربه (وإذا قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى.
) هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا ؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة ; وقال الحسن: سأله ليزداد يقينا إلى يقينه.
والشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لاحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن إبراهيم ; والمتأمل سؤاله وسائر الفاظ الآية ; فالاستفهام بكيف إنما هو عن حالة شئ موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول، فإنما السؤال عن حال من أحواله.
وكيف هنا إنما هي استفهام عن هيئة الاحياء، والاحياء متقرر.
قال الرازي: انه إنما سأل ذلك لقومه، والمقصود أن يشاهده فيزول الانكار عن قلوبهم.
(التفسير الكبير للرازي - القرطبي أحكام القرطبي في تفسير سورة البقرة).


ونحن له مسلمون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.
وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين.
قولوا آمنا بالله وما أنزل الينا وما أنزل إلى ابراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب والاسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فان آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد أهتدوا وان تولوا فانما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم.
صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون.
قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون.
أم يقولون إن ابراهيم واسماعيل واسحق ويعقوب والاسباط كانوا هودا أو نصارى قل أنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون) [ البقرة: 130 - 140 ].
فنزه الله عزوجل خليله عليه السلام عن أن يكون يهوديا أو نصرانيا وبين أنه إنما كان حنيفا مسلما ولم يكن من المشركين ولهذا قال تعالى (إن أولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه) [ آل عمران: 68 ].
يعني الذين كانوا على ملته من اتباعه في زمانه ومن تمسك بدينه من بعدهم (وهذا النبي) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم فإن الله شرع له الدين الحنيف الذي شرعه للخليل وكمله الله تعالى له وأعطاه ما لم يعط نبيا ولا رسولا قبله.
كما قال تعالى (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين.
قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) [ الانعام: 161 - 163 ] وقال تعالى (إن ابراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين.
شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم.
وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين.
ثم أوحينا اليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) [ النحل: 120 - 123 ].
وقال البخاري حدثنا ابراهيم بن موسى، حدثنا هشام، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت ورأى إبراهيم وإسمعيل بإيديهما الازلام فقال قاتلهم الله والله إن (1) يستقسما بالازلام قط (2) لم يخرجه
مسلم * وفي بعض ألفاظ البخاري قاتلهم الله لقد علموا أن شيخنا لم يستقسم بها قط (3).
فقوله (أمة) أي قدوة إماما مهتديا داعيا إلى الخير يقتدى به فيه (قانتا لله) أي خاشعا له في جميع حالاته وحركاته وسكناته (حنيفا) أي مخلصا على بصيرة (ولم يك من المشركين.
شاكرا
__________
(1) أي لم يستقسما بالازلام قط، وإن هنا نافية.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 60 / 8 / 3352 فتح الباري، وأخرجه أبو داود في سننه (1 / 467 حلبي) وفيه: ما استقسما بها قط.
وأخرجه أحمد في مسنده 1 / 334 - 365.
(3) في الصحيح 25 / 54 / 1601 فتح الباري عن ابن عباس وفيه: لم يستقسما بها قط.==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

معايير الأحكام في قضية الطلاق؟

  معايير الأحكام في قضية الطلاق؟     أحكام الطلاق من القرآن والسنة الصحيحة   1 الطلاق للعدة الشرعة الباقية إلي يوم القيامة :   1. ما هي...