مشاري راشد {سورة الطلاق}

Translate

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

ج18. البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

 

ج18. البداية والنهاية


تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر 

بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

أَهْلِ الدَّارِ، وَآخَرُونَ مِنْ أُولَئِكَ الْفُجَّارِ، وَجُرِحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ جِرَاحَاتٍ كَثِيرَةً، وَكَذَلِكَ جُرِحَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَقُطِعَ إِحْدَى عِلْبَاوَيْهِ، فَعَاشَ أَوْقَصَ حَتَّى مَاتَ.
وَمِنْ أَعْيَانِ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ عُثْمَانَ، زِيَادُ بْنُ نُعَيْمٍ الْفِهْرِيُّ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، وَنِيَارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسْلَمِيُّ، فِي أُنَاسٍ وَقْتَ الْمَعْرَكَةِ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ انْهَزَمَ أَصْحَابُ عُثْمَانَ ثُمَّ تَرَاجَعُوا. وَلَمَّا رَأَى عُثْمَانُ ذَلِكَ عَزَمَ عَلَى النَّاسِ لِيَنْصَرِفُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ، فَانْصَرَفُوا - كَمَا تَقَدَّمَ - فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ أَحَدٌ سِوَى أَهْلِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ وَمِنَ الْجُدْرَانِ، وَفَزِعَ عُثْمَانُ إِلَى الصَّلَاةِ وَافْتَتَحَ سُورَةَ طه - وَكَانَ سَرِيعَ الْقِرَاءَةِ - فَقَرَأَهَا وَالنَّاسُ فِي غَلَبَةٍ عَظِيمَةٍ، قَدِ احْتَرَقَ الْبَابُ وَالسَّقِيفَةُ الَّتِي عِنْدَهُ، وَخَافُوا أَنْ يَصِلَ الْحَرِيقُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ فَرَغَ عُثْمَانُ مِنْ صِلَاتِهِ وَجَلَسَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْمُصْحَفُ، وَجَعَلَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [ آلِ عِمْرَانَ: 173 ] فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ

رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْمَوْتُ الْأَسْوَدُ. فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَتْ نَفْسُهُ تَتَرَدَّدُ فِي حَلْقِهِ، فَتَرَكَهُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ فَمَسَكَ بِلِحْيَتِهِ، ثُمَّ نَدِمَ وَخَرَجَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ آخَرُ وَمَعَهُ سَيْفٌ فَضَرَبَهُ بِهِ فَاتَّقَاهُ بِيَدِهِ فَقَطَعَهَا. فَقِيلَ: إِنَّهُ أَبَانَهَا. وَقِيلَ: بَلْ قَطَعَهَا وَلَمْ يُبِنْهَا. إِلَّا أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَأَوَّلُ يَدٍ كَتَبَتِ الْمُفَصَّلَ. فَكَانَ أَوَّلُ قَطْرَةِ دَمٍ مِنْهَا سَقَطَتْ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [ الْبَقَرَةِ: 137 ]. ثُمَّ جَاءَ آخَرُ شَاهِرًا سَيْفَهُ، فَاسْتَقْبَلَتْهُ نَائِلَةُ بِنْتُ الْفَرَافِصَةِ لِتَمْنَعَهُ مِنْهُ، وَأَخَذَتِ السَّيْفَ فَانْتَزَعَهُ مِنْهَا فَقَطَعَ أَصَابِعَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ السَّيْفَ فِي بَطْنِهِ فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْ عُثْمَانَ وَأَرْضَاهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْغَافِقِيَّ بْنَ حَرْبٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بَعْدَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَضَرَبَهُ بِحَدِيدَةٍ فِي يَدِهِ، وَرَفَسَ الْمُصْحَفَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ بِرِجْلِهِ، فَاسْتَدَارَ الْمُصْحَفُ ثُمَّ اسْتَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسَالَتْ عَلَيْهِ الدِّمَاءُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ سُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ بِالسَّيْفِ فَمَانَعَتْهُ نَائِلَةُ، فَقَطَعَ أَصَابِعَهَا، فَوَلَّتْ فَضَرَبَ عَجِيزَتَهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ: إِنَّهَا لِكَبِيرَةُ الْعَجِيزَةِ. وَضَرَبَ عُثْمَانَ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَ غُلَامُ عُثْمَانَ فَضَرَبَ

سُودَانَ فَقَتَلَهُ، فَضَرَبَ الْغُلَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: قُتَيْرَةُ. فَقَتَلَهُ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُمْ أَرَادُوا حَزَّ رَأْسِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ، فَصَاحَ النِّسَاءُ وَضَرَبْنَ وُجُوهَهُنَّ ; فِيهِنَّ امْرَأَتَاهُ نَائِلَةُ وَأُمُّ الْبَنِينَ وَبَنَاتُهُ، فَقَالَ ابْنُ عُدَيْسٍ: اتْرُكُوهُ ! فَتَرَكُوهُ. ثُمَّ مَالَ هَؤُلَاءِ الْفَجَرَةُ عَلَى مَا فِي الْبَيْتِ فَنَهَبُوهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نَادَى مُنَادِيهِمْ: أَيَحِلُّ لَنَا دَمُهُ وَلَا يَحِلُّ لَنَا مَالُهُ ! فَانْتَهَبُوهُ، ثُمَّ خَرَجُوا فَأَغْلَقُوا الْبَابَ عَلَى عُثْمَانَ وَقَتِيلَيْنِ مَعَهُ، فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى صَحْنِ الدَّارِ وَثَبَ غُلَامٌ لِعُثْمَانَ عَلَى قُتَيْرَةَ فَقَتَلَهُ، وَجَعَلُوا لَا يَمُرُّونَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَخَذُوهُ، حَتَّى اسْتَلَبَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: كُلْثُومٌ التُّجِيبِيُّ، مُلَاءَةَ نَائِلَةَ، فَضَرَبَهُ غُلَامٌ لِعُثْمَانَ فَقَتَلَهُ، وَقُتِلَ الْغُلَامُ أَيْضًا، ثُمَّ تَنَادَى الْقَوْمُ: أَنْ أَدْرِكُوا بَيْتَ الْمَالِ لَا تَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ. فَسَمِعَهُمْ حَفَظَةُ بَيْتِ الْمَالِ فَقَالُوا: يَا قَوْمُ النَّجَاءَ النَّجَاءَ ! فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَمْ يَصْدُقُوا فِيمَا قَالُوا مِنْ أَنَّ قَصْدَهُمْ قِيَامُ الْحَقِّ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ادَّعَوْا أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَامُوا لِأَجْلِهِ، وَكَذَبُوا إِنَّمَا قَصْدُهُمُ الدُّنْيَا. فَانْهَزَمُوا وَجَاءَ الْخَوَارِجُ فَأَخَذُوا مَالَ بَيْتِ الْمَالِ وَكَانَ فِيهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ سَهْمِ بْنِ خَنْبَسٍ أَبِي خَنْبَشٍ أَوْ خُنَيْسٍ الْأَزْدِيِّ - وَكَانَ قَدْ شَهِدَ الدَّارَ - وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الرَّحْبِيِّ، عَنْهُ وَكَانَ قَدِ اسْتَدْعَاهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى دَيْرِ سَمْعَانَ، فَسَأَلَهُ عَنْ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، فَذَكَرَ مَا مُلَخَّصُهُ أَنَّ وَفْدَ الْأَشْقِيَاءِ وَهُمْ وَفْدُ مِصْرَ كَانُوا قَدْ قَدِمُوا عَلَى عُثْمَانَ فَأَجَازَهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، فَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ، ثُمَّ كَرُّوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَافَقُوا عُثْمَانَ قَدْ خَرَجَ لِصَلَاةِ الْغَدَاةِ أَوِ الظُّهْرِ، فَحَصَبُوهُ بِالْحَصَا وَالنِّعَالِ وَالْخِفَافِ، فَانْصَرَفَ إِلَى الدَّارِ وَمَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالزُّبَيْرُ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَطَلْحَةُ وَمَرْوَانُ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ الْأَخْنَسِ فِي أُنَاسٍ، وَأَطَافَ وَفْدُ مِصْرَ بِدَارِهِ، فَاسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي أُشِيرُ بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ ; إِمَّا أَنْ تُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فَتَحْرُمَ عَلَيْهِمْ دِمَاؤُنَا، وَإِمَّا أَنْ نَرْكَبَ مَعَكَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، وَإِمَّا أَنْ نَخْرُجَ فَنَضْرِبَ بِالسَّيْفِ إِلَى أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَإِنَّا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْإِحْرَامِ بِعُمْرَةٍ فَتَحْرُمُ دِمَاؤُنَا فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَا حَلَالًا الْآنَ وَحَالَ الْإِحْرَامِ وَبَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَأَمَّا الذَّهَابُ إِلَى الشَّامِ فَإِنِّي أَسْتَحْيِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْ بَيْنِهِمْ خَائِفًا فَيَرَانِي أَهْلُ الشَّامِ وَتَسْمَعُ الْأَعْدَاءُ مِنَ الْكُفَّارِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْقِتَالُ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ يُهَرَاقُ بِسَبَبِي مِحْجَمَةُ دَمٍ. قَالَ: ثُمَّ صَلَّيْنَا مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَتَيَانِي اللَّيْلَةَ

فَقَالَا لِي: صُمْ يَا عُثْمَانُ فَإِنَّكَ تُفْطِرُ عِنْدَنَا. وَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا، وَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَى مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدَّارِ سَالِمًا مَسْلُومًا مِنْهُ. فَقُلْنَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ خَرَجْنَا لَمْ نَأْمَنْ مِنْهُمْ عَلَيْنَا، فَائْذَنْ لَنَا أَنْ نَكُونَ فِي بَيْتٍ مِنَ الدَّارِ تَكُونُ لَنَا فِيهِ جَمَاعَةٌ وَمَنَعَةٌ. ثُمَّ أَمَرَ بِبَابِ الدَّارِ فَفُتِحَ، وَدَعَا بِالْمُصْحَفِ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ امْرَأَتَاهُ بِنْتُ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةُ وَابْنَةُ شَيْبَةَ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ: دَعْهَا يَا ابْنَ أَخِي فَوَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ أَبُوكَ يَتَلَهَّفُ لَهَا بِأَدْنَى مِنْ هَذَا. فَاسْتَحْيَى فَخَرَجَ فَقَالَ لِلْقَوْمِ: قَدْ أَشْعَرْتُهُ لَكُمْ. وَأَخَذَ عُثْمَانُ مَا امْتُعِطَ مِنْ لِحْيَتِهِ فَأَعْطَاهُ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ رُومَانُ بْنُ سُودَانَ، رَجُلٌ أَزْرَقُ قَصِيرٌ مُخَدَّدٌ، عِدَادُهُ مِنْ مُرَادٍ مَعَهُ جُرْزٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَاسْتَقْبَلَهُ فَقَالَ: عَلَى أَيِّ مِلَّةٍ أَنْتَ يَا نَعْثَلُ ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: لَسْتُ بِنَعْثَلٍ وَلَكِنِّي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَأَنَا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَقَالَ: كَذَبْتَ. وَضَرَبَهُ بِالْجُرْزِ عَلَى صُدْغِهِ الْأَيْسَرِ فَقَتَلَهُ فَخَرَّ، فَأَدْخَلَتْهُ بِنْتُ الْفَرَافِصَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ثِيَابِهَا - وَكَانَتِ امْرَأَةً جَسِيمَةً ضَلِيعَةً - فَأَلْقَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، وَأَلْقَتْ بِنْتَ شَيْبَةَ نَفْسَهَا عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ

جَسَدِهِ وَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ بِالسَّيْفِ مُصْلَتًا فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَقْطَعَنَّ أَنْفَهُ. فَعَالَجَ الْمَرْأَةَ عَنْهُ، فَغَلَبَتْهُ، فَكَشَفَ عَنْهَا دِرْعَهَا مِنْ خَلْفِهَا حَتَّى نَظَرَ إِلَى مَتْنِهَا، فَلَمَّا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ أَدْخَلَ السَّيْفَ بَيْنَ قُرْطِهَا وَمَنْكِبِهَا، فَقَبَضَتْ عَلَى السَّيْفِ فَقَطَعَ أَنَامِلَهَا، فَقَالَتْ يَا رَبَاحُ - لِغُلَامِ عُثْمَانَ أَسْوَدَ - يَا غُلَامُ ادْفَعْ عَنِّي هَذَا الرَّجُلَ. فَمَشَى إِلَيْهِ الْغُلَامُ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْبَيْتِ يُقَاتِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَقُتِلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ الْأَخْنَسِ وَجُرِحَ مَرْوَانُ. قَالَ: فَلَمَّا أَمْسَيْنَا قُلْنَا: إِنْ تَرَكْتُمْ صَاحِبَكُمْ حَتَّى يُصْبِحَ مَثَّلُوا بِهِ. فَاحْتَمَلْنَاهُ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَغَشِيَنَا سَوَادٌ مِنْ خَلْفِنَا فَهِبْنَاهُمْ وَكِدْنَا أَنْ نَتَفَرَّقَ عَنْهُ، فَنَادَى مُنَادِيهِمْ: أَنْ لَا رَوْعَ عَلَيْكُمْ، اثْبُتُوا إِنَّمَا جِئْنَا لِنَشْهَدَهُ مَعَكُمْ - وَكَانَ أَبُو خُنَيْسٍ يَقُولُ: هُمْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ - فَدَفَنَّاهُ ثُمَّ هَرَبْنَا إِلَى الشَّامِ مِنْ لَيْلَتِنَا، فَلَقِينَا الْجَيْشَ بِوَادِي الْقُرَى عَلَيْهِمْ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ.

فَصْلٌ ( تَعْلِيقَاتٌ عَلَى مَقْتَلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ )
وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا الْأَمْرُ الْعَظِيمُ الْفَظِيعُ الشَّنِيعُ أُسْقِطَ فِي أَيْدِي النَّاسِ،

فَأَعْظَمُوهُ جِدًّا، وَنَدِمَ أَكْثَرُ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةِ الْخَوَارِجِ عَلَى مَا صَنَعُوا، وَأَشْبَهُوا مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِمَّنْ قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا خَبَرَهُمْ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، مِنَ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 149 ]
وَلَمَّا بَلَغَ الزُّبَيْرَ مَقْتَلُ عُثْمَانَ - وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ - قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ تَرَحَّمَ عَلَى عُثْمَانَ، وَبَلَغَهُ أَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوهُ نَدِمُوا فَقَالَ: تَبًّا لَهُمْ. ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [ يس: 48، 49 ]. وَبَلَغَ عَلِيًّا قَتْلُهُ فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَسَمِعَ بِنَدَمِ الَّذِينَ قَتَلُوهُ فَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ الْآيَةَ [ الْحَشْرِ: 16 ]. وَلَمَّا بَلَغَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَتْلُ عُثْمَانَ اسْتَغْفَرَ لَهُ، وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَتَلَا فِي حَقِّ الَّذِينَ قَتَلُوهُ: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [ الْكَهْفِ: 103، 104 ]. ثُمَّ قَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ أَنْدِمْهُمْ ثُمَّ خُذْهُمْ. وَقَدْ أَقْسَمَ بَعْضُ السَّلَفِ بِاللَّهِ أَنَّهُ مَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ إِلَّا مَقْتُولًا. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ؛ لِوُجُوهٍ مِنْهَا، دَعْوَةُ سَعْدٍ الْمُسْتَجَابَةُ، كَمَا ثَبَتَ فِي

الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى جُنَّ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: الَّذِي قَتَلَ عُثْمَانَ كِنَانَةُ بْنُ بِشْرِ بْنِ عَتَّابٍ التُّجِيبِيُّ، وَكَانَتِ امْرَأَةُ مَنْظُورِ بْنِ سَيَّارٍ الْفَزَارِيِّ تَقُولُ: خَرَجْنَا إِلَى الْحَجِّ وَمَا عَلِمْنَا لِعُثْمَانَ بِقَتْلٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ سَمِعْنَا رَجُلًا يُغَنِّي تَحْتَ اللَّيْلِ:
أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ قَتِيلُ التُّجِيبِيِّ الَّذِي جَاءَ مِنْ مِصْرِ
وَلَمَّا رَجَعَ الْحَجِيجُ وَجَدُوا عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَدْ قُتِلَ وَبَايَعَ النَّاسُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَمَّا بَلَغَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ، رَجَعْنَ إِلَى مَكَّةَ، فَأَقَمْنَ بِهَا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَمَا سَيَأْتِي.

فَصْلٌ ( مُدَّةُ حِصَارِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ )
كَانَتْ مُدَّةُ حَصْرِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي دَارِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى

الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ: كَانَتْ بِضْعًا وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَتْ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً. ثُمَّ كَانَ قَتْلُهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ مَشَايِخِهِ: فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْهَا. وَنَصَّ عَلَيْهِ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ وَآخَرُونَ. وَقَالَ آخَرُونَ: ضَحْوَةً. وَهَذَا أَشْبَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ: فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، ثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، ثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قُتِلَ عُثْمَانُ فَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ قُتِلَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ - وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: قُتِلَ عُثْمَانُ فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قُتِلَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَقِيلَ: قُتِلَ يَوْمَ النَّحْرِ. حَكَاهُ

ابْنُ عَسَاكِرَ. وَيُسْتَشْهَدُ لَهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
ضَحَّوْا بَأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنَا
قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَشْهَرُ. وَهُوَ أَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. قَالَهُ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ وَطَائِفَةٌ. وَهُوَ غَرِيبٌ. فَكَانَتْ خِلَافَتُهُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا ; لِأَنَّهُ بُويِعَ لَهُ فِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ.
فَأَمَّا عُمُرُهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ. فَقِيلَ: إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: وَأَشْهُرٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعٌ وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَقَالَ

أَحْمَدُ، عَنْ حَسَنِ بْنِ مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ، عَنْ قَتَادَةَ: تُوُفِّيَ عُثْمَانُ عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ أَوْ تِسْعِينَ سَنَةً. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: تُوُفِّيَ عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَعَنْ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ: تُوُفِّيَ عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ مَشَايِخِهِ ; وَهُمْ مُحَمَّدٌ وَطَلْحَةُ وَأَبُو عُثْمَانَ وَأَبُو حَارِثَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: قُتِلَ عُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَأَمَّا مَوْضِعُ قَبْرِهِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ دُفِنَ بِحَشِّ كَوْكَبٍ - شَرْقِيَّ الْبَقِيعِ - وَقَدْ بُنِيَ عَلَيْهِ زَمَانَ بَنِي أُمَيَّةَ قُبَّةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى الْيَوْمِ. قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ يَمُرُّ بِمَكَانِ قَبْرِهِ مِنْ حَشِّ كَوْكَبٍ فَيَقُولُ: إِنَّهُ سَيُدْفَنُ هَاهُنَا رَجُلٌ صَالِحٌ
. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَقِيَ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يُدْفَنُ. قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ اشْتَغَلَ النَّاسُ عَنْهُ بِمُبَايَعَةِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى تَمَّتْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَكَثَ لَيْلَتَيْنِ. وَقِيلَ: بَلْ دُفِنَ مِنْ لَيْلَتِهِ. ثُمَّ كَانَ دَفْنُهُ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ خِيفَةً مِنَ الْخَوَارِجِ. وَقِيلَ: بَلِ اسْتُؤْذِنَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ رُؤَسَائِهِمْ.

فَخَرَجُوا بِهِ فِي نَفَرٍ قَلِيلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ; مِنْهُمْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَأَبُو الْجَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ، وَنِيَارُ بْنُ مُكْرَمٍ الْأَسْلَمِيُّ، وَجَبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَنِسَائِهِ ; مِنْهُنَّ امْرَأَتَاهُ نَائِلَةُ وَأُمُّ الْبَنِينَ بِنْتُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَصِبْيَانٌ. وَهَذَا مَجْمُوعٌ مِنْ كَلَامِ الْوَاقِدِيِّ وَسَيْفِ بْنِ عُمَرَ التَّمِيمِيِّ.
قَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: صَلَّى الزُّبَيْرُ عَلَى عُثْمَانَ وَدَفَنَهُ وَكَانَ أَوْصَى إِلَيْهِ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ أَبِيهِ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ دُفِنَ فِي ثِيَابِهِ بِدِمَائِهِ وَلَمْ يُغَسَّلْ.
وَحَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ خَدَمِهِ بَعْدَ مَا غَسَّلُوهُ وَكَفَّنُوهُ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُكَفَّنْ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَصَلَّى عَلَيْهِ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ. وَقِيلَ: الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ. وَقِيلَ: حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ. وَقِيلَ: مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ. وَقِيلَ: الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ. وَقَدْ عَارَضَهُ بَعْضُ الْخَوَارِجِ وَأَرَادُوا رَجْمَهُ وَإِلْقَاءَهُ عَنْ سَرِيرِهِ،

وَعَزَمُوا عَلَى أَنْ يُدْفَنَ بِمَقْبَرَةِ الْيَهُودِ بِدَيْرِ سَلْعٍ، حَتَّى بَلَغَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَحَمَلَ جِنَازَتَهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَأَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ، وَنِيَارُ بْنُ مُكْرَمٍ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ لَمَّا وُضِعَ لِيُصَلَّى عَلَيْهِ - عِنْدَ مُصَلَّى الْجَنَائِزِ - أَرَادَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ: ادْفِنُوهُ فَقَدْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ. ثُمَّ قَالُوا: لَا يُدْفَنُ فِي الْبَقِيعِ، وَلَكِنِ ادْفِنُوهُ وَرَاءَ الْحَائِطِ. فَدَفَنُوهُ شَرْقِيَّ الْبَقِيعِ تَحْتَ نَخَلَاتٍ هُنَاكَ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ عُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ نَزَا عَلَى سَرِيرِهِ وَهُوَ مَوْضُوعٌ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَكَسَرَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، وَقَالَ: أَحَبَسْتَ ضَابِئًا حَتَّى مَاتَ فِي السِّجْنِ ؟ وَقَدْ قَتَلَ الْحَجَّاجُ فِيمَا بَعْدُ عُمَيْرَ بْنَ ضَابِئٍ هَذَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ ": حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عِيسَى بْنِ مِنْهَالٍ، ثَنَا غَالِبٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كُنْتُ أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ وَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. وَمَا أَظُنُّ أَنْ تَغْفِرَ لِي. فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا سَمِعْتُ أَحَدًا

يَقُولُ مَا تَقُولُ. قَالَ: كُنْتُ أَعْطَيْتُ اللَّهَ عَهْدًا إِنْ قَدَرْتُ أَنْ أَلْطِمَ وَجْهَ عُثْمَانَ إِلَّا لَطْمَتُهُ، فَلَمَّا قُتِلَ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ فِي الْبَيْتِ وَالنَّاسُ يَجِيئُونَ فَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ، فَدَخَلْتُ كَأَنِّي أُصَلِّي عَلَيْهِ فَوَجَدْتُ خَلْوَةً فَرَفَعْتُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ فَلَطَمْتُهُ، وَسَجَّيْتُهُ، وَقَدْ يَبِسَتْ يَمِينِي. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: فَرَأَيْتُهَا يَابِسَةً كَأَنَّهَا عُودٌ.
ثُمَّ خَرَجُوا بِعَبْدَيْ عُثْمَانَ اللَّذَيْنِ قُتِلَا فِي الدَّارِ ; وَهُمَا صُبَيْحٌ وَنُجَيْحٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَدُفِنَا إِلَى جَانِبِهِ بِحَشِّ كَوْكَبٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْخَوَارِجَ لَمْ يُمَكِّنُوا مِنْ دَفْنِهِمَا، بَلْ جَرُّوهُمَا بِأَرْجُلِهِمَا حَتَّى أَلْقَوْهُمَا بِالْبَلَاطِ فَأَكَلَتْهُمَا الْكِلَابُ.
وَقَدِ اعْتَنَى مُعَاوِيَةُ فِي أَيَّامِ إِمَارَتِهِ بِقَبْرِ عُثْمَانَ، وَرَفَعَ الْجِدَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَقِيعِ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَدْفِنُوا مَوْتَاهُمْ حَوْلَهُ حَتَّى اتَّصَلَتْ بِمَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ.

ذِكْرُ صِفَتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
كَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَسَنَ الْوَجْهِ، رَقِيقَ الْبَشَرَةِ، كَبِيرَ اللِّحْيَةِ، مُعْتَدِلَ الْقَامَةِ، عَظِيمَ الْكَرَادِيسِ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ، حَسَنَ الثَّغْرِ، فِيهِ سُمْرَةٌ. وَقِيلَ: بَيَاضٌ. وَقِيلَ: كَانَ فِي وَجْهِهِ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ الْجُدَرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ: كَانَ حَسَنَ الْوَجْهِ وَالشَّعْرِ، مَرْبُوعًا، أَضْلَعَ، أَرْوَحَ الرِّجْلَيْنِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، ثَنَا سَالِمٌ أَبُو جُمَيْعٍ، ثَنَا الْحَسَنُ وَذَكَرَ عُثْمَانَ وَشِدَّةَ حَيَائِهِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ لَيَكُونُ فِي الْبَيْتِ وَالْبَابُ عَلَيْهِ مُغْلَقٌ، فَمَا يَضَعُ عَنْهُ الثَّوْبَ لِيُفِيضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ; يَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ أَنْ يُقِيمَ صُلْبَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، ثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: زَعَمَ أَبُو الْمِقْدَامِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا أَنَا بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ

مُتَوَكِّئٌ عَلَى رِدَائِهِ، فَأَتَاهُ سَقَّاءَانِ يَخْتَصِمَانِ فَقَضَى بَيْنَهُمَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، بِوَجْنَتَيْهِ نَكَتَاتُ جُدَرِيٍّ، وَإِذَا شَعْرُهُ قَدْ كَسَا ذِرَاعَيْهِ. وَقَالَ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثَنِي مَنْ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ضَبَّبَ أَسْنَانَهُ بِالذَّهَبِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: كَانَ لِعُثْمَانَ عِنْدَ خَازِنِهِ يَوْمَ قُتِلَ ثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَخَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَخَمْسُونَ وَمِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، فَانْتُهِبَتْ وَذَهَبَتْ، وَتَرَكَ أَلْفَ بَعِيرٍ بِالرَّبَذَةِ، وَتَرَكَ صَدَقَاتٍ كَانَ تَصَدَّقَ بِهَا ; بِبِئْرِ أَرِيسٍ، وَخَيْبَرَ، وَوَادِي الْقُرَى قِيمَةَ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا أَرْطَاةُ بْنُ الْمُنْذِرِ، ثَنَا أَبُو عَوْنٍ الْأَنْصَارِيُّأَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ أَنْتَ مُنْتَهٍ عَمَّا بَلَغَنِي عَنْكَ ؟

فَاعْتَذَرَ بَعْضُ الْعُذْرِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ وَحَفِظْتُ، وَلَيْسَ كَمَا سَمِعْتَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّهُ سَيُقْتَلُ أَمِيرٌ، وَيَنْتَزِي مُنْتَزٍ ". وَإِنِّي أَنَا الْمَقْتُولُ وَلَيْسَ عُمَرُ، إِنَّ عُمَرَ قَتَلَهُ وَاحِدٌ وَإِنَّهُ سَيُجْتَمَعُ عَلَيَّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَهْلَةَ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ يَوْمَ الدَّارِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَهِدَ لِي عَهْدًا فَأَنَا صَابِرٌ عَلَيْهِ. قَالَ قَيْسٌ: فَكَانُوا يَرَوْنَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ.
وَفِي " مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى "، مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَهْلَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَتُبْتَلَى بَعْدِي فَلَا تُقَاتِلْ "

فَصْلٌ ( كَلَامُ الصَّحَابَةِ فِي مَقْتَلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ )
قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ الْفِتَنِ قَتْلُ عُثْمَانَ، وَآخِرُ الْفِتَنِ الدَّجَّالُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ شَبَابَةَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ مُوَرِّقٍ

الْبَاهِلِيِّ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ الصَّوَّافِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ. قَالَ: أَوَّلُ الْفِتَنِ قَتْلُ عُثْمَانَ، وَآخِرُ الْفِتَنِ خُرُوجُ الدَّجَّالِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَمُوتُ رَجُلٌ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ حُبِّ قَتْلِ عُثْمَانَ إِلَّا تَبِعَ الدَّجَّالَ إِنْ أَدْرَكَهُ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ آمَنَ بِهِ فِي قَبْرِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، أَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكِلَابِيُّ، ثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ، حَدَّثَنِي عَوْفٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ قَتْلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ خَيْرًا فَلَيْسَ لِي فِيهِ نَصِيبٌ، وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ شَرًّا فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ قَتْلُهُ خَيْرًا لَتَحْلُبُنَّهُ لَبَنًا، وَلَئِنْ كَانَ قَتْلُهُ شَرًّا لَتَمْتَصُّنَّ بِهِ دَمًا. وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ".
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ:
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ: ذَكَرَ يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّجْرَانِيُّ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ، كَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ إِخْوَانِهِ وَهُوَ يُنَاجِي امْرَأَتَهُ، فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ فَسَأَلَهُمَا فَقَالَا: خَيْرٌ. فَقَالَ:

إِنَّ شَيْئًا تُسِرَّانِهِ دُونِي مَا هُوَ بِخَيْرٍ. قَالَ: قُتِلَ الرَّجُلُ. يَعْنِي عُثْمَانَ. قَالَ: فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ بِمَعْزِلٍ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا فَهُوَ لِمَنْ حَضَرَهُ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَهُوَ لِمَنْ حَضَرَهُ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، الْيَوْمَ نَفَرَتِ الْقُلُوبُ بِأَنْفَارِهَا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَبَقَ بِيَ الْفِتَنَ، قَادَتَهَا وَعُلُوجَهَا، الْحَظِيُّ مَنْ تَرَدَّى بَعِيرُهُ، فَشَبِعَ شَحْمَا وَقَلَّ عَمَلُهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: لَوْ كَانَ قَتْلُ عُثْمَانَ هُدًى، لَاحْتَلَبَتْ بِهِ الْأُمَّةُ لَبَنًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ ضَلَالًا، فَاحْتَلَبَتْ بِهِ الْأُمَّةُ دَمًا. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ، أَنَا الصَّعِقُ بْنُ حَزْنٍ، ثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ زَهْدَمٍ الْجَرْمِيِّ قَالَ: خَطَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ لَمْ يَطْلُبِ النَّاسُ بِدَمِ عُثْمَانَ لَرُمُوا بِالْحِجَارَةِ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عَنْهُ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْأَنْصَارِيِّ

قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ جِئْتُ عَلِيًّا وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ فَقُلْتُ لَهُ: قُتِلَ عُثْمَانُ. فَقَالَ: تَبًّا لَهُمْ آخِرَ الدَّهْرِ. وَفِي رِوَايَةٍ: خَيْبَةً لَهُمْ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا وَهُوَ بِبَابِ الْمَسْجِدِ، أَوْ عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ رَافِعًا صَوْتَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ. وَقَالَ أَبُو هِلَالٍ: عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قُتِلَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ غَائِبٌ فِي أَرْضٍ لَهُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَرْضَ وَلَمْ أُمَالِئْ.
وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ عَنْ سَيَّارِ بْنِ سَلَامَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ عَلِيًّا دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ سَيَلْحَقُ بِهِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُسٍ.
، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُ، وَلَا أَمَرْتُ، وَلَكِنِّي غُلِبْتُ. وَرَوَاهُ غَيْرُ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَلِيٍّ نَحْوَهُ.
وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: إِنْ شَاءَ النَّاسُ حَلَفْتُ لَهُمْ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ بِاللَّهِ، مَا قَتَلْتُ عُثْمَانَ، وَلَا أَمَرْتُ بِقَتْلِهِ، وَلَقَدْ نَهَيْتُهُمْ فَعَصَوْنِي. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَلِيٍّ بِنَحْوِهِ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِيُّ: ثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَوْمَ الْجَمَلِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ، وَلَقَدْ طَاشَ عَقْلِي يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ، وَأَنْكَرْتُ نَفْسِي وَجَاءُونِي لِلْبَيْعَةِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لِأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أُبَايِعَ قَوْمًا قَتَلُوا رَجُلًا قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أَسْتَحْيِي مِمَّنْ تَسْتَحْيِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ. وَإِنِّي لِأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أُبَايِعَ وَعُثْمَانُ قَتِيلٌ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يُدْفَنْ بَعْدُ. فَانْصَرَفُوا، فَلَمَّا دُفِنَ رَجَعَ النَّاسُ يَسْأَلُونِي الْبَيْعَةَ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَمُشْفِقٌ مِمَّا أُقْدِمُ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَتْ عَزْمَةٌ فَبَايَعْتُ، فَلَمَّا قَالُوا: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي وَانْسَكَبْتُ بِعَبْرَةٍ.
وَقَدِ اعْتَنَى الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ بِجَمْعِ الطُّرُقِ الْوَارِدَةِ عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ، وَكَانَ يُقْسِمُ عَلَى ذَلِكَ فِي خُطَبِهِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، وَلَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَلَا مَالَأَ، وَلَا رَضِيَ بِهِ، وَلَقَدْ نَهَى عَنْهُ فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ. ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ تُفِيدُ الْقَطْعَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ أَكُونَ أَنَا وَعُثْمَانُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ

[ الْحِجْرِ: 47 ]. وَثَبَتَ عَنْهُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، خَيْرَنَا، وَأَوْصَلَنَا لِلرَّحِمِ، وَأَشَدَّنَا حَيَاءً، وَأَحْسَنَنَا طُهُورًا، وَأَتْقَانَا لِلرَّبِّ، عَزَّ وَجَلَّ.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مَجَالِدٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ زَوْذِيٍّ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: خَطَبَ عَلِيٌّ فَقَطَعَ الْخَوَارِجُ عَلَيْهِ خُطْبَتَهُ، فَنَزَلَ فَقَالَ: إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ عُثْمَانَ كَمَثَلِ أَثْوَارٍ ثَلَاثَةٍ ; أَحْمَرَ وَأَبْيَضَ وَأَسْوَدَ، وَمَعَهُمْ فِي أَجَمَةٍ أَسَدٌ، فَكَانَ كُلَّمَا أَرَادَ قَتْلَ أَحَدِهِمْ مَنَعَهُ الْآخَرَانِ، فَقَالَ لِلْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ: إِنَّ هَذَا الْأَبْيَضَ قَدْ فَضَحَنَا فِي هَذِهِ الْأَجَمَةِ فَخَلِّيَا عَنْهُ حَتَّى آكُلَهُ. فَخَلَّيَا عَنْهُ فَأَكَلَهُ، ثُمَّ كَانَ كُلَّمَا أَرَادَ أَحَدَهُمَا مَنَعَهُ الْآخَرُ، فَقَالَ لِلْأَحْمَرِ: إِنَّ هَذَا الْأَسْوَدَ قَدْ فَضَحَنَا فِي هَذِهِ الْأَجَمَةِ، وَإِنَّ لَوْنِي عَلَى لَوْنِكَ، فَلَوْ خَلَّيْتَ عَنْهُ أَكَلْتُهُ. فَخَلَّى عَنْهُ الْأَحْمَرُ فَأَكَلَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْأَحْمَرِ: إِنِّي آكِلُكَ. فَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَصِيحَ ثَلَاثَ صَيْحَاتٍ. فَقَالَ: دُونَكَ. فَقَالَ: أَلَا إِنِّي إِنَّمَا أُكِلْتُ يَوْمَ أُكِلَ الْأَبْيَضُ. ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: وَإِنَّمَا أَنَا وَهَنْتُ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ. قَالَهَا ثَلَاثًا.

وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ سَوَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيِّ الْقَاضِي، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَجِيءُ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَتَحْمِلُ وِقْرَهَا وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ بَدِّلْ، اللَّهُمَّ غَيِّرْ. فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ حِينَ قُتِلَ عُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
قُلْتُمُ بَدِّلْ فَقَدْ بَدَّلَكُمْ سَنَةً حَرَّى وَحَرْبًا كَاللَّهَبْ مَا نَقِمْتُمْ مِنْ ثِيَابٍ خِلْفَةٍ
وَعَبِيدٍ وَإِمَاءٍ وَذَهَبْ
قَالَ: وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ - وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ فِي مَنْ جَانَبَ عُثْمَانَ - فَلَمَّا قُتِلَ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَدْنَا قَتْلَهُ، وَلَا كُنَّا نَرَى أَنْ يَبْلُغَ مِنْهُ الْقَتْلَ، اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ أَنْ لَا أَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا، وَلَا أَضْحَكَ حَتَّى أَلْقَاكَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنَّ عُمَرَ مُوثِقِي وَأُخْتَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَوِ ارْفَضَّ أُحُدٌ فِيمَا صَنَعْتُمْ بِابْنِ عَفَّانَ،

لَكَانَ حَقِيقًا. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ".
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ رَجُلًا يَقُولُ لِآخَرَ: قُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَلَمْ يَنْتَطِحُ فِيهِ عَنْزَانِ. فَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ: أَجَلْ إِنَّ الْبَقَرَ وَالْمَعْزَ لَا تَنْتَطِحُ فِي قَتْلِ الْخَلِيفَةِ، وَلَكِنْ تَنْتَطِحُ فِيهِ الرِّجَالُ بِالسِّلَاحِ، وَاللَّهِ لَيُقْتَلَنَّ بِهِ أَقْوَامٌ، إِنَّهُمْ لَفِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ مَا وُلِدُوا بَعْدُ.
وَقَالَ لَيْثٌ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ سَلَامٍ: يُحَكَّمُ عُثْمَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْقَاتِلِ وَالْخَاذِلِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَحَامِلِيُّ: ثَنَا أَبُو الْأَشْعَثِ، ثَنَا حَزْمُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ، سَمِعْتُ أَبَا الْأَسْوَدِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ: لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُشْرَكَ فِي دَمِ عُثْمَانَ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْهُنَائِيُّ، ثَنَا الْبَرَاءُ بْنُ أَبِي فَضَالَةَ، ثَنَا الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ أَبِي مَرْيَمَ رَضِيعِ

الْجَارُودِ قَالَ: كُنْتُ بِالْكُوفَةِ فَقَامَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ خَطِيبًا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ فِي مَنَامِي عَجَبًا ; رَأَيْتُ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَوْقَ عَرْشِهِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى قَامَ عِنْدَ قَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَكَانَ نُبْذَةً، فَقَالَ: رَبِّ سَلْ عِبَادَكَ فِيمَ قَتَلُونِي ؟ فَانْبَعَثَ مِنَ السَّمَاءِ مِيزَابَانِ مِنْ دَمٍ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: فَقِيلَ لِعَلِيٍّ: أَلَا تَرَى مَا يُحَدِّثُ بِهِ الْحَسَنُ ؟ فَقَالَ: حَدَّثَ بِمَا رَأَى.

وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى أَيْضًا، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ وَكِيعٍ، عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُجَالِدٍ، عَنْ طُحْرُبٍ الْعِجْلِيِّ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ: مَا كُنْتُ لِأُقَاتِلَ بَعْدَ رُؤْيَا رَأَيْتُهَا ; رَأَيْتُ الْعَرْشَ، وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُتَعَلِّقًا بِالْعَرْشِ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ عُمَرُ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِ أَبِي بَكْرٍ، وَرَأَيْتُ عُثْمَانَ وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى مَنْكِبِ

عُمَرَ، وَرَأَيْتُ دَمًا دُونَهُمْ فَقُلْتُ: مَا هَذَا ؟ فَقِيلَ: هَذَا دَمُ عُثْمَانَ يَطْلُبُ اللَّهَ بِهِ.
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: ثَنَا سَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ شَبِيبٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ: نَفَرَتِ الْقُلُوبُ مَنَافِرَهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَتَآلَفُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: مُصْتُمُوهُ مَوْصَ الْإِنَاءِ ثُمَّ قَتَلْتُمُوهُ.
وَقَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: ثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: غَضِبْتُ لَكُمْ مِنَ السَّوْطِ وَلَا أَغْضَبُ لِعُثْمَانَ مِنَ السَّيْفِ ! اسْتَعْتَبْتُمُوهُ حَتَّى إِذَا تَرَكْتُمُوهُ كَالْقَلْبِ الْمُصَفَّى قَتَلْتُمُوهُ.
وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ حِينَ قُتِلَ عُثْمَانُ: تَرَكْتُمُوهُ كَالثَّوْبِ النَّقِيِّ مِنَ الدَّنَسِ ثُمَّ قَتَلْتُمُوهُ. وَفِي

رِوَايَةٍ: ثُمَّ قَرَّبْتُمُوهُ فَذَبَحْتُمُوهُ كَمَا يُذْبَحُ الْكَبْشُ. فَقَالَ لَهَا مَسْرُوقٌ: هَذَا عَمَلُكِ، أَنْتِ كَتَبْتِ إِلَى النَّاسِ تَأْمُرِينَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَيْهِ. فَقَالَتْ: لَا وَالَّذِي آمَنَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَكَفَرَ بِهِ الْكَافِرُونَ، مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ حَتَّى جَلَسْتُ مَجْلِسِي هَذَا. قَالَ الْأَعْمَشُ: فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَى لِسَانِهَا. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَيْهَا. وَفِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْخَوَارِجَ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، زَوَّرُوا كُتُبًا عَلَى لِسَانِ الصَّحَابَةِ إِلَى الْآفَاقِ، يُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى قِتَالِ عُثْمَانَ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا حَزْمٌ الْقُطَعِيُّ، ثَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ بْنُ سَوَادَةَ، أَخْبَرَنِي طَلْقُ بْنُ خُشَّافٍ. قَالَ: قُتِلَ عُثْمَانُ فَتَفَرَّقْنَا فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَسْأَلُهُمْ عَنْ قَتْلِهِ، فَسَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: قُتِلَ مَظْلُومًا لَعَنَ اللَّهُ قَتَلَتَهُ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ لَمَّا سَمِعَتْ بِقَتْلِ عُثْمَانَ: رَحِمَهُ اللَّهُ، أَمَا إِنَّهُمْ لَنْ

يَحْتَلِبُوا بَعْدَهُ إِلَّا دَمًا.
وَأَمَّا كَلَامُ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَكَثِيرٌ جِدًّا يَطُولُ ذِكْرُنَا لَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ حِينَ رَأَى الْوَفْدَ الَّذِينَ قَدِمُوا مِنْ قَتْلِهِ: أَمَا مَرَرْتُمْ بِبِلَادِ ثَمُودَ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكُمْ مِثْلُهُمْ، لَخَلِيفَةُ اللَّهِ أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْ نَاقَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَوْ كَانَ قَتْلُ عُثْمَانَ هُدًى لَاحْتَلَبَتْ بِهِ الْأُمَّةُ لَبَنًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ ضَلَالًا فَاحْتَلَبَتْ بِهِ الْأُمَّةُ دَمًا. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: كَانَ قَتْلُ عُثْمَانَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْحَقِّ

ذِكْرُ بَعْضِ مَا رُثِيَ بِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ مَجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ: مَا سَمِعْتُ مِنْ مَرَاثِي عُثْمَانَ أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ:
فَكَفَّ يَدَيْهِ ثُمَّ أَغْلَقَ بَابَهُ وَأَيْقَنَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلِ وَقَالَ لِأَهْلِ الدَّارِ لَا تَقْتُلُوهُمُ
عَفَا اللَّهُ عَنْ كُلِّ امْرِئٍ لَمْ يُقَاتِلِ فَكَيْفَ رَأَيْتَ اللَّهَ صَبَّ عَلَيْهِمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَعْدَ التَّوَاصُلِ

وَكَيْفَ رَأَيْتَ الْخَيْرَ أَدْبَرَ بَعْدَهُ
عَنِ النَّاسِ إِدْبَارَ النَّعَامِ الْجَوَافِلِ
وَقَدْ نَسَبَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
مَاذَا أَرَدْتُمْ مِنْ أَخِي الدِّينِ بَارَكَتْ يَدُ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْأَدِيمِ الْمُقَدَّدِ
قَتَلْتُمْ وَلِيَّ اللَّهِ فِي جَوْفِ دَارِهِ وَجِئْتُمْ بِأَمْرٍ جَائِرٍ غَيْرَ مُهْتَدِ
فَهَلَّا رَعَيْتُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ بَيْنَكُمْ وَأَوْفَيْتُمُ بِالْعَهْدِ عَهْدِ مُحَمَّدِ
أَلَمْ يَكُ فِيكُمْ ذَا بَلَاءٍ وَمَصْدَقٍ وَأَوْفَاكُمُ قِدْمًا لَدَى كُلِّ مَشْهَدِ
فَلَا ظَفِرَتْ أَيْمَانُ قَوْمٍ تَبَايَعُوا عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ الرَّشِيدِ الْمُسَدَّدِ
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
مَنْ سَرَّهُ الْمَوْتُ صِرْفًا لَا مِزَاجَ لَهُ فَلْيَأْتِ مَأْسَدَةً فِي دَارِ عُثْمَانَا

مُسْتَشْعِرِي حَلَقَ الْمَاذِيِّ قَدْ شُفِعَتْ قَبْلَ الْمَخَاطِمِ بَيْضٌ زَانَ أَبْدَانَا
ضَحَّوْا بَأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وُقُرْآنَا
صَبْرًا فِدًى لَكُمُ أُمِّي وَمَا وَلَدَتْ قَدْ يَنْفَعُ الصَّبْرُ فِي الْمَكْرُوهِ أَحْيَانَا
فَقَدْ رَضِينَا بَأَرْضِ الشَّامِ نَافِرَةً وَبِالْأَمِيرِ وَبِالْإِخْوَانِ إِخْوَانَا
إِنِّي لَمِنْهُمْ وَإِنْ غَابُوا وَإِنْ شَهِدُوا مَا دُمْتُ حَيًّا وَمَا سُمِّيتُ حَسَّانَا
لَتَسْمَعُنَ وَشِيكًا فِي دِيَارِهِمُ اللَّهُ أَكْبَرُ يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَا
يَا لَيْتَ شِعْرِي وَلَيْتَ الطَّيْرَ تُخْبِرُنِي مَا كَانَ شَأْنُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَفَّانَا
وَقَالَ رَاعِي الْإِبِلِ النُّمَيْرِيُّ فِي عُثْمَانَ:

عَشِيَّةَ يَدْخُلُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ عَلَى مُتَوَكِّلٍ أَوْفَى وَطَابَا
خَلِيلُ مُحَمِّدٍ وَوَزِيرُ صِدْقٍ وَرَابِعُ خَيْرِ مَنْ وَطِئِ التُّرَابَا

فَصْلٌ ( كَيْفِيَّةُ قَتْلِ عُثْمَانَ بِالْمَدِينَةِ وَبِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ )
إِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ وَقَعَ قَتْلُ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِالْمَدِينَةِ وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؟ فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا، أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ أَوْ كُلُّهُمْ، لَمْ يَكُنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَبْلُغُ الْأَمْرُ إِلَى قَتْلِهِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَكُونُوا يُحَاوِلُونَ قَتْلَهُ عَيْنًا، بَلْ طَلَبُوا مِنْهُ أَحَدَ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ ; إِمَّا أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ، أَوْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، أَوْ يَقْتُلُوهُ، فَكَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَى النَّاسِ مَرْوَانَ، أَوْ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ وَيَسْتَرِيحَ مِنْ هَذِهِ الضَّائِقَةِ الشَّدِيدَةِ. وَأَمَّا الْقَتْلُ فَمَا كَانَ يَظُنُّ أَحَدٌ أَنَّهُ يَقَعُ، وَلَا أَنَّ هَؤُلَاءِ يَجْتَرِئُونَ عَلَيْهِ إِلَى مَا هَذَا حَدُّهُ، حَتَّى وَقَعَ مَا وَقَعَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِي، أَنَّ الصَّحَابَةَ مَانَعُوا دُونَهُ أَشَدَّ الْمُمَانَعَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا وَقَعَ التَّضْيِيقُ الشَّدِيدُ عَزَمَ عُثْمَانُ عَلَى النَّاسِ أَنَّ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ وَيُغْمِدُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَفَعَلُوا، فَتَمَكَّنَ أُولَئِكَ مِمَّا أَرَادُوا، وَمَعَ هَذَا مَا ظَنَّ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالْكُلِّيَّةِ.
الثَّالِثُ، أَنَّ هَؤُلَاءِ الْخَوَارِجَ لَمَّا اغْتَنَمُوا غَيْبَةَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، وَلَمْ تَقْدِمِ الْجُيُوشُ مِنَ الْآفَاقِ لِلنُّصْرَةِ، بَلْ لَمَّا اقْتَرَبَ مَجِيئُهُمْ، انْتَهَزُوا فُرْصَتَهُمْ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، وَصَنَعُوا مَا صَنَعُوا مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ.
الرَّابِعُ، أَنَّ هَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ كَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْ مُقَاتِلٍ مِنَ الْأَبْطَالِ، وَرُبَّمَا لَمْ

يَكُنْ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ الْعِدَّةُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ ; لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي الثُّغُورِ وَفِي الْأَقَالِيمِ فِي كُلِّ جِهَةٍ وَفِي الْحَجِّ.
وَمَعَ هَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدِ اعْتَزَلَ هَذِهِ الْفِتْنَةَ وَلَزِمُوا بُيُوتَهُمْ، وَمَنْ كَانَ يَحْضُرُ مِنْهُمُ الْمَسْجِدَ لَا يَجِيءُ إِلَّا وَمَعَهُ السَّيْفُ يَضَعُهُ عَلَى حَبْوَتِهِ إِذَا احْتَبَى، وَالْخَوَارِجُ مُحْدِقُونَ بِدَارِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَرُبَّمَا لَوْ أَرَادُوا صَرْفَهُمْ عَنِ الدَّارِ لَمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ.
وَلَكِنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ قَدْ بَعَثُوا أَوْلَادَهُمْ إِلَى الدَّارِ يُجَاحِفُونَ عَنْ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِكَيْ تَقْدَمَ الْجُيُوشُ مِنَ الْأَمْصَارِ لِنُصْرَتِهِ، فَمَا فَجَأَ النَّاسَ إِلَّا وَقَدْ ظَفِرَ أُولَئِكَ بِالدَّارِ مِنْ خَارِجِهَا، وَأَحْرَقُوا بَابَهَا، وَتَسَوَّرُوا عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ.
وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ أَسْلَمَهُ وَرَضِيَ بِقَتْلِهِ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ رَضِيَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَلْ كُلُّهُمْ كَرِهَهُ، وَمَقَتَهُ، وَسَبَّ مَنْ فَعَلَهُ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَوَدُّ لَوْ خَلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْأَمْرِ ; كَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: دَفَنُوا عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَشِّ كَوْكَبٍ، وَكَانَ قَدِ اشْتَرَاهُ وَزَادَهُ فِي الْبَقِيعِ.
وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُ السَّلَفِ حَيْثُ يَقُولُ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ عُثْمَانَ: هُوَ أَمِيرُ الْبَرَرَةِ، وَقَتِيلُ الْفَجَرَةِ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ.

وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ فِي آخِرِ تَرْجَمَةِ عُثْمَانَ وَفَضَائِلِهِ، بَعْدَ حِكَايَتِهِ هَذَا الْكَلَامَ: قُلْتُ: الَّذِينَ قَتَلُوهُ أَوْ أَلَّبُوا عَلَيْهِ قَتَلُوا إِلَى عَفْوِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالَّذِينَ خَذَلُوهُ خَذَلُوا وَتَنَغَّصَ عَيْشُهُمْ، وَكَانَ الْمُلْكُ بَعْدَهُ فِي نَائِبِهِ مُعَاوِيَةَ وَابْنَيْهِ، ثُمَّ فِي وَزِيرِهِ مَرْوَانَ وَثَمَانِيَةٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، اسْتَطَالُوا حَيَاتَهُ وَمَلُّوهُ مَعَ فَضْلِهِ وَسَوَابِقِهِ، فَتَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ مَنْ هُوَ مِنْ بَنِي عَمِّهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. وَهَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ.

فَصْلٌ فِي الْإِشَارَةِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي فَضَائِلِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، أَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْقُرَشِيُّ، الْأُمَوِيُّ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ذُو النُّورَيْنِ، وَصَاحِبُ الْهِجْرَتَيْنِ، وَالْمُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ، وَزَوْجُ الِابْنَتَيْنِ. وَأُمُّهُ أَرْوَى بِنْتُ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَأُمُّهَا أُمُّ حَكِيمٍ ; وَهِيَ الْبَيْضَاءُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَحَدُ السِّتَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى، وَأَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خَلَصَتْ لَهُمُ الْخِلَافَةُ مِنَ السِّتَّةِ، ثُمَّ تَعَيَّنَتْ فِيهِ بِإِجْمَاعِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَكَانَ ثَالِثَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، الْمَأْمُورِ بِاتِّبَاعِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ.
أَسْلَمَ عُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَدِيمًا عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ سَبَبُ إِسْلَامِهِ عَجِيبًا، فِيمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زَوَّجَ ابْنَتَهُ رُقَيَّةَ - وَكَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ - مِنَ ابْنِ عَمِّهَا عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ، تَأَسَّفَ إِذْ لَمْ يَكُنْ هُوَ تَزَوَّجَهَا، فَدَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ مَهْمُومًا

فَوَجَدَ عِنْدَهُمْ خَالَتَهُ سُعْدَى بِنْتَ كُرَيْزٍ - وَكَانَتْ كَاهِنَةً - فَقَالَتْ لَهُ:
أَبْشِرْ وَحُيِّيِتَ ثَلَاثًا تَتْرَا ثُمَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا أُخْرَى ثُمَّ بِأُخْرَى كَيْ تَتِمَّ عَشْرَا
أَتَاكَ خَيْرٌ وَوُقِيتَ شَرَّا أُنْكِحْتِ وَاللَّهِ حَصَانًا زَهْرَا
وَأَنْتَ بِكْرٌ وَلَقِيتَ بِكْرَا وَافَيْتَهَا بِنْتَ عَظِيمٍ قَدْرَا بَنَيْتَ أَمْرًا قَدْ أَشَادَ ذِكْرَا
قَالَ عُثْمَانُ: فَعَجِبْتُ مِنْ قَوْلِهَا ; حَيْثُ تُبَشِّرُنِي بِامْرَأَةٍ قَدْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِي، فَقُلْتُ: يَا خَالَةُ مَا تَقُولِينَ ! فَقَالَتْ: عُثْمَانُ
لَكَ الْجَمَالُ وَلَكَ اللِّسَانُ هَذَا نَبِيٌّ مَعَهُ الْبُرْهَانُ
أَرْسَلَهُ بِحَقِّهِ الدَّيَّانُ وَجَاءَهُ التَّنْزِيلُ وَالْفُرْقَانُ
فَاتْبَعْهُ لَا تَغْتَالُكَ الْأَوْثَانُ
قَالَ: فَقُلْتُ إِنَّكِ لَتَذْكُرِينَ أَمْرًا مَا وَقَعَ بِبَلَدِنَا. فَقَالَتْ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، جَاءَ بِتَنْزِيلِ اللَّهِ، يَدْعُو بِهِ إِلَى اللَّهِ. ثُمَّ قَالَتْ:
مِصْبَاحُهُ مِصْبَاحُ وَدِينُهُ فَلَاحُ
وَأَمْرُهُ نَجَاحُ وَقَرْنُهُ نَطَاحُ
ذَلَّتْ لَهُ الْبِطَاحُ مَا يَنْفَعُ الصِّيَاحُ

لَوْ وَقَعَ الذِّبَاحُ وَسُلَّتِ الصِّفَاحُ
وَمُدَّتِ الرِّمَاحُ
قَالَ عُثْمَانُ: فَانْطَلَقْتُ مُفَكِّرًا فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا عُثْمَانُ، إِنَّكَ لَرَجُلٌ حَازِمٌ، مَا يَخْفَى عَلَيْكَ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي يَعْبُدُهَا قَوْمُنَا ؟ أَلَيْسَتْ مِنْ حِجَارَةٍ صُمٍّ ; لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، وَاللَّهِ إِنَّهَا لَكَذَلِكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقَتْكَ خَالَتُكَ، هَذَا رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَدْ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ بِرِسَالَتِهِ، هَلْ لَكَ أَنْ تَأْتِيَهُ ؟ فَاجْتَمَعْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ أَجِبِ اللَّهَ إِلَى جَنَّتِهِ، فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ وَإِلَى خَلْقِهِ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَمَالَكْتُ حِينَ سَمِعْتُ قَوْلَهُ أَنْ أَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ثُمَّ لَمْ أَلْبَثْ أَنْ تَزَوَّجْتُ رُقَيَّةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ يُقَالُ: أَحْسَنُ زَوْجٍ رَآهُ إِنْسَانٌ، رُقْيَةُ وَزَوْجُهَا عُثْمَانُ. فَقَالَتْ فِي ذَلِكَ سُعْدَى بِنْتُ كُرَيْزٍ:
هَدَى اللَّهُ عُثْمَانَا بِقَوْلِي إِلَى الْهُدَى وَأَرْشَدَهُ وَاللَّهُ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ
فَتَابَعَ بِالرَّأْيِ السَّدِيدِ مُحَمَّدًا وَكَانَ بِرَأْيٍ لَا يَصُدُّ عَنِ الصِّدْقِ
وَأَنْكَحَهُ الْمَبْعُوثُ بِالْحَقِّ بِنْتَهُ فَكَانَا كَبَدْرٍ مَازَجَ الشَّمْسَ فِي الْأُفْقِ
فِدَاؤُكَ يَا ابْنَ الْهَاشِمِيِّينَ مُهْجَتِي وَأَنْتَ أَمِينُ اللَّهِ أُرْسِلْتَ لِلْخَلْقِ

قَالَ: ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْغَدِ بِعُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَبِأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَالْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ، فَأَسْلَمُوا وَكَانُوا مَعَ مَنِ اجْتَمَعَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; ثَمَانِيَةً وَثَلَاثُونَ رَجُلًا.
ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ أَوَّلَ النَّاسِ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ اشْتَغَلَ بِتَمْرِيضِ ابْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقَامَ بِسَبَبِهَا فِي الْمَدِينَةِ، فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِسَهْمِهِ مِنْهَا وَأَجْرِهِ فِيهَا، فَهُوَ مَعْدُودٌ فِيمَنْ شَهِدَهَا. فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ زَوَّجَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ، فَتُوُفِّيَتْ أَيْضًا فِي صُحْبَتِهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَ عِنْدَنَا أُخْرَى لَزَوَّجْنَاهَا بِعُثْمَانَ. وَشَهِدَ أُحُدًا وَفَرَّ يَوْمَئِذٍ فِيمَنْ تَوَلَّى، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُمْ، وَشَهِدَ الْخَنْدَقَ وَالْحُدَيْبِيَةَ، وَبَايَعَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَئِذٍ بِإِحْدَى يَدَيْهِ، وَشَهِدَ خَيْبَرَ وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَحَضَرَ الْفَتْحَ وَهَوَازِنَ وَالطَّائِفَ وَغَزْوَةَ تَبُوكَ، وَجَهَّزَ فِيهَا جَيْشَ الْعُسْرَةِ. فَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَبَّابٍ أَنَّهُ جَهَّزَهُمْ يَوْمَئِذٍ بِثَلَاثِمِائَةِ بَعِيرٍ بِأَقْتَابِهَا وَأَحْلَاسِهَا. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّهُ جَاءَ يَوْمَئِذٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَصَبَّهَا فِي حِجْرِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ،

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ. مَرَّتَيْنِ. وَحَجَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ.
وَصَحِبَ أَبَا بَكْرٍ فَأَحْسَنَ صُحْبَتَهُ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ. وَصَحِبَ عُمَرَ فَأَحْسَنَ صُحْبَتَهُ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ - وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي أَهْلِ الشُّورَى السِّتَّةِ، فَكَانَ خَيْرَهُمْ، كَمَا سَيَأْتِي - فَوَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الْأَقَالِيمِ وَالْأَمْصَارِ، وَتَوَسَّعَتِ الْمَمْلَكَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، وَامْتَدَّتِ الدَّوْلَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، وَبُلِّغَتِ الرِّسَالَةُ الْمُصْطَفَوِيَّةُ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَظَهَرَ لِلنَّاسِ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ النُّورِ: 55 ]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [ الصَّفِّ: 9 ]. وَقَوْلِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زَوَى لِي مِنْهَا. وَقَوْلِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَهَذَا كُلُّهُ تَحَقَّقَ وُقُوعُهُ وَتَأَكَّدَ وَتَوَطَّدَ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وَقَدْ كَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَسَنَ الشَّكْلِ، مَلِيحَ الْوَجْهِ، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، ذَا حَيَاءٍ كَثِيرٍ، وَكَرَمٍ غَزِيرٍ، يُؤْثِرُ أَهْلَهُ وَأَقَارِبَهُ فِي اللَّهِ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِهِمْ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْفَانِي ; لَعَلَّهُ يُرَغِّبُهُمْ فِي إِيثَارِ مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِي أَقْوَامًا وَيَدَعُ آخَرِينَ ; يُعْطِي أَقْوَامًا خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُمُ اللَّهُ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ، وَيَكِلُ آخَرِينَ إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ، وَقَدْ عَابَهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْخَصْلَةِ أَقْوَامٌ، كَمَا عَابَ بَعْضُ الْخَوَارِجِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْإِيثَارِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَهَا.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي فَضْلِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، نَذْكُرُ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ ; وَهِيَ قِسْمَانِ:

الْأَوَّلُ: فِيمَا وَرَدَ فِي فَضَائِلِهِ مَعَ غَيْرِهِ
فَمِنْ ذَلِكَ: الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ": حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ قَالَ: صَعِدَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُحُدًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ، فَقَالَ: " اسْكُنْ أُحُدُ - أَظُنُّهُ ضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ - فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ " تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: ثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ عَلَى حِرَاءَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ

وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اهْدَأْ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ. ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْبَابِ: عَنْ عُثْمَانَ، وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسُهَيْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَبُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. قُلْتُ: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الدَّارِ، وَقَالَ عَلَى ثَبِيرٍ
حَدِيثٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي حَائِطٍ، فَأَمَرَنِي بِحِفْظِ الْبَابِ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ". ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: " ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ". ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَقَالَ: " ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ ". فَدَخَلَ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ صَبْرًا. وَفِي رِوَايَةٍ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. رَوَاهُ عَنْهُ قَتَادَةُ، وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنَا

عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ وَعَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ، سَمِعَا أَبَا عُثْمَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ بِنَحْوِهِ، وَزَادَ عَاصِمٌ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ قَاعِدًا فِي مَكَانٍ فِيهِ مَاءٌ قَدِ انْكَشَفَ عَنْ رُكْبَتَيْهِ، أَوْ رُكْبَتِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ غَطَّاهَا. وَهُوَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي مُوسَى وَفِيهِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ دَلَّيَا أَرْجُلَهُمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي بَابِ الْقُفِّ وَهُوَ فِي الْبِئْرِ، وَجَاءَ عُثْمَانُ فَلَمْ يَجِدْ لَهُ مَوْضِعًا فَجَلَسَ نَاحِيَةً. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمُ ; اجْتَمَعَتْ وَانْفَرَدَ عُثْمَانُ.
وَقَدْ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ نَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ:خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى دَخَلَ حَائِطًا فَقَالَ لِي: " أَمْسِكْ عَلَيَّ الْبَابَ ". فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْقُفِّ وَدَلَّى رِجْلَيْهِ، فَضُرِبَ الْبَابُ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَبُو بَكْرٍ. قَالَ: " ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ". فَدَخَلَ فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الْقُفِّ وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ، ثُمَّ ضُرِبَ الْبَابُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: عُمَرُ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا عُمَرُ. قَالَ: " ائْذَنْ لِي وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ". فَفَعَلْتُ فَجَاءَ فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الْقُفِّ وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي

الْبِئْرِ، ثُمَّ ضُرِبَ الْبَابُ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: عُثْمَانُ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا عُثْمَانُ. قَالَ: " ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ مَعَهَا بَلَاءٌ ". فَأَذِنْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ، فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ. هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنِّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ.
فَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَبَا مُوسَى وَنَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ كَانَا مُوَكَّلَيْنِ بِالْبَابِ، أَوْ أَنَّهَا قِصَّةٌ أُخْرَى
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ وُهَيْبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ يُحَدِّثُ، وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ:أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ حَائِطًا فَجَلَسَ عَلَى قُفِّ الْبِئْرِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَاسْتَأْذَنَ فَقَالَ لِأَبِي مُوسَى: " ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ". ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: " ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ". ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَقَالَ: " ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ وَسَيَلْقَى بَلَاءً " وَهَذَا السِّيَاقُ أَشْبَهُ مِنَ الْأَوَّلِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَوَاهُ النِّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ

وَمُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَاسْتَأْذَنَ، فَقَالَ: " ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ". ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ، فَقَالَ: " ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ". ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَاسْتَأْذَنَ فَقَالَ: " ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ". قَالَ: قُلْتُ: فَأَيْنَ أَنَا ؟ قَالَ: " أَنْتَ مَعَ أَبِيكَ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.
حَدِيثٌ آخَرٌ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا لَيْثٌ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُثْمَانَ حَدَّثَاهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ لَابِسٌ مِرْطَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَاسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ، قَالَ عُثْمَانُ: ثُمَّ اسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَجَلَسَ وَقَالَ: " اجْمَعِي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ ". فَقَضَيْتُ إِلَيْهِ حَاجَتِي ثُمَّ انْصَرَفْتُ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي لَا أَرَاكَ فَزِعْتَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَمَا فَزِعْتَ لِعُثْمَانَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ، وَإِنِّي خَشِيتُ إِنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يُبْلِغُ إِلَيَّ حَاجَتَهُ. قَالَ اللَّيْثُ: وَقَالَ جَمَاعَةُ النَّاسِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعَائِشَةَ: أَلَا أَسْتَحِي مِمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ !. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ

حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ، وَمِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ عَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ ابْنَيْ يَسَارٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ. وَرَوَاهُ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ عَنْهَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَسَارٍ سَمِعْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ تَذْكُرُ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ جَالِسًا كَاشِفًا عَنْ فَخِذِهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَأَرْخَى عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، فَلَمَّا قَامُوا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتَأْذَنَ عَلَيْكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَأَذِنْتَ لَهُمَا وَأَنْتَ عَلَى حَالِكَ، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ أَرْخَيْتَ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ ! فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ، وَاللَّهِ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْتَحِي مِنْهُ !.

تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ حَفْصَةَ: رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو خَالِدٍ عُثْمَانُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَدَنِيِّ، حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ، فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَفِيهِ: فَقَالَ " أَلَا اسْتَحِي مِمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ !.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، ثَنَا النَّضْرُ - هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو عُمَرَ الْخَزَّازُ الْكُوفِيُّ - عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أَسْتَحِي مِمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ ; عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ. قُلْتُ: هُوَ عَلَى شَرْطِ التِّرْمِذِيِّ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدِّمِيُّ، ثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ

بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانَ، حَدَّثَنِي أَبِي - عُمَرُ بْنُ أَبَانَ - عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَالِسٌ وَعَائِشَةُ وَرَاءَهُ إِذِ اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَدَخَلَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَدَخَلَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ فَدَخَلَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَرَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتَحَدَّثُ كَاشِفًا عَنْ رُكْبَتِهِ فَمَدَّ ثَوْبَهُ عَلَى رُكْبَتِهِ حِينَ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: اسْتَأْخِرِي. فَتَحَدَّثُوا سَاعَةً ثُمَّ خَرَجُوا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ دَخَلَ أَبِي وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ تُصْلِحْ ثَوْبَكَ عَلَى رُكْبَتِكَ وَلَمْ تُؤَخِّرْنِي عَنْكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ ! وَالَّذِي نَفْسُ رَسُولِ اللَّهِ بِيَدِهِ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَسْتَحْيِي مِنْ عُثْمَانَ، كَمَا تَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَوْ دَخَلَ وَأَنْتِ قَرِيبٌ مِنِّي لَمْ يَتَحَدَّثْ وَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ حَتَّى يَخْرُجَ ". هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. قُلْتُ: وَفِي الْبَابِ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ.

وَرَوَى أَبُو مَرْوَانَ الْقُرَشِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: عُثْمَانُ حَيِيٌّ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَرْحَمُ أُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهَا فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَشَدُّهَا حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَعْلَمُهَا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَقْرَؤُهَا لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيٌّ، وَأَعْلَمُهَا بِالْفَرَائِضِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنِّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، وَ " مُسْلِمٍ " آخِرُهُ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ".
وَقَدْ رَوَى هُشَيْمٌ عَنْ كَوْثَرِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَوْ نَحْوَهُ.

حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( أُرِيَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ صَالِحٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ نِيطَ بِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنِيطَ عُمَرُ بِأَبِي بَكْرٍ، وَنِيطَ عُثْمَانُ بِعُمَرَ. قَالَ جَابِرٌ: فَلَمَّا قُمْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْنَا: أَمَّا الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَرَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ نَوْطِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَهُمْ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ، ثُمَّ قَالَ: وَرَوَاهُ يُونُسُ وَشُعَيْبٌ، فَلَمْ يَذْكُرَا عُمَرَ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ - عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ - ثَنَا بَدْرُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ أَبِي عَائِشَةَ، عَنِ ابْنِ

عُمَرَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَاتَ غَدَاةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَالَ: رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ فَوُزِنَ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ فَوَزَنَ بِهِمْ، ثُمَّ رُفِعَتْ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي وُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ وَأُمَّتِي فِي كِفَّةٍ فَعَدَلْتُهَا، ثُمَّ وُضِعَ أَبُو بَكْرٍ فِي كِفَّةٍ وَأُمَّتِي فِي كِفَّةٍ فَعَدَلَهَا، ثُمَّ وُضِعَ عُمَرُ فِي كِفَّةٍ وَأُمَّتِي فِي كِفَّةٍ فَعَدَلَهَا، ثُمَّ وُضِعَ عُثْمَانُ فِي كِفَّةٍ وَأُمَّتِي فِي كِفَّةٍ فَعَدَلَهَا.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ الْعَوَّامِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:لَمَّا أَسَّسَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ جَاءَ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، وَجَاءَ عُمَرُ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، وَجَاءَ عُثْمَانُ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، قَالَتْ: فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذَا أَمْرُ الْخِلَافَةِ مِنْ بَعْدِي وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي بِنَاءِ مَسْجِدِهِ أَوَّلَ

مَقْدِمِهِ الْمَدِينَةَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ فِي تَسْبِيحِ الْحَصَا فِي يَدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ فِي كَفِّ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ فِي كَفِّ عُمَرَ، ثُمَّ فِي كَفِّ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذِهِ خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ
وَسَيَأْتِي حَدِيثُ سَفِينَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا فَكَانَتْ وِلَايَةُ عُثْمَانَ، وَمُدَّتُهَا ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، مِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الثَّلَاثِينَ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، كَمَا أَخْبَرَ بِهِ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
حَدِيثٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ شَهِدَ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ،وَعُثْمَانُ مِنْهُمْ بِنَصِّ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى ذَلِكَ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ بَزِيعٍ، ثَنَا شَاذَانُ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ،عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا نَعْدِلُ بِأَبِي بَكْرٍ أَحَدًا، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمَانَ، ثُمَّ نَتْرُكُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ. تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ

عَبْدِ الْعَزِيزِ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، وَالْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، ثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ وَرَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيٌّ وَأَصْحَابُهُ مُتَوَافِرُونَ ; أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، ثُمَّ نَسْكُتُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظٍ آخَرَ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ وَعُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ قَالَا: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:كُنَّا نَقُولُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ،

يَعْنِي فِي الْخِلَافَةِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، لَكِنْ قَالَ الْبَزَّارُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وُجُوهٍ، وَعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ لَمْ يَكُنْ بِالْحَافِظِ، وَذَلِكَ فِي حَدِيثِهِ مُتَبَيَّنٌ إِذَا رَوَى عَنْ غَيْرِ سَالِمٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ بِهِ، وَقَدِ اعْتَنَى الْحَافِظُ - ابْنُ عَسَاكِرَ بِجَمْعِ طُرُقِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَأَفَادَ وَأَجَادَ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدَوَيْهِ الصَّفَّارُ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ جَمِيلٍ الرَّقِيُّ، أَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ أَوْ مَا فِي

الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ - شَكَّ عَلِيُّ بْنُ جَمِيلٍ - مَا عَلَيْهَا وَرَقَةٌ إِلَّا مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، عُمَرُ الْفَارُوقُ، عُثْمَانُ ذُو النُّورَيْنِ. فَإِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، فِي إِسْنَادِهِ مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِ، وَلَا يَخْلُو مِنْ نَكَارَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْقِسْمُ الثَّانِي فِيمَا وَرَدَ مِنْ فَضَائِلِهِ وَحْدَهُ:
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَوْهَبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حَجَّ الْبَيْتَ، فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ ؟ قَالُوا: هَؤُلَاءِ قُرَيْشٌ. قَالَ: فَمَنِ الشَّيْخُ فِيهِمْ ؟ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: يَا ابْنَ عُمَرَ إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ فَحَدِّثْنِي ; هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ فَرَّ يَوْمَ أُحُدٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَدْرٍ وَلَمْ يَشْهَدْهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ أُبَيِّنْ لَكَ ; أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ فَإِنَّهُ كَانَتْ تَحْتَهُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ

بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ ; فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عُثْمَانَ - وَكَانَتْ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ - إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِيَدِهِ الْيُمْنَى: هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ. فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ فَقَالَ: هَذِهِ لِعُثْمَانَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: اذْهَبْ بِهَا الْآنَ مَعَكَ. تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، ثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ شَقِيقٍ قَالَ: لَقِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: مَا لِي أَرَاكَ جَفَوْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَبْلِغْهُ أَنِّي لَمْ أَفِرَّ يَوْمَ حُنَيْنٍ - قَالَ عَاصِمٌ: يَقُولُ: يَوْمَ أُحُدٍ - وَلَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ، وَلَمْ أَتْرُكْ سُنَّةَ عُمَرَ. قَالَ: فَانْطَلَقَ فَخَبَّرَ ذَلِكَ عُثْمَانَ فَقَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي لَمْ أَفِرَّ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَكَيْفَ يُعَيِّرُنِي بِذَلِكَ وَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنِّي فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ

[ آلِ عِمْرَانَ: 155 ] وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنِّي تَخَلَّفْتُ يَوْمَ بَدْرٍ. فَإِنِّي كُنْتُ أُمَرِّضُ رُقَيَّةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ضَرَبَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِسَهْمِي وَمَنْ ضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِسَهْمِهِ فَقَدْ شَهِدَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَمْ أَتْرُكْ سُنَّةَ عُمَرَ. فَإِنِّي لَا أُطِيقُهَا وَلَا هُوَ فَأْتِهِ فَحَدِّثْهُ بِذَلِكَ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ، ثَنَا أَبِي، عَنْ يُونُسَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ قَالَا: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُكَلِّمَ عُثْمَانَ لِأَخِيهِ الْوَلِيدِ، فَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِيهِ ؟ فَقَصَدْتُ لِعُثْمَانَ حِينَ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ. قُلْتُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ، وَهِيَ نَصِيحَةٌ لَكَ. قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ - قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ مَعْمَرٌ: أَرَاهُ قَالَ - أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ. فَانْصَرَفْتُ فَرَجَعْتُ إِلَيْهِمْ إِذْ جَاءَ رَسُولُ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَتَيْتُهُ فَقَالَ: مَا نَصِيحَتُكَ ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَكُنْتَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَهَاجَرْتَ الْهِجْرَتَيْنِ، وَصَحِبْتَ

رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَأَيْتَ هَدْيَهُ، وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي شَأْنِ الْوَلِيدِ. فَقَالَ: أَدْرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قُلْتُ: لَا، وَلَكِنْ خَلَصَ إِلَيَّ مِنْ عِلْمِهِ مَا يَخْلُصُ إِلَى الْعَذْرَاءِ فِي سِتْرِهَا. قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ وَكُنْتُ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَآمَنْتُ بِمَا بَعَثَ بِهِ، وَهَاجَرْتُ الْهِجْرَتَيْنِ كَمَا قُلْتَ، وَصَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَايَعْتُهُ فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلَا غَشَشْتُهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ مِثْلُهُ، ثُمَّ عُمَرُ مِثْلُهُ، ثُمَّ اسْتُخْلِفْتُ، أَفَلَيَسَ لِي مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لَهُمْ ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَمَا هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَبْلُغُنِي عَنْكُمْ ؟ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ شَأْنِ الْوَلِيدِ، فَسَنَأْخُذُ فِيهِ بِالْحَقِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا فَأَمَرَهُ أَنْ يَجْلِدَهُ فَجَلَدَهُ ثَمَانِينَ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ:أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَيْنَا إِقْبَالَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى عُثْمَانَ أَقْبَلَتْ إِحْدَانَا عَلَى الْأُخْرَى فَكَانَ مِنْ آخِرِ كَلَامٍ كَلَّمَهُ أَنْ ضَرَبَ مَنْكِبَهُ، وَقَالَ: " يَا عُثْمَانُ إِنَّ اللَّهَ عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ

عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي " ثَلَاثًا. فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَيْنَ كَانَ هَذَا عَنْكِ ؟ قَالَتْ: نُسِّيتُهُ وَاللَّهِ فَمَا ذَكَرْتُهُ. قَالَ: فَأَخْبَرْتُهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ فَلَمْ يَرْضَ بِالَّذِي أَخْبَرْتُهُ حَتَّى كَتَبَ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنِ اكْتُبِي إِلَيَّ بِهِ فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ بِهِ كِتَابًا
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَسْرِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ. وَرَوَاهُ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ وَأَبُو سَهْلَةَ عَنْهَا. وَرَوَاهُ أَبُو سَهْلَةَ، عَنْ عُثْمَانَ:إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا فَأَنَا صَابِرٌ نَفْسِي عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، فَذَكَرَهُ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ. وَرَوَاهُ أَبُو مَرْوَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَالِدٍ الْعُثْمَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي

الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْمِنْهَالِ بْنِ بَحْرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْهَا. وَرَوَاهُ أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الْعَدَوِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ. فَذَكَرَ عَنْهَا نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَرَوَاهُ خُصَيْفٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كُنَاسَةَ الْأَسَدِيُّ أَبُو يَحْيَى، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا اسْتَمَعْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا مَرَّةً، فَإِنَّ عُثْمَانَ جَاءَهُ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ

جَاءَهُ فِي أَمْرِ النِّسَاءِ، فَحَمَلَتْنِي الْغَيْرَةُ عَلَى أَنْ أَصْغَيْتُ إِلَيْهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ مُلْبِسُكَ قَمِيصًا تُرِيدُكَ أُمَّتِي عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ " فَلَمَّا رَأَيْتُ عُثْمَانَ يَبْذُلُ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ إِلَّا خَلْعَهُ، عَلِمْتُ أَنَّهُ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُطَّلِبُ بْنُ شُعَيْبٍ الْأَزْدِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، ثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ سَيْفٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ شُفَيٍّ الْأَصْبَحِيُّ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:يَا عُثْمَانُ إِنْ أَلْبَسَكَ اللَّهُ قَمِيصًا فَأَرَادَكَ النَّاسُ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ فَوَاللَّهِ لَئِنْ خَلَعْتَهُ لَا تَرَى الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجُمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أُخْتِهِ حَفْصَةَ أُمِّ

الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي سِيَاقِ مَتْنِهِ غَرَابَةٌ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ: حَدَّثَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ، وَأَرْسَلَهَا عَمُّهَا فَقَالَ: إِنَّ أَحَدَ بَنِيكِ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ وَيَسْأَلُكِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ شَتَمُوهُ ! فَقَالَتْ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ قَاعِدًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَيَّ، وَإِنَّ جِبْرِيلَ لَيُوحِي إِلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَإِنَّهُ لَيَقُولُ لَهُ: اكْتُبْ يَا عُثَيْمُ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُنْزِلَ تِلْكَ الْمَنْزِلَةَ إِلَّا كِرِيمًا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْيَشْكَرِيِّ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّهَا أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ عَنْ عُثْمَانَ فَذَكَرَتْ مِثْلَهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: ذَكَرَ أَبُو الْمُغِيرَةِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ مَاعِزٍ التَّمِيمِيِّ، عَنْ جَابِرٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَ فِتْنَةً، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا أُدْرِكُهَا ؟ قَالَ: " لَا ". فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أُدْرِكُهَا ؟ قَالَ: " لَا ". فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا

أُدْرِكُهَا ؟ قَالَ: " بِكَ يُبْتَلَوْنَ " قَالَ الْبَزَّارُ: وَهَذَا لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، ثَنَا سِنَانُ بْنُ هَارُونَ، ثَنَا كُلَيْبُ بْنُ وَائِلٍ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِتْنَةً فَمَرَّ رَجُلٌ، فَقَالَ: " يُقْتَلُ فِيهَا هَذَا الْمُقَنَّعُ يَوْمَئِذٍ مَظْلُومًا ". فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ شَاذَانَ بِهِ. وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أُمِّي أَبُو حَبِيْبَةَ، أَنَّهُ دَخَلَ الدَّارَ وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ فِيهَا، وَأَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَسْتَأْذِنُ عُثْمَانَ فِي الْكَلَامِ فَأَذِنَ لَهُ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: ( إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّكُمْ تَلْقَوْنَ بَعْدِي فِتْنَةً وَاخْتِلَافًا " - أَوْ قَالَ: " اخْتِلَافًا وَفِتْنَةً " - فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ مِنَ النَّاسِ: فَمَنْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِالْأَمِينِ وَأَصْحَابِهِ " وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى عُثْمَانَ بِذَلِكَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ حَسَنٌ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ - حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ - أَنَا كَهْمَسُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، حَدَّثَنِي هَرِمُ بْنُ الْحَارِثِ وَأُسَامَةُ بْنُ خُرَيْمٍ - وَكَانَا يُغَازِيَانِ - فَحَدَّثَانِي حَدِيثًا وَلَمْ يَشْعُرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ حَدَّثَنِيهِ، عَنْ مُرَّةَ الْبَهْزِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: " كَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي فِتْنَةٍ تَثُورُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ كَأَنَّهَا صَيَاصِي بَقَرٍ ؟ " قَالُوا: نَصْنَعُ مَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " عَلَيْكُمْ هَذَا وَأَصْحَابَهُ " - أَوْ " اتَّبِعُوا هَذَا وَأَصْحَابَهُ " - قَالَ: فَأَسْرَعْتُ حَتَّى عَيِيتُ فَأَدْرَكْتُ الرَّجُلَ فَقُلْتُ: هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " هَذَا ". فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقَالَ: " هَذَا وَأَصْحَابُهُ ". فَذَكَرَهُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي " جَامِعِهِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، ثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّأَنَّ خُطَبَاءَ قَامَتْ بِالشَّامِ، وَفِيهِمْ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ آخِرُهُمْ ; رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مُرَّةُ بْنُ كَعْبٍ. فَقَالَ: لَوْلَا حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا تَكَلَّمْتُ، وَذَكَرَ الْفِتَنَ فَقَرَّبَهَا، فَمَرَّ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ فِي ثَوْبٍ، فَقَالَ:

" هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْهُدَى ". فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ فَقُلْتُ: هَذَا ؟ قَالَ " نَعَمْ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ وَكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ. قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ أَسَدُ بْنُ مُوسَى، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ الْبَهْزِيِّ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ الْبَهْزِيِّ، وَالصَّحِيحُ مُرَّةُ بْنُ كَعْبٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ حَوَالَةَ، فَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَيْفَ أَنْتَ وَفِتْنَةٌ تَكُونُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ ؟ ". قُلْتُ: مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ. قَالَ: " اتَّبِعْ هَذَا الرَّجُلَ، فَإِنَّهُ يَوْمَئِذٍ وَمَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى الْحَقِّ ". قَالَ: فَأَتْبَعْتُهُ فَأَخَذْتُ بِمَنْكِبِهِ فَلَفَتُّهُ، فَقُلْتُ: هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ: " نَعَمْ ". فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ،

وَقَالَ حَرْمَلَةُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ لَقِيطٍ، عَنِ ابْنِ حَوَالَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:ثَلَاثٌ مَنْ نَجَا مِنْهُنَّ فَقَدْ نَجَا ; مَوْتِي، وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ، وَقَتْلُ خَلِيفَةٍ مُصْطَبِرٍ قَوَّامٍ بِالْحَقِّ يُعْطِيهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ، أَخْبَرَنِي مُغِيرَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ:ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِتْنَةً فَقَرَّبَهَا وَعَظَّمَهَا. قَالَ: ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ فِي مِلْحَفَةٍ، فَقَالَ: " هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْحَقِّ ". فَانْطَلَقْتُ مُسْرِعًا - أَوْ قَالَ: مُحْضِرًا - وَأَخَذْتُ بِضَبْعَيْهِ، فَقُلْتُ: هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " هَذَا ". فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ.
ثُمَّ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ هُدْبَةَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ

سِيرِينَ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ.
وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ
وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي ثَوْرٍ الْفَهْمِيِّ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ فِي الْخُطْبَةِ الَّتِي خَاطَبَ بِهَا النَّاسَ مِنْ دَارِهِ: وَاللَّهِ مَا تَعَتَّيْتُ وَلَا تَمَنَّيْتُ، وَلَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَلَا مَسَسْتُ فَرْجِي بِيَمِينِي مُنْذُ بَايَعْتُ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَنَّهُ كَانَ يُعْتِقُ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَتِيقًا، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَعْتَقَ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى عَتِيقَيْنِ. وَقَالَ مَوْلَاهُ حُمْرَانُ: كَانَ عُثْمَانُ يَغْتَسِلُ كُلَّ يَوْمٍ مُنْذُ أَسْلَمَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَقَالَ: إِنَّكَ إِمَامُ الْعَامَّةِ، وَقَدْ نَزَلَ بِكَ مَا تَرَى، وَإِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْكَ خِصَالًا ثَلَاثًا اخْتَرْ إِحْدَاهُنَّ ; إِمَّا أَنْ تَخْرُجَ فَتَقَاتِلَهُمْ، فَإِنَّ مَعَكَ عَدَدًا وَقُوَّةً وَأَنْتَ عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ، وَإِمَّا أَنْ تَخْرِقَ بَابًا سِوَى الْبَابِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ فَتَقْعُدَ عَلَى رَوَاحِلِكَ فَتَلْحَقَ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَسْتَحِلُّوكَ وَأَنْتَ بِهَا، وَإِمَّا أَنْ تَلْحَقَ بِالشَّامِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الشَّامِ وَفِيهِمْ مُعَاوِيَةُ.

فَقَالَ عُثْمَانُ: أَمَّا أَنْ أَخْرَجَ فَأُقَاتِلُ، فَلَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ خَلَفَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي أُمَّتِهِ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَأَمَّا أَنْ أَخْرُجَ إِلَى مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَسْتَحِلُّونِي بِهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: يُلْحِدُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ يَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ عَذَابِ الْعَالَمِ. فَلَنْ أَكُونَ أَنَا، وَأَمَّا أَنْ أَلْحَقَ بِالشَّامِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ الشَّامِ وَفِيهِمْ مُعَاوِيَةُ فَلَنْ أُفَارِقَ دَارَ هِجْرَتِي وَمُجَاوَرَةَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا أَرْطَاةُ - يَعْنِي ابْنَ الْمُنْذِرِ - حَدَّثَنِي أَبُو عَوْنٍ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: " هَلْ أَنْتَ مُنْتَهٍ عَمَّا بَلَغَنِي عَنْكَ ؟ فَاعْتَذَرَ بَعْضَ الْعُذْرِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: وَيْحَكَ ! إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ وَحَفِظْتُ - وَلَيْسَ كَمَا سَمِعْتَ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: سَيُقْتَلُ أَمِيرٌ وَيَنْتَزِي مُنْتَزٍ. وَإِنِّي أَنَا الْمَقْتُولُ، وَلَيْسَ عُمَرَ، إِنَّمَا قَتَلَ عُمَرَ وَاحِدٌ، وَإِنَّهُ يُجْتَمَعُ عَلَيَّ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لِابْنِ مَسْعُودٍ قَبْلَ مَقْتَلِهِ بِنَحْوٍ مَنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، فَإِنَّهُ مَاتَ قَبْلَهُ بِنَحْوِ ذَلِكَ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو عُبَادَةَ الزُّرَقِيُّ الْأَنْصَارِيُّ - مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ يَوْمَ حُصِرَ فِي مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ وَلَوْ أُلْقِيَ حَجَرٌ لَمْ يَقَعْ إِلَّا عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ، فَرَأَيْتُ عُثْمَانَ أَشْرَفَ مِنَ الْخَوْخَةِ الَّتِي تَلِي بَابَ مَقَامِ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَفِيكُمْ طَلْحَةُ ؟

فَسَكَتُوا ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَفِيكُمْ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ؟ فَسَكَتُوا، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَفِيكُمْ طَلْحَةُ ؟ فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَلَا أَرَاكَ هَاهُنَا ؟ مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّكَ تَكُونُ فِي جَمَاعَةِ قَوْمٍ تَسْمَعُ نِدَائِي آخَرَ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، ثُمَّ لَا تُجِيبُنِي ؟ أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا طَلْحَةُ، تَذْكُرُ يَوْمَ كُنْتُ أَنَا وَأَنْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ غَيْرِي وَغَيْرُكَ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَقَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَمَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ رَفِيقٌ مِنْ أُمَّتِهِ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ هَذَا - يَعْنِينِي - رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ " ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. تَفَرَّدَ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ، عَنْ طَلْحَةَ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ الْيَمَانِ، عَنْ شَيْخِ بْنِ زُهْرَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِكُلِّ نَبِيٍّ رَفِيقٌ، وَرَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ عُثْمَانُ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ، وَإِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ. وَرَوَاهُ أَبُو مَرْوَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ،

عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْبَغْدَادِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ زُفَرَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِجِنَازَةِ رَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَاكَ تَرَكْتَ الصَّلَاةَ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَ هَذَا ؟ فَقَالَ: " إِنَّهُ كَانَ يُبْغِضُ عُثْمَانَ فَأَبْغَضَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ ". ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ هَذَا صَاحِبُ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ جِدًّا، وَمُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ صَاحِبُ أَبِي هُرَيْرَةَ بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ يُكَنَّى أَبَا الْحَارِثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْأَلْهَانِيُّ صَاحِبُ أَبِي أُمَامَةَ ثِقَةٌ شَامِيٌّ يُكَنَّى أَبَا سُفْيَانَ.
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَرْوَانَ الْعُثْمَانِيِّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عُثْمَانُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَقِيَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ هَذَا جِبْرِيلُ يُخْبِرُنِي أَنَّ اللَّهَ قَدْ زَوَّجَكَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِمِثْلِ صَدَاقِ رُقَيَّةَ عَلَى مِثْلِ مُصَاحَبَتِهَا وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَعُمَارَةَ بْنِ رُوَيْبَةَ، وَعِصْمَةَ بْنِ مَالِكٍ الْخَطْمِيِّ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَغَيْرِهِمْ. وَهُوَ غَرِيبٌ وَمُنْكَرٌ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ.

وَرُوِيَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَوْ كَانَ لِي أَرْبَعُونَ ابْنَةً لَزَوَّجْتُهُنَّ بِعُثْمَانَ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ، حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَ قُلْتُمْ فِي عُثْمَانَ: أَعْلَاهَا فُوقًا ؟ قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْ رَجُلٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ ابْنَتَيْ نَبِيٍّ غَيْرُهُ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَافِعًا يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ ضَبْعَيْهِ إِلَّا لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، إِذَا دَعَا لَهُ.
وَقَالَ مِسْعَرٌ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، يَقُولُ: " اللَّهُمَّ عُثْمَانُ رَضِيتُ عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ ". وَفِي رِوَايَةٍ يَقُولُ لِعُثْمَانَ " غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا قَدَّمْتَ وَمَا أَخَّرْتَ، وَمَا أَسْرَرْتَ وَمَا أَعْلَنْتَ، وَمَا كَانَ مِنْكَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَرَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ

الْأَسَدِيِّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُرْسَلًا.
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ، عَنْ أَبِي يَعْلَى، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ الْمُسْتَمْلِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُسْتَمْلِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَ إِلَى عُثْمَانَ يَسْتَعِينُهُ فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَدْعُو لَهُ: " غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا عُثْمَانُ مَا أَسْرَرْتَ وَمَا أَعْلَنْتَ وَمَا أَخْفَيْتَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مَا يُبَالِي عُثْمَانُ مَا فَعَلَ بَعْدَ هَذَا ".
حَدِيثٌ آخَرُ: وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ: أَوَّلُ مَنْ خَبَصَ الْخَبِيصَ عُثْمَانُ ; خَلَطَ بَيْنَ الْعَسَلِ وَالنَّقِيِّ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى مَنْزِلِ أُمِّ سَلَمَةَ فَلَمْ يُصَادِفْهُ، فَلَمَّا جَاءَ وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ بَعَثَ بِهَذَا ؟ قَالُوا: عُثْمَانُ. قَالَتْ: فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ يَتَرَضَّاكَ فَارْضَ عَنْهُ ".
حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى أَبُو يَعْلَى، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عَطَاءٍ الْكَيْخَارَنِيِّ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اعْتَنَقَ عُثْمَانَ، وَقَالَ: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَوَلِيِّي فِي الْآخِرَةِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوَالَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَهْجُمُونَ عَلَى رَجُلٍ مُعْتَجِرٍ بِبُرْدَةٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، يُبَايِعُ النَّاسَ. قَالَ: فَهَجَمْنَا عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مُعْتَجِرًا يُبَايِعُ النَّاسَ.

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى فَضِيلَتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَمَّا تُوُفِّيَ عُمَرُ بَايَعْنَا خَيْرَنَا وَلَمْ نَأْلُ. وَفِي رِوَايَةٍ: بَايَعُوا خَيْرَهُمْ وَلَمْ يَأْلُوا.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ عُثْمَانَ: آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ عُثْمَانَ: آمَنَ عُثْمَانُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ ": ثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: أَدْرَكْتُ عُثْمَانَ عَلَى مَا نَقَمُوا عَلَيْهِ، قَلَّمَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ إِلَّا وَهُمْ يَقْتَسِمُونَ فِيهِ خَيْرًا، يُقَالُ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اغْدُوا عَلَى أَعْطِيَاتِكُمْ. فَيَأْخُذُونَهَا وَافِرَةً، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمُ: اغْدُوا عَلَى أَرْزَاقِكُمْ. فَيَأْخُذُونَهَا وَافِرَةً، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمُ: اغْدُوا عَلَى السَّمْنِ وَالْعَسَلِ، الْأَعْطِيَاتُ جَارِيَةٌ، وَالْأَرْزَاقُ دَارَّةٌ، وَالْعَدُوُّ مُتَّقًى، وَذَاتُ الْبَيْنِ حَسَنٌ، وَالْخَيْرُ

كَثِيرٌ، وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَخَافُ مُؤْمِنًا، مَنْ لَقِيَهُ فَهُوَ أَخُوهُ مَنْ كَانَ ; أُلْفَتُهُ وَنَصِيحَتُهُ وَمَوَدَّتُهُ، قَدْ عَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنَّهَا سَتَكُونُ أَثَرَةً، فَإِذَا كَانَتْ فَاصْبِرُوا. قَالَ الْحَسَنُ: فَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حِينَ رَأَوْهَا لَوَسِعَهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ وَالْخَيْرِ الْكَثِيرِ، قَالُوا: لَا وَاللَّهِ مَا نُصَابِرُهَا. فَوَاللَّهِ مَا رُدُّوا وَمَا سَلِمُوا، وَالْأُخْرَى كَانَ السَّيْفُ مُغْمَدًا عَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَسَلُّوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ مَسْلُولًا إِلَى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا، وَايْمُ اللَّهِ إِنِّي لِأُرَاهُ سَيْفًا مَسْلُولًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ يَأْمُرُ فِي خُطْبَتِهِ بِذَبْحِ وَقَتْلِ الْكِلَابِ.
وَرَوَى سَيْفُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ اتَّخَذَ بَعْضُهُمُ الْحَمَامَ، وَرَمَى بَعْضُهُمْ بِالْجُلَاهِقَاتِ، فَوَكَّلَ عُثْمَانُ رَجُلًا مِنْ بَنِي لَيْثٍ يَتَتَبَّعُ ذَلِكَ، فَيَقُصُّ الْحَمَامَ وَيَكْسِرُ الْجُلَاهِقَاتِ، وَهِيَ قِسِيُّ الْبُنْدُقِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَنَا الْقَعْنَبِيُّ، وَخَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ جَدَّتِهِ - وَكَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ - فَوَلَدَتْ هِلَالًا، فَفَقَدَهَا يَوْمًا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا قَدْ وَلَدَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ غُلَامًا. قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إِلَيَّ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَشُقَيْقَةً سُنْبُلَانِيَّةً، وَقَالَ: هَذَا عَطَاءُ ابْنِكِ وَكِسْوَتُهُ، فَإِذَا مَرَّتْ بِهِ سَنَةٌ رَفَعْنَاهُ إِلَى مِائَةٍ.

وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ، عَنِ ابْنِ دَابٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ عَنْكَثَةَ الْمَخْزُومِيُّ: انْطَلَقْتُ وَأَنَا غُلَامٌ فِي الظَّهِيرَةِ وَمَعِي طَيْرٌ أُرْسِلُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْمَسْجِدُ يُبْنَى، فَإِذَا شَيْخٌ جَمِيلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ نَائِمٌ، تَحْتَ رَأْسِهِ لَبِنَةٌ أَوْ بَعْضُ لَبِنَةٍ، فَقُمْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ أَتَعَجَّبُ مِنْ جَمَالِهِ، فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فَنَادَى غُلَامًا نَائِمًا، قَرِيبًا مِنْهُ، فَلَمْ يَجُبْهُ، فَقَالَ لِيَ: ادْعُهُ. فَدَعَوْتُهُ، فَأَمَرَهُ بِشَيْءٍ وَقَالَ لِيَ: اقْعُدْ. قَالَ: فَذَهَبَ الْغُلَامُ فَجَاءَ بِحُلَّةٍ، وَجَاءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَنَزَعَ ثُوبِي وَأَلْبَسَنِي الْحُلَّةَ، وَجَعَلَ الْأَلْفَ دِرْهَمٍ فِيهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى أَبِي فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكَ ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي إِلَّا أَنَّهُ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ نَائِمٌ لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ. قَالَ: ذَاكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ خَصِيفَةَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ التَّيْمِيَّ عَنْ صَلَاةِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ عَنْ صَلَاةِ عُثْمَانَ ؟ قَالَ:

نَعَمْ. قَالَ: قُلْتُ لَأَغْلِبَنَّ اللَّيْلَةَ النَّفَرَ عَلَى الْحَجَرِ - يَعْنِي الْمَقَامَ - فَلَمَّا قُمْتُ إِذَا رَجُلٌ يَزْحَمُنِي مُقَنَّعًا، قَالَ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا بِعُثْمَانَ فَتَأَخَّرْتُ عَنْهُ، فَصَلَّى فَإِذَا هُوَ يَسْجُدُ سُجُودَ الْقُرْآنِ حَتَّى إِذَا قُلْتُ: هَذَا هُوَ أَذَانُ الْفَجْرِ. أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ لَمْ يُصَلِّ غَيْرَهَا، ثُمَّ انْطَلَقَ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ صَلَّى بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، أَيَّامَ الْحَجِّ. وَقَدْ كَانَ هَذَا مِنْ دَأْبِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلِهَذَا رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [ الزُّمَرِ: 9 ] قَالَ: هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ النَّحْلِ: 76 ]. قَالَ: هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ.
وَقَالَ حَسَّانُ:
ضَحَّوْا بِأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحًا وَقُرْآنَا
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: ثَنَا إِسْرَائِيلُ بْنُ مُوسَى، سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: قَالَ عُثْمَانُ: لَوْ أَنَّ قُلُوبَنَا طَهُرَتْ مَا شَبِعْنَا مِنْ كَلَامِ رَبِّنَا، وَإِنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمٌ لَا أَنْظُرُ فِي الْمُصْحَفِ، وَمَا مَاتَ عُثْمَانُ حَتَّى خَرَقَ مُصْحَفَهُ مِنْ كَثْرَةِ مَا

يُدِيمُ النَّظَرَ فِيهِ.
وَقَالَ أَنَسٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: قَالَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ يَوْمَ الدَّارِ: اقْتُلُوهُ أَوْ دَعُوهُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ يُحْيِي اللَّيْلَ بِالْقُرْآنِ فِي رَكْعَةٍ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ لَا يُوقِظُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ لِيُعِينَهُ عَلَى وُضُوئِهِ، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ يَقْظَانَ، وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَكَانَ يُعَاتَبُ فَيُقَالُ لَهُ: لَوْ أَيْقَظْتَ بَعْضَ الْخَدَمِ ؟ فَيَقُولُ: لَا، اللَّيْلُ لَهُمْ يَسْتَرِيحُونَ فِيهِ. وَكَانَ إِذَا اغْتَسَلَ لَا يَرْفَعُ الْمِئْزَرَ عَنْهُ، وَهُوَ فِي بَيْتٍ مُغْلَقٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَرْفَعُ صُلْبَهُ جَيِّدًا مِنْ شِدَّةِ حَيَائِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ خُطَبِهِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُثْمَانَ لَمَّا بُويِعَ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ مَرْكَبٍ صَعْبٌ، وَإِنَّ بَعْدَ الْيَوْمِ أَيَّامًا، وَإِنْ أَعِشْ تَأْتِكُمُ الْخُطْبَةُ عَلَى وَجْهِهَا، وَمَا كُنَّا خُطَبَاءَ، وَسَيُعَلِّمُنَا اللَّهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: خَطَبَ عُثْمَانُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ غُنْمٌ، وَإِنَّ أَكْيَسَ النَّاسِ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَاكْتَسَبَ مِنْ نُورِ اللَّهِ نُورًا لِظُلْمَةِ الْقَبْرِ، وَلْيَخْشَ عَبْدٌ أَنْ يَحْشُرَهُ اللَّهُ أَعْمَى وَقَدْ كَانَ بَصِيرًا، وَقَدْ يَكْفِينِي الْحَكِيمُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَالْأَصَمُّ يُنَادَى مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّ مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ لَمْ يَخَفْ شَيْئًا، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَمَنْ يَرْجُو بَعْدَهُ ؟
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خَطَبَ عُثْمَانُ فَقَالَ: ابْنَ آدَمَ، اعْلَمْ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكَ لَمْ يَزَلْ يُخْلِفُكَ وَيَتَخَطَّى إِلَى غَيْرِكَ مُنْذُ أَنْتَ فِي الدُّنْيَا، وَكَأَنَّهُ قَدْ تَخَطَّى غَيْرَكَ إِلَيْكَ وَقَصَدَكَ، فَخُذْ حِذْرَكَ وَاسْتَعِدَّ لَهُ، وَلَا تَغْفُلْ فَإِنَّهُ لَا يَغْفُلُ عَنْكَ، وَاعْلَمْ

ابْنَ آدَمَ، إِنْ غَفَلْتَ عَنْ نَفْسِكَ وَلَمْ تَسْتَعِدَّ لَهَا، لَمْ يَسْتَعِدَّ لَهَا غَيْرُكَ، وَلَا بُدَّ مِنْ لِقَاءِ اللَّهِ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ وَلَا تَكِلْهَا إِلَى غَيْرِكَ. وَالسَّلَامُ.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ بَدْرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: آخَرُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عُثْمَانُ فِي جَمَاعَةٍ: إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَعْطَاكُمُ الدُّنْيَا لِتَطْلُبُوا بِهَا الْآخِرَةَ، وَلَمْ يُعْطِكُمُوهَا لِتَرْكَنُوا إِلَيْهَا، إِنَّ الدُّنْيَا تَفْنَى وَإِنَّ الْآخِرَةَ تَبْقَى، لَا تُبْطِرَنَّكُمُ الْفَانِيَةُ وَلَا تَشْغَلَنَّكُمْ عَنِ الْبَاقِيَةِ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، فَإِنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ، وَإِنَّ الْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ، اتَّقُوا اللَّهَ فَإِنَّ تَقْوَاهُ جُنَّةٌ مِنْ بَأْسِهِ، وَوَسِيلَةٌ عِنْدَهُ، وَاحْذَرُوا مِنَ اللَّهِ الْغِيَرَ، وَالْزَمُوا جَمَاعَتَكُمْ، لَا تَصِيرُوا أَحْزَابًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ [ آلِ عِمْرَانَ: 103، 104 ].

فَصْلٌ ( مَنَاقِبُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ )
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ الْأَسَدِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْمُؤَذِّنُ يُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَهُوَ يَسْتَخْبِرُ النَّاسَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ أَخْبَارِهِمْ وَأَسْعَارِهِمْ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا يُونُسُ - يَعْنِي ابْنَ عُبَيْدٍ - حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ فَرُّوخَ مَوْلَى الْقُرَشِيِّينَ أَنَّ عُثْمَانَ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ أَرْضًا فَأَبْطَأَ

عَلَيْهِ، فَلَقِيَهُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ مِنْ قَبْضِ مَالِكَ ؟ قَالَ: إِنَّكَ غَبَنْتَنِي، فَمَا أَلْقَى مِنَ النَّاسِ أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ يَلُومُنِي. قَالَ: أَوَذَلِكَ يَمْنَعُكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَاخْتَرْ بَيْنَ أَرْضِكَ وَمَالِكَ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَدْخَلَ اللَّهُ الْجَنَّةَ رَجُلًا كَانَ سَهْلًا ; مُشْتَرِيًا، وَبَائِعًا، وَقَاضِيًا، وَمُقْتَضِيًا.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ طَلْحَةَ لَقِيَ عُثْمَانَ وَهُوَ خَارِجٌ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ: إِنَّ الْخَمْسِينَ أَلْفًا الَّتِي لَكَ عِنْدِي قَدْ حَصَلَتْ، فَأَرْسِلْ مَنْ يَقْبِضُهَا. فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: إِنَّا قَدْ وَهَبْنَاكَهَا لِمُرُوءَتِكَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: اسْتَعْمَلَ ابْنُ عَامِرٍ قَطَنَ بْنَ عَوْفٍ الْهِلَالِيَّ عَلَى كَرْمَانَ، فَأَقْبَلَ جَيْشٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - أَرْبَعَةُ آلَافٍ - وَجَرَى الْوَادِي فَقَطَعَهُمْ عَنْ طَرِيقِهِمْ، وَخَشِيَ قَطَنٌ الْفَوْتَ فَقَالَ: مَنْ جَازَ الْوَادِي فَلَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ. فَحَمَلُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْعُظْمِ، فَكَانَ إِذَا جَازَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ قَالَ قَطَنٌ: أَعْطُوهُ جَائِزَتَهُ. حَتَّى جَازَوْا جَمِيعًا وَأَعْطَاهُمْ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَأَبَى ابْنُ عَامِرٍ أَنْ يَحْسِبَهَا لَهُ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ أَنِ احْسِبْهَا لَهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَعَانَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَمِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ سُمِّيَتِ الْجَوَائِزُ لِإِجَازَةِ الْوَادِي، فَقَالَ الْكِنَانِيُّ ذَلِكَ:

فِدًى لِلْأَكْرَمِينَ بَنِي هِلَالٍ عَلَى عِلَّاتِهِمْ أَهْلِي وَمَالِي هُمُ سَنُّوا الْجَوَائِزَ فِي مَعَدٍّ
فَعَادَتْ سُنَّةً أُخْرَى اللَّيَالِي رِمَاحُهُمُ تَزِيدُ عَلَى ثَمَانٍ
وَعَشْرٍ قَبْلَ تَرْكِيبِ النِّصَالِ

فَصْلٌ ( مَنَاقِبُهُ الْكِبَارُ وَحَسَنَاتُهُ الْعَظِيمَةُ )
وَمِنْ مَنَاقِبِهِ الْكِبَارِ وَحَسَنَاتِهِ الْعَظِيمَةِ أَنَّهُ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَتَبَ الْمُصْحَفَ عَلَى الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ، الَّتِي دَرَّسَهَا جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي آخِرِ سِنِي حَيَاتِهِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ كَانَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى، وَجَعَلَ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِسَوَغَانِ الْقِرَاءَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ يُفَضِّلُ قِرَاءَتَهُ عَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِ، وَرُبَّمَا خَطَّأَ الْآخَرَ أَوْ كَفَّرَهُ، فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى اخْتِلَافٍ شَدِيدٍ وَانْتِشَارٍ فِي الْكَلَامِ السَّيِّئِ بَيْنَ النَّاسِ، فَرَكِبَ حُذَيْفَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ تَخْتَلِفَ فِي كِتَابِهَا كَاخْتِلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي كُتُبِهِمْ. وَذَكَرَ لَهُ مَا شَاهَدَ مِنَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْقِرَاءَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ جَمَعَ عُثْمَانُ الصَّحَابَةَ وَشَاوَرَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَرَأَى أَنْ يَكْتُبَ الْمُصْحَفَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَأَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ ; لِمَا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ كَفِّ الْمُنَازَعَةِ وَدَفْعِ

الِاخْتِلَافِ، فَاسْتَدْعَى بِالصُّحُفِ الَّتِي كَانَ الصِّدِّيقُ أَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِجَمْعِهَا، وَكَانَتْ عِنْدَ الصِّدِّيقِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ كَانَتْ عِنْدَ عُمَرَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ صَارَتْ إِلَى حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَاسْتَدْعَى بِهَا عُثْمَانُ وَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ أَنْ يَكْتُبَ، وَأَنْ يُمْلِيَ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ الْأُمَوِيُّ، بِحَضْرَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْأَسَدِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَنْ يَكْتُبُوهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، فَكَتَبَ لِأَهْلِ الشَّامِ مُصْحَفًا وَلِأَهْلِ مِصْرَ آخَرَ، وَبَعَثَ إِلَى الْبَصْرَةِ مُصْحَفًا وَإِلَى الْكُوفَةِ بِآخَرَ، وَأَرْسَلَ إِلَى مَكَّةَ مُصْحَفًا وَإِلَى الْيَمَنِ مِثْلَهُ، وَأَقَرَّ بِالْمَدِينَةِ مُصْحَفًا، وَيُقَالُ لِهَذِهِ الْمَصَاحِفِ: الْأَئِمَّةُ. وَلَيْسَتْ كُلُّهَا بِخَطِّ عُثْمَانَ، بَلْ وَلَا وَاحِدٌ مِنْهَا، وَإِنَّمَا هِيَ بِخَطِّ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهَا: الْمَصَاحِفُ الْعُثْمَانِيَّةُ ; نِسْبَةً إِلَى أَمْرِهِ وَزَمَانِهِ وَإِمَارَتِهِ. كَمَا يُقَالُ: دِينَارٌ هِرَقْلِيُّ. أَيْ ضُرِبَ فِي زَمَانِهِ وَدَوْلَتِهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - وَرَوَاهُ غَيْرُهُ، مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - قَالَ: لَمَّا نَسَخَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: أَصَبْتَ وَوُفِّقْتَ، أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِنَّ أَشَدَّ أُمَّتِي حُبًّا لِي قَوْمٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي يَعْمَلُونَ بِمَا فِي الْوَرَقِ الْمُعَلَّقِ " فَقُلْتُ: أَيُّ وَرَقٍ ؟ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَصَاحِفَ. قَالَ: فَأَعْجَبَ ذَلِكَ عُثْمَانَ، وَأَمَرَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، وَقَالَ:

وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّكَ لَتَحْبِسُ عَلَيْنَا حَدِيثَ نَبِيِّنَا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بَقِيَّةِ الْمَصَاحِفِ الَّتِي بِأَيْدِي النَّاسِ مِمَّا يُخَالِفُ مَا كَتَبَهُ فَحَرَقَهُ ; لِئَلَّا يَقَعَ بِسَبَبِهِ اخْتِلَافٌ، فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ " الْمَصَاحِفِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَا: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ حِينَ حَرَقَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ: لَوْ لَمْ يَصْنَعْهُ هُوَ لَصَنَعْتُهُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ شُعْبَةَ مِثْلَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ - زَوْجِ أُخْتِ حُسَيْنٍ - عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَيْزَارَ بْنَ جَرْوَلَ، سَمِعْتُ سُوِيدَ بْنَ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي عُثْمَانَ، يَقُولُونَ: حَرَقَ الْمَصَاحِفَ. وَاللَّهِ مَا حَرَقَهَا إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ وَلِيتُ مِثْلَ مَا وَلِيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي فَعَلَ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ تَعَتَّبَ لَمَّا أُخِذَ مِنْهُ مُصْحَفُهُ فَحُرِّقَ، وَتَكَلَّمَ فِي تَقَدُّمِ إِسْلَامِهِ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الَّذِي كَتَبَ الْمَصَاحِفَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَغُلُّوا مَصَاحِفَهُمْ، وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [ آلِ عِمْرَانَ: 161 ] فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَدْعُوهُ إِلَى اتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ، وَجَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَعَدَمِ الِاخْتِلَافِ، فَأَنَابَ وَأَجَابَ إِلَى الْمُتَابَعَةِ وَتَرَكَ الْمُخَالَفَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ دَخَلَ مَسْجِدَ مِنًى، فَقَالَ: كَمْ صَلَّى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الظُّهْرَ ؟ قَالُوا: أَرْبَعًا. فَصَلَّى ابْنُ مَسْعُودٍ أَرْبَعًا، فَقَالُوا: أَلَمْ تُحَدِّثْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَأَنَا أُحَدِّثُكُمُوهُ الْآنَ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ الِاخْتِلَافَ.
وَفِي " الصَّحِيحِ " أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ - بِوَاسِطٍ - عَنْ أَشْيَاخِهِ قَالُوا: صَلَّى عُثْمَانُ الظُّهْرَ بِمِنًى أَرْبَعًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ مَسْعُودٍ، فَعَابَ عَلَيْهِ، ثُمَّ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ الْعَصْرَ فِي رَحْلِهِ أَرْبَعًا، فَقِيلَ لَهُ: عِبْتَ عَلَى عُثْمَانَ وَصَلَّيْتَ أَرْبَعًا ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ الْخِلَافَ. وَفِي رِوَايَةٍ: الْخِلَافُ شَرٌّ. فَإِذَا كَانَ هَذَا مُتَابَعَةً مِنَ

ابْنِ مَسْعُودٍ عُثْمَانَ فِي هَذَا الْفَرْعِ، فَكَيْفَ بِمُتَابَعَتِهِ إِيَّاهُ فِي أَصْلِ الْقُرْآنِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي التِّلَاوَةِ الَّتِي عَزَمَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَقْرَأُوا بِهَا لَا بِغَيْرِهَا ؟ وَقَدْ حَكَى الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُثْمَانَ إِنَّمَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ خَشْيَةً عَلَى الْأَعْرَابِ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ رَكْعَتَانِ. وَقِيلَ: بَلْ قَدْ تَأَهَّلَ بِمَكَّةَ. فَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ، مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُثْمَانَ صَلَّى بِهِمْ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِبَلَدٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَإِنِّي أَتْمَمْتُ لِأَنِّي تَزَوَّجْتُ بِهَا مُنْذُ قَدِمْتُهَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ، وَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ بِمَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ وَلَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عُثْمَانَ تَأَوَّلَ أَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ كَانَ. وَهَكَذَا تَأَوَّلَتْ عَائِشَةُ فَأَتَمَّتْ. وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ نَظَرٌ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ رَسُولُ اللَّهِ حَيْثُ كَانَ، وَمَعَ هَذَا مَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَسْفَارِ.
وَمِمَّا كَانَ يَعْتَمِدُهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَنَّهُ كَانَ يُلْزِمُ عُمَّالَهُ بِحُضُورِ الْمَوْسِمِ كُلَّ عَامٍ، وَيَكْتُبُ إِلَى الرَّعَايَا: مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَظْلِمَةٌ فَلْيُوَافِ إِلَى الْمَوْسِمِ، فَإِنِّي آخُذُ لَهُ حَقَّهُ مِنْ عَامِلِهِ. وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ سَمَحَ لِكَثِيرٍ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ فِي الْمَسِيرِ حَيْثُ شَاءُوا مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَ عُمَرُ يَحْجُرُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، حَتَّى وَلَا فِي الْغَزْوِ وَيَقُولُ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ تَرَوُا الدُّنْيَا أَوْ أَنْ يَرَاكُمْ أَبْنَاؤُهَا. فَلَمَّا

خَرَجُوا فِي زَمَانِ عُثْمَانَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمُ النَّاسُ، وَصَارَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَصْحَابٌ، وَطَمِعَ كُلُّ قَوْمٍ فِي تَوْلِيَةِ صَاحِبِهِمُ الْإِمَارَةَ الْعَامَّةَ بَعْدَ عُثْمَانَ، فَاسْتَعْجَلُوا مَوْتَهُ، وَاسْتَطَالُوا حَيَاتَهُ، حَتَّى وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

ذِكْرُ زَوْجَاتِهِ وَبَنِيهِ وَبَنَاتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
تَزَوَّجَ بِرُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوُلِدَ لَهُ مِنْهَا عَبْدُ اللَّهِ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، بَعْدَ مَا كَانَ يُكَنَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِأَبِي عَمْرٍو، ثُمَّ لَمَّا تُوُفِّيَتْ، تَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ، فَتَزَوَّجَ بِفَاخِتَةَ بِنْتِ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرٍ، فَوُلِدَ لَهُ مِنْهَا عُبَيْدُ اللَّهِ الْأَصْغَرُ. وَتَزَوَّجَ بِأُمِّ عَمْرٍو بِنْتِ جُنْدُبِ بْنِ عَمْرٍو الْأَزْدِيَّةِ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَمْرًا، وَخَالِدًا، وَأَبَانَ وَعُمَرَ، وَمَرْيَمَ، وَتَزَوَّجَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْمَخْزُومِيَّةِ، فَوَلَدَتْ لَهُ الْوَلِيدَ وَسَعِيدًا. وَتَزَوَّجَ أُمَّ الْبَنِينَ بِنْتَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفِزَارِيَّةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ، وَيُقَالُ: وَعُتْبَةَ. وَتَزَوَّجَ رَمْلَةَ بِنْتَ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَائِشَةَ، وَأُمَّ أَبَانَ، وَأُمَّ عَمْرٍو ; بَنَاتِ عُثْمَانَ. وَتَزَوَّجَ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ بْنِ الْأَحْوَصِ بْنِ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ ضَمْضَمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ جَنَابِ بْنِ كَلْبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ مَرْيَمَ وَيُقَالُ: وَعَنْبَسَةَ.

وَقُتِلَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعِنْدَهُ أَرْبَعٌ ; نَائِلَةُ، وَرَمْلَةُ، وَأُمُّ الْبَنِينَ، وَفَاخِتَةُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ طَلَّقَ أُمَّ الْبَنِينَ وَهُوَ مَحْصُورٌ.
فَصْلٌ
تَقَدَّمَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ نَاجِيَةَ الْكَاهِلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ رَحَى الْإِسْلَامِ سَتَدُورُ لِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، أَوْ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ يَهْلِكْ فَسَبِيلُ مَا هَلَكَ، وَإِنْ يَقْمْ لَهُمْ دِينُهُمْ، يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا ". قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبِمَا مَضَى أَمْ بِمَا بَقِيَ ؟ قَالَ: " بَلْ بِمَا بَقِيَ " وَفِي لَفْظٍ لَهُ وَلِأَبِي دَاوُدَ: تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ لِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ ". الْحَدِيثَ، وَكَأَنَّ هَذَا الشَّكَّ مِنَ الرَّاوِي، وَالْمَحْفُوظُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ: " خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ ". فَإِنَّ فِيهَا قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَعُثْمَانُ، عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَكَانَتْ أُمُورٌ شَنِيعَةٌ فَظِيعَةٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ وَوَقَى بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ فَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ بَايَعَ النَّاسُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُ، وَانْتَظَمَ الْأَمْرُ، وَاجْتَمَعَ الشَّمْلُ، وَلَكِنْ جَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أُمُورٌ فِي يَوْمِ الْجَمَلِ وَأَيَّامِ صِفِّينَ، عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

فَصْلٌ ( ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي زَمَانِ دَوْلَةِ عُثْمَانَ )
فِي ذِكْرِ مَنْ تُوُفِّيَ فِي زَمَانِ دَوْلَةِ عُثْمَانَ مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ وَقْتُ وَفَاتِهِ عَلَى التَّعْيِينِ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُ.
أَنَسُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ أَنَسِ بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ - وَيُقَالُ لَهُ: أُنَيْسٌ أَيْضًا، شَهِدَ الْمُشَاهِدَ كُلَّهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ، أَخُو عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْأَنْصَارِيِّانِ، شَهِدَ بَدْرًا، وَأَوْسٌ هُوَ زَوْجُ الْمُجَادِلَةِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [ الْمُجَادَلَةِ: 1 ]. وَأَمْرَأَتُهُ خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ.
أَوْسُ بْنُ خَوَلِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ، مِنْ بَنِي الْحُبَلَى، شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ الْمُنْفَرِدُ مِنْ بَيْنِ الْأَنْصَارِ بِحُضُورِ غُسْلِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنُّزُولِ مَعَ أَهْلِهِ فِي قَبْرِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، كَانَ سَيِّدًا فِي الْأَنْصَارِ، وَلَكِنْ كَانَ بَخِيلًا وَمُتَّهَمًا بِالنِّفَاقِ، يُقَالُ: إِنَّهُ شَهِدَ يَوْمَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يُبَايِعْ، وَاسْتَتَرَ بِبَعِيرٍ لَهُ. وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ الْآيَةَ [ التَّوْبَةِ: 49 ]. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ تَابَ مِنْ ذَلِكَ وَأَقْلَعَ عَنْهُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحُطَيْئَةُ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، قِيلَ: اسْمُهُ جَرْوَلٌ. وَيُكَنَّى بِأَبِي مُلَيْكَةَ، مِنْ بَنِي عَبْسٍ، أَدْرَكَ أَيَّامَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَدْرَكَ صَدْرًا مِنَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ يَطُوفُ فِي الْآفَاقِ يَمْتَدِحُ الرُّؤَسَاءَ مِنَ النَّاسِ، وَيَسْتَجْدِيهِمْ، وَيُقَالُ: كَانَ بَخِيلًا مَعَ ذَلِكَ. سَافَرَ مَرَّةً فَوَدَّعَ امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا:
عُدِّي السِّنِينَ إِذَا خَرَجْتُ لِغَيْبَةٍ وَدَعِي الشُّهُورَ فَإِنَّهُنَّ قِصَارُ
وَكَانَ مَدَّاحًا هَجَّاءً، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، وَمِنْ شِعْرِهِ مَا قَالَهُ بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَاسْتَجَادَ مِنْهُ قَوْلَهُ:

مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَمْ يَعْدِمْ جَوَازِيَهُ لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ
خُبَيْبُ بْنُ يَسَافِ بْنِ عِنَبَةَ الْأَنْصَارِيُّ، أَحَدُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا.
سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيُّ، يُقَالُ: لَهُ صُحْبَةٌ. كَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْأَبْطَالِ الْمَذْكُورِينَ وَالْفُرْسَانِ الْمَشْهُورِينَ، وَلَّاهُ عُمَرُ قَضَاءَ الْكُوفَةِ، ثُمَّ وَلِيَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ إِمْرَةً عَلَى جِهَادِ التُّرْكِ، فَقُتِلَ بِبَلَنْجَرَ، فَقَبْرُهُ هُنَاكَ فِي تَابُوتٍ يَسْتَسْقِي بِهِ التُّرْكُ إِذَا قَحَطُوا.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسٍ الْقُرَشِيُّ السَّهْمِيُّ، هَاجَرَ هُوَ وَأَخُوهُ قَيْسٌ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ الْقَائِلُ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ - وَكَانَ إِذَا لَاحَى الرِّجَالَ دُعِيَ لِغَيْرِ أَبِيهِ - فَقَالَ: " أَبُوكَ حُذَافَةُ ". وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَهُ إِلَى كِسْرَى، فَدَفَعَ كِتَابَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَبَعَثَ مَعَهُ مَنْ يُوَصِّلُهُ إِلَى هِرَقْلَ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ أَسَرَتْهُ الرُّومُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي جُمْلَةِ ثَمَانِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَرَادُوهُ عَلَى الْكُفْرِ فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: قَبِّلْ رَأْسِي وَأَنَا أُطْلِقُكَ وَمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، فَأَطْلَقَهُمْ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ قَالَ لَهُ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَكَ. ثُمَّ قَامَ عُمَرُ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَبَّلَهُ النَّاسُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُرَاقَةَ بْنِ الْمُعْتَمِرِ الْعَدَوِيُّ، صَحَابِيٌّ أُحُدِيٌّ، وَزَعَمَ الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْحَارِثِيُّ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: شَهِدَ بَدْرًا. اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ عَلَى الْبَصْرَةِ بَعْدَ مَوْتِ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، وَقَدْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فَرَقَاهُ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، وَهُوَ الْقَائِلُ لِأَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ جَاءَتْهُ جَدَّتَانِ فَأَعْطَى السُّدُسَ أُمَّ الْأُمِّ وَتَرَكَ الْأُخْرَى وَهِيَ أُمُّ الْأَبِ - فَقَالَ لَهُ: أَعْطَيْتَ الَّتِي لَوْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثْهَا، وَتَرَكْتَ الَّتِي لَوْ مَاتَتْ لَوَرِثَهَا. فَشَرَكَ بَيْنَهُمَا

.
عَمْرُو بْنُ سُرَاقَةَ بْنِ الْمُعْتَمِرِ الْعَدَوِيُّ، أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُرَاقَةَ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ كَبِيرٌ، رُوِيَ أَنَّهُ جَاعَ مَرَّةً فَرَبَطَ حَجَرًا عَلَى بَطْنِهِ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ، وَمَشَى يَوْمَهُ ذَلِكَ إِلَى اللَّيْلِ، فَأَضَافَهُ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ وَمَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا شَبِعَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُنْتُ أَحْسَبُ الرِّجْلَيْنِ يَحْمِلَانِ الْبَطْنَ، فَإِذَا الْبَطْنُ، يَحْمِلُ الرِّجْلَيْنِ.
عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلُ الْقَدْرِ كَبِيرُ الْمَحَلِّ، كَانَ يُقَالُ لَهُ: نَسِيجُ وَحْدِهِ. لِكَثْرَةِ زَهَادَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، شَهِدَ فَتْحَ الشَّامِ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَنَابَ بِحِمْصَ وَبِدِمَشْقَ أَيْضًا فِي زَمَانِ عُمَرَ، فَلَمَّا كَانَتْ خِلَافَةُ عُثْمَانَ عَزَلَهُ وَوَلَّى مُعَاوِيَةَ الشَّامَ بِكَمَالِهِ، وَلَهُ أَخْبَارٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا.
عُرْوَةُ بْنُ حِزَامٍ، أَبُو سَعِيدٍ الْعُذْرِيُّ، كَانَ شَاعِرًا مُغْرَمًا فِي ابْنَةِ عَمٍّ لَهُ، وَهِيَ عَفْرَاءُ بِنْتُ مُهَاجِرٍ، يَقُولُ فِيهَا الشِّعْرَ، وَاشْتُهِرَ بِحُبِّهَا فَارْتَحَلَ أَهْلُهَا مِنَ الْحِجَازِ إِلَى الشَّامِ، فَتَبِعَهُمْ عُرْوَةُ فَخَطَبَهَا إِلَى عَمِّهِ فَامْتَنَعَ مِنْ تَزْوِيجِهِ لِفَقْرِهِ، وَزَوَّجَهَا بِابْنِ عَمِّهَا الْآخَرِ، فَهَلَكَ عُرْوَةُ هَذَا فِي مَحَبَّتِهَا، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ " مُصَارِعِ الْعُشَّاقِ " وَمِنْ شِعْرِهِ فِيهَا قَوْلُهُ:
وَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً فَأُبْهَتُ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ

وَأُصْرَفُ عَنْ رَأْيِي الَّذِي كُنْتُ أَرْتَئِي وَأَنْسَى الَّذِي أَعْدَدْتُ حِينَ تَغِيبُ
قُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَقَبِيٌّ بَدْرِيٌّ.
قَيْسُ بْنُ قَهْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ، لَهُ حَدِيثٌ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ. وَزَعَمَ ابْنُ مَاكُولَا أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا. قَالَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ: هُوَ جَدُّ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: بَلْ

هُوَ جَدُّ أَبِي مَرْيَمَ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ الْكُوفِيِّ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ أَبُو عَقِيلٍ الْعَامِرِيُّ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ. صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ ;
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهُ بَاطِلُ
. وَتَمَامُ الْبَيْتِ:
وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ
فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ إِلَّا نَعِيمَ الْجَنَّةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمُسَيَّبُ بْنُ حَزْنِ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيُّ، شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَهُوَ وَالِدُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ سَيِّدِ التَّابِعِينَ.
مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا، وَضَرَبَ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَهْلٍ بِسَيْفِهِ فَقَطَعَ رِجْلَهُ، وَحَمَلَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهِلٍ عَلَى مُعَاذٍ هَذَا فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَحَلَّ يَدَهُ مِنْ كَتِفِهِ، فَقَاتَلَ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَهِيَ مُعَلَّقَةٌ يَسْحَبُهَا خَلْفَهُ، قَالَ مُعَاذٌ: فَلَمَّا آذَتْنِي وَضَعْتُ قَدَمِي عَلَيْهَا ثُمَّ تَمَطَّأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى طَرَحْتُهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ.

مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ، وُلِدَ لِأَبِيهِ وَهُوَ بِالْحَبَشَةِ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ سَنَةَ خَيْبَرَ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ مُؤْتَةَ شَهِيدًا، جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى مَنْزِلِهِمْ، فَقَالَ لِأُمِّهِمْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ " ائْتِينِي بِبَنِي أَخِي ". فَجِيءَ بِهِمْ كَأَنَّهُمْ أَفْرُخٌ، فَجَعَلَ يُقَبِّلُهُمْ وَيَشُمُّهُمْ وَيَبْكِي، فَبَكَتْ أُمُّهُمْ فَقَالَ: " أَتَخَافِينَ عَلَيْهِمُ الْعَيْلَةَ وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؟ ". ثُمَّ أَمَرَ الْحَلَّاقَ فَحَلَقَ رُءُوسَهُمْ. وَقَدْ مَاتَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ شَابٌّ فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي تُسْتَرَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَعْبَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُتِلَ شَابًّا بِإِفْرِيقِيَّةَ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ.
مُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ الدَّوْسِيُّ، صَاحِبُ خَاتَمِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ: تُوُفِّيَ فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ. وَقِيلَ: قَبْلَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مُنْقِذُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ، أَحَدُ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، كَانَ قَدْ أَصَابَتْهُ آمَّةٌ فِي رَأْسِهِ فَكَسَرَتْ لِسَانَهُ، وَضَعُفَ عَقْلُهُ، وَكَانَ يُكْثِرُ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَكَانَ يُغْبَنُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بَايَعْتَ فَقُلْ: لَا خِلَابَةَ. ثُمَّ أَنْتَ

بِالْخِيَارِ فِي كُلِّ مَا تَشْتَرِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ مُخَصَّصًا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةً فِي كُلِّ بَيْعٍ، سَوَاءٌ اشْتَرَطَ الْخِيَارَ أَمْ لَا.
نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ أَبُو سَلَمَةَ الْغَطَفَانِيُّ، وَهُوَ الَّذِي خَذَّلَ بَيْنَ الْأَحْزَابِ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ، فَلَهُ بِذَلِكَ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ، وَالرَّايَةُ الْعُلْيَا.
أَبُو ذُؤَيْبٍ خُوَيْلِدُ بْنُ خَالِدٍ الْهُذَلِيُّ، الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَأَسْلَمَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَهِدَ يَوْمَ السَّقِيفَةِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَشْعَرَ هُذَيْلٍ، وَهُذَيْلٌ أَشْعَرُ الْعَرَبِ، وَهُوَ الْقَائِلُ:
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا تَنْفَعُ
وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهُمُ أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتَضَعْضَعُ
تُوفِّيَ غَازِيًّا بِإِفْرِيقِيَّةَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ.
أَبُو رُهْمٍ سَبْرَةُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، الْقُرَشِيُّ الْعَامِرِيُّ. ذَكَرَهُ فِي هَذَا

الْفَصْلِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَحْدَهُ.
أَبُو زُبَيْدٍ الطَّائِيُّ، الشَّاعِرُ، اسْمُهُ حَرْمَلَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ، كَانَ نَصْرَانِيًّا، وَكَانَ يُجَالِسُ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى عُثْمَانَ، فَاسْتَنْشَدَهُ شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ، فَأَنْشَدَهُ قَصِيدَةً لَهُ فِي الْأَسَدِ بَدِيعَةً، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: تَفْتَأُ تَذْكُرُ الْأَسَدَ مَا حَيِيتَ ؟ إِنِّي لَأَحْسَبُكَ جَبَانًا نَصْرَانِيًّا.
أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ الْعَامِرِيُّ، أَخُو أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ، أُمُّهُمَا بَرَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا. قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بِكَّارٍ: لَا نَعْلَمُ بَدْرِيًّا سَكَنَ مَكَّةَ بَعْدَ النَّبِيِّ سِوَاهُ. قَالَ: وَأَهْلُهُ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ.

أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، أَحَدُ نُقَبَاءِ لَيْلَةِ الْعَقَبَةِ وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو هَاشِمِ بْنُ عُتْبَةَ، تَقَدَّمَ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ: فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

خِلَافَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَلِنَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ تَرْجَمَتِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ قَبْلَ ذَلِكَ.
هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ - بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - وَاسْمُهُ شَيْبَةُ - بْنِ هَاشِمٍ - وَاسْمُهُ عَمْرٌو - بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ - وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ - بْنُ قُصَيٍّ - وَاسْمُهُ زَيْدٌ - بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، أَبُو الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَيُكْنَى بِأَبِي تُرَابٍ وَأَبِي الْقَضْمِ، الْهَاشِمِيُّ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَتَنُهُ عَلَى ابْنَتِهِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ. وَأُمُّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ. وَيُقَالُ: إِنَّهَا أَوَّلُ هَاشِمِيَّةٍ وَلَدَتْ هَاشِمِيًّا. وَكَانَ لَهُ مِنَ الْإِخْوَةِ طَالِبٌ، وَعَقِيلٌ، وَجَعْفَرٌ، وَكَانُوا أَكْبَرَ مِنْهُ، بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ

مِنْهُمْ وَبَيْنَ الْآخَرِ عَشْرُ سِنِينَ، وَلَهُ أُخْتَانِ ; أُمُّ هَانِئٍ وَجُمَانَةُ، وَكُلُّهُمْ مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ، وَقَدْ أَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ.
1. كَانَ عَلِيٌّ أَحَدَ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَحَدَ السِّتَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى، وَكَانَ مِمَّنْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُمْ، وَكَانَ رَابِعَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَكَانَ رَجُلًا آدَمَ شَدِيدَ الْأُدْمَةِ شَكِلَ الْعَيْنَيْنِ عَظِيمَهُمَا، فِيهِمَا خَفَشٌ، ذُو بَطْنٍ، أَصْلَعَ، وَهُوَ إِلَى الْقِصَرِ أَقْرَبُ، وَكَانَ عَظِيمَ اللِّحْيَةِ، قَدْ مَلَأَتْ صَدْرَهُ وَمَنْكِبَيْهِ، أَبْيَضُهَا كَثِيرٌ، وَكَانَ كَثِيرَ شَعْرِ الصَّدْرِ وَالْكَتِفَيْنِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، ضَحُوكَ السِّنِّ، خَفِيفَ الْمَشْيِ عَلَى الْأَرْضِ.
أَسْلَمَ عَلِيٌّ قَدِيمًا وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ، وَقِيلَ: ابْنُ ثَمَانٍ. وَقِيلَ: تِسْعٍ. وَقِيلَ: عَشْرٍ. وَقِيلَ: إِحْدَى عَشْرَةَ. وَقِيلَ: اثْنَيْ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، أَوْ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ

أَسْلَمَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْغِلْمَانِ، كَمَا أَنَّ خَدِيجَةَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَتْ مِنَ النِّسَاءِ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمَوَالِي، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ. وَكَانَ سَبَبُ إِسْلَامِ عَلِيٍّ صَغِيرًا أَنَّهُ كَانَ فِي كَفَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَصَابَتْهُمْ سَنَةُ مَجَاعَةٍ فَأَخَذُوهُ مِنْ أَبِيهِ، فَكَانَ فِي كَفَالَتِهِ، فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ بِالْحَقِّ آمَنَتْ خَدِيجَةُ وَأَهْلُ الْبَيْتِ، وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ عَلِيٌّ، وَكَانَ الْإِيمَانُ النَّافِعُ الْمُتَعَدِّي نَفْعُهُ إِلَى النَّاسِ إِيمَانَ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ. وَلَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ أَوْرَدَهَا ابْنُ عَسَاكِرَ، كَثِيرَةٌ مُنْكَرَةٌ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ: سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ - رَجُلًا مِنْ مَوَالِي الْأَنْصَارِ - قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلِيٌّ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى. قَالَ عَمْرٌو: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّخَعِيِّ فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ خَدِيجَةُ، وَأَوَّلُ رَجُلَيْنِ آمَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ، وَلَكِنْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُظْهِرُ إِيمَانَهُ وَعَلِيٌّ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ. قُلْتُ: يَعْنِي خَوْفًا مِنْ أَبِيهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَبُوهُ بِمُتَابَعَةِ ابْنِ عَمِّهِ وَنُصْرَتِهِ.

وَهَاجَرَ عَلِيٌّ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ مَكَّةَ، وَكَانَ قَدْ أَمَرَهُ بِقَضَاءِ دُيُونِهِ وَرَدِّ وَدَائِعِهِ، ثُمَّ يَلْحَقُ بِهِ، فَامْتَثَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ، ثُمَّ هَاجَرَ، وَآخَى النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ. وَلَا يَصِحُّ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا ; لِضَعْفِ أَسَانِيدِهَا، وَرَكَّةِ بَعْضِ مُتُونِهَا، فَإِنَّ فِي بَعْضِهَا: " أَنْتَ أَخِي وَوَارِثِي وَخَلِيفَتِي وَخَيْرُ مَنْ أُمِّرَ بَعْدِي ". وَهَذَا الْحَدِيثُ مَوْضُوعٌ مُخَالِفٌ لِمَا ثَبَتَ فِي " الصِّحَاحِ " وَغَيْرِهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ شَهِدَ عَلِيٌّ بَدْرًا وَكَانَتْ لَهُ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ فِيهَا، بَارَزَ يَوْمَئِذٍ فَغَلَبَ وَظَهَرَ، وَفِيهِ وَفِي عَمِّهِ حَمْزَةَ وَابْنِ عَمِّهِ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَخُصُومِهِمُ الثَّلَاثَةِ - عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ - نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَانَ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ الْآيَةَ [ الْحَجِّ: 19 ]. وَقَالَ الْحَكَمُ وَغَيْرُهُ، عَنْ مِقْسَمٍ،عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَفَعَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الرَّايَةَ يَوْمَ بَدْرٍ إِلَى عَلِيٍّ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنِي عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَنْظَلِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: نَادَى مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ - يُقَالُ لَهُ: رِضْوَانُ -: لَا سَيْفَ إِلَّا ذُو

الْفَقَارِ وَلَا فَتًى إِلَّا عَلِيٌّ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَإِنَّمَا تَنَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ وَهَبَهُ مِنْ عَلِيٍّ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قِيلَ لِي يَوْمَ بَدْرٍ وَلِأَبِي بَكْرٍ قِيلَ لِأَحَدِنَا: مَعَكَ جِبْرِيلُ، وَمَعَ الْآخَرِ مِيكَائِيلُ. قَالَ: وَإِسْرَافِيلُ مَلَكٌ عَظِيمٌ يَشْهَدُ الْقِتَالَ وَلَا يُقَاتِلُ وَيَكُونُ فِي الصَّفِّ.
وَشَهِدَ عَلِيٌّ أُحُدًا، وَكَانَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ وَمَعَهُ الرَّايَةُ بَعْدَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى الْقَلْبِ، وَعَلَى الرَّجَّالَةِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَقِيلَ: الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ. وَقَدْ قَاتَلَ عَلِيٌّ يَوْمَئِذٍ قِتَالًا شَدِيدًا وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَغَسَلَ عَنْ وَجْهِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الدَّمَ حِينَ شُجَّ فِي رَأْسِهِ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ.
وَشَهِدَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ فَارِسَ الْعَرَبِ وَأَحَدَ شُجْعَانِهِمُ الْمَشَاهِيرِ، عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدٍّ الْعَامِرِيَّ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ.
وَشَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَبَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَشَهِدَ خَيْبَرَ وَكَانَتْ لَهُ بِهَا مَوَاقِفُ هَائِلَةٌ،

وَمَشَاهِدُ طَائِلَةٌ ; مِنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، فَدَعَا عَلِيًّا - وَكَانَ أَرْمَدَ - فَدَعَا لَهُ، وَبَصَقَ فِي عَيْنِهِ فَلَمْ يَرْمَدْ بَعْدَهَا، فَبَرَأَ وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، وَقَتَلَ مَرْحَبًا الْيَهُودِيَّ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ يَهُودِيًّا ضَرَبَ عَلِيًّا فَطَرَحَ تُرْسَهُ، فَتَنَاوَلَ بَابًا عِنْدَ الْحِصْنِ فَتَتَرَّسَ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ. قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنَا وَسَبْعَةٌ مَعِي نَجْهَدُ أَنْ نَقْلِبَ ذَلِكَ الْبَابَ عَلَى ظَهْرِهِ يَوْمَ خَيْبَرَ فَلَمْ نَسْتَطِعْ. وَقَالَ لَيْثٌ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عَلِيًّا حَمَلَ الْبَابَ عَلَى ظَهْرِهِ يَوْمَ خَيْبَرَ حَتَّى صَعِدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ فَفَتَحُوهَا، فَلَمْ يَحْمِلْهُ إِلَّا أَرْبَعُونَ رَجُلًا. وَمِنْهَا أَنَّهُ قَتَلَ مَرْحَبًا فَارِسَ يَهُودَ وَشُجَاعَهُمْ.
وَشَهِدَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَفِيهَا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ

مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ. وَمَا يُذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْقُصَّاصِ فِي مُقَاتَلَتِهِ الْجِنَّ فِي بِئْرِ ذَاتِ الْعَلَمِ - وَهُوَ بِئْرٌ قَرِيبٌ مِنَ الْجُحْفَةِ - فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَهُوَ مِنْ وَضْعِ الْجَهَلَةِ مِنَ الْأَخْبَارِيِّينَ فَلَا يُغْتَرُّ بِهِ.
وَشَهِدَ الْفَتْحَ وَحُنَيْنًا وَالطَّائِفَ، وَقَاتِلَ فِي هَذِهِ الْمَشَاهِدِ قِتَالًا كَثِيرًا، وَاعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى تَبُوكَ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُخَلِّفَنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ؟ فَقَالَ: أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي.
وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمِيرًا وَحَاكِمًا عَلَى الْيَمَنِ، وَمَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، ثُمَّ وَافَى رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِلَى مَكَّةَ، وَسَاقَ مَعَهُ هَدْيًا، وَأَهَلَّ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَنَحَرَا هَدْيَهُمَا بَعْدَ فَرَاغِ نُسُكِهِمَا، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَلَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مَنِ الْأَمْرِ بَعْدَهُ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَسْأَلُهُ، فَإِنَّهُ إِنْ مَنَعَنَاهَا لَا يُعْطِينَاهَا النَّاسُ بَعْدَهُ أَبَدًا. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يُوصِ إِلَيْهِ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ بِالْخِلَافَةِ، بَلْ لَوَّحَ بِذِكْرِ الصِّدِّيقِ، وَأَشَارَ إِشَارَةً مُفْهِمَةً ظَاهِرَةً جِدًّا إِلَيْهِ،

كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَأَمَّا مَا يَفْتَرِيهِ كَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ الشِّيعَةِ وَالْقُصَّاصِ الْأَغْبِيَاءِ، مِنْ أَنَّهُ أَوْصَى إِلَى عَلِيٍّ بِالْخِلَافَةِ، فَكَذِبٌ وَبَهْتٌ وَافْتِرَاءٌ عَظِيمٌ يَلْزَمُ مِنْهُ خَطَأٌ كَبِيرٌ ; مِنْ جَوْرِ الصَّحَابَةِ وَتَمَالُئِهِمْ بَعْدَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى تَرْكِ إِنْفَاذِ وَصِيَّتِهِ وَإِيصَالِهَا إِلَى مَنْ أَوْصَى إِلَيْهِ، وَصَرْفِهِمْ إِيَّاهَا إِلَى غَيْرِهِ لَا لِمَعْنًى وَلَا لِسَبَبٍ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يَتَحَقَّقُ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ هُوَ الْحَقُّ، يَعْلَمُ بُطْلَانَ هَذَا الِافْتِرَاءِ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا خَيْرَ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُمْ خَيْرُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ أَشْرَفُ الْأُمَمِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَمَا يَقُصُّهُ بَعْضُ الْقُصَّاصِ مِنَ الْعَوَامِّ وَغَيْرِهِمْ فِي الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهَا، مِنَ الْوَصِيَّةِ لِعَلِيٍّ بِآدَابٍ وَأَخْلَاقٍ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ، مِثْلَ مَا يَقُولُونَ: يَا عَلِيُّ لَا تَعْتَمَّ وَأَنْتَ قَاعِدٌ، يَا عَلِيُّ لَا تَلْبَسْ سَرَاوِيلَكَ وَأَنْتَ قَائِمٌ، يَا عَلِيُّ لَا تُمْسِكْ عِضَادَتَيِ الْبَابِ، وَلَا تَجْلِسْ عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ، وَلَا تَخِطْ ثَوْبَكَ وَهُوَ عَلَيْكَ. وَنَحْوَ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْهَذَيَانَاتِ فَلَا أَصْلَ لَهُ، بَلْ هُوَ اخْتِلَاقٌ وَكَذِبٌ وَزُورٌ.
ثُمَّ لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ عَلِيٌّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ غَسَّلَهُ وَكَفَّنَهُ وَوَلِيَ دَفْنَهُ،

كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَسَيَأْتِي فِي بَابِ فَضَائِلِهِ ذِكْرُ تَزْوِيجِهِ بِفَاطِمَةَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَوُلِدَ لَهُ مِنْهَا حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ وَمُحَسِّنٌ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ لَا يَصِحُّ كَثِيرٌ مِنْهَا بَلْ أَكْثَرُهَا مِنْ وَضْعِ الرَّوَافِضِ وَالْقُصَّاصِ.
وَلَمَّا بُويِعَ الصِّدِّيقُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ كَانَ عَلِيٌّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ بَايَعَ بِالْمَسْجِدِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَكَانَ بَيْنَ يَدَيِ الصِّدِّيقِ كَغَيْرِهِ مِنْ أُمَرَاءِ الصَّحَابَةِ يَرَى طَاعَتَهُ فَرْضًا عَلَيْهِ، وَأَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ قَدْ تَغَضَّبَتْ بَعْضَ التَّغَضُّبِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، بِسَبَبِ الْمِيرَاثِ الَّذِي فَاتَهَا مِنْ أَبِيهَا، عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ تَكُنِ اطَّلَعَتْ عَلَى النَّصِّ الْمُخْتَصِّ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُوَرَّثُونَ، فَلَمَّا بَلَغَهَا سَأَلَتْ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا نَاظِرًا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَةِ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَبَقِيَ فِي نَفْسِهَا شَيْءٌ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَاحْتَاجَ عَلِيٌّ أَنْ يُدَارِيَهَا بَعْضَ الْمُدَارَاةِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ جَدَّدَ عَلِيٌّ الْبَيْعَةَ مَعَ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَامَ عُمَرُ فِي الْخِلَافَةِ بِوَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، كَانَ عَلِيٌّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ بَايَعَهُ، وَكَانَ مَعَهُ يُشَاوِرُهُ فِي الْأُمُورِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْتَقْضَاهُ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ، وَقَدِمَ مَعَهُ فِي جُمْلَةِ سَادَاتِ أُمَرَاءِ الصَّحَابَةِ إِلَى الشَّامِ، وَشَهِدَ خُطْبَتَهُ بِالْجَابِيَةِ، فَلَمَّا طُعِنَ

عُمَرُ وَجَعَلَ الْأَمْرَ شُورَى فِي سِتَّةٍ أَحَدُهُمْ عَلِيٌّ، ثُمَّ خُلِصَ مِنْهُمْ بِعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - كَمَا قَدَّمْنَا - فَقُدِّمَ عُثْمَانُ عَلَى عَلِيٍّ، سَمِعَ وَأَطَاعَ. فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ، عَلَى الْمَشْهُورِ عَدَلَ النَّاسُ إِلَى عَلِيٍّ فَبَايَعُوهُ قَبْلَ أَنْ يُدْفَنَ عُثْمَانُ، وَقِيلَ: بَعْدَ دَفْنِهِ. كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدِ امْتَنَعَ عَلِيٌّ مِنْ مُبَايَعَتِهِمْ، وَفَرَّ مِنْهُمْ إِلَى حَائِطِ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ، وَأَغْلَقَ بَابَهُ وَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ الْإِمَارَةِ حَتَّى تَكَرَّرَ قَوْلُهُمْ، فَجَاءَ النَّاسُ فَطَرَقُوا الْبَابَ وَوَلَجُوا عَلَيْهِ، وَجَاءُوا مَعَهُمْ بِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ بِلَا أَمِيرٍ، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَجَابَ.

ذِكْرُ بَيْعَةِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِالْخِلَافَةِ
فَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ طَلْحَةُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَكَانَتْ شَلَّاءَ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ - لَمَّا وَقَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، - فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَتِمُّ. وَخَرَجَ عَلِيٌّ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ وَعِمَامَةُ خَزٍّ، وَنَعْلَاهُ فِي يَدِهِ، يَتَوَكَّأُ عَلَى قَوْسِهِ، فَبَايَعَهُ عَامَّةُ النَّاسِ، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، وَيُقَالُ: إِنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ إِنَّمَا بَايَعَاهُ بَعْدَ أَنْ طَلَبَهُمَا وَسَأَلَاهُ أَنْ

يُؤَمِّرُهُمَا عَلَى الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، فَقَالَ لَهُمَا: بَلْ تَكُونَانِ عِنْدِي أَسْتَأْنِسُ بِكُمَا.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يُبَايِعْهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ; مِنْهُمْ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَكَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ. ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ الْمَدَائِنِيِّ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ. قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: هَرَبَ قَوْمٌ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ وَلَمْ يُبَايِعُوا عَلِيًّا، وَلَمْ يُبَايِعْهُ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. قُلْتُ: وَهَرَبَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، وَآخَرُونَ إِلَى الشَّامِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: بَايَعَ النَّاسُ عَلِيًّا بِالْمَدِينَةِ، وَتَرَبَّصَ سَبْعَةُ نَفَرٍ لَمْ يُبَايِعُوا ; مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَصُهَيْبٌ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَّا بَايَعَ فِيمَا نَعْلَمُ.
وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ شُيُوخِهِ قَالُوا: بَقِيَتِ الْمَدِينَةُ خَمْسَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ وَأَمِيرُهَا الْغَافِقِيُّ بْنُ حَرْبٍ، يَلْتَمِسُونَ مَنْ يُجِيبُهُمْ إِلَى الْقِيَامِ

بِالْأَمْرِ وَالْمِصْرِيُّونَ يُلِحُّونَ عَلَى عَلِيٍّ وَهُوَ يَهْرُبُ مِنْهُمْ إِلَى الْحِيطَانِ، وَيَطْلُبُ الْكُوفِيُّونَ الزَّبِيرَ، فَلَا يَجِدُونَهُ، وَالْبَصْرِيُّونَ يَطْلُبُونَ طَلْحَةَ فَلَا يُجِيبُهُمْ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: لَا نُوَلِّي أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ. فَمَضَوْا إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالُوا: إِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى. فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، ثُمَّ جَاءُوا إِلَى ابْنِ عُمَرَ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَحَارُوا فِي أَمْرِهِمْ، ثُمَّ قَالُوا: إِنْ نَحْنُ رَجَعْنَا إِلَى أَمْصَارِنَا بِقَتْلِ عُثْمَانَ مِنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ، اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَمْرِهِمْ وَلَمْ نَسْلَمْ. فَرَجَعُوا إِلَى عَلِيٍّ فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ، وَأَخَذَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ بِيَدِهِ فَبَايَعَهُ وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ يَقُولُونَ: أَوَّلُ مَنْ بَايَعَهُ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ. وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُرَاجَعَةِ النَّاسِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَكُلُّهُمْ يَقُولُ: لَا يَصْلُحُ لَهَا إِلَّا عَلِيٌّ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، بَايَعَهُ مَنْ لَمْ يُبَايِعْهُ بِالْأَمْسِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ طَلْحَةُ بِيَدِهِ الشَّلَّاءِ، فَقَالَ قَائِلٌ: إِنَّا لِلَّهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ قَالَ الزُّبَيْرُ: إِنَّمَا بَايَعْتُ عَلِيًّا وَاللُّجُّ عَلَى عُنُقِي. ثُمَّ رَاحَ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ كِتَابًا

هَادِيًا بَيَّنَ فِيهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، فَخُذُوا بِالْخَيْرِ وَدَعُوا الشَّرَّ، إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ حُرُمًا مُجْمَلَةً، وَفَضَّلَ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْحُرُمِ كُلِّهَا، وَشَدَّ بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ إِلَّا بِالْحَقِّ، لَا يَحِلُّ أَذَى مُسْلِمٍ إِلَّا بِمَا يَجِبُ، بَادِرُوا أَمْرَ الْعَامَّةِ، وَخَاصَّةُ أَحَدِكُمُ الْمَوْتُ، فَإِنَّ النَّاسَ أَمَامَكُمْ وَإِنَّمَا خَلْفَكُمُ السَّاعَةُ تَحْدُوكُمْ فَتَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا، فَإِنَّمَا يَنْتَظِرُ النَّاسُ أُخْرَاهُمُ، اتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَهُ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ، إِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَالْبَهَائِمِ، أَطِيعُوا اللَّهَ وَلَا تَعْصُوهُ، وَإِذَا رَأَيْتُمُ الْخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ وَإِذَا رَأَيْتُمُ الشَّرَّ فَدَعُوهُ: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ [ الْأَنْفَالِ: 26 ] فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ قَالَ الْمِصْرِيُّونَ:
خُذْهَا إِلَيْكَ وَاحْذَرَنْ أَبَا الْحَسَنْ إِنَّا نُمِرُّ الْأَمْرَ إِمْرَارَ الرَّسَنْ صَوْلَةَ أَقْوَامٍ كَأَسْدَادِ السُّفُنْ
بِمَشْرَفِيَّاتٍ كَغُدْرَانِ اللَّبَنْ

وَنَطْعُنُ الْمُلْكَ بِلِينٍ كَالشَّطَنْ
حَتَّى يُمَرَّنَّ عَلَى غَيْرِ عَنَنْ
فَقَالَ عَلِيٌّ مُجِيبًا لَهُمْ:
إِنِّي عَجَزْتُ عَجْزَةً لَا أَعْتَذِرْ سَوْفَ أَكِيسُ بَعْدَهَا وَأَسْتَمِرْ
أَرْفَعُ مِنْ ذَيْلِيَ مَا كُنْتُ أَجُرْ وَأَجْمَعُ الْأَمْرَ الشَّتِيتَ الْمُنْتَشِرْ
إِنْ لَمْ يُشَاغِبْنِي الْعَجُولُ الْمُنْتَصِرْ أَوْ يَتْرُكُونِي وَالسِّلَاحُ يُبْتَدَرْ
وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَى الْحَرْبِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى الْخَرَاجِ جَابِرُ بْنُ فُلَانٍ الْمُزَنِيُّ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى مِصْرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَقَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَعَلَى الشَّامِ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَنُوَّابُهُ ; عَلَى حِمْصَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَلَى قِنَّسْرِينَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَعَلَى الْأُرْدُنِّ أَبُو الْأَعْوَرِ، وَعَلَى فِلَسْطِينَ عَلْقَمَةُ بْنُ حَكِيمٍ، وَعَلَى أَذْرَبِيجَانَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَلَى قَرْقِيسْيَاءَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَعَلَى حُلْوَانَ عُتَيْبَةُ بْنُ

النَّهَّاسِ، وَعَلَى مَاهَ مَالِكُ بْنُ حَبِيبٍ، وَعَلَى هَمَذَانَ النُّسَيْرُ. هَذَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ نُوَّابِ عُثْمَانَ الَّذِينَ تُوَفِّيَ وَهُمْ نُوَّابُ الْأَمْصَارِ، وَكَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى قَضَاءِ الْمَدِينَةِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ.
وَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ خَرَجَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ وَمَعَهُ قَمِيصُ عُثْمَانَ مُضَمَّخٌ بِدَمِهِ، وَمَعَهُ أَصَابِعُ نَائِلَةَ الَّتِي أُصِيبَتْ حِينَ جَاحَفَتْ عَنْهُ بِيَدِهَا، فَقُطِعَتْ مَعَ بَعْضِ الْكَفِّ فَوَرَدَ بِهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، فَوَضَعَهُ مُعَاوِيَةُ عَلَى الْمِنْبَرِ لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَعَلَّقَ الْأَصَابِعَ فِي كُمِّ الْقَمِيصِ، وَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِ هَذَا الدَّمِ وَصَاحِبِهِ، فَتَبَاكَى النَّاسُ حَوْلَ الْمِنْبَرِ، وَجَعَلَ الْقَمِيصُ يُرْفَعُ تَارَةً وَيُوضَعُ تَارَةً، وَالنَّاسُ يَتَبَاكَوْنَ حَوْلَهُ سَنَةً، وَحَثَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِهِ، وَاعْتَزَلَ أَكْثَرُ النَّاسِ النِّسَاءَ فِي هَذَا الْعَامِ، وَقَامَ فِي النَّاسِ مُعَاوِيَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعَهُ يُحَرِّضُونَ النَّاسَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِدَمِ عُثْمَانَ مِمَّنْ قَتَلَهُ مِنْ أُولَئِكَ الْخَوَارِجِ ; مِنْهُمْ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَعَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمِنَ التَّابِعِينَ ;

شَرِيكُ بْنُ خُبَاشَةَ، وَأَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ بَيْعَةِ عَلِيٍّ دَخَلَ عَلَيْهِ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَرُءُوسُ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَطَلَبُوا مِنْهُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَالْأَخْذَ بِدَمِ عُثْمَانَ. فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ مَدَدٌ وَأَعْوَانٌ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ يَوْمَهُ هَذَا، فَطَلَبَ مِنْهُ الزُّبَيْرُ أَنْ يُوَلِّيَهُ إِمْرَةَ الْكُوفَةِ لِيَأْتِيَهُ بِالْجُنُودِ، وَطَلَبَ مِنْهُ طَلْحَةُ أَنْ يُوَلِّيَهُ إِمْرَةَ الْبَصْرَةِ لِيَأْتِيَهُ مِنْهَا بِالْجُنُودِ، لِيَتَقَوَّى بِهِمْ عَلَى شَوْكَةِ هَؤُلَاءِ الْخَوَارِجِ، وَجَهَلَةِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُمَا: حَتَّى أَنْظُرَ فِي هَذَا. وَدَخَلَ عَلَيْهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَرَى أَنْ تُقِرَّ عُمَّالَكَ عَلَى الْبِلَادِ، فَإِذَا أَتَتْكَ طَاعَتُهُمُ اسْتَبْدَلْتَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَنْ شِئْتَ وَتَرَكْتَ مَنْ شِئْتَ. ثُمَّ جَاءَهُ مِنَ الْغَدِ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَرَى أَنْ تَعْزِلَهُمْ لِتَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُكَ مِمَّنْ يَعْصِيكَ. فَعَرَضَ ذَلِكَ عَلِيٌّ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَقَدْ نَصَحَكَ بِالْأَمْسِ وَغَشَّكَ الْيَوْمَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُغِيرَةَ فَقَالَ: نَعَمْ نَصَحْتُهُ فَلَمَّا لَمْ يَقْبَلْ غَشَشْتُهُ. ثُمَّ خَرَجَ الْمُغِيرَةُ فَلَحِقَ

بِمَكَّةَ، وَلَحِقَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ بِمَكَّةَ، وَكَانُوا قَدِ اسْتَأْذَنُوا عَلِيًّا فِي الِاعْتِمَارِ فَأَذِنَ لَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَشَارَ عَلَى عَلِيٍّ بِاسْتِمْرَارِهِ بِنُوَّابِهِ فِي الْبِلَادِ إِلَى حِينِ يَتَمَكَّنُ الْأَمْرُ، وَأَنْ يُقِرَّ مُعَاوِيَةَ خُصُوصًا عَلَى الشَّامِ وَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَخْشَى إِنْ عَزَلْتَهُ عَنْهَا أَنْ يُطَالِبَكَ بِدَمِ عُثْمَانَ، وَلَا آمَنُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ أَنْ يَكِرَّا عَلَيْكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنِّي لَا أَرَى هَذَا، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ إِلَى الشَّامِ فَقَدْ وَلَّيْتُكَهَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَخْشَى مِنْ مُعَاوِيَةَ أَنْ يَقْتُلَنِي بِعُثْمَانَ، أَوْ يَحْبِسَنِي لِقَرَابَتِي مِنْكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَمَنِّهِ وَعِدْهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ أَطَعْتَنِي لَأُورِدَنَّهُمْ بَعْدَ صَدْرِهِمْ. وَنَهَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَلِيًّا فِيمَا أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُحَسِّنُونَ لَهُ الدُّخُولَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَمُفَارَقَةَ الْمَدِينَةِ، فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَطَاوَعَ أَمْرَ أُولَئِكَ الْأُمَرَاءِ مِنْ أُولَئِكَ الْخَوَارِجِ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَصَدَ قُسْطَنْطِينُ بْنُ هِرَقْلَ بِلَادَ

الْمُسْلِمِينَ فِي أَلْفِ مَرْكَبٍ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَغَرَّقَهُ اللَّهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَمَنْ مَعَهُ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا الْمَلِكُ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ صِقِلِّيَةَ عَمِلُوا لَهُ حَمَّامًا فَدَخَلَهُ فَقَتَلُوهُ فِيهِ وَقَالُوا: أَنْتَ قَتَلْتَ رِجَالَنَا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَقَدْ تَوَلَّى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْخِلَافَةَ وَوَلَّى عَلَى الْأَمْصَارِ نُوَّابًا ; فَوَلَّى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْيَمَنِ، وَوَلَّى عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَعُمَارَةَ بْنَ شِهَابٍ عَلَى الْكُوفَةِ، وَقَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَلَى مِصْرَ، وَعَلَى الشَّامِ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ بَدَلَ مُعَاوِيَةَ، فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ فَتَلَقَّتْهُ خَيْلُ مُعَاوِيَةَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَمِيرٌ. قَالُوا: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ ؟ قَالَ: عَلَى الشَّامِ. فَقَالُوا: إِنْ كَانَ عُثْمَانُ بَعَثَكَ فَحَيَّهَلًا بِكَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ بَعَثَكَ فَارْجِعْ. فَقَالَ: أَوَمَا سَمِعْتُمُ الَّذِي كَانَ ؟ قَالُوا: بَلَى. فَرَجَعَ إِلَى عَلِيٍّ. وَأَمَّا قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ أَهْلُ مِصْرَ فَبَايَعَ لَهُ الْجُمْهُورُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا نُبَايِعُ حَتَّى نَقْتُلَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ. وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ. وَأَمَّا عُمَارَةُ بْنُ شِهَابٍ الْمَبْعُوثُ أَمِيرًا عَلَى الْكُوفَةِ فَصَدَّهُ عَنْهَا طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ غَضَبًا لِعُثْمَانَ، فَرَجَعَ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ، وَانْتَشَرَتِ الْفِتْنَةُ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ، وَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عَلِيٍّ بِطَاعَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمُبَايَعَتِهِمْ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ.
وَبَعَثَ عَلِيٌّ إِلَى مُعَاوِيَةَ كُتُبًا كَثِيرَةً فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ لَهَا جَوَابًا، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِرَارًا إِلَى الشَّهْرِ الثَّالِثِ مِنْ مَقْتَلِ عُثْمَانَ فِي صَفَرٍ، ثُمَّ بَعَثَ مُعَاوِيَةُ

طُومَارًا مَعَ رَجُلٍ، فَدَخَلَ بِهِ عَلَى عَلِيٍّ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: مَا وَرَاءَكَ ؟ قَالَ: جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ قَوْمٍ لَا يُرِيدُونَ إِلَّا الْقَوَدَ، كُلُّهُمْ مَوْتُورٌ، تَرَكْتُ سِتِّينَ أَلْفَ شَيْخٍ يَبْكُونَ تَحْتَ قَمِيصِ عُثْمَانَ، وَهُوَ عَلَى مِنْبَرِ دِمَشْقَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ. ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ مُعَاوِيَةَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ عَلِيٍّ، فَهَمَّ بِهِ أُولَئِكَ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ قَتَلُوا عُثْمَانَ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، فَمَا أَفْلَتَ إِلَّا بَعْدَ جُهْدٍ. وَعَزَمَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ وَكَتَبَ إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ بِمِصْرَ يَسْتَنْفِرُ النَّاسَ لِقِتَالِهِمْ، وَإِلَى أَبِي مُوسَى بِالْكُوفَةِ، وَبَعَثَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ بِذَلِكَ، وَخَطَبَ النَّاسَ فَحَثَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَعَزَمَ عَلَى التَّجَهُّزِ، وَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا قُثَمَ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَهُوَ عَازِمٌ أَنْ يُقَاتِلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ وَخَرَجَ عَنْ أَمْرِهِ وَلَمْ يُبَايِعْهُ مَعَ النَّاسِ. وَجَاءَ إِلَيْهِ ابْنُهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَبَهْ دَعْ هَذَا فَإِنَّ فِيهِ سَفْكَ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَوُقُوعَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ. فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ ذَلِكَ، بَلْ صَمَّمَ عَلَى الْقِتَالِ، وَرَتَّبَ الْجَيْشَ فَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَجَعَلَ ابْنَ الْعَبَّاسِ عَلَى الْمَيْمَنَةِ، وَعُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ، وَقِيلَ: جَعَلَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ عَمْرَو

بْنَ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ. وَجَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَبَا لَيْلَى بْنَ عُمَرَ بْنِ الْجَرَّاحِ، ابْنَ أَخِي أَبِي عُبَيْدَةَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قُثَمَ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ قَاصِدًا الشَّامَ، حَتَّى جَاءَهُ مَنْ شَغَلَهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَهُوَ مَا سَنَذْكُرُهُ.

ابْتِدَاءُ وَقْعَةِ الْجَمَلِ
لَمَّا وَقَعَ قَتْلُ عُثْمَانَ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ خَرَجْنَ إِلَى الْحَجِّ فِي هَذَا الْعَامِ فِرَارًا مِنَ الْفِتْنَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ النَّاسَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ، أَقَمْنَ بِمَكَّةَ بَعْدَ مَا خَرَجُوا مِنْهَا، رَجَعُوا إِلَيْهَا فَأَقَامُوا بِهَا، وَجَعَلُوا يَنْتَظِرُونَ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ، فَلَمَّا بُويِعَ لِعَلِيٍّ وَصَارَ أَحْظَى النَّاسِ عِنْدَهُ - بِحُكْمِ الْحَالِ وَغَلَبَةِ الرَّأْيِ لَا عَنِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ لِذَلِكَ - رُءُوسَ أُولَئِكَ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ قَتَلُوا عُثْمَانَ، مَعَ أَنَّ عَلِيًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَكْرَهُهُمْ، وَلَكِنَّهُ تَرَبَّصَ بِهِمُ الدَّوَائِرَ، وَيَوَدُّ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْهُمْ لِيَأْخُذَ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَمَّا وَقَعَ الْأَمْرُ هَكَذَا وَاسْتَحْوَذُوا عَلَيْهِ وَحَجَبُوا عَنْهُ عِلْيَةَ

الصَّحَابَةِ، فَرَّ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَغَيْرِهِمْ إِلَى مَكَّةَ، وَاسْتَأْذَنَهُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فِي الِاعْتِمَارِ، فَأَذِنَ لَهُمَا، فَخَرَجَا إِلَى مَكَّةَ وَتَبِعَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ. وَكَانَ عَلِيٌّ لَمَّا عَزَمَ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ قَدْ نَدَبَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، وَطَلَبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَحَرَّضَهُ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَإِنْ خَرَجُوا خَرَجْتُ، وَعَلَيَّ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، وَلَكِنْ لَا أَخْرُجُ لِلْقِتَالِ فِي هَذَا الْعَامِ. ثُمَّ تَجَهَّزَ ابْنُ عُمَرَ وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ. وَقَدِمَ إِلَى مَكَّةَ أَيْضًا فِي هَذَا الْعَامِ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ مِنَ الْيَمَنِ - وَكَانَ عَامِلًا عَلَيْهَا لِعُثْمَانَ - وَمَعَهُ سِتُّمِائَةِ بَعِيرٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَدِمَ إِلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ نَائِبَهَا لِعُثْمَانَ.
فَاجْتَمَعَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَامَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فِي النَّاسِ تَخْطُبُهُمْ وَتَحُثُّهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِطَلَبِ دَمِ عُثْمَانَ، وَذَكَرَتْ مَا افْتَاتَ بِهِ أُولَئِكَ مِنْ قَتْلِهِ فِي بَلَدٍ حَرَامٍ وَشَهْرٍ حَرَامٍ، وَلَمْ يُرَاقِبُوا جِوَارَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ سَفَكُوا الدِّمَاءَ وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ. فَاسْتَجَابَ النَّاسُ لَهَا، وَطَاوَعُوهَا عَلَى مَا تَرَاهُ مِنَ الْأَمْرِ، وَقَالُوا لَهَا: حَيْثُمَا سِرْتِ سِرْنَا مَعَكِ. فَقَالَ قَائِلٌ: نَذْهَبُ إِلَى الشَّامِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَدْ كَفَاكُمْ أَمْرَهَا. وَلَوْ قَدِمُوهَا لَغَلَبُوا، وَاجْتَمَعَ الْأَمْرُ كُلُّهُ لَهُمْ ; لِأَنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ مَعَهُمْ. وَقَالَ

آخَرُونَ: نَذْهَبُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَطْلُبُ مِنْ عَلِيٍّ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْنَا قَتَلَةَ عُثْمَانَ فَيُقْتَلُوا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَذْهَبُ إِلَى الْبَصْرَةِ فَنَتَقَوَّى بِالْخَيْلِ وَالرِّجَالِ، وَنَبْدَأُ بِمَنْ هُنَاكَ مِنْ قَتَلَتِهِ. فَاتَّفَقَ الرَّأْيُ عَلَى ذَلِكَ، وَوَافَقَ بَقِيَّةُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْبَصْرَةِ رَجَعْنَ عَنْ ذَلِكَ، وَقُلْنَ: لَا نَسِيرُ إِلَى غَيْرِ الْمَدِينَةِ. وَجَهَّزَ النَّاسَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، فَأَنْفَقَ فِيهِمْ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَسِتَّمِائَةِ بَعِيرٍ، وَجَهَّزَهُمُ ابْنُ عَامِرٍ أَيْضًا بِمَالٍ كَثِيرٍ: وَكَانَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ وَافَقَتْ عَائِشَةَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَمَنَعَهَا أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَأَبَى هُوَ أَنْ يَسِيرَ مَعَهُمْ إِلَى غَيْرِ الْمَدِينَةِ، وَسَارَ النَّاسُ صُحْبَةَ عَائِشَةَ فِي أَلْفٍ. وَقِيلَ: تِسْعِمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ. وَتَلَاحَقَ بِهِمْ آخَرُونَ، فَصَارُوا فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ تُحْمَلُ فِي هَوْدَجٍ عَلَى جَمَلٍ اسْمُهُ عَسْكَرٌ، اشْتَرَاهُ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ عُرَيْنَةَ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ. وَقِيلَ: بِثَمَانِينَ دِينَارًا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَسَارَ مَعَهَا أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى ذَاتِ عِرْقٍ فَفَارَقْنَهَا هُنَالِكَ وَبَكَيْنَ لِلْوَدَاعِ، وَتَبَاكَى النَّاسُ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يُسَمَّى يَوْمَ النَّحِيبِ.
وَسَارَ النَّاسُ قَاصِدِينَ الْبَصْرَةَ، وَكَانَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ عَنْ أَمْرِ عَائِشَةَ ابْنُ أُخْتِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ يُؤَذِّنُ لِلنَّاسِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، وَقَدْ مَرُّوا فِي مَسِيرِهِمْ لَيْلًا بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ الْحَوْأَبُ. فَنَبَحَتْهُمْ كِلَابٌ عِنْدَهُ، فَلَمَّا

سَمِعَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ قَالَتْ: مَا اسْمُ هَذَا الْمَاءِ ؟ قَالُوا: الْحَوْأَبُ. فَضَرَبَتْ بِإِحْدَى يَدَيْهَا عَلَى الْأُخْرَى وَقَالَتْ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَا أَظُنُّنِي إِلَّا رَاجِعَةً. قَالُوا: وَلِمَ ؟ قَالَتْ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ لِنِسَائِهِ: لَيْتَ شِعْرِي أَيَّتُكُنَّ الَّتِي تَنْبَحُهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ. ثُمَّ ضَرَبَتْ عَضُدَ بَعِيرِهَا فَأَنَاخَتْهُ، وَقَالَتْ: رُدُّونِي، أَنَا وَاللَّهِ صَاحِبَةُ مَاءِ الْحَوْأَبِ. وَقَدْ أَوْرَدْنَا هَذَا الْحَدِيثَ بِطُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ كَمَا سَبَقَ. فَأَنَاخَ النَّاسُ حَوْلَهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً وَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّ الَّذِي أَخْبَرَكِ أَنَّ هَذَا مَاءُ الْحَوْأَبِ قَدْ كَذَبَ. ثُمَّ قَالَ النَّاسُ: النَّجَاءَ النَّجَاءَ ! هَذَا جَيْشُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَدْ أَقْبَلَ. فَارْتَحَلُوا نَحْوَ الْبَصْرَةِ.
فَلَمَّا اقْتَرَبَتْ مِنَ الْبَصْرَةِ كَتَبَتْ إِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ رُءُوسِ النَّاسِ أَنَّهَا قَدْ قَدِمَتْ. فَبَعَثَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ وَأَبَا الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيَّ إِلَيْهَا لِيَعْلَمَا مَا جَاءَتْ لَهُ، فَلَمَّا قَدِمَا عَلَيْهَا، سَلَّمَا عَلَيْهَا، وَاسْتَعْلَمَا مِنْهَا مَا جَاءَتْ لَهُ، فَذَكَرَتْ لَهُمَا مَا الَّذِي جَاءَتْ لَهُ مِنَ الْقِيَامِ بِطَلَبِ دَمِ عُثْمَانَ ; لِأَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ وَبَلَدٍ حَرَامٍ. وَتَلَتْ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ الْآيَةَ [ النِّسَاءِ: 114 ] فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهَا فَجَاءَا إِلَى طَلْحَةَ فَقَالَا لَهُ: مَا أَقْدَمَكَ ؟ فَقَالَ: الطَّلَبُ بِدَمِ عُثْمَانَ. فَقَالَا: أَمَا بَايَعْتَ عَلِيًّا ؟ قَالَ: بَلَى وَالسَّيْفُ عَلَى عُنُقِي،

وَلَا أَسْتَقْبِلُهُ إِنْ هُوَ لَمْ يُخَلِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ. فَذَهَبَا إِلَى الزُّبَيْرِ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَ: فَرَجَعَ عِمْرَانُ وَأَبُو الْأَسْوَدِ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، فَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ:
يَا ابْنَ حُنَيْفٍ قَدْ أَتَيْتَ فَانْفِرِ وَطَاعِنِ الْقَوْمَ وَجَالِدْ وَاصْبِرِ
وَاخْرُجْ لَهُمْ مُسْتَلْثِمًا وَشَمِّرِ
فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، دَارَتْ رَحَا الْإِسْلَامُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَانْظُرُوا بِأَيِّ زَيَفَانٍ تَزِيفُ. فَقَالَ عِمْرَانُ: إِي وَاللَّهِ لَتَعْرُكَنَّكُمْ عَرْكًا طَوِيلًا. يُشِيرُ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا:تَدُورُ رَحَا الْإِسْلَامِ لِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ قَالَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: أَشِرْ عَلَيَّ. فَقَالَ: اعْتَزِلْ فَإِنِّي قَاعِدٌ فِي مَنْزِلِي. أَوْ قَالَ: قَاعِدٌ عَلَى بَعِيرِي فَذَاهِبٌ. فَقَالَ عُثْمَانُ: بَلْ أَمْنَعُهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَنَادَى فِي النَّاسِ يَأْمُرُهُمْ بِلُبْسِ السِّلَاحِ وَالِاجْتِمَاعِ فِي الْمَسْجِدِ، فَاجْتَمَعُوا فَأَمَرَهُمْ، بِالتَّجَهُّزِ، فَقَامَ رَجُلٌ وَعُثْمَانُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ جَاءُوا خَائِفِينَ فَقَدْ جَاءُوا مِنْ بَلَدٍ يَأْمَنُ فِيهَا الطَّيْرُ، وَإِنْ كَانُوا جَاءُوا يَطْلُبُونَ بِدَمِ عُثْمَانَ فَمَا نَحْنُ بِقَتَلَتِهِ، فَأَطِيعُونِي وَرُدُّوهُمْ مِنْ

حَيْثُ جَاءُوا. فَقَامَ الْأَسْوَدُ بْنُ سَرِيعٍ السَّعْدِيُّ فَقَالَ: إِنَّمَا جَاءُوا يَسْتَعِينُونَ بِنَا عَلَى قَتَلَةِ عُثْمَانَ مِنَّا وَمِنْ غَيْرِنَا. فَحَصَبَهُ النَّاسُ، فَعَلِمَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ أَنَّ لِقَتَلَةِ عُثْمَانَ بِالْبَصْرَةِ أَنْصَارًا فَكَسَرَهُ ذَلِكَ.
وَقَدِمَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَنْ مَعَهَا مِنَ النَّاسِ، فَنَزَلُوا الْمِرْبَدَ مِنْ أَعْلَاهُ قَرِيبًا مِنَ الْبَصْرَةِ، وَخَرَجَ إِلَيْهَا مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَكَانَ مَعَهَا، وَخَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ بِالْجَيْشِ، فَاجْتَمَعُوا بِالْمِرْبَدِ، فَتَكَلَّمَ طَلْحَةُ - وَكَانَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ - فَنَدَبَ إِلَى الْأَخْذِ بِثَأْرِ عُثْمَانَ وَالطَّلَبِ بِدَمِهِ، وَتَابَعَهُ الزُّبَيْرُ فَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ مَقَالَتِهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِمَا نَاسٌ مِنْ جَيْشِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ، وَتَكَلَّمَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَحَرَّضَتْ وَحَثَّتْ عَلَى ذَلِكَ، فَتَثَاوَرَ طَوَائِفُ مِنْ أَطْرَافِ الْجَيْشَيْنِ، فَتَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ، ثُمَّ تَحَاجَزَ النَّاسُ وَرَجَعَ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى حَوْزَتِهِ، وَقَدْ صَارَتْ طَائِفَةٌ مِنْ جَيْشِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ إِلَى جَيْشِ عَائِشَةَ، فَكَثُرُوا. وَجَاءَ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ السَّعْدِيُّ فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ لَقَتْلُ عُثْمَانَ أَهْوَنُ مِنْ خُرُوجِكِ مِنْ بَيْتِكِ عَلَى هَذَا الْجَمَلِ عُرْضَةً لِلسِّلَاحِ، إِنْ كُنْتِ أَتَيْتِنَا طَائِعَةً فَارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ إِلَى مَنْزِلِكِ، وَإِنْ كُنْتِ أَتَيْتِنَا مُكْرَهَةً فَاسْتَعِينِي بِالنَّاسِ فِي الرُّجُوعِ.
وَأَقْبَلَ حُكَيْمُ بْنُ جَبَلَةَ - وَكَانَ عَلَى خَيْلِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ - فَأَنْشَبَ الْقِتَالَ وَجَعَلَ أَصْحَابُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ يَكُفُّونَ أَيْدِيَهُمْ وَيَمْتَنِعُونَ مِنَ الْقِتَالِ، وَجَعَلَ حُكَيْمٌ

يَقْتَحِمُ عَلَيْهِمْ فَاقْتَتَلُوا عَلَى فَمِ السِّكَّةِ، وَأَمَرَتْ عَائِشَةُ أَصْحَابَهَا فَتَيَامَنُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مَقْبَرَةِ بَنِي مَازِنٍ، وَحَجَزَ اللَّيْلُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي قَصَدُوا الْقِتَالَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، إِلَى أَنْ زَالَ النَّهَارُ، وَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ حُنَيْفٍ، وَكَثُرَتِ الْجِرَاحُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، فَلَمَّا عَضَّتْهُمُ الْحَرْبُ تَدَاعَوْا إِلَى الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يَكْتُبُوا بَيْنَهُمْ كِتَابًا وَيَبْعَثُوا رَسُولًا إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَسْأَلُ أَهْلَهَا ; إِنْ كَانَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ أُكْرِهَا عَلَى الْبَيْعَةِ، خَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ عَنِ الْبَصْرَةِ وَأَخْلَاهَا لَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا أُكْرِهَا عَلَى الْبَيْعَةِ، خَرَجَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ عَنْهَا وَأَخْلَوْهَا لَهُ. وَبَعَثُوا بِذَلِكَ كَعْبَ بْنَ سُورٍ الْقَاضِي، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَامَ فِي النَّاسِ فَسَأَلَهُمْ: هَلْ بَايَعَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ طَائِعَيْنِ أَوْ مُكْرَهَيْنِ ؟ فَسَكَتَ النَّاسُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَقَالَ: بَلْ كَانَا مُكْرَهَيْنِ. فَثَارَ إِلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ فَأَرَادُوا ضَرْبَهُ، فَجَاحَفَ دُونَهُ صُهَيْبٌ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَجَمَاعَةٌ حَتَّى خَلَّصُوهُ وَقَالُوا لَهُ: مَا وَسِعَكَ مَا وَسِعَنَا مِنَ السُّكُوتِ ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْأَمْرَ يَنْتَهِي إِلَى هَذَا. وَكَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ يَقُولُ: إِنَّهُمَا لَمْ يُكْرَهَا عَلَى فُرْقَةٍ، وَلَقَدْ أُكْرِهَا عَلَى جَمَاعَةٍ وَفَضْلٍ، فَإِنْ كَانَا يُرِيدَانِ الْخَلْعَ فَلَا عُذْرَ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَا يُرِيدَانِ غَيْرَ ذَلِكَ نَظَرَا وَنَظَرْنَا. وَقَدِمَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ عَلَى عُثْمَانَ بِكِتَابِ عَلِيٍّ، فَقَالَ عُثْمَانُ: هَذَا أَمْرٌ آخَرُ غَيْرُ مَا كُنَّا فِيهِ. وَبَعَثَ طَلْحَةُ

وَالزُّبَيْرُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِمَا فَأَبَى. فَجَمَعَا الرِّجَالَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَشَهِدَ بِهِمْ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَلَمْ يَخْرُجْعُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، وَوَقَعَ مِنْ رِعَاعِ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ كَلَامٌ وَضَرْبٌ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ نَحْوٌ مَنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا، وَدَخَلَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ قَصْرَهُ، فَأَخْرَجُوهُ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَلَمْ يَبْقَ فِي وَجْهِهِ شَعْرَةٌ إِلَّا نَتَفُوهَا، فَاسْتَعْظَمَا ذَلِكَ وَبَعَثَا إِلَى عَائِشَةَ فَأَعْلَمَاهَا الْخَبَرَ، فَأَمَرَتْ أَنْ تُخَلَّى سَبِيلُهُ، فَأَطْلَقُوهُ وَوَلَّوْا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَقَسَّمَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ فِي النَّاسِ، وَفَضَّلُوا أَهْلَ الطَّاعَةِ، وَأَكَبَّ عَلَيْهِمُ النَّاسُ يَأْخُذُونَ أَرْزَاقَهُمْ، وَأَخَذُوا الْحَرَسَ، وَاسْتَبَدُّوا بِالْأَمْرِ فِي الْبَصْرَةِ، فَحَمِيَ لِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ قَوْمِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَأَنْصَارِهِمْ، فَرَكِبُوا فِي جَيْشٍ قَرِيبٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَمُقَدَّمُهُمْ حُكَيْمُ بْنُ جَبَلَةَ، وَهُوَ أَحَدُ مَنْ بَاشَرَ قَتْلَ عُثْمَانَ، فَبَارَزُوا وَقَاتَلُوا، فَضَرَبَ رَجُلٌ رِجْلَ حُكَيْمِ بْنِ جَبَلَةَ فَقَطَعَهَا، فَزَحَفَ حَتَّى أَخَذَهَا وَضَرَبَ بِهَا ضَارِبَهُ فَقَتَلَهُ ثُمَّ أَتَّكَأَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ يَقُولُ:
يَا سَاقُ لَنْ تُرَاعِى إِنَّ مَعِي ذِرَاعِي
أَحْمِي بِهَا كُرَاعِي
وَقَالَ أَيْضًا

لَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أَمُوتَ عَارُ وَالْعَارُ فِي النَّاسِ هُوَ الْفِرَارُ
وَالْمَجْدُ لَا يَفْضَحُهُ الدَّمَارُ
فَمَرَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَهُوَ مُتَّكِئٌ بِرَأْسِهِ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ قَتَلَكَ ؟ فَقَالَ: وِسَادَتِي. ثُمَّ مَاتَ حُكَيْمٌ قَتِيلًا هُوَ وَنَحْوٌ مَنْ سَبْعِينَ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَأَنْصَارِهِمْ، فَضَعُفَ جَأْشُ مَنْ خَالَفَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ.. وَيُقَالُ: إِنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ بَايَعُوا طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ، وَنَدَبَ الزُّبَيْرُ أَلْفَ فَارِسٍ يَأْخُذُهَا مَعَهُ وَيَلْتَقِي عَلِيًّا قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، وَكَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ يُبَشِّرُونَهُمْ بِذَلِكَ. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ.
وَقَدْ كَتَبَتْ عَائِشَةُ إِلَى زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ تَدْعُوهُ إِلَى نُصْرَتِهَا وَالْقِيَامِ مَعَهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِئْ فَلْيَكُفَّ يَدَهُ وَلْيَلْزَمْ مَنْزِلَهُ، أَيْ لَا يَكُونُ عَلَيْهَا وَلَا لَهَا، فَقَالَ: أَنَا فِي نُصْرَتِكِ مَا دُمْتِ فِي مَنْزِلِكِ. وَأَبَى أَنْ يُطِيعَهَا فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أُمِرَتْ أَنْ تَلْزَمَ بَيْتَهَا، وَأُمِرْنَا أَنْ نُقَاتِلَ، فَخَرَجَتْ مِنْ مَنْزِلِهَا وَأَمَرَتْنَا بِلُزُومِ بُيُوتِنَا الَّتِي كَانَتْ هِيَ أَحَقَّ بِذَلِكَ مِنَّا. وَكَتَبَتْ عَائِشَةُ إِلَى أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَالْكُوفَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ.

ذِكْرُ مَسِيرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ بَدَلًا عَنْ مَسِيرِهِ إِلَى الشَّامِ
بَعْدَ أَنْ كَانَ قَدْ تَجَهَّزَ قَاصِدًا الشَّامَ، كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَصْدُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ الْبَصْرَةَ، خَطَبَ النَّاسَ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْبَصْرَةِ لِيَمْنَعَ أُولَئِكَ مِنْ دُخُولِهَا إِنْ أَمْكَنَ أَوْ يَطْرُدَهُمْ عَنْهَا إِنْ كَانُوا قَدْ دَخَلُوهَا، فَتَثَاقَلَ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَاسْتَجَابَ لَهُ بَعْضُهُمْ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا نَهَضَ مَعَهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ غَيْرُ سِتَّةِ نَفَرٍ مِنَ الْبَدْرِيِّينَ، لَيْسَ لَهُمْ سَابِعٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرْبَعَةٌ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ قَالَ: كَانَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لَهُ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، وَأَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَزِيَادُ بْنُ حَنْظَلَةَ، وَخُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ. قَالُوا: وَلَيْسَ بِذِي الشَّهَادَتَيْنِ، ذَاكَ مَاتَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَسَارَ عَلِيٌّ مِنَ الْمَدِينَةِ نَحْوَ الْبَصْرَةِ عَلَى تَعْبِئَتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَى الشَّامِ، غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ تَمَّامَ بْنَ عَبَّاسٍ، وَعَلَى مَكَّةَ قُثَمَ بْنَ

عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. وَخَرَجَ عَلِيٌّ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي نَحْوٍ مِنْ تِسْعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، وَقَدْ لَقِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلِيًّا وَهُوَ بِالرَّبَذَةِ، فَأَخَذَ بِلِجَامِ فَرَسِهِ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَخْرُجْ مِنْهَا فَوَاللَّهِ لَئِنْ خَرَجْتَ مِنْهَا لَا يَعُودُ إِلَيْهَا سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ أَبَدًا. فَسَبَّهُ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ عَلِيٌّ: دَعُوهُ فَنِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى أَبِيهِ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: لَقَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي، تُقْتَلُ غَدًا بِمَضْيَعَةٍ لَا نَاصِرَ لَكَ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّكَ لَا تَزَالُ تَحِنُّ عَلَىَّ حَنِينَ الْجَارِيَةِ، وَمَا الَّذِي نَهَيْتَنِي عَنْهُ فَعَصَيْتُكَ ؟ فَقَالَ: أَلَمْ آمُرْكَ قَبْلَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا لِئَلَّا يُقْتَلَ وَأَنْتَ بِهَا، فَيَقُولُ قَائِلٌ أَوْ يَتَحَدَّثُ مُتَحَدِّثٌ ؟ أَلَمْ آمُرْكَ أَنْ لَا تُبَايِعَ النَّاسَ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْكَ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ بَيْعَتَهُمْ ؟ وَأَمَرْتُكَ حِينَ خَرَجَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ وَهَذَانِ الرَّجُلَانِ أَنْ تَجْلِسَ فِي بَيْتِكَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَعَصَيْتَنِي فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَمَّا قَوْلُكَ أَنِّي أَخْرُجُ قَبْلَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، فَلَقَدْ أُحِيطَ بِنَا كَمَا أُحِيطَ بِهِ، وَأَمَّا مُبَايَعَتِي قَبْلَ مَجِيءِ بَيْعَةِ الْأَمْصَارِ، فَكَرِهْتُ أَنْ يَضِيعَ هَذَا الْأَمْرُ، وَأَمَّا أَنْ أَجْلِسَ وَقَدْ ذَهَبَ هَؤُلَاءِ إِلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، فَتُرِيدُنِي أَنْ أَكُونَ كَالضَّبُعِ الَّتِي يُحَاطُ بِهَا وَيُقَالُ: لَيْسَتْ هَاهُنَا. حَتَّى يُحَلَّ عُرْقُوبُهَا فَتَخْرُجَ،

فَإِذَا لَمْ أَنْظُرْ فِيمَا يَلْزَمُنِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ وَيَعْنِينِي، فَمَنْ يَنْظُرُ فِيهِ ؟ فَكُفَّ عَنِّي يَا بُنَيَّ.
وَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ خَبَرُ مَا صَنَعَ الْقَوْمُ بِالْبَصْرَةِ، كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ: إِنِّي قَدِ اخْتَرْتُكُمْ عَلَى الْأَمْصَارِ، وَفَزِعْتُ إِلَيْكُمْ لِمَا حَدَثَ، فَكُونُوا لِدِينِ اللَّهِ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا، وَانْهَضُوا إِلَيْنَا، فَالْإِصْلَاحَ نُرِيدُ لِتَعُودَ هَذِهِ الْأُمَّةُ إِخْوَانًا. فَمَضَيَا وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَخَذَ مَا أَرَادَ مِنْ سِلَاحٍ وَدَوَابٍّ، وَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَعَزَّنَا بِالْإِسْلَامِ وَرَفَعَنَا بِهِ، وَجَعَلَنَا بِهِ إِخْوَانًا بَعْدَ ذِلَّةٍ وَقِلَّةٍ وَتَبَاغُضٍ وَتَبَاعُدٍ، فَجَرَى النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ ; الْإِسْلَامُ دِينُهُمْ، وَالْحَقُّ قَائِمٌ بَيْنَهُمْ، وَالْكِتَابُ إِمَامُهُمْ، حَتَّى أُصِيبَ هَذَا الرَّجُلُ بِأَيْدِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَذَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ لِيَنْزِغَ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَلَا وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ لَا بُدَّ مُفْتَرِقَةٌ كَمَا افْتَرَقَتِ الْأُمَمُ قَبْلَهَا، فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ مَا هُوَ كَائِنٌ. ثُمَّ عَادَ ثَانِيَةً فَقَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ أَنْ يَكُونَ، أَلَا وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ; شَرُّهَا فِرْقَةٌ تُحِبُّنِي وَلَا تَعْمَلُ بِعَمَلِي، وَقَدْ أَدْرَكْتُمْ وَرَأَيْتُمْ، فَالْزَمُوا دِينَكُمْ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ، وَاتَّبِعُوا سُنَّتَهُ،

وَأَعْرِضُوا عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَعْرِضُوهُ عَلَى الْكِتَابِ، فَمَا عَرَّفَهُ الْقُرْآنُ فَالْزَمُوهُ، وَمَا أَنْكَرَهُ فَرُدُّوهُ، وَارْضَوْا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ حَكَمًا وَإِمَامًا.
قَالَ: فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ مِنَ الرَّبَذَةِ قَامَ إِلَيْهِ ابْنٌ لِرِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ ؟ وَأَيْنَ تَذْهَبُ بِنَا ؟ فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي نُرِيدُ وَنَنْوِي فَالْإِصْلَاحُ، إِنْ قَبِلُوا مِنَّا وَأَجَابُوا إِلَيْهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يُجِيبُوا إِلَيْهِ ؟ قَالَ: نَدَعُهُمْ بِغَدْرِهِمْ وَنُعْطِيهِمُ الْحَقَّ وَنَصْبِرُ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَرْضَوْا ؟ قَالَ: نَدَعُهُمْ مَا تَرَكُونَا. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُونَا ؟ قَالَ: امْتَنَعْنَا مِنْهُمْ. قَالَ: فَنَعَمْ إِذًا. فَقَامَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ بْنُ غَزِيَّةَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: لَأُرْضِيَنَّكَ بِالْفِعْلِ كَمَا أَرْضَيْتَنِي بِالْقَوْلِ، وَاللَّهِ لَيَنْصُرَنِّي اللَّهُ كَمَا سَمَّانَا أَنْصَارًا.
قَالَ: وَأَتَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ طَيِّئٍ وَعَلِيٌّ بِالرَّبَذَةِ، فَقِيلَ لَهُ: هَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ جَاءُوا مِنْ طَيِّئٍ ; مِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ الْخُرُوجَ مَعَكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ السَّلَامَ عَلَيْكَ. فَقَالَ: جَزَى اللَّهُ كُلًّا خَيْرًا وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [ النِّسَاءِ: 95 ] ثُمَّ سَارَ مِنَ الرَّبَذَةِ عَلَى تَعْبِئَتِهِ وَهُوَ رَاكِبٌ نَاقَةً حَمْرَاءَ يَقُودُ فَرَسًا كُمَيْتَا، فَلَمَّا كَانَ بِفَيْدٍ جَاءَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَسَدٍ وَطَيِّئٍ، فَعَرَضُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ: فِي مَنْ

مَعِي كِفَايَةٌ. وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يُقَالُ لَهُ: عَامِرُ بْنُ مَطَرٍ الشَيْبَانِيُّ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: مَا وَرَاءَكَ ؟ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى فَقَالَ: إِنْ أَرَدْتَ الصُّلْحَ فَأَبُو مُوسَى صَاحِبُهُ، وَإِنْ أَرَدْتَ الْقِتَالَ فَلَيْسَ بِصَاحِبِهِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: وَاللَّهِ مَا أُرِيدُ إِلَّا الصُّلْحَ مِمَّنْ تَمَرَّدَ عَلَيْنَا.
وَسَارَ فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنَ الْكُوفَةِ وَجَاءَهُ الْخَبَرُ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ عَلَى جَلِيَّتِهِ، مِنْ قَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْ إِخْرَاجِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَأَخْذِهِمْ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ، جَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ عَافِنِي مِمَّا ابْتَلَيْتَ بِهِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى ذِي قَارٍ أَتَاهُ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ مُهَشَّمًا، وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ شَعْرَةٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَعَثْتَنِي إِلَى الْبَصْرَةِ وَأَنَا ذُو لِحْيَةٍ، وَقَدْ جِئْتُكَ أَمْرَدَ. فَقَالَ: أَصَبْتَ أَجْرًا وَخَيْرًا. وَقَالَ عَنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ: اللَّهُمَّ احْلُلْ مَا عَقَدَا، وَلَا تُبْرِمْ مَا أَحْكَمَا فِي أَنْفُسِهِمَا، وَأَرِهِمَا الْمَسَاءَةَ فِيمَا قَدْ عَمِلَا - يَعْنِي فِي هَذَا الْأَمْرِ. وَأَقَامَ عَلِيٌّ بِذِي قَارٍ يَنْتَظِرُ جَوَابَ مَا كَتَبَ بِهِ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَصَاحِبِهِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ - وَكَانَا قَدْ قَدِمَا بِكِتَابِهِ عَلَى أَبِي مُوسَى، وَقَامَا فِي النَّاسِ بِأَمْرِهِ - فَلَمْ يُجَابَا فِي شَيْءٍ، فَلَمَّا أَمْسَوْا دَخَلَ نَاسٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا عَلَى أَبِي مُوسَى يَعْرِضُونَ عَلَيْهِ الطَّاعَةَ لِعَلِيٍّ، فَقَالَ: كَانَ هَذَا بِالْأَمْسِ. فَغَضِبَ مُحَمَّدٌ وَمُحَمَّدٌ، فَقَالَا لَهُ قَوْلًا غَلِيظًا، فَقَالَ لَهُمَا: وَاللَّهِ إِنَّ بَيْعَةَ عُثْمَانَ لَفِي عُنُقِي وَعُنُقِ صَاحِبِكُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قِتَالٍ فَلَا نُقَاتِلُ أَحَدًا حَتَّى نَفْرَغَ مِنْ قَتَلَةِ

عُثْمَانَ حَيْثُ كَانُوا وَمَنْ كَانُوا. فَانْطَلَقَا إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ، وَهُوَ بِذِي قَارٍ، فَقَالَ لِلْأَشْتَرِ: أَنْتَ صَاحِبُنَا فِي أَبِي مُوسَى وَالْمُعْتَرِضُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ! فَاذْهَبْ أَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَأَصْلِحْ مَا أَفْسَدْتَ. فَخَرَجَا فَقَدِمَا الْكُوفَةَ، وَكَلَّمَا أَبَا مُوسَى، وَاسْتَعَانَا عَلَيْهِ بِنَفَرٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِينَ صَحِبُوهُ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مِمَّنْ لَمْ يَصْحَبْهُ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا حَقًّا، وَأَنَا مُؤَدٍّ إِلَيْكُمْ نَصِيحَةً، كَانَ الرَّأْيُ أَنْ لَا تَسْتَخِفُّوا بِسُلْطَانِ اللَّهِ وَأَنْ لَا تَجْتَرِئُوا عَلَى أَمْرِهِ، وَهَذِهِ فِتْنَةٌ النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْيَقْظَانِ، وَالْيَقِظَانُ خَيْرٌ مِنَ الْقَاعِدِ، وَالْقَاعِدُ خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الرَّاكِبِ، وَالرَّاكِبُ خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَاغْمِدُوا السُّيُوفَ، وَأَنْصِلُوا الْأَسِنَّةَ، وَاقْطَعُوا الْأَوْتَارَ، وَآوُوا الْمُضْطَهَدَ وَالْمَظْلُومَ حَتَّى يَلْتَئِمَ هَذَا الْأَمْرُ، وَتَنْجَلِيَ هَذِهِ الْفِتْنَةُ. فَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَشْتَرُ إِلَى عَلِيٍّ، فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ، فَأَرْسَلَ الْحَسَنَ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَقَالَ لِعَمَّارٍ: انْطَلِقْ فَأَصْلِحْ مَا أَفْسَدْتَ. فَانْطَلَقَا حَتَّى دَخَلَا الْمَسْجِدَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمَا مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ، فَقَالَ لِعَمَّارٍ: عَلَامَ قَتَلْتُمْ عُثْمَانَ ؟ فَقَالَ: عَلَى شَتْمِ أَعْرَاضِنَا وَضَرْبِ أَبْشَارِنَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عَاقَبْتُمْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَوْ صَبَرْتُمْ لَكَانَ خَيْرًا لِلصَّابِرِينَ.
قَالَ: وَخَرَجَ أَبُو مُوسَى فِلَقِيَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ لِعَمَّارٍ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ أَعَدَوْتَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ قَتَلْتَهُ ؟ فَقَالَ: لَمْ أَفْعَلْ وَلَمْ يَسُؤْنِي

ذَلِكَ. فَقَطَعَ عَلَيْهِمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَقَالَ لِأَبِي مُوسَى: لِمَ تُثَبِّطُ النَّاسَ عَنَّا ؟ فَوَاللَّهِ مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْإِصْلَاحَ، وَلَا مِثْلَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يُخَافُ عَلَى شَيْءٍ. فَقَالَ: صَدَقْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، وَلَكِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ الرَّاكِبِ، وَقَدْ جَعَلَنَا اللَّهُ إِخْوَانًا، وَحَرَّمَ عَلَيْنَا دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا. فَغَضِبَ عَمَّارٌ وَسَبَّهُ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحْدَهُ: " أَنْتَ فِيهَا قَاعِدًا خَيْرٌ مِنْكَ قَائِمًا ". فَغَضِبَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ لِأَبِي مُوسَى وَنَالَ مِنْ عَمَّارٍ، وَثَارَ آخَرُونَ، وَجَعَلَ أَبُو مُوسَى يُكَفْكِفُ النَّاسَ، وَكَثُرَ اللَّغَطُ، وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ، وَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَيُّهَا النَّاسُ، أَطِيعُونِي وَكُونُوا خَيْرَ قَوْمٍ مِنْ خَيْرِ أُمَمِ الْعَرَبِ، يَأْوِي إِلَيْهِمُ الْمَظْلُومُ، وَيَأْمَنُ فِيهِمُ الْخَائِفُ، وَإِنَّ الْفِتْنَةَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ بَيَّنَتْ. ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ بِكَفِّ أَيْدِيهِمْ وَلُزُومِ بُيُوتِهِمْ، فَقَامَ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ سِيرُوا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَيِّدِ الْمُسْلِمِينَ، سِيرُوا إِلَيْهِ أَجْمَعِينَ. فَقَامَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: إِنَّ الْحَقَّ مَا قَالَهُ الْأَمِيرُ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ يَرْدَعُ الظَّالِمَ، وَيُعْدِي الْمَظْلُومَ، وَيَنْتَظِمُ بِهِ شَمْلُ النَّاسِ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ مَلِيءٌ بِمَا وَلِيَ، وَقَدْ أُنْصِفَ فِي الدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْإِصْلَاحَ فَانْفِرُوا إِلَيْهِ. وَقَامَ عَبْدُ خَيْرٍ فَقَالَ: النَّاسُ أَرْبَعُ فِرَقٍ ; عَلِيٌّ بِمَنْ مَعَهُ فِي ظَاهِرِ الْكُوفَةِ، وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ بِالْبَصْرَةِ، وَمُعَاوِيَةُ بِالشَّامِ، وَفِرْقَةٌ بِالْحِجَازِ لَا تُقَاتِلُ

وَلَا عَنَاءَ بِهَا. فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أُولَئِكَ خَيْرُ الْفِرَقِ، وَهَذِهِ فِتْنَةٌ.
ثُمَّ تَرَاسَلَ النَّاسُ فِي الْكَلَامِ، ثُمَّ قَامَ عَمَّارٌ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي النَّاسِ عَلَى الْمِنْبَرِ يَدْعُوَانِ النَّاسَ إِلَى النَفِيرِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ; فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَسَمِعَ عَمَّارٌ رَجُلًا يَسُبُّ عَائِشَةَ، فَقَالَ: اسْكُتْ مَقْبُوحًا مَنْبُوحًا، وَاللَّهِ إِنَّهَا لَزَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلَاكُمْ بِهَا لِيَعْلَمَ أَتُطِيعُونَهُ أَوْ إِيَّاهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَامَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ سِيرُوا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: انْفَرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [ التَّوْبَةِ: 41 ] وَجَعَلَ النَّاسُ كُلَّمَا قَامَ رَجُلٌ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى النَفِيرِ يُثَبِّطُهُمْ أَبُو مُوسَى مِنْ فَوْقِ الْمِنْبَرِ، وَعَمَّارٌ وَالْحَسَنُ مَعَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ حَتَّى قَالَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: وَيْحَكَ ! اعْتَزِلْنَا لَا أُمَّ لَكَ، وَدَعْ مِنْبَرَنَا. وَيُقَالُ: إِنَّ عَلِيًّا بَعَثَ الْأَشْتَرَ، فَعَزَلَ أَبَا مُوسَى عَنِ الْكُوفَةِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ قَصْرِ الْإِمَارَةِ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ.
وَاسْتَجَابَ النَّاسُ لِلنَّفِيرِ فَخَرَجَ مَعَ الْحَسَنِ تِسْعَةُ آلَافٍ فِي الْبَرِّ وَفِي دِجْلَةَ، وَيُقَالُ: سَارَ مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا وَرَجُلٌ وَاحِدٌ، فَقَدِمُوا عَلَى عَلِيٍّ بِذِي قَارٍ فَتَلَقَّاهُمْ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فِي جَمَاعَةٍ، مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَرَحَّبَ بِهِمْ وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، أَنْتُمْ لَقِيتُمْ مُلُوكَ الْعَجَمِ فَفَضَضْتُمْ

جُمُوعَهُمْ، وَقَدْ دَعَوْتُكُمْ لِتَشْهَدُوا مَعَنَا إِخْوَانَنَا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَإِنْ يَرْجِعُوا فَذَاكَ الَّذِي نُرِيدُ، وَإِنْ أَبَوْا دَاوَيْنَاهُمْ بِالرِّفْقِ حَتَّى يَبْدَأُونَا بِالظُّلْمِ، وَلَمْ نَدَعْ أَمْرًا فِيهِ صَلَاحٌ إِلَّا آثَرْنَاهُ عَلَى مَا فِيهِ الْفَسَادُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ بِذِي قَارٍ.
وَكَانَ مِنَ الْمَشْهُورِينَ مِنْ رُؤَسَاءِ مَنِ انْضَافَ إِلَى عَلِيٍّ ; الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَسِعْرُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِنْدُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْهَيْثَمُ بْنُ شِهَابٍ، وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، وَالْأَشْتَرُ، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، وَالْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ، وَحُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، وَأَمْثَالُهُمْ، وَكَانَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ بِكَمَالِهَا بَيْنَ عَلِيٍّ وَبَيْنَ الْبَصْرَةِ يَنْتَظِرُونَهُ وَهُمْ أُلُوفٌ، فَبَعَثَ عَلِيٌّ الْقَعْقَاعَ رَسُولًا إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ بِالْبَصْرَةِ يَدْعُوهُمَا إِلَى الْأُلْفَةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَيُعَظِّمُ عَلَيْهِمَا الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ، فَذَهَبَ الْقَعْقَاعُ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَبَدَأَ بِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: أَيْ أُمَّهْ، مَا أَقْدَمَكِ هَذِهِ الْبَلْدَةَ ؟ فَقَالَتْ: أَيْ بُنَيَّ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ. فَسَأَلَهَا أَنْ تَبْعَثَ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ لِيَحْضُرَا عِنْدَهَا، فَحَضَرَا فَقَالَ الْقَعْقَاعُ: إِنِّي سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَقْدَمَهَا ؟ فَقَالَتِ: الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ. فَقَالَا: وَنَحْنُ كَذَلِكَ. قَالَ: فَأَخْبِرَانِي مَا

وَجْهُ هَذَا الْإِصْلَاحِ ؟ فَوَاللَّهِ لَئِنْ عَرَفْنَاهُ لِنَصْطَلِحَنَّ، وَلَئِنْ أَنْكَرْنَاهُ لَا نَصْطَلِحَنَّ. قَالَا: قَتَلَةُ عُثْمَانَ، فَإِنَّ هَذَا إِنْ تُرِكَ كَانَ تَرْكًا لِلْقُرْآنِ. فَقَالَ: قَتَلْتُمَا قَتَلَةَ عُثْمَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأَنْتُمْ قَبْلَ قَتْلِهِمْ أَقْرَبُ مِنْكُمْ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ مِنْكُمُ الْيَوْمَ، قَتَلْتُمْ سِتَّمِائَةِ رَجُلٍ، فَغَضِبَ لَهُمْ سِتَّةُ آلَافٍ فَاعْتَزَلُوكُمْ، وَخَرَجُوا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ، وَطَلَبْتُمْ حُرْقُوصَ بْنَ زُهَيْرٍ، فَمَنَعَهُ سِتَّةُ آلَافٍ، فَإِنْ تَرَكْتُمُوهُمْ وَقَعْتُمْ فِيمَا تَقُولُونَ، وَإِنْ قَاتَلْتُمُوهُمْ فَأُدِيلُوا عَلَيْكُمْ، فَالَّذِي حَذِرْتُمْ وَفَرِقْتُمْ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ أَعْظَمُ مِمَّا أَرَاكُمْ تَدْفَعُونَ وَتَجْمَعُونَ مِنْهُ. يَعْنِي أَنَّ الَّذِي تُرِيدُونَ مِنْ قَتْلِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ مَصْلَحَةٌ، وَلَكِنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْهَا، وَكَمَا أَنَّكُمْ عَجَزْتُمْ عَنِ الْأَخْذِ بِثَأْرِ عُثْمَانَ مِنْ حُرْقُوصِ بْنِ زُهَيْرٍ، لِقِيَامِ سِتَّةِ آلَافٍ فِي مَنْعِهِ مِمَّنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَعَلِيٌّ أَعْذَرُ فِي تَرْكِهِ الْآنَ قَتْلَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ قَتْلَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ إِلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُمْ بَعْدَ هَذَا، فَإِنَّ الْكَلِمَةَ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ مُخْتَلِفَةٌ عَلَيْهِ.
ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ خَلْقًا مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ قَدْ أَجْمَعُوا لِحَرْبِهِمْ بِسَبَبِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي وَقَعَ. فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَقُولُ: إِنَّ هَذَا

الْأَمْرَ الَّذِي وَقَعَ دَوَاؤُهُ التَّسْكِينُ، فَإِذَا سَكَنَ اخْتَلَجُوا، فَإِنْ أَنْتُمْ بَايَعْتُمُونَا فَعَلَامَةُ خَيْرٍ، وَتَبَاشِيرُ رَحْمَةٍ، وَدَرَكٌ بِثَأْرٍ، وَإِنْ أَنْتُمْ أَبَيْتُمْ إِلَّا مُكَابَرَةَ هَذَا الْأَمْرِ وَائْتِنَافَهُ، كَانَتْ عَلَامَةَ شَرٍّ، وَذَهَابَ هَذَا الْمُلْكِ، فَآثِرُوا الْعَافِيَةَ تُرْزَقُوهَا، وَكُونُوا مَفَاتِيحَ خَيْرٍ كَمَا كُنْتُمْ أَوَّلَ، وَلَا تُعَرِّضُونَا لِلْبَلَاءِ فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَيَصْرَعَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ، وَايْمُ اللَّهِ، إِنِّي لَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَإِنِّي لَخَائِفٌ أَنْ لَا يُتِمَّ حَتَّى يَأْخُذَ اللَّهُ حَاجَتَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي قَلَّ مَتَاعُهَا، وَنَزَلَ بِهَا مَا نَزَلَ، فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَلَيْسَ كَقَتْلِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ، وَلَا النَّفَرِ الرَّجُلَ، وَلَا الْقَبِيلَةِ الْقَبِيلَةَ. فَقَالُوا: قَدْ أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ فَارْجِعْ، فَإِنْ قَدِمَ عَلِيٌّ وَهُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِكَ صَلُحَ الْأَمْرُ. قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ، فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَأَشْرَفَ الْقَوْمُ عَلَى الصُّلْحِ، كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ كَرِهَهُ، وَرَضِيَهُ مَنْ رَضِيَهُ.
وَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ إِلَى عَلِيٍّ تُعْلِمُهُ أَنَّهَا إِنَّمَا جَاءَتْ لِلْإِصْلَاحِ، فَفَرِحَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَقَامَ عَلِيٌّ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَذَكَرَ الْجَاهِلِيَّةَ وَشَقَاءَهَا، وَذَكَرَ الْإِسْلَامَ

وَسَعَادَةَ أَهْلِهِ بِالْأُلْفَةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَهُمْ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الْخَلِيفَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، ثُمَّ بَعْدَهُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ثُمَّ عَلَى عُثْمَانَ، ثُمَّ حَدَثَ هَذَا الْحَدَثُ الَّذِي جَرَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَقْوَامٌ طَلَبُوا هَذِهِ الدُّنْيَا، وَحَسَدُوا مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا، وَعَلَى الْفَضِيلَةِ الَّتِي مَنَّ بِهَا، وَأَرَادُوا رَدَّ الْإِسْلَامِ وَالْأَشْيَاءِ عَلَى أَدْبَارِهَا، وَاللَّهُ بَالِغُ أَمْرِهِ. ثُمَّ قَالَ: أَلَا إِنِّي مُرْتَحِلٌ غَدًا فَارْتَحِلُوا، وَلَا يَرْتَحِلُ مَعِي أَحَدٌ أَعَانَ عَلَى عُثْمَانَ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ. فَلَمَّا قَالَ هَذَا اجْتَمَعَ مِنْ رُءُوسِهِمْ جَمَاعَةٌ ; كَالْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ، وَشُرَيْحِ بْنِ أَوْفَى، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ، الْمَعْرُوفِ بِابْنِ السَّوْدَاءِ، وَسَالِمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَعِلْبَاءَ بْنِ الْهَيْثَمِ، وَغَيْرِهِمْ فِي أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ وَلَيْسَ فِيهِمْ صَحَابِيٌّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. فَقَالُوا: مَا هَذَا الرَّأْيُ ؟ وَعَلِيٌّ وَاللَّهِ أَبْصَرُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ مِمَّنْ يَطْلُبُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَأَقْرَبُ إِلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ مَا سَمِعْتُمْ، غَدًا يَجْمَعُ عَلَيْكُمُ النَّاسَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ أَنْتُمْ، فَكَيْفَ بِكُمْ وَعَدَدُكُمْ قَلِيلٌ فِي كَثْرَتِهِمْ ؟ فَقَالَ الْأَشْتَرُ: قَدْ عَرَفْنَا رَأْيَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ فِينَا، وَأَمَّا رَأْيُ عَلِيٍّ فَلَمْ نَعْرِفُهُ إِلَى الْيَوْمِ، فَإِنْ كَانَ قَدِ اصْطَلَحَ مَعَهُمْ فَإِنَّمَا اصْطَلَحُوا عَلَى دِمَائِنَا، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا أَلْحَقْنَا عَلِيًّا بِعُثْمَانَ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ مِنَّا

بِالسُّكُوتِ. فَقَالَ ابْنُ السَّوْدَاءِ: بِئْسَ مَا رَأَيْتَ، لَوْ قَتَلْنَاهُ قُتِلْنَا، فَإِنَّا يَا مَعْشَرَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ فِي أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَأَصْحَابُهُمَا فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، وَلَا طَاقَةَ لَكُمْ بِهِمْ، وَهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُونَكُمْ. فَقَالَ عِلْبَاءُ بْنُ الْهَيْثَمِ: دَعُوهُمْ وَارْجِعُوا بِنَا حَتَّى نَتَعَلَّقَ بِبَعْضِ الْبِلَادِ فَنَمْتَنِعَ بِهَا. فَقَالَ ابْنُ السَّوْدَاءِ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، إِذًا وَاللَّهِ كَانَ يَتَخَطَّفُكُمُ النَّاسُ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ السَّوْدَاءِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ: يَا قَوْمِ إِنَّ عِزَّكُمْ فِي خُلْطَةِ النَّاسِ، فَإِذَا الْتَقَى النَّاسُ فَأَنْشِبُوا الْقِتَالَ، وَلَا تُفَرِّغُوهُمْ لِلنَّظَرِ، فَمَنْ أَنْتُمْ مَعَهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَمْتَنِعَ، وَيَشْغَلُ اللَّهُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَمَنْ مَعَهُمَا عَمَّا تَكْرَهُونَ. فَأَبْصَرُوا الرَّأْيَ وَتَفَرَّقُوا عَلَيْهِ، وَأَصْبَحَ عَلِيٌّ مُرْتَحِلًا، وَمَرَّ بِعَبْدِ الْقَيْسِ، فَسَارُوا مَعَهُ حَتَّى نَزَلُوا بِالزَّاوِيَةِ، وَسَارَ مِنْهَا يُرِيدُ الْبَصْرَةَ، وَسَارَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَمَنْ مَعَهُمَا لِلِقَائِهِ، فَاجْتَمَعُوا عِنْدَ قَصْرِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَنَزَلَ النَّاسُ كُلٌّ فِي نَاحِيَةٍ، وَقَدْ سَبَقَ عَلِيٌّ جَيْشَهُ، وَهُمْ يَتَلَاحَقُونَ بِهِ، فَمَكَثُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَالرُّسُلُ بَيْنَهُمْ، فَكَانَ ذَلِكَ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ بِانْتِهَازِ

الْفُرْصَةِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، فَقَالَا: إِنَّ عَلِيًّا قَدْ أَشَارَ بِتَسْكِينِ هَذَا الْأَمْرِ، وَقَدْ بَعَثْنَا إِلَيْهِ بِالْمُصَالَحَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَامَ عَلِيٌّ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَقَامَ إِلَيْهِ الْأَعْوَرُ بْنُ بُنَانٍ الْمِنْقَرِيُّ، فَسَأَلَهُ عَنْ إِقْدَامِهِ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَقَالَ: الْإِصْلَاحُ وَإِطْفَاءُ النَّائِرَةِ ; لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى الْخَيْرِ، وَيَلْتَئِمَ شَمْلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يُجِيبُونَا ؟ قَالَ: تَرَكْنَاهُمْ مَا تَرَكُونَا. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُونَا ؟ قَالَ: دَفَعْنَاهُمْ عَنْ أَنْفُسِنَا. قَالَ: فَهَلْ لَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِثْلُ الَّذِي لَنَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو سَلَامَةَ الدَّالَانِيُّ، فَقَالَ: هَلْ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنْ حُجَّةٍ فِيمَا طَلَبُوا مِنْ هَذَا الدَّمِ، إِنْ كَانُوا أَرَادُوا اللَّهَ فِي ذَلِكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ لَكَ مِنْ حُجَّةٍ فِي تَأْخِيرِكَ ذَلِكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا حَالُنَا وَحَالُهُمْ إِنِ ابْتُلِينَا غَدًا ؟ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يُقْتَلَ مِنَّا وَمِنْهُمْ أَحَدٌ نَقَّى قَلْبَهُ لِلَّهِ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ أَمْسِكُوا عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَيْدِيَكُمْ وَأَلْسِنَتَكُمْ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَسْبِقُونَا فَإِنَّ الْمَخْصُومَ غَدًا مَنْ خُصِمَ الْيَوْمَ. وَجَاءَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ فِي جَمَاعَةٍ، فَانْضَافَ إِلَى عَلِيٍّ - وَكَانَ قَدْ مَنَعَ حُرْقُوصَ بْنَ زُهَيْرٍ مِنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ - وَكَانَ قَدْ بَايَعَ عَلِيًّا بِالْمَدِينَةِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ، فَسَأَلَ عَائِشَةَ

وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ: إِنْ قُتِلَ عُثْمَانُ مَنْ أُبَايِعُ ؟ فَقَالُوا: بَايِعْ عَلِيًّا. فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ بَايَعَ عَلِيًّا، قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى قَوْمِي، فَجَاءَنِي بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ أَفْظَعُ، حَتَّى قَالَ النَّاسُ: هَذِهِ عَائِشَةُ جَاءَتْ لِتَأْخُذَ بِدَمِ عُثْمَانَ. فَحِرْتُ فِي أَمْرِي لِمَنْ أَتَّبِعْ، فَنَفَعَنِي اللَّهُ بِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّ الْفُرْسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمُ ابْنَةَ كِسْرَى فَقَالَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ".
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَحْنَفَ لَمَّا انْحَازَ إِلَى عَلِيٍّ وَمَعَهُ سِتَّةُ آلَافٍ فَقَالَ لِعَلِيٍّ: إِنْ شِئْتَ قَاتَلْتُ مَعَكَ، وَإِنْ شِئْتَ كَفَفْتُ عَنْكَ عَشَرَةَ آلَافِ سَيْفٍ. فَقَالَ: اكْفُفْ عَنَّا عَشَرَةَ آلَافِ سَيْفٍ. ثُمَّ بَعَثَ عَلِيٌّ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ عَلَى مَا فَارَقْتُمْ عَلَيْهِ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو فَكُفُّوا حَتَّى نَنْزِلَ فَنَنْظُرَ فِي هَذَا الْأَمْرِ. فَأَرْسَلَا إِلَيْهِ فِي جَوَابِ رِسَالَتِهِ: إِنَّا عَلَى مَا فَارَقْنَا عَلَيْهِ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو مِنَ الصُّلْحِ بَيْنَ النَّاسِ. فَاطْمَأَنَّتِ النُّفُوسُ وَسَكَنَتْ، وَاجْتَمَعَ كُلُّ فَرِيقٍ بِأَصْحَابِهِ مِنَ الْجَيْشَيْنِ، فَلَمَّا أَمْسَوْا بَعَثَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ إِلَيْهِمْ، وَبَعَثُوا إِلَيْهِ مُحَمَّدَ

بْنَ طَلْحَةَ السَّجَّادَ، وَبَاتَ النَّاسُ بِخَيْرِ لَيْلَةٍ، وَبَاتَ قَتَلَةُ عُثْمَانَ بِشَرِّ لَيْلَةٍ، وَبَاتُوا يَتَشَاوَرُونَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يُثِيرُوا الْحَرْبَ مِنَ الْغَلَسِ، فَنَهَضُوا مِنْ قَبْلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهُمْ قَرِيبٌ مَنْ أَلْفَيْ رَجُلٍ فَانْصَرَفَ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى قَرَابَاتِهِمْ، فَهَجَمُوا عَلَيْهِمْ بِالسُّيُوفِ، فَثَارَ كُلُّ طَائِفَةٍ إِلَى قَوْمِهِمْ لِيَمْنَعُوهُمْ، وَقَامَ النَّاسُ مِنْ مَنَامِهِمْ إِلَى السِّلَاحِ، فَقَالُوا: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: طَرَقَنَا أَهْلُ الْكُوفَةِ لَيْلًا، وَبَيَّتُونَا وَغَدَرُوا بِنَا. وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا عَنْ مَلَأٍ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، فَبَلَغَ الْأَمْرُ عَلِيًّا فَقَالَ: مَا لِلنَّاسِ ؟ فَقَالُوا بَيَّتَنَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ. فَثَارَ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى سِلَاحِهِمْ، وَلَبِسُوا اللَّأْمَةَ، وَرَكِبُوا الْخُيُولَ، وَلَا يَشْعُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَا وَقَعَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. فَنَشِبَتِ الْحَرْبُ وَتَوَاقَفَ الْفَرِيقَانِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ مَعَ عَلِيٍّ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَالْتَفَّ عَلَى عَائِشَةَ وَمَنْ مَعَهَا نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، وَتَبَارَزَ الْفُرْسَانُ، وَجَالَتِ الشُّجْعَانُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَالسَّبَئِيَّةُ أَصْحَابُ ابْنُ السَّوْدَاءِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ لَا يَفْتَرُونَ عَنِ الْقَتْلِ، وَمُنَادِي عَلِيٍّ يُنَادِي: أَلَا كُفُّوا ! أَلَا كُفُّوا ! فَلَا يَسْمَعُ أَحَدٌ، وَجَاءَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ، فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكِي النَّاسَ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِكِ بَيْنَ النَّاسِ. فَجَلَسَتْ فِي هَوْدَجِهَا فَوْقَ بَعِيرِهَا، وَسَتَرُوا الْهَوْدَجَ بِالدُّرُوعِ، وَجَاءَتْ فَوَقَفَتْ بِحَيْثُ تَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ فِي مَعْرَكَتِهِمْ، فَتَصَاوَلُوا وَتَجَاوَلُوا، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ تَبَارَزَ الزُّبَيْرُ

وَعَمَّارٌ، فَجَعَلَ عَمَّارٌ يَحُوزُهُ بِالرُّمْحِ، وَالزُّبَيْرُ كَافٌ عَنْهُ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَقْتُلُنِي يَا أَبَا الْيَقْظَانِ ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. وَإِنَّمَا تَرَكَهُ الزُّبَيْرُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ وَإِلَّا فَالزُّبَيْرُ أَقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْهُ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا كَفَّ عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ مِنْ سُنَّتِهِمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنَّهُ لَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ، وَقَدْ قُتِلَ مَعَ هَذَا بَشَرٌ كَثِيرٌ جِدًّا، حَتَّى جَعَلَ عَلِيٌّ يَقُولُ لِابْنِهِ الْحَسَنِ: يَا بُنَيَّ لَيْتَ أَبَاكَ مَاتَ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً. فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَهْ قَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ يَوْمَ الْجَمَلِ: يَا حَسَنُ، يَا حَسَنُ، لَيْتَ أَبَاكَ مَاتَ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً. فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَهْ قَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا. قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي لَمْ أَرَ أَنَّ الْأَمْرَ يَبْلُغُ هَذَا. وَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: لَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَالُ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَرَأَى عَلِيٌّ الرُّءُوسَ تَنْدُرُ، أَخَذَ عَلِيٌّ ابْنَهُ الْحَسَنَ، فَضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ يَا حَسَنُ ! أَيُّ خَيْرٍ يُرْجَى بَعْدَ هَذَا !

فَلَمَّا رَكِبَ الْجَيْشَانِ، وَتَرَاءَى الْجَمْعَانِ، طَلَبَ عَلِيٌّ الزُّبَيْرَ، وَطَلْحَةَ، لِيُكَلِّمَهُمَا، فَاجْتَمَعُوا حَتَّى الْتَفَّتْ أَعْنَاقُ خُيُولِهِمْ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ قَالَ لَهُمَا: إِنِّي أَرَاكُمَا قَدْ جَمَعْتُمَا خَيْلًا وَرِجَالًا وَعَدَدًا، فَهَلْ أَعْدَدْتُمَا عُذْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ ؟ فَاتَّقِيَا اللَّهَ، وَلَا تَكُونَا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا، أَلَمْ أَكُنْ أَخَاكُمَا فِي دِينِكُمَا، تُحَرِّمَانِ دَمِي وَأُحَرِّمُ دَمَكُمَا، فَهَلْ مِنْ حَدَثٍ أَحَلَّ لَكُمَا دَمِي ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَلَّبْتَ عَلَىَّ عُثْمَانَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [ النُّورِ: 25 ] ثُمَّ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ قَتَلَةَ عُثْمَانَ. ثُمَّ قَالَ: يَا طَلْحَةُ، أَجِئْتَ بِعِرْسِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَقَاتِلُ بِهَا، وَخَبَّأْتَ عِرْسَكَ فِي الْبَيْتِ ! أَمَا بَايَعْتَنِي ؟ قَالَ: بَايَعْتُكَ وَالسَّيْفُ عَلَى عُنُقِي. وَقَالَ لِلزُّبَيْرِ: مَا أَخْرَجَكَ ؟ قَالَ: أَنْتَ، وَلَا أَرَاكَ بِهَذَا الْأَمْرِ أَوْلَى بِهِ مِنِّي. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَتَذْكُرُ يَوْمَمَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي بَنِي غَنْمٍ فَنَظَرَ إِلَيَّ وَضَحِكَ وَضَحِكْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتَ: لَا يَدَعُ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ زَهْوَهُ. فَقَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهُ لَيْسَ بِمَزْهُوٍّ لَتُقَاتِلَنَّهُ، وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ " فَقَالَ الزُّبَيْرُ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، وَلَوْ ذَكَرْتُ مَا سِرْتُ مَسِيرِي هَذَا،

وَوَاللَّهِ لَا أُقَاتِلُكَ.
وَفِي هَذَا السِّيَاقِ كُلِّهِ نَظَرٌ، وَالْمَحْفُوظُ مِنْهُ الْحَدِيثُ، كَمَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُسْلِمٍ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي جَرْوٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ:شَهِدْتُ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ حِينَ تَوَاقَفَا - يَعْنِي يَوْمَ الْجَمَلِ - فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا زُبَيْرُ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ، أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِنَّكَ تُقَاتِلُنِي وَأَنْتَ لِي ظَالِمٌ ؟ " قَالَ: نَعَمْ، وَلَمْ أَذْكُرْهُ إِلَّا فِي مَوْقِفِي هَذَا. ثُمَّ انْصَرَفَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْفَقِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ قَطَنِ بْنِ نُسَيْرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُسْلِمٍ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي جَرْوٍ

الْمَازِنِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ وَالزُّبَيْرِ بِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا وَلَّى الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ بَلَغَ عَلِيًّا فَقَالَ: لَوْ كَانَ ابْنُ صَفِيَّةَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ مَا وَلَّى. وَذَلِكَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَقِيَهُمَا فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَقَالَ: " أَتَحُبُّهُ يَا زُبَيْرُ ؟ ". فَقَالَ: وَمَا يَمْنَعُنِي ؟ قَالَ: " فَكَيْفَ بِكَ إِذَا قَاتَلْتَهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ ؟ ". قَالَ: فَيَرَوْنَ أَنَّهُ إِنَّمَا وَلَّى لِذَلِكَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَقَدْ رُوِيَ مَوْصُولًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ الْهَاشِمِيُّ الْكُوفِيُّ، أَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَجْلَحِ، ثَنَا أَبِي، عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَسَمِعْتُ فَضْلَ بْنَ فَضَالَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ - دَخَلَ حَدِيثُ أَحَدِهِمَا فِي حَدِيثِ صَاحِبِهِ - قَالَ: لَمَّا دَنَا عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ مِنْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، وَدَنَتِ الصُّفُوفُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، خَرَجَ

عَلِيٌّ وَهُوَ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَادَى: ادْعُوَا لِيَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فَإِنِّي عَلِيٌّ. فَدُعِيَ لَهُ الزُّبَيْرُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى اخْتَلَفَتْ أَعْنَاقُ دَوَابِّهِمَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا زُبَيْرُ، نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ، أَتَذْكُرُ يَوْمَ مَرَّ بِكَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ: يَا زُبَيْرُ تُحِبُّ عَلِيًّا ؟ ". فَقُلْتَ: أَلَا أُحِبُّ ابْنَ خَالِي وَابْنَ عَمِّي وَعَلَى دِينِي ! فَقَالَ: " يَا زُبَيْرُ، أَمَا وَاللَّهِ لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ ؟ " فَقَالَ الزُّبَيْرُ: بَلَى وَاللَّهِ لَقَدْ نَسِيتُهُ مُنْذُ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرْتُهُ الْآنَ وَاللَّهِ لَا أُقَاتِلُكَ. فَرَجَعَ الزُّبَيْرُ عَلَى دَابَّتِهِ يَشُقُّ الصُّفُوفَ، فَعَرَضَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: ذَكَّرَنِي عَلِيٌّ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ:لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ فَقَالَ: وَلِلْقِتَالِ جِئْتَ ؟ إِنَّمَا جِئْتَ لِتُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ وَيُصْلِحَ اللَّهُ بِكَ هَذَا الْأَمْرَ. قَالَ: قَدْ حَلَفْتُ أَنْ لَا أُقَاتِلَهُ. قَالَ: أَعْتِقْ غُلَامَكَ جِرْجِسَ، وَقِفْ حَتَّى تُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ. فَأَعْتَقَ غُلَامَهُ، وَوَقَفَ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ أَمْرُ النَّاسِ ذَهَبَ عَلَى فَرَسِهِ.
وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ رِفَاعَةَ

بْنِ إِيَاسِ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ لِطَلْحَةَ يَوْمَ الْجَمَلِ: أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ " ؟ قَالَ: بَلَى. وَانْصَرَفَ. وَقَدِ اسْتَغْرَبَهُ الْبَزَّارُ، وَهُوَ جَدِيرٌ بِذَلِكَ.
فَرَجَعَ الزُّبَيْرُ إِلَى عَائِشَةَ فَذَكَرَ لَهَا أَنَّهُ قَدْ آلَى أَنْ لَا يُقَاتِلَ عَلِيًّا، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّكَ جَمَعْتَ النَّاسَ فَلَمَّا تَرَآى بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِهِمْ، كَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَاحْضُرْ. فَأَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ اسْمُهُ مَكْحُولٌ وَقِيلَ: سَرْجِسُ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا رَجَعَ عَنِ الْقِتَالِ لَمَّا رَأَى عَمَّارًا مَعَ عَلِيٍّ، وَقَدْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ لِعَمَّارٍ: تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ. فَخَشِيَ أَنْ يُقْتَلَ عَمَّارٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ. وَعِنْدِي أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ إِنْ كَانَ صَحِيحًا عَنْهُ فَمَا رَجَعَهُ سِوَاهُ، وَيَبْعُدُ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ يَحْضُرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُقَاتِلَ عَلِيًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الزُّبَيْرَ لَمَّا رَجَعَ يَوْمَ الْجَمَلِ سَارَ حَتَّى نَزَلَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ:

وَادِي السِّبَاعِ. فَاتَّبَعَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ، فَجَاءَهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَقَتَلَهُ غِيلَةً، كَمَا سَنَذْكُرُ تَفْصِيلَهُ. وَأَمَّا طَلْحَةُ فَجَاءَهُ فِي الْمَعْرَكَةِ سَهْمٌ غَرْبٌ، يُقَالُ: رَمَاهُ بِهِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَانْتَظَمَ رِجْلَهُ مَعَ فَرَسِهِ فَجَمَحَتْ بِهِ الْفَرَسُ فَجَعَلَ يَقُولُ: إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ. فَاتَّبَعَهُ مَوْلًى لَهُ فَأَمْسَكَهَا فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ اعْدِلْ بِي إِلَى الْبُيُوتِ. وَامْتَلَأَ خُفُّهُ دَمًا فَقَالَ لِغُلَامِهِ: انْزِعْهُ وَارْدُفْنِي. وَذَلِكَ أَنَّهُ نَزَفَهُ الدَّمُ وَضَعُفَ، فَرَكِبَ الْغُلَامُ وَرَاءَهُ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى بَيْتٍ فِي الْبَصْرَةِ فَمَاتَ فِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَتَقَدَّمَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فِي هَوْدَجِهَا، وَنَاوَلَتْ كَعْبَ بْنَ سُورٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ مُصْحَفًا وَقَالَتِ: ادْعُهُمْ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ حِينَ اشْتَدَّ الْحَرْبُ وَحَمِيَ الْقِتَالُ، وَرَجَعَ الزُّبَيْرُ وَقُتِلَ طَلْحَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَلَمَّا تَقَدَّمَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ بِالْمُصْحَفِ يَدْعُو النَّاسَ إِلَيْهِ، اسْتَقْبَلَهُ مُقَدَّمَةُ جَيْشِ الْكُوفِيِّينَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ - ابْنُ السَّوْدَاءِ - وَأَتْبَاعُهُ وَهُمْ بَيْنَ يَدَيِ الْجَيْشِ يَقْتُلُونَ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَا يَتَوَقَّفُونَ فِي أَحَدٍ، فَلَمَّا رَأَوْا كَعْبَ بْنَ سُورٍ رَافِعًا

الْمُصْحَفَ رَشَقُوهُ بِنِبَالِهِمْ رَشْقَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَقَتَلُوهُ، وَوَصَلَتِ النِّبَالُ إِلَى هَوْدَجِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَجَعَلَتْ تُنَادَى: اللَّهَ اللَّهَ ! يَا بَنِيَّ اذْكُرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ. وَرَفَعَتْ يَدَيْهَا تَدْعُو عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، فَضَجَّ النَّاسُ مَعَهَا بِالدُّعَاءِ حَتَّى وَصَلَتِ الضَّجَّةُ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا: أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَدْعُو عَلَى قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَأَشْيَاعِهِمْ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ الْعَنْ قَتَلَةَ عُثْمَانَ. وَجَعَلَ أُولَئِكَ النَّفَرُ لَا يُقْلِعُونَ عَنْ رَشْقِ هَوْدَجِهَا بِالنِّبَالِ حَتَّى بَقِيَ مِثْلَ الْقُنْفُذِ، وَجَعَلَتْ تُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى مَنْعِهِمْ وَكَفِّهِمْ، فَحَمَلَتْ مُضَرُ حَمْلَةَ الْحَفِيظَةِ، فَطَرَدُوهُمْ حَتَّى وَصَلَتِ الْحَمْلَةُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لِابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ: وَيْحَكَ تَقَدَّمْ بِالرَّايَةِ. فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَأَخَذَهَا عَلِيٌّ مِنْ يَدِهِ فَتَقَدَّمَ بِهَا وَجَعَلَتِ الْحَرْبُ تَأْخُذُ وَتُعْطِي ; فَتَارَةً لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَتَارَةً لِأَهْلِ الْكُوفَةِ، حَتَّى قُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَلَمْ تُرَ وَقْعَةٌ أَكْثَرُ مِنْ قَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَجَعَلَتْ عَائِشَةُ تُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، وَنَظَرَتْ عَنْ يَمِينِهَا فَقَالَتْ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ. فَقَالَتْ: لَكُمْ يَقُولُ الْقَائِلُ:
وَجَاءُوا إِلَيْنَا بِالْحَدِيدِ كَأَنَّهُمْ مِنَ الْعِزَّةِ الْقَعْسَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلِ
ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهَا بَنُو نَاجِيَةَ ثُمَّ بَنُو ضَبَّةَ، فَقُتِلَ عِنْدَهَا مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ.

وَيُقَالُ: إِنَّهُ قُطِعَتْ يَدُ سَبْعِينَ رَجُلًا وَهِيَ آخِذَةٌ بِخِطَامِ الْجَمَلِ. فَلَمَّا أُثْخِنُوا تَقَدَّمَ بَنُو عَدِيِّ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَرَفَعُوا رَأْسَ الْجَمَلِ، وَجَعَلَ أُولَئِكَ يَقْصِدُونَ الْجَمَلَ، وَقَالُوا: لَا يَزَالُ الْحَرْبُ قَائِمًا مَا دَامَ هَذَا الْجَمَلُ وَاقِفًا. وَرَأَسُ الْجَمَلِ فِي يَدِ عَمِيرَةَ بْنِ يَثْرِبِيِّ، وَقُتِلَ أَخُوهُ عَمْرُو بْنُ يَثْرِبِيِّ، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ، وَالْفُرْسَانِ الْمَشْهُورِينَ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ هِنْدُ بْنُ عَمْرٍو الْجَمَلِيُّ، فَقَتَلَهُ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ، ثُمَّ صَمَدَ إِلَيْهِ عِلْبَاءُ بْنُ الْهَيْثَمِ، فَقَتْلَهُ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ أَيْضًا، وَقَتَلَ سَيَحَانَ بْنَ صُوحَانَ، وَارْتُثَّ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ، فَدَعَاهُ عَمَّارٌ إِلَى الْبِرَازِ فَبَرَزَ لَهُ، فَتَجَاوَلَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ - وَعَمَّارٌ يَوْمَئِذٍ ابْنُ تِسْعِينَ سَنَةً، عَلَيْهِ فَرْوَةٌ قَدْ رَبَطَ وَسَطَهُ بِحَبْلِ لِيفٍ - فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، الْآنَ يُلْحِقُ عَمَّارًا بِأَصْحَابِهِ. فَضَرَبَهُ ابْنُ يَثْرِبِيٍّ بِالسَّيْفِ فَاتَّقَاهُ عَمَّارٌ بِدَرَقَتِهِ، فَعَضَّتِ السَّيْفَ وَنَشِبَ فِيهَا،

وَضَرَبَهُ عَمَّارٌ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ، وَأَخَذَهُ أَسِيرًا إِلَى بَيْنِ يَدَيْ عَلِيٍّ فَقَالَ: اسْتَبْقِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَبَعْدَ ثَلَاثَةٍ تَقْتُلُهُمْ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. وَاسْتَمَرَّ زِمَامُ الْجَمَلِ بِيَدِ رَجُلٍ بَعْدَهُ كَانَ قَدِ اسْتَنَابَهُ فِيهِ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ رَبِيعَةُ الْعَقِيلِيُّ، فَتَجَاوَلَا حَتَّى قَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَأَخَذَ الزِّمَامَ الْحَارِثُ الضَّبِّيُّ، فَمَا رُئِيَ أَشَدَّ مِنْهُ وَجَعَلَ يَقُولُ:
نَحْنُ بَنُو ضَبَّةَ أَصْحَابُ الْجَمَلْ نُبَارِزُ الْقِرْنَ إِذَا الْقِرْنُ نَزَلْ
نَنْعَى ابْنَ عَفَّانَ بَأَطْرَافِ الْأَسَلْ الْمَوْتُ أَحْلَى عِنْدَنَا مِنَ الْعَسَلْ
رُدُّوا عَلَيْنَا شَيْخَنَا ثُمَّ بَجَلْ
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ لِوَسِيمِ بْنِ عَمْرٍو الضَّبِّيِّ.
وَكُلَّمَا قُتِلَ وَاحِدٌ مِمَّنْ يُمْسِكُ الْجَمَلَ تَقَدَّمَ غَيْرُهُ، حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا. قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا زَالَ جَمَلِي مُعْتَدِلًا حَتَّى فَقَدْتُ أَصْوَاتَ بَنِي ضَبَّةَ.

ثُمَّ أَخَذَ الْخِطَامَ سَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يُقْتَلُ بَعْدَ صَاحِبِهِ، فَكَانَ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ الْمَعْرُوفُ بِالسَّجَّادِ، فَقَالَ لِعَائِشَةَ: مُرِينِي بِأَمْرِكِ يَا أُمَّاهُ. فَقَالَتْ: آمُرُكَ أَنْ تَكُونَ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ. فَامْتَنَعَ أَنْ يَنْصَرِفَ وَثَبَتَ فِي مَكَانِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: حم لَا يُنْصَرُونَ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ نَفَرٌ فَحَمَلُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يَدَّعِي قَتْلَهُ، وَقَدْ طَعَنَهُ بَعْضُهُمْ بِحَرْبَةٍ فَأَنْفَذَهُ وَقَالَ:
وَأَشْعَثَ قَوَّامٍ بِآيَاتِ رَبِّهِ قَلِيلِ الْأَذَى فِيمَا تَرَى الْعَيْنُ مُسْلِمِ
هَتَكْتُ لَهُ بِالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ
يُنَاشِدُنِي حم وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ فَهَلَّا تَلَا حم قَبْلَ التَقَدُّمِ
عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ غَيْرَ أَنْ لَيْسَ تَابِعًا عَلِيًّا وَمَنْ لَا يَتْبَعِ الْحَقَّ يَنْدَمِ
وَأَخَذَ الْخِطَامَ عَمْرُو بْنُ الْأَشْرَفِ، فَجَعَلَ لَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ إِلَّا خَطَمَهُ بِالسَّيْفِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ الْحَارِثُ بْنُ زُهَيْرٍ الْأَزْدِيُّ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا أُمَّنَا يَا خَيْرَ أُمٍّ نَعْلَمُ أَمَا تَرَيْنَ كَمْ شُجَاعٍ يُكْلَمُ
وَتُخْتَلَى هَامَتُهُ وَالْمِعْصَمُ
فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَقَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَأَحْدَقَ أَهْلُ النَّجَدَاتِ

وَالْمُرُوءَاتِ وَالشَّجَاعَةِ بِعَائِشَةَ، فَكَانَ لَا يَأْخُذُ الرَّايَةَ وَالْخِطَامَ إِلَّا شُجَاعٌ مَعْرُوفٌ، فَيَقْتُلُ مَنْ قَصَدَهُ، ثُمَّ يُقْتَلُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ فَقَأَ بَعْضُهُمْ عَيْنَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ذَلِكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْجَمَلِ وَهُوَ لَا يَتَكَلَّمُ، فَقِيلَ لِعَائِشَةَ: إِنَّهُ ابْنُكِ ابْنُ أُخْتِكِ. فَقَالَتْ: وَاثُكْلَ أَسْمَاءَ ! وَجَاءَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ فَاقْتَتَلَا، فَضَرَبَهُ الْأَشْتَرُ عَلَى رَأْسِهِ فَجَرَحَهُ جُرْحًا شَدِيدًا وَضَرَبَهُ عَبْدُ اللَّهِ ضَرْبَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ اعْتَنَقَا وَسَقَطَا إِلَى الْأَرْضِ يَعْتَرِكَانِ، فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ:
اقْتُلُونِي وَمَالِكًا وَاقْتُلُوا مَالِكًا مَعِي
فَأَرْسَلَهَا مَثَلًا. وَجَعَلَ النَّاسُ لَا يَعْرِفُونَ مَالِكًا مَنْ هُوَ، إِنَّمَا هُوَ يُعْرَفُ بِالْأَشْتَرِ، فَحَمَلَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ فَخَلَّصُوهُمَا، وَقَدْ جُرِحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمَ الْجَمَلِ، بِهَذِهِ الْجِرَاحَةِ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ جِرَاحَةً، وَجُرِحَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ أَيْضًا. ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَضَرَبَ الْجَمَلَ عَلَى قَوَائِمِهِ، فَعَقَرَهُ وَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، فَسُمِعَ لَهُ عَجِيجٌ مَا سُمِعَ أَشَدُّ وَلَا أَنْفَذُ مِنْهُ، وَآخِرُ مَنْ كَانَ الزِّمَامُ بِيَدِهِ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ فَعُقِرَ الْجَمَلُ وَهُوَ فِي يَدِهِ وَيُقَالُ: إِنَّهُ اتَّفَقَ هُوَ وَبُجَيْرُ بْنُ دُلْجَةَ عَلَى عَقْرِهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ الَّذِي أَشَارَ بِعَقْرِهِ عَلِيٌّ. وَقِيلَ: الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو ; لِئَلَّا تُصَابُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهَا صَارَتْ غَرَضًا لِلرُّمَاةِ،

وَمَنْ يُمْسِكُ بِالزِّمَامِ بُرْجَاسًا لِلرِّمَاحِ، وَلِيَنْفَصِلَ هَذَا الْمَوْقِفُ الَّذِي قَدْ تَفَانَى فِيهِ النَّاسُ. وَلَمَّا سَقَطَ الْجَمَلُ إِلَى الْأَرْضِ انْهَزَمَ مَنْ حَوْلَهُ، وَحُمِلَ هَوْدَجُ عَائِشَةَ وَإِنَّهُ لَكَالْقُنْفُذِ مِنْ كَثْرَةِ النُّشَّابِ، وَنَادَى مُنَادِي عَلِيٍّ فِي النَّاسِ: إِنَّهُ لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ، وَلَا يَذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يَدْخُلُوا الدُّورَ. وَأَمَرَ عَلِيٌّ نَفَرًا أَنْ يَحْمِلُوا الْهَوْدَجَ مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى، وَأَمَرَ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَمَّارًا أَنْ يَضْرِبَا عَلَيْهَا قُبَّةً، وَجَاءَ إِلَيْهَا أَخُوهَا مُحَمَّدٌ فَسَأَلَهَا: هَلْ وَصَلَ إِلَيْكِ شَيْءٌ مِنَ الْجِرَاحِ ؟ فَقَالَتْ: وَمَا أَنْتَ وَذَاكَ يَا ابْنَ الْخَثْعَمِيَّةِ. وَسَلَّمَ عَلَيْهَا عَمَّارٌ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتِ يَا أُمَّ ؟ فَقَالَتْ: لَسْتُ لَكَ بِأُمٍّ. قَالَ: بَلَى وَإِنْ كَرِهْتِ. وَجَاءَ إِلَيْهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مُسَلِّمًا فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتِ يَا أُمَّهْ ؟ قَالَتْ: بِخَيْرٍ. فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكِ. وَجَاءَ وُجُوهُ النَّاسِ إِلَيْهَا، مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهَا.
وَيُقَالُ: إِنَّ أَعْيَنَ بْنَ ضُبَيْعَةَ الْمُجَاشِعِيَّ اطَّلَعَ فِي الْهَوْدَجِ. فَقَالَتْ: إِلَيْكَ لَعَنَكَ اللَّهُ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَى إِلَّا حُمَيْرَاءَ. فَقَالَتْ: هَتَكَ اللَّهُ سِتْرَكَ، وَقَطَعَ يَدَكَ، وَأَبْدَى عَوْرَتَكَ. فَقُتِلَ بِالْبَصْرَةِ وَسُلِبَ وَقُطِعَتْ يَدُهُ وَرُمِيَ عُرْيَانًا فِي خَرِبَةٍ مِنْ

خَرَابَاتِ الْأَزْدِ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ دَخَلَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ الْبَصْرَةَ، وَمَعَهَا أَخُوهَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَنَزَلَتْ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيِّ - وَهِيَ أَعْظَمُ دَارٍ بِالْبَصْرَةِ - عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، وَهِيَ أُمُّ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفٍ، وَتَسَلَّلَ الْجَرْحَى مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى فَدَخَلُوا الْبَصْرَةَ، وَأَقَامَ عَلِيٌّ بِظَاهِرِ الْبَصْرَةِ ثَلَاثًا، وَقَدْ طَافَ عَلِيٌّ بَيْنَ الْقَتْلَى، فَجَعَلَ كُلَّمَا مَرَّ بِرَجُلٍ يَعْرِفُهُ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ: يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ أَرَى قُرَيْشًا صَرْعَى. وَقَدْ مَرَّ عَلِيٌّ - فِيمَا ذُكِرَ - عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ مَقْتُولٌ، فَقَالَ: لَهْفِي عَلَيْكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَتًى كَانَ يُدْنِيهِ الْغِنَى مِنْ صَدِيقِهِ إِذَا مَا هُوَ اسْتَغْنَى وَيُبْعِدُهُ الْفَقْرُ
ثُمَّ صَلَّى عَلِيٌّ عَلَى الْقَتْلَى مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَخَصَّ قُرَيْشًا بِصَلَاةٍ مِنْ بَيْنِهِمْ، ثُمَّ جَمَعَ مَا وَجَدَ لِأَصْحَابِ عَائِشَةَ فِي الْعَسْكَرِ، وَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُحْمَلَ إِلَى مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، فَمَنْ عَرَفَ شَيْئًا هُوَ لِأَهْلِهِمْ فَلْيَأْخُذْهُ، إِلَّا سِلَاحًا كَانَ فِي الْخَزَائِنِ عَلَيْهِ سِمَةُ السُّلْطَانِ. وَكَانَ مَجْمُوعُ مَنْ قُتِلِ يَوْمَ الْجَمَلِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَشَرَةَ آلَافٍ ;

خَمْسَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَخَمْسَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ. وَقَدْ سَأَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ عَلِيٍّ عَلِيًّا أَنْ يُقَسِّمَ فِيهِمْ أَمْوَالُ أَصْحَابِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ فَطَعَنَ فِيهِ السَّبَئِيَّةُ وَقَالُوا: كَيْفَ يَحُلُّ لَنَا دِمَاؤُهُمْ وَلَا تَحُلُّ لَنَا أَمْوَالُهُمْ ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ تَصِيرَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فِي سَهْمِهِ ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، وَلِهَذَا لَمَّا دَخَلَ الْبَصْرَةَ فَرَّقَ فِي أَصْحَابِهِ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ، فَنَالَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةٍ، وَقَالَ: لَكُمْ مِثْلُهَا مِنَ الشَّامِ فِي أَعْطِيَاتِكُمْ. فَتَكَلَّمَ فِيهِ السَّبَئِيَّةُ أَيْضًا، وَنَالُوا مِنْهُ مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ.

فَصْلٌ ( وَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ مِنْ أَمْرِ الْجَمَلِ )
وَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ مِنْ أَمْرِ الْجَمَلِ أَتَاهُ وُجُوهُ النَّاسِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، فَكَانَ فِيمَنْ جَاءَهُ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَنِي سَعْدٍ - وَكَانُوا قَدِ اعْتَزَلُوا الْقِتَالَ - فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: تَرَبَّصْتَ - يَعْنِي بِنَا - فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرَانِي إِلَّا قَدْ أَحْسَنْتُ، وَبِأَمْرِكَ كَانَ مَا كَانَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَارْفُقْ فَإِنَّ طَرِيقَكَ الَّذِي سَلَكْتَ بِعِيدٌ، وَأَنْتَ إِلَيَّ غَدًا أَحْوَجُ مِنْكَ أَمْسِ، فَاعْرِفْ إِحْسَانِي، وَاسْتَبْقِ مَوَدَّتِي لِغَدٍ، وَلَا تَقُلْ مِثْلَ هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَزَلْ لَكَ نَاصِحًا.
قَالُوا: ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ الْبَصْرَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا عَلَى رَايَاتِهِمْ، حَتَّى

الْجَرْحَى وَالْمُسْتَأْمِنَةُ. وَجَاءَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ الثَّقَفِيُّ، فَبَايَعَهُ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَيْنَ الْمَرِيضُ - يَعْنِي أَبَاهُ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَرِيضٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهُ عَلَى مَسَرَّتِكَ لَحَرِيصٌ. فَقَالَ: امْشِ أَمَامِي، فَمَضَى إِلَيْهِ فَعَادَهُ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرَةَ فَعَذَرَهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْبَصْرَةَ فَامْتَنَعَ وَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِكَ يَسْكُنُ إِلَيْهِ النَّاسُ. وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِابْنِ عَبَّاسٍ فَوَلَّاهُ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَجَعَلَ مَعَهُ زِيَادَ بْنَ أَبِيهِ عَلَى الْخَرَاجِ وَبَيْتِ الْمَالِ، وَأَمَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ زِيَادٍ وَكَانَ زِيَادٌ مُعْتَزِلًا.
ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ إِلَى الدَّارِ الَّتِي فِيهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ، فَاسْتَأْذَنَ وَدَخَلَ فَسَلَّمَ عَلَيْهَا وَرَحَّبَتْ بِهِ، وَإِذَا النِّسَاءُ فِي دَارِ بَنِي خَلَفٍ يَبْكِينَ عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ ; عَبْدُ اللَّهِ وَعُثْمَانُ ابْنَا خَلَفٍ، فَعَبْدُ اللَّهِ قُتِلَ مَعَ عَائِشَةَ، وَعُثْمَانُ قُتِلَ مَعَ عَلِيٍّ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلِيٌّ قَالَتْ لَهُ صَفِيَّةُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ أُمُّ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ: أَيْتَمَ اللَّهُ مِنْكَ أَوْلَادَكَ كَمَا أَيْتَمْتَ أَوْلَادِي. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهَا عَلِيٌّ شَيْئًا، فَلَمَّا خَرَجَ أَعَادَتْ عَلَيْهِ الْمَقَالَةَ أَيْضًا، فَسَكَتَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَتَسْكُتُ عَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ تَقُولُ مَا تَسْمَعُ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ ! إِنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَكُفَّ عَنِ النِّسَاءِ وَهُنَّ مُشْرِكَاتٌ، أَفَلَا نَكُفُّ عَنْهُنَّ وَهُنَّ مُسْلِمَاتٌ ؟ ! فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ عَلَى الْبَابِ رَجُلَيْنِ يَنَالَانِ مِنْ عَائِشَةَ. فَأَمَرَ عَلِيٌّ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو أَنْ يَجْلِدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةً، وَأَنْ يُخْرِجَهُمَا مِنْ ثِيَابِهِمَا.
وَقَدْ سَأَلَتْ عَائِشَةُ عَمَّنْ قُتِلَ مَعَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ قُتِلَ مِنْ عَسْكَرِ عَلِيٍّ، فَجَعَلَتْ كُلَّمَا ذُكِرَ لَهَا وَاحِدٌ تَرَحَّمَتْ عَلَيْهِ وَدَعَتْ لَهُ.

وَلَمَّا أَرَادَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ الْخُرُوجَ مِنَ الْبَصْرَةِ بَعَثَ إِلَيْهَا عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِكُلِّ مَا يَنْبَغِي مِنْ مَرْكَبٍ وَزَادٍ وَمَتَاعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَذِنَ لِمَنْ نَجَا مِمَّنْ جَاءَ فِي جَيْشِهَا أَنْ يَرْجِعَ مَعَهَا، إِلَّا أَنْ يُحِبَّ الْمَقَامَ، وَاخْتَارَ لَهَا أَرْبَعِينَ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الْمَعْرُوفَاتِ. وَسَيَّرَ مَعَهَا أَخَاهَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي ارْتَحَلَتْ فِيهِ، جَاءَ عَلِيٌّ فَوَقَفَ عَلَى الْبَابِ وَحَضَرَ النَّاسُ مَعَهُ وَخَرَجَتْ مِنَ الدَّارِ فِي الْهَوْدَجِ، فَوَدَّعَتِ النَّاسَ وَدَعَتْ لَهُمْ وَقَالَتْ: يَا بَنِيَّ لَا يَعْتِبْ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَلِيٍّ فِي الْقِدَمِ إِلَّا مَا يَكُونُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأَحْمَائِهَا، وَإِنَّهُ عَلَى مَعْتَبَتِي لَمِنَ الْأَخْيَارِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: صَدَقَتْ وَاللَّهِ مَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا إِلَّا ذَاكَ وَإِنَّهَا لَزَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَسَارَ عَلِيٌّ مَعَهَا مُوَدِّعًا وَمُشَيِّعًا أَمْيَالًا وَسَرَّحَ بَنِيهِ مَعَهَا بَقِيَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ - وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ مُسْتَهَلَّ رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ - وَقَصَدَتْ فِي مَسِيرِهَا ذَلِكَ إِلَى مَكَّةَ، فَأَقَامَتْ بِهَا إِلَى أَنْ حَجَّتْ عَامَهَا ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
وَأَمَّا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَإِنَّهُ لَمَّا فَرَّ اسْتَجَارَ بِمَالِكِ بْنِ مِسْمَعٍ فَأَجَارَهُ وَوَفَّى لَهُ، وَلِهَذَا كَانَ بَنُو مَرْوَانَ يُكْرِمُونَ مَالِكًا وَيُشَرِّفُونَهُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ نَزَلَ دَارَ بَنِي خَلَفٍ فَلَمَّا خَرَجَتْ عَائِشَةُ، خَرَجَ مَعَهَا، فَلَمَّا سَارَتْ هِيَ إِلَى مَكَّةَ سَارَ هُوَ إِلَى الْمَدِينَةِ

قَالُوا: وَقَدْ عَلِمَ مَنْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ بِالْوَقْعَةِ يَوْمَ الْوَقْعَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا كَانَتِ النُّسُورُ تَخْطَفُهُ مِنَ الْأَيْدِي وَالْأَقْدَامِ فَيَسْقُطُ مِنْهَا هُنَالِكَ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَلِمُوا بِذَلِكَ يَوْمَ الْجَمَلِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَذَلِكَ أَنَّ نَسْرًا مَرَّ بِهِمْ وَمَعَهُ شَيْءٌ فَسَقَطَ مِنْهُ فَإِذَا هُوَ كَفٌّ فِيهِ خَاتَمٌ نَقْشُهُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَتَّابٍ.
هَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ مِنَ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلَقَةِ عَلَى الصَّحَابَةِ، وَالْأَخْبَارِ الْمَوْضُوعَةِ الَّتِي يَنْقُلُونَهَا بِمَا فِيهَا، وَإِذَا دُعُوا إِلَى الْحَقِّ الْوَاضِحِ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا: لَنَا أَخْبَارُنَا وَلَكُمْ أَخْبَارُكُمْ. فَنَقُولُ لَهُمْ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [ الْقَصَصِ: 55 ].


فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَعْيَانِ مَنْ قُتِلَ يَوْمَ الْجَمَلِ مِنَ السَّادَةِ النُّجَبَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ عِدَّةَ الْقَتْلَى نَحْوٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَأَمَّا الْجَرْحَى فَلَا

يُحْصَوْنَ كَثْرَةً.
وَلَمْ يَكُنْ فِي الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا الْقَلِيلُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: هَاجَتِ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَشَرَاتُ أُلُوفٍ، فَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْهُمْ مِائَةٌ، بَلْ لَمْ يَبْلُغُوا ثَلَاثِينَ. وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ - هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ - ثَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ يَشْهَدِ الْجَمَلَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْرَ عَلِيٍّ، وَعَمَّارٍ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، فَإِنْ جَاءُوا بِخَامِسٍ فَأَنَا كَذَّابٌ. قُلْتُ: قَدْ حَضَرَهَا عَائِشَةُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَآخَرُونَ. فَمِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ فِي الْمَعْرَكَةِ
طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ.

وَيُعْرَفُ بِطَلْحَةَ الْخَيْرِ، وَطَلْحَةَ الْفَيَّاضِ ; لِكَثْرَةِ بِرِّهِ، وَكَثْرَةِ جُودِهِ. أَسْلَمَ قَدِيمًا عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَكَانَ نَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدِ بْنِ الْعَدَوِيَّةِ يَشُدُّهُمَا فِي حَبْلٍ وَاحِدٍ، وَلَا تَسْتَطِيعُ بَنُو تَيْمٍ أَنْ تَمْنَعَهُمَا مِنْهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ يُقَالُ لِطَلْحَةَ وَأَبِي بَكْرٍ: الْقَرِينَانِ. وَقَدْ هَاجَرَ وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا إِلَّا بَدْرًا، فَإِنَّهُ كَانَ بِالشَّامِ فِي تِجَارَةٍ وَقِيلَ: فِي رِسَالَةٍ ; لِهَذَا ضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ مِنْ بَدْرٍ. وَكَانَتْ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ وَشُلَّتْ يَدُهُ يَوْمَئِذٍ ; لِأَنَّهُ وَقَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَمَرَّتْ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ مَاتَ. وَكَانَ الصِّدِّيقُ إِذَا حَدَّثَ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ يَقُولُ: ذَاكَ يَوْمٌ كَانَ كُلُّهُ لِطَلْحَةَ. وَقَدْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَئِذٍ: أَوْجَبَ طَلْحَةُ ". وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دِرْعَانِ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْهَضَ وَهُمَا عَلَيْهِ لِيَصْعَدَ صَخْرَةً هُنَالِكَ فَمَا اسْتَطَاعَ فَطَأْطَأَ لَهُ طَلْحَةُ، فَصَعِدَ عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى اسْتَوَى عَلَيْهَا، وَقَالَ: أَوْجَبَ طَلْحَةُ ".
وَهُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَحَدُ السِّتَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى، وَقَدْ

صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَحْسَنَ صُحْبَتَهُ حَتَّى تُوُفِّيَ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. فَلَمَّا كَانَتْ قَضِيَّةُ عُثْمَانَ اعْتَزَلَ عَنْهُ، فَنَسَبَهُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى تَحَامُلٍ عَلَيْهِ ; فَلِهَذَا لَمَّا حَضَرَ يَوْمَ الْجَمَلِ وَاجْتَمَعَ بِهِ عَلِيٌّ فَوَعَظَهُ، تَأَخَّرَ فَوَقَفَ فِي بَعْضِ الصُّفُوفِ، فَجَاءَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَوَقَعَ فِي رُكْبَتِهِ. وَقِيلَ: فِي رَقَبَتِهِ. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَانْتَظَمَ السَّهْمُ مَعَ سَاقِهِ خَاصِرَةَ الْفَرَسِ، فَجَمَحَ بِهِ حَتَّى كَادَ يُلْقِيهِ وَجَعَلَ يَقُولُ: إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ. فَأَدْرَكَهُ مَوْلًى لَهُ فَرَكِبَ وَرَاءَهُ وَأَدْخَلَهُ الْبَصْرَةَ، فَمَاتَ بِدَارٍ فِيهَا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَاتَ بِالْمَعْرَكَةِ، وَإِنَّ عَلِيًّا لَمَّا دَارَ بَيْنَ الْقَتْلَى رَآهُ فَجَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ التُّرَابَ وَقَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا مُحَمَّدٍ، يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ أَرَاكَ مُجَدَّلًا تَحْتَ نُجُومِ السَّمَاءِ. ثُمَّ قَالَ: إِلَى اللَّهِ أَشْكُو عُجَرِي وَبُجَرِي، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً. وَيُقَالُ: إِنَّ الَّذِي رَمَاهُ بِهَذَا السَّهْمِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَقَالَ لَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ: قَدْ كَفَيْتُكَ رَجُلًا مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي رَمَاهُ غَيْرُهُ. وَهَذَا عِنْدِي أَقْرَبُ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ مَشْهُورًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ.
وَدُفِنَ طَلْحَةُ إِلَى جَانِبِ الْكَلَّاءِ وَكَانَ عُمُرُهُ سِتِّينَ سَنَةً. وَقِيلَ: بِضْعًا وَسِتِّينَ سَنَةً.

وَكَانَ آدَمَ وَقِيلَ: أَبْيَضَ. حَسَنَ الْوَجْهِ كَثِيرَ الشَّعْرِ، إِلَى الْقِصَرِ أَقْرَبَ، وَكَانَتْ غَلَّتُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا رَأَى طَلْحَةَ فِي مَنَامِهِ وَهُوَ يَقُولُ: حَوِّلُونِي عَنْ قَبْرِي فَقَدْ آذَانِي الْمَاءُ. ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ - وَكَانَ نَائِبًا عَلَى الْبَصْرَةِ - فَأَخْبَرَهُ فَاشْتَرَوْا لَهُ دَارًا بِالْبَصْرَةِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَحَوَّلُوهُ مِنْ قَبْرِهِ إِلَيْهَا، فَإِذَا هُوَ قَدِ اخْضَرَّ مِنْ جَسَدِهِ مَا يَلِي الْمَاءَ، وَإِذَا هُوَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ أُصِيبَ.
وَقَدْ وَرَدَتْ لَهُ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ ; فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:سَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ أُحُدٍ طَلْحَةَ الْخَيْرِ، وَيَوْمَ الْعُسْرَةِ طَلْحَةَ الْفَيَّاضَ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ طَلْحَةَ الْجُودِ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: ثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُوسَى وَعِيسَى، ابْنَيْ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِمَاأَنَّ نَاسًا مِنْ

أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا لِأَعْرَابِيٍّ جَاءَ يَسْأَلُ عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ فَقَالُوا: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ فِي الْمَسْجِدِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ اطَّلَعْتُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ وَعَلَيَّ ثِيَابٌ خُضْرٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " أَيْنَ السَّائِلُ ؟ ". قَالَ: هَا أَنَا ذَا. فَقَالَ: " هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ ".
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ ثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، ثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا الصَّلْتُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَهِيدٍ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، ثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ مَنْصُورٍ الْعَنَزِيُّ - اسْمُهُ النَّضْرُ - ثَنَا عُقْبَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ الْيَشْكَرِيُّ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ جَارَايَ فِي الْجَنَّةِ "
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَطَلْحَةُ

وَالزُّبَيْرُ وَعُثْمَانُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [ الْحِجْرِ: 47 ].
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَقَعُ فِي طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، فَجَعَلَ سَعْدٌ يَنْهَاهُ وَيَقُولُ: لَا تَقَعْ فِي إِخْوَانِي. فَأَبَى فَقَامَ سَعْدٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا مُسْخِطًا لَكَ فِيمَا يَقُولُ، فَأَرِنِي فِيهِ الْيَوْمَ آيَةً وَاجْعَلْهُ لِلنَّاسِ عِبْرَةً. فَخَرَجَ الرَّجُلُ فَإِذَا هُوَ بِبُخْتِيٍّ يَشُقُّ النَّاسُ فَأَخَذَهُ بِالْبَلَاطِ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ كِرْكِرَتِهِ وَالْبَلَاطِ فَسَحَقَهُ حَتَّى قَتَلَهُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: فَأَنَا رَأَيْتُ النَّاسَ يَتَّبِعُونَ سَعْدًا وَيَقُولُونَ: هَنِيئًا لَكَ أَبَا إِسْحَاقَ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكَ.
وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ، بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ

وَأُمُّهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ; عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَسْلَمَ الزُّبَيْرُ قَدِيمًا وَعُمُرُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: أَقَلُّ. وَقِيلَ: أَكْثَرُ. وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ إِلَى الْمَدِينَةِ فَآخَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍّ، وَقَدْ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ الْأَحْزَابِ: " مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ ؟ ". فَقَالَ: أَنَا. ثُمَّ نَدَبَ النَّاسَ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَرِايًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ " ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ زِرٍّ، عَنْ عَلِيٍّ، وَثَبَتَ عَنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ:جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَبَوَيْهِ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَلَّ سَيْفًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; وَذَلِكَ بِمَكَّةَ حِينَ بَلَغَ الصَّحَابَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَدْ قُتِلَ فَجَاءَ الزُّبَيْرُ شَاهِرًا سَيْفَهُ حَتَّى رَأَى رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَامَ سَيْفَهُ.
وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَحَدُ السِّتَّةِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ. وَصَحِبَ الصِّدِّيقَ فَأَحْسَنَ صُحْبَتَهُ، وَكَانَ خَتَنَهُ عَلَى ابْنَتِهِ

أَسْمَاءَ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ مِنْهَا ; أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَخَرَجَ مَعَ النَّاسِ إِلَى الشَّامِ مُجَاهِدًا، فَشَهِدَ الْيَرْمُوكَ فَتَشَرَّفُوا بِحُضُورِهِ، وَكَانَتْ لَهُ بِهَا الْيَدُ الْبَيْضَاءُ، وَالْهِمَّةُ الْعَلْيَاءُ، اخْتَرَقَ جُيُوشُ الرُّومِ وَصُفُوفَهُمْ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ مَرَّتَيْنِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ دَافَعَ عَنْ عُثْمَانَ وَجَاحَفَ عَنْهُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجَمَلِ ذَكَّرَهُ عَلِيٌّ بِمَا ذَكَّرَهُ بِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَرَجَعَ عَنِ الْقِتَالِ، وَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَرَّ بِقَوْمِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ - وَكَانُوا قَدِ اعْتَزَلُوا الْفَرِيقَيْنِ - فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ ; يُقَالُ: هُوَ الْأَحْنَفُ: مَا بَالَ هَذَا جَمَعَ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى إِذَا الْتَقَوْا كَرَّ رَاجِعًا إِلَى أَهْلِهِ ؟ مَنْ رَجُلٌ يَكْشِفُ لَنَا خَبَرَهُ ؟ فَاتَّبَعَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ وَفَضَالَةُ بْنُ حَابِسٍ، وَنُفَيْعٌ فِي طَائِفَةٍ مِنْ غُوَاةِ بَنِي تَمِيمٍ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا أَدْرَكُوهُ تَعَاوَنُوا عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ. وَيُقَالُ: بَلْ أَدْرَكَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. فَقَالَ: ادْنُ. فَقَالَ مَوْلَى الزُّبَيْرِ ; وَاسْمُهُ عَطِيَّةُ: أَرَى مَعَهُ سِلَاحًا. فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ فَجَعَلَ يُحَادِثُهُ وَحَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ الزُّبَيْرُ: الصَّلَاةُ. فَقَالَ: الصَّلَاةُ. فَتَقَدَّمَ الزُّبَيْرُ لِيُصَلِّيَ بِهِمَا، فَطَعَنَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ فَقَتْلَهُ. وَيُقَالُ: بَلْ أَدْرَكَهُ عَمْرٌو بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: وَادِي السِّبَاعِ. وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْقَائِلَةِ، فَهَجَمَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَشْهَرُ، وَيَشْهَدُ لَهُ شَعْرُ امْرَأَتِهِ عَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَكَانَ آخَرَ

مَنْ تَزَوَّجَهَا - وَكَانَتْ قَبْلَهُ تَحْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقُتِلَ عَنْهَا أَيْضًا، وَكَانَتْ قَبْلَ عُمَرَ تَحْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَقُتِلَ عَنْهَا - فَلَمَّا قُتِلَ الزُّبَيْرُ رَثَتْهُ بِقَصِيدَةٍ جَيِّدَةِ الشِّعْرِ مَحْكَمَةِ الْمَعْنَى، فَقَالَتْ:
غَدَرَ ابْنُ جُرْمُوزٍ بِفَارِسِ بُهْمَةٍ يَوْمَ اللَّقَاءِ وَكَانَ غَيْرَ مُعَرِّدِ يَا عَمْرُو لَوْ نَبَّهْتَهُ لَوَجَدْتَهُ
لَا طَائِشًا رَعِشَ الْجَنَانِ وَلَا الْيَدِ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ أَنْ ظَفَرْتَ بِمِثْلِهِ
مِمَّنْ بَقِي مِمَّنْ يَرُوحُ وَيَغْتَدِي كَمْ غَمْرَةٍ قَدْ خَاضَهَا لَمْ يَثْنِهِ
عَنْهَا طِرَادُكَ يَا ابْنَ فَقْعِ الْقَرْدَدِ وَاللَّهِ رَبِّي إِنْ قَتَلْتَ لَمُسْلِمًا
حَلَّتْ عَلَيْكَ عُقُوبَةُ الْمُتَعَمِّدِ
وَلَمَّا قَتَلَهُ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ احْتَزَّ رَأْسَهُ وَذَهَبَ بِهِ إِلَى عَلِيٍّ، وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ حُظْوَةٌ عِنْدَهُ، فَاسْتَأْذَنَ فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا تَأْذَنُوا لَهُ وَبَشِّرُوهُ بِالنَّارِ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: بِشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ

بِالنَّارِ. وَدَخَلَ ابْنُ جُرْمُوزٍ وَمَعَهُ سَيْفُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ هَذَا السَّيْفَ طَالَمَا فَرَّجَ الْكَرْبَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَيُقَالُ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ جُرْمُوزٍ لَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ قَتَلَ نَفْسَهُ. وَقِيلَ: بَلْ عَاشَ إِلَى أَنْ تَأَمَّرَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى الْعِرَاقِ، فَاخْتَفَى مِنْهُ، فَقِيلَ لِمُصَعَبٍ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ جُرْمُوزٍ هَاهُنَا وَهُوَ مُخْتَفٍ، فَهَلْ لَكَ فِيهِ ؟ فَقَالَ: مُرُوهُ فَلْيَظْهَرْ فَهُوَ آمِنٌ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ لِأُقِيدَ لِلزُّبَيْرِ مِنْهُ فَهُوَ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ أَجْعَلَهُ عِدْلًا لِلزُّبَيْرِ.
وَقَدْ كَانَ الزُّبَيْرُ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ وَصَدَقَاتٍ دَارَّةٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا، وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجَمَلِ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا قُتِلَ وَجَدُوا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ فَوَفَّوْهَا عَنْهُ، وَأَخْرَجُوا بَعْدَ ذَلِكَ ثُلُثَ مَالِهِ الَّذِي كَانَ أَوْصَى بِهِ، ثُمَّ قُسِمَتِ التَّرِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ زَوْجَاتِهِ - وَكُنَّ أَرْبَعًا - مِنْ رُبُعِ الثُّمُنِ، أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفِ دِرْهَمٍ ; فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَجْمُوعُ مَا قُسِمَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ، وَالثُّلُثُ الْمُوصَى بِهِ تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ، فَالْجُمْلَةُ سَبْعَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفٍ، وَالدَّيْنُ الْمُخْرَجُ قَبْلَ ذَلِكَ أَلْفَا أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَمِيعُ مَا تَرَكَهُ مِنَ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ تِسْعَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ أَلْفٍ، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا ; لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مَا فِيهِ نَظَرٌ يَنْبَغِي أَنْ يُنَبَّهَ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَمَعَ مَالَهُ هَذَا بَعْدَ الصَّدَقَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَالْمَآثِرِ الْوَثِيرَةِ، مِنَ الْحَلَالِ، مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ

عَلَيْهِ مِنَ الْجِهَادِ، وَمِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْهُ، وَمِنَ التِّجَارَةِ الْمَبْرُورَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ لَهُ أَلْفُ مَمْلُوكٍ يُؤَدُّونَ إِلَيْهِ الْخَرَاجَ، فَرُبَّمَا تَصَدَّقَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ بِخَرَاجِهِمْ كُلِّهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
وَكَانَ قَتْلُهُ يَوْمَ الْخَمِيسَ لِعَشَرٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى السِّتِّينَ سَنَةً بِسِتٍّ أَوْ سَبْعٍ، وَكَانَ أَسْمَرَ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ، مُعْتَدِلَ اللَّحْمِ خَفِيفَ اللِّحْيَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَلَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ نِيَابَةَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِقَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَكَانَ عَلَى نِيَابَتِهَا فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، فَلَمَّا تَوَجَّهَ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ مِنْ خَوَارِجِ الْمِصْرِيِّينَ إِلَى عُثْمَانَ لِيَقْتُلُوهُ وَكَانَ الَّذِي جَهَّزَهُمْ إِلَيْهِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ - الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّوْدَاءِ - مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ، وَكَانَ لَمَّا قُتِلَ أَبُوهُ بِالْيَمَامَةِ قَدْ أَوْصَى بِهِ إِلَى عُثْمَانَ، فَكَفَلَهُ وَرَبَّاهُ فِي حِجْرِهِ وَمَنْزِلِهِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ إِحْسَانًا كَثِيرًا، وَنَشَأَ فِي عِبَادَةٍ وَزَهَادَةٍ، وَسَأَلَ مِنْ عُثْمَانَ أَنْ يُوَلِّيَهُ عَمَلًا، فَقَالَ لَهُ: مَتَى مَا صِرْتَ أَهْلًا لِذَلِكَ وَلَّيْتُكَ. فَتَعَتَّبَ فِي نَفْسِهِ عَلَى عُثْمَانَ، فَسَأَلَ مِنْ عُثْمَانَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْغَزْوِ فَأَذِنَ لَهُ، فَقَصَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ وَحَضَرَ مَعَ أَمِيرِهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ غَزْوَةَ الصَّوَارِي، كَمَا قَدَّمْنَا. وَشَرَعَ يَنْتَقِصُ عُثْمَانَ،

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ إِلَى عُثْمَانَ يَشْكُوهُمَا إِلَيْهِ، فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِمَا عُثْمَانُ شَيْئًا، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُذَيْفَةَ حَتَّى اسْتَنْفَرَ أُولَئِكَ إِلَى عُثْمَانَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُمْ قَدْ حَصَرُوا عُثْمَانَ، تَغَلَّبَ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا ابْنَ أَبِي سَرْحٍ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ فِيهَا، فَلَمَّا كَانَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِقَتْلِ عُثْمَانَ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَبَلَغَهُ أَنَّ عَلِيًّا قَدْ بَعَثَ عَلَى إِمْرَةِ مِصْرَ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَشَمِتَ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُذَيْفَةَ إِذْ لَمْ يُمَتَّعْ بِمُلْكِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ سَنَةً. وَسَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ إِلَى الشَّامِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، فَسَارَ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَيْهِ لِيُخْرِجَاهُ مِنْهَا ; لِأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْأَعْوَانِ عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ رَبَّاهُ وَكَفَلَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، فَعَالَجَا دُخُولَ مِصْرَ فَلَمْ يَقْدِرَا، فَلَمْ يَزَالَا يَخْدَعَانِهِ حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْعَرِيشِ فِي أَلْفِ رَجُلٍ فَتَحَصَّنَ بِهَا، وَجَاءَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَنَصَبَ عَلَيْهِ الْمَنْجَنِيقَ حَتَّى نَزَلَ فِي ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقُتِلُوا. ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ
ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ بِوِلَايَةٍ مِنْ عَلِيٍّ، فَدَخَلَهَا فِي سَبْعَةِ نَفَرٍ،

فَرَقِيَ الْمِنْبَرَ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي هَذَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ إِلَيْكُمْ كَثِيرًا الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ بِحُسْنِ صَنِيعِهِ وَتَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ دِينًا لِنَفْسِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ، وَبَعَثَ بِهِ الرُّسُلَ إِلَى عِبَادِهِ، وَخَصَّ بِهِ مَنِ انْتَخَبَ مِنْ خَلْقِهِ، فَكَانَ مِمَّا أَكْرَمَ اللَّهُ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَخَصَّهُمْ بِهِ مِنَ الْفَضِيلَةِ أَنْ بَعَثَ مُحَمَّدًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالْفَرَائِضَ وَالسَّنَةَ ; لِكَيْمَا يَهْتَدُوا، وَجَمَعَهُمْ لِكَيْلَا يَتَفَرَّقُوا، وَزَكَّاهُمْ لِكَيْ يَتَطَهَّرُوا، وَوَفَّقَهُمْ لِكَيْلَا يَجُورُوا، فَلَمَّا قَضَى مِنْ ذَلِكَ مَا عَلَيْهِ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَبَرَكَاتُهُ وَرَحْمَتُهُ، ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ اسْتَخْلَفُوا بَعْدَهُ أَمِيرَيْنِ صَالِحَيْنِ، عَمِلَا بِالْكِتَابِ، وَأَحْسَنَا السِّيرَةَ وَلَمْ يَعْدُوَا السُّنَّةَ، ثُمَّ تَوَفَّاهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، فَرَحِمَهُمَا اللَّهُ، ثُمَّ وَلَّى بَعْدَهُمَا وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثًا، فَوَجَدَتِ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ مَقَالًا فَقَالُوا، ثُمَّ نَقَمُوا عَلَيْهِ فَغَيَّرُوا، ثُمَّ جَاءُونِي فَبَايَعُونِي، فَأَسْتَهْدِي اللَّهَ بِهُدَاهُ، وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى التَّقْوَى، أَلَا وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا الْعَمَلَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَالْقِيَامَ عَلَيْكُمْ بِحَقِّهِ، وَالنُّصْحَ لَكُمْ بِالْغَيْبِ - وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَوَازِرُوهُ وَكَانِفُوهُ وَأَعِينُوهُ عَلَى الْحَقِّ، وَقَدْ أَمَرْتُهُ

بِالْإِحْسَانِ إِلَى مُحْسِنِكُمْ، وَالشِّدَّةِ عَلَى مُرِيبِكُمْ، وَالرِّفْقِ بِعَوَامِّكُمْ وَخَوَاصِّكُمْ، وَهُوَ مِمَّنْ أَرْضَى هَدْيَهُ وَأَرْجُو صَلَاحَهُ وَنَصِيحَتَهُ، أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ عَمَلَا زَاكِيًا، وَثَوَابًا جَزِيلًا، وَرَحْمَةً وَاسِعَةً، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَكَتَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ.
قَالَ: ثُمَّ قَامَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ فَخَطَبَ النَّاسَ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْبَيْعَةِ لِعَلِيٍّ، فَقَامَ النَّاسُ فَبَايَعُوهُ، وَاسْتَقَامَتْ لَهُ طَاعَةُ بِلَادِ مِصْرَ سِوَى قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا: خِرِبْتَا. فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ أَعْظَمُوا قَتْلَ عُثْمَانَ، وَكَانُوا سَادَةَ النَّاسِ وَوُجُوهَهُمْ، وَكَانُوا فِي نَحْوٍ مِنْ عَشْرَةِ آلَافٍ - مِنْهُمْ بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ مُخَلَّدٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ - وَعَلَيْهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُدْلَجِيُّ. وَبَعَثُوا إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ فَوَادَعَهُمْ، وَكَذَلِكَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُخَلَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ تَأَخَّرَ عَنِ الْبَيْعَةِ فَتَرَكَهُ قَيْسٌ وَوَادَعَهُ.
ثُمَّ كَتَبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بَعْدَ أَنِ اسْتَوْثَقَ لَهُ أَمْرُ الشَّامِ بِحَذَافِيرِهِ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ الرُّومِ وَالسَّوَاحِلِ - وَجَزِيرَةُ قُبْرُسَ أَيْضًا تَحْتَ

حُكْمِهِ يَأْتِيِهِ حِمْلُهَا - وَبَعْضِ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ ; كَالرُّهَا وَحَرَّانَ وَقَرْقِيسِيَاءَ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ أَتَاهُ الَّذِينَ هَرَبُوا يَوْمَ الْجَمَلِ مِنَ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَقَدْ أَرَادَ الْأَشْتَرُ انْتِزَاعَ هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ نُوَّابِ مُعَاوِيَةَ، فَبَعْثَ إِلَيْهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَفَرَّ مِنْهُ الْأَشْتَرُ وَهَرَبَ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ مُعَاوِيَةَ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ، فَلَمَّا اسْتَوْسَقَتْ لَهُ الْبِلَادُ كَمَا ذَكَرْنَا، كَتَبَ إِلَى قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ يَدْعُوهُ إِلَى الْقِيَامِ بِطَلَبِ دَمِ عُثْمَانَ، وَأَنْ يَكُونَ مُؤَازِرًا لَهُ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنَ الْقِيَامِ فِي ذَلِكَ، وَوَعَدَهُ أَنْ يَكُونَ نَائِبَهُ عَلَى الْعِرَاقَيْنِ إِذَا تَمَّ لَهُ الْأَمْرُ مَا دَامَ سُلْطَانًا.
فَلَمَّا بَلَغَهُ الْكِتَابُ - وَكَانَ قَيْسُ رَجُلًا حَازِمًا - لَمْ يُخَالِفْهُ وَلَمْ يُوَافِقْهُ، بَلْ بَعَثَ يُلَاطِفُ مَعَهُ الْأَمْرَ ; وَذَلِكَ لِبُعْدِهِ عَنْ عَلِيٍّ وَقُرْبِهِ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ وَمَا مَعَ مُعَاوِيَةَ مِنَ الْجُنُودِ، فَسَالَمَهُ قَيْسٌ وَتَارَكَهُ وَلَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ، وَلَا خَالَفَهُ عَلَيْهِ. فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَيْهِ: إِنَّهُ لَا يَسَعُكَ مَعِيَ تَسْوِيفُكَ بِي، وَخَدِيعَتُكَ لِي، وَلَا بُدَّ أَنْ أَعْلَمَ أَنَّكَ سَلْمٌ لِي أَوْ عَدُوٌّ - وَكَانَ مُعَاوِيَةُ حَازِمًا أَيْضًا. فَكَتَبَ إِلَيْهِ - قَيْسٌ لَمَّا صَمَّمَ عَلَيْهِ: إِنِّي مَعَ عَلِيٍّ ; إِذْ هُوَ أَحَقُّ بِالْأَمْرِ مِنْكَ. فَلَمَّا بَلَغَ

ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ، يَئِسَ مِنْهُ وَرَجَعَ عَنْهُ.
ثُمَّ أَشَاعَ بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ أَنَّ قَيْسًا يُكَاتِبُهُمْ فِي الْبَاطِنِ وَيُمَالِئُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ جَاءَهُمْ مِنْ جِهَتِهِ كِتَابٌ مُزَوَّرٌ بِمُبَايَعَةِ قَيْسٍ مُعَاوِيَةَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ.
فَلَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ إِلَى عَلِيٍّ اتَّهَمَهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَغْزُوَ أَهْلَ خِرِبْتَا الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْبَيْعَةِ، فَبَعَثَ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ بِأَنَّهُمْ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، وَهُمْ وُجُوهُ النَّاسِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا أَمَرْتَنِي بِهَذَا لِتَخْتَبِرَنِي ; لِأَنَّكَ اتَّهَمْتَنِي فِي طَاعَتِكَ، فَابْعَثْ عَلَى عَمَلِكَ بِمِصْرَ غَيْرِي. فَبَعَثَ عَلِيٌّ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ، فَسَارٍ إِلَيْهَا فَلَمَّا بَلَغَ الْقُلْزُمَ شَرِبَ شَرْبَةً مِنْ عَسَلٍ فَكَانَ فِيهَا حَتْفُهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ الشَّامِ فَقَالُوا: إِنَّ لِلَّهِ جُنْدًا مِنْ عَسَلٍ. فَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا مَهْلِكُ الْأَشْتَرِ، بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى إِمْرَةِ مِصْرَ، وَقَدْ قِيلَ - وَهُوَ الْأَصَحُّ -: إِنَّهُ إِنَّمَا وَلَّاهُ مِصْرَ بَعْدَ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ فَارْتَحَلَ قَيْسٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ رَكِبَ هُوَ وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ إِلَى عَلِيٍّ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ فَعَذَرَهُ عَلِيٌّ، وَشَهِدَا مَعَهُ صِفِّينَ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ. فَلَمْ يَزَلْ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَائِمَ الْأَمْرِ مَهْنِيًّا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، حَتَّى كَانَتْ وَقْعَةُ صِفِّينَ، وَبَلَغَ أَهْلَ مِصْرَ صَبْرُ مُعَاوِيَةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَصَارُوا إِلَى

التَّحْكِيمِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَمِعَ أَهْلُ مِصْرَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَاجْتَرَءُوا عَلَيْهِ وَبَارَزُوهُ بِالْعَدَاوَةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَدْ بَايَعَ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْقِيَامِ بِطَلَبِ دَمِ عُثْمَانَ وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ حِينَ أَرَادُوا حَصْرَهُ ; لِئَلَّا يَشْهَدَ مَهْلِكَهُ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُتَعَتِّبًا عَلَى عُثْمَانَ بِسَبَبِ عَزْلِهِ لَهُ عَنْ دِيَارِ مِصْرَ وَهُوَ الَّذِي فَتَحَهَا، وَتَوْلِيَتِهِ بَدَلَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي سَرْحٍ، فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى تَغَضُّبٍ وَغَيْظٍ، فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنَ الْأُرْدُنِّ، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، صَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَبَايَعَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقِيَامِ بِدَمِ عُثْمَانَ.

فَصَلٌ فِي ذِكْرِ وَقْعَةِ صِفِّينَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَبَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ
قَدْ تَقَدَّمَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: هَاجَتِ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَشَرَاتُ أُلُوفٍ فَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْهُمْ مِائَةٌ، بَلْ لَمْ يَبْلُغُوا ثَلَاثِينَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:

حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ لِشُعْبَةَ: إِنَّ أَبَا شَيْبَةَ رَوَى عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: شَهِدَ صِفِّينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ سَبْعُونَ رَجُلًا. فَقَالَ: كَذَبَ أَبُو شَيْبَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ ذَاكَرْنَا الْحَكَمَ فِي ذَلِكَ، فَمَا وَجَدْنَاهُ شَهِدَ صِفِّينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ غَيْرَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ شَهِدَهَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَكَذَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ. قَالَهُ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِ " الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضَةِ ". وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ أَنَّهُ قَالَ: أَمَا إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ لَزِمُوا بُيُوتَهُمْ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ فَلَمْ يَخْرُجُوا إِلَّا إِلَى قُبُورِهِمْ.
وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَلِ وَدَخَلَ الْبَصْرَةَ وَشَيَّعَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ لَمَّا أَرَادَتِ الرُّجُوعَ إِلَى مَكَّةَ، سَارَ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ، قَالَ ابْنُ أَبِي الْكَنُودِ عُبَيْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدٍ: فَدَخَلَهَا عَلِيٌّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، فَقِيلَ لَهُ: انْزِلْ بِالْقَصْرِ الْأَبْيَضِ. فَقَالَ: لَا، إِنَّ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ نُزُولَهُ، فَأَنَا أَكْرَهُهُ لِذَلِكَ. فَنَزَلَ فِي الرَّحْبَةِ وَصَلَّى فِي الْجَامِعِ الْأَعْظَمِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَحَثَّهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَنَهَاهُمْ عَنِ الشَّرِّ، وَمَدَحَ أَهْلَ الْكُوفَةِ فِي خُطْبَتِهِ هَذِهِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - وَكَانَ عَلَى هَمَذَانَ مِنْ زَمَانِ عُثْمَانَ - وَإِلَى الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ - وَهُوَ

عَلَى نِيَابَةِ أَذْرَبِيجَانَ مِنْ أَيَّامِ عُثْمَانَ - يَأْمُرُهُمَا أَنْ يَأْخُذَا الْبَيْعَةَ لَهُ عَلَى مَنْ هُنَالِكَ ثُمَّ يُقْبِلَا إِلَيْهِ، فَفَعَلَا ذَلِكَ. فَلَمَّا أَرَادَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنْ يَبْعَثَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَدْعُوهُ إِلَى بَيْعَتِهِ، قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وُدًّا، فَآخُذُ لَكَ الْبَيْعَةَ مِنْهُ. فَقَالَ الْأَشْتَرُ: لَا تَبْعَثْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَوَاهُ مَعَهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: دَعْهُ. فَبَعَثَهُ وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى مُعَاوِيَةَ يُعْلِمُهُ بِاجْتِمَاعِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى بَيْعَتِهِ، وَيُخْبِرُهُ بِمَا كَانَ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَعْطَاهُ الْكِتَابَ. وَطَلَبَ مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَرُءُوسَ أَهْلِ الشَّامِ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُبَايِعُوا حَتَّى يَقْتُلَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، أَوْ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَاتَلُوهُ وَلَمْ يُبَايِعُوهُ حَتَّى يَقْتُلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ. فَرَجَعَ جَرِيرٌ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالُوا، فَقَالَ الْأَشْتَرُ: أَلَمْ أَنْهَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَبْعَثَ جَرِيرًا ؟ فَلَوْ كُنْتَ بَعَثْتَنِي لَمَا فَتَحَ مُعَاوِيَةُ بَابًا إِلَّا أَغْلَقْتُهُ. فَقَالَ لَهُ جَرِيرٌ لَوْ كُنْتَ ثَمَّ لَقَتَلُوكَ بِدَمِ عُثْمَانَ. فَقَالَ الْأَشْتَرُ: وَاللَّهِ لَوْ بَعَثَنِي لَمْ يُعْيِنِي جَوَابُ مُعَاوِيَةَ وَلَأُعْجِلَنَّهُ عَنِ الْفِكْرَةِ، وَلَوْ أَطَاعَنِي فِيكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، لَحَبَسَكَ وَأَمْثَالَكَ حَتَّى يَسْتَقِيمَ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَقَامَ جَرِيرٌ مُغْضَبًا فَأَقَامَ بِقَرْقِيسِياءَ، وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُخْبِرُهُ بِمَا قَالَ وَمَا قِيلَ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ.

وَخَرَجَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ مِنَ الْكُوفَةِ عَازِمًا عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الشَّامِ، فَعَسْكَرَ بِالنُّخَيْلَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ أَبَا مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنَ عَمْرٍو الْبَدْرِيَّ الْأَنْصَارِيَّ، وَكَانَ قَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ بِأَنْ يُقِيمَ بِالْكُوفَةِ وَيَبْعَثَ الْجُنُودَ، وَأَشَارَ آخَرُونَ عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ. وَبَلَغَ مُعَاوِيَةَ أَنَّ عَلِيًّا قَدْ خَرَجَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَاسْتَشَارَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ إِلَيْهِ أَيْضًا أَنْتَ بِنَفْسِكَ. وَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ صَنَادِيدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ قَدْ تَفَانَوْا يَوْمَ الْجَمَلِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ عَلِيٍّ إِلَّا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِمَّنْ قَتَلَ الْخَلِيفَةَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، فَاللَّهَ اللَّهَ فِي حَقِّكُمْ أَنْ تُضَيِّعُوهُ، وَفِي دَمِ عُثْمَانَ خَلِيفَةِ اللَّهِ فَلَا تُطِلُّوهُ. وَكَتَبَ إِلَى أَجْنَادِ الشَّامِ فَحَضَرُوا، وَعُقِدَتِ الْأَلْوِيَةُ وَالرَّايَاتُ لِلْأُمَرَاءِ، وَتَهَيَّأَ أَهْلُ الشَّامِ وَتَأَهَّبُوا، وَخَرَجُوا أَيْضًا إِلَى نَحْوِ الْفُرَاتِ مِنْ نَاحِيَةِ صِفِّينَ - حَيْثُ يَكُونُ مَقْدَمُ عَلِيٍّ - وَسَارَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِمَنْ مَعَهُ مِنَ النُّخَيْلَةِ قَاصِدًا أَرْضَ الشَّامِ.
قَالَ أَبُو إِسْرَائِيلَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ: وَكَانَ فِي جَيْشِ عَلِيٍّ ثَمَانُونَ بَدْرِيًّا، وَمِائَةٌ وَخَمْسُونَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. رَوَاهُ ابْنُ دِيزِيلَ. وَقَدِ اجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ بِرَاهِبٍ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ فِي كِتَابِهِ، فِيمَا رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكَرَابِيسِيِّ، عَنْ نَصْرِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنْ

عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي مُسْلِمٌ الْأَعْوَرُ، عَنْ حَبَّةَ الْعُرَنِيِّ قَالَ: لَمَّا أَتَى عَلِيٌّ الرَّقَّةَ، نَزَلَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْبَلِيخُ. عَلَى جَانِبِ الْفُرَاتِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ رَاهِبٌ مِنْ صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: إِنَّ عِنْدَنَا كِتَابًا تَوَارَثْنَاهُ عَنْ آبَائِنَا، كَتَبَهُ أَصْحَابُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، أَعْرِضُهُ عَلَيْكَ ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ. فَقَرَأَ الرَّاهِبُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الَّذِي قَضَى فِيمَا قَضَى، وَسَطَّرَ فِيمَا سَطَّرَ، وَكَتَبَ فِيمَا كَتَبَ أَنَّهُ بَاعِثٌ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ، لَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ وَلَا صَخَّابٌ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ، وَفِي كُلِّ صُعُودٍ وَهُبُوطٍ تَذِلُّ أَلْسِنَتُهُمْ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ، وَيَنْصُرُهُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ مَنْ نَاوَأَهُ، فَإِذَا تَوَفَّاهُ اللَّهُ اخْتَلَفَتْ أُمَّتُهُ ثُمَّ اجْتَمَعَتْ فَلَبِثَتْ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ، ثُمَّ يَمُرُّ رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِهِ بِشَاطِئِ هَذَا الْفُرَاتِ، يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَقْضِي بِالْحَقِّ، وَلَا يُنَكِّسُ الْحُكْمُ، الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّمَادِ - أَوْ قَالَ: التُّرَابِ - فِي يَوْمٍ عَصَفَتْ فِيهِ الرِّيحُ، وَالْمَوْتُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ، يَخَافُ اللَّهَ فِي السِّرِّ، وَيَنْصَحُ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَلَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ النَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ فَآمَنَ بِهِ، كَانَ ثَوَابُهُ رِضْوَانِي وَالْجَنَّةَ، وَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الْعَبْدَ الصَّالِحَ فَلْيَنْصُرْهُ، فَإِنَّ الْقَتْلَ مَعَهُ شَهَادَةٌ. ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ:

فَأَنَا أُصَاحِبُكَ فَلَا أُفَارِقُكَ حَتَّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَكَ. فَبَكَى عَلِيٌّ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْنِي عِنْدَهُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَكَرَنِي عِنْدَهُ فِي كُتُبِ الْأَبْرَارِ. فَمَضَى الرَّاهِبُ مَعَهُ وَأَسْلَمَ، فَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ حَتَّى أُصِيبَ يَوْمَ صِفِّينَ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ يَدْفِنُونَ قَتْلَاهُمْ قَالَ عَلِيٌّ: اطْلُبُوا الرَّاهِبَ. فَلَمَّا وَجَدُوهُ صَلَّى عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ.
وَقَدْ بَعَثَ عَلِىٌّ بَيْنَ يَدَيْهِ زِيَادَ بْنَ النَّضْرِ الْحَارِثِيَّ طَلِيعَةً فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، وَمَعَهُ شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَسَارُوا فِي طَرِيقٍ بَيْنَ يَدَيْهِ غَيْرِ طَرِيقِهِ، وَجَاءَ عَلِيٌّ فَقَطَعَ دِجْلَةَ مِنْ جِسْرِ مَنْبِجٍ، وَسَارَتِ الْمُقَدِّمَتَانِ، فَبَلَغَهُمْ أَنَّ مُعَاوِيَةَ رَكِبَ فِي أَهْلِ الشَّامِ ; لِيَلْقَى عَلِيًّا، فَهَمُّوا بِلِقَائِهِ، فَخَافُوا مِنْ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَعَدَلُوا عَنْ طَرِيقِهِمْ وَجَاءُوا لِيَعْبُرُوا مِنْ عَانَاتَ، فَمَنَعَهُمْ أَهْلُ عَانَاتَ، فَسَارُوا فَعَبَرُوا مِنْ هِيتَ، ثُمَّ لَحِقُوا عَلِيًّا - وَقَدْ سَبَقَهُمْ - فَقَالَ عَلِيٌّ: مُقَدِّمَتِي تَأْتِي مِنْ وَرَائِي ! فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِمَا جَرَى لَهُمْ، فَعَذَرَهُمْ ثُمَّ قَدَّمَهُمْ أَمَامَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَنْ عَبَرَ الْفُرَاتَ، فَتَلَقَّاهُمْ أَبُو الْأَعْوَرِ عَمْرُو بْنُ سُفْيَانَ السُّلَمِىُّ فِي مُقَدِّمَةِ أَهْلِ الشَّامِ، فَتَوَاقَفُوا، وَدَعَاهُمْ زِيَادُ بْنُ النَّضْرِ أَمِيرُ مُقَدِّمَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى بَيْعَةِ عَلِيٍّ فَلَمْ يُجِيبُوهُ بِشَيْءٍ، فَكَتَبَ إِلَى عَلِيٍّ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ أَمِيرًا، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ زِيَادُ بْنُ النَّضْرِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ شُرَيْحٌ، وَأَمَرَهُ أَنْ

لَا يَتَقَدَّمَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ بِقِتَالٍ حَتَّى يَبْدَأُوهُ أَوَّلًا بِالْقِتَالِ، وَلَكِنْ لِيَدْعُهُمْ إِلَى الْبَيْعَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَإِنِ امْتَنَعُوا فَلَا يُقَاتِلْهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوهُ، وَلَا يَقْرَبْ مِنْهُمْ قُرْبَ مَنْ يُرِيدُ الْحَرْبَ، وَلَا يُبْعُدْ مِنْهُمْ إِبْعَادَ مَنْ يَهَابُ الرِّجَالَ، وَلَكِنْ صَابِرْهُمْ حَتَّى آتِيَكَ، فَأَنَا حَثِيثُ السَّيْرِ وَرَاءَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَبَعَثَ مَعَهُ بِكِتَابِ الْإِمَارَةِ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ جُمْهَانَ الْجُعْفِيِّ.
فَلَمَّا قَدِمَ الْأَشْتَرُ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، امْتَثَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ عَلِيٌّ، فَتَوَاقَفَ هُوَ وَمُقَدِّمَةُ مُعَاوِيَةَ وَعَلَيْهَا أَبُو الْأَعْوَرِ، فَلَمْ يَزَالُوا مُتَوَاقِفِينَ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ حَمَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ فَثَبَتُوا لَهُ، وَاضْطَرَبُوا سَاعَةً، ثُمَّ انْصَرَفَ أَهْلُ الشَّامِ عِنْدَ الْمَسَاءِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ تَوَاقَفُوا أَيْضًا وَتَصَابَرُوا، فَحَمَلَ الْأَشْتَرُ فَقَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُنْذِرِ التَّنُوخِيَّ - وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ أَهْلِ الشَّامِ - قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يُقَالُ لَهُ: ظَبْيَانُ بْنُ عُمَارَةَ التَّمِيمِيُّ. فَعِنْدَ ذَلِكَ حَمَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو الْأَعْوَرِ بِمَنْ مَعَهُ، فَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِمْ، وَطَلَبَ الْأَشْتَرُ مِنْ أَبِي الْأَعْوَرِ أَنْ يُبَارِزَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَبُو الْأَعْوَرِ إِلَى ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ رَآهُ غَيْرَ كُفْءٍ لَهُ فِي ذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - ثُمَّ تَحَاجَزَ الْقَوْمُ عَنِ الْقِتَالِ عِنْدَ إِقْبَالِ اللَّيْلِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي.

فَلَمَّا كَانَ صَبَاحُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَقْبَلَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي جُيُوشِهِ وَجَاءَ مُعَاوِيَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي جُنُودِهِ فَتَوَاجَهَ الْفَرِيقَانِ، وَتَقَابَلَ الْجَمْعَانِ - وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ - فَتَوَاقَفُوا طَوِيلًا، وَذَلِكَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: صِفِّينَ. وَذَلِكَ فِي أَوَائِلِ ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ عَدَلَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَارْتَادَ لِجَيْشِهِ مَنْزِلًا، وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ سَبَقَ بِجَيْشِهِ فَنَزَلُوا عَلَى مَشْرَعَةِ الْمَاءَ فِي أَسْهَلِ مَوْضِعٍ وَأَفْيَحِهِ، فَلَمَّا جَاءَ عَلِيٌّ نَزَلَ بَعِيدًا مِنَ الْمَاءِ، وَجَاءَ سَرَعَانُ أَهْلِ الْعِرَاقِ لِيَرِدُوا مِنَ الْمَاءِ، فَمَنَعَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ مُقَاتَلَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ وَكَّلَ عَلَى الشَّرِيعَةِ أَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَشْرَعَةٌ سِوَاهَا، فَعَطِشَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ عَطَشًا شَدِيدًا، فَبَعَثَ عَلِيٌّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ الْكِنْدِيَّ فِي جَمَاعَةٍ لِيَصِلُوا إِلَى الْمَاءِ، فَمَنَعَهُمْ أُولَئِكَ وَقَالُوا: مُوتُوا عَطَشًا كَمَا مَنَعْتُمْ عُثْمَانَ الْمَاءَ. فَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ سَاعَةً، ثُمَّ تَطَاعَنُوا بِالرِّمَاحِ أُخْرَى، ثُمَّ تَقَاتَلُوا بِالسُّيُوفِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَمَدَّ كُلَّ طَائِفَةٍ أَصْحَابُهَا، حَتَّى جَاءَ الْأَشْتَرُ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَجَاءَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِيِّينَ، فَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ، وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ - وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْفِ بْنِ الْأَحْمَرِ الْأَزْدِيُّ - وَهُوَ يُقَاتِلُ:

خَلُّوا لَنَا مَاءَ الْفُرَاتِ الْجَارِي أَوِ اثْبُتُوا لِجَحْفَلٍ جَرَّارِ لِكُلِّ قَرْمٍ مُسْتَمِيتٍ شَارِ
مُطَاعِنٍ بِرُمْحِهِ كَرَّارِ ضَرَّابِ هَامَاتِ الْعِدَا مِغْوَارِ
ثُمَّ مَا زَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يَكْشِفُونَ الشَّامِيِّينَ عَنِ الْمَاءِ حَتَّى أَزَاحُوهُمْ عَنْهُ وَخَلَّوْا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى الْوُرُودِ حَتَّى صَارُوا يَزْدَحِمُونَ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ لَا يُكَلِّمُ أَحَدٌ أَحَدًا، وَلَا يُؤْذِي إِنْسَانٌ مِنْهُمْ إِنْسَانًا.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَمَرَ أَبَا الْأَعْوَرِ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ وَقَفَ دُونَهَا بِرِمَاحٍ مُشْرَعَةٍ، وَسُيُوفٍ مُسَلَّلَةٍ، وَسِهَامٍ مُفَوَّقَةٍ، وَقِسِيٍّ مُوَتَّرَةٍ، فَجَاءَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ عَلِيًّا فَشَكَوْا إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَبَعَثَ صَعْصَعَةَ بْنَ صُوحَانَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّا جِئْنَا كَافِّينَ عَنْ قِتَالِكُمْ حَتَّى نُقِيمَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ، فَبَعَثْتَ إِلَيْنَا مُقَدَّمَتَكَ فَقَاتَلَتْنَا قَبْلَ أَنْ نَبْدَأَكُمْ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ هَذِهِ أُخْرَى قَدْ مَنَعْتُمُونَا الْمَاءَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِلْقَوْمِ: مَاذَا تَرَوْنَ ؟ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ خَلِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَلَيْسَ مِنَ النَّصَفِ أَنْ نَكُونَ رَيَّانِينَ وَهُمْ عِطَاشٌ. وَقَالَ الْوَلِيدُ: دَعْهُمْ يَذُوقُوا مِنَ الْعَطَشِ مَا أَذَاقُوا أَمِيرَ

الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ حِينَ حَصَرُوهُ فِي دَارِهِ وَمَنَعُوهُ طَيِّبَ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ: امْنَعْهُمُ الْمَاءَ إِلَى اللَّيْلِ فَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى بِلَادِهِمْ. فَسَكَتَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ لَهُ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ: مَاذَا جَوَابُكَ ؟ فَقَالَ: سَيَأْتِيكُمْ رَأْيِي بَعْدَ هَذَا. فَلَمَّا رَجَعَ صَعْصَعَةُ فَأَخْبَرَ الْخَبَرَ، رَكِبَتِ الْخَيْلُ وَالرِّجَالُ فَمَا زَالُوا حَتَّى أَزَاحُوهُمْ عَنِ الْمَاءِ وَوَرَدُوهُ قَهْرًا، ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى وُرُودِهِ، وَلَا يَمْنَعُ أَحَدٌ أَحَدًا مِنْهُ.
وَأَقَامَ عَلِيٌّ يَوْمَيْنِ لَا يُكَاتِبُ مُعَاوِيَةَ وَلَا يُكَاتِبُهُ مُعَاوِيَةُ، ثُمَّ دَعَا عَلِيٌّ بَشِيرَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ، وَسَعِيدَ بْنَ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيَّ، وَشَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ التَّمِيمِيَّ فَقَالَ: ائْتُوا هَذَا الرَّجُلَ فَادْعُوهُ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَاسْمَعُوا مَا يَقُولُ لَكُمْ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ عَمْرٍو: يَا مُعَاوِيَةُ إِنَّ الدُّنْيَا عَنْكَ زَائِلَةٌ، وَإِنَّكَ رَاجِعٌ إِلَى الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ مُحَاسِبُكُ بِعَمَلِكَ، وَمُجَازِيكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تَفَرِّقَ جَمَاعَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنْ تَسْفِكَ دِمَاءَهَا بَيْنَهَا. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: هَلَّا أَوْصَيْتَ بِذَلِكَ صَاحِبَكُمْ ؟ ! فَقَالَ لَهُ: إِنَّ صَاحِبِي أَحَقُّ هَذِهِ الْبَرِيَّةِ بِالْأَمْرِ فِي فَضْلِهِ وَدِينِهِ وَسَابِقَتِهِ وَقَرَابَتِهِ، وَإِنَّهُ يَدْعُوكَ إِلَى مُبَايَعَتِهِ، فَإِنَّهُ أَسْلَمُ لَكَ فِي دُنْيَاكَ، وَخَيْرٌ لَكَ فِي أُخْرَاكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَيُطَلُّ دَمُ عُثْمَانَ ؟ لَا وَاللَّهِ لَا

أَفْعَلُ ذَلِكَ أَبَدًا. ثُمَّ أَرَادَ سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ، فَبَدَرَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ فَتَكَلَّمَ قَبْلَهُ بِكَلَامٍ فِيهِ غِلْظَةٌ وَجَفَاءٌ فِي حَقِّ مُعَاوِيَةَ، فَزَجَرَهُ مُعَاوِيَةُ وَزَبَرَهُ فِي افْتِيَاتِهِ عَلَى مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَشْرَفُ، وَفِي كَلَامِهِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ، فَأُخْرِجُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَصَمَّمَ عَلَى الْقِيَامِ بِطَلَبِ دَمِ عُثْمَانَ الَّذِي قُتِلَ مَظْلُومًا.
فَعِنْدَ ذَلِكَ نَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَأَمَرَ عَلِيٌّ بِالطَّلَائِعِ وَالْأُمَرَاءِ أَنْ يَتَقَدَّمُوا لِلْحَرْبِ، وَجَعَلَ عَلِيٌّ يُؤَمِّرُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الْحَرْبِ أَمِيرًا، فَمِنْ أُمَرَائِهِ عَلَى الْحَرْبِ ; الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ - وَهُوَ أَكْبَرُ مَنْ كَانَ يَخْرُجُ لِلْحَرْبِ - وَحُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، وَشَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَخَالِدُ بْنُ الْمُعَمَّرِ، وَزِيَادُ بْنُ النَّضْرِ، وَزِيَادُ بْنُ خَصَفَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ، وَمَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ. وَكَذَلِكَ فَعَلَ مُعَاوِيَةُ ; كَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَبْعَثُ عَلَى الْحَرْبِ أَمِيرًا، فَمِنْ أُمَرَائِهِ ; عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، وَحَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَذُو الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ، وَحَمْزَةُ بْنُ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيُّ.

وَرُبَّمَا اقْتَتَلَ النَّاسُ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِكَمَالِهِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أَمْرِ عَلِيٍّ لَهُ بِذَلِكَ.
فَلَمَّا انْسَلَخَ ذُو الْحِجَّةِ وَدَخَلَ الْمُحَرَّمُ تَدَاعَى النَّاسُ لِلْمُتَارَكَةِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَمْرٍ يَكُونُ فِيهِ حَقْنُ دِمَائِهِمْ، فَكَانَ مَا سَنَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مُتَوَاقِفٌ هُوَ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كُلٌّ مِنْهُمَا فِي جُنُودِهِ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: صِفِّينَ بِالْقُرْبِ مِنَ الْفُرَاتِ، شَرْقِيِّ بِلَادِ الشَّامِ، وَقَدِ اقْتَتَلُوا فِي مُدَّةِ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ كُلَّ يَوْمٍ، وَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ رُبَّمَا اقْتَتَلُوا مَرَّتَيْنِ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ شَهْرُ الْمُحَرَّمِ تَحَاجَزُوا عَنِ الْقِتَالِ، طَلَبًا لِلصُّلْحِ وَرَجَاءَ أَنْ يَقَعَ بَيْنَهُمْ مُهَادَنَةٌ وَمُوَادَعَةٌ يَئُولُ أَمْرُهَا إِلَى الصُّلْحِ بَيْنَ النَّاسِ وَحَقْنِ دِمَائِهِمْ، فَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعْدٌ أَبُو الْمُجَاهِدِ الطَّائِيُّ، عَنْ مُحِلِّ بْنِ خَلِيفَةَ أَنَّ عَلِيًّا بَعَثَ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، وَيَزِيدَ بْنَ قَيْسٍ الْأَرْحَبِيَّ، وَشَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، وَزِيَادَ بْنَ خَصَفَةَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ - وَعَمْرُو

بْنُ الْعَاصِ إِلَى جَانِبِهِ - قَالَ عَدِيٌّ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ -: أَمَّا بَعْدُ، يَا مُعَاوِيَةُ فَإِنَّا جِئْنَاكَ نَدْعُوكَ إِلَى أَمْرٍ يَجْمَعُ اللَّهُ بِهِ كَلِمَتَنَا وَأُمَّتَنَا، وَتُحْقَنُ بِهِ دِمَاؤُنَا، وَيَأْمَنُ بِهِ السَّبِيلُ وَيُصْلَحُ بِهِ ذَاتُ الْبَيْنِ ; إِنَّ ابْنَ عَمِّكَ سَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُهَا سَابِقَةً، وَأَحْسَنُهَا فِي الْإِسْلَامِ أَثَرًا، وَقَدِ اسْتَجْمَعَ لَهُ النَّاسُ وَقَدْ أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ بِالَّذِي رَأَوْا فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ غَيْرُكُ وَغَيْرُ مَنْ مَعَكَ، فَانْتَهِ يَا مُعَاوِيَةُ لَا يُصِبْكَ اللَّهُ وَأَصْحَابَكَ مِثْلَ مَا أَصَابَ النَّاسَ يَوْمَ الْجَمَلِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: كَأَنَّكَ إِنَّمَا جِئْتَ مُتَهَدِّدًا وَلَمْ تَأْتِ مُصْلِحًا، هَيْهَاتَ يَا عَدِيُّ، كَلَّا وَاللَّهِ إِنِّي لِابْنُ حَرْبٍ، لَا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ، أَمَا وَاللَّهِ إِنَّكَ لِمِنَ الْمُجْلِبَيْنِ عَلَى ابْنِ عَفَّانَ، وَإِنَّكَ لَمِنْ قَتَلَتِهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِهِ. وَتَكَلَّمَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَزِيَادُ بْنُ خَصَفَةَ فَذَكَرَا مِنْ فَضْلِ عَلِيٍّ، وَقَالَا: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُعَاوِيَةُ وَلَا تُخَالِفْهُ،

فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا قَطُّ أَعْمَلَ بِالتَّقْوَى، وَلَا أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَلَا أَجْمَعَ لِخِصَالِ الْخَيْرِ كُلِّهَا مِنْهُ. فَتَكَلَّمَ مُعَاوِيَةُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَى الْجَمَاعَةِ وَالطَّاعَةِ، فَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَنِعِمَّا هِيَ، وَأَمَّا الطَّاعَةُ فَكَيْفَ أُطِيعُ رَجُلًا أَعَانَ عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ ؟ وَنَحْنُ لَا نَرُدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا نَتَّهِمُهُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ أَوَى قَتَلَتَهُ ; فَيَدْفَعَهُمْ إِلَيْنَا حَتَّى نَقْتُلَهُمْ، ثُمَّ نَحْنُ نُجِيبُكُمْ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ. فَقَالَ لَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا مُعَاوِيَةَ، لَوْ تَمَكَّنْتَ مَنْ عَمَّارٍ أَكُنْتَ قَاتِلَهُ بِعُثْمَانَ ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ لَوْ تَمَكَّنْتُ مِنَ ابْنِ سُمَيَّةَ مَا قَتَلْتُهُ بِعُثْمَانَ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَقْتُلُهُ بِغُلَامِ عُثْمَانَ. فَقَالَ لَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ: وَإِلَهِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ لَا تَصِلُ إِلَى قَتْلِ عَمَّارٍ حَتَّى تَنْدُرَ الرُّءُوسُ عَنْ كَوَاهِلِهَا، وَيَضِيقُ فَضَاءُ الْأَرْضِ وَرَحْبُهَا عَلَيْكَ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: لَوْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ كَانَتْ عَلَيْكَ أَضْيَقَ. وَخَرَجَ الْقَوْمُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَذَهَبُوا إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ.

وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ، وَمَعْنَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ الْأَخْنَسِ إِلَى عَلِيٍّ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَبَدَأَ حَبِيبٌ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَ خَلِيفَةً مَهْدِيًّا، عَمِلَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَثَبَتَ لِأَمْرِ اللَّهِ، فَاسْتَثْقَلْتُمْ حَيَاتَهُ، وَاسْتَبْطَأْتُمْ وَفَاتَهُ، فَعَدَوْتُمْ عَلَيْهِ فَقَتَلْتُمُوهُ، فَادْفَعْ إِلَيْنَا قَتَلَةَ عُثْمَانَ - إِنْ زَعَمْتَ أَنَّكَ لَمْ تَقْتُلْهُ - ثُمَّ اعْتَزِلْ أَمْرَ النَّاسِ، فَيَكُونَ أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، فَيُوَلِّي النَّاسُ أَمْرَهُمْ مَنْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ رَأْيَهُمْ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَمَا أَنْتَ، لَا أُمَّ لَكَ وَهَذَا الْأَمْرَ وَهَذَا الْعَزْلَ، فَاسْكُتْ فَإِنَّكَ لَسْتَ هُنَاكَ وَلَا بِأَهْلٍ لِذَاكَ. فَقَالَ لَهُ حَبِيبٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَتَرَيَنِّي حَيْثُ تَكْرَهُ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَمَا أَنْتَ وَلَوْ أَجَلَبْتَ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ لَا أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ، اذْهَبْ فَصَعِّدْ وَصَوِّبْ مَا بَدَا لَكَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ كَلَامًا طَوِيلًا جَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَلِيٍّ، وَفِي صِحَّةٍ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَعَنْهُ نَظَرٌ، فَإِنَّ فِي مَطَاوِي ذَلِكَ الْكَلَامِ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ مَا يَنْتَقِصُ فِيهِ مُعَاوِيَةَ وَأَبَاهُ، وَإِنَّهُمْ إِنَّمَا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا وَلَمْ يَزَالَا فِي تَرَدُّدٍ فِيهِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ قَالَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ: لَا أَقُولُ إِنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا وَلَا ظَالِمًا. فَقَالُوا: نَحْنُ نَبْرَأُ مِمَّنْ لَمْ يَقُلْ: إِنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا. وَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ

مُسْلِمُونَ وَإِذَا وَقَعَ [ النَّمْلِ: 80، 81 ]. ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا يَكُنْ هَؤُلَاءِ أَوْلَى بِالْجِدِّ فِي ضَلَالَتِهِمْ مِنْكُمْ بِالْجِدِّ فِي حَقِّكُمْ وَطَاعَةِ نَبِيِّكُمْ. وَهَذَا عِنْدِي لَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ دِيزِيلَ، مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ قُرَّاءَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَقُرَّاءَ أَهْلِ الشَّامِ عَسْكَرُوا نَاحِيَةً، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ قُرَّاءِ الْعِرَاقِ ; مِنْهُمْ عَبِيدَةُ السُّلْمَانِيُّ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، وَغَيْرُهُمْ جَاءُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالُوا لَهُ: مَا تَطْلُبُ ؟ قَالَ: أَطْلُبُ بِدَمِ عُثْمَانَ. قَالُوا: لِمَنْ تَطْلُبُ بِهِ ؟ قَالَ: عَلِيًّا. قَالُوا: أَهْوَ قَتَلَهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَوَى قَتَلَتَهُ. فَانْصَرَفُوا إِلَى عَلِيٍّ فَذَكَرُوا لَهُ مَا قَالَ، فَقَالَ: كَذَبَ، لَمْ أَقْتُلْهُ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي لَمْ أَقْتُلْهُ. فَرَجَعُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ قَتَلَهُ بِيَدِهِ فَقَدْ أَمَرَ بِقَتْلِهِ وَمَالَأَ عَلَيْهِ. فَرَجَعُوا إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا قَتَلْتُ وَلَا أَمَرْتُ وَلَا مَالَأْتُ، فَرَجَعُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنْ كَانَ صَادِقًا فَلْيُقِدْنَا مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، فَإِنَّهُمْ فِي عَسْكَرِهِ وَجُنْدِهِ. فَرَجَعُوا إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ عَلِيٌّ: تَأَوَّلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فِي فِتْنَةٍ

وَوَقَعَتِ الْفُرْقَةُ لِأَجْلِهَا، وَقَتَلُوهُ فِي سُلْطَانِهِ وَلَيْسَ لِي عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ. فَرَجَعُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا يَقُولُ، فَمَا لَهُ انْتَهَزَ الْأَمْرَ دُونَنَا مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَّا وَلَا مِمَّنْ هَاهُنَا ؟ فَرَجَعُوا إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: إِنَّمَا النَّاسُ تَبَعُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَهُمْ شُهُودُ النَّاسِ عَلَى وِلَايَتِهِمْ وَأَمْرِ دِينِهِمْ، وَقَدْ رَضُوا وَبَايَعُونِي، وَلَسْتُ أَسْتَحِلُّ أَنْ أَدَعَ مِثْلَ مُعَاوِيَةَ يَحْكُمُ عَلَى الْأُمَّةِ وَيَشُقُّ عَصَاهَا. فَرَجَعُوا إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: مَا بَالُ مَنْ هَاهُنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ لَمْ يَدْخُلُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ ؟ فَرَجَعُوا إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: إِنَّمَا هَذَا لِلْبَدْرِيِّينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بَدْرِيٌّ إِلَّا وَهُوَ مَعِي، وَقَدْ تَابَعَنِي وَبَايَعَنِي وَرَضِيَ بِي، فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ دِينِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ. قَالَ: فَأَقَامُوا يَتَرَاسَلُونَ فِي ذَلِكَ مُدَّةَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَجُمَادَيَيْنِ، وَيَفْزَعُونَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ الْفَزْعَةَ بَعْدَ الْفَزْعَةِ، وَيَزْحَفُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَحْجِزُ بَيْنَهُمُ الْقُرَّاءُ، فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ قِتَالٌ. قَالَ: فَفَزِعُوا فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ خَمْسَةً وَثَمَانِينَ فَزْعَةً. قَالَ: وَخَرَجَ أَبُو

الدَّرْدَاءِ وَأَبُو أُمَامَةَ، فَدَخَلَا عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَا لَهُ: يَا مُعَاوِيَةُ، عَلَامَ تُقَاتِلُ هَذَا الرَّجُلَ ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَقْدَمُ مِنْكَ وَمِنْ أَبِيكَ سَلْمًا، وَأَقْرَبُ مِنْكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكَ. فَقَالَ: أُقَاتِلُهُ عَلَى دَمِ عُثْمَانَ، وَأَنَّهُ أَوَى قَتَلَتَهُ، فَاذْهَبَا إِلَيْهِ فَقُولَا لَهُ فَلْيُقِدْنَا مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، ثُمَّ أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُبَايِعُهُ مَنْ أَهْلِ الشَّامِ. فَذَهَبَا إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَرَوْنَ. فَخَرَجَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَقَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَةُ عُثْمَانَ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَرْمِنَا وَلْيَكِدْنَا. قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَأَبُو أُمَامَةَ فَلَمْ يَشْهَدَا لَهُمْ قِتَالًا، بَلْ لَزِمَا بُيُوتَهُمَا.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ بِإِسْنَادِهِ: حَتَّى إِذَا كَانَ رَجَبٌ وَخَشِيَ مُعَاوِيَةُ أَنْ تُبَايِعَ الْقُرَّاءُ كُلُّهُمْ عَلِيًّا، كَتَبَ فِي سَهْمٍ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ النَّاصِحِ، يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، إِنَّ مُعَاوِيَةَ يُرِيدُ أَنْ يَفْجُرَ عَلَيْكُمُ الْفُرَاتَ لِيُغْرِقَكُمْ، فَخُذُوا حِذْرَكُمْ. وَرَمَى بِهِ فِي جَيْشِ أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَأَخَذَهُ النَّاسُ فَقَرَأُوهُ وَتَحَدَّثُوا بِهِ، وَذَكَرُوهُ لِعَلِيٍّ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا مَا لَا يَكُونُ وَلَا يَقَعُ. وَشَاعَ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ مِائَتَيْ فَاعِلٍ يَحْفِرُونَ فِي جَنْبِ الْفُرَاتِ وَبَلَغَ النَّاسَ ذَلِكَ، فَخَافَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْ ذَلِكَ وَفَزِعُوا إِلَى عَلِيٍّ، فَقَالَ: وَيَحْكُمُ إِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَخْدَعَكُمْ وَيُوهِنَ كَيْدَكُمْ،

لِيُزِيلَكُمْ عَنْ مَكَانِكُمْ هَذَا وَيَنْزِلَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ خَشِيَ مِنْ مَكَانِهِ. فَقَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ نَرْتَحِلَ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ. فَارْتَحَلُوا مِنْهُ - وَجَاءَ مُعَاوِيَةُ فَنَزَلَهُ بِجَيْشِهِ - وَكَانَ عَلِيٌّ آخَرَ مَنِ ارْتَحَلَ، فَنَزَلَ بِهِمْ وَهُوَ يَقُولُ:
فَلَوْ أَنِّي أَطَعْتُ عَصَمْتُ قَوْمِي إِلَى رُكْنِ الْيَمَامَةِ أَوْ شَمَامِ وَلَكِنِّي إِذَا أَبْرَمْتُ أَمْرًا
يُخَالِفُهُ الطَّغَامُ بَنُو الطَّغَامِ
قَالَ: فَأَقَامُوا إِلَى شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ ثُمَّ شَرَعُوا فِي الْقِتَالِ، فَجَعَلَ عَلِيٌّ يُؤَمِّرُ عَلَى الْحَرْبِ كُلَّ يَوْمٍ رَجُلًا، وَأَكْثَرُ مَنْ كَانَ يُؤَمِّرُ الْأَشْتَرُ. وَكَذَلِكَ مُعَاوِيَةُ كَانَ يُؤَمِّرُ كُلَّ يَوْمٍ أَمِيرًا، فَاقْتَتَلُوا شَهْرَ ذِي الْحِجَّةِ بِكَمَالِهِ، وَرُبَّمَا اقْتَتَلُوا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ مَرَّتَيْنِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ لَمْ تَزَلِ الرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَالنَّاسُ كَافُّونَ عَنِ الْقِتَالِ حَتَّى انْسَلَخَ الْمُحَرَّمُ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ صُلْحٌ، فَأَمَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مَرْثَدَ بْنَ الْحَارِثِ الْجُشَمِيَّ، فَنَادَى أَهْلَ الشَّامِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ: أَلَا إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي قَدِ

اسْتَدَمْتُكُمْ لِتُرَاجِعُوا الْحَقَّ، وَأَقَمْتُ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ فَلَمْ تُجِيبُوا، وَإِنِّي قَدْ أَعْذَرْتُ إِلَيْكُمْ وَنَبَذْتُ إِلَيْكُمْ عَلَى سَوَاءٍ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ. فَفَزِعَ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى أُمَرَائِهِمْ فَأَعْلَمُوهُمْ بِمَا سَمِعُوا الْمُنَادِي يُنَادِي بِهِ، فَنَهَضَ عِنْدَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرٌو، فَعَبَّيَا الْجَيْشَ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً، وَبَاتَ عَلِيٌّ يُعَبِّي جَيْشَهُ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَجَعَلَ عَلَى خَيْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ، وَعَلَى رَجَّالَتِهِمْ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَعَلَى خَيْلِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، وَعَلَى رَجَّالَتِهِمْ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ وَهَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ، وَعَلَى قُرَّائِهِمْ مِسْعَرَ بْنَ فَدَكِيٍّ التَّمِيمِيَّ، وَتَقَدَّمَ عَلِيٌّ إِلَى النَّاسِ أَنْ لَا يَبْدَأُوا أَحَدًا بِقِتَالٍ حَتَّى يَبْدَأَهُمْ وَيَعْتَدِيَ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُ لَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ، وَلَا يُكْشَفُ سِتْرَ امْرَأَةٍ وَلَا تُهَانُ وَإِنْ شَتَمَتْ أُمَرَاءَ النَّاسِ وَصُلَحَاءَهُمْ. وَبَرَزَ مُعَاوِيَةُ صُبْحَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَقَدْ جَعَلَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ ابْنَ ذِي الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيَّ، وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ أَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَعَلَى خَيْلِ دِمَشْقَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَعَلَى رَجَّالَتِهِمُ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ. ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ
وَرَوَى ابْنُ دِيزِيلَ، مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، وَزَيْدِ

بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَغَيْرِهِمَا، قَالُوا: لَمَّا بَلَغَ مُعَاوِيَةَ مَسِيرُ عَلِيٍّ إِلَيْهِ، سَارَ مُعَاوِيَةُ نَحْوَ عَلِيٍّ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ سُفْيَانَ بْنَ عَمْرٍو أَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَعَلَى السَّاقَةِ بُسْرَ بْنَ أَرْطَاةَ حَتَّى تَوَافَوْا جَمِيعًا بِقُنَاصِرِينَ إِلَى جَانِبِ صِفِّينَ. وَزَادَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ فَقَالَ: جَعَلَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ أَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَعَلَى السَّاقَةِ بُسْرًا، وَعَلَى الْخَيْلِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَجَعَلَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَعَلَى رَجَّالَتِهَا يَزِيدَ بْنَ زَحْرٍ الْعَنْسِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَلَى رَجَّالَتِهَا حَابِسَ بْنَ سَعْدٍ الطَّائِيَّ، وَعَلَى خَيْلِ دِمَشْقَ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، وَعَلَى رَجَّالَتِهِمْ يَزِيدَ بْنَ لَبِيدِ بْنِ كُرْزٍ الْبَجَلِيَّ، وَجَعَلَ عَلَى أَهْلِ حِمْصَ ذَا الْكَلَاعِ، وَعَلَى أَهْلِ فِلَسْطِينَ مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ، وَقَامَ مُعَاوِيَةُ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، وَاللَّهِ مَا أَصَبْتُ الشَّامَ إِلَّا بِالطَّاعَةِ، وَلَا أَضْبِطُ حَرْبَ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَّا بِالصَّبْرِ، وَلَا أُكَابِدُ أَهْلَ الْحِجَازِ إِلَّا بِاللُّطْفِ، وَقَدْ تَهَيَّأْتُمْ وَسِرْتُمْ

لِتَمْنَعُوا الشَّامَ وَتَأْخُذُوا الْعِرَاقَ، وَسَارَ الْقَوْمُ لِيَمْنَعُوا الْعِرَاقَ وَيَأْخُذُوا الشَّامَ وَلَعَمْرِي مَا لِلشَّامِ رَجَاءٌ فِي الْعِرَاقِ وَلَا أَمْوَالِهَا، وَلَا لِلْعِرَاقِ خِبْرَةُ أَهْلِ الشَّامِ وَلَا بَصَائِرُهَا، مَعَ أَنَّ لِلْقَوْمِ أَعْدَادَهُمْ، وَلَيْسَ بَعْدَكُمْ غَيْرُكُمْ، فَإِنْ غَلَبْتُمُوهُمْ فَلَيْسَ تَغْلِبُوهُمْ إِلَّا مِنْ أَنَاتِكُمْ وَصَبْرِكُمْ، وَإِنْ غَلَبُوكُمْ غَلَبُوا مَنْ بَعْدَكُمْ، وَالْقَوْمُ لَاقُوكُمْ بِكَيْدِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَرِقَّةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَبَصَائِرِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقَسْوَةِ أَهْلِ مِصْرَ، وَإِنَّمَا يُنْصَرُ غَدًا مَنْ يُنْصَرُ الْيَوْمَ، فَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا خُطْبَةُ مُعَاوِيَةَ، قَامَ فِي أَصْحَابِهِ أَيْضًا خَطِيبًا وَحَضَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَمَدَحَهُمْ بِالصَّبْرِ وَشَجَّعَهُمْ بِكَثْرَتِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ.
قَالَ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، وَزَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَغَيْرِهِمَا قَالُوا: سَارَ عَلِيٌّ إِلَى الشَّامِ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَأَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ فِي نَحْوٍ مِنْهُمْ مَنْ أَهْلِ الشَّامِ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: أَقْبَلَ عَلِيٌّ فِي مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، وَأَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ فِي مِائَةِ أَلْفٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ دِيزِيلَ فِي كِتَابِهِ. وَقَدْ تَعَاقَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا، فَعَقَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعَمَائِمِ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ خَمْسَةَ صُفُوفٍ، وَمَعَهُمْ سِتَّةُ صُفُوفٍ آخَرِينَ، وَكَذَلِكَ

أَهْلُ الْعِرَاقِ كَانُوا أَحَدَ عَشَرَ صَفًّا أَيْضًا، فَتَوَاقَفُوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ صَفَرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَكَانَ أَمِيرَ الْحَرْبِ يَوْمَئِذٍ لِلْعِرَاقِيِّينَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ، وَأَمِيرَ الْحَرْبِ يَوْمَئِذٍ لِلشَّامِيِّينَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَاقْتَتَلُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ تَرَاجَعُوا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِمْ، وَقَدِ انْتَصَفَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَتَكَافَئُوا فِي الْقِتَالِ، ثُمَّ أَصْبَحُوا مِنَ الْغَدِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَأَمِيرُ حَرْبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، وَأَمِيرُ الشَّامِيِّينَ يَوْمَئِذٍ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا ; تَحْمِلُ الْخَيْلُ عَلَى الْخَيْلِ، وَالرِّجَالُ عَلَى الرِّجَالُ، ثُمَّ تَرَاجَعُوا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِمْ، وَقَدْ صَبَرَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِلْآخَرِ وَتَكَافَئُوا، ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ - وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ - عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ مِنْ نَاحِيَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي الشَّامِيِّينَ فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَحَمَلَ عَمَّارٌ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَأَزَالَهُ عَنْ مَوْقِفِهِ، وَبَارَزَ زِيَادُ بْنُ النَّضْرِ الْحَارِثِيُّ - وَكَانَ عَلَى الْخَيَّالَةِ يَوْمَئِذٍ - رَجُلًا، فَلَمَّا تَوَاقَفَا تَعَارَفَا فَإِذَا هُمَا أَخَوَانِ مِنْ أُمٍّ، فَانْصَرَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى قَوْمِهِ، وَتَرَكَ صَاحِبَهُ، وَتَرَاجَعَ النَّاسُ مِنَ الْعَشِيِّ، وَقَدْ صَبَرَ كُلُّ فَرِيقٍ لِصَاحِبِهِ، وَخَرَجَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ - وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ - مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَعَهُ جَمْعٌ عَظِيمٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فِي جَحْفَلٍ كَثِيرٍ مِنْ جِهَةِ الشَّامِيِّينَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَبَرَزَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَطَلَبَ

مِنَ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَبْرُزَ إِلَيْهِ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَادَا أَنْ يَقْتَرِبَا قَالَ عَلِيٌّ: مَنِ الْمُبَارِزُ ؟ قَالُوا: مُحَمَّدٌ ابْنُكُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. فَيُقَالُ: إِنَّ عَلِيًّا حَرَّكَ دَابَّتَهُ وَأَمَرَ ابْنَهُ أَنْ يَتَوَقَّفَ، وَتَقَدَّمَ عَلِيٌّ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ: تَقَدَّمْ إِلَيَّ. فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: لَا حَاجَةَ لِي فِي مُبَارَزَتِكَ. فَقَالَ: بَلَى. فَقَالَ: لَا. فَرَجَعَ عَنْهُ عَلِيٌّ وَتَحَاجَزَ النَّاسُ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ - وَهُوَ يَوْمُ الْأَحَدِ - فِي الْعِرَاقِيِّينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَفِي الشَّامِيِّينَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا وَجَعَلَ الْوَلِيدُ يَنَالُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ - فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو مِخْنَفٍ - وَيَقُولُ: قَتَلْتُمْ خَلِيفَتَكُمْ وَلَمْ تَنَالُوا مَا طَلَبْتُمْ، وَوَاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ نَاصِرُنَا عَلَيْكُمْ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَابْرُزْ إِلَيَّ. فَأَبَى عَلَيْهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَاتَلَ يَوْمَئِذٍ قِتَالًا شَدِيدًا بِنَفْسِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ السَّادِسِ - وَهُوَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ - مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ عَلَى الْعِرَاقِيِّينَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَمِنْ جِهَةِ أَهْلِ الشَّامِ ابْنُ ذِي الْكَلَاعِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أَيْضًا، وَتَصَابَرُوا ثُمَّ تَرَاجَعُوا، ثُمَّ خَرَجَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ - وَهُوَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ - مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ قِرْنُهُ مِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أَيْضًا، وَلَمْ يَغْلِبْ أَحَدٌ أَحَدًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ كُلِّهَا.

قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَعْيَنَ الْجُهَنِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: حَتَّى مَتَى لَا نُنَاهِضُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بِأَجْمَعِنَا ؟ ثُمَّ قَامَ فِي النَّاسِ عَشِيَّةَ الْأَرْبِعَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يُبْرَمُ مَا نَقَضَ، وَمَا أَبْرَمَ لَمْ يَنْقُضْهُ النَّاقِضُونَ، لَوْ شَاءَ مَا اخْتَلَفَ اثْنَانِ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا تَنَازَعَتِ الْأُمَّةُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَلَا جَحَدَ الْمَفْضُولُ ذَا الْفَضْلِ فَضْلَهُ، وَقَدْ سَاقَتْنَا وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الْأَقْدَارُ، فَلَفَّتْ بَيْنَنَا فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَنَحْنُ مِنْ رَبِّنَا بِمَرْأَى وَمَسْمَعٍ، فَلَوْ شَاءَ لَعَجَّلَ النِّقْمَةَ، وَكَانَ مِنْهُ التَّغْيِيرُ حَتَّى يُكَذِّبَ اللَّهُ الظَّالِمَ، وَيُعْلَمَ الْحَقُّ أَيْنَ مَصِيرُهُ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الدُّنْيَا دَارَ الْأَعْمَالِ، وَجَعَلَ الْآخِرَةَ عِنْدَهُ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [ النَّجْمِ: 31 ]. أَلَا وَإِنَّكُمْ لَاقُوا الْقَوْمِ غَدًا فَأَطِيلُوا اللَّيْلَةَ الْقِيَامَ، وَأَكْثِرُوا تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَأَسْأَلُوا اللَّهَ النَّصْرَ وَالصَّبْرَ، وَالْقَوْهُمْ بِالْجِدِّ وَالْحَزْمِ، وَكُونُوا صَادِقِينَ. قَالَ: فَوَثَبَ النَّاسُ إِلَى سُيُوفِهِمْ وَرِمَاحِهِمْ وَنِبَالِهِمْ يُصْلِحُونَهَا. قَالَ: وَمَرَّ بِالنَّاسِ وَهُمْ كَذَلِكَ كَعْبُ بْنُ جُعَيْلٍ التَّغْلَبِيُّ، فَرَأَى مَا يَصْنَعُونَ فَجَعَلَ يَقُولُ:

أَصْبَحَتِ الْأَمَّةُ فِي أَمْرِ عَجَبْ وَالْمُلْكُ مَجْمُوعٌ غَدًا لِمَنْ غَلَبْ
فَقُلْتُ قَوْلًا صَادِقًا غَيْرَ كَذِبْ إِنَّ غَدًا تَهْلِكُ أَعْلَامُ الْعَرَبْ
قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحَ عَلِيٌّ فِي جُنُودِهِ قَدْ عَبَّأَهُمْ كَمَا أَرَادَ، وَرَكِبَ مُعَاوِيَةُ فِي جَيْشِهِ قَدْ عَبَّأَهُمْ كَمَا أَرَادَ، وَقَدْ أَمَرَ عَلِيٌّ كُلَّ قَبِيلَةِ مَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنْ تَكْفِيَهُ أُخْتَهَا مَنْ أَهْلِ الشَّامِ، ثُمَّ زَحَفَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَتَقَاتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا لَا يَفِرُّ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ وَلَا يَغْلِبُ أَحَدٌ أَحَدًا، ثُمَّ تَحَاجَزُوا عِنْدَ الْعَشِيِّ وَأَصْبَحَ عَلِيٌّ فَصَلَّى الْفَجْرَ بِغَلَسٍ وَبَاكَرَ الْقِتَالَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ أَهْلَ الشَّامِ فَاسْتَقْبَلُوهُ بِوُجُوهِهِمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّقْفِ الْمَحْفُوظِ الْمَكْفُوفِ الَّذِي جَعَلْتَهُ مَغِيضًا لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَجَعَلْتَ فِيهِ مَجْرَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَنَازِلَ النُّجُومِ، وَجَعَلْتَ فِيهِ سِبْطًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَسْأَمُونَ الْعِبَادَةَ، وَرَبَّ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي جَعَلْتَهَا قَرَارًا لِلْأَنَامِ وَالْهَوَامِّ وَالْأَنْعَامِ، وَمَا لَا يُحْصَى مِمَّا يُرَى وَمَا لَا يُرَى مِنْ خَلْقِكَ الْعَظِيمِ، وَرَبَّ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَرَبَّ السَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَرَبَّ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ الْمُحِيطِ بِالْعَالَمِ، وَرَبَّ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي الَّتِي جَعَلْتَهَا لِلْأَرْضِ أَوْتَادًا وَلِلْخَلْقِ مَتَاعًا، إِنْ أَظَهَرْتَنَا عَلَى عَدُوِّنَا فَجَنِّبْنَا الْبَغْيَ وَالْفَسَادَ وَسَدِّدْنَا لِلْحَقِّ، وَإِنْ أَظَهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا فَارْزُقْنِي الشَّهَادَةَ، وَجَنِّبْ بَقِيَّةَ أَصْحَابِي مِنَ

الْفِتْنَةِ. ثُمَّ تَقَدَّمَ عَلِيٌّ وَهُوَ فِي الْقَلْبِ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلَى الْقُرَّاءِ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، وَالنَّاسُ عَلَى رَايَاتِهِمْ، فَزَحَفَ بِهِمْ إِلَى الْقَوْمِ. وَأَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ - وَقَدْ بَايَعَهُ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى الْمَوْتِ - فَتَوَاقَفَ النَّاسُ فِي مَوْطِنٍ مَهُولٍ وَأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَحَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ أَمِيرُ مَيْمَنَةِ عَلِيٍّ عَلَى مَيْسَرَةِ أَهْلِ الشَّامِ وَعَلَيْهَا حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَاضْطَرَّهُ حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى الْقَلْبِ، وَفِيهِ مُعَاوِيَةُ، وَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَرَّضَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَقَامَ كُلُّ أَمِيرٍ فِي أَصْحَابِهِ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَالْجِهَادِ، وَيَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ الْقِتَالِ، وَحَرَّضَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ النَّاسَ عَلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ وَتَلَا عَلَيْهِمْ آيَاتِ الْقِتَالِ مِنْ أَمَاكِنَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ ; فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [ الصَّفِّ: 4 ]. ثُمَّ قَالَ: قَدِّمُوا الْمُدَارِعَ وَأَخِّرُوا الْحَاسِرَ وَعَضُّوا عَلَى الْأَضْرَاسِ، فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ، وَالْتَوُوا فِي أَطْرَافِ الرِّمَاحِ، فَإِنَّهُ أَصْوَنُ لِلْأَسِنَّةِ، وَغُضُّوا الْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبُطُ لِلْجَأْشِ وَأَسْكُنُ لِلْقَلْبِ، وَأَمِيتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ، وَأَوْلَى بِالْوَقَارِ، رَايَاتِكُمْ لَا تُمِيلُوهَا وَلَا تُزِيلُوهَا وَلَا تَجْعَلُوهَا إِلَّا بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ.

وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ التَّارِيخِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَارَزَ فِي يَوْمِ صِفِّينَ وَقَاتَلَ وَقَتَلَ خَلْقَا، حَتَّى ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَتَلَ خَمْسَمِائَةٍ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُرَيْبَ بْنَ الصَّبَّاحِ قَتَلَ أَرْبَعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مُبَارَزَةً، ثُمَّ وَضَعَهُمْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ وَنَادَى: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ ؟ فَبَرَزَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فَتَجَاوَلَا سَاعَةً ثُمَّ ضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ ؟ فَبَرَزَ إِلَيْهِ الْحَارِثُ بْنُ وَدَاعَةَ الْحِمْيَرِيُّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ إِلَيْهِ رُودُ بْنُ الْحَارِثِ الْكَلَاعِيُّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ إِلَيْهِ الْمُطَاعُ بْنُ الْمُطَّلِبِ الْقَيْنِيُّ فَقَتَلَهُ. ثُمَّ تَلَا عَلِيٌّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [ الْبَقَرَةِ: 194 ] ثُمَّ نَادَى: وَيْحَكَ يَا مُعَاوِيَةُ ! ابْرُزْ إِلَيَّ وَلَا تُفْنِ الْعَرَبَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو يَا مُعَاوِيَةُ اغْتَنِمْهُ فَإِنَّهُ قَدْ أَثْخَنَ بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُقْهَرْ قَطُّ، وَإِنَّمَا أَرَدْتَ قَتْلِي لِتُصِيبَ الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِي، اذْهَبْ إِلَيْكَ ! فَلَيْسَ مِثْلِي يُخْدَعُ.
وَذَكَرُوا أَنَّ عَلِيًّا حَمَلَ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَوْمًا فَضَرَبَهُ بِالرُّمْحِ، فَأَلْقَاهُ إِلَى

الْأَرْضِ فَبَدَتْ سَوْءَتُهُ فَرَجَعَ عَلِيٌّ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: مَالَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَجَعَتْ عَنْهُ ؟ فَقَالَ: أَتُدْرُونَ مَنْ هُوَ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: هُوَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَإِنَّهُ تَلَقَّانِي بِسَوْءَتِهِ فَذَكَّرَنِي بِالرَّحِمِ فَرَجَعْتُ عَنْهُ. فَلَمَّا رَجَعَ عَمْرٌو إِلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ: احْمَدِ اللَّهَ، وَاحْمَدِ اسْتَكَ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ نَصْرٍ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ شَمِرٍ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنْ نُمَيْرٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَسْمَعُ عَلِيًّا وَهُوَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ صِفِّينَ، أَمَا تَخَافُونَ مَقْتَ اللَّهِ حَتَّى مَتَى. ثُمَّ انْفَتَلَ إِلَى الْقِبْلَةِ يَدْعُو ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا سَمِعْنَا بِرَئِيسٍ أَصَابَ بِيَدِهِ مِنَ الْقَتْلِ مَا أَصَابَ عَلِيٌّ يَوْمَئِذٍ، إِنَّهُ قَتَلَ فِيمَا ذَكَرَ الْعَادُّونَ زِيَادَةً عَلَى خَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ يَخْرُجُ فَيَضْرِبُ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَنْحَنِيَ، ثُمَّ يَجِيءُ فَيَقُولُ: مَعْذِرَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَقْلَعَهُ وَلَكِنْ يَحْجِزُنِي عَنْهُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: لَا سَيْفَ إِلَّا ذُو الْفَقَارِ وَلَا فَتًى إِلَّا عَلِيٌّ قَالَ: فَيَأْخُذُهُ فَيُصْلِحُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ وَحَدِيثٌ مُنْكَرٌ.
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ

أَخْبَرَهُ مَنْ حَضَرَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَأَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ لَقِيطٍ قَالَ: شَهِدْنَا صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، قَالَ: فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ عَلَيْنَا دَمًا عَبِيطًا. قَالَ اللَّيْثُ فِي حَدِيثِهِ: حَتَّى أَنْ كَانُوا لَيَأْخُذُونَهُ بِالصِّحَافِ وَالْآنِيَةِ. قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ فَتَمْتَلِئُ وَنُهْرِيقُهَا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُدَيْلٍ كَسَرَ الْمَيْسَرَةَ الَّتِي فِيهَا حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ حَتَّى أَدْخَلَهَا فِي الْقَلْبِ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ الشُّجْعَانَ أَنْ يُعَاوِنُوا حَبِيبًا عَلَى الْكَرَّةِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُهُ بِالْحَمْلَةِ وَالْكَرَّةِ عَلَى ابْنِ بُدَيْلٍ، فَحَمَلَ حَبِيبٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الشُّجْعَانِ عَلَى مَيْمَنَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَزَالُوهُمْ عَنْ أَمَاكِنِهِمْ وَانْكَشَفُوا عَنْ أَمِيرِهِمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا زُهَاءُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَانْجَفَلَ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ عَلِيٍّ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ إِلَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعَلَيْهِمْ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَثَبَتَ رَبِيعَةُ مَعَ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاقْتَرَبَ أَهْلُ الشَّامِ مِنْهُ حَتَّى جَعَلَتْ نِبَالُهُمْ تَصِلُ إِلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ مَوْلًى لِبَنِي أُمَيَّةَ فَاعْتَرَضَهُ مَوْلًى لِعَلِيٍّ فَقَتَلَهُ الْأُمَوِيُّ، وَأَقْبَلَ يُرِيدُ عَلِيًّا، وَحَوْلَهُ بَنُوهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى عَلِيٍّ، أَخَذَهُ عَلِيٌّ بِيَدِهِ، فَرَفَعَهُ ثُمَّ أَلْقَاهُ عَلَى الْأَرْضِ فَكَسَرَ عَضُدَهُ وَمَنْكِبَهِ وَابْتَدَرَهُ

الْحُسَيْنُ وَمُحَمَّدٌ بِأَسْيَافِهِمَا فَقَتَلَاهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْحَسَنِ ابْنِهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ مَعَهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَصْنَعَ كَمَا صَنَعَا ؟ فَقَالَ: كَفَيَانِي أَمْرَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَسْرَعَ إِلَى عَلِيٍّ أَهْلُ الشَّامِ فَجَعَلَ عَلِيٌّ لَا يَزِيدُهُ قُرْبُهُمْ مِنْهُ سُرْعَةً فِي مِشْيَتِهِ، بَلْ هُوَ سَائِرٌ عَلَى هِينَتِهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ الْحَسَنُ: يَا أَبَهْ، لَوْ سَعَيْتَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا ! فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّ لِأَبِيكَ يَوْمًا لَنْ يَعْدُوَهُ، وَلَا يُبْطِئُ بِهِ عَنْهُ السَّعْيُ، وَلَا يُعَجِّلُ بِهِ إِلَيْهِ الْمَشْيُ، إِنَّ أَبَاكَ وَاللَّهِ مَا يُبَالِي أَوَقَعَ عَلَى الْمَوْتِ أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ. ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا أَمَرَ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ أَنْ يَلْحَقَ الْمُنْهَزِمِينَ فَيَرُدَّهُمْ، فَسَاقَ بِأَسْرَعِ سَوْقٍ حَتَّى اسْتَقْبَلَ الْمُنْهَزِمِينَ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، فَجَعَلَ يُؤَنِّبُهُمْ وَيُوَبِّخُهُمْ وَيُحَرِّضُ الْقَبَائِلَ وَالشُّجْعَانَ مِنْهُمْ عَلَى الْكَرَّةِ، فَتَابَعَهُ طَائِفَةٌ وَاسْتَمَرَّ آخَرُونَ فِي هَزِيمَتِهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهُ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ جَمْعٌ عَظِيمٌ، فَرَجَعَ بِهِمْ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ فَجَعَلَ لَا يَلْقَى قَبِيلَةً مِنَ الشَّامِيِّينَ إِلَّا كَشَفَهَا، وَلَا طَائِفَةَ إِلَّا رَدَّهَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَمِيرِ الْمَيْمَنَةِ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، وَمَعَهُ نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثِمِائَةٍ قَدْ ثَبَتُوا فِي مَكَانِهِمْ فَسَأَلُوهُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: حَيٌّ صَالِحٌ.

فَالْتَفُّوا عَلَيْهِ، فَتَقَدَّمَ بِهِمْ حَتَّى تَرَاجَعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى الْغُرُوبِ، وَأَرَادَ ابْنُ بُدَيْلٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ، فَأَمَرَهُ الْأَشْتَرُ أَنْ يَثْبُتَ مَكَانَهُ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَهُ، فَأَبَى عَلَيْهِ ابْنُ بُدَيْلٍ، وَحَمَلَ نَحْوَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ وَجَدَهُ وَاقِفًا أَمَامَ أَصْحَابِهِ وَفِي يَدِهِ سَيْفَانِ وَحَوْلَهُ كَتَائِبُ أَمْثَالُ الْجِبَالِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ ابْنُ بُدَيْلٍ حَمَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَقَتَلُوهُ وَأَلْقَوْهُ إِلَى الْأَرْضِ قَتِيلًا، وَفَرَّ أَصْحَابُهُ مُنْهَزِمِينَ وَأَكْثَرُهُمْ مَجْرُوحٌ، فَلَمَّا انْهَزَمُوا قَالَ مُعَاوِيَةُ لِأَصْحَابِهِ: انْظُرُوا إِلَى أَمِيرِهِمْ ؟ فَجَاءُوا إِلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ، فَتَقَدَّمَ مُعَاوِيَةُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
هَذَا وَاللَّهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ - وَهُوَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ -:
أَخُو الْحَرْبِ إِنْ عَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا وَإِنْ شَمَّرَتْ يَوْمًا بِهِ الْحَرْبُ شَمَّرَا
وَيَحْمِي إِذَا مَا الْمَوْتِ حَانَ لِقَاؤُهُ كَذَلِكَ ذُو الْأَشْبَالِ يَحْمِي إِذَا فَرَّا
كَلَيْثً هِزَبْرٍ كَانَ يَحْمِي ذِمَارَهُ رَمَتْهُ الْمَنَايَا قَصْدَهَا فَتَقَطَّرَا

ثُمَّ حَمَلَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيَّ بِمَنْ رَجَعَ مَعَهُ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ، فَصَدَقَ الْحَمْلَةَ حَتَّى خَالَطَ الصُّفُوفَ الْخَمْسَةَ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى الْمَوْتِ أَنْ لَا يَفِرُّوا وَهُمْ حَوْلَ مُعَاوِيَةَ، فَخَرَقَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً، وَبَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ صَفٌّ وَاحِدٌ، قَالَ الْأَشْتَرُ: فَرَأَيْتُ هَوْلًا عَظِيمًا، وَكِدْتُ أَنْ أَفِرَّ فَمَا ثَبَّتَنِي إِلَّا قَوْلُ ابْنُ الْإِطْنَابَةِ - وَهِيَ أُمُّهُ مِنْ بَلْقَيْنَ، وَكَانَ هُوَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ جَاهِلِيٌّ:
أَبَتْ لِي عِفَّتِي وَأَبَى بَلَائِي وِإِقْدَامِي عَلَى الْبَطَلِ الْمُشِيحِ
وَإِعْطَائِى عَلَى الْمَكْرُوهِ مَالِي وَضَرْبِي هَامَةَ الرَّجُلِ السَّمِيحِ
وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي
قَالَ: هَذَا هُوَ الَّذِي ثَبَّتَنِي فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ. وَالْعَجَبُ أَنَّ ابْنَ دِيزِيلَ رَوَى فِي كِتَابِهِ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ حَمَلُوا حَمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَمْ يَبْقَ لِأَهْلِ الشَّامِ صَفٌّ إِلَّا أَزَالُوهُ، حَتَّى أَفْضَوْا إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَدَعَا بِفَرَسِهِ لِيَنْجُوَ عَلَيْهِ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَلَمَّا وَضَعْتُ رِجْلِي فِي آلَةِ الرِّكَابِ تَمَثَّلْتُ بِأَبْيَاتِ عَمْرِو بْنِ الْإِطْنَابَةِ:
أَبَتْ لِي عِفَّتِي وَأَبَى بَلَائِي وَأَخْذِي الْحَمْدَ بِالثَّمَنِ الرَّبِيحِ

وَإِعْطَائِي عَلَى الْمَكْرُوهِ مَالِي وَضَرْبِي هَامَةَ الْبَطَلِ الْمُشِيحِ
وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي
قَالَ: فَثَبَتُّ. وَنَظَرَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَوْمَ صِفِّينَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ صَبْرٌ وَغَدًا فَخْرٌ. فَقَالَ لَهُ عَمْرُو: صَدَقْتَ. قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَأَصَبْتُ خَيْرًا فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ أُصِيبَ خَيْرًا فِي الْآخِرَةِ.
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ. وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى خَالِدِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ - وَهُوَ أَمِيرُ الْخَيَّالَةِ لِعَلِيٍّ - فَقَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَلَكَ إِمْرَةُ الْعِرَاقِ. فَطَمِعَ فِيهَا، فَلَمَّا وَلِيَ مُعَاوِيَةُ الْعِرَاقَ لَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا. ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا لَمَّا رَأَى الْمَيْمَنَةَ قَدِ اجْتَمَعَتْ، رَجَعَ إِلَى النَّاسِ فَأَنَّبَ بَعْضَهُمْ وَعَذَّرَ بَعْضَهُمْ وَحَرَّضَ النَّاسَ وَثَبَّتَهُمْ، ثُمَّ تَرَاجَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ فَاجْتَمَعَ شَمْلُهُمْ وَدَارَتْ رَحَى الْحَرْبِ لَهُمْ وَجَالُوا فِي الشَّامِيِّينَ وَصَالُوا، وَتَبَارَزَ الشُّجْعَانُ فَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْيَانِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ

- فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - مِنْهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنَ الشَّامِيِّينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَاتِلِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَنْ هُوَ ؟ وَقَدْ ذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ، أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ لَمَّا خَرَجَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَرْبِ مِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ، أَحْضَرَ امْرَأَتَيْهِ ; أَسْمَاءَ بِنْتَ عُطَارِدِ بْنِ حَاجِبٍ التَّمِيمِيِّ، وَبَحْرِيَّةَ بِنْتَ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ الشَيْبَانَيِّ، فَوَقَفَتَا وَرَاءَهُ فِي رَاحِلَتَيْنِ لِتَنْظُرَا إِلَى قِتَالِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَقُوَّتِهِ، فَوَاجَهَتْهُ مِنْ جَيْشِ الْعِرَاقِيِّينَ رَبِيعَةُ الْكُوفَةِ وَعَلَيْهِمْ زِيَادُ بْنُ خَصَفَةَ التَّيْمِيُّ، فَشَدُّوا عَلَيْهِ شَدَّةً وَاحِدَةً، فَقَتَلُوهُ بَعْدَ مَا انْهَزَمَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَنَزَلَتْ رَبِيعَةُ فَضَرَبُوا لِأَمِيرِهِمْ خَيْمَةً، فَبَقِيَ مِنْهَا طُنُبٌ لَمْ يَجِدُوا لَهُ وَتَدًا فَشَدُّوهُ بِرِجْلِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَجَاءَتِ امْرَأَتَاهُ تُوَلْوِلَانِ حَتَّى وَقَفَتَا عَلَيْهِ وَبَكَتَا عِنْدَهُ، وَشَفَعَتِ امْرَأَتُهُ بَحْرِيَّةُ إِلَى الْأَمِيرِ أَنْ يُطْلِقَهُ لَهَا فَأَطْلَقَهُ لَهَا فَاحْتَمَلَتَاهُ فِي هَوْدَجِهِمَا. وَقُتِلَ مَعَهُ أَيْضًا ذُو الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيُّ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَفِي مَقْتَلِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَقُولُ كَعْبُ بْنُ جُعَيْلٍ التَّغْلَبِيُّ:
أَلَا إِنَّمَا تَبْكِي الْعُيُونُ لِفَارِسٍ بِصِفِّينَ وَلَّتْ خَيْلُهُ وَهْوَ وَاقِفُ

تَبَدَّلَ مِنْ أَسْمَاءَ أَسْيَافَ وَائِلٍ وَكَانَ فَتًى لَوْ أَخْطَأَتْهُ الْمَتَالِفُ
تَرَكْنَ عُبَيْدَ اللَّهِ بِالْقَاعِ ثَاوِيًا تَسِيلُ دَمَاهُ وَالْعُرُوقُ نَوَازِفُ
يَنُوءُ وَيَغْشَاهُ شَآبِيبُ مِنْ دَمٍ كَمَا لَاحَ مِنْ جَيْبِ الْقَمِيصِ الْكَفَائِفُ
وَقَدْ صَبَرَتْ حَوْلَ ابْنِ عَمِّ مُحَمَّدٍ لَدَى الْمَوْتِ أَرْبَابُ الْمَنَاقِبِ
شَارِفُ فَمَا بَرَحُوا حَتَّى رَأَى اللَّهُ صَبْرَهُمْ وَحَتَّى أُلِيِحَتْ بِالْأَكُفِّ الْمَصَاحِفُ
وَزَادَ غَيْرُهُ فِيهَا:
مُعَاوِيَ لَا تَنْهَضْ بِغَيْرِ وَثِيقَةٍ فَإِنَّكَ بَعْدَ الْيَوْمِ بِالذُّلِّ عَارِفُ
وَقَدْ أَجَابَهُ أَبُو جَهْمَةَ الْأَسْدِيُّ بِقَصِيدَةٍ فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْهِجَاءِ تَرَكْنَاهَا قَصْدًا.
وَهَذَا مَقْتَلُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَعَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَتَلَهُ أَهْلُ الشَّامِ وَبَانَ بِذَلِكَ وَظَهَرَ سِرُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَنَّهُ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، وَبَانَ بِذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا مُحِقٌّ وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ بَاغٍ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.

ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَعْيَنَ الْجُهَنِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ عَمَّارًا قَالَ يَوْمَئِذٍ: أَيْنَ مَنْ يَبْتَغِي رِضْوَانَ اللَّهِ وَلَا يَلْوِي إِلَى مَالٍ وَلَا وَلَدٍ ؟ قَالَ: فَأَتَتْهُ عِصَابَةٌ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، اقْصِدُوا بِنَا نَحْوَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ دَمَ عُثْمَانَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا، وَاللَّهِ مَا قَصْدُهُمُ الْأَخْذَ بِدَمِهِ وَلَا الْقِيَامَ بِثَأْرِهِ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ ذَاقُوا الدُّنْيَا فَاسْتَحْلَوْهَا وَاسْتَمْرَءُوهَا، وَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ إِذَا لَزِمَهُمْ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَتَمَرَّغُونَ فِيهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَوْمِ سَابِقَةٌ فِي الْإِسْلَامِ يَسْتَحِقُّونَ بِهَا طَاعَةَ النَّاسِ لَهُمْ وَالْوِلَايَةَ عَلَيْهِمْ، وَلَا تَمَكَّنَتْ مِنْ قُلُوبِهِمْ خَشْيَةُ اللَّهِ الَّتِي تَمْنَعُ مَنْ تَمَكَّنَتْ مِنْ قَلْبِهِ عَنْ نَيْلِ الشَّهَوَاتِ، وَتَعْقِلُهُ عَنْ إِرَادَةِ الدُّنْيَا وَطَلَبِ الْعُلُوِّ فِيهَا، وَتَحْمِلُهُ عَلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْمَيْلِ إِلَى أَهْلِهِ، فَخَدَعُوا أَتْبَاعَهُمْ بِقَوْلِهِمْ: إِمَامُنَا قُتِلَ مَظْلُومًا. لِيَكُونُوا بِذَلِكَ جَبَابِرَةً مُلُوكًا، وَتِلْكَ مَكِيدَةٌ بَلَغُوا بِهَا مَا تَرَوْنَ، وَلَوْلَا هِيَ مَا تَبِعَهُمْ مِنَ النَّاسِ رَجُلَانِ، وَلَكَانُوا أَذَلَّ وَأَخَسَّ وَأَقَلَّ، وَلَكِنَّ قَوْلَ الْبَاطِلِ لَهُ حَلَاوَةٌ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ، فَسِيرُوا إِلَى اللَّهِ سَيْرًا جَمِيلًا، وَاذْكُرُوهُ ذِكْرًا كَثِيرًا. ثُمَّ تَقَدَّمَ فَلَقِيَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ

عُمَرَ فَلَامَهُمَا وَانْتَهَرَهُمَا وَوَعَظَهُمَا، وَذَكَرُوا مِنْ كَلَامِهِ لَهُمَا مَا فِيهِ غِلْظَةٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَمَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ عَمَّارًا يَوْمَ صِفِّينَ شَيْخًا كَبِيرًا آدَمَ طُوَالًا، آخِذٌ الْحَرْبَةَ بِيَدِهِ وَيَدُهُ تَرْعَدُ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ قَاتَلْتُ بِهَذِهِ الرَّايَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهَذِهِ الرَّابِعَةُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ ضَرَبُونَا حَتَّى يَبْلُغُوا بِنَا شَعَفَاتِ هَجَرَ، لَعَرَفْتُ أَنَّ مُصْلِحِينَا عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ وَحَجَّاجٌ، حَدَّثَنِي شُعْبَةُ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، قَالَ حَجَّاجٌ: سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَمَّارٍ: أَرَأَيْتَ قِتَالَكُمْ رَأْيًا رَأَيْتُمُوهُ، فَإِنَّ الرَّأْيَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، أَوْ عَهْدًا عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ: مَا

عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَلَهُ تَمَامٌ عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ.
وَهَذَا كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ ; مِنْهُمُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَقَيْسُ بْنُ عُبَادٍ، وَأَبُو جُحَيْفَةَ وَهْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّوَائِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ شَرِيكٍ، وَأَبُو حَسَّانَ الْأَجْرَدُ، وَغَيْرُهُمْ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ ؟ فَقَالَ: لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ ؟ فَإِذَا فِيهَا الْعَقْلُ وَفَكَاكُ الْأَسِيرِ، وَأَنْ لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَأَنَّ الْمَدِينَةَ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ.

وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ صِفِّينَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَقْدِرُ لَرَدَدْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْرَهُ، وَوَاللَّهِ مَا حَمَلْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا مُنْذُ أَسْلَمْنَا لِأَمْرٍ يَقْطَعُنَا إِلَّا أَسْهَلَنْ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ، غَيْرِ أَمْرِنَا هَذَا، فَإِنَّا لَا نَسُدُّ مِنْهُ خَصْمًا إِلَّا انْفَتَحَ لَنَا غَيْرُهُ لَا نَدْرِي كَيْفَ نُبَالِي لَهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: قَالَ عَمَّارٌ يَوْمَ صِفِّينَ: ائْتُونِي بِشَرْبَةِ لَبَنٍ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: آخِرُ شَرْبَةٍ تَشْرَبُهَا مِنَ الدُّنْيَا شَرْبَةُ لَبَنٍ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، أَنَّ عَمَّارًا أُتِيَ بِشَرْبَةِ لَبَنٍ، فَضَحِكَ وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِي: إِنَّ آخَرَ شَرَابٍ أَشْرَبُهُ لَبَنٌ حِينَ أَمُوتُ

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ: ثَنَا يَحْيَى، ثَنَا نَصْرٌ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ شَمِرٍ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: ثُمَّ حَمَلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ عَلَيْهِمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ ابْنُ جَوْنٍ السَّكُونِيُّ، وَأَبُو الْغَادِيَةِ الْفَزَارِيُّ، فَأَمَّا أَبُو الْغَادِيَةِ فَطَعَنَهُ، وَأَمَّا ابْنُ جَوْنٍ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ. وَقَدْ كَانَ ذُو الْكَلَاعِ سَمِعَ قَوْلَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، وَآخَرُ شَرْبَةٍ تَشْرَبُهَا صَاعُ لَبَنٍ. فَكَانَ ذُو الْكَلَاعِ يَقُولُ لِعَمْرٍو: وَيْحَكَ مَا هَذَا يَا عَمْرُو ؟ فَيَقُولُ لَهُ عَمْرٌو: إِنَّهُ سَيَرْجِعُ إِلَيْنَا. قَالَ: فَلَمَّا أُصِيبَ عَمَّارٌ بَعْدَ ذِي الْكَلَاعِ، قَالَ عَمْرٌو لِمُعَاوِيَةَ: مَا أَدْرِي بِقَتْلِ أَيِّهِمَا أَنَا أَشَدُّ فَرَحًا ; بِقَتْلِ عَمَّارٍ أَوْ ذِي الْكَلَاعِ، وَاللَّهِ لَوْ بَقِيَ ذُو الْكَلَاعِ حَتَّى يُقْتَلَ عَمَّارٌ لَمَالَ بِعَامَّةِ أَهْلِ الشَّامِ إِلَى عَلِيٍّ، وَلَأَفْسَدَ عَلَيْنَا جُنْدَنَا. قَالَ: وَكَانَ لَا يَزَالُ يَجِيءُ رَجُلٌ فَيَقُولُ لِمُعَاوِيَةَ وَعَمْرٍو: أَنَا قَتَلْتُ عَمَّارًا. فَيَقُولُ لَهُ عَمْرٌو: فَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ ؟ فَيَخْلِطُونَ فِيمَا يُخْبِرُونَ، حَتَّى جَاءَ ابْنُ جَوْنٍ فَقَالَ: أَنَا سَمِعْتُهُ

يَقُولُ:
الْيَوْمَ أَلْقَى الْأَحِبَّةْ مُحَمَّدًا وَحِزْبَهْ
فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: صَدَقْتَ أَنْتَ، إِنَّكَ صَاحِبُهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: رُوَيْدًا، أَمَا وَاللَّهِ مَا ظَفِرْتَ بِذَاكَ، وَلَقَدْ أَسَخَطْتَ رَبَّكَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ دِيزِيلَ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي يُوسُفَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكِنْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعَمَّارٍ: تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ أَرْسَلُوهُ ; مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ، وَمُجَاهِدٌ، وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، وَحَبَّةُ الْعُرَنِيُّ، وَسَاقَهَ مِنْ طَرِيقِ أَبَانَ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شَمِرٍ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: " مَا خُيِّرَ عَمَّارٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَرْشَدَهُمَا ". وَبِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شَمِرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ

الْأَوْسَطِ، قَالَ: اخْتَصَمَ رَجُلَانِ فِي سَلَبِ عَمَّارٍ وَفِي قَتْلِهِ، فَأَتَيَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لِيَتَحَاكَمَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا: وَيْحَكُمَا، اخْرُجَا عَنِّي، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:وَلِعَتْ قُرَيْشٌ بِعَمَّارٍ، مَا لَهُمْ وَلِعَمَّارٍ ؟ عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ، قَاتِلُهُ وَسَالِبُهُ فِي النَّارِ. قَالَ: فَبَلَغَنِي أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ: إِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ أَخْرَجَهُ. يَخْدَعُ بِذَلِكَ أَهْلَ الشَّامِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، ثَنَا عِيسَى بْنُ عُمَرَ، ثَنَا هُشَيْمٌ، ثَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ خُوَيْلِدٍ - وَكَانَ يَأْتِي مِنْ عِنْدِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ - قَالَ: بَيْنَا هُوَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ فِي قَتْلِ عَمَّارٍ، فَقَالَ لَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لِيَطِبْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا نَفْسًا لِصَاحِبِهِ بِقَتْلِ عَمَّارٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَمْرٍو: أَلَا تَنْهَى عَنَّا مَجْنُونَكَ هَذَا ؟ ثُمَّ أَقْبَلَ مُعَاوِيَةُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ: فَلِمَ تُقَاتِلُ مَعَنَا ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَنِي بِطَاعَةِ وَالِدِي مَا كَانَ حَيًّا، وَأَنَا مَعَكُمْ وَلَسْتُ أُقَاتِلُ.

وَحَدَّثَنَا يَحْيَى، ثَنَا نَصْرٌ، حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عِمْرَانَ الْبُرْجُمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ لِأَبِيهِ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَنِي بِطَاعَتِكَ مَا سِرْتُ مَعَكَ هَذَا الْمَسِيرَ، أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ؟
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ، ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: جَاءَ قَاتِلُ عَمَّارٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ عَمْرٌو ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: صَدَقَ إِنَّمَا قَتَلَهُ الَّذِينَ جَاءُوا بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ، ثَنَا عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: كُنَّا مَعَ عَلِيٍّ بِصِفِّينَ وَكُنَّا قَدْ وَكَّلْنَا بِفَرَسِهِ نَفْسَيْنِ يَحْفَظَانِهِ وَيَمْنَعَانِهِ أَنْ يَحْمِلَ، فَكَانَ إِذَا حَانَتْ مِنْهُمَا غَفْلَةٌ، حَمَلَ فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يَخْضِبَ سَيْفَهُ، وَإِنَّهُ حَمَلَ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى انْثَنَى سَيْفُهُ، فَأَلْقَاهُ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّهُ انْثَنَى مَا رَجَعْتُ. قَالَ: وَرَأَيْتُ عَمَّارًا لَا يَأْخُذُ وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَةِ صِفِّينَ إِلَّا اتَّبَعَهُ مَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنْ

أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَأَيْتُهُ جَاءَ إِلَى الْمِرْقَالِ، هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ، وَهُوَ صَاحِبُ رَايَةِ عَلِيٍّ، فَقَالَ: يَا هَاشِمُ تَقَدَّمَ، الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ، وَالْمَوْتُ فِي أَطْرَافِ الْأَسَلِ، وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتَزَيَّنَتِ الْحَوَرُ الْعَيْنُ:
الْيَوْمَ أَلْقَى الْأَحِبَّةْ مَحُمَّدًا وَحِزْبَهْ ثُمَّ حَمَلَا هُوَ وَهَاشِمٌ فَقُتِلَا، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ: وَحَمَلَ حِينَئِذٍ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ كَأَنَّهُمَا كَانَا - يَعْنِي عَمَّارًا وَهَاشِمًا - عَلَمًا لَهُمْ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ قُلْتُ: لَأَدْخُلَنَّ اللَّيْلَةَ إِلَى عَسْكَرِ الشَّامِيِّينَ حَتَّى أَعْلَمَ هَلْ بَلَغَ مِنْهُمْ قَتْلُ عَمَّارٍ مَا بَلَغَ مِنَّا ؟ وَكُنَّا إِذَا تَوَادَعْنَا مِنَ الْقِتَالِ تَحَدَّثُوا إِلَيْنَا وَتَحَدَّثْنَا إِلَيْهِمْ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَقَدْ هَدَأَتِ الرِّجْلُ، ثُمَّ دَخَلْتُ عَسْكَرَهُمْ فَإِذَا أَنَا بِأَرْبَعَةٍ يَتَسَامَرُونَ ; مُعَاوِيَةُ، وَأَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو - وَهُوَ خَيْرُ الْأَرْبَعَةِ - فَأَدْخَلْتُ فَرَسِي بَيْنَهُمْ مَخَافَةَ أَنْ يَفُوتَنِي مَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ قَتَلْتُمْ هَذَا الرَّجُلَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا، وَقَدْ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا قَالَ ! قَالَ: وَمَا قَالَ ؟ قَالَ:

أَلَمْ تَكُنْ مَعَنَا وَنَحْنُ نَبْنِي الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ يَنْقُلُونَ حَجَرًا حَجَرًا، وَلَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ يَنْقُلُ حَجَرَيْنِ حَجَرَيْنِ، وَلَبِنَتَيْنِ لِبِنْتَيْنِ، فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: " وَيْحَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ، النَّاسُ يَنْقُلُونَ حَجَرًا حَجَرًا، وَلَبِنَةً لَبِنَةً، وَأَنْتَ تَنْقُلُ حَجَرَيْنِ حَجَرَيْنِ، وَلَبِنَتَيْنِ لِبِنْتَيْنِ ; رَغْبَةً مِنْكَ فِي الْأَجْرِ ! وَأَنْتَ وَيْحَكَ مَعَ ذَلِكَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " ؟ قَالَ: فَدَفَعَ عَمْرٌو صَدْرَ فَرَسِهِ، ثُمَّ جَذَبَ مُعَاوِيَةَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ، أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ ؟ قَالَ: وَمَا يَقُولُ ؟ فَأَخْبَرُهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّكَ شَيْخٌ أَخْرَقُ، وَلَا تَزَالُ تُحَدِّثُ بِالْحَدِيثِ، وَأَنْتَ تَدْحَضُ فِي بَوْلِكَ، أَوَنَحْنُ قَتَلْنَا عَمَّارًا ؟ إِنَّمَا قَتَلَ عَمَّارًا مَنْ جَاءَ بِهِ. قَالَ: فَخَرَجَ النَّاسُ مِنْ عِنْدِ فَسَاطِيطِهِمْ وَأَخْبِيَتِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّمَا قَتَلَ عَمَّارًا مَنْ جَاءَ بِهِ. فَلَا أَدْرَى مَنْ كَانَ أَعْجَبُ هُوَ أَوْ هُمْ ؟
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعَمَّارٍ: تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ

دِينَارٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعَمَّارٍ: تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: إِنِّي لَأَسِيرُ مَعَ مُعَاوِيَةَ مُنْصَرَفَهُ مِنْ صِفِّينَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: يَا أَبَتِ، أَمَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ لِعَمَّارٍ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ، تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ؟ فَقَالَ عَمْرٌو لِمُعَاوِيَةَ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ هَذَا ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَا يَزَالُ يَأْتِينَا بِهَنَةٍ، أَنْحَنُ قَتَلْنَاهُ ؟ إِنَّمَا قَتَلَهُ الَّذِينَ جَاءُوا بِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ نَحْوَهُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ بِهَذَا السِّيَاقِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي سَلَكَهُ مُعَاوِيَةُ بَعِيدٌ، ثُمَّ لَمْ يَنْفَرِدْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو بِهَذَا الْحَدِيثِ، بَلْ قَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ ; فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ "،

مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُخْتَارِ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي قِصَّةِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعَمَّارٍ: يَا وَيْحَ عَمَّارٍ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ. وَفِي الْفِتَنِ مِنْ صَحِيحِهِ أَيْضًا: يَا وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي - يَعْنِي أَبَا قَتَادَةُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعَمَّارٍ: تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي - يَعْنِي قَتَادَةَ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعَمَّارٍ: تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: " وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ ".

وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ أَبِي الْجَوَّابِ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ زُرَيْقٍ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:إِذَا اخْتَلَفِ النَّاسُ كَانَ ابْنُ سُمَيَّةَ مَعَ الْحَقِّ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ فِي " سِيرَةِ عَلِيٍّ ": ثَنَا يَحْيَى بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْكَرَابِيسِيُّ، ثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ زُرَيْقٍ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَّنَنَا أَنْ يَظْلِمَنَا وَلَمْ يُؤَمِّنَّا أَنْ يَفْتِنَنَا، أَرَأَيْتَ إِذَا نَزَلَتْ فِتْنَةٌ كَيْفَ أَصْنَعُ ؟ قَالَ: عَلَيْكَ بِكِتَابِ اللَّهِ. قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ قَوْمٌ كُلُّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ كَانَ ابْنُ سُمَيَّةَ مَعَ الْحَقِّ.
وَرَوَى ابْنُ دِيزِيلَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ نَفْسِهِ حَدِيثًا فِي ذِكْرِ عَمَّارٍ وَأَنَّهُ مَعَ فِرْقَةِ الْحَقِّ، وَإِسْنَادُهُ غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ

عُبَيْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، ثَنَا الْأَسْفَاطِيُّ، ثَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، ثَنَا يُوسُفُ الْمَاجِشُونُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنْ مَوْلَاةٍ لِعَمَّارٍ، قَالَتْ:اشْتَكَى عَمَّارٌ شَكْوَى أَرِقَ مِنْهَا فَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَأَفَاقَ وَنَحْنُ نَبْكِي حَوْلَهُ، فَقَالَ: مَا تَبْكُونَ، أَتَخْشَوْنَ أَنْ أَمُوتَ عَلَى فِرَاشِي ؟ أَخْبَرَنِي حَبِيبِي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ تَقْتُلُنِي الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، وَأَنَّ آخِرَ زَادِي مِنَ الدُّنْيَا مَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَجَعَلْنَا نَنْقُلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَكَانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَتَتَرَّبَ رَأْسُهُ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي أَصْحَابِي، وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ جَعَلَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ، تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَمَا زَادَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا أَنَالَهَا اللَّهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَهُوَ كَذِبٌ وَبَهْتٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ

عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، بِتَسْمِيَةِ الْفَرِيقَيْنِ مُسْلِمِينَ، كَمَا سَنُورِدُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ عَمَّارًا لَمَّا قُتِلَ قَالَ عَلِيٌّ لِرَبِيعَةَ وَهَمْدَانَ: أَنْتُمْ دِرْعِي وَرُمْحِي. فَانْتُدِبَ لَهُ نَحْوٌ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَتَقَدَّمَهُمْ عَلَى بَغْلَتِهِ فَحَمَلَ وَحَمَلُوا مَعَهُ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَبْقَ لِأَهْلِ الشَّامِ صَفٌّ إِلَّا انْتَقَضَ، وَقَتَلُوا كُلَّ مَنِ انْتَهَوْا إِلَيْهِ، حَتَّى بَلَغُوا مُعَاوِيَةَ، وَعَلِيٌّ يُقَاتِلُ وَيَقُولُ:
أَضْرِبُهُمْ وَلَا أَرَى مُعَاوِيَةْ الْجَاحِظَ الْعَيْنِ الْعَظِيمَ الْحَاوِيَةْ
قَالَ ثُمَّ دَعَا عَلِىٌّ مُعَاوِيَةَ إِلَى أَنْ يُبَارِزَهُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنْ يَبْرُزَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُبَارِزْهُ رَجُلٌ قَطُّ إِلَّا قَتَلَهُ، وَلَكِنَّكَ طَمِعْتَ فِيهَا بَعْدِي. ثُمَّ قَدَّمَ عَلِيٌّ ابْنَهُ مُحَمَّدًا فِي عِصَابَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَقَاتَلُوهُ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ أَتْبَعَهُ عَلِيٌّ فِي عِصَابَةٍ أُخْرَى فَحَمَلَ بِهِمْ، فَقَتَلَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ خَلْقًا كَثِيرًا أَيْضًا، وَقُتِلَ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، وَطَارَتْ أَكُفٌّ وَمَعَاصِمُ وَرُءُوسٌ عَنْ كَوَاهِلِهَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ثُمَّ حَانَتْ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ، فَمَا صَلَّى بِالنَّاسِ إِلَّا إِيمَاءً ; صَلَاتَيِ الْعِشَاءِ، وَاسْتَمَرَّ الْقِتَالُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ كُلِّهَا

وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ اللَّيَالِي شَرًّا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُسَمَّى هَذِهِ اللَّيْلَةُ لَيْلَةَ الْهَرِيرِ. وَكَانَتْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ تَقَصَّفَتْ فِيهَا الرِّمَاحُ وَنَفَدَتِ النِّبَالُ، وَصَارَ النَّاسُ إِلَى السُّيُوفِ وَعَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَرِّضُ الْقَبَائِلَ، وَيَتَقَدَّمُ إِلَيْهِمْ، يَأْمُرُ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَهُوَ أَمَامَ النَّاسِ فِي قَلْبِ الْجَيْشِ، وَعَلَى الْمَيْمَنَةِ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ، تَوَلَّاهَا بَعْدَ قَتْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُدَيْلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَذَلِكَ لَمَّا قُتِلَ عَمَّارٌ، عَرَفَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ بُغَاةٌ لَيْسَ مَعَهُمْ حَقٌّ.
وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السِّيَرِ، أَنَّهُمُ اقْتَتَلُوا بِالرِّمَاحِ حَتَّى تَقَصَّفَتْ، وَبِالنِّبَالِ حَتَّى فَنِيَتْ، وَبِالسُّيُوفِ حَتَّى تَحَطَّمَتْ، ثُمَّ صَارُوا إِلَى أَنْ تَقَاتَلُوا بِالْأَيْدِي، وَالرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ، وَالتُّرَابِ يَعْفِرُونَهُ فِي الْوُجُوهِ، ثُمَّ تَعَاضُّوا بِالْأَسْنَانِ، فَكَانَ يَقْتَتِلُ الرَّجُلَانِ حَتَّى يُثْخِنَا ثُمَّ يَجْلِسَانِ يَسْتَرِيحَانِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَهْمِزُ عَلَى الْآخَرِ وَيَهِرُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُومَانِ فَيَقْتَتِلَانِ كَمَا كَانَا،

لَا يُمَكِّنُ أَحَدُهُمَا الْفِرَارَ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ حَتَّى أَصْبَحَ النَّاسُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَصَلَّى النَّاسُ الصُّبْحَ إِيمَاءً وَهُمْ فِي الْقِتَالِ حَتَّى تَضَاحَى النَّهَارُ وَأَقْبَلَ النَّصْرُ، وَتُوَجَّهَ النَّصْرُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ صَارَتْ إِلَيْهِ إِمْرَةُ الْمَيْمَنَةِ - وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْأَبْطَالِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْحُرُوبَ وَلَا يَهَابُونَ الْقَتْلَ - فَحَمَلَ بِمَنْ فِيهَا عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، وَتَبِعَهُ عَلِيٌّ فَانْفَضَّتْ غَالِبُ صُفُوفِ أَهْلِ الشَّامِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْهَزِيمَةُ وَالْكَسْرَةُ وَالْفِرَارُ.

ذَكِرُ رَفْعِ أَهْلِ الشَّامِ الْمَصَاحِفَ مَكْرًا مِنْهُمْ بِأَهْلِ الْعِرَاقِ وَخَدِيعَةً
فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَ أَهْلُ الشَّامِ الْمَصَاحِفَ فَوْقَ الرِّمَاحِ، وَقَالُوا: هَذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، قَدْ فَنِيَ النَّاسُ فَمَنْ لِلثِّغُورِ ؟ وَمَنْ لِجِهَادِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ ؟
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّارِيخِ، أَنَّ الَّذِي أَشَارَ بِرَفْعِ الْمَصَاحِفِ هُوَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَذَلِكَ لَمَّا رَأَى أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَدْ ظَهَرُوا وَانْتَصَرُوا، أَحَبَّ أَنْ يَنْفَصِلَ الْحَالُ، وَأَنْ يَتَأَخَّرَ الْأَمْرُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ صَابِرٌ لِلْآخَرِ، وَالنَّاسُ

يَتَفَانَوْنَ، فَقَالَ لِمُعَاوِيَةَ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَمْرًا لَا يَزِيدُنَا إِلَّا اجْتِمَاعًا، وَلَا يَزِيدُ أَهْلَ الْعِرَاقِ إِلَّا تَفَرُّقًا وَاخْتِلَافًا، أَرَى أَنْ نَرْفَعَ الْمَصَاحِفَ وَنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهَا، فَإِنْ أَجَابُوا كُلُّهُمْ إِلَى ذَلِكَ بَرَدَ الْقِتَالُ هَذِهِ السَّاعَةَ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ - بِأَنْ يَقُولَ بَعْضُهُمْ: نُجِيبُهُمْ. وَبَعْضُهُمْ: لَا نُجِيبُهُمْ. فَشِلُوا وَذَهَبَتْ رِيحُهُمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سِياهٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا وَائِلٍ فِي مَسْجِدِ أَهْلِهِ أَسْأَلُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ بِالنَّهْرَوَانِ، فِيمَ اسْتَجَابُوا لَهُ وَفِيمَ فَارَقُوهُ، وَفِيمَ اسْتَحَلَّ قِتَالَهُمْ ؟ فَقَالَ: كُنَّا بِصِفِّينَ، فَلَمَّا اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ بِأَهْلِ الشَّامِ اعْتَصَمُوا بِتَلٍّ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ: أَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ بِمُصْحَفٍ فَادْعُهُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَنْ يَأْبَى عَلَيْكَ. فَجَاءَ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [ آلِ عِمْرَانَ: 544 ] فَقَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ، أَنَا أَوْلَى بِذَلِكَ، بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ. قَالَ فَجَاءَتْهُ الْخَوَارِجُ - وَنَحْنُ نَدْعُوهُمْ يَوْمَئِذٍ الْقُرَّاءَ - وَسُيُوفُهُمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَنْتَظِرُ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ

عَلَى التَّلِّ، أَلَا نَمْشِيَ إِلَيْهِمْ بِسُيُوفِنَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ ؟ فَتَكَلَّمَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهَمُوا أَنْفُسَكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ - يَوْمَ الصُّلْحِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ - وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ ؟ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ.
فَلَمَّا رُفِعَتِ الْمَصَاحِفُ، قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: نُجِيبُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَنُنِيبُ إِلَيْهِ. قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُنْدُبٍ الْأَزْدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ: عِبَادَ اللَّهِ، امْضُوا إِلَى حَقِّكُمْ وَصِدْقِكُمْ وَقِتَالِ عَدُوِّكُمْ ; فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَابْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَحَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ وَابْنَ أَبِي سَرْحٍ وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، لَيْسُوا بِأَصْحَابِ دِينٍ وَلَا قُرْآنٍ، أَنَا أَعْرَفُ بِهِمْ مِنْكُمْ، وَقَدْ صَحِبْتُهُمْ أَطْفَالًا، وَصَحِبْتُهُمْ رِجَالًا، فَكَانُوا شَرَّ أَطْفَالٍ، وَشَرَّ رِجَالٍ، وَيْحَكُمُ ! وَاللَّهِ إِنَّهُمْ مَا رَفَعُوهَا رَفْعَ مَنْ يَقْرَأُهَا وَيَعْمَلُ بِمَا فِيهَا وَإِنَّمَا رَفَعُوهَا خَدِيعَةً

وَدَهَاءً وَمَكِيدَةً وَمَكْرًا وَتَخْذِيلًا لَكُمْ، وَكَسْرًا لِحِدَّتِكُمْ وَقِتَالِكُمْ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا هَزِيمَتُهُمْ وَفِرَارُهُمْ وَنَصْرُكُمْ عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا لَهُ: مَا يَسَعُنَا أَنْ نُدْعَى إِلَى كِتَابِ اللَّهِ فَنَأْبَى أَنْ نَقْبَلَهُ وَنُجِيبَ إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي إِنَّمَا أُقَاتِلُهُمْ لِيَدِينُوا بِحُكْمِ الْكِتَابِ ; فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوُا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَتَرَكُوا عَهْدَهُ، وَنَبَذُوا كِتَابَهُ. فَقَالَ لَهُ مِسْعَرُ بْنُ فَدَكِيٍّ التَّمِيمِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ حِصْنٍ الطَّائِيُّ ثُمَّ السِّنْبِسِيُّ فِي عِصَابَةٍ مَعَهُمَا مِنَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ صَارُوا بَعْدَ ذَلِكَ خَوَارِجَ: يَا عَلِيُّ أَجِبْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ إِذْ دُعِيتَ إِلَيْهِ وَإِلَّا دَفَعْنَاكَ بَرُمَّتِكَ إِلَى الْقَوْمِ، أَوْ نَفْعَلُ بِكَ مَا فَعَلْنَا بِابْنِ عَفَّانَ، إِنَّهُ لَمَّا تَرَكَ الْعَمَلَ بِكِتَابِ اللَّهِ قَتَلْنَاهُ، وَاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّهَا أَوْ لَنَفْعَلَنَّهَا بِكَ. قَالَ: فَاحْفَظُوا عَنِّي نَهْيِي إِيَّاكُمْ وَاحْفَظُوا مَقَالَتَكُمْ لِي، أَمَّا أَنَا فَإِنْ تُطِيعُونِي فَقَاتِلُوا، وَإِنْ تَعْصُونِي فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ. قَالُوا: فَابْعَثْ إِلَى الْأَشْتَرِ فَلْيَأْتِكَ وَيَكُفَّ عَنِ الْقِتَالِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ لِيَكُفَّ عَنِ الْقِتَالِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الْخَوَارِجِ، فَقَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْتَشِرِ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ مَنْ شَهِدَ صِفِّينَ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ رُءُوسِ الْخَوَارِجِ مِمَّنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَى كَذِبٍ، أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ كَرِهَ ذَلِكَ وَأَبَى،

وَقَالَ فِي عَلِيٍّ بَعْضَ مَا أَكْرَهُ ذِكْرَهُ، ثُمَّ قَالَ عَمَّارٌ: مَنْ رَائِحٌ إِلَى اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يَبْتَغِيَ غَيْرَ اللَّهِ حَكَمًا ؟ فَحَمَلَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَكَانَ مِمَّنْ دَعَا إِلَى ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ سَادَاتِ الشَّامِيِّينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ; قَامَ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْمُوَادَعَةِ وَالْكَفِّ وَتَرْكِ الْقِتَالَ وَالِائْتِمَارِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ عَنْ أَمْرِ مُعَاوِيَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ مِمَّنْ أَشَارَ عَلَى عَلِيٍّ بِالْقَبُولِ وَالدُّخُولِ فِي ذَلِكَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا بَعَثَ إِلَى الْأَشْتَرِ قَالَ: قُلْ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ سَاعَةٌ لَيْسَ يَنْبَغِي أَنْ تُزِيلَنِي عَنْ مَوْقِفِي فِيهَا، إِنِّي قَدْ رَجَوْتُ أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيَّ فَلَا تُعْجِلْنِي. فَرَجَعَ الرَّسُولُ - وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ هَانِئٍ - إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ الْأَشْتَرُ، وَصَمَّمَ الْأَشْتَرُ عَلَى الْقِتَالِ لِيَنْتَهِزَ الْفُرْصَةَ، فَارْتَفَعَ الْهَرْجُ وَعَلَتِ الْأَصْوَاتُ، فَقَالَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ لِعَلِيٍّ: وَاللَّهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا أَمَرْتَهُ أَنْ يُقَاتِلَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَرَأَيْتُمُونِي سَارَرْتُ الرَّسُولَ، أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْهِ جَهْرَةً وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ؟ فَقَالُوا: فَابْعَثْ إِلَيْهِ فَلْيَأْتِكَ وَإِلَّا وَاللَّهِ اعْتَزَلْنَاكَ. فَقَالَ عَلِيٌّ لِيَزِيدَ بْنِ هَانِئٍ: وَيْحَكَ ! قُلْ لَهُ: أَقْبِلْ إِلَيَّ فَإِنَّ الْفِتْنَةَ قَدْ وَقَعَتْ. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ هَانِئٍ وَأَبْلَغَهُ مَا قَالَ عَلِيٌّ أَنَّهُ يُقْبِلُ إِلَيْهِ، جَعَلَ

الْأَشْتَرُ يَتَمَلْمَلُ وَيَقُولُ: وَيْحَكَ ! أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّصْرِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَلِيلُ ؟ فَقُلْتُ: أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ ; أَنْ تَرْجِعَ أَوْ يَقْتَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قُتِلَ عُثْمَانُ ؟ ثُمَّ مَاذَا تُغْنِي عَنْكَ نَصْرَتُكُ هَاهُنَا ؟ قَالَ: فَأَقْبَلَ الْأَشْتَرُ إِلَى عَلِيٍّ وَتَرَكَ الْقِتَالَ، فَقَالَ الْأَشْتَرُ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، يَا أَهْلَ الذُّلِّ وَالْوَهْنِ، أَحِينَ عَلَوْتُمُ الْقَوْمَ، وَظَهَرْتُمْ وَظَنُّوا أَنَّكُمْ لَهُمْ قَاهِرُونَ ; رَفَعُوا الْمَصَاحِفَ يَدْعُونَكُمْ إِلَى مَا فِيهَا، وَقَدْ وَاللَّهِ تَرَكُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِيهَا، وَسُنَّةَ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، فَلَا تُجِيبُوهُمْ، أَمْهِلُونِي فَإِنِّي قَدْ أَحْسَسْتُ بِالْفَتْحِ. قَالُوا: لَا. قَالَ: أَمْهِلُونِي عَدْوَ الْفَرَسِ فَإِنِّي قَدْ طَمِعْتُ فِي النَّصْرِ. قَالُوا: إِذًا نَدْخُلُ مَعَكَ فِي خَطِيئَتِكَ. ثُمَّ أَخَذَ الْأَشْتَرُ يُنَاظِرُ أُولَئِكَ الْقُرَّاءَ الدَّاعِينَ إِلَى إِجَابَةِ أَهْلِ الشَّامِ بِمَا حَاصِلُهُ: إِنْ كَانَ أَوَّلُ قِتَالِكُمْ لِهَؤُلَاءِ حَقًّا فَاسْتَمِرُّوا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَاشْهَدُوا لِقَتْلَاكُمْ بِالنَّارِ. فَقَالُوا: دَعْنَا مِنْكَ فَإِنَّا لَا نُطِيعُكَ وَلَا صَاحِبَكَ أَبَدًا، وَنَحْنُ قَاتَلْنَا هَؤُلَاءِ فِي اللَّهِ وَتَرَكْنَا قِتَالَهُمْ لِلَّهِ. فَقَالَ لَهُمُ الْأَشْتَرُ: خُدِعْتُمْ وَاللَّهِ فَانْخَدَعْتُمْ، وَدُعِيتُمْ إِلَى وَضْعِ الْحَرْبِ فَأَجَبْتُمْ يَا أَصْحَابَ السُّوءِ، كُنَّا نَظُنُّ صَلَاتَكُمْ زَهَادَةً فِي

الدُّنْيَا وَشَوْقًا إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ، فَلَا أَرَى فِرَارَكُمْ إِلَّا إِلَى الدُّنْيَا مِنَ الْمَوْتِ، يَا أَشْبَاهَ النِّيبِ الْجَلَّالَةِ، مَا أَنْتُمْ بِرَبَّانِيِّينَ بَعْدَهَا، فَابْعُدُوا كَمَا بَعِدَ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ. فَسَبُّوهُ وَسَبَّهُمْ فَضَرَبُوا وَجْهَ دَابَّتِهِ بِسِيَاطِهِمْ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ أُمُورٌ طَوِيلَةٌ، وَرَغِبَ أَكْثَرُ النَّاسِ مِنَ الْعِرَاقِيِّينَ وَالشَّامِيِّينَ بِكَمَالِهِمْ إِلَى الْمُصَالَحَةِ وَالْمُسَالَمَةِ مُدَّةً لَعَلَّهُمْ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَمْرٍ يَكُونُ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِحَقْنِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَفَانَوْا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ الْمُتَأَخِّرَةِ الَّتِي كَانَ آخِرُهَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةُ، وَهِيَ لَيْلَةُ الْهَرِيرِ. وَقَدْ صَبَرَ كُلٌّ مِنَ الْجَيْشَيْنِ لِلْآخَرِ صَبْرًا لَمْ يُرَ مِثْلَهُ لِمَا كَانَ فِيهِمْ مِنَ الشُّجْعَانِ وَالْأَبْطَالِ مَا لَيْسَ يُوجَدُ مِثْلُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلِهَذَا لَمْ يَفِرَّ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ بَلْ صَبَرُوا حَتَّى قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ - فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ - سَبْعُونَ أَلْفًا ; خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ; مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَسَيْفٌ وَغَيْرُهُ. وَزَادَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْبَرَاءِ: وَكَانَ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ

بَدْرِيًّا. قَالَ: وَكَانَ بَيْنَهُمْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ تِسْعُونَ زَحْفًا. وَاخْتَلَفَا فِي مُدَّةِ الْمُقَامِ بِصِفِّينَ ; فَقَالَ سَيْفٌ: سَبْعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْبَرَاءِ: مِائَةٌ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ. قُلْتُ: وَمُقْتَضَى كَلَامِ أَبِي مِخْنَفٍ أَنَّهُ كَانَ مِنْ مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ يَوْمًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يُدْفَنُ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ خَمْسُونَ نَفْسًا. هَذَا كُلُّهُ مُلَخَّصٌ مِنْ كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظَمِ ".
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ أَهْلُ الشَّامِ سِتِّينَ أَلْفًا فَقُتِلَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفًا، وَكَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِائَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا فَقُتِلَ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ أَلْفًا. وَحَمَلَ الْبَيْهَقِيُّ هَذِهِ الْوَقْعَةَ عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي

هُرَيْرَةَ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ يُقْتَلُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ وَدَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ. وَرَوَاهُ مُجَالِدٌ، عَنْ أَبِي الْحَوَارِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ. وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ دَعَوَاهُمَا وَاحِدَةٌ ; فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ مَرَقَتْ مِنْهُمَا مَارِقَةٌ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ وَإِسْحَاقَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ نَاجِيَةَ الْكَاهِلِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ رَحَى الْإِسْلَامِ سَتَزُولُ لِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ أَوْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، فَإِنْ يَهْلَكُوا فَسَبِيلُ مَنْ هَلَكَ، وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ يَقُمْ لَهُمْ سَبْعِينَ عَامًا. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِمَّا مَضَى أَمْ مِمَّا بَقِيَ ؟

قَالَ: بَلْ مِمَّا بَقِيَ.
وَقَدْ رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ فِي كِتَابٍ جَمَعَهُ فِي سِيرَةِ عَلِيٍّ ; رَوَاهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ مَنْصُورٍ بِهِ مِثْلَهُ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيُّ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنْ رَحَى الْإِسْلَامِ سَتَزُولُ بَعْدَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً ; فَإِنْ يَصْطَلِحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ يَأْكُلُوا الدُّنْيَا سَبْعِينَ عَامًا رَغَدًا، وَإِنْ يَقْتَتِلُوا يَرْكَبُوا سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ دِيزِيلَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِرَاشٍ الشَيْبَانَيُّ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَدُورُ رَحَى الْإِسْلَامِ عِنْدَ قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ يَعْنِي عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَهَذَا مُرْسَلٌ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ الْأَشْيَاخِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دُعِيَ إِلَى جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ وَهُوَ قَاعِدٌ يَنْتَظِرُهَا: " كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا رَأَيْتُمْ خَيَلَيْنَ فِي الْإِسْلَامِ ؟ ".

قَالُوا: أَوَ يَكُونُ ذَلِكَ فِي أُمَّةٍ إِلَهُهَا وَاحِدٌ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَفَأُدْرِكُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ عُمَرُ: أَفَأُدْرِكُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ عُثْمَانُ: أَفَأُدْرِكُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ ! بِكَ يُنْشِئُونَ الْحَرْبَ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخُطَّابِ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يَخْتَلِفُونَ وَإِلَهُهُمْ وَاحِدٌ وَقَبِيلَتُهُمْ وَاحِدَةٌ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ سَيَجِيئُ قَوْمٌ لَا يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ كَمَا نَفْهَمُ فَيَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا اقْتَتَلُوا. فَأَقَرَّ عُمَرُ بِذَلِكَ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - أَخُو أَبِي حَمْزَةَ - ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: لَا يَنْتَطِحُ فِي قَتْلِهِ عَنْزَانِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ صِفِّينَ فُقِئَتْ عَيْنُهُ، فَقِيلَ: لَا يَنْتَطِحُ فِي قَتْلِهِ عَنْزَانِ ! فَقَالَ: بَلَى، وَتُفْقَأُ عُيُونٌ كَثِيرَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ مَرَّ بِصِفِّينَ، فَرَأَى حِجَارَتَهَا فَقَالَ: لَقَدِ اقْتَتَلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَنُو إِسْرَائِيلَ تِسْعَ مَرَّاتٍ، وَإِنَّ الْعَرَبَ سَتَقْتَتِلُ فِيهَا الْعَاشِرَةَ، حَتَّى يَتَقَاذَفُوا بِالْحِجَارَةِ الَّتِي تَقَاذَفَ بِهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَيَتَفَانَوْا كَمَا تَفَانَوْا.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا

يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسِنَةٍ عَامَّةٍ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَمَنَعَنِيهَا. ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [ الْأَنْعَامِ: 65 ]. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذَا أَهْوَنُ.

قِصَّةُ التَّحْكِيمِ
ثُمَّ تَرَاوَضَ الْفَرِيقَانِ بَعْدَ مُكَاتَبَاتٍ وَمُرَاجَعَاتٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا عَلَى التَّحْكِيمِ وَهُوَ أَنْ يُحَكِّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمِيرَيْنِ - عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ - رَجُلًا مِنْ جِهَتِهِ، ثُمَّ يَتَّفِقَ الْحَكَمَانِ عَلَى مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ. فَوَكَّلَ مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَأَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ يُوَكِّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ - وَلَيْتَهُ فَعَلَ - وَلَكِنَّهُ مَنَعَهُ الْقُرَّاءُ الْخَوَارِجُ مِمَّنْ ذَكَرْنَا، وَقَالُوا: لَا نَرْضَى إِلَّا بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ.
وَذَكَرَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِ " الْخَوَارِجِ " لَهُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَشَارَ بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَتَابَعَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَوَصَفُوهُ بِأَنَّهُ كَانَ يَنْهَى النَّاسَ عَنِ الْفِتْنَةِ وَالْقِتَالِ، وَكَانَ أَبُو مُوسَى قَدِ اعْتَزَلَ فِي بَعْضِ أَرْضِ الْحِجَازِ، قَالَ

عَلِيٌّ: فَإِنِّي أَجْعَلُ الْأَشْتَرَ حَكَمًا. فَقَالُوا: وَهَلْ سَعَّرَ، الْأَرْضَ إِلَّا الْأَشْتَرُ ؟ قَالَ: فَاصْنَعُوا مَا شِئْتُمْ. فَقَالَ الْأَحْنَفُ لِعَلِيٍّ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَمَيْتَ بِحَجَرٍ، إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ إِلَّا رَجُلٌ مِنْهُمْ يَدْنُو مِنْهُمْ حَتَّى يَصِيرَ فِي أَكُفِّهِمْ، وَيَبْعُدُ عَنْهُمْ حَتَّى يَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ النَّجْمِ، فَإِنْ أَبَيْتَ أَنْ تَجْعَلَنِي حَكَمًا فَاجْعَلْنِي ثَانِيًا أَوْ ثَالِثًا، فَإِنَّهُ لَنْ يَعْقِدَ عُقْدَةً إِلَّا حَلَلْتُهَا، وَلَا يَحُلَّ عُقْدَةً عَقَدْتُهَا إِلَّا عَقَدْتُ لَكَ أُخْرَى مِثْلَهَا أَوْ أَحْكَمَ مِنْهَا. قَالَ: فَأَبَوْا إِلَّا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ. فَذَهَبَتِ الرُّسُلُ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - وَكَانَ قَدِ اعْتَزَلَ - فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اصْطَلَحُوا. قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. قِيلَ لَهُ: وَقَدْ جُعِلْتَ حَكَمًا. فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ أَخَذُوهُ حَتَّى أَحْضَرُوهُ إِلَى عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَتَبُوا بَيْنَهُمْ كِتَابًا هَذِهِ صُورَتُهُ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا تَقَاضَى عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ اكْتُبِ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ هُوَ أَمِيرُكُمْ وَلَيْسَ بِأَمِيرِنَا. فَقَالَ الْأَحْنَفُ: لَا تَكْتُبْ إِلَّا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: امْحُهُ، وَاكْتُبْ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ عَلِيٌّ بِقِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ امْتَنَعَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ قَوْلِهِ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ

اللَّهِ. فَامْتَنَعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: اكْتُبْ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. فَكَتَبَ الْكَاتِبُ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ ; قَاضَى عَلِيٌّ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ شِيعَتِهِمْ وَالْمُسْلِمِينَ، وَقَاضَى مُعَاوِيَةُ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، إِنَّا نَنْزِلُ عِنْدَ حُكْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَنُحْيِي مَا أَحْيَا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَنُمِيتُ مَا أَمَاتَ اللَّهُ، فَمَا وَجَدَ الْحَكَمَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ - وَهُمَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - عَمِلَا بِهِ وَمَا لَمْ يَجِدَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَالسُّنَّةُ الْعَادِلَةُ الْجَامِعَةُ غَيْرُ الْمُتَفَرِّقَةِ. ثُمَّ أَخَذَ الْحَكَمَانِ مِنْ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَمِنَ الْجُنْدَيْنِ مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ عَلَى أَنَّهُمَا آمِنَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَأَهْلِهِمَا، وَالْأُمَّةُ لَهُمَا أَنْصَارٌ عَلَى الَّذِي يَتَقَاضَيَانِ عَلَيْهِ وَيَتَّفِقَانِ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ كِلَيْهِمَا عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ أَنَّهُمْ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَأَجَّلَا الْقَضَاءَ إِلَى رَمَضَانَ، وَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يُؤَخِّرَا ذَلِكَ عَلَى تَرَاضٍ مِنْهُمَا، وَكُتِبَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ، سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ، عَلَى أَنْ يُوَافِيَ عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ مَوْضِعَ الْحَكَمَيْنِ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ فِي رَمَضَانَ، وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَكَمَيْنِ أَرْبَعُمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا لِذَلِكَ اجْتَمَعَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِأَذْرُحَ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ " الْخَوَارِجِ " أَنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ لَمَّا ذَهَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالْكِتَابِ وَفِيهِ: هَذَا مَا قَاضَى عَبْدُ اللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ كَانَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ أُقَاتِلْهُ، وَلَكِنْ لِيَكْتُبِ اسْمَهُ وَلِيَبْدَأْ بِهِ قَبْلَ اسْمِي لِفَضْلِهِ وَسَابِقَتِهِ. فَرَجَعَ إِلَى عَلِيٍّ فَكَتَبَ كَمَا قَالَ مُعَاوِيَةُ.
وَذَكَرَ الْهَيْثَمُ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ أَبَوْا أَنْ يَبْدَأُوا بِاسْمِ عَلِيٍّ قَبْلَ مُعَاوِيَةَ، وَبِاسْمِ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَبْلَهُمْ، حَتَّى كُتِبَ كِتَابَانِ ; كِتَابٌ لِهَؤُلَاءِ وَكِتَابٌ لِهَؤُلَاءِ بِمَا أَرَادُوا.
وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ شَهِدَ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ وَالتَّحْكِيمِ مَنْ جَيْشِ عَلِيٍّ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَالْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الطُّفَيْلِ الْعَامِرِيُّ، وَحُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ الْكِنْدِيُّ، وَوَرْقَاءُ بْنُ سُمَيٍّ الْبَجَلِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحِلٍّ الْعِجْلِيُّ، وَعُقْبَةُ بْنُ زِيَادٍ الْحَضْرَمِيُّ،

وَيَزِيدُ بْنُ حُجَيَّةَ التَّمِيمِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ كَعْبٍ الْهَمْدَانِيُّ. فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ. وَأَمَّا مِنَ الشَّامِيِّينَ فَعَشَرَةٌ آخَرُونَ ; وَهُمْ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، وَحَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَمُخَارِقُ بْنُ الْحَارِثِ الزُّبَيْدِيُّ، زِمْلُ بْنُ عَمْرٍو الْعُذْرِيُّ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيُّ، وَحَمْزَةُ بْنُ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَسُبَيْعُ بْنُ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيُّ، وَعُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَخُو مُعَاوِيَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ الْحُرِّ الْعَبْسِيُّ.
وَخَرَجَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ بِذَلِكَ الْكِتَابِ يَقْرَأُهُ عَلَى النَّاسِ وَيَعْرِضُهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ. ثُمَّ شَرَعَ النَّاسُ فِي دَفْنِ قَتْلَاهُمْ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يُدْفَنُ فِي كُلِّ قَبْرٍ خَمْسُونَ نَفْسًا. وَكَانَ عَلِيٌّ قَدْ أَسَرَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ عَنْ صِفِّينَ أَطْلَقَهُمْ، وَكَانَ مِثْلُهُمْ أَوْ قَرِيبٌ

مِنْهُمْ قَدْ أَسَرَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ عَزَمَ عَلَى قَتْلِهِمْ لِظَنِّهِ أَنَّ عَلِيًّا قَدْ قَتَلَ أَسْرَاهُمْ، فَلَمَّا جَاءَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَطْلَقَهُمْ، أَطْلَقَ مُعَاوِيَةُ الَّذِينَ فِي يَدِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: عَمْرُو بْنُ أَوْسٍ - مِنَ الْأَوْدِ. كَانَ مِنَ الْأُسَارَى، فَأَرَادَ مُعَاوِيَةُ قَتْلَهَ، فَقَالَ: امْنُنْ عَلَيَّ فَإِنَّكَ خَالِي. فَقَالَ: وَيْحَكَ ! مِنْ أَيْنَ أَنَا خَالُكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَا ابْنُهَا وَأَنْتَ أَخُوهَا، فَأَنْتَ خَالِي. فَأَعْجَبَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ وَأَطْلَقَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ - وَذَكَرَ أَهْلَ صِفِّينَ - فَقَالَ: كَانُوا عَرَبًا يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَالْتَقَوْا فِي الْإِسْلَامِ مَعَهُمْ بِتِلْكَ الْحَمِيَّةِ نُهْيَةِ الْإِسْلَامِ، فَتَصَابَرُوا وَاسْتَحْيَوْا مِنَ الْفِرَارِ، وَكَانُوا إِذَا تَحَاجَزُوا دَخَلَ هَؤُلَاءِ فِي عَسْكَرِ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ فِي عَسْكَرِ هَؤُلَاءِ، فَيَسْتَخْرِجُونَ قَتْلَاهُمْ فَيَدْفِنُوهُمْ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَمْ يَفِرَّ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ.

ذِكْرُ خُرُوجِ الْخَوَارِجِ
وَذَلِكَ أَنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ مَرَّ عَلَى مَلَأٍ مَنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ،

فَقَامَ إِلَيْهِ عُرْوَةُ ابْنُ أُدَيَّةَ - وَهِيَ أُمُّهُ، وَهُوَ عُرْوَةُ بْنُ حُدَيْرٍ مِنْ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ حَنْظَلَةَ، وَهُوَ أَخُو أَبِي بِلَالٍ مِرْدَاسِ بْنِ حُدَيْرٍ - فَقَالَ: أَتُحَكِّمُونَ فِي دِينِ اللَّهِ الرِّجَالَ ؟ ثُمَّ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ عَجُزَ دَابَّةِ الْأَشْعَثِ، فَغَضِبِ الْأَشْعَثُ وَقَوْمُهُ، وَجَاءَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ رُؤَسَاءِ بَنِي تَمِيمٍ يَعْتَذِرُونَ إِلَى الْأَشْعَثِ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ وَالْخَوَارِجُ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ حَكَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَقَدْ أَخَذَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ مِنَ الْقُرَّاءِ وَقَالُوا: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. فَسُمُّوا الْمُحَكِّمِيَّةَ. وَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلَى بِلَادِهِمْ مِنْ صِفِّينَ، فَرَجَعَ عَلِيٌّ إِلَى الْكُوفَةِ عَلَى طَرِيقِ هِيتَ، وَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الشَّامِ بِأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلِيٌّ الْكُوفَةَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: ذَهَبَ عَلِيٌّ وَرَجَعَ فِي غَيْرِ شَيْءٍ. فَقَالَ عَلِيٌّ: لَلَّذِينَ فَارَقْنَاهُمْ آنِفًا خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:

أَخُوكَ الَّذِي إِنَّ أَجْرَضَتْكَ مُلِمَّةٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَبْرَحْ لِبَثِّكَ وَاجِمَا وَلَيْسَ أَخُوكَ بِالَّذِي إِنْ تَشَعَّبَتْ
عَلَيْكَ الْأُمُورُ ظَلَّ يَلْحَاكَ لَائِمَا
ثُمَّ مَضَى فَجَعَلَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى دَخَلَ قَصْرَ الْإِمَارَةِ مِنَ الْكُوفَةِ، وَلَمَّا كَانَ قَدْ قَرُبَ مِنْ دُخُولِ الْكُوفَةِ انْخَزَلَ مَنْ جَيْشِهِ قَرِيبٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَهُمُ الْخَوَارِجُ، وَأَبَوْا أَنْ يُسَاكِنُوهُ فِي بَلَدِهِ، وَنَزَلُوا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: حَرُورَاءُ. وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ أَشْيَاءَ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ ارْتَكَبَهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَنَاظَرَهُمْ، فَرَجَعَ أَكْثَرُهُمْ وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ، فَقَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْخَوَارِجَ هُمُ الْمُشَارُ إِلَيْهِمْ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ - وَفِي رِوَايَةٍ: " مِنَ الْمُسْلِمِينَ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " مِنْ أُمَّتِي " - " فَيَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ ".

وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَأَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَعَفَّانُ، ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، عَنِ الْقَاسِمِ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:تَكُونُ أُمَّتِي فِرْقَتَيْنِ، تَخْرُجُ بَيْنَهُمَا مَارِقَةٌ، يَلِي قَتْلَهَا أَوْلَاهُمَا بِالْحَقِّ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ وَدَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَ قَوْمًا يَكُونُونَ فِي أُمَّتِهِ يَخْرُجُونَ فِي فِرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ، سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ - أَوْ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ - يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْحَقِّ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَأَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا عَوْفٌ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَفْتَرِقُ أُمَّتِي فِرْقَتَيْنِ، فَتَمْرُقُ بَيْنَهُمَا مَارِقَةٌ، فَيَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ. وَرَوَاهُ أَيْضًا، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ عَوْفٍ ; وَهُوَ الْأَعْرَابِيُّ، بِهِ مِثْلَهُ. فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ الْمُنْذِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قِطْعَةَ الْعَبْدِيِّ، وَهُوَ أَحَدُ الثِّقَاتِ الرُّفَعَاءِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ الْمِشْرَقِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِنَحْوِهِ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ; لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْأَمْرُ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ الْحُكْمُ بِإِسْلَامِ الطَّائِفَتَيْنِ ; أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، لَا كَمَا يَزْعُمُهُ فِرْقَةُ الرَّافِضَةِ، أَهْلُ الْجَهْلِ وَالْجَوْرِ، مِنْ تَكْفِيرِهِمْ أَهْلَ الشَّامِ. وَفِيهِ أَنَّ أَصْحَابَ عَلِيٍّ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الْمُصِيبُ وَإِنْ كَانَ مُعَاوِيَةُ مُجْتَهِدًا فِي قِتَالِهِ لَهُ وَقَدْ أَخْطَأَ، وَهُوَ مَأْجُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَكِنْ عَلِيًّا هُوَ الْإِمَامُ الْمُصِيبُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَهُ أَجْرَانِ كَمَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ كَيْفِيَّةِ قِتَالِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِلْخَوَارِجِ، وَصِفَةُ

الْمُخْدَجِ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوُجِدَ كَمَا أَخْبَرَ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

فَصْلٌ ( مُنَاظَرَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْخَوَارِجِ )
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا رَجَعَ مِنَ الشَّامِ بَعْدَ وَقْعَةِ صِفِّينَ، ذَهَبَ إِلَى الْكُوفَةِ فَلَمَّا دَخَلَهَا اعْتَزَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ جَيْشِهِ، قِيلَ: سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ: أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. فَبَايَنُوهُ، وَخَرَجُوا عَلَيْهِ، وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ أَشْيَاءَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، فَنَاظَرَهُمْ فِيهَا وَرَدَّ عَلَيْهِمْ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَرَجَعَ بَعْضُهُمْ، وَاسْتَمَرَّ بَعْضُهُمْ عَلَى ضَلَالِهِ حَتَّى كَانَ مِنْهُمْ مَا سَنُورِدُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَيُقَالُ: إِنَّ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ذَهَبَ إِلَيْهِمْ فَنَاظَرَهُمْ فِيمَا نَقَمُوا عَلَيْهِ حَتَّى اسَتَرْجَعَهُمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، وَدَخَلُوا مَعَهُ الْكُوفَةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ عَادُوا فَنَكَثُوا مَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ، وَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْقِيَامِ عَلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ تَحَيَّزُوا نَاحِيَةً إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: النَّهْرَوَانُ. وَفِيهِ قَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ كَمَا سَيَأْتِي.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى الطَّبَّاعُ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عِيَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْقَارِيِّ، قَالَ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ، فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ - وَنَحْنُ عِنْدَهَا مَرْجِعَهُ مِنَ الْعِرَاقَ لَيَالِيَ قَتْلِ عَلِيٍّ - فَقَالَتْ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ، هَلْ أَنْتَ صَادِقِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ ؟ تُحَدِّثُنِي عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ. قَالَ: وَمَا لِي لَا أَصْدُقُكِ. قَالَتْ: فَحَدِّثْنِي عَنْ قِصَّتِهِمْ. قَالَ: فَإِنَّ عَلِيًّا لَمَّا كَاتَبَ مُعَاوِيَةَ وَحَكَمَ الْحَكَمَانِ، خَرَجَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ فَنَزَلُوا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: حَرُورَاءُ. مِنْ جَانِبِ الْكُوفَةِ، وَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ، فَقَالُوا: انْسَلَخْتَ مِنْ قَمِيصٍ أَلْبَسَكَهُ اللَّهُ، وَاسْمٍ سَمَّاكَ بِهِ اللَّهُ، ثُمَّ انْطَلَقْتَ فَحَكَّمْتَ فِي دِينِ اللَّهِ وَلَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ. فَلَمَّا أَنْ بَلَغَ عَلِيًّا مَا عَتَبُوا عَلَيْهِ وَفَارَقُوهُ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ: أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا رَجُلٌ قَدْ حَمَلَ الْقُرْآنَ. فَلَمَّا أَنِ امْتَلَأَتِ الدَّارُ مِنْ قُرَّاءِ النَّاسِ، دَعَا بِمُصْحَفِ إِمَامٍ عَظِيمٍ، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ

يَصُكُّهُ بِيَدِهِ، وَيَقُولُ: أَيُّهَا الْمُصْحَفُ، حَدِّثِ النَّاسِ ! فَنَادَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَسْأَلُ عَنْهُ ! إِنَّمَا هُوَ مِدَادٌ فِي وَرَقٍ، وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِمَا رُوِّينَا مِنْهُ، فَمَاذَا تُرِيدُ ؟ قَالَ: أَصْحَابُكُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا، بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ كِتَابُ اللَّهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [ النِّسَاءِ: 35 ]. فَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَعْظَمُ دَمًا وَحُرْمَةً مِنَ امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ، وَنَقِمُوا عَلَيَّ أَنْ كَاتَبْتُ مُعَاوِيَةَ: كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ جَاءَنَا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْحُدَيْبِيَةَ حِينَ صَالَحَ قَوْمَهُ قُرَيْشًا، فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ سُهَيْلُ: لَا أَكْتُبُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. فَقَالَ: " كَيْفَ نَكْتُبُ ؟ ". فَقَالَ: اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَكَتَبَ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قُرَيْشًا. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [ الْأَحْزَابِ: 21 ] فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَخَرَجْتُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا تَوَسَّطْتُ عَسْكَرَهُمْ قَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ يَخْطُبُ النَّاسَ فَقَالَ: يَا حَمَلَةَ الْقُرْآنِ، هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ فَأَنَا أَعْرِفُهُ، هَذَا مِمَّنْ يُخَاصِمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِمَا لَا يَعْرِفُهُ، هَذَا مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ وَفِي قَوْمِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ

[ الزُّخْرُفِ: 58 ]. فَرُدُّوهُ إِلَى صَاحِبِهِ وَلَا تُوَاضِعُوهُ كِتَابَ اللَّهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاللَّهِ لَنُوَاضِعَنَّهُ، فَإِنْ جَاءَ بِحَقٍّ نَعْرِفُهُ لَنَتَّبِعَنَّهُ، وَإِنْ جَاءَ بِبَاطِلٍ لَنُبَكِّتَنَّهُ بِبَاطِلِهِ. فَوَاضَعُوا عَبْدَ اللَّهِ الْكِتَابَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ كُلُّهُمْ تَائِبٌ، فِيهِمُ ابْنُ الْكَوَّاءِ، حَتَّى أَدْخَلَهُمْ عَلَى عَلِيٍّ الْكُوفَةَ، فَبَعَثَ عَلِيٌّ إِلَى بَقِيَّتِهِمْ فَقَالَ: قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِنَا وَأَمْرِ النَّاسِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، فَقِفُوا حَيْثُ شِئْتُمْ حَتَّى تَجْتَمِعَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا تَسْفِكُوا دَمًا حَرَامًا، أَوْ تَقْطَعُوا سَبِيلًا، أَوْ تَظْلِمُوا ذِمَّةً، فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ فَقَدْ نَبَذْنَا إِلَيْكُمُ الْحَرْبَ عَلَى سَوَاءٍ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [ الْأَنْفَالِ: 58 ]. فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا ابْنَ شَدَّادٍ فَقَتَلَهُمْ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ حَتَّى قَطَعُوا السَّبِيلَ، وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، وَاسْتَحَلُّوا أَهْلَ الذِّمَّةِ. فَقَالَتْ: آللَّهِ ؟ قَالَ: آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ كَانَ ذَلِكَ. قَالَتْ: فَمَا شَيْءٌ بَلَغَنِي عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقُولُونَ: ذُو الثُّدَيِّ وَذُو الثُّدَيَّةِ ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُهُ، وَقُمْتُ مَعَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ فِي الْقَتْلَى، فَدَعَا النَّاسَ فَقَالَ: أَتَعْرِفُونَ هَذَا،

فَمَا أَكْثَرَ مَنْ جَاءَ يَقُولُ: قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَسْجِدِ بَنِي فُلَانٍ يُصَلِّي وَيَقْرَأُ، وَرَأَيْتُهُ فِي مَسْجِدِ بَنِي فُلَانٍ يُصَلِّي. وَلَمْ يَأْتُوا فِيهِ بِثَبَتٍ يُعْرَفُ إِلَّا ذَلِكَ. قَالَتْ: فَمَا قَوْلُ عَلِيٍّ حِينَ قَامَ عَلَيْهِ كَمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْعِرَاقِ ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَالَتْ: هَلْ سَمِعْتَ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا. قَالَتْ: أَجَلْ، صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، يَرْحَمُ اللَّهُ عَلِيًّا، إِنَّهُ كَانَ لَا يَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ إِلَّا قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. فَيَذْهَبُ أَهْلُ الْعِرَاقِ يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ وَيَزِيدُونَ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَاخْتَارَهُ الضِّيَاءُ. فَفِي هَذَا السِّيَاقِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ عِدَّتَهُمْ كَانَتْ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ، لَكِنْ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَقَدْ يَكُونُ وَاطَأَهُمْ عَلَى مَذْهَبِهِمْ آخَرُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا اثْنِي عَشَرَ أَلْفًا، أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَلَمَّا نَاظَرَهُمُابْنُ عَبَّاسٍ رَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ سِمَاكٍ أَبِي زُمَيْلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ حَكَّمَ الرِّجَالِ، وَأَنَّهُ مَحَا اسْمَهُ مِنَ الْإِمْرَةِ، وَأَنَّهُ غَزَا يَوْمَ الْجَمَلِ فَقَتَلَ الْأَنْفُسَ الْحَرَامَ وَلَمْ يَقْسِمِ الْأَمْوَالَ وَالسَّبْيَ، فَأَجَابَ عَنِ الْأَوَّلَتَيْنِ بِمَا تَقَدَّمَ، وَعَنِ الثَّالِثَةِ بِأَنْ قَالَ: قَدْ كَانَ فِي السَّبْيِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ، فَإِنْ قُلْتُمْ: لَيْسَتْ لَكُمْ بِأُمٍّ. فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وَإِنِ اسْتَحْلَلْتُمْ سَبْيَ أُمِّكُمْ فَقَدْ كَفَرْتُمْ. قَالَ: فَرَجَعَ مِنْهُمْ

أَلْفَانِ وَخَرَجَ سَائِرُهُمْ فَتَقَاتَلُوا. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسِ لَبِسَ حُلَّةً لَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَنَاظَرُوهُ فِي لُبْسِهِ إِيَّاهَا، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ الْآيَةَ [ الْأَعْرَافِ: 32 ].
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عَلِيًّا خَرَجَ بِنَفْسِهِ إِلَى بَقِيَّتِهِمْ، فَلَمْ يَزَلْ يُنَاظِرُهُمْ حَتَّى رَجَعُوا مَعَهُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ أَوِ الْأَضْحَى - شَكَّ الرَّاوِي فِي ذَلِكَ - ثُمَّ جَعَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ يُعَرِّضُونَ لَهُ فِي الْكَلَامِ، وَيُسْمِعُونَهُ شَتْمًا وَيَتَأَوَّلُونَ تَآوِيلَ فِي أَقْوَالِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ لِعَلِيٍّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ الزُّمَرِ: 65 ]. فَقَرَأَ عَلِيٌّ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ [ الرُّومِ: 60 ]. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا قَالَهُ وَعَلِيٌّ يَخْطُبُ، لَا فِي الصَّلَاةِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا أَنَّ عَلِيًّا بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمًا إِذْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ أَشْرَكْتَ فِي دِينِ اللَّهِ الرِّجَالَ وَلَا

حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ. فَتُنَادُوا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ. فَجَعَلَ عَلِيٌّ يَقُولُ: هَذِهِ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَمْنَعَكُمْ فَيْئًا مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا، وَأَنْ لَا نَمْنَعَكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَأَنْ لَا نَبْدَأَكُمْ بِالْقِتَالِ حَتَّى تَبْدَأُونَا بِهِ. ثُمَّ إِنَّهُمْ خَرَجُوا بِالْكُلِّيَّةِ عَنِ الْكُوفَةِ وَتَحَيَّزُوا إِلَى النَّهْرَوَانِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدَ حُكْمِ الْحَكَمَيْنِ.

صِفَةُ اجْتِمَاعِ الْحَكَمَيْنِ وَهُمَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ
وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا تَشَارَطُوا عَلَيْهِ وَقْتَ التَّحْكِيمِ بِصِفِّينَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: اجْتَمَعُوا فِي شَعْبَانَ. وَذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا كَانَ مَجِيءُ رَمَضَانَ، بَعَثَ أَرْبَعَمِائَةِ فَارِسٍ مَعَ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، وَمَعَهُمْ أَبُو مُوسَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَإِلَيْهِ الصَّلَاةُ، وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، ابْنُهُ فَتَوَافَوْا بِدُومَةِ

الْجَنْدَلِ بِأَذْرُحَ - وَهِيَ نِصْفٌ بَيْنَ الشَّامِ وَالْكُوفَةِ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلٍّ مِنَ الْبَلَدَيْنِ تِسْعُ مَرَاحِلَ - وَشَهِدَ ذَلِكَ مَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِ النَّاسِ ; كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيِّ، وَأَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ. وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ شَهِدَهُمْ أَيْضًا، وَأَنْكَرَ حُضُورَهُ آخَرُونَ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ خَرَجَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ بِمَاءٍ لِبَنِي سُلَيْمٍ مُعْتَزِلٌ بِالْبَادِيَةِ، فَقَالَ: يَا أَبَهْ، قَدْ بَلَغَكَ مَا كَانَ مِنَ النَّاسِ بِصِفِّينَ، وَقَدْ حَكَّمَ النَّاسُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَقَدْ شَهِدَهُمْ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَاشْهَدْهُمْ فَإِنَّكَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَحَدُ أَصْحَابِ الشُّورَى، وَلَمْ تَدْخُلْ فِي شَيْءٍ كَرِهَتْهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ، فَاحْضُرْ إِنَّكَ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْخِلَافَةِ. فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:إِنَّهُ سَتَكُونُ فِتْنَةٌ، خَيْرُ النَّاسِ فِيهَا الْخَفِيُّ التَّقِيُّ. وَاللَّهِ لَا أَشْهَدُ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْأَمْرِ أَبَدًا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ عَبْدُ الْكَبِيرِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، ثَنَا بُكَيْرُ بْنُ مِسْمَارٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَخَاهُ عُمَرَ انْطَلَقَ

إِلَى سَعْدٍ فِي غَنَمٍ لَهُ خَارِجًا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ: يَا أَبَهْ، أَرَضِيتَ أَنْ تَكُونَ أَعْرَابِيًّا فِي غَنَمِكَ وَالنَّاسُ يَتَنَازَعُونَ فِي الْمُلْكِ بِالْمَدِينَةِ ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ صَدْرَ عُمَرَ وَقَالَ: اسْكُتْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ ".
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، ثَنَا كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ الْأَسْلَمِيُّ، عَنِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ جَاءَهُ ابْنُهُ عَامِرٌ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَفِي الْفِتْنَةِ تَأْمُرُنِي أَنْ أَكُونَ رَأْسًا ؟ لَا وَاللَّهِ حَتَّى أُعْطَى سَيْفًا إِنْ ضَرَبْتُ بِهِ مُؤْمِنًا نَبَا عَنْهُ، وَإِنْ ضَرَبْتُ بِهِ كَافِرًا قَتَلْتُهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ التَّقِيَّ
وَهَذا السِّيَاقُ كَأَنَّهُ عَكْسُ الْأَوَّلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ اسْتَعَانَ بِأَخِيهِ عَامِرٍ عَلَى أَبِيهِ، لِيُشِيرَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ التَّحْكِيمِ لَعَلَّهُمْ يَعْدِلُونَ عَنْ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَيُوَلُّونَهُ، فَامْتَنَعَ سَعْدٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَبَاهُ أَشَدَّ الْإِبَاءِ وَقَنِعَ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكِفَايَةِ وَالْخَفَاءِ، كَمَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قَدْ أَفْلَحَ

مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ هَذَا يُحِبُّ الدُّنْيَا وَالْإِمَارَةَ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى كَانَ هُوَ مِنَ السَّرِيَّةِ الَّتِي قَتَلَتِ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ وَلَوْ قَنِعَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَبُوهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سَعْدًا لَمْ يَحْضُرْ أَمْرَ التَّحْكِيمِ وَلَا أَرَادَ ذَلِكَ وَلَا هَمَّ بِهِ، وَإِنَّمَا حَضَرَهُ مَنْ ذَكَرْنَا، فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْحَكَمَانِ تَرَاوَضَا عَلَى الْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِعِلْمٍ وَنَظَرٍ فِي تَقْدِيرِ أُمُورٍ، ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَعْزِلَا عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ، ثُمَّ يَجْعَلَا الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ النَّاسِ لِيَتَّفِقُوا عَلَى الْأَصْلَحِ لَهُمْ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَقَدْ أَشَارَ أَبُو مُوسَى بِتَوْلِيَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: فَوَلِّ ابْنِي عَبْدَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُقَارِبُهُ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالزُّهْدِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: إِنَّكَ قَدْ غَمَسْتَ ابْنَكَ فِي الْفِتَنِ وَالدُّنْيَا مَعَكَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ رَجُلُ صِدْقٍ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا رَجُلٌ لَهُ ضِرْسٌ يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ فِيهِ غَفْلَةٌ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ افْطَنْ وَانْتَبِهْ.

فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَرْشُو عَلَيْهَا شَيْئًا أَبَدًا. ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ الْعَاصِ، إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ أَسْنَدَتْ إِلَيْكَ أَمْرَهَا بَعْدَ مَا تَقَارَعَتْ بِالسُّيُوفِ وَتَشَاكَّتْ بِالرِّمَاحِ، فَلَا تَرُدَّنَّهُمْ فِي فِتْنَةٍ مِثْلِهَا أَوْ أَشَدَّ مِنْهَا. ثُمَّ إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ حَاوَلَ أَبَا مُوسَى عَلَى أَنْ يُقِرَّ مُعَاوِيَةَ وَحْدَهُ عَلَى النَّاسِ فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ حَاوَلَهُ لِيَكُونَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو هُوَ الْخَلِيفَةُ، فَأَبَى أَيْضًا، وَطَلَبَ أَبُو مُوسَى مِنْ عَمْرٍو أَنْ يُوَلِّيَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَبَى عَمْرٌو أَيْضًا، ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَخْلَعَا مُعَاوِيَةَ وَعَلِيًّا وَيَتْرُكَا الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ النَّاسِ لِيَتَّفِقُوا عَلَى مَنْ يَخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ جَاءَا إِلَى الْمَجْمَعِ الَّذِي فِيهِ النَّاسُ - وَكَانَ عَمْرٌو لَا يَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي مُوسَى بَلْ يُقَدِّمُهُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ أَدَبًا وَإِجْلَالًا - فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا مُوسَى قُمْ فَأَعْلِمِ النَّاسَ بِمَا اتَّفَقْنَا عَلَيْهِ.
فَخَطَبَ أَبُو مُوسَى النَّاسَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ صَلَّى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى لِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا قَدْ نَظَرْنَا فِي أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَمْ نَرَ أَمْرًا أَصْلَحَ لَهَا وَلَا أَلَمَّ لِشَعَثِهَا مَنْ رَأَيٍ قَدِ اتَّفَقْتُ أَنَا وَعَمْرٌو عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّا نَخْلَعُ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ وَنَتْرُكُ الْأَمْرَ شُورَى، وَتَسْتَقْبِلُ الْأُمَّةُ هَذَا الْأَمْرَ فَيُوَلُّوا عَلَيْهِمْ مَنْ أَحَبُّوهُ وَاخْتَارُوهُ، وَإِنِّي قَدْ خَلَعْتُ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ. ثُمَّ تَنَحَّى وَجَاءَ عَمْرٌو فَقَامَ مَقَامَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا قَالَ مَا قَدْ سَمِعْتُمْ، وَإِنَّهُ قَدْ خَلَعَ صَاحِبَهُ، وَإِنِّي قَدْ خَلَعْتُهُ أَيْضًا كَمَا خَلَعَهُ، وَأَثْبَتُّ صَاحِبِي مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّهُ وَلِيُّ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَالطَّالِبُ بِدَمِهِ، وَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِمَقَامِهِ. وَكَانَ عَمْرٌو رَأَى

مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنَّ تَرْكَ النَّاسِ بِلَا إِمَامٍ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - يُؤَدِّي إِلَى مَفْسَدَةٍ طَوِيلَةٍ عَرِيضَةٍ أَعْظَمَ مِمَّا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَأَقَرَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فَاجْتَهَدَ، وَالِاجْتِهَادُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ. وَيُقَالُ: إِنَّ أَبَا مُوسَى تَكَلَّمَ مَعَ عَمْرٍو بِكَلَامِ فِيهِ غِلْظَةٌ، وَرَدَّ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِثْلَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ شُرَيْحَ بْنَ هَانِئٍ - مُقَدَّمَ جَيْشِ عَلِيٍّ - وَثَبَ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَضَرَبَهُ بِالسَّوْطِ، وَقَامَ إِلَيْهِ ابْنٌ لِعَمْرٍو فَضَرَبَهُ بِالسَّوْطِ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي كُلِّ وَجْهٍ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَأَمَّا عَمْرٌو وَأَصْحَابُهُ فَدَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِتَحِيَّةِ الْخِلَافَةِ، وَأَمَّا أَبُو مُوسَى فَاسْتَحْيَى مِنْ عَلِيٍّ فَذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ إِلَى عَلِيٍّ، فَأَخْبَرَاهُ بِمَا فَعَلَ أَبُو مُوسَى وَعَمْرٌو، فَاسْتَضْعَفُوا رَأْيَ أَبِي مُوسَى، وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يُوَازِنُ عَمْرًا. فَذَكَرَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ الْكَلْبِيِّ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا بَلَغَهُ مَا فَعَلَ عَمْرٌو كَانَ يَلْعَنُ فِي قُنُوتِهِ مُعَاوِيَةَ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَأَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَحَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ أَيْضًا، كَانَ يَلْعَنُ فِي قُنُوتِهِ عَلِيًّا وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا وَابْنَ عَبَّاسٍ وَالْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ. وَلَا

يَصِحُّ هَذَا عَنْهُمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ ": أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ وَحَبِيبِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: إِنِّي لَأَمْشِي مَعَ عَلِيٍّ بِشَطِّ الْفُرَاتِ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ اخْتَلَفُوا فَلَا يَزَالُ اخْتِلَافُهُمْ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَبْعَثُوا حَكَمَيْنِ فَضَلَّا وَأَضَلَّا، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ سَتَخْتَلِفُ فَلَا يَزَالُ اخْتِلَافُهُمْ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَبْعَثُوا حَكَمَيْنِ، فَيَضِلَّانِ وَيُضِلَّانِ مَنِ اتَّبَعَهُمَا. فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَرَفْعُهُ مَوْضُوعٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا مَعْلُومًا عِنْدَ عَلِيٍّ لَمْ يُوَافِقْ عَلَى تَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ حَتَّى لَا يَكُونَ سَبَبًا لِإِضْلَالِ النَّاسِ، كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَآفَةُ هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، وَهُوَ الْكِنْدِيُّ الْحِمْيَرِيُّ الْأَعْمَى. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ.

ذِكْرُ خُرُوجِ الْخَوَارِجِ مِنَ الْكُوفَةِ وَمُبَارَزَتِهِمْ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِالْعَدَاوَةِ وَالْمُخَالَفَةِ وَقِتَالِ عَلِيٍّ إِيَّاهُمْ وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ
لَمَّا بَعَثَ عَلِيٌّ أَبَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ إِلَى دُومَةِ الْجَنْدَلِ، اشْتَدَّ أَمْرُ الْخَوَارِجِ وَبَالَغُوا فِي النَّكِيرِ عَلَى عَلِيٍّ وَصَرَّحُوا بِكُفْرِهِ، فَجَاءَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ مِنْهُمْ، وَهَمَا زُرْعَةُ بْنُ الْبُرْجِ الطَّائِيُّ، وَحُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ السَّعْدِيُّ، فَقَالَا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ. فَقَالَ لَهُ حُرْقُوصُ: تُبْ إِلَى اللَّهِ مِنْ خَطِيئَتِكَ، وَارْجِعْ عَنْ قَضِيَّتِكَ، اذْهَبْ بِنَا إِلَى عَدُوِّنَا حَتَّى نُقَاتِلَهُمْ حَتَّى نَلْقَى رَبَّنَا. فَقَالَ عَلِيٌّ: قَدْ أَرَدْتُكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَأَبَيْتُمْ، وَقَدْ كَتَبْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ كِتَابًا وَعُهُودًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ الْآيَةَ [ النَّحْلِ: 91 ]. فَقَالَ لَهُ حُرْقُوصُ: ذَلِكَ ذَنْبٌ يَنْبَغِي أَنْ تَتُوبَ مِنْهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا هُوَ بِذَنْبٍ وَلَكِنَّهُ عَجْزٌ مِنَ الرَّأْيِ، وَقَدْ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِيمَا كَانَ مِنْهُ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ. فَقَالَ لَهُ زُرْعَةُ بْنُ الْبُرْجِ: أَمَا وَاللَّهِ يَا عَلِيُّ لَئِنْ لَمْ تَدَعْ تَحْكِيمَ الرِّجَالِ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّكَ أَطْلُبُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَرِضْوَانَهُ. فَقَالَ لَهُ: تَبًّا لَكَ مَا

أَشْقَاكَ ! كَأَنِّي بِكَ قَتِيلًا تَسْفِي عَلَيْكَ الرِّيحُ. فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ مُحِقًّا كَانَ فِي الْمَوْتِ تَعْزِيَةٌ عَنِ الدُّنْيَا، وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ قَدِ اسْتَهْوَاكُمْ. فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ يُحَكِّمَانِ أَمْرَهُمَا، وَفَشَى فِيهِمْ ذَلِكَ، وَجَاهَرُوا بِهِ النَّاسَ، وَتَعَرَّضُوا لِعَلِيٍّ فِي خُطَبِهِ وَأَسْمَعُوهُ السَّبَّ وَالشَّتْمَ وَالتَّعْرِيضَ بِآيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا قَامَ خَطِيبًا فِي بَعْضِ الْجُمَعِ فَذَكَرَ أَمْرَ الْخَوَارِجِ فَذَمَّهُ وَعَابَهُ. فَقَامَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ كُلٌّ يَقُولُ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ. وَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَهُوَ وَاضِعٌ أُصْبُعَهُ فِي أُذُنَيْهِ يَقُولُ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ الزُّمَرِ: 65 ]. فَجَعَلَ عَلِيٌّ يُقَلِّبُ يَدَيْهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: حُكْمَ اللَّهِ نَنْتَظِرُ فِيكُمْ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَمْنَعَكُمْ مَسَاجِدَنَا مَا لَمْ تَخْرُجُوا عَلَيْنَا، وَلَا نَمْنَعَكُمْ نَصِيبَكُمْ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَلَا نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي حُرَّةَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا بَعَثَ أَبَا مُوسَى لِإِنْفَاذِ الْحُكُومَةِ، اجْتَمَعَ الْخَوَارِجُ فِي مَنْزِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ الرَّاسِبِيِّ فَخَطَبَهُمْ خُطْبَةً بَلِيغَةً زَهَّدَهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَرَغَّبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، ثُمَّ قَالَ: فَاخْرُجُوا بِنَا إِخْوَانَنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا، إِلَى جَانِبِ هَذَا السَّوَادِ إِلَى بَعْضِ كُوَرِ الْجِبَالِ، أَوْ بَعْضِ هَذِهِ الْمَدَائِنِ مُنْكِرِينَ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الْجَائِرَةِ. ثُمَّ قَامَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ: إِنَّ الْمَتَاعَ بِهَذِهِ الدُّنْيَا قَلِيلٌ، وَإِنَّ الْفِرَاقَ لَهَا وَشِيكٌ، فَلَا

تَدْعُوَنَّكُمْ زِينَتُهَا وَبَهْجَتُهَا إِلَى الْمُقَامِ بِهَا، وَلَا تَلْفِتَنَّكُمْ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ وَإِنْكَارِ الظُّلْمِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. فَقَالَ سِنَانُ بْنُ حَمْزَةَ الْأَسَدِيُّ: يَا قَوْمُ إِنَّ الرَّأْيَ مَا رَأَيْتُمْ، وَإِنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرْتُمْ، فَوَلُّوا أَمْرَكُمْ رَجُلًا مِنْكُمْ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَكُمْ مِنْ عِمَادٍ وَسِنَادٍ، وَمِنْ رَايَةٍ تَحُفُّونَ بِهَا وَتَرْجِعُونَ إِلَيْهَا. فَبَعَثُوا إِلَى زَيْدِ بْنِ حُصَيْنٍ الطَّائِيِّ - وَكَانَ مِنْ رُءُوسِهِمْ - فَعَرَضُوا عَلَيْهِ الْإِمَارَةَ عَلَيْهِمْ فَأَبَى، ثُمَّ عَرَضُوهَا عَلَى حُرْقُوصَ بْنَ زُهَيْرٍ فَأَبَى، ثُمَّ عَرَضُوهَا عَلَى حَمْزَةَ بْنِ سِنَانٍ فَأَبَى، ثُمَّ عَرَضُوهَا عَلَى شُرَيْحِ بْنِ أَوْفَى الْعَبْسِيِّ فَأَبَى، ثُمَّ عَرَضُوهَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ الرَّاسِبِيِّ فَقَبِلَهَا، وَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَا أَقْبَلُهَا رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا وَلَا أَدَعُهَا فَرَقًا مِنَ الْمَوْتِ. وَاجْتَمَعُوا أَيْضًا فِي بَيْتِ زَيْدِ بْنِ حُصَيْنٍ الطَّائِيِّ السِّنْبِسِيِّ فَخَطَبَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَلَا عَلَيْهِمْ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ [ ص: 26 ]. وَقَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [ الْمَائِدَةِ: 44 ]. وَالَّتِي بَعْدَهَا وَبَعْدَهَا: الظَّالِمُونَ، الْفَاسِقُونَ [ الْمَائِدَةِ: 45، 47 ]. ثُمَّ قَالَ: فَأَشْهَدُ عَلَى أَهْلِ دَعْوَتِنَا مِنْ أَهْلِ قِبْلَتِنَا أَنَّهُمْ قَدِ اتَّبَعُوا الْهَوَى، وَنَبَذُوا حُكْمَ

الْكِتَابِ، وَجَارُوا فِي الْقَوْلِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَنَّ جِهَادَهُمْ حَقٌّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَبَكَى رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَجَرَةُ السُّلَمِيُّ. ثُمَّ حَرَّضَ أُولَئِكَ عَلَى الْخُرُوجِ عَلَى النَّاسِ، وَقَالَ فِي كَلَامِهِ: اضْرِبُوا وُجُوهَهُمْ وَجِبَاهَهُمْ بِالسُّيُوفِ حَتَّى يُطَاعَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، فَإِنْ أَنْتُمْ ظَفِرْتُمْ وَأُطِيعَ اللَّهُ كَمَا أَرَدْتُمْ، آتَاكُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الْمُطِيعِينَ لَهُ الْعَامِلِينَ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ قُتِلْتُمْ فَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنَ الصَّبْرِ وَالْمَصِيرِ إِلَى اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ ؟
قُلْتُ: وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَغْرَبَ أَشْكَالِ بَنِي آدَمَ، فَسُبْحَانَ مَنْ نَوَّعَ خَلْقَهُ كَمَا أَرَادَ، وَسَبَقَ فِي قَدَرِهِ ذَلِكَ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي الْخَوَارِجِ: إِنَّهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [ الْكَهْفِ: 103 - 105 ]. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةَ الضُّلَّالَ، وَالْأَشْقِيَاءَ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَوَاطَئُوا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْمَدَائِنِ ; لِيَمْلِكُوهَا وَيَتَحَصَّنُوا بِهَا، ثُمَّ يَبْعَثُوا إِلَى إِخْوَانِهِمْ وَأَضْرَابِهِمْ - مِمَّنْ هُوَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا - فَيُوَافُوهُمْ إِلَيْهَا، وَيَكُونُ

اجْتِمَاعُهُمْ عَلَيْهَا. فَقَالَ لَهُمْ زَيْدُ بْنُ حُصَيْنٍ الطَّائِيُّ: إِنَّ الْمَدَائِنَ لَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهَا، فَإِنَّ بِهَا جَيْشًا لَا تُطِيقُونَهُ وَسَيَمْنَعُوهَا مِنْكُمْ، وَلَكِنْ وَاعِدُوا إِخْوَانَكُمْ إِلَى جِسْرِ نَهْرِ جُوخَا، وَلَا تَخْرُجُوا مِنَ الْكُوفَةِ جَمَاعَاتٍ، وَلَكِنِ اخْرُجُوا وُحْدَانَا لِئَلَّا يَشْعُرُوا بِكُمْ. فَكَتَبُوا كِتَابًا عَامًّا إِلَى مَنْ هُوَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَمَسْلَكِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا، وَبَعَثُوا بِهِ إِلَيْهِمْ لِيُوَافُوهُمْ إِلَى النَّهْرِ، لِيَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ خَرَجُوا يَتَسَلَّلُونَ وُحْدَانَا ; لِئَلَّا يَعْلَمَ أَحَدٌ بِهِمْ فَيَمْنَعُوهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ فَخَرَجُوا مِنْ بَيْنِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَفَارَقُوا سَائِرَ الْقِرَابَاتِ، يَعْتَقِدُونَ بِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ يُرْضِي رَبَّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَالذُّنُوبِ الْمُوبِقَاتِ، وَالْعَظَائِمِ وَالْخَطِيئَاتِ، وَأَنَّهُ مِمَّا يُزَيِّنُهُ لَهُمْ إِبْلِيسُ وَأَنْفُسُهُمُ الَّتِي هِيَ بِالسُّوءِ أَمَّارَاتٌ. وَقَدْ تَدَارَكَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بَعْضَ أَوْلَادِهِمْ وَقَرَابَاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ فَرَدُّوهُمْ وَوَبَّخُوهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَحِقَ بِالْخَوَارِجِ فَخَسِرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَوَافَى إِلَيْهِمْ مَنْ

كَاتَبُوهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا، وَاجْتَمَعَ الْجَمِيعُ بِالنَّهْرَوَانِ، وَصَارَتْ لَهُمْ شَوْكَةٌ وَمَنَعَةٌ، وَهُمْ جُنْدٌ مُسْتَقِلُّونَ وَفِيهِمْ شَجَاعَةٌ وَثَبَاتٌ وَصَبْرٌ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ مُتَقَرِّبُونَ بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ ; فَهُمْ قَوْمٌ لَا يُصْطَلَى لَهُمْ بِنَارٍ، وَلَا يَطْمَعُ أَحَدٌ فِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ بِثَأْرٍ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا خَرَجَتِ الْخَوَارِجُ إِلَى النَّهْرَوَانِ وَهَرَبَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ إِلَى مَكَّةَ، وَرَدَّ ابْنَ عَبَّاسٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، قَامَ فِي النَّاسِ بِالْكُوفَةِ خَطِيبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَإِنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ، وَالْحَدَثَانِ الْجَلِيلِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ تُورِثُ الْحَسْرَةَ، وَتُعْقِبُ النَّدَمَ، وَقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذَيْنَ الرَّجُلَيْنِ وَفِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ بِأَمْرِي، وَنَحَلْتُكُمْ رَأْيِي، فَأَبَيْتُمْ إِلَّا مَا أَرَدْتُمْ، فَكُنْتُ أَنَا وَأَنْتُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ فَأَجَادَ:
بَذَلْتُ لَهُمْ نُصْحِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إِلَّا ضُحَى الْغَدِ

ثُمَّ تَكَلَّمَ فِيمَا فَعَلَهُ الْحَكَمَانِ فَرَدَّ عَلَيْهِمَا فِيمَا حَكَمَا بِهِ وَأَنَّبَهُمَا، وَبَيَّنَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ هَوًى وَزُورٍ وَمَحَبَّةٍ لِلدُّنْيَا، وَقِلَّةِ نُصْحٍ وَنَظَرٍ لِلْأُمَّةِ، وَحَطَّ عَلَيْهِمَا، ثُمَّ نَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ وَالْجِهَادِ فِيهِمْ، وَعَيَّنَ لَهُمْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ يَخْرُجُونَ فِيهِ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَالِى الْبَصْرَةِ يَسْتَنْفِرُ لَهُ النَّاسَ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ. وَكَتَبَ إِلَى الْخَوَارِجِ يُعْلِمُهُمْ أَنَّ الَّذِي حَكَمَ بِهِ الْحَكَمَانِ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمَا، وَأَنَّهُ قَدْ عَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ، فَهَلُمُّوا حَتَّى نَجْتَمِعَ عَلَى قِتَالِهِمْ، فَكَتَبُوا إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ لَمْ تَغْضَبْ لِرَبِّكَ وَإِنَّمَا غَضِبْتَ لِنَفْسِكَ، وَإِنْ شَهِدَتْ عَلَى نَفْسِكَ بِالْكُفْرِ وَاسْتَقْبَلْتَ التَّوْبَةَ نَظَرْنَا فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، وَإِلَّا فَقَدَ نَابَذْنَاكَ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [ الْأَنْفَالِ: 58 ].
فَلَمَّا قَرَأَ عَلِيٌّ كَتَابَهُمْ يَئِسَ مِنْهُمْ وَعَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ لِيُنَاجِزَهُمْ، وَخَرَجَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى النُّخَيْلَةِ فِي عَسْكَرٍ كَثِيفٍ - خَمْسَةٍ وَسِتِّينَ أَلْفًا - وَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَمِائَتَيْ فَارِسٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَعَ جَارِيَةَ بْنِ قُدَامَةَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، وَمَعَ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّئَلِيِّ أَلْفٌ وَسَبْعُمِائَةٍ، فَكَمَلَ جَيْشُهُ فِي ثَمَانِيَةٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ فَارِسٍ وَمِائَتَيْ فَارِسٍ.

وَقَامَ عَلِيٌّ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ عِنْدَ اللِّقَاءِ ; فَبَيْنَمَا هُوَ عَازِمٌ عَلَى غَزْوِ أَهْلِ الشَّامِ إِذْ بَلَغَهُ أَنَّ الْخَوَارِجَ قَدْ عَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا،

وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، وَقَطَعُوا السَّبِيلَ، وَاسْتَحَلُّوا الْمَحَارِمَ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَتَلُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَسَرُوهُ وَامْرَأَتَهُ مَعَهُ وَهِيَ حَامِلٌ فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَنْتُمْ قَدْ رَوَّعْتُمُونِي. فَقَالُوا: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ أَبِيكَ. فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَقَادُوهُ بِيَدِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مَعَهُمْ إِذْ لَقِيَ بَعْضُهُمْ خِنْزِيرًا لِبَعْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَضَرَبَهُ بَعْضُهُمْ بِسَيْفِهِ فَشَقَّ جِلْدَهُ، فَقَالَ لَهُ آخَرُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا وَهُوَ لِذِمِّيٍّ ؟ فَذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الذِّمِّيِّ فَاسْتَحَلَّهُ وَأَرْضَاهُ. وَبَيْنَمَا هُوَ مَعَهُمْ إِذْ سَقَطَتْ تَمْرَةٌ مِنْ نَخْلَةٍ فَأَخَذَهَا أَحَدُهُمْ فَأَلْقَاهَا فِي فَمِهِ، فَقَالَ لَهُ آخَرُ: بِغَيْرِ إِذْنٍ وَلَا ثَمَنٍ ؟ فَأَلْقَاهَا ذَاكَ مِنْ فَمِهِ، وَمَعَ هَذَا قَدَّمُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبَّابٍ فَذَبَحُوهُ، وَجَاءُوا إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ حُبْلَى أَلَا تَتَّقُونَ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ ! فَذَبَحُوهَا وَبَقَرُوا بَطْنَهَا عَنْ وَلَدِهَا، فَلَمَّا بَلَغَ النَّاسَ هَذَا مِنْ صَنِيعِهِمْ، خَافُوا إِنْ هُمْ ذَهَبُوا إِلَى الشَّامِ وَاشْتَغَلُوا بِقِتَالٍ أَنْ يَخْلُفَهُمْ هَؤُلَاءِ فِي ذَرَارِيِّهِمْ وَدِيَارِهِمْ وَيَفْعَلُوا هَذَا الصَّنِيعَ، فَخَافُوا غَائِلَتَهُمْ، وَأَشَارُوا عَلَى عَلِيٍّ بِأَنْ يَبْدَأَ بِهِمْ، ثُمَّ إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ سَارُوا مَعَهُ إِلَى الشَّامِ، وَالنَّاسُ آمِنُونَ مِنْ شَرِّهِمْ، فَاجْتَمَعَ الرَّأْيُ عَلَى هَذَا وَفِيهِ خِيَرَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُمْ وَلِأَهْلِ الشَّامِ أَيْضًا ; إِذْ لَوْ قَوُوا هَؤُلَاءِ لَأَفْسَدُوا الْأَرْضَ كُلَّهَا عِرَاقًا وَشَامًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا طِفْلًا

وَلَا طِفْلَةَ وَلَا رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً ; لِأَنَّ النَّاسَ عِنْدَهُمْ قَدْ فَسَدُوا فَسَادًا لَا يُصْلِحُهُمْ إِلَّا الْقَتْلُ جُمْلَةً. فَأَرْسَلَ عَلِيٌّ إِلَيْهِمُ الْحَارِثَ بْنَ مُرَّةَ الْعَبْدِيَّ، وَقَالَ لَهُ: اخْبُرْ لِي خَبَرَهُمْ، وَاعْلَمْ لِي أَمْرَهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَيَّ بِهِ عَلَى الْجَلِيَّةِ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمُ الْحَارِثُ قَتَلُوهُ وَلَمْ يُنْظِرُوهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا سَارَ إِلَيْهِمْ وَتَرَكَ أَهْلَ الشَّامِ.
[ ذِكْرُ مَسِيرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْخَوَارِجِ

ذِكْرُ مَسِيرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى الْخَوَارِجِ
لَمَّا عَزَمَ عَلِيٌّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ عَلَى الْبَدَاءَةِ بِالْخَوَارِجِ، نَادَى مُنَادِيهِ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ، فَعَبَرَ الْجِسْرَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ عِنْدِهِ، ثُمَّ سَلَكَ عَلَى دَيْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ دَيْرِ أَبِي مُوسَى، ثُمَّ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ، فَلَقِيَهُ هُنَالِكَ مُنَجِّمٌ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِوَقْتٍ مِنَ النَّهَارِ يَسِيرُ فِيهِ وَلَا يَسِيرُ فِي غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ سَارَ فِي غَيْرِهِ يُخْشَى عَلَيْهِ، فَخَالَفَهُ عَلِيٌّ، وَسَارَ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ الْمُنَجِّمُ، وَقَالَ: نَسِيرُ ثِقَةً بِاللَّهِ، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، وَتَكْذِيبًا لِقَوْلِ الْمُنَجِّمِ. فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُبَيِّنَ لِلنَّاسِ خَطَأَهُ وَخَشِيْتُ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: إِنَّمَا ظَفِرَ لِكَوْنِهِ

وَافَقَهُ فِيمَا أَشَارَ بِهِ، فَيُشْرِكُوا بِاللَّهِ غَيْرَهُ.
وَسَلَكَ عَلِيٌّ نَاحِيَةَ الْأَنْبَارِ، وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ الْمَدَائِنَ، وَأَنْ يَلْقَاهُ بِنَائِبِهَا سَعْدِ بْنِ مَسْعُودٍ - وَهُوَ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ - فِي جَيْشِ الْمَدَائِنِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ هُنَالِكَ عَلَى عَلِيٍّ، وَبَعَثَ إِلَى الْخَوَارِجِ أَنِ ادْفَعُوا إِلَيْنَا قَتَلَةَ إِخْوَانِنَا مِنْكُمْ لِنَقْتُلَهُمْ بِهِمْ، ثُمَّ إِنَّا تَارَكُوكُمْ وَذَاهِبُونَ عَنْكُمْ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُقْبِلَ بِقُلُوبِكُمْ، وَيَرُدَّكُمْ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ يَقُولُونَ: كُلُّنَا قَتَلَ إِخْوَانَكُمْ، وَنَحْنُ مُسْتَحِلُّونَ دِمَاءَهُمْ وَدِمَاءَكُمْ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَوَعَظَهُمْ فِيمَا هُمْ مُرْتَكِبُوهُ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَطْبِ الْجَسِيمِ فَلَمْ يَنْفَعْ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ ; أَنَّبَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ، فَلَمْ يَنْجَعْ فِيهِمْ، وَتَقَدَّمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَيْهِمْ، فَوَعَظَهُمْ وَخَوَّفَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ وَتَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ عَلَيَّ أَمْرًا أَنْتُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهِ وَأَبَيْتُمْ إِلَّا إِيَّاهُ، فَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَلَمْ تَقْبَلُوا، وَهَا أَنَا وَأَنْتُمْ فَارْجِعُوا إِلَى مَا خَرَجْتُمْ مِنْهُ، وَلَا تَرْكَبُوا مَحَارِمَ اللَّهِ فَإِنَّكُمْ قَدْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا تَقْتُلُونَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمِينَ، وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتُمْ عَلَيْهِ دَجَاجَةً لَكَانَ عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؟ !

فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ إِلَّا أَنْ تَبَادَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ لَا تُخَاطِبُوهُمْ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ وَتَهَيَّئُوا لِلِقَاءِ الرَّبِّ، عَزَّ وَجَلَّ، الرَّوَاحَ الرَّوَاحَ إِلَى الْجَنَّةِ ! وَتَقَدَّمُوا فَاصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ، وَتَأَهَّبُوا لِلنِّزَالِ، فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ زَيْدَ بْنَ حُصَيْنٍ الطَّائِيَّ السِّنْبِسِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ شُرَيْحَ بْنَ أَوْفَى، وَعَلَى خَيَّالَتِهِمْ حَمْزَةَ بْنَ سِنَانٍ، وَعَلَى الرَّجَّالَةِ حُرْقُوصَ بْنَ زُهَيْرٍ السَّعْدِيَّ، وَوَقَفُوا مُقَاتِلِينَ لِعَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ.
وَجَعَلَ عَلِيٌّ عَلَى مَيْمَنَتِهِ حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ أَوْ مَعْقِلَ بْنَ قَيْسٍ الرِّيَاحِيَّ، وَعَلَى خَيَّالَتِهِ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ، وَعَلَى الرَّجَّالَةِ أَبَا قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ - وَكَانُوا سَبْعَمِائَةٍ - قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَأَمَرَ عَلِيٌّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ أَنْ يَرْفَعَ رَايَةَ أَمَانٍ لِلْخَوَارِجِ، وَيَقُولَ لَهُمْ: مَنْ جَاءَ إِلَى هَذِهِ الرَّايَةِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنِ انْصَرَفَ إِلَى الْكُوفَةِ وَالْمَدَائِنِ فَهُوَ آمِنٌ، إِنَّهُ لَا حَاجَةَ لَنَا فِي دِمَائِكُمْ، إِلَّا فِي مَنْ قَتَلَ إِخْوَانَنَا.
فَانْصَرَفَ مِنْهُمْ طَوَائِفُ كَثِيرُونَ، وَكَانُوا فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا أَلْفٌ - أَوْ أَقَلُّ - مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ الرَّاسِبِيِّ، فَزَحَفُوا إِلَى عَلِيٍّ فَقَدَّمَ عَلِيٌّ بَيَنَ يَدَيْهِ الْخَيْلَ، وَقَدَّمَ مِنْهُمُ الرُّمَاةَ، وَصَفَّ الرَّجَّالَةَ وَرَاءَ الْخَيَّالَةِ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُفُّوا عَنْهُمْ حَتَّى يَبْدَأُوكُمْ. وَأَقْبَلَتِ الْخَوَارِجُ وَهُمْ يَقُولُونَ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، الرَّوَاحَ الرَّوَاحَ إِلَى الْجَنَّةِ ! فَحَمَلُوا عَلَى الْخَيَّالَةِ الَّذِينَ قَدَّمَهُمْ عَلِيٌّ، فَفَرَّقُوهُمْ حَتَّى

أَخَذَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْخَيَّالَةِ إِلَى الْمَيْمَنَةِ، وَأُخْرَى إِلَى الْمَيْسَرَةِ، فَاسْتَقْبَلَتْهُمُ الرُّمَاةُ بِالنَّبْلِ، فَرَمَوْا وُجُوهَهُمْ، وَعَطَفَتْ عَلَيْهِمُ الْخَيَّالَةُ مِنَ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ، وَنَهَضَ إِلَيْهِمُ الرِّجَالُ بِالرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ، فَأَنَامُوا الْخَوَارِجَ، فَصَارُوا صَرْعَى تَحْتَ سَنَابِكِ الْخُيُولِ، وَقُتِلَ أُمَرَاؤُهُمْ ; عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، وَحُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ، وَشُرَيْحُ بْنُ أَوْفَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَجَرَةَ السُّلَمِيُّ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: وَطَعَنْتُ رَجُلًا مِنَ الْخَوَارِجِ بِالرُّمْحِ، فَأَنْفَذْتُهُ مِنْ ظَهْرِهِ، وَقُلْتُ لَهُ: أَبْشِرْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ بِالنَّارِ، فَقَالَ: سَتَعْلَمُ أَيُّنَا أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا.
قَالُوا: وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ إِلَّا سَبْعَةُ نَفَرٍ.
وَجَعَلَ عَلِيٌّ يَمْشِي بَيْنَ الْقَتْلَى مِنْهُمْ وَيَقُولُ: بُؤْسًا لَكُمْ، لَقَدْ ضَرَّكُمْ مَنْ غَرَّكُمْ. فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ غَرَّهُمْ ؟ قَالَ: الشَّيْطَانُ، وَأَنْفُسٌ بِالسُّوءِ أَمَّارَةٌ، غَرَّتْهُمْ بِالْأَمَانِيِّ، وَزَيَّنَتْ لَهُمُ الْمَعَاصِيَ، وَنَبَّأَتْهُمْ أَنَّهُمْ ظَاهِرُونَ. ثُمَّ أَمَرَ بِالْجَرْحَى مِنْ بَيْنِهِمْ فَإِذَا هُمْ أَرْبَعُمِائَةٍ، فَسَلَّمَهُمْ إِلَى قَبَائِلِهِمْ لِيُدَاوُوهُمْ، وَقَسَمَ مَا وَجَدَ مِنْ سِلَاحٍ وَمَتَاعٍ لَهُمْ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِ " الْخَوَارِجِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ الْأَسَدِيُّ وَمَنْصُورُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ، أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُخَمِّسْ مَا أَصَابَ مِنَ الْخَوَارِجِ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ، وَلَكِنْ رَدَّهُ إِلَى

أَهْلِيهِمْ كُلَّهُ، حَتَّى كَانَ آخِرَ ذَلِكَ مِرْجَلٌ أُتِيَ بِهِ فَرَدَّهُ.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي حُرَّةَ، أَنَّ عَلِيًّا خَرَجَ فِي طَلَبِ ذِى الثُّدَيَّةِ، وَمَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ ثُمَامَةَ الْحَنَفِيُّ أَبُو جَبْرَةَ، وَالرَّيَّانُ بْنُ صَبْرَةَ بْنِ هَوْذَةَ، فَوَجَدَهُ الرَّيَّانُ فِي حُفْرَةٍ عَلَى جَانِبِ النَّهْرِ فِي أَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسِينَ قَتِيلًا، قَالَ: فَلَمَّا اسْتُخْرِجَ لَهُ نَظَرَ إِلَى عَضُدِهِ، فَإِذَا لَحْمٌ مُجْتَمِعٌ عَلَى مَنْكِبِهِ كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ، لَهُ حَلَمَةٌ كَحَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ سُودٌ، فَإِذَا مُدَّتِ امْتَدَّتْ حَتَّى تُحَاذِيَ يَدَهُ الْأُخْرَى، ثُمَّ تُتْرَكُ فَتَعُودُ إِلَى مَنْكِبِهِ كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ. فَلَمَّا رَآهُ قَالَ عَلِيٌّ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ تَتَّكِلُوا عَلَى غَيْرِ الْعَمَلِ لَأَخْبَرْتُكُمْ بِمَا قَضَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَنْ قَاتَلَهُمْ مُسْتَبْصِرًا فِي قِتَالِهِمْ عَارِفًا لِلْحَقِّ.

وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ فِي الْخَوَارِجِ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ الْأَحْمَسِيُّ، عَنْ نَافِعِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْأَحْمَسِيِّ، قَالَ: كَانَ ذُو الثُّدَيَّةِ رَجُلًا مِنْ عُرَيْنَةَ مِنْ بَجِيلَةَ، وَكَانَ أَسْوَدَ شَدِيدَ السَّوَادِ، لَهُ رِيحٌ مُنْتِنَةٌ مَعْرُوفٌ فِي الْعَسْكَرِ، يُرَافِقُنَا عَلَى ذَلِكَ وَيُنَازِلُنَا وَنُنَازِلُهُ.
وَحَدَّثَنِي أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْحَنَفِيُّ، عَنِ الرَّيَّانِ بْنِ صِبْرَةَ الْحَنَفِيِّ قَالَ: شَهِدْنَا النَّهْرَوَانَ مَعَ عَلِيٍّ، فَلَمَّا وَجَدَ الْمُخْدَجَ سَجَدَ سَجْدَةً طَوِيلَةً شُكْرًا لِلَّهِ.
وَحَدَّثَنِي سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ يُكَنَّى أَبَا مُوسَى، أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا وَجَدَ الْمُخَدَجَ سَجَدَ.
وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ حَبَّةَ الْعُرَنِيِّ قَالَ: لَمَّا قَتَلَ عَلِيٌّ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ، جَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي قَطَعَ دَابِرَهُمْ. فَقَالَ عَلِيٌّ: كَلَّا وَاللَّهِ إِنَّهُمْ لَفِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ بَيْنِ الشَّرَايِينِ فَقَلَّمَا يُقَاتِلُونَ أَحَدًا إِلَّا

أَلِفُوا أَنْ يَظْهَرُوا عَلَيْهِ. قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ قَدْ قَحِلَتْ مَوَاضِعُ السُّجُودِ مِنْهُ مِنْ شِدَّةِ اجْتِهَادِهِ وَكَثْرَةِ سُجُودِهِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْمَنْقَبَاتِ.
وَرَوَى الْهَيْثَمُ عَنْ بَعْضِ الْخَوَارِجِ أَنَّهُ قَالَ: مَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ مِنْ بَغْضَتِهِ لِعَلِيٍّ يُسَمِّيهِ إِلَّا الْجَاحِدَ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ عَنْ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ أَمُشْرِكُونَ هُمْ ؟ فَقَالَ: مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا. قِيلَ: أَفَمُنَافِقُونَ هُمْ ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. فَقِيلَ: فَمَا هُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا فَقَاتَلْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ عَلَيْنَا. هَذَا مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.

وَلِنَذْكُرِ الْآنَ مَا وَرَدَ فِيهِمْ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَوَاهُ عَنْهُ زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ، وَسُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ، وَطَارِقُ بْنُ زِيَادٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، وَعَبِيدَةُ بْنُ عَمْرٍو السُّلْمَانِيُّ، وَكُلَيْبٌ أَبُو عَاصِمٍ، وَأَبُو كَثِيرٍ، وَأَبُو مَرْيَمَ، وَأَبُو مُوسَى، وَأَبُو وَائِلٍ، وَأَبُو الْوَضِيءِ، فَهَذِهِ اثْنَا عَشْرَةَ طَرِيقًا إِلَيْهِ، سَتَرَاهَا بِأَسَانِيدِهَا وَأَلْفَاظِهَا، وَمِثْلُ هَذَا يَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ.
الطَّرِيقُ الْأُولَى: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: ثَنَا أَبُو يُوسُفَ، أَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي غَنِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتِ الْخَوَارِجُ بِالنَّهْرَوَانِ، قَامَ عَلِيٌّ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ، وَأَغَارُوا عَلَى سَرْحِ النَّاسِ، وَهُمْ أَقْرَبُ الْعَدُوِّ إِلَيْكُمْ، فَإِنْ تَسِيرُوا إِلَى عَدُوِّكُمْ، فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَخْلُفَكُمْ هَؤُلَاءِ فِي أَعْقَابِكُمْ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: تَخْرُجُ خَارِجَةٌ مِنْ أُمَّتِي لَيْسَ صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَأُونَ

الْقُرْآنُ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ. وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ وَلَيْسَ لَهَا ذِرَاعٌ، عَلَيْهَا مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ بِيضٌ، لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ لَاتَّكَلُوا عَلَى الْعَمَلِ، فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. هَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ إِلَى هُنَا.
قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي " صَحِيحِهِ ": حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، ثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ الْجُهَنِيُّ، أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارِجِ، فَقَالَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ، يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ. لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَاتَّكَلُوا عَلَى الْعَمَلِ، وَآيَةُ

ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ لَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ، عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ،فَتَذْهَبُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ وَتَتْرُكُونَ هَؤُلَاءِ يَخْلُفُونَكُمْ فِي ذَرَارِيِّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ، وَأَغَارُوا فِي سَرْحِ النَّاسِ، فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ.
قَالَ سَلَمَةُ: فَنَزَّلَنِي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ مَنْزِلًا مَنْزِلًا، حَتَّى قَالَ: مَرَرْنَا عَلَى قَنْطَرَةٍ. فَلَمَّا الْتَقَيْنَا، وَعَلَى الْخَوَارِجِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِيُّ، فَقَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا الرِّمَاحَ، وَسُلُّوا سُيُوفَكُمْ مِنْ جُفُونِهَا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُنَاشِدُوكُمْ كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ. فَرَجَعُوا فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ، وَسَلَّوُا السُّيُوفَ، فَشَجَرَهُمُ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ. قَالَ: وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَمَا أُصِيبَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلَّا رَجُلَانِ، قَالَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْتَمِسُوا فِيهِمُ الْمُخْدَجَ. فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَامَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِنَفْسِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا

قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: أَخِّرُوهُمْ. فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ، فَكَبَّرَ، قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ، وَبَلَّغَ رَسُولُهُ. قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ عَبِيدَةُ السُّلْمَانِيُّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَاسْتَحْلَفَهُ ثَلَاثًا، وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ. هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْخَلَّالِ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، بِنَحْوِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا الْأَعْمَشُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ

أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ; فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، وَحَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْهَمْدَانِيُّ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ طَارِقِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: سَارَ عَلِيٌّ إِلَى النَّهْرَوَانِ - قَالَ الْوَلِيدُ فِي رِوَايَتِهِ: وَخَرَجْنَا مَعَهُ - فَقَتَلَ الْخَوَارِجَ، فَقَالَ: اطْلُبُوا الْمُخْدَجَ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: سَيَجِيءُ قَوْمٌ يَتَكَلَّمُونَ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ لَا تُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ، سِيمَاهُمْ، أَوْ فِيهِمْ، رَجُلٌ أَسْوَدُ مُخْدَجُ الْيَدِ، فِي يَدِهِ شَعَرَاتٌ سُودٌ. إِنْ كَانَ فِيهِمْ فَقَدْ قَتَلْتُمْ شَرَّ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ فَقَدْ قَتَلْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ. قَالَ الْوَلِيدُ فِي رِوَايَتِهِ: فَبَكَيْنَا. قَالَ: ثُمَّ إِنَّا وَجَدْنَا الْمُخْدَجَ. قَالَ: فَخَرَرْنَا سُجُودًا، وَخَرَّ عَلِيٌّ سَاجِدًا مَعَنَا. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

طَرِيقٌ أُخْرَى: رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ عَلِيٍّ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا إِيرَادُهُ بِطُولِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَا: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ ; مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ، وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالُوا: لَا حَكْمَ إِلَّا لِلَّهِ. قَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَفَ نَاسًا، إِنِّي لَأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لَا يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ، وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ، مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، مِنْهُمْ أَسْوَدُ إِحْدَى يَدَيْهِ طُبْيُ شَاةٍ، أَوْ حَلَمَةُ ثَدْيٍّ ". فَلَمَّا قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: انْظُرُوا. فَنَظَرُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، فَقَالَ: ارْجِعُوا فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ وَجَدُوهُ فِي خَرِبَةٍ، فَأَتَوْا بِهِ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: وَأَنَا حَاضِرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ،

وَقَوْلِ عَلِيٍّ فِيهِمْ. زَادَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ بُكَيْرٌ: وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ، عَنِ ابْنِ حُنَيْنٍ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ ذَلِكَ الْأَسْوَدَ. تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلِمٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: ذُكِرَ الْخَوَارِجُ، فَقَالَ: فِيهِمْ مُخْدَجُ الْيَدِ، أَوْ مَثْدُونُ الْيَدِ، أَوْ قَالَ: مَوْدُنُ الْيَدِ، لَوْلَا أَنْ تَبْطَرُوا لَحَدَّثْتُكُمْ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عَبِيدَةُ: قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، سَمِعَاهُ عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَخْرُجُ قَوْمٌ فِيهِمْ رَجُلٌ مُودَنُ الْيَدِ، أَوْ مَثْدُونُ الْيَدِ، أَوْ مُخْدَجُ الْيَدِ، وَلَوْلَا أَنْ تَبْطَرُوا لَأَنْبَأْتُكُمْ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عَبِيدَةُ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ: إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا يَزِيدُ، ثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبِيدَةَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ

لِأَهْلِ النَّهْرَوَانِ: فِيهِمْ رَجُلٌ مَثْدُونُ الْيَدِ، أَوْ مُودَنُ الْيَدِ، أَوْ مُخْدَجُ الْيَدِ، وَلَوْلَا أَنْ تَبْطَرُوا لَأَخْبَرْتُكُمْ مَا قَضَى اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَنْ قَتَلُهُمْ. قَالَ عَبِيدَةُ: فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ ؟ قَالَ: إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. يَحْلِفُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ عَبِيدَةُ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ مِنْهُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: فَحَلَفَ لَنَا عَبِيدَةُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَحَلَفَ لَهُ عَلِيٌّ، قَالَ: قَالَ: لَوْلَا أَنْ تَبْطَرُوا لَأَنْبَأْتُكُمْ مَا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: قُلْتُ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ ؟ قَالَ: إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، إِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فِيهِمْ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ، أَوْ مَثْدُونُ الْيَدِ، أَحْسَبُهُ قَالَ: أَوْ مُودَنُ الْيَدِ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ.
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ تُفِيدُ الْقَطْعَ عِنْدَ كَثِيرِينَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ

سِيرِينَ، وَقَدْ حَلَفَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ عَبِيدَةَ، وَحَلَفَ عَبِيدَةُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ عَلِيٍّ، وَحَلَفَ عَلِيٌّ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْقَالَ عَلِيٌّ: لَأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ أَبُو مَعْمَرٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، ثَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَلِيٍّ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابُ السَّفَرِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَى عَلِيٍّ وَهُوَ يُكَلِّمُ النَّاسَ، فَشُغِلَ عَنْهُ فَقَالَ عَلِيٌّ:إِنِّي دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ فَقَالَ لِي: " كَيْفَ أَنْتَ وَقَوْمُ كَذَا وَكَذَا ؟ ". فَقُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَقَالَ: " قَوْمٌ يَخْرُجُونَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فِيهِمْ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ، كَأَنَّ يَدَهُ ثَدْيُ حَبَشِيَّةٍ ". أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، هَلْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّهُ فِيهِمْ ؟ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ.
ثُمَّ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَإِسْنَادُهُ

جَيِّدٌ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: أَخْبَرْنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْأَزْهَرِيُّ، أَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَكَّائِيُّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيُّ، أَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، أَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مَيْسَرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ: قَالَ عَلِيٌّ حِينَ فَرَغْنَا مِنَ الْحَرُورِيَّةِ: إِنَّ فِيهِمْ رَجُلًا مُخْدَجًا لَيْسَ فِي عَضُدِهِ عَظْمٌ، ثُمَّ عَضُدُهُ كَحَلَمَةِ الثَّدْيِ ; عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ - طِوَالٌ عُقْفٌ. فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ عَلِيًّا جَزِعَ جَزَعًا أَشَدَّ مِنْ جَزَعِهِ يَوْمَئِذٍ. فَقَالُوا: مَا نَجِدُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: وَيْلَكُمُ، مَا اسْمُ هَذَا الْمَكَانِ ؟ قَالُوا:النَهْرَوَانُ. قَالَ: كَذَبْتُمْ إِنَّهُ لَفِيهِمْ. فَثَوَّرْنَا الْقَتْلَى فَلَمْ نَجِدْهُ، فَعُدْنَا إِلَيْهِ، فَقُلْنَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا وَجَدْنَاهُ. قَالَ: مَا اسْمُ هَذَا الْمَكَانِ ؟ قُلْنَا: النَّهْرَوَانُ. قَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَكَذَبْتُمْ، إِنَّهُ لَفِيهِمْ، فَالْتَمِسُوهُ. فَالْتَمَسْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ فِي سَاقِيَةٍ، فَجِئْنَا بِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى عَضُدِهِ ; لَيْسَ فِيهَا عَظْمٌ، وَعَلَيْهَا كَحَلَمَةِ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ طِوَالٌ عُقْفٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، ثَنَا

إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيُّ، ثَنَا أَبُو كَثِيرٍ مَوْلَى الْأَنْصَارِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَيِّدِي مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَيْثُ قُتِلَ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ، فَكَأَنَّ النَّاسَ وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ قَتْلِهِمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ حَدَّثَنَا بِأَقْوَامٍ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُونَ فِيهِ أَبَدًا، حَتَّى يَرْجِعَ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ، وَإِنَّ آيَةَ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا أَسْوَدَ مُخْدَجَ الْيَدِ، إِحْدَى يَدَيْهِ كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ، لَهَا حَلَمَةٌ كَحَلَمَةِ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، حَوْلَهُ سَبْعُ هَلَبَاتٍ، فَالْتَمِسُوهُ فَإِنِّي أُرَاهُ فِيهِمْ. فَالْتَمَسُوهُ، فَوَجَدُوهُ إِلَى شَفِيرِ النَّهْرِ تَحْتَ الْقَتْلَى، فَأَخْرَجُوهُ فَكَبَّرَ عَلِيٌّ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَإِنَّهُ لَمُتَقَلِّدٌ قَوْسًا لَهُ عَرَبِيَّةً، فَأَخَذَهَا بِيَدِهِ، فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِهَا فِي مُخْدَجَتِهِ وَيَقُولُ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَكَبَّرَ النَّاسُ حِينَ رَأَوْهُ وَاسْتَبْشَرُوا، وَذَهَبَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَجِدُونَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، ثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنِي نُعَيْمُ بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنِي أَبُو مَرْيَمَ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( إِنَّ قَوْمًا يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ، عَلَامَتُهُمْ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ ": حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، عَنْ

نُعَيْمِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: إِنْ كَانَ ذَاكَ الْمُخْدَجُ لَمَعَنَا يَوْمَئِذٍ فِي الْمَسْجِدِ، نُجَالِسُهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَكَانَ فَقِيرًا، وَرَأَيْتُهُ مَعَ الْمَسَاكِينِ يَشْهَدُ طَعَامَ عَلِيٍّ مَعَ النَّاسِ، وَقَدْ كَسَوْتُهُ بُرْنُسًا لِي. قَالَ أَبُو مَرْيَمَ: وَكَانَ الْمُخْدَجُ يُسَمَّى نَافِعًا ذَا الثُّدَيَّةِ، وَكَانَ فِي يَدِهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، عَلَى رَأْسِهِ حَلَمَةٌ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ مِثْلُ سَبَالَةِ السِّنَّوْرِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ ": أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ، أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ شَوْذَبٍ الْمُقْرِئُ الْوَاسِطِيُّ بِهَا، ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبَ، ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ - الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ - عَنْ سُفْيَانَ ; هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى ; رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ فَجَعَلَ يَقُولُ: الْتَمِسُوا الْمُخْدَجَ، فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ. قَالَ: فَأَخَذَ يَعْرَقُ وَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ. فَوَجَدُوهُ فِي نَهَرٍ أَوْ دَالِيَةٍ، فَسَجَدَ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ

مَعْمَرٍ، ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، ثَنَا سُوَيْدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْعِجْلِيُّ، ثَنَا أَبُو مُؤْمِنٍ، قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ قُتِلَ الْحَرُورِيَّةُ وَأَنَا مَعَ مَوْلَايَ، فَقَالَ: انْظُرُوا فَإِنَّ فِيهِمْ رَجُلًا إِحْدَى يَدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، وَأَخْبَرَنِي النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنِّي صَاحِبُهُ. فَقَلَّبُوا الْقَتْلَى فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَقَالُوا: سَبْعَةُ نَفَرٍ تَحْتَ النَّخْلَةِ لَمْ نُقَلِّبْهُمْ بَعْدُ. فَقَالَ: وَيَلْكُمُ انْظُرُوا. قَالَ أَبُو مُؤْمِنٍ: فَرَأَيْتُ فِي رِجْلَيْهِ حَبْلَيْنِ يَجُرُّونَهُ بِهِمَا حَتَّى أَلْقَوْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَخَرَّ عَلِيٌّ سَاجِدًا وَقَالَ: أَبْشِرُوا، قَتْلَاكُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ رَوَى أَبُو مُؤْمِنٍ عَنْ عَلِيٍّ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ، سَمِعْتُ أَبَا سِنَانٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: قُلْتُ لِشَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ - يَعْنِي أَبَا وَائِلٍ: حَدِّثْنِي عَنْ ذِي الثُّدَيَّةِ. قَالَ: لَمَّا قَاتَلْنَاهُمْ قَالَ عَلِيٌّ: اطْلُبُوا رَجُلًا عَلَامَتُهُ كَذَا وَكَذَا. فَطَلَبْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ، فَبَكَى عَلِيٌّ وَقَالَ: اطْلُبُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ. قَالَ: فَطَلَبْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ، فَبَكَى وَقَالَ: اطْلُبُوهُ فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ. قَالَ: فَطَلَبْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ قَالَ: وَرَكِبَ بَغْلَتَهُ الشَّهْبَاءَ، فَطَلَبْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ تَحْتَ بَرْدِيٍّ، فَلَمَّا رَآهُ سَجَدَ. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ رَوَى

حَبِيبٌ عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَلِيٍّ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، ثَنَا جَمِيلُ بْنُ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْوَضِيءِ قَالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا حَيْثُ قُتِلَ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ، قَالَ: الْتَمِسُوا الْمُخْدَجَ. فَطَلَبُوهُ فِي الْقَتْلَى، فَقَالُوا: لَيْسَ نَجِدُهُ. فَقَالَ: ارْجِعُوا فَالْتَمِسُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ. فَرَجَعُوا فَطَلَبُوهُ، فَرَدَّدَ ذَلِكَ مِرَارًا، كُلُّ ذَلِكَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ: مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ. فَانْطَلَقُوا فَوَجَدُوهُ تَحْتَ الْقَتْلَى فِي طِينٍ، فَاسْتَخْرَجُوهُ، فَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ أَبُو الْوَضِيءِ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ: حَبَشِيٌّ عَلَيْهِ ثَدْيٌ قَدْ طَبَّقَ إِحْدَى يَدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ مِثْلُ شَعَرَاتٍ تَكُونُ عَلَى ذَنَبِ الْيَرْبُوعِ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ حِسَابٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، ثَنَا جَمِيلُ بْنُ مُرَّةَ، ثَنَا أَبُو الْوَضِيءِ، وَاسْمُهُ عَبَّادُ بْنُ نُسَيْبٍ، وَلَكِنَّهُ اخْتَصَرَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الشَّاعِرُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، أَنَّ أَبَا الْوَضِيءِ عَبَّادًا حَدَّثَهُ

أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا عَامِدِينَ إِلَى الْكُوفَةِ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا بَلَغْنَا مَسِيرَةَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ مِنْ حَرُورَاءَ، شَذَّ مِنَّا نَاسٌ كَثِيرٌ، فَذَكْرَنَا ذَلِكَ لِعَلِيٍّ فَقَالَ: لَا يَهُولَنَّكُمْ أَمْرُهُمْ، فَإِنَّهُمْ سَيَرْجِعُونَ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ: إِنَّ خَلِيلِي أَخْبَرَنِي أَنَّ قَائِدَ هَؤُلَاءِ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ، عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِهِ شَعَرَاتٌ كَأَنَّهُنَّ ذَنَبُ الْيَرْبُوعِ. فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأَتَيْنَاهُ فَقُلْنَا: إِنَّا لَمْ نَجِدْهُ فَقَالَ: فَالْتَمِسُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ - ثَلَاثًا. فَقُلْنَا: لَمْ نَجِدْهُ. فَجَاءَ عَلِيٌّ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: اقْلِبُوا ذَا، اقْلِبُوا ذَا، حَتَّى جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَقَالَ: هُوَ ذَا. فَقَالَ عَلِيٌّ: اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا يَأْتِيكُمْ أَحَدٌ يُخْبِرُكُمْ مَنْ أَبُوهُ ؟ فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا مَالِكٌ، هَذَا مَالِكٌ. فَيَقُولُ عَلِيٌّ. ابْنُ مَنْ هُوَ ؟
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ أَيْضًا: حَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، أَنَّ أَبَا الْوَضِيءِ عَبَّادًا حَدَّثَهُ قَالَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا عَامِدِينَ إِلَى الْكُوفَةِ مَعَ عَلِيٍّ، فَذَكَرَ حَدِيثَ الْمُخْدَجِ، قَالَ عَلِيٌّ: فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ - ثَلَاثًا -. ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: أَمَا إِنَّ خَلِيلِي أَخْبَرَنِي بِثَلَاثَةِ إِخْوَةٍ مِنَ الْجِنِّ، هَذَا أَكْبُرُهُمْ، وَالثَّانِي لَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَالثَّالِثُ فِيهِ

ضَعْفٌ. وَهَذَا السِّيَاقُ فِيهِ غَرَابَةٌ شَدِيدَةٌ جِدًّا. وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذُو الثُّدَيَّةِ مِنَ الْجِنِّ، بَلْ هُوَ مِنَ الشَّيَاطِينِ ; إِمَّا شَيَاطِينِ الْإِنْسِ، أَوْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ. إِنْ صَحَّ هَذَا السِّيَاقُ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ طُرُقٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ عَلِيٍّ إِذْ قَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، عَنْ جَمَاعَةٍ مُتَبَايِنَةٍ لَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، فَأَصْلُ الْقِصَّةِ مَحْفُوظٌ - وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ وَقَعَ فِيهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الرُّوَاةِ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهَا وَأَصْلَهَا الَّذِي تَوَاطَأَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَيْهِ صَحِيحٌ لَا يُشَكُّ فِيهِ - عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ صِفَةِ الْخَوَارِجِ، وَصِفَةِ ذِي الثُّدَيَّةِ الَّذِي هُوَ عَلَامَةٌ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرِ عَلِيٍّ كَمَا سَتَرَاهَا بِأَسَانِيدِهَا وَأَلْفَاظِهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
فَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ; مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَرَافِعُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَعَائِشَةُ - أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ -

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا حَدِيثَ عَلِيٍّ بِطُرُقِهِ ; لِأَنَّهُ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَحَدُ أَصْحَابِ الشُّورَى، وَصَاحِبُ الْقِصَّةِ، وَلْنَذْكُرْ بَعْدَهُ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ ; لِتَقَدُّمِ وَفَاتِهِ عَلَى وَقْعَةِ الْخَوَارِجِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، أَحْدَاثٌ - أَوْ قَالَ: حُدَثَاءُ - الْأَسْنَانِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ النَّاسِ، يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، لَا يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَمَنْ أَدْرَكَهُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ.
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ابْنُ مَسْعُودٍ مَاتَ قَبْلَ ظُهُورِ الْخَوَارِجِ بِنَحْوٍ مَنْ خَمْسِ سِنِينَ، فَحَدِيثُهُ

فِي ذَلِكَ مِنْ أَقْوَى الِاعْتِضَادِ.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، ثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، ثَنَا أَنَسٌ قَالَ: ذُكِرَ لِي أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ - وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ -:إِنَّ فِيكُمْ قَوْمًا يَتَعَبَّدُونَ، وَيَدْأَبُونَ حَتَّى يُعْجِبُوا النَّاسَ وَتُعْجِبُهُمْ أَنْفُسُهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، قَالَ أَحْمَدُ: وَقَدْ حَدَّثَنَاهُ أَبُو الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ: عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ رَجَعَ، أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي اخْتِلَافٌ وَفُرْقَةٌ ; قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ، يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى يَرْتَدَّ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ، يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا

سِيمَاهُمْ ؟ قَالَ: " التَّحْلِيقُ "
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ "، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيِّ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَمُبَشِّرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْحَلَبِيِّ، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَنَسٍ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ وَحْدَهُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، حَدِيثًا فِي الْخَوَارِجِ، قَرِيبًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ. إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَامَ الْجِعْرَانَةِ وَهُوَ يَقْسِمُ فِضَّةً فِي ثَوْبِ بِلَالٍ لِلنَّاسِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ. فَقَالَ: " وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدَلْ ؟ ! لَقَدْ خِبْتُ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ ". فَقَالَ: عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَقْتُلْ هَذَا الْمُنَافِقَ. فَقَالَ: " مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي

أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، أَوْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ ".
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: بَصُرَ عَيْنِي وَسَمِعَ أُذُنِي رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْجِعْرَانَةِ وَفِي ثَوْبِ بِلَالٍ فِضَّةٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقْبِضُهَا لِلنَّاسِ يُعْطِيهِمْ، فَقَالَ رَجُلٌ: اعْدِلْ. فَقَالَ: " وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ ؟ ! ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَقْتُلْ هَذَا الْمُنَافِقَ الْخَبِيثَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَعَاذَ اللَّهِ، أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ".
ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ مُعَانِ بْنِ رَفَاعَةَ، ثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:لَمَّا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَنَائِمَ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ، قَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ: " وَيْلَكَ ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ ! لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ ". قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ

أَلَا أَقُومُ فَأَقْتُلُ هَذَا الْمُنَافِقَ ؟ قَالَ: " مَعَاذَ اللَّهِ، أَنْ يَتَسَامَعَ الْأُمَمُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابًا لَهُ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ الْمَرْمَاةُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ". قَالَ مُعَانٌ: فَقَالَ لِي أَبُو الزُّبَيْرِ: فَعَرَضْتُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الزُّهْرِيِّ فَمَا خَالَفَنِي، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: النَّضِيُّ. وَقُلْتُ: الْقِدْحُ. فَقَالَ: أَلَسْتَ رَجُلًا عَرَبِيًّا ؟.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، بِهِ بِنَحْوِهِ.
حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ، سَيَأْتِي مَعَ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أُهَيْبٍ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ

أَبِي وَقَّاصٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، ثَنَا سُفْيَانُ ; هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الطُّفَيْلِ يُحَدِّثُ عَنْ بَكْرِ بْنِ قِرْوَاشٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ:ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَا الثُّدَيَّةِ فَقَالَ: شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ، كَرَاعِي الْخَيْلِ يَحْتَدِرُهُ رَجُلٌ مِنْ بَجِيلَةَ ; يُقَالُ لَهُ: الْأَشْهَبُ أَوِ ابْنِ الْأَشْهَبِ، عَلَامَةٌ فِي قَوْمٍ ظَلَمَةٍ. قَالَ سُفْيَانُ: فَأَخْبَرَنِي عَمَّارٌ الدُّهْنِيُّ، أَنَّهُ جَاءَ بِهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْأَشْهَبُ، أَوِ ابْنُ الْأَشْهَبِ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ مُخْتَصَرًا، وَلَفْظُهُ: " شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ يَحْتَدِرُهُ ". يَعْنِي رَجُلًا مِنْ بَجِيلَةَ. انْفَرَدَ بِهِ

أَحْمَدُ. وَحَكَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ بِذِكْرِ بَكْرِ بْنِ قِرْوَاشٍ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَامِدٍ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: قَتَلَ عَلِيٌّ شَيْطَانَ الرَّدْهَةِ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: يُرِيدُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَتَلَهُ أَصْحَابُ عَلِيٍّ بِأَمْرِهِ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: بَلَغَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَتَلَ الْخَوَارِجَ، فَقَالَ: قَتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ شَيْطَانَ الرَّدْهَةِ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ; سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَهُ طَرُقٌ عَنْهُ:
الْأُولَى مِنْهَا: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عِيسَى ثَنَا جَامِعُ بْنُ مَطَرٍ الْحَبَطِيُّ، ثَنَا أَبُو رُؤْبَةَ شَدَّادُ بْنُ عِمْرَانَ الْقَيْسِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ

الْخُدْرِيِّأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي مَرَرْتُ بِوَادِي كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا رَجُلٌ مُتَخَشِّعٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ يُصَلِّي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اذْهَبْ إِلَيْهِ فَاقْتُلْهُ ". قَالَ: فَذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فَلَمَّا رَآهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ كَرِهَ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِعُمَرَ: " اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ ". فَذَهَبَ عُمَرُ فَرَآهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ الَّتِي رَآهُ أَبُو بَكْرٍ، فَكَرِهَ أَنْ يَقْتُلَهُ فَرَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّي مُتَخَشِّعًا فَكَرِهْتُ أَنْ أَقْتُلَهُ. قَالَ: " يَا عَلِيُّ اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ ". فَذَهَبَ عَلِيٌّ فَلَمْ يَرَهُ، فَرَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ أَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ فِي فُوقِهِ ; فَاقْتُلُوهُمْ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ "، مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبُو يَعْلَى، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ يُونُسَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، وَعَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، نَحْوًا مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ،

وَأَطْوَلَ مِنْهَا وَفِيهَا زِيَادَاتٌ أُخَرُ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ الْمَشْرِقِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ: ( قَوْمٌ يَخْرُجُونَ عَلَى فِرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٍ، يَقْتُلُهُمْ أَقْرَبُ الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ. أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، كَمَا سَيَأْتِي فِي تَرْجَمَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.
الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، ثَنَا عَاصِمُ بْنُ شُمَيْخٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا حَلَفَ فَاجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ، لَيَخْرُجَنَّ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي تَحْقِرُونَ أَعْمَالَكُمْ عِنْدَ أَعْمَالِهِمْ، يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ". قَالُوا: فَهَلْ مِنْ عَلَامَةٍ يُعْرَفُونَ بِهَا ؟ قَالَ: " فِيهِمْ رَجُلٌ ذُو يُدَيَّةٍ - أَوْ ثُدَيَّةٍ - مُحَلِّقِي رُءُوسِهِمْ ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَحَدَّثَنِي عِشْرُونَ أَوْ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِيَ قَتْلَهُمْ. قَالَ: فَرَأَيْتُ أَبَا سَعِيدٍ بَعْدَمَا كَبُرَ وَيَدَاهُ تَرْتَعِشُ يَقُولُ: قِتَالُهُمْ أَحَلُّ

عِنْدِي مِنْ قِتَالِ عِدَّتِهِمْ مِنَ التُّرْكِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، بِهِ.
الطَّرِيقُ الرَّابِعُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:بَعَثَ عَلِيٌّ وَهُوَ بِالْيَمَنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِذُهَيْبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ - ثُمَّ أَحَدِ بَنِي مُجَاشِعٍ - وَبَيْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ، وَبَيْنَ عَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيِّ - ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ - وَبَيْنَ زَيْدِ الْخَيْرِ الطَّائِيِّ - ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ - قَالَ: فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ، قَالُوا: يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا ؟ قَالَ: " إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ ". قَالَ: فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبِينِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اتَّقِ اللَّهَ. فَقَالَ: " مَنْ يُطِيعُ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُهُ ! يَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَا تَأْمَنُونِي ؟ ! ". قَالَ: فَسَأَلَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ قَتْلَهُ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، - أُرَاهُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ - فَمَنَعَهُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: " إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، مِنْ

حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَفِيهِ الْجَزْمُ بِأَنَّ خَالِدًا سَأَلَ أَنْ يَقْتُلَ ذَلِكَ الرَّجُلَ، وَلَا يُنَافِي سُؤَالَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَهُوَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ شُبْرُمَةَ، وَقَالَ فِيهِ: إِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ".
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ وَنَسْلِهِ ; لِأَنَّ الْخَوَارِجَ الَّذِينَ ذَكَرْنَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ سُلَالَةٍ هَذَا، بَلْ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْهُمْ مِنْ نَسْلِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: " مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا ". أَيْ مِنْ شَكْلِهِ وَعَلَى صِفَتِهِ فِعْلًا وَقَوْلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الشَّكْلُ وَهَذِهِ الصِّفَةُ كَثِيرَةٌ فِي النَّاسِ جِدًّا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ، فِي قُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِمْ، لِمَنْ تَأَمَّلَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ هُوَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ، وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ: حُرْقُوصًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الطَّرِيقُ الْخَامِسُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يُخْرَجُ أُنَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ

كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ ". قِيلَ: مَا سِيمَاهُمْ ؟ قَالَ: " سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ، وَالتَّسْبِيدُ ". وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ بِهِ.
الطَّرِيقُ السَّادِسُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَجِيحٍ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي سَعِيدٍ: إِنَّ مِنَّا رِجَالًا هُمْ أَقْرَؤُنَا لِلْقُرْآنِ، وَأَكْثَرُنَا صَلَاةً، وَأَوْصَلُنَا لِلرَّحِمِ، وَأَكْثَرُنَا صَوْمًا، خَرَجُوا عَلَيْنَا بِأَسْيَافِهِمْ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: يَخْرُجُ قَوْمٌ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَلَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ ; رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَسُوَيْدُ بْنُ نَجِيحٍ هَذَا مَسْتُورٌ.
الطَّرِيقُ السَّابِعُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقْسِمُ قَسَمًا إِذْ جَاءَهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

فَقَالَ: " وَيْلَكَ ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ ؟ ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْذَنُ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ ؟ فَقَالَ: دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَيَنْظُرُ فِي قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي نَضِيِّهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي رِصَافِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى يَدَيْهِ - أَوْ قَالَ: إِحْدَى ثَدْيَيْهِ - مِثْلَ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلَ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ النَّاسِ ". فَنَزَلَتْ فِيهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ الْآيَةَ [ التَّوْبَةِ: 58 ]. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيًّا حِينَ قَتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ جِيءَ بِالرَّجُلِ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبٍ،

وَمُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ حَرْمَلَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ; كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَالضَّحَّاكِ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَالضَّحَّاكِ الْمَشْرِقِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَفِيهِ أَنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَتْلِهِ، وَفِيهِ: يَخْرُجُونَ عَلَى فِرْقَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ، يَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِاللَّهِ ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنِّي شَهِدْتُ عَلِيًّا حِينَ قَتَلَهُمْ فَالْتُمِسَ فِي الْقَتْلَى فَوُجِدَ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ دُحَيْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ كَذَلِكَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ

عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَأَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ، يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْقِدْحِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلَا يَرَى شَيْئًا، وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: حَدَّثَنَا بِهِ مَالِكٌ ; يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ بِهِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ: هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَذْكُرُ فِي الْحَرُورِيَّةِ شَيْئًا ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ قَوْمًا يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ، يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ عِنْدَ صَلَاتِهِمْ، وَصَوْمَهُ عِنْدَ صَوْمِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، أَخَذَ سَهْمَهُ فَنَظَرَ فِي نَصْلِهِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ نَظَرَ فِي رِصَافِهِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ نَظَرَ فِي الْقُذَذِ فَتَمَارَى، هَلْ يَرَى شَيْئًا أَمْ لَا. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ،

عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِهِ.
الطَّرِيقُ الثَّامِنُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَ قَوْمًا يَكُونُونَ فِي أُمَّتِهِ يَخْرُجُونَ فِي فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ، أَوْ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ، تَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ مِنَ الْحَقِّ. قَالَ: فَضَرَبَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَهُمْ مَثَلًا - أَوْ قَالَ قَوْلًا - " الرَّجُلُ يَرْمِي الرَّمِيَّةَ - أَوْ قَالَ: الْغَرَضَ - فَيَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلَا يَرَى بَصِيرَةً، وَيَنْظُرُ فِي النَّضِيِّ فَلَا يَرَى بَصِيرَةً، وَيَنْظُرُ فِي الْفُوقِ فَلَا يَرَى بَصِيرَةً ". فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَأَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ - وَهُوَ ابْنُ طَرْخَانَ - التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، وَاسْمُهُ الْمُنْذِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ قُطَعَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِنَحْوِهِ.
الْحَدِيثُ الثَّامِنُ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَوْمٍ فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ الْخِبَاءُ ؟ قَالُوا: لِسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ. قَالَ: أَفَلَا تَنْطَلِقُونَ مَعِي فَيُحَدِّثَنَا وَنَسْمَعَ مِنْهُ ؟ فَانْطَلَقَ

مَعَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَوْ أَدْنَيْتَ خِبَاءَكَ إِلَيْنَا وَكُنْتَ مِنَّا قَرِيبًا فَحَدَّثْتَنَا وَسَمِعْنَا مِنْكَ ؟ فَقَالَ: وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ. قَالَ سَلْمَانُ: قَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ مَعْرُوفٌ ; بَلَغَنِي أَنَّكَ تَخِفُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَتُقَاتِلُ الْعَدُوَّ، وَتَخْدِمُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ أَخْطَأَتْكَ وَاحِدَةٌ أَنْ تَكُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: فَوُجِدَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قَتِيلًا فِي أَصْحَابِ النَّهْرَوَانِ.
الْحَدِيثُ التَّاسِعُ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ الْأَنْصَارِيِّ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، ثَنَا حِزَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْعَامِرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَيْبَانَيِّ، عَنْ يُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، فَقُلْتُ: حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فِي الْحَرُورِيَّةِ. قَالَ: أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا أَزِيدُكَ عَلَيْهِ شَيْئًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَذْكُرُ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنْ هَاهُنَا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْعِرَاقِ -يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ. قَالَ: قُلْتُ: هَلْ ذَكَرَ لَهُمْ عَلَامَةً ؟ قَالَ: هَذَا مَا سَمِعْتُ لَا أَزِيدُكَ عَلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ

عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ وَالْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَيْبَانِيِّ بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الشَيْبَانِيِّ، عَنْ يُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ: سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَذْكُرُ الْخَوَارِجَ ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ قَوْمٌ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ لَا يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ". وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كَامِلٍ، ثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، ثَنَا سُلَيْمَانُ الشَيْبَانِيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: " يَخْرُجُ مِنْهُ أَقْوَامٌ ". حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ جَمِيعًا عَنْ يَزِيدَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَيْبَانِيُّ، عَنْ أُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:يَتِيهُ قَوْمٌ قَبِلَ الْمَشْرِقِ مُحَلَّقَةٌ رُءُوسُهُمْ.
الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ الْبَزَّارُ: ثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيَقْرَأَنَّ الْقُرْآنَ أَقْوَامٌ مِنْ أُمَّتِي يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَسُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ.
الْحَدِيثُ الْحَادِي عَشَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، ثَنَا أَبُو جَنَابٍ يَحْيَى بْنُ أَبِي حَيَّةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: يَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يُسِيئُونَ الْأَعْمَالَ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ. قَالَ يَزِيدُ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ عَمَلَهُ مَعَ عَمَلِهِمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ فَإِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ، فَطُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ، وَطُوبَى لِمَنْ قَتَلُوهُ، كُلَّمَا طَلَعَ مِنْهُمْ قَرَنٌ قَطَعَهُ اللَّهُ ". فَرَدَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عِشْرِينَ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ، وَأَنَا أَسْمَعُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ سَالِمٍ وَنَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا ; مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ " وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوُ الْمَشْرِقِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي عَشَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا

عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَتْنَا بَيْعَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، قَدِمْتُ الشَّامَ فَأُخْبِرْتُ بِمَقَامٍ يَقُومُهُ نَوْفٌ الْبِكَالِيُّ، فَجِئْتُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ فَانْتَبَذَ عَنِ النَّاسِ عَلَيْهِ خَمِيصَةٌ، فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَلَمَّا رَآهُ نَوْفٌ أَمْسَكَ عَنِ الْحَدِيثِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِنَّهَا سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، يَنْحَازُ النَّاسُ إِلَى مُهَاجَرِ إِبْرَاهِيمَ، لَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ إِلَّا شِرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرْضُهُمْ، تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ الرَّحْمَنِ، تَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، تَبِيتُ مَعَهُمْ إِذَا بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ إِذَا قَالُوا، وَتَأْكُلُ مَنْ تَخَلَّفَ ". قَالَ وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: سَيَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ، كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ، - حَتَّى عَدَّهَا زِيَادَةً عَلَى عَشْرِ مَرَّاتٍ - كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ، حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ فِي بَقِيَّتِهِمْ ". وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَوَّلَهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مَنْ " سُنَنِهِ "، عَنِ الْقَوَارِيرِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ بِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَحَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
الْحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ: قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ

بْنُ فَرُّوخَ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، ثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيِ ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي - أَوْ سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي - قَوْمٌ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ " قَالَ ابْنُ الصَّامِتِ: فَلَقِيتُ رَافِعَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ أَخَا الْحَكَمِ الْغِفَارِيِّ قُلْتُ: مَا حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي ذَرٍّ كَذَا كَذَا ؟ فَقَالَ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. لَمْ يَرْوِهِ الْبُخَارِيُّ.
الْحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ: قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، ثَنَا السَّرِيُّ، بْنُ يَحْيَى، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ: لَقَدْ عَلِمَتْ عَائِشَةُ أَنَّ جَيْشَ الْمَرْوَةِ وَأَهْلَ النَّهْرَوَانِ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَيَّاشٍ: جَيْشُ الْمَرْوَةِ قَتَلَةُ عُثْمَانَ،

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: حَدَّثَنِي إِسْرَائِيلُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: بَلَغَنَا قَتْلُ عَلِيٍّ الْخَوَارِجَ فَقَالَتْ: قَتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ شَيْطَانَ الرَّدْهَةِ. تَعْنِي الْمُخْدَجَ.
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ بْنِ صُبَيْحٍ، ثَنَا سَهْلُ بْنُ عَامِرٍ الْبَجَلِيُّ، ثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْخَوَارِجَ فَقَالَ: شِرَارُ أُمَّتِي يَقْتُلُهُمْ خِيَارُ أُمَّتِي.
قَالَ: وَحَدَّثَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ، ثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. قَالَ: فَرَأَيْتُ عَلِيًّا قَتَلَهُمْ، وَهُمْ أَصْحَابُ النَّهْرَوَانِ.. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ رَوَى عَطَاءٌ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ، وَلَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ عَطَاءٍ إِلَّا سُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ. قُلْتُ وَسُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ قَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَلَكِنَّ الْإِسْنَادَ الْأَوَّلَ يَشْهَدُ لَهُ كَمَا أَنَّ هَذَا يَشْهَدُ لِذَاكَ فَهُمَا

مُتَعَاضِدَانِ، وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَلِيٍّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ اسْتَغْرَبَتْ حَدِيثَ الْخَوَارِجِ وَلَا سِيَّمَا خَبَرَ ذِي الثُّدَيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذِهِ الطُّرُقَ كُلَّهَا ; لِيَعْلَمَ الْوَاقِفُ عَلَيْهَا أَنْ ذَلِكَ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ دَلَالَاتِ النُّبُوَّةِ، كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَقَدْ سَأَلَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ خَبَرِ ذِي الثُّدَيَّةِ فَتَيَقَّنَتْهُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ ": أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَامِرٍ الْكِنْدِيُّ بِالْكُوفَةِ مِنْ أَصْلِ سَمَاعِهِ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَدَقَةَ الْكَاتِبُ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: هَذَا كِتَابُ جَدِّي مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ فَقَرَأْتُ فِيهِ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ الْحُرِّ، حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: عِنْدَكَ عِلْمٌ مِنْ ذِي الثُّدِيَّةِ الَّذِي

أَصَابَهُ عَلِيٌّ فِي الْحَرُورِيَّةِ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَتْ: فَاكْتُبْ لِي بِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَهُمْ. فَرَجَعْتُ إِلَى الْكُوفَةِ - وَبِهَا يَوْمَئِذٍ أَسْبَاعٌ - فَكَتَبْتُ شَهَادَةَ عَشَرَةٍ مِنْ كُلِّ سَبْعٍ، ثُمَّ أَتَيْتُهَا بِشَهَادَتِهِمْ فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهَا، قَالَتْ: أَكُلُّ هَؤُلَاءِ عَايَنُوهُ ؟ قُلْتُ: لَقَدْ سَأَلْتُهُمْ فَأَخْبَرُونِي بِأَنَّ كُلَّهُمْ قَدْ عَايَنَهُ. فَقَالَتْ: لَعَنَ اللَّهُ فُلَانًا ; فَإِنَّهُ كَتَبَ إِلَيَّ أَنَّهُ أَصَابَهُمْ بِنِيلِ مِصْرَ. ثُمَّ أَرْخَتْ عَيْنَيْهَا فَبَكَتْ فَلَمَّا سَكَنَتْ عَبْرَتُهَا قَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ عَلِيًّا ! لَقَدْ كَانَ عَلَى الْحَقِّ، وَمَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأَحْمَائِهَا.
حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ رَجُلَيْنِ مُبْهَمَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ: قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي " كِتَابِ الْخَوَارِجِ "، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ حَتَّى قَدِمَا الْعِرَاقَ فَقِيلَ لَهُمَا: مَا أَقْدَمَكُمَا الْعِرَاقَ ؟ قَالَا: رَجَوْنَا أَنْ نُدْرِكَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدْنَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهِمْ ; يَعْنِيَانِ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ.
حَدِيثٌ آخَرُ فِي مَدْحِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قِتَالِهِ الْخَوَارِجَ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا فِطْرٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ

رَجَاءِ بْنِ رَبِيعَةَ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ: " كُنَّا جُلُوسًا نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا مِنْ بُيُوتِ بَعْضِ نِسَائِهِ، قَالَ: فَقُمْنَا مَعَهُ، فَانْقَطَعَتْ نَعْلُهُ فَتَخَلَّفَ عَلَيْهَا عَلِيٌّ يَخْصِفُهَا، فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَضَيْنَا مَعَهُ، ثُمَّ قَامَ يَنْتَظِرُهُ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ: " إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ كَمَا قَاتَلْتُ عَلَى تَنْزِيلِهِ ". فَاسْتَشْرَفْنَا لَهَا وَفِينَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ فَقَالَ: " لَا، وَلَكِنَّهُ خَاصِفُ النَّعْلِ ". قَالَ: فَجِئْنَا نُبَشِّرُهُ، قَالَ: فَكَأَنَّهُ قَدْ سَمِعَهُ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ وَأَبِي أُسَامَةَ، عَنْ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ بِهِ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سَهْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا عَلَى مِنْبَرِكُمْ هَذَا يَقُولُ: عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ أُقَاتِلَ النَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَالْمَارِقِينَ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُقْرِئِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبَّادٍ الْبَصْرِيِّ، نَا عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَهْلٍ الْفَزَارِيِّ بِهِ. فَإِنَّهُ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَمُنْكَرٌ. عَلَى أَنَّهُ

قَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنْ غَيْرِهِ وَلَا تَخْلُو وَاحِدَةٌ مِنْهَا عَنْ ضَعْفٍ. وَالْمُرَادُ بِالنَّاكِثِينَ، يَعْنِي أَهْلَ الْجَمَلِ. وَبِالْقَاسِطِينَ أَهْلُ الشَّامِ ; وَالْقَاسِطُ هُوَ الْجَائِرُ الظَّالِمُ. وَبِالْمَارِقِينَ الْخَوَارِجُ ; لِأَنَّهُمْ مَرَقُوا مِنَ الدِّينِ. وَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَهُمْ أَصْحَابُ الْجَمَلِ الَّذِينَ عَقَدُوا الْبَيْعَةَ لَهُ ثُمَّ نَكَثُوا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْحَافِظُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ فِي " كَامِلِهِ "، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سَيْفٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ فِطْرٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُمَرْتُ بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَالْمَارِقِينَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: أَخْبَرَنِي الْأَزْهَرِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِ جَدِّي مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ: ثَنَا أَشْعَثُ بْنُ الْحَسَنِ السُّلَمِيُّ، عَنْ جَعْفَرٍ الْأَحْمَرِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ الْأَرْقَمِ، عَنْ أَبَانَ، عَنْ خُلَيْدٍ الْعَصَرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالْمَارِقِينَ وَالْقَاسِطِينَ.

وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فَرَجٍ الْجُنْدَيْسَابُورِيِّ، أَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا أَبُو غَسَّانَ، عَنْ جَعْفَرٍ - أَحْسَبُهُ الْأَحْمَرَ - عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُمِرْتُ بِقِتَالِ ثَلَاثَةٍ ; الْمَارِقِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَالنَّاكِثِينَ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، أَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ تَمِيمٍ الْحَنْظَلِيُّ، بِقَنْطَرَةِ بَرَدَانَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي عَمِّي - عَمْرُو بْنُ عَطِيَّةَ بْنِ سَعْدٍ - عَنْ أَخِيهِ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنِي جَدِّي سَعْدُ بْنُ جُنَادَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ أُمِرْتُ بِقِتَالِ ثَلَاثَةٍ ; الْقَاسِطِينَ وَالنَّاكِثِينَ وَالْمَارِقِينَ ; فَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَأَهْلُ الشَّامِ، وَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَذَكَرَهُمْ، وَأَمَّا الْمَارِقُونَ فَأَهْلُ النَّهْرَوَانِ. يَعْنِي الْحَرُورِيَّةَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنَا أَبُو الْقِسْمِ زَاهِرُ بْنُ طَاهِرٍ، أَنَا أَبُو سَعْدٍ الْأَدِيبُ، أَنَا السَّيِّدُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ

الصُّوفِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، ثَنَا كَثِيرُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالْمَارِقِينَ وَالْقَاسِطِينَ.
حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ: قَالَ الْحَاكِمُ: حَدَّثَنَا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْفَقِيهُ، أَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْحَرَّارُ الْمُقْرِئُ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُقْرِئُ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أُمِّ سَلَمَةَ فَجَاءَ عَلِيٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ، هَذَا وَاللَّهِ قَاتِلُ النَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَالْمَارِقِينَ مِنْ بَعْدِي.
حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي ذَلِكَ: قَالَ الْحَاكِمُ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ الشَيْبَانَيُّ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَكَمِ الْحِبَرِيُّ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَزْدِيُّ، عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ

وَالْمَارِقِينَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَمَرْتَنَا بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ فَمَعَ مَنْ ؟ فَقَالَ: مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، مَعَهُ يُقْتَلُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ.
حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فِي ذَلِكَ: قَالَ الْحَاكِمُ: أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ حَمْشَاذَ الْعَدْلُ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْخَطَّابِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ حَصِيرَةَ، عَنْ أَبِي صَادِقٍ، عَنْ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا أَيُّوبَ فَقُلْنَا: قَاتَلْتَ بِسَيْفِكَ الْمُشْرِكِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جِئْتَ تُقَاتِلُ الْمُسْلِمِينَ ؟ فَقَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالْمَارِقِينَ وَالْقَاسِطِينَ.
قَالَ الْحَاكِمُ: وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَالَوَيْهِ، ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَبِيبٍ الْمَعْمَرِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، ثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَحْوَلُ، عَنْ عَتَّابِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ

وَالْمَارِقِينَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِئُ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَطِيرِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُؤَدِّبِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، ثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِبَغْدَادَ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مَهْرَانَ الْأَعْمَشِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ قَالَا: أَتَيْنَا أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ عِنْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ صِفِّينَ فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا أَيُّوبَ، إِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَكَ بِنُزُولِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَجِيءِ نَاقَتِهِ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ وَإِكْرَامًا لَكَ حِينَ أَنَاخَتْ بِبَابِكَ دُونَ النَّاسِ، ثُمَّ جِئْتَ بِسَيْفِكَ عَلَى عَاتِقِكَ تَضْرِبُ بِهِ أَهْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ فَقَالَ: يَا هَذَا، إِنَّ الرَّائِدَ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَنَا بِقِتَالِ ثَلَاثَةٍ مَعَ عَلِيٍّ ; بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَالْمَارِقِينَ ; فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْنَاهُمْ، وَهُمْ أَهْلُ الْجَمَلِ ; طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَهَذَا مُنْصَرَفُنَا مِنْ عِنْدِهِمْ - يَعْنِي مُعَاوِيَةَ وَعَمْرًا - وَأَمَّا الْمَارِقُونَ فَهُمْ أَهْلُ الطَّرْفَاوَاتِ، وَأَهْلُ السُّعَيْفَاتِ، وَأَهْلُ النُّخَيْلَاتِ، وَأَهْلُ النَّهْرَوَانَاتِ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَيْنَ هُمْ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ قِتَالِهِمْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،يَقُولُ

لِعَمَّارٍ: يَا عَمَّارُ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، وَأَنْتَ إِذْ ذَاكَ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَكَ، يَا عَمَّارُ بْنَ يَاسِرٍ، إِنْ رَأَيْتَ عَلِيًّا قَدْ سَلَكَ وَادِيًا وَسَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا غَيْرَهُ فَاسْلُكْ مَعَ عَلِيٍّ، فَإِنَّهُ لَنْ يُدْلِيَكَ فِي رَدًى، وَلَنْ يُخْرِجَكَ مَنْ هُدًى، يَا عَمَّارُ، مَنْ تَقَلَّدَ سَيْفًا أَعَانَ بِهِ عَلِيًّا عَلَى عَدُوِّهِ، قَلَّدَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِشَاحَيْنِ مِنْ دُرٍّ، وَمَنْ تَقَلَّدَ سَيْفًا أَعَانَ بِهِ عَدُوَّ عَلِيٍّ عَلَيْهِ، قَلَّدَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِشَاحَيْنِ مِنْ نَارٍ. فَقُلْنَا: يَا هَذَا، حَسْبُكَ رَحِمَكَ اللَّهُ، حَسْبُكَ رَحِمَكَ اللَّهُ. هَذَا السِّيَاقُ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ، وَآفَتُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُعَلَّى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ; فَإِنَّهُ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ إِنْ صَحَّ بَعْضُهُ، فَفِي بَعْضِهِ زِيَادَاتٌ مَوْضُوعَةٌ مِنْ وَضْعِ الرَّافِضَةِ، وَالْمُعَلَّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.

فَصْلٌ ( مَا دَارَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ قِتَالِ الْخَوَارِجِ )
قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي الْخَوَارِجِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ مَا صُنِّفَ فِي ذَلِكَ، قَالَ: وَذَكَرَ عِيسَى بْنُ دَابٍّ قَالَ: لَمَّا انْصَرَفَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنَ النَّهْرَوَانِ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ نَصْرَكُمْ فَتَوَجَّهُوا مِنْ فَوْرِكُمْ هَذَا إِلَى عَدُوِّكُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ. فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَفِدَ نَبْلُنَا،

وَكَلَّتْ سُيُوفُنَا، وَنَصَلَتْ أَسِنَّتُنَا، فَانْصَرِفْ بِنَا إِلَى مِصْرِنَا حَتَّى نَسْتَعِدَّ بِأَحْسَنِ عُدَّتِنَا، وَلَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ فِي عُدَّتِنَا عُدَّةَ مَنْ فَارَقَنَا وَهَلَكَ مِنَّا ; فَإِنَّهُ أَقْوَى لَنَا عَلَى عَدُوِّنَا - وَكَانَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهَذَا الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ - فَبَايَعَهُمْ، وَأَقْبَلَ بِالنَّاسِ حَتَّى نَزَلَ بِالنُّخَيْلَةِ، وَأَمْرَهُمْ أَنْ يَلْزَمُوا مُعَسْكَرَهُمْ، وَيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ، وَيُقِلُّوا زِيَارَةَ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، فَأَقَامُوا مَعَهُ أَيَّامًا مُسْتَمْسِكِينَ بِرَأْيِهِ وَقَوْلِهِ، ثُمَّ تَسَلَّلُوا حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا رُءُوسُ أَصْحَابِهِ، فَقَامَ عَلِيٌّ فِيهِمْ خَطِيبًا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ الْخَلْقِ وَفَالِقِ الْإِصْبَاحِ، وَنَاشِرِ الْمَوْتَى وَبَاعِثِ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْعَبْدُ الْإِيمَانُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ وَكَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ ; فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ ; فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ ; فَإِنَّهَا مِنْ فَرَائِضِهِ، وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ ; فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنْ عَذَابِهِ، وَحَجُّ الْبَيْتِ ; فَإِنَّهُ مَنْفَاةٌ لِلْفَقْرِ مَدْحَضَةٌ لِلذَّنْبِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ ; فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ، مَحَبَّةٌ فِي الْأَهْلِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ ; فَإِنَّهَا تَكْفِيرٌ لِلْخَطِيئَةِ، وَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصُنْعُ الْمَعْرُوفِ ; فَإِنَّهُ يَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ، وَيَقِي مَصَارِعَ الْهَوْلِ، أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ ; فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الذِّكْرِ، وَارْغَبُوا فِيمَا وَعَدَ اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ; فَإِنَّ وَعْدَ اللَّهِ أَصْدُقُ الْوَعْدِ، وَاقْتَدُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْهَدْيِ، وَاسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ ; فَإِنَّهَا أَفْضَلُ السُّنَنِ، وَتَعَلَّمُوا كِتَابَ اللَّهِ ; فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْحَدِيثِ، وَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ; فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ، وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ ; فَإِنَّهُ شِفَاءٌ لَمَّا فِي الصُّدُورِ، وَأَحْسِنُوا تِلَاوَتَهُ ; فَإِنَّهُ

أَحْسَنُ الْقَصَصِ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْكُمْ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، وَإِذَا هُدِيتُمْ لِعِلْمِهِ فَاعْمَلُوا بِمَا عَلِمْتُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ; فَإِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لَا يَسْتَقِيمُ مِنْ جَهْلِهِ، بَلْ قَدْ رَأَيْتُ أَنَّ الْحُجَّةَ أَعْظَمُ، وَالْحَسْرَةَ أَدُومُ عَلَى هَذَا الْعَالِمِ الْمُنْسَلِخِ مَنْ عِلْمِهِ، وَضَرَرَهُ عَلَى هَذَا الْجَاهِلِ الْمُتَحَيِّرِ فِي جَهْلِهِ، وَكِلَاهُمَا حَائِرٌ مُضَلِّلٌ مَثْبُورٌ. لَا تَرْتَابُوا فَتَشُكُّوا، وَلَا تَشُكُّوا فَتَكْفُرُوا، وَلَا تُرَخِّصُوا لِأَنْفُسِكُمْ فَتَذْهَلُوا، وَلَا تُذْهَلُوا فِي الْحَقِّ فَتَخْسَرُوا، أَلَا وَإِنَّ مِنَ الْحَزْمِ أَنْ تَثِقُوا، وَمِنَ الثِّقَةِ أَنْ لَا تَغْتَرُّوا، وَإِنَّ أَنْصَحَكُمْ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُكُمْ لِرَبِّهِ، وَإِنَّ أَغَشَّكُمْ لِنَفْسِهِ أَعَصَاكُمْ لِرَبِّهِ، مَنْ يُطِعِ اللَّهَ يَأْمَنْ وَيَسْتَبْشِرْ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ يَخَفْ وَيَنْدَمْ، سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ، وَارْغَبُوا إِلَيْهِ فِي الْعَافِيَةِ، وَخَيْرُ مَا دَامَ فِي الْقَلْبِ الْيَقِينُ، إِنَّ عَوَازِمَ الْأُمُورِ أَفْضَلُهَا، وَإِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شَرُّهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدَعَةٌ وَكُلُّ مُحْدِثٍ مُبْتَدِعٌ، وَمَنِ ابْتَدَعَ فَقَدْ ضَيَّعَ، وَمَا أَحْدَثَ مُحْدِثٌ بِدْعَةً إِلَّا تَرَكَ بِهَا سُنَّةً، الْمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ دِينَهُ، وَالْمَفْتُونُ مَنْ خَسِرَ نَفْسَهُ، وَإِنَّ الرِّيَاءَ مِنَ الشِّرْكِ، وَإِنَّ الْإِخْلَاصَ مِنَ الْعَمَلِ وَالْإِيمَانِ. وَمَجَالِسُ اللَّهْوِ تُنْسِي الْقُرْآنَ وَيَحْضُرُهَا الشَّيْطَانُ، وَتَدْعُو إِلَى كُلِّ غَيٍّ،

وَمُحَادَثَةُ النِّسَاءِ تُزِيغُ الْقُلُوبَ وَتُطْمِحُ لَهُنَّ الْأَبْصَارَ، وَهُنَّ مَصَائِدُ الشَّيْطَانِ، فَاصْدُقُوا اللَّهَ ; فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ مَنْ صَدَقَ، وَجَانِبُوا الْكَذِبَ ; فَإِنَّ الْكَذِبَ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ، أَلَا إِنَّ الصَّادِقَ عَلَى شَرَفِ مَنْجَاةٍ وَكَرَامَةٍ، وَإِنَّ الْكَاذِبَ عَلَى شَرَفِ رَدًى وَهَلَكَةٍ وَإِهَانَةٍ، أَلَا وَقُولُوا الْحَقَّ تُعْرَفُوا بِهِ، وَاعْمَلُوا بِهِ تَكُونُوا مَنْ أَهْلِهِ، وَأَدُّوا الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكُمْ، وَصِلُوا أَرْحَامَ مَنْ قَطَعَكُمْ، وَعُودُوا بِالْفَضْلِ عَلَى مَنْ حَرَمَكُمْ، وَإِذَا عَاهَدْتُمْ فَأَوْفُوا، وَإِذَا حَكَمْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَا تَفَاخَرُوا بِالْآبَاءِ، وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ، وَلَا تَمَازَحُوا، وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَأَعِينُوا الضَّعِيفَ وَالْمَظْلُومَ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلَيْنِ وَفِي الرِّقَابِ، وَارْحَمُوا الْأَرْمَلَةَ وَالْيَتِيمَ، وَأَفْشُوا السَّلَامَ وَرُدُّوا التَّحِيَّةَ عَلَى أَهْلِهَا مِثْلَهَا أَوْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا. وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [ الْمَائِدَةِ: 2 ]. وَأَكْرِمُوا الضَّيْفَ، وَأَحْسِنُوا إِلَى الْجَارِ، وَعُودُوا الْمَرْضَى، وَشَيِّعُوا الْجَنَائِزَ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ وَآذَنَتْ بِوَدَاعٍ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَشْرَفَتْ بِاطِّلَاعٍ، وَإِنَّ الْمِضْمَارَ الْيَوْمَ، وَغَدًا السِّبَاقُ، وَإِنَّ السَّبَقَةَ وَالْغَايَةَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ،

أَلَا وَإِنَّكُمْ فِي أَيَّامِ مَهْلٍ مِنْ وَرَائِهَا أَجَلٌ حَثِيثٌ عَجِلٌ، فَمَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ عَمَلَهُ فِي أَيَّامِ مَهْلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ، فَقَدْ أَحْسَنَ عَمَلَهُ وَنَالَ أَمَلَهُ، وَمَنْ قَصَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَسِرَ عَمَلُهُ وَخَابَ أَمَلُهُ، وَضَرَّهُ أَمَلُهُ، أَلَا فَاعْمَلُوا فِي الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، فَإِنْ نَزَلَتْ بِكُمْ رَغْبَةٌ فَاشْكُرُوا اللَّهَ وَاجْمَعُوا مَعَهَا رَهْبَةً، وَإِنْ نَزَلَتْ بِكُمْ رَهْبَةٌ فَاذْكُرُوا اللَّهَ وَاجْمَعُوا مَعَهَا رَغْبَةً ; فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَأَذَّنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْحُسْنَى، وَلِمَنْ شَكَرَ بِالزِّيَادَةِ، وَإِنِّي لَمْ أَرَ مِثْلَ الْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلَا كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا، وَلَا أَكْيَسَ مِنْ مُكْتَسِبٍ يَكْسِبُ شَيْئًا الْيَوْمَ يَدَّخِرُهُ لِيَوْمٍ تَنْفَعُ فِيهِ الذَّخَائِرُ، وَتُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ، يُجْمَعُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، أَلَا وَإِنَّهُ مَنْ لَا يَنْفَعْهُ الْحَقُّ يَضُرَّهُ الْبَاطِلُ، وَمَنْ لَا يَسْتَقِمْ عَلَى الْهُدَى يَجُرْ بِهِ الضَّلَالُ، وَمَنْ لَا يَنْفَعْهُ الْيَقِينُ يَضُرَّهُ الشَّكُّ، وَمَنْ لَا يَنْفَعْهُ حَاضِرُهُ فَغَارِبُهُ عَنْهُ أَعْوَزُ وَغَائِبُهُ عَنْهُ أَعْجَزُ، أَلَا وَإِنَّكُمْ قَدْ أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ وَدُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ فَاعْمَلُوا عَلَى الْمُرَادِ، أَلَا وَإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَانِ ; طُولُ الْأَمَلِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى ; فَطُولُ الْأَمَلِ يُنْسِي الْآخِرَةَ، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَرَحَّلَتْ مُدْبِرَةً، وَإِنَّ

الْآخِرَةَ قَدْ تَرَحَّلَتْ مُقْبِلَةً، وَلَهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ; فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلَ. وَهَذِهِ خُطْبَةٌ عَظِيمَةٌ بَلِيغَةٌ نَافِعَةٌ، جَامِعَةٌ لِلْخَيْرِ نَاهِيَةٌ عَنِ الشَّرِّ. وَقَدْ رُوِيَ لَهَا شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى مُتَّصِلَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا نَكَلَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَنِ الذَّهَابِ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ خَطَبَهُمْ، فَوَبَّخَهُمْ وَأَنَّبَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ وَتَهَدَّدَهُمْ وَتَلَا عَلَيْهِمْ فِي الْجِهَادِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ سُوَرٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى عَدُوِّهِمْ فَتَأَبَّوْا عَلَى ذَلِكَ، وَخَالَفُوهُ وَلَمْ يُوَافِقُوهُ، وَاسْتَمَرُّوا فِي بِلَادِهِمْ، وَانْصَرَفُوا عَنْهُ هَاهُنَا. قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ قَتْلِهِ الْخَوَارِجَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا قَرَابَاتِهِمْ وَإِخْوَانَهُمْ، وَيَرَوْنَهُمْ أَفْضَلَهُمْ وَخَيْرَهُمْ ; لِعِبَادَتِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ، فَتَثَاقَلُوا عَنْهُ وَهَجَرُوهُ، فَدَخَلَ عَلِيٌّ الْكُوفَةَ فِي حَالَةٍ اللَّهُ بِهَا عَلِيمٌ.

فَصْلٌ ( مَا ذَكَرَهُ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ مِنْ خُرُوجِ الْحَارِثِ بْنِ رَاشِدٍ النَّاجِيِّ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ النَّهْرَوَانِ )
وَقَدْ ذَكَرَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،

بَعْدَ قَتْلِهِ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ بْنُ رَاشِدٍ النَّاجِيُّ. قَدِمَ مَعَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: إِنَّكَ قَدْ قَاتَلْتَ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ فِي كَوْنِهِمْ أَنْكَرُوا عَلَيْكَ قَضِيَّةَ التَّحْكِيمِ، وَتَزْعُمُ أَنَّكَ قَدْ أَعْطَيْتَ أَهْلَ الشَّامِ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ، وَأَنَّكَ لَسْتَ بِنَاقِضِهَا، وَهَذَانَ الْحَكَمَانِ قَدِ اتَّفَقَا عَلَى خَلْعِكَ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي وِلَايَةِ مُعَاوِيَةَ ; فَوَلَّاهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَامْتَنَعَ أَبُو مُوسَى مِنْ وِلَايَتِهِ، فَأَنْتَ مَخْلُوعٌ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَأَنَا قَدْ خَلَعْتُكُ وَخَلَعْتُ مُعَاوِيَةَ مَعَكَ. وَاتَّبَعَ الْحَارِثَ عَلَى مَقَالَتِهِ هَذِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ قَوْمِهِ - بَنِي نَاجِيَةَ وَغَيْرِهِمْ - وَتَحَيَّزُوا نَاحِيَةً، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ مَعْقِلَ بْنَ قَيْسٍ الرِّيَاحِيَّ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَقَتَلَهُمْ مَعْقِلٌ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَسَبَى مِنْ بَنِي نَاجِيَةَ خَمْسَمِائَةِ أَهْلِ بَيْتٍ، فَقَدِمَ بِهِمْ عَلَى عَلِيٍّ، فَتَلَقَّاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مَصْقَلَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ، أَبُو الْمُغَلِّسِ - وَكَانَ عَامِلًا لِعَلِيٍّ عَلَى بَعْضِ الْأَقَالِيمِ - فَتَضَرَّعَ السَّبْيُ إِلَيْهِ وَشَكَوْا مَا هُمْ فِيهِ، فَاشْتَرَاهُمْ مَصْقَلَةُ مِنْ مَعْقِلٍ بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ وَأَعْتَقَهُمْ، فَطَالَبَهُ بِالثَّمَنِ فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَكَتَبَ مَعْقِلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ مَصْقَلَةُ: إِنِّي إِنَّمَا

جِئْتُ لِأَدْفَعَ ثَمَنَهُمْ إِلَيْكَ. ثُمَّ هَرَبَ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى عَلِيٍّ، فَطَالَبَهُ عَلِيٌّ بِالثَّمَنِ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ مِنَ الثَّمَنِ مِائَتَيْ أَلْفٍ، ثُمَّ هَرَبَ، فَلَحِقَ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِالشَّامِ، فَأَمْضَى عَلِيٌّ عِتْقَهُمْ، وَقَالَ: مَا بَقِيَ مِنَ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ مَصْقَلَةَ ؟ وَأَمَرَ بِدَارِهِ فِي الْكُوفَةِ فَهُدِمَتْ.
وَقَدْ رَوَى الْهَيْثَمُ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْرَائِيلَ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّ بَنِي نَاجِيَةَ ارْتَدُّوا فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَعْقِلَ بْنَ قَيْسٍ فَسَبَاهُمْ، فَاشْتَرَاهُمْ مَصْقَلَةُ مِنْ عَلِيٍّ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ فَأَعْتَقَهُمْ، ثُمَّ هَرَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ. قَالَ الْهَيْثَمُ: وَهَذَا قَوْلُ الشِّيعَةِ وَلَمْ يُسْمَعْ بِحَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الرِّدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي أَيَّامِ الصِّدِّيقِ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ الطَّائِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَالَ مَرَّةً لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ يَخْطُبُ: قَتَلْتَ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ عَلَى إِنْكَارِ الْحُكُومَةِ، وَقَتَلْتَ الْخِرِّيتَ بْنَ رَاشِدٍ عَلَى مَسْأَلَتِهِ إِيَّاكَ الْحُكُومَةَ، وَاللَّهِ مَا بَيْنَهُمَا مَوْضِعُ قَدَمٍ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ:

اسْكُتْ إِنَّمَا كُنْتَ أَعْرَابِيًّا تَأْكُلُ الضَّبُعَ بِجَبَلَيْ طَيِّءٍ بِالْأَمْسِ. فَقَالَ لَهُ عَدِيٌّ: وَأَنْتَ وَاللَّهِ قَدْ رَأَيْنَاكَ بِالْأَمْسِ تَأْكُلُ الْبَلَحَ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ الْهَيْثَمُ: ثُمَّ خَرَجَ رَجُلٌ عَلَى عَلِيٍّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَقُتِلَ، فَأَمَّرَ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِمُ الْأَشْرَسَ بْنَ عَوْفٍ الشَيْبَانِيَّ، فَقُتِلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِ الْأَشْهَبُ بْنُ بِشْرٍ الْبَجَلِيُّ، ثُمَّ أَخَذَ عُرَيْنَةَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَقُتِلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ عَلَى عَلِيٍّ سَعِيدُ بْنُ قُفْلٍ التَّيْمِيُّ ; تَيْمُ ثَعْلَبَةَ، مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقُتِلَ بِقَنْطَرَةِ دَرْزِيجَانَ فَوْقَ الْمَدَائِنِ. قَالَ الْهَيْثَمُ: أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ مَشْيَخَتِهِ.

فَصْلٌ ( قِتَالُ عَلِيٍّ الْخَوَارِجَ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ كَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ )
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَى - وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ - أَنَّ قِتَالَ عَلِيٍّ الْخَوَارِجَ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ

وَثَلَاثِينَ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ قُلْتُ: وَهُوَ الْأَشْبَهُ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ - عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ; نَائِبُ عَلِيٍّ عَلَى الْيَمَنِ وَمَخَالِفِيهَا، وَكَانَ نَائِبَ مَكَّةَ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ تَمَّامُ بْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَعَلَى الْبَصْرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلَى قَضَائِهَا أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّئَلِيُّ، وَعَلَى مِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ مُقِيمٌ بِالْكُوفَةِ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بِالشَّامِ مُسْتَحْوِذٌ عَلَيْهَا. قُلْتُ: وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَأْخُذَ بِلَادَ مِصْرَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ بْنِ جَنْدَلَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، كَانَ قَدْ أَصَابَهُ سِبَاءٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاشْتَرَتْهُ أُمُّ أَنْمَارٍ الْخُزَاعِيَّةُ، الَّتِي كَانَتْ تَخْتِنُ النِّسَاءَ، وَهِيَ أُمُّ سِبَاعِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى الَّذِي قَتَلَهُ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ. حَالَفَ خَبَّابٌ بَنِي زُهْرَةَ.
أَسْلَمَ خَبَّابٌ قَدِيمًا قَبْلَ دَارِ الْأَرْقَمِ، وَكَانَ مِمَّنْ يُؤْذَى فِي اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ فَيَصْبِرُ

وَيَحْتَسِبُ، وَهَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: دَخَلَ خَبَّابٌ يَوْمًا عَلَى عُمَرَ فَأَكْرَمَ مَجْلِسَهُ، وَقَالَ: مَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَجْلِسِ مِنْكَ إِلَّا بِلَالٌ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤْذَى وَكَانَ لَهُ مَنْ يَمْنَعُهُ، وَإِنِّي كُنْتُ لَا نَاصِرَ لِي، وَاللَّهِ لَقَدْ سَلَقُونِي يَوْمًا فِي نَارٍ أَجَّجُوهَا وَوَضَعَ رَجُلٌ مِنْهُمْ رِجْلَهُ عَلَى صَدْرِي فَمَا اتَّقَيْتُ الْأَرْضَ إِلَّا بِظَهْرِي، ثُمَّ كَشَفَ عَنْ ظَهْرِهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ بَرِصَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَمَّا مَرِضَ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَعُودُونَهُ، فَقَالُوا: أَبْشِرْ غَدًا تَلْقَى الْأَحِبَّةَ ; مُحَمَّدًا وَحِزْبَهُ. فَقَالَ: وَاللَّهِ إِخْوَانِي مَضَوْا لَمْ يَأْكُلُوا مِنْ أَجْرِهِمْ شَيْئًا، وَإِنَّا قَدْ أَيْنَعَتْ لَنَا ثَمَرَتُهَا فَنَحْنُ نَهْدِبُهَا، يَعْنِي الدُّنْيَا فَهَذَا الَّذِي يَهُمُّنِي. قَالُوا: وَتُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دُفِنَ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْفَاكِهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيُّ، ذُو الشَّهَادَتَيْنِ، وَكَانَتْ رَايَةُ بَنِي خَطْمَةَ مَعَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَشَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
سَفِينَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ قَدَّمْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي الْمَوَالِي الْمَنْسُوبِينِ إِلَى

النَّبِيِّ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الْأَرْقَمِ: أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ وَكَتَبَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعَ كُتَّابِ الْوَحْيِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ، قُتِلَ يَوْمَ صِفِّينَ، وَكَانَ أَمِيرَ مَيْمَنَةِ عَلِيٍّ فَأَخَذَهَا بَعْدَهُ الْأَشْتَرُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ، وُلِدَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالْخَيْرِ، قَتَلَهُ الْخَوَارِجُ، كَمَا قَدَّمْنَا بِالنَّهْرَوَانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمَّا جَاءَ عَلِيٌّ قَالَ لَهُمْ: أَعْطُونَا قَتَلَتَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ آمِنُونَ. فَقَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَهُ. فَقَتَلَهُمْ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، أَحَدُ كُتَّابِ الْوَحْيِ، أَسْلَمَ قَدِيمًا وَكَتَبَ الْوَحْيَ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ عَامَ الْفَتْحِ، وَاسْتَأْمَنَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، - وَكَانَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ - وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَقَدْ وَلَّاهُ عُثْمَانُ نِيَابَةَ مِصْرَ بَعْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَغَزَا إِفْرِيقِيَّةَ وَبِلَادَ النُّوبَةِ، وَفَتَحَ الْأَنْدَلُسَ، وَغَزَا ذَاتَ الصَّوَارِي مَعَ الرُّومِ فِي الْبَحْرِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَا صَبَغَ وَجْهَ الْمَاءِ مِنَ الدِّمَاءِ،

ثُمَّ لَمَّا حُصِرَ عُثْمَانُ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ مِصْرَ، فَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ مُعْتَزِلٌ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ بَيْنَ التَّسْلِيمَتَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ أَبُو الْيَقْظَانِ الْعَبْسِيُّ
مِنْ عَبْسِ الْيَمَنِ، وَهُوَ حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومٍ، أَسْلَمَ قَدِيمًا وَكَانَ مِمَّنْ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ هُوَ وَأَبُوهُ وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ مَسْجِدًا فِي بَيْتِهِ يَتَعَبَّدُ فِيهِ. وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا كَيْفِيَّةَ مَقْتَلِهِ يَوْمَ صِفِّينَ، وَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ، وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:إِنَّ الْجَنَّةَ تَشْتَاقُ إِلَى ثَلَاثَةٍ ; عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ وَسَلْمَانَ.
وَرَوَى الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ عَمَّارًا اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنِي نَصْرٌ، ثَنَا سُفْيَانُ

الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( لَقَدْ مُلِئَ عَمَّارٌ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ.
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُعَلَّى، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ فِيهِ إِلَّا عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، فَإِنَّهُ حُشِيَ مَا بَيْنِ أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ إِيمَانًا.
وَحَدَّثَنَا يَحْيَى، ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، أَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ،عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: أَتَيْتُ أَهْلَ الشَّامِ فَلَقِيتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَحَدَّثَنِي، قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ كَلَامٌ فِي شَيْءٍ، فَشَكَانِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا خَالِدُ لَا تُؤْذِ عَمَّارًا ; فَإِنَّهُ مَنْ يَبْغَضْ عَمَّارًا يَبْغَضْهُ اللَّهُ، وَمَنْ يُعَادِ عَمَّارًا يُعَادِهِ اللَّهُ قَالَ: فَعَرَضْتُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَلَلْتُ مَا فِي

نَفْسِهِ. وَلَهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي فَضَائِلِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قُتِلَ عَمَّارٌ يَوْمَ صِفِّينَ عَنْ إِحْدَى وَقِيلَ: ثَلَاثٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً. طَعَنَهُ أَبُو الْغَادِيَةِ فَسَقَطَ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، ثُمَّ اخْتَصَمَا إِلَى مُعَاوِيَةَ أَيُّهُمَا قَتَلَهُ. فَقَالَ لَهُمَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: اتَّئِدَا فَوَاللَّهِ إِنَّكُمَا لَتَخْتَصِمَانِ فِي النَّارِ. فَسَمِعَهَا مِنْهُ مُعَاوِيَةُ فَلَامَهُ عَلَى تَسْمِيعِهِ إِيَّاهُمَا ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ذَلِكَ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمٍ أَنَّ عَلِيًّا صَلَّى عَلَيْهِ، وَلَمْ يُغَسِّلْهُ، وَصَلَّى مَعَهُ عَلَى هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ، فَكَانَ عَمَّارٌ مِمَّا يَلِي عَلِيًّا، وَهَاشِمٌ إِلَى نَحْوِ الْقِبْلَةِ. قَالُوا: وَقُبِرَ هُنَالِكَ. وَكَانَ آدَمَ اللَّوْنِ، طَوِيلًا، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، أَشْهَلَ الْعَيْنَيْنِ، رَجُلًا لَا يُغَيِّرُ شَيْبَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ، أَسْلَمَتْ قَدِيمًا وَكَانَتْ تَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْغَزَوَاتِ فَتُدَاوِي الْجَرْحَى، وَتَسْقِي الْمَاءَ لِلْكَلْمَى وَغَيْرِهِمْ، وَرَوَتْ

أَحَادِيثَ كَثِيرَةً.
وَقَدْ قُتِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي أَيَّامِ صِفِّينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌ غَفِيرٌ ; فَقِيلَ: قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَمِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. وَقِيلَ: قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَرْبَعُونَ أَلْفًا مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عِشْرُونَ أَلْفًا مِنْ سِتِّينَ أَلْفًا. وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ كَانَ فِي قَتْلَى الْفَرِيقَيْنِ أَعْيَانٌ وَمَشَاهِيرُ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُمْ. وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ
فِيهَا بَعَثَ مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ لِيَأْخُذَهَا مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَاسْتَنَابَ مُعَاوِيَةُ عَمْرًا عَلَيْهَا، وَذَلِكَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، اسْتَنَابَ عَلَيْهَا قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَقَدْ كَانَ أَخَذَهَا مِنَ ابْنِ أَبِي سَرْحٍ نَائِبِ عُثْمَانَ عَلَيْهَا، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ عَزَلَ عَنْهَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَكَانَ عَمْرٌو هُوَ الَّذِي افْتَتَحَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا عَزَلَ عَنْهَا قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، وَوَلَّى عَلَيْهَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ قَيْسٌ كُفْئًا لِمُعَاوِيَةَ وَعَمْرٍو، فَلَمَّا وُلِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ تُعَادِلُ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرًا، وَحِينَ عُزِلَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عَنْهَا رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَلِيٍّ بِالْعِرَاقِ فَكَانَ مَعَهُ. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عِنْدَ عَلِيٍّ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ تَكُونُ مَعَهُ بَدَلَهُ. فَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ مِنْ صِفِّينَ، وَبَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ مِصْرَ قَدِ اسْتَخَفُّوا بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ; لِكَوْنِهِ شَابًّا ابْنَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ عَزَمَ عَلِيٌّ عَلَى رَدِّ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ

إِلَيْهَا، وَكَانَ عَلِيٌّ قَدْ جَعَلَهُ عَلَى شُرَطَتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتَمَرَّ بِقَيْسٍ عِنْدَهُ، وَوَلَّى الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ مِصْرَ، وَقَدْ كَانَ نَائِبَهُ عَلَى الْمَوْصِلِ وَنَصِيبِينَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ فَاسْتَقْدَمَهُ عَلَيْهِ، وَوَلَّاهُ مِصْرَ. فَلَمَّا بَلَغَ مُعَاوِيَةَ تَوْلِيَةُ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ مِصْرَ بَدَلَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِمَ أَنَّ الْأَشْتَرَ سَيَمْنَعُهَا مِنْهُ ; لِجُرْأَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ، فَسَارَ الْأَشْتَرُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا بَلَغَ الْقُلْزُمَ اسْتَقْبَلَهُ الْجَايْسَارُ، وَهُوَ مُقَدَّمُ عَلِيٍّ عَلَى الْخَرَاجِ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِ طَعَامًا، وَسَقَاهُ شَرَابًا مِنْ عَسَلٍ فَمَاتَ مِنْهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرًا وَأَهْلَ الشَّامِ قَالُوا: إِنَّ لِلَّهِ لَجُنُودًا مِنْ عَسَلٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي أَنْ يَحْتَالَ عَلَى الْأَشْتَرِ ; فَيَقْتُلَهُ، وَوَعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ يَسْتَجِيزُ قَتْلَ الْأَشْتَرِ ; لِأَنَّهُ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَهْلَ الشَّامِ فَرِحُوا فَرَحًا شَدِيدًا بِمَوْتِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ
وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا تَأَسَّفَ عَلَى شَجَاعَتِهِ وَغَنَائِهِ، وَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِاسْتِقْرَارِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَلَكِنَّهُ ضَعُفَ جَأْشُهُ مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ

الْخِلَافِ عَلَيْهِ مِنَ الْعُثْمَانِيَّةِ الَّذِينَ بِبَلَدِ خِرِبْتَا، وَقَدْ كَانُوا اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ حِينَ انْصَرَفَ عَلِيٌّ مِنْ صِفِّينَ وَكَانَ مِنْ أَمْرِ التَّحْكِيمِ مَا كَانَ، وَحِينَ نَكَلَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَنْ قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ مَعَهُ. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الشَّامِ لَمَّا انْقَضَتِ الْحُكُومَةُ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ سَلَّمُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ بِالْخِلَافَةِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُمْ جِدًّا.
فَعِنْدَ ذَلِكَ جَمَعَ مُعَاوِيَةُ أُمَرَاءَهُ ; عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ، وَحَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، وَبُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ، وَأَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَحَمْزَةَ بْنَ سِنَانٍ الْهَمْدَانِيَّ، وَغَيْرَهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ فِي الْمَسِيرِ إِلَى مِصْرَ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَقَالُوا: سِرْ حَيْثُ شِئْتَ فَنَحْنُ مَعَكَ.
وَعَيَّنَ مُعَاوِيَةُ نِيَابَتَهَا لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِذَا فَتَحَهَا، فَفَرِحَ بِذَلِكَ عَمْرٌو، ثُمَّ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: أَرَى أَنْ تَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَجُلًا مَعَهُ جُنْدٌ مَأْمُونٌ عَارِفٌ بِالْحَرْبِ، فَإِنَّ بِهَا جَمَاعَةً مِمَّنْ يُوَالِي عُثْمَانَ فَيُسَاعِدُونَهُ عَلَى حَرْبِ مَنْ خَالَفَهُمْ،

فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَكِنْ أَرَى أَنْ أَبْعَثَ إِلَى شِيعَتِنَا مِمَّنْ هُنَالِكَ كِتَابًا نُعْلِمُهُمْ بِقُدُومِنَا عَلَيْهِمْ، وَنَبْعَثُ إِلَى مُخَالِفِينَا كِتَابًا نَدْعُوهُمْ فِيهِ إِلَى الصُّلْحِ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: إِنَّكَ يَا عَمْرُو رَجُلٌ بُورِكَ لَكَ فِي الْعَجَلَةِ، وَإِنِّي امْرُؤٌ بُورِكَ لِي فِي التُّؤَدَةِ. فَقَالَ عَمْرٌو: اعْمَلْ مَا أَرَاكَ اللَّهُ، وَمَا أَرَى أَمْرَكَ وَأَمْرَهُمْ إِلَّا سَيَصِيرُ إِلَى الْحَرْبِ الْعَوَانِ.
فَكَتَبَ عِنْدَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَإِلَى مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ السَّكُونِيِّ - وَهُمَا رَئِيسَا الْعُثْمَانِيَّةِ بِبِلَادِ مِصْرَ وَكَانَا مِمَّنْ لَمْ يُبَايِعُ عَلِيًّا، وَلَمْ يَأْتَمِرْ بِأَمْرِ نُوَّابِهِ بِمِصْرَ فِي نَحْوٍ مَنْ عَشَرَةَ آلَافٍ - يُخْبِرُهُمْ بِقُدُومِ الْجَيْشِ إِلَيْهِمْ سَرِيعًا، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ: سُبَيْعٌ. فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى مَسْلَمَةَ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ فَرِحَا بِهِ وَرَدَّا جَوَابَهُ بِالِاسْتِبْشَارِ وَالْمُعَاوَنَةِ وَالْمُنَاصَرَةِ لَهُ، وَلِمَنْ يَبْعَثُهُ مِنَ الْجَيْشِ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ جَهَّزَ مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي سِتَّةِ آلَافٍ، وَخَرَجَ مَعَهُ مُوَدِّعًا وَأَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالرِّفْقِ وَالْمَهْلِ وَالتُّؤَدَةِ، وَأَنْ يَقْتُلَ مَنْ قَاتَلَ وَيَعْفُوَ عَمَّنْ أَدْبَرَ، وَأَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى الصُّلْحِ وَالْجَمَاعَةِ، فَإِذَا أَنْتَ ظَهَرْتَ فَلْيَكُنْ أَنْصَارُكَ آثَرَ

النَّاسِ عِنْدَكَ.
فَسَارَ عَمْرٌو فَلَمَّا دَخَلَ مِصْرَ، اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْعُثْمَانِيَّةُ فَقَادَهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَتَنَحَّ عَنِّي بِدَمِكَ، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ يُصِيبَكَ مِنِّي ظُفُرٌ ; فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا بِهَذِهِ الْبِلَادِ عَلَى خِلَافِكَ وَرَفْضِ أَمْرِكَ، وَنَدِمُوا عَلَى اتِّبَاعِكَ، فَهُمْ مُسْلِمُوكَ لَوْ قَدِ الْتَقَتْ حَلْقَتَا الْبِطَانِ، فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنِّي لَكَ لَمِنَ النَّاصِحِينَ وَالسَّلَامُ. وَبَعَثَ إِلَيْهِ عَمْرٌو أَيْضًا بِكِتَابِ مُعَاوِيَةَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ غِبَّ الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ عَظِيمُ الْوَبَالِ، وَإِنَّ سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ لَا يَسْلَمُ فَاعِلُهُ مِنَ النِّقْمَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّبِعَةِ الْمُوبِقَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ أَشَدَّ خِلَافًا عَلَى عُثْمَانَ مِنْكَ حِينَ تَطْعَنُ بِمَشَاقِصِكَ بَيْنَ حُشَاشَتِهِ وَأَوْدَاجِهِ، ثُمَّ أَنْتَ تَظُنُّ أَنِّي عَنْكَ نَائِمٌ أَوْ لِفِعْلِكَ نَاسٍ، حَتَّى تَأْتِيَ فَتَتَأَمَّرَ عَلَى بِلَادٍ أَنْتِ بِهَا جَارِي، وَجُلُّ أَهْلِهَا أَنْصَارِي، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِجُيُوشٍ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ بِجِهَادِكَ، وَلَنْ يُسَلِّمَكَ اللَّهُ مِنَ الْقَصَّاصِ أَيْنَمَا كُنْتَ، وَالسَّلَامُ.
قَالَ: فَطَوَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْكِتَابَيْنِ، وَبَعَثَ بِهِمَا إِلَى عَلِيٍّ وَأَعْلَمَهُ بِقُدُومِ عَمْرٍو إِلَى مِصْرَ فِي جَيْشٍ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ ; فَإِنْ كَانَتْ لَكَ بِأَرْضِ مِصْرَ حَاجَةٌ فَابْعَثْ إِلَيَّ بِأَمْوَالٍ وَرِجَالٍ، وَالسَّلَامُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ يَأْمُرُهُ

بِالصَّبْرِ وَبِمُجَاهَدَةِ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُ سَيَبْعَثُ إِلَيْهِ الرِّجَالَ وَالْأَمْوَالَ، وَيَمُدُّهُ بِالْجُيُوشِ. وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ كِتَابًا فِي جَوَابِ مَا قَالَ وَفِيهِ غِلْظَةٌ. وَكَذَلِكَ كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كِتَابًا فِيهِ كَلَامٌ غَلِيظٌ. وَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَمُنَاجَزَةِ مَنْ قَصَدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ.
وَتَقَدَّمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى مِصْرَ فِي جُيُوشِهِ، وَمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنَ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَالْجَمِيعُ فِي قَرِيبٍ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَرَكِبَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي قَرِيبٍ مِنْ أَلْفَيْ فَارِسٍ وَهُمُ الَّذِينَ انْتَدَبُوا مَعَهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ جَيْشِهِ كِنَانَةَ بْنَ بِشْرٍ، فَجَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا مِنَ الشَّامِيِّينَ إِلَّا قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُلْحِقَهُمْ مَغْلُوبِينَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَبَعَثَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ، فَجَاءَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ الشَّامِيُّونَ حَتَّى أَحَاطُوا بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ; فَتَرَجَّلَ عِنْدَ ذَلِكَ كِنَانَةُ وَهُوَ يَقُولُ: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ: 145 ]. ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ، وَرَجَعَ يَمْشِي فَرَأَى خَرِبَةً فَأَوَى إِلَيْهَا، وَدَخَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فُسْطَاطَ مِصْرَ، وَذَهَبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ فِي طَلَبِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَمَرَّ بِعُلُوجٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ مَرَّ بِكُمْ أَحَدٌ تَسْتَنْكِرُونَهُ ؟ قَالُوا: لَا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا جَالِسًا فِي هَذِهِ الْخَرِبَةِ. فَقَالَ: هُوَ هُوَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.

فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَاسْتَخْرَجُوهُ مِنْهَا - وَقَدْ كَادَ يَمُوتُ عَطَشًا - فَانْطَلَقَ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مَعَهُ إِلَى مِصْرَ، فَقَالَ: أَيُقْتَلُ أَخِي صَبْرًا ؟ فَبَعَثَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ أَنْ يَأْتِيَهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَلَا يَقْتُلَهُ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ، أَيَقْتُلُونَ كِنَانَةَ بْنَ بِشْرٍ وَأَتْرُكُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ كَانَ فِي مَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ، وَقَدْ سَأَلَهُمْ عُثْمَانُ الْمَاءَ فَلَمْ يَسْقُوهُ ؟ وَقَدْ سَأَلَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَسْقُوهُ شَرْبَةً مِنَ الْمَاءِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَا سَقَانِي اللَّهُ إِنْ سَقَيْتُكَ قَطْرَةً مِنَ الْمَاءِ أَبَدًا ; إِنَّكُمْ مَنَعْتُمْ عُثْمَانَ أَنْ يَشْرَبَ الْمَاءَ حَتَّى قَتَلْتُمُوهُ صَائِمًا مُحْرِمًا، فَتَلَقَّاهُ اللَّهُ بِالرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ نَالَ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ هَذَا وَشَتَمَهُ، وَمِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمِنْ مُعَاوِيَةَ وَمِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَيْضًا ; فَعِنْدَ ذَلِكَ غَضِبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ، فَقَدَّمَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ جَعَلَهُ فِي جِيفَةِ حِمَارٍ فَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ جَزِعَتْ عَلَيْهِ جَزَعًا شَدِيدًا، وَضَمَّتْ عِيَالَهُ إِلَيْهَا، وَكَانَ فِيهِمُ ابْنُهُ الْقَاسِمُ، وَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ دُبُرَ الصَّلَوَاتِ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَدِمَ مِصْرَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فِيهِمْ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، فَالْتَقَوْا مَعَ الْمِصْرِيِّينَ بِالْمُسَنَّاةِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى

قُتِلَ كِنَانَةُ بْنُ بِشْرِ بْنِ غَيَّاثِ التُّجِيبِيُّ، فَهَرَبَ عِنْدَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَاخْتَبَأَ عِنْدَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: جَبَلَةُ بْنُ مَسْرُوقٍ. فَدَلَّ عَلَيْهِ فَجَاءَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ وَأَصْحَابُهُ فَأَحَاطُوا بِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَلَمَّا قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بَعَثَ عَلِيٌّ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ إِلَى مِصْرَ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَكَانَتْ أَذْرُحُ فِي شَعْبَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا، فَلَمَّا قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، كَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُخْبِرُهُ بِمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ فَتَحَ عَلَيْهِ بِلَادَ مِصْرَ وَرَجَعُوا إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. وَقَدْ زَعَمَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ مُسِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ مَقْتَلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ - وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَرِّضِينَ عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ - فَبَعَثَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَلَمْ يُبَادِرْ إِلَى قَتْلِهِ ; لِأَنَّهُ ابْنُ خَالِ مُعَاوِيَةَ، فَحَبَسَهُ مُعَاوِيَةُ بِفِلَسْطِينَ فَهَرَبَ مِنَ السِّجْنِ - وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُحِبُّ نَجَاتَهُ فِيمَا يَرَوْنَ - فَلَحِقَهُ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ ظَلَامٍ - وَكَانَ عُثْمَانِيًّا شُجَاعًا - بِأَرْضِ الْبَلْقَاءِ مِنْ بِلَادِ حَوْرَانَ، فَاخْتَفَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي غَارٍ، فَجَاءَتْ حُمُرُ وَحْشٍ لِتَأْوِيَ إِلَى ذَلِكَ الْغَارِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ فِيهِ نَفَرَتْ فَتَعَجَّبَ

مِنْ نَفْرَتِهَا جَمَاعَةُ الْحَصَّادِينَ الَّذِينَ هُنَالِكَ، فَذَهَبُوا إِلَى الْغَارِ، فَوَجَدُوا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ، فَخَشِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ظَلَامٍ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَيَعْفُوَ عَنْهُ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ هُنَالِكَ. ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ. وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ قُتِلَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، كَمَا قَدَّمْنَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ فِي كِتَابِهِ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ اسْتَحَلَّ مَالَ قِبْطِيٍّ مِنْ قِبْطِ مِصْرَ ; لِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ الرُّومَ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ - يَكْتُبُ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ - فَاسْتَخْرَجَ مِنْ مَالِهِ بِضْعًا وَخَمْسِينَ إِرْدَبًّا دَنَانِيرَ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: وَالْإِرْدَبُّ سِتُّ وَيْبَاتٍ، وَالْوَيْبَةُ مِثْلُ الْقَفِيزِ، وَاعْتَبَرْنَا الْوَيْبَةَ فَوَجَدْنَاهَا تِسْعًا وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَبْلَغُ مَا أَخَذَ مِنْهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ بِإِسْنَادِهِ: وَلَمَّا بَلَغَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مَقْتَلُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ، وَتَمَلُّكُ عَمْرٍو مِصْرَ، وَاجْتِمَاعُ النَّاسِ عَلَيْهِ وَعَلَى مُعَاوِيَةَ، قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ وَالْمَسِيرِ إِلَى أَعْدَائِهِمْ

مِنَ الشَّامِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ، وَوَاعَدَهُمُ الْجَرَعَةَ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ خَرَجَ يَمْشِي إِلَيْهَا حَتَّى نَزَلَهَا فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ بَعَثَ إِلَى أَشْرَافِهِمْ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ حَزِينٌ كَئِيبٌ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا قَضَى مِنْ أَمْرٍ، وَقَدَّرَ مِنْ فِعْلٍ، وَابْتَلَانِي بِكُمْ، وَبِمَنْ لَا يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ، وَلَا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ، أَوَلَيْسَ عَجَبًا أَنَّ مُعَاوِيَةَ يَدْعُو الْجُفَاةَ الطَّغَامَ فَيَتَّبِعُونَهُ بِغَيْرِ عَطَاءٍ وَلَا مَعُونَةٍ وَيُجِيبُونَهُ فِي السَّنَةِ الْمَرَّتَيْنِ وَالثَّلَاثَ إِلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ - وَأَنْتُمْ أُولُو النُّهَى وَبَقِيَّةُ النَّاسِ - عَلَى الْمَعُونَةِ وَالْعَطَاءِ فَتَتَفَرَّقُونَ وَتَنْفِرُونَ عَنِّي وَتَعْصُونِي وَتَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ مَالِكُ بْنُ كَعْبٍ الْهَمْدَانِيُّ، ثُمَّ الْأَرْحَبِيُّ، فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِ عَلِيٍّ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ، فَانْتَدَبَ أَلْفَانِ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ مَالِكَ بْنَ كَعْبٍ هَذَا، فَسَارَ بِهِمْ خَمْسًا ثُمَّ قَدِمَ عَلَى عَلِيٍّ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، بِمِصْرَ فَأَخْبَرُوهُ كَيْفَ وَقَعَ الْأَمْرُ، وَكَيْفَ قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَكَيْفَ اسْتَقَرَّ أَمْرُ عَمْرٍو بِهَا. فَبَعَثَ إِلَى مَالِكِ بْنِ كَعْبٍ فَرَدَّهُ مِنَ الطَّرِيقِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ خَشِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ قَبْلَ وُصُولِهِمْ إِلَى مِصْرَ.

وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ الْعِرَاقِيِّينَ عَلَى مُخَالَفَةِ عَلِيٍّ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَانْتِقَادِ أَحْكَامِهِ، وَرَدِّ أَقْوَالِهِ، وَحَلِّ إِبْرَامِهِ ; لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ وَجَفَائِهِمْ وَغِلْظَتِهِمْ وَفُجُورِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَلَمَّا جَاءَ عَلِيًّا الْخَبَرُ عَنْ مِصْرَ وَمَا حَلَّ بِهَا، وَقَتْلُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، حَزِنَ عَلَى مُحَمَّدٍ حُزْنًا كَثِيرًا، وَتَرَحَّمَ وَرُئِيَ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ عَلَيْهِ، مَعَ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: إِنِّي وَاللَّهِ بِمَوَاضِعِ الْحَرْبِ لَجَدِيرٌ خَبِيرٌ، وَإِنِّي لَأَعْرِفُ وَجْهَ الْحَزْمِ، وَأَقُومُ فِيكُمْ بِالرَّأْيِ الْمُصِيبِ فَأَسْتَصْرِخُكُمْ مُعْلِنًا، وَأُنَادِيكُمْ نِدَاءَ الْمُسْتَغِيثِ، وَلَا أَرَى فِيكُمْ مُغِيثًا، وَلَا تَسْمَعُونَ لِي قَوْلًا، وَلَا تُطِيعُونَ لِي أَمْرًا حَتَّى تَصِيرَ بِيَ الْأُمُورُ إِلَى عَوَاقِبِ الْمَسَاءَةِ، فَأَنْتُمْ وَاللَّهِ الْقَوْمُ لَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَأْرٌ، دَعَوْتُكُمْ إِلَى غِيَاثِ إِخْوَانِكُمْ مُنْذُ خَمْسِينَ لَيْلَةً فَتَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الْأَشْدَقِ، وَتَثَاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ تَثَاقُلَ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ نِيَّةٌ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ وَلَا اكْتِسَابِ الْأَجْرِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ مَرَايِبُ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فَأُفٍّ لَكُمْ.
ثُمَّ كَتَبَ عَلِيٌّ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - وَهُوَ نَائِبُهُ عَلَى الْبَصْرَةِ - يَشْكُو إِلَيْهِ مَا يَلْقَاهُ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَيَقُولُ: إِنِّي دَعَوْتُهُمْ إِلَى غَوْثِ إِخْوَانِهِمْ ; فَمِنْهُمْ مَنْ أَتَى كَارِهًا، وَمِنْهُمُ الْمُعْتَذِرُ كَاذِبًا، أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي مِنْهُمْ فَرَجًا

وَمَخْرَجًا وَأَنْ يُرِيحَنِي مِنْهُمْ عَاجِلًا، وَلَوْلَا مَا أُحَاوِلُ مِنَ الشَّهَادَةِ لَأَحْبَبْتُ أَنْ لَا أَبْقَى مَعَ هَؤُلَاءِ يَوْمًا وَاحِدًا، عَزْمُ اللَّهِ لَنَا وَلَكُمْ عَلَى تَقْوَاهُ وَهُدَاهُ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَالسَّلَامُ. فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ يُسَلِّيهِ عَنِ النَّاسِ، وَيُعَزِّيهِ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَيَحُثُّهُ عَلَى مُلَاطَفَةِ النَّاسِ وَالصَّبْرِ عَلَى مُسِيئِهِمْ، فَإِنَّ ثَوَابَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وَقَالَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ رُبَّمَا تَثَاقَلُوا ثُمَّ نَشَطُوا، فَارْفُقْ بِهِمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ رَكِبَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى عَلِيٍّ، وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، وَاسْتَخْلَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى الْبَصْرَةِ زِيَادًا. وَفِي هَذَا الْعَامِ بَعَثَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ كِتَابًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْحَضْرَمِيِّ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِمَا حَكَمَ لَهُ بِهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَلَمَّا قَدِمَهَا نَزَلَ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ فَأَجَارُوهُ، فَنَهَضَ إِلَيْهِ زِيَادٌ وَبَعَثَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَعْيَنَ بْنَ ضُبَيْعَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَثَارُوا إِلَيْهِمْ فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ أَعْيَنُ بْنُ ضُبَيْعَةَ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ الَّتِي بَعَثَهَا عَلِيٌّ، فَكَتَبَ نَائِبُ ابْنِ عَبَّاسٍ زِيَادٌ إِلَى عَلِيٍّ يُعْلِمُهُ بِمَا وَقَعَ بِالْبَصْرَةِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ بَعْدَ خُرُوجِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْهَا، فَبَعَثَ عِنْدَ ذَلِكَ عَلِيٌّ جَارِيَةَ بْنَ قُدَامَةَ التَّمِيمِيَّ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا إِلَى قَوْمِهِ بَنِي

تَمِيمٍ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَيْهِمْ، فَرَجَعَ أَكْثَرُهُمْ عَنِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَقَصَدَهُ جَارِيَةُ فَحَصَرَهَ فِي دَارٍ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ - قِيلَ: كَانَ عَدَدُهُمْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا. وَقِيلَ: سَبْعِينَ - فَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ، بَعْدَ أَنْ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ وَأَنْذَرَهُمْ ; فَلَمْ يَقْبَلُوا وَلَمْ يَرْجِعُوا عَمَّا جَاءُوا لَهُ مِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ.

فَصْلٌ ( قِتَالُ عَلِيٍّ بَنِي نَاجِيَةَ مِنَ الْخَوَارِجِ )
وَقَدْ صَحَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ قِتَالَ عَلِيٍّ لِأَهْلِ النَّهْرَوَانِ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَذَلِكَ خُرُوجُ الْخِرِّيتِ بْنِ رَاشِدٍ النَّاجِيِّ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا، وَكَانَ مَعَ الْخِرِّيتِ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ بَنِي نَاجِيَةَ - وَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ - فَجَاءَ إِلَى عَلِيٍّ فَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ: وَاللَّهِ يَا عَلِيُّ لَا أُطِيعُ أَمْرَكَ وَلَا أُصَلِّي خَلْفَكَ إِنِّي لَكَ غَدًا لَمُفَارِقٌ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، إِذًا تَعْصِي رَبَّكَ، وَتَنْقُضُ عَهْدَكَ، وَلَا تَضُرُّ إِلَّا نَفْسَكَ، وَلِمَ تَفْعَلُ ذَلِكَ ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ حَكَّمْتَ فِي الْكِتَابِ، وَضَعُفْتَ عَنْ قِيَامِ الْحَقِّ إِذْ جَدَّ الْجِدُّ، وَرَكَنْتَ إِلَى الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، فَأَنَا عَلَيْكَ زَارٍ وَعَلَيْكَ نَاقِمٌ، وَإِنَّا لَكُمْ جَمِيعًا مُبَايِنُونَ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ بِلَادِ الْبَصْرَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ مَعْقِلَ بْنَ قَيْسٍ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ

الطَّائِيِّ - وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالدِّينِ وَالْبَأْسِ وَالنَّجْدَةِ - وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْمَعَ لَهُ وَيُطِيعَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا صَارُوا جَيْشًا وَاحِدًا، ثُمَّ خَرَجُوا فِي آثَارِ الْخِرِّيتِ وَأَصْحَابِهِ فَلَحِقُوهُمْ، وَقَدْ أَخَذُوا فِي جِبَالِ رَامَهُرْمُزَ قَالَ: فَصَفَفْنَا لَهُمْ ثُمَّ أَقْبَلْنَا إِلَيْهِمْ، فَجَعَلَ مَعْقِلٌ عَلَى مَيْمَنَتِهِ يَزِيدَ بْنَ مَعْقِلَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ مِنْجَابَ بْنَ رَاشِدٍ الضَّبِّيَّ، وَوَقَفَ الْخِرِّيتُ فِي مَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَرَبِ فَكَانُوا مَيْمَنَةً، وَجَعَلَ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْأَكْرَادِ وَالْعُلُوجِ مَيْسَرَةً. قَالَ: وَسَارَ فِينَا مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ لَا تَبْدَأُوا الْقَوْمَ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَأَقِلُّوا الْكَلَامَ، وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، وَأَبْشِرُوا فِي قِتَالِهِمْ بِالْأَجْرِ، إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ مَارِقَةً مَرَقَتْ مِنَ الدِّينِ، وَعُلُوجًا كَسَرُوا الْخَرَاجَ، وَلُصُوصًا وَأَكْرَادًا، فَإِذَا حَمَلْتُ فَشُدُّوا شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. ثُمَّ تَقَدَّمَ فَحَرَّكَ دَابَّتَهُ تَحْرِيكَتَيْنِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ فِي الثَّالِثَةِ وَحَمَلْنَا مَعَهُ جَمِيعًا، فَوَاللَّهِ مَا صَبَرُوا لَنَا سَاعَةً وَاحِدَةً حَتَّى وَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، وَقَتَلْنَا مِنَ الْعُلُوجِ وَالْأَكْرَادِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَفَرَّ الْخِرِّيتُ مُنْهَزِمًا حَتَّى لَحِقَ بِأَسْيَافَ - وَبِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ قَوْمِهِ كَثِيرَةٌ - فَاتَّبَعُوهُ فَقَتَلُوهُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ

أَصْحَابِهِ بِسَيْفِ الْبَحْرِ، قَتَلَهُ النُّعْمَانُ بْنُ صُهْبَانَ، وَقُتِلَ مَعَهُ فِي الْمَعْرَكَةِ مِائَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَعَاتٍ كَثِيرَةً كَانَتْ فِيهَا بَيْنَ أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَالْخَوَارِجِ.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، ثَنَا أَبُو الْحَسَنِ - يَعْنِي الْمَدَائِنِيَّ - عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ، عَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمَّا قَتَلَ عَلِيٌّ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ، خَالَفَهُ قَوْمٌ كَثِيرُونَ، وَانْتَقَضَتْ أَطْرَافُهُ وَخَالَفَهُ بَنُو نَاجِيَةَ، وَقَدِمَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَانْتَقَضَ أَهْلُ الْجِبَالِ، وَطَمِعَ أَهْلُ الْخَرَاجِ فِي كَسْرِهِ، وَأَخْرَجُوا سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ مِنْ فَارِسَ - وَكَانَ عَامِلًا عَلَيْهَا لِعَلِيٍّ - فَأَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِزِيَادِ بْنِ أَبِيهِ أَنْ يُوَلِّيَهُ إِيَّاهَا فَوَلَّاهُ إِيَّاهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَوَطِئَهُمْ حَتَّى أَدَّوُا الْخَرَاجَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، نَائِبُ عَلِيٍّ عَلَى مَكَّةَ، وَكَانَ أَخُوهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ نَائِبَ الْيَمَنِ، وَأَخُوهُمَا

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ نَائِبَ الْبَصْرَةِ، وَأَخُوهُمْ تَمَّامُ بْنُ عَبَّاسٍ نَائِبَ الْمَدِينَةِ، وَعَلَى خُرَاسَانَ خَالِدُ بْنُ قُرَّةَ الْيَرْبُوعِيُّ، وَقِيلَ: ابْنُ أَبْزَى، وَاسْتَقَرَّتْ مِصْرُ بِيَدِ مُعَاوِيَةَ، فَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
سَهْلُ بْنُ حُنَيْفِ بْنِ وَاهِبِ بْنِ الْعُكَيْمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا، وَثَبَتَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَحَضَرَ بَقِيَّةَ الْمَشَاهِدِ، وَكَانَ صَاحِبًا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ شَهِدَ مَعَهُ مَشَاهِدَهُ كُلَّهَا أَيْضًا غَيْرَ الْجَمَلِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَمَاتَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْكُوفَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عَلِيٌّ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ خَمْسًا، وَقِيلَ: سِتًّا. وَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
صَفْوَانُ بْنُ بَيْضَاءَ أَخُو سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ، شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا، وَلَيْسَ لَهُ عَقِبٌ.
صُهَيْبُ بْنُ سِنَانِ بْنِ مَالِكٍ أَبُو يَحْيَى الرُّومِيُّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْيَمَنِ،

مِنْ قَاسِطَ، وَكَانَ أَبُوهُ أَوْ عَمُّهُ عَامِلًا لِكِسْرَى عَلَى الْأُبُلَّةِ، وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ عَلَى دِجْلَةَ عِنْدَ الْمَوْصِلِ - وَقِيلَ: عَلَى الْفُرَاتِ - فَأَغَارَتْ عَلَى بِلَادِهِمُ الرُّومُ، فَأَسَرَتْهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ حِينًا، ثُمَّ اشْتَرَتْهُ بَنُو كَلْبٍ، فَحَمَلُوهُ إِلَى مَكَّةَ، فَابْتَاعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ، فَأَعْتَقَهُ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ حِينًا، فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آمَنَ بِهِ قَدِيمًا هُوَ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بَعْدَ بِضْعَةٍ وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَكَانَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ الَّذِينَ يُعَذَّبُونَ فِي اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ،وَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَاجَرَ صُهَيْبٌ بَعْدَهُ بِأَيَّامٍ، فَلَحِقَهُ قَوْمٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوهُ عَنِ الْهِجْرَةِ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ نَثَلَ كِنَانَتَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْمَاكُمْ رَجُلًا، وَوَاللَّهِ لَا تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّى أَقْتُلَ بِكُلِّ سَهْمٍ مِنْ هَذِهِ رَجُلًا مِنْكُمْ، ثُمَّ أُقَاتِلَكُمْ بِسَيْفِي حَتَّى أُقْتَلَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْمَالَ فَأَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَالِي، هُوَ مَدْفُونٌ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ فَأَخَذُوا مَالَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ: رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهِ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [ الْبَقَرَةِ: 207 ].

وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: وَشَهِدَ صُهَيْبٌ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَلَمَّا طُعِنَ عُمَرُ، كَانَ صُهَيْبٌ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ أَيَّامَ الشُّورَى حَتَّى تَعَيَّنَ عُثْمَانُ، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَى عُمَرَ، وَكَانَ لَهُ صَاحِبًا وَصَدِيقًا.
وَكَانَ صُهَيْبٌ أَحْمَرَ شَدِيدَ الْحُمْرَةِ، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ، أَقْرَنَ الْحَاجِبَيْنِ كَثِيرَ الشَّعَرِ، وَكَانَ فِي لِسَانِهِ عُجْمَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ مَعَ فَضْلِهِ وَدِينِهِ فِيهِ دُعَابَةٌ وَفُكَاهَةٌ وَانْشِرَاحٌ. رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَآهُ يَأْكُلُ بِقِثَّاءٍ رُطَبًا وَهُوَ أَرْمَدُ إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ، فَقَالَ: أَتَأْكُلُ رُطَبًا وَأَنْتَ أَرْمَدُ ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا آكُلُ مِنْ نَاحِيَةِ عَيْنِي الصَّحِيحَةِ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ قَوْلِهِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ. وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى السَّبْعِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ عِنْدَ الْمَحْرَمِ. وَأَمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَلَمَّا احْتُضِرَ الصِّدِّيقُ

أَوْصَى أَنْ تُغَسِّلَهُ أَسْمَاءُ فَغَسَّلَتْهُ، ثُمَّ لَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَزَوَّجَهَا عَلِيٌّ فَنَشَأَ مُحَمَّدٌ فِي حِجْرِهِ، فَلَمَّا صَارَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ اسْتَنَابَهُ عَلَى مِصْرَ بَعْدَ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ قُتِلَ بِبِلَادِ مِصْرَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ دُونَ الثَّلَاثِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَحَزِنَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ وَعَلِيٌّ وَغَيْرُهُمَا.
أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسِ بْنِ مَعْدِ بْنِ الْحَارِثِ الْخَثْعَمِيَّةِ، وَهِيَ أُمُّ مُحَمَّدٍ الْمَذْكُورِ، أَسْلَمَتْ قَدِيمًا بِمَكَّةَ وَهَاجَرَتْ مَعَ زَوْجِهَا جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَقَدِمَتْ مَعَهُ إِلَى خَيْبَرَ، وَلَهَا مِنْهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَمُحَمَّدٌ، وَعَوْنٌ. وَلَمَّا قُتِلَ جَعْفَرٌ بِمُؤْتَةَ، تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَمِيرَ مِصْرَ. ثُمَّ لَمَّا مَاتَ الصِّدِّيقُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ يَحْيَى وَعَوْنًا، وَهِيَ أُخْتُ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ

لِأُمِّهَا. وَكَذَلِكَ هِيَ أُخْتُ أُمِّ الْفَضْلِ امْرَأَةِ الْعَبَّاسِ لِأُمِّهَا، وَكَانَ لَهَا مِنَ الْأَخَوَاتِ لِأُمِّهَا تِسْعُ أَخَوَاتٍ، وَهِيَ أُخْتُ سَلْمَى بِنْتِ عُمَيْسٍ امْرَأَةِ الْعَبَّاسِ الَّتِي لَهُ مِنْهَا بِنْتٌ اسْمُهَا عُمَارَةُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ
فِيهَا فَرَّقَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ جُيُوشًا كَثِيرَةً فِي أَطْرَافِ مُعَامَلَاتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ رَأَى بَعْدَ أَنْ وَلَّاهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ الْخِلَافَةَ بَعْدَ اتِّفَاقِهِ هُوَ وَأَبُو مُوسَى عَلَى خَلْعِ عَلِيٍّ وَعَزْلِهِ عَنِ الْأَمْرِ - أَنَّ وِلَايَتَهُ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ وَقَعَتِ الْمَوْقِعَ، فَهُوَ الَّذِي تَجِبُ طَاعَتُهُ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَدْ خَالَفُوا عَلِيًّا فَلَا يُطِيعُونَهُ، وَلَا يَأْتَمِرُونَ بِأَمْرِهِ، فَلَا يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَتِهِ مَقْصُودُ الْوِلَايَةِ وَالْإِمَارَةِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَأَنَا أَوْلَى مِنْهُ ; إِذْ كَانَتْ كَلِمَةُ أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ مَجْمُوعَةً عَلَيَّ، وَهُمْ طَائِعُونَ لِي، يَأْتَمِرُونَ بِأَمْرِي، وَكَلِمَتِي نَافِذَةٌ فِيهِمْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ جَهَّزَ الْجُيُوشَ إِلَى أَطْرَافِ مَمْلَكَةِ عَلِيٍّ، فَكَانَ مِمَّنْ بَعَثَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ إِلَى عَيْنِ التَّمْرِ، وَعَلَيْهَا مَالِكُ بْنُ كَعْبٍ فِي أَلْفِ فَارِسٍ مَسْلَحَةً لِعَلِيٍّ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِقُدُومِ الشَّامِيِّينَ

ارْفَضُّوا عَنْهُ فَلَمْ يَبْقَ مَعَ مَالِكٍ إِلَّا مِائَةُ رَجُلٍ، فَكَتَبَ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى عَلِيٍّ يُخْبِرُهُ بِأَمْرِ النُّعْمَانِ، فَنَدَبَ عَلِيٌّ النَّاسَ إِلَى إِغَاثَةِ مَالِكِ بْنِ كَعْبٍ، فَتَثَاقَلُوا عَلَيْهِ وَنَكَلُوا، وَلَمْ يُجِيبُوا إِلَى الْخُرُوجِ فَخَطَبَهُمْ عَلِيٌّ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، كُلَّمَا سَمِعْتُمْ بِمِنْسَرٍ مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ الشَّامِ قَدْ أَظَلَّكُمُ، انْجَحَرَ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ فِي بَيْتِهِ، وَغَلَّقَ عَلَيْهِ بَابَهُ، انْجِحَارَ الضَّبِّ فِي جُحْرِهِ، وَالضَّبُعِ فِي وِجَارِهِ، الْمَغْرُورُ وَاللَّهِ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ، وَمَنْ فَازَ بِكُمْ فَازَ بِالسَّهْمِ الْأَخْيَبِ، لَا أَحْرَارٌ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَلَا إِخْوَانٌ ثِقَةٌ عِنْدَ النَّجَاءِ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَاذَا مُنِيتُ بِهِ مِنْكُمْ ؟ عُمْيٌ لَا تُبْصِرُونَ، وَبُكْمٌ لَا تَنْطِقُونَ، وَصُمٌّ لَا تَسْمَعُونَ، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَدَهَمَهُمُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ فِي أَلْفَيْ مُقَاتِلٍ، وَلَيْسَ مَعَ مَالِكِ بْنِ كَعْبٍ إِلَّا مِائَةُ رَجُلٍ قَدْ كَسَرُوا جُفُونَ سُيُوفِهُمْ، وَاسْتَقْتَلُوا أُولَئِكَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُمْ نَجْدَةٌ مِنْ جِهَةِ مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ مَعَ ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا، فَلَمَّا رَآهُمُ الشَّامِيُّونَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مَدَدٌ عَظِيمٌ، فَفَرُّوا هِرَابًا عَلَى وُجُوهِهِمْ، فَاتَّبَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ كَعْبٍ فَقَتَلَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ أَنْفُسٍ، وَذَهَبَ الْبَاقُونَ لَا يَلْوُونَ عَلَى

أَحَدٍ حَتَّى قَدِمُوا الشَّامَ وَلَمْ يَتِمَّ لَهُمْ مَا رَجَوْا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَفِيهَا: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ سُفْيَانَ بْنَ عَوْفٍ فِي سِتَّةِ آلَافٍ إِلَى هِيتَ فَيُغِيرُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَأْتِي الْأَنْبَارَ وَالْمَدَائِنَ. فَسَارَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى هِيتَ فَلَمْ يَجِدْ بِهَا أَحَدًا، ثُمَّ أَتَى الْأَنْبَارَ وَبِهَا مَسْلَحَةٌ لِعَلِيٍّ نَحْوٌ مَنْ خَمْسِمِائَةٍ، فَتَفَرَّقُوا وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا إِلَّا مِائَةُ رَجُلٍ، فَقَاتَلُوا مَعَ قِلَّتِهِمْ وَصَبَرُوا حَتَّى قُتِلَ أَمِيرُهُمْ - وَهُوَأَشْرَسُ بْنُ حَسَّانَ الْبَكْرِيُّ - فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاحْتَمَلَ الشَّامِيُّونَ مَا كَانَ بِالْأَنْبَارِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَكَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا مَا جَرَى لِأَهْلِ الْأَنْبَارِ، رَكِبَ بِنَفْسِهِ فَنَزَلَ بِالنُّخَيْلَةِ، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: نَحْنُ نَكْفِيكَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا تَكْفُونَنِي وَلَا أَنْفُسَكُمْ، وَسَرَّحَ سَعِيدَ بْنَ قَيْسٍ فِي أَثَرِ الْقَوْمِ، فَسَارَ وَرَاءَهُمْ حَتَّى بَلَغَ هِيتَ فَلَمْ يَلْحَقْهُمْ فَرَجَعَ.
وَفِيهَا: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ فِي أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةٍ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُصَدِّقَ أَهْلَ الْبَوَادِي، وَمَنِ امْتَنَعَ مِنْ إِعْطَائِهِ فَلْيَقْتُلْهُ، ثُمَّ يَأْتِي الْمَدِينَةَ وَمَكَّةَ وَالْحِجَازَ. فَسَارَ إِلَى تَيْمَاءَ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا بَلَغَ

عَلِيًّا خَبَرُهُ بَعَثَ الْمُسَيَّبَ بْنَ نَجَبَةَ الْفَزَارِيَّ فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ، فَالْتَقَوْا بِتَيْمَاءَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَحَمَلَ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ عَلَى ابْنِ مَسْعَدَةَ فَضَرَبَهُ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ وَهُوَ لَا يُرِيدُ قَتْلَهُ بَلْ يَقُولُ لَهُ: النَّجَاءَ النَّجَاءَ. فَانْحَازَ ابْنُ مَسْعَدَةَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ قَوْمِهِ إِلَى حِصْنٍ هُنَاكَ فَتَحَصَّنُوا بِهِ، وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَانْتَهَبَتِ الْأَعْرَابُ مَا كَانَ جَمَعَهَ ابْنُ مَسْعَدَةَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَحَاصَرَهُمُ الْمُسَيَّبُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَلْقَى الْحَطَبَ عَلَى الْبَابِ، وَأَلْهَبَ فِيهِ النَّارَ، فَلَمَّا أَحَسُّوا بِالْهَلَاكِ أَشْرَفُوا مِنَ الْحِصْنِ، وَمَتُّوا إِلَيْهِ بِأَنَّهُمْ مِنْ قَوْمِهِ، فَرَقَّ لَهُمْ وَأَطْفَأَ النَّارَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ فَتَحَ بَابَ الْحِصْنِ، وَخَرَجُوا مِنْهُ هِرَابًا إِلَى الشَّامِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَبِيبٍ لِلْمُسَيَّبِ بْنِ نَجَبَةَ: سَرِّحْنِي أَلْحَقْهُمْ. فَقَالَ: لَا. فَقَالَ: غَشَشْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَدَاهَنْتَ فِي أَمْرِهِمْ.
وَفِيهَا: وَجَّهَ مُعَاوِيَةُ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَى أَطْرَافِ جَيْشِ عَلِيٍّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَأَنْفَقَ فِيهِمْ كُلَّ وَاحِدٍ خَمْسِينَ دِرْهَمًا خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَالْتَقَوْا بِتَدْمُرَ فَقَتَلَ حُجْرٌ

مِنْ أَصْحَابِ الضَّحَّاكَ تِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ حُجْرٍ رَجُلَانِ، وَغَشِيَهُمُ اللَّيْلُ، فَتَفَرَّقُوا وَانْشَمَرَ الضَّحَّاكَ بِأَصْحَابِهِ فَارًّا إِلَى الشَّامِ.
وَفِيهَا: سَارَ مُعَاوِيَةُ بِنَفْسِهِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ حَتَّى بَلَغَ دِجْلَةَ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا. ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ بِإِسْنَادِهِ، وَأَبُو مَعْشَرَ مَعَهُ أَيْضًا.
وَفِيهَا وَلَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ زِيَادَ بْنَ أَبِيهِ عَلَى أَرْضِ فَارِسَ، وَكَانُوا قَدْ مَنَعُوا الْخَرَاجَ وَالطَّاعَةَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَتْلِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَأَصْحَابِهِ بِالنَّارِ حِينَ حَرَّقَهُمْ جَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَمَّا اشْتُهِرَ هَذَا الصَّنِيعُ فِي الْبِلَادِ شَوَّشَ قُلُوبَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَأَنْكَرُوهُ جِدًّا، وَاخْتَلَفُوا عَلَى عَلِيٍّ، وَمَنَعَ أَكْثَرُ أَهْلِ تِلْكَ النَّوَاحِي الْخَرَاجَ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلُ فَارِسَ فَإِنَّهُمْ تَمَرَّدُوا وَأَخْرَجُوا عَامِلَهُمْ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ عَنْهُمْ، فَاسْتَشَارَ عَلِيٌّ النَّاسَ فِي مَنْ يُوَلِّيهِ عَلَيْهِمْ، فَأَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَارِيَةُ بْنُ قُدَامَةَ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْهِمْ زِيَادَ بْنَ أَبِيهِ، فَإِنَّهُ صَلِيبُ الرَّأْيِ، عَالِمٌ بِالسِّيَاسَةِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: هُوَ لَهَا، فَوَلَّاهُ عَلَى فَارِسَ وَكَرْمَانَ، فَجَهَّزَهُ إِلَيْهَا فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَدَوَّخَ أَهْلَهَا

وَقَهَرَهُمْ حَتَّى اسْتَقَامُوا وَأَدَّوُا الْخَرَاجَ، وَرَجَعُوا إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَسَارَ فِيهِمْ بِالْمَعْدَلَةِ وَالْأَمَانَةِ، حَتَّى كَانَ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ يَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا سِيرَةً أَشْبَهَ بِسِيرَةِ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ مِنْ سِيرَةِ هَذَا الْعَرَبِيِّ فِي اللِّينِ وَالْمُدَارَاةِ وَالْعِلْمِ بِمَا يَأْتِي وَمَا يَذْرُ، وَصَفَتْ لَهُ تِلْكَ الْبِلَادُ بِعَدْلِهِ وَعِلْمِهِ وَصَرَامَتِهِ، وَاتَّخَذَ لِلْمَالِ قَلْعَةً حَصِينَةً، فَكَانَتْ تُعْرَفُ بِقَلْعَةِ زِيَادٍ، ثُمَّ لَمَّا تَحَصَّنَ فِيهَا مَنْصُورٌ الْيَشْكُرِيُّ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، عُرِفَتْ بِهِ فَكَانَ يُقَالُ لَهَا: قَلْعَةُ مَنْصُورٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْمَوْسِمِ، وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ يَزِيدَ بْنَ شَجَرَةَ الرَّهَاوِيَّ لِيُقِيمَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا بِمَكَّةَ تَنَازَعَا، وَأَبَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ لِصَاحِبِهِ، فَاصْطَلَحَا عَلَى شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْحَجَبِيِّ، فَحَجَّ بِالنَّاسِ، وَصَلَّى بِهِمْ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ.
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ: لَمْ يَشْهَدْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ الْمَوْسِمَ فِي أَيَّامِ عَلِيٍّ حَتَّى قُتِلَ، وَالَّذِي نَازَعَهُ يَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ إِنَّمَا هُوَ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ،

حَتَّى اصْطَلَحَا عَلَى شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَمَا قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَمَّا عُمَّالُ عَلِيٍّ عَلَى الْأَمْصَارِ فَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرْنَا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ قَدْ سَارَ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَصْرَةِ زِيَادَ بْنَ أَبِيهِ، ثُمَّ سَارَ زِيَادٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى فَارِسَ وَكَرْمَانَ كَمَا ذَكَرْنَا.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
سَعْدُ الْقَرَظِ مُؤَذِّنُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ الْخِلَافَةَ وَلَّاهُ أَذَانَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَكَانَ أَصْلُهُ مَوْلًى لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَحْمِلُ الْعَنَزَةَ بَيْنَ يَدِيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ إِلَى الْمُصَلَّى يَوْمَ الْعِيدِ، وَبَقِيَ الْأَذَانُ فِي ذُرِّيَّتِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً.
عُقْبَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ، أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ، سَكَنَ مَاءَ بَدْرٍ

فَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَشْهَدِ الْوَقْعَةَ بِبَدْرٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَدْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ يَنُوبُ لِعَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا إِلَى الْقِتَالِ.

سَنَةُ أَرْبَعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مُفَصَّلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَمِمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأُمُورِ الْجَلِيلَةِ، تَوْجِيهُ مُعَاوِيَةَ بُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ إِلَى الْحِجَازِ، فَذُكِرَ عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيِّ، عَنْ عَوَانَةَ قَالَ: أَرْسَلَ مُعَاوِيَةُ بَعْدَ تَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ بُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ - هُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ - فِي جَيْشٍ، فَسَارُوا مِنَ الشَّامِ حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَعَامِلُ عَلِيٍّ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، فَفَرَّ مِنْهُمْ أَبُو أَيُّوبَ، فَأَتَى عَلِيًّا بِالْكُوفَةِ، وَدَخَلَ بُسْرٌ الْمَدِينَةَ، وَلَمْ يُقَاتِلْهُ أَحَدٌ، فَصَعِدَ مِنْبَرَهَا فَنَادَى عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا دِينَارُ، وَيَا نَجَّارُ، وَيَا زُرَيْقُ، شَيْخِي شَيْخِي ! عَهْدِي بِهِ هَاهُنَا بِالْأَمْسِ، فَأَيْنَ هُوَ ؟ يَعْنِي عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، وَاللَّهِ لَوْلَا مَا عَهِدَ إِلَيَّ مُعَاوِيَةُ فِيكُمْ مَا تَرَكْتُ بِهَا مُحْتَلِمًا إِلَّا قَتَلْتُهُ. ثُمَّ بَايَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَنِي سَلِمَةَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا لَكُمْ عِنْدِي مِنْ أَمَانٍ وَلَا

مُبَايَعَةٍ حَتَّى تَأْتُونِي بِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، يَعْنِي حَتَّى يُبَايِعَهُ، فَانْطَلَقَ جَابِرٌ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ لَهَا: مَاذَا تَرَيْنَ ؟ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ أُقْتَلَ وَهَذِهِ بَيْعَةُ ضَلَالَةٍ. فَقَالَتْ: أَرَى أَنْ تُبَايِعَ، فَإِنِّي قَدْ أَمَرْتُ ابْنِي عُمَرَ، وَخَتَنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَمْعَةَ ; وَهُوَ زَوْجُ ابْنَتِهَا زَيْنَبَ أَنْ يُبَايِعَا، فَأَتَاهُ جَابِرٌ فَبَايَعَهُ.
قَالَ: وَهَدَمَ بُسْرٌ دُورًا بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَخَافَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَقَالَ لَهُ بُسْرٌ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ بِصَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَلِكَ. فَخَلَّى عَنْهُ، وَكَتَبَ أَبُو مُوسَى قَبْلَ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنَّ خَيْلًا مَبْعُوثَةً مِنْ عِنْدِ مُعَاوِيَةَ تَقْتُلُ مِنْ أَبَى أَنْ يُقِرَّ بِالْحُكُومَةِ، ثُمَّ مَضَى بُسْرٌ إِلَى الْيَمَنِ وَعَلَيْهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، فَفَرَّ إِلَى الْكُوفَةِ حَتَّى لَحِقَ بِعَلِيٍّ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْيَمَنِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَدَانِ الْحَارِثِيَّ، فَلَمَّا دَخَلَ بُسْرٌ الْيَمَنَ قَتَلَهُ، وَقَتَلَ ابْنُهُ، وَلَقِيَ بُسْرٌ ثَقَلَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ ابْنَانِ لَهُ صَغِيرَانِ، فَقَتَلَهُمَا وَهُمَا ; عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَقُثَمُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ذَبَحَهُمَا بَيْنَ يَدَيْ أُمِّهِمَا، فَزَاغَ عَقْلُهَا وَوَسْوَسَتْ مِمَّا رَأَتْ، فَكَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ تَقِفُ فِي الْمَوَاسِمِ مَبْهُوتَةً زَائِغَةَ الْعَقْلِ، تَنْدُبُ وَلَدَيْهَا. وَيُقَالُ: إِنَّ بُسْرًا قَتَلَ فِي مَسِيرِهِ هَذَا خَلْقًا مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ، وَهَذَا الْخَبَرُ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْمُغَازِي وَالسِّيَرِ، وَفِي صِحَّتِهِ عِنْدِي نَظَرٌ،

وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا خَبَرُ بُسْرٍ، وَجَّهَ جَارِيَةَ بْنَ قُدَامَةَ فِي أَلْفَيْنِ، وَوَهْبَ بْنَ مَسْعُودٍ فِي أَلْفَيْنِ، فَسَارَ جَارِيَةُ حَتَّى بَلَغَ نَجْرَانَ، فَحَرَّقَ بِهَا، وَقَتَلَ نَاسًا مِنْ شِيعَةِ عُثْمَانَ، وَهَرَبَ بُسْرٌ وَأَصْحَابُهُ فَأَتْبَعَهُمْ حَتَّى بَلَغَ مَكَّةَ. فَقَالَ لَهُمْ جَارِيَةُ: بَايِعُوا ! فَقَالُوا: لِمَنْ نُبَايِعُ وَقَدْ هَلَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ! فَلِمَنْ نُبَايِعُ ؟ فَقَالَ: بَايِعُوا لِمَنْ بَايَعَ لَهُ أَصْحَابُ عَلِيٍّ، فَتَثَاقَلُوا ثُمَّ بَايَعُوا حِينَ خَافُوا. ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يُصَلِّي بِهِمْ فَهَرَبَ مِنْهُ، فَقَالَ جَارِيَةُ: وَاللَّهِ لَوْ أَخَذْتُ أَبَا سِنَّوْرٍ لَضَرَبْتُ عُنُقَهُ. ثُمَّ قَالَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ بَايِعُوا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ، فَبَايَعُوا وَأَقَامَ عِنْدَهُمْ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ مُنْصَرِفًا إِلَى الْكُوفَةِ، وَعَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُصَلِّي بِهِمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَرَتْ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ الْمُهَادَنَةُ بَعْدَ مُكَاتَبَاتٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا، عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمَا، وَأَنْ يَكُونَ مُلْكُ الْعِرَاقِ لِعَلِيٍّ، وَلِمُعَاوِيَةَ مُلْكُ الشَّامِ وَلَا يُدْخُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي عَمَلِهِ بِجَيْشٍ وَلَا غَارَةٍ وَلَا غَزْوَةٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ مَا هَذَا مَضْمُونُهُ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى عَلِيٍّ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ قَدْ قَتَلَ بَعْضُهَا بَعْضًا بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَلَكَ الْعِرَاقُ وَلِيَ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

معايير الأحكام في قضية الطلاق؟

  معايير الأحكام في قضية الطلاق؟     أحكام الطلاق من القرآن والسنة الصحيحة   1 الطلاق للعدة الشرعة الباقية إلي يوم القيامة :   1. ما هي...