مشاري راشد {سورة الطلاق}

Translate

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

ج5. البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

ج5. البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ: مُدَّةُ مَا بَيْنَ عَدْنَانَ إِلَى زَمَنِ إِسْمَاعِيلَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعَةُ أَبَاءٍ أَوْ عَشَرَةٌ أَوْ عِشْرُونَ; وَذَلِكَ أَنَّ مَعَدَّ بْنَ عَدْنَانَ كَانَ عُمْرُهُ زَمَنَ بُخْتُنَصَّرَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى أَرْمِيَاءَ بْنِ حَلْقِيَا: أَنِ اذْهَبْ إِلَى بُخْتُنَصَّرَ فَأَعْلِمْهُ أَنِّي قَدْ سَلَّطْتُهُ عَلَى الْعَرَبِ، وَأَمَرَ اللَّهُ أَرْمِيَا أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ مَعَدَّ بْنَ عَدْنَانَ عَلَى الْبُرَاقِ كَيْ لَا تُصِيبَهُ النِّقْمَةُ فِيهِمْ فَإِنِّي مُسْتَخْرِجٌ مِنْ صُلْبِهِ نَبِيًّا كَرِيمًا أَخْتِمُ بِهِ الرُّسُلَ فَفَعَلَ أَرْمِيَا ذَلِكَ، وَاحْتَمَلَ مَعَدًّا عَلَى الْبُرَاقِ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ فَنَشَأَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّنْ بَقِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَتَزَوَّجَ هُنَاكَ امْرَأَةً اسْمُهَا مُعَانَةُ بِنْتُ جَوْشَنَ مِنْ بَنِي دُبِّ بْنِ جُرْهُمٍ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بِلَادِهِ، ثُمَّ عَادَ بَعْدَ أَنْ هَدَأَتِ الْفِتَنُ، وَتَمَحَّضَتْ جَزِيرَةُ الْعَرَبِ وَكَانَ رِخْيَا كَاتِبُ أَرْمِيَاءَ قَدْ كَتَبَ نَسَبَهُ فِي كِتَابٍ عِنْدَهُ لِيَكُونَ فِي خِزَانَةِ أَرْمِيَاءَ فَيَحْفَظُ نَسَبَ مَعَدٍّ كَذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ رَفْعَ النِّسَبِ إِلَى مَا بَعْدَ عَدْنَانَ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا تَكَلَّمْنَا فِي رَفْعِ هَذِهِ الْأَنْسَابِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَكْرَهْهُ كَابْنِ إِسْحَاقَ وَالْبُخَارِيِّ وَالزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ وَالطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَدْ سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَرْفَعُ نَسَبَهُ إِلَى آدَمَ فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ لَهُ عِلْمُ ذَلِكَ ؟ فَقِيلَ لَهُ: فَإِلَى

إِسْمَاعِيلَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَقَالَ: وَمَنْ يُخْبِرُهُ بِهِ ؟ وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يُرْفَعَ فِي نَسَبِ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: ابْرَاهِيمُ بْنُ فَلَانِ بْنِ فُلَانٍ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُعَيْطِيُّ فِي كِتَابِهِ.
قَالَ: وَقَوْلُ مَالِكٍ هَذَا نَحْوٌ مِمَّا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ ثَلَاثُونَ أَبَا لَا يُعْرَفُونَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ إِذَا بَلَغَ عَدْنَانَ يَقُولُ: كَذَبَ النَّسَّابُونَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. وَالْأَصَحُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِنَّمَا نَنْتَسِبُ إِلَى عَدْنَانَ، وَقَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِهِ " الْإِنْبَاهِ فِي مَعْرِفَةِ قَبَائِلِ الرُّوَاةِ " رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا وَرَاءَ عَدْنَانَ وَلَا مَا وَرَاءَ قَحْطَانَ إِلَّا تَخَرُّصًا. وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ - وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ قُرَيْشٍ بِأَشْعَارِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ - يَقُولُ: مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا وَرَاءَ مَعَدِّ بْنِ

عَدْنَانَ فِي شِعْرِ شَاعِرٍ وَلَا عِلْمِ عَالِمٍ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ إِذَا تَلَوْا وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ [ إِبْرَاهِيمَ: 9 ] قَالُوا كَذَبَ النَّسَّابُونَ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمَعْنَى عِنْدَنَا فِي هَذَا غَيْرُ مَا ذَهَبُوا وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنِ ادَّعَى إِحْصَاءَ بَنِي آدَمَ; فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ، وَأَمَّا أَنْسَابُ الْعَرَبِ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِأَيَّامِهَا وَأَنْسَابِهَا قَدْ وَعَوْا وَحَفِظُوا جَمَاهِيرَهَا، وَأُمَّهَاتِ قَبَائِلِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ فُرُوعِ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَالَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ هَذَا الشَّأْنِ فِي نَسَبِ عَدْنَانَ قَالُوا: عَدْنَانُ بْنُ أُدَدَ بْنِ مُقَوَّمِ بْنِ نَاحُورَ بْنِ تَيْرَحَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ نَابِتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارَ فِي السِّيرَةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ عَدْنَانُ بْنُ أُدٍّ يَعْنِي: عَدْنَانَ بْنِ أُدِّ بْنِ أُدَدَ، ثُمَّ سَاقَ أَبُو عُمَرَ بَقِيَّةَ النَّسَبِ إِلَى آدَمَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قِصَّةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ

السَّلَامُ. وَأَمَّا الْأَنْسَابُ إِلَى عَدْنَانَ مِنْ سَائِرِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فَمَحْفُوظَةٌ شَهِيرَةٌ جِدًّا لَا يَتَمَارَى فِيهَا اثْنَانِ وَالنَّسَبُ النَّبَوِيُّ إِلَيْهِ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ. وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ كَمَا سَنُورِدُهُ فِي مَوْضِعِهِ بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَذِكْرِ أَنْسَابِهَا وَانْتِظَامِهَا فِي سِلْكِ النَّسَبِ الشَّرِيفِ وَالْأَصْلِ الْمُنِيفِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. وَمَا أَحْسَنَ مَا نَظَمَ النَّسَبَ النَّبَوِيَّ الْإِمَامُ أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاشِئُ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ وَهِيَ قَوْلُهُ
مَدَحْتُ رَسُولَ اللَّهِ أَبْغِي بِمَدْحِهِ وُفُورَ حُظُوظِي مِنْ كَرِيمِ الْمَآرِبِ
مَدَحْتُ امْرَأً فَاقَ الْمَدِيحَ مُوَحَّدًا بِأَوْصَافِهِ عَنْ مُبْعِدٍ وَمُقَارِبِ
نِبِيًّا تَسَامَى فِي الْمَشَارِقِ نُورُهُ فَلَاحَتْ هَوَادِيهِ لِأَهْلِ الْمَغَارِبِ
أَتَتْنَا بِهِ الْأَنْبَاءُ قَبْلَ مَجِيئِهِ وَشَاعَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ فِي كُلِّ جَانِبِ
وَأَصْبَحَتِ الْكُهَّانُ تَهْتِفُ بِاسْمِهِ وَتَنْفِي بِهِ رَجْمَ الظُّنُونِ الْكَوَاذِبِ
وَأُنْطِقَتِ الْأَصْنَامُ نُطْقًا تَبَرَّأَتْ إِلَى اللَّهِ فِيهِ مِنْ مَقَالِ الْأَكَاذِبِ
وَقَالَتْ لِأَهْلِ الْكُفْرِ قَوْلًا مُبَيَّنًا أَتَاكُمْ نَبِيٌّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ
وَرَامَ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ جِنٌّ فَزَيَّلَتْ مَقَاعِدَهُمْ مِنْهَا رُجُومُ الْكَوَاكِبِ

هَدَانَا إِلَى مَا لَمْ نَكُنْ نَهْتَدِي لَهُ لِطُولِ الْعَمَى مِنْ وَاضِحَاتِ الْمَذَاهِبِ
وَجَاءَ بِآيَاتٍ تُبَيِّنُ أَنَّهَا دَلَائِلُ جَبَّارٍ مُثِيبٍ مُعَاقِبِ
فَمِنْهَا انْشِقَاقُ الْبَدْرِ حِينَ تَعَمَّمَتْ شُعُوبُ الضِّيَا مِنْهُ رُءُوسَ الْأَخَاشِبِ
وَمِنْهَا نُبُوعُ الْمَاءِ بَيْنَ بَنَانِهِ وَقَدْ عَدِمَ الْوُرَّادُ قُرْبَ الْمَشَارِبِ
فَرَّوَى بِهِ جَمًّا غَفِيرًا وَأَسْهَلَتْ بِأَعْنَاقِهِ طَوْعًا أَكُفُّ الْمَذَانِبِ
وَبِئْرٌ طَغَتْ بِالْمَاءِ مِنْ مَسِّ سَهْمِهِ وَمِنْ قَبْلُ لَمْ تَسْمَحْ بِمَذْقَةِ شَارِبِ
وَضَرْعٌ مَرَاهُ فَاسْتَدَرَّ وَلَمْ يَكُنْ بِهِ دَرَّةٌ تُصْغِي إِلَى كَفِّ حَالِبِ
وَنُطْقٌ فَصِيحٌ مِنْ ذِرَاعٍ مُبِينَةٍ لِكَيْدِ عَدُوٍّ لِلْعَدَاوَةِ نَاصِبِ
وَأَخْبَارُهُ بِالْأَمْرِ مِنْ قَبْلِ كَوْنِهِ وَعِنْدَ بَوَادِيهِ بِمَا فِي الْعَوَاقِبِ
وَمِنْ تِلْكُمُ الْآيَاتِ وَحْيٌّ أَتَى بِهِ قَرِيبُ الْمَآتِي مُسْتَجِمُّ الْعَجَائِبِ

تَقَاصَرَتِ الْأَفْكَارُ عَنْهُ فَلَمْ. يُطِعْ بَلِيغًا وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ خَاطِبِ
حَوَى كُلَّ عِلْمٍ وَاحْتَوَى كُلَّ حِكْمَةٍ وَفَاتَ مَرَامَ الْمُسْتَمِرِّ الْمُوَارِبِ
أَتَانَا بِهِ لَا عَنْ رَوِيَّةِ مُرْتَئٍ وَلَا صُحْفِ مُسْتَمْلٍ وَلَا وَصْفِ كَاتِبِ
يُوَاتِيهِ طَوْرًا فِي إِجَابَةِ سَائِلٍ وَإِفْتَاءِ مُسْتَفْتٍ وَوَعْظِ مُخَاطِبِ
وَإِتْيَانِ بُرْهَانٍ وَفَرْضِ شَرَائِعٍ وَقَصِّ أَحَادِيثَ وَنَصِّ مَآرِبِ
وَتَصْرِيفِ أَمْثَالٍ وَتَثْبِيتِ حُجَّةٍ وَتَعْرِيفِ ذِي جَحْدٍ وَتَوْقِيفِ كَاذِبِ
وَفِي مَجْمَعِ النَّادِي وَفِي حَوْمَةِ الْوَغَى وَعِنْدَ حُدُوثِ الْمُعْضِلَاتِ الْغَرَائِبِ
فَيَأْتِي عَلَى مَا شِئْتَ مِنْ طُرُقَاتِهِ قَوِيمَ الْمَعَانِي مُسْتَدِرَّ الضَّرَائِبِ
يُصَدِّقُ مِنْهُ الْبَعْضُ بَعْضًا كَأَنَّمَا يُلَاحَظُ مَعْنَاهُ بِعَيْنِ الْمُرَاقِبِ
وَعَجْزُ الْوَرَى عَنْ أَنْ يَجِيئُوا بِمِثْلِ مَا وَصَفْنَاهُ مَعْلُومٌ بِطُولِ التَّجَارِبِ
تَأَبَّى بِعَبْدِ اللَّهِ أَكْرَمِ وَالِدٍ تَبَلَّجَ مِنْهُ عَنْ كَرِيمِ الْمَنَاسِبِ
وَشَيْبَةَ ذِي الْحَمْدِ الَّذِي فَخِرَتْ بِهِ قُرَيْشٌ عَلَى أَهْلِ الْعُلَا وَالْمَنَاصِبِ
وَمَنْ كَانَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ وَيَصْدُرُ عَنْ آرَائِهِ فِي النَّوَائِبِ

وَهَاشِمٍ الْبَانِي مَشِيدَ افْتِخَارِهِ بِغُرِّ الْمَسَاعِي وَامْتِنَانِ الْمَوَاهِبِ
وَعَبْدِ مَنَافٍ وَهُوَ عَلَّمَ قَوْمَهُ اشْتِطَاطَ الْأَمَانِي وَاحْتِكَامَ الرَّغَائِبِ
وَإِنَّ قُصَيًّا مِنْ كَرِيمٍ غِرَاسُهُ لَفِي مَنْهَلٍ لَمْ يَدْنُ مِنْ كَفِّ قَاضِبِ
بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ بَعْدَ مَا تَقَسَّمَهَا نَهْبُ الْأَكُفِّ السَّوَالِبِ
وَحَلَّ كِلَابٌ مِنْ ذُرَى الْمَجْدِ مَعْقِلًا تَقَاصَرَ عَنْهُ كُلُّ دَانٍ وَغَائِبِ
وَمُرَّةُ لَمْ يَحْلُلْ مَرِيرَةَ عَزْمِهِ سِفَاهُ سَفِيهٍ أَوْ مَحُوبَةُ حَائِبِ
وَكَعْبٌ عَلَا عَنْ طَالِبِ الْمَجْدِ كَعْبُهُ فَنَالَ بِأَدْنَى السَّعْيِ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ
.
وَأَلْوَى لُؤَيٌّ بِالْعَدَاةِ فَطُوِّعَتْ لَهُ هِمَمُ الشُّمِّ الْأُنُوفِ الْأَغَالِبِ
وَفِي غَالِبٍ بَأْسُ أَبِي الْبَأْسِ دُونَهُمْ يُدَافِعُ عَنْهُمْ كُلَّ قِرْنٍ مُغَالِبِ
وَكَانَتْ لِفِهْرٍ فِي قُرَيْشٍ خَطَابَةٌ يَعُوذُ بِهَا عِنْدَ اشْتِجَارِ الْمَخَاطِبِ
وَمَا زَالَ مِنْهُمْ مَالِكٌ خَيْرَ مَالِكٍ وَأَكْرَمَ مَصْحُوبٍ وَأَكْرَمَ صَاحِبِ

وَلِلنَّضْرِ طَوْلٌ يَقْصُرُ الطَّرْفُ دُونَهُ بِحَيْثُ الْتَقَى ضَوْءُ النُّجُومِ الثَّوَاقِبِ
لَعَمْرِي لَقَدْ أَبْدَى كِنَانَةَ قَبْلَهُ مَحَاسِنَ تَأْبَى أَنْ تَطُوعَ لِغَالِبِ
وَمِنْ قَبْلِهِ أَبْقَى خُزَيْمَةُ حَمْدَهُ تَلِيدَ تُرَاثٍ عَنْ حَمِيدِ الْأَقَارِبِ
وَمُدْرِكَةٌ لَمْ يُدْرِكِ النَّاسُ مِثْلَهُ أَعَفَّ وَأَعْلَى عَنْ دَنِيِّ الْمَكَاسِبِ
وَإِلْيَاسُ كَانَ الْيَأْسُ مِنْهُ مُقَارِنًا لِأَعْدَائِهِ قَبْلَ اعْتِدَادِ الْكَتَائِبِ
وَفِي مُضَرَ يَسْتَجْمِعُ الْفَخْرَ كُلَّهُ إِذَا اعْتَرَكَتْ يَوْمًا زُحُوفُ الْمَقَانِبِ
وَحَلَّ نِزَارٌ مِنْ رِيَاسَةِ أَهْلِهِ مَحَلًّا تَسَامَى عَنْ عُيُونٍ الرَّوَاقِبِ
وَكَانَ مَعَدٌّ عُدَّةً لِوَلِيِّهِ إِذَا خَافَ مِنْ كَيْدِ الْعَدُوِّ الْمُحَارِبِ
وَمَازَالَ عَدْنَانُ إِذَا عُدَّ فَضْلُهُ تَوَحَّدَ فِيهِ عَنْ قَرِينٍ وَصَاحِبِ
وَأُدٌّ تَأَدَّى الْفَضْلُ مِنْهُ بِغَايَةٍ وَارْثٌ حَوَاهُ عَنْ قُرُومٍ أَشَايِبِ
وَفِي أُدَدٍ حِلْمٌ تَزَيَّنَ بِالْحِجَا إِذَا الْحِلْمُ أَزْهَاهُ قُطُوبُ الْحَوَاجِبِ
وَمَازَالَ يَسْتَعْلِي هَمَيْسَعُ بِالْعُلَى وَيَتْبَعُ آمَالَ الْبَعِيدِ الْمُرَاغِبِ

وَنَبْتٌ بَنَتْهُ دَوْحَةُ الْعِزِّ وَابْتَنَى مَعَاقِلَهُ فِي مُشْمَخِرِّ الْأَهَاضِبِ
وَحِيزَتْ لِقَيْدَارٍ سَمَاحَةُ حَاتِمٍ وَحِكْمَةُ لُقْمَانٍ وَهِمَّةُ حَاجِبِ
هُمُو نَسْلُ إِسْمَاعِيلَ صَادِقِ وَعْدِهِ فَمَا بَعْدَهُ فِي الْفَخْرِ مَسْعًى لِذَاهِبِ
وَكَانَ خَلِيلُ اللَّهِ أَكْرَمَ مَنْ عَنَتْ لَهُ الْأَرْضُ مِنْ مَاشٍ عَلَيْهَا وَرَاكِبِ
وَتَارَحُ مَازَالَتْ لَهُ أَرْيَحِيَّةٌ تُبَيِّنُ مِنْهُ عَنْ حَمِيدِ الْمَضَارِبِ
وَنَاحُورُ نَحَّارُ الْعِدَى حُفِظَتْ لَهُ مَآثِرُ لَمَّا يُحْصِهَا عَدُّ حَاسِبِ
وَأَشْرَعُ فِي الْهَيْجَاءِ ضَيْغَمُ غَابَةٍ يَقُدُّ الطُّلَى بِالْمُرْهَفَاتِ الْقَوَاضِبِ
وَأَرْغَوُ نَابٌ فِي الْحُرُوبِ مُحَكَّمٌ ضَنِينٌ عَلَى نَفْسِ الْمُشِحِّ الْمُغَالِبِ
وَمَا فَالِغٌ فِي فَضْلِهِ تِلْوَ قَوْمِهِ وَلَا عَابِرٌ مِنْ دُونِهِمْ فِي الْمَرَاتِبِ
وَشَالِخْ وَأَرْفَخْشَذْ وَسَامٌ سَمَتْ بِهِمْ سَجَايَا حَمَتْهُمْ كُلَّ زَارٍ وَعَائِبِ
وَمَا زَالَ نُوحٌ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ فَاضِلًا يُعَدِّدُهُ فِي الْمُصْطَفَيْنِ الْأَطَايِبِ
وَلَمْكٌ أَبُوهُ كَانَ فِي الرَّوْعِ رَائِعًا جَرِيئًا عَلَى نَفْسِ الْكَمِيِّ الْمُضَارِبِ

وَمِنْ قَبْلِ لَمْكٍ لَمْ يَزَلْ مُتَوَشْلِخٌ يَذُودُ الْعِدَى بِالْذَائِدَاتِ الشَّوَارِبِ
وَكَانَتْ لِإِدْرِيسَ النَّبِيِّ مَنَازِلٌ مِنَ اللَّهِ لَمْ تُقْرَنْ بِهِمَّةِ رَاغِبِ
وَيَارَدُ بَحْرٌ عِنْدَ آلِ سَرَاتِهِ أَبِيُّ الْخَزَايَا مُسْتَدِقُّ الْمَآرِبِ
وَكَانَتْ لِمِهْلَايِيلَ فَهْمُ فَضَائِلٍ مُهَذَّبَةٍ مِنْ فَاحِشَاتِ الْمَثَالِبِ
وَقَيْنَانُ مِنْ قَبْلُ اقْتَنَى مَجْدَ قَوْمِهِ وَفَاتَ بِشَأْوِ الْفَضْلِ وَخْدَ الرَّكَائِبِ
وَكَانَ أَنُوشٌ نَاشَ لِلْمَجْدِ نَفْسَهُ وَنَزَّهَهَا عَنْ مُرْدِيَاتِ الْمَطَالِبِ
وَمَازَالَ شِيثٌ بِالْفَضَائِلِ فَاضِلًا شَرِيفًا بَرِيئًا مِنْ ذَمِيمِ الْمَعَائِبِ
وَكُلُّهُمُ مِنْ نُورِ آدَمَ أَقْبَسُوا وَعَنْ عُودِهِ أَجْنَوْا ثِمَارَ الْمَنَاقِبِ
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ أَكْرَمَ مُنْجَبٍ جَرَى فِي ظُهُورِ الطَّيِّبِينَ الْمَنَاجِبِ
.
مُقَابَلَةً آبَاؤُهُ أُمَّهَاتِهِ مُبَرَّأَةٌ مِنْ فَاضِحَاتِ الْمَثَالِبِ
عَلَيْهِ سَلَامُ اللَّهِ فِي كُلِّ شَارِقٍ أَلَاحَ لَنَا ضَوْءًا وَفِي كُلِّ غَارِبِ
هَكَذَا أَوْرَدَ الْقَصِيدَةَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَشَيْخُنَا الْحَافِظُ

أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي تَهْذِيبِهِ مِنْ شِعْرِ الْأُسْتَاذِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّاشِئِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ شِرْشِيرٍ، أَصْلُهُ مِنَ الْأَنْبَارِ وَرَدَ بَغْدَادَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَكَانَ مُتَكَلِّمًا مُعْتَزِلِيًّا يَحْكِي عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَقَالَاتِ فِيمَا يَحْكِي عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَانَ شَاعِرًا مُطَبِّقًا حَتَّى أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ اقْتِدَارِهِ عَلَى الشِّعْرِ كَانَ يُعَاكِسُ الشُّعَرَاءَ فِي الْمَعَانِي فَيَنْظِمُ فِي مُخَالَفَتِهِمْ، وَيَبْتَكِرُ مَا لَا يُطِيقُونَهُ مِنَ الْمَعَانِي الْبَدِيعَةِ وَالْأَلْفَاظِ الْبَلِيغَةِ حَتَّى نَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّهَوُّسِ وَالِاخْتِلَاطِ. وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ لَهُ قَصِيدَةً عَلَى قَافِيَةٍ وَاحِدَةٍ قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ بَيْتٍ ذَكَرَهَا النَّاجِمُ وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ كَمَا ذَكَرْنَا.
قُلْتُ: وَهَذِهِ الْقَصِيدَةُ تَدُلُّ عَلَى فَضِيلَتِهِ وَبَرَاعَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَعِلْمِهِ وَفَهْمِهِ وَحِفْظِهِ وَحُسْنِ لَفْظِهِ وَاطِّلَاعِهِ وَاضْطِلَاعِهِ وَاقْتِدَارِهِ عَلَى نَظْمِ هَذَا النَّسَبِ الشَّرِيفِ فِي سِلْكِ شِعْرِهِ، وَغَوْصِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ جَوَاهِرُ نَفِيسَةٌ مِنْ قَامُوسِ بَحْرِهِ فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَأَثَابَهُ وَأَحْسَنَ مَصِيرَهُ وَإِيَابَهُ.

ذِكْرُ أُصُولِ أَنْسَابِ
عَرَبِ الْحِجَازِ إِلَى عَدْنَانَ
وَذَلِكَ; لِأَنَّ عَدْنَانَ وُلِدَ لَهُ وَلَدَانِ; مَعَدٌّ وَعَكٌّ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَلِعَدْنَانَ أَيْضًا ابْنٌ اسْمُهُ الْحَارِثُ وَآخَرُ يُقَالَ لَهُ: الْمُذْهَبُ قَالَ وَقَدْ ذُكِرَ أَيْضًا فِي بَنِيهِ الضَّحَّاكُ، وَقِيلَ: إِنَّ الضَّحَّاكَ ابْنٌ لِمَعَدٍّ لَا ابْنُ عَدْنَانَ قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّ عَدَنَ الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ مَدِينَةُ عَدَنَ، وَكَذَلِكَ أَبْيَنُ كَانَا ابْنَيْنِ لِعَدْنَانَ. حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ فَتَزَوَّجَ عَكٌّ فِي الْأَشْعَرِيِّينَ، وَسَكَنَ فِي بِلَادِهِمْ مِنَ الْيَمَنِ فَصَارَتْ لُغَتُهُمْ وَاحِدَةً فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْيَمَنِ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ فَيَقُولُونَ: عَكُّ بْنُ عَدْنَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَزْدِ بْنِ يَغُوثَ، وَيُقَالُ: عَكُّ بْنُ

عَدْنَانَ بْنِ الذِّيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَسَدِ، وَيُقَالَ: الرَّيْثُ بَدَلَ الذِّيبِ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُمْ مِنْ عَدْنَانَ. قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ
وَعَكُّ بْنُ عَدْنَانَ الَّذِينَ تَلَقَّبُوا بِغَسَّانَ حَتَّى طُرِّدُوا كُلَّ مَطْرَدِ
وَأَمَّا مَعَدٌّ فَوُلِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ: نِزَارٌ وَقُضَاعَةُ وَقَنَصٌ وَإِيَادٌ وَكَانَ قُضَاعَةُ بِكْرَهُ وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْخِلَافَ فِي قُضَاعَةَ، وَلَكِنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَنَصٌ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ هَلَكُوا، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ بَقِيَّةٌ إِلَّا أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ الَّذِي كَانَ نَائِبًا لِكِسْرَى عَلَى الْحِيرَةِ كَانَ مِنْ سُلَالَتِهِ عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ مِنْ حِمْيَرَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا نِزَارٌ فَوُلِدَ لَهُ رَبِيعَةُ وَمُضَرُ وَأَنْمَارٌ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَإِيَادُ بْنُ نِزَارٍ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ
وَفُتُوٌّ حَسَنٌ أَوْجُهُهُمْ مِنْ إِيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ

قَالَ: وَإِيَادُ وَمُضَرُ شَقِيقَانِ أُمُّهُمَا سَوْدَةُ بِنْتُ عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ، وَأُمُّ رَبِيعَةَ وَأَنْمَارٍ شُقَيْقَةُ بِنْتُ عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ، وَيُقَالُ: جُمْعَةُ بِنْتُ عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَمَّا أَنْمَارٌ فَهُوَ وَالِدُ خَثْعَمٍ وَبَجِيلَةَ قَبِيلَةِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: وَقَدْ تَيَامَنَتْ فَلَحِقَتْ بِالْيَمَنِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَهْلُ الْيَمَنِ يَقُولُونَ أَنْمَارُ بْنُ أَرَاشِ بْنِ لَحْيَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْثِ بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ فِي ذِكْرِ سَبَأٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا: وَكَانَ مُضَرُ أَوَّلَ مَنْ حَدَا; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ فَسَقَطَ يَوْمًا عَنْ بَعِيرِهِ فَوَثَبَتْ يَدُهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: وَا يَدَيَّاهُ وَا يَدَيَّاهُ فَأَعْنَقَتِ الْإِبِلُ لِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَ مُضَرُ بْنُ نِزَارٍ رَجُلَيْنِ إِلْيَاسَ وَعَيْلَانَ، وَوُلِدَ لِإِلْيَاسَ مُدْرِكَةُ وَطَابِخَةُ وَقَمَعَةُ، وَأُمُّهُمْ خِنْدِفُ بِنْتُ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ اسْمُ مُدْرِكَةَ عَامِرًا، وَاسْمُ طَابِخَةَ عَمْرًا، وَلَكِنِ اصْطَادَ صَيْدًا فَبَيْنَا هُمَا يَطْبُخَانِهِ إِذْ نَفَرَتِ الْإِبِلُ فَذَهَبَ عَامِرٌ فِي طَلَبِهَا حَتَّى أَدْرَكَهَا وَجَلَسَ الْآخَرُ يَطْبُخُ فَلَمَّا رَاحَا عَلَى أَبِيهِمَا ذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ

لِعَامِرٍ: أَنْتَ مُدْرِكَةُ، وَقَالَ لِعَمْرٍو: أَنْتَ طَابِخَةُ قَالَ: وَأَمَّا قَمْعَةُ فَيَزْعُمُ نُسَّابُ مُضَرَ أَنَّ خُزَاعَةَ مِنْ وَلَدِ عَمْرِو بْنِ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ إِلْيَاسَ قُلْتُ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْهُمْ لَا وَالِدُهُمْ وَأَنَّهُمْ مِنْ حِمْيَرَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَ مُدْرِكَةُ خُزَيْمَةَ وَهُذَيْلًا، وَأُمُّهُمَا امْرَأَةٌ مِنْ قُضَاعَةَ، وَوَلَدَ خُزَيْمَةُ كِنَانَةَ وَأَسَدًا وَأَسَدَةَ وَالْهُونَ، قَالَ: وَوَلَدَ كِنَانَةُ النَّضْرَ وَمَالِكًا وَعَبْدَ مَنَاةَ وَمِلْكَانَ. وَزَادَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ فِي أَبْنَاءِ كِنَانَةَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَامِرًا وَالْحَارِثَ وَالنُّضَيْرَ وَغَنْمًا وَسَعْدًا وَعَوْفًا وَجَرْوَلًا وَالْحُدَالَ وَغَزْوَانَ.

الْكَلَامُ عَلَى قُرَيْشٍ نَسَبًا
وَاشْتِقَاقًا وَفَضْلًا وَهُمْ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأُمُّ النَّضْرِ بَرَّةُ بِنْتُ مُرِّ بْنِ أَدِّ بْنِ طَابِخَةَ، وَسَائِرُ بَنِيهِ لِامْرَأَةٍ أُخْرَى، وَخَالَفَهُ ابْنُ هِشَامٍ فَجَعَلَ بَرَّةَ بِنْتَ مُرٍّ أُمَّ النَّضْرِ وَمَالِكٍ وَمِلْكَانَ، وَأُمَّ عَبْدِ مَنَاةَ هَالَةَ بِنْتَ سُوَيْدِ بْنِ الْغِطْرِيفِ، مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: النَّضْرُ هُوَ قُرَيْشٌ فَمَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِهِ فَهُوَ قُرَشِيٌّ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَلَدِهِ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ، وَقَالَ: وَيُقَالَ: فِهْرُ بْنُ مَالِكٍ هُوَ قُرَيْشٌ فَمَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِهِ فَهُوَ قُرَشِيٌّ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَلَدِهِ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ، وَهَذَانَ الْقَوْلَانِ قَدْ حَكَاهُمَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ النَّسَبِ كَالشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ وَمُصْعَبٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ النَّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ ; لِحَدِيثِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ قُلْتُ: وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ

ابْنُ الْمُثَنَّى وَهُوَ جَادَّةُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ اخْتَارَ أَبُو عُمَرَ أَنَّهُ فِهْرُ بْنُ مَالِكٍ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ الْيَوْمَ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إِلَى قُرَيْشٍ إِلَّا وَهُوَ يَرْجِعُ فِي نَسَبِهِ إِلَى فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، ثُمَّ حَكَى اخْتِيَارَ هَذَا الْقَوْلِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، وَمُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ، وَعَلِيِّ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: وَإِلَيْهِمُ الْمَرْجِعُ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَقَدْ قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَقَدْ أَجْمَعَ نُسَّابُ قُرَيْشٍ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ قُرَيْشًا إِنَّمَا تَفَرَّقَتْ مِنْ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ وَالَّذِي عَلَيْهِ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنْ نُسَّابِ قُرَيْشٍ أَنَّ وَلَدَ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ قُرَشِيٌّ، وَأَنَّ مَنْ جَاوَزَ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ بِنَسَبِهِ فَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ نَصْرًا عَزِيزًا، وَتَحَامَى لَهُ بِأَنَّهُ وَنَحْوَهُ أَعْلَمُ بِأَنْسَابِ قَوْمِهِمْ، وَأَحْفَظُ لِمَآثِرِهِمْ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ كُلَيْبِ بْنِ وَائِلٍ قَالَ: قَلْتُ لِرَبِيبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي زَيْنَبَ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ -: أَخْبِرِينِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَانَ مِنْ مُضَرَ ؟ قَالَتْ: فَمِمَّنْ كَانَ إِلَّا مِنْ مُضَرَ ؟ مِنْ بَنِي النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَائِلَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ ثنا الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْجُفْشِيشِ الْكِنْدِيِّ قَالَ: جَاءَ قَوْمٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَنْتَ مِنَّا وَادَّعَوْهُ،

فَقَالَ: لَا نَقْفُو أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا، نَحْنُ وَلَدُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: ثنا أَبِي ثنا الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ يُقَالُ لَهُ: الْجُفْشِيشُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَزْعُمُ أَنَّ عَبْدَ مَنَافٍ مِنَّا فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ عَادَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، لَا نَقْفُو أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا فَقَالَ الْأَشْعَثُ: أَلَا كُنْتَ سَكَتَّ مِنَ الْمَرَّةِ الْأُولَى فَأَبْطَلَ ذَلِكَ قَوْلَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا غَرِيبٌ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْكَلْبِيُّ ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ وَعَفَّانُ قَالَا: ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: ثني عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَقَالَ عَفَّانُ: عَقِيلُ بْنُ طَلْحَةَ السُّلَمِيُّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ الْهَيْصَمِ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ كِنْدَةَ قَالَ عَفَّانُ: لَا يَرَوْنِي أَفْضَلَهُمْ قَالَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَزْعُمُ أَنَّكُمْ مِنَّا قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، لَا نَقْفُو

أُمَّنَا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا قَالَ: فَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: فَوَاللَّهِ لَا أَسْمَعُ أَحَدًا نَفَى قُرَيْشًا مِنَ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ إِلَّا جَلَدْتُهُ الْحَدَّ، وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ وَهُوَ فَيْصَلٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ التَّمِيمِيُّ يَمْدَحُ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
فَمَا الْأُمُّ الَّتِي وَلَدَتْ قُرَيْشًا بِمُقْرِفَةِ النِّجَارِ وَلَا عَقِيمِ
وَمَا قَرْمٌ بِأَنْجَبَ مِنْ أَبِيكُمْ وَلَا خَالٌ بِأَكْرَمَ مِنْ تَمِيمِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ يَعْنِي أَمَّ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَهِيَ بَرَّةُ بِنْتُ مُرٍّ أُخْتُ تَمِيمِ بْنِ مُرٍّ.
وَأَمَّا اشْتِقَاقُ قُرَيْشٍ فَقِيلَ: مِنَ التَّقَرُّشِ وَهُوَ التَّجَمُّعُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَهُمْ بِالْحَرَمِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَقَدْ قَالَ حُذَافَةُ بْنُ غَانِمٍ الْعَدَوِيُّ
أَبُوكُمْ قُصَيٌّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرٍ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ قُصَيٌّ يُقَالَ لَهُ: قُرَيْشٌ، قِيلَ: مِنَ التَّجَمُّعِ.

وَالتَّقَرُّشُ: التَّجَمُّعُ كَمَا قَالَ أَبُو خَلْدَةَ الْيَشْكُرِيُّ
إِخْوَةٌ قَرَشُوا الذُّنُوبَ عَلَيْنَا فِي حَدِيثٍ مِنْ دَهْرِنَا وَقَدِيمِ
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ مِنَ التَّقَرُّشِ وَهُوَ التَّكَسُّبُ وَالتِّجَارَةُ، حَكَاهُ ابْنُ هِشَامٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْقِرْشُ الْكَسْبُ وَالْجَمْعُ، وَقَدْ قَرَشَ يَقْرِشُ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَبِهِ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ وَهِيَ قَبِيلَةٌ، وَأَبُوهُمُ النَّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِهِ فَهُوَ قُرَشِيٌّ دُونَ وَلَدِ كِنَانَةَ فَمَا فَوْقَهُ، وَقِيلَ: مِنَ التَّفْتِيشِ قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَ النَّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ تَسَمَّى قُرَيْشًا; لِأَنَّهُ كَانَ يَقْرُشُ عَنْ خَلَّةِ النَّاسِ، وَحَاجَتِهِمْ فَيَسُدُّهَا بِمَالِهِ وَالتَّقَرُّشِ هُوَ التَّفْتِيشُ وَكَانَ بَنُوهُ يَقْرُشُونَ أَهْلَ الْمَوْسِمِ عَنِ الْحَاجَّةِ فَيَرْفِدُونَهُمْ بِمَا يُبَلِّغُهُمْ بِلَادَهُمْ فَسُمُّوا بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَقَرْشِهِمْ قُرَيْشًا، وَقَدْ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ فِي بَيَانِ أَنَّ التَّقَرُّشَ التَّفْتِيشُ
أَيُّهَا النَّاطِقُ الْمُقَرِّشُ عَنَّا عِنْدَ عَمْرٍو فَهَلْ لَهُ إِبْقَاءُ
حَكَى ذَلِكَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، وَقِيلَ: قُرَيْشٌ تَصْغِيرُ قِرْشٍ، وَهُوَ دَابَّةٌ فِي الْبَحْرِ. قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ

وَقُرَيْشٌ هِي الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ ثنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْمَالِينِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنُ الْخَلِيلِ النَّسَوِيُّ أَنَّ أَبَا كُرَيْبٍ حَدَّثَهُمْ حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي رُكَانَةَ الْعَامِرِيِّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: فَلِمَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا ؟ فَقَالَ: لِدَابَّةٍ تَكُونُ فِي الْبَحْرِ تَكُونُ أَعْظَمَ دَوَابِّهِ فَيُقَالَ لَهَا: الْقِرْشُ لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ مِنَ الْغَثِّ وَالسَّمِينِ إِلَّا أَكَلَتْهُ. قَالَ: فَأَنْشِدْنِي فِي ذَلِكَ شَيْئًا فَأَنْشَدَهُ شِعْرَ الْجُمَحِيِّ إِذْ يَقُولُ
وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا
تَأْكُلُ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ وَلَا تَتْرُكُ لِذِي الْجَنَاحَيْنِ رِيشَا
هَكَذَا فِي الْبِلَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَمِيشَا
وَلَهُمْ آخِرَ الزَّمَانِ نَبِيٌّ يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا
وَقِيلَ: سُمُّوا بِقُرَيْشِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ يَخْلُدَ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ وَكَانَ دَلِيلَ بَنِي النَّضْرِ، وَصَاحِبِ مِيرَتِهِمْ فَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ جَاءَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: وَابْنُ بَدْرِ بْنِ قُرَيْشٍ هُوَ الَّذِي حَفَرَ الْبِئْرَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَيْهِ، الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهَا الْوَقْعَةُ الْعُظْمَى يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَيُقَالُ فِي النِّسْبَةِ إِلَى قُرَيْشٍ: قُرَشِيُّ وَقُرَيْشِيُّ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهُوَ الْقِيَاسُ قَالَ الشَّاعِرُ
لِكُلِّ قُرَيْشِيٍّ عَلَيْهِ مَهَابَةٌ سَرِيعٌ إِلَى دَاعِي النَّدَا وَالتَّكَرُّمِ
قَالَ: فَاذَا أَرَدْتَ بِقُرَيْشٍ الْحَيَّ صَرَفْتَهُ، وَإِنْ أَرَدْتَ الْقَبِيلَةَ مَنَعْتَهُ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي تَرْكِ الصَّرْفِ:
وَكَفَى قُرَيْشَ الْمُعْضِلَاتِ وَسَادَهَا
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُمَرَ وَالْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي شَدَّادٌ أَبُو عَمَّارٍ حَدَّثَنِي وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمَ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ قَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: يُقَالَ: بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَصِيلَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَنُو هَاشِمٍ فَخِذُهُ، وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ بَطْنُهُ، وَقُرَيْشٌ عِمَارَتُهُ، وَبَنُو كِنَانَةَ قَبِيلَتُهُ، وَمُضَرُ شِعْبُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

ثُمَّ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَ النَّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ مَالِكًا وَيَخْلُدَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالصَّلْتَ، وَأُمُّهُمْ جَمِيعًا بِنْتُ سَعْدِ بْنِ الظَّرِبِ الْعَدْوَانِيِّ قَالَ كُثَيِّرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ أَحَدُ بَنِي مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ خُزَاعَةَ:
أَلَيْسَ أَبِي بِالصَّلْتِ أَمْ لَيْسَ إِخْوَتِي لِكُلِّ هِجَانٍ مِنْ بَنِي النَّضْرِ أَزْهَرَا
رَأَيْتُ ثِيَابَ الْعَصْبِ مُخْتَلِطَ السَّدَى بِنَا وَبِهِمْ وَالْحَضْرَمِيَّ الْمُخَصَّرَا
فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مِنْ بَنِي النَّضْرِ فَاتْرُكُوا أَرَاكًا بِأَذْنَابِ الْفَوَائِجِ أَخْضَرَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَنُو مَلِيحِ بْنِ عَمْرٍو يُعْزَوْنَ إِلَى الصَّلْتِ بْنِ النَّضْرِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَ مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ، وَأُمُّهُ جَنْدَلَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْأَصْغَرُ، وَوَلَدَ فِهْرٌ غَالِبًا وَمُحَارِبًا وَالْحَارِثَ وَأَسَدًا، وَأُمُّهُمْ لَيْلَى بِنْتُ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأُخْتُهُمْ لِأَبَوَيْهِمْ جَنْدَلَةُ بِنْتُ فِهْرٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَ غَالِبُ بْنُ فِهْرٍ لُؤَيَّ بْنَ غَالِبٍ وَتَيْمَ بْنَ غَالِبٍ وَهُمُ الَّذِينَ

يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو الْأَدْرَمِ، وَأُمُّهُمَا سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو الْخُزَاعِيِّ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَيْسُ بْنُ غَالِبٍ، وَأُمُّهُ سَلْمَى بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيِّ، وَهِيَ أَمُّ لُؤَيٍّ وَتَيَّمٍ ابْنَيْ غَالِبٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَ لُؤَيُّ بْنُ غَالِبٍ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ كَعْبًا وَعَامِرًا وَسَامَةَ وَعَوْفًا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: وَالْحَارِثَ وَهُمْ جُشَمُ بْنُ الْحَارِثِ فِي هِزَّانَ مِنْ رَبِيعَةَ، وَسَعْدَ بْنَ لُؤَيٍّ، وَهُمْ بُنَانَةُ فِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَبُنَانَةُ حَاضِنَةٌ لَهُمْ، وَخُزَيْمَةَ بْنَ لُؤَيٍّ، وَهُمْ عَائِذَةُ فِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ خَبَرَ سَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ، وَأَنَّهُ خَرَجَ إِلَى عَمَّانَ فَكَانَ بِهَا; وَذَلِكَ لِشَنَآنٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ عَامِرَ فَأَخَافُهُ عَامِرٌ فَخَرَجَ عَنْهُ هَارِبًا إِلَى عُمَانَ، وَأَنَّهُ مَاتَ بِهَا غَرِيبًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَرْعَى نَاقَتَهُ فَعَلِقَتْ حَيَّةٌ بِمِشْفَرِهَا فَوَقَعَتْ لِشِقِّهَا، ثُمَّ نَهَشَتِ الْحَيَّةُ سَامَةَ حَتَّى قَتَلَتْهُ فَيُقَالَ: إِنَّهُ كَتَبَ بِأُصْبُعِهِ عَلَى الْأَرْضِ
عَيْنُ فَابْكِي لِسَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ عَلِقَتْ مَا بِسَامَةَ الْعِلَّاقَهْ
لَا أَرَى مِثْلَ سَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ يَوْمَ حَلُّوا بِهِ قَتِيلًا لِنَاقَهْ

بَلِّغَا عَامِرًا وَكَعْبًا رَسُولًا أَنَّ نَفْسِي إِلَيْهِمَا مُشْتَاقَهْ
إِنْ تَكُنْ فِي عُمَانَ دَارِي فَإِنِّي غَالِبِيٌّ خَرَجْتُ مِنْ غَيْرِ فَاقَهْ
رُبَّ كَأْسٍ هَرَقْتَ يَا ابْنَ لُؤَيٍّ حَذَرَ الْمَوْتِ لَمْ تَكُنْ مُهْرَاقَهْ
رُمْتَ دَفْعَ الْحُتُوفِ يَا ابْنَ لُؤَيٍّ مَا لِمَنْ رَامَ ذَاكَ بِالْحَتْفِ طَاقَهْ
وَخُرُوسَ السُّرَى تَرَكْتَ رَذِيًّا بَعْدَ جِدٍّ وَجِدَّةٍ وَرَشَاقَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَبَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ وَلَدِهِ، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْتَسَبَ إِلَى سَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلشَّاعِرُ ؟ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: كَأَنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَدْتَ قَوْلَهُ
رُبَّ كَأْسٍ هَرَقْتَ يَا ابْنَ لُؤَيٍّ حَذَرَ الْمَوْتِ لَمْ تَكُنْ مُهْرَاقَهْ
فَقَالَ أَجَلْ. وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يُعْقِبْ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَلَدَ سَامَةُ بْنُ لُؤَيٍّ غَالِبًا وَالنَّبِيتَ وَالْحَارِثَ، قَالُوا: وَكَانَتْ لَهُ ذُرِّيَّةٌ بِالْعِرَاقِ يُبْغِضُونَ عَلِيًّا، وَمِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ كَانَ يَشْتُمُ أَبَاهُ لِكَوْنِهِ سَمَّاهُ عَلِيًّا، وَمِنْ بَنِي سَامَةَ بْنِ

لُؤَيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ بْنِ الْيَزِيدَ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا عَوْفُ بْنُ لُؤَيٍّ فَإِنَّهُ خَرَجَ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَرْضِ غَطَفَانَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ أُبْطِئَ بِهِ فَانْطَلَقَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَأَتَاهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْدٍ وَهُوَ أَخُوهُ فِي نَسَبِ بَنِي ذُبْيَانَ فَحَبَسَهُ وَزَوَّجَهُ وَالْتَاطَهُ وَآخَاهُ فَشَاعَ نَسَبُهُ فِي ذُبْيَانَ وَثَعْلَبَةَ فِيمَا يَزْعُمُونَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَوْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لَوْ كُنْتُ مُدَّعِيًا حَيًّا مِنَ الْعَرَبِ أَوْ مُلْحِقَهُمْ بِنَا لَادَّعَيْتُ بَنِي مُرَّةَ بْنِ عَوْفٍ إِنَّا لَنَعْرِفُ فِيهِمُ الْأَشْبَاهَ مَعَ مَا نَعْرِفُ مِنْ مَوْقِعِ ذَلِكَ الرَّجُلِ حَيْثُ وَقَعَ يَعْنِي عَوْفَ بْنَ لُؤَيٍّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِرِجَالٍ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي مُرَّةَ: إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَرْجِعُوا إِلَى نَسَبِكُمْ فَارْجِعُوا إِلَيْهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الْقَوْمُ أَشْرَافًا فِي غَطَفَانَ هُمْ سَادَتُهُمْ، وَقَادَتُهُمْ قَوْمٌ لَهُمْ صِيتٌ فِي غَطَفَانَ وَقَيْسٍ كُلِّهَا فَأَقَامُوا عَلَى نَسَبِهِمْ، قَالَ: وَكَانُوا

يَقُولُونَ إِذَا ذُكِرَ لَهُمْ نَسَبُهُمْ: مَا نُنْكِرُهُ وَمَا نَجْحَدُهُ، وَإِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّسَبِ إِلَيْنَا، ثُمَّ ذَكَرَ أَشْعَارَهُمْ فِي انْتِمَائِهِمْ إِلَى لُؤَيٍّ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَفِيهِمْ كَانَ الْبَسْلُ وَهُوَ تَحْرِيمُ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ لَهُمْ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ مِنْ بَيْنِ الْعَرَبِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَيَأْمَنُونَهُمْ فِيهَا وَيُؤَمِّنُونَهُمْ أَيْضًا. قُلْتُ: وَكَانَتْ رَبِيعَةُ وَمُضَرُ إِنَّمَا يُحَرِّمُونَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنَ السَّنَةِ وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَاخْتَلَفَتْ رَبِيعَةُ وَمُضَرُ فِي الرَّابِعِ وَهُوَ رَجَبٌ فَقَالَتْ مُضَرُ: هُوَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، وَقَالَتْ رَبِيعَةُ: هُوَ الَّذِي بَيْنَ شَعْبَانَ وَشَوَّالٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فِي خُطْبَةِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. فَنَصَّ عَلَى تَرْجِيحِ قَوْلِ مُضَرَ لَا رَبِيعَةَ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [ التَّوْبَةِ: 36 ] فَهَذَا رَدٌّ عَلَى بَنِي عَوْفِ بْنِ لُؤَيٍّ فِي جَعْلِهِمُ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ ثَمَانِيَةً فَزَادُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَأَدْخَلُوا فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ، رَدٌّ عَلَى أَهْلِ النَّسِيءِ الَّذِينَ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ تَحْرِيمَ الْمُحَرَّمِ إِلَى صَفَرَ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: وَرَجَبُ مُضَرَ رَدٌّ عَلَى رَبِيعَةَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ ثَلَاثَةً ; مُرَّةَ وَعَدِيًّا وَهُصَيْصًا، وَوَلَدَ مُرَّةُ ثَلَاثَةً أَيْضًا; كِلَابَ بْنَ مُرَّةَ وَتَيْمَ بْنَ مُرَّةَ وَيَقَظَةَ بْنَ مُرَّةَ، مِنْ أُمَّهَاتٍ ثَلَاثٍ قَالَ: وَوَلَدَ كِلَابٌ رَجُلَيْنِ قُصَيَّ بْنَ كِلَابٍ وَزُهْرَةَ بْنَ كِلَابٍ، وَأُمُّهُمَا فَاطِمَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ سَيَلٍ أَحَدِ الْجَدَرَةِ مِنْ جُعْثُمَةَ الْأَسَدِ مِنَ الْيَمَنِ حُلَفَاءِ بَنِي الدُّئِلِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَفِي أَبِيهَا يَقُولُ الشَّاعِرُ
مَا نَرَى فِي النَّاسِ شَخْصًا وَاحِدًا مَنْ عَلِمْنَاهُ كَسَعْدِ بْنِ سَيَلْ
فَارِسًا أَضْبَطَ فِيهِ عُسْرَةٌ وَإِذَا مَا وَاقَفَ الْقِرْنَ نَزَلْ
فَارِسًا يَسْتَدْرِجُ الْخَيْلَ كَمَا اسْتَدْرَجَ الْحُرُّ الْقَطَامِيُّ الْحَجَلْ
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: سَيَلُ اسْمُهُ خَيْرُ بْنُ حَمَالَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ طُلِيَتْ لَهُ السُّيُوفُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَإِنَّمَا سُمُّوا الْجَدَرَةَ ; لِأَنَّ عَامِرَ بْنَ عَمْرِو بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ

جُعْثُمَةَ تَزَوَّجَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيِّ، وَكَانَتْ جُرْهُمٌ إِذْ ذَاكَ وُلَاةَ الْبَيْتِ فَبَنَى لِلْكَعْبَةِ جِدَارًا فَسُمِّيَ عَامِرٌ بِذَلِكَ الْجَادِرُ فَقِيلَ لِوَلَدِهِ: الْجَدَرَةُ لِذَلِكَ.

خَبَرُ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ
وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي ارْتِجَاعِهِ وِلَايَةَ الْبَيْتِ إِلَى قُرَيْشٍ، وَانْتِزَاعِهِ ذَلِكَ مِنْ خُزَاعَةَ، وَاجْتِمَاعِ قُرَيْشٍ إِلَى الْحَرَمِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَمْنًا لِلْعِبَادِ، بَعْدَ تَفَرُّقِهَا فِي الْبِلَادِ، وَتَمَزُّقِهَا فِي الْجِبَالِ وَالْمِهَادِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ كِلَابٌ تَزَوَّجَ أُمَّهُ رَبِيعَةُ بْنُ حَرَامٍ مِنْ عُذْرَةَ، وَخَرَجَ بِهَا وَبِهِ إِلَى بِلَادِهِ، ثُمَّ قَدِمَ قُصَيٌّ مَكَّةَ وَهُوَ شَابٌّ فَتَزَوَّجَ حُبَّى ابْنَةَ رَئِيسِ خُزَاعَةَ حُلَيْلِ بْنِ حُبْشِيَّةَ فَأَمَّا خُزَاعَةُ فَتَزْعُمُ أَنَّ حَلِيلًا أَوْصَى إِلَى قُصَيٍّ بِوِلَايَةِ الْبَيْتِ، لِمَا رَأَى مِنْ كَثْرَةِ نَسْلِهِ مِنِ ابْنَتِهِ، وَقَالَ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنِّي.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ نَسْمَعْ ذَلِكَ إِلَّا مِنْهُمْ. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ اسْتَجَاشَ بِإِخْوَتِهِ مِنْ أُمِّهِ - وَكَانَ رَئِيسُهُمْ رِزَاحَ بْنَ رَبِيعَةَ - وَإِخْوَةِ إِخْوَتِهِ، وَبَنِي كِنَانَةَ وَقُضَاعَةَ، وَمَنْ حَوْلَ مَكَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ فَأَجْلَاهُمْ عَنِ الْبَيْتِ، وَاسْتَقَلَّ هُوَ بِوِلَايَةِ الْبَيْتِ; إِلَّا أَنَّ إِجَازَةَ الْحَجِيجِ كَانَتْ إِلَى صُوفَةَ، وَهُمْ بَنُو الْغَوْثِ بْنِ مُرِّ بْنِ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ فَكَانَ النَّاسُ لَا يَرْمُونَ الْجِمَارَ حَتَّى يَرْمُوا وَلَا يَنْفِرُونَ مِنْ مِنًى

حَتَّى يَنْفِرُوا فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ فِيهِمْ حَتَّى انْقَرَضُوا فَوَرِثَهُمْ ذَلِكَ بَالْقُعْدَدِ بَنُو سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ فَكَانَ أَوَّلُهُمْ صَفْوَانُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ شِجْنَةَ بْنِ عُطَارِدَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ وَكَانَ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى قَامَ عَلَى آخِرِهِمُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ كَرِبُ بْنِ صَفْوَانَ، وَكَانَتِ الْإِجَازَةُ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي عَدْوَانَ حَتَّى قَامَ الْإِسْلَامُ عَلَى آخِرِهِمْ وَهُوَ أَبُو سَيَّارَةَ عُمَيْلَةُ بْنُ الْأَعْزَلِ، وَقِيلَ اسْمُهُ الْعَاصُ بْنُ خَالِدٍ وَكَانَ يُجِيزُ بِالنَّاسِ عَلَى أَتَانٍ لَهُ عَوْرَاءَ مَكَثَ يَدْفَعُ عَلَيْهَا فِي الْمَوْقِفِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَعَلَ الدِّيَةَ مِائَةً، وَأَوَّلُ مَنْ كَانَ يَقُولُ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ.
وَكَانَ عَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ الْعَدْوَانِيُّ، لَا يَكُونُ بَيْنَ الْعَرَبِ نَائِرَةٌ إِلَّا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ فَيَرْضَوْنَ بِمَا يَقْضِي بِهِ فَتَحَاكَمُوا إِلَيْهِ مَرَّةً فِي مِيرَاثِ خُنْثَى فَبَاتَ لَيْلَتَهُ سَاهِرًا يَتَرَوَّى مَاذَا يَحْكُمُ بِهِ فَرَأَتْهُ جَارِيَةٌ لَهُ كَانَتْ تَرْعَى عَلَيْهِ غَنَمَهُ اسْمُهَا سُخَيْلَةُ فَقَالَتْ لَهُ: مَا لَكَ - لَا أَبَالَكَ - اللَّيْلَةَ سَاهِرًا ؟ فَذَكَرَ لَهَا مَا هُوَ مُفَكِّرٌ فِيهِ، وَقَالَ: لَعَلَّهَا يَكُونُ عِنْدَهَا فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَقَالَتْ: أَتْبِعِ الْقَضَاءَ الْمَبَالَ. فَقَالَ: فَرَّجْتِهَا وَاللَّهِ يَا سُخَيْلَةُ. وَحَكَمَ بِذَلِكَ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَاتِ

وَالْعَلَامَاتِ، وَلَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [ يُوسُفَ: 18 ] حَيْثُ لَا أَثَرَ لِأَنْيَابِ الذِّئْبِ فِيهِ، وَقَالَ تَعَالَى إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [ يُوسُفَ: 26 ] وَفِي الْحَدِيثِ أَنِظْرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَالِيًّا فَهُوَ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ النَّسِيءُ فِي بَنِي فُقَيْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ نَسَأَ الشُّهُورَ عَلَى الْعَرَبِ الْقَلَمَّسُ، وَهُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ بْنِ فُقَيْمِ بْنِ عَدِيٍّ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ ابْنُهُ عَبَّادٌ، ثُمَّ قَلَعُ بْنُ عَبَّادٍ، ثُمَّ أُمَيَّةُ بْنُ قَلَعٍ، ثُمَّ عَوْفُ بْنُ أُمَيَّةَ، ثُمَّ كَانَ آخِرَهُمْ أَبُو ثُمَامَةَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفِ بْنِ قَلَعِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حُذَيْفَةَ وَهُوَ الْقَلَمَّسُ فَعَلَى أَبِي ثُمَامَةَ قَامَ الْإِسْلَامُ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَجِّهَا اجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ فَخَطَبَهُمْ فَحَرَّمَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِلَّ مِنْهَا شَيْئًا أَحَلَّ الْمُحَرَّمَ، وَجَعَلَ مَكَانَهُ صَفَرًا ; لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَحْلَلْتُ أَحَدَ الصَّفَرَيْنِ الصَّفَرَ الْأَوَّلَ، وَأَنْسَأْتُ الْآخَرَ لِلْعَامِ الْمُقْبِلِ فَتَتَّبِعُهُ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ قَيْسٍ أَحَدُ بَنِي

فِرَاسِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ، وَيُعْرَفُ عُمَيْرُ بْنُ قَيْسٍ هَذَا بِجَذِلِ الطِّعَانِ
لَقَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ أَنَّ قَوْمِي كِرَامُ النَّاسِ أَنَّ لَهُمْ كِرَامَا
فَأَيُّ النَّاسِ فَاتُونَا بِوِتْرٍ وَأَيُّ النَّاسِ لَمْ نَعْلِكْ لِجَامَا
أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ شُهُورَ الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا
وَكَانَ قُصَيٌّ فِي قَوْمِهِ سَيِّدًا رَئِيسًا مُطَاعًا مُعَظَّمًا وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ جَمَعَ قُرَيْشًا مِنْ مُتَفَرِّقَاتِ مَوَاضِعِهِمْ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَاسْتَعَانَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ عَلَى حَرْبِ خُزَاعَةَ، وَإِجْلَائِهِمْ عَنِ الْبَيْتِ، وَتَسْلِيمِهِ إِلَى قُصَيٍّ فَكَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ كَثِيرٌ، وَدِمَاءٌ غَزِيرَةٌ، ثُمَّ تَدَاعَوْا إِلَى التَّحْكِيمِ فَتَحَاكَمُوا إِلَى يَعْمَرَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ فَحَكَمَ بِأَنَّ قُصَيًّا أَوْلَى بِالْبَيْتِ مِنْ خُزَاعَةَ، وَأَنَّ كُلَّ دَمٍ أَصَابَهُ قُصَيٌّ مِنْ خُزَاعَةَ، وَبَنِي بَكْرٍ مَوْضُوعٌ يَشْدَخُهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَأَنَّ مَا أَصَابَتْهُ خُزَاعَةُ وَبَنُو بَكْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَقُضَاعَةَ فَفِيهِ الدِّيَةُ مُؤَدَّاةٌ، وَأَنْ يُخَلَّى بَيْنَ قُصَيٍّ وَبَيْنَ مَكَّةَ وَالْكَعْبَةِ فَسُمِّيَ يَعْمَرُ يَوْمَئِذٍ الشَّدَّاخَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلِيَ قُصَيٌّ الْبَيْتَ، وَأَمْرَ مَكَّةَ، وَجَمَعَ قَوْمَهُ مِنْ مَنَازِلِهِمْ

إِلَى مَكَّةَ، وَتَمَلَّكَ عَلَى قَوْمِهِ، وَأَهْلِ مَكَّةَ فَمَلَّكُوهُ إِلَّا أَنَّهُ أَقَرَّ الْعَرَبَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يَرَى ذَلِكَ دِينًا فِي نَفْسِهِ، لَا يَنْبَغِي تَغْيِيرُهُ فَأَقَرَّ آلَ صَفْوَانَ وَعَدْوَانَ وَالنَّسَأَةَ وَمُرَّةَ بْنَ عَوْفٍ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ فَهَدَمَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ كُلَّهُ. قَالَ: فَكَانَ قُصَيٌّ أَوَّلَ بَنِي كَعْبٍ أَصَابَ مُلْكًا أَطَاعَ لَهُ بِهِ قَوْمُهُ، فَكَانَتْ إِلَيْهِ الْحِجَابَةُ وَالسِّقَايَةُ وَالرِّفَادَةُ وَالنَّدْوَةُ وَاللِّوَاءُ فَحَازَ شَرَفَ مَكَّةَ كُلَّهُ، وَقَطَّعَ مَكَّةَ رِبَاعًا بَيْنَ قَوْمِهِ فَأَنْزَلَ كُلَّ قَوْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ مَنَازِلَهُمْ مِنْ مَكَّةَ.
قُلْتُ: فَرَجَعَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ وَرُدَّ شَارِدُ الْعَدْلِ بَعْدَ إِيَابِهِ، وَاسْتَقَرَّتْ بِقُرَيْشٍ الدَّارُ، وَقَضَتْ مِنْ خُزَاعَةَ الْمُرَادَ وَالْأَوْطَارَ، وَتَسَلَّمَتْ بَيْتَهُمُ الْعَتِيقَ الْقَدِيمَ، لَكِنْ بِمَا أَحْدَثَتْ خُزَاعَةُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَنَصْبِهَا إِيَّاهَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَنَحْرِهِمْ لَهَا، وَتَضَرُّعِهِمْ عِنْدَهَا، وَاسْتِنْصَارِهِمْ بِهَا، وَطَلَبِهِمُ الرِّزْقَ مِنْهَا، وَأَنْزَلَ قُصَيٌّ قَبَائِلَ قُرَيْشٍ أَبَاطِحَ مَكَّةَ، وَأَنْزَلَ طَائِفَةً مِنْهُمْ ظَوَاهِرَهَا فَكَانَ يُقَالَ: قُرَيْشُ الْبِطَاحِ، وَقُرَيْشُ الظَّوَاهِرِ فَكَانَتْ لِقُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ جَمِيعُ الرِّئَاسَةِ ; مِنْ حِجَابَةِ الْبَيْتِ وَسِدَانَتِهِ وَاللِّوَاءِ، وَبَنَى دَارًا لِإِزَاحَةِ الظُّلُمَاتِ، وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ سَمَّاهَا دَارَ النَّدْوَةِ إِذَا أَعْضَلَتْ قَضِيَّةٌ، اجْتَمَعَ الرُّؤَسَاءُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَاشْتَوَرُوا فِيهَا وَفَصَلُوهَا وَلَا يُعْقَدُ عَقْدُ لِوَاءٍ وَلَا عَقْدُ نِكَاحٍ إِلَّا بِهَا،

وَلَا تَبْلُغُ جَارِيَةٌ أَنْ تَدَّرِعَ فَتَدَّرِعَ إِلَّا بِهَا وَكَانَ بَابُ هَذِهِ الدَّارِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ صَارَتْ هَذِهِ الدَّارُ فِيمَا بَعْدُ، إِلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ بَعْدَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَبَاعَهَا فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَامَهُ عَلَى بَيْعِهَا مُعَاوِيَةُ، وَقَالَ: بِعْتَ مَكْرُمَةَ قَوْمِكَ، وَشَرَفَهُمْ بِمِائَةِ أَلْفٍ ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا الشَّرَفُ الْيَوْمَ بِالتَّقْوَى وَاللَّهِ لَقَدِ ابْتَعْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِزِقِّ خَمْرٍ، وَهَا أَنَا قَدْ بِعْتُهَا بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَأُشْهِدُكُمْ أَنَّ ثَمَنَهَا صَدَقَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَيُّنَا الْمَغْبُونُ ؟ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِ الْمُوَطَّأِ.
وَكَانَتْ إِلَى قُصَيٍّ سِقَايَةُ الْحَجِيجِ فَلَا يَشْرَبُونَ إِلَّا مِنْ مَاءِ حِيَاضِهِ، وَكَانَتْ زَمْزَمُ إِذْ ذَاكَ مَطْمُوسَةً مِنْ زَمَنِ جُرْهُمٍ قَدْ تَنَاسَوْا أَمْرَهَا مِنْ تَقَادُمِ عَهْدِهَا وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى مَوْضِعِهَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ قُصَيٌّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ وَقِيدَ النَّارِ بِالْمُزْدَلِفَةِ; لِيَهْتَدِيَ إِلَيْهَا مَنْ يَأْتِي مِنْ عَرَفَاتٍ، وَأَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ الرِّفَادَةَ، وَهِيَ إِطْعَامُ الْحَجِيجِ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، إِلَى أَنْ يَخْرُجُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذَلِكَ أَنَّ قُصَيًّا فَرَضَهُ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: يَا

مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ جِيرَانُ اللَّهِ وَأَهْلُ مَكَّةَ، وَأَهْلُ الْحَرَمِ، وَإِنَّ الْحَاجَّ ضَيْفُ اللَّهِ، وَزُوَّارُ بَيْتِهِ، وَهُمْ أَحَقُّ بِالضِّيَافَةِ فَاجْعَلُوا لَهُمْ طَعَامًا وَشَرَابًا أَيَّامَ الْحَجِّ حَتَّى يَصْدُرُوا عَنْكُمْ فَفَعَلُوا فَكَانُوا يُخْرِجُونَ لِذَلِكَ فِي كُلِّ عَامٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ خَرْجًا فَيَدْفَعُونَهُ إِلَيْهِ فَيَصْنَعُهُ طَعَامًا لِلنَّاسِ أَيَّامَ مِنًى فَجَرَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى قَامَ الْإِسْلَامُ، ثُمَّ جَرَى فِي الْإِسْلَامِ إِلَى يَوْمِكَ هَذَا فَهُوَ الطَّعَامُ الَّذِي يَصْنَعُهُ السُّلْطَانُ كُلَّ عَامٍ بِمِنًى لِلنَّاسِ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْحَجُّ.
قُلْتُ: ثُمَّ انْقَطَعَ هَذَا بَعْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، ثُمَّ أمَرَ بِاخْرَاجِ طَائِفَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَيُصْرَفُ فِي حَمْلِ زَادٍ وَمَاءٍ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ الْقَاصِدِينَ إِلَى الْحَجِّ. وَهَذَا صَنِيعٌ حَسَنٌ مِنْ وُجُوهٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ خَالِصِ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ أَجْلِ مَا فِيهِ وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ جَوَّالِي الذِّمَّةَ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَنِ اسْتَطَاعَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا..
وَقَالَ قَائِلُهُمْ فِي مَدْحِ قُصَيٍّ، وَشَرَفِهِ فِي قَوْمِهِ
قُصَيٌّ لَعَمْرِي كَانَ يُدْعَى مُجْمِّعًا بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ
هُمُو مَلَئُوا الْبَطْحَاءَ مَجْدًا وَسُؤْدَدًا وَهُمْ طَرَدُوا عَنَّا غُوَاةَ بَنِي بَكْرٍ

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا فَرَغَ قُصَيٌّ مِنْ حَرْبِهِ، انْصَرَفَ أَخُوهُ رِزَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ إِلَى بِلَادِهِ بِمَنْ مَعَهُ، وَإِخْوَتِهِ مِنْ أَبِيهِ الثَّلَاثَةِ، وَهُمْ حُنٌّ وَمَحْمُودٌ وَجُلْهُمَةُ، قَالَ رِزَاحٌ فِي إِجَابَتِهِ قُصَيًّا
وَلَمَّا أَتَى مِنْ قُصَيٍّ رَسُولٌ فَقَالَ الرَّسُولُ أَجِيبُوا الْخَلِيلَا
نَهَضْنَا إِلَيْهِ نَقُودُ الْجِيَادَ وَنَطْرَحُ عَنَّا الْمَلُولَ الثَّقِيلَا
نَسِيرُ بِهَا اللَّيْلَ حَتَّى الصَّبَاحِ وَنَكْمِي النَّهَارَ لِئَلَّا نَزُولَا
فَهُنَّ سِرَاعٌ كَوِرْدِ الْقَطَا يُجِبْنَ بِنَا مِنْ قُصَيٍّ رَسُولًا
جَمَعْنَا مِنَ السِّرِّ مِنْ أَشْمِذَيْنِ وَمِنْ كُلِّ حَيٍّ جَمَعْنَا قَبِيلَا
فَيَالَكِ حُلْبَةُ مَا لَيْلَةٌ تَزِيدُ عَلَى الْأَلْفِ سَيْبًا رَسِيلًا
فَلَمَّا مَرَرْنَ عَلَى عَسْجَرٍ وَأَسْهَلْنَ مِنْ مُسْتَنَاخٍ سَبِيلًا
وَجَاوَزْنَ بِالرُّكْنِ مِنْ وَرِقَانَ وَجَاوَزْنَ
بِالْعَرْجِ حَيًّا حُلُولًا

مَرَرْنَ عَلَى الْحِلِّ مَا ذُقْنَهُ وَعَالَجْنَ مَنْ مَرَّ لَيْلًا طَوِيلًا
نُدَنِّي مِنَ الْعُوذِ أَفْلَاءَهَا إِرَادَةَ أَنْ يَسْتَرِقْنَ الصَّهِيلَا
فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى مَكَّةَ أَبَحْنَا الرِّجَالَ قَبِيلًا قَبِيلًا
نُعَاوِرُهُمْ ثَمَّ حَدَّ السُّيُوفِ وَفِي كُلِّ أَوْبٍ خَلَسْنَا الْعُقُولَا
نُخَبِّزُهُمْ بِصِلَابِ النُّسُورِ خَبْزَ الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ الذَّلِيلَا
قَتَلْنَا خُزَاعَةَ فِي دَارِهَا وَبَكْرًا قَتَلْنَا، وَجِيلًا فَجِيلَا
نَفَيْنَاهُمْ مِنْ بِلَادِ الْمَلِيكِ كَمَا لَا يَحِلُّونَ أَرْضًا سُهُولَا
فَأَصْبَحَ سَيْبُهُمْ فِي الْحَدِيدِ وَمِنْ كُلِّ حَيٍّ شَفَيْنَا الْغَلِيلَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَجَعَ رِزَاحُ إِلَى بِلَادِهِ نَشَرَهُ اللَّهُ، وَنَشَرَ حُنًّا فَهُمَا قَبِيلَا عُذْرَةَ إِلَى الْيَوْمِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ فِي ذَلِكَ:
أَنَا ابْنُ الْعَاصِمِينَ بَنِي لُؤَيٍّ بِمَكَّةَ مَنْزِلِي وَبِهَا رَبِيتُ
إِلَى الْبَطْحَاءِ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدُّ وَمَرْوَتُهَا رَضِيتُ بِهَا رَضِيتُ

فَلَسْتُ لِغَالِبٍ إِنْ لَمْ تَأَثَّلْ بِهَا أَوْلَادُ قَيْدَرَ وَالنَّبِيتُ
رِزَاحٌ نَاصِرِي وَبِهِ أُسَامِي فَلَسْتُ أَخَافُ ضَيْمًا مَا حَيِيتُ
وَقَدْ ذَكَرَ الْأُمَوِيُّ عَنِ الْأَشْرَمِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصٍ أَنَّ رِزَاحًا إِنَّمَا قَدِمَ بَعْدَمَا نَفَى قُصَيٌّ خُزَاعَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
ثُمَّ لَمَّا كَبِرَ قُصَيٌّ فَوَّضَ أَمْرَ هَذِهِ الْوَظَائِفِ الَّتِي كَانَتْ إِلَيْهِ مِنْ رِئَاسَاتِ قُرَيْشٍ وَشَرَفِهَا، مِنَ الرِّفَادَةِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابَةِ وَاللِّوَاءِ وَالنَّدْوَةِ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ الدَّارِ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّصَهُ بِهَا كُلِّهَا; لِأَنَّ بَقِيَّةَ إِخْوَتِهِ عَبْدَ مَنَافٍ وَعَبْدَ الْعُزَّى وَعَبْدًا، كَانُوا قَدْ شَرُفُوا فِي زَمَنِ أَبِيهِمْ، وَبَلَغُوا فِي قُوَّتِهِمْ شَرَفًا كَبِيرًا فَأَحَبَّ قُصَيٌّ أَنْ يُلْحِقَ بِهِمْ عَبْدَ الدَّارِ فِي السُّؤْدُدِ فَخَصَّصَهُ بِذَلِكَ فَكَانَ إِخْوَتُهُ لَا يُنَازِعُونَهُ فِي ذَلِكَ فَلَمَّا انْقَرَضُوا تَشَاجَرَ ابْنَاؤُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا خَصَّصَ قُصَيٌّ عَبْدَ الدَّارِ بِذَلِكَ; لِيُلْحِقَهُ بِإِخْوَتِهِ فَنَحْنُ نَسْتَحِقُّ مَا كَانَ آبَاؤُنَا يَسْتَحِقُّونَهُ. وَقَالَ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ: هَذَا أَمْرٌ جَعَلَهُ لَنَا قُصَيٌّ فَنَحْنُ أَحَقُّ بِهِ، وَاخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا كَثِيرًا. وَانْقَسَمَتْ بُطُونُ قُرَيْشٍ فِرْقَتَيْنِ فَفِرْقَةٌ بَايَعَتْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ وَحَالَفَتْهُمْ، وَفِرْقَةٌ بَايَعَتْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَحَالَفَتْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَوَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ عِنْدَ الْحِلْفِ فِي جَفْنَةٍ فِيهَا طِيبٌ، ثُمَّ لَمَّا قَامُوا مَسَحُوا أَيْدِيَهُمْ بِأَرْكَانِ الْكَعْبَةِ فَسُمُّوا حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ، بَنُو أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَبَنُو زُهْرَةَ، وَبَنُو تَيْمٍ، وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ وَكَانَ مَعَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، بَنُو مَخْزُومٍ، وَبَنُو سَهْمٍ، وَبَنُو جُمَحَ،

وَبَنُو عَدِيٍّ، وَاعْتَزَلَتْ بَنُو عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَمُحَارِبُ بْنُ فِهْرٍ الْجَمِيعَ فَلَمْ يَكُونُوا مَعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ اصْطَلَحُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ تَكُونَ الرِّفَادَةُ وَالسِّقَايَةُ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَأَنْ تَسْتَقِرَّ الْحِجَابَةُ وَاللِّوَاءُ وَالنَّدْوَةُ فِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَانْبَرَمَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَمَرَّ.
وَحَكَى الْأُمَوِيُّ عَنِ الْأَثْرَمِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: وَزَعَمَ قَوْمٌ مِنْ خُزَاعَةَ أَنَّ قُصَيًّا لَمَّا تَزَوَّجَ حُبَّى بِنْتَ حُلَيْلٍ، وَثَقُلَ حُلَيْلٌ عَنْ وِلَايَةِ الْبَيْتِ جَعَلَهَا إِلَى ابْنَتِهِ حُبَّى، وَاسْتَنَابَ عَنْهَا أَبَا غُبْشَانَ سُلَيْمَ بْنَ عَمْرِو بْنَ بُوَيِّ بْنِ مِلْكَانَ بْنِ أَفْصَى بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فَاشْتَرَى قُصَيُّ وِلَايَةَ الْبَيْتِ مِنْهُ بِزِقِّ خَمْرٍ وَقَعُودٍ فَكَانَ يُقَالَ: أَخْسَرُ مِنْ صَفْقَةِ أَبِي غُبْشَانَ، وَلَمَّا رَأَتْ خُزَاعَةُ ذَلِكَ، اشْتَدُّوا عَلَى قُصَيٍّ فَاسْتَنْصَرَ أَخَاهُ فَقَدِمَ بِمَنْ مَعَهُ وَكَانَ مَا كَانَ، ثُمَّ فَوَّضَ قُصَيٌّ هَذِهِ الْجِهَاتِ الَّتِي كَانَتْ إِلَيْهِ مِنَ السِّدَانَةِ وَالْحِجَابَةِ وَاللِّوَاءِ وَالنَّدْوَةِ وَالرِّفَادَةِ وَالسِّقَايَةِ، إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ الدَّارِ - كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ، وَإِيضَاحُهُ - وَأَقَرَّ الْإِجَازَةَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ فِي بَنِي عَدْوَانَ، وَأَقَرَّ النَّسِيءَ فِي فُقَيْمٍ، وَأَقَرَّ الْإِجَازَةَ - وَهُوَ النَّفْرُ - فِي صُوفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ كُلِّهُ مِمَّا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَ قُصَيٌّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ ; عَبْدَ مَنَافٍ وَعَبْدَ الدَّارِ وَعَبْدَ الْعُزَّى وَعَبْدًا وَتَخْمُرَ وَبَرَّةَ، وَأُمُّهُمْ كُلُّهُمْ حُبَّى بِنْتُ حُلَيْلِ بْنِ حُبْشِيَّةَ بْنِ سَلُولِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيُّ وَهُوَ آخِرُ مَنْ وَلِيَ الْبَيْتَ مِنْ خُزَاعَةَ، وَمِنْ يَدِهِ أَخَذَ الْبَيْتَ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَ عَبْدُ مَنَافِ بْنُ قُصَيٍّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ ; هَاشِمًا وَعَبْدَ شَمْسٍ وَالْمُطَّلِبَ، - وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ بْنِ هِلَالٍ - وَنَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهُ وَاقِدَةُ بِنْتُ عَمْرٍو الْمَازِنِيَّةُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَوُلِدَ لِعَبْدِ مَنَافٍ أَيْضًا أَبُو عَمْرٍو وَتُمَاضِرُ وَقِلَابَةُ وَحَيَّةُ وَرَيْطَةُ وَأُمُّ الْأَخْثَمِ وَأُمُّ سُفْيَانَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَوَلَدَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَخَمْسَ نِسْوَةٍ، عَبْدَ الْمُطَّلِبِ وَأَسَدًا وَأَبَا صَيْفِيٍّ وَنَضْلَةَ وَالشِّفَاءَ وَخَالِدَةَ وَضَعِيفَةَ وَرُقَيَّةَ وَحَيَّةَ فَأُمُّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَرُقَيَّةَ سَلْمَى بِنْتُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ لَبِيدِ بْنِ خِدَاشِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ مِنَ الْمَدِينَةِ. وَذَكَرَ أُمَّهَاتِ الْبَاقِينَ قَالَ: وَوَلَدَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَشَرَةَ نَفَرٍ وَسِتَّ نِسْوَةٍ وَهُمُ ; الْعَبَّاسُ وَحَمْزَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو طَالِبٍ - وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ لَا عِمْرَانَ - وَالزُّبَيْرُ وَالْحَارِثُ - وَكَانَ بِكْرَ أَبِيهِ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى - وَجَحْلٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: حَجْلٌ وَكَانَ يُلَقَّبُ

بِالْغَيْدَاقِ لِكَثْرَةِ خَيْرِهِ وَالْمُقَوِّمُ وَضِرَارٌ وَأَبُو لَهَبٍ - وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى - وَصْفِيَّةُ وَأُمُّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءُ وَعَاتِكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَأَرْوَى وَبَرَّةُ، وَذَكَرَ أُمَّهَاتِهِمْ إِلَى أَنْ قَالَ: وَأُمُّ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرِ وَجَمِيعِ النِّسَاءِ إِلَّا صَفِيَّةَ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ قَالَ: فَوَلَدَ عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ، وَأُمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، ثُمَّ ذَكَرَ أُمَّهَاتِهَا فَأَغْرَقُ إِلَى أَنْ قَالَ: فَهُوَ أَشْرَفُ وَلَدِ آدَمَ حَسَبًا، وَأَفْضَلُهُمْ نَسَبًا، مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ شَدَّادٍ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَوْلِدِهِ الْكَرِيمِ وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ، وَسَنُورِدُ عِنْدَ سَرْدِ النَّسَبِ الشَّرِيفِ فَوَائِدَ أُخَرَ لَيْسَتْ هَاهُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

ذِكْرُ جُمَلٍ مِنَ الْأَحْدَاثِ الْوَاقِعَةِ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ
قَدْ تَقَدَّمَ مَا كَانَ مِنْ أَخْذِ جُرْهُمٍ وِلَايَةَ الْبَيْتِ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ طَمِعُوا فِيهِمْ ; لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ بَنَاتِهِمْ وَمَا كَانَ مِنْ تَوَثُّبِ خُزَاعَةَ عَلَى جُرْهُمٍ، وَانْتِزَاعِهِمْ وِلَايَةَ الْبَيْتِ مِنْهُمْ، ثُمَّ مَا كَانَ مِنْ رُجُوعِ ذَلِكَ إِلَى قُصَيٍّ وَبَنِيهِ، وَاسْتِمْرَارِ ذَلِكَ فِي أَيْدِيهِمْ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّ تِلْكَ الْوَظَائِفَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ.

بَابُ ذِكْرِ جَمَاعَةٍ كَانُوا
مَشْهُورِينَ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ
خَبَرُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْعَبْسِيِّ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ التُّسْتَرِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْمُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَتْ بِنْتُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَسَطَ لَهَا ثَوْبَهُ، وَقَالَ: بِنْتُ نَبِيٍّ ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْمُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّلْتِ عَنْ قَيْسٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ذُكِرَ خَالِدُ بْنُ سِنَانٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ذَاكَ نَبِيٌّ ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ ثُمَّ قَالَ وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَانَ قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ ثِقَةً فِي نَفْسِهِ،

إِلَّا أَنَّهُ كَانَ رَدِيءَ الْحِفْظِ وَكَانَ لَهُ ابْنٌ يُدْخِلُ فِي أَحَادِيثِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْبَزَّارُ وَقَدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مُرْسَلًا، وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ: حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ مَهْدِيٍّ الْمَوْصِلِيُّ: قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي يُونُسَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ عَبْسٍ يُقَالَ لَهُ: خَالِدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ لِقَوْمِهِ: أَنَا أُطْفِئُ عَنْكُمْ نَارَ الْحَدَثَانِ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ: وَاللَّهِ يَا خَالِدُ مَا قُلْتَ لَنَا قَطُّ إِلَّا حَقًّا فَمَا شَأْنُكَ، وَشَأْنُ نَارِ الْحَدَثَانِ تَزْعُمُ أَنَّكَ تُطْفِئُهَا ؟ فَخَرَجَ خَالِدٌ وَمَعَهُ أُنَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ فِيهِمْ عِمَارَةُ بْنُ زِيَادٍ فَأَتَوْهَا فَاذَا هِيَ تَخْرُجُ مِنْ شِقِّ جَبَلٍ فَخَطَّ لَهُمْ خَالِدٌ خُطَّةً فَأَجْلَسَهُمْ فِيهَا فَقَالَ: إِنْ أَبْطَأْتُ عَلَيْكُمْ فَلَا تَدْعُونِي بِاسْمِي فَخَرَجَتْ كَأَنَّهَا خَيْلٌ شُقْرٌ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَاسْتَقْبَلَهَا خَالِدٌ فَجَعَلَ يَضْرِبُهَا

بِعَصَاهُ وَهُوَ يَقُولُ: بَدَا بَدَا كُلُّ هُدَى زَعَمَ ابْنُ رَاعِيَةِ الْمِعْزَى أَنِّي لَا أَخْرُجُ مِنْهَا وَثِيَابِي تَنْدَى حَتَّى دَخَلَ مَعَهَا الشَّقَّ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ.
فَقَالَ لَهُمْ عُمَارَةُ بْنُ زِيَادٍ: وَاللَّهِ إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَوْ كَانَ حَيًّا لَقَدْ خَرَجَ إِلَيْكُمْ بَعْدُ. قَالُوا: فَادْعُوهُ بِاسْمِهِ قَالَ: فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَهُ بِاسْمِهِ. فَدَعَوْهُ بِاسْمِهِ فَخَرَجَ وَهُوَ آخِذٌ بِرَأْسِهِ فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَدْعُونِي بِاسْمِي فَقَدْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُونِي فَادْفِنُونِي فَاذَا مَرَّتْ بِكُمُ الْحُمُرُ فِيهَا حِمَارٌ أَبْتَرُ فَانْبِشُونِي فَإِنَّكُمْ تَجِدُونِي حَيًّا فَدَفَنُوهُ فَمَرَّتْ بِهِمُ الْحُمُرُ فِيهَا حِمَارٌ أَبْتَرُ فَقُلْنَا: انْبِشُوهُ فَإِنَّهُ أَمَرَنَا أَنْ نَنْبِشَهُ فَقَالَ لَهُمْ عُمَارَةُ: لَا تَنْبِشُوهُ، لَا وَاللَّهِ لَا تُحَدِّثُ مُضَرُ أَنَّا نَنْبُشُ مَوْتَانَا، وَقَدْ كَانَ قَالَ لَهُمْ خَالِدٌ: إِنَّ فِي عِكْمِ امْرَأَتِهِ لَوْحَيْنِ فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ أَمْرُّ فَانْظُرُوا فِيهِمَا فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ مَا تَسْأَلُونَ عَنْهُ قَالَ: وَلَا يَمَسَّهُمَا حَائِضٌ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى امْرَأَتِهِ سَأَلُوهَا عَنْهُمَا فَأَخْرَجَتْهُمَا إِلَيْهِمْ، وَهِيَ حَائِضٌ فَذَهَبَ مَا كَانَ فِيهِمَا مِنْ عِلْمٍ.
قَالَ أَبُو يُونُسَ: قَالَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ سُئِلَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ذَاكَ نَبِيٌّ أَضَاعَهُ قَوْمُهُ قَالَ أَبُو يُونُسَ: قَالَ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ إِنَّ ابْنَ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِابْنِ أَخِي

فَهَذَا السِّيَاقُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا وَالْمُرْسَلَاتُ الَّتِي فِيهَا أَنَّهُ نَبِيٌّ لَا يُحْتَجُّ بِهَا هَاهُنَا وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا لَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَنَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ وَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْقِصَصِ: 46 ] وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ بَعْدَ إِسْمَاعِيلَ نَبِيًّا فِي الْعَرَبِ، إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ، الَّذِي دَعَا بِهِ ابْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ بَانِي الْكَعْبَةِ الْمُكَرَّمَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ قِبْلَةً لِأَهْلِ الْأَرْضِ شَرْعًا، وَبَشَّرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ لِقَوْمِهِمْ حَتَّى كَانَ آخِرَ مَنْ بَشَّرَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِهَذَا الْمَسْلَكِ بِعَيْنِهِ يُرَدُّ مَا ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ إِرْسَالِ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ يُقَالَ لَهُ: شُعَيْبُ بْنُ ذِي مِهْذَمِ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ صَاحِبُ مَدْيَنَ، وَبُعِثَ إِلَى الْعَرَبِ أَيْضًا حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ فَكَذَّبُوهُمَا فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ بُخْتُنَصَّرَ فَنَالَ مِنْهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ نَحْوَ مَا نَالَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ عَمْرِو بْنِ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ فِي أَخْبَارِ خُزَاعَةَ بَعْدَ جُرْهُمٍ.

ذِكْرُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ أَحَدِ أَجْوَادِ الْجَاهِلِيَّةِ
وَهُوَ حَاتِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ الْحَشْرَجِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أَخْزَمَ بْنِ أَبِي أَخْزَمَ، وَاسْمُهُ هَزُومَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ جَرْوَلِ بْنِ تُعَلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْثِ بْنِ طَيِّئٍ أَبُو سَفَّانَةَ الطَّائِيُّ وَالِدُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الصَّحَابِيِّ كَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ لِحَاتِمٍ مَآثِرُ وَأُمُورٌ عَجِيبَةٌ، وَأَخْبَارٌ مُسْتَغْرَبَةٌ فِي كَرَمِهِ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ السُّمْعَةَ وَالذِّكْرَ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ وَاقَدٍ الْقَيْسِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مُضَرَ هُوَ النَّاجِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ ذُكِرَ حَاتِمٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ذَاكَ أَرَادَ أَمْرًا فَأَدْرَكَهُ حَدِيثٌ غَرِيبٌ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عُبَيْدُ بْنُ وَاقَدٍ عَنْ أَبِي مُضَرَ النَّاجِيِّ، وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَهُ حَمَّادٌ قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ فَرَّقَ

أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ بَيْنَ أَبِي مُضَرَ النَّاجِيِّ وَبَيْنَ أَبِي نَصْرٍ حَمَّادٍ وَلَمْ يُسَمِّ النَّاجِيَّ، وَوَقَعَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي نَضْرٍ شَيْبَةَ النَّاجِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ مُرَيِّ بْنِ قَطَرِيٍّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَبِي كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ وَيَفْعَلُ وَيَفْعَلُ فَهَلْ لَهُ فِي ذَلِكَ ؟ يَعْنِي: مِنْ أَجْرٍ قَالَ: إِنَّ أَبَاكَ طَلَبَ شَيْئًا فَأَصَابَهُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنِ الْقَوَارِيرِيِّ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سِمَاكٍ بِهِ، وَقَالَ: إِنَّ أَبَاكَ أَرَادَ أَمْرًا فَأَدْرَكَهُ يَعْنِي الذِّكْرَ، وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ سَوَاءً. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تُسَعَّرُ بِهِمْ جَهَنَّمُ، مِنْهُمُ الرَّجُلُ الَّذِي يُنْفِقُ لِيُقَالَ: إِنَّهُ كَرِيمٌ فَيَكُونُ جَزَاؤُهُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَكَذَا فِي الْعَالَمِ وَالْمُجَاهِدِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ فَقَالُوا لَهُ: كَانَ يَقْرِي الضَّيْفَ وَيَعْتِقُ وَيَتَصَدَّقُ فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ هَذَا وَقَدْ كَانَ مِنَ الْأَجْوَادِ الْمَشْهُورِينَ أَيْضًا الْمُطْعِمِينِ فِي السِّنِينَ الْمُمْحِلَةِ وَالْأَوْقَاتِ الْمُرْمِلَةِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الْعُمَانِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عُبَيْدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنَا ضِرَارُ بْنُ صُرَدَ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ قَالَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَزْهَدَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فِي خَيْرٍ، عَجَبًا لِرَجُلٍ يَجِيئُهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فِي حَاجَةٍ فَلَا يَرَى نَفْسَهُ لِلْخَيْرِ أَهْلًا فَلَوْ كَانَ لَا يَرْجُو ثَوَابًا وَلَا يَخْشَى عِقَابًا لَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَارِعَ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى سَبِيلِ النَّجَاحِ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ وَقَالَ: فِدَاكَ أَبِي وَأمِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَسَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ لَمَّا أُتِيَ بِسَبَايَا طَيِّئٍ وَقَعَتْ جَارِيَةٌ حَمْرَاءُ لَعْسَاءُ ذَلْفَاءُ عَيْطَاءُ شَمَّاءُ الْأَنْفِ، مُعْتَدِلَةُ الْقَامَةِ وَالْهَامَةِ، دَرْمَاءُ الْكَعْبَيْنِ، خَدْلَةُ السَّاقَيْنَ، لَفَّاءُ الْفَخِذَيْنِ، خَمِيصَةُ الْخَصْرَيْنِ، ضَامِرَةُ الْكَشْحَيْنِ، مَصْقُولَةُ الْمَتْنَيْنِ قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهَا أُعْجِبْتُ بِهَا، وَقُلْتُ: لَأَطْلُبَنَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجْعَلُهَا فِي فَيْئِي فَلَمَّا

تَكَلَّمْتُ أُنْسِيتُ جَمَالَهَا; لِمَا رَأَيْتُ مِنْ فَصَاحَتِهَا فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُخَلِّيَ عَنِّي وَلَا تُشْمِتْ بِيَ أَحْيَاءَ الْعَرَبِ فَإِنِّي ابْنَةُ سَيِّدِ قَوْمِي، وَإِنَّ أَبِي كَانَ يَحْمِي الذِّمَارَ، وَيَفُكُّ الْعَانِيَ، وَيُشْبِعُ الْجَائِعَ، وَيَكْسُو الْعَارِيَ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيُفْشِي السَّلَامَ، وَلَمْ يَرُدَّ طَالِبَ حَاجَةٍ قَطُّ، وَأَنَا ابْنَةُ حَاتِمِ طَيِّئٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا جَارِيَةُ هَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا لَوْ كَانَ أَبُوكِ مُؤْمِنًا لَتَرَحَّمْنَا عَلَيْهِ خَلُّوا عَنْهَا فَإِنَّ أَبَاهَا كَانَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَاللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهُ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ إِلَّا بِحُسْنِ الْخُلُقِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ بَكْرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّائِيِّ - هُوَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ - عَنْ مِلْحَانَ عَنْ عَرْكِيِّ بْنِ حَلْبَسٍ الطَّائِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - وَكَانَ أَخَا عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ لِأُمِّهِ - قَالَ: قِيلَ لِنَوَارَ امْرَأَةِ حَاتِمٍ: حَدِّثِينَا عَنْ حَاتِمٍ قَالَتْ: كُلُّ أَمْرِهِ كَانَ عَجَبًا; أَصَابَتْنَا سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ فَاقْشَعَرَّتْ لَهَا الْأَرْضُ وَاغْبَرَّتْ لَهَا السَّمَاءُ، وَضَنَّتِ الْمَرَاضِعُ عَلَى أَوْلَادِهَا، وَرَاحَتِ الْإِبِلُ حَدْبَاءَ حَدَابِيرَ مَا تَبِضُّ بِقَطْرَةٍ،

وَحَلَقَ الْمَالُ، وَإِنَّا لَفِي لَيْلَةٍ صِنَّبْرٍ بَعِيدَةِ مَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، إِذْ تَضَاغَى الْأَصْبِيَةُ مِنَ الْجُوعِ; عَبْدُ اللَّهِ وَعَدِيٌّ وَسَفَّانَةُ فَوَاللَّهِ إِنْ وَجَدْنَا شَيْئًا نُعَلِّلُهُمْ بِهِ فَقَامَ إِلَى أَحَدِ الصَّبِيَّيْنِ فَحَمَلَهُ، وَقُمْتُ إِلَى الصَّبِيَّةِ فَعَلَّلْتُهَا فَوَاللَّهِ إِنْ سَكَتَا إِلَّا بَعْدَ هَدْأَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ عُدْنَا إِلَى الصَّبِيِّ الْآخَرِ فَعَلَّلْنَاهُ حَتَّى سَكَتَ وَمَا كَادَ، ثُمَّ افْتَرَشْنَا قَطِيفَةً لَنَا شَامِيَّةً ذَاتَ خَمْلٍ فَأَضْجَعْنَا الصِّبْيَانَ عَلَيْهَا، وَنِمْتُ أَنَا وَهُوَ فِي حُجْرَةٍ وَالصِّبْيَانُ بَيْنَنَا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ يُعَلِّلُنِي لِأَنَامَ، وَعَرَفْتُ مَا يُرِيدُ فَتَنَاوَمْتُ.
فَقَالَ مَالَكِ أَنِمْتِ ؟ فَسَكَتُّ. فَقَالَ: مَا أُرَاهَا إِلَّا قَدْ نَامَتْ وَمَا بِيَ نَوْمٌ فَلَمَّا ادْلَهَمَّ اللَّيْلُ، وَتَهَوَّرَتِ النُّجُومُ، وَهَدَأَتِ الْأَصْوَاتُ، وَسَكَّنَتِ الرِّجْلُ إِذَا جَانَبُ الْبَيْتِ قَدْ رُفِعَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ فَوَلَّى حَتَّى إِذَا قُلْتُ: قَدْ أَسْحَرْنَا أَوْ كِدْنَا عَادَ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَتْ: جَارَتُكَ فُلَانَةُ يَا أَبَا عَدِيٍّ مَا وَجَدْتُ عَلَى أَحَدٍ مُعَوَّلًا غَيْرَكَ، أَتَيْتُكَ مِنْ عِنْدِ أَصَبِيَّةٍ يَتَعَاوَوْنَ عُوَاءَ الذِّئْبِ مِنَ الْجُوعِ. قَالَ: أَعَجِلِيهِمْ عَلَيَّ قَالَتْ النَّوَارُ: فَوَثَبْتُ فَقُلْتُ: مَاذَا صَنَعْتَ ؟ وَاللَّهِ لَقَدْ تَضَاغَى أَصَبِيَتُكَ فَمَا وَجَدْتَ مَا تُعَلِّلُهُمْ فَكَيْفَ بِهَذِهِ وَبِوَلَدِهَا ؟ فَقَالَ: اسْكُتِي فَوَاللَّهِ لَأُشْبِعَنَّكِ وَإِيَّاهُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَتْ: فَأَقْبَلَتْ تَحْمِلُ اثْنَيْنِ وَتَمْشِي جَنْبَتَيْهَا أَرْبَعَةٌ كَأَنَّهَا نَعَامَةٌ حَوْلَهَا رِئَالُهَا فَقَامَ إِلَى فَرَسِهِ فَوَجَأَ بِحَرْبَتِهِ فِي لِبَتِّهِ، ثُمَّ قَدَحَ زِنْدَهُ، وَأَوْرَى نَارَهُ، ثُمَّ جَاءَ بِمُدْيَةٍ

فَكَشَطَ عَنْ جِلْدِهِ، ثُمَّ دَفَعَ الْمُدْيَةَ إِلَى الْمَرْأَةِ، ثُمَّ قَالَ: دُونَكِ، ثُمَّ قَالَ: ابْغِنِي صِبْيَانَكِ فَبَغَيْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: سَوْأَةٌ أَتَأْكَلُونَ شَيْئًا دُونَ أَهْلِ الصِّرْمِ ؟ فَجَعَلَ يُطَوِّفُ فِيهِمْ حَتَّى هَبُّوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ وَالْتَفَعَ فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ نَاحِيَةً يَنْظُرُ إِلَيْنَا، لَا وَاللَّهِ مَا ذَاقَ مِزْعَةً، وَإِنَّهُ لِأَحْوَجُهُمْ إِلَيْهِ فَأَصْبَحْنَا وَمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْهُ إِلَّا عَظْمٌ أَوْ حَافِرٌ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنِي الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَحَامِلِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَعْدٍ، وَحَدَّثَنَا غُنْمُ بْنُ ثَوَابَةَ بْنِ حُمَيْدٍ الطَّائِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَتِ امْرَأَةُ حَاتِمٍ لِحَاتِمٍ: يَا أَبَا سَفَّانَةَ أَشْتَهِي أَنْ آكُلَ أَنَا وَأَنْتَ طَعَامًا وَحْدَنَا لَيْسَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَأَمَرَهَا فَحَوَّلَتْ خَيْمَتَهَا مِنَ الْجَمَاعَةِ عَلَى فَرْسَخٍ، وَأَمَرَ بِالطَّعَامِ فَهُيِّئَ، وَهِيَ مُرْخَاةٌ سُتُورُهَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا فَلَمَّا قَارَبَ نُضْجُ الطَّعَامِ كَشَفَ عَنْ رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ:
فَلَا تَطْبُخِي قِدْرِي وَسِتْرُكِ دُونَهَا عَلَيَّ إِذَنْ مَا تَطْبُخِينَ حَرَامُ

وَلَكِنْ بِهَذَاكِ الْيَفَاعِ فَأَوْقِدِي
بِجَزْلٍ إِذَا أَوْقَدْتِ لَا بِضِرَامِ
قَالَ: ثُمَّ كَشَفَ السُّتُورَ وَقَدَّمَ الطَّعَامَ، وَدَعَا النَّاسَ فَأَكَلَ وَأَكَلُوا فَقَالَتْ: مَا أَتْمَمْتَ لِي مَا قُلْتَ فَأَجَابَهَا: فَإِنِّي لَا تُطَاوِعُنِي نَفْسِي وَنَفْسِي أَكْرَمُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ يُثْنَى عَلَيَّ هَذَا وَقَدْ سَبَقَ لِيَ السَّخَاءُ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
أُمَارِسُ نَفْسَ الْجُودِ حَتَّى أُعِزُّهَا وَأَتْرُكُ نَفْسَ الْبُخْلِ مَا أَسْتَشِيرُهَا
وَلَا تَشْتَكِينِي جَارَتِي غَيْرَ أَنَّهَا إِذَا غَابَ عَنْهَا بَعْلُهَا لَا أَزُورُهَا
سَيَبْلُغُهَا خَيْرِي وَيَرْجِعُ بَعْلُهَا إِلَيْهَا وَلَمْ تُقْصَرْ عَلَيْهَا سُتُورُهَا
وَمِنْ شِعْرِ حَاتِمٍ
إِذَا مَا بِتُّ أَشْرَبُ فَوْقَ رِيِّي لِسُكْرٍ فِي الشَّرَابِ فَلَا رَوِيتُ
إِذَا مَا بِتُّ أَخْتِلُ عِرْسَ جَارِي لِيُخْفِيَنِي الظَّلَامُ فَلَا خَفِيتُ
أَأَفْضَحُ جَارَتِي وَأَخُونُ جَارِي فَلَا وَاللَّهِ أَفْعَلُ مَا حَيِيتُ

وَمِنْ شَعْرِهِ أَيْضًا:
مَا ضَرَّ جَارًا لِي أُجَاوِرُهُ أَنْ لَا يَكُونَ لِبَابِهِ سِتْرُ
أُغْضِي إِذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي الْخِدْرُ
وَمِنْ شِعْرِ حَاتِمٍ أَيْضًا
وَمَا مِنْ شِيمَتِي شَتْمُ ابْنِ عَمِّي وَمَا أَنَا مُخْلِفٌ مَنْ يَرْتَجِينِي
وَكَلْمَةَ حَاسِدٍ مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ سَمِعْتُ وَقُلْتُ مُرِّي فَانْفُذِينِي
وَعَابُوهَا عَلَيَّ فَلَمْ تَعِبْنِي وَلَمْ يَعْرَقْ لَهَا يَوْمًا جَبِينِي
وَذِي وَجْهَيْنِ يَلْقَانِي طَلِيقًا وَلَيْسَ إِذَا تَغَيَّبَ يَأْتَسِينِي
ظَفِرْتُ بِعَيْبِهِ فَكَفَفْتُ عَنْهُ مُحَافَظَةً عَلَى حَسَبِي وَدِينِي
وَمِنْ شِعْرِهِ
سَلِي الْبَائِسَ الْمَقْرُورَ يَا أُمَّ مَالِكٍ إِذَا مَا أَتَانِي بَيْنَ نَارِي وَمَجْزَرِي
أَأَبْسُطُ وَجْهِي إِنَّهُ أَوَّلُ الْقِرَى وَأَبْذُلُ مَعْرُوفِي لَهُ دُونَ مُنْكَرِي
وَقَالَ أَيْضًا

وَإِنَّكَ إِنْ أَعْطَيْتَ بَطْنَكَ سُؤْلَهُ وَفَرْجَكَ نَالَا مُنْتَهَى الذَّمِّ أَجْمَعَا
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ الْجَرِيرِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ الْكَوْكَبِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ أَخْبَرَنِي الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ حَاتِمَ طَيِّئٍ قَوْلُ الْمُتَلَمِّسِ
قَلِيلُ الْمَالِ تُصْلِحُهُ فَيَبْقَى وَلَا يَبْقَى الْكَثِيرُ عَلَى الْفَسَادِ
وَحِفْظُ الْمَالِ خَيْرٌ مِنْ فَنَاهُ وَعَسْفٍ فِي الْبِلَادِ بِغَيْرِ زَادِ
قَالَ: مَالَهُ قَطَعَ اللَّهُ لِسَانَهُ حَمَلَ النَّاسَ عَلَى الْبُخْلِ فَهَلَّا قَالَ:
فَلَا الْجُودُ يُفْنِي الْمَالَ قَبْلَ فَنَائِهِ وَلَا الْبُخْلُ فِي مَالِ الشَّحِيحِ يَزِيدُ
فَلَا تَلْتَمِسْ مَالًا بِعَيْشٍ مُقَتَّرٍ لِكُلِّ غَدٍ رِزْقٌ يَعُودُ جَدِيدُ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ وَأَنَّ الَّذِي يُعْطِيكَ غَيْرُ بَعِيدِ
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: وَلَقَدْ أَحْسَنَ فِي قَوْلِهِ:
وَأَنَّ الَّذِي يُعْطِيكَ غَيْرُ بَعِيدِ
وَلَوْ كَانَ مُسْلِمًا لَرُجِيَ لَهُ الْخَيْرُ فِي مَعَادِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [ النِّسَاءِ: 32 ] وَقَالَ تَعَالَى وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [ الْبَقَرَةِ: 186 ] وَعَنِ الْوَضَّاحِ بْنِ مَعْبَدٍ الطَّائِيِّ قَالَ: وَفَدَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ عَلَى النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ،

فَأَكْرَمَهُ وَأَدْنَاهُ، ثُمَّ زَوَّدَهُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ حِمْلَيْنِ ذَهَبًا وَوَرِقًا، غَيْرَ مَا أَعْطَاهُ مِنْ طَرَائِفِ بَلَدِهِ فَرَحَلَ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى أَهْلِهِ تَلَقَّتْهُ أَعَارِيبُ طَيِّئٍ فَقَالَتْ: يَا حَاتِمُ أَتَيْتَ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ، وَأَتَيْنَا مِنْ عِنْدِ أَهَالِينَا بِالْفَقْرِ فَقَالَ حَاتِمٌ: هَلُمَّ فَخُذُوا مَا بَيْنَ يَدِيَّ فَتَوَزَّعُوهُ فَوَثَبُوا إِلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ حِبَاءِ النُّعْمَانِ فَاقْتَسَمُوهُ فَخَرَجَتْ إِلَى حَاتِمٍ طَرِيفَةُ جَارِيَتُهُ فَقَالَتْ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَبْقِ عَلَى نَفْسِكَ فَمَا يَدَعُ هَؤُلَاءِ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
قَالَتْ طُرَيْفَةُ مَا تَبْقَى دَرَاهِمُنَا وَمَا بِنَا سَرَفٌ فِيهَا وَلَا خَرَقُ
إِنْ يَفْنَ مَا عِنْدَنَا فَاللَّهُ يَرْزُقُنَا مِمَّنْ سِوَانَا وَلَسْنَا نَحْنُ نَرْتَزِقُ
مَا يَأْلَفُ الدِّرْهَمُ الْكَارِيُّ خِرْقَتَنَا إِلَّا يَمُرُّ عَلَيْهَا ثُمَّ يَنْطَلِقُ
إِنَّا إِذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا دَرَاهِمُنَا ظَلَّتْ إِلَى سُبُلِ الْمَعْرُوفِ تَسْتَبِقُ
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: قِيلَ لِحَاتِمٍ: هَلْ فِي الْعَرَبِ أَجْوَدُ مِنْكَ ؟ فَقَالَ: كُلُّ الْعَرَبِ أَجْوَدُ مِنِّي. ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ قَالَ: نَزَلْتُ عَلَى غُلَامٍ مِنَ الْعَرَبِ يَتِيمٍ ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ مِائَةٌ مِنَ الْغَنَمِ فَذَبَحَ لِي شَاةً مِنْهَا وَأَتَانِي بِهَا فَلَمَّا قَرَّبَ إِلَيَّ دِمَاغَهَا قُلْتُ: مَا أَطْيَبَ هَذَا الدِّمَاغَ قَالَ: فَذَهَبَ فَلَمْ يَزَلْ يَأْتِينِي

مِنْهُ حَتَّى قُلْتُ قَدِ اكْتَفَيْتُ فَلَمَّا أَصْبَحْتُ إِذَا هُوَ قَدْ ذَبَحَ الْمِائَةَ شَاةٍ وَبَقِيَ لَا شَيْءَ لَهُ. فَقِيلَ: فَمَا صَنَعْتَ بِهِ ؟ فَقَالَ: وَمَتَى أَبْلُغُ شُكْرَهُ وَلَوْ صَنَعْتُ بِهِ كُلَّ شَيْءٍ. قَالَ: عَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَالَ أَعْطَيْتُهُ مِائَةَ نَاقَةٍ مِنْ خِيَارِ إِبِلِي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْخَرَائِطِيُّ فِي كِتَابِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الرَّبَعِيُّ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ ابْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي حَمَّادٌ الرَّاوِيَةُ وَمَشْيَخَةٌ مِنْ مَشْيَخَةِ طَيِّئٍ قَالُوا: كَانَتْ غَنِيَّةُ بِنْتُ عَفِيفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ أَمُّ حَاتِمِ طَيِّئٍ لَا تُمْسِكُ شَيْئًا سَخَاءً وَجُودًا وَكَانَ إِخْوَتُهَا يَمْنَعُونَهَا فَتَأْبَى، وَكَانَتِ امْرَأَةً مُوسِرَةً فَحَبَسُوهَا فِي بَيْتٍ سَنَةً يُطْعِمُونَهَا قُوتَهَا لَعَلَّهَا تَكُفُّ عَمَّا تَصْنَعُ، ثُمَّ أَخْرَجُوهَا بَعْدَ سَنَةٍ وَقَدْ ظَنُّوا أَنَّهَا قَدْ تَرَكَتْ ذَلِكَ الْخُلُقَ فَدَفَعُوا إِلَيْهَا صِرْمَةً مِنْ مَالِهَا، وَقَالُوا: اسْتَمْتِعِي بِهَا فَأَتَتْهَا امْرَأَةٌ مِنْ هَوَازِنَ وَكَانَتْ تَغْشَاهَا فَسَأَلَتْهَا فَقَالَتْ: دُونَكِ هَذِهِ الصِّرْمَةَ فَقَدْ وَاللَّهِ مَسَّنِي مِنَ الْجُوعِ مَا آلَيْتُ أَنْ لَا أَمْنَعَ سَائِلًا، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ:
لَعَمْرِي لَقِدْمًا عَضَّنِي الْجُوعُ عَضَّةً فَآلَيْتُ أَنْ لَا أَمْنَعَ الدَّهْرَ جَائِعًا
فَقُولَا لِهَذَا اللَّائِمِي الْيَوْمَ أَعْفِنِي وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَعَضَّ الْأَصَابِعَا
فَمَاذَا عَسَاكُمْ أَنْ تَقُولُوا لِأُخْتِكُمْ سِوَى عَذْلِكُمْ أَوْ عَذَلِ مَنْ كَانَ مَانِعًا

وَمَاذَا تَرَوْنَ الْيَوْمَ إِلَّا طَبِيعَةً فَكَيْفَ بِتَرْكِي يَا ابْنَ أُمِّي الطَّبَائِعَا
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ عَنْ مِلْحَانَ بْنِ عَرْكِيِّ بْنِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: شَهِدْتُ حَاتِمًا يَكِيدُ بِنَفْسِهِ فَقَالَ لِي أَيْ بُنَيَّ إِنِّي أَعْهَدُ مِنْ نَفْسِي ثَلَاثَ خِصَالٍ: وَاللَّهِ مَا خَاتَلْتُ جَارَةً لِرِيبَةٍ قَطُّ وَلَا ائْتُمِنْتُ عَلَى أَمَانَةٍ إِلَّا أَدَّيْتُهَا وَلَا أُوتِيَ أَحَدٌ مِنْ قِبَلِي بِسُوءٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى الْعَدَوِيُّ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي مِسْكِينٍ - يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ الْمُحَرِّزِ بْنِ الْوَلِيدِ - عَنِ الْمُحَرَّرِ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَرَّ نَفَرٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ بِقَبْرِ حَاتِمِ طَيِّئٍ فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهُ فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ يُقَالَ لَهُ: أَبُو الْخَيْبَرِيِّ فَجَعَلَ يَرْكُضُ قَبْرَهُ بِرِجْلِهِ، وَيَقُولُ: يَا أَبَا الْجَعْرَاءِ أَقْرِنَا فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مَا تُخَاطِبُ مِنْ رِمَّةٍ وَقَدْ بَلِيَتْ وَأَجَنَّهُمُ اللَّيْلُ فَنَامُوا فَقَامَ صَاحِبُ الْقَوْلِ فَزِعًا يَقُولُ: يَا قَوْمِ عَلَيْكُمْ بِمَطِيِّكُمْ فَإِنَّ حَاتِمًا أَتَانِي فِي النَّوْمِ، وَأَنْشَدَنِي شِعْرًا وَقَدْ حَفِظْتُهُ يَقُولُ:

أَبَا خَيْبَرِيِّ وَأَنْتَ امْرُؤٌ ظَلُومُ الْعَشِيرَةِ شَتَّامُهَا
أَتَيْتَ بِصَحْبِكَ تَبْغِي الْقِرَى لَدَى حُفْرَةٍ صَخِبٍ هَامُهَا
تُبَغِّي لِيَ الذَّنْبَ عِنْدَ الْمَبِيتِ وَحَوْلَكَ طَيٌّ وَأَنْعَامُهَا
وَإِنَّا لَنُشْبِعُ أَضْيَافَنَا وَتَأْتِي الْمَطِيَّ فَنَعْتَامُهَا
قَالَ: وَإِذَا نَاقَةُ صَاحِبِ الْقَوْلِ تَكُوسُ عَقِيرًا فَنَحَرُوهَا، وَقَامُوا يَشْتَوُونَ وَيَأْكُلُونَ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ أَضَافَنَا حَاتِمٌ حَيًّا وَمَيِّتًا. قَالَ: وَأَصْبَحَ الْقَوْمُ وَأَرْدَفُوا صَاحِبَهُمْ، وَسَارُوا فَاذَا رَجُلٌ يُنَوِّهُ بِهِمْ رَاكِبًا جَمَلًا وَيَقُودُ آخَرَ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَبُو الْخَيْبَرِيِّ ؟ قَالَ: أَنَا قَالَ: إِنَّ حَاتِمًا أَتَانِي فِي النَّوْمِ فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ قَرَى أَصْحَابَكَ نَاقَتَكَ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَحْمِلَكَ. وَهَذَا بَعِيرٌ فَخُذْهُ، وَدَفَعَهُ إِلَيْهِ.

ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ سَيِّدُ بَنِي تَيْمٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ وَالِدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِنَ الْكُرَمَاءِ الْأَجْوَادِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْمُطْعِمِينَ لِلْمُسْنِتِينَ وَكَانَ فِي بَدْءِ أَمْرِهِ فَقِيرًا مُمْلِقًا وَكَانَ شِرِّيرًا يُكْثِرُ مِنَ الْجِنَايَاتِ حَتَّى أَبْغَضَهُ قَوْمُهُ وَعَشِيرَتُهُ وَأَهْلُهُ وَقَبِيلَتُهُ وَأَبْغَضُوهُ حَتَّى أَبُوهُ فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي شِعَابِ مَكَّةَ حَائِرًا بَائِرًا فَرَأَى شَقًّا فِي جَبَلٍ فَظَنَّ أَنْ يَكُونَ بِهِ شَيْءٌ يُؤْذِي فَقَصَدَهُ لَعَلَّهُ يَمُوتُ فَيَسْتَرِيحُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُ إِذَا ثُعْبَانٌ يَخْرُجُ إِلَيْهِ وَيَثِبُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ يَحِيدُ عَنْهُ وَيَثِبُ فَلَا يُغْنِي شَيْئًا فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ إِذَا هُوَ مِنْ ذَهَبٍ وَلَهُ عَيْنَانِ هُمَا يَاقُوتَتَانِ فَكَسَرَهُ وَأَخَذَهُ وَدَخَلَ الْغَارَ فَإِذَا فِيهِ قُبُورٌ لِرِجَالٍ مَنْ مُلُوكِ جُرْهُمٍ، وَمِنْهُمُ الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضٍ، الَّذِي طَالَتْ غَيْبَتُهُ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ، وَوَجَدَ عِنْدَ رُءُوسِهِمْ لَوْحًا مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَارِيخُ وَفَاتِهِمْ وَمُدَدُ وِلَايَتِهِمْ، وَإِذَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَاللَّآلِئِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَأَخَذَ مِنْهُ حَاجَتَهُ ثُمَّ خَرَجَ وَعَلَّمَ بَابَ الْغَارِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى قَوْمِهِ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى أَحَبُّوهُ وَسَادَهُمْ، وَجَعَلَ يُطْعِمُ النَّاسَ، وَكُلَّمَا قَلَّ مَا فِي يَدِهِ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْغَارِ

فَأَخَذَ حَاجَتَهُ ثُمَّ رَجَعَ فَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ فِي كِتَابِ التِّيجَانِ، وَذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ عَمَّارٍ فِي كِتَابِ رِيِّ الْعَاطِشِ وَأُنْسِ الْوَاحِشِ.
وَكَانَتْ لَهُ جَفْنَةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا الرَّاكِبُ عَلَى بَعِيرِهِ، وَوَقَعَ فِيهَا صَغِيرٌ فَغَرِقَ، وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَقَدْ كُنْتُ أَسْتَظِلُّ بِظِلِّ جَفْنَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، صَكَّةَ عُمَيٍّ أَيْ وَقْتَ الظَّهِيرَةِ. وَفِي حَدِيثِ مَقْتَلِ أَبِي جَهْلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لِأَصْحَابِهِ تَطَلَّبُوهُ بَيْنَ الْقَتْلَى، وَتَعَرَّفُوهُ بِشَجَّةٍ فِي رُكْبَتِهِ فَإِنِّي تَزَاحَمْتُ أَنَا وَهُوَ عَلَى مَأْدُبَةٍ لِابْنِ جُدْعَانَ فَدَفَعْتُهُ فَسَقَطَ عَلَى رُكْبَتِهِ فَانْهَشَمَتْ فَأَثَرُهَا بَاقٍ فِي رُكْبَتِهِ فَوَجَدُوهُ كَذَلِكَ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يُطْعِمُ التَّمْرَ وَالسَّوِيقَ، وَيَسْقِي اللَّبَنَ حَتَّى سَمِعَ قَوْلَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ
وَلَقَدْ رَأَيْتُ الْفَاعِلِينَ وَفِعْلَهُمْ فَرَأَيْتُ أَكْرَمَهُمْ بَنِي الدَّيَّانِ الْبُرُّ يُلْبَكُ بِالشِّهَادِ طَعَامُهُمْ
لَا مَا يُعَلِّلُنَا بَنُو جُدْعَانِ
فَأَرْسَلَ ابْنُ جُدْعَانَ إِلَى الشَّامِ أَلْفَيْ بَعِيرٍ تَحْمِلُ الْبُرَّ وَالشَّهْدَ وَالسَّمْنَ، وَجَعَلَ مُنَادِيًا يُنَادِي كُلَّ لَيْلَةٍ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، أَنْ هَلُمُّوا إِلَى جَفْنَةِ ابْنِ جُدْعَانَ فَقَالَ أُمَيَّةُ فِي ذَلِكَ

لَهُ دَاعٍ بِمَكَّةَ مُشْمَعِلٌّ وَآخَرُ فَوْقَ كَعْبَتِهَا يُنَادِي
إِلَى رُدُحٍ مِنَ الشِّيزَى مِلَاءٍ لُبَابُ الْبُرِّ يُلْبَكُ بِالشِّهَادِ
وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ لِمُسْلِمٍ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ يُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ.

ذِكْرُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ حُجْرٍ
الْكِنْدِيِّ صَاحِبِ إِحْدَى الْمُعَلَّقَاتِ
وَهِيَ أَفْخَرُهُنَّ وَأَشْهَرُهُنَّ، الَّتِي أَوَّلُهَا
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا أَبُو الْجَهْمِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: امْرُؤُ الْقَيْسِ صَاحِبُ لِوَاءِ الشُّعَرَاءِ إِلَى النَّارِ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ هُشَيْمٍ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَارُونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَأْمُونُ أَخُو الْأَمِينِ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ، وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ.

وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: هُوَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حُجْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُجْرٍ آكِلِ الْمُرَارِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ مُرَتِّعِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ كِنْدَةَ أَبُو يَزِيدَ، وَيُقَالَ: أَبُو وَهْبٍ وَيُقَالُ: أَبُو الْحَارِثِ الْكِنْدِيُّ، كَانَ بِأَعْمَالِ دِمَشْقَ وَقَدْ ذَكَرَ مَوَاضِعَ مِنْهَا فِي شِعْرِهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمُنْزِلِ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
فَتُوضِحَ فَالْمِقْرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ
قَالَ: وَهَذِهِ مَوَاضِعُ مَعْرُوفَةٌ بِحُورَانَ.
ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ حَدَّثَنِي فَرْوَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَفِيفِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ وَفْدٌ مِنَ الْيَمَنِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَحْيَانَا اللَّهُ بِبَيْتَيْنِ مِنْ شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ قَالَ: وَكَيْفَ ذَاكَ ؟ قَالُوا: أَقْبَلْنَا نُرِيدُكَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَخْطَأْنَا الطَّرِيقَ فَمَكَثْنَا ثَلَاثًا لَا نَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَتَفَرَّقْنَا إِلَى أُصُولِ طَلْحٍ وَسَمُرٍ ; لِيَمُوتَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فَبَيْنَا نَحْنُ بِآخِرِ رَمَقٍ إِذَا رَاكِبٌ يُوضِعُ عَلَى بَعِيرٍ فَلَمَّا رَآهُ بَعْضُنَا - قَالَ

وَالرَّاكِبُ يَسْمَعُ -:
وَلَمَّا رَأَتْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ هَمُّهَا وَأَنَّ الْبَيَاضَ مِنْ فَرَائِصِهَا دَامِي
تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِي
فَقَالَ الرَّاكِبُ: وَمَنْ يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ ؟ - وَقَدْ رَأَى مَا بِنَا مِنَ الْجَهْدِ - قَالَ: قُلْنَا: امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حُجْرٍ قَالَ: وَاللَّهِ مَا كَذَبَ هَذَا ضَارِجٌ عِنْدَكُمْ فَنَظَرْنَا فَاذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَاءِ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِينَ ذِرَاعًا فَحَبَوْنَا إِلَيْهِ عَلَى الرُّكَبِ فَاذَا هُوَ كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ عَلَيْهِ الْعَرْمَضُ يَفِيءُ عَلَيْهِ الظِّلُّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاكَ رَجُلٌ مَذْكُورٌ فِي الدُّنْيَا مَنْسِيٌّ فِي الْآخِرَةِ، شَرِيفٌ فِي الدُّنْيَا خَامِلٌ فِي الْآخِرَةِ، بِيَدِهِ لِوَاءُ الشُّعَرَاءِ يَقُودُهُمْ إِلَى النَّارِ.
وَذَكَرَ الْكَلْبِيُّ أَنَّ امْرَأَ الْقَيْسِ أَقْبَلَ بِرَايَاتِهِ، يُرِيدُ قِتَالَ بَنِي أَسَدٍ حِينَ قَتَلُوا أَبَاهُ فَمَرَّ بِتَبَالَةَ وَبِهَا ذُو الْخَلَصَةِ، وَهُوَ صَنَمٌ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَسْتَقْسِمُ عِنْدَهُ فَاسْتَقْسَمَ فَخَرَجَ الْقَدَحُ النَّاهِي ثُمَّ الثَّانِيَةَ ثُمَّ الثَّالِثَةَ كَذَلِكَ فَكَسَرَ الْقِدَاحَ وَضَرَبَ بِهَا وَجْهَ ذِي الْخَلَصَةِ، وَقَالَ: عَضَضْتَ بِأَيْرِ أَبِيكَ لَوْ كَانَ أَبُوكَ الْمَقْتُولُ لَمَا عَوَّقْتَنِي، ثُمَّ أَغَارَ عَلَى بَنِي أَسَدٍ فَقَتَلَهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا. قَالَ ابْنُ

الْكَلْبِيِّ: فَلَمْ يُسْتَقْسَمْ عِنْدَ ذِي الْخَلَصَةِ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ امْتَدَحَ قَيْصَرَ مَلِكَ الرُّومِ يَسْتَنْجِدُهُ فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ، وَيَسْتَرْفِدُهُ فَلَمْ يَجِدْ مَا يُؤَمِّلُهُ عِنْدَهُ فَهَجَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيُقَالَ: إِنَّهُ سَقَاهُ سُمًّا فَقَتَلَهُ فَأَلْجَأَهُ الْمَوْتُ إِلَى جَنْبِ قَبْرِ امْرَأَةٍ عِنْدَ جَبَلٍ يُقَالَ لَهُ: عَسِيبٌ فَكَتَبَ هُنَالِكَ
أَجَارَتَنَا إِنَّ الْمَزَارَ قَرِيبٌ وَإِنِّي مُقِيمٌ مَا أَقَامَ عَسِيبُ
أَجَارَتَنَا إِنَّا غَرِيبَانِ هَاهُنَا وَكُلُّ غَرِيبٍ لِلْغَرِيبِ نَسِيبُ
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُعَلَّقَاتِ السَّبْعَ كَانَتْ مُعَلَّقَةً بِالْكَعْبَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا عَمِلَ أَحَدُهُمْ قَصِيدَةً عَرَضَهَا عَلَى قُرَيْشٍ فَإِنْ أَجَازُوهَا عَلَّقُوهَا عَلَى الْكَعْبَةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا فَاجْتَمَعَ مِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْمُعَلَّقَاتُ السَّبْعُ فَالْأُولَى لِامْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ حُجْرٍ الْكَنَدِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَوَّلُهَا
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمُنْزِلٍ بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
وَالثَّانِيَةُ لِلنَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ وَاسْمُهُ زِيَادُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَيُقَالَ: زِيَادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ ضِبَابِ بْنِ جَابِرِ بْنِ يَرْبُوعَ بْنِ غَيْظِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضٍ، وَأَوَّلُهَا

يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَبَدِ
وَالثَّالِثَةُ لِزُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى رَبِيعَةَ بْنِ رِيَاحٍ الْمُزَنِيِّ، وَأَوَّلُهَا
أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لَمْ تَكَلَّمِ بِحَوْمَانَةِ الدَّرَّاجِ فَالْمُتَثَلِّمِ
وَالرَّابِعَةُ لِطَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ضُبَيْعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَأَوَّلُهَا
لِخَوْلَةَ أَطْلَالٌ بِبُرْقَةَ ثَهْمَدِ تَلُوحُ كَبَاقِي الْوَشْمِ فِي ظَاهِرِ الْيَدِ
وَالْخَامِسَةُ لِعَنْتَرَةَ بْنِ شَدَّادِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَادِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَالِبِ بْنِ قُطَيْعَةَ بْنِ عَبْسٍ الْعَبْسِيُّ، وَأَوَّلُهَا
هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ أَمْ هَلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ
وَالسَّادِسَةُ لِعَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدَةَ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ قَيْسٍ أَحَدِ بَنِي تَمِيمٍ، وَأَوَّلُهَا
طَحَا بِكَ قَلْبٌ فِي الْحِسَانِ طَرُوبُ بُعَيْدَ الشَّبَابِ عَصْرَ حَانَ مَشِيبُ
وَالسَّابِعَةُ - وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُثْبِتُهَا فِي الْمُعَلَّقَاتِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ وَغَيْرِهِ -

وَهِيَ لِلَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ، وَأَوَّلُهَا
عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا بِمِنًى تَأَبَّدَ غَوْلُهَا فِرِجَامُهَا
فَأَمَّا الْقَصِيدَةُ الَّتِي لَا يُعْرَفُ قَائِلُهَا فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيُّ وَالْمُبَرِّدُ وَغَيْرُهُمْ فَهِيَ قَوْلُهُ
هَلْ بِالطُّلُولِ لِسَائِلٍ رَدُّ أَمْ هَلْ لَهَا بِتَكَلُّمٍ عَهْدُ
وَهِيَ مُطَوَّلَةٌ، وَفِيهَا مَعَانٍ حَسَنَةٌ كَثِيرَةٌ.

ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ أُمَيَّةَ ابْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ
كَانَ مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ أَدْرَكَ زَمَنَ الْإِسْلَامِ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بْنِ غِيَرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفِ بْنِ مُنَبِّهِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ أَبُو عُثْمَانَ، وَيُقَالَ: أَبُو الْحَكَمِ الثَّقَفِيُّ شَاعِرٌ جَاهِلِيٌّ قَدِمَ دِمَشْقَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مُسْتَقِيمًا، وَإِنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ عَلَى الْإِيمَانِ ثُمَّ زَاغَ عَنْهُ، وَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ [ الْأَعْرَافِ: 175 ].
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فَوَلَدَتْ رُقَيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أُمَيَّةَ

الشَّاعِرَ ابْنَ أَبِي الصَّلْتِ، وَاسْمُ أَبِي الصَّلْتِ رَبِيعَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عِلَاجِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ ثَقِيفٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ أَبُوهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِالطَّائِفِ وَكَانَ أُمَيَّةُ أَشْعَرُهُمْ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ الثَّوْرِيُّ: أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْ مُسَدَّدٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ نَافِعِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنِّي لَفِي حَلْقَةٍ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فَقَرَأَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْأَعْرَافِ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَقَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَنْ هُوَ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ، وَقَالَ آخَرُ: بَلْ هُوَ بَلْعَمٌ رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: لَا. قَالَ: فَمَنْ هُوَ ؟ قَالَ: هُوَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ. وَهَكَذَا قَالَ: أَبُو صَالِحٍ وَالْكَلْبِيُّ، وَحَكَاهُ قَتَادَةُ عَنْ بَعْضِهِمْ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ

الرَّبَعِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الطَّرِيحِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الثَّقَفِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ تُجَّارًا إِلَى الشَّامِ فَكُلَّمَا نَزَلْنَا مَنْزِلًا أَخَذَ أُمَيَّةُ سِفْرًا لَهُ يَقْرَؤُهُ عَلَيْنَا. فَكُنَّا كَذَلِكَ حَتَّى نَزَلْنَا قَرْيَةً مِنْ قُرَى النَّصَارَى فَجَاؤُهُ وَأَكْرَمُوهُ وَأَهْدَوْا لَهُ، وَذَهَبَ مَعَهُمْ إِلَى بُيُوتِهِمْ ثُمَّ رَجَعَ فِي وَسَطِ النَّهَارِ فَطَرَحَ ثَوْبَيْهِ وَأَخَذَ ثَوْبَيْنِ لَهُ أَسْوَدَيْنِ فَلَبِسَهُمَا، وَقَالَ لِي: هَلْ لَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ فِي عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءَ النَّصَارَى إِلَيْهِ يَتَنَاهَى عِلْمُ الْكِتَابِ تَسْأَلُهُ ؟ قُلْتُ: لَا أَرَبَ لِي فِيهِ وَاللَّهِ لَئِنْ حَدَّثَنِي بِمَا أُحِبُّ لَا أَثِقُ بِهِ، وَلَئِنْ حَدَّثَنِي بِمَا أَكْرَهُ لَأَوْجَلَنَّ مِنْهُ. قَالَ: فَذَهَبَ وَخَالَفَهُ شَيْخٌ مِنَ النَّصَارَى فَدَخَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَذْهَبَ إِلَى هَذَا الشَّيْخِ ؟ قُلْتُ: لَسْتُ عَلَى دِينِهِ قَالَ: وَإِنْ فَإِنَّكَ تَسْمَعُ مِنْهُ عَجَبًا وَتَرَاهُ. ثُمَّ قَالَ لِي: أَثَقَفِيٌّ أَنْتَ ؟ قُلْتُ: لَا، وَلَكِنْ قُرَشِيٌّ. قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الشَّيْخِ ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَيُحِبُّكُمْ وَيُوصِي بِكُمْ. قَالَ: فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا، وَمَكَثَ أُمَيَّةُ عِنْدَهُمْ حَتَّى جَاءَنَا بَعْدَ هَدْأَةٍ مِنَ اللَّيْلِ فَطَرَحَ ثَوْبَيْهِ ثُمَّ انْجَدَلَ عَلَى فِرَاشِهِ فَوَاللَّهِ مَا نَامَ وَلَا قَامَ حَتَّى أَصْبَحَ كَئِيبًا حَزِينًا سَاقِطًا غَبُوقُهُ عَلَى صَبُوحِهِ، مَا يُكَلِّمُنَا وَلَا نُكَلِّمُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا تَرْحَلُ ؟ قُلْتُ: وَهَلْ بِكَ مِنْ رَحِيلٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ

فَرَحَلْنَا فَسِرْنَا بِذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ مِنْ هَمِّهِ.
ثُمَّ قَالَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ: أَلَا تَحَدَّثُ يَا أَبَا سُفْيَانَ ؟ قُلْتُ: وَهَلْ بِكَ مِنْ حَدِيثٍ ؟ وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَجَعْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِ صَاحِبِكَ. قَالَ: أَمَا إِنَّ ذَلِكَ لِشَيْءٍ لَسْتَ فِيهِ إِنَّمَا ذَلِكَ لِشَيْءٍ وَجِلْتُ مِنْهُ مِنْ مُنْقَلَبِي. قُلْتُ: وَهَلْ لَكَ مِنْ مُنْقَلَبٍ قَالَ: أَيْ وَاللَّهِ لَأَمُوتَنَّ، ثُمَّ لَأُحْيَيَنَّ قَالَ: قُلْتُ: هَلْ أَنْتَ قَابِلٌ أَمَانَتِي ؟ قَالَ: عَلَى مَاذَا ؟ قُلْتُ: عَلَى أَنَّكَ لَا تُبْعَثُ وَلَا تُحَاسَبُ قَالَ: فَضَحِكَ، ثُمَّ قَالَ: بَلَى وَاللَّهِ يَا أَبَا سُفْيَانَ لَنُبْعَثَنَّ ثُمَّ لَنُحَاسَبَنَّ، وَلَيَدْخُلَنَّ فَرِيقٌ الْجَنَّةَ وَفَرِيقٌ النَّارَ. قُلْتُ: فَفِي أَيِّهِمَا أَنْتَ أَخْبَرَكَ صَاحِبُكَ ؟ قَالَ: لَا عِلْمَ لِصَاحِبِي بِذَلِكَ لَا فِيَّ وَلَا فِي نَفْسِهِ. قَالَ: فَكُنَّا فِي ذَلِكَ لَيْلَتَيْنِ يَعْجَبُ مِنِّي وَأَضْحَكُ مِنْهُ حَتَّى قَدِمْنَا غُوطَةَ دِمَشْقَ فَبِعْنَا مَتَاعَنَا، وَأَقَمْنَا بِهَا شَهْرَيْنِ فَارْتَحَلْنَا حَتَّى نَزَلْنَا قَرْيَةً مِنْ قُرَى النَّصَارَى.
فَلَمَّا رَأَوْهُ جَاءُوهُ وَأَهْدَوْا لَهُ، وَذَهَبَ مَعَهُمْ إِلَى بَيْعَتِهِمْ فَمَا جَاءَ إِلَّا بَعْدَ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ فَلَبِسَ ثَوْبَيْهِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِمْ حَتَّى جَاءَ بَعْدَ هَدْأَةٍ مِنَ اللَّيْلِ فَطَرَحَ ثَوْبَيْهِ وَرَمَى بِنَفْسِهِ عَلَى فِرَاشِهِ فَوَاللَّهِ مَا نَامَ وَلَا قَامَ وَأَصْبَحَ حَزِينًا كَئِيبًا لَا يُكَلِّمُنَا وَلَا نُكَلِّمُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا تَرْحَلُ ؟ قُلْتُ: بَلَى إِنْ شِئْتَ. فَرَحَلْنَا كَذَلِكَ مِنْ بَثِّهِ وَحُزْنِهِ لَيَالِيَ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَبَا سُفْيَانَ هَلْ لَكَ فِي الْمَسِيرِ لِنَتَقَدَّمَ أَصْحَابَنَا ؟ قُلْتُ: هَلْ لَكَ فِيهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَسِرْنَا حَتَّى بَرَزْنَا مِنْ أَصْحَابِنَا سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: هَيَا

صَخْرُ قُلْتُ: مَا تَشَاءُ ؟ قَالَ حَدِّثْنِي عَنْ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ أَيَجْتَنِبُ الْمَظَالِمَ وَالْمَحَارِمَ ؟ قُلْتُ: إِي وَاللَّهِ. قَالَ: وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَأْمُرُ بِصِلَتِهَا ؟ قُلْتُ: إِي وَاللَّهِ. قَالَ: وَكَرِيمُ الطَّرَفَيْنِ وَسَطٌ فِي الْعَشِيرَةِ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: فَهَلْ تَعْلَمُ قُرَشِيًّا أَشْرَفَ مِنْهُ ؟ قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ. قَالَ أَمُحْوِجٌ هُوَ ؟ قُلْتُ: لَا بَلْ هُوَ ذُو مَالٍ كَثِيرٍ. قَالَ: وَكَمْ أَتَى عَلَيْهِ مِنَ السِّنِّ ؟ قُلْتُ: قَدْ زَادَ عَلَى الْمِائَةِ. قَالَ: فَالشَّرَفُ وَالسِّنُّ وَالْمَالُ أَزْرَيْنَ بِهِ ؟ قُلْتُ: وَلِمَ ذَاكَ يُزْرِي بِهِ ؟ لَا وَاللَّهِ بَلْ يَزِيدُهُ خَيْرًا قَالَ: هُوَ ذَاكَ. هَلْ لَكَ فِي الْمَبِيتِ ؟ قُلْتُ: هَلْ لِي فِيهِ قَالَ: فَاضْطَجَعْنَا حَتَّى مَرَّ الثَّقَلُ. قَالَ: فَسِرْنَا حَتَّى نَزَلْنَا فِي الْمَنْزِلِ وَبِتْنَا بِهِ، ثُمَّ ارْتَحَلْنَا مِنْهُ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ قَالَ لِي: يَا أَبَا سُفْيَانَ قُلْتُ مَا تَشَاءُ ؟ قَالَ: هَلْ لَكَ فِي مِثْلِ الْبَارِحَةِ ؟ قُلْتُ: هَلْ لِي فِيهِ. قَالَ: فَسِرْنَا عَلَى نَاقَتَيْنِ بُخْتِيَّتَيْنِ حَتَّى إِذَا بَرَزْنَا قَالَ: هَيَا صَخْرُ هِيهِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. قَالَ: قُلْتُ هِيهًا فِيهِ قَالَ: أَيَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ وَالْمَظَالِمَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَأْمُرُ بِصِلَتِهَا ؟ قُلْتُ: إِي وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَفْعَلُ. قَالَ: وَذُو مَالٍ ؟ قُلْتُ: وَذُو مَالٍ. قَالَ أَتَعْلَمُ قُرَشِيًّا أَسْوَدَ مِنْهُ ؟ قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ. قَالَ: كَمْ أَتَى لَهُ مِنَ السِّنِّ ؟ قُلْتُ: قَدْ زَادَ عَلَى الْمِائَةِ. قَالَ: فَإِنَّ السِّنَّ وَالشَّرَفَ وَالْمَالَ أَزْرَيْنَ بِهِ ؟ قُلْتُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا أَزْرَى بِهِ ذَلِكَ، وَأَنْتَ قَائِلٌ شَيْئًا فَقُلْهُ. قَالَ: لَا تَذْكُرْ حَدِيثِي حَتَّى يَأْتِيَ مِنْهُ مَا هُوَ آتٍ. ثُمَّ قَالَ:

فَإِنَّ الَّذِي رَأَيْتَ أَصَابَنِي أَنِّي جِئْتُ هَذَا الْعَالِمَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ أَشْيَاءَ، ثُمَّ قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا النَّبِيِّ الَّذِي يُنْتَظَرُ. قَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ. قُلْتُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ مِنَ الْعَرَبِ فَمِنْ أَيِّ الْعَرَبِ هُوَ ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ تَحُجُّهُ الْعَرَبُ. قُلْتُ: وَفِينَا بَيْتٌ تَحُجُّهُ الْعَرَبُ. قَالَ: هُوَ مِنْ إِخْوَانِكُمْ مِنْ قُرَيْشٍ فَأَصَابَنِي وَاللَّهِ شَيْءٌ مَا أَصَابَنِي مِثْلُهُ قَطُّ، وَخَرَجَ مِنْ يَدِي فَوْزُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَكُونَ إِيَّاهُ. قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ مَا كَانَ فَصِفْهُ لِي. قَالَ: رَجُلٌ شَابٌّ حِينَ دَخَلَ فِي الْكُهُولَةِ بُدُوُّ أَمْرِهِ يَجْتَنِبُ الْمَظَالِمَ وَالْمَحَارِمَ، وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَأْمُرُ بِصِلَتِهَا، وَهُوَ مُحْوِجٌ كَرِيمُ الطَّرَفَيْنِ مُتَوَسِّطٌ فِي الْعَشِيرَةِ، أَكْثَرُ جُنْدِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. قُلْتُ: وَمَا آيَةُ ذَلِكَ ؟ قَالَ: قَدْ رَجَفَتِ الشَّامُ مُنْذُ هَلَكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَمَانِينَ رَجْفَةً كُلُّهَا فِيهَا مُصِيبَةٌ، وَبَقِيَتْ رَجْفَةٌ عَامَّةٌ فِيهَا مَصَائِبُ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ الْبَاطِلُ لَئِنْ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا، لَا يَأْخُذُهُ إِلَّا مُسِنًّا شَرِيفًا. قَالَ أُمَيَّةُ: وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ إِنَّ هَذَا لَهَكَذَا يَا أَبَا سُفْيَانَ ; تَقُولُ: إِنَّ قَوْلَ النَّصْرَانِيِّ حَقٌّ. هَلْ لَكَ فِي الْمَبِيتِ ؟ قُلْتُ: هَلْ لِي فِيهِ. قَالَ: فَبِتْنَا حَتَّى جَاءَنَا الثَّقَلُ، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَكَّةَ لَيْلَتَانِ، أَدْرَكَنَا رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِنَا فَسَأَلْنَاهُ فَإِذَا هُوَ

يَقُولُ: أَصَابَتْ أَهْلَ الشَّامِ بَعْدَكُمْ رَجْفَةٌ دَمَّرَتْ أَهْلَهَا، وَأَصَابَتْهُمْ فِيهَا مَصَائِبُ عَظِيمَةٌ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ أُمَيَّةُ فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى قَوْلَ النَّصْرَانِيِّ يَا أَبَا سُفْيَانَ ؟ قُلْتُ: أَرَى وَأَظُنُّ وَاللَّهِ أَنَّ مَا حَدَّثَكَ بِهِ صَاحِبُكَ حَقٌّ. قَالَ: فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَقَضَيْتُ مَا كَانَ مَعِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ حَتَّى جِئْتُ الْيَمَنَ تَاجِرًا فَكُنْتُ بِهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَدِمْتُ مَكَّةَ فَبَيْنَا أَنَا فِي مَنْزِلِي جَاءَنِي النَّاسُ يُسَلِّمُونَ عَلَيَّ، وَيَسْأَلُونَ عَنْ بَضَائِعِهِمْ حَتَّى جَاءَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهِنْدٌ عِنْدِي تُلَاعِبُ صِبْيَانَهَا فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَرَحَّبَ بِي، وَسَأَلَنِي عَنْ سَفَرِي وَمُقَامِي، وَلَمْ يَسْأَلْنِي عَنْ بِضَاعَتِهِ ثُمَّ قَامَ. فَقُلْتُلِهِنْدٍ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَيُعْجِبُنِي مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ قُرَيْشٍ لَهُ مَعِي بِضَاعَةٌ إِلَّا وَقَدْ سَأَلَنِي عَنْهَا وَمَا سَأَلَنِي هَذَا عَنْ بِضَاعَتِهِ ! فَقَالَتْ لِي هِنْدٌ: وَمَا عَلِمْتَ شَأْنَهُ ؟ فَقُلْتُ، وَفَزِعْتُ: مَا شَأْنُهُ ؟ قَالَتْ: يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. فَوَقَذَتْنِي وَذَكَرْتُ قَوْلَ النَّصْرَانِيِّ فَوَجَمْتُ حَتَّى قَالَتْ لِي هِنْدٌ: مَالَكَ ؟ فَانْتَبَهْتُ فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَاطِلُ ! لَهُوَ أَعْقَلُ مِنْ أَنْ يَقُولَ هَذَا. قَالَتْ: بَلَى وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَقُولَنَّ ذَلِكَ وَيُوَاتَى عَلَيْهِ، وَإِنَّ لَهُ لِصَحَابَةٌ عَلَى دِينِهِ. قُلْتُ: هَذَا هُوَ الْبَاطِلُ قَالَ: وَخَرَجَتْ فَبَيْنَا أَنَا أَطُوفُ بِالْبَيْتِ لَقِيتُهُ فَقُلْتُ لَهُ إِنَّ بِضَاعَتَكَ قَدْ بَلَغَتْ كَذَا وَكَذَا وَكَانَ فِيهَا خَيْرٌ فَأَرْسِلْ فَخُذْهَا وَلَسْتُ آخُذُ مِنْكَ فِيهَا مَا آخُذُ مِنْ قَوْمِي فَأَبَى عَلَيَّ، وَقَالَ: إِذَنْ لَا

آخُذُهَا. قُلْتُ: فَأَرْسِلْ فَخُذْهَا وَأَنَا آخُذُ مِنْكَ مِثْلَ مَا آخُذُ مِنْ قَوْمِي فَأَرْسَلَ إِلَى بِضَاعَتِهِ فَأَخَذَهَا وَأَخَذْتُ مِنْهُ مَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ خَرَجْتُ إِلَى الْيَمَنِ فَقَدِمْتُ الطَّائِفَ فَنَزَلْتُ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عُثْمَانَ قَالَ: مَا تَشَاءُ ؟ قُلْتُ: هَلْ تَذْكُرُ قَوْلَ النَّصْرَانِيِّ ؟ فَقُلْتُ: أَذْكُرُهُ فَقُلْتُ: وَقَدْ كَانَ، قَالَ: وَمَنْ ؟ قُلْتُ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟ قُلْتُ: ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ قَصَصْتُ عَلَيْهِ خَبَرَ هِنْدٍ قَالَ: فَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَخَذَ يَتَصَبَّبُ عَرَقًا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ يَا أَبَا سُفْيَانَ لَعَلَّهُ، إِنَّ صِفَتَهُ لَهِيَ وَلَئِنْ ظَهَرَ، وَأَنَا حَيٌّ لَأُبْلِيَنَّ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي نَصْرِهِ عُذْرًا. قَالَ: وَمَضَيْتُ إِلَى الْيَمَنِ فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ جَاءَنِي هُنَالِكَ اسْتِهْلَالُهُ، وَأَقْبَلْتُ حَتَّى نَزَلْتُ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ بِالطَّائِفِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عُثْمَانَ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ الرَّجُلِ مَا قَدْ بَلَغَكَ، وَسَمِعْتَهُ قَالَ: قَدْ كَانَ لَعَمْرِي. قُلْتُ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْهُ يَا أَبَا عُثْمَانَ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ لِأُومِنَ بِرَسُولٍ مِنْ غَيْرِ ثَقِيفٍ أَبَدًا. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَأَقْبَلْتُ إِلَى مَكَّةَ فَوَاللَّهِ مَا أَنَا بِبَعِيدٍ حَتَّى جِئْتُ مَكَّةَ فَوَجَدْتُ أَصْحَابَهُ يُضْرَبُونَ وَيُحْقَرُونَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَجَعَلْتُ أَقُولُ: فَأَيْنَ

جُنْدُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ؟ قَالَ: فَدَخَلَنِي مَا يَدْخُلُ النَّاسَ مِنَ النَّفَاسَةِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ طَرِيحٍ بِهِ، وَلَكِنَّ سِيَاقَ الطَّبَرَانِيِّ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ أَتَمُّ، وَأَطْوَلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُقْبِلٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا مُجَاشِعُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسَدِيُّ حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ كَانَ بِغَزَّةَ أَوْ بِإِيلِيَاءَ فَلَمَّا قَفَلْنَا قَالَ لِي أُمَيَّةُ: يَا أَبَا سُفْيَانَ هَلْ لَكَ أَنْ تَتَقَدَّمَ عَلَى الرُّفْقَةِ فَنَتَحَدَّثَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَفَعَلْنَا فَقَالَ لِي: يَا أَبَا سُفْيَانَ إِيهِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ؟ قُلْتُ: كَرِيمُ الطَّرَفَيْنِ، وَيَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ وَالْمَظَالِمَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: وَشَرِيفٌ مُسِنٌّ ؟ قُلْتُ: وَشَرِيفٌ مُسِنٌّ قَالَ: السِّنُّ وَالشَّرَفُ أَزْرَيَا بِهِ. فَقُلْتُ لَهُ: كَذَبْتَ مَا ازْدَادَ سِنًّا إِلَّا ازْدَادَ شَرَفًا. قَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ إِنَّهَا كَلِمَةٌ مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَقُولُهَا لِي مُنْذُ تَبَصَّرْتُ فَلَا تَعْجَلْ عَلَيَّ حَتَّى أُخْبِرَكَ. قَالَ: قُلْتُ: هَاتِ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَجِدُ فِي كُتُبِي نَبِيًّا يُبْعَثُ مِنْ حَرَّتِنَا هَذِهِ فَكُنْتُ أَظُنُّ بَلْ كُنْتُ لَا أَشُكُّ أَنِّي أَنَا هُوَ فَلَمَّا

دَارَسْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ إِذَا هُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ.
فَنَظَرْتُ فِي بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَصْلُحُ لِهَذَا الْأَمْرِ غَيْرَ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فَلَمَّا أَخْبَرْتَنِي بِسِنِّهِ عَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ حِينَ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ، وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَضَرَبَ الدَّهْرُ مَنْ ضَرَبَهُ فَأُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجْتُ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ أُرِيدُ الْيَمَنَ فِي تِجَارَةٍ فَمَرَرْتُ بِأُمَيَّةَ فَقُلْتُ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِهِ: يَا أُمَيَّةُ قَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ الَّذِي كُنْتَ تَنْعَتُهُ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ حَقٌّ فَاتَّبِعْهُ قُلْتُ: مَا يَمْنَعُكَ مِنِ اتِّبَاعِهِ ؟ قَالَ: مَا يَمْنَعُنِي إِلَّا الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ نُسَيَّاتِ ثَقِيفٍ إِنِّي كُنْتُ أُحَدِّثُهُنَّ أَنِّي هُوَ، ثُمَّ يَرَيْنَنِي تَابِعًا لِغُلَامٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ! ثُمَّ قَالَ أُمَيَّةُ: وَكَأَنِّي بِكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ إِنْ خَالَفْتَهُ، قَدْ رُبِطْتَ كَمَا يُرْبَطُ الْجَدْيُ حَتَّى يُؤْتَى بِكَ إِلَيْهِ فَيَحْكُمَ فِيكَ بِمَا يُرِيدُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: بَيْنَا أُمَيَّةُ رَاقِدٌ وَمَعَهُ ابْنَتَانِ لَهُ إِذْ فَزِعَتْ إِحْدَاهُمَا فَصَاحَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ نَسْرَيْنِ كَشَطَا سَقْفَ الْبَيْتِ فَنَزَلَ أَحَدُهُمَا إِلَيْكَ فَشَقَّ بَطْنَكَ وَالْآخَرُ وَاقِفٌ عَلَى ظَهْرِ الْبَيْتِ فَنَادَاهُ فَقَالَ: أَوَعَى ؟ قَالَ: وَعَى. قَالَ: أَزَكَا قَالَ: لَا. فَقَالَ: ذَاكَ

خَيْرٌ أُرِيدَ بِأَبِيكُمَا فَلَمْ يَقْبَلْهُ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِسِيَاقٍ آخَرَ فَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَدِمَتِ الْفَارِعَةُ أُخْتُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَكَانَتْ ذَاتَ لُبٍّ وَعَقْلٍ وَجَمَالٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا مُعْجَبًا فَقَالَ لَهَا ذَاتَ يَوْمٍ: يَا فَارِعَةُ هَلْ تَحْفَظِينَ مِنْ شِعْرِ أَخِيكِ شَيْئًا ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، وَأَعْجَبُ مِنْهُ مَا قَدْ رَأَيْتُ. قَالَتْ: كَانَ أَخِي فِي سَفَرٍ فَلَمَّا انْصَرَفَ بَدَأَ بِي فَدَخَلَ عَلَيَّ فَرَقَدَ عَلَى سَرِيرِي وَأَنَا أَخْلُقُ أَدِيمًا فِي يَدِي، إِذْ أَقْبَلَ طَائِرَانِ أَبْيَضَانِ أَوْ كَالطَّيْرَيْنِ أَبْيَضَيْنِ فَوَقَعَ عَلَى الْكُوَّةِ أَحَدُهُمَا وَدَخَلَ الْآخَرُ فَوَقَعَ عَلَيْهِ فَشَقَّ الْوَاقِعُ عَلَيْهِ مَا بَيْنَ قَصِّهِ إِلَى عَانَتِهِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَوْفِهِ فَأَخْرَجَ قَلْبَهُ فَوَضَعَهُ فِي كَفِّهِ ثُمَّ شَمَّهُ فَقَالَ لَهُ الطَّائِرُ الْآخَرُ: أَوَعَى ؟ قَالَ: وَعَى. قَالَ: أَزَكَا ؟ قَالَ: أَبَى. ثُمَّ رَدَّ الْقَلْبَ إِلَى مَكَانِهِ فَالْتَأَمَ الْجُرْحُ أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ ثُمَّ

ذَهَبَا فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ دَنَوْتُ مِنْهُ فَحَرَّكْتُهُ فَقُلْتُ: هَلْ تَجِدُ شَيْئًا ؟ قَالَ: لَا إِلَّا تَوْهِينًا فِي جَسَدِي - وَقَدْ كُنْتُ ارْتَعَبْتُ مِمَّا رَأَيْتُ - فَقَالَ: مَالِي أَرَاكِ مُرْتَاعَةً ؟ قَالَتْ: فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: خَيْرٌ أُرِيدَ بِي ثُمَّ صُرِفَ عَنِّي، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
بَاتَتْ هُمُومِيَ تَسْرِي طَوَارِقُهَا أَكُفُّ عَيْنِي وَالدَّمْعُ سَابِقُهَا مِمَّا أَتَانِي مِنَ الْيَقِينِ وَلَمْ
أُوتَ بِرَاةً يَقُصُّ نَاطِقُهَا أَمْ مَنْ تَلَظَّى عَلَيْهِ وَاقِدَةُ
النَّارِ مُحِيطٌ بِهِمْ سُرَادِقُهَا أَمْ أَسْكُنُ الْجَنَّةَ الَّتِي وُعِدَ
الْأَبْرَارُ مَصْفُوفَةٌ نَمَارِقُهَا لَا يَسْتَوِي الْمَنْزِلَانِ ثَمَّ وَلَا
الْأَعْمَالُ لَا تَسْتَوِي طَرَائِقُهَا هُمَا فَرِيقَانِ فِرْقَةٌ تَدْخُلُ
الْجَنَّةَ حَفَّتْ بِهِمْ حَدَائِقُهَا وَفِرْقَةٌ مِنْهُمُ قَدْ أُدْخِلَتِ
النَّارَ فَسَاءَتْهُمْ مَرَافِقُهَا تَعَاهَدَتْ هَذِهِ الْقُلُوبُ إِذَا
هَمَّتْ بِخَيْرٍ عَاقَتْ عَوَائِقُهَا وَصَدَّهَا لِلشَّقَاءِ عَنْ طَلَبِ
الْجَنَّةِ دُنْيَا اللَّهُ مَاحِقُهَا عَبْدٌ دَعَا نَفْسَهُ فَعَاتَبَهَا
يَعْلَمُ أَنَّ الْبَصِيرَ رَامِقُهَا مَا رَغْبَةُ النَّفْسِ فِي الْحَيَاةِ وَإِنْ
تَحْيَا قَلِيلًا فَالْمَوْتُ لَاحِقُهَا

يُوشِكُ مَنْ فَرَّ مِنْ مَنِيَّتِهِ
يَوْمًا عَلَى غِرَّةٍ يُوَافِقُهَا مَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَةً يَمُتْ هَرَمًا
لِلْمَوْتِ كَأْسٌ وَالْمَرْءُ ذَائِقُهَا
قَالَتْ: ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى رَحْلِهِ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى طُعِنَ فِي جِنَازَتِهِ فَأَتَانِي الْخَبَرُ فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ فَوَجَدْتُهُ مَنْعُوشًا قَدْ سُجِيَ عَلَيْهِ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَشَهِقَ شَهْقَةً وَشَقَّ بَصَرُهُ وَنَظَرَ نَحْوَ السَّقْفِ وَرَفَعَ صَوْتَهُ، وَقَالَ:
لَبَّيْكُمَا لَبَّيْكُمَا هَا أَنَا ذَا لَدَيْكُمَا
لَا ذُو مَالٍ فَيَفْدِينِي وَلَا ذُو أَهْلٍ فَتَحْمِينِي، ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ إِذْ شَهِقَ شَهْقَةً فَقُلْتُ: قَدْ هَلَكَ الرَّجُلُ فَشَقَّ بَصَرُهُ نَحْوَ السَّقْفِ فَرَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ:
لَبَّيْكُمَا لَبَّيْكُمَا هَا أَنَا ذَا لَدَيْكُمَا
لَا ذُو بَرَاءَةٍ فَأَعْتَذِرُ وَلَا ذُو عَشِيرَةٍ فَأَنْتَصِرُ، ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ إِذْ شَهِقَ شَهْقَةً وَشَقَّ بَصَرُهُ وَنَظَرَ نَحْوَ السَّقْفِ فَقَالَ:

لَبَّيْكُمَا لَبَّيْكُمَا هَا أَنَا ذَا لَدَيْكُمَا
بِالنِّعَمِ مَحْفُودٌ وَبِالذَّنْبِ مَحْصُودٌ
ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ إِذْ شَهِقَ شَهْقَةً فَقَالَ:
لَبَّيْكُمَا لَبَّيْكُمَا هَا أَنَا ذَا لَدَيْكُمَا
إِنَّ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا
ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ إِذْ شَهِقَ شَهْقَةً فَقَالَ:
كُلُّ عَيْشٍ وَإِنْ تَطَاوَلَ دَهْرًا صَائِرٌ مَرَّةً إِلَى أَنْ يَزُولَا
لَيْتَنِي كُنْتُ قَبْلَ مَا بَدَا لِي فِي قِلَالِ الْجِبَالِ أَرْعَى الْوُعُولَا
قَالَتْ: ثُمَّ مَاتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا فَارِعَةُ فَإِنَّ مَثَلَ أَخِيكِ كَمَثَلِ الَّذِي آتَاهُ اللَّهُ آيَاتِهِ " فَانْسَلَخَ مِنْهَا " الْآيَةَ وَقَدْ تَكَلَّمَ الْخَطَّابِيُّ عَلَى غَرِيبِ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أُمَيَّةُ ابْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
أَلَا رَسُولٌ لَنَا مِنَّا يُخَبِّرُنَا مَا بَعْدَ غَايَتِنَا مِنْ رَأْسِ مَجْرَانَا

قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَتَنَبَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقَامَ أُمَيَّةُ بِالْبَحْرَيْنِ ثَمَانِيَ سِنِينَ، ثُمَّ قَدِمَ الطَّائِفَ فَقَالَ لَهُمْ: مَا يَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ؟ قَالُوا: يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَهُوَ الَّذِي كُنْتَ تَتَمَنَّى. قَالَ: فَخَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ مَكَّةَ فَلَقِيَهُ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَا هَذَا الَّذِي تَقُولُ ؟ قَالَ: أَقُولُ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَأَنْ لَا الَهَ إِلَّا هُوَ. قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُكَلِّمَكَ فَعِدْنِي غَدًا. قَالَ: فَمَوْعِدُكَ غَدًا قَالَ: فَتُحِبُّ أَنْ آتِيَكَ، وَحْدِي أَوْ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِي، وَتَأْتِيَنِي وَحْدَكَ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَّ ذَلِكَ شِئْتَ قَالَ: فَإِنِّي آتِيكَ فِي جَمَاعَةٍ فَأْتِ فِي جَمَاعَةٍ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ غَدَا أُمَيَّةُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ: وَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى جَلَسُوا فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قَالَ: فَبَدَأَ أُمَيَّةُ فَخَطَبَ ثُمَّ سَجَعَ، ثُمَّ أَنْشَدَ الشِّعْرَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ الشِّعْرُ قَالَ: أَجِبْنِي يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [ يس: 1 ] حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا، وَثَبَ أُمَيَّةُ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ قَالَ: فَتَبِعَتْهُ قُرَيْشٌ يَقُولُونَ: مَا تَقُولُ يَا أُمَيَّةُ ؟ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ. فَقَالُوا: هَلْ تَتَّبِعُهُ ؟ قَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ أُمَيَّةُ إِلَى الشَّامِ، وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَلَمَّا قُتِلَ أَهْلُ بَدْرٍ قَدِمَ أُمَيَّةُ مِنَ الشَّامِ حَتَّى نَزَلَ بَدْرًا، ثُمَّ تَرَحَّلَ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قَائِلٌ: يَا أَبَا الصَّلْتِ مَا تُرِيدُ ؟ قَالَ: أُرِيدُ مُحَمَّدًا قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ ؟ قَالَ: أُومِنُ بِهِ وَأُلْقِي إِلَيْهِ مَقَالِيدَ هَذَا الْأَمْرِ. قَالَ: أَتَدْرِي مَنْ فِي الْقَلِيبِ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فِيهِ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهُمَا ابْنَا

خَالِكَ - وَأُمُّهُ رَبِيعَةُ بِنْتُ عَبْدِ شَمْسٍ - قَالَ: فَجَدَعَ أُذُنَيْ نَاقَتِهِ، وَقَطَعَ ذَنَبَهَا ثُمَّ وَقَفَ عَلَى الْقَلِيبِ يَقُولُ:
مَاذَا بِبَدْرٍ فَالْعَقَنْقَلُ مِنْ مَرَازِبَةٍ جَحَاجِحْ
الْقَصِيدَةَ إِلَى آخِرِهَا كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهَا بِتَمَامِهَا فِي قِصَّةِ بَدْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَتَرَكَ الْإِسْلَامَ. ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ الطَّيْرَيْنِ وَقِصَّةَ وَفَاتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنْشَدَ شِعْرَهُ عِنْدَ الْوَفَاةِ
كُلُّ عَيْشٍ وَإِنْ تَطَاوَلَ دَهْرًا صَائِرٌ مَرَّةً إِلَى أَنْ يَزُولَا
لَيْتَنِي كُنْتُ قَبْلَ مَا قَدْ بَدَا لِي فِي قِلَالِ الْجِبَالِ أَرْعَى الْوُعُولَا
فَاجْعَلِ الْمَوْتَ نُصْبَ عَيْنَيْكَ وَاحْذَرْ غَوْلَةَ الدَّهْرِ إِنَّ لِلدَّهْرِ غُولَا
نَائِلًا ظُفْرُهَا الْقَسَاوِرَ وَالصُّدْ عَانَ وَالطِّفْلَ فِي الْمَنَارِ الشَّكِيلَا
وَبُغَاثَ النِّيَافِ وَالْيَعْفُرَ النَّافِرَ وَالْعَوْهَجَ الْبِرَامَ الضَّئِيلَا
فَقَوْلُهُ: الْقَسَاوِرُ جَمْعُ قَسْوَرَةٍ وَهُوَ الْأَسَدُ، وَالصُّدْعَانُ: ثِيرَانُ الْوَحْشِ وَاحِدُهَا صَدَعٌ، وَالطِّفْلُ الشَّكِلُ: مِنْ حُمْرَةِ الْعَيْنِ، وَالْبُغَاثُ: الرَّخَمُ، وَالنِّيَافُ: الْجِبَالُ، وَالْيَعْفُرُ: الظَّبْيُ، وَالْعَوْهَجُ: وَلَدُ النَّعَامَةِ. يَعْنِي أَنَّ الْمَوْتَ لَا يَنْجُو مِنْهُ الْوُحُوشُ فِي الْبَرَارِي وَلَا الرَّخَمُ السَّاكِنَةُ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ،

وَلَا يَتْرُكُ صَغِيرًا لِصِغَرِهِ وَلَا كَبِيرًا لِكِبَرِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى غَرِيبِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ.
وَقَدْ ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِهِ " التَّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ " أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ أَوَّلُ مَنْ قَالَ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ. وَذَكَرَ عِنْدَ ذَلِكَ قِصَّةً غَرِيبَةً، وَهُوَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ فِي سَفَرٍ فِيهِمْ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ وَالِدُ أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ: فَمَرُّوا فِي مَسِيرِهِمْ بِحَيَّةٍ فَقَتَلُوهَا فَلَمَّا أَمْسَوْا جَاءَتْهُمُ امْرَأَةٌ مِنَ الْجَانِّ فَعَاتَبَتْهُمْ فِي قَتْلِ تِلْكَ الْحَيَّةِ، وَمَعَهَا قَضِيبٌ فَضَرَبَتْ بِهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً نَفَّرَتِ الْإِبِلَ عَنْ آخِرِهَا فَذَهَبَتْ وَشَرَدَتْ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَقَامُوا فَلَمْ يَزَالُوا فِي طَلَبِهَا حَتَّى رَدُّوهَا فَلَمَّا اجْتَمَعُوا جَاءَتْهُمْ أَيْضًا فَضَرَبَتِ الْأَرْضَ بِقَضِيبِهَا فَنَفَرَتِ الْإِبِلُ فَذَهَبُوا فِي طَلَبِهَا فَلَمَّا أَعْيَاهُمْ ذَلِكَ قَالُوا: وَاللَّهِ هَلْ عِنْدَكَ لِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَخْرَجٍ ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنْ سَأَنْظُرُ فِي ذَلِكَ. قَالَ: فَسَارَ فِي تِلْكَ الْمَحَلَّةِ لَعَلَّهُ يَجِدُ أَحَدًا يَسْأَلُهُ عَمًّا قَدْ حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَنَاءِ، إِذَا نَارٌ تَلُوحُ عَلَى بُعْدٍ فَجَاءَهَا فَإِذَا شَيْخٌ عَلَى بَابِ خَيْمَةٍ يُوقِدُ نَارًا، وَإِذَا هُوَ مِنَ الْجَانِّ فِي غَايَةِ الضَّآلَةِ وَالدَّمَامَةِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ فَقَالَ: إِذَا جَاءَتْكُمْ فَقُلْ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَإِنَّهَا تَهْرُبُ. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا وَجَاءَتْهُمُ الثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ، قَالَ فِي وَجْهِهَا أُمَيَّةُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَشَرَدَتْ وَلَمْ يَقَرَّ لَهَا قَرَارٌ،

لَكِنْ عَدَتِ الْجِنُّ عَلَى حَرْبِ ابْنِ أُمَيَّةَ فَقَتَلُوهُ بِتِلْكَ الْحَيَّةِ فَقَبَرَهُ أَصْحَابُهُ هُنَالِكَ حَيْثُ لَا جَارَ وَلَا دَارَ فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْجَانُّ:
وَقَبْرُ حَرْبٍ بِمَكَانٍ قَفْرٍ وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَتَفَرَّسُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فِي لُغَاتِ الْحَيَوَانَاتِ فَكَانَ يَمُرُّ فِي السَّفَرِ عَلَى الطَّيْرِ فَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ هَذَا يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُونَ: لَا نَعْلَمُ صِدْقَ مَا يَقُولُ حَتَّى مَرُّوا عَلَى قَطِيعِ غَنَمٍ قَدِ انْقَطَعَتْ مِنْهُ شَاةٌ، وَمَعَهَا وَلَدُهَا فَالْتَفَتَتْ إِلَيْهِ فَثَغَتْ كَأَنَّهَا تَسْتَحِثُّهُ فَقَالَ: أَتُدْرُونَ مَا تَقُولُ لَهُ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: إِنَّهَا تَقُولُ: أَسْرِعْ بِنَا لَا يَجِيءُ الذِّئْبُ فَيَأْكُلَكَ كَمَا أَكَلَ الذِّئْبُ أَخَاكَ عَامَ أَوَّلَ. فَأَسْرَعُوا حَتَّى سَأَلُوا الرَّاعِيَ: هَلْ أَكَلَ لَهُ الذِّئْبُ عَامَ أَوَّلَ حَمَلًا بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَمَرَّ يَوْمًا عَلَى بَعِيرٍ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ رَاكِبَةٌ وَهُوَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَيْهَا وَيَرْغُو فَقَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ لَهَا: إِنَّكِ رَحَّلْتِنِي، وَفِي الْحِدَاجَةِ مِخْيَطٌ. فَأَنْزَلُوا تِلْكَ الْمَرْأَةَ، وَحَلُّوا ذَلِكَ الرَّحْلَ فَاذَا فِيهِ مِخْيَطٌ كَمَا قَالَ.
وَذَكَرَ ابْنُ السِّكِّيتِ أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ بَيْنَمَا هُوَ يَشْرَبُ يَوْمًا إِذْ نَعَبَ غُرَابٌ. فَقَالَ لَهُ: بِفِيكَ التُّرَابُ مَرَّتَيْنِ. فَقِيلَ لَهُ: مَا يَقُولُ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ

يَقُولُ: إِنَّكَ تَشْرَبُ هَذَا الْكَأْسَ الَّذِي فِي يَدِكَ، ثُمَّ تَتَّكِئُ فَتَمُوتُ. ثُمَّ نَعَبَ الْغُرَابُ فَقَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ: وَآيَةُ ذَلِكَ أَنِّي أَنْزِلُ عَلَى هَذِهِ الْمَزْبَلَةِ فَآكُلُ مِنْهَا فَيَعْلَقُ عَظْمٌ فِي حَلْقِي فَأَمُوتُ. ثُمَّ نَزَلَ الْغُرَابُ عَلَى تِلْكَ الْمَزْبَلَةِ فَأَكَلَ شَيْئًا فَعَلَقَ فِي حَلْقِهِ عَظْمٌ فَمَاتَ. فَقَالَ أُمَيَّةُ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ صَدَقَ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنْ سَأَنْظُرُ هَلْ صَدَقَ فِيَّ أَمْ لَا. ثُمَّ شَرِبَ ذَلِكَ الْكَأْسَ الَّذِي فِي يَدِهِ ثُمَّ اتَّكَأَ فَمَاتَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَهْدِيٍّ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ
وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا ابْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ الشَّرِيدِ يَقُولُ: قَالَ الشَّرِيدُ: كُنْتُ رِدْفًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: أَمَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ شَيْءٌ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْشِدْنِي. فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ كُلَّمَا أَنْشَدْتُهُ

بَيْتًا إِيهِ حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِائَةَ بَيْتٍ. قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَكَتُّ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ بِهِ، وَمِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ إِنْ كَادَ يُسْلِمُ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ: حَدَّثَنَا ابْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ نَافِعٍ عَنِ الشَّرِيدِ الْهَمْدَانِيِّ - وَأَخْوَالُهُ ثَقِيفٌ - قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي ذَاتَ يَوْمٍ إِذَا وَقْعُ نَاقَةٍ خَلْفِي فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الشَّرِيدُ ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَا أَحْمِلُكَ ؟ قُلْتُ: بَلَى وَمَا بِي مِنْ إِعْيَاءٍ وَلَا لُغُوبٍ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ الْبَرَكَةَ فِي رُكُوبِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنَاخَ فَحَمَلَنِي. فَقَالَ: أَمَعَكَ مَنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: هَاتِ. فَأَنْشَدْتُهُ - قَالَ

أَظُنُّهُ قَالَ - مِائَةَ بَيْتٍ فَقَالَ عِنْدَ اللَّهِ عِلْمُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ صَاعِدٍ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. فَأَمَّا الَّذِي يُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي أُمَيَّةَ آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ فَلَا أَعْرِفُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ - هُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَّقَ أُمَيَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ شِعْرِهِ قَالَ
رَجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ وَالنَّسْرُ لِلْأُخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ. وَقَالَ
وَالشَّمْسُ تَبْدُو كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لَوْنُهَا يَتَوَرَّدُ
تَأْبَى فَمَا تَطْلُعُ لَنَا فِي رِسْلِهَا إِلَّا مُعَذَّبَةً وَإِلَّا تُجْلَدُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ الشَّمْسَ لَا تَطْلُعُ حَتَّى يَنْخُسَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَقُولُونَ لَهَا: اطْلُعِي اطْلُعِي فَتَقُولُ: لَا أَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ يَعْبُدُونَنِي

مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِذَا هَمَّتْ بِالطُّلُوعِ أَتَاهَا شَيْطَانٌ يُرِيدُ أَنْ يُثَبِّطَهَا فَتَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْهِ وَتَحْرِقُهُ فَإِذَا تَضَيَّفَتْ لِلْغُرُوبِ غَرَبَتْ عَلَى السُّجُودِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَأْتِيهَا شَيْطَانٌ يُرِيدُ أَنْ يُثَبِّطَهَا عَنِ السُّجُودِ فَتَغْرُبُ مِنْ قَرْنَيْهِ وَتَحْرِقُهُ أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مُطَوَّلًا. وَمِنْ شِعْرِهِ فِي حَمَلَةِ الْعَرْشِ
فَمِنْ حَامِلٍ إِحْدَى قَوَائِمِ عَرْشِهِ وَلَوْلَا إِلَهُ الْخَلْقِ كَلُّوا وَبَلَّدُوا
قِيَامٌ عَلَى الْأَقْدَامِ عَانُونَ تَحْتَهُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ تُرْعَدُ
رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَرُوِيَ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ:
مَجِّدُوا اللَّهَ فَهُو لِلْمَجْدِ أَهْلٌ رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرًا
بِالْبِنَاءِ الْأَعْلَى الَّذِي سَبَقَ النَّاسَ وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرًا
شَرْجَعًا لَا يَنَالُهُ بَصَرُ الْعَيْنِ تَرَى دُونَهُ الْمَلَائِكَ صُورًا
ثُمَّ يَقُولُ الْأَصْمَعِيُّ: الْمَلَائِكُ جَمْعُ مَلَكٍ وَالصُّورُ جَمْعُ أَصْوَرَ وَهُوَ الْمَائِلُ

الْعُنُقِ، وَهَؤُلَاءِ حَمَلَةُ الْعَرْشِ. وَمِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ يَمْدَحُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعَانَ التَّيْمِيَّ:
أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي حَيَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ
وَعِلْمُكَ بِالْحُقُوقِ وَأَنْتَ فَرْعٌ لَكَ الْحَسَبُ الْمُهَذَّبُ وَالسَّنَاءُ
كَرِيمٌ لَا يُغَيِّرُهُ صَبَاحٌ عَنِ الْخُلُقِ الْجَمِيلِ وَلَا مَسَاءُ
يُبَارِي الرِّيحَ مَكْرُمَةً وَجُودًا إِذَا مَا الْكَلْبُ أَحْجَرَهُ الشِّتَاءُ
وَأَرْضُكَ أَرْضُ مَكْرُمَةٍ بَنَتْهَا بَنُو تَيْمٍ وَأَنْتَ لَهَا سَمَاءُ
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ
وَلَهُ فِيهِ مَدَائِحُ أُخَرُ. وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ هَذَا مِنَ الْكُرَمَاءِ الْأَجْوَادِ الْمُمَدَّحِينَ الْمَشْهُورِينَ وَكَانَ لَهُ جَفْنَةٌ يَأْكُلُ الرَّاكِبُ مِنْهَا وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ ; مِنْ عِرَضِ حَافَّتِهَا وَكَثْرَةِ طَعَامِهَا وَكَانَ يَمْلَأُهَا لُبَابَ الْبُرِّ يُلَبَّكُ بِالشَّهْدِ وَالسَّمْنِ وَكَانَ يُعْتِقُ الرِّقَابَ، وَيُعِينُ عَلَى النَّوَائِبِ. وَقَدْ سَأَلَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ

وَمِنْ شَعْرِ أُمَيَّةَ الْبَدِيعِ
لَا يَنْكُتُونَ الْأَرْضَ عِنْدَ سُؤَالِهِمْ كَتَطَلُّبِ الْعَلَّاتِ بِالْعِيدَانِ
بَلْ يُسْفِرُونَ وُجُوهَهُمْ فَتَرَى لَهَا عِنْدَ السُّؤَالِ كَأَحْسَنِ الْأَلْوَانِ
وَإِذَا الْمُقِلُّ أَقَامَ وَسْطَ رِحَالِهِمْ رَدُّوهُ رَبَّ صَوَاهِلٍ وَقِيَانِ
وَإِذَا دَعَوْتَهُمُ لِكُلِّ مُلِمَّةٍ سَدُّوا شُعَاعَ الشَّمْسِ بِالْفُرْسَانِ
آخِرُ تَرْجَمَةِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ

بَحِيرَى الرَّاهِبُ
الَّذِي تَوَسَّمَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّبُوَّةَ وَهُوَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، حِينَ قَدِمَ الشَّامَ فِي تُجَّارٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً فَرَأَى الْغَمَامَةَ تُظِلُّهُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا ضِيَافَةً، وَاسْتَدْعَاهُمْ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي السِّيرَةِ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ هُنَالِكَ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ شَوَاهِدَ وَسَائِغَاتٍ فِي تَرْجَمَةِ بَحِيرَى وَلَمْ يُورِدْ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَهَذَا عَجَبٌ، وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ بَحِيرَى كَانَ يَسْكُنُ قَرْيَةً يُقَالَ لَهَا: الْكَفْرُ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ بُصْرَى سِتَّةُ أَمْيَالٍ، وَهِيَ الَّتِي يُقَالَ لَهَا: دَيْرُ بَحِيرَى. قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَسْكُنُ قَرْيَةً يُقَالَ لَهَا: مَنْفَعَةُ بِالْبَلْقَاءِ، وَرَاءَ زَيْرَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرُ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ الْإِيَادِيِّ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سَهْلٍ الْخَرَائِطِيُّ فِي كِتَابِ هَوَاتِفِ الْجَانِّ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ الْقَنْطَرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَشْرِقِيُّ عَنْ أَبِي الْحَارِثِ الْوَرَّاقِ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ إِيَادٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا مَعْشَرَ وَفْدِ إِيَادٍ مَا فَعَلَ قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ الْإِيَادِيُّ ؟ قَالُوا: هَلَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: لَقَدْ شَهِدْتُهُ يَوْمًا بِسُوقِ عُكَاظٍ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ مُعْجِبٍ مُونِقٍ لَا أَجِدُنِي أَحْفَظُهُ فَقَامَ إِلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ مِنْ أَقَاصِي الْقَوْمِ فَقَالَ: أَنَا أَحْفَظُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَسُّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ قَالَ: فَكَانَ بِسُوقِ عُكَاظٍ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ اجْتَمِعُوا فَكُلُّ مَنْ فَاتَ فَاتَ، وَكُلُّ شَيْءٍ آتٍ آتٍ، لَيْلٌ دَاجٍ وَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وَبَحْرٌ عَجَّاجٌ، نُجُومٌ تَزْهَرُ، وَجِبَالٌ مَرْسِيَّةٌ، وَأَنْهَارٌ مَجْرِيَّةٌ إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَخَبَرًا، وَإِنَّ فِي الْأَرْضِ لَعِبَرًا. مَا لِي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلَا يَرْجِعُونَ أَرَضُوا بِالْإِقَامَةِ فَأَقَامُوا أَمْ تُرِكُوا فَنَامُوا ؟ أَقْسَمَ قُسٌّ بِاللَّهِ قَسَمًا لَا رَيْبَ فِيهِ، إِنَّ لِلَّهِ دِينًا هُوَ أَرْضَى مِنْ دِينِكُمْ هَذَا، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:

فِي الذَّاهِبِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِدًا لِلْمَوْتِ
لَيْسَ لَهَا مَصَادِرْ وَرَأَيْتُ قَوْمِيَ نَحْوَهَا
يَمْضِي الْأَصَاغِرُ وَالْأَكَابِرْ لَا مَنْ مَضَى يَأْتِي إِلَيْكَ
وَلَا مِنَ الْبَاقِينَ غَابِرْ أَيْقَنْتُ أَنِّي لَا مَحَالَةَ
حَيْثُ صَارَ الْقَوْمُ صَائِرْ
. وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ " الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ السَّرِيِّ بْنِ مِهْرَانَ بْنِ النَّاقِدِ الْبَغْدَادِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانَ السَّمْتِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَيُّكُمْ يَعْرِفُ الْقُسَّ بْنَ سَاعِدَةَ الْإِيَادِيَّ ؟ قَالُوا: كُلُّنَا يَعْرِفُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَمَا فَعَلَ ؟ قَالُوا: هَلَكَ. قَالَ: فَمَا أَنْسَاهُ بِعُكَاظٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اجْتَمِعُوا وَاسْتَمِعُوا وَعُوا، مَنْ عَاشَ مَاتَ، وَمَنْ مَاتَ فَاتَ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ، إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَخَبَرًا، وَإِنَّ فِي الْأَرْضِ لَعِبَرًا، مِهَادٌ مَوْضُوعٌ، وَسَقْفٌ مَرْفُوعٌ، وَنُجُومٌ تَمُورُ، وَبِحَارٌ لَا تَغُورُ، وَأَقْسَمَ قُسٌّ قَسَمًا حَقًّا لَئِنْ كَانَ فِي الْأَمْرِ

رِضًى لَيَكُونَنَّ بَعْدَهُ سُخْطٌ، إِنَّ لِلَّهِ لَدِينًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ دِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، مَا لِي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ أَرَضُوا بِالْمُقَامِ فَأَقَامُوا، أَمْ تُرِكُوا فَنَامُوا ؟ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَيَكِمُ مَنْ يَرْوِي شِعْرَهُ فَأَنْشَدَهُ بَعْضُهُمْ
فِي الذَّاهِبِينَ الْأَوَّلِي نَ مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ
الَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِدًا لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَهَا مَصَادِرْ
وَرأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَهَا يَسْعَى الْأَصَاغِرُ وَالْأَكَابِرْ
لَا يَرْجِعُ الْمَاضِي إِلَيَّ وَلَا مِنَ الْبَاقِينَ غَابِرْ
أَيْقَنْتُ أَنِّي لَا مَحَالَةَ حَيْثُ صَارَ الْقَوْمُ صَائِرْ
وَهَكَذَا أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَّانَ السَّمْتِيِّ بِهِ، وَهَكَذَا رَوَيْنَاهُ فِي الْجُزْءِ الَّذِي جَمَعَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ دَرَسْتَوَيْهِ فِي أَخْبَارِ قُسٍّ; قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْهَيْثَمِ الدَّيْرُعَاقُولِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ شَبِيبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْوَاسِطِيِّ نَزِيلِ بَغْدَادَ، وَيُعْرَفُ بِصَاحِبِ الْهَرِيسَةِ بِهِ وَقَدْ كَذَّبَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ والدَّارَقُطْنِيُّ، وَاتَّهَمَهُ

غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ ابْنُ عَدِيٍّ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ هَذَا، وَرَوَاهُ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَمْثَلُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَفِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ هُوَ الَّذِي أَوْرَدَ الْقِصَّةَ بِكَمَالِهَا نَظْمَهَا، وَنَثْرَهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى بْنِ إِسْحَاقَ الْحَطَمِيِّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَخْزُومِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَدِمَ، وَفْدُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ: مَا فَعَلَ حَلِيفٌ لَكُمْ يُقَالَ لَهُ: قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ الْأَيَادِيُّ ؟ وَذَكَرَ الْقِصَّةَ مُطَوَّلَةً.
وَأَخْبَرَنَا الشَّيْخُ الْمُسْنِدُ الرُّحْلَةُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْحَجَّارُ إِجَازَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَاعًا، قَالَ: أَجَازَ لَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَمْدَانِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ السِّلَفِيُّ سَمَاعًا، وَقَرَأْتُ عَلَى شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيِّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالُ سَمَاعًا، قَالَ: أَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ سَمَاعًا قَالَ: أَنَا السِّلَفِيُّ سَمَاعًا، أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الرَّازِيُّ أَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ

عِيسَى السَّعْدِيُّ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ دَرَسْتَوَيْهِ النَّحْوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ السَّعْدِيُّ - قَاضِي فَارِسَ - حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفِ بْنِ يَحْيَى بْنِ دِرْهَمٍ الطَّائِيُّ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو سَعِيدُ بْنُ بَزِيعٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ كَانَ الْجَارُودُ بْنُ الْمُعَلَّى بْنِ حَنَشِ بْنِ مُعَلَّى الْعَبْدِيُّ نَصْرَانِيًّا حَسَنَ الْمَعْرِفَةِ بِتَفْسِيرِ الْكُتُبِ وَتَأْوِيلِهَا، عَالِمًا بِسِيَرِ الْفُرْسِ وَأَقَاوِيلِهَا، بَصِيرًا بِالْفَلْسَفَةِ وَالطِّبِّ، ظَاهِرَ الدَّهَاءِ وَالْأَدَبِ كَامِلَ الْجَمَالِ ذَا ثَرْوَةٍ وَمَالٍ، وَإِنَّهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَافِدًا فِي رِجَالٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ ذَوِي آرَاءٍ وَأَسْنَانٍ وَفَصَاحَةٍ وَبَيَانٍ وَحُجَجٍ وَبُرْهَانٍ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَا نَبِيَّ الْهُدَى أَتَتْكَ رِجَالٌ قَطَعَتْ فَدْفَدًا وَآلًا فَآلَا
وَطَوَتْ نَحْوَكَ الصَّحَاصِحَ تَهْوِي لَا تَعُدُّ الْكَلَالَ فِيكَ كَلَالَا
كلُّ بَهْمَاءَ قَصَّرَ الطَّرْفُ عَنْهَا أَرْقَلَتْهَا قِلَاصُنَا إِرْقَالَا
وَطَوَتْهَا الْعِتَاقُ تَجْمَحُ فِيهَا بِكُمَاةٍ كَأَنْجُمٍ تَتَلَالَا
تَبْتَغِي دَفْعَ بَأْسِ يَوْمٍ عَظِيمٍ هَائِلٍ أَوْجَعَ الْقُلُوبَ وَهَالَا
وَمَزَادًا لِمَحْشَرِ الْخَلْقِ طُرًّا وَفِرَاقًا لِمَنْ تَمَادَى ضَلَالَا

نَحْوَ نُورٍ مِنَ الْإِلَهِ وَبُرْهَا نٍ وَبِرٍّ وَنِعْمَةٍ أَنْ تَنَالَا
خَصَّكَ اللَّهُ يَا ابْنَ آمِنَةَ الْخَيْ رِ بِهَا إِذْ أَتَتْ سِجَالًا سِجَالَا
فَاجْعَلِ الْحَظَّ مِنْكَ يَا حُجَّةَ اللَّهِ جَزِيلًا لَا حَظَّ خُلْفٍ أَحَالَا
قَالَ: فَأَدْنَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَّبَ مَجْلِسَهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا جَارُودُ لَقَدْ تَأَخَّرَ الْمَوْعُودُ بِكَ وَبِقَوْمِكَ. فَقَالَ الْجَارُودُ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي أَمَّا مَنْ تَأَخَّرَ عَنْكَ فَقَدْ فَاتَهُ حَظُّهُ، وَتِلْكَ أَعْظَمُ حُوبَةٍ وَأَغْلَظُ عُقُوبَةٍ وَمَا كُنْتَ فِيمَنْ رَآكَ أَوْ سَمِعَ بِكَ فَعَدَاكَ وَاتَّبَعَ سِوَاكَ، وَإِنِّي الْآنَ عَلَى دِينٍ قَدْ عَلِمْتُ بِهِ قَدْ جِئْتُكَ، وَهَا أَنَا تَارِكُهُ لِدِينِكَ، أَفَذَلِكَ مِمَّا يُمَحِّصُ الذُّنُوبَ وَالْمَآثِمَ وَالْحُوبَ ؟ وَيُرْضِي الرَّبَّ عَنِ الْمَرْبُوبِ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا ضَامِنٌ لَكَ ذَلِكَ، وَأَخْلِصِ الْآنَ لِلَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَدَعْ عَنْكَ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ. فَقَالَ الْجَارُودُ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي مُدَّ يَدَكَ فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّكَ مُحَمَّدٌ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ أُنَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ فَسُرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْلَامِهِمْ، وَأَظْهَرَ مِنْ إِكْرَامِهِمْ مَا سُرُّوا بِهِ وَابْتَهَجُوا بِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَفَيَكِمْ مَنْ يَعْرِفُ قُسَّ بْنَ سَاعِدَةَ الْإِيَادِيَّ ؟ فَقَالَ الْجَارُودُ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي كُلُّنَا نَعْرِفُهُ، وَإِنِّي مِنْ بَيْنِهِمْ لَعَالِمٌ بِخَبَرِهِ وَاقِفٌ عَلَى أَمْرِهِ، كَانَ قَسٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ سِبْطًا مِنْ أَسْبَاطِ الْعَرَبِ، عُمِّرَ سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ تَقَفَّرَ مِنْهَا خَمْسَةَ أَعْمَارٍ فِي الْبَرَارِيِّ وَالْقِفَارِ يَضِجُّ بِالتَّسْبِيحِ عَلَى مِثَالِ الْمَسِيحِ لَا يُقِرُّهُ قَرَارٌ وَلَا تَكُنُّهُ دَارٌ وَلَا يَسْتَمْتِعُ بِهِ جَارٌ كَانَ يَلْبَسُ الْأَمْسَاحَ، وَيَفُوقُ

السُّيَّاحَ وَلَا يَفْتُرُ مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ يَتَحَسَّى فِي سِيَاحَتِهِ بَيْضَ النَّعَامِ، وَيَأْنَسُ بِالْهَوَامِّ، وَيَسْتَمْتِعُ بِالظَّلَامِ يُبْصِرُ فَيَعْتَبِرُ وَيُفَكِّرُ فَيَزْدَجِرُ فَصَارَ لِذَلِكَ وَاحِدًا تُضْرَبُ بِحِكْمَتِهِ الْأَمْثَالُ، وَتُكْشَفُ بِهِ الْأَهْوَالُ، أَدْرَكَ رَأْسَ الْحَوَارِيِّينَ سَمْعَانَ وَهُوَ أَوَّلُ رَجُلٍ تَأَلَّهَ مِنَ الَعَرَبِ وَوَحَّدَ وَأَقَرَّ وَتَعَبَّدَ، وَأَيْقَنَ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، وَحَذِرَ سُوءَ الْمَآبِ، وَأَمَرَ بِالْعَمَلِ قَبْلَ الْفَوْتِ، وَوَعَظَ بِالْمَوْتِ، وَسَلَّمَ بالْقَضَا عَلَى السُّخْطِ وَالرِّضَا، وَزَارَ الْقُبُورَ وَذَكَرَ النُّشُورَ، وَنَدَبَ بِالْأَشْعَارِ وَفَكَّرَ فِي الْأَقْدَارِ، وَأَنْبَأَ عَنِ السَّمَاءِ وَالنَّمَاءِ وَذَكَرَ النُّجُومَ وَكَشَفَ الْمَاءَ وَوَصَفَ الْبِحَارَ وَعَرَفَ الْآثَارَ، وَخَطَبَ رَاكِبًا وَوَعَظَ دَائِبًا، وَحَذَّرَ مِنَ الَكَرْبِ وَمِنْ شَدَّةِ الْغَضَبِ، وَرَسَّلَ الرَّسَائِلَ، وَذَكَرَ كُلَّ هَائِلٍ، وَأَرْغَمَ فِي خُطَبِهِ وَبَيَّنَ فِي كُتُبِهِ، وَخَوَّفَ الدَّهْرَ، وَحَذَّرَ الْأَزْرَ، وَعَظَّمَ الْأَمْرَ، وَجَنَّبَ الْكُفْرَ، وَشَوَّقَ إِلَى الْحَنِيفِيَّةِ، وَدَعَا إِلَى اللَّاهُوتِيَّةِ وَهُوَ الْقَائِلُ فِي يَوْمِ عُكَاظٍ: شَرْقٌ وَغَرْبٌ، وَيُتْمٌ وَحِزْبٌ، وَسِلْمٌ وَحَرْبٌ، وَيَابِسٌ وَرَطْبٌ، وَأُجَاجٌ وَعَذْبٌ، وَشُمُوسٌ وَأَقْمَارٌ وَرِيَاحٌ وَأَمْطَارٌ، وَلَيْلٌ وَنَهَارٌ، وَإِنَاثٌ وَذُكُورٌ وَأَبْرَارٌ وَفُجُورٌ، وَحَبٌّ وَنَبَاتٌ وَآبَاءٌ وَأُمَّهَاتٌ وَجَمْعٌ وَأَشْتَاتٌ، وَآيَاتٌ فِي إِثْرِهَا آيَاتٌ، وَنُورٌ وَظَلَامٌ، وَيُسْرٌ وَإِعْدَامٌ، وَرَبٌّ وَأَصْنَامٌ، لَقَدْ ضَلَّ الْأَنَامُ، نُشُوءُ

مَوْلُودٍ وَوَأْدُ مَفْقُودٍ وَتَرْبِيَةُ مَحْصُودٍ، وَفَقِيرٌ وَغَنِيٌّ وَمُحْسِنٌ وَمُسِيءٌ، تَبًّا لِأَرْبَابِ الْغَفْلَةِ لَيُصْلِحَنَّ الْعَامِلُ عَمَلَهُ وَلَيَفْقِدَنَّ الْآمِلُ أَمَلَهُ، كَلَّا بَلْ هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِمَوْلُودٍ وَلَا وَالِدٍ، أَعَادَ وَأَبْدَى وَأَمَاتَ وَأَحْيَا وَخَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، رَبُّ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، أَمَّا بَعْدُ فَيَا مَعْشَرَ إِيَادٍ أَيْنَ ثَمُودُ وَعَادٌ ؟ وَأَيْنَ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ ؟ وَأَيْنَ الْعَلِيلُ وَالْعُوَّادُ ؟ كُلٌّ لَهُ مُعَادٌ يُقْسِمُ قُسٌّ بِرَبِّ الْعِبَادِ وَسَاطِحِ الْمِهَادِ، لَتُحْشَرُنَّ عَلَى الِانْفِرَادِ فِي يَوْمِ التَّنَادِ، إِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ وَنُقِرَ فِي النَّاقُورِ، وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ، وَوَعَظَ الْوَاعِظُ فَانْتَبَذَ الْقَانِطُ وَأَبْصَرَ اللَّاحِظُ، فَوَيْلٌ لِمَنْ صَدَفَ عَنِ الْحَقِّ الْأَشْهَرِ وَالنُّورِ الْأَزْهَرِ وَالْعَرْضِ الْأَكْبَرِ فِي يَوْمِ الْفَصْلِ، وَمِيزَانِ الْعَدْلِ إِذَا حَكَمَ الْقَدِيرُ وَشَهِدَ النَّذِيرُ وَبَعُدَ النَّصِيرُ وَظَهَرَ التَّقْصِيرُ فَفَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ
وَهُوَ الْقَائِلُ
ذَكَّرَ الْقَلْبَ مِنْ جَوَاهُ ادِّكَارُ وَلَيَالٍ خَلَا لَهُنَّ نَهَارُ
وَسِجَالٌ هَوَاطِلٌ مِنْ غَمَامٍ ثُرْنَ مَاءً وَفِي جَوَاهُنَّ نَارُ
ضَوْءُهَا يَطْمِسُ الْعُيُونَ وَأَرْعَا دٌ شِدَادٌ فِي الْخَافِقَيْنَ تَطَارُ
وَقُصُورٌ مُشَيَّدَةٌ حَوَتِ الْخَي رَ وَأُخْرَى خَلَتْ بِهِنَّ قِفَارُ
وَجِبَالٌ شَوَامِخُ رَاسِيَاتٌ وَبِحَارٌ مِيَاهُهُنَّ غِزِارُ
وَنُجُومٌ تُلُوحُ فِي ظُلَمِ اللَّيْ لِ نَرَاهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ تُدَارُ
ثُمَّ شَمْسٌ يَحُثُّهَا قَمَرُ اللَّيْ لِ وَكُلٌّ مُتَابِعٌ مَوَّارُ

وَصَغِيرٌ وَأَشْمَطٌ وَكَبِيرٌ كُلُّهُمْ فِي الصَّعِيدِ يَوْمًا مُزَارُ
كَثِيرٌ مِمَّا يُقَصِّرُ عَنْهُ حَدْسُهُ الْخَاطِرُ الَّذِي لَا يَحَارُ
فَالَّذِي قَدْ ذَكَرْتُ دَلَّ عَلَى اللَّ هِ نُفُوسًا لَهَا هُدًى وَاعْتِبَارُ
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْمَا نَسِيتُ فَلَسْتُ أَنْسَاهُ بِسُوقِ عُكَاظٍ، وَاقِفًا عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ يَخْطُبُ النَّاسَ: اجْتَمِعُوا فَاسْمَعُوا وَإِذَا سَمِعْتُمْ فَعُوا وَإِذَا وَعَيْتُمْ فَانْتَفِعُوا وَقُولُوا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاصْدُقُوا. مَنْ عَاشَ مَاتَ وَمَنْ مَاتَ فَاتَ وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ، مَطَرٌ وَنَبَاتٌ وَأَحْيَاءٌ وَأَمْوَاتٌ، لَيْلٌ دَاجٍ وَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وَنُجُومٌ تَزْهَرُ، وَبِحَارُ تَزْخَرُ وَضَوْءٌ وَظَلَامٌ، وَلَيْلٌ وَأَيَّامٌ وَبِرٌّ وَآثَامٌ، إِنَّ فِي السَّمَاءِ خَبَرًا، وَإِنَّ فِي الْأَرْضِ عِبَرًا، يَحَارُ فِيهِنَّ الْبُصَرَا، مِهَادٌ مَوْضُوعٌ، وَسَقْفٌ مَرْفُوعٌ، وَنُجُومٌ تَغُورُ، وَبِحَارٌ لَا تَفُورُ، وَمَنَايَا دَوَانٍ، وَدَهْرٌ خَوَّانٌ كَحَدِّ النِّسْطَاسِ وَوَزْنِ الْقِسْطَاسِ، أَقْسَمَ قُسٌّ قَسَمًا لَا كَاذِبًا فِيهِ وَلَا آثِمًا لَئِنْ كَانَ فِي هَذَا الْأَمْرِ رِضًى لَيَكُونَنَّ سَخَطٌ. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِلَّهِ دِينًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ دِينِكُمْ هَذَا الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ. وَهَذَا زَمَانُهُ وَأَوَانُهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا لِي أَرَى النَّاسَ يَذْهَبُونَ فَلَا يَرْجِعُونَ، أَرَضُوا بِالْمُقَامِ فَأَقَامُوا أَمْ تُرِكُوا فَنَامُوا ؟ وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَرْوِي شِعْرَهُ لَنَا ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي أَنَا شَاهِدٌ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَيْثُ يَقُولُ:
فِي الذَّاهِبِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ

لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِدًا لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَهَا مَصَادِرْ
وَرَأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَهَا يَمْضِي الْأَصَاغِرُ وَالْأَكَابِرْ
لَا يَرْجِعُ الْمَاضِي إِلَيَّ وَلَا مِنَ الْبَاقِينَ غَابِرْ
أَيْقَنْتُ أَنِّي لَا مَحَالَةَ حَيْثُ صَارَ الْقَوْمُ صَائِرْ
قَالَ: فَقَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَيْخٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ عَظِيمُ الْهَامَةِ طَوِيلُ الْقَامَةِ بَعِيدُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ فَقَالَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، وَأَنَا رَأَيْتُ مِنْ قُسٍّ عَجَبًا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الَّذِي رَأَيْتَ يَا أَخَا بَنِي عَبْدِ الْقَيْسِ ؟ فَقَالَ: خَرَجْتُ فِي شَبِيبَتِي أَرْبَعُ بَعِيرًا لِي فَفَرَّ مِنِّي فَذَهَبْتُ أَقْفُو أَثَرَهُ فِي تَنَائِفَ قَفَافٍ ذَاتِ ضَغَابِيسَ وَعَرَصَاتِ جَثْجَاثٍ، بَيْنَ صُدُورِ جُذْعَانَ، وَغَمِيرِ حَوْذَانٍ، وَمَهَمَهٍ ظَلْمَانِ، وَرَصِيعِ أَيْهُقَانِ فَبَيْنَا أَنَا فِي تِلْكَ الْفَلَوَاتِ أَجُولُ بِسَبْسَبِهَا

وَأَرْنُقُ فَدْفَدَهَا، إِذَا أَنَا بِهَضَبَةٍ فِي نَشَزَاتِهَا أَرَاكٌ كَبَاثٌ مُخْضَوْضِلَةٌ، وَأَغْصَانُهَا مُتَهَدِّلَةٌ كَأَنَّ بَرِيرَهَا حَبُّ الْفُلْفُلِ، وَبَوَاسِقُ أُقْحُوَانٍ، وَإِذَا بِعَيْنٍ خَرَّارَةٍ، وَرَوْضَةٍ مُدْهَامَّةٍ، وَشَجَرَةٍ عَارِمَةٍ، وَإِذَا أَنَا بِقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ فِي أَصْلِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ وَبِيَدِهِ قَضِيبٌ فَدَنَوْتُ مِنْهُ، وَقُلْتُ لَهُ: أَنْعِمْ صَبَاحًا فَقَالَ: وَأَنْتَ فَنَعِمَ صَبَاحُكَ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْعَيْنَ سِبَاعٌ كَثِيرَةٌ فَكَانَ كُلَّمَا ذَهَبَ سَبْعٌ مِنْهَا يَشْرَبُ مِنَ الَعَيْنِ قَبْلَ صَاحِبِهِ ضَرَبَهُ قُسُّ بِالْقَضِيبِ الَّذِي بِيَدِهِ، وَقَالَ: اصْبِرْ حَتَّى يَشْرَبَ الَّذِي قَبْلَكَ فَذُعِرْتُ مِنْ ذَلِكَ ذُعْرًا شَدِيدًا، وَنَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ: لَا تَخَفْ، وَإِذَا بِقَبْرَيْنِ بَيْنَهُمَا مَسْجِدٌ فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ الْقَبْرَانِ ؟ قَالَ: قَبْرَا أَخَوَيْنِ كَانَا يَعْبُدَانِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذَا الْمَوْضِعِ فَأَنَا مُقِيمٌ بَيْنَ قَبْرَيْهِمَا أَعْبُدُ اللَّهَ حَتَّى أَلْحَقَ بِهِمَا فَقُلْتُ لَهُ: أَفَلَا تَلْحَقُ بِقَوْمِكَ فَتَكُونَ مَعَهُمْ فِي خَيْرِهِمْ، وَتُبَايِنَهُمْ عَلَى شَرِّهِمْ فَقَالَ لِي: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ أَوَمَا عَلِمْتَ أَنَّ وَلَدَ إِسْمَاعِيلَ تَرَكُوا دِينَ أَبِيهِمْ، وَاتَّبَعُوا الْأَضْدَادَ، وَعَظَّمُوا الْأَنْدَادَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْقَبْرَيْنِ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ
خَلِيلَيَّ هُبَّا طَالَمَا قَدْ رَقَدْتُمَا أَجِدَّكَمَا لَا تَقْضِيَانِ كَرَاكُمَا

أَرَى النَّوْمَ بَيْنَ الْجِلْدِ وَالْعَظْمِ مِنْكُمَا كَأَنَّ الَّذِي يَسْقِي الْعُقَارَ سَقَاكُمَا
أَمِنْ طُولِ نَوْمٍ لَا تُجِيبَانِ دَاعِيًا كَأَنَّ الَّذِي يَسْقِي الْعُقَارَ سَقَاكُمَا
أَلَمْ تَعْلَمَا أَنِّي بِنَجْرَانَ مُفْرَدًا وَمَا لِيَ فِيهِ مِنْ حَبِيبٍ سِوَاكُمَا
مُقِيمٌ عَلَى قَبْرَيْكُمَا لَسْتُ بَارِحًا إِيَابَ اللَّيَالِي أَوْ يُجِيبَ صَدَاكُمَا
أَأَبْكِيكُمَا طُولَ الْحَيَاةِ وَمَا الَّذِي يَرُدُّ عَلَى ذِي لَوْعَةٍ أَنْ بَكَاكُمَا
فُلَوْ جُعِلَتْ نَفْسٌ لِنَفْسِ امْرِئٍ فِدًى لَجُدْتُ بِنَفْسِي أَنْ تَكُونَ فِدَاكُمَا
كَأَنَّكُمَا وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ غَايَةٍ بِرُوحِيَ فِي قَبْرَيْكُمَا قَدْ أَتَاكُمَا
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَحِمَ اللَّهُ قُسًّا أَمَا إِنَّهُ سَيُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً. وَهَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ مُرْسَلٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَسَنُ سَمِعَهُ مِنَ الْجَارُودِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيِّ الْأَخْبَارِيِّ ثَنَا أَبِي ثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ الْجَارُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَ مِثْلَهُ

أَوْ نَحْوَهُ مُطَوَّلًا بِزِيَادَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي نَظْمِهِ وَنَثْرِهِ، وَفِيهِ مَا ذَكَرَهُ عَنِ الَّذِي ضَلَّ بِعِيرُهُ فَذَهَبَ فِي طَلَبِهِ قَالَ: فَبِتُّ فِي وَادٍ لَا آمَنُ فِيهِ حَتْفِي وَلَا أَرْكَنُ إِلَى غَيْرِ سَيْفِي فَبِتُّ أَرْقُبُ الْكَوْكَبَ، وَأَرْمُقُ الْغَيْهَبَ حَتَّى إِذَا اللَّيْلُ عَسْعَسَ، وَكَادَ الصُّبْحُ أَنْ يَتَنَفَّسَ هَتَفَ بِيَ هَاتِفٌ يَقُولُ:
يَا أَيُّهَا الرَّاقِدُ فِي اللَّيْلِ الْأَجَمْ قَدْ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا فِي الْحَرَمْ
مِنْ هَاشِمٍ أَهْلِ الْوَفَاءِ وَالْكَرَمْ يَجْلُو دُجُنَّاتِ الدَّيَاجِي وَالْبُهَمْ
قَالَ: فَأَدَرْتُ طَرْفِي فَمَا رَأَيْتُ لَهُ شَخْصًا وَلَا سَمِعْتُ لَهُ فَحْصًا، قَالَ: فَأَنْشَأْتُ أَقُولُ:
يا أَيُّهَا الْهَاتِفُ فِي دَاجِي الظُّلَمْ أَهْلًا وَسَهْلًا بِكَ مِنْ طَيْفٍ أَلَمْ
بَيِّنْ هَدَاكَ اللَّهُ فِي لَحْنِ الْكَلِمْ مَاذَا الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ يُغْتَنَمْ
قَالَ: فَإِذَا أَنَا بِنَحْنَحَةٍ، وَقَائِلٍ يَقُولُ: ظَهَرَ النُّورُ وَبَطَلَ الزُّورُ، وَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا بِالْحُبُورِ صَاحِبَ النَّجِيبِ الْأَحْمَرِ وَالتَّاجِ وَالْمِغْفَرِ وَالْوَجْهِ الْأَزْهَرِ وَالْحَاجِبِ الْأَقْمَرِ وَالطَّرْفِ الْأَحْوَرِ، صَاحِبَ قَوْلِ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،

وَذَلِكَ مُحَمَّدٌ الْمَبْعُوثُ إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ، أَهْلِ الْمَدَرِ وَالْوَبَرِ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يَخْلُقِ الْخَلْقَ عَبَثْ
لَمْ يُخْلِنَا يَوْمًا سُدًى مِنْ بَعْدِ عِيسى وَاكْتَرَثْ
أَرْسَلَ فِينَا أَحْمَدًا خَيْرَ نَبِيٍّ قَدْ بُعِثْ
صَلَّى عَلَيهِ اللَّهُ مَا حَجَّ لَهُ رَكْبٌ، وَحَثَّ
وَفِيهِ مِنْ إِنْشَاءِ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ:
يَا نَاعِيَ الْمَوْتِ وَالْمَلْحُودُ فِي جَدَثٍ عَلَيْهِمُ مِنْ بَقَايَا قَوْلِهِمْ خِرَقُ
دَعْهُمْ فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمًا يُصَاحُ بِهِمْ فَهُمْ إِذَا انْتَبَهُوا مِنْ نَوْمِهِمْ أَرِقُوا
حَتَّى يَعُودُوا بِحَالٍ غَيْرِ حَالِهِمُ خَلْقًا جَدِيدًا كَمَا مِنْ قَبْلِهِ خُلِقُوا
مِنْهُمْ عُرَاةٌ وَمِنْهُمْ فِي ثِيَابِهِمُ مِنْهَا الْجَدِيدُ وَمِنْهَا الْمُنْهَجُ الْخَلَقُ
ثُمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ أَحْمَدَ الْأَصْبَهَانِيِّ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ فَرْضَخٍ الْإِخْمِيمِيُّ بِمَكَّةَ ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَهْدِيٍّ ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَهْدِيٍّ ثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

الْمَخْزُومِيُّ ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَذَكَرَ الْإِنْشَادَ قَالَ: فَوَجَدُوا عِنْدَ رَأْسِهِ صَحِيفَةً فِيهَا
يَا نَاعِيَ الْمَوْتِ وَالْأَمْوَاتُ فِي جَدَثٍ عَلَيْهِمُ مِنْ بَقَايَا نَوْمِهِمْ خِرَقُ
دَعْهُمْ فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمًا يُصَاحُ بِهِمْ كَمَا يُنَبَّهُ مِنْ نَوْمَاتِهِ الصَّعِقُ
مِنْهُمْ عُرَاةٌ وَمَوْتَى فِي ثِيَابِهِمُ مِنْهَا الْجَدِيدُ وَمِنْهَا الْأَزْرَقُ الْخَلَقُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، لَقَدْ آمَنَ قُسٌّ بِالْبَعْثِ وَأَصْلُهُ مَشْهُورٌ، وَهَذِهِ الطُّرُقُ عَلَى ضَعْفِهَا كَالْمُتَعَاضِدَةِ عَلَى إِثْبَاتِ أَصْلِ الْقِصَّةِ وَقَدْ تَكَلَّمَ أَبُو مُحَمَّدِ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ عَلَى غَرِيبِ مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الشُّعَيْثِيُّ ثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْمُحَمَّدُآبَاذِيُّ لَفْظًا، ثَنَا أَبُو لُبَابَةَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَهْدِيِّ الْإَبْيَوَرْدِيُّ ثَنَا أَبِي ثَنَا سَعِيدُ بْنُ هُبَيْرَةَ ثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ

أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَدِمَ وَفْدُ إِيَادٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا فَعَلَ قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ ؟ قَالُوا: هَلَكَ. قَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ مِنْهُ كَلَامًا أَرَى أَنِّي أَحْفَظُهُ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: نَحْنُ نَحْفَظُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: هَاتُوا فَقَالَ قَائِلُهُمْ: إِنِّي وَاقِفٌ بِسُوقِ عُكَاظٍ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْتَمِعُوا وَاسْمَعُوا وَعُوا، كُلُّ مَنْ عَاشَ مَاتَ، وَكُلُّ مَنْ مَاتَ فَاتَ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ، لَيْلٌ دَاجٍ، وَسَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ، وَنُجُومٌ تَزْهَرُ، وَبِحَارٌ تَزْخَرُ، وَجِبَالٌ مَرْسِيَّةٌ، وَأَنْهَارٌ مَجْرِيَّةٌ، إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَخَبَرًا، وَإِنَّ فِي الْأَرْضِ لَعِبَرًا أَرَى النَّاسَ يَمُوتُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ أَرَضُوا بِالْإِقَامَةِ فَأَقَامُوا أَمْ تُرِكُوا فَنَامُوا. أَقْسَمَ قُسٌّ قَسَمًا بِاللَّهِ لَا إِثْمَ فِيهِ إِنَّ لِلَّهِ دِينًا هُوَ أَرْضَى مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
فِي الذَّاهِبِينَ الْأَوَّلِي نَ مِنَ الْقُرُونِ لَنَا بَصَائِرْ
لَمَّا رَأَيْتُ مَوَارِدًا لِلْمَوْتِ لَيْسَ لَهَا مَصَادِرْ
وَرأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَهَا يَسْعَى الْأَصَاغِرُ وَالْأَكَابِرْ
أَيْقَنْتُ أَنِّي لَا مَحَالَةَ حَيْثُ صَارَ الْقَوْمُ صَائِرْ
ثُمَّ سَاقَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ قَدْ نَبَّهْنَا عَلَيْهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِزِيَادَةٍ، وَنُقْصَانٍ. وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مُنْقَطِعًا، وَرُوِيَ مُخْتَصَرًا مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ قُلْتُ: وَعُبَادَةَ

بْنِ الصَّامِتِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كَمَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْوَاسِطِيِّ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ طَرِيفِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ مَوْلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالْمَوْصِلِ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيِّ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرَهُ، وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا حَدِيثَ عُبَادَةَ الْمُتَقَدِّمَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَإِذَا رُوِىَ الْحَدِيثُ مَنْ أَوْجُهٍ أُخَرَ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا ضَعِيفًا دَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
هُوَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ رِيَاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ وَكَانَ الْخَطَّابُ - وَالِدُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - عَمَّهُ وَأَخَاهُ لِأُمِّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ نُفَيْلٍ كَانَ قَدْ خَلَفَ عَلَى امْرَأَةِ أَبِيهِ بَعْدَ أَبِيهِ وَكَانَ لَهَا مِنْ نُفَيْلٍ أَخُوهُ الْخَطَّابُ قَالَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ ومُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ تَرَكَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَفَارَقَ دِينَهُمْ وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مَا ذُبِحَ عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَحْدَهُ قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ لَقَدْ رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَالَّذِي نَفْسُ زَيْدٍ بِيَدِهِ مَا أَصْبَحَ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَوْ أَعْلَمُ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيْكَ عَبَدْتُكَ بِهِ، وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ، ثُمَّ يَسْجُدُ عَلَى رَاحِلَتِهِوَكَذَا رَوَاهُ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ بِهِ، وَزَادَ وَكَانَ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ، وَيَقُولُ: إِلَهِي إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ، وَدِينِي دِينُ إِبْرَاهِيمَ،

وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ، وَيَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا ادْفَعْهَا إِلَيَّ أَكْفُلْهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ: إِنْ شِئْتَ فَخُذْهَا، وَإِنْ شِئْتَ فَادْفَعْهَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ: وَقَالَ اللَّيْثُ: كَتَبَ إِلَىَّ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ بِهِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ; زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَعُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ صَبِرَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأُمُّهُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأُخْتُهُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ - الَّتِي تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْلَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ - حَضَرُوا قُرَيْشًا عِنْدَ، وَثَنٍ لَهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَ عِنْدَهُ لِعِيدٍ مِنْ أَعْيَادِهِمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا خَلَا بَعْضُ أُولَئِكَ النَّفَرِ إِلَى بَعْضٍ، وَقَالُوا: تَصَادَقُوا، وَلْيَكْتُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ قَائِلُهُمْ: تَعْلَمُنَّ وَاللَّهِ مَا قَوْمُكُمْ عَلَى شَيْءٍ، لَقَدْ أَخْطَئُوا دِينَ إِبْرَاهِيمَ وَخَالَفُوهُ مَا وَثَنٌ يُعْبَدُ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ؟! فَابْتَغُوا لِأَنْفُسِكُمْ. فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَ، وَيَسِيرُونَ فِي الْأَرْضِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ كِتَابٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمِلَلِ كُلِّهَا،

يَسْأَلُونَهُمُ الْحَنِيفِيَّةَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ.
فَأَمَّا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَتَنَصَّرَ، وَاسْتَحْكَمَ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَابْتَغَى الْكُتُبَ مِنْ أَهْلِهَا حَتَّى عَلِمَ عِلْمًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَعْدَلُ أَمْرًا، وَأَعْدَلُ شَأْنًا مِنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ اعْتَزَلَ الْأَوْثَانَ، وَفَارَقَ الْأَدْيَانَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمِلَلِ كُلِّهَا، إِلَّا دِينَ الْحَنِيفِيَّةِ دِينَ إِبْرَاهِيمَ يُوَحِّدُ اللَّهَ، وَيَخْلَعُ مَنْ دُونَهُ وَلَا يَأْكُلُ ذَبَائِحَ قَوْمِهِ بَادَاهُمْ بِالْفِرَاقِ لِمَا هُمْ فِيهِ. قَالَ: وَكَانَ الْخَطَّابُ قَدْ آذَاهُ أَذًى كَثِيرًا حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ إِلَى أَعْلَى مَكَّةَ، وَوَكَّلَ بِهِ الْخَطَّابُ شَبَابًا مِنْ قُرَيْشٍ، وَسُفَهَاءَ مِنْ سُفَهَائِهِمْ فَقَالَ: لَا تَتْرُكُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ فَكَانَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا سِرًّا مِنْهُمْ فَإِذَا عَلِمُوا بِهِ أَخْرَجُوهُ، وَآذَوْهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أَوْ يُتَابِعَهُ أَحَدٌ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ سَمِعْتُ مَنْ أَرْضَى يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ، وَأَنْزَلَ لَهَا مِنَ الَسَّمَاءِ مَاءً، وَأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الَأَرْضِ لِمَ تَذْبَحُوهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ ؟ إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ. وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَقَدْ كَانَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ يَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ يَطْلُبُ الْحَنِيفِيَّةَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ الْحَضْرَمِيِّ كُلَّمَا أَبْصَرَتْهُ قَدْ نَهَضَ لِلْخُرُوجِ، وَأَرَادَهُ آذَنَتِ الْخَطَّابَ بْنَ نُفَيْلٍ فَخَرَجَ زَيْدٌ إِلَى الشَّامِ

يَلْتَمِسُ وَيَطْلُبُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ دِينَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَسْأَلُ عَنْهُ، وَلَمْ يَزَلْ فِي ذَلِكَ، - فِيمَا يَزْعُمُونَ - حَتَّى أَتَى الْمَوْصِلَ وَالْجَزِيرَةَ كُلَّهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى الشَّامَ فَجَالَ فِيهَا حَتَّى أَتَى رَاهِبًا بِبَيْعَةٍ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ كَانَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ عِلْمُ النَّصْرَانِيَّةِ، - فِيمَا يَزْعُمُونَ - فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: إِنَّكَ لَتَسْأَلُ عَنْ دِينٍ مَا أَنْتَ بِوَاجِدٍ مَنْ يَحْمِلُكُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ لَقَدْ دَرَسَ مِنْ عَلِمَهُ، وَذَهَبَ مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ خُرُوجُ نَبِيٍّ. وَهَذَا زَمَانُهُ وَقَدْ كَانَ شَامَ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ فَلَمْ يَرْضَ شَيْئًا مِنْهَا فَخَرَجَ سَرِيعًا حِينَ قَالَ لَهُ الرَّاهِبُ مَا قَالَ يُرِيدُ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَرْضِ لَخْمٍ عَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ. فَقَالَ وَرَقَةُ يَرْثِيهِ:
رَشَدْتَ وأَنْعَمْتَ ابْنَ عَمْرٍو، وَإِنَّمَا تَجَنَّبْتَ تَنُّورًا مِنَ النَّارِ حَامِيًا بِدِينِكَ رَبًّا لَيْسَ رَبٌّ كَمِثْلِهِ
وَتَرْكِكَ أَوْثَانَ الطَّوَاغِي كَمَا هِيَا وَقَدْ تُدْرِكُ الْإِنْسَانَ رَحْمَةُ رَبِّهِ
وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الْأَرْضِ سِتِّينَ وَادِيًا
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ طَارِقٍ الْوَابِشِيُّ ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ كَانَ يَتَأَلَّهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ لَهُ: أُحِبُّ أَنْ تُدْخِلَنِي مَعَكَ فِي دِينِكَ فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: لَا أُدْخِلُكَ فِي دِينِي حَتَّى تَبُوءَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ فَقَالَ: مِنْ غَضَبِ اللَّهِ أَفِرُّ. فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى نَصْرَانِيًّا فَقَالَ لَهُ: أُحِبُّ أَنْ تُدْخِلَنِي مَعَكَ فِي دِينِكَ فَقَالَ: لَسْتُ أُدْخِلُكَ

فِي دِينِي حَتَّى تَبُوءَ بِنَصِيبِكَ مِنَ الَضَّلَالَةِ. فَقَالَ: مِنَ الَضَّلَالَةِ أَفِرُّ. قَالَ لَهُ النَّصْرَانِيُّ: فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى دِينٍ إِنِ اتَّبَعْتَهُ اهْتَدَيْتَ قَالَ: أَيُّ دِينٍ ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ: فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ أَحْيَا وَعَلَيْهِ أَمُوتُ. قَالَ: فَذُكِرَ شَأْنُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هُوَ أُمَّةٌ وَحْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَ هَذَا، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَيْفٍ الْقُرَشِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدٍ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: شَامَمْتُ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ فَكَرِهْتُهُمَا فَكُنْتُ بِالشَّامِ وَمَا وَالَاهُ حَتَّى أَتَيْتُ رَاهِبًا فِي صَوْمَعَةٍ فَذَكَرْتُ لَهُ اغْتِرَابِي عَنْ قَوْمِي، وَكَرَاهَتِي عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، فَقَالَ لِي: أَرَاكَ تُرِيدُ دَيْنَ إِبْرَاهِيمَ يَا أَخَا أَهْلِ مَكَّةَ إِنَّكَ لَتَطْلُبُ دِينًا مَا يُوجَدُ الْيَوْمَ أَحَدٌ يَدِينُ بِهِ، وَهُوَ دِينُ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ حَنِيفًا لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا، كَانَ يُصَلِّي وَيَسْجُدُ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي بِبِلَادِكَ،

فَالْحَقْ بِبَلَدِكَ فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مِنْ قَوْمِكَ فِي بَلَدِكَ مَنْ يَأْتِي بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيَّةِ وَهُوَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ.
وقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: إِنَّ زَيْدًا كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ قَالَ: لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا، عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ قَائِمٌ إِذْ قَالَ:
أَنْفِي لَكَ اللَّهُمَّ عَانٍ رَاغِمُ مَهْمَا تُجَشِّمْنِي فَإِنِّي جَاشِمُ
الْبِرَّ أَبْغِي لَا الْخَالَ لَيْسَ مُهَجِّرٌ كَمَنْ قَالَ
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ عَنْ نُفَيْلِ بْنِ هِشَامِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو، وَوَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ خَرَجًا يَلْتَمِسَانِ الدِّينَ حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى رَاهِبٍ بِالْمَوْصِلِ فَقَالَ لِزَيْدِ بْنِ عَمْرٍو: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يَا صَاحِبَ الْبَعِيرِ ؟ فَقَالَ: مِنْ بَنِيَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: وَمَا تَلْتَمِسُ ؟ قَالَ: أَلْتَمِسُ الدِّينَ قَالَ: ارْجِعْ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَظْهَرَ فِي أَرْضِكَ. قَالَ: فَأَمَّا وَرَقَةُ فَتَنَصَّرَ، وَأَمَّا أَنَا فَعَزَمْتُ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ فَلَمْ يُوَافِقْنِي فَرَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ:

لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا
الْبِرَّ أَبْغِي لَا حِلَالْ فَهَلْ مُهَجِّرٌ كَمَنْ قَالَ
آمَنْتُ بِمَا آمَنَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ يَقُولُ
أَنْفِي لَكَ اللَّهُمَّ عَانٍ رَاغِمُ مَهْمَا تُجَشِّمْنِي فَإِنِّي جَاشِمُ
ثُمَّ يَخِرُّ فَيَسْجُدُ. قَالَ: وَجَاءَ ابْنُهُ - يَعْنِي سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ أَحَدَ الْعَشْرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي كَمَا رَأَيْتَ وَكَمَا بَلَغَكَ فَاسْتَغْفِرْ لَهُ. قَالَ نَعَمْ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ قَالَ: وَأَتَى زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَهُمَا يَأْكُلَانِ مِنْ سُفْرَةٍ لَهُمَا فَدَعَوَاهُ لِطَعَامِهِمَا فَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو: يَا ابْنَ أَخِي أَنَا لَا آكُلُ مِمَّا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.
وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِيِ سَبْرَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ حُجَيْرِ بْنِ أَبِيِ إِهَابٍ قَالَ: رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو، وَأَنَا عِنْدَ صَنَمِ بُوَانَةَ بَعْدَمَا رَجَعَ مِنَ الشَّامِ وَهُوَ يُرَاقِبُ الشَّمْسَ فَإِذَا زَالَتِ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ فَصَلَّى رَكْعَةً سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ: هَذِهِ قُبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، لَا أَعْبُدُ حَجَرًا وَلَا أُصَلِّي

لَهُ وَلَا آكُلُ مَا ذُبِحَ لَهُ وَلَا أَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ، وَإِنَّمَا أُصَلِّي إِلَى هَذَا الْبَيْتِ حَتَّى أَمُوتَ وَكَانَ يَحُجُّ فَيَقِفُ بِعَرَفَةَ وَكَانَ يُلَبِّي فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ وَلَا نِدَّ لَكَ، ثُمَّ يَدْفَعُ مِنْ عَرَفَةَ مَاشِيًا وَهُوَ يَقُولُ: لَبَّيْكَ مُتَعَبِّدًا مَرْقُوقًا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْحَكَمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ يَقُولُ: أَنَا أَنْتَظِرُ نَبِيًّا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلَا أَرَانِي أُدْرِكُهُ وَأَنَا أُؤْمِنُ بِهِ وَأُصَدِّقُهُ وَأَشْهَدُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ فَرَأَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَسَأُخْبِرُكَ مَا نَعْتُهُ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْكَ. قُلْتُ: هَلُمَّ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ وَلَا بِكَثِيرِ الشَّعَرِ وَلَا بِقَلِيلِهِ، وَلَيْسَتْ تُفَارِقُ عَيْنَهُ حُمْرَةٌ، وَخَاتَمُ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَاسْمُهُ أَحْمَدُ. وَهَذَا الْبَلَدُ مَوْلِدُهُ وَمَبْعَثُهُ ثُمَّ يُخْرِجُهُ قَوْمُهُ مِنْهَا، وَيَكْرَهُونَ مَا جَاءَ بِهِ حَتَّى يُهَاجِرَ إِلَى يَثْرِبَ فَيَظْهَرُ أَمْرُهُ فَإِيَّاكَ أَنْ تُخْدَعَ عَنْهُ فَإِنِّي طُفْتُ الْبِلَادَ كُلَّهَا أَطْلُبُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَ مَنْ أَسْأَلُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، يَقُولُونَ: هَذَا الدِّينُ وَرَاءَكَ، وَيَنْعَتُونَهُ مِثْلَ مَا نَعَتُّهُ لَكَ، وَيَقُولُونَ: لَمْ يَبْقَ نَبِيٌّ غَيْرُهُ. قَالَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ: فَلَمَّا أَسْلَمْتُ أَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو، وَأَقْرَأْتُهُ مِنْهُ السَّلَامَ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُهُ فِي الْجَنَّةِ يَسْحَبُ ذُيُولًا.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: ذِكْرُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُفْرَةٌ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا، ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ: إِنِّي لَسْتُ آكُلَ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنَصَابِكُمْ وَلَا آكُلُ إِلَّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَقُولُ: الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ، وَأَنْزَلَ لَهَا مِنَ الَسَّمَاءِ مَاءً، وَأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الَأَرْضِ، ثُمَّ يَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ إِنْكَارًا لِذَلِكَ، وَإِعْظَامًا لَهُ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَحَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا يُحَدِّثُ بِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ يَسْأَلُ عَنِ الدِّينِ، وَيَتْبَعُهُ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ فَقَالَ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ نَصِيبَكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ قَالَ زَيْدٌ: وَمَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا وَلَا أَسْتَطِيعُهُ فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَنِيفًا قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الْحَنِيفُ ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنَ النَّصَارَى،

فَذَكَرَ مِثْلَهُ; فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ. قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَنِيفًا قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ ؟ قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ. لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ خَرَجَ فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: وَقَالَ اللَّيْثُ: كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا، مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ: لَا تَقْتُلْهَا أَنَا أَكْفِيكَ مُؤْنَتَهَا فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا: إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ، وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مُؤْنَتَهَا انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ قَدْ أَسْنَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عِيسَى بْنِ حَمَّادٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِيَّاكُمْ وَالزِّنَا فَإِنَّهُ يُورِثُ الْفَقْرَ.
وَقَدْ سَاقَ ابْنُ عَسَاكِرَ هَاهُنَا أَحَادِيثَ غَرِيبَةً جِدًّا، وَفِي بَعْضِهَا نَكَارَةٌ

شَدِيدَةٌ، ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيَقُولُ: إِلَهِي إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ، وَدِينِي دِينُ إِبْرَاهِيمَ، وَيَسْجُدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُحْشَرُ ذَاكَ أُمَّةً وَحْدَهُ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ شَيْبَةَ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَذْكُرُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَقَالَ: تُوُفِّيَ، وَقُرَيْشٌ تَبْنِي الْكَعْبَةَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَلَقَدْ نَزَلَ بِهِ، وَإِنَّهُ لَيَقُولُ: أَنَا عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ فَأَسْلَمَ ابْنُهُ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَاتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَرَحِمَهُ; فَإِنَّهُ مَاتَ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ: فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، لَا يَذْكُرُهُ ذَاكِرٌ مِنْهُمْ إِلَّا تَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ، ثُمَّ يَقُولُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّعْدِيُّ

عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَاتَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِمَكَّةَ، وَدُفِنَ بِأَصْلِ حِرَاءَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَاتَ بِأَرْضِ الْبَلْقَاءِ مِنَ الشَّامِ لَمَّا عَدَا عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ بَنِي لَخْمٍ فَقَتَلُوهُ بِمَكَانٍ يُقَالَ لَهُ: مَيْفَعَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبَاغَنْدِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ لِزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ دَوْحَتَيْنِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنَ الَكُتُبِ.
وَمِنْ شِعْرِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ مِنْ تِلْكَ الْقَصِيدَةِ
إِلَى اللَّهِ أَهْدِي مِدْحَتِي وَثَنَائِيَا وَقَوْلًا رَضِيًّا لَا يَنِي الدَّهْرَ بَاقِيًا إِلَى الْمَلِكِ الْأَعْلَى الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إِلَهٌ وَلَا رَبٌّ يَكُونُ مُدَانِيَا وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْ شِعْرِهِ فِي التَّوْحِيدِ، مَا حَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَغَيْرُهُمَا:
وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالًا

دَحَاهَا فَلَمَّا اسْتَوتْ شَدَّهَا سَوَاءً وَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالَا إِذَا هِيَ سِيقَتْ إِلَى بَلْدَةٍ أَطَاعَتْ فَصَبَّتْ عَلَيْهَا سِجَالَا وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ لَهُ الرِّيحُ تُصْرَفُ حَالًا فَحَالَا وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ: رَوَى أَبِي أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو قَالَ
أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفَ رَبٍّ أَدِينُ إِذَا تَقَسَّمَتِ الْأُمُورُ عَزَلْتُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى جَمِيعًا كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْجَلْدُ الصَّبُورُ فَلَا الْعُزَّى أَدِينُ وَلَا ابْنَتَيْهَا وَلَا صَنَمَيْ بَنِي عَمْرٍو أَزُورُ وَلَا هُبَلًا أَدِينُ وَكَانَ رَبًّا لَنَا فِي الدَّهْرِ إِذْ حِلْمِي يَسِيرُ عَجِبْتُ وَفِي اللَّيَالِي مُعْجِبَاتٌ وَفِي الْأَيَّامِ يَعْرِفُهَا الْبَصِيرُ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَفْنَى رِجَالًا كَثِيرًا كَانَ شَأْنَهُمُ الْفُجُورُ وَأَبْقَى آخَرِينَ بِبِرِّ قَوْمٍ فَيَرْبِلُ مِنْهُمُ الطِّفْلُ الصَّغِيرُ

وَبَيْنَا الْمَرْءُ يَعْثُرُ ثَابَ يَوْمًا كَمَا يَتَرَوَّحُ الْغُصْنُ الْمَطِيرُ وَلَكِنْ أَعْبُدُ الرَّحْمَنَ رَبِّي لِيَغْفِرَ ذَنْبِيَ الرَّبُّ الْغَفُورُ فَتَقْوَى اللَّهِ رَبِّكُمُ احْفَظُوهَا مَتَى مَا تَحْفَظُوهَا لَا تَبُورُوا تَرَى الْأَبْرَارَ دَارُهُمُ جِنَانٌ وَلِلْكُفَّارِ حَامِيَةٌ سَعِيرُ وَخِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ وَإِنْ يَمُوتُوا يُلَاقُوا مَا تَضِيقُ بِهِ الصُّدُورُ هَذَا تَمَامُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ مِنْ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ:
عَزَلْتُ الْجِنَّ وَالْجِنَّانَ عَنِّي كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْجَلْدُ الصَّبُورُ
فَلَا الْعُزَّى أَدِينُ وَلَا ابْنَتَيْهَا وَلَا صَنَمَيْ بَنِي طَسْمٍ أُدِيرُ
وَلَا غُنْمًا أَدِينُ وَكَانَ رَبًّا لَنَا فِي الدَّهْرِ إِذْ حِلْمِي صَغِيرُ أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفَ رَبٍّ
أَدِينُ إِذَا تُقُسِّمَتِ الْأُمُورُ

أَلَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَفْنَى رِجَالًا
كَانَ شَأْنَهُمُ الْفُجُورُ وَأَبْقَى آخَرِينَ بِبِرِّ قَوْمٍ
فَيَرْبُو مِنْهُمُ الطِّفْلُ الصَّغِيرُ وَبَيْنَا الْمَرْءُ يَعْثُرُ ثَابَ يَوْمًا
كَمَا يَتَرَوَّحُ الْغُصْنُ النَّضِيرُ
قَالَتْ: فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نُوفَلٍ::
رَشَدْتَ وَأَنْعَمْتَ ابْنَ عَمْرٍو وَإِنَّمَا تَجَنَّبْتَ تَنُّورًا مِنَ النَّارِ حَامِيًا
لِدِينِكَ رَبًّا لَيْسَ رَبٌّ كَمِثْلِهِ وَتَرْكِكَ جِنَانَ الْجِبَالِ كَمَا هِيَا
أَقُولُ إِذَا أُهْبِطْتُ أَرْضًا مَخُوفَةً حَنَانَيْكَ لَا تُظْهِرْ عَلَىَّ الْأَعَادِيَا
حَنَانَيْكَ إِنَّ الْجِنَّ كَانَتْ رَجَاءَهُمْ وَأَنْتَ إِلَهِي رَبَّنَا وَرَجَائِيَا
لَتَدَّرِكَنَّ الْمَرْءَ رَحْمَةُ رَبِّهِ وَإِنْ كَانَ تَحْتَ الْأَرْضِ سَبْعِينَ وَادِيًا
أَدِينُ لِرَبٍّ يَسْتَجِيبُ وَلَا أَرَى أَدِينُ لِمَنْ لَا يَسْمَعُ الدَّهْرَ دَاعِيًا
أَقُولُ إِذَا صَلَّيْتُ فِي كُلِّ بَيْعَةٍ تَبَارَكْتَ قَدْ أَكْثَرْتُ بِاسْمِكَ دَاعِيًا
تَقَدَّمَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، خَرَجَ إِلَى الشَّامِ هُوَ وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ فَتَنَصَّرُوا إِلَّا زَيْدًا فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي شَيْءٍ مِنَ الَأَدْيَانِ، بَلْ بَقِيَ عَلَى فِطْرَتِهِ; مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ

لَا شَرِيكَ لَهُ مُتَّبِعًا مَا أَمْكَنَهُ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَسَيَأْتِي خَبَرُهُ فِي أَوَّلِ الْمَبْعَثِ، وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فَأَقَامَ بِالشَّامِ حَتَّى مَاتَ فِيهَا عِنْدَ قَيْصَرَ، وَلَهُ خَبَرٌ عَجِيبٌ ذَكَرُهُ الْأُمَوِيُّ، وَمُخْتَصَرُهُ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلَى قَيْصَرَ فَشَكَى إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ قَوْمِهِ كَتَبَ لَهُ إِلَى ابْنِ جَفْنَةَ مَلِكِ عَرَبِ الشَّامِ لِيُجَهِّزَ مَعَهُ جَيْشًا لِحَرْبِ قُرَيْشٍ فَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ الْأَعْرَابُ تَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ لِمَا رَأَوْا مِنْ عَظَمَةِ مَكَّةَ، وَكَيْفَ فَعَلَ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ فَكَسَاهُ ابْنُ جَفْنَةَ قَمِيصًا مَصْبُوغًا مَسْمُومًا فَمَاتَ مِنْ سُمِّهِ فَرَثَاهُ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِشِعْرٍ، ذَكَرَهُ الْأُمَوِيُّ تَرَكْنَاهُ اخْتِصَارًا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ نَحْوِهَا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

شَيْءٌ مِنَ الَحَوَادِثِ فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ فَمِنْ ذَلِكَ بُنْيَانُ الْكَعْبَةِ
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَاهُ آدَمُ. وَجَاءَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَفِي سَنَدِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَقْوَى الْأَقْوَالِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَاهُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: ثُمَّ تَهَدَّمَ فَبَنَتْهُ الْعَمَالِقَةُ، ثُمَّ تَهَدَّمَ فَبَنَتْهُ جُرْهُمٌ، ثُمَّ تَهَدَّمَ فَبَنَتْهُ قُرَيْشٌ. قُلْتُ سَيَأْتِي بِنَاءُ قُرَيْشٍ لَهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَقِيلَ: بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَلَغَ الْحُلُمَ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ كُلُّهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.

كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ
رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زَبَالَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ التَّيْمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: كَانَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ يَجْمَعُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، - وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّي يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْعَرُوبَةَ - فَيَخْطُبُهُمْ فَيَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ فَاسْمَعُوا وَتَعَلَّمُوا وَافْهَمُوا، وَاعْلَمُوا لَيْلٌ سَاجٍ، وَنَهَارٌ ضَاحٍ، وَالْأَرْضُ مِهَادٌ، وَالسَّمَاءُ بِنَاءٌ، وَالْجِبَالُ أَوْتَادٌ، وَالنُّجُومُ أَعْلَامٌ، وَالْأَوَّلُونَ كَالْآخِرِينَ، وَالْأُنْثَى وَالذَّكَرُ، وَالرُّوحُ وَمَا يَهِيجُ إِلَى بِلًى فَصِلُوا أَرْحَامَكُمْ، وَاحْفَظُوا أَصْهَارَكُمْ، وَثَمِّرُوا أَمْوَالَكُمْ فَهَلْ رَأَيْتُمْ مِنْ هَالِكٍ رَجَعَ أَوْ مَيِّتٍ نُشِرَ ؟ الدَّارُ أَمَامَكُمْ وَالظَّنُّ غَيْرُ مَا تَقُولُونَ، حَرَمُكُمْ زَيِّنُوهُ وَعَظِّمُوهُ وَتَمَسَّكُوا بِهِ فَسَيَأْتِي لَهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، وَسَيَخْرُجُ مِنْهُ نَبِيٌّ كَرِيمٌ. ثُمَّ يَقُولُ:
نَهَارٌ وَلَيْلٌ كُلَّ يَوْمٍ بِحَادِثٍ سَوَاءٌ عَلَيْنَا لَيْلُهُا وَنَهَارُهَا

يَئُوبَانِ بِالْأَحْدَاثِ حَتَّى تَأَوَّبَا وَبِالنِّعَمِ الضَّافِي عَلَيْنَا سُتُورُهَا عَلَى غَفْلَةٍ يَأْتِي النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ فَيُخْبِرُ أَخْبَارًا صَدُوقًا خَبِيرُهَا ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ فِيهَا ذَا سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَيَدٍ وَرِجْلٍ، لَتَنَصَّبْتُ فِيهَا تَنَصُّبَ الْجَمَلِ، وَلَأَرْقَلْتُ بِهَا إِرْقَالَ الْعِجْلِ، ثُمَّ يَقُولُ:
يَا لَيْتَنِي شَاهِدٌ نَجْوَاءَ دَعْوَتِهِ حِينَ الْعَشِيرةُ تَبْغِي الْحَقَّ خِذْلَانًا قَالَ: وَكَانَ بَيْنَ مَوْتِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَمَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ وَسِتُّونَ سَنَةً.

ذِكْرُ تَجْدِيدِ حَفْرِ زَمْزَمَ
عَلَى يَدَيْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، الَّتِي كَانَ قَدْ دَرَسَ رَسْمُهَا بَعْدَ طَمِّ جُرْهُمٍ لَهَا إِلَى زَمَانِهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بَيْنَمَا هُوَ نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ، إِذْ أُتِيَ فَأُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ وَكَانَ أَوَّلَ مَا ابْتُدِئَ بِهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مِنْ حَفْرِهَا، كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ الْمِصْرِيُّ عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيْرٍ الْغَافِقِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَ زَمْزَمَ حِينَ أُمِرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِحَفْرِهَا قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي لَنَائِمٌ فِي الْحِجْرِ إِذْ أَتَانِي آتٍ فَقَالَ لِي: احْفِرْ طِيبَةَ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا طِيبَةُ ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إِلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرْ بَرَّةَ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا بَرَّةُ ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إِلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فَجَاءَنِي فَقَالَ: احْفِرِ الْمَضْنُونَةَ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْمَضْنُونَةُ ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إِلَى مَضْجَعِي فَنِمْتُ فِيهِ فَجَاءَنِي قَالَ: احْفِرْ زَمْزَمَ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا زَمْزَمُ ؟ قَالَ: لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذِمُّ، تَسْقِي

الْحَجِيجَ الْأَعْظَمَ.
وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ، عِنْدَ نُقْرَةِ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ، عِنْدَ قَرْيَةِ النَّمْلِ. قَالَ: فَلَمَّا بَيَّنَ لِي شَأْنَهَا، وَدَلَّ عَلَى مَوْضِعِهَا، وَعَرَفَ أَنَّهُ قَدْ صُدِقَ، غَدًا بِمِعْوَلِهِ، وَمَعَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - وَلَيْسَ لَهُ يَوْمئِذٍ وَلَدٌ غَيْرُهُ - فَحَفَرَ فَلَمَّا بَدَا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ الطَّيُّ كَبَّرَ فَعَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ حَاجَتَهُ فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ إِنَّهَا بِئْرُ أَبِينَا إِسْمَاعِيلَ، وَإِنَّ لَنَا فِيهَا حَقًّا فَأَشْرِكْنَا مَعَكَ فِيهَا. قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ خُصِصْتُ بِهِ دُونَكُمْ، وَأُعْطِيتُهُ مِنْ بَيْنِكُمْ، قَالُوا لَهُ: فَأَنْصِفْنَا فَإِنَّا غَيْرُ تَارِكِيكَ حَتَّى نُخَاصِمَكَ فِيهَا. قَالَ: فَاجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مَنْ شِئْتُمْ أُحَاكِمْكُمْ إِلَيْهِ. قَالُوا: كَاهِنَةُ بَنِي سَعْدِ بْنِ هُذَيْمٍ. قَالَ: نَعَمْ. وَكَانَتْ بِأَشْرَافِ الشَّامِ فَرَكِبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَرَكِبَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ نَفَرٌ فَخَرَجُوا وَالْأَرْضُ إِذْ ذَاكَ مَفَاوِزُ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِهَا نَفَدَ مَاءُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَصْحَابُهُ فَعَطِشُوا حَتَّى اسْتَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ فَاسْتَسْقَوْا مَنْ مَعَهُمْ فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: إِنَّا بِمَفَازَةٍ، وَإِنَّا نَخْشَى عَلَى أَنْفُسِنَا مِثْلَ مَا أَصَابَكُمْ.
فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي أَرَى أَنْ يَحْفِرَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ حُفْرَتَهُ لِنَفْسِهِ بِمَا بِكُمُ الْآنَ مِنَ الَقُوَّةِ فَكُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ دَفَعَهُ أَصْحَابُهُ فِي حُفْرَتِهِ ثُمَّ وَارَوْهُ حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ

رَجُلًا وَاحِدًا فَضَيْعَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَيْسَرُ مِنْ ضَيْعَةٍ رَكْبَ جَمِيعًا. فَقَالُوا: نِعْمَ مَا أَمَرْتَ بِهِ فَحَفَرَ كُلُّ رَجُلٍ لِنَفْسِهِ حُفْرَةً، ثُمَّ قَعَدُوا يَنْتَظِرُونَ الْمَوْتَ عَطْشَى، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ إِلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا هَكَذَا لِلْمَوْتِ - لَا نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ لَا نَبْتَغِي لِأَنْفُسِنَا - لَعَجْزٌ فَعَسَى أَنْ يَرْزُقَنَا اللَّهُ مَاءً بِبَعْضِ الْبِلَادِ. فَارْتَحَلُوا حَتَّى إِذَا بَعَثَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَاحِلَتَهُ انْفَجَرَتْ مِنْ تَحْتِ خُفِّهَا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ فَكَبَّرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَكَبَّرَ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ نَزَلَ فَشَرِبَ وَشَرِبَ أَصْحَابُهُ، وَاسْتَقَوْا حَتَّى مَلَئُوا أَسْقِيَتَهُمْ، ثُمَّ دَعَا قَبَائِلَ قُرَيْشٍ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَقَالَ: هَلُمُّوا إِلَى الْمَاءِ فَقَدْ سَقَانَا اللَّهُ فَجَاءُوا فَشَرِبُوا وَاسْتَقَوْا كُلُّهُمْ، ثُمَّ قَالُوا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ: قَدْ وَاللَّهِ قُضِيَ لَكَ عَلَيْنَا وَاللَّهِ مَا نُخَاصِمُكَ فِي زَمْزَمَ أَبَدًا، إِنَّ الَّذِي سَقَاكَ هَذَا الْمَاءَ بِهَذِهِ الْفَلَاةِ لَهُو الَّذِي سَقَاكَ زَمْزَمَ فَارْجِعْ إِلَى سِقَايَتِكَ رَاشِدًا فَرَجَعَ وَرَجَعُوا مَعَهُ، وَلَمْ يَصِلُوا إِلَى الْكَاهِنَةِ، وَخَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَمْزَمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَهَذَا مَا بَلَغَنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي زَمْزَمَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ سَمِعْتُ مَنْ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ حِينَ أُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ
ثُمَّ ادْعُ بِالْمَاءِ الرِّوَى غَيْرِ الْكَدِرْ يَسْقِي حَجِيجَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَبَرْ

لَيْسَ يَخَافُ مِنْهُ شَيْءٌ مَا عَمَرْ قَالَ: فَخَرَجَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حِينَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: تَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَحْفِرَ زَمْزَمَ قَالُوا: فَهَلْ بُيِّنَ لَكَ أَيْنَ هِيَ ؟ قَالَ: لَا، قَالُوا: فَارْجِعْ إِلَى مَضْجَعِكَ الَّذِي رَأَيْتَ فِيهِ مَا رَأَيْتَ فَإِنْ يَكْ حَقًّا مِنَ اللَّهِ يُبَيِّنْ لَكَ، وَإِنْ يَكُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَلَنْ يَعُودَ إِلَيْكَ. فَرَجَعَ وَنَامَ فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: احْفِرْ زَمْزَمْ إِنَّكَ إِنْ حَفَرْتَهَا لَنْ تَنْدَمْ، وَهِيَ تُرَاثٌ مِنْ أَبِيكَ الْأَعْظَمْ، لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذِمْ، تَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَعْظَمْ مِثْلَ نَعَامٍ حَافِلٍ لَمْ يُقْسَمْ، وَيَنْذِرُ فِيهَا نَاذِرٌ لِمُنْعِمْ، تَكُونُ مِيرَاثًا وَعَقْدًا مُحْكَمْ، لَيْسَتْ كَبَعْضِ مَا قَدْ تَعْلَمْ، وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَزَعَمُوا أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ حِينَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ: وَأَيْنَ هِيَ ؟ قِيلَ لَهُ: عِنْدَ قَرْيَةِ النَّمْلِ، حَيْثُ يَنْقُرُ الْغُرَابُ غَدًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ. قَالَ: فَغَدَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ، وَلَيْسَ لَهُ يَوْمئِذٍ وَلَدٌ غَيْرُهُ - زَادَ الْأُمَوِيُّ وَمَوْلَاهُ أَصْرَمُ - فَوَجَدَ قَرْيَةَ النَّمْلِ، وَوَجَدَ الْغُرَابَ يَنْقُرُ عِنْدَهَا بَيْنَ الْوَثَنَيْنِ إِسَافٍ وَنَائِلَةَ، اللَّذَيْنِ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَنْحَرُ عِنْدَهُمَا فَجَاءَ بِالْمِعْوَلِ وَقَامَ لِيَحْفِرَ حَيْثُ أُمِرَ فَقَامَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ تَحْفِرُ بَيْنَ

وَثَنَيْنَا اللَّذَيْنِ نَنْحَرُ عِنْدَهُمَا فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِابْنِهِ الْحَارِثِ: ذُدْ عَنِّي حَتَّى أَحْفِرَ فَوَاللَّهِ لَأَمْضِيَنَّ لِمَا أُمِرْتُ بِهِ فَلَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ غَيْرُ نَازِعٍ خَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَفْرِ، وَكَفُّوا عَنْهُ فَلَمْ يَحْفِرْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى بَدَا لَهُ الطَّيُّ فَكَبَّرَ، وَعَرَفَ أَنَّهُ قَدْ صُدِقَ فَلَمَّا تَمَادَى بِهِ الْحَفْرُ وَجَدَ فِيهَا غَزَالَتَيْنِ مَنْ ذَهَبٍ اللَّتَيْنِ كَانَتْ جُرْهُمٌ قَدْ دَفَنَتْهُمَا، وَوَجَدَ فِيهَا أَسْيَافًا قَلْعِيَّةً وَأَدْرَاعَا فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَنَا مَعَكَ فِي هَذَا شِرْكٌ وَحَقٌّ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ هَلُمَّ إِلَى أَمْرٍ نِصْفٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، نَضْرِبُ عَلَيْهَا بِالْقِدَاحِ قَالُوا: وَكَيْفَ نَصْنَعُ ؟ قَالَ: أَجْعَلُ لِلْكَعْبَةِ قَدَحَيْنِ، وَلِي قَدَحَيْنِ، وَلَكُمْ قَدَحَيْنِ فَمَنْ خَرَجَ قَدَحَاهُ عَلَى شَيْءٍ كَانَ لَهُ، وَمَنْ تَخَلَّفَ قَدَحَاهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ قَالُوا: أَنْصَفْتَ فَجَعَلَ لِلْكَعْبَةِ قَدَحَيْنِ أَصْفَرَيْنِ، وَلَهُ أَسْوَدَيْنِ، وَلَهُمْ أَبْيَضَيْنِ، ثُمَّ أَعْطَوُا الْقِدَاحَ لِلَّذِي يَضْرِبُ عِنْدَ هُبَلَ، وَهُبَلُ أَكْبَرُ أَصْنَامِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ اعْلُ هُبَلُ يَعْنِي هَذَا الصَّنَمَ، وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ، وَذَكَرَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ جَعَلَ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ الْمَحْمُودْ رَبِّي فَأَنْتَ الْمُبْدِئُ الْمُعيِدْ وَمُمْسِكُ الرَّاسِيَةِ الْجُلْمُودْ مِنْ عَنْدِكَ الطَّارِفُ وَالتَّلِيدْ

إِنْ شِئْتَ أَلْهَمْتَ كَمَا تُرِيدْ لِمَوْضِعِ الْحِلْيَةِ وَالْحَدِيدْ فَبَيِّنِ الْيَوْمَ لِمَا تُرِيدْ إِنِّي نَذَرْتُ الْعَاهِدَ الْمَعْهُودْ اجْعَلْهُ لِي رَبِّ فَلَا أَعُودْ قَالَ: وَضَرَبَ صَاحِبُ الْقِدَاحِ فَخَرَجَ الْأَصْفَرَانِ عَلَى الْغَزَالَتَيْنِ لِلْكَعْبَةِ، وَخَرَجَ الْأَسْوَدَانِ عَلَى الْأَسْيَافِ وَالْأَدْرَاعِ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَتَخَلَّفَ قَدَحَا قُرَيْشٍ فَضَرَبَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْأَسْيَافَ بَابًا لِلْكَعْبَةِ، وَضَرَبَ فِي الْبَابِ الْغَزَالَتَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَانَ أَوَّلَ ذَهَبٍ حُلِّيَتْهُ الْكَعْبَةُ - فِيمَا يَزَعُمُونَ - ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ أَقَامَ سِقَايَةَ زَمْزَمَ لِلْحَاجِّ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَكَّةَ كَانَ فِيهَا أَبْيَارٌ كَثِيرَةٌ قَبْلَ ظُهُورِ زَمْزَمَ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ عَدَّدَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ، وَسَمَّاهَا، وَذَكَرَ أَمَاكِنَهَا مِنْ مَكَّةَ، وَحَافِرِيهَا إِلَى أَنْ قَالَ: فَعَفَتْ زَمْزَمُ عَلَى الْبِئَارِ كُلِّهَا، وَانْصَرَفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ إِلَيْهَا لِمَكَانِهَا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلِفَضْلِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا مِنَ الْمِيَاهِ، وَلِأَنَّهَا بِئْرُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَافْتَخَرَتْ بِهَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى قُرَيْشٍ كُلِّهَا، وَعَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي زَمْزَمَ: " إِنَّهَا لَطَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ ". وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ

عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَلَفْظُهُ مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ وَرَوَاهُ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْمَوَالِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ وَلَكِنْ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ ضَعِيفٌ وَالْمَحْفُوظُ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا وَالْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ إِذَا شَرِبْتَ مِنْ زَمْزَمَ فَاسْتَقْبِلِ الْكَعْبَةَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَتَنَفَّسْ ثَلَاثًا، وَتَضَلَّعْ مِنْهَا فَإِذَا فَرَغْتَ فَاحْمَدِ اللَّهَ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ آيَةَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ لَا يَتَضَلَّعُونَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ..
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أُحِلُّهَا لِمُغْتَسِلٍ،

وَهِيَ لِشَارِبٍ حِلٌّ وَبِلٌّ. وَقَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي جَدَّدَ حَفْرَ زَمْزَمَ كَمَا قَدَّمْنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُحَدِّثُ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ هَاشِمٍ حِينَ احْتَفَرَ زَمْزَمَ قَالَ: لَا أُحِلُّهَا لِمُغْتَسِلٍ، وَهِيَ لِشَارِبٍ حِلٌّ وَبِلٌّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ لَهَا حَوْضَيْنِ حَوْضًا لِلشُّرْبِ، وَحَوْضًا لِلْوُضُوءِ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ: لَا أُحِلُّهَا لِمُغْتَسِلٍ ; لِيُنَزِّهَ الْمَسْجِدَ عَنْ أَنْ يُغْتَسَلَ فِيهِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قَوْلُهُ، وَبِلٌّ إِتْبَاعٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَالْإِتْبَاعُ لَا يَكُونُ بِوَاوِ الْعَطْفِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: إِنَّ بِلَّ بِلُغَةِ حِمْيَرَ: مُبَاحٌ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ أَنَّهُ سَمِعَ رِزًّا أَنَّهُ سَمِعَ الْعَبَّاسَ يَقُولُ: لَا أُحِلُّهَا لِمُغْتَسِلٍ، وَهِيَ لِشَارِبٍ حِلٌّ وَبِلٌّ. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ ذَلِكَ. وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَيْهِمَا كَأَنَّهُمَا يَقُولَانِ ذَلِكَ فِي أَيَّامِهِمَا عَلَى سَبِيلِ التَّبْلِيغِ وَالْإِعْلَامِ بِمَا اشْتَرَطَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ حَفْرِهِ

لَهَا فَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَتِ السِّقَايَةُ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى ابْنِهِ أَبِي طَالِبٍ مُدَّةً، ثُمَّ اتُّفِقَ أَنَّهُ أَمْلَقَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ فَاسْتَدَانَ مِنْ أَخِيهِ الْعَبَّاسِ عَشَرَةَ آلَافٍ إِلَى الْمَوْسِمِ الْآخَرِ، وَصَرَفَهَا أَبُو طَالِبٍ فِي الْحَجِيجِ فِي عَامِهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالسِّقَايَةِ فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ لَمْ يَكُنْ مَعَ أَبِي طَالِبٍ شَيْءٌ فَقَالَ لِأَخِيهِ الْعَبَّاسِ: أَسْلِفْنِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا أَيْضًا إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ أُعْطِيكَ جَمِيعَ مَالِكَ. فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: بِشَرْطِ إِنْ لَمْ تُعْطِنِي تَتْرُكِ السِّقَايَةَ لِي أَكْفِكَهَا. فَقَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا جَاءَ الْعَامُ الْآخَرُ لَمْ يَكُنْ مَعَ أَبِي طَالِبٍ مَا يُعْطِي الْعَبَّاسَ فَتَرَكَ لَهُ السِّقَايَةَ فَصَارَتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ صَارَتْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ وَلَدِهِ، ثُمَّ إِلَى عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ إِلَى دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ، ثُمَّ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، ثُمَّ إِلَى عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ، ثُمَّ أَخَذَهَا الْمَنْصُورُ وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا مَوْلَاهُ أَبَا رَزِينٍ، ذَكَرَهُ الْأُمَوِيُّ.

ذِكْرُ نَذْرِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
ذَبْحَ أَحَدِ وَلَدِهِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - نَذَرَ حِينَ لَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ مَا لَقِيَ عِنْدَ حَفْرِ زَمْزَمَ لَئِنْ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةُ نَفَرٍ، ثُمَّ بَلَغُوا مَعَهُ حَتَّى يَمْنَعُوهُ لَيَنْحَرَنَّ أَحَدَهُمْ لِلَّهِ عِنْدِ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا تَكَامَلَ بَنُوهُ عَشَرَةً، وَعَرَفَ أَنَّهُمْ سَيَمْنَعُونَهُ، وَهُمُ ; الْحَارِثُ وَالزُّبَيْرُ وَحَجْلٌ وَضِرَارٌ وَالْمُقَوَّمُ وَأَبُو لَهَبٍ وَالْعَبَّاسُ وَحَمْزَةُ وَأَبُو طَالِبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ، جَمَعَهُمْ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِنَذْرِهِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْوَفَاءِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِذَلِكَ فَأَطَاعُوهُ، وَقَالُوا: كَيْفَ نَصْنَعُ ؟ قَالَ: لِيَأْخُذْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ قِدْحًا، ثُمَّ يَكْتُبُ فِيهِ اسْمَهُ، ثُمَّ ائْتُونِي فَفَعَلُوا ثُمَّ أَتَوْهُ فَدَخَلَ بِهِمْ عَلَى هُبَلَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ وَكَانَ هُبَلُ عَلَى بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْبِئْرُ هِيَ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا مَا يُهْدَى لِلْكَعْبَةِ وَكَانَ عِنْدَ هُبَلَ قِدَاحٌ سَبْعَةٌ، وَهِيَ الْأَزْلَامُ الَّتِي يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا إِذَا أَعْضَلَ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ مِنْ عَقْلٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ جَاءُوهُ فَاسْتَقْسَمُوا بِهَا فَمَا أَمَرَتْهُمْ بِهِ أَوْ نَهَتْهُمْ عَنْهُ امْتَثَلُوهُ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَمَّا جَاءَ يَسْتَقْسِمُ بِالْقِدَاحِ عِنْدَ هُبَلَ خَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ أَصْغَرَ وَلَدِهِ، وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْهِ فَأَخَذَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِيَدِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَخَذَ الشَّفْرَةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِ إِلَى إِسَافٍ وَنَائِلَةَ لِيَذْبَحَهُ فَقَامَتْ إِلَيْهِ قُرَيْشٌ مِنْ أَنْدِيَتِهَا فَقَالُوا: مَا تُرِيدُ يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ ؟ قَالَ: أَذْبَحُهُ. فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ وَبَنُوهُ وَاللَّهِ لَا تَذْبَحُهُ أَبَدًا حَتَّى تُعْذِرَ فِيهِ ; لَئِنْ فَعَلْتَ هَذَا لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِابْنِهِ حَتَّى يَذْبَحَهُ فَمَا بَقَاءُ النَّاسِ عَلَى هَذَا.
وَذَكَرَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْعَبَّاسَ هُوَ الَّذِي اجْتَذَبَ عَبْدَ اللَّهِ مِنْ تَحْتِ رِجْلِ أَبِيهِ حِينَ وَضَعَهَا عَلَيْهِ لِيَذْبَحَهُ فَيُقَالَ: إِنَّهُ شَجَّ وَجْهَهُ شَجَّا لَمْ يَزَلْ فِي وَجْهِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ، ثُمَّ أَشَارَتْ قُرَيْشٌ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْحِجَازِ فَإِنَّ بِهَا عَرَّافَةً لَهَا تَابِعٌ فَيَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَنْتَ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكَ إِنْ أَمَرَتْكَ بِذَبْحِهِ فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَمَرَتْكَ بِأَمْرٍ لَكَ وَلَهُ فِيهِ مَخْرَجٌ قَبِلْتَهُ.
فَانْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوُا الْمَدِينَةَ فَوَجَدُوا الْعَرَّافَةَ، وَهِيَ سَجَاحُ - فِيمَا ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ - بِخَيْبَرَ فَرَكِبُوا حَتَّى جَاءُوهَا فَسَأَلُوهَا، وَقَصَّ عَلَيْهَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ خَبَرَهُ وَخَبَرَ ابْنِهِ فَقَالَتْ لَهُمُ: ارْجِعُوا عَنِّي الْيَوْمَ حَتَّى يَأْتِيَنِي تَابِعِي فَأَسْأَلُهُ فَرَجَعُوا مِنْ عِنْدِهَا فَلَمَّا خَرَجُوا قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ، ثُمَّ غَدَوْا عَلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُمْ: قَدْ جَاءَنِي الْخَبَرُ كَمِ الدِّيَةُ فِيكُمْ ؟ قَالُوا: عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ. وَكَانَتْ كَذَلِكَ قَالَتْ: فَارْجِعُوا إِلَى بِلَادِكُمْ، ثُمَّ قَرِّبُوا صَاحِبَكُمْ وَقَرِّبُوا عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ اضْرِبُوا عَلَيْهَا وَعَلَيْهِ بِالْقِدَاحِ فَإِنْ

خَرَجَتْ عَلَى صَاحِبِكُمْ فَزِيدُوا مِنَ الْإِبِلِ حَتَّى يَرْضَى رَبُّكُمْ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى الْإِبِلِ فَانْحَرُوهَا عَنْهُ فَقَدْ رَضِيَ رَبُّكُمْ وَنَجَا صَاحِبُكُمْ، فَخَرَجُوا حَتَّى قَدِمُوا مَكَّةَ فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو اللَّهَ، ثُمَّ قَرَّبُوا عَبْدَ اللَّهِ وَعَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَزَادُوا عَشْرًا ثُمَّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَزَادُوا عَشْرًا فَلَمْ يَزَالُوا يَزِيدُونَ عَشْرًا عَشْرًا، وَيَخْرُجُ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى بَلَغَتِ الْإِبِلُ مِائَةً، ثُمَّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى الْإِبِلِ فَقَالَتْ: عِنْدَ ذَلِكَ قُرَيْشٌ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ قَائِمٌ عِنْدَ هُبَلَ يَدْعُو اللَّهَ: قَدِ انْتَهَى رِضَى رَبِّكَ يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ فَزَعَمُوا أَنَّهُ قَالَ: لَا حَتَّى أَضْرِبَ عَلَيْهَا بِالْقِدَاحِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَضَرَبُوا ثَلَاثًا وَيَقَعُ الْقِدْحُ فِيهَا عَلَى الْإِبِلِ فَنُحِرَتْ ثُمَّ تُرِكَتْ لَا يُصَدُّ عَنْهَا إِنْسَانٌ وَلَا يُمْنَعُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالَ: وَلَا سَبْعٌ.
وَيُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا بَلَغَتِ الْإِبِلُ مِائَةً خَرَجَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا فَزَادُوا مِائَةً أُخْرَى حَتَّى بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَزَادُوا مِائَةً أُخْرَى فَصَارَتِ الْإِبِلُ ثَلَاثَمِائَةٍ، ثُمَّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى الْإِبِلِ فَنَحَرَهَا عِنْدَ ذَلِكَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَأَلَتْهُ

امْرَأَةٌ أَنَّهَا نَذَرَتْ ذَبْحَ وَلَدِهَا عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَأَمَرَهَا بِذَبْحِ مِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَذَكَرَ لَهَا هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَسَأَلَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَلَمْ يُفْتِهَا بِشَيْءٍ بَلْ تَوَقَّفَ فَبَلَغَ ذَلِكَ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَمْ يُصِيبَا الْفُتْيَا، ثُمَّ أَمَرَ الْمَرْأَةَ أَنْ تَعْمَلَ مَا اسْتَطَاعَتْ مِنَ الْخَيْرِ، وَنَهَاهَا عَنْ ذَبْحِ وَلَدِهَا، وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِذَبْحِ الْإِبِلِ وَأَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِ مَرْوَانَ بِذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرُ تَزْوِيجِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ مِنْ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ الزُّهْرِيَّةِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ آخِذًا بِيَدِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ فَمَرَّ بِهِ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَهِيَ أُمُّ قَنَّالٍ أُخْتُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَهِيَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَنَظَرَتْ إِلَى وَجْهِهِ فَقَالَتْ: أَيْنَ تَذْهَبُ يَا عَبْدَ اللَّهِ ؟ قَالَ: مَعَ أَبِي قَالَتْ: لَكَ مِثْلُ الْإِبِلِ الَّتِي نُحِرَتْ عَنْكَ وَقَعْ عَلَيَّ الْآنَ. قَالَ: أَنَا مَعَ أَبِي وَلَا أَسْتَطِيعُ خِلَافَهُ وَلَا فِرَاقَهُ. فَخَرَجَ بِهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَتَّى أَتَى وَهْبَ بْنَ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ بَنِي زُهْرَةَ سِنًّا وَشَرَفًا فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدَةُ نِسَاءِ قَوْمِهَا فَزَعَمُوا أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا حِينَ أُمْلِكَهَا مَكَانَهُ فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ مِنْهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا فَأَتَى الْمَرْأَةَ الَّتِي عَرَضَتْ عَلَيْهِ مَا عَرَضَتْ فَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ لَا تَعْرِضِينَ عَلَيَّ الْيَوْمَ مَا كُنْتِ عَرَضْتِ بِالْأَمْسِ ؟ قَالَتْ لَهُ: فَارَقَكَ النُّورُ الَّذِي كَانَ مَعَكَ بِالْأَمْسِ،

فَلَيْسَ لِي بِكَ الْيَوْمَ حَاجَةٌ. وَقَدْ كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ أَخِيهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ - وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ، وَاتَّبَعَ الْكُتُبَ - أَنَّهُ كَائِنٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ نَبِيٌّ فَطَمِعَتْ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَشْرَفِ عُنْصُرٍ وَأَكْرَمِ مَحْتَدٍ، وَأَطْيَبِ أَصْلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [ الْأَنْعَامِ: 124 ] وَسَنَذْكُرُ الْمَوْلِدَ مُفَصَّلًا.
وَمِمَّا قَالَتْ أُمُّ قَنَّالٍ بِنْتُ نَوْفَلٍ مِنَ الشِّعْرِ تَتَأَسَّفُ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي رَامَتْهُ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ:
عَلَيْكَ بَآلِ زُهْرَةَ حَيْثُ كَانُوا وَآمِنَةَ الَّتِي حَمَلَتْ غُلَامَا تَرَى الْمَهْدِيَّ حِينَ نَزَا عَلَيْهَا
وَنُورًا قَدْ تَقَدَّمَهُ أَمَامَا
إِلَى أَنْ قَالَتْ
فَكُلُّ الْخَلْقِ يَرْجُوهُ جَمِيعًا يَسُودُ النَّاسَ مُهْتَدِيًا إِمَامَا
بَرَاهُ اللَّهُ مِنْ نُورٍ صَفَاءً فَأَذْهَبَ نُورُهُ عَنَّا الظَّلَامَا
وَذَلِكَ صُنْعُ رَبِّكَ إِذْ حَبَاهُ إِذَا مَا سَارَ يَوْمًا أَوْ أَقَامَا

فَيَهْدِي أَهْلَ مَكَّةَ بَعْدَ كُفْرٍ وَيَفْرِضُ بَعْدَ ذَلِكُمُ الصِّيَامَا
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سَهْلٍ الْخَرَائِطِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْقُرَشِيُّ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا انْطَلَقَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ لِيُزَوِّجَهُ مَرَّ بِهِ عَلَى كَاهِنَةٍ مِنْ أَهْلِ تَبَالَةَ مُتَهَوِّدَةٍ قَدْ قَرَأَتِ الْكُتُبَ يُقَالَ لَهَا: فَاطِمَةُ بِنْتُ مُرٍّ الْخَثْعَمِيَّةُ فَرَأَتْ نُورَ النُّبُوَّةِ فِي وَجْهِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَتْ: يَا فَتَى هَلْ لَكَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ الْآنَ، وَأُعْطِيكَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ:
أَمَّا الْحَرَامُ فَالْمَمَاتُ دُونَهْ وَالْحِلُّ لَا حِلٌّ فَأَسْتَبِينَهْ
فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ الَّذِي تَبْغِينَهْ يَحْمِي الْكَرِيمُ عِرْضَهُ وَدِينَهْ
ثُمَّ مَضَى مَعَ أَبِيهِ فَزَوَّجَهُ آمِنَةَ بَنْتَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ فَأَقَامَ عِنْدَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّ نَفْسَهُ دَعَتْهُ إِلَى مَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ الْكَاهِنَةُ فَأَتَاهَا فَقَالَتْ: مَا صَنَعْتَ بَعْدِي ؟ فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَنَا بِصَاحِبَةِ رِيبَةٍ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ فِي وَجْهِكَ نُورًا فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ فِيَّ، وَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ حَيْثُ أَرَادَ، ثُمَّ أَنْشَأَتْ فَاطِمَةُ تَقُولُ:
إِنِّي رَأَيْتُ مُخِيلَةً لَمَعَتْ فَتَلَأْلَأَتْ بِحَنَاتِمِ الْقَطْرِ

فَلَمَأْتُهَا نُورًا يُضِيءُ لَهُ مَا حَوْلَهُ كَإِضَاءَةِ الْبَدْرِ
وَرَجَوْتُهَا فَخْرًا أَبُوءُ بِهِ مَا كُلُّ قَادِحِ زَنْدِهِ يُورِي
لَلَّهِ مَا زُهْرِيَّةٌ سَلَبَتْ ثَوْبَيْكَ مَا اسْتَلَبَتْ وَمَا تَدْرِي
وَقَالَتْ فَاطِمَةُ أَيْضًا:
بَنِي هَاشِمٍ قَدْ غَادَرَتْ مِنْ أَخِيكُمْ أَمِينَةُ إِذْ لِلْبَاهِ يَعْتَرِكَانِ
كَمَا غَادَرَ الْمِصْبَاحَ عِنْدَ خُمُودِهِ فَتَائِلُ قَدْ مِيثَتْ لَهُ بِدِهَانِ
وَمَا كُلُّ ما يَحْوِي الْفَتَى مِنْ تِلَادِهِ بَحَزْمٍ وَلَا مَا فَاتَهُ لِتَوَانِي
فَأَجْمِلْ إِذَا طَالَبْتَ أَمْرًا فَإِنَّهُ سَيَكْفِيكَهُ جِدَّانِ يَعْتَلِجَانِ
سَيَكْفِيكَهُ إِمَّا يِدٌ مُقْفَعِلَّةٌ وَإِمَّا يَدٌ مَبْسُوطَةٌ بِبَنَانِ
وَلَمَّا حَوَتْ مِنْهُ أَمِينَةُ مَا حَوَتْ حَوَتْ مِنْهُ فَخْرًا مَا لِذَلِكَ ثَانِ
.
وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عِمْرَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي عَوْنٍ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ قَدِمَ الْيَمَنَ فِي رِحْلَةِ الشِّتَاءِ فَنَزَلَ عَلَى حَبْرٍ مِنَ الْيَهُودِ قَالَ: فَقَالَ

لِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الزَّبُورِ: يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى بَعْضِكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْرَةً، قَالَ: فَفَتَحَ إِحْدَى مَنْخَرَيَّ فَنَظَرَ فِيهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي الْآخَرِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ فِي إِحْدَى يَدَيْكَ مُلْكًا وَفِي الْأُخْرَى نُبُوَّةً، وَإِنَّا نَجِدُ ذَلِكَ فِي بَنِي زُهْرَةَ فَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي قَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ شَاعَةٍ ؟ قُلْتُ: وَمَا الشَّاعَةُ ؟ قَالَ: زَوْجَةٌ قُلْتُ: أَمَّا الْيَوْمُ فَلَا. قَالَ: فَإِذَا رَجَعْتَ فَتَزَوَّجْ فِيهِمْ فَرَجَعَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَتَزَوَّجَ هَالَةَ بِنْتَ وُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ فَوَلَدَتْ حَمْزَةَ وَصْفِيَّةَ، ثُمَّ تَزَوَّجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ فَوَلَدَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ حِينَ تَزَوَّجَ عَبْدُ اللَّهِ بِآمِنَةَ: فَلَجَ أَيْ فَازَ، وَغَلَبَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى أَبِيهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كِتَابُ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذِكْرُ أَيَّامِهِ وَغَزَوَاتِهِ وَسَرَايَاهُ وَالْوُفُودِ إِلَيْهِ وَشَمَائِلِهِ وَفَضَائِلِهِ وَدَلَائِلِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ،
بَابُ ذِكْرِ نَسَبِهِ الشَّرِيفِ، وَطِيبِ أَصْلِهِ الْمُنِيفِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [ الْأَنْعَامِ: 124 ] وَلَمَّا سَأَلَ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ أَبَا سُفْيَانَ تِلْكَ الْأَسْئِلَةَ عَنْ صِفَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ قَالَ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ: كَذَلِكَ الرُّسُلُ تَبْعَثُ فِي أَنْسَابِ قَوْمِهَا. يَعْنِي: فِي أَكْرَمِهَا أَحْسَابًا، وَأَكْثَرِهَا قَبِيلَةً صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
فَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَفَخْرُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَبُو الْقَاسِمِ وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ مُحَمَّدُ وَأَحْمَدُ وَالْمَاحِي الَّذِي يُمْحَى بِهِ الْكُفْرُ وَالْعَاقِبُ الَّذِي مَا بَعْدَهُ نَبِيٌّ وَالْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَالْمُقَفَّى وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ

وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْفَاتِحُ وَطه وَيس وَعَبْدُ اللَّهِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَزَادَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ: سَمَّاهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ رَسُولًا نَبِيًّا أُمِّيًّا شَاهِدًا مُبَشِّرًا نَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَرَءُوفًا رَحِيمًا وَمُذَكِّرًا، وَجَعَلَهُ رَحْمَةً وَنِعْمَةً وَهَادِيًا.
وَسَنُورِدُ الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ فِي أَسْمَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي بَابٍ نَعْقِدُهُ بَعْدَ فَرَاغِ السِّيرَةِ فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ، اعْتَنَى بِجَمْعِهَا الْحَافِظَانِ الْكَبِيرَانِ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، وَأَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَأَفْرَدَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ مُؤَلَّفَاتٍ حَتَّى رَامَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَلْفَ اسْمٍ. وَأَمَّا الْفَقِيهُ الْكَبِيرُ أَبُو بَكْرِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ شَارِحُ التِّرْمِذِيِّ بِكِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ الْأَحْوَذِيَّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةً وَسِتِّينَ اسْمًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ أَصْغَرَ وَلَدِ أَبِيهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ الذَّبِيحُ الثَّانِي الْمَفْدِىُّ بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَكَانَ أَجْمَلَ رِجَالِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ أَخُو الْحَارِثِ وَالزُّبَيْرِ وَحَمْزَةَ وَضِرَارٍ وَأَبِي طَالِبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ وَأَبِي لَهَبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى

وَالْمُقَوَّمِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْكَعْبَةِ، وَقِيلَ هُمَا اثْنَانِ، وَحَجْلٍ وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ وَالْغَيْدَاقِ وَهُوَ كَثِيرُ الْجُودِ، وَاسْمُهُ نَوْفَلٌ، وَيُقَالَ: إِنَّهُ حَجْلٌ وَالْعَبَّاسِ فَهَؤُلَاءِ أَعْمَامُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَمَّاتُهُ سِتٌّ; وَهُنَّ أَرْوَى وَبَرَّةُ وَأُمَيْمَةُ وَصَفِيَّةُ وَعَاتِكَةُ وَأُمُّ حَكِيمٍ وَهِيَ الْبَيْضَاءُ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَهَؤُلَاءِ أَوْلَادُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاسْمُهُ شَيْبَةُ يُقَالَ: لِشَيْبَةٍ كَانَتْ فِي رَأْسِهِ، وَيُقَالَ لَهُ: شَيْبَةُ الْحَمْدِ لِجُودِهِ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: عَبْدُ الْمُطَّلِبِ; لِأَنَّ أَبَاهُ هَاشِمًا لَمَّا مَرَّ بِالْمَدِينَةِ فِي تِجَارَتِهِ إِلَى الشَّامِ نَزَلَ عَلَى عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ لَبِيدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ خِدَاشِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ الْخَزْرَجِيِّ النَّجَّارِيِّ وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ فَأَعْجَبَتْهُ ابْنَتُهُ سَلْمَى فَخَطَبَهَا إِلَى أَبِيهَا فَزَوَّجَهَا مِنْهُ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ مُقَامَهَا عِنْدَهُ.
وَقِيلَ: بَلِ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا تَلِدَ إِلَّا عِنْدَهُ بِالْمَدِينَةِ فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الشَّامِ بَنَى بِهَا وَأَخَذَهَا مَعَهُ إِلَى مَكَّةَ فَلَمَّا خَرَجَ فِي تِجَارَةٍ أَخَذَهَا مَعَهُ وَهِيَ حُبْلَى فَتَرَكَهَا بِالْمَدِينَةِ، وَدَخَلَ الشَّامَ فَمَاتَ بِغَزَّةَ، وَوَضَعَتْ سَلْمَى وَلَدَهَا فَسَمَّتْهُ شَيْبَةُ فَأَقَامَ عِنْدَ أَخْوَالِهِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَ عَمُّهُ الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ فَأَخَذَهُ خُفْيَةً مِنْ أُمِّهِ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ فَلَمَّا رَآهُ النَّاسُ وَرَأَوْهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قَالُوا: مَنْ هَذَا مَعَكَ ؟ فَقَالَ: عَبْدِي. ثُمَّ جَاءُوا فَهَنَّئُوهُ بِهِ وَجَعَلُوا يَقُولُونَ لَهُ: عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِذَلِكَ فَغَلَبَ عَلَيْهِ وَسَادَ

فِي قُرَيْشٍ سِيَادَةً عَظِيمَةً، وَذَهَبَ بِشَرَفِهِمْ وَرِئَاسَتِهِمْ فَكَانَ جِمَاعُ أَمْرِهِمْ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ إِلَيْهِ السِّقَايَةُ وَالرِّفَادَةُ بَعْدَ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ الَّذِي جَدَّدَ حَفْرَ زَمْزَمَ بَعْدَمَا كَانَتْ مَطْمُومَةً مَنْ عَهْدِ جُرْهُمٍ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حَلَّى الْكَعْبَةَ بِذَهَبٍ فِي أَبْوَابِهَا مِنْ تَيْنَكَ الْغَزَالَتَيْنِ اللَّتَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ وَجَدَهُمَا فِي زَمْزَمَ مَعَ تِلْكَ الْأَسْيَافِ الْقَلْعِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَخُو أَسَدٍ وَنَضْلَةَ وَأَبِي صَيْفِيٍّ وَحَيَّةَ وَخَالِدَةَ وَرُقَيَّةَ وَالشِّفَاءِ وَضَعِيفَةَ، كُلُّهُمْ أَوْلَادُ هَاشِمٍ وَاسْمُهُ عَمْرٌو وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَاشِمًا; لَهَشْمِهِ الثَّرِيدَ مَعَ اللَّحْمِ لِقَوْمِهِ فِي سِنِي الْمَحْلِ، كَمَا قَالَ مَطْرُودُ بْنُ كَعْبٍ الْخُزَاعِيُّ فِي قَصِيدَتِهِ، وَقِيلَ: هِيَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى:
عَمْرُو الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ قَوْمٍ بمَكَّةَ مُسْنِتِينَ عِجَافِ سُنَّتْ إِلَيْهِ الرِّحْلَتَانِ كِلَاهُمَا سَفَرُ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةُ الْأَصْيَافِ
وَذَلِكَ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ رِحْلَتَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِيهِ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ كَانَ تَوءَمَ أَخِيهِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَأَنَّ هَاشِمًا خَرَجَ وَرِجْلُهُ

مُلْتَصِقَةٌ بِرَأْسِ عَبْدِ شَمْسٍ فَمَا تَخَلَّصَتْ حَتَّى سَالَ بَيْنَهُمَا دَمٌ فَقَالَ النَّاسُ: بِذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَ أَوْلَادِهِمَا حُرُوبٌ فَكَانَتْ وَقْعَةُ بَنِي الْعَبَّاسِ مَعَ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَشَقِيقُهُمُ الثَّالِثُ الْمُطَّلِبُ وَكَانَ الْمُطَّلِبُ أَصْغَرَ وَلَدِ أَبِيهِ، وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرَّةَ بْنِ هِلَالٍ، وَرَابِعُهُمْ نَوْفَلٌ مِنْ أُمٍّ أُخْرَى، وَهِيَ وَاقِدَةُ بِنْتُ عَمْرٍو الْمَازِنِيَّةُ كَانُوا قَدْ سَادُوا قَوْمَهُمْ بَعْدَ أَبِيهِمْ، وَصَارَتْ إِلَيْهِمُ الرِّيَاسَةُ وَكَانَ يُقَالَ لَهُمْ: الْمُجِيرُونَ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا لِقَوْمِهِمْ قُرَيْشٍ الْأَمَانَ مِنْ مُلُوكِ الْأَقَالِيمِ; لِيَدْخُلُوا فِي التِّجَارَاتِ إِلَى بِلَادِهِمْ فَكَانَ هَاشِمٌ قَدْ أَخَذَ أَمَانًا مِنْ مُلُوكِ الشَّامِ وَالرُّومِ وَغَسَّانَ وَأَخْذَ لَهُمْ عَبْدُ شَمْسٍ مِنَ النَّجَاشِيِّ الْأَكْبَرِ مَلِكِ الْحَبَشَةِ وَأَخَذَ لَهُمْ نَوْفَلٌ مِنَ الْأَكَاسِرَةِ وَأَخْذَ لَهُمُ الْمُطَّلِبُ أَمَانًا مِنْ مُلُوكِ حِمْيَرَ، وَلَهُمْ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُحَوِّلُ رَحْلَهُ ألَّا نَزَلْتَ بَآلِ عِبْدِ مَنَافِ وَكَانَ إِلَى هَاشِمٍ السِّقَايَةُ وَالرِّفَادَةُ بَعْدَ أَبِيهِ، وَإِلَيْهِ وَإِلَى أَخِيهِ الْمُطَّلِبِ نَسَبُ ذَوِي الْقُرْبَى، وَقَدْ كَانُوا شَيْئًا وَاحِدًا فِي حَالَتِيِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ لَمْ يَفْتَرِقُوا، وَدَخَلُوا مَعَهُمْ فِي الشِّعْبِ، وَانْخَذَلَ عَنْهُمْ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَنَوْفَلٍ، وَلِهَذَا يَقُولُ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ:
جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا عُقُوبَةَ شَرٍّ عَاجِلًا غَيْرَ آجَلٍ وَلَا يُعْرَفُ بَنُو أَبٍ تَبَايَنُوا فِي الْوَفَاةِ مِثْلُهُمْ فَإِنَّ هَاشِمًا مَاتَ بِغَزَّةَ مِنْ أَرْضِ

الشَّامِ، وَعَبْدَ شَمْسٍ مَاتَ بِمَكَّةَ، وَنَوْفَلًا مَاتَ بِسَلْمَانَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، وَمَاتَ الْمُطَّلِبُ - وَكَانَ يُقَالَ لَهُ: الْقَمَرُ لِحُسْنِهِ - بِرَدْمَانَ مِنْ طَرِيقِ الْيَمَنِ فَهَؤُلَاءِ الْإِخْوَةُ الْأَرْبَعَةُ الْمَشَاهِيرُ وَهُمْ; هَاشِمٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ وَنَوْفَلٌ وَالْمُطَّلِبُ، وَلَهُمْ أَخٌ خَامِسٌ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ وَهُوَ أَبُو عَمْرٍو وَاسْمُهُ عَبْدٌ، وَأَصْلُ اسْمِهِ عَبْدُ قُصَيٍّ فَقَالَ النَّاسُ: عَبْدُ بْنُ قُصَيٍّ دَرَجَ وَلَا عَقِبَ لَهُ. قَالَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَغَيْرُهُ. وَأَخَوَاتٌ سِتٌّ وَهُنَّ; تُمَاضِرُ وَحَيَّةُ وَرَيْطَةُ وَقِلَابَةُ وَأُمُّ الْأَخْثَمِ وَأُمُّ سُفْيَانَ، كُلُّ هَؤُلَاءِ أَوْلَادُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَمُنَافٌ اسْمُ صَنَمٍ، وَأَصْلُ اسْمِ عَبْدِ مَنَافٍ الْمُغِيرَةُ وَكَانَ قَدْ رَأَسَ فِي زَمَنِ وَالِدِهِ، وَذَهَبَ بِهِ الشَّرَفُ كُلَّ مَذْهَبٍ، وَهُوَ أَخُو عَبْدِ الدَّارِ الَّذِي كَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِيهِ، وَإِلَيْهِ أَوْصَى بِالْمَنَاصِبِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَعَبْدِ الْعُزَّى وَعَبْدٍ وَبَرَّةَ وَتَخْمُرَ، وَأُمُّهُمْ كُلِّهِمْ حُبَّى بَنَتُ حَلِيلِ بْنِ حَبْشِيَّةَ بْنِ سَلُولِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيِّ، وَأَبُوهَا آخِرُ مُلُوكِ خُزَاعَةَ وَوُلَاةُ الْبَيْتِ مِنْهُمْ، وَكُلُّهُمْ أَوْلَادُ قُصَيٍّ وَاسْمُهُ زَيْدٌ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ; لِأَنَّ أُمَّهُ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ أَبِيهِ بِرَبِيعَةَ بْنِ حَرَامِ بْنِ عُذْرَةَ فَسَافَرَ بِهَا إِلَى بِلَادِهِ وَابْنُهَا صَغِيرٌ فَسُمِّيَ قُصَيًّا لِذَلِكَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ وَهُوَ كَبِيرٌ، وَلَمَّ شَعَثَ قُرَيْشٍ وَجَمَعَهَا مِنْ مُتَفَرِّقَاتِ الْبِلَادِ، وَأَزَاحَ يَدَ خُزَاعَةَ عَنِ الْبَيْتِ

وَأَجْلَاهُمْ عَنْ مَكَّةَ، وَرَجَعَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ، وَصَارَ رَئِيسَ قُرَيْشٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَكَانَتْ إِلَيْهِ الرِّفَادَةُ وَهُوَ سَنَّهَا وَالسِّقَايَةُ وَالسَّدَانَةُ وَالْحِجَابَةُ وَاللِّوَاءُ، وَدَارُهُ دَارُ النَّدْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ كُلِّهُ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قُصَيٌّ لَعَمْرِي كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرٍ وَهُوَ أَخُو زُهْرَةَ كِلَاهُمَا ابْنَا كِلَابٍ أَخِي تَيْمٍ، وَيَقَظَةَ أَبِي مَخْزُومٍ ثَلَاثَتُهُمْ أَبْنَاءُ مُرَّةَ أَخِي عَدِيٍّ وَهُصَيْصٍ، وَهُمْ أَبْنَاءُ كَعْبٍ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَخْطُبُ قَوْمَهُ كُلَّ جُمُعَةٍ، وَيُبَشِّرُهُمْ بِمَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُنْشِدُ فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا كَمَا قَدَّمَنَا وَهُوَ أَخُو عَامِرٍ وَسَامَةَ وَخُزَيْمَةَ وَسَعْدٍ وَالْحَارِثِ وَعَوْفٍ، سَبْعَتُهُمْ أَبْنَاءُ لُؤَيٍّ أَخِي تَيْمٍ الْأَدْرَمِ، وَهُمَا أَبْنَاءُ غَالِبٍ أَخِي الْحَارِثِ، وَمُحَارِبٍ ثَلَاثَتُهُمْ أَبْنَاءُ فِهْرٍ، وَهُوَ أَخُو الْحَارِثِ، وَكِلَاهُمَا ابْنُ مَالِكٍ وَهُوَ أَخُو الصَّلْتِ وَيَخْلُدَ، وَهُمْ بَنُو النَّضْرِ الَّذِي إِلَيْهِ جِمَاعُ قُرَيْشٍ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا قَدَّمْنَا الدَّلِيلَ عَلَيْهِ وَهُوَ أَخُو مَالِكٍ وَمِلْكَانَ وَعَبْدِ مَنَاةَ، وَغَيْرِهِمْ، كُلُّهُمْ أَوْلَادُ كِنَانَةَ أَخِي أَسَدٍ وَأَسَدَةَ وَالْهَوْنِ أَوْلَادِ خُزَيْمَةَ، وَهُوَ أَخُو هُذَيْلٍ، وَهُمَا ابْنَا مُدْرِكَةَ - وَاسْمُهُ عَمْرٌو أَخُو طَابِخَةَ

- وَاسْمُهُ عَامِرٌ - وَقَمَعَةَ ثَلَاثَتُهُمْ أَبْنَاءُ إِلْيَاسَ، وَأَخُو إِلْيَاسَ هُوَ عَيْلَانُ وَالِدُ قَيْسٍ كُلِّهَا وَهُمَا وَلَدَا مُضَرَ أَخِي رَبِيعَةَ، وَيُقَالَ لَهُمَا: الصَّرِيحَانِ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَأَخَوَاهُمَا أَنْمَارٌ وَإِيَادٌ تَيَامَنَا، أَرْبَعَتُهُمْ أَبْنَاءُ نِزَارٍ أَخِي قُضَاعَةَ - فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قُضَاعَةَ حِجَازِيَّةٌ عَدْنَانِيَّةٌ - وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، كِلَاهُمَا أَبْنَاءُ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.
وَهَذَا النَّسَبُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَجَمِيعُ قَبَائِلِ عَرَبِ الْحِجَازِ يَنْتَهُونَ إِلَى هَذَا النَّسَبِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنَى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ [ الشُّورَى: 23 ] لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ، إِلَّا وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسَبٌ يَتَّصِلُ بِهِمْ. وَصَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا قَالَ، وَأَزْيَدَ مِمَّا قَالَ; وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الْعَدْنَانِيَّةِ تَنْتَهِي إِلَيْهِ بِالْآبَاءِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالْأُمَّهَاتِ أَيْضًا، كَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ فِي أُمَّهَاتِهِ وَأُمَّهَاتِ آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِمْ، مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَقَدْ حَرَّرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَرْجَمَةِ عَدْنَانَ، نَسَبَهُ وَمَا قِيلَ فِيهِ، وَأَنَّهُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ لَا مَحَالَةَ، وَإِنِ اخْتُلِفَ فِي كَمْ بَيْنَهُمَا أَبًا ؟ عَلَى أَقْوَالٍ قَدْ بَسَطْنَاهَا

فِيمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا بَقِيَّةَ النَّسَبِ مَنْ عَدْنَانَ إِلَى آدَمَ، وَأَوْرَدْنَا قَصِيدَةَ أَبِي الْعَبَّاسِ النَّاشِئِ الْمُتَضَمِّنَةَ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ فِي أَخْبَارِ عَرَبِ الْحِجَازِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَوَّلِ تَارِيخِهِ عَلَى ذَلِكَ كَلَامًا مَبْسُوطًا جَيِّدًا مُحَرَّرًا نَافِعًا. وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ فِي انْتِسَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى عَدْنَانَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَلَكِنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الْمُقْرِئُ بِبَغْدَادَ حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى بَكَّارُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَكَّارٍ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ إِمْلَاءً سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ الْقَلَانِسِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ الْقُدَامِيُّ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: بَلَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رِجَالًا مِنْ كِنْدَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مِنْهُ وَأَنَّهُ مِنْهُمْ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ لِيَأْمَنَا بِذَلِكَ، وَإِنَّا لَنْ نَنْتَفِيَ مِنْ آبَائِنَا نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ قَالَ: وَخَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ

بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضِرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ وَمَا افْتَرَقَ النَّاسُ فِرْقَتَيْنِ إِلَّا جَعَلَنِي اللَّهُ فِي خَيْرِهَا فَأُخْرِجْتُ مِنْ بَيْنِ أَبَوِيَّ فَلَمْ يُصِبْنِي شَيْءٌ مِنْ عُهْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَخَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ، مِنْ لَدُنْ آدَمَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى أَبِي وَأُمِّي فَأَنَا خَيْرُكُمْ نَفْسًا وَخَيْرَكُمْ أَبًا.
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ تَفَرَّدَ بِهِ الْقُدَامِىُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَكِنْ سَنَذْكُرُ لَهُ شَوَاهِدَ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ; فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [ التَّوْبَةِ: 128 ] قَالَ: لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ مِنْ وِلَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ، وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ. وَهَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ

الصَّاغَانِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي بُكَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ أَخْرَجَنِي مِنَ النِّكَاحِ، وَلَمْ يُخْرِجْنِي مِنَ السِّفَاحِ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ مَوْصُولًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْعَدَنِيُّ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي حَدَّثَنِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ، وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى أَنْ وَلَدَنِي أَبِي وَأُمِّي، وَلَمْ يُصِبْنِي مِنْ سِفَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ شَيْءٌ. وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَا يَكَادُ يَصِحُّ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ: حَدَّثَنَا الْمَدِينِيُّ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا وَلَدَنِي مِنْ نِكَاحِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ شَيْءٌ، مَا وَلَدَنِي إِلَّا نِكَاحٌ كَنِكَاحِ الْإِسْلَامِ. وَهَذَا أَيْضًا غَرِيبٌ أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، ثُمَّ أَسْنَدَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمِّهِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ غَيْرِ سِفَاحٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ شَبِيبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [ الشُّعَرَاءِ: 219 ] قَالَ: مِنْ نَبِيٍّ إِلَى نَبِيٍّ حَتَّى أُخْرِجْتُ نَبِيًّا، وَرَوَاهُ عَنْ عَطَاءٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَمِائَةِ أَمٍّ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِنَّ سِفَاحًا وَلَا شَيْئًا مِمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا حَتَّى بُعِثْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ شَدَّادٍ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ

قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ..
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ ( بَلَغَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: مَنْ أَنَا ؟ قَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ فِرْقَةٍ، وَخَلَقَ الْقَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ قَبِيلَةٍ، وَجَعَلَهُمْ بُيُوتًا فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا فَأَنَا خَيْرُكُمْ بَيْتًا، وَخَيْرُكُمْ نَفْسًا. صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا أَبَدًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قُرَيْشًا إِذَا الْتَقَوْا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْبَشَاشَةِ، وَإِذَا لَقُونَا لَقُونَا بِوُجُوهٍ لَا نَعْرِفُهَا فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَدْخُلُ قَلْبَ رَجُلٍ الْإِيمَانُ حَتَّى يُحِبَّكُمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قُرَيْشًا جَلَسُوا فَتَذَاكَرُوا أَحْسَابَهُمْ فَجَعَلُوا مَثَلَكَ كَمَثَلِ نَخْلَةٍ فِي كَبْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَوْمَ خَلَقَ الْخَلْقَ جَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا فَرَّقَهُمْ قَبَائِلَ جَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ قَبِيلَةً، ثُمَّ حِينَ جَعَلَ الْبُيُوتَ جَعَلَنِي فِي خَيْرِ

بُيُوتِهِمْ فَأَنَا خَيْرُهُمْ نَفْسًا وَخَيْرُهُمْ بَيْتًا وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْعَبَّاسَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ الْخَلْقَ قِسْمَيْنِ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمَا قِسْمًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ [ الْوَاقِعَةِ: 27 ] وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ [ الْوَاقِعَةِ: 41 ] فَأَنَا مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَنَا خَيْرُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، ثُمَّ جَعَلَ الْقِسْمَيْنِ أَثْلَاثًا فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهَا ثُلُثًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ [ الْوَاقِعَةِ: 8 ] وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [ الْوَاقِعَةِ: 10 ] فَأَنَا مِنَ السَّابِقِينَ وَأَنَا خَيْرُ السَّابِقِينَ، ثُمَّ جَعَلَ الْأَثْلَاثَ قَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهَا قَبِيلَةً فَذَلِكَ قَوْلُهُ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ الْحُجُرَاتِ: 13 ] وَأَنَا أَتْقَى وَلَدِ آدَمَ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَلَا فَخْرَ، ثُمَّ جَعَلَ الْقَبَائِلَ بُيُوتًا فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهَا بَيْتًا، وَذَلِكَ قَوْلُهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [ الْأَحْزَابِ: 33 ] فَأَنَا وَأَهْلُ بَيْتِي مُطَهَّرُونَ مِنَ الذُّنُوبِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ غَرَابَةٌ، وَنَكَارَةٌ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ ذَكْوَانَ خَالِ وَلَدِ حَمَّادِ بْنِ

زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ إِنَّا لَقُعُودٌ بِفِنَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ مَرَّتْ بِهِ امْرَأَةٌ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: هَذِهِ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَثَلُ مُحَمَّدٍ فِي بَنِي هَاشِمٍ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ فِي وَسَطِ النَّتَنِ فَانْطَلَقَتِ الْمَرْأَةُ فَأَخْبَرَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَالٍ تَبْلُغُنِي عَنْ أَقْوَامٍ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ سَبْعًا فَاخْتَارَ الْعَلْيَاءَ مِنْهَا فَأَسْكَنَهَا مَنْ شَاءَ مَنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ خَلَقَ الْخَلْقَ فَاخْتَارَ مِنَ الْخَلْقِ بَنِي آدَمَ، وَاخْتَارَ مِنْ بَنِي آدَمَ الْعَرَبَ، وَاخْتَارَ مِنَ الْعَرَبِ مُضَرَ، وَاخْتَارَ مِنْ مُضَرَ قُرَيْشًا، وَاخْتَارَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاخْتَارَنِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَأَنَا خِيَارٌ مِنْ خِيَارٍ فَمَنْ أَحَبَّ الْعَرَبَ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَ الْعَرَبَ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ. وَهَذَا أَيْضًا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ وَرَوَى الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ - أَوْ أَبِي سَلَمَةَ - عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ: قَلَبْتُ الْأَرْضَ مِنْ مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا فَلَمْ أَجِدْ رَجُلًا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَقَلَبْتُ

الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ بَنِي أَبٍ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ. قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ، وَإِنْ كَانَ فِي رُوَاتِهَا مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ فَبَعْضُهَا يُؤَكِّدُ بَعْضًا، وَمَعْنَى جَمِيعِهَا يَرْجِعُ إِلَى حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْمَعْنَى يَقُولُ أَبُو طَالِبٍ يَمْتَدِحُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرٍ فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرُّهَا وَصَمِيمُهَا فَإِنْ حُصِّلَتْ أَشْرَافُ عَبْدِ مَنَافِهَا فَفِي هَاشِمٍ أَشْرَافُهَا
وَقَدِيمُهَا وَإِنْ فَخَرَتْ يَوْمًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الْمُصْطَفَى مِنْ سِرِّهَا وَكَرِيمُهَا تَدَاعَتْ قُرَيْشٌ غَثُّهَا وَسَمِينُهَا
عَلَيْنَا فَلَمْ تَظْفَرْ وَطَاشَتْ حُلُومُهَا وَكُنَّا قَدِيمًا لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً إِذَا مَا ثَنَوْا صُعْرَ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا وَنَحْمِي حِمَاهَا كُلَّ يَوْمٍ كَرِيهَةٍ
وَنَضْرِبُ عَنْ أَجْحَارِهَا مَنْ يَرُومُهَا بِنَا انْتَعَشَ الْعُودُ الذَّوَاءُ وَإِنَّمَا بِأَكْنَافِنَا تَنْدَى وَتَنْمَى أُرُومُهَا
وَقَالَ أَبُو السُّكَيْنِ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الطَّائِيُّ فِي الْجُزْءِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ

الْمَشْهُورِ: حَدَّثَنِي عَمُّ أَبِي زَحْرُ بْنُ حِصْنٍ عَنْ جَدِّهِ حُمَيْدِ بْنِ مُنْهِبٍ قَالَ قَالَ جَدِّي خُرَيْمُ بْنُ أَوْسٍ: هَاجَرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ تَبُوكَ فَأَسْلَمْتُ فَسَمِعْتُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْتَدِحَكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَا يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلَالِ وَفِي مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ ثُمَّ هَبَطْتَ الْبِلَادَ لَا بَشَرٌ أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ أَلْجَمَ نَسْرَا وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحَمٍ إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
حَتَّى احْتَوَى بَيْتُكَ الْمُهَيْمِنُ مِنْ خِنْدَفَ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطُقُ وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الْأُفُقُ
فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَاءِ وَفِي ال نُّورِ وَسُبْلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الشِّعْرُ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ فَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ

عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَدِيدِ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ أَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو حُصَيْنٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزَّاهِدُ الْخُرَاسَانِيُّ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بُنَانٍ حَدَّثَنَا سَلَّامُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَكْفُوفُ الْمَدَائِنِيُّ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي أَيْنَ كُنْتَ، وَآدَمُ فِي الْجَنَّةِ ؟ قَالَ: فَتَبَسَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ فِي صُلْبِهِ، وَرُكِبَ بِيَ السَّفِينَةُ فِي صُلْبِ أَبِي نُوحٍ، وَقُذِفَ بِيَ فِي صُلْبِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَلْتَقِ أَبَوَايَ عَلَى سِفَاحٍ قَطُّ، لَمْ يَزَلِ اللَّهُ يَنْقُلُنِي مِنَ الْأَصْلَابِ الْحَسِيبَةِ إِلَى الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ، صِفَتِي مَهْدِيٌّ لَا يَنْشَعِبُ شُعْبَتَانِ إِلَّا كُنْتُ فِي خَيْرِهِمَا وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ بِالنُّبُوَّةِ مِيثَاقِي، وَبِالْإِسْلَامِ عَهَدِي، وَبَشَّرَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ذِكْرِي وَبَيَّنَ كُلُّ نَبِيٍّ صِفَتِي تُشْرِقُ الْأَرْضُ بِنُورِي وَالْغَمَامُ لِوَجْهِي، وَعَلَّمَنِي كِتَابَهُ وَرَوَى بِي سَحَابَهُ، وَشَقَّ لِيَ اسْمًا مَنْ

أَسْمَائِهِ فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَأَنَا مُحَمَّدٌ، وَوَعَدَنِي أَنْ يَحْبُوَنِي بِالْحَوْضِ وَالْكَوْثَرِ، وَأَنْ يَجْعَلَنِي أَوَّلَ شَافِعٍ وَأَوَّلَ مُشَفَّعٍ، ثُمَّ أَخْرَجَنِي مِنْ خَيْرِ قَرْنٍ لِأُمَّتِي، وَهُمُ الْحَمَّادُونَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلَالِ وَفِي مُسْتَوْدَعٍ يَوْمَ يُخْصَفُ الْوَرَقُ ثُمَّ سَكَنْتَ الْبِلَادَ لَا بَشَرٌ أَنْتَ وَلَا نُطْفَةٌ وَلَا عَلَقُ
مُطَهَّرٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ أَلْجَمَ نَسْرًا وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ تُنْقَلُ مِنْ أَصْلُبٍ إِلَى رَحِمٍ إِذَا مَضَى طَبَقٌ بَدَا طَبَقُ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْحَمُ اللَّهُ حَسَانَ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَجَبَتِ الْجَنَّةُ لِحَسَّانَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا قُلْتُ: بَلْ مُنْكَرٌ جِدًّا.
قَالَ: وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَوْرَدَهَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي السَّكَنِ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الطَّائِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ قُلْتُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهَا لِلْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

تَنْبِيهٌ: قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي كِتَابِهِ الشِّفَاءِ: وَأَمَّا أَحْمَدُ الَّذِي أَتَى فِي الْكُتُبِ، وَبَشَّرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَمَنَعَ اللَّهُ بِحِكْمَتِهِ أَنْ يُسَمَّى بِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ وَلَا يُدْعَى بِهِ مَدْعُوٌّ قَبْلَهُ حَتَّى لَا يَدْخُلَ لَبْسٌ عَلَى ضَعِيفِ الْقَلْبِ أَوْ شَكٌّ، وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ لَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ وَلَا غَيْرِهِمْ، إِلَى أَنْ شَاعَ قَبْلَ وُجُودِهِ وَمِيلَادِهِ، أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ فَسَمَّى قَوْمٌ قَلِيلٌ مِنَ الْعَرَبِ أَبْنَاءَهُمْ بِذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ هُوَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتَهُ وَهُمْ; مُحَمَّدُ بْنُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ الْأَوْسِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْبَرَاءِ الْكِنْدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حُمْرَانَ الْجُعْفِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ خُزَاعِيٍّ السُّلَمِيُّ لَا سَابِعَ لَهُمْ، وَيُقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سُمِّيَ مُحَمَّدًا مُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ وَالْيَمَنُ تَقُولُ: بَلْ مُحَمَّدُ بْنُ الْيَحْمُدِ مِنَ الْأَزْدِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ حَمَى كُلَّ مَنْ تَسَمَّى بِهِ أَنْ يَدَّعِيَ النُّبُوَّةَ أَوْ يَدَّعِيَهَا لَهُ أَحَدٌ أَوْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ سَبَبٌ يُشَكِّكُ أَحَدًا فِي أَمْرِهِ حَتَّى تَحَقَّقَتِ السِّمَتَانِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنَازَعْ فِيهِمَا. هَذَا لَفْظُهُ.

بَابُ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وُلِدَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيِّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ؟ فَقَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَأُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَاسْتُنْبِئَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مُهَاجِرًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَرَفَعَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُفَيْرٍ، وَابْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَزَادَ: وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [ الْمَائِدَةِ: 3 ] وَهَكَذَا رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ مُوسَى بْنِ دَاوُدَ بِهِ، وَزَادَ أَيْضًا: وَكَانَتْ،

وَقْعَةُ بَدْرٍ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَمِمَّنْ قَالَ هَذَا يَزِيدُ بْنُ حَبِيبٍ. وَهَذَا مُنْكَرٌ جِدًّا قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ بَدْرًا وَنُزُولَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَصَدَقَ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَرَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَهَكَذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ وَلِدَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ وُلِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَأَبْعَدَ بَلْ أَخْطَأَ مَنْ قَالَ: وُلِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. نَقَلُهُ الْحَافِظُ ابْنُ دِحْيَةَ فِيمَا قَرَأَهُ فِي كِتَابِ إِعْلَامِ الْوَرَى بِأَعْلَامِ الْهُدَى لِبَعْضِ الشِّيعَةِ، ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ دِحْيَةَ فِي تَضْعِيفِهِ وَهُوَ جَدِيرٌ بِالتَّضْعِيفِ; إِذْ هُوَ خِلَافُ النَّصِّ، ثُمَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَقِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ، وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ نَجِيحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدَنِيِّ، وَقِيلَ: لِثَمَانٍ خَلَوْنَ

مِنْهُ. حَكَاهُ الْحُمَيْدِيُّ عَنِ ابْنِ حَزْمٍ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَعُقَيْلٌ وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ وَغَيْرُهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ. وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَصْحَابِ التَّارِيخِ أَنَّهُمْ صَحَّحُوهُ، وَقَطَعَ بِهِ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْخُوَارِزْمِيُّ، وَرَجَّحَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْخَطَّابِ ابْنُ دِحْيَةَ فِي كِتَابِهِ التَّنْوِيرِ فِي مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ. وَقِيلَ: لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْهُ نَقَلَهُ ابْنُ دِحْيَةَ فِي كِتَابِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، وَرَوَاهُ مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ كَمَا مَرَّ، وَقِيلَ: لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عَفَّانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَا عَنْ جَابِرٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا قَالَا: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ بُعِثُ، وَفِيهِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفِيهِ هَاجَرَ، وَفِيهِ مَاتَ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ: لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْهُ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ دِحْيَةَ عَنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ، وَقِيلَ: لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْهُ. نَقَلَهُ ابْنُ دِحْيَةَ مِنْ خَطِّ الْوَزِيرِ أَبِي رَافِعٍ ابْنِ الْحَافِظِ أَبِي مُحَمَّدِ ابْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ وَالصَّحِيحُ

عَنِ ابْنِ حَزْمٍ الْأَوَّلُ; أَنَّهُ لِثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنْهُ. كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْحُمَيْدِيُّ وَهُوَ أَثْبَتُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي; أَنَّهُ وُلِدَ فِي رَمَضَانَ نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَكَانَ مُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي رَمَضَانَ بِلَا خِلَافٍ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ فَيَكُونُ مَوْلِدُهُ فِي رَمَضَانَ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَافِظُ عَنْ خَلَفِ بْنِ مُحَمَّدٍ كُرْدُوسٍ الْوَاسِطِيِّ عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الْبَقَرَةُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى، وَوُلِدَ بِمَكَّةَ بِالدَّارِ الْمَعْرُوفَةِ بِمُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَخِي الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.

وَرَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ مُكْرَمٍ عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ شَرِيكٍ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: حُمِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَاشُورَاءَ الْمُحَرَّمِ، وَوُلِدَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ غَزْوَةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ الْخَيْزُرَانَ، وَهِيَ أَمُّ هَارُونَ الرَّشِيدِ لَمَّا حَجَّتْ أَمَرَتْ بِبِنَاءِ هَذِهِ الدَّارِ مَسْجِدًا فَهُوَ يُعْرَفُ بِهَا الْيَوْمَ.
وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ مَوْلِدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ نِيسَانَ. وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَزْمَانِ وَالْفُصُولِ، وَذَلِكَ لِسَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ لِذِي الْقَرْنَيْنِ فِيمَا ذَكَرَ أَصْحَابُ الزِّيجِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الطَّالِعَ كَانَ لِعِشْرِينَ دَرَجَةً مِنَ الْجَدْيِ وَكَانَ الْمُشْتَرِي وَزُحَلُ مُقْتَرِنَيْنَ فِي ثَلَاثِ دَرَجٍ مِنَ الْعَقْرَبِ، وَهِيَ دَرَجَةٌ وَسْطَ السَّمَاءِ وَكَانَ مُوَافِقًا مِنَ الْبُرُوجِ الْحَمَلَ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الْقَمَرِ أَوَّلَ اللَّيْلِ. نَقَلَهُ كُلَّهُ ابْنُ دِحْيَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مَوْلِدُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَامَ الْفِيلِ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ: وَهُوَ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وُلِدَ عَامَ الْفِيلِ، وَبُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنَ الْفِيلِ.

وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: وُلِدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ، كُنَّا لِدَيْنِ، قَالَ: وَسَأَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُبَاثَ بْنَ أُشْيَمٍ أَخَا بَنِي يَعْمُرَ بْنِ لَيْثٍ: أَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْبَرُ مِنِّي، وَأَنَا أَقْدَمُ مِنْهُ فِي الْمِيلَادِ، وَرَأَيْتُ خَذْقَ الْفِيلِ أَخْضَرَ مُحِيلًا وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ عُكَاظٍ ابْنَ عِشْرِينَ سَنَةً.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَانَ الْفُجَّارُ بَعْدَ الْفِيلِ بِعِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَ بِنَاءُ الْكَعْبَةِ بَعْدَ الْفُجَّارِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَالْمَبْعَثُ بَعْدَ بِنَائِهَا بِخَمْسِ سِنِينَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: كَانَتْ عُكَاظُ بَعْدَ الْفِيلِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبِنَاءُ الْكَعْبَةِ بَعْدَ عُكَاظٍ بِعَشْرِ سِنِينَ وَالْمَبْعَثُ بَعْدَ بِنَائِهَا بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.

وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ الْمَدِينِيِّ حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ مُوسَى عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ يَقُولُ لِقُبَاثِ بْنِ أُشْيَمٍ الْكِنَانِيِّ ثُمَّ اللَّيْثِيِّ: يَا قُبَاثُ أَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْبَرُ مِنِّي، وَأَنَا أَسَنُّ وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ، وَوَقَفَتْ بِي أُمِّي عَلَى رَوْثِ الْفِيلِ مُحِيلًا أَعْقِلُهُ. وَتُنُبِّئَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا نُعَيْمٌ يَعْنِي ابْنَ مَيْسَرَةَ عَنْ بَعْضِهِمْ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا لِدَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وُلِدْتُ عَامَ الْفِيلِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَصْغَرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ النَّوْفَلِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ، وَكَانَتْ بَعْدَهُ عُكَاظٌ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبُنِيَ الْبَيْتُ عَلَى رَأْسِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنَ الْفِيلِ، وَتَنَبَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنَ الْفِيلِ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ عَامَ الْفِيلِ، عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. فَقِيلَ: بَعْدَهُ بِشَهْرٍ، وَقِيلَ: بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: بِخَمْسِينَ يَوْمًا وَهُوَ أَشْهَرُ، وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ كَانَ قُدُومُ الْفِيلِ لِلنِّصْفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَمَوْلِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ بِخَمْسٍ وَخَمْسِينَ لَيْلَةً. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ عَامُ الْفِيلِ قَبْلَ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشْرِ سِنِينَ قَالَهُ ابْنُ أَبْزَى. وَقِيلَ: بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً رَوَاهُ شُعَيْبُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقِيلَ: بَعْدَ الْفِيلِ بِثَلَاثِينَ سَنَةً قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاخْتَارَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا الْعَجْلَانِيُّ: بَعْدَ الْفِيلِ بِأَرْبَعِينَ عَامًا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ حَدَّثَنِي شُعَيْبُ بْنُ حَيَّانَ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْفِيلِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَمُنْكَرٌ، وَضَعِيفٌ أَيْضًا قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ وَالْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وُلِدَ عَامَ الْفِيلِ.

صِفَةُ مَوْلِدِهِ الشَّرِيفِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَدْ تَقَدَّمُ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَمَّا ذَبَحَ تِلْكَ الْإِبِلَ الْمِائَةَ عَنْ وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ حِينَ كَانَ نَذَرَ ذَبْحَهُ فَسَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى; لِمَا كَانَ قُدِّرَ فِي الْأَزَلِ مِنْ ظُهُورِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمِ الرُّسُلِ، وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ فَذَهَبَ كَمَا تَقَدَّمَ فَزَوَّجَهُ أَشْرَفَ عَقِيلَةٍ فِي قُرَيْشٍ، آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةِ الزُّهْرِيَّةَ فَحِينَ دَخَلَ بِهَا، وَأَفْضَى إِلَيْهَا حَمَلَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَتْ أُمُّ قَنَّالٍ رُقَيْقَةُ بِنْتُ نَوْفَلٍ أُخْتُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ تَوَسَّمَتْ مَا كَانَ بَيْنَ عَيْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَ آمِنَةَ مِنَ النُّورِ فَوَدَّتْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِهَا لِمَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ أَخِيهَا مِنَ الْبِشَارَاتِ بِوُجُودٍ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ قَدْ أَزِفَ زَمَانُهُ فَعَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: لِيَتَزَوَّجَهَا وَهُوَ أَظْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَامْتَنَعَ عَلَيْهَا. فَلَمَّا انْتَقَلَ ذَلِكَ النُّورُ الْبَاهِرُ إِلَى آمِنَةَ بِمُوَاقَعَتِهِ إِيَّاهَا كَأَنَّهُ تَنَدَّمَ عَلَى مَا كَانَتْ عَرَضَتْ عَلَيْهِ فَتَعَرَّضَ لَهَا لِتُعَاوِدَهُ فَقَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيكَ، وَتَأَسَّفَتْ عَلَى مَا فَاتَهَا مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْشَدَتْ فِي ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الشِّعْرِ الْفَصِيحِ الْبَلِيغِ، وَهَذِهِ الصِّيَانَةُ لِعَبْدِ اللَّهِ لَيْسَتْ لَهُ، وَإِنَّمَا هِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [ الْأَنْعَامِ: 124 ] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ مِنْ طَرِيقٍ جَيِّدٍ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أُمَّهُ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ تُوُفِّيَ أَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ حَمْلٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، عَلَى الْمَشْهُورِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ هُوَ الْوَاقِدِيُّ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيُّ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ قَالَا: خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى الشَّامِ إِلَى غَزَّةَ فِي عِيرٍ مِنْ عِيرَاتِ قُرَيْشٍ يُحَمِّلُونَهُ تِجَارَاتٍ فَفَرَغُوا مِنْ تِجَارَتِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَمَرُّوا بِالْمَدِينَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَوْمَئِذٍ مَرِيضٌ فَقَالَ: أَتَخَلَّفُ عِنْدَ أَخْوَالِي بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ مَرِيضًا شَهْرًا، وَمَضَى أَصْحَابُهُ فَقَدِمُوا مَكَّةَ فَسَأَلَهُمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَنِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالُوا: خَلَّفْنَاهُ عِنْدَ أَخْوَالِهِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ وَهُوَ مَرِيضٌ فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَكْبَرَ وَلَدِهِ الْحَارِثَ فَوَجَدَهُ قَدْ تُوُفِّيَ وَدُفِنَ فِي دَارِ النَّابِغَةِ فَرَجَعَ إِلَى أَبِيهِ فَأَخْبَرَهُ فَوَجَدَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَإِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ وَجْدًا شَدِيدًا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ حَمْلٌ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَوْمَ تُوُفِّيَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً.

قَالَ الْوَاقِدِيُّ: هَذَا هُوَ أَثْبَتُ الْأَقَاوِيلِ فِي وَفَاةِ عَبْدِ اللَّهِ وَسِنِّهِ عِنْدَنَا. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ إِلَى الْمَدِينَةِ يَمْتَارُ لَهُمْ تَمْرًا فَمَاتَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَقَدْ أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَا: تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بَعْدَمَا أَتَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا، وَقِيلَ: سَبْعَةُ أَشْهُرٍ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ؛ أَنَّهُ تُوُفِّيَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْلٌ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ عَنِ ابْنِ خَرَّبُوذَ قَالَ: تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بِالْمَدِينَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ شَهْرَيْنِ، وَمَاتَتْ أُمُّهُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَمَاتَ جَدُّهُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ فَأَوْصَى بِهِ إِلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَالَّذِي رَجَّحَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَكَاتِبُهُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، تُوُفِّيَ أَبُوهُ وَهُوَ جَنِينٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ. وَهَذَا أَبْلَغُ الْيُتْمِ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ، وَرُؤْيَا أُمَّيِ الَّذِي رَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِي كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانَتْ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ أُمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُحَدِّثُ أَنَّهَا

أُتِيَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهَا: إِنَّكِ قَدْ حَمَلْتِ بِسَيِّدِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِذَا وَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ فَقُولِي: أُعِيذُهُ بِالْوَاحِدْ مِنْ شَرِّ كُلِّ حَاسِدْ فِي كُلِّ بَرٍّ عَامِدْ، وَكُلِّ عَبْدٍ رَائِدْ، نُزُولَ غَيْرِ ذَائِدْ، فَإِنَّهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ الْمَاجِدْ حَتَّى أَرَاهُ قَدْ أَتَى الْمَشَاهِدْ. وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مَعَهُ نُورٌ يَمْلَأُ قُصُورَ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ فَإِذَا وَقَعَ فَسَمِّيهِ مُحَمَّدًا فَإِنَّ اسْمَهُ فِي التَّوْرَاةِ أَحْمَدُ يَحْمَدُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، وَاسْمَهُ فِي الْإِنْجِيلِ أَحْمَدُ يَحْمَدُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الْأَرْضِ، وَاسْمَهُ فِي الْقُرْآنِ مُحَمَّدٌ. وَهَذَا وَذَاكَ يَقْتَضِي أَنَّهَا رَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ، ثُمَّ لَمَّا، وَضَعَتْهُ رَأَتْ عِيَانًا تَأْوِيلَ ذَلِكَ كَمَا رَأَتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ هَاهُنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ هُوَ الْوَاقِدِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ أَخِيهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ ح، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

جَعْفَرٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ عَمَّتِهِ أُمِّ بَكْرٍ بِنْتِ الْمِسْوَرِ عَنْ أَبِيهَا، ح وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَدَنِيُّ، وَزِيَادُ بْنُ حَشْرَجٍ عَنْ أَبِي، وَجْزَةَ ح، وَحَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ح، وَحَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ - أَنَّ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ قَالَتْ: لَقَدْ عَلِقْتُ بِهِ - تَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا وَجَدْتُ لَهُ مَشَقَّةً حَتَّى وَضَعْتُهُ فَلَمَّا فَصَلَ مِنِّي خَرَجَ مَعَهُ نُورٌ أَضَاءَ لَهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ ثُمَّ وَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ مُعْتَمِدًا عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَقَبَضَهَا، وَرَفَعَ رَأَسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَعَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَخَرَجَ مَعَهُ نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ، وَأَسْوَاقُهَا حَتَّى رَأَيْتُ أَعْنَاقَ الْإِبِلِ بِبُصْرَى رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ مُبَشِّرُ بْنُ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي سُوَيْدٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ حَدَّثَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا شَهِدَتْ، وِلَادَةَ آمِنَةَ

بِنْتِ وَهْبٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ وَلَدَتْهُ قَالَتْ: فَمَا شَيْءٌ أَنْظُرُ إِلَيْهِ فِي الْبَيْتِ إِلَّا نُورٌ، وَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى النُّجُومِ تَدْنُو حَتَّى إِنِّي لِأَقُولُ لَيَقَعْنَ عَلَيَّ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنِ الشِّفَاءِ أُمِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهَا كَانَتْ قَابِلَتَهُ، وَأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِهِ حِينَ سَقَطَ عَلَى يَدَيْهَا، وَاسْتَهَلَّ سَمِعَتْ قَائِلًا يَقُولُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ. وَإِنَّهُ سَطَعَ مِنْهُ نُورٌ رُئِيَتْ مِنْهُ قُصُورُ الرُّومِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا، وَضَعَتْهُ بَعَثَتْ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَارِيَتَهَا - وَقَدْ هَلَكَ أَبُوهُ، وَهِيَ حُبْلَى - وَيُقَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ هَلَكَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ - فَقَالَتْ: قَدْ وُلِدَ لَكَ اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَانْظُرْ إِلَيْهِ فَلَمَّا جَاءَهَا، أَخْبَرَتْهُ وَحَدَّثَتْهُ بِمَا كَانَتْ رَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ وَمَا قِيلَ لَهَا فِيهِ وَمَا أُمِرَتْ أَنْ تُسَمِّيَهُ فَأَخَذَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى هُبَلَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو وَيَشْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَقُولُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعْطَانِي هَذَا الْغُلَامَ الطَّيِّبَ الْأَرْدَانِ قَدْ سَادَ فِي الْمَهْدِ عَلَى الْغِلْمَانِ
أُعِيذُهُ بِاللَّهِ ذِي الْأَرْكَانِ حَتَّى يَكُونَ بِلُغَةِ الْفِتْيَانِ
حَتَّى أَرَاهُ بَالِغَ الْبُنْيَانِ أُعِيذُهُ مِنْ كُلِّ ذِي شَنَآنِ
مِنْ حَاسِدٍ مُضْطَرِبِ الْعِنَانِ

ذِي هِمَّةٍ لَيْسَ لَهُ عَيْنَانِ
حَتَّى أَرَاهُ رَافِعَ اللِّسَانِ أَنْتَ الَّذِي سُمِّيتَ فِي الْفُرْقَانِ
فِي كُتُبٍ ثَابِتَةِ الْمَثَانِي أَحْمَدَ مَكْتُوبًا عَلَى اللِّسَانِ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَاتِمٍ الدَّارَبْجِرْدِيُّ بِمَرْوٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُوشَنْجِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَلَمَةَ الْخَبَائِرِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيُّ بِمِصْرَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْتُونًا مَسْرُورًا قَالَ: فَأَعْجَبَ جَدَّهُ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ وَحَظِيَ عِنْدَهُ، وَقَالَ: لَيَكُونَنَّ لِابْنِي هَذَا شَأْنٌ فَكَانَ لَهُ شَأْنٌ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمِصِّيصِيِّ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِنْ كَرَامَتِي عَلَى اللَّهِ أَنِّي وُلِدْتُ مَخْتُونًا، وَلَمْ يَرَ سَوْءَتِي أَحَدٌ ثُمَّ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ عَنْ هُشَيْمٍ بِهِ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ هُوَ الْبَاغَنْدِيُّ حَدَّثَنَا

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَيُّوبَ الْحِمْصِيُّ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي مُوسَى الْمَقْدِسِيُّ حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْرُورًا مَخْتُونًا.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْغِطْرِيفِيُّ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَالِكِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَلَمَةَ الْخَبَائِرِيُّ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَطَاءٍ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ قَالَ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْتُونًا مَسْرُورًا فَأَعْجَبَ ذَلِكَ جَدَّهُ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ وَحَظِيَ عِنْدَهُ، وَقَالَ: لَيَكُونَنَّ لِابْنِي هَذَا شَأْنٌ فَكَانَ لَهُ شَأْنٌ. وَقَدِ ادَّعَى بَعْضُهُمْ صِحَّتَهُ لِمَا وَرَدَ لَهُ مِنَ الطُّرُقِ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ، وَفِي هَذَا كُلِّهِ نَظَرٌ. وَمَعْنًى مَخْتُونًا أَيْ: مَقْطُوعَ الْخِتَانِ، وَمَسْرُورًا أَيْ: مَقْطُوعَ السُّرَّةِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُيَيْنَةَ الْبَصَرِيِّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ السُّلَمِيُّ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ مُحَارِبِ بْنِ سَلْمِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ: أَنَّ جِبْرِيلَ خَتَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ

طَهَّرَ قَلْبَهُ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ جَدَّهُ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ خَتَنَهُ، وَعَمِلَ لَهُ دَعْوَةً جَمَعَ قُرَيْشًا عَلَيْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَنْبَأَنِي مُحَمَّدُ بْنُ كَامِلٍ الْقَاضِي شِفَاهًا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَهُ يَعْنِي السُّلَمِيَّ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ أَبِي الْحَكَمِ التَّنُوخِيِّ قَالَ: كَانَ الْمَوْلُودُ إِذَا وُلِدَ فِي قُرَيْشٍ دَفَعُوهُ إِلَى نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى الصُّبْحِ يَكْفَأْنِ عَلَيْهِ بُرْمَةً فَلَمَّا وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى نِسْوَةٍ فَكَفَأْنَ عَلَيْهِ بُرْمَةً فَلَمَّا أَصْبَحْنَ أَتَيْنَ فَوَجَدْنَ الْبُرْمَةَ قَدِ انْفَلَقَتْ عَنْهُ بِاثْنَتَيْنِ، وَوَجَدْنَهُ مَفْتُوحَ الْعَيْنَيْنِ شَاخِصًا بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَأَتَاهُنَّ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَقُلْنَ لَهُ: مَا رَأَيْنَا مَوْلُودًا مِثْلَهُ وَجَدْنَاهُ قَدِ انْفَلَقَتْ عَنْهُ الْبُرْمَةُ، وَوَجَدْنَاهُ مَفْتُوحًا عَيْنَاهُ شَاخِصًا بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: احْفَظْنَهُ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكُونَ لَهُ شَأْنٌ أَوْ أَنْ يُصِيبَ خَيْرًا فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ ذَبَحَ عَنْهُ، وَدَعَا لَهُ قُرَيْشًا فَلَمَّا أَكَلُوا قَالُوا: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ أَرَأَيْتَ ابْنَكَ هَذَا الَّذِي أَكْرَمْتَنَا عَلَى وَجْهِهِ مَا سَمَّيْتَهُ ؟ قَالَ: سَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا. قَالُوا: فَلِمَ رَغِبْتَ بِهِ عَنْ أَسْمَاءِ أَهْلِ بَيْتِهِ ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ يَحْمَدَهُ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ، وَخَلْقُهُ فِي الْأَرْضِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: كُلُّ جَامِعٍ لِصِفَاتِ الْخَيْرِ يُسَمَّى مُحَمَّدًا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ

إِلَيْكَ - أَبِيتَ اللَّعْنَ - أَعْمَلْتُ نَاقَتِي إِلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْكَرِيمِ الْمُحَمَّدِ
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ سَمَّوْهُ مُحَمَّدًا لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ الْحَمِيدَةِ لِيَلْتَقِيَ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ، وَيَتَطَابَقَ الِاسْمُ وَالْمُسَمَّى فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى كَمَا قَالَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَيُرْوَى لِحَسَّانَ
وَشَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ
وَسَنَذْكُرُ أَسْمَاءَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَشَمَائِلَهُ وَهِيَ صِفَاتُهُ الظَّاهِرَةُ، وَأَخْلَاقُهُ الطَّاهِرَةُ، وَدَلَائِلُ نَبُّوَّتِهِ، وَفَضَائِلُ مَنْزِلَتِهِ فِي آخِرِ السِّيرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَيْبَانَ الرَّمْلِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَلَبِيُّ حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَثْرِبِيٍّ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعَانِي إِلَى الدُّخُولِ فِي دِينِكَ، أَمَارَةٌ لِنُبُوَّتِكَ رَأَيْتُكَ فِي الْمَهْدِ تُنَاغِي الْقَمَرَ، وَتُشِيرُ إِلَيْهِ بِأُصْبُعِكَ فَحَيْثُ أَشَرْتَ إِلَيْهِ مَالَ. قَالَ: إِنِّي كُنْتُ أُحَدِّثُهُ وَيُحَدِّثُنِي وَيُلْهِينِي عَنِ الْبُكَاءِ، وَأَسْمَعُ وَجْبَتَهُ حِينَ يَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ. ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ اللَّيْثِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ.

فَصْلٌ
فِيمَا وَقَعَ مِنَ الْآيَاتِ
لَيْلَةَ مَوْلِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ هَوَاتِفِ الْجَانِّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ خُرُورِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَصْنَامِ لَيْلَتَئِذٍ لِوُجُوهِهَا وَسُقُوطِهَا عَنْ أَمَاكِنِهَا وَمَا رَآهُ النَّجَاشِيُّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ، وَظُهُورِ النُّورِ مَعَهُ حَتَّى أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ حِينَ وُلِدَ وَمَا كَانَ مِنْ سُقُوطِهِ جَاثِيًا رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَانْفِلَاقِ تِلْكَ الْبُرْمَةِ عَنْ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَمَا شُوهِدَ مِنَ النُّورِ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ، وَدُنُوِّ النُّجُومِ مِنْهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
حَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ تَفْسِيرِ بَقِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ الْحَافِظِ: أَنَّ إِبْلِيسَ رَنَّ أَرْبَعَ رَنَّاتٍ; حِينَ لُعِنَ، وَحِينَ أُهْبِطَ، وَحِينَ وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحِينَ أُنْزِلَتِ الْفَاتِحَةُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَهُودِيٌّ قَدْ سَكَنَ مَكَّةَ يَتَّجِرُ بِهَا فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةَ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فِي مَجْلِسٍ مِنْ قُرَيْشٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَلْ وُلِدَ

فِيكُمُ اللَّيْلَةَ مَوْلُودٌ ؟ فَقَالَ الْقَوْمُ: وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُهُ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أَمَا إِذَا أَخْطَأَكُمْ فَلَا بَأْسَ، انْظُرُوا وَاحْفَظُوا مَا أَقُولُ لَكُمْ: وُلِدَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْأَخِيرَةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَلَامَةٌ فِيهَا شَعَرَاتٌ مُتَوَاتِرَاتٌ كَأَنَّهُنَّ عُرْفُ فَرَسٍ، لَا يَرْضَعُ لَيْلَتَيْنِ; وَذَلِكَ أَنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي فَمِهِ فَمَنَعَهُ الرَّضَاعَ فَتَصَدَّعَ الْقَوْمُ مِنْ مَجْلِسِهِمْ، وَهُمْ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ قَوْلِهِ وَحَدِيثِهِ فَلَمَّا صَارُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ أَخْبَرَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ أَهْلَهُ فَقَالُوا: قَدْ وَاللَّهِ وُلِدَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ غُلَامٌ سَمَّوْهُ مُحَمَّدًا فَالْتَقَى الْقَوْمُ فَقَالُوا: هَلْ سَمِعْتُمْ حَدِيثَ الْيَهُودِيِّ ؟ وَهَلْ بَلَغَكُمْ مَوْلِدُ هَذَا الْغُلَامِ ؟ فَانْطَلَقُوا حَتَّى جَاءُوا الْيَهُودِيَّ فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ. قَالَ: فَاذْهَبُوا مَعِيَ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ فَخَرَجُوا بِهِ حَتَّى أَدْخَلُوهُ عَلَى آمِنَةَ فَقَالُوا: أَخْرِجِي إِلَيْنَا ابْنَكِ فَأَخْرَجَتْهُ، وَكَشَفُوا لَهُ عَنْ ظَهْرِهِ فَرَأَى تِلْكَ الشَّامَةَ فَوَقَعَ الْيَهُودِيُّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالُوا لَهُ: مَا لَكَ ؟ وَيْلَكَ ! قَالَ: قَدْ ذَهَبَتْ وَاللَّهِ النُّبُوَّةُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَفَرِحْتُمْ بِهَا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ؟ وَاللَّهِ لَيَسْطُوَنَّ بِكُمْ سَطْوَةً يَخْرُجُ خَبَرُهَا مِنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ شِئْتُ مِنْ رِجَالِ قَوْمِي مِمَّنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: إِنِّي لَغُلَامٌ يَفَعَةٌ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ

سِنِينَ أَعْقِلُ مَا رَأَيْتُ وَسَمِعْتُ إِذَا بِيَهُودِيٍّ فِي يَثْرِبَ يَصْرُخُ ذَاتَ غَدَاةٍ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ. فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، وَأَنَا أَسْمَعُ فَقَالُوا: وَيْلَكَ مَا لَكَ ؟ قَالَ: قَدْ طَلَعَ نَجْمُ أَحْمَدَ الَّذِي يُولَدُ بِهِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ، وَرُبَيْحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ يَقُولُ جِئْتُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَوْمًا; لِأَتَحَدَّثَ فِيهِمْ، وَنَحْنُ يَوْمئِذٌ فِي هُدْنَةٍ مِنَ الْحَرْبِ فَسَمِعْتُ يُوشَعَ الْيَهُودِيَّ: يَقُولُ أَظَلَّ خُرُوجُ نَبِيٍّ يُقَالَ لَهُ: أَحْمَدُ يُخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ. فَقَالَ لَهُ خَلِيفَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الْأَشْهَلِيُّ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِهِ مَا صِفَتُهُ ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ لَيْسَ بِالْقَصِيرِ وَلَا بِالطَّوِيلِ فِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ يَلْبَسُ الشَّمْلَةَ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارِ، سَيْفُهُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَهَذَا الْبَلَدَ مُهَاجَرُهُ. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى قَوْمِي بَنِي خُدْرَةَ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ أَتَعَجَّبُ مِمَّا يَقُولُ يُوشَعُ فَأَسْمَعُ رَجُلًا مِنَّا يَقُولُ: وَيُوشَعُ يَقُولُ هَذَا وَحْدَهُ؟! كُلُّ يَهُودَ يَثْرِبَ يَقُولُونَ هَذَا، قَالَ أَبِي مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ: فَخَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَجِدُ جَمْعًا فَتَذَاكَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَاطَا: قَدْ طَلَعَ الْكَوْكَبُ الْأَحْمَرُ الَّذِي لَمْ يَطْلُعْ إِلَّا لِخُرُوجِ نَبِيٍّ وَظُهُورِهِ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا أَحْمَدُ، وَهَذَا مُهَاجَرُهُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَمَّا

قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ أَبِي هَذَا الْخَبَرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَسْلَمَ الزُّبَيْرُ، وَذَوُوهُ مِنْ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ، إِنَّمَا هُمْ لَهُ تَبَعٌ
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ السِّنْدِيِّ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ قَيْسِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أُمِّ سَعْدٍ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يَقُولُ: كَانَ أَحْبَارُ يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، يَذْكُرُونَ صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا طَلَعَ الْكَوْكَبُ الْأَحْمَرُ أَخْبَرُوا أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَاسْمُهُ أَحْمَدُ، وَمُهَاجَرُهُ إِلَى يَثْرِبَ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَنْكَرُوا وَحَسَدُوا وَكَفَرُوا. وَقَدْ أَوْرَدَ هَذِهِ الْقِصَّةَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِهِ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: قَالَ لِي حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الشَّامِ: قَدْ خَرَجَ فِي بَلَدِكَ نَبِيٌّ أَوْ هُوَ خَارِجٌ قَدْ خَرَجَ نَجْمُهُ فَارْجِعْ فَصَدِّقْهُ، وَاتَّبِعْهُ.

ذِكْرُ ارْتِجَاسِ إِيوَانِ كِسْرَى
وَسُقُوطِ الشُّرُفَاتِ، وَخُمُودِ النِّيرَانِ،
وَرُؤْيَا الْمُوبِذَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَاتِ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سَهْلٍ الْخَرَائِطِيُّ فِي كِتَابِ هَوَاتِفِ الْجَانِّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو أَيُّوبَ يَعْلَى بْنُ عِمْرَانَ - مِنْ آلِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ - حَدَّثَنِي مَخْزُومُ بْنُ هَانِئٍ الْمَخْزُومِيُّ عَنْ أَبِيهِ - وَأَتَتْ عَلَيْهِ خَمْسُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ - قَالَ: لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ارْتَجَسَ إِيوَانُ كِسْرَى، وَسَقَطَتْ مِنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً، وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ، وَلَمْ تُخْمَدْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ، وَرَأَى الْمُوبِذَانِ إِبِلًا صِعَابًا تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَةَ، وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهِمْ فَلَمَّا أَصْبَحَ كِسْرَى أَفْزَعَهُ ذَلِكَ فَتَصَبَّرُ عَلَيْهِ تَشَجُّعًا، ثُمَّ رَأَى أَنَّهُ لَا يَدَّخِرُ ذَلِكَ عَنْ مَرَازِبَتِهِ فَجَمَعَهُمْ وَلَبِسَ تَاجَهُ وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ قَالَ: أَتُدْرُونَ فِيمَ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ ؟ قَالُوا: لَا إِلَّا أَنْ يُخْبِرَنَا الْمَلِكُ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ وَرَدَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ بِخُمُودِ النِّيرَانِ فَازْدَادَ غَمًّا إِلَى غَمِّهِ،

ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِمَا رَأَى وَمَا هَالَهُ فَقَالَ الْمُوبِذَانُ: وَأَنَا - أَصْلَحَ اللَّهُ الْمَلِكَ - قَدْ رَأَيْتُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ رُؤْيَا، ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ فِي الْإِبِلِ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ هَذَا يَا مُوبِذَانُ ؟ قَالَ: حَدَثٌ يَكُونُ فِي نَاحِيَةِ الْعَرَبِ وَكَانَ أَعْلَمَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَكَتَبَ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ كِسْرَى مَلِكِ الْمُلُوكِ إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَمَّا بَعْدُ: فَوَجِّهْ إِلَيَّ بِرَجُلٍ عَالِمٍ بِمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهُ فَوَجَّهَ إِلَيْهِ بِعَبْدِ الْمَسِيحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَيَّانَ بْنِ بُقَيْلَةَ الْغَسَّانِيِّ فَلَمَّا وَرَدَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: أَلَكَ عِلْمٌ بِمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ ؟ فَقَالَ: لِتُخْبِرَنِي أَوْ لِيَسْأَلَنِي الْمَلِكُ عَمَّا أَحَبَّ فَإِنْ كَانَ عِنْدِي مِنْهُ عِلْمٌ أَخْبَرْتُهُ، وَإِلَّا أَخْبَرْتُهُ بِمَنْ يَعْلَمُ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَّهَ بِهِ إِلَيْهِ فِيهِ. قَالَ: عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ خَالٍ لِي يَسْكُنُ مَشَارِفَ الشَّامِ يُقَالَ لَهُ: سَطِيحٌ. قَالَ: فَائْتِهِ فَاسْأَلْهُ عَمَّا سَأَلَتُكَ عَنْهُ، ثُمَّ ائْتِنِي بِتَفْسِيرِهِ فَخَرَجَ عَبْدُ الْمَسِيحِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَطِيحٍ، وَقَدْ أَشَفَى عَلَى الضَّرِيحِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَكَلَّمَهُ فَلَمْ يَرُدَّ إِلَيْهِ سَطِيحٌ جَوَابًا فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَصُمَّ أَمْ يَسْمَعُ غِطْرِيفُ الْيَمَنْ أَمْ فَادَ فَازْلَمَّ بِهِ شَأْوُ الْعَنَنْ يَا فَاصِلَ الْخُطَّةِ أَعْيَتْ مَنْ وَمَنْ
وَكَاشِفَ الْكُرْبَةِ عَنْ وَجْهٍ غَضِنْ أَتَاكَ شَيْخُ الْحَيِّ مَنْ آلِ سَنَنْ وَأُمُّهُ مِنْ آلِ ذِئْبِ بْنِ حَجَنْ

أَزْرَقُ بَهْمُ النَّابِ صَرَّارُ الْأُذُنْ أَبْيَضُ فَضْفَاضُ الرِّدَاءِ وَالْبَدَنْ
رَسُولُ قَيْلِ الْعُجْمِ يَسْرِي لِلْوَسَنْ لَا يَرْهَبُ الرَّعْدَ وَلَا رَيْبَ الزَّمَنْ تَجُوبُ بِي الْأَرْضَ عَلَنْدَاةٌ شَزَنْ
تَرْفَعُنِي وَجْنًا وَتَهْوِي بِي وَجَنْ حَتَّى أَتَى عَارِي الْجَآجِي وَالْقَطَنْ تَلُفُّهُ فِي الرِّيحِ بَوْغَاءُ الدِّمَنْ
كَأَنَّمَا حُثْحِثَ مِنْ حِضْنَيْ ثَكَنْ
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ سَطِيحٌ شِعْرَهُ رَفَعَ رَأْسَهُ: يَقُولُ عَبْدُ الْمَسِيحِ عَلَى جَمَلٍ مُشِيحْ أَتَى سَطِيحْ، وَقَدْ أَوْفَى عَلَى الضَّرِيحْ، بَعَثَكَ مَلِكُ بَنِي سَاسَانْ لِارْتِجَاسِ الْإِيوَانْ، وَخُمُودِ النِّيرَانْ، وَرُؤْيَا الْمُوبِذَانْ; رَأَى إِبِلًا صِعَابًا تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَةَ، وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ، إِذَا كَثُرَتِ التِّلَاوَةُ، وَظَهَرَ صَاحِبُ الْهِرَاوَةِ، وَفَاضَ وَادِي السَّمَاوَةِ، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ، وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ فَلَيْسَ الشَّامُ لِسَطِيحٍ شَامًا يَمْلِكُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ، وَمَلِكَاتْ عَلَى عَدَدِ الشُّرُفَاتْ، وَكُلَّمَا هُوَ آتٍ آتْ. ثُمَّ قَضَىَ سَطِيحٌ مَكَانَهُ فَنَهَضَ عَبْدُ الْمَسِيحِ إِلَى رَاحِلَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
شَمِّرْ فَإِنَّكَ مَاضِي الْعَزْمِ شِمِّيرُ لَا يُفْزِعَنَّكَ تَفْرِيقٌ وَتَغْيِيرُ

إِنْ يُمْسِ مُلْكُ بَنِي سَاسَانَ أَفْرَطَهُمْ فَإِنَّ ذَا الدَّهْرَ أَطْوَارٌ دَهَارِيرُ
فَرُبَّمَا رُبَّمَا أَضْحَوْا بِمَنْزِلَةٍ يَخَافُ صَوْلَهُمُ الْأُسْدُ الْمَهَاصِيرُ مِنْهُمْ أَخُو الصَّرْحِ بَهْرَامٌ وَإِخْوَتُهُ وَالْهُرْمُزَانُ وَشَابُورٌ وَسَابُورُ
وَالنَّاسُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ فَمَنْ عَلِمُوا أَنْ قَدْ أَقَلَّ فَمَحْقُورٌ وَمَهْجُورُ وَرُبَّ قَوْمٍ لَهُمْ صُحْبَانُ ذِي أُذُنٍ بَدَتْ تُلَهِّيهِمُ فِيهِ الْمَزَامِيرُ
وَهُمْ بَنُو الْأُمِّ إِمَّا إِنْ رَأَوْا نَشَبًا فَذَاكَ بِالْغَيْبِ مَحْفُوظٌ وَمَنْصُورُ وَالْخَيرُ وَالشَّرُّ مَقْرُونَانِ فِي قَرْنٍ فَالْخَيرُ مُتَّبَعٌ وَالشَّرُّ مَحْذُورُ
قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ عَبْدُ الْمَسِيحِ عَلَى كِسْرَى، أَخْبَرَهُ مَا قَالَ لَهُ سَطِيحٌ فَقَالَ كِسْرَى: إِلَى أَنْ يَمْلِكَ مِنَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَلِكًا كَانَتْ أُمُورٌ وَأُمُورٌ فَمَلَكَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ، وَمَلَكَ الْبَاقُونَ إِلَى خِلَافَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيِّ بِنَحْوِهِ.
قُلْتُ: كَانَ آخِرَ مُلُوكِهِمْ - الَّذِي سُلِبَ مِنْهُ الْمُلْكُ - يَزْدَجِرْدُ بْنُ شَهْرَيَارَ بْنِ أَبْرَوِيزَ بْنِ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوانَ وَهُوَ الَّذِي انْشَقَّ الْإِيوَانُ فِي زَمَانِهِ وَكَانَ

لِأَسْلَافِهِ فِي الْمُلْكِ ثَلَاثَةُ آلَافِ سَنَةٍ وَمِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وَكَانَ أَوَّلَ مُلُوكِهِمْ خَيُومَرْتُ بْنُ أَمِيمَ بْنِ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
أَمَّا سَطِيحٌ هَذَا فَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ: هُوَ الرَّبِيعُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنِ بْنِ ذِئْبِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَزْدِ. وَيُقَالَ: الرَّبِيعُ بْنُ مَسْعُودٍ. وَأُمُّهُ رَدْعَا بِنْتُ سَعْدِ بْنِ الْحَارِثِ الْحَجُورِيِّ. وَذُكِرَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ قَالَ: وَكَانَ يَسْكُنُ الْجَابِيَةَ. ثُمَّ رَوَى عَنْ أَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ الْمَشْيَخَةَ مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ قَالُوا: وَكَانَ مِنْ بَعْدِ لُقْمَانَ بْنِ عَادٍ وُلِدَ فِي زَمَنِ سَيْلِ الْعَرِمِ، وَعَاشَ إِلَى مُلْكِ ذِي نُوَاسٍ، وَذَلِكَ نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثِينَ قَرْنًا وَكَانَ مَسْكَنُهُ الْبَحْرَيْنِ، وَزَعَمَتْ عَبْدُ الْقَيْسِ أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَتَزْعُمُ الْأَزْدُ أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ يَقُولُونَ: هُوَ مِنَ الْأَزْدِ وَلَا نَدْرِي مِمَّنْ هُوَ ؟ غَيْرَ أَنَّ وَلَدَهُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ مِنَ الْأَزْدِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ بَنِي آدَمَ يُشْبِهُ سَطِيحًا إِنَّمَا كَانَ لَحْمًا عَلَى وَضَمٍ، لَيْسَ فِيهِ عَظْمٌ وَلَا عَصَبٌ إِلَّا فِي رَأْسِهِ وَعَيْنَيْهِ وَكَفَّيْهِ وَكَانَ يُطْوَى كَمَا يُطْوَى الثَّوْبُ مِنْ رِجْلَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ يَتَحَرَّكُ إِلَّا لِسَانُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّهُ كَانَ إِذَا غَضِبَ انْتَفَخَ وَجَلَسَ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَدِمَ مَكَّةَ فَتَلَقَّاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ

رُؤَسَائِهِمْ مِنْهُمْ عَبْدُ شَمْسٍ، وَعَبْدُ مَنَافٍ أَبْنَاءُ قُصَيٍّ فَامْتَحَنُوهُ فِي أَشْيَاءَ فَأَجَابَهُمْ فِيهَا بِالصِّدْقِ.
فَسَأَلُوهُ عَمَّا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَقَالَ: خُذُوا مِنِّي، وَمِنْ إِلْهَامِ اللَّهِ إِيَّايَ; أَنْتُمُ الْآنَ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ فِي زَمَانِ الْهَرَمْ، سَوَاءٌ بَصَائِرُكُمْ وَبَصَائِرُ الْعَجَمْ لَا عِلْمَ عِنْدَكُمْ وَلَا فَهْمْ، وَيَنْشَأُ مِنْ عَقِبِكُمْ ذَوُو فَهْمٍ يَطْلُبُونَ أَنْوَاعَ الْعِلْمِ فَيَكْسِرُونَ الصَّنَمْ، وَيَتْبَعُونَ الرَّدَمْ، وَيَقْتُلُونَ الْعَجَمْ، وَيَطْلُبُونَ الْغَنَمْ، ثُمَّ قَالَ: وَالْبَاقِي الْأَبَدْ، وَالْبَالِغُ الْأَمَدْ، لَيَخْرُجَنَّ مِنْ ذَا الْبَلَدْ، نَبِيٌّ مُهْتَدْ، يَهْدِي إِلَى الرَّشَدْ، يَرْفُضُ يَغُوثَ وَالْفَنَدْ، يَبْرَأُ عَنْ عِبَادَةِ الضِّدَدْ، يَعْبُدُ رَبًّا انْفَرَدْ. ثُمَّ يَتَوَفَّاهُ اللَّهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَحْمُودًا مِنَ الْأَرْضِ مَفْقُودًا، وَفِي السَّمَاءِ مَشْهُودًا، ثُمَّ يَلِي أَمْرَهُ الصِّدِّيقْ إِذَا قَضَى صَدَقْ، وَفِي رَدِّ الْحُقُوقِ لَا خَرِقٌ وَلَا نَزِقْ، ثُمَّ يَلِي أَمْرَهُ الْحَنِيفْ مُجَرِّبٌ غِطْرِيفْ قَدْ أَضَافَ الْمُضِيفْ، وَأَحْكَمَ التَّحْنِيفْ، ثُمَّ ذَكَرَ عُثْمَانَ وَمَقْتَلَهُ وَمَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ، ثُمَّ بَنِي الْعَبَّاسِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ سَاقَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِطُولِهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَهُ لِرَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ مَلِكِ الْيَمَنِ حِينَ أَخْبَرَهُ بِرُؤْيَاهُ قَبْلَ أَنْ

يُخْبِرَهُ بِهَا، ثُمَّ مَا يَكُونُ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ مِنَ الْفِتَنِ، وَتَغْيِيرِ الدُّوَلِ حَتَّى يَعُودَ إِلَى سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ فَقَالَ لَهُ: أَفَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ سُلْطَانِهِ أَمْ يَنْقَطِعُ ؟ قَالَ: بَلْ يَنْقَطِعُ قَالَ: وَمَنْ يَقْطَعُهُ ؟ قَالَ: نَبِيٌّ زَكِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيِّ قَالَ: وَمِمَّنْ هَذَا النَّبِيُّ ؟ قَالَ: مِنْ وَلَدِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ قَالَ: وَهَلْ لِلدَّهْرِ مِنْ آخِرٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ يَوْمَ يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ يَسْعَدُ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ، وَيَشْقَى فِيهِ الْمُسِيئُونَ قَالَ: أَحَقٌّ مَا تُخْبِرُنِي ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالشَّفَقِ وَالْغَسَقْ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقْ، إِنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ عَلَيْهِ لَحَقٌّ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ شِقٌّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِنْ شِعْرِ سَطِيحٍ قَوْلُهُ:
عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ وَلَا تَلْبِسُوا صِدْقَ الْأَمَانَةِ بِالْغَدْرِ
وُكُونُوا لِجَارِ الْجَنْبِ حِصْنًا وَجُنَّةً إِذَا مَا عَرَتْهُ النَّائِبَاتُ مِنَ الدَّهْرِ
وَرَوَى ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، ثُمَّ أَوْرَدَ ذَلِكَ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ فَقَالَ: وَأَخْبَارُ سَطِيحٍ كَثِيرَةٌ وَقَدْ جَمَعَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَانَ كَاهِنًا وَقَدْ أَخْبَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ نَعْتِهِ وَمَبْعَثِهِ، وَرُوِيَ لَنَا بِإِسْنَادٍ اللَّهُ بِهِ أَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ سَطِيحٍ فَقَالَ: نَبِيٌّ ضَيَّعَهُ قَوْمُهُ.

قُلْتُ: أَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْإِسْلَامِ الْمَعْهُودَةِ، وَلَمْ أَرَهُ بِإِسْنَادٍ أَصْلًا، وَيُرْوَى مِثْلُهُ فِي خَبَرِ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْعَبْسِيِّ وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا. وَظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ تَدُلُّ عَلَى عِلْمٍ جَيِّدٍ لِسَطِيحٍ، وَفِيهَا رَوَائِحُ التَّصْدِيقِ لَكِنَّهُ لَمْ يُدْرِكِ الْإِسْلَامَ كَمَا قَالَ الْجَرِيرِيُّ فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْأَثَرِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ أُخْتِهِ: يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ إِذَا كَثُرَتِ التِّلَاوَةْ، وَظَهْرَ صَاحِبُ الْهِرَاوَةْ، وَفَاضَ وَادِي السَّمَاوَةْ، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةْ، وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ فَلَيْسَ الشَّامُ لِسَطِيحٍ شَامًا، يَمَلِكُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ، وَمَلِكَاتْ عَلَى عَدَدِ الشُّرُفَاتْ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتْ، ثُمَّ قَضَى سَطِيحٌ مَكَانَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَهْرٍ - أَوْ شَيْعِهِ أَيْ أَقَلَّ مِنْهُ - وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِأَطْرَافِ الشَّامِ مِمَّا يَلِي أَرْضَ الْعِرَاقِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَمْرِهِ وَمَا صَارَ إِلَيْهِ، وَذَكَرَ ابْنُ طَرَّارٍ الْجَرِيرِيُّ أَنَّهُ عَاشَ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، وَقِيلَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ مَلِكًا سَأَلَ سَطِيحًا عَنْ نَسَبِ غُلَامٍ اخْتُلِفَ فِيهِ فَأَخْبَرَهُ عَلَى الْجَلِيَّةِ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ مَلِيحٍ فَصِيحٍ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: يَا سَطِيحُ أَلَا تُخْبِرُنِي عَنْ عِلْمِكَ هَذَا ؟ فَقَالَ: إِنَّ عِلْمِي هَذَا لَيْسَ مِنِّي وَلَا بِخَرْمٍ وَلَا بِظَنٍّ، وَلَكِنْ أَخَذْتُهُ عَنْ أَخٍ لِي جِنِّيٍّ قَدْ سَمِعَ الْوَحْيَ بِطُورِ سَيْنَاءَ فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ أَخَاكَ هَذَا الْجِنِّيَّ، أَهْوَ مَعَكَ لَا يُفَارِقُكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَيَزُولَ حَيْثُ أَزُولْ،

وَلَا أَنْطِقُ إِلَّا بِمَا يَقُولْ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ وُلِدَ هُوَ وَشِقُّ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ يَشْكُرَ بْنِ رُهْمِ بْنِ بُسْرِ بْنِ عُقْبَةَ الْكَاهِنُ الْآخَرُ، وُلِدَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَحُمِلَا إِلَى الْكَاهِنَةِ طَرِيفَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ الْحِمْيَرِيَّةِ فَتَفَلَتْ فِي أَفْوَاهِهِمَا فَوَرِثَا مِنْهَا الْكِهَانَةَ، وَمَاتَتْ مِنْ يَوْمِهَا وَكَانَ نِصْفَ إِنْسَانٍ، وَيُقَالَ: إِنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ مِنْ سُلَالَتِهِ وَقَدْ مَاتَ شِقٌّ قَبْلَ سَطِيحٍ بِدَهْرٍ.
وَأَمَّا عَبْدُ الْمَسِيحِ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ بُقَيْلَةَ الْغَسَّانِيُّ النَّصْرَانِيُّ فَكَانَ مِنِ الْمُعَمَّرِينَ وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، وَقَالَ: هُوَ الَّذِي صَالَحَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْحِيرَةِ، وَذَكَرَ لَهُ مَعَهُ قِصَّةً طَوِيلَةً، وَأَنَّهُ أَكَلَ مِنْ يَدِهِ سُمَّ سَاعَةٍ فَلَمْ يُصِبْهُ سُوءٌ; لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ أَذًى، ثُمَّ أَكَلَهُ فَعَلَتْهُ غَشْيَةٌ فَضَرَبَ بِيَدَيْهِ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ عَرِقَ وَأَفَاقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَكَرَ لِعَبْدِ الْمَسِيحِ أَشْعَارًا غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ حَدَّثَنَا الْمُسَيَّبُ بْنُ شَرِيكٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَرِيكٍ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ

بِمَرِّ الظَّهْرَانِ رَاهِبٌ مِنَ الرُّهْبَانِ يُدْعَى عِيصًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَكَانَ مُتَخَفِّرًا بِالْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ وَكَانَ اللَّهُ قَدْ آتَاهُ عِلْمًا كَثِيرًا، وَجَعَلَ فِيهِ مَنَافِعَ كَثِيرَةً لِأَهْلِ مَكَّةَ مِنْ طِيبٍ وَرِفْقٍ وَعِلْمٍ وَكَانَ يَلْزَمُ صَوْمَعَةً لَهُ، وَيَدْخُلُ مَكَّةَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَيَلْقَى النَّاسَ، وَيَقُولُ: إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُولَدَ فِيكُمْ مَوْلُودٌ يَا أَهْلَ مَكَّةَ يَدِينُ لَهُ الْعَرَبُ، وَيَمْلِكُ الْعَجَمَ هَذَا زَمَانُهُ، وَمَنْ أَدْرَكَهُ وَاتَّبَعَهُ أَصَابَ حَاجَتَهُ، وَمَنْ أَدْرَكَهُ فَخَالَفَهُ أَخْطَأَ حَاجَتَهُ، وَتَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ أَرْضَ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ وَالْأَمْنِ وَلَا حَلَلْتُ بِأَرْضِ الْجُوعِ وَالْبُؤْسِ وَالْخَوْفِ إِلَّا فِي طَلَبِهِ وَكَانَ لَا يُولَدُ بِمَكَّةَ مَوْلُودٌ إِلَّا يَسْأَلُ عَنْهُ فَيَقُولُ: مَا جَاءَ بَعْدُ فَيُقَالَ لَهُ: فَصِفْهُ فَيَقُولُ: لَا وَيَكْتُمُ ذَلِكَ; لِلَّذِي قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَاقٍ مِنْ قَوْمِهِ مَخَافَةً عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيَةً إِلَى أَدْنَى مَا يَكُونُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَذَى يَوْمًا.
وَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةُ الْيَوْمِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى أَتَى عِيصًا فَوَقَفَ فِي أَصْلِ صَوْمَعَتِهِ، ثُمَّ نَادَى يَا عِيصًا فَنَادَاهُ مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: كُنْ أَبَاهُ فَقَدْ وُلِدَ الْمَوْلُودُ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَيُبْعَثُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَيَمُوتُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ وُلِدَ لِي مَعَ الصُّبْحِ مَوْلُودٌ قَالَ فَمَا سَمَّيْتَهُ ؟ قَالَ: مُحَمَّدًا قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَشْتَهِي أَنَّ يَكُونَ هَذَا الْمَوْلُودُ فِيكُمْ أَهْلَ

الْبَيْتِ; لِثَلَاثِ خِصَالٍ نَعْرِفُهُ بِهَا مِنْهَا أَنَّ نَجْمَهُ طَلَعَ الْبَارِحَةَ، وَأَنَّهُ وُلِدَ الْيَوْمَ، وَأَنَّ اسْمَهُ مُحَمَّدٌ انْطَلِقْ إِلَيْهِ فَإِنَّ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ ابْنُكَ قَالَ: فَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهُ ابْنِي، وَلَعَلَّهُ أَنْ يُولَدَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَوْلُودٌ غَيْرُهُ ؟ قَالَ: قَدْ وَافَقَ ابْنُكَ الِاسْمَ، وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيُشَبِّهَ عِلْمَهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ حُجَّةٌ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ الْآنَ وَجِعٌ فَيَشْتَكِي أَيَّامًا ثَلَاثَةً، يَظْهَرُ بِهِ الْجُوعُ ثَلَاثًا ثُمَّ يُعَافَى فَاحْفَظْ لِسَانَكَ فَإِنَّهُ لَمْ يُحْسَدْ أَحَدٌ حَسَدَهُ قَطُّ، وَلَمْ يُبْغَ عَلَى أَحَدٍ كَمَا يُبْغَى عَلَيْهِ، إِنْ تَعِشْ حَتَّى يَبْدُوَ مَقَالُهُ، ثُمَّ يَدْعُوَ لَظَهَرَ لَكَ مِنْ قَوْمِكَ مَا لَا تَحْتَمِلُهُ إِلَّا عَلَى صَبْرٍ وَعَلَى ذُلٍّ فَاحْفَظْ لِسَانَكَ، وَدَارِ عَنْهُ. قَالَ: فَمَا عُمُرُهُ ؟ قَالَ: إِنْ طَالَ عُمُرُهُ أَوْ قَصُرَ لَمْ يَبْلُغِ السَّبْعِينَ يَمُوتُ فِي وِتْرٍ دُونَهَا مِنَ السِّتِّينَ فِي إِحْدَى وَسِتِّينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ فِي أَعْمَارِ جُلِّ أُمَّتِهِ. قَالَ: وَحُمِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَاشُورَاءِ الْمُحَرَّمِ، وَوُلِدَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ غَزْوَةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَفِيهِ غَرَابَةٌ.

ذِكْرُ حَوَاضِنِهِ، وَمَرَاضِعِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
كَانَتْ أُمُّ أَيْمَنَ، وَاسْمُهَا بَرَكَةُ تَحْضُنُهُ وَكَانَ قَدْ وَرِثَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ أَبِيهِ فَلَمَّا كَبِرَ أَعْتَقَهَا وَزَوَّجَهَا مَوْلَاهُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فَوَلَدَتْ لَهُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَرْضَعَتْهُ مَعَ أُمِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مَوْلَاةُ عَمِّهِ أَبِي لَهَبٍ ثُوَيْبَةُ قَبْلَ حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِمَا مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، وَلِمُسْلِمٍ: عَزَّةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأُحِبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرِ أُخْتِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي قَالَتْ: فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: إِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا حَلَّتْ لِي; إِنَّهَا لَابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ أَرْضَعَتْنِي، وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أَخَوَاتِكُنَّ زَادَ الْبُخَارِيُّ

قَالَ عُرْوَةُ: وَثُوَيْبَةُ مَوْلَاةٌ لِأَبِي لَهَبٍ أَعْتَقَهَا فَأَرْضَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ خَيْبَةٍ فَقَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ ؟ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ خَيْرًا غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ، وَأَشَارَ إِلَى النُّقْرَةِ الَّتِي بَيْنَ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا مِنَ الْأَصَابِعِ.
وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الرَّائِيَ لَهُ هُوَ أَخُوهُ الْعَبَّاسُ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ وَفَاةِ أَبِي لَهَبٍ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَفِيهِ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَيَّ فِي مِثْلِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ قَالُوا: لِأَنَّهُ لَمَّا بَشَّرَتْهُ ثُوَيْبَةُ بِمِيلَادِ ابْنِ أَخِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَعْتَقَهَا مِنْ سَاعَتِهِ فَجُوزِيَ بِذَلِكَ لِذَلِكَ.

ذِكْرُ رَضَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
مِنْ حَلِيمَةَ بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ السَّعْدِيَّةِ،
وَمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَرَكَةِ، وَآيَاتِ النُّبُوَّةِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَاسْتُرْضِعَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ حَلِيمَةَ بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ شِجْنَةَ بْنِ جَابِرِ بْنِ رِزَامِ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ. قَالَ: وَاسْمُ أَبِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَرْضَعَهُ - يَعْنِي زَوْجَ حَلِيمَةَ - الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ رَفَاعَةِ بْنِ مَلَّانَ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ، وَإِخْوَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَعْنِي مِنَ الرَّضَاعَةِ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ، وَأُنَيْسَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، وَحُذَافَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَهِيَ الشَّيْمَاءُ، وَذَكَرُوا أَنَّهَا كَانَتْ تَحْضُنُ رَسُولَ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُمِّهِ إِذْ كَانَ عِنْدَهُمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي جَهْمُ بْنُ أَبِي جَهْمٍ مَوْلًى لِاِمْرَأَةٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ كَانَتْ عِنْدَ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ، وَيُقَالَ لَهُ: مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ حَلِيمَةَ ابْنَةِ الْحَارِثِ أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمْتُ مَكَّةَ فِي نِسْوَةٍ - وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّهُنَّ كُنَّ عَشْرَ نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ يَلْتَمِسْنَ بِهَا الرُّضَعَاءَ - مِنْ بَنِي سَعْدٍ نَلْتَمِسُ بِهَا الرُّضَعَاءَ، وَفِي سَنَةٍ شَهْبَاءَ فَقَدِمْتُ عَلَى أَتَانٍ لِي قَمْرَاءَ، كَانَتْ أَذَمَّتْ بِالرَّكْبِ، وَمَعِي صَبِيٌّ لَنَا، وَشَارِفٌ لَنَا وَاللَّهِ مَا تَبِضُّ بِقَطْرَةٍ وَمَا نَنَامُ لَيْلَتَنَا ذَلِكَ أَجْمَعَ مَعَ صَبِيِّنَا ذَاكَ، مَا نَجِدُّ فِي ثَدْيِي مَا يُغْنِيهِ وَلَا فِي شَارِفِنَا مَا يُغَذِّيهِ، وَلَكِنَّا كُنَّا نَرْجُو الْغَيْثَ وَالْفَرَجَ فَخَرَجْتُ عَلَى أَتَانِي تِلْكَ فَلَقَدْ أَذَمَّتْ بِالرَّكْبِ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ضَعْفًا وَعَجَفًا فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ مِنَّا امْرَأَةً إِلَّا

وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَأْبَاهُ إِذَا قِيلَ: إِنَّهُ يَتِيمٌ تَرَكْنَاهُ، وَقُلْنَا: مَاذَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ إِلَيْنَا أُمُّهُ ؟ إِنَّمَا نَرْجُو الْمَعْرُوفَ مِنْ أَبِي الْوَلَدِ فَأَمَّا أُمُّهُ فَمَاذَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ إِلَيْنَا ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَقِيَ مِنْ صَوَاحِبِي امْرَأَةٌ إِلَّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي فَلَمَّا لَمْ نَجِدْ غَيْرَهُ،
وَأَجْمَعْنَا الِانْطِلَاقَ قُلْتُ لِزَوْجِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى: وَاللَّهِ وَإِنِّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجِعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي لَيْسَ مَعِيَ رَضِيعٌ، لَأَنْطَلِقَنَّ إِلَى ذَلِكَ الْيَتِيمِ فَلْآخُذَنَّهُ. فَقَالَ: لَا عَلَيْكِ أَنْ تَفْعَلِي فَعَسَى أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً فَذَهَبْتُ فَأَخَذَتْهُ فَوَاللَّهِ مَا أَخَذْتُهُ إِلَّا أَنِّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ أَخَذْتُهُ فَجِئْتُ بِهِ رَحْلِي فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ حَتَّى رَوِيَ، وَشَرِبَ أَخُوهُ حَتَّى رَوِيَ، وَقَامَ صَاحِبِي إِلَى شَارِفِنَا تِلْكَ فَإِذَا إِنَّهَا لَحَافِلٌ فَحَلَبَ مَا شَرِبَ، وَشَرِبْتُ حَتَّى رَوِينَا فَبِتْنَا بِخَيْرِ لَيْلَةٍ فَقَالَ صَاحِبِي حِينَ أَصْبَحْنَا: يَا حَلِيمَةُ وَاللَّهِ إِنِّي لِأَرَاكِ قَدْ أَخَذْتِ نَسَمَةً مُبَارَكَةً; أَلَمْ تَرَيْ مَا بِتْنَا بِهِ اللَّيْلَةَ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ حِينَ أَخَذْنَاهُ ! فَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَزِيدُنَا خَيْرًا، ثُمَّ خَرَجْنَا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِنَا فَوَاللَّهِ لَقَطَعَتْ أَتَانِي بِالرَّكْبِ حَتَّى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حِمَارٌ حَتَّى إِنَّ صَوَاحِبِي لَيَقُلْنَ: وَيْلَكِ يَا بِنْتَ أَبِي ذُؤَيْبٍ هَذِهِ أَتَانُكِ الَّتِي خَرَجْتِ عَلَيْهَا مَعَنَا ؟ فَأَقُولُ: نَعَمْ وَاللَّهِ إِنَّهَا لَهِيَ فَيَقُلْنَ: وَاللَّهِ إِنَّ لَهَا لَشَأْنًا حَتَّى قَدِمْنَا أَرْضَ بَنِي سَعْدٍ وَمَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ اللَّهِ أَجْدَبَ مِنْهَا فَإِنْ كَانَتْ غَنَمِي لَتَسْرَحُ، ثُمَّ تَرُوحُ شِبَاعًا لَبَنًا،

فَنَحْلِبُ مَا شِئْنَا وَمَا حَوَالَيْنَا أَوْ حَوْلَنَا أَحَدٌ تَبِضُّ لَهُ شَاةٌ بِقَطْرَةِ لَبَنٍ، وَإِنَّ أَغْنَامَهُمْ لَتَرُوحَ جِيَاعًا حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ لِرُعَاتِهِمْ أَوْ لِرُعْيَانِهِمْ وَيْحَكُمُ انْظُرُوا حَيْثُ تَسْرَحُ غَنَمُ بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ فَاسْرَحُوا مَعَهُمْ فَيَسَرَحُونَ مَعَ غَنَمِي حَيْثُ تَسْرَحُ فَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا فِيهَا قَطْرَةُ لَبَنٍ، وَتَرُوحُ أَغْنَامِي شِبَاعًا لَبَنًا نَحْلِبُ مَا شِئْنَا فَلَمْ يَزَلِ اللَّهُ يُرِينَا الْبَرَكَةَ نَتَعَرَّفُهَا حَتَّى بَلَغَ سَنَتَيْهِ فَكَانَ يَشِبُّ شَبَابًا لَا تَشِبُّهُ الْغِلْمَانُ فَوَاللَّهِ مَا بَلَغَ السَّنَتَيْنِ حَتَّى كَانَ غُلَامًا جَفْرًا فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمِّهِ، وَنَحْنُ أَضَنُّ شَيْءٍ بِهِ مِمَّا رَأَيْنَا فِيهِ مِنَ الْبَرَكَةِ.
فَلَمَّا رَأَتْهُ أُمُّهُ قُلْنَا لَهَا: يَا ظِئْرُ دَعِينَا نَرْجِعُ بِابْنِنَا هَذِهِ السَّنَةَ الْأُخْرَى فَإِنَّا نَخْشَى عَلَيْهِ وَبَاءَ مَكَّةَ فَوَاللَّهِ مَا زِلْنَا بِهَا حَتَّى قَالَتْ: فَنَعَمْ فَسَرَّحَتْهُ مَعَنَا فَأَقَمْنَا بِهِ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَبَيْنَا هُوَ خَلْفَ بُيُوتِنَا مَعَ أَخٍ لَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فِي بَهْمٍ لَنَا جَاءَنَا أَخُوهُ ذَلِكَ يَشْتَدُّ فَقَالَ: ذَاكَ أَخِي الْقُرَشِيُّ جَاءَهُ رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ فَأَضْجَعَاهُ فَشَقَّا بَطْنَهُ. فَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُوهُ نَشْتَدُّ نَحْوَهُ فَنَجِدُهُ قَائِمًا مُنْتَقِعًا لَوْنُهُ فَاعْتَنَقَهُ أَبُوهُ وَقَالَ يَا بُنَيَّ مَا شَأْنُكَ ؟

قَالَ: جَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ أَضْجَعَانِي وَشَقَّا بَطْنِي، ثُمَّ اسْتَخْرَجَا مِنْهُ شَيْئًا فَطَرَحَاهُ، ثُمَّ رَدَّاهُ كَمَا كَانَ. فَرَجَعْنَا بِهِ مَعَنَا فَقَالَ أَبُوهُ: يَا حَلِيمَةُ لِقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ ابْنِي قَدْ أُصِيبَ فَانْطَلِقِي بِنَا نَرُدُّهُ إِلَى أَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ بِهِ مَا نَتَخَوَّفُ قَالَتْ حَلِيمَةُ: فَاحْتَمَلْنَاهُ فَلَمْ تُرَعْ أُمُّهُ إِلَّا بِهِ فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَيْهَا فَقَالَتْ: مَا رَدَّكُمَا بِهِ فَقَدْ كُنْتُمَا عَلَيْهِ حَرِيصَيْنِ ؟ فَقَالَا: لَا وَاللَّهِ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَدَّى عَنَّا، وَقَضَيْنَا الَّذِي عَلَيْنَا، وَقُلْنَا نَخْشَى الْإِتْلَافَ وَالْأَحْدَاثَ نَرُدُّهُ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَتْ: مَا ذَاكَ بِكُمَا فَاصْدُقَانِي شَأْنَكُمَا فَلَمْ تَدَعْنَا حَتَّى أَخْبَرْنَاهَا خَبَرَهُ فَقَالَتْ: أَخَشِيتُمَا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ ؟ كَلَّا وَاللَّهِ مَا لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهِ إِنَّهُ لِكَائِنٌ لِابْنِي هَذَا شَأْنٌ أَلَا أُخْبِرُكُمَا خَبَرَهُ. قُلْنَا: بَلَى قَالَتْ: حَمَلْتُ بِهِ فَمَا حَمَلْتُ حَمْلَا قَطُّ أَخَفَّ مِنْهُ فَأُرِيتُ فِي النَّوْمِ حِينَ حَمَلْتُ بِهِ كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنِّي نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ، ثُمَّ وَقَعَ حِينَ وَلَدْتُهُ، وُقُوعًا مَا يَقَعُهُ الْمَوْلُودُ، مُعْتَمِدًا عَلَى يَدَيْهِ رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَدَعَاهُ عَنْكُمَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أُخَرَ وَهُوَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ الْمُتَدَاوَلَةِ بَيْنَ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ حَدَّثَنِي مُعَاذُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَتْ حَلِيمَةُ تَطْلُبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَجَدَتِ الْبَهْمَ تَقِيلُ فَوَجَدَتْهُ مَعَ أُخْتِهِ فَقَالَتْ: فِي هَذَا الْحَرِّ ! فَقَالَتْ أُخْتُهُ: يَا أُمَّهْ مَا وَجَدَ أَخِي حَرًّا رَأَيْتُ غَمَامَةً تَظَلُّ عَلَيْهِ إِذَا وَقَفَ وَقَفَتْ وَإِذَا سَارَ سَارَتْ حَتَّى انْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ قَالَ: نَعَمْ أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ، وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ فَبَيْنَا أَنَا فِي بَهْمٍ لَنَا أَتَانِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ مَعَهُمَا طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءٌ ثَلْجًا فَأَضْجَعَانِي فَشَقَّا بَطْنِي، ثُمَّ اسْتَخْرَجَا قَلْبِي فَشَقَّاهُ فَأَخْرَجَا مِنْهُ عَلَقَةً سَوْدَاءَ فَأَلْقَيَاهَا، ثُمَّ غَسَلَا قَلْبِي وَبَطْنِي بِذَلِكَ الثَّلْجِ حَتَّى إِذَا أَنْقَيَاهُ رَدَّاهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: زِنْهُ بِعَشَرَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ فَوَزَنَنِي بِعَشَرَةٍ فَوَزَنْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ أُمَّتِهِ فَوَزَنَنِي بِمِائَةٍ فَوَزَنْتُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: زِنْهُ بِأَلْفٍ مِنْ أُمَّتِهِ فَوَزَنَنِي بِأَلْفٍ فَوَزَنْتُهُمْ فَقَالَ: دَعْهُ عَنْكَ فَلَوْ وَزَنْتَهُ بِأُمَّتِهِ لَوَزَنَهُمْ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ.

وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ الصُّبْحٍ وَهُوَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُطَوَّلَةً جِدًّا، وَلَكِنَّ عُمَرَ بْنَ صُبْحٍ هَذَا مَتْرُوكٌ كَذَّابٌ مُتَّهَمٌ بِالْوَضْعِ; فَلِهَذَا لَمْ نَذْكُرْ لَفْظَ الْحَدِيثِ إِذْ لَا يُفْرَحُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَمْدَانَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ نُفَيْرٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ بَحِيرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو السُّلَمِيِّ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَيْفَ كَانَ أَوَّلُ شَأْنِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: كَانَتْ حَاضِنَتِي مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَابْنٌ لَهَا فِي بَهْمٍ لَنَا، وَلَمْ نَأْخُذْ مَعَنَا زَادًا فَقُلْتُ: يَا أَخِي اذْهَبْ فَائْتِنَا بِزَادٍ مِنْ عِنْدِ أُمِّنَا فَانْطَلَقَ أَخِي وَمَكَثْتُ عِنْدَ الْبَهْمِ فَأَقْبَلَ طَائِرَانِ أَبْيَضَانِ كَأَنَّهُمَا نَسْرَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَهْوَ هُوَ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَأَقْبَلَا يَبْتَدِرَانِي فَأَخَذَانِي فَبَطَحَانِي لِلْقَفَا فَشَقَّا بَطْنِي، ثُمَّ اسْتَخْرَجَا قَلْبِي فَشَقَّاهُ فَأَخْرَجَا مِنْهُ عَلْقَتَيْنِ سَوْدَاوَيْنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: ائْتِنِي بِمَاءٍ ثَلْجٍ فَغَسَلَا بِهِ جَوْفِي، ثُمَّ قَالَ: ائْتِنِي بِمَاءٍ بَرَدٍ فَغَسَلَا بِهِ قَلْبِي، ثُمَّ

قَالَ: ائْتِنِي بِالسَّكِينَةِ فَذَرَّهَا فِي قَلْبِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: حُصْهُ فَحَاصَهُ، وَخَتَمَ عَلَى قَلْبِي بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اجْعَلْهُ فِي كِفَّةٍ، وَاجْعَلْ أَلْفًا مِنْ أُمَّتِهِ فِي كِفَّةٍ فَإِذَا أَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْأَلْفِ فَوْقِي أُشْفِقُ أَنْ يَخِرَّ عَلَيِّ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ أُمَّتَهُ وُزِنَتْ بِهِ لَمَالَ بِهِمْ، ثُمَّ انْطَلَقَا فَتَرَكَانِي، وَفَرِقْتُ فَرَقًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى أُمِّي فَأَخْبَرْتُهَا بِالَّذِي لَقِيتُ فَأَشْفَقَتْ أَنْ يَكُونَ قَدِ الْتُبِسَ بِي.
فَقَالَتْ: أُعِيذُكَ بِاللَّهِ فَرَحَّلَتْ بَعِيرًا لَهَا، وَحَمَلَتْنِي عَلَى الرَّحْلِ، وَرَكِبَتْ خَلَفِي حَتَّى بَلَغْنَا إِلَى أُمِّي فَقَالَتْ أَدَّيْتُ أَمَانَتِي وَذِمَّتِي، وَحَدَّثَتْهَا بِالَّذِي لَقِيتْ فَلَمْ يَرُعْهَا، وَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُ خَرَجَ مِنِّي نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ بِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ الْقُرَشِيُّ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ عَلِمْتَ أَنَّكَ

نَبِيٌّ حِينَ عَلِمْتَ ذَلِكَ، وَاسْتَيْقَنْتَ أَنَّكَ نَبِيٌّ ؟ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَانِي مَلَكَانِ، وَأَنَا بِبَعْضِ بَطْحَاءِ مَكَّةَ فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْأَرْضِ وَكَانَ الْآخَرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَهْوَ هُوَ ؟ قَالَ: هُوَ هُوَ. قَالَ: فَزِنْهُ بِرَجُلٍ فَوُزِنْتُ بِرَجُلٍ فَرَجَحْتُهُ. وَذَكَرَ تَمَامَهُ وَذَكَرَ شَقَّ صَدْرِهُ وَخِيَاطَتَهُ، وَجَعْلَ الْخَاتَمِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ قَالَ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ وَلَّيَا عَنِّي فَكَأَنَّمَا أُعَايِنُ الْأَمْرَ مُعَايَنَةً. ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ بِأَبْسَطَ مِنْ ذَلِكَ.
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِي ظِئْرَهَ - فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ. قَالَ أَنَسٌ: وَقَدْ كُنْتُ أَرَى

أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَا بِهِ إِلَى زَمْزَمَ فَشَقَّا بَطْنَهُ فَأَخْرَجَا حَشْوَتَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فَغَسَلَاهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ كَبَسَا جَوْفَهُ حِكْمَةً وَعِلْمًا..
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَيْضًا عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ لَيَالٍ قَالَ: خُذُوا خَيْرَهُمْ وَسَيِّدَهُمْ فَأَخَذُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعُمِدَ بِهِ إِلَى زَمْزَمَ فَشُقَّ جَوْفُهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِتَوْرٍ مِنْ ذَهَبٍ فَغُسِلَ جَوْفُهُ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا وَثَبَتَ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسٍ، وَعَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَقَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ وَعَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَنِ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ كَمَا سَيَأْتِي قِصَّةُ شَرْحِ الصَّدْرِ لَيْلَتَئِذٍ، وَأَنَّهُ غُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ وَلَا مُنَافَاةَ; لِاحْتِمَالِ وُقُوعِ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ; مَرَّةً وَهُوَ صَغِيرٌ، وَمَرَّةً لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ لِيَتَأَهَّبَ لِلْوُفُودِ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَلِمُنَاجَاةِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ أَنَا أَعْرَبُكُمْ أَنَا قُرَشِيٌّ، وَاسْتُرْضِعْتُ فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ حَلِيمَةَ لَمَّا أَرْجَعَتْهُ إِلَى أُمِّهِ بَعْدَ فِطَامِهِ، مَرَّتْ بِهِ عَلَى رَكْبٍ مِنَ النَّصَارَى فَقَامُوا إِلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَلَّبُوهُ، وَقَالُوا: إِنَّا سَنَذْهَبُ بِهَذَا الْغُلَامِ إِلَى مَلِكِنَا فَإِنَّهُ كَائِنٌ لَهُ شَأْنٌ فَلَمْ تَكَدْ تَنْفَلِتُ مِنْهُمْ إِلَّا بَعْدَ جَهْدٍ. وَذَكَرَ أَنَّهَا لَمَّا رَدَّتْهُ حِينَ تَخَوَّفَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ أَصَابَهُ عَارِضٌ فَلَمَّا قَرُبَتْ مِنْ مَكَّةَ افْتَقَدَتْهُ فَلَمْ تَجِدْهُ فَجَاءَتْ جَدَّهُ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ فَخَرَجَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ فِي طَلَبِهِ فَوَجَدَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْ قُرَيْشٍ فَأَتَيَا بِهِ جَدَّهُ فَأَخَذَهُ عَلَى عَاتِقِهِ وَذَهَبَ فَطَافَ بِهِ يُعَوِّذُهُ وَيَدْعُو لَهُ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى أُمِّهِ آمِنَةَ.
وَذَكَرَ الْأُمَوِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيِّ - وَهُوَ ضَعِيفٌ - عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قِصَّةَ مَوْلِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَرَضَاعِهِ مِنْ حَلِيمَةَ عَلَى غَيْرِ سِيَاقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. وَذَكَرَ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ أَمَرَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يَأْخُذَهُ فَيَطُوفَ بِهِ فِي أَحْيَاءِ الْعَرَبِ لِيَجِدَ لَهُ مُرْضِعَةً فَطَافَ حَتَّى اسْتَأْجَرَ حَلِيمَةَ عَلَى رَضَاعِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَقَامَ عِنْدَهَا سِتَّ سِنِينَ

تُزِيرُهُ جَدَّهُ فِي كُلِّ عَامٍ فَلَمَّا كَانَ مِنْ شَقِّ صَدْرِهِ عِنْدَهُمْ مَا كَانَ رَدَّتْهُ إِلَيْهِمْ فَأَقَامَ عِنْدَ أُمِّهِ حَتَّى كَانَ عُمُرُهُ ثَمَانِي سِنِينَ مَاتَتْ فَكَفَلَهُ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَمَاتَ وَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَشْرُ سِنِينَ فَكَفَلَهُ عَمَّاهُ شَقِيقَا أَبِيهِ الزُّبَيْرُ، وَأَبُو طَالِبٍ فَلَمَّا كَانَ لَهُ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً خَرَجَ مَعَ عَمِّهِ الزُّبَيْرِ إِلَى الْيَمَنِ فَذَكَرَ أَنَّهُمْ رَأَوْا مِنْهُ آيَاتٍ فِي تِلْكَ السَّفْرَةِ مِنْهَا; أَنَّ فَحْلًا مِنَ الْإِبِلِ كَانَ قَدْ قَطَعَ بَعْضَ الطَّرِيقِ فِي وَادٍ، مَمَرُّهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرَكَ حَتَّى حَكَّ بِكَلْكَلِهِ الْأَرْضَ فَرَكِبَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ خَاضَ بِهِمْ سَيْلًا عَرَمْرَمًا فَأَيْبَسَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى جَاوَزُوهُ، ثُمَّ مَاتَ عَمُّهُ الزُّبَيْرُ، وَلَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَانْفَرَدَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ بَرَكَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَلَّتْ عَلَى حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ وَأَهْلِهَا وَهُوَ صَغِيرٌ، ثُمَّ عَادَتْ عَلَى هَوَازِنَ بِكَمَالِهِمْ فَوَاضِلُهُ حِينَ أَسَرَهُمْ بَعْدَ وَقْعَتِهِمْ وَذَلِكَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بِشَهْرٍ فَمَتُّوا إِلَيْهِ بِرَضَاعِهِ فَأَعْتَقَهُمْ، وَتَحَنَنَّ عَلَيْهِمْ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي مُفُصَّلًا فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فِي وَقْعَةِ هَوَازِنَ: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُنَيْنٍ فَلَمَّا أَصَابَ مِنْ

أَمْوَالِهِمْ وَسَبَايَاهُمْ، أَدْرَكَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ وَقَدْ أَسْلَمُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَقَامَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مَا فِي الْحَظَائِرِ مِنَ السَّبَايَا خَالَاتُكَ، وَحَوَاضِنُكَ اللَّاتِي كُنَّ يَكْفُلْنَكَ فَلَوْ أَنَّا مَلَحْنَا ابْنَ أَبِي شَمِرٍ أَوِ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ أَصَابَنَا مِنْهُمَا مِثْلَ الَّذِي أَصَابَنَا مِنْكَ رَجَوْنَا عَائِدَتَهُمَا، وَعَطْفَهُمَا، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ. ثُمَّ أَنْشَدَ:
امْنُنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَدَّخِرُ امْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ
مُمَزَّقٌ شَمْلُهَا فِي دَهْرِهَا غِيَرُ أَبْقَتْ لَنَا الدَّهْرَ هُتَّافًا عَلَى حَزَنٍ
عَلَى قُلُوبِهُمُ الْغَمَّاءُ وَالْغُمَرُ إِنْ لَمْ تَدَارَكْهَا نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا
يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا
إِذْ فُوكَ يَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا دِرَرُ امْنُنْ عَلَى نِسْوةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا
وَإِذْ يُرِينَكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ

لَا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ
وَاسْتَبْقِ مِنَّا فَإِنَّا مَعْشَرٌ زُهُرُ إِنَّا لَنَشْكُرُ لِلنُّعْمَى وَإِنْ كُفِرَتْ
وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدَّخَرُ
وَقَدْ رُوِيَتُ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ رُمَاحِسٍ الْكَلْبِيِّ الرَّمْلِيِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ طَارِقٍ الْجُشَمِيِّ عَنْ أَبِي صُرَدٍ زُهَيْرِ بْنِ جَرْوَلٍ - وَكَانَ رَئِيسَ قَوْمِهِ - قَالَ: لَمَّا أَسَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَبَيْنَا هُوَ يُمَيِّزُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَثَبَتَ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَسْمَعْتُهُ شِعْرًا أَذْكُرُهُ حِينَ شَبَّ، وَنَشَأَ فِي هَوَازِنَ حَيْثُ أَرْضَعُوهُ:
امْنُنْ عَلَيْنِا رَسُولَ اللَّهِ فِي دَعَةٍ فَإِنَّكَ الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ
امْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ مُمَزَّقٍ شَمْلُهَا فِي دَهْرِهَا غِيَرُ
أَبْقَتْ لَنَا الْحَرْبُ هُتَّافًا عَلَى حَزَنٍ عَلَى قُلُوبِهُمُ الْغَمَّاءُ وَالْغُمَرُ
إِنْ لَمْ تَدَارَكْهَا نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا إِذْ فُوكَ تَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدِّرَرُ
إِذْ أَنْتَ طِفْلٌ صَغِيرٌ كُنْتَ تَرْضَعُهَا وَإِذْ يُرِينَكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ

لَا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ وَاسْتَبْقِ مِنَّا فَإِنَّا مَعْشَرٌ زُهُرُ
إِنَّا لَنَشْكُرُ لِلنُّعْمَى وَإِنْ كُفِرَتْ وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدَّخَرُ
فَأَلْبِسِ الْعَفْوَ مَنْ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهُ مِنْ أُمَّهَاتِكَ إِنَّ الْعَفْوَ مُشْتَهَرُ
إِنَّا نُؤَمِّلُ عَفْوًا مِنْكَ تُلْبِسُهُ هَذِي الْبَرِيَّةَ إِذْ تَعْفُو وَتَنْتَصِرُ
فَاغْفِرْ عَفَا اللَّهُ عَمَّا أَنْتَ رَاهِبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ يُهْدَى لَكَ الظَّفَرُ
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لِلَّهِ وَلَكُمْ. فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: وَمَا كَانَ لَنَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَسَيَأْتِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطْلَقَ لَهُمُ الذُّرِّيَّةَ، وَكَانَتْ سِتَّةَ آلَافٍ مَا بَيْنَ صَبِيٍّ وَاِمْرَأَةٍ، وَأَعْطَاهُمْ أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا حَتَّى قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسَ: فَكَانَ قِيمَةَ مَا أَطْلَقَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَرَكَتِهِ الْعَاجِلَةِ فِي الدُّنْيَا فَكَيْفَ بِبَرَكَتِهِ عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.

فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ ذِكْرِ رُجُوعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، إِلَى أُمِّهِ آمِنَةَ بَعْدَ رَضَاعَةِ حَلِيمَةَ لَهُ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ أُمِّهِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ وَجَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي كَلَاءَةِ اللَّهِ وَحِفْظِهِ، يُنْبِتُهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ فَلَمَّا بَلَغَ سِتَّ سِنِينَ تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزَمٍ أَنَّ أُمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمِنَةَ، تُوُفِّيَتْ وَهُوَ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ، بِالْأَبْوَاءِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ كَانَتْ قَدْ قَدِمَتْ بِهِ عَلَى أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ تُزِيرُهُ إِيَّاهُمْ فَمَاتَتْ وَهِيَ رَاجِعَةٌ بِهِ إِلَى مَكَّةَ. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَتْ بِهِ أُمُّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ أُمُّ أَيْمَنَ، وَلَهُ سِتُّ سِنِينَ فَزَارَتْ أَخْوَالَهُ قَالَتْ أُمُّ أَيْمَنَ: فَجَاءَنِي ذَاتَ يَوْمٍ رَجُلَانِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ فَقَالَا لِي: أَخْرِجِي إِلَيْنَا أَحْمَدَ نَنْظُرُ إِلَيْهِ فَنَظَرا إِلَيْهِ وَقَلَّبَاهُ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: هَذَا نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهَذِهِ دَارُ هِجْرَتِهِ، وَسَيَكُونُ بِهَا مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ أَمْرٌ عَظِيمٌ فَلَمَّا سَمِعَتْ أُمُّهُ خَافَتْ وَانْصَرَفَتْ بِهِ فَمَاتَتْ بِالْأَبْوَاءِ وَهِيَ رَاجِعَةٌ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِوَدَّانَ قَالَ: مَكَانَكُمْ حَتَّى آتِيَكُمْ فَانْطَلَقَ ثُمَّ جَاءَنَا وَهُوَ سَقِيمٌ فَقَالَ: إِنِّي أَتَيْتُ قَبْرَ أُمِّ مُحَمَّدٍ فَسَأَلْتُ رَبِّي الشَّفَاعَةَ - يَعْنِي لَهَا - فَمَنَعَنِيهَا، وَإِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا. وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِي بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَكُلُوا وَأَمْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ. وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الْأَشْرِبَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ فَاشْرَبُوا مَا بَدَا لَكُمْ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ انْتَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَسْمِ قَبْرٍ فَجَلَسَ وَجَلَسَ النَّاسُ حَوْلَهُ كَثِيرٌ فَجَعَلَ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ كَالْمُخَاطِبِ ثُمَّ بَكَى فَاسْتَقْبَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: هَذَا قَبْرُ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهَا فَأَبَى عَلَيَّ، وَأَدْرَكَتْنِي رِقَّتُهَا فَبَكَيْتُ قَالَ: فَمَا

رَأَيْتُ سَاعَةً أَكْثَرَ بَاكِيًا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ. تَابَعَهُ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنْ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ، ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ بَحْرِ بْنِ نَصْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ هَانِئٍ عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ فِي الْمَقَابِرِ وَخَرَجْنَا مَعَهُ فَأَمَرَنَا فَجَلَسْنَا، ثُمَّ تَخَطَّى الْقُبُورَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا فَنَاجَاهُ طَوِيلًا، ثُمَّ ارْتَفَعَ نَحِيبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاكِيًا فَبَكَيْنَا لِبُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَتَلَقَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الَّذِي أَبْكَاكَ ؟ لَقَدْ أَبْكَانَا وَأَفْزَعَنَا فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْنَا فَقَالَ: أَفْزَعَكُمْ بُكَائِي ؟ قُلْنَا: نَعَمْ قَالَ: إِنَّ الْقَبْرَ الَّذِي رَأَيْتُمُونِي أُنَاجِي قَبْرَ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ، وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي زِيَارَتِهَا فَأَذِنَ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فِيهِ، وَنَزَلَ عَلَيَّ " مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ

وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ " فَأَخَذَنِي مَا يَأْخُذُ الْوَلَدُ لِلْوَالِدَةِ مِنَ الرِّقَّةِ فَذَلِكَ الَّذِي أَبْكَانِي غَرِيبٌ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّي فَأَذِنَ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ تُذَكِّرُكُمُ الْمَوْتَ وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَفَّانَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ أَبِي ؟ قَالَ: فِي النَّارِ فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ دُكَيْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَبِي كَانَ يَصِلُ الرَّحِمَ وَكَانَ وَكَانَ فَأَيْنَ هُوَ ؟ قَالَ: فِي النَّارِ قَالَ: فَكَأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ

فَأَيْنَ أَبُوكَ ؟ قَالَ: حَيْثُمَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ كَافِرٍ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ قَالَ: فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ بَعْدُ فَقَالَ: لَقَدْ كَلَّفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَبًا، مَا مَرَرْتُ بِقَبْرِ كَافِرٍ إِلَّا بَشَّرْتُهُ بِالنَّارِ غَرِيبٌ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ سَيْفٍ الْمَعَافِرَيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ نَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ بَصُرَ بِاِمْرَأَةٍ لَا نَظُنُّ أَنَّهُ عَرَفَهَا فَلَمَّا تَوَسَّطَ الطَّرِيقَ وَقَفَ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَيْهِ فَإِذَا فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكِ مِنْ بَيْتِكِ يَا فَاطِمَةُ ؟ فَقَالَتْ: أَتَيْتُ أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ فَرَّحَمْتُ إِلَيْهِمْ مَيِّتَهُمْ، وَعَزَّيْتُهُمْ قَالَ: لَعَلَّكِ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى. قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَكُونَ بَلَغْتُهَا مَعَهُمْ; وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَذْكُرُ فِي ذَلِكَ مَا تَذْكُرُ. قَالَ: لَوْ بَلَغْتِيهَا مَعَهُمْ مَا رَأَيْتِ الْجَنَّةَ حَتَّى يَرَاهَا جَدُّ أَبِيكِ ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، مِنْ حَدِيثِ رَبِيعَةَ بْنِ سَيْفِ بْنِ مَاتِعٍ الْمَعَافِرَيِّ الصُّنَّمِيِّ الْإِسْكَنْدَرِيِّ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ

الْبُخَارِيُّ: عِنْدَهُ مَنَاكِيرٌ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَالَ مَرَّةً: صَدُوقٌ، وَفِي نُسْخَةٍ: ضَعِيفٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَقَالَ: كَانَ يُخْطِئُ كَثِيرًا، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: صَالِحٌ، وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ فِي تَارِيخِ مِصْرَ: فِي حَدِيثِهِ مَنَاكِيرٌ تُوُفِّيَ قَرِيبًا مِنْ سَنَةِ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَالْمُرَادُ بِالْكُدَى: الْقُبُورُ، وَقِيلَ: النَّوْحُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ مَاتَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ دِينِ الْجَاهِلِيَّةِ، خِلَافًا لِفِرْقَةِ الشِّيعَةِ فِيهِ وَفِي ابْنِهِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ رِوَايَتِهِ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِي كِتَابِهِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: وَكَيْفَ لَا يَكُونُ أَبَوَاهُ وَجَدُّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْوَثَنَ حَتَّى مَاتُوا، وَلَمْ يَدِينُوا دِينَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكُفْرُهُمْ لَا يَقْدَحُ فِي نَسَبِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ; لِأَنَّ أَنْكِحَةَ الْكُفَّارِ صَحِيحَةٌ أَلَا تَرَاهُمْ يُسْلِمُونَ مَعَ زَوْجَاتِهِمْ فَلَا يَلْزَمُهُمْ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ وَلَا مُفَارَقَتُهُنَّ إِذَا كَانَ مِثْلُهُ يَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ انْتَهَى كَلَامُهُ.

قُلْتُ: وَإِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَبَوَيْهِ وَجَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، لَا يُنَافِي الْحَدِيثَ الْوَارِدَ عَنْهُ مَنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ وَالْأَطْفَالَ وَالْمَجَانِينَ وَالصُّمَّ يُمْتَحَنُونَ فِي الْعَرَصَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا بَسَطْنَاهُ سَنَدًا وَمَتْنًا فِي تَفْسِيرِنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [ الْإِسْرَاءِ: 15 ] فَيَكُونُ مِنْهُمْ مَنْ يُجِيبُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُجِيبُ فَيَكُونُ هَؤُلَاءِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ لَا يُجِيبُ فَلَا مُنَافَاةَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولَينِ إِلَى ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُحْيِيَ أَبَوَيْهِ فَأَحْيَاهُمَا وَآمَنَا بِهِ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا بِالنَّظَرِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ يُعَارِضُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ فِي كَفَالَةِ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ وَفَاةِ أُمِّهِ ]

فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ - يَعْنِي بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ - فَكَانَ يُوضَعُ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِرَاشٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَكَانَ بَنُوهُ يَجْلِسُونَ حَوْلَ فِرَاشِهِ ذَلِكَ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَيْهِ لَا يَجْلِسُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِيهِ إِجْلَالًا لَهُ قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي وَهُوَ غُلَامٌ جَفْرٌ حَتَّى يَجْلِسَ عَلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ أَعْمَامُهُ لِيُؤَخِّرُوهُ عَنْهُ فَيَقُولُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِذَا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ: دَعُوا ابْنِي فَوَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَشَأْنًا، ثُمَّ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى فِرَاشِهِ وَيَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، وَيَسُرُّهُ مَا يَرَاهُ يَصْنَعُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَحَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَسْلَمِيُّ عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَهْمٍ، وَحَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ - دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ - قَالُوا: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ مَعَ أُمِّهِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ قَبَضَهُ إِلَيْهِ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَضَمَّهُ وَرَقَّ عَلَيْهِ رِقَّةً لَمْ يَرِقَّهَا عَلَى

وَلَدِهِ وَكَانَ يُقَرِّبُهُ مِنْهُ وَيُدْنِيهِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ إِذَا خَلَا وَإِذَا نَامَ وَكَانَ يَجْلِسُ عَلَى فِرَاشِهِ فَيَقُولُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِذَا رَأَى ذَلِكَ: دَعُوا ابْنِي إِنَّهُ لَيُؤْنِسُ مُلْكًا.
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ: احْتَفِظْ بِهِ فَإِنَّا لَمْ نَرَ قَدَمًا أَشْبَهَ بِالْقَدَمِ الَّذِي فِي الْمَقَامِ مِنْهُ فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِأَبِي طَالِبٍ: اسْمَعْ مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ ! فَكَانَ أَبُو طَالِبٍ يَحْتَفِظُ بِهِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِأُمِّ أَيْمَنَ - وَكَانَتْ تَحْضُنُهُ -: يَا بَرَكَةُ لَا تَغْفُلِي عَنِ ابْنِي فَإِنِّي وَجَدْتُهُ مَعَ غِلْمَانٍ قَرِيبًا مِنَ السِّدْرَةِ، وَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ أَنَّ ابْنِي نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا إِلَّا يَقُولُ عَلَيَّ بِابْنِي فَيُؤْتَى بِهِ إِلَيْهِ فَلَمَّا حَضَرَتْ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَبَا طَالِبٍ بِحِفْظِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِيَاطَتِهِ، ثُمَّ مَاتَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَدُفِنُ بِالْحَجُونِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِي سِنِينَ هَلَكَ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ جَمْعَهُ بَنَاتِهِ، وَأَمْرَهُ إِيَّاهُنَّ أَنْ يَرْثِينَهُ، وَهُنَّ أَرْوَى وَأُمَيْمَةُ وَبَرَّةُ وَصَفِيَّةُ وَعَاتِكَةُ وَأُمُّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءُ، وَذَكَرَ أَشْعَارَهُنَّ وَمَا قُلْنَ فِي رِثَاءِ أَبِيهِنَّ وَهُوَ يَسْمَعُ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَهَذَا أَبْلَغُ النَّوْحِ، وَبَسَطَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يَعْرِفُ هَذَا الشِّعْرَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا هَلَكَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ، وَلِيَ السِّقَايَةَ

وَزَمْزَمَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الْعَبَّاسُ وَهُوَ مِنْ أَحْدَثِ إِخْوَتِهِ سِنًّا فَلَمْ تَزَلْ إِلَيْهِ حَتَّى قَامَ الْإِسْلَامُ، وَأَقَرَّهَا فِي يَدِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ جَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ لِوَصِيَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَهُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ شَقِيقَ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ أُمُّهُمَا فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ قَالَ: فَكَانَ أَبُو طَالِبٍ هُوَ الَّذِي يَلِي أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ إِلَيْهِ، وَمَعَهُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَحَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ - دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ - قَالُوا: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ قَبَضَ أَبُو طَالِبٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يَكُونُ مَعَهُ وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ لَا مَالَ لَهُ وَكَانَ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا لَا يُحِبُّهُ وَلَدَهُ وَكَانَ لَا يَنَامُ إِلَّا إِلَى جَنْبِهِ وَيَخْرُجُ فَيَخْرُجُ مَعَهُ، وَصَبَّ بِهِ أَبُو طَالِبٍ صَبَابَةً لَمْ يَصَبَّ مِثْلَهَا بِشَيْءٍ قَطُّ وَكَانَ يَخُصُّهُ بِالطَّعَامِ وَكَانَ إِذَا أَكَلَ عِيَالُ أَبِي طَالِبٍ جَمِيعًا أَوْ فُرَادَى لَمْ يَشْبَعُوا، وَإِذَا أَكَلَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبِعُوا فَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُغَدِّيَهُمْ قَالَ: كَمَا أَنْتُمْ حَتَّى

يَأْتِيَ ابْنِي فَيَأْتِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْكُلُ مَعَهُمْ فَكَانُوا يُفْضِلُونَ مِنْ طَعَامِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ لَمْ يَشْبَعُوا فَيَقُولُ أَبُو طَالِبٍ: إِنَّكَ لَمُبَارَكٌ. وَكَانَ الصِّبْيَانُ يُصْبِحُونَ رُمْصًا شُعْثًا، وَيُصْبِحُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَهِينًا كَحِيلًا.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ بَنُو أَبِي طَالِبٍ يُصْبِحُونَ غُمْصًا رُمْصًا، وَيُصْبِحُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَقِيلًا دَهِينًا وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ يُقَرِّبُ إِلَى الصِّبْيَانِ صَفْحَتَهُمْ أَوَّلَ الْبُكْرَةِ فَيَجْلِسُونَ وَيَنْتَهِبُونَ، وَيَكُفُّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ لَا يَنْتَهِبُ مَعَهُمْ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَمُّهُ عَزَلَ لَهُ طَعَامَهُ عَلَى حِدَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ لِهْبٍ كَانَ عَائِفًا فَكَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَاهُ رِجَالٌ مَنْ قُرَيْشٍ بِغِلْمَانِهِمْ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَيَعْتَافُ لَهُمْ فِيهِمْ قَالَ: فَأَتَى أَبُو طَالِبٍ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غُلَامٌ مَعَ مَنْ يَأْتِيهِ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ شَغَلَهُ

عَنْهُ شَيْءٌ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: الْغُلَامُ عَلِيَّ بِهِ فَلَمَّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ حِرْصَهُ عَلَيْهِ غَيَّبَهُ عَنْهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: وَيَلَكُمْ رُدُّوا عَلَيَّ الْغُلَامَ الَّذِي رَأَيْتُهُ آنِفًا فَوَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لَهُ شَأْنٌ قَالَ: وَانْطَلَقَ بِهِ أَبُو طَالِبٍ.

فَصْلٌ فِي خُرُوجِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وَقِصَّتِهِ مَعَ بَحِيرَى الرَّاهِبِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ فِي رَكْبٍ تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ فَلَمَّا تَهَيَّأَ لِلرَّحِيلِ، وَأَجْمَعَ السَّيْرَ صَبَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - فَرَقَّ لَهُ أَبُو طَالِبٍ، وَقَالَ: وَاللَّهُ لَأَخْرُجَنَّ بِهِ مَعِي وَلَا أُفَارِقُهُ وَلَا يُفَارِقُنِي أَبَدًا، أَوْ كَمَا قَالَ فَخَرَجَ بِهِ فَلَمَّا نَزَلَ الرَّكْبُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، وَبِهَا رَاهِبٌ يُقَالَ لَهُ: بَحِيرَى فِي صَوْمَعَةٍ لَهُ وَكَانَ إِلَيْهِ عِلْمُ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَلَمْ يَزَلْ فِي تِلْكَ الصَّوْمَعَةِ مُنْذُ قَطُّ رَاهِبٌ فِيهَا إِلَيْهِ يَصِيرُ عِلْمُهُمْ عَنْ كِتَابٍ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ فَلَمَّا نَزَلُوا ذَلِكَ الْعَامَ بِبَحِيرَى كَانُوا كَثِيرًا مَا يَمُرُّونَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ حَتَّى كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ فَلَمَّا نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَتِهِ صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا كَثِيرًا، وَذَلِكَ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - عَنْ شَيْءٍ رَآهُ وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْبِ حِينَ أَقْبَلُوا، وَغَمَامَةٌ تُظِلُّهُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ، ثُمَّ أَقْبَلَوا فَنَزَلُوا فِي

ظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْهُ فَنَظَرَ إِلَى الْغَمَامَةِ حِينَ أَظَلَّتِ الشَّجَرَةُ، وَتَهَصَّرَتْ أَغْصَانُ الشَّجَرَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اسْتَظَلَّ تَحْتَهَا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ بَحِيرَى نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ وَقَدْ أَمَرَ بِطَعَامٍ فَصُنِعَ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنِّي صَنَعْتُ لَكُمْ طَعَامًا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَحْضُرُوا كُلُّكُمْ كَبِيرُكُمْ، وَصَغِيرُكُمْ وَعَبْدُكُمْ وَحُرُّكُمْ.
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ يَا بَحِيرَى إِنَّ لَكَ لَشَأْنًا الْيَوْمَ ! مَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا بِنَا وَقَدْ كُنَّا نَمُرُّ بِكَ كَثِيرًا فَمَا شَأْنُكَ الْيَوْمَ ؟ قَالَ لَهُ بَحِيرَى: صَدَقْتَ قَدْ كَانَ مَا تَقُولُ، وَلَكِنَّكُمْ ضَيْفٌ وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أُكْرِمَكُمْ، وَأَصْنَعَ لَكُمْ طَعَامًا فَتَأْكُلُونَ مِنْهُ كُلُّكُمْ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، وَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ فِي رِحَالِ الْقَوْمِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَلَمَّا رَآهُمْ بَحِيرَى لَمْ يَرَ الصِّفَةَ الَّتِي يَعْرِفُ وَيَجِدُ عِنْدَهُ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَا يَتَخَلَّفَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَنْ طَعَامِي قَالُوا: يَا بَحِيرَى مَا تَخَلَّفَ أَحَدٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَكَ إِلَّا غُلَامٌ وَهُوَ أَحْدَثُنَا سِنًّا فَتَخَلَّفَ فِي رِحَالِنَا قَالَ: لَا تَفْعَلُوا ! ادْعُوهُ فَلْيَحْضُرْ هَذَا الطَّعَامَ مَعَكُمْ قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَ الْقَوْمِ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى إِنْ كَانَ لَلُؤْمًا بِنَا أَنْ يَتَخَلَّفَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنْ طَعَامٍ مِنْ بَيْنِنَا، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ فَاحْتَضَنَهُ، وَأَجْلَسَهُ مَعَ الْقَوْمِ فَلَمَّا رَأَى بَحِيرَى جَعَلَ يَلْحَظُهُ لَحْظًا شَدِيدًا، وَيَنْظُرُ إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ جَسَدِهِ قَدْ كَانَ يَجِدُهَا عِنْدَهُ مِنْ صِفَتِهِ حَتَّى إِذَا فَرَغَ الْقَوْمُ مِنْ طَعَامِهِمْ وَتَفَرَّقُوا قَامَ

إِلَيْهِ بَحِيرَى.
وَقَالَ لَهُ: يَا غُلَامُ أَسْأَلُكَ بِحَقِّ اللَّاتِ وَالْعُزَّى إِلَّا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ بَحِيرَى ذَلِكَ; لِأَنَّهُ سَمِعَ قَوْمَهُ يَحْلِفُونَ بِهِمَا فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَهُ: لَا تَسْأَلْنِي بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَوَاللَّهِ مَا أَبْغَضْتُ شَيْئًا قَطُّ بُغْضَهُمَا فَقَالَ لَهُ بَحِيرَى: فَبِاللَّهِ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ: سَلْنِي عَمَّا بَدَا لَكَ فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ حَالِهِ مِنْ نَوْمِهِ وَهَيْئَتِهِ وَأُمُورِهِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَا عِنْدَ بَحِيرَى مَنْ صِفَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى ظَهْرِهِ فَرَأَى خَاتَمَ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَلَى مَوْضِعِهِ مَنْ صِفَتِهِ الَّتِي عِنْدَهُ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: مَا هَذَا الْغُلَامُ مِنْكَ ؟ قَالَ: ابْنِي قَالَ بَحِيرَى: مَا هُوَ بِابْنِكَ وَمَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْغُلَامِ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيًّا قَالَ: فَإِنَّهُ ابْنُ أَخِي قَالَ: فَمَا فَعَلَ أَبُوهُ ؟ قَالَ: مَاتَ وَأَمُّهُ حُبْلَى بِهِ. قَالَ: صَدَقْتَ ارْجِعْ بِابْنِ أَخِيكَ إِلَى بَلَدِهِ، وَاحْذَرْ عَلَيْهِ يَهُودَ فَوَاللَّهِ لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْتُ، لِيَبْغُنَّهُ شَرًّا فَإِنَّهُ كَائِنٌ لِابْنِ أَخِيكَ هَذَا شَأْنٌ عَظِيمٌ فَأَسْرِعْ بِهِ إِلَى بِلَادِهِ فَخَرَجَ بِهِ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ سَرِيعًا حَتَّى أَقْدَمَهُ مَكَّةَ حِينَ فَرَغَ مِنْ تِجَارَتِهِ بِالشَّامِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَزَعَمُوا - فِيمَا رَوَى النَّاسُ - أَنَّ زُرَيْرًا وَتَمَّامًا وَدَرِيسًا - وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - قَدْ كَانُوا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَمَا

رَأَى بَحِيرَى فِي ذَلِكَ السَّفَرِ الَّذِي كَانَ فِيهِ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ فَأَرَادُوهُ فَرَدَّهُمْ عَنْهُ بَحِيرَى فَذَكَّرَهُمُ اللَّهَ وَمَا يَجِدُونَ فِي الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِهِ، وَصَفَتِهِ، وَأَنَّهُمْ إِنْ أَجْمَعُوا لِمَا أَرَادُوا بِهِ لَمْ يَخْلُصُوا إِلَيْهِ حَتَّى عَرَفُوا مَا قَالَ لَهُمْ، وَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ فَتَرَكُوهُ وَانْصَرَفُوا عَنْهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَ قَصَائِدَ هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَذَا السِّيَاقَ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ مِنْهُ وَقَدْ وَرَدَ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقٍ مُسْنَدٍ مَرْفُوعٍ فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ حَدَّثَنَا قُرَادٌ أَبُو نُوحٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وَمَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ - يَعْنِي بَحِيرَى - هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ قَالَ: فَنَزَلَ، وَهُمْ يُحِلُّونَ رِحَالَهُمْ فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمْ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ زِيَادَةٌ: هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ هَذَا يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: وَمَا عِلْمُكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ

أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرَةٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا وَلَا يَسْجُدُونَ إِلَّا لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا.
فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ - وَكَانَ هُوَ فِي رَعْيَةِ الْإِبِلِ - فَقَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأَقْبَلَ، وَغَمَامَةٌ تُظِلُّهُ فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ قَالَ: انْظُرُوا إِلَيْهِ عَلَيْهِ غَمَامَةٌ فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ قَالَ: انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَلَّا يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى الرُّومِ فَإِنَّ الرُّومَ إِنْ رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَقَتَلُوهُ فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِسَبْعَةِ نَفَرٍ مِنَ الرُّومِ قَدْ أَقْبَلُوا قَالَ: فَاسْتَقْبَلَهُمْ فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ ؟ قَالُوا: جِئْنَا أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلَّا بُعِثَ إِلَيْهِ نَاسٌ، وَإِنَّا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ إِلَى طَرِيقِكَ هَذِهِ قَالَ: فَهَلْ خَلَّفْتُمْ أَحَدًا هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ ؟ قَالُوا: لَا إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ إِلَى طَرِيقِكَ هَذِهِ قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ ؟ فَقَالُوا: لَا قَالَ: فَبَايَعُوهُ، وَأَقَامُوا مَعَهُ عِنْدَهُ قَالَ: فَقَالَ الرَّاهِبُ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ، وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا، وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ.
هَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ الْأَعْرَجِ عَنْ قُرَادٍ أَبِي نُوحٍ بِهِ،

وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْأَصَمِّ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدُّورِيِّ بِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نُوحٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَزْوَانَ الْخُزَاعِيِّ مَوْلَاهُمْ، وَيُقَالَ لَهُ: الضَّبِّيُّ، وَيُعْرَفُ بِقُرَادٍ سَكَنَ بَغْدَادَ وَهُوَ مِنَ الثِّقَاتِ الَّذِينَ أَخْرَجَ لَهُمُ الْبُخَارِيُّ، وَوَثَّقَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْحُفَّاظِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا جَرَّحَهُ، وَمَعَ هَذَا فِي حَدِيثِهِ هَذَا غَرَابَةٌ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَحَدٌ يُحَدِّثُ بِهِ غَيْرُ قُرَادٍ أَبِي نُوحٍ وَقَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ لِغَرَابَتِهِ، وَانْفِرَادِهِ حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ.
قُلْتُ: فِيهِ مِنَ الْغَرَائِبِ أَنَّهُ مِنْ مُرْسَلَاتِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إِنَّمَا قَدِمَ فِي سَنَةِ خَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي جَعْلِهِ لَهُ مِنَ الْمُهَاجِرَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ مُرْسَلٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعُمُرِ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ ثِنْتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَعَلَّ أَبَا مُوسَى تَلَقَّاهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ أَبْلَغَ أَوْ مِنْ بَعْضِ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْ كَانَ هَذَا مَشْهُورًا مَذْكُورًا أَخَذَهُ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِفَاضَةِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْغَمَامَةَ لَمْ تُذْكَرْ فِي حَدِيثٍ أَصَحَّ مِنْ هَذَا.
الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ، وَبَعْثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا إِنْ كَانَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذْ ذَاكَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَدْ كَانَ عُمُرُ أَبِي بَكْرٍ إِذْ ذَاكَ تِسْعَ سِنِينَ أَوْ عَشْرَةَ، وَعُمُرُ بِلَالٍ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَأَيْنَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذْ ذَاكَ ؟ ثُمَّ أَيْنَ كَانَ بِلَالٌ ؟ كِلَاهُمَا غَرِيبٌ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا كَانَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبِيرٌ، إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ بَعْدَ هَذَا أَوْ إِنْ كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّ عُمُرَهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً غَيْرَ مَحْفُوظٍ فَإِنَّهُ إِنَّمَا ذَكَرَهُ مُقَيَّدًا بِهَذَا الْوَاقِدِيُّ، وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ، أَنَّهُ كَانَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِذْ ذَاكَ تِسْعَ سِنِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالُوا: لَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، خَرَجَ بِهِ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ فِي الْعِيرِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا لِلتِّجَارَةِ، وَنَزَلُوا بِالرَّاهِبِ بَحِيرَى فَقَالَ لِأَبِي طَالِبٍ فِي السِّرِّ مَا قَالَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَحْتَفِظَ بِهِ فَرَدَّهُ مَعَهُ أَبُو طَالِبٍ إِلَى مَكَّةَ.

وَشَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي طَالِبٍ، يَكْلَؤُهُ اللَّهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَعَائِبِهَا لِمَا يُرِيدُ مِنْ كَرَامَتِهِ حَتَّى بَلَغَ أَنْ كَانَ رَجُلَاً أَفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً، وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا وَأَكْرَمَهُمْ مُخَالَطَةً وَأَحْسَنَهُمْ جِوَارًا، وَأَعْظَمَهُمْ حِلْمًا وَأَمَانَةً وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وَأَبْعَدَهُمْ مِنَ الْفُحْشِ وَالْأَذَى مَا رُئِيَ مُلَاحِيًا وَلَا مُمَارِيًا أَحَدًا حَتَّى سَمَّاهُ قَوْمُهُ الْأَمِينَ; لِمَا جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الصَّالِحَةِ فَكَانَ أَبُو طَالِبٍ يَحْفَظُهُ وَيَحُوطُهُ وَيَنْصُرُهُ وَيُعَضِّدُهُ حَتَّى مَاتَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ - أَوْ أَبَا طَالِبٍ شَكَّ خَالِدٌ - قَالَ: لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ عَطَفَ عَلَى مُحَمَّدٍ فَكَانَ لَا يُسَافِرُ سَفَرًا إِلَّا كَانَ مَعَهُ فِيهِ، وَإِنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الشَّامِ فَنَزَلَ مَنْزِلًا فَأَتَاهُ فِيهِ رَاهِبٌ فَقَالَ: إِنَّ فِيكُمْ رَجُلًا صَالِحًا، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ أَبُو هَذَا الْغُلَامِ ؟ قَالَ: فَقَالَ: هَا أَنَا ذَا وَلِيُّهُ، أَوْ قِيلَ: هَذَا وَلِيُّهُ قَالَ: احْتَفِظْ بِهَذَا الْغُلَامِ وَلَا تَذْهَبْ بِهِ إِلَى الشَّامِ إِنَّ الْيَهُودَ حُسُدٌ، وَإِنِّي أَخْشَاهُمْ عَلَيْهِ. قَالَ: مَا أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَقُولُهُ فَرَدَّهُ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسَتُودِعُكَ مُحَمَّدًا، ثُمَّ إِنَّهُ مَاتَ.

قِصَّةُ بَحِيرَى
حَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ سِيَرِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ بَحِيرَى كَانَ حَبْرًا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ سِيَاقِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ كَانَ رَاهِبًا نَصْرَانِيًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنِ الْمَسْعُودِيِّ أَنَّهُ كَانَ مَنْ عَبْدِ الْقَيْسِ وَكَانَ اسْمُهُ سَرْجِسَ، وَفِي كِتَابِ الْمَعَارِفِ لِابْنِ قُتَيْبَةَ سُمِعَ هَاتِفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِقَلِيلٍ يَهْتِفُ، وَيَقُولُ: أَلَا إِنَّ خَيْرَ أَهْلِ الْأَرْضِ ثَلَاثَةٌ بَحِيرَى، وَرِئَابٌ الشَّنِّيُّ وَالثَّالِثُ الْمُنْتَظَرُ وَكَانَ الثَّالِثُ الْمُنْتَظَرُ هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَكَانَ قَبْرُ رِئَابٍ الشَّنِّيُّ، وَقَبْرُ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ لَا يَزَالُ يُرَى عِنْدَهَا طَشٌّ وَهُوَ الْمَطَرُ الْخَفِيفُ.

فَصْلٌ فِي مَنْشَئِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُرَبَّاهُ وَكِفَايَةِ اللَّهِ لَهُ وَحِيَاطَتِهِ وَكَيْفَ كَانَ يَتِيمًا فَآوَاهُ وَعَائِلًا فَأَغْنَاهُ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَشَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْلَؤُهُ اللَّهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ أَقْذَارِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِمَا يُرِيدُ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَرِسَالَتِهِ حَتَّى بَلَغَ أَنْ كَانَ رَجُلًا أَفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً، وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وَأَكْرَمَهُمْ حَسَبًا، وَأَحْسَنَهُمْ جِوَارًا، وَأَعْظَمَهُمْ حِلْمًا، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا، وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً، وَأَبْعَدَهُمْ مِنَ الْفُحْشِ وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي تُدَنِّسُ الرِّجَالَ; تَنَزُّهًا وَتَكَرُّمًا. حَتَّى مَا اسْمُهُ فِي قَوْمِهِ إِلَّا الْأَمِينُ لِمَا جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الصَّالِحَةِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - يُحَدِّثُ عَمَّا كَانَ اللَّهُ يَحْفَظُهُ بِهِ فِي صِغَرِهِ، وَأَمْرِ جَاهِلِيَّتِهِ أَنَّهُ قَالَ لِقَدْ رَأَيْتُنِي فِي غِلْمَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ، نَنْقُلُ الْحِجَارَةَ لِبَعْضِ مَا يَلْعَبُ الْغِلْمَانُ، كُلُّنَا قَدْ تَعَرَّى وَأَخَذَ إِزَارَهُ وَجَعَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ; يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ فَإِنِّي لَأُقْبِلُ مَعَهُمْ كَذَلِكَ، وَأُدْبِرُ إِذْ لَكَمَنِي لَاكَمٌ مَا أَرَاهُ لَكْمَةً

وَجِيعَةً، ثُمَّ قَالَ: شُدَّ عَلَيْكَ إِزَارَكَ قَالَ: فَأَخَذْتُهُ فَشَدَدْتُهُ عَلَيَّ، ثُمَّ جَعَلْتُ أَحْمِلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِي وَإِزَارِي عَلَيَّ، مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي وَهَذِهِ الْقِصَّةُ شَبِيهَةٌ بِمَا فِي الصَّحِيحِ عِنْدَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ حِينَ كَانَ يَنْقُلُ هُوَ وَعَمُّهُ الْعَبَّاسُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْهَا فَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهَا كَالتَّوْطِئَةِ لَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ الْحِجَارَةَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى عَاتِقِكَ مِنَ الْحِجَارَةِ فَفَعَلَ فَخَرَّ إِلَى الْأَرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: إِزَارِي فَشَدَّ عَلَيْهِ إِزَارَهُ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالَا: أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بُكَيْرٍ الْحَضْرَمِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ

عَبْدِ اللَّهِ الدَّشْتَكِيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَنْقُلُ الْحِجَارَةَ إِلَى الْبَيْتِ، حِينَ بَنَتْ قُرَيْشٌ الْبَيْتَ قَالَ وَأَفْرَدَتْ قُرَيْشٌ رَجُلَيْنِ رَجُلَيْنِ، الرِّجَالُ يَنْقُلُونَ الْحِجَارَةَ، وَكَانَتِ النِّسَاءُ تَنْقُلُ الشَّيْدَ. قَالَ: فَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ أَخِي وَكُنَّا نَحْمِلُ عَلَى رِقَابِنَا، وَأُزُرُنَا تَحْتَ الْحِجَارَةِ فَإِذَا غَشِيَنَا النَّاسُ ائْتَزَرْنَا فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي وَمُحَمَّدٌ أَمَامِي قَالَ: فَخَرَّ وَانْبَطَحَ عَلَى وَجْهِهِ فَجِئْتُ أَسْعَى وَأَلْقَيْتُ حَجَرِي وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ فَقَامَ وَأَخَذَ إِزَارَهُ قَالَ: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَمْشِيَ عُرْيَانًا. قَالَ، وَكُنْتُ أَكْتُمُهَا مِنَ النَّاسِ مَخَافَةَ أَنْ يَقُولُوا مَجْنُونٌ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا هَمَمْتُ بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَهُمُّونَ بِهِ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا لَيْلَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا عَصَمَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمَا قُلْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ فِتْيَانِ مَكَّةَ - وَنَحْنُ فِي رِعَاءِ غَنَمِ أَهْلِهَا - فَقُلْتُ لِصَاحِبِي: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي حَتَّى أَدْخَلَ مَكَّةَ أَسْمُرُ فِيهَا كَمَا يَسْمُرُ الْفِتْيَانُ فَقَالَ: بَلَى قَالَ: فَدَخَلْتُ حَتَّى جِئْتُ أَوَّلَ دَارٍ مِنْ دُورِ مَكَّةَ سَمِعْتُ عَزْفًا بِالْغَرَابِيلِ وَالْمَزَامِيرِ،

فَقُلْتُ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: تَزَوَّجَ فُلَانٌ فُلَانَةً فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ، وَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِي فَوَاللَّهِ مَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسَ فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ ؟ فَقُلْتُ: مَا فَعَلْتُ شَيْئًا، ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي رَأَيْتُ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ لَيْلَةً أُخْرَى: أَبْصِرْ لِي غَنَمِي حَتَّى أَسْمُرَ فَفَعَلَ فَدَخَلْتُ فَلَمَّا جِئْتُ مَكَّةَ سَمِعْتُ مِثْلَ الَّذِي سَمِعْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَسَأَلْتُ فَقِيلَ: نَكَحَ فُلَانٌ فُلَانَةً فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ، وَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِي فَوَاللَّهِ مَا أَيْقَظَنِي إِلَّا مَسُّ الشَّمْسِ فَرَجَعْتُ إِلَى صَاحِبِي فَقَالَ: مَا فَعَلْتَ ؟ فَقُلْتُ: لَا شَيْءَ ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ فَوَاللَّهِ مَا هَمَمْتُ وَلَا عُدْتُ بَعْدَهُمَا لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِنُبُوَّتِهِ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَقَدْ يَكُونُ عَنْ عَلِيٍّ نَفْسِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي آخِرِهِ حَتَّى أَكْرَمَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِنُبُوَّتِهِ مُقْحَمًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَشَيْخُ ابْنِ إِسْحَاقَ هَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ قَالَ شَيْخُنَا فِي تَهْذِيبِهِ: وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ الْعَامِرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو

أُسَامَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ قَالَ كَانَ صَنَمٌ مِنْ نُحَاسٍ يُقَالَ لَهُ: إِسَافٌ أَوْ نَائِلَةُ يَتَمَسَّحُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ إِذَا طَافُوا فَطَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَفْتُ مَعَهُ فَلَمَّا مَرَرْتُ مَسَحْتُ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَمَسَّهُ قَالَ زَيْدٌ: فَطُفْنَا فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَأَمَسَّنَّهُ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَكُونُ فَمَسَحْتُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ تُنْهَ ؟ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ زَادَ غَيْرُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو بِإِسْنَادِهِ قَالَ زَيْدٌ: فَوَالَّذِي أَكْرَمَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ مَا اسْتَلَمَ صَنَمًا قَطُّ حَتَّى أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالَّذِي أَكْرَمَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ.
وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَبَحِيرَى حِينَ سَأَلَهُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا تَسْأَلْنِي بِهِمَا فَوَاللَّهِ مَا أَبْغَضْتُ شَيْئًا بُغْضَهُمَا فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو أَحْمَدَ ابْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَسْبَاطٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْهَدُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ مَشَاهِدَهُمْ قَالَ: فَسَمِعَ مَلَكَيْنِ خَلْفَهُ وَأَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا

حَتَّى نَقُومَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَيْفَ نَقُومُ خَلْفَهُ، وَإِنَّمَا عَهْدُهُ بِاسْتِلَامِ الْأَصْنَامِ قُبَيْلُ ؟ قَالَ: فَلَمْ يَعُدْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ مَشَاهِدَهُمْ..
فَهُوَ حَدِيثٌ أَنْكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِيهِ: لَمْ يَكُنْ أَخُوهُ يَتَلَفَّظُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَقَدْ حَكَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ مَنْ يَسْتَلِمُ الْأَصْنَامَ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّهُ اعْتَزَلَ شُهُودَ مَشَاهِدِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ، وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ عَرَفَةَ بَلْ كَانَ يَقِفُ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَاتٍ كَمَا قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَمِّهِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ وَهُوَ يَقِفُ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ بِعَرَفَاتٍ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ حَتَّى يَدْفَعَ مَعَهُمْ تَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، مَا كَانَ بَقِيَ مِنْ إِرْثِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَلَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ قَطُّ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا.

قُلْتُ: وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ بِعَرَفَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ. وَهَذَا تَوْفِيقٌ مِنَ اللَّهِ لَهُ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ، وَلَفْظُهُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَوَاقِفٌ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ مَعَ النَّاسِ بِعَرَفَاتٍ حَتَّى يَدْفَعَ مَعَهُمْ تَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي بِعَرَفَةَ فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاقِفٌ فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا مِنَ الْحُمْسِ، مَا شَأْنُهُ هَاهُنَا ؟ وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ.

ذِكْرُ شُهُودِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرْبَ الْفِجَارِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَاجَتْ حَرْبُ الْفِجَارِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمُ الْفِجَارِ; بِمَا اسْتَحَلَّ فِيهِ هَذَانَ الْحَيَّانِ - كِنَانَةُ قَيْسِ عَيْلَانَ - مِنَ الْمَحَارِمِ بَيْنَهُمْ وَكَانَ قَائِدَ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَكَانَ الظَّفَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ. لِقَيْسٍ عَلَى كِنَانَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَسَطِ النَّهَارِ كَانَ الظَّفَرُ لِكِنَانَةَ عَلَى قَيْسٍ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً - فِيمَا حَدَّثَنِي بِهِ أَبُو عُبَيْدَةَ النَّحْوِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ - هَاجَتْ حَرْبُ الْفِجَارِ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَمَنْ مَعَهَا مِنْ كِنَانَةَ وَبَيْنَ قَيْسِ عَيْلَانَ وَكَانَ الَّذِي هَاجَهَا أَنَّ عُرْوَةَ الرَّحَّالَ ابْنَ عُتْبَةَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ أَجَازَ لَطِيمَةً - أَيْ تِجَارَةً -

لِلنُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ فَقَالَ: الْبَرَّاضُ بْنُ قَيْسٍ - أَحَدُ بَنِي ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ - أَتُجِيزُهَا عَلَى كِنَانَةَ ؟ قَالَ: نَعَمْ وَعَلَى الْخَلْقِ فَخَرَجَ فِيهَا عُرْوَةُ الرَّحَّالُ، وَخَرَجَ الْبَرَّاضُ يَطْلُبُ غَفْلَتَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِتَيْمَنَ ذِي ظِلَالٍ بِالْعَالِيَةِ غَفَلَ عُرْوَةُ فَوَثَبَ عَلَيْهِ الْبَرَّاضُ فَقَتَلَهُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ; فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْفِجَارُ، وَقَالَ الْبَرَّاضُ فِي ذَلِكَ:
وَدَاهِيَةٌ تُهِمُّ النَّاسَ قَبْلِي شَدَدْتُ لَهَا بَنِي بَكْرٍ ضُلُوعِي هَدَمْتُ بِهَا بُيُوتَ بَنِي كِلَابٍ
وَأَرْضعْتُ الْمَوَالِيَ بِالضُّرُوعِ رَفَعْتُ لَهُ بِذِي ظَلَّالَ كَفِّي
فَخَرَّ يَمِيدُ كَالْجِذْعِ الصَّرِيعِ
وَقَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ:
وَأَبْلِغْ إِنْ عَرَضْتَ بَنِي كِلَابٍ وَعَامِرَ وَالْخُطُوبُ لَهَا مَوَالِي
وَأَبْلِغْ إِنْ عَرَضْتَ بَنِي نُمَيْرٍ وَأَخْوَالَ الْقَتِيلِ بَنِي هِلَالِ
بَأَنَّ الْوَافِدَ الرَّحَّالَ أَمْسَى مُقِيمًا عِنْدَ تَيْمَنَ ذِي ظَلَالِ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَأَتَى آتٍ قُرَيْشًا فَقَالَ: إِنَّ الْبَرَّاضَ قَدْ قَتَلَ عُرْوَةَ وَهُوَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِعُكَاظٍ فَارْتَحَلُوا وَهَوَازِنُ لَا تَشْعُرُ بِهِمْ، ثُمَّ بَلَغَهُمُ الْخَبَرُ فَاتَّبَعُوهُمْ فَأَدْرَكُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا الْحَرَمَ فَاقْتَتَلُوا حَتَّى جَاءَ اللَّيْلُ فَدَخَلُوا الْحَرَمَ فَأَمْسَكَتْ هَوَازِنُ عَنْهُمْ، ثُمَّ الْتَقَوْا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ أَيَّامًا وَالْقَوْمُ مُتَسَانِدُونَ عَلَى كُلِّ قَبِيلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ رَئِيسٌ مِنْهُمْ، وَعَلَى كُلِّ قَبِيلٍ مِنْ قَيْسٍ رَئِيسٌ مِنْهُمْ قَالَ: وَشَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ أَيَّامِهِمْ أَخْرَجَهُ أَعْمَامُهُ مَعَهُمْ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ أُنَبِّلُ عَلَى أَعْمَامِي أَيْ أَرُدُّ عَلَيْهِمُ نَبْلَ عَدُوِّهِمْ إِذَا رَمَوْهُمْ بِهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدِيثُ الْفِجَارِ أَطْوَلُ مِمَّا ذَكَرْتُ، وَإِنَّمَا مَنَعَنِي مِنَ اسْتِقْصَائِهِ قَطْعُهُ حَدِيثَ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَالْفِجَارُ بِكَسْرِ الْفَاءِ عَلَى وَزْنِ قِتَالٍ، وَكَانَتِ الْفِجَارَاتُ فِي الْعَرَبِ أَرْبَعَةً; ذَكَرَهُنَّ الْمَسْعُودِيُّ وَآخِرُهُنَّ فَجِارُ الْبَرَّاضِ هَذَا وَكَانَ الْقِتَالُ فِيهِ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يَوْمِ شَمْطَةَ وَيَوْمِ الْعَبْلَاءِ وَهُمَا عِنْدَ عُكَاظٍ، وَيَوْمِ الشَّرِبِ - وَهُوَ أَعْظَمُهَا يَوْمًا - وَهُوَ الَّذِي حَضَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ قَيَّدَا - رَئِيسُ قُرَيْشٍ وَبَنِي كِنَانَةَ، وَهُمَا حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ وَأَخُوهُ سُفْيَانُ -

أَنْفُسَهُمَا لِئَلَّا يَفِرَّا، وَانْهَزَمَتْ يَوْمَئِذٍ قَيْسٌ إِلَّا بَنِي نَضْرٍ فَإِنَّهُمْ ثَبَتُوا، وَيَوْمِ الْحُرَيْرَةِ عِنْدَ نَخْلَةَ، ثُمَّ تَوَاعَدُوا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ إِلَى عُكَاظٍ فَلَمَّا تُوَافُوا الْمَوْعِدَ رَكِبَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ جَمَلَهُ، وَنَادَى يَا مَعْشَرَ مُضَرَ عَلَامَ تُقَاتِلُونَ ؟ فَقَالَتْ لَهُ هَوَازِنُ: مَا تَدْعُو إِلَيْهِ ؟ قَالَ: الصُّلْحُ قَالُوا: وَكَيْفَ ؟ قَالَ: نَدِيَ قَتْلَاكُمْ، وَنَرْهَنُكُمْ رَهَائِنَ عَلَيْهَا، وَنَعْفُو عَنْ دِمَائِنَا قَالُوا: وَمَنْ لَنَا بِذَلِكَ ؟ قَالَ: أَنَا قَالُوا: وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فَوَقْعَ الصُّلْحُ عَلَى ذَلِكَ، وَبَعَثُوا إِلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا فِيهِمْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَلَمَّا رَأَتْ بَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ الرَّهْنَ فِي أَيْدِيهِمْ عَفَوْا عَنْ دِمَائِهِمْ، وَانْقَضَتْ حَرْبُ الْفَجِارِ وَقَدْ ذَكَرَ الْأُمَوِيُّ حُرُوبَ الْفِجَارِ، وَأَيَّامَهَا، وَاسْتَقْصَاهَا مُطَوَّلًا فِيمَا رَوَاهُ عَنِ الْأَثْرَمِ وَهُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى فَذَكَرَ ذَلِكَ.

فَصْلٌ
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو أَحْمَدَ ابْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ الْخَفَّافُ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَذْرَمِيُّ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَهِدْتُ مَعَ عُمُومَتِي حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ فَمَا أُحِبُّ أَنْ أَنْكُثَهُ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - وَإِنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: وَأَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ دَاوُدَ السِّمْنَانِيُّ حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا شَهِدْتُ حِلْفًا لِقُرَيْشٍ إِلَّا حَلِفَ الْمُطَيَّبِينَ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ، وَأَنِّي كُنْتُ نَقَضْتُهُ قَالَ: وَالْمُطَيَّبُونَ; هَاشِمٌ وَأُمَيَّةُ وَزُهْرَةُ وَمَخْزُومٌ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَذَا رُوِيَ

هَذَا التَّفْسِيرُ مُدْرَجًا فِي الْحَدِيثِ وَلَا أَدْرِي قَائِلَهُ، وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّهُ أَرَادَ حِلْفَ الْفُضُولِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُدْرِكْ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ.
قُلْتُ: هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا تَحَالَفُوا بَعْدَ مَوْتِ قُصَيٍّ، وَتَنَازَعُوا فِي الَّذِي كَانَ جَعَلَهُ قُصَيٌّ لِابْنِهِ عَبْدِ الدَّارِ مِنَ السِّقَايَةِ وَالرِّفَادَةِ وَاللِّوَاءِ وَالنَّدْوَةِ وَالْحِجَابَةِ، وَنَازَعَهُمْ فِيهِ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ، وَقَامَتْ مَعَ كُلِّ طَائِفَةٍ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَتَحَالَفُوا عَلَى النُّصْرَةِ لِحِزْبِهِمْ فَأَحْضَرَ أَصْحَابُ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ جَفْنَةً فِيهَا طِيبٌ فَوَضَعُوا أَيْدِيَهُمْ فِيهَا وَتَحَالَفُوا فَلَمَّا قَامُوا مَسَحُوا أَيْدِيَهُمْ بِأَرْكَانِ الْبَيْتِ فَسُمُّوُا الْمُطَيَّبِينِ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَانَ هَذَا قَدِيمًا، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحِلْفِ حِلْفُ الْفُضُولِ وَكَانَ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ كَمَا رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنَيْ أَبِي بَكْرٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا لَوْ دُعِيتُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ تَحَالَفُوا أَنْ يَرُدُّوا الْفُضُولَ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَلَّا يَعُزَّ ظَالِمٌ مَظْلُومًا قَالُوا: وَكَانَ حِلْفُ الْفُضُولِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِعِشْرِينَ سَنَةً فِي شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ وَكَانَ بَعْدَ حَرْبِ الْفِجَارِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِجَارَ كَانَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ حِلْفُ الْفُضُولِ أَكْرَمَ حِلْفٍ سُمِعَ بِهِ وَأَشْرَفَهُ فِي الْعَرَبِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ، وَدَعَا إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ زُبَيْدٍ قَدِمَ مَكَّةَ بِبِضَاعَةٍ فَاشْتَرَاهَا

مِنْهُ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَحَبَسَ عَنْهُ حَقَّهُ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ الزُّبَيْدِيُّ الْأَحْلَافَ; عَبْدَ الدَّارِ وَمَخْزُومًا وَجُمَحَ وَسَهْمًا وَعَدِيَّ بْنَ كَعْبِ فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُوا عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ - وَزَبَرُوهُ - أَيِ انْتَهَرُوهُ فَلَمَّا رَأَى الزُّبَيْدِيُّ الشَّرَّ أَوْفَى عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ - وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ - فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ
يَا آلَ فِهْرٍ لِمَظْلُومٍ بِضَاعَتُهُ بِبَطْنِ مَكَّةَ نَائِي الدَّارِ وَالنَّفَرِ وَمُحْرِمٍ أَشْعَثٍ لَمْ يَقْضِ عُمْرَتَهُ
يَا لَلرِّجَالِ وَبَيْنَ الْحِجْرِ وَالْحَجَرِ إِنَّ الْحَرَامَ لِمَنْ تَمَّتْ كَرَامَتُهُ
وَلَا حَرَامَ لِثَوْبِ الْفَاجِرِ الْغُدَرِ
فَقَامَ فِي ذَلِكَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَالَ: مَا لِهَذَا مُتْرَكٌ فَاجْتَمَعَتْ هَاشِمٌ وَزُهْرَةُ وَتَيْمُ بْنُ مُرَّةَ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، وَتَحَالَفُوا فِي ذِي الْقَعْدَةِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا بِاللَّهِ: لَيَكُونُنَّ يَدًا وَاحِدَةً مَعَ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ حَتَّى يُؤَدَّيَ إِلَيْهِ حَقُّهُ مَا بَلَّ بَحْرٌ صُوفَةً وَمَا رَسَّى ثَبِيرٌ وَحِرَاءُ مَكَانَهُمَا، وَعَلَى التَّأَسِّي فِي الْمَعَاشِ فَسَمَّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ، وَقَالُوا: لَقَدْ دَخَلَ هَؤُلَاءِ فِي فَضْلٍ مِنَ الْأَمْرِ، ثُمَّ مَشَوْا إِلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ فَانْتَزَعُوا مِنْهُ سِلْعَةَ الزُّبَيْدِيِّ فَدَفَعُوهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي ذَلِكَ:

حَلَفْتُ لَنَعْقِدَنَّ حِلْفًا عَلَيْهِمْ وَإِنْ كُنَّا جَمِيعًا أَهْلَ دَارِ
نُسَمِّيهِ الْفُضُولَ إِذَا عَقَدْنَا يَعِزُّ بِهِ الْغَرِيبُ لِذِي الْجِوَارِ
وَيَعْلَمُ مَنْ حَوَالِي الْبَيْتِ أَنَّا أُبَاةُ الضَّيْمِ نَمْنَعُ كُلَّ عَارِ
وَقَالَ الزُّبَيْرُ أَيْضًا:
إِنَّ الْفُضُولَ تَعَاقَدُوا وَتَحَالَفُوا أَلَّا يُقِيمَ بَبَطْنِ مَكَّةَ ظَالِمُ
أَمْرٌ عَلَيْهِ تَعَاقَدُوا وَتَوَاثَقُوا فَالْجَارُ وَالْمُعْتَرُّ فِيهِمْ سَالِمُ
وَذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ خَثْعَمٍ قَدِمَ مَكَّةَ حَاجًّا - أَوْ مُعْتَمِرًا - وَمَعَهُ ابْنَةٌ لَهُ يُقَالَ لَهَا: الْقَتُولُ مِنْ أَوْضَأِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فَاغْتَصَبَهَا مِنْهُ نُبَيْهُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَغَيَّبَهَا عَنْهُ فَقَالَ الْخَثْعَمِيُّ: مَنْ يُعْدِينِي عَلَى هَذَا الرَّجُلِ ؟ فَقِيلَ لَهُ: عَلَيْكَ بِحِلْفِ الْفُضُولِ. فَوَقَفَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَنَادَى يَا لَحِلْفِ الْفُضُولِ فَإِذَا هُمْ يُعْنِقُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَقَدِ انْتَضَوْا أَسْيَافَهُمْ يَقُولُونَ: جَاءَكَ الْغَوْثُ فَمَا لَكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ نُبَيْهًا ظَلَمَنِي فِي ابْنَتِي وَانْتَزَعَهَا مِنِّي قَسْرًا فَسَارُوا مَعَهُ حَتَّى وَقَفُوا عَلَى بَابِ دَارِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ: أَخْرِجِ الْجَارِيَةَ وَيْحَكَ ! فَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ نَحْنُ وَمَا تَعَاقَدْنَا عَلَيْهِ فَقَالَ: أَفْعَلُ وَلَكِنْ مَتِّعُونِي بِهَا اللَّيْلَةَ فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ وَلَا شَخْبَ لِقْحَةٍ،

فَأَخْرَجَهَا إِلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ:
رَاحَ صَحْبِي، وَلَمْ أُحَيِّ الْقَتُولَا لَمْ أُوَدِّعْهُمْ وَدَاعًا جَمِيلًا
إِذْ أَجَدَّ الْفُضُولُ أَنْ يَمْنَعُوهَا قَدْ أَرَانِي وَلَا أَخَافُ الْفُضُولَا
لَا تَخَالِي أَنِّي عَشِيَّةَ رَاحَ الرَّكْبُ هُنْتُمْ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقُولَا
وَذَكَرَ أَبْيَاتًا أُخَرَ غَيْرَ هَذِهِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا حِلْفُ الْفُضُولِ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ حِلْفًا تَحَالَفَتْهُ جُرْهُمٌ عَلَى مِثْلِ هَذَا مِنْ نَصْرِ الْمَظْلُومِ عَلَى ظَالِمِهِ وَكَانَ الدَّاعِي إِلَيْهِ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَشْرَافِهِمِ اسْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَضْلٌ، وَهُمْ: الْفَضْلُ بْنُ فَضَالَةَ وَالْفَضْلُ بْنُ وَدَاعَةَ وَالْفُضَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ هَذَا قَوْلُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُمُ الْفُضَيْلُ بْنُ شُرَاعَةَ وَالْفَضْلُ بْنُ وَدَاعَةَ وَالْفَضْلُ بْنُ قُضَاعَةَ وَقَدْ أَوْرَدَ السُّهَيْلِيُّ هَذَا رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: وَتَدَاعَتْ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى

حِلْفٍ فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ لِشَرَفِهِ، وَسَنِّهِ وَكَانَ حِلْفَهُمْ عِنْدَهُ، بَنُو هَاشِمٍ، وَبَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَسَدُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَزُهْرَةُ بْنُ كِلَابٍ، وَتَيْمُ بْنُ مُرَّةَ فَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى أَنْ لَا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا، مَنْ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ إِلَّا كَانُوا مَعَهُ كَانُوا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ مَظْلَمَتَهُ فَسَمَّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ قُنْفُذٌ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ..
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِي اللِّيْثِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَبَيْنَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ - وَالْوَلِيدُ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ أَمَّرَهُ عَلَيْهَا عَمُّهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - مُنَازَعَةٌ فِي مَالٍ كَانَ بَيْنَهُمَا بِذِي

الْمَرْوَةِ فَكَانَ الْوَلِيدُ تَحَامَلَ عَلَى الْحُسَيْنِ فِي حَقِّهِ لِسُلْطَانِهِ فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَتُنْصِفَنِّي مِنْ حَقِّي أَوْ لَآخُذَنَّ سَيْفِي، ثُمَّ لَأَقُومَنَّ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَأَدْعُوَنَّ بِحِلْفِ الْفُضُولِ قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - وَهُوَ عِنْدَ الْوَلِيدِ حِينَ قَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ مَا قَالَ -: وَأَنَا أَحْلِفَ بِاللَّهِ لَئِنْ دَعَا بِهِ لَآخُذُنَّ سَيْفِي، ثُمَّ لَأَقُومَنَّ مَعَهُ حَتَّى يُنْصَفَ مِنْ حَقِّهِ أَوْ نَمُوتَ جَمِيعًا. قَالَ: وَبَلَغَتِ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ الزُّهْرِيَّ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَبَلَغَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيَّ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ أَنْصَفَ الْحُسَيْنَ مِنْ حَقِّهِ حَتَّى رَضِيَ.

تَزْوِيجُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَةً تَاجِرَةً ذَاتَ شَرَفٍ وَمَالٍ تَسْتَأْجِرُ الرِّجَالَ عَلَى مَالِهَا مُضَارَبَةً فَلَمَّا بَلَغَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَلَغَهَا مِنْ صِدْقِ حَدِيثِهِ وَعِظَمِ أَمَانَتِهِ وَكَرَمِ أَخْلَاقِهِ بَعَثَتْ إِلَيْهِ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ لَهَا فِي مَالِهَا تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ، وَتُعْطِيهِ أَفْضَلَ مَا تُعْطِي غَيْرَهُ مِنَ التُّجَّارِ مَعَ غُلَامٍ لَهَا يُقَالَ لَهُ: مَيْسَرَةُ فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، وَخَرَجَ فِي مَالِهَا ذَاكَ، وَخَرَجَ مَعَهُ غُلَامُهَا مَيْسَرَةُ حَتَّى نَزَلَ الشَّامَ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ مِنَ الرُّهْبَانِ فَاطَّلَعَ الرَّاهِبُ إِلَى مَيْسَرَةَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي نَزَلَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ؟ فَقَالَ مَيْسَرَةُ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ. فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: مَا نَزَلْ تَحْتَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا نَبِيٌّ. ثُمَّ بَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِلْعَتَهُ - يَعْنِي تِجَارَتَهُ - الَّتِي خَرَجَ بِهَا، وَاشْتَرَى مَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ، ثُمَّ أَقْبَلَ قَافِلًا إِلَى مَكَّةَ، وَمَعَهُ مَيْسَرَةُ فَكَانَ مَيْسَرَةُ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - إِذَا كَانَتِ الْهَاجِرَةُ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ يَرَى

مَلَكَيْنِ يُظِلَّانِهِ مِنَ الشَّمْسِ وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى بَعِيرِهِ.
فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ عَلَى خَدِيجَةَ بِمَالِهَا، بَاعَتْ مَا جَاءَ بِهِ فَأَضْعَفَ أَوْ قَرِيبًا، وَحَدَّثَهَا مَيْسَرَةُ عَنْ قَوْلِ الرَّاهِبِ، وَعَمَّا كَانَ يَرَى مِنْ إِظْلَالِ الْمَلَكَيْنِ إِيَّاهُ، وَكَانَتْ خَدِيجَةُ امْرَأَةً حَازِمَةً شَرِيفَةً لَبِيبَةً مَعَ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَا مِنْ كَرَامَتِهَا فَلَمَّا أَخْبَرَهَا مَيْسَرَةُ مَا أَخْبَرَهَا بَعَثَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ لَهُ: - فِيمَا يَزْعُمُونَ - يَا ابْنَ عَمِّ إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِيكَ; لِقَرَابَتِكَ وَسِطَتِكَ فِي قَوْمِكَ، وَأَمَانَتِكَ وَحُسْنِ خُلُقِكَ، وَصِدْقِ حَدِيثِكَ، ثُمَّ عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ. وَكَانَتْ أَوْسَطَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ نَسَبًا، وَأَعْظَمَهُنَّ شَرَفًا، وَأَكْثَرَهُنَّ مَالًا كُلُّ قَوْمِهَا كَانَ حَرِيصًا عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا لَوْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَلَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَعْمَامِهِ فَخَرَجَ مَعَهُ عَمُّهُ حَمْزَةُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ فَخَطَبَهَا إِلَيْهِ فَتَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَأَصْدَقَهَا عِشْرِينَ بَكْرَةً، وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا حَتَّى مَاتَتْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَدَهُ كُلَّهُمْ - إِلَّا إِبْرَاهِيمَ -: الْقَاسِمَ وَكَانَ بِهِ يُكْنَى وَالطَّيِّبَ وَالطَّاهِرَ وَزَيْنَبَ وَرُقَيَّةَ وَأُمَّ كُلْثُومٍ وَفَاطِمَةَ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ أَكْبَرُهُمُ الْقَاسِمُ ثُمَّ الطَّيِّبُ ثُمَّ الطَّاهِرُ، وَأَكْبَرُ بَنَاتِهِ رُقَيَّةُ ثُمَّ زَيْنَبُ ثُمَّ أُمُّ كُلْثُومٍ ثُمَّ فَاطِمَةُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ: قَرَأْتُ بِخَطِّ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ قَالَ: أَكْبَرُ وَلَدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَاسِمُ ثُمَّ زَيْنَبُ ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ ثُمَّ أُمُّ كُلْثُومٍ ثُمَّ فَاطِمَةُ ثُمَّ رُقَيَّةُ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ مَاتَ مِنْ وَلَدِهِ الْقَاسِمُ ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ، وَبَلَغَتْ خَدِيجَةُ خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَيُقَالَ: خَمْسِينَ وَهُوَ أَصَحُّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلَغَ الْقَاسِمُ أَنْ يَرْكَبَ الدَّابَّةَ وَالنَّجِيبَةَ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَقِيلَ: مَاتَ وَهُوَ رَضِيعٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ يَسْتَكْمِلُ رَضَاعَهُ وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَلَدَتْ خَدِيجَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامَيْنِ وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ; الْقَاسِمَ وَعَبْدَ اللَّهِ وَفَاطِمَةَ وَأُمَّ كُلْثُومٍ وَزَيْنَبَ وَرُقَيَّةَ، وَقَالَ

الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ الطَّيِّبُ وَهُوَ الطَّاهِرُ سُمِّي بِذَلِكَ لِأَنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَمَاتُوا قَبْلَ الْبِعْثَةِ، وَأَمَّا بَنَاتُهُ فَأَدْرَكْنَ الْبِعْثَةَ وَدَخَلْنَ فِي الْإِسْلَامِ، وَهَاجَرْنَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ابْنُ هِشَامٍ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَمِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ صَاحِبُ إِسْكَنْدَرِيَّةَ مِنْ حَفْنٍ مِنْ كُورَةِ أَنْصِنَا، وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى أَزْوَاجِهِ وَأَوْلَادِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ لِذَلِكَ فِي آخِرِ السِّيرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ عُمُرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فِيمَا حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيُّ، وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: كَتَبْتُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمَوْصِلِيُّ حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ أَسَدٍ زَوَّجَ خَدِيجَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمُرُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقُرَيْشٌ تَبْنِي

الْكَعْبَةَ، وَهَكَذَا نَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ كَانَ عُمُرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَ عُمُرُهَا إِذْ ذَاكَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: بَابُ مَا كَانَ يَشْتَغِلُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ خَدِيجَةَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقُرَشِيُّ عَنْ جَدِّهِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَاعِيَ غَنَمٍ. فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: وَأَنَا رَعَيْتُهَا لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْقَرَارِيطِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بِهِ، ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ بْنِ بَدْرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آجَرْتُ نَفْسِي مِنْ خَدِيجَةَ سَفْرَتَيْنِ بِقَلُوصٍ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا خَدِيجَةَ زَوَّجَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ - أَظُنُّهُ قَالَ - سَكْرَانُ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ:

أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمَوْصِلِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مِقْسَمِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ كَانَ إِذَا سَمِعَ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ عَنْ تَزْوِيجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ وَمَا يُكْثِرُونَ فِيهِ يَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا إِنِّي كُنْتُ لَهُ تِرْبًا وَكُنْتُ لَهُ إِلْفًا وَخِدْنًا، وَإِنِّي خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْحَزْوَرَةِ أَجَزْنَا عَلَى أُخْتِ خَدِيجَةَ، وَهِيَ جَالِسَةٌ عَلَى أَدَمٍ تَبِيعُهَا فَنَادَتْنِي فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهَا، وَوَقَفَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: أَمَا بِصَاحِبِكَ هَذَا مِنْ حَاجَةٍ فِي تَزْوِيجِ خَدِيجَةَ ؟ قَالَ عَمَّارٌ: فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: بَلْ لَعَمْرِي فَذَكَرْتُ لَهَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: اغْدُوَا عَلَيْنَا إِذَا أَصْبَحْنَا. فَغَدَوْنَا عَلَيْهِمْ فَوَجَدْنَاهُمْ قَدْ ذَبَحُوا بَقَرَةً، وَأَلْبَسُوا أَبَا خَدِيجَةَ حُلَّةً، وَصُفِّرِتْ لِحْيَتُهُ، وَكَلَّمَتْ أَخَاهَا فَكَلَّمَ أَبَاهُ وَقَدْ سُقِيَ خَمْرًا فَذُكِرَ لَهُ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَكَانُهُ وَسَأَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ فَزَوَّجَهُ خَدِيجَةَ. وَصَنَعُوا مِنَ الْبَقَرَةِ طَعَامًا فَأَكَلْنَا مِنْهُ، وَنَامَ أَبُوهَا ثُمَّ اسْتَيْقَظَ صَاحِيًا فَقَالَ مَا هَذِهِ الْحُلَّةُ وَمَا هَذِهِ الصُّفْرَةُ. وَهَذَا الطَّعَامُ ؟ فَقَالَتْ لَهُ ابْنَتُهُ الَّتِي كَانَتْ قَدْ كَلَّمَتْ عَمَّارًا: هَذِهِ حُلَّةٌ كَسَاكَهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ خَتَنُكَ، وَبَقَرَةٌ أَهْدَاهَا لَكَ فَذَبَحْنَاهَا حِينَ زَوَّجْتَهُ خَدِيجَةَ. فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ زَوَّجَهُ، وَخَرَجَ يَصِيحُ حَتَّى جَاءَ الْحِجْرَ، وَخَرَجَ بَنُو هَاشِمٍ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءُوهُ فَكَلَّمُوهُ فَقَالَ: أَيْنَ صَاحِبُكُمُ الَّذِي تَزْعُمُونَ أَنِّي زَوَّجْتُهُ خَدِيجَةَ ؟ فَبَرَزَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ إِنْ كُنْتُ زَوَّجْتُهُ فَسَبِيلُ ذَاكَ، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ فَعَلْتُ فَقَدْ زَوَّجْتُهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الزُّهْرِيُّ فِي سِيَرِهِ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا مِنْهُ وَهُوَ سَكْرَانُ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ قَالَ الْمَوْصِلِيُّ: الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ أَنَّ عَمَّهَا عَمْرَو بْنَ أَسَدٍ هُوَ الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْهُ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ السُّهَيْلِيُّ، وَحَكَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ قَالَتْ: وَكَانَ خُوَيْلِدٌ مَاتَ قَبْلَ الْفِجَارِ

وَهُوَ الَّذِي نَازَعَ تُبَّعًا حِينَ أَرَادَ أَخْذَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِلَى الْيَمَنِ فَقَامَ فِي ذَلِكَ خُوَيْلِدٌ، وَقَامَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ رَأَى تُبَّعٌ فِي مَنَامِهِ مَا رَوَّعَهُ فَنَزَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَتَرَكَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مَكَانَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي آخِرِ السِّيرَةِ: أَنَّ أَخَاهَا عَمْرَو بْنَ خُوَيْلِدٍ هُوَ الَّذِي زَوَّجَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ كَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ذَكَرَتْ لِوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّىِ بْنِ قُصَىٍّ - وَكَانَ ابْنَ عَمِّهَا وَكَانَ نَصْرَانِيًّا قَدْ تَتَبَّعَ الْكُتُبَ، وَعَلِمَ مِنْ عِلْمِ النَّاسِ - مَا ذَكَرَ لَهَا غُلَامُهَا مِنْ قَوْلِ الرَّاهِبِ وَمَا كَانَ يُرَى مِنْهُ إِذْ كَانَ الْمَلَكَانِ يُظِلَّانِهِ فَقَالَ وَرَقَةُ: لَئِنْ كَانَ هَذَا حَقًّا يَا خَدِيجَةُ إِنَّ مُحَمَّدًا لَنَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، قَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُ كَائِنٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ نَبِيٌّ يُنْتَظَرُ هَذَا زَمَانُهُ أَوْ كَمَا قَالَ فَجَعَلَ وَرَقَةُ يَسْتَبْطِئُ الْأَمْرَ وَيَقُولُ حَتَّى مَتَى ؟ وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
لَجِجْتُ وَكُنْتُ فِي الذِّكْرَى لَجُوجًا لِهَمٍّ طَالَمَا بَعَثَ النَّشِيجَا وَوَصْفٍ مِنْ خَدِيجَةَ بَعْدَ وَصْفٍ
فَقَدْ طَالَ انْتِظَارِي يَا خَدِيجَا بِبَطْنِ الْمَكَّتَيْنِ عَلَى رَجَائِي
حَدِيثَكِ أَنْ أَرَى مِنْهُ خُرُوجَا بِمَا خَبَّرْتِنَا مِنْ قَوْلِ قَسٍّ
مِنَ الرُّهْبَانِ أَكْرَهُ أَنْ يَعُوجَا بِأَنَّ مُحَمَّدًا سَيَسُودُ فِينَا
وَيَخْصِمُ مَنْ يَكُونُ لَهُ حَجِيجَا

وَيُظْهِرُ فِي الْبِلَادِ ضِيَاءَ نُورٍ
يُقِيمُ بِهِ الْبَرِيَّةَ أَنْ تَمُوجَا فَيَلْقَى مَنْ يُحَارِبُهُ خَسَارًا
وَيَلْقَى مَنْ يُسَالِمُهُ فُلُوجَا فَيَا لَيْتَنِي إِذَا مَا كَانَ ذَاكُمْ
شَهِدْتُ وَكُنْتُ أَوَّلَهُمْ وُلُوجَا وُلُوجًا فِي الَّذِي كَرِهَتْ قُرَيْشٌ
وَلَوْ عَجَّتْ بَمَكَّتِهَا عَجِيجَا أُرَجِّي بِالَّذِي كَرِهُوا جَمِيعًا
إِلَى ذِي الْعَرْشِ إِنْ سَفَلُوا عُرُوجًا وَهَلْ أَمْرُ السَّفَالَةِ غَيْرُ كُفْرٍ
بِمَنْ يَخْتَارُ مَنْ سَمَكَ الْبُرُوجَا فَإِنْ يَبْقَوْا وَأَبْقَ يَكُنْ أُمُورٌ
يَضِجُّ الْكَافِرُونَ لَهَا ضَجِيجَا وَإِنْ أَهْلَكْ فَكُلُّ فَتًى سَيَلْقَى
مِنَ الْأَقْدَارِ مَتْلَفَةً حَرُوجَا
وَقَالَ وَرَقَةُ أَيْضًا فِيمَا رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْهُ:
أَتُبْكِرُ أَمْ أَنْتَ الْعَشِيَّةَ رَائِحُ وَفِي الصَّدْرِ مِنْ إِضْمَارِكَ الْحُزْنَ قَادِحُ
لِفُرْقَةِ قَوْمٍ لَا أُحِبُّ فِرَاقَهُمْ كَأَنَّكَ عَنْهُمْ بَعْدَ يَوْمَيْنِ نَازِحُ
وَأَخْبَارِ صِدْقٍ خَبَّرَتْ عَنْ مُحَمَّدٍ يُخَبِّرُهَا عَنْهُ إِذَا غَابَ نَاصِحُ

فَتَاكِ الَّذِي وَجَّهْتِ يَا خَيْرَ حُرَّةٍ بِغَوْرٍ وَبِالنَّجْدَيْنِ حَيْثُ الصَّحَاصِحُ
إِلَى سُوقِ بُصْرَى فِي الرِّكَابِ الَّتِي غَدَتْ وُهُنَّ مِنَ الْأَحْمَالِ قُعْصٌ دَوَالِحُ
فَيُخْبِرُنَا عَنْ كُلِّ خَيْرٍ بِعِلْمِهِ وَلِلْحَقِّ أَبْوَابٌ لَهُنَّ مَفَاتِحُ
بِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ مُرْسَلٌ إِلَى كُلِّ مَنْ ضَمَّتْ عَلَيْهِ الْأَبَاطِحُ
وَظَنِّي بِهِ أَنْ سَوْفَ يُبْعَثُ صَادِقًا كَمَا أُرْسِلَ الْعَبْدَانِ هُودٌ وَصَالِحُ
وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمُ حَتَّى يُرَى لَهُ بَهَاءٌ وَمَنْشُورٌ مِنَ الذِّكْرِ وَاضِحُ
وَيَتْبَعُهُ حَيَّا لُؤَيٍّ وَغَالِبٍ شَبَابُهُمْ وَالْأَشْيَبُونَ الْجَحَاجِحُ
فَإِنْ أَبْقَ حَتَّى يُدْرِكَ النَّاسَ دَهْرُهُ فَإِنِّي بِهِ مَسْتَبْشِرُ الْوُدِّ فَارِحُ
وَإِلَّا فَإِنِّي يَا خَدِيجَةُ فَاعْلَمِي عَنْ أَرْضِكِ فِي الْأَرْضِ الْعَرِيضَةِ سَائِحُ
وَزَادَ الْأُمَوِيُّ

فَمُتَّبِعٌ دِينَ الَّذِي أَسَّسَ الْبِنَا وَكَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَى النَّاسِ رَاجِحُ
وَأَسَّسَ بُنْيَانًا بِمَكَّةَ ثَابِتًا تَلَأْلَأَ فِيهِ بِالظَّلَامِ الْمَصَابِحُ
مُثَابًا لِأَفْنَاءِ الْقَبَائِلِ كُلِّهَا تَخُبُّ إِلَيْهِ الْيَعْمَلَاتُ الطَّلَائِحُ
حَرَاجِيجُ أَمْثَالُ الْقِدَاحِ مِنَ السُّرَى يُعَلَّقُ فِي أَرْسَاغِهِنَّ السَّرَايِحُ
وَمِنْ شَعْرِهِ فِيمَا أَوْرَدَهُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ فِي رَوْضِهِ
لَقَدْ نَصَحْتُ لِأَقْوَامٍ وَقُلْتُ لَهُمْ أَنَا النَّذِيرُ فَلَا يَغْرُرْكُمُ أَحَدُ
لَا تَعْبُدُنَّ إِلَهًا غَيْرَ خَالِقِكُمْ فَإِنْ دَعَوْكُمْ فَقُولُوا بَيْنَنَا حَدَدُ
سُبْحَانَ ذِي الْعَرْشِ سُبْحَانًا يَدُومُ لَهُ وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجُمُدُ
مُسَخَّرٌ كُلُّ مَا تَحْتَ السَّمَاءِ لَهُ. لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنَاوِي مُلْكَهُ أَحَدُ
لَا شَيْءَ مِمَا نَرَى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ يَبْقَى الْإِلَهُ وَيُودِي الْمَالُ وَالْوَلَدُ

لَمْ تُغْنِ عَنْ هُرْمُزٍ يَوْمًا خَزَائِنُهُ وَالْخُلْدَ قَدْ حَاوَلَتْ عَادٌ فَمَا خَلَدُوا
وَلَا سُلَيْمَانُ إِذْ تَجْرِي الرِّيَاحُ بِهِ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ فِيمَا بَيْنَهَا مَرَدُ
أَيْنَ الْمُلُوكُ الَّتِي كَانَتْ لِعِزَّتِهَا مِنْ كُلِّ أَوْبٍ إِلَيْهَا وَافِدٌ يَفِدُ
حَوْضٌ هُنَالِكَ مَوْرُودٌ بِلَا كَذِبٍ لَا بُدَّ مِنْ وِرْدِهِ يَوْمًا كَمَا وَرَدُوا
ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا نَسَبَهُ أَبُو الْفَرَجِ إِلَى وَرَقَةَ. قَالَ: وَفِيهِ أَبْيَاتٌ تُنْسَبُ إِلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ
قُلْتُ: وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَشْهِدُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ فِي تَجْدِيدِ قُرَيْشٍ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِخَمْسِ سِنِينَ
ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ، قَبْلَ تَزْوِيجِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَدِيجَةَ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ بِنَاءَ قُرَيْشٍ الْكَعْبَةَ بَعْدَ تَزْوِيجِ خَدِيجَةَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ بِعَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ شَرَعَ الْبَيْهَقِيُّ فِي ذِكْرِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي قِصَّتِهِ، وَأَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، وَذَكَرَ مَا وَرَدَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ فِي بِنَائِهِ فِي زَمَنِ آدَمَ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ مُبْتَدِئًا، وَأَوَّلُ مَنْ أَسَّسَهُ، وَكَانَتْ بُقْعَتُهُ مُعَظَّمَةً قَبْلَ ذَلِكَ مُعْتَنًى بِهَا مُشَرَّفَةً فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ وَالْأَوْقَاتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةٍ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [ آلِ عِمْرَانَ: 96 ] وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ:

أَرْبَعُونَ سَنَةً وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى أَسَّسَهُ إِسْرَائِيلُ وَهُوَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مِهْرَانَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي يَحْيَى عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ الْبَيْتُ قَبْلَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ [ الِانْشِقَاقِ: 3 ] قَالَ: مِنْ تَحْتِهِ مَدًّا قَالَ: وَقَدْ تَابَعَهُ مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ.
قُلْتُ: وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا وكَأَنَّهُ مِنَ الزَّامِلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَصَابَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو يَوْمَ الْيَرْمُوكِ وَكَانَ فِيهِمَا إِسْرَائِيلِيَّاتٌ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا وَفِيهِمَا مُنْكَرَاتٌ وَغَرَائِبُ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ حَدَّثَنَا أَبُو

صَالِحٍ الْجُهَنِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي الْخَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ فَقَالَ لَهُمَا: ابْنِيَا لِي بَيْتًا فَخَطَّ لَهُمَا جِبْرِيلُ فَجَعَلَ آدَمُ يَحْفِرُ وَحَوَّاءُ تَنْقُلُ حَتَّى أَجَابَهُ الْمَاءُ نُودِيَ مِنْ تَحْتِهِ: حَسْبُكَ يَا آدَمُ. فَلَمَّا بَنَيَاهُ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ بِهِ، وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ أَوَّلُ النَّاسِ، وَهَذَا أَوَّلُ بَيْتٍ. ثُمَّ تَنَاسَخَتِ الْقُرُونُ حَتَّى حَجَّهُ نُوحٌ، ثُمَّ تَنَاسَخَتِ الْقُرُونُ حَتَّى رَفَعَ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ هَكَذَا مَرْفُوعًا قُلْتُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَوَقْفُهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَقْوَى، وَأَثْبَتُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ: أَنْبَأَنَا الشَّافِعِيُّ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ أَبِي لَبِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ: حَجَّ آدَمُ فَلَقِيَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَقَالُوا: بُرَّ نُسُكُكَ يَا آدَمُ لَقَدْ حَجَجْنَا قَبْلَكَ بِأَلْفَيْ عَامٍ. وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي بَقِيَّةُ أَوْ قَالَ ثِقَةٌ مَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ حَجَّ الْبَيْتَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ هُودٍ وَصَالِحٍ.

قُلْتُ: وَقَدْ قَدَّمْنَا حَجَّهُمَا إِلَيْهِ وَالْمَقْصُودُ الْحَجُّ إِلَى مَحَلِّهِ، وَبُقْعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ بِنَاءٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِطُولِهِ، وَتَمَامِهِ وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 96 ] أَهْوَ أَوَّلُ بَيْتٍ بُنِيَ فِي الْأَرْضِ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ فِيهِ الْبَرَكَةُ لِلنَّاسِ وَالْهُدَى، وَمَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمِنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، وَإِنْ شِئْتَ نَبَّأْتُكَ كَيْفَ بِنَاؤُهُ; إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ: أَنِ ابْنِ لِي بَيْتًا فِي الْأَرْضِ فَضَاقَ بِهِ ذَرْعًا فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ السَّكِينَةَ، وَهِيَ رِيحٌ خَجُوجٌ لَهَا رَأْسٌ فَاتَّبَعَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ حَتَّى انْتَهَتْ، ثُمَّ تَطَوَّقَتْ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ تَطَوُّقَ الْحَيَّةِ فَبَنَى إِبْرَاهِيمُ حَتَّى بَلَغَ مَكَانَ الْحَجَرِ قَالَ لِابْنِهِ: أَبْغِنِي حَجَرًا. فَالْتَمَسَ حَجَرًا حَتَّى أَتَاهُ بِهِ فَوَجَدَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ قَدْ رُكِّبَ فَقَالَ لِأَبِيهِ مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا ؟ قَالَ: جَاءَ بِهِ مَنْ لَا يَتَّكِلُ عَلَى بِنَائِكَ، جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنَ السَّمَاءِ فَأَتَمَّهُ. قَالَ: فَمَرَّ عَلَيْهِ الدَّهْرُ فَانْهَدَمَ فَبَنَتْهُ الْعَمَالِقَةُ، ثُمَّ انْهَدَمَ فَبَنَتْهُ جُرْهُمٌ، ثُمَّ انْهَدَمَ فَبَنَتْهُ قُرَيْشٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ شَابٌّ فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَرْفَعُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ اخْتَصَمُوا فِيهِ فَقَالُوا: يَحْكُمُ بَيْنَنَا أَوَّلُ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ السِّكَّةِ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ،

فَقَضَى بَيْنَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي مِرْطٍ، ثُمَّ تَرْفَعَهُ جَمِيعُ الْقَبَائِلِ كُلُّهُمْ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَقَيْسٌ وَسَلَّامٌ كُلُّهُمْ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: لَمَّا انْهَدَمَ الْبَيْتُ بَعْدَ جُرْهُمٍ بَنَتْهُ قُرَيْشٌ فَلَمَّا أَرَادُوا وَضْعَ الْحَجَرِ تَشَاجَرُوا مَنْ يَضَعُهُ ؟ فَاتَّفَقُوا أَنْ يَضَعَهُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ فَأَمَرَ بِثَوْبٍ فَوَضَعَ الْحَجَرَ فِي وَسَطِهِ، وَأَمَرَ كُلَّ فَخْذٍ أَنْ يَأْخُذُوا بِطَائِفَةٍ مِنَ الثَّوْبِ فَرَفَعُوهُ وَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: أَخْبَرَنِي أَصْبُغُ بْنُ فَرَجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ لَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُلُمَ جَمَّرَتِ امْرَأَةٌ الْكَعْبَةَ فَطَارَتْ شَرَارَةٌ مِنْ مَجْمَرِهَا فِي ثِيَابِ الْكَعْبَةِ فَاحْتَرَقَتْ فَهَدَمُوهَا حَتَّى إِذَا بَنَوْهَا فَبَلَغُوا مَوْضِعَ الرُّكْنِ اخْتَصَمَتْ قُرَيْشٌ فِي الرُّكْنِ أَيُّ الْقَبَائِلِ تَلِي رَفْعَهُ ؟ فَقَالُوا: تَعَالَوْا نُحَكِّمْ أَوَّلَ مَنْ يَطْلُعُ عَلَيْنَا فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غُلَامٌ عَلَيْهِ وِشَاحُ نَمِرَةٍ فَحَكَّمُوهُ فَأَمَرَ بِالرُّكْنِ فَوُضِعَ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ أَخْرَجَ سَيِّدَ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَأَعْطَاهُ نَاحِيَةً مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ ارْتَقَى هُوَ فَرَفَعُوا إِلَيْهِ الرُّكْنَ فَكَانَ هُوَ يَضَعُهُ فَكَانَ لَا يَزْدَادُ عَلَى السِّنِّ إِلَّا رِضًا حَتَّى دَعَوْهُ الْأَمِينَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَطَفِقُوا لَا يَنْحَرُونَ جَزُورًا; إِلَّا الْتَمَسُوهُ

فَيَدْعُو لَهُمْ فِيهَا.
وَهَذَا سِيَاقٌ حَسُنٌ وَهُوَ مِنْ سِيَرِ الزُّهْرِيِّ، وَفِيهِ مِنَ الْغَرَابَةِ قَوْلُهُ: فَلَمَّا بَلَغَ الْحُلُمَ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا كَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمُرُهُ خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ كَانَ بِنَاءُ الْكَعْبَةِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَعُرْوَةُ وَمُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَغَيْرُهُمْ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ كَانَ بَيْنَ الْفِجَارِ وَبَيْنَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قُلْتُ: وَكَانَ الْفِجَارُ، وَحِلْفُ الْفُضُولِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ إِذْ كَانَ عُمُرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرُونَ سَنَةً. وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَإِنَّمَا حَمَلَ قُرَيْشًا عَلَى بِنَائِهَا أَنَّ السُّيُولَ كَانَتْ تَأْتِي مِنْ فَوْقِهَا مِنْ فَوْقِ الرَّدْمِ الَّذِي صَنَعُوهُ فَخَرَّ بِهِ فَخَافُوا أَنْ يَدْخُلَهَا الْمَاءُ وَكَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مُلَيْحٌ سَرَقَ طِيبَ الْكَعْبَةِ فَأَرَادُوا أَنْ يَشِيدُوا

بُنْيَانَهَا، وَأَنْ يَرْفَعُوا بَابَهَا حَتَّى لَا يَدْخُلَهَا إِلَّا مَنْ شَاءُوا فَأَعَدُّوا لِذَلِكَ نَفَقَةً وَعُمَّالًا، ثُمَّ غَدَوْا إِلَيْهَا لِيَهْدِمُوهَا عَلَى شَفَقٍ، وَحَذَرٍ أَنْ يَمْنَعَهُمُ اللَّهُ الَّذِي أَرَادُوا فَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ طَلَعَهَا وَهَدَمَ مِنْهَا شَيْئًا الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فَلَمَّا رَأَوُا الَّذِي فَعَلَ الْوَلِيدُ، تَتَابَعُوا فَوَضَعُوهَا فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ فَلَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَأْخُذُوا فِي بُنْيَانِهَا أَحْضَرُوا عُمَّالَهُمْ فَلَمْ يَقْدِرْ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْضِيَ أَمَامَهُ مَوْضِعَ قَدَمٍ.
فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا حَيَّةً قَدْ أَحَاطَتْ بِالْبَيْتِ رَأْسُهَا عِنْدَ ذَنَبِهَا فَأَشْفَقُوا مِنْهَا شَفَقَةً شَدِيدَةً، وَخَشَوْا أَنْ يَكُونُوا قَدْ وَقَعُوا مِمَّا عَمِلُوا فِي هَلَكَةٍ. وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ حِرْزَهُمْ وَمَنَعَتَهُمْ مِنَ النَّاسِ، وَشَرَفًا لَهُمْ فَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ، قَامَ فِيهِمُ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ فَذَكَرَ مَا كَانَ مِنْ نُصْحِهِ لَهُمْ، وَأَمْرِهِ إِيَّاهُمْ أَنْ لَا يَتَشَاجَرُوا وَلَا يَتَحَاسَدُوا فِي بِنَائِهَا، وَأَنْ يَقْتَسِمُوهَا أَرْبَاعًا، وَأَنْ لَا يُدْخِلُوا فِي بِنَائِهَا مَالًا حَرَامًا. وَذَكَرَ أَنَّهُمْ لَمَّا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ ذَهَبَتِ الْحَيَّةُ فِي السَّمَاءِ وَتَغَيَّبَتْ عَنْهُمْ، وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّهُ اخْتَطَفَهَا طَائِرٌ، وَأَلْقَاهَا نَحْوَ أَجْيَادٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ لِبُنْيَانِ الْكَعْبَةِ كَانُوا يَهُمُّونَ بِذَلِكَ;

لِيَسْقِفُوهَا وَيَهَابُونَ هَدْمَهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ رَضْمًا فَوْقَ الْقَامَةِ فَأَرَادُوا رَفْعَهَا وَتَسْقِيفَهَا; وَذَلِكَ أَنَّ نَفَرًا سَرَقُوا كَنْزَ الْكَعْبَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ وَكَانَ الَّذِي وُجِدَ عِنْدَهُ الْكَنْزُ دُوَيْكًا مَوْلًى لِبَنِي مُلَيْحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ خُزَاعَةَ فَقَطَعَتْ قُرَيْشٌ يَدَهُ، وَتَزْعُمُ قُرَيْشٌ أَنَّ الَّذِينَ سَرَقُوهُ وَضَعُوهُ عِنْدَ دُوَيْكٍ. وَكَانَ الْبَحْرُ قَدْ رَمَى بِسَفِينَةٍ إِلَى جُدَّةَ لِرَجُلٍ مِنْ تُجَّارِ الرُّومِ فَتَحَطَّمَتْ فَأَخَذُوا خَشَبَهَا فَأَعَدُّوهُ لِتَسْقِيفِهَا. قَالَ الْأُمَوِيُّ: كَانَتْ هَذِهِ السَّفِينَةُ لِقَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ تَحْمِلُ آلَاتِ الْبِنَاءِ مِنَ الرُّخَامِ وَالْخَشَبِ وَالْحَدِيدِ، سَرَّحَهَا قَيْصَرُ مَعَ بَاقُومَ الرُّومِيِّ إِلَى الْكَنِيسَةِ الَّتِي أَحْرَقَهَا الْفُرْسُ لِلْحَبَشَةِ فَلَمَّا بَلَغَتْ مَرْسَاهَا مِنْ جُدَّةَ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا رِيحًا فَحَطَّمَتْهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ بِمَكَّةَ رَجُلٌ قِبْطِيٌّ نَجَّارٌ فَتَهَيَّأَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بَعْضُ مَا يُصْلِحُهَا. وَكَانَتْ حَيَّةٌ تَخْرُجُ مِنْ بِئْرِ الْكَعْبَةِ - الَّتِي كَانَتْ يُطْرَحُ فِيهَا مَا يُهْدَى إِلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ - فَتَتَشَرَّقُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَتْ مِمَّا يَهَابُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا احْزَأَلَّتْ وَكَشَّتْ وَفَتَحَتْ فَاهَا فَكَانُوا يَهَابُونَهَا فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْمًا تُشْرِفُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ كَمَا كَانَتْ تَصْنَعُ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا طَائِرًا فَاخْتَطَفَهَا فَذَهَبَ بِهَا فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ

اللَّهُ تَعَالَى قَدْ رَضِيَ مَا أَرَدْنَا، عِنْدَنَا عَامِلٌ رَقِيقٌ، وَعِنْدَنَا خَشَبٌ، وَقَدْ كَفَانَا اللَّهُ الْحَيَّةَ.
وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ رَزِينٍ: أَنَّ سَارِقًا دَخَلَ الْكَعْبَةَ فِي أَيَّامِ جُرْهُمٍ لِيَسْرِقَ كَنْزَهَا فَانْهَارَ الْبِئْرُ عَلَيْهِ حَتَّى جَاءُوا فَأَخْرَجُوهُ وَأَخَذُوا مِنْهُ مَا كَانَ أَخَذَهُ، ثُمَّ سَكَنَتْ هَذَا الْبِئْرَ حَيَّةٌ رَأْسُهَا كَرَأْسِ الْجَدْيِ وَبَطْنُهَا أَبْيَضُ وَظَهْرُهَا أَسْوَدُ فَأَقَامَتْ فِيهَا خَمْسَمِائَةِ عَامٍ، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ لِهَدْمِهَا وَبُنْيَانِهَا، قَامَ أَبُو وَهْبٍ عَمْرُو بْنُ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ - وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: عَائِذُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ - فَتَنَاوَلَ مِنَ الْكَعْبَةِ حَجَرًا فَوَثَبَ مِنْ يَدِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى مَوْضِعِهِ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَا تُدْخِلُوا فِي بُنْيَانِهَا مِنْ كَسْبِكُمْ إِلَّا طَيِّبًا; لَا يَدْخُلُ فِيهَا مَهْرُ بَغِيٍّ وَلَا بَيْعُ رِبًا وَلَا مَظْلَمَةُ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ وَالنَّاسُ يَنْحَلُونَ هَذَا الْكَلَامَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، ثُمَّ رَجَّحَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ أَبُو وَهْبِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: وَكَانَ خَالَ أَبِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ شَرِيفًا مُمَدَّحًا.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا تَجَزَّأَتِ الْكَعْبَةَ; فَكَانَ شِقُّ الْبَابِ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَزُهْرَةَ وَمَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ لِبَنِي مَخْزُومٍ، وَقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ انْضَمُّوا إِلَيْهِمْ وَكَانَ ظَهْرُ الْكَعْبَةِ لِبَنِي جُمَحَ وَسَهْمٍ وَكَانَ شِقُّ الْحِجْرِ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، وَلِبَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَلِبَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ الْحَطِيمُ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ هَابُوا هَدْمَهَا وَفَرِقُوا مِنْهُ فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فِي هَدْمِهَا فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ ثُمَّ قَامَ عَلَيْهَا وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَمْ تُرَعِ اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نُرِيدُ إِلَّا الْخَيْرَ، ثُمَّ هَدَمَ مِنْ نَاحِيَةِ الرُّكْنَيْنِ فَتَرَبَّصَ النَّاسُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَقَالُوا: نَنْظُرُ فَإِنْ أُصِيبَ لَمْ نَهْدِمْ مِنْهَا شَيْئًا، وَرَدَدْنَاهَا كَمَا كَانَتْ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ مَا صَنَعْنَا مِنْ هَدْمِهَا فَأَصْبَحَ الْوَلِيدُ غَادِيًا عَلَى عَمَلِهِ فَهَدَمَ وَهَدَمَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا انْتَهَى الْهَدْمُ بِهِمْ إِلَى الْأَسَاسِ - أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَفْضَوْا إِلَى حِجَارَةٍ خُضْرٍ كَالْأَسِنَّةِ آخِذٍ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ: كَأَسْنِمَةِ الْإِبِلِ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَأَرَى رِوَايَةَ السِّيرَةِ كَالْأَلْسِنَةِ وَهْمًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ مَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ

مِمَّنْ كَانَ يَهْدِمُهَا أَدْخَلَ عَتَلَةً بَيْنَ حَجَرَيْنِ مِنْهَا لِيَقْلَعَ بِهَا أَحَدَهُمَا فَلَمَّا تَحَرَّكَ الْحَجَرُ تَنَقَّضَتْ مَكَّةُ بِأَسْرِهَا فَانْتَهَوْا عَنْ ذَلِكَ الْأَسَاسِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَزَعَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أَوَّلِيَّةَ قُرَيْشٍ كَانُوا يُحَدِّثُونَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ لَمَّا اجْتَمَعُوا لِيَنْزِعُوا الْحِجَارَةَ، وَانْتَهَوْا إِلَى تَأْسِيسِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَمَدَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَى حَجَرٍ مِنَ الْأَسَاسِ الْأَوَّلِ فَرَفَعَهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ مِنَ الْأَسَاسِ الْأَوَّلِ فَأَبْصَرَ الْقَوْمُ بَرْقَةً تَحْتَ الْحَجَرِ كَادَتْ تَلْتَمِعُ بَصَرَ الرَّجُلِ، وَنَزَا الْحَجَرُ مِنْ يَدِهِ فَوَقَعَ فِي مَوْضِعِهِ، وَفَزِعَ الرَّجُلُ وَالْبُنَاةُ فَلَمَّا سَتَرَ الْحَجَرُ عَنْهُمْ مَا تَحْتَهُ إِلَى مَكَانِهِ عَادُوا إِلَى بُنْيَانِهِمْ، وَقَالُوا: لَا تُحَرِّكُوا هَذَا الْحَجَرَ وَلَا شَيْئًا بِحِذَائِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ أَنَّ قُرَيْشًا وَجَدُوا فِي الرُّكْنِ كِتَابًا بِالسُّرْيَانِيَّةِ فَلَمْ يَدْرُوا مَا هُوَ حَتَّى قَرَأَهُ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ فَإِذَا هُوَ: أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ خَلَقْتُهَا يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَصَوَّرْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَحَفَفْتُهَا بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حُنَفَاءَ لَا تَزُولُ حَتَّى يَزُولَ أَخْشَبَاهَا - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ يَعْنِي جَبَلَاهَا - مُبَارَكٌ لِأَهْلِهَا فِي الْمَاءِ وَاللَّبَنِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي الْمَقَامِ كِتَابًا فِيهِ: مَكَّةُ اللَّهِ الْحَرَامُ، يَأْتِيهَا رِزْقُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ سُبُلٍ لَا يَحِلُّهَا أَوَّلُ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ: وَزَعَمَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي الْكَعْبَةِ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً - إِنْ كَانَ مَا ذُكِرَ حَقًّا - مَكْتُوبًا فِيهِ: مَنْ يَزْرَعْ خَيْرًا يَحْصُدْ غِبْطَةً، وَمَنْ يَزْرَعْ شَرًّا يَحْصُدْ نَدَامَةً، تَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ وَتُجْزَوْنَ الْحَسَنَاتِ ! أَجَلْ كَمَا يُجْتَنَى مِنَ الشَّوْكِ الْعِنَبُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا مُعَمَّرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّقِّيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ الزُّهْرِيِّ يَرْفَعُ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وُجِدَ فِي الْمَقَامِ ثَلَاثَةُ أَصْفُحٍ; فِي الصَّفْحِ الْأَوَّلِ: إِنِّي أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ صَنَعْتُهَا يَوْمَ صَنَعْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَحَفَفْتُهَا بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حُنَفَاءَ، وَبَارَكْتُ لِأَهْلِهَا فِي اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ. وَفِي الصَّفْحِ الثَّانِي: إِنِّي أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وَشَقَقْتُ لَهَا مِنِ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ. وَفِي الصَّفْحِ الثَّالِثِ: إِنِّي أَنَا اللَّهُ ذُو بَكَّةَ خَلَقْتُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَقَدَّرْتُهُ فَطُوبَى لِمَنْ أَجْرَيْتُ الْخَيْرَ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ أُجْرَيْتُ الشَّرَّ عَلَى يَدَيْهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ جَمَعَتِ الْحِجَارَةَ لِبِنَائِهَا كُلُّ

قَبِيلَةٍ تَجْمَعُ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ بَنَوْهَا حَتَّى بَلَغَ الْبُنْيَانُ مَوْضِعَ الرُّكْنِ فَاخْتَصَمُوا فِيهِ كُلُّ قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَرْفَعَهُ إِلَى مَوْضِعِهِ دُونَ الْأُخْرَى حَتَّى تَحَاوَزُوا وَتَحَالَفُوا وَأَعَدُّوا لِلْقِتَالِ فَقَرَّبَتْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً دَمًا، ثُمَّ تَعَاقَدُوا هُمْ وَبَنُو عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ عَلَى الْمَوْتِ، وَأَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي ذَلِكَ الدَّمِ فِي تِلْكَ الْجَفْنَةِ فَسُمُّوا لَعْقَةَ الدَّمِ فَمَكَثَتْ قُرَيْشٌ عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعَ لَيَالٍ أَوْ خَمْسًا، ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ فَتَشَاوَرُوا وَتَنَاصَفُوا فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الرِّوَايَةِ أَنَّ أَبَا أُمَيَّةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ - وَكَانَ عَامَئِذٍ أَسَنَّ قُرَيْشٍ كُلِّهَا - قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ فِيمَا تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ يَقْضِي بَيْنَكُمْ فِيهِ فَفَعَلُوا فَكَانَ أَوَّلَ دَاخِلٍ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ رَضِينَا هَذَا مُحَمَّدٌ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ وَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلُمُّوا إِلَيَّ ثَوْبًا فَأُتِيَ بِهِ وَأَخَذَ الرُّكْنَ فَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: لِتَأْخُذْ كُلُّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ ارْفَعُوهُ جَمِيعًا فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ، وَضَعَهُ هُوَ بِيَدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمِينَ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ - يَعْنِي أَبَا زَيْدٍ - حَدَّثَنَا هِلَالٌ - يَعْنِي ابْنَ خَبَّابٍ - عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ مَوْلَاهُ - وَهُوَ السَّائِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ بَنَى الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَ: وَكَانَ لِي حَجَرٌ أَنَا نَحَتُّهُ، أَعْبُدُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ: وَكُنْتُ أَجِيءُ بِاللَّبَنِ الْخَاثِرِ الَّذِي آنَفُهُ عَلَى نَفْسِي فَأَصُبُّهُ عَلَيْهِ فَيَجِيءُ الْكَلْبُ فَيَلْحَسُهُ، ثُمَّ يَشْغَرُ فَيَبُولُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَبَنَيْنَا حَتَّى بَلَغْنَا مَوْضِعَ الْحَجَرِ وَلَا يَرَى الْحَجَرَ أَحَدٌ فَإِذَا هُوَ وَسْطَ أَحْجَارِنَا مِثْلُ رَأْسِ الرَّجُلِ يَكَادُ يَتَرَايَا مِنْهُ وَجْهُ الرَّجُلِ فَقَالَ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ: نَحْنُ نَضَعُهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: نَحْنُ نَضَعُهُ فَقَالُوا: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ حَكَمًا فَقَالُوا: أَوَّلُ رَجُلٍ يَطْلُعُ مِنَ الْفَجِّ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الْأَمِينُ فَقَالُوا لَهُ فَوَضَعَهُ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ دَعَا بُطُونَهُمْ فَرَفَعُوا نَوَاحِيَهُ فَوَضَعَهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، وَكَانَتْ تُكْسَى الْقَبَاطِيَّ، ثُمَّ كُسِيَتْ بَعْدُ الْبُرُودَ، وَأَوَّلُ مَنْ

كَسَاهَا الدِّيبَاجَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانُوا أَخْرَجُوا مِنْهَا الْحِجْرَ وَهُوَ سِتَّةُ أَذْرُعٍ أَوْ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ - وَذَلِكَ لَمَّا قَصَرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ أَيْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا أَنْ يَبْنُوهُ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَجَعَلُوا لِلْكَعْبَةِ بَابًا وَاحِدًا مِنْ نَاحِيَةِ الشَّرْقِ، وَجَعَلُوهُ مُرْتَفِعًا لِئَلَّا يَدْخُلَ إِلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ فَيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا، وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ قَصَرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ، وَلَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَأَدْخَلْتُ فِيهَا الْحِجْرَ وَلِهَذَا لَمَّا تَمَكَّنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَنَاهَا عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَتْ فِي غَايَةِ الْبَهَاءِ وَالْحُسْنِ وَالسَّنَاءِ كَامِلَةً عَلَى قَوَاعِدِ الْخَلِيلِ لَهَا بَابَانِ مُلْتَصِقَانِ بِالْأَرْضِ شَرْقِيًّا، وَغَرْبِيًّا يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْ هَذَا، وَيَخْرُجُونَ مِنَ الْآخَرِ فَلَمَّا قَتَلَ الْحَجَّاجُ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَهُوَ الْخَلِيفَةُ يَوْمَئِذٍ فِيمَا صَنَعَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ فَأَمَرَ بِإِعَادَتِهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فَعَمَدُوا إِلَى الْحَائِطِ الشَّامِيِّ فَحَصُّوهُ، وَأَخْرَجُوا مِنْهُ الْحِجْرَ، وَرَصُّوا حِجَارَتَهُ فِي أَرْضِ الْكَعْبَةِ فَارْتَفَعَ بَابُهَا، وَسَدُّوا الْغَرْبِيَّ، وَاسْتَمَرَّ الشَّرْقِيُّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ

الْمَهْدِيِّ أَوْ أَبِيهِ الْمَنْصُورِ اسْتَشَارَ مَالِكًا فِي إِعَادَتِهَا عَلَى مَا كَانَ صَنَعَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا الْمُلُوكُ مَلْعَبَةً فَتَرَكَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَهِيَ إِلَى الْآنِ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَأَوَّلُ مَنْ أَخَّرَ الْبُيُوتَ مِنْ حَوْلِ الْكَعْبَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اشْتَرَاهَا مَنْ أَهْلِهَا وَهَدَمَهَا فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ اشْتَرَى دُورًا وَزَادَهَا فِيهِ فَلَمَّا وَلِيَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَحْكَمَ بُنْيَانَهُ وَحَسَّنَ جُدْرَانَهُ وَأَكْثَرَ أَبْوَابَهُ، وَلَمْ يُوَسِّعْهُ شَيْئًا آخَرَ فَلَمَّا اسْتَبَدَّ بِالْأَمْرِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ زَادَ فِي ارْتِفَاعِ جُدْرَانِهِ، وَأَمَرَ بِالْكَعْبَةِ فَكُسِيَتِ الدِّيبَاجَ وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ بِأَمْرِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّةَ بِنَاءِ الْبَيْتِ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [ اَلْبَقَرَةِ: 127 ].
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الْبُنْيَانِ وَبَنَوْهَا عَلَى مَا أَرَادُوا، قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَيَّةِ الَّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ تَهَابُ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ لَهَا:
عَجِبْتُ لِمَا تَصَوَّبَتِ الْعُقَابُ إِلَى الثُّعْبَانِ وَهِيَ لَهَا اضْطِرَابُ

وَقَدْ كَانَتْ تَكُونُ لَهَا كَشِيشٌ
وَأَحْيَانًا يَكُونُ لَهَا وِثَابُ إِذَا قُمْنَا إِلَى التَّأْسِيسِ شَدَّتْ
تُهَيِّبُنَا الْبِنَاءَ وَقَدْ نَهَابُ فَلَمَّا أَنْ خَشِينَا الرِّجْزَ جَاءَتْ
عُقَابٌ تَتْلَئِبُّ لَهَا انْصِبَابُ فَضَمَّتْهَا إِلَيْهَا، ثُمَّ خَلَّتْ
لَنَا الْبُنْيَانَ لَيْسَ لَهَا حِجَابُ فَقُمْنَا حَاشِدِينَ إِلَى بِنَاءٍ
لَنَا مِنْهُ الْقَوَاعِدُ وَالتُّرَابُ غَدَاةَ نُرَفِّعُ التَّأْسِيسَ مِنْهُ
وَلَيْسَ عَلَى مُسَاوِينَا ثِيَابُ أَعَزَّ بِهِ الْمَلِيكُ بَنِي لُؤَيٍّ
فَلَيْسَ لِأَصْلِهِ مِنْهُمْ ذَهَابُ وَقَدْ حَشَدَتْ هُنَاكَ بَنُو عَدِيٍّ
وَمُرَّةُ قَدْ تَقَدَّمَهَا كِلَابُ فَبَوَّأَنَا الْمَلِيكُ بِذَاكَ عِزًّا
وَعِنْدِ اللَّهِ يُلْتَمَسُ الثَّوَابُ
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي فَصْلٍ; مَا كَانَ اللَّهُ يَحُوطُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَقْذَارِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَالْعَبَّاسُ عَمُّهُ يَنْقُلَانِ الْحِجَارَةَ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ لَمَّا وَضَعَ إِزَارَهُ تَحْتَ الْحِجَارَةِ عَلَى كَتِفِهِ نُهِيَ عَنْ خَلْعِ إِزَارِهِ فَأَعَادَهُ إِلَى سِيرَتِهِ الْأُولَى.

فَصْلٌ
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا كَانَتْ قُرَيْشٌ ابْتَدَعُوهُ فِي تَسْمِيَتِهِمُ الْحُمْسَ، وَهُوَ الشِّدَّةُ فِي الدِّينِ وَالصَّلَابَةُ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَظَّمُوا الْحَرَمَ تَعْظِيمًا زَائِدًا بِحَيْثُ الْتَزَمُوا بِسَبَبِهِ أَنْ لَا يَخْرُجُوا مِنْهُ لَيْلَةَ عَرَفَةَ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ أَبْنَاءُ الْحَرَمِ، وَقُطَّانُ بَيْتِ اللَّهِ فَكَانُوا لَا يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهَا مِنْ مَشَاعِرِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى لَا يَخْرُجُوا عَنْ نِظَامِ مَا كَانُوا قَرَّرُوهُ مِنَ الْبِدْعَةِ الْفَاسِدَةِ، وَكَانُوا لَا يَدَّخِرُونَ مِنَ اللَّبَنِ أَقِطًا وَلَا سَمْنًا وَلَا يَسْلَئُونَ شَحْمًا وَهُمْ حُرُمٌ وَلَا يَدْخُلُونَ بَيْتًا مِنْ شَعَرٍ وَلَا يَسْتَظِلُّونَ إِنِ اسْتَظَلُّوا إِلَّا بِبَيْتٍ مِنْ أَدَمٍ، وَكَانُوا يَمْنَعُونَ الْحَجِيجَ وَالْعُمَّارَ مَا دَامُوا مُحْرِمِينَ أَنْ يَأْكُلُوا إِلَّا مِنْ طَعَامِ قُرَيْشٍ وَلَا يَطُوفُوا إِلَّا فِي ثِيَابِ قُرَيْشٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ثَوْبَ أَحَدٍ مِنَ الْحُمْسِ - وَهُمْ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدُوا وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ مِنْ كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ - طَافَ عُرْيَانًا وَلَوْ كَانَتِ امْرَأَةً، وَلِهَذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا اتَّفَقَ طَوَافُهَا لِذَلِكَ، وَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى فَرْجِهَا، وَتَقُولُ
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ
فَإِنْ تَكَرَّمَ أَحَدٌ مِمَّنْ يَجِدُ ثَوْبَ أَحْمَسِيٍّ فَطَافَ فِي ثِيَابِ نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ إِذَا،

فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ أَنْ يُلْقِيَهَا فَلَا يُنْتَفَعُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ أَنْ يَمَسَّهَا. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي تِلْكَ الثِّيَابَ اللَّقَى. قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ
كَفَى حَزَنًا كَرِّي عَلَيْهِ كَأَنَّهُ لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرِيمُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ رَدًّا عَلَيْهِمْ فِيمَا ابْتَدَعُوهُ فَقَالَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [ اَلْبَقَرَةِ: 199 ] أَيْ: جُمْهُورُ الْعَرَبِ مِنْ عَرَفَاتٍ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ اَلْبَقَرَةِ: 199 ] وَقَدْ قَدَّمْنَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقِفُ بِعَرَفَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا مِنَ اللَّهِ لَهُ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَدًّا عَلَيْهِمْ فِيمَا كَانُوا حَرَّمُوا مِنَ اللِّبَاسِ وَالطَّعَامِ عَلَى النَّاسِ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ الْآيَةَ [ اَلْأَعْرَافِ: 31، 32 ] وَقَالَ زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَلَا أَدْرِي أَكَانَ ابْتِدَاعُهُمْ لِذَلِكَ قَبْلَ الْفِيلِ أَوْ بَعْدَهُ.

كِتَابُ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَسْلِيمًا كَثِيرًا، وَذِكْرُ شَيْءٍ مِنَ الْبِشَارَاتِ بِذَلِكَ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَانَتِ الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ وَالرُّهْبَانُ مِنَ النَّصَارَى وَالْكُهَّانُ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ تَحَدَّثُوا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ لَمَّا تَقَارَبَ زَمَانُهُ أَمَّا الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ وَالرُّهْبَانُ مِنَ النَّصَارَى فَعَمَّا وَجَدُوا فِي كُتُبِهِمْ مَنْ صِفَتِهِ وَصِفَةِ زَمَانِهِ وَمَا كَانَ مِنْ عَهْدِ أَنْبِيَائِهِمْ إِلَيْهِمْ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْآيَةَ [ اَلْأَعْرَافِ: 157 ] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [ اَلصَّفِّ: 6 ] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ الْآيَةَ [ اَلْفَتْحِ: 29 ]

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 81 ] وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أُمَّتِهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ، وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَلَيَتَّبِعُنَّهُ يُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ بَشَّرُوا وَأَمَرُوا بِاتِّبَاعِهِ.
وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا دَعَا بِهِ لِأَهْلِ مَكَّةَ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ الْآيَةَ [ اَلْبَقَرَةِ: 129 ] وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا لُقْمَانُ بْنُ عَامِرٍ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ بَدْءُ أَمْرِكَ قَالَ: دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ

عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ مِثْلَهُ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ أَرَادَ بَدْءَ أَمْرِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَاشْتِهَارَ ذِكْرِهِ وَانْتِشَارَهُ فَذَكَرَ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْعَرَبُ، ثُمَّ بُشْرَى عِيسَى الَّذِي هُوَ خَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بَشَّرُوا بِهِ أَيْضًا.
أَمَّا فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى فَقَدْ كَانَ أَمْرُهُ مَشْهُورًا مَذْكُورًا مَعْلُومًا مِنْ قَبْلِ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ الْكَلْبِيِّ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِيِّ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنْبِئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ، دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى بِي، وَرُؤْيَا أُمَّيِ الَّتِي رَأَتْ، وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ تَرَيْنَ وَقَدْ رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، وَقَالَ: إِنَّ أُمَّهُ رَأَتْ - حِينَ وَضَعَتْهُ - نُورًا أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ بُدَيْلِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى كُنْتَ نَبِيًّا ؟ قَالَ: وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ تَفَرَّدَ بِهِنَّ أَحْمَدُ.
وَقَدْ رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَاهِينَ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - يَعْنِي أَبَا الْقَاسِمِ الْبَغَوِيَّ - حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ ؟ قَالَ: بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ وَرَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ. وَقَالَ وَآدَمُ مُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ الْبَغَوِيِّ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْمِقْدَامِ عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [ الْأَحْزَابِ: 7 ] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ فِي الْخَلْقِ، وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ

وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ مُزَاحِمٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى كُنْتَ نَبِيًّا ؟ قَالَ: وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ.
وَأَمَّا الْكُهَّانُ مِنَ الْعَرَبِ فَأَتَتْهُمْ بِهِ الشَّيَاطِينُ مِنَ الْجِنِّ مِمَّا تَسْتَرِقُ مِنَ السَّمْعِ، إِذْ كَانَتْ لَا تُحْجَبُ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَذْفِ بِالنُّجُومِ وَكَانَ الْكَاهِنُ وَالْكَاهِنَةُ لَا يَزَالُ يَقَعُ مِنْهُمَا بَعْضُ ذِكْرِ أُمُورِهِ وَلَا يُلْقِي الْعَرَبُ لِذَلِكَ فِيهِ بَالًا حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَوَقَعَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ الَّتِي كَانُوا يَذْكُرُونَ فَعَرَفُوهَا فَلَمَّا تَقَارَبَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَضَرَ زَمَانُ مَبْعَثِهِ حُجِبَتِ الشَّيَاطِينُ عَنِ السَّمْعِ، وَحِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَقَاعِدِ الَّتِي كَانَتْ تَقْعُدُ لِاسْتِرَاقِ السَّمْعِ فِيهَا فَرُمُوا بِالنُّجُومِ فَعَرَفَتِ الْجِنُّ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ حَدَثَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا [ اَلْجِنِّ: 1، 2 ] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ الْآيَاتِ [ اَلْأَحْقَافِ: 29، 30 ] ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ ذَلِكَ كُلِّهِ هُنَاكَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ أَوَّلَ الْعَرَبِ فَزِعَ لِلرَّمْيِ بِالنُّجُومِ حِينَ رُمِيَ بِهَا هَذَا الْحَيُّ مِنْ ثَقِيفٍ، وَأَنَّهُمْ جَاءُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالَ لَهُ: عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ أَحَدُ بَنِي عِلَاجٍ وَكَانَ أَدْهَى الْعَرَبِ وَأَنْكَرَهَا رَأْيًا فَقَالُوا لَهُ: يَا عَمْرُو أَلَمْ تَرَ مَا حَدَثَ فِي السَّمَاءِ مِنَ الْقَذْفِ بِهَذِهِ النُّجُومِ ؟ قَالَ: بَلَى فَانْظُرُوا فَإِنْ كَانَتْ مَعَالِمُ النُّجُومِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَيُعْرَفُ بِهَا الْأَنْوَاءُ مِنَ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ لِمَا يُصْلِحُ النَّاسَ فِي مَعَايِشِهِمْ هِيَ الَّتِي يُرْمَى بِهَا فَهُوَ وَاللَّهِ طَيُّ الدُّنْيَا، وَهَلَاكُ هَذَا الْخَلْقِ، وَإِنْ كَانَتْ نُجُومًا غَيْرَهَا، وَهِيَ ثَابِتَةٌ عَلَى حَالِهَا فَهَذَا لِأَمْرٍ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ هَذَا الْخَلْقَ فَانْظُرُوا مَا هُوَ ؟
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَهْمٍ يُقَالُ لَهَا: الْغَيْطَلَةُ كَانَتْ كَاهِنَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ جَاءَهَا صَاحِبُهَا لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي فَانْقَضَّ تَحْتَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَدْرِ مَا أَدْرِ يَوْمُ عَقْرٍ وَنَحْرٍ. قَالَتْ قُرَيْشٌ حِينَ بَلَغَهَا

ذَلِكَ: مَا يُرِيدُ ؟ ثُمَّ جَاءَهَا لَيْلَةً أُخْرَى فَانْقَضَّ تَحْتَهَا، ثُمَّ قَالَ: شُعُوبٌ مَا شُعُوبٌ ؟ يُصْرَعُ فِيهِ كَعْبٌ لِجُنُوبٍ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا قَالُوا: مَاذَا يُرِيدُ ؟ إِنَّ هَذَا لِأَمْرٍ هُوَ كَائِنٌ فَانْظُرُوا مَا هُوَ فَمَا عَرَفُوهُ حَتَّى كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ وَأُحُدٍ بِالشِّعْبِ فَعَرَفُوا أَنَّهُ كَانَ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِلَى صَاحِبَتِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ نَافِعٍ الْجُرَشِيُّ أَنَّ جَنْبًا - بَطْنًا مِنَ الْيَمَنِ - كَانَ لَهُمْ كَاهِنٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا ذُكِرَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْتَشَرَ فِي الْعَرَبِ قَالَتْ لَهُ جَنْبٌ: انْظُرْ لَنَا فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ، وَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي أَسْفَلِ جَبَلِهِ فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ حِينَ طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَوَقَفَ لَهُمْ قَائِمًا مُتَّكِئًا عَلَى قَوْسٍ لَهُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ طَوِيلًا ثُمَّ جَعَلَ يَنْزُو، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَ مُحَمَّدًا وَاصْطَفَاهُ وَطَهَّرَ قَلَبَهُ وَحَشَاهُ وَمُكْثُهُ فِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ قَلِيلٌ، ثُمَّ اشْتَدَّ فِي جَبَلِهِ رَاجِعًا مِنْ حَيْثُ جَاءَ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ سَوَادِ بْنِ قَارِبٍ وَقَدْ أَخَّرْنَاهَا إِلَى هَوَاتِفِ الْجَانِّ.

فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا: إِنَّ مِمَّا دَعَانَا إِلَى الْإِسْلَامِ - مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَدَاهُ لَنَا - أَنْ كُنَّا نَسْمَعُ مِنْ رَجُلٍ مَنْ يَهُودَ، وَكُنَّا أَهْلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ لَنَا، وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ شُرُورٌ فَإِذَا نِلْنَا مِنْهُمْ بَعْضَ مَا يَكْرَهُونَ قَالُوا لَنَا: إِنَّهُ قَدْ تَقَارَبَ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ الْآنَ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ فَكُّنَا كَثِيرًا مَا نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَبْنَاهُ حِينَ دَعَانَا إِلَى اللَّهِ، وَعَرَفْنَا مَا كَانُوا يَتَوَعَّدُونَنَا بِهِ فَبَادَرْنَاهُمْ إِلَيْهِ فَآمَنَّا بِهِ وَكَفَرُوا بِهِ فَفِينَا وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ الْبَقَرَةِ: 89 ].
وَقَالَ وَرْقَاءُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ: كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: اللَّهُمَّ ابْعَثْ لَنَا هَذَا النَّبِيَّ يَحْكُمُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ يَسْتَفْتِحُونَ بِهِ أَيْ يَسْتَنْصِرُونَ بِهِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.

ثُمَّ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ بِخَيْبَرَ تُقَاتِلُ غَطَفَانَ فَكُلَّمَا الْتَقَوْا هُزِمَتْ يَهُودُ خَيْبَرَ فَعَاذَتِ الْيَهُودُ بِهَذَا الدُّعَاءِ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي وَعَدْتَنَا أَنَّ تُخْرِجَهُ لَنَا فِي آخِرِ الزَّمَانِ إِلَّا نَصَرْتَنَا عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَكَانُوا إِذَا الْتَقَوْا دَعَوْا بِهَذَا الدُّعَاءِ فَهَزَمُوا غَطَفَانَ فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَرُوا بِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا الْآيَةَ وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ مِنْ قَوْلِهِ نَحْوُ ذَلِكَ أَيْضًا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ - وَكَانَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ - قَالَ كَانَ لَنَا جَارٌ مَنْ يَهُودَ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَ: فَخَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَ سَلَمَةُ: وَأَنَا يَوْمَئِذٍ أَحْدَثُ مَنْ فِيهِ سِنًّا عَلَيَّ بُرْدَةٌ لِي مُضْطَجِعٌ فِيهَا بِفِنَاءِ أَهْلِي فَذَكَرَ الْقِيَامَةَ

وَالْبَعْثَ وَالْحِسَابَ وَالْمِيزَانَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ، قَالَ: فَقَالَ ذَلِكَ لِقَوْمٍ أَهْلِ شِرْكٍ أَصْحَابِ أَوْثَانٍ لَا يَرَوْنَ أَنَّ بَعْثًا كَائِنٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَالُوا لَهُ: وَيْحَكَ يَا فُلَانُ أَوَتَرَى هَذَا كَائِنًا أَنَّ النَّاسَ يُبْعَثُونَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إِلَى دَارٍ فِيهَا جَنَّةٌ وَنَارٌ، يُجْزَوْنَ فِيهَا بِأَعْمَالِهِمْ ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ، وَيَوَدُّ أَنَّ لَهُ بِحَظِّهِ مِنْ تِلْكَ النَّارِ أَعْظَمَ تَنُّورٍ فِي الدَّارِ يَحْمُونَهُ ثُمَّ يُدْخِلُونَهُ إِيَّاهُ فَيُطَيِّنُونَهُ عَلَيْهِ، بِأَنْ يَنْجُوَ مِنْ تِلْكَ النَّارِ غَدًا قَالُوا لَهُ: وَيْحَكَ يَا فُلَانُ فَمَا آيَةُ ذَلِكَ ؟ قَالَ: نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى نَحْوِ مَكَّةَ وَالْيَمَنِ قَالُوا: وَمَتَى تُرَاهُ ؟ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيَّ وَأَنَا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا فَقَالَ: إِنْ يَسْتَنْفِدَ هَذَا الْغُلَامُ عُمُرَهُ يُدْرِكْهُ قَالَ سَلَمَةُ: فَوَاللَّهِ مَا ذَهَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَآمَنَّا بِهِ وَكَفَرَ بِهِ بَغْيًا، وَحَسَدًا قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: وَيْحَكَ يَا فُلَانُ أَلَسْتَ بِالَّذِي قُلْتَ لَنَا فِيهِ مَا قُلْتَ ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ بِهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ بِإِسْنَادِهِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ.

وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ إِلَّا يَهُودِيٌّ وَاحِدٌ يُقَالَ لَهُ: يُوشَعُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: - وَإِنِّي لَغُلَامٌ فِي إِزَارٍ - قَدْ أَظَلَّكُمْ خُرُوجُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ مِنْ نَحْوِ هَذَا الْبَيْتِ - ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ - فَمَنْ أَدْرَكَهُ فَلْيُصَدِّقْهُ. فَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْنَا وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا لَمْ يُسْلِمْ حَسَدًا وَبَغْيًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ فِي إِخْبَارِ يُوشَعَ هَذَا عَنْ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَتِهِ وَنَعْتِهِ، وَإِخْبَارِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَا عَنْ ظُهُورِ كَوْكَبِ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ قَالَ لِي: هَلْ تَدْرِي عَمَّ كَانَ إِسْلَامُ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ وَأُسَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ، نَفَرٍ مِنْ بَنِي هَدْلٍ إِخْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ، ثُمَّ كَانُوا سَادَتَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَإِنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ يُقَالَ لَهُ: ابْنُ الْهَيِّبَانِ قَدِمَ عَلَيْنَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِسِنِينَ فَحَلَّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا قَطُّ لَا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَفْضَلَ مِنْهُ فَأَقَامَ عِنْدَنَا فَكُنَّا إِذَا قَحَطَ عَنَّا الْمَطَرُ قُلْنَا لَهُ: اخْرُجْ يَا ابْنَ الْهَيِّبَانِ فَاسْتَسْقِ لَنَا. فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ مَخْرِجِكُمْ صَدَقَةً فَنَقُولُ

لَهُ: كَمْ ؟ فَيَقُولُ: صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ قَالَ: فَنُخْرِجُهَا، ثُمَّ يَخْرُجُ بِنَا إِلَى ظَاهِرِ حَرَّتِنَا فَيَسْتَسْقِي لَنَا فَوَاللَّهِ مَا يَبْرَحُ مَجْلِسَهُ حَتَّى يَمُرَّ السَّحَابُ، وَنُسْقَى قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ، قَالَ: ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عِنْدَنَا فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ مَيِّتٌ قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ مَا تَرَوْنَهُ أَخْرَجَنِي مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ إِلَى أَرْضِ الْبُؤْسِ وَالْجُوعِ ؟ قَالَ: قُلْنَا: أَنْتَ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنِّي إِنَّمَا قَدِمْتُ هَذِهِ الْبَلْدَةَ أَتَوَكَّفُ خُرُوجَ نَبِيٍّ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، هَذِهِ الْبَلْدَةُ مُهَاجَرُهُ فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يُبْعَثَ فَأَتَّبِعَهُ وَقَدْ أَظَلَّكُمْ زَمَانُهُ فَلَا تُسْبَقْنَ إِلَيْهِ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَسَبْيِ الذَّرَارِيِّ مِمَّنْ خَالَفَهُ فَلَا يَمْنَعَنَّكُمْ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ - وَكَانُوا شَبَابًا أَحْدَاثًا -: يَا بَنِي قُرَيْظَةَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْكُمْ فِيهِ ابْنُ الْهَيِّبَانِ قَالُوا: لَيْسَ بِهِ قَالُوا: بَلَى وَاللَّهِ إِنَّهُ لَهُوَ بِصِفَتِهِ فَنَزَلُوا فَأَسْلَمُوا فَأَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَهَذَا مَا بَلَغَنَا عَنْ أَخْبَارِ يَهُودَ.
قُلْتُ: وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي قُدُومِ تُبَّعٍ الْيَمَانِيِّ - وَهُوَ أَبُو كَرِبٍ تُبَّانُ - أَسْعَدَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمُحَاصَرَتِهِ إِيَّاهَا، وَإِنَّهُ خَرَجَ إِلَيْهِ ذَانِكَ الْحَبْرَانِ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَا لَهُ: إِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا إِنَّهَا مُهَاجَرُ نَبِيٍّ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَثَنَاهُ ذَلِكَ عَنْهَا.

وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَرَادَ هُدَى زَيْدِ بْنِ سُعْنَةَ قَالَ زَيْدٌ: لَمْ يَبْقَ مِنْ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُهَا فِي وَجْهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ لَمْ أُخْبَرْهُمَا مِنْهُ يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ وَلَا يَزِيدُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا قَالَ: فَكُنْتُ أَتَلَطَّفُ لَهُ لِأَنْ أُخَالِطَهُ فَأَعْرِفَ حِلْمَهُ وَجَهْلَهُ فَذَكَرَ قِصَّةَ إِسْلَافِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالًا فِي تَمْرٍ قَالَ: فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ أَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ بِمَجَامِعِ قَمِيصِهِ، وَرِدَائِهِ وَهُوَ فِي جِنَازَةٍ مَعَ أَصْحَابِهِ، وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ غَلِيظٍ، وَقُلْتُ: يَا مُحَمَّدُ أَلَا تَقْضِينِي حَقِّي ؟ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكُمْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَمُطْلٌ قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيَّ عُمَرُ وَعَيْنَاهُ يَدُورَانِ فِي وَجْهِهِ كَالْفَلَكِ الْمُسْتَدِيرِ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَتَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَسْمَعُ، وَتَفْعَلُ مَا أَرَى ؟ فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَوْلَا مَا أُحَاذِرُ فَوْتَهُ لَضَرَبْتُ بِسَيْفِي رَأْسَكَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى عُمَرَ فِي سُكُونٍ وَتُؤَدَةٍ وَتَبَسُّمٍ، ثُمَّ قَالَ أَنَا وَهُوَ كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنْكَ يَا عُمَرُ أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الْأَدَاءِ، وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التِّبَاعَةِ اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ فَاقْضِهِ حَقَّهُ وَزِدْ عِشْرِينَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ فَأَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ سُعْنَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَشَهِدَ بَقِيَّةَ الْمَشَاهِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُوُفِّيَ عَامَ تَبُوكَ رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِسْلَامَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ فَقَالَ حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ مِنْ فِيهِ، قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ يُقَالَ لَهَا: حَيٌّ وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ، وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، لَمْ يَزَلْ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ، وَاجْتَهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطِنَ النَّارِ الَّتِي يُوقِدُهَا لَا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً قَالَ: وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ قَالَ: فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَانِي هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي فَاذْهَبْ إِلَيْهَا فَاطَّلِعْهَا، وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، ثُمَّ قَالَ لِي: وَلَا تَحْتَبِسْ عَنِّي فَإِنَّكَ إِنِ احْتَبَسْتَ عَنِّي كُنْتَ أَهَمَّ إِلَيَّ مَنْ ضَيْعَتِي، وَشَغَلْتَنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِي قَالَ: فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ الَّتِي بَعَثَنِي إِلَيْهَا فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ فَلَمَّا سَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَتْنِي صَلَاتُهُمْ، وَرَغِبَتْ فِي أَمْرِهِمْ، وَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي فَلَمْ آتِهَا

ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ قَالُوا بِالشَّامِ فَرَجَعْتُ إِلَى أَبِي وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي، وَشَغَلْتُهُ عَنْ أَمْرِهِ كُلِّهِ فَلَمَّا جِئْتُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ أَيْنَ كُنْتَ أَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ ؟
قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ مَرَرْتُ بِأُنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكِ خَيْرٌ مِنْهُ. قَالَ: قُلْتُ: كَلَّا وَاللَّهِ إِنَّهُ لَخَيْرٌ مِنْ دِينِنَا ؟ قَالَ: فَخَافَنِي فَجَعَلَ فِي رِجْلِي قَيْدًا ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ. قَالَ: وَبَعَثْتُ إِلَى النَّصَارَى فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ فَآذِنُونِي. قَالَ: فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلِي، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ فَلَمَّا قَدِمْتُهَا قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ عِلْمًا ؟ قَالُوا: الْأُسْقُفُّ فِي الْكَنِيسَةِ قَالَ: فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ وَأَخْدِمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ فَأُصَلِّي مَعَكَ. قَالَ: ادْخُلْ فَدَخَلْتُ مَعَهُ فَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا فَإِذَا جَمَعُوا لَهُ شَيْئًا مِنْهَا كَنَزَهُ لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعْطَهِ الْمَسَاكِينَ حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَوَرِقٍ قَالَ: وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ ثُمَّ مَاتَ، وَاجْتَمَعَتْ لَهُ النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ فَقُلْتُ لَهُمْ:

إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سُوءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ: فَقَالُوا لِي: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ قَالُوا: فَدَلَّنَا قَالَ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ فَاسْتَخْرَجُوا سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةً ذَهَبًا وَوَرِقًا فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا قَالَ: فَصَلَبُوهُ وَرَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ، وَجَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ فَجَعَلُوهُ مَكَانَهُ. قَالَ: يَقُولُ سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا لَا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَلَا أَرْغَبُ فِي الْآخِرَةِ وَلَا أَدْأَبُ لَيْلًا وَنَهَارًا، قَالَ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا لَمْ أُحِبَّ شَيْئًا قَبْلَهُ مِثْلَهُ.
قَالَ: فَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ مَعَكَ وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ شَيْئًا قَبْلَكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَبِمَ تَأْمُرُنِي بِهِ ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ أَحَدًا عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، إِلَّا رَجُلًا بِالْمَوْصِلِ وَهُوَ فُلَانٌ وَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ فَالْحَقْ بِهِ قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغُيِّبَ، لَحِقْتُ بِصَاحِبِ الْمَوْصِلِ فَقُلْتُ: يَا فُلَانُ إِنَّ فَلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ فَقَالَ لِي أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ إِنَّ فَلَانَا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ، وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ وَقَدْ حَضَرَكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا تَرَى فَإِلَى مَنْ تُوصِي

بِي وَبِمَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلَّا رَجُلًا بِنَصِيبِينَ وَهُوَ فُلَانٌ فَالْحَقْ بِهِ فَلَمَّا مَاتَ وَغُيِّبَ، لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبَايَ فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ إِنَّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَبِمَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ بَقِيَ أَحَدٌ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلَّا رَجُلًا بِعَمُّورِيَّةَ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ فَإِنَّهُ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَائْتِهِ فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا.
فَلَمَّا مَاتَ وَغُيِّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ عِنْدَ خَيْرِ رَجُلٍ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ. قَالَ: وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَتْ لِي بَقَرَاتٌ وَغَنِيمَةٌ. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ فَلَمَّا حُضِرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلَانٍ فَأَوْصَى بِي إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَبِمَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُ نَبِيٍّ مَبْعُوثٍ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ. مُهَاجَرُهُ إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ

بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى; يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ فَافْعَلْ قَالَ: ثُمَّ مَاتَ وَغُيِّبَ، وَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّارٌ فَقُلْتُ لَهُمُ: احْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ، وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ، وَغَنِيمَتِي هَذِهِ قَالُوا: نَعَمْ فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا بَلَغُوا وَادِي الْقُرَى ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ يَهُودِيٍّ عَبْدًا فَكُنْتُ عِنْدَهُ، وَرَأَيْتُ النَّخْلَ فَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، وَلَمْ يَحِقَّ فِي نَفْسِي.
فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَابْتَاعَنِي مِنْهُ فَاحْتَمَلَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي لَهَا فَأَقَمْتُ بِهَا، وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ وَلَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مِمَّا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ، وَسَيِّدِي جَالِسٌ تَحْتِي إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا فُلَانُ قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ وَاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمُجْتَمِعُونَ الْآنَ بِقِبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ مِنْ مَكَّةَ الْيَوْمَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ قَالَ سَلْمَانُ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنِّي سَاقِطٌ عَلَى سَيِّدِي فَنَزَلْتُ عَنِ النَّخْلَةِ فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابْنِ عَمِّهِ مَاذَا تَقُولُ ؟ مَاذَا تَقُولُ ؟ قَالَ: فَغَضِبَ سَيِّدِي

فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ مَا لَكَ وَلِهَذَا ؟ أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ قَالَ: فَقُلْتُ: لَا شَيْءَ إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَهُ عَمَّا قَالَ.
قَالَ: وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ، ثُمَّ ذَهَبْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِقِبَاءَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ. وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأَصْحَابِهِ كُلُوا وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَذِهِ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَاتَانِ ثِنْتَانِ قَالَ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ قَدْ تَبِعَ جِنَازَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَلَيْهِ شَمْلَتَانِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدْبَرْتُهُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي ؟ فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَدْبَرْتُهُ عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ فَأَكْبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَحَوَّلْ فَتَحَوَّلْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثْتُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَأَعْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْمَعَ ذَاكَ أَصْحَابُهُ.
ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانُ الرِّقَّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرٌ وَأُحُدٌ قَالَ سَلْمَانُ: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ وَأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: أَعِينُوا أَخَاكُمْ فَأَعَانُونِي فِي النَّخْلِ الرَّجُلُ بِثَلَاثِينَ وَدِيَّةً، وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ وَدِيَّةً، وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ وَدِيَّةً، وَالرَّجُلُ بِعَشْرٍ، يُعِينُ الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُمِائَةِ وِدِيَّةٍ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقِّرْ لَهَا فَإِذَا فَرَغْتَ فَائْتِنِي أَكُنْ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدِي. قَالَ: فَفَقَّرْتُ وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعِي إِلَيْهَا فَجَعَلْنَا نُقْرِّبُ إِلَيْهِ الْوَدِّيَّ، وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ حَتَّى إِذَا فَرَغْنَا فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ مَا مَاتَتْ مِنْهَا وِدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَعَادِنِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمَكَاتِبُ قَالَ: فَدُعِيتُ لَهُ. قَالَ: خُذْ هَذِهِ فَأَدِّهَا مِمَّا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ قَالَ: قُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ ؟ قَالَ: خُذْهَا فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ قَالَ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا - وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ - أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ، وَعَتَقَ سَلْمَانُ فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَنْدَقَ حُرًّا، ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ عَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ مِنَ الَّذِي عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلَّبَهَا عَلَى لِسَانِهِ، ثُمَّ قَالَ: خُذْهَا فَأَوْفِهِمْ مِنْهَا فَأَخَذْتُهَا فَأَوْفَيْتُهُمْ مِنْهَا حَقَّهُمْ كُلَّهُ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حِينَ أَخْبَرَهُ خَبَرَهُ أَنَّ صَاحِبَ عَمُّورِيَّةَ قَالَ لَهُ: ائْتِ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَرْضِ الشَّامِ فَإِنَّ بِهَا رَجُلًا بَيْنَ غَيْضَتَيْنِ يَخْرُجُ كُلَّ سَنَةٍ مِنْ هَذِهِ الْغَيْضَةِ مُسْتَجِيزًا يَعْتَرِضُهُ ذَوُو الْأَسْقَامِ فَلَا يَدْعُو لِأَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا شُفِيَ فَاسْأَلْهُ عَنْ هَذَا الدِّينِ الَّذِي تَبْتَغِي فَهُوَ يُخْبِرُكَ. عَنْهُ قَالَ سَلْمَانُ: فَخَرَجْتُ حَتَّى جِئْتُ حَيْثُ وَصَفَ لِي فَوَجَدْتُ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا بِمَرْضَاهُمْ هُنَاكَ حَتَّى خَرَجَ لَهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مُسْتَجِيزًا مِنْ إِحْدَى الْغَيْضَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى فَغَشِيَهُ النَّاسُ بِمَرْضَاهُمْ لَا يَدْعُو لِمَرِيضٍ إِلَّا شُفِيَ، وَغَلَبُونِي عَلَيْهِ فَلَمْ أَخْلُصْ إِلَيْهِ حَتَّى دَخَلَ الْغَيْضَةَ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَّا مَنْكِبَهُ قَالَ: فَتَنَاوَلْتُهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ وَالْتَفَتَ إِلَيَّ قَالَ: قُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: إِنَّكَ لَتَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ النَّاسُ الْيَوْمَ قَدْ

أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ بِهَذَا الدِّينِ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ فَأْتِهِ فَهُوَ يَحْمِلُكَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِسَلْمَانَ لَئِنْ كُنْتَ صَدَقْتَنِي يَا سَلْمَانُ لِقَدْ لَقِيتَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ.
هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَفِيهَا رَجُلٌ مُبْهَمٌ وَهُوَ شَيْخُ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، ثُمَّ هُوَ مُنْقَطِعٌ بَلْ مُعْضَلٌ بَيْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَسَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقَوْلُهُ: لَئِنْ كُنْتَ صَدَقْتَنِي يَا سَلْمَانُ لِقَدْ لَقِيتَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ غَرِيبٌ جِدًّا بَلْ مُنْكَرٌ فَإِنَّ الْفَتْرَةَ أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهَا: أَنَّهَا أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ، وَقِيلَ: سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ بِالشَّمْسِيَّةِ، وَسَلْمَانُ أَكْثَرُ مَا قِيلَ أَنَّهُ عَاشَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَحَكَى الْعَبَّاسُ بْنُ يَزِيدَ الْبَحْرَانِيُّ إِجْمَاعَ مَشَايِخِهِ عَلَى أَنَّهُ عَاشَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَاخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ لَقِيتَ وَصِيَّ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَهَذَا مُمْكِنٌ إِذْ يَكُونُ ذَاكَ عَمَّرَ دَهْرًا طَوِيلًا، وَسَلْمَانُ عَمَّرَ بَعْدَهُ دَهْرًا آخَرَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: الرَّجُلُ الْمُبْهَمُ هُوَ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَإِنْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَكَارَةٌ; لِأَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ ذَكَرَ أَنَّ الْمَسِيحَ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ بَعْدَمَا رُفِعَ فَوَجَدَ أُمَّهُ، وَاِمْرَأَةً أُخْرَى يَبْكِيَانِ عِنْدَ جِذْعِ الْمَصْلُوبِ فَأَخْبَرَهُمَا أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ، وَبَعَثَ الْحَوَارِيِّينَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: وَإِذَا جَازَ نُزُولُهُ مَرَّةً جَازَ نُزُولُهُ

مِرَارًا، ثُمَّ يَكُونُ نُزُولُهُ الظَّاهِرُ حِينَ يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَتَزَوَّجُ حِينَئِذٍ امْرَأَةً مِنْ بَنِي جُذَامٍ، وَإِذَا مَاتَ دُفِنَ فِي حُجْرَةِ رَوْضَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ قِصَّةَ سَلْمَانَ هَذِهِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَرَوَاهَا أَيْضًا عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ صَوْحَانَ أَنَّهُ سَمِعَ سَلْمَانَ يُحَدِّثُ كَيْفَ كَانَ أَوَّلُ إِسْلَامِهِ فَذَكَرَ قِصَّةً طَوِيلَةً، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ مَنْ رَامَهُرْمُزَ وَكَانَ لَهُ أَخٌ أَكْبَرُ مِنْهُ غَنِيٌّ وَكَانَ سَلْمَانُ فَقِيرًا فِي كَنَفِ أَخِيهِ، وَأَنَّ ابْنَ دِهْقَانِهَا كَانَ صَاحِبًا لَهُ وَكَانَ يَخْتَلِفُ مَعَهُ إِلَى مُعَلِّمٍ لَهُمْ، وَأَنَّهُ كَانَ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ الْغُلَامُ إِلَى عُبَّادٍ مِنَ النَّصَارَى فِي كَهْفٍ لَهُمْ فَسَأَلَهُ سَلْمَانُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ مَعَهُ إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ غُلَامٌ، وَأَخْشَى أَنْ تَنُمَّ عَلَيْهِمْ فَيَقْتُلَهُمْ أَبِي فَالْتَزَمَ لَهُ أَنْ لَا يَكُونُ مِنْهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ فَإِذَا هُمْ سِتَّةٌ - أَوْ سَبْعَةٌ - كَأَنَّ الرُّوحَ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهُمْ مَنَ الْعِبَادَةِ يَصُومُونَ النَّهَارَ، وَيَقُومُونَ اللَّيْلَ يَأْكُلُونَ الشَّجَرَ وَمَا وَجَدُوا فَذَكَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَابْنُ أَمَتِهِ أَيَّدَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ.
وَقَالُوا لَهُ: يَا غُلَامُ إِنَّ لَكَ رَبًّا وَإِنَّ لَكَ مَعَادًا، وَإِنَّ بَيْنَ يَدَيْكَ جَنَّةً وَنَارًا، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ

الْقَوْمَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ النِّيرَانَ أَهْلُ كُفْرٍ، وَضَلَالَةٍ لَا يَرْضَى اللَّهُ بِمَا يَصْنَعُونَ وَلَيْسُوا عَلَى دِينِهِ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَرَدَّدُ مَعَ ذَلِكَ الْغُلَامِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ لَزِمَهُمْ سَلْمَانُ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ أَجْلَاهُمْ مَلِكُ تِلْكَ الْبِلَادِ - وَهُوَ أَبُو ذَلِكَ الْغُلَامِ الَّذِي صَحِبَهُ سَلْمَانُ إِلَيْهِمْ - عَنْ أَرْضِهِ، وَاحْتَبَسَ الْمَلِكُ ابْنَهُ عِنْدَهُ، وَعَرَضَ سَلْمَانُ دِينَهُمْ عَلَى أَخِيهِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ فَقَالَ: إِنِّي مُشْتَغِلٌ بِنَفْسِي فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ فَارْتَحَلَ مَعَهُمْ سَلْمَانُ حَتَّى دَخَلُوا كَنِيسَةَ الْمَوْصِلِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ أَهْلُهَا ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَتْرُكُونِي عِنْدَهُمْ فَأَبَيْتُ إِلَّا صُحْبَتَهُمْ فَخَرَجُوا حَتَّى أَتَوْا وَادِيًا بَيْنَ جِبَالٍ فَتَحَدَّرَ إِلَيْهِمْ رُهْبَانُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِمْ، وَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ غَيْبَتِهِمْ عَنْهُمْ، وَيَسْأَلُونَهُمْ عَنِّي فَيُثْنُونَ عَلَيَّ خَيْرًا، وَجَاءَ رَجُلٌ مُعَظَّمٌ فِيهِمْ فَخَطَبَهُمْ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَذَكَرَ الرُّسُلَ وَمَا أُيِّدُوا بِهِ، وَذَكَرَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَأَنَّهُ كَانَ عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخَيْرِ وَنَهَاهُمْ عَنِ الشَّرِّ، ثُمَّ لَمَّا أَرَادُوا الِانْصِرَافَ تَبِعَهُ سَلْمَانُ وَلَزِمَهُ.
قَالَ: فَكَانَ يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ مِنَ الْأَحَدِ إِلَى الْأَحَدِ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَيَعِظُهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فَمَكَثَ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَزُورَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَحِبَهُ سَلْمَانُ إِلَيْهِ. قَالَ: فَكَانَ فِيمَا يَمْشِي يَلْتَفِتُ إِلَيَّ وَيُقْبِلُ عَلَيَّ فَيَعِظُنِي، وَيُخْبِرُنِي أَنَّ لِي رَبًّا، وَأَنَّ بَيْنَ يَدَيْ جَنَّةً وَنَارًا وَحِسَابًا، وَيُعَلِّمُنِي وَيُذَكِّرُنِي نَحْوَ مَا كَانَ يُذَكِّرُ الْقَوْمَ يَوْمَ الْأَحَدِ قَالَ: فِيمَا يَقُولُ لِي: يَا سَلْمَانُ إِنَّ اللَّهَ سَوْفَ يَبْعَثُ رَسُولًا اسْمُهُ أَحْمَدُ يَخْرُجُ مِنْ

تِهَامَةَ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ. وَهَذَا زَمَانُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ قَدْ تَقَارَبَ فَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ وَلَا أَحْسَبُنِي أُدْرِكُهُ فَإِنْ أَدْرَكْتَهُ أَنْتَ فَصَدِّقْهُ وَاتَّبِعْهُ. قُلْتُ لَهُ: وَإِنْ أَمَرَنِي بِتَرْكِ دِينِكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَإِنْ أَمَرَكَ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيمَا يَجِيءُ بِهِ، وَرِضَى الرَّحْمَنِ فِيمَا قَالَ، ثُمَّ ذَكَرَ قُدُومَهُمَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ صَلَّى فِيهِ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، ثُمَّ نَامَ وَقَدْ أَوْصَاهُ أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ الظِّلُّ مَكَانَ كَذَا أَنْ يُوقِظَهُ فَتَرَكَهُ سَلْمَانُ حِينًا آخَرَ أَزْيَدَ مِمَّا قَالَ لِيَسْتَرِيحَ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ ذَكَرَ اللَّهَ، وَلَامَ سَلْمَانَ عَلَى تَرْكِ مَا أَمَرَهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَسَأَلَهُ مُقْعَدٌ; فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ سَأَلْتُكَ حِينَ وَصَلْتَ فَلَمْ تُعْطِنِي شَيْئًا، وَهَا أَنَا أَسْأَلُكَ فَنَظَرَ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا فَأَخَذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: قُمْ بِسْمِ اللَّهِ فَقَامَ، وَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَلَا قَلَبَةٌ كَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَقَالَ لِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ احْمِلْ عَلَيَّ مَتَاعِي حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى أَهْلِي فَأُبَشِّرَهُمْ فَاشْتَغَلْتُ بِهِ، ثُمَّ أَدْرَكْتُ الرَّجُلَ فَلَمْ أَلْحَقْهُ وَلَمْ أَدْرِ أَيْنَ ذَهَبَ.
وَكُلَّمَا سَأَلْتُ عَنْهُ قَوْمًا قَالُوا: أَمَامَكَ حَتَّى لَقِيَنِي رَكْبٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ بَنِي كَلْبٍ فَسَأَلْتُهُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا لُغَتِي أَنَاخَ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِعِيرَهُ فَحَمَلَنِي خَلْفَهُ حَتَّى أَتَوْا بِي بِلَادَهُمْ فَبَاعُونِي فَاشْتَرَتْنِي امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَجَعَلَتْنِي فِي حَائِطٍ لَهَا، وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ ذَهَابَهُ إِلَيْهِ بِالصَّدَقَةِ،

وَالْهَدِيَّةِ; لِيَسْتَعْلِمَ مَا قَالَ صَاحِبُهُ، ثُمَّ تَطَلَّبَ النَّظَرَ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ فَلَمَّا رَآهُ آمَنَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَهُ الَّذِي جَرَى لَهُ قَالَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَاشْتَرَاهُ مِنْ سَيِّدِهِ فَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ قَالَ: سَأَلْتُهُ يَوْمًا عَنْ دِينِ النَّصَارَى فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِمْ قَالَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَحِبْتُهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ الَّذِي كَانَ مَعِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَدَخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [ الْمَائِدَةِ: 82 ] فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُ وَأَنَا خَائِفٌ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ الْآيَاتِ، ثُمَّ قَالَ: يَا سَلْمَانُ أُولَئِكَ الَّذِينَ كُنْتَ مَعَهُمْ، وَصَاحِبُكَ لَمْ يَكُونُوا نَصَارَى كَانُوا مُسْلِمِينَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَهُوَ أَمَرَنِي بِاتِّبَاعِكَ فَقُلْتُ لَهُ: فَإِنْ أَمَرَنِي بِتَرْكِ دِينِكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِ. قَالَ نَعَمْ. فَاتْرُكْهُ فَإِنَّ الْحَقَّ وَمَا يُرْضِي اللَّهَ فِيمَا يَأْمُرُكَ، وَفِي هَذَا السِّيَاقِ غَرَابَةٌ كَثِيرَةٌ، وَفِيهِ بَعْضُ الْمُخَالَفَةِ لِسِيَاقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَطَرِيقُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَقْوَى إِسْنَادًا، وَأَحْسَنُ اقْتِصَاصًا، وَأَقْرَبُ إِلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ طَرْخَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ تَدَاوَلَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ رَبٍّ إِلَى رَبٍّ أَيْ:

مِنْ مُعَلِّمٍ إِلَى مُعَلِّمٍ، وَمُرَبٍّ إِلَى مِثْلِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: تَدَاوَلَهُ ثَلَاثُونَ سَيِّدًا مِنْ سَيِّدٍ إِلَى سَيِّدٍ فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَذَلِكَ اسْتَقْصَى قِصَّةَ إِسْلَامِهِ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، وَأَوْرَدَ لَهَا أَسَانِيدَ وَأَلْفَاظًا كَثِيرَةً، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ اسْمَ سَيِّدَتِهِ الَّتِي كَاتَبَتْهُ حُلَيْسَةُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرُ أَخْبَارٍ غَرِيبَةٍ فِي ذَلِكَ
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلَابِيُّ حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سَوِيَّةَ الْمِنْقَرِيُّ حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ كُسَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عِتْوارَةَ الْخُزَاعِيِّ عَنْ سِعْرِ بْنِ سَوَادَةَ الْعَامِرِيِّ قَالَ: كُنْتُ عَسِيفًا لِعَقِيلَةٍ مِنْ عَقَائِلِ الْحَيِّ أَرْكَبُ لَهَا الصَّعْبَ وَالذَّلُولَ لَا أُبْقِي مِنَ الْبِلَادِ مَطْرَحًا أَرْجُو رِبْحًا فِي مَتْجَرٍ إِلَّا أَتَيْتُهُ فَانْصَرَفْتُ مِنَ الشَّامِ بِخُرْثَةٍ وَأَثَاثٍ أُرِيدُ بِهِ كُبَّةَ الْمَوْسِمِ، وَدَهْمَاءَ الْعَرَبِ فَدَخَلْتُ مَكَّةَ بِلَيْلٍ مُسْدِفٍ فَأَقَمْتُ حَتَّى تَعَرَّى عَنِّي قَمِيصُ اللَّيْلِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا قِبَابٌ مُسَامِتَةٌ شَعَفَ الْجِبَالِ مَضْرُوبَةٌ

بِأَنْطَاعِ الطَّائِفِ، وَإِذَا جَزَائِرُ تُنْحَرُ وَأُخْرَى تُسَاقُ، وَإِذَا أَكَلَةٌ وَحَثَثَةٌ عَلَى الطُّهَاةِ: يَقُولُونَ أَلَا عَجِّلُوا أَلَا عَجَّلُوا، وَإِذَا رَجُلٌ يَجْهَرُ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ يُنَادِي: يَا وَفْدَ اللَّهِ مِيلُوا إِلَى الْغَدَاءِ، وَأُنَيْسَانٌ عَلَى مَدْرَجَةٍ يَقُولُ: يَا وَفْدَ اللَّهِ مِنْ طَعِمَ فَلْيَرُحْ إِلَى الْعَشَاءِ فَجَهَرَنِي مَا رَأَيْتُ فَأَقْبَلْتُ أُرِيدُ عَمِيدَ الْقَوْمِ فَعَرَفَ رَجُلٌ الَّذِي بِي فَقَالَ: أَمَامَكَ، وَإِذَا شَيْخٌ كَأَنَّ فِي خَدَّيْهِ الْأَسَارِيعَ وَكَأَنَّ الشِّعْرَى تَوَقَّدُ مِنْ جَبِينِهِ قَدْ لَاثَ عَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةً سَوْدَاءَ قَدْ أَبْرَزَ مِنْ مِلَائِهَا جَمَّةً فَيْنَانَةً كَأَنَّهَا سَمَاسِمٌ - قَالَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: تَحْتَهُ كُرْسِيُّ سَاسَمٍ - وَمِنْ دُونِهَا نُمْرُقَةٌ، بِيَدِهِ قَضِيبٌ يَتَخَصَّرُ بِهِ، حَوْلَهُ مَشَايِخُ جِلَّةٌ نَوَاكِسُ الْأَذْقَانِ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يُفِيضُ بِكَلِمَةٍ.
وَقَدْ كَانَ نَمَى إِلَيَّ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الشَّامِ أَنَّ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ هَذَا أَوَانُ نُجُومِهِ فَلَمَّا رَأَيْتُهُ ظَنَنْتُهُ ذَلِكَ فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: مَهْ مَهْ، كَلَّا، وَكَأَنْ قَدْ وَلَّيْتَنِي إِيَّاهُ ! قُلْتُ: مَنْ هَذَا الشَّيْخُ ؟ فَقَالُوا: هَذَا أَبُو

نَضْلَةَ هَذَا هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ. فَوَلَّيْتُ وَأَنَا أَقُولُ: هَذَا وَاللَّهِ الْمَجْدُ لَا مَجْدُ آلِ جَفْنَةَ يَعْنِي مُلُوكَ عَرَبِ الشَّامِ مِنْ غَسَّانَ، كَانَ يُقَالَ لَهُمْ: آلُ جَفْنَةَ، وَهَذِهِ الْوَظِيفَةُ الَّتِي حَكَاهَا عَنْ هَاشِمٍ هِيَ الرِّفَادَةُ يَعْنِي إِطْعَامَ الْحَجِيجِ زَمَنَ الْمَوْسِمِ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي يَحْيَى حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ قُتَيْبَةَ الْخُرَاسَانِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا طَالِبٍ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ إِذْ رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي فَفَزِعْتُ مِنْهَا فَزَعًا شَدِيدًا فَأَتَيْتُ كَاهِنَةَ قُرَيْشٍ، وَعَلَيَّ مُطْرَفُ خَزٍّ وَجُمَّتِي تَضْرِبُ مَنْكِبَيَّ فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيَّ عَرَفَتْ فِي وَجْهِي التَّغَيُّرَ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ قَوْمِي فَقَالَتْ: مَا بَالُ سَيِّدِنَا قَدْ أَتَانَا مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ ؟ هَلْ رَابَهُ مَنْ حِدْثَانِ الدَّهْرِ شَيْءٌ ؟ فَقُلْتُ: لَهَا بَلَى وَكَانَ لَا يُكَلِّمُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يُقَبِّلَ يَدَهَا الْيُمْنَى، ثُمَّ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهَا، ثُمَّ يَذْكُرُ حَاجَتَهُ، وَلَمْ أَفْعَلْ; لِأَنِّي كَبِيرُ قَوْمِي فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ، وَأَنَا نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ كَأَنَّ شَجَرَةً نَبَتَتْ قَدْ نَالَ رَأْسُهَا السَّمَاءَ، وَضَرَبَتْ بِأَغْصَانِهَا الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ وَمَا رَأَيْتُ نُورًا أَزْهَرَ مِنْهَا أَعْظَمَ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ سَبْعِينَ ضِعْفًا.
وَرَأَيْتُ الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ سَاجِدِينَ لَهَا، وَهِيَ تَزْدَادُ كُلَّ سَاعَةٍ عِظَمًا وَنُورًا،

وَارْتِفَاعًا، سَاعَةً تَخْفَى وَسَاعَةً تَزْهَرُ، وَرَأَيْتُ رَهْطًا مَنْ قُرَيْشٍ قَدْ تَعَلَّقُوا بِأَغْصَانِهَا، وَرَأَيْتُ قَوْمًا مِنْ قُرَيْشٍ يُرِيدُونَ قَطْعَهَا فَإِذَا دَنَوْا مِنْهَا أَخَّرَهُمْ شَابٌّ لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ وَجْهًا وَلَا أَطْيَبَ مِنْهُ رِيحًا فَيَكْسِرُ أَظْهُرَهُمْ وَيَقْلَعُ أَعْيُنَهُمْ فَرَفَعْتُ يَدِي لِأَتَنَاوَلَ مِنْهَا نَصِيبًا فَمَنَعَنِي الشَّابُّ فَقُلْتُ: لِمَنِ النَّصِيبُ ؟ فَقَالَ: النَّصِيبُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَعَلَّقُوا بِهَا، وَسَبَقُوكَ إِلَيْهَا فَانْتَبَهْتُ مَذْعُورًا فَزِعًا فَرَأَيْتُ وَجْهَ الْكَاهِنَةِ قَدْ تَغَيَّرَ، ثُمَّ قَالَتْ: لَئِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكَ، لَيَخْرُجَنَّ مِنْ صُلْبِكَ رَجُلٌ يَمْلِكُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ، وَيَدِينُ لَهُ النَّاسُ.
ثُمَّ قَالَ: - يَعْنِي عَبْدَ الْمُطَّلِبِ - لِأَبِي طَالِبٍ: لَعَلَّكَ تَكُونُ هَذَا الْمَوْلُودَ قَالَ: فَكَانَ أَبُو طَالِبٍ يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَمَا وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَمَا بُعِثَ، ثُمَّ قَالَ: كَانَتِ الشَّجَرَةُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَبَا الْقَاسِمِ الْأَمِينَ فَيُقَالُ: لِأَبِي طَالِبٍ أَلَا تُؤْمِنُ ؟ فَيَقُولُ: السُّبَّةُ وَالْعَارُ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلَابِيُّ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ الضَّبِّيُّ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: خَرَجْتُ فِي تِجَارَةٍ إِلَى الْيَمَنِ فِي رَكْبٍ مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَقَدِمْتُ الْيَمَنَ فَكُنْتُ أَصْنَعُ يَوْمًا طَعَامًا، وَأَنْصَرِفُ بِأَبِي سُفْيَانَ وَبِالنَّفَرِ، وَيَصْنَعُ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمًا، وَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ لِي فِي يَوْمِي الَّذِي كُنْتُ أَصْنَعُ فِيهِ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا الْفَضْلِ أَنْ تَنْصَرِفَ إِلَى بَيْتِي، وَتُرْسِلَ إِلَيَّ غَدَاءَكَ ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَانْصَرَفْتُ أَنَا وَالنَّفَرِ إِلَى بَيْتِهِ،

وَأَرْسَلْتُ إِلَى الْغَدَاءِ فَلَمَّا تَغَدَّى الْقَوْمُ قَامُوا وَاحْتَبَسَنِي فَقَالَ: هَلْ عَلِمْتَ يَا أَبَا الْفَضْلِ أَنَّ ابْنَ أَخِيكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ؟ فَقُلْتُ: أَيُّ بَنِي أَخِي ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إِيَّايَ تَكْتُمُ؟! وَأَيُّ بَنِي أَخِيكَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ هَذَا إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ ؟! قُلْتُ: وَأَيُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلَ. قَالَ: بَلَى قَدْ فَعَلَ، وَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنِ ابْنِهِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فِيهِ: أُخْبِرُكَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَامَ بِالْأَبْطَحِ فَقَالَ: أَنَا رَسُولٌ أَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: قُلْتُ لَعَلَّهُ يَا أَبَا حَنْظَلَةَ صَادِقٌ. فَقَالَ: مَهْلًا يَا أَبَا الْفَضْلِ فَوَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا إِنِّي لَا أَخْشَى أَنْ يَكُونَ عَلَيَّ ضَيْرٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بَرِحَتْ قُرَيْشٌ تَزْعُمُ أَنَّ لَكُمْ هَنَةً وَهَنَةً، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَايَةٌ، لَنَشَدْتُكَ يَا أَبَا الْفَضْلِ هَلْ سَمِعْتَ ذَلِكَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَدْ سَمِعْتُ. قَالَ: فَهَذِهِ وَاللَّهِ شُؤْمَتُكُمْ. قُلْتُ: فَلَعَلَّهَا يُمْنَتُنَا. قَالَ: فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا لَيَالٍ حَتَّى قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ بِالْخَبَرِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَفَشَا ذَلِكَ فِي مَجَالِسِ الْيَمَنِ وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَجْلِسُ مَجْلِسًا بِالْيَمَنِ يَتَحَدَّثُ فِيهِ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ.
فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ مَا هَذَا الْخَبَرُ ؟ بَلَغَنِي أَنَّ فِيكُمْ عَمَّ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ مَا قَالَ ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: صَدَقُوا وَأَنَا عَمُّهُ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَخُو أَبِيهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَحَدِّثْنِي عَنْهُ قَالَ: لَا تَسْأَلْنِي مَا أُحِبُّ أَنَّ يَدَّعِيَ هَذَا الْأَمْرَ أَبَدًا وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَعِيبَهُ وَغَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ فَرَأَى الْيَهُودِيُّ أَنَّهُ يُغَمِّضُ عَلَيْهِ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَعِيبَهُ فَقَالَ

الْيَهُودِيُّ: لَيْسَ بِهِ لَا بَأْسَ عَلَى الْيَهُودِ، وَتَوْرَاةِ مُوسَى قَالَ الْعَبَّاسُ: فَنَادَانِي الْحَبْرُ فَجِئْتُ فَخَرَجْتُ حَتَّى جَلَسْتُ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ مِنَ الْغَدِ، وَفِيهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَالْحَبْرُ فَقُلْتُ لِلْحَبْرِ: بَلَغَنِي أَنَّكَ سَأَلْتَ ابْنَ عَمِّي عَنْ رَجُلٍ مِنَّا زَعَمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَكَ أَنَّهُ عَمُّهُ وَلَيْسَ بِعَمِّهِ، وَلَكِنِ ابْنَ عَمِّهِ، وَأَنَا عَمُّهُ وَأَخُو أَبِيهِ قَالَ: أَخُو أَبِيهِ ؟ قُلْتُ: أَخُو أَبِيهِ. فَأَقْبَلَ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ: صَدَقَ ؟ قَالَ: نَعَمْ صَدَقَ. فَقُلْتُ: سَلْنِي فَإِنْ كَذَبْتُ فَلْيَرُدَّهُ عَلَيَّ. فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ: نَشَدْتُكَ هَلْ كَانَ لِابْنِ أَخِيكِ صَبْوَةٌ أَوْ سَفَهَةٌ ؟ قُلْتُ: لَا وَإِلَهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلَا كَذَبَ وَلَا خَانَ، وَإِنَّهُ كَانَ اسْمُهُ عِنْدَ قُرَيْشٍ الْأَمِينَ قَالَ: فَهَلْ كَتَبَ بِيَدِهِ ؟ قَالَ الْعَبَّاسُ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ بِيَدِهِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَهَا، ثُمَّ ذَكَرْتُ مَكَانَ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ مُكَذِّبِي، وَرَادٌّ عَلَيَّ.
فَقُلْتُ: لَا يَكْتُبُ. فَوَثَبَ الْحَبْرُ وَتَرَكَ رِدَاءَهُ، وَقَالَ: ذُبِحَتْ يَهُودُ وَقُتِلَتْ يَهُودُ. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَلَمَّا رَجَعْنَا إِلَى مَنْزِلِنَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ إِنَّ الْيَهُودَ تَفْزَعُ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ ؟ قُلْتُ: قَدْ رَأَيْتَ مَا رَأَيْتَ فَهَلْ لَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ أَنْ تُؤْمِنَ بِهِ فَإِنْ كَانَ حَقًّا كُنْتَ قَدْ سَبَقْتَ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَمَعَكَ غَيْرُكَ مِنْ أَكْفَائِكَ قَالَ: لَا أُؤْمِنُ بِهِ حَتَّى أَرَى الْخَيْلَ فِي كَدَاءٍ، قُلْتُ: مَا تَقُولُ ؟ قَالَ: كَلِمَةٌ جَاءَتْ عَلَى فَمِي، إِلَّا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتْرُكُ خَيْلًا تَطْلُعُ مِنْ كَدَاءٍ. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَلَمَّا اسْتَفْتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

مَكَّةَ، وَنَظَرْنَا إِلَى الْخَيْلِ وَقَدْ طَلَعَتْ مِنْ كَدَاءٍ قُلْتُ: يَا أَبَا سُفْيَانَ تَذْكُرُ الْكَلِمَةَ ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ إِنِّي لَذَاكِرُهَا فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ. وَهَذَا سِيَاقٌ حَسَنٌ عَلَيْهِ الْبَهَاءُ وَالنُّورُ وَضِيَاءُ الصِّدْقِ، وَإِنْ كَانَ فِي رِجَالِهِ مَنْ هُوَ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِصَّةِ أَبِي سُفْيَانَ مَعَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِهَذَا الْبَابِ وَهُوَ مِنْ أَغْرَبِ الْأَخْبَارِ، وَأَحْسَنِ السِّيَاقَاتِ وَعَلَيْهِ النُّورُ، وَسَيَأْتِي أَيْضًا قِصَّةُ أَبِي سُفْيَانَ مَعَ هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ صِفَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَحْوَالِهِ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ، وَنُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، وَقَالَ لَهُ: كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ فِيكُمْ وَلَوْ أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لُقِيَّهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ، وَلَئِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا; لَيَمْلِكَنَّ مَوْضِعَ قَدَمِيَّ هَاتَيْنِ. وَكَذَلِكَ وَقَعَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ أَكْثَرَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ إِيرَادِ الْآثَارِ وَالْأَخْبَارِ عَنِ الرُّهْبَانِ وَالْأَحْبَارِ وَالْعَرَبِ فَأَكْثَرَ وَأَطْنَبَ وَأَحْسَنَ وَأَطْيَبَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ.

قِصَّةُ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْخُزَاعِيُّ الْأَهْوَازِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ بْنِ دِلْهَاثِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُرَيْحِ بْنِ يَاسِرِ بْنِ سُوَيْدٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ دِلْهَاثٍ عَنْ أَبِيهِ إِسْمَاعِيلَ أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَبَاهُ يَاسِرَ بْنَ سُوَيْدٍ حَدَّثَهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ حَاجًّا فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قَوْمِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَرَأَيْتَ فِي نَوْمِي، وَأَنَا بِمَكَّةَ نُورًا سَاطِعًا مِنَ الْكَعْبَةِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى جَبَلِ يَثْرِبَ وَأَشْعَرِ جُهَيْنَةَ فَسَمِعْتُ صَوْتًا بَيْنَ النُّورِ وَهُوَ يَقُولُ: انْقَشَعَتِ الظَّلْمَاءُ، وَسَطَعَ الضِّيَاءُ، وَبُعِثَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، ثُمَّ أَضَاءَ إِضَاءَةً أُخْرَى حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى قُصُورِ الْحِيرَةِ وَأَبْيَضِ الْمَدَائِنِ، وَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ النُّورِ وَهُوَ يَقُولُ: ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَكُسِرَتِ الْأَصْنَامُ، وَوُصِلَتِ الْأَرْحَامُ فَانْتَبَهْتُ فَزِعًا فَقُلْتُ لِقَوْمِي: وَاللَّهِ لَيَحَدُثَنَّ لِهَذَا الْحَيِّ مَنْ قُرَيْشٍ حَدَثٌ، وَأَخْبَرْتُهُمْ بِمَا رَأَيْتُ فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى بِلَادِنَا جَاءَنِي رَجُلٌ يُقَالَ لَهُ: أَحْمَدُ قَدْ بُعِثَ فَأَتَيْتُهُ فَأُخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ فَقَالَ: يَا عَمْرُو بْنَ مُرَّةَ أَنَا النَّبِيُّ الْمُرْسَلُ إِلَى الْعِبَادِ كَافَّةً أَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَآمُرُهُمْ بِحَقْنِ الدِّمَاءِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَعِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَفْضِ الْأَصْنَامِ، وَحَجِّ

الْبَيْتِ، وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فَمَنْ أَجَابَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ عَصَى فَلَهُ النَّارُ فَآمِنْ بِاللَّهِ يَا عَمْرُو يُؤَمِّنْكَ اللَّهُ مِنْ هَوْلِ جَهَنَّمَ فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَإِنْ رَغَمَ ذَلِكَ كَثِيرًا مِنَ الْأَقْوَامِ، ثُمَّ أَنْشَدْتُهُ أَبْيَاتًا قُلْتُهَا حِينَ سَمِعْتُ بِهِ وَكَانَ لَنَا صَنَمٌ وَكَانَ أَبِي سَادِنًا لَهُ فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَكَسَرْتُهُ، ثُمَّ لَحِقْتُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا أَقُولُ
شَهِدْتُ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَأَنَّنِي لِآلِهَةِ الْأَحْجَارِ أَوَّلُ تَارِكِ وَشَمَّرْتُ عَنْ سَاقِ الْإِزَارِ مُهَاجِرًا
إِلَيْكَ أَجُوبُ الْقَفْرَ بَعْدَ الدَّكَادِكِ لِأَصْحَبَ خَيْرَ النَّاسِ نَفْسًا وَوَالِدًا
رَسُولَ مَلِيكِ النَّاسِ فَوْقَ الْحَبَائِكِ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرْحَبًا بِكَ يَا عَمْرُو بْنَ مُرَّةَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْعَثْنِي إِلَى قَوْمِي لَعَلَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِي كَمَا مَنَّ عَلَيَّ بِكَ فَبَعَثَنِي إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: عَلَيْكَ بِالرِّفْقِ وَالْقَوْلِ السَّدِيدِ وَلَا تَكُنْ فَظًّا وَلَا مُتَكَبِّرًا وَلَا حَسُودًا فَذَكَرَ أَنَّهُ أَتَى قَوْمَهُ فَدَعَاهُمْ إِلَى مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمُوا كُلُّهُمْ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ وَفَدَ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

فَرَحَّبَ بِهِمْ وَحَيَّاهُمْ وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا، هَذِهِ نُسْخَتُهُ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ صَادِقٍ، وَحَقٍّ نَاطِقٍ، مَعَ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ لِجُهَيْنَةَ بْنِ زَيْدٍ: إِنَّ لَكُمْ بُطُونَ الْأَرْضِ وَسُهُولَهَا وَتِلَاعَ الْأَوْدِيَةِ وَظُهُورَهَا، تَزْرَعُونَ نَبَاتَهُ وَتَشْرَبُونَ صَافِيَهَ عَلَى أَنْ تُقِرُّوا بِالْخُمْسِ، وَتُصَلُّوا صَلَاةَ الْخَمْسِ، وَفِي التَّبِيعَةِ وَالصُّرَيْمَةِ إِنِ اجْتَمَعَتَا شَاتَانِ، وَإِنْ تَفَرَّقَتَا شَاةٌ شَاةٌ، لَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْمِيرَةِ صَدَقَةٌ وَلَا عَلَى الْوَارِدَةِ لَبْقَةٌ، وَشَهِدَ عَلَى نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِكِتَابِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَذَكَرَ شِعْرًا قَالَهُ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ فِي ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْمُسْنَدِ الْكَبِيرِ، وَبِاللَّهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [ الْأَحْزَابِ: 7 ] قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: لَمَّا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي آدَمَ يَوْمَ قَالَ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [ الْأَعْرَافِ: 172 ]

أَخَذَ مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقًا خَاصًّا، وَأَكَّدَ مَعَ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ أُولِي الْعَزْمِ أَصْحَابِ الشَّرَائِعِ الْكِبَارِ، الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ نُوحٌ وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مَنْ طُرُقٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ ؟ قَالَ: بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحَلَبِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ النُّفَيْلِيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ وَاقَدٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ عَنِ الصُّنَابِحِيِّ قَالَ قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى جُعِلْتَ نَبِيًّا ؟ قَالَ: وَآدَمُ مُنْجَدِلٌ فِي الطِّينِ ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ نَصْرِ بْنِ مُزَاحِمٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ

قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَتَّى كُنْتَ نَبِيًّا ؟ قَالَ: وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي قِصَّةِ آدَمَ حِينَ اسْتَخْرَجَ اللَّهُ مِنْ صُلْبِهِ ذُرِّيَّتَهُ خَصَّ الْأَنْبِيَاءَ بِنُورٍ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ كَانَ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلِهِمْ، وَرُتَبِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَنُورُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَظْهَرَ وَأَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْهُمْ كُلِّهِمْ. وَهَذَا تَنْوِيهٌ عَظِيمٌ، وَتَنْبِيهٌ ظَاهِرٌ عَلَى شَرَفِهِ وَعُلُوِّ قَدْرِهِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ الْكَلْبِيِّ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِيِّ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنْبِئُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى بِي، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ، وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ الْأَنْبِيَاءِ يَرَيْنَ وَرَوَاهُ اللَّيْثُ وَابْنُ وَهْبٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ،

وَزَادَ إِنَّ أُمَّهُ رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْهُ نُورًا، أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ بُدَيْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى كُتِبْتَ نَبِيًّا ؟ قَالَ: وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ أَيْضًا، وَهَكَذَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ بُدَيْلِ بْنِ مَيْسَرَةَ بِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَمْرٍو الْبَاهِلِيِّ عَنْ شَيْبَانَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَّى كُنْتَ نَبِيًّا ؟ قَالَ: وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِهِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَمْدَانَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ خُلَيْدِ بْنِ دَعْلَجٍ وَسَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ [ اَلْأَحْزَابِ: 7 ]

قَالَ: كُنْتُ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ فِي الْخَلْقِ وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ بَقِيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَشَيْبَانَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مِثْلَهُ. وَهَذَا أَثْبَتُ، وَأَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ التَّنْوِيهِ بِذِكْرِهِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَأَنَّهُ مَعْرُوفٌ بِذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِأَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَآدَمُ لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ سَابِقٌ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا مَحَالَةَ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِعْلَامِ بِهِ فِي الْمَلَإِ الْأَعْلَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْحَدِيثَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مَنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَزَادَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي آخِرِهِ: فَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ وَبِهِ خُتِمَتِ النُّبُوَّةُ وَهُوَ السَّابِقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَكْتُوبٍ فِي النُّبُوَّةِ وَالْعَهْدِ. ثُمَّ قَالَ: فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْفَضِيلَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النُّبُوَّةَ قَبْلَ

تَمَامِ خَلْقِ آدَمَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِيجَابُ هُوَ مَا أَعْلَمَ اللَّهُ مَلَائِكَتَهُ. مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَقَضَائِهِ، مِنْ بِعْثَتِهِ لَهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ. وَهَذَا الْكَلَامُ يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَفِيهِ كَلَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا اقْتَرَفَ آدَمُ الْخَطِيئَةَ قَالَ: يَا رَبِّ أَسْأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ إِلَّا غَفَرْتَ لِي. فَقَالَ اللَّهُ: يَا آدَمُ كَيْفَ عَرَفْتَ مُحَمَّدًا، وَلَمْ أَخْلُقْهُ بَعْدُ ؟ فَقَالَ: يَا رَبِّ لِأَنَّكَ لَمَّا خَلَقْتَنِي بِيَدِكَ، وَنَفَخْتَ فِيَّ مَنْ رُوحِكَ رَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ عَلَى قَوَائِمِ الْعَرْشِ مَكْتُوبًا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَعَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تُضِفْ إِلَى اسْمِكَ إِلَّا أَحَبَّ الْخَلْقِ إِلَيْكَ. فَقَالَ اللَّهُ: صَدَقْتَ يَا آدَمُ إِنَّهُ لَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَإِذْ قَدْ سَأَلْتَنِي بِحَقِّهِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، وَلَوْلَا مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ آلِ عِمْرَانَ: 81، 82 ]

قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلِيَنْصُرَنَّهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ، لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلِيَنْصُرُنَّهُ.
وَهَذَا تَنْوِيهٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِهِ، وَعَظَمَتِهِ فِي سَائِرِ الْمِلَلِ، وَعَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِعْلَامٌ لَهُمْ وَمِنْهُمْ بِرِسَالَتِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَأَنَّهُ أَكْرَمُ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ. وَقَدْ أَوْضَحَ أَمْرَهُ، وَكَشَفَ خَبَرَهُ وَبَيَّنَ سِرَّهُ وَجَلَّى مَجْدَهُ وَمَوْلِدَهُ وَبَلَدَهُ، إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ الْبَقَرَةِ: 129 ] فَكَانَ أَوَّلُ بَيَانِ أَمْرِهِ عَلَى الْجَلِيَّةِ وَالْوُضُوحِ بَيْنَ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ أَكْرَمِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى اللَّهِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا الْفَرَجُ يَعْنِي ابْنَ فَضَالَةَ حَدَّثَنَا لُقْمَانُ بْنُ عَامِرٍ سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا كَانَ بَدْءُ أَمْرِكَ ؟ قَالَ: دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّامِ تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ

أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ الْمَوْلِدِ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ حُجْرِ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ أَوَّلَ أَمْرِ نُبُوَّتِكَ ؟ فَقَالَ: أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الْمِيثَاقَ كَمَا أَخَذَ مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ، وَرَأَتْ أَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهَا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهَا سِرَاجٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ..
وَقَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ قَالَ: دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ أَيْضًا، وَفِيهِ بِشَارَةٌ لِأَهْلِ مَحَلَّتِنَا أَرْضِ بُصْرَى، أَنَّهَا أَوَّلُ بُقْعَةٍ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ خَلَصَ إِلَيْهَا نُورُ النُّبُوَّةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَلِهَذَا كَانَتْ أَوَّلَ مَدِينَةٍ فُتِحَتْ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَكَانَ فَتْحُهَا صُلْحًا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَقَدْ قَدِمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ فِي صُحْبَةِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ ابْنُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَكَانَتْ عِنْدَهَا قِصَّةُ بَحِيرَى الرَّاهِبِ كَمَا بَيَّنَاهُ وَالثَّانِيَةُ، وَمَعَهُ مَيْسَرَةُ مَوْلَى خَدِيجَةَ فِي تِجَارَةٍ لَهَا، وَبِهَا مَبْرَكُ النَّاقَةِ الَّتِي يُقَالُ: إِنَّ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرَكَتْ عَلَيْهِ فَأَثَّرَ ذَلِكَ فِيهَا،

فِيمَا يُذْكَرُ. ثُمَّ نُقِلَ وَبُنِيَ عَلَيْهِ مَسْجِدٌ مَشْهُورٌ الْيَوْمَ. وَهِيَ الْمَدِينَةُ الَّتِي أَضَاءَتْ أَعْنَاقُ الْإِبِلِ عِنْدَهَا مِنْ نُورِ النَّارِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَفْقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَخْرُجُ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِيءُ لَهَا أَعْنَاقُ الْإِبِلِ بِبُصْرَى وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الْآيَةَ [ اَلْأَعْرَافِ: 157 ] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنِ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي صَخْرٍ الْعُقَيْلِيِّ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ قَالَ: جَلَبْتُ جَلُوبَةً إِلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ بَيْعِي قُلْتُ: لَأَلْقَيَنَّ هَذَا الرَّجُلَ فَلْأَسْمَعَنَّ مِنْهُ، قَالَ: فَتَلَقَّانِي بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ فَتَبِعْتُهُمْ حَتَّى أَتَوْا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ نَاشِرَ التَّوْرَاةِ يَقْرَؤُهَا، يُعَزِّي بِهَا نَفْسَهُ عَنِ ابْنٍ لَهُ فِي الْمَوْتِ كَأَحْسَنِ الْفِتْيَانِ وَأَجْمَلِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ هَلْ تَجِدُ فِي

كِتَابِكَ ذَا صِفَتِي وَمَخْرَجِي ؟ فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا أَيْ: لَا. فَقَالَ ابْنُهُ: إِيْ وَالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ إِنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا صِفَتَكَ وَمَخْرَجَكَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ: أَقِيمُوا الْيَهُودِيَّ عَنْ أَخِيكُمْ. ثُمَّ وَلِيَ كَفْنَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ هَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَلَهُ شَوَاهِدُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ أَبُو بَحْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْفَلَتَانِ بْنِ عَاصِمٍ، وَذَكَرَ أَنَّ خَالَهُ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ شَخَصَ بَصَرُهُ إِلَى رَجُلٍ فَإِذَا يَهُودِيٌّ عَلَيْهِ قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلُ وَنَعْلَانِ، قَالَ: فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَلِّمُهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَقْرَأُ التَّوْرَاةَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَتَقْرَأُ الْإِنْجِيلَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَالْقُرْآنُ ؟ لَوْ تَشَاءُ قَرَأْتُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَبِمَ تَقْرَأُ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ أَتَجِدُنِي نَبِيًّا ؟ قَالَ: إِنَّا نَجِدُ نَعْتَكَ وَمَخْرَجَكَ فَلَمَّا خَرَجْتَ رَجَوْنَا أَنْ تَكُونَ فِينَا فَلَمَّا رَأَيْنَاكَ عَرَفْنَا أَنَّكَ لَسْتَ

بِهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلِمَ يَا يَهُودِيُّ ؟ قَالَ: إِنَّا نَجِدُهُ مَكْتُوبًا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا نَرَى مَعَكَ إِلَّا نَفَرًا يَسِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمَّتِي لَأَكْثَرُ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا وَسَبْعِينَ أَلْفًا هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ فَقَالَ: أَخْرِجُوا أَعْلَمَكُمْ. فَقَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا. فَخَلَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَاشَدَهُ بِدِينِهِ وَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَأَطْعَمَهُمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَظَلَّلَهُمْ بِهِ مِنَ الْغَمَامِ أَتَعْلَمُنِي رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. وَإِنَّ الْقَوْمَ لَيَعْرِفُونَ مَا أَعْرِفُ، وَإِنَّ صِفَتَكَ وَنَعْتَكَ لَمُبَيَّنٌ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَكِنَّهُمْ حَسَدُوكُ قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَكْرَهُ خِلَافَ قَوْمِي، وَعَسَى أَنْ يَتَّبِعُوكَ وَيُسْلِمُوا فَأُسْلِمُ، وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَاحِبِ مُوسَى وَأَخِيهِ وَالْمُصَدِّقِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى أَلَا إِنَّ اللَّهَ قَالَ لَكُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَأَهْلَ التَّوْرَاةِ إِنَّكُمْ تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ إِنَّ مُحَمَّدًا: رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا

سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [ اَلْفَتْحِ: 29 ]. وَإِنِّي أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، وَبِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ، وَأَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَطْعَمَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ أَسْلَافِكُمْ وَأَسْبَاطِكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَأَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَيْبَسَ الْبَحْرَ لِآبَائِكُمْ حَتَّى أَنْجَاكُمْ مَنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ، إِلَّا أَخْبَرْتُمُونَا: هَلْ تَجِدُونَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِمُحَمَّدٍ ؟ فَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ فَلَا كُرْهَ عَلَيْكُمْ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، وَأَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ ذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ فِي كِتَابِ الْمُبْتَدَأِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ بُخْتَنَصَّرَ بَعْدَ أَنْ خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَاسْتَذَلَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِسَبْعِ سِنِينَ رَأَى فِي الْمَنَامِ رُؤْيَا عَظِيمَةً هَالَتْهُ فَجَمَعَ الْكَهَنَةَ وَالْحُزَاةَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ رُؤْيَاهُ تِلْكَ فَقَالُوا: لِيَقُصَّهَا الْمَلِكُ حَتَّى نُخْبِرَهُ بِتَأْوِيلِهَا فَقَالَ: إِنِّي أُنْسِيتُهَا، وَإِنْ لَمْ تُخْبِرُونِي بِهَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَتَلْتُكُمْ عَنْ آخِرِكُمْ فَذَهَبُوا خَائِفِينَ وَجِلِينَ مِنْ

وَعِيدِهِ. فَسَمِعَ بِذَلِكَ دَانْيَالُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ فِي سِجْنِهِ فَقَالَ لِلسَّجَّانِ: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّ هَاهُنَا رَجُلًا عِنْدَهُ عِلْمُ رُؤْيَاكَ وَتَأْوِيلُهَا. فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَأَعْلَمَهُ فَطَلَبَهُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ لَمْ يَسْجُدْ لَهُ. فَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ لِي ؟ فَقَالَ: إِنِ اللَّهَ آتَانِي عِلْمًا، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَسْجُدَ لِغَيْرِهِ فَقَالَ لَهُ بُخْتُنَصَّرُ: إِنِّي أُحِبُّ الَّذِينَ يُوفُونَ لِأَرْبَابِهِمْ بِالْعُهُودِ فَأَخْبِرْنِي عَنْ رُؤْيَايَ. قَالَ لَهُ دَانْيَالُ: رَأَيْتَ صَنَمًا عَظِيمًا رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ، أَعْلَاهُ مِنْ ذَهَبٍ، وَوَسَطُهُ مِنْ فِضَّةٍ، وَأَسْفَلُهُ مِنْ نُحَاسٍ، وَسَاقَاهُ مِنْ حَدِيدٍ، وَرِجْلَاهُ مِنْ فَخَّارٍ فَبَيْنَا أَنْتَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ قَدْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُ وَإِحْكَامُ صَنْعَتِهِ قَذَفَهُ اللَّهُ بِحَجَرٍ مِنَ السَّمَاءِ فَوَقَعَ عَلَى قِمَّةِ رَأْسِهِ حَتَّى طَحَنَهُ، وَاخْتَلَطَ ذَهَبُهُ وَفِضَّتُهُ وَنُحَاسُهُ وَحَدِيدُهُ وَفَخَّارُهُ حَتَّى تَخَيَّلَ إِلَيْكَ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يُمَيِّزُوا بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ، وَنَظَرْتَ إِلَى الْحَجَرِ الَّذِي قُذِفَ بِهِ يَرْبُو وَيَعْظُمُ وَيَنْتَشِرُ حَتَّى مَلَأَ الْأَرْضَ كُلَّهَا فَصِرْتَ لَا تَرَى إِلَّا الْحَجَرَ وَالسَّمَاءَ. فَقَالَ لَهُ بُخْتُنَصَّرَ: صَدَقْتَ هَذِهِ الرُّؤْيَا الَّتِي رَأَيْتُهَا فَمَا تَأْوِيلُهَا ؟.
فَقَالَ دَانْيَالُ: أَمَّا الصَّنَمُ; فَأُمَمٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي أَوَّلِ الزَّمَانِ وَفِي وَسَطِهِ، وَفِي آخِرِهِ، وَأَمَّا الْحَجَرُ الَّذِي قُذِفَ بِهِ الصَّنَمُ; فَدِينٌ يَقْذِفُ اللَّهُ بِهِ هَذِهِ الْأُمَمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَيُظْهِرُهُ عَلَيْهَا فَيَبْعَثُ اللَّهُ نَبِيًّا أُمِّيًّا مِنَ الْعَرَبِ فَيُدَوِّخُ

بِهِ الْأُمَمَ وَالْأَدْيَانَ، كَمَا رَأَيْتَ الْحَجَرَ دَوَّخَ أَصْنَافَ الصَّنَمِ، وَيَظْهَرُ عَلَى الْأَدْيَانِ وَالْأُمَمِ، كَمَا رَأَيْتَ الْحَجَرَ ظَهَرَ عَلَى الْأَرْضِ كُلِّهَا فَيُمَحِّصُ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ، وَيُزْهِقُ بِهِ الْبَاطِلَ، وَيَهْدِي بِهِ أَهْلَ الضَّلَالَةِ، وَيُعَلِّمُ بِهِ الْأُمِّيِّينَ، وَيُقَوِّي بِهِ الضَّعَفَةَ، وَيَعِزُّ بِهِ الْأَذِلَّةَ، وَيَنْصُرُ بِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ. وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ فِي إِطْلَاقِ بُخْتَنَصَّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى يَدَيْ دَانْيَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي قِصَّةِ وُفُودِهِ عَلَى الْمُقَوْقِسِ مَلِكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَسُؤَالِهِ لَهُ عَنْ صِفَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبًا مِنْ سُؤَالِ هِرَقْلَ لِأَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَ أَسَاقِفَةَ النَّصَارَى فِي الْكَنَائِسِ عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرُوهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهِيَ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ ذَكَرَهَا الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمِدْرَاسِ الْيَهُودِ فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ أَسْلِمُوا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَتَجِدُونَ صِفَتِي فِي كُتُبِكُمْ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ. فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِصِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ; يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [ اَلْأَحْزَابِ: 45 ] وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، وَأَنْتَ عَبْدِي

وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ وَلَا سَخَّابٌ بِالْأَسْوَاقِ وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمُوا الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ; بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. يَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ الْعَوْفِيِّ عَنْ فُلَيْحٍ بِهِ، وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - قِيلَ: ابْنُ رَجَاءٍ، وَقِيلَ: ابْنُ صَالِحٍ - عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ بِهِ، وَلَفْظُهُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا، وَفِيهِ زِيَادَةٌ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ فُلَيْحٍ عَنْ هِلَالٍ عَنْ عَطَاءٍ وَزَادَ: قَالَ عَطَاءٌ: فَلَقِيتُ كَعْبًا فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَمَا اخْتَلَفَ حَرْفًا، وَقَالَ فِي الْبُيُوعِ: وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ هِلَالٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُفَضَّلِ الْقَطَّانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّا لَنَجِدُ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا

أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُهُ الْمُتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابَ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي السَّيِّئَةَ بِمِثْلِهَا، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَتَجَاوَزُ، وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى يُقِيمَ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ; بِأَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. يَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، وَأَخْبَرَنِي اللَّيْثِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ يَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَ ابْنُ سَلَامٍ.
قُلْتُ: وَهَذَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَشْبَهُ، وَلَكِنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَكْثَرُ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ وَجَدَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا كَثِيرًا، وَلِيُعْلَمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ السَّلَفِ كَانُوا يُطْلِقُونَ التَّوْرَاةَ عَلَى كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهِيَ عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى مُوسَى، وَقَدْ ثَبَتَ شَاهِدُ ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ يُونُسُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: قُلْتُ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: كَيْفَ تَجِدُونَ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ ؟ قَالَ: نَجِدُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، اسْمُهُ الْمُتَوَكِّلُ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَأُعْطِيَ

الْمَفَاتِيحَ فَيُبَصِّرُ اللَّهُ بِهِ أَعْيُنًا عُورًا، وَيُسْمِعُ آذَانًا وُقْرًا، وَيُقِيمُ بِهِ أَلْسُنًا مُعْوَجَّةً حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يُعِينُ الْمَظْلُومَ وَيَمْنَعُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبٍ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْفَقِيهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرِمٍ حَدَّثَنَا أَبُو قَطَنٍ عَمْرُو بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا قَالَ: نُودُوا: يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ اسْتَجَبْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوَنِي، وَأَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي. وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ فِي الزَّبُورِ: يَا دَاوُدُ إِنَّهُ سَيَأْتِي مِنْ بَعْدِكَ نَبِيٌّ اسْمُهُ أَحْمَدُ وَمُحَمَّدُ صَادِقًا سَيِّدًا، لَا أَغْضَبُ عَلَيْهِ أَبَدًا وَلَا يُغْضِبُنِي أَبَدًا، وَقَدْ غَفَرْتُ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْصِيَنِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَأُمَّتُهُ مَرْحُومَةٌ أَعْطَيْتُهُمْ مِنَ النَّوَافِلِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتُ الْأَنْبِيَاءَ، وَافْتَرَضْتُ عَلَيْهُمُ الْفَرَائِضَ الَّتِي افْتَرَضْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ حَتَّى يَأْتُونِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنُورُهُمْ مِثْلُ نُورِ الْأَنْبِيَاءِ. إِلَى أَنْ قَالَ: يَا دَاوُدُ إِنِّي فَضَّلْتُ مُحَمَّدًا وَأُمَّتَهُ عَلَى الْأُمَمِ كُلِّهَا.

وَالْعِلْمُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعِهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [ اَلْقِصَصِ: 52، 53 ] وَقَالَ تَعَالَى الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ الْبَقَرَةِ: 146 ] وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا [ اَلْإِسْرَاءِ: 107، 108 ] أَيْ: إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا بِوُجُودِ مُحَمَّدٍ وَإِرْسَالِهِ لَكَائِنٌ لَا مَحَالَةَ فَسُبْحَانَ الْقَدِيرِ عَلَى مَا يَشَاءُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ. وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [ اَلْمَائِدَةِ: 83 ] وَفِي قِصَّةِ النَّجَاشِيِّ، وَسَلْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِمْ كَمَا سَيَأْتِي شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَذَكَرْنَا فِي تَضَاعِيفِ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ، مَا تَقَدَّمُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ مِنْ وَصْفِهِمْ لِبِعْثَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَعْتِهِ وَبَلَدِ مَوْلِدِهِ وَدَارِ مُهَاجَرِهِ، وَنَعْتِ أُمَّتِهِ فِي قِصَّةِ

مُوسَى وَأَشْعِيَا وَأَرْمِيَا وَدَانْيَالَ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ آخِرِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَاتَمِهِمْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، أَنَّهُ قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ خَطِيبًا قَائِلًا لَهُمْ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [ اَلصَّفِّ: 6 ] وَفِي الْإِنْجِيلِ الْبِشَارَةُ بِالْبَارَقْلِيطِ وَالْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمْرٍو عَنِ الْعَيْزَارِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ لَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ وَلَا سَخَّابٌ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا فَيْضٌ الْبَجَلِيُّ حَدَّثَنَا سَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: جُدَّ فِي أَمْرِي، وَاسْمَعْ وَأَطِعْ يَا ابْنَ الطَّاهِرَةِ الْبِكْرِ الْبَتُولِ، أَنَا خَلَقْتُكَ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ فَجَعَلْتُكَ آيَةً لِلْعَالَمِينَ فَإِيَّايَ فَاعْبُدْ فَبَيِّنْ لِأَهْلِ سُورَانَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ بَلِّغْ مَنْ بَيْنِ يَدَيْكَ أَنِّي أَنَا الْحَقُّ الْقَائِمُ الَّذِي لَا أَزُولُ صَدِّقُوا بِالنَّبِيِّ

الْأُمِّيِّ الْعَرَبِيِّ، صَاحِبِ الْجَمَلِ وَالْمِدْرَعَةِ وَالْعِمَامَةِ وَهِيَ التَّاجُ وَالنَّعْلَيْنِ وَالْهِرَاوَةِ وَهِيَ الْقَضِيبُ، الْجَعْدُ الرَّأْسِ الصَّلْتُ الْجَبِينِ الْمَقْرُونُ الْحَاجِبَيْنِ الْأَنْجَلُ الْعَيْنَيْنِ الْأَهْدَبُ الْأَشْفَارِ الْأَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ الْأَقْنَى الْأَنْفِ الْوَاضِحُ الْخَدَّيْنِ الْكَثُّ اللِّحْيَةِ، عَرَقُهُ فِي وَجْهِهِ كَاللُّؤْلُؤِ رِيحُ الْمِسْكِ يَنْضَحُ مِنْهُ، كَأَنَّ عُنُقَهُ إِبْرِيقُ فِضَّةٍ وَكَأَنَّ الذَّهَبَ يَجْرِي فِي تَرَاقِيهِ، لَهُ شَعَرَاتٌ مِنْ لَبَّتِهِ إِلَى سُرَّتِهِ تَجْرِي كَالْقَضِيبِ لَيْسَ فِي بَطْنِهِ شَعْرٌ غَيْرُهُ، شَثْنُ الْكَفِّ وَالْقَدَمِ، إِذَا جَاءَ مَعَ النَّاسِ غَمَرَهُمْ، وَإِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَتَقَلَّعُ مِنَ الصَّخْرِ وَيَتَحَدَّرُ مِنْ صَبَبٍ، ذُو النَّسْلِ الْقَلِيلِ. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ الذُّكُورَ مِنْ صُلْبِهِ. هَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ حَدَّثَنِي بَعْضُ

عُمُومَتِي وَآبَائِي أَنَّهُمْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ وَرَقَةٌ يَتَوَارَثُونَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَهِيَ عِنْدَهُمْ فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ذَكَرُوهَا لَهُ وَأَتَوْهُ بِهَا، مَكْتُوبٌ فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ، وَقَوْلُ الظَّالِمِينَ فِي تَبَابٍ، هَذَا الذِّكْرُ لِأُمَّةٍ تَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ، يُسَبِّلُونَ أَطْرَافَهُمْ وَيَأْتَزِرُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، وَيَخُوضُونَ الْبُحُورَ إِلَى أَعْدَائِهِمْ فِيهِمْ صَلَاةٌ لَوْ كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ مَا أُهْلِكُوا بِالطُّوفَانِ، وَفِي عَادٍ مَا أُهْلِكُوا بِالرِّيحِ، وَفِي ثَمُودَ مَا أُهْلِكُوا بِالصَّيْحَةِ. بِسْمِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ، وَقَوْلُ الظَّالِمِينَ فِي تِبَابٍ. ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً أُخْرَى، قَالَ: فَعَجِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأْتُ عَلَيْهِ لِمَا فِيهَا.
وَذَكَرْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ [ اَلْأَعْرَافِ: 157 ] قِصَّةَ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ الْأُمَوِيِّ حِينَ بَعَثَهُ الصِّدِّيقُ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى هِرَقْلَ، يَدْعُوهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَذَكَرَ أَنَّهُ أَخْرَجَ لَهُمْ صُوَرَ الْأَنْبِيَاءِ فِي رَبْعَةٍ، مِنْ آدَمَ إِلَى مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، عَلَى النَّعْتِ وَالشَّكْلِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَ صُورَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ قَائِمًا إِكْرَامًا لَهُ. ثُمَّ جَلَسَ وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَيَتَأَمَّلُهَا. قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: مَنْ أَيْنَ لَكَ هَذِهِ الصُّوَرُ ؟ فَقَالَ: إِنَّ آدَمَ سَأَلَ

رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ وَلَدِهِ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ صُوَرَهُمْ فَكَانَ فِي خِزَانَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ فَاسْتَخْرَجَهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ فَدَفَعَهَا إِلَى دَانْيَالَ. ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ نَفْسِي قَدْ طَابَتْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مُلْكِي، وَإِنِّي كُنْتُ عَبْدًا لِأَشَرِّكُمْ مَلَكَةً حَتَّى أَمُوتَ. ثُمَّ أَجَازَنَا فَأَحْسَنَ جَائِزَتَنَا وَسَرَّحَنَا.
فَلَمَّا أَتَيْنَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَحَدَّثْنَاهُ بِمَا رَأَيْنَا وَمَا أَجَازَنَا وَمَا قَالَ لَنَا. قَالَ: فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: مِسْكِينٌ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا لَفَعَلَ. ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ وَالْيَهُودَ يَجِدُونَ نَعْتَ مُحَمَّدٍ عِنْدَهُمْ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ بِطُولِهِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: قَدِمْتُ بِرَقِيقٍ مِنْ عِنْدِ النَّجَاشِيِّ أَعْطَانِيهِمْ فَقَالُوا لِي: يَا عَمْرُو لَوْ رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ لَعَرَفْنَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخْبِرَنَا فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَقُلْتُ: أَهُوَ هَذَا ؟ قَالُوا: لَا. فَمَرَّ عُمَرُ فَقُلْتُ: أَهُوَ هَذَا ؟ قَالُوا: لَا. فَدَخَلْنَا الدَّارَ فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادُونِي: يَا عَمْرُو هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ

هُوَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِهِ أَحَدٌ، عَرَفُوهُ بِمَا كَانُوا يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ إِنْذَارُ سَبَأٍ لِقَوْمِهِ، وَبِشَارَتِهِ لَهُمْ بِوُجُودِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِعْرٍ أَسْلَفْنَاهُ فِي تَرْجَمَتِهِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْحَبْرَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ لِتُبَّعٍ الْيَمَانِيِّ، حِينَ حَاصَرَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ إِنَّهَا مُهَاجَرُ نَبِيٍّ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَرَجَعَ عَنْهَا، وَنَظَمَ شِعْرًا يَتَضَمَّنُ السَّلَامَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قِصَّةُ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيِّ، وَبِشَارَتُهُ بِالنَّبِيِّ الْأُمِّيِّ
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سَهْلٍ الْخَرَائِطِيُّ فِي كِتَابِهِ هَوَاتِفِ الْجَانِّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ بَكْرٍ - هُوَ ابْنُ بَكَّارٍ الْقَعْنَبِيُّ - عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا ظَهَرَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ - قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاسْمُهُ النُّعْمَانُ بْنُ قَيْسٍ - عَلَى الْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ، أَتَتْهُ وُفُودُ الْعَرَبِ وَشُعَرَاؤُهَا، تُهَنِّئُهُ وَتَمْدَحُهُ وَتَذْكُرُ مَا كَانَ مِنْ حُسْنِ بَلَائِهِ، وَأَتَاهُ فِيمَنْ أَتَاهُ وَفْدُ قُرَيْشٍ فِيهِمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ، وَخُوَيْلِدُ بْنُ أَسَدٍ فِي أُنَاسٍ مِنْ وُجُوهِ قُرَيْشٍ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ صَنْعَاءَ فَإِذَا هُوَ فِي رَأْسِ غُمْدَانَ الَّذِي ذَكَرَهُ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ

وَاشْرَبْ هَنِيئًا عَلَيْكَ التَّاجُ مُرْتَفِعًا فِي رَأْسِ غُمْدَانَ دَارًا مِنْكَ مِحْلَالَا
فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْآذِنُ فَأَخْبَرَهُ بِمَكَانِهِمْ فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَنَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْكَلَامِ فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُلُوكِ فَقَدْ أَذِنَّا لَكَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ مَحَلًّا رَفِيعًا صَعْبًا مَنِيعًا شَامِخًا بَاذِخًا، وَأَنْبَتَكَ مَنْبَتًا طَابَتْ أَرُومَتُهُ، وَعَزَّتْ جُرْثُومَتُهُ، وَثَبَتَ أَصْلُهُ، وَبَسَقَ فَرْعُهُ، فِي أَكْرَمِ مَوْطِنٍ وَأَطْيَبِ مَعْدِنٍ فَأَنْتَ - أَبَيْتَ اللَّعْنَ - مَلِكُ الْعَرَبِ، وَرَبِيعُهَا الَّذِي تَخْصَبُ بِهِ الْبِلَادُ، وَرَأْسُ الْعَرَبِ الَّذِي لَهُ تَنْقَادُ، وَعَمُودُهَا الَّذِي عَلَيْهِ الْعِمَادُ، وَمَعْقِلُهَا الَّذِي يَلْجَأُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ، وَسَلَفُكَ خَيْرُ سَلَفٍ، وَأَنْتَ لَنَا مِنْهُمْ خَيْرُ خَلَفٍ فَلَنْ يَخْمُدَ مَنْ هُمْ سَلَفُهُ، وَلَنْ يَهْلِكَ مَنْ أَنْتَ خَلَفُهُ، وَنَحْنُ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ، وَسَدَنَةُ بَيْتِهِ أَشْخَصَنَا إِلَيْكَ الَّذِي أَبْهَجَنَا مِنْ كَشْفِكَ الْكَرْبَ الَّذِي قَدْ فَدَحَنَا، وَفْدُ التَّهْنِئَةِ لَا وَفْدُ الْمَرْزِئَةِ. قَالَ: وَأَيُّهُمْ أَنْتَ أَيُّهَا الْمُتَكَلِّمُ ؟ قَالَ: أَنَا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ. قَالَ: ابْنُ أُخْتِنَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: ادْنُ. فَأَدْنَاهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا وَنَاقَةً وَرَحْلًا وَمُسْتَنَاخًا سَهْلًا، وَمَلِكًا رِبَحْلًا يُعْطِي عَطَاءً جَزْلًا، قَدْ سَمِعَ الْمَلِكُ مَقَالَتَكُمْ، وَعَرَفَ قَرَابَتَكُمْ وَقَبِلَ وَسِيلَتَكُمْ فَأَنْتُمْ أَهْلُ

اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَلَكُمُ الْكَرَامَةُ مَا أَقَمْتُمْ وَالْحِبَاءُ إِذَا ظَعَنْتُمْ، ثُمَّ أُنْهِضُوا إِلَى دَارِ الْكَرَامَةِ وَالْوُفُودِ فَأَقَامُوا شَهْرًا لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ وَلَا يَأْذَنُ لَهُمْ بِالِانْصِرَافِ.
ثُمَّ انْتَبَهَ لَهُمُ انْتِبَاهَةً فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَأَدْنَى مَجْلِسَهُ وَأَخْلَاهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ إِنِّي مُفْضٍ إِلَيْكَ مِنْ سِرِّ عِلْمِي، مَا أَنْ لَوْ يَكُونُ غَيْرُكَ لَمْ أَبُحْ بِهِ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُكَ مَعْدِنَهُ; فَأَطْلَعْتُكَ طَلِيعَهُ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ مَطْوِيًّا حَتَّى يَأْذَنَ اللَّهُ فِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ: إِنِّي أَجِدُّ فِي الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ وَالْعِلْمِ الْمَخْزُونِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ لِأَنْفُسِنَا، وَاحْتَجَبْنَاهُ دُونَ غَيْرِنَا خَيْرًا عَظِيمًا، وَخَطَرًا جَسِيمًا فِيهِ شَرَفُ الْحَيَاةِ، وَفَضِيلَةُ الْوَفَاةِ لِلنَّاسِ عَامَّةً وَلِرَهْطِكَ كَافَّةً وَلَكَ خَاصَّةً.
فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: أَيُّهَا الْمَلِكُ مِثْلُكَ سَرَّ وَبَرَّ فَمَا هُوَ ؟ فِدَاكَ أَهْلُ الْوَبَرِ زُمَرًا بَعْدَ زُمَرٍ. قَالَ: إِذَا وُلِدَ مَوْلُودٌ بِتِهَامَةْ، غُلَامٌ بِهِ عَلَامَةْ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ شَامَةْ، كَانَتْ لَهُ الْإِمَامَةْ، وَلَكُمْ بِهِ الزَّعَامَةْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةْ. قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: أَبَيْتَ اللَّعْنَ، قَدْ أُبْتُ بِخَيْرِ مَا آبَ بِهِ وَافِدٌ، وَلَوْلَا هَيْبَةُ الْمَلِكِ وَإِجْلَالُهُ وَإِعْظَامُهُ; لَسَأَلْتُهُ مِنْ سَارِّهِ إِيَّايَ مَا أَزْدَادُ بِهِ سُرُورًا. قَالَ ابْنُ ذِي يَزَنَ: هَذَا حِينُهُ الَّذِي يُولَدُ فِيهِ، أَوْ قَدْ وُلِدَ وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ يَمُوتُ أَبُوهُ وَأُمُّهُ، وَيَكْفُلُهُ جَدُّهُ وَعَمُّهُ، وَلَدْنَاهُ مِرَارًا وَاللَّهُ بَاعِثُهُ جِهَارًا، وَجَاعِلٌ لَهُ مِنَّا أَنْصَارًا يُعِزُّ بِهِمْ أَوْلِيَاءَهُ، وَيُذِلُّ بِهِمْ أَعْدَاءَهُ، وَيَضْرِبُ بِهِمُ النَّاسَ عَنْ عُرْضٍ، وَيَسْتَبِيحُ بِهِمْ كَرَائِمَ الْأَرْضِ يَكْسِرُ

الْأَوْثَانَ، وَيُخْمِدُ النِّيرَانَ، وَيَعْبُدُ الرَّحْمَنَ وَيَدْحَرُ الشَّيْطَانَ، قَوْلُهُ فَصْلٌ وَحُكْمُهُ عَدْلٌ، يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَفْعَلُهُ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُبْطِلُهُ.
فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: أَيُّهَا الْمَلِكُ عَزَّ جَدُّكَ، وَعَلَا كَعْبُكَ، وَدَامَ مُلْكُكَ، وَطَالَ عُمُرُكَ، فَهَذَا نِجَارِي فَهَلِ الْمَلِكُ سَارَّنِي بِإِفْصَاحٍ، فَقَدْ وَضَّحَ لِي بَعْضَ الْإِيضَاحِ. فَقَالَ ابْنُ ذِي يَزَنَ: وَالْبَيْتِ ذِي الْحُجُبِ وَالْعَلَامَاتِ عَلَى النُّقُبِ، إِنَّكَ يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ لَجَدُّهُ غَيْرَ كَذِبٍ. فَخَرَّ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ سَاجِدًا فَقَالَ: ارْفَعْ رَأْسَكَ ثَلَجَ صَدْرُكَ، وَعَلَا أَمْرُكَ فَهَلْ أَحْسَسْتَ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْتُ لَكَ ؟ فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ كَانَ لِيَ ابْنٌ وَكُنْتُ بِهِ مُعْجَبًا، وَعَلَيْهِ رَفِيقَا فَزَوَّجْتُهُ كَرِيمَةً مَنْ كَرَائِمِ قَوْمِهِ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ فَجَاءَتْ بِغُلَامٍ سَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا فَمَاتَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَكَفَلْتُهُ أَنَا وَعَمُّهُ. قَالَ ابْنُ ذِي يَزَنَ: إِنَّ الَّذِي قُلْتُ لَكَ كَمَا قُلْتَ فَاحْتَفِظْ بِابْنِكَ، وَاحْذَرْ عَلَيْهِ الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَهُ أَعْدَاءٌ، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَلَيْهِ سَبِيلًا، وَاطْوِ مَا ذَكَرْتُ لَكَ دُونَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ الَّذِينَ مَعَكَ; فَإِنِّي لَسْتُ آمَنُ أَنْ تُدْخِلَهُمُ النَّفَاسَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَكُمُ الرِّيَاسَةُ فَيَطْلُبُونَ لَهُ الْغَوَائِلَ، وَيَنْصِبُونَ لَهُ الْحَبَائِلَ فَهُمْ فَاعِلُونَ أَوْ أَبْنَاؤُهُمْ، وَلَوْلَا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ مُجْتَاحِي قَبْلَ مَبْعَثِهِ; لَسِرْتُ بِخَيْلِي وَرَجِلِي حَتَّى أُصَيِّرَ يَثْرِبَ دَارَ مُلْكِي فَإِنِّي أَجِدُ فِي الْكِتَابِ النَّاطِقِ وَالْعِلْمِ السَّابِقِ أَنَّ بِيَثْرِبَ اسْتِحْكَامُ أَمْرِهِ، وَأَهْلُ

نُصْرَتِهِ، وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أَقِيهِ الْآفَاتِ، وَأَحْذَرُ عَلَيْهِ الْعَاهَاتِ لَأَعْلَنْتُ - عَلَى حَدَاثَةِ سِنِّهِ - أَمْرَهُ، وَلَأَوْطَأْتُ عَلَى أَسْنَانِ الْعَرَبِ عَقِبَهُ، وَلَكِنِّي صَادِفٌ ذَلِكَ إِلَيْكَ، عَنْ غَيْرِ تَقْصِيرٍ بِمَنْ مَعَكَ قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِعَشَرَةِ أَعْبُدٍ وَعَشْرِ إِمَاءٍ، وَبِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَحُلَّتَيْنِ مِنَ الْبُرُودِ، وَبِخَمْسَةِ أَرْطَالٍ مِنَ الذَّهَبِ وَعَشَرَةِ أَرْطَالِ فِضَّةٍ، وَكَرِشٍ مَمْلُوءٍ عَنْبَرًا، وَأَمَرَ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِعَشْرَةِ أَضْعَافِ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ: إِذَا حَالَ الْحَوْلُ فَأْتِنِي فَمَاتَ ابْنُ ذِي يَزَنَ قَبْلَ أَنْ يَحُولَ الْحَوْلُ. فَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ كَثِيرًا مَا يَقُولُ لَا يَغْبِطْنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ بِجَزِيلِ عَطَاءِ الْمَلِكِ فَإِنَّهُ إِلَى نَفَادٍ، وَلَكِنْ لِيَغْبِطْنِي بِمَا يَبْقَى لِي وَلِعَقِبِي مِنْ بَعْدِي ذِكْرُهُ وَفَخْرُهُ وَشَرَفُهُ. فَإِذَا قِيلَ لَهُ مَتَى ذَلِكَ ؟ قَالَ: سَيُعْلَمُ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ. قَالَ: وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ شَمْسٍ
جَلَبْنَا النُّصْحَ تَحْقُبُهُ الْمَطَايَا عَلَى أَكْوَارِ أَجْمَالٍ وَنُوقِ
مُغَلْغِلَةٌ مَرَاتِعُهَا تُعَالَى إِلَى صَنْعَاءَ مِنْ فَجٍّ عَمِيقِ
تَؤُمُّ بِنَا ابْنَ ذِي يَزَنَ وَيُغْرِي بِذَاتِ بِطُونِهَا ذَمُّ الطَّرِيقِ
وَتَرْعَى مِنْ مَخَائِلِهِ بُرُوقًا مُوَاصِلَةَ الْوَمِيضِ إِلَى بُرُوقِ

فَلَمَّا وَاقَعَتْ صَنْعَاءَ حَلَّتْ بِدَارِ الْمُلْكِ وَالْحَسَبِ الْعَتِيقِ
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ بِكْرِ بْنِ بَكَّارٍ الْقَعْنَبِيِّ بِهِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: أُخْبِرْتُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُفَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الصَّقْرِ بْنِ عُفَيْرِ بْنِ زُرْعَةَ بْنِ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ حَدَّثَنِي أَبِي أَبُو يَزَنَ إِبْرَاهِيمُ حَدَّثَنَا عَمِّي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو رَجَاءٍ حَدَّثَنَا عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زُرْعَةَ بْنِ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيِّ قَالَ لَمَّا ظَهَرَ جَدِّي سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ عَلَى الْحَبَشَةِ وَذَكَرَهُ بِطُولِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقُلُوسِيُّ حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ أَبِي سُوَيَّةَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُوَيَّةَ عَنْ جَدِّهِ أَبِي سُوَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ خَلِيفَةَ قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ

بْنَ عُثْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ سُوَاةَ بْنِ خَثْعَمِ بْنِ سَعْدٍ فَقُلْتُ: كَيْفَ سَمَّاكَ أَبُوكَ مُحَمَّدًا ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُ أَبِي عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ فَقَالَ: خَرَجْتُ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَنَا مِنْهُمْ وَسُفْيَانُ بْنُ مُجَاشِعِ بْنِ دَارِمٍ وَأُسَامَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُنْدُبِ بْنِ الْعَقِيدِ وَيَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ حَرْبُوصِ بْنِ مَازِنٍ، وَنَحْنُ نُرِيدُ ابْنَ جَفْنَةَ مَلِكَ غَسَّانَ فَلَمَّا شَارَفْنَا الشَّامَ نَزَلْنَا عَلَى غَدِيرٍ عَلَيْهِ شَجَرَاتٌ فَتَحَدَّثْنَا فَسَمِعَ كَلَامَنَا رَاهِبٌ فَأَشْرَفَ عَلَيْنَا فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ لُغَةٌ مَا هِيَ بِلُغَةِ هَذِهِ الْبِلَادِ قُلْنَا: نَعَمْ نَحْنُ قَوْمٌ مِنْ مُضَرَ قَالَ: مِنْ أَيِّ الْمُضَرِيِّينَ ؟ قُلْنَا: مِنْ خِنْدَفٍ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ سَيُبْعَثُ وَشِيكًا نَبِيٌّ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَسَارِعُوا إِلَيْهِ، وَخُذُوا بِحَظِّكُمْ مِنْهُ تَرْشُدُوا فَقُلْنَا لَهُ: مَا اسْمُهُ ؟ قَالَ: اسْمُهُ مُحَمَّدٌ قَالَ: فَرَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ ابْنِ جَفْنَةَ فَوُلِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا ابْنٌ فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَمِعَ فِي أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّبِيُّ الْمُبَشَّرُ بِهِ وَلَدَهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَعْدٍ حَدَّثَنَا حَازِمُ بْنُ عِقَالِ بْنِ الزَّهْرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ أَبِي الْحُصَيْنِ بْنِ السَّمَوْءَلِ بْنِ عَادِيَاءَ حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ حَيْرَانَ بْنِ جَمِيعِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ سِمَاكِ بْنِ الْحُصَيْنِ بْنِ السَّمَوْءَلِ بْنِ عَادِيَاءَ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتِ الْأَوْسَ بْنَ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْوَفَاةُ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ قَوْمُهُ مِنْ غَسَّانَ فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ حَضَرَكَ مِنْ

أَمْرِ اللَّهِ مَا تَرَى، وَكُنَّا نَأْمُرُكَ بِالتَّزَوُّجِ فِي شَبَابِكَ فَتَأْبَى. وَهَذَا أَخُوكَ الْخَزْرَجُ لَهُ خَمْسَةُ بَنِينَ، وَلَيْسَ لَكَ وَلَدٌ غَيْرَ مَالِكٍ فَقَالَ: لَنْ يَهْلَكَ هَالِكٌ تَرَكَ مِثْلَ مَالِكٍ إِنَّ الَّذِي يُخْرِجُ النَّارَ مِنَ الْوَثِيمَةِ، قَادِرٌ أَنْ يَجْعَلَ لِمَالِكٍ نَسْلًا وَرِجَالًا بُسْلًا، وَكُلٌّ إِلَى الْمَوْتِ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى مَالِكٍ، وَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ الْمَنِيَّةُ وَلَا الدَّنِيَّةُ، الْعِقَابُ وَلَا الْعِتَابُ، التَّجَلُّدُ وَلَا التَّلَدُّدُ، الْقَبْرُ خَيْرٌ مِنَ الْفَقْرِ، إِنَّهُ مَنْ قَلَّ ذَلَّ، وَمَنْ كَرَّ فَرَّ، وَمِنْ كَرَمِ الْكَرِيمِ الدَّفْعُ عَنِ الْحَرِيمِ وَالدَّهْرُ يَوْمَانِ; فَيَوْمٌ لَكَ وَيَوْمٌ عَلَيْكَ، فَإِذَا كَانَ لَكَ فَلَا تَبْطَرْ، وَإِذَا كَانَ عَلَيْكَ فَاصْطَبِرْ، وَكُلَاهُمَا سَيَنْحَسِرُ لَيْسَ يُفْلِتُ مِنْهُمَا الْمَلِكُ الْمُتَوَّجُ وَلَا اللَّئِيمُ الْمُعَلْهَجُ، سَلِّمْ لِيَوْمِكَ حِيَالَ رَبِّكَ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
شَهِدْتُ السَّبَايَا يَوْمَ آلِ مُحَرَّقٍ وَأَدْرَكَ عُمُرِي صَيْحَةَ اللَّهِ فِي الْحِجْرِ
فَلَمْ أَرَ ذَا مُلْكٍ مِنَ النَّاسِ وَاحِدًا وَلَا سُوقَةً إِلَّا إِلَى الْمَوْتِ وَالْقَبْرِ
فَعَلَّ الَّذِي أَرْدَى ثَمُودًا وَجُرْهُمًا سَيُعْقِبُ لِي نَسْلًا عَلَى آخِرِ الدَّهْرِ
تَقَرُّ بِهِمْ مِنْ آلِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ عُيُونٌ لَدَى الدَّاعِي إِلَى طَلَبِ الْوَتْرِ
فَإِنْ لَمْ تَكُ الْأيَّامُ أَبْلَيْنَ جَدَّتِي وَشَيَّبْنَ رَأْسِي وَالْمَشِيبُ مَعَ الْعُمُرِ

فَإِنَّ لَنَا رَبًّا عَلَا فَوْقَ عَرْشِهِ عَلِيمًا بِمَا يَأْتِي مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ
أَلَمْ يَأْتِ قَوْمِي أَنَّ للَّهِ دَعْوَةً يَفُوزُ بِهَا أَهْلُ السَّعَادَةِ وَالْبِرِّ
إِذَا بُعِثَ الْمَبْعُوثُ مِنْ آلِ غَالِبٍ بَمَكَّةَ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْحِجْرِ
هُنَالِكَ فَابْغُوا نَصْرَهُ بِبِلَادِكُمْ بَنِي عَامِرٍ إِنَّ السَّعَادَةَ فِي النَّصْرِ
قَالَ: ثُمَّ قُضِيَ مِنْ سَاعَتِهِ.

بَابٌ فِي هَوَاتِفِ الْجَانِّ وَهُوَ مَا أَلْقَتْهُ الْجَانُّ عَلَى أَلْسِنَةِ الْكُهَّانِ، وَمَسْمُوعًا مِنَ الْأَوْثَانِ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي عُمَرُ - هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ - أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لِشَيْءٍ قَطُّ: إِنِّي لَأَظُنُّهُ. إِلَّا كَانَ كَمَا يَظُنُّ، بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَالِسٌ إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ جَمِيلٌ فَقَالَ: لَقَدْ أَخْطَأَ ظَنِّي، أَوْ إِنَّ هَذَا عَلَى دِينِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنَهُمْ، عَلَيَّ الرَّجُلَ. فَدُعِيَ بِهِ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ اسْتَقْبَلَ بِهِ رَجُلًا مُسْلِمًا. قَالَ: فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي. قَالَ: كُنْتُ كَاهِنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: فَمَا أَعْجَبُ مَا جَاءَتْكَ بِهِ جِنِّيَّتُكَ ؟ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا فِي السُّوقِ يَوْمًا جَاءَتْنِي أَعْرِفُ فِيهَا الْفَزَعَ فَقَالَتْ

أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلَاسَهَا وَيَأْسَهَا مِنْ بِعْدِ إِنْكَاسِهَا وَلُحُوقَهَا بِالْقِلَاصِ وَأَحْلَاسِهَا
قَالَ عُمَرُ: صَدَقَ، بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ عِنْدَ آلِهَتِهِمْ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ بِعِجْلٍ فَذَبَحَهُ فَصَرَخَ بِهِ صَارِخٌ لَمْ أَسْمَعْ صَارِخًا قَطُّ أَشَدَّ صَوْتًا مِنْهُ يَقُولُ: يَا جَلِيحُ أَمْرٌ نَجِيحٌ رَجُلٌ فَصِيحٌ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَوَثَبَ الْقَوْمُ فَقُلْتُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَعْلَمَ مَا وَرَاءَ هَذَا، ثُمَّ نَادَى: يَا جَلِيحُ أَمْرٌ نَجِيحٌ رَجُلٌ فَصِيحٌ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقُمْتُ فَمَا نَشِبْنَا أَنْ قِيلَ: هَذَا نَبِيٌّ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ الْأَزْدِيُّ، وَيُقَالُ: السَّدُوسِيُّ مِنْ أَهْلِ السَّرَاةِ مِنْ جِبَالِ الْبَلْقَاءِ لَهُ صُحْبَةٌ، وَوِفَادَةٌ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَابْنُ مَنْدَهْ: رَوَى عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَهُ صُحْبَةٌ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ أَحْمَدُ بْنُ رَوْحٍ الْبَرْذَعِيُّ الْحَافِظُ والدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ: سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ بِالتَّخْفِيفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ الْوَقَّاصِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: كَانَ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ، وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ مُطَوَّلَةٍ بِأَبْسَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي النَّاسِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ يُرِيدُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ عُمَرُ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَعَلَى شِرْكِهِ مَا فَارَقَهُ بَعْدُ أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَسَلَّمَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَلْ أَسْلَمْتَ ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: فَهَلْ كُنْتَ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ خِلْتَ فِيَّ وَاسْتَقْبَلْتَنِي بِأَمْرٍ مَا أَرَاكَ قُلْتَهُ لِأَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِكَ مُنْذُ وُلِّيتَ مَا وُلِّيتَ. فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ غَفْرًا، قَدْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى شَرٍّ مِنْ هَذَا نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَعْتَنِقُ الْأَوْثَانَ حَتَّى أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِرَسُولِهِ وَبِالْإِسْلَامِ. قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ كُنْتُ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي مَا جَاءَ بِهِ صَاحِبُكَ. قَالَ: جَاءَنِي قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِشَهْرٍ أَوْ شَيْعِهِ فَقَالَ
أَلَمْ تَرَ الْجِنَّ وَإِبْلَاسَهَا وَيَأْسَهَا مِنْ بَعْدِ إِنْكَاسِهَا
وَلُحُوقَهَا بِالْقِلَاصِ وَأَحْلَاسِهَا

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَذَا الْكَلَامُ سَجْعٌ لَيْسَ بِشِعْرٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ:
فَقَالَ عُمَرُ عِنْدَ ذَلِكَ يُحَدِّثُ النَّاسَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَعِنْدَ وَثَنٍ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَدْ ذَبَحَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ عِجْلًا فَنَحْنُ نَنْتَظِرُ قَسْمَهُ أَنْ يَقْسِمَ لَنَا مِنْهُ إِذْ سَمِعْتُ مَنْ جَوْفِ الْعِجْلَ صَوْتًا مَا سَمِعْتُ صَوْتًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِشَهْرٍ أَوْ شَيْعِهِ يَقُولُ: يَا ذَرِيحُ، أَمْرٌ نَجِيحٌ، رَجُلٌ يَصِيحُ، يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالَ: رَجُلٌ يَصِيحُ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ قَالَ: وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَإِبْلَاسِهَا وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَحْلَاسِهَا
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى مَا مُؤْمِنُو الْجِنِّ كَأَنْجَاسِهَا
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حُجْرِ بْنِ النُّعْمَانِ الشَّامِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مَنْصُورٍ الْأَنْبَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسٌ، إِذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ، فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَعْرِفُ هَذَا

الْمَارَّ ؟ قَالَ: وَمَنْ هَذَا ؟ قَالُوا: هَذَا سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ الَّذِي أَتَاهُ رَئِيُّهُ بِظُهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْتَ عَلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ مِنْ كَهَانَتِكَ ؟ قَالَ: فَغَضِبَ، وَقَالَ: مَا اسْتَقْبَلَنِي بِهَذَا أَحَدٌ مُنْذُ أَسْلَمْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِمَّا كُنْتَ عَلَيْهِ مِنْ كَهَانَتِكَ فَأَخْبِرْنِي بِإِتْيَانِكَ رَئِيُّكَ بِظُهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إِذْ أَتَانِي رَئِيِّي فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: قُمْ يَا سَوَادُ بْنَ قَارِبٍ وَاسْمَعْ مَقَالَتِي، وَاعْقِلْ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ إِنَّهُ قَدْ بُعِثَ رَسُولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، يَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَإِلَى عِبَادَتِهِ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَطْلَابِهَا وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَقْتَابِهَا
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى مَا صَادِقُ الْجِنِّ كَكَذَّابِهَا
فَارْحَلْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ لَيْسَ قُدَّامُاهَا كَأَذْنَابِهَا
قَالَ: قُلْتُ: دَعْنِي أَنَامُ فَإِنِّي أَمْسَيْتُ نَاعِسًا. قَالَ: فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ أَتَانِي فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: قُمْ يَا سَوَادُ بْنَ قَارِبٍ، وَاسْمَعْ مَقَالَتِي، وَاعْقِلْ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ إِنَّهُ بُعِثَ رَسُولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَإِلَى

عِبَادَتِهِ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَخْيَارِهَا وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَكْوَارِهَا
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى مَا مُؤْمِنُو الْجِنِّ كَكُفَّارِهَا
فَارْحَلْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ بَيْنَ رَوَابِيهَا وَأَحْجَارِهَا
قَالَ: قُلْتُ: دَعْنِي أَنَامُ فَإِنِّي أَمْسَيْتُ نَاعِسًا. فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ، أَتَانِي فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: قُمْ يَا سَوَادُ بْنَ قَارِبٍ فَاسْمَعْ مَقَالَتِي وَاعْقِلْ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ، إِنَّهُ قَدْ بُعِثَ رَسُولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى عِبَادَتِهِ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَحْسَاسِهَا وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَحْلَاسِهَا
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى مَا خَيِّرُ الْجِنِّ كَأَنْجَاسِهَا
فَارْحَلْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ وَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَى رَأْسِهَا
قَالَ: فَقُمْتُ، وَقُلْتُ: قَدِ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبِي. فَرَحَّلْتُ نَاقَتِي، ثُمَّ أَتَيْتُ الْمَدِينَةَ يَعْنِي مَكَّةَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ فَدَنَوْتُ فَقُلْتُ: اسْمَعْ مَقَالَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: هَاتِ فَأَنْشَأْتُ أَقُولُ
أَتَانِي نَجِيِّي بَعْدَ هَدْءٍ وَرَقْدَةٍ وَلَمْ يَكُ فِيمَا قَدْ تَلَوْتُ بِكَاذِبِ
ثَلَاثَ لَيَالٍ قَوْلُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَتَاكَ رَسُولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ

فَشَمَّرْتُ عَنْ ذَيْلِي الْأِزَارَ وَوَسَّطَتْ بِيَ الذِّعْلِبُ الْوَجْنَاءُ غُبْرَ السَّبَاسِبِ
فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ وَأَنَّكَ مَأْمُونٌ عَلَى كُلِّ غَالِبِ
وَأَنَّكَ أَدْنَى الْمُرْسَلِينَ وَسِيلَةً إِلَى اللَّهِ يَا ابْنَ الْأَكْرَمِينَ الْأَطَايِبِ
فَمُرْنَا بِمَا يَأْتِيكَ يَا خَيْرَ مَنْ مَشَى وَإِنْ كَانَ فِيمَا جَاءَ شَيْبُ الذَّوَائِبِ
وَكُنْ لِي شَفِيعًا يَوْمَ لَا ذُو شَفَاعَةٍ سِوَاكَ بِمُغْنٍ عَنْ سَوَادِ بْنِ قَارِبِ
قَالَ: فَفَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، بِمَقَالَتِي فَرَحًا شَدِيدًا حَتَّى رُئِيَ الْفَرَحُ فِي وُجُوهِهِمْ. قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَالْتَزَمَهُ، وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْكَ فَهَلْ يَأْتِيكَ رَئِيُّكَ الْيَوْمَ ؟ قَالَ: أَمَّا مُنْذُ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ فَلَا، وَنِعْمَ الْعِوَضُ كِتَابُ اللَّهِ مِنَ الْجِنِّ. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: كُنَّا يَوْمًا فِي حَيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالَ لَهُمْ: آلُ ذَرِيحٍ، وَقَدْ ذَبَحُوا عِجْلًا لَهُمْ وَالْجَزَّارُ يُعَالِجُهُ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتًا مِنْ جَوْفِ الْعِجْلَ وَلَا نَرَى شَيْئًا قَالَ: يَا آلَ ذَرِيحٍ، أَمْرٌ نَجِيحٌ، صَائِحٌ يَصِيحُ، بِلِسَانٍ فَصِيحٍ، يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيُّ وَقَدْ تَسَاعَدُوا عَلَى أَنَّ السَّامِعَ الصَّوْتَ مِنَ الْعِجْلِ هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ سَهْلٍ الْخَرَائِطِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي هَوَاتِفِ الْجَانِّ: حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى الْمُؤَدِّبُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْوَصَّافِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: دَخَلَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ السَّدُوسِيُّ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ يَا سَوَادُ بْنَ قَارِبٍ، هَلْ تُحْسِنُ الْيَوْمَ مَنْ كَهَانَتِكَ شَيْئًا ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا اسْتَقْبَلْتَ أَحَدًا مِنْ جُلَسَائِكَ بِمِثْلِ مَا اسْتَقْبَلْتَنِي بِهِ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا سَوَادُ مَا كُنَّا عَلَيْهِ مِنْ شِرْكِنَا أَعْظَمُ مِمَّا كُنْتَ عَلَيْهِ مِنْ كَهَانَتِكَ وَاللَّهِ يَا سَوَادُ لَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ حَدِيثٌ إِنَّهُ لَعَجَبٌ مِنَ الْعَجَبِ. قَالَ: إِي وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ لَعَجَبٌ مِنَ الْعَجَبِ. قَالَ: فَحَدِّثْنِيهِ قَالَ: كُنْتُ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي نَجِيِّي فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا سَوَادُ اسْمَعْ أَقُلْ لَكَ. قُلْتُ: هَاتِ. قَالَ
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَأَنْجَاسِهَا وَرَحْلِهَا الْعِيسَ بِأَحْلَاسِهَا
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى مَا مُؤْمِنُوهَا مِثْلَ أَرْجَاسِهَا
فَارْحَلْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ وَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلَى رَأْسِهَا
قَالَ: فَنِمْتُ، وَلَمْ أَحْفِلْ بِقَوْلِهِ شَيْئًا. فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ أَتَانِي فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ، ثُمَّ قَالَ لِي: قُمْ يَا سَوَادُ بْنَ قَارِبٍ اسْمَعْ أَقُلْ لَكَ قُلْتُ: هَاتِ قَالَ

عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَطْلَابِهَا وَشَدِّهَا الْعِيسَ بِأَقْتَابِهَا
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى مَا صَادِقُ الْجِنِّ كَكَذَّابِهَا
فَارْحَلْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ لَيْسَ الْمَقَادِيمُ كَأَذْنَابِهَا
قَالَ: فَحَرَّكَ قَوْلُهُ مِنِّي شَيْئًا، وَنِمْتُ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ أَتَانِي فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا سَوَادُ بْنَ قَارِبٍ أَتَعْقِلُ أَمْ لَا تَعْقِلُ ؟ قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: ظَهَرَ بِمَكَّةَ نَبِيٌّ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ فَالْحَقْ بِهِ اسْمَعْ أَقُلْ لَكَ. قُلْتُ: هَاتِ. قَالَ
عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وَتَنْفَارِهَا وَرَحْلِهَا الْعِيسَ بِأَكْوَارِهَا
تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى مَا مُؤْمِنُو الْجِنِّ كَكُفَّارِهَا
فَارْحَلْ إِلَى الصَّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ بَيْنَ رَوَابِيهَا وَأَحْجَارِهَا
قَالَ: فَعَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَادَ بِي خَيْرًا فَقُمْتُ إِلَى بُرْدَةٍ لِي فَفَتَقْتُهَا وَلَبِسْتُهَا، وَوَضَعْتُ رِجْلِي فِي غَرْزِ رِكَابِ النَّاقَةِ، وَأَقْبَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمْتُ، وَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ فَقَالَ: إِذَا اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ فَأَخْبِرْهُمْ فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ قُمْتُ فَقُلْتُ

أَتَانِي نَجِيِّي بَعْدَ هَدْءٍ وَرَقْدَةٍ وَلَمْ يَكُ فِيمَا قَدْ بَلَوْتُ بِكَاذِبِ
ثَلَاثَ لَيَالٍ قَوْلُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ أَتَاكَ رَسُولٌ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ
فَشَمَّرْتُ عَنْ ذَيْلِي الْإِزَارَ وَوَسَّطَتْ بِيَ الذِّعْلِبُ الْوَجْنَاءُ غُبْرَ السَّبَاسِبِ
وَأَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَأَنَّكَ مَأْمُونٌ عَلَى كُلِّ غَائِبِ
وَأَنَّكَ أَدْنَى الْمُرْسَلِينَ وِسَيلَةً إِلَى اللَّهِ يَا ابْنَ الْأَكْرَمِينَ الْأَطَايِبِ
فَمُرْنَا بِمَا يَأْتِيكَ يَا خَيْرَ مُرْسَلٍ وَإِنْ كَانَ فِيمَا جَاءَ شَيْبُ الذَّوَائِبِ
قَالَ: فَسُرَّ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ تُحِسُّ الْيَوْمَ مِنْهَا بِشَيْءٍ ؟ قَالَ: أَمَّا مُذْ عَلَّمَنِي اللَّهُ الْقُرْآنَ فَلَا. وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، قَالَ: لَمَّا وَرَدَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ عَلَى عُمَرَ قَالَ: يَا سَوَادُ بْنَ قَارِبٍ مَا بَقِيَ مِنْ كَهَانَتِكَ ؟ فَغَضِبَ، وَقَالَ: مَا أَظُنُّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اسْتَقْبَلْتَ أَحَدًا مِنَ الْعَرَبِ بِمِثْلِ هَذَا. فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ مِنَ الْغَضَبِ قَالَ: انْظُرْ سَوَادُ، لَلَّذِي كُنَّا عَلَيْهِ قَبْلَ الْيَوْمِ مِنَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ. ثُمَّ قَالَ: يَا سَوَادُ حَدِّثْنِي حَدِيثًا كُنْتُ أَشْتَهِي أَسْمَعُهُ مِنْكَ، قَالَ: نَعَمْ بَيَنَا أَنَا فِي إِبِلٍ لِي بِالسَّرَاةِ لَيْلًا وَأَنَا نَائِمٌ وَكَانَ لِي نَجِيٌّ مِنَ الْجِنِّ فَأَتَانِي فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ فَقَالَ لِي: قُمْ يَا سَوَادُ بْنَ قَارِبٍ فَقَدْ ظَهَرَ بِتِهَامَةَ نَبِيٌّ يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ، وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَزَادَ فِي آخِرِ الشِّعْرِ

وَكُنْ لِي شَفِيعًا يَوْمَ لَا ذُو قُرَابَةٍ سِوَاكَ بِمُغْنٍ عَنْ سَوَادِ بْنِ قَارِبِ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سِرْ فِي قَوْمِكَ، وَقُلْ هَذَا الشِّعْرَ فِيهِمْ.
وَرَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ الْأَزْدِيُّ قَالَ: كُنْتُ نَائِمًا عَلَى جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ السَّرَاةِ فَأَتَانِي آتٍ فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ أَيْضًا.
وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْبَرَاءِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ: كُنْتُ نَازِلًا بِالْهِنْدِ فَجَاءَنِي رَئِيِّي ذَاتَ لَيْلَةٍ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَقَالَ بَعْدَ إِنْشَادِ الشِّعْرِ الْأَخِيرِ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقَالَ: أَفْلَحْتَ يَا سَوَادُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ خَبَرٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ بِمَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; أَنَّ امْرَأَةً بِالْمَدِينَةِ كَانَ لَهَا تَابِعٌ مِنَ الْجِنِّ فَجَاءَ فِي صُورَةِ طَائِرٍ أَبْيَضَ فَوَقَعَ عَلَى حَائِطٍ لَهُمْ فَقَالَتْ لَهُ: لِمَ لَا تَنْزِلُ إِلَيْنَا فَتُحَدِّثَنَا وَنُحَدِّثَكَ، وَتُخْبِرَنَا وَنُخْبِرَكَ ؟ فَقَالَ لَهَا: إِنَّهُ قَدْ بُعِثَ نَبِيٌّ بِمَكَّةَ حَرَّمَ الزِّنَا، وَمَنَعَ مِنَّا الْقَرَارَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ

عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ خَبَرٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ امْرَأَةً تُدْعَى فَاطِمَةَ كَانَ لَهَا تَابِعٌ فَجَاءَهَا ذَاتَ يَوْمٍ فَقَامَ عَلَى الْجِدَارِ فَقَالَتْ: أَلَا تَنْزِلُ ؟ فَقَالَ: لَا إِنَّهُ قَدْ بُعِثَ الرَّسُولُ الَّذِي حَرَّمَ الزِّنَا.
وَأَرْسَلَهُ بَعْضُ التَّابِعِينَ أَيْضًا، وَسَمَّاهُ بِابْنِ لَوْذَانَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ غَابَ عَنْهَا مُدَّةً، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ عَاتَبَتْهُ فَقَالَ: إِنِّي جِئْتُ الرَّسُولَ فَسَمِعْتُهُ يُحَرِّمُ الزِّنَا فَعَلَيْكِ السَّلَامُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ خَرَجْنَا فِي عِيرٍ إِلَى الشَّامِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا كُنَّا بِأَفْوَاهِ الشَّامِ، وَبِهَا كَاهِنَةٌ فَتَعَرَّضَتْنَا فَقَالَتْ: أَتَانِي صَاحِبِي فَوَقَفَ عَلَى بَابِي فَقُلْتُ: أَلَا تَدْخُلُ ؟ فَقَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ خَرَجَ أَحْمَدُ، وَجَاءَ أَمْرٌ لَا يُطَاقُ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَرَجَعْتُ إِلَى مَكَّةَ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ بِمَكَّةَ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ الْوَحْيُ يُسْمَعُ، فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ مُنِعُوا. وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالَ لَهَا: سُعَيْرَةُ لَهَا تَابِعٌ مِنَ الْجِنِّ فَلَمَّا رَأَى الْوَحْيَ لَا يُسْتَطَاعُ، أَتَاهَا فَدَخَلَ فِي صَدْرِهَا فَضَجَّ فِي صَدْرِهَا، فَذَهَبَ عَقْلُهَا، فَجَعَلَ يَقُولُ مِنْ صَدْرِهَا: وُضِعَ الْعِنَاقُ، وَمُنِعَ الرِّفَاقُ، وَجَاءَ أَمْرٌ لَا يُطَاقُ، وَأَحْمَدُ حَرَّمَ الزِّنَا.

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلَوِيُّ بِمِصْرَ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يَزِيدَ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ مِرْدَاسِ بْنِ قَيْسٍ السَّدُوسِيِّ قَالَ: حَضَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ الْكِهَانَةُ، وَمَا كَانَ مِنْ تَغْيِيرِهَا عِنْدَ مَخْرِجِهِ - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كَانَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ شَيْءٌ أَخْبِرُكَ أَنَّ جَارِيَةً مِنَّا يُقَالَ لَهَا: الْخَلَصَةُ لَمْ يُعْلَمْ عَلَيْهَا إِلَّا خَيْرًا، إِذَا جَاءَتْنَا فَقَالَتْ: يَا مَعْشَرَ دَوْسٍ، الْعَجَبُ الْعَجَبُ لِمَا أَصَابَنِي هَلْ عَلِمْتُمْ إِلَّا خَيْرًا ؟ قُلْنَا: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَتْ: إِنِّي لَفِي غَنَمِي إِذْ غَشِيَتْنِي ظُلْمَةٌ، وَوَجَدْتُ كَحِسِّ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ، فَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ قَدْ حَبِلْتُ، حَتَّى إِذَا دَنَتْ وِلَادَتُهَا، وَضَعَتْ غُلَامًا أَغْضَفَ لَهُ أُذُنَانِ كَأُذُنَيِ الْكَلْبِ فَمَكَثَ فِينَا حَتَّى إِنَّهُ لَيَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ إِذْ وَثَبَ وَثْبَةً وَأَلْقَى إِزَارَهُ، وَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا وَيْلَةْ يَا وَيْلَةْ، يَا عَوْلَةْ يَا عَوْلَةْ، يَا وَيْلَ غَنْمٍ، يَا وَيْلَ فَهْمٍ مِنْ قَابِسِ النَّارِ، الْخَيْلُ وَاللَّهِ وَرَاءَ الْعَقَبَةِ، فِيهِنَّ فِتْيَانٌ حِسَانٌ نَجِبَةٌ. قَالَ: فَرَكِبْنَا وَأَخَذْنَا الْأَدَاةَ، وَقُلْنَا: يَا وَيْلَكَ مَا تَرَى ؟ فَقَالَ: هَلْ مِنْ جَارِيَةٍ طَامِثٍ ؟ فَقُلْنَا: وَمَنْ لَنَا بِهَا ؟ فَقَالَ شَيْخٌ مِنَّا: هِيَ وَاللَّهِ عِنْدِي عَفِيفَةُ الْأُمِّ. فَقُلْنَا: فَعَجِّلْهَا فَأَتَى بِالْجَارِيَةِ، وَطَلَعَ

الْجَبَلَ، وَقَالَ لِلْجَارِيَةِ: اطْرَحِي ثَوْبَكِ، وَاخْرُجِي فِي وُجُوهِهِمْ، وَقَالَ الْقَوْمُ: اتَّبِعُوا أَثَرَهَا، وَقَالَ لِرَجُلٍ مِنَّا يُقَالَ لَهُ: أَحْمَرُ بْنُ حَابِسٍ: يَا أَحْمَرُ بْنَ حَابِسٍ عَلَيْكَ أَوَّلُ فَارِسٍ فَحَمَلَ أَحْمَرُ فَطَعَنَ أَوَّلَ فَارِسٍ فَصَرَعَهُ وَانْهَزَمُوا فَغَنِمْنَاهُمْ قَالَ: فَابْتَنَيْنَا عَلَيْهِمْ بَيْتًا، وَسَمَّيْنَاهُ ذَا الْخَلَصَةِ وَكَانَ لَا يَقُولُ لَنَا شَيْئًا إِلَّا كَانَ كَمَا يَقُولُ حَتَّى إِذَا كَانَ مَبْعَثُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَنَا يَوْمًا: يَا مَعْشَرَ دَوْسٍ، نَزَلَتْ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ فَارْكَبُوا فَرَكِبْنَا فَقَالَ لَنَا: أَكْدِسُوا الْخَيْلَ كَدْسًا، احْشُوَا الْقَوْمَ رَمْسًا الْقَوْهُمْ غَدِيَّةً، وَاشْرَبُوا الْخَمْرَ عَشِيَّةً قَالَ: فَلَقِينَاهُمْ فَهَزَمُونَا وَغَلَبُونَا فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا: مَا حَالُكَ وَمَا الَّذِي صَنَعْتَ بِنَا ؟ فَنَظَرْنَا إِلَيْهِ وَقَدِ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَانْتَصَبَتْ أُذُنَاهُ، وَانْبَرَمَ غَضْبَانَ حَتَّى كَادَ أَنْ يَنْفَطِرَ، وَقَامَ فَرَكِبْنَا، وَاغْتَفَرْنَا هَذِهِ لَهُ، وَمَكَثْنَا بَعْدَ ذَلِكَ حِينًا، ثُمَّ دَعَانَا فَقَالَ: هَلْ لَكَمَ فِي غَزْوَةٍ تَهَبُ لَكُمْ عِزًّا، وَتَجْعَلُ لَكُمْ حِرْزًا، وَيَكُونُ فِي أَيْدِيكُمْ كَنْزًا ؟ فَقُلْنَا: مَا أَحْوَجَنَا إِلَى ذَلِكَ فَقَالَ: ارْكَبُوا فَرَكِبْنَا فَقُلْنَا: مَا تَقُولُ ؟ فَقَالَ: بَنُو الْحَارِثِ بْنِ

مَسْلَمَةَ، ثُمَّ قَالَ: قِفُوا فَوَقَفْنَا.
ثُمَّ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِفَهْمٍ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ لَكُمْ فِيهِمْ ذَمٌّ، عَلَيْكُمْ بِمُضَرَ، هُمْ أَرْبَابُ خَيْلٍ وَنَعَمٍ، ثُمَّ قَالَ: لَا رَهْطُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ، قَلِيلُ الْعَدَدِ، وَفِيُّ الذِّمَّةِ، ثُمَّ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِكَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَاشْكُرُوهَا صَنِيعَةَ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَلْيَكُنْ بِهِمُ الْوَقِيعَةُ قَالَ: فَلَقِينَاهُمْ فَهَزَمُونَا، وَفَضَحُونَا فَرَجَعْنَا، وَقُلْنَا: وَيْلَكَ مَاذَا تَصْنَعُ بِنَا ؟ قَالَ: مَا أَدْرِي كَذَبَنِي الَّذِي كَانَ يَصْدُقُنِي اسْجُنُونِي فِي بَيْتِي ثَلَاثًا، ثُمَّ ائْتُونِي فَفَعَلْنَا بِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَيْنَاهُ بَعْدَ ثَالِثَةٍ فَفَتَحْنَا عَنْهُ فَإِذَا هُوَ كَأَنَّهُ جَمْرَةُ نَارٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ دَوْسٍ حُرِسَتِ السَّمَاءُ، وَخَرَجَ خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ قُلْنَا: أَيْنَ ؟ قَالَ: بِمَكَّةَ، وَأَنَا مَيِّتٌ فَادْفِنُونِي فِي رَأْسِ جَبَلٍ فَإِنِّي سَوْفَ أَضْطَرِمُ نَارًا، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي كُنْتُ عَلَيْكُمْ عَارًا فَإِذَا رَأَيْتُمُ اضْطِرَامِي وَتَلَهُّبِي فَاقْذِفُونِي بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، ثُمَّ قُولُوا مَعَ كُلِّ حَجَرٍ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَهْدَأُ وَأُطْفَأُ، قَالَ: وَإِنَّهُ مَاتَ فَاشْتَعَلَ نَارًا فَفَعَلْنَا بِهِ مَا أَمَرَ وَقَدْ قَذَفْنَاهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ نَقُولُ مَعَ كُلِّ حَجَرٍ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ فَخَمَدَ وَطُفِئَ، وَأَقَمْنَا حَتَّى قَدِمَ عَلَيْنَا الْحَاجُّ فَأَخْبَرُونَا بِمَبْعَثِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ غَرِيبُّ جِدًّا.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ عَنِ النَّضْرِ

بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْنَا فِي عِيرٍ لَنَا إِلَى الشَّامِ فَلَمَّا كُنَّا بَيْنَ الزَّرْقَاءِ، وَمَعَانٍ قَدْ عَرَّسْنَا مِنَ اللَّيْلِ فَإِذَا بِفَارِسٍ يَقُولُ وَهُوَ بَيْنُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ: أَيُّهَا النِّيَامُ هُبُّوا فَلَيْسَ هَذَا بِحِينِ رُقَادٍ، قَدْ خَرَجَ أَحْمَدُ وَطُرِدَتِ الْجِنُّ كُلَّ مَطْرَدٍ فَفَزِعْنَا، وَنَحْنُ رُفْقَةٌ حَزَاوِرَةٌ، كُلُّهُمْ قَدْ سَمِعَ بِهَذَا فَرَجَعْنَا إِلَى أَهْلِنَا فَإِذَا هُمْ يَذْكُرُونَ اخْتِلَافًا بِمَكَّةَ، بَيْنَ قُرَيْشٍ فِي نَبِيٍّ قَدْ خَرَجَ فِيهِمْ مَنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اسْمُهُ أَحْمَدُ. ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ.
وَقَالَ الْخَرَائِطِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلَوِيُّ بِمِصْرَ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ مِنْهُمْ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ وَزَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، كَانُوا عِنْدَ صَنَمٍ لَهُمْ يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ قَدِ اتَّخَذُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ عِيدًا كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ، وَيَنْحَرُونَ لَهُ الْجَزُورَ، ثُمَّ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فِي اللَّيْلِ فَرَأَوْهُ مَكْبُوبًا عَلَى وَجْهِهِ فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ فَأَخَذُوهُ فَرَدُّوهُ إِلَى حَالِهِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنِ انْقَلَبَ انْقِلَابًا عَنِيفًا فَأَخَذُوهُ فَرَدُّوهُ إِلَى حَالِهِ فَانْقَلَبَ

الثَّالِثَةَ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ اغْتَمُّوا لَهُ، وَأَعْظَمُوا ذَلِكَ، فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ: مَا لَهُ قَدْ أَكْثَرَ التَّنَكُّسَ، إِنَّ هَذَا لِأَمْرٍ قَدْ حَدَثَ، وَذَلِكَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ عُثْمَانُ يَقُولُ
أَيَا صَنَمَ الْعِيدِ الَّذِي صُفَّ حَوْلَهُ صَنَادِيدُ وَفْدٍ مِنْ بِعِيدٍ وَمِنْ قُرْبِ
تَكَوَّسْتَ مَغْلُوبًا فَمَا ذَاكَ قُلْ لَنَا أَذَاكَ سَفِيهٌ أَمْ تَكَوَّسْتَ لِلْعَتْبِ
فَإِنْ كَانَ مِنْ ذَنْبٍ أَتَيْنَا فَإِنَّنَا نَبُوءُ بِإِقْرَارٍ وَنَلْوِي عَنِ الذَّنْبِ
وَإِنْ كُنْتَ مَغْلُوبًا تَكَوَّسْتَ صَاغِرًا فَمَا أَنْتَ فِي الْأَوْثَانِ بِالسَّيِّدِ الرَّبِّ
قَالَ: فَأَخَذُوا الصَّنَمَ فَرَدُّوهُ إِلَى حَالِهِ فَلَمَّا اسْتَوَى هَتَفَ بِهِمْ هَاتِفٌ مِنَ الصَّنَمِ، بِصَوْتٍ جَهِيرٍ وَهُوَ يَقُولُ:
تَرَدَّى لِمَوْلُوْدٍ أَنَارَتْ بِنُورِهِ جَمِيعُ فِجَاجِ الْأَرْضِ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ
وَخرَّتْ لَهُ الْأَوْثَانُ طُرًّا وَأُرْعِدَتْ قُلُوبُ مُلُوكِ الْأَرْضِ طُرًّا مِنَ الرُّعْبِ
وَنَارُ جَمِيعِ الْفُرْسِ بَاخَتْ وَأَظْلَمَتْ وَقَدْ بَاتَ شَاهُ الْفُرْسِ فِي أَعْظَمِ الْكَرْبِ
وَصُدَّتْ عَنِ الْكُهَّانِ بِالْغَيْبِ جِنُّهَا فَلَا مُخْبِرٌ عَنْهُمْ بِحَقٍّ وَلَا كَذِبَ
فَيَالَ قُصَيٍّ إِرْجِعُوا عَنْ ضَلَالِكُمْ وَهُبُّوا إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْمَنْزِلِ الرَّحْبِ
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ خَلَصُوا نَجِيًّا فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَصَادَقُوا، وَلْيَكْتُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فَقَالُوا: أَجَلْ فَقَالَ لَهُمْ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ:

تَعْلَمُونَ - وَاللَّهِ - مَا قَوْمُكُمْ عَلَى دِينٍ، وَلَقَدْ أَخْطَئُوا الْحُجَّةَ، وَتَرَكُوا دِينَ إِبْرَاهِيمَ مَا حَجَرٌ تُطِيفُونَ بِهِ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ ؟ يَا قَوْمِ، الْتَمِسُوا لِأَنْفُسِكُمُ الدِّينَ. قَالَ: فَخَرَجُوا عِنْدَ ذَلِكَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ، وَيَسْأَلُونَ عَنِ الْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَمَّا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَتَنَصَّرَ، وَقَرَأَ الْكُتُبَ حَتَّى عَلِمَ عِلْمًا، وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فَسَارَ إِلَى قَيْصَرَ فَتَنَصَّرَ، وَحَسُنَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ، وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَأَرَادَ الْخُرُوجَ فَحُبِسَ، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ فَضَرَبَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَ الرِّقَّةَ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ فَلَقِيَ بِهَا رَاهِبًا عَالِمًا فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي يَطْلُبُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: إِنَّكَ لَتَطْلُبُ دِينًا مَا تَجِدُ مَنْ يَحْمِلُكَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ يَخْرُجُ مِنْ بَلَدِكَ يُبْعَثُ بِدِينِ الْحَنِيفِيَّةِ فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ رَجَعَ يُرِيدُ مَكَّةَ فَغَارَتْ عَلَيْهِ لَخْمٌ فَقَتَلُوهُ، وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ خَرَجَ مَعَ مَنْ خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَلَمَّا صَارَ بِهَا تَنَصَّرَ، وَفَارَقَ الْإِسْلَامَ فَكَانَ بِهَا حَتَّى هَلَكَ هُنَالِكَ نَصْرَانِيًّا، تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ لَهُ شَاهِدٌ.
وَقَدْ قَالَ الْخَرَائِطِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ صَالِحٍ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَنَسٍ السُّلَمِيِّ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنَّهُ كَانَ بِغَمْرَةٍ فِي لَقَاحٍ لَهُ نِصْفَ النَّهَارِ، إِذْ طَلَعَتْ عَلَيْهِ

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

معايير الأحكام في قضية الطلاق؟

  معايير الأحكام في قضية الطلاق؟     أحكام الطلاق من القرآن والسنة الصحيحة   1 الطلاق للعدة الشرعة الباقية إلي يوم القيامة :   1. ما هي...