مشاري راشد {سورة الطلاق}

Translate

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

21. البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

21. البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنَى سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ - جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ وَفِتَنٌ مُنْتَشِرَةٌ بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ
وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادِ خُرَاسَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ. وَقَهَرَ عُمَّالَهَا وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ يَزِيدَ وَابْنِهِ مُعَاوِيَةَ، قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ مُلْكُ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى تِلْكَ النَّوَاحِي، وَجَرَتْ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ هَذَا وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ مَرْثَدٍ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَتَفْصِيلُهَا، اكْتَفَيْنَا بِذِكْرِهَا إِجْمَالًا ; إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْصِيلِهَا كَبِيرُ فَائِدَةٍ، وَهِيَ حُرُوبُ فِتْنَةٍ وَقِتَالُ بُغَاةٍ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ - بَايَعَ أَهْلُ خُرَاسَانَ سَلْمَ بْنَ زِيَادِ بْنِ أَبِيهِ، وَأَحَبُّوهُ حَتَّى إِنَّهُمْ سَمَّوْا بِاسْمِهِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ غُلَامٍ مَوْلُودٍ، ثُمَّ نَكَثُوا وَاخْتَلَفُوا، فَخَرَجَ عَنْهُمْ سَلْمٌ، وَتَرَكَ عَلَيْهِمُ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ.

وَفِيهَا اجْتَمَعَ مَلَأُ الشِّيعَةِ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ بِالْكُوفَةِ، وَتَوَاعَدُوا النَّخِيلَةَ ; لِيَأْخُذُوا بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَا زَالُوا فِي ذَلِكَ مُجِدِّينَ، وَعَلَيْهِ عَازِمِينَ، مِنْ بَعْدِ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بِكَرْبَلَاءَ فِي الْعَاشِرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَقَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ بَعْثِهِمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا حَصَلَ بِبِلَادِهِمْ خَذَلُوهُ وَتَخَلَّوْا عَنْهُ وَلَمْ يَنْصُرُوهُ.
فَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لَا يَنْفَعُ الْوَصْلُ
فَاجْتَمَعُوا فِي دَارِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَكَانَ رُءُوسُ الْقَائِمِينَ فِي ذَلِكَ خَمْسَةً ; سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ الصَّحَابِيَّ، وَالْمُسَيَّبَ بْنَ نَجَبَةَ الْفَزَارِيَّ أَحَدَ كِبَارِ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ الْأَزْدِيَّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَالٍ التَّيْمِيَّ، وَرِفَاعَةَ بْنَ شَدَّادٍ الْبَجَلِيَّ، وَكُلُّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ بَعْدَ خُطَبٍ وَمَوَاعِظَ عَلَى تَأْمِيرِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ عَلَيْهِمْ، فَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدْوا، وَتَوَاعَدُوا النُّخَيْلَةَ ; أَنْ يَجْتَمِعَ مَنْ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِهَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ جَمَعُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَسْلِحَتِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا وَأَعَدُّوهُ لِذَلِكَ.

وَكَتَبَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ إِلَى سَعْدِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَهُوَ بِالْمَدَائِنِ يَدْعُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَاسْتَجَابَ لَهُ، وَدَعَا إِلَيْهِ سَعْدٌ مَنْ أَطَاعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ فَبَادَرُوا إِلَيْهِ بِالِاسْتِجَابَةِ وَالْقَبُولِ، وَتَمَالَئُوا عَلَيْهِ وَتَوَاعَدُوا النُّخَيْلَةَ فِي التَّارِيخِ الْمَذْكُورِ. وَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ، فَفَرِحَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْمَدَائِنِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَتَنَشَّطُوا لِأَمْرِهِمُ الَّذِي تَمَالَئُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، طَمِعُوا فِي الْأَمْرِ، وَاعْتَقَدْوا أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَدْ ضَعُفُوا، وَلَمْ يَبْقَ مَنْ يُقِيمُ لَهُمْ أَمْرًا، فَغَدَوْا إِلَى سُلَيْمَانَ، وَاسْتَشَارُوهُ فِي الظُّهُورِ وَأَنْ يَخْرُجُوا إِلَى النُّخَيْلَةِ قَبْلَ الْأَجَلِ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَ الْأَجَلُ الَّذِي وَاعَدُوا إِخْوَانَهُمْ فِيهِ. ثُمَّ هُمْ فِي الْبَاطِنِ يُعِدُّونَ السِّلَاحَ وَالْقُوَّةَ، وَلَا يَشْعُرُ بِهِمْ جُمْهُورُ النَّاسِ، وَحِينَئِذٍ عَمَدَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ نَائِبِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ عَلَى الْكُوفَةِ، فَأَخْرَجُوهُ مِنَ الْقَصْرِ، وَاصْطَلَحُوا عَلَى عَامِرِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْمُلَقَّبُ دُحْرُوجَةَ، فَبَايَعَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَهُوَ يَسُدُّ الْأُمُورَ حَتَّى تَأْتِيَ نُوَّابُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ - قَدِمَ أَمِيرَانِ إِلَى الْكُوفَةِ مِنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ; أَحَدُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ عَلَى الْحَرْبِ وَالثَّغْرِ، وَالْآخَرُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ عَلَى الْخَرَاجِ، وَقَدْ كَانَ قَدْمُ قَبْلَهُمَا إِلَى

الْكُوفَةِ بِجُمُعَةٍ وَاحِدَةٍ لِلنِّصْفِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ - وَهُوَ الْمُخْتَارُ الثَّقَفِيُّ الْكَذَّابُ - فَوَجَدَ الشِّيعَةَ قَدِ الْتَفَتَ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ، وَعَظَّمُوهُ تَعْظِيمًا زَائِدًا، وَهُمْ مُعِدُّونَ لِلْحَرْبِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ، دَعَا فِي الْبَاطِنِ إِلَى إِمَامَةِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَقَّبَهُ الْمَهْدِيَّ، فَاتَّبَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ الشِّيعَةِ، وَفَارَقُوا سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ وَصَارَتِ الشِّيعَةُ فِرْقَتَيْنِ ; الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ مَعَ سُلَيْمَانَ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ عَلَى النَّاسِ لِلْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَفِرْقَةُ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى إِمَامَةِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَذَلِكَ عَنْ غَيْرِ أَمْرِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَرِضَاهُ، وَإِنَّمَا يَتَقَوَّلُونَ عَلَيْهِ لِيُرَوِّجُوا عَلَى النَّاسِ بِهِ، وَلِيَتَوَصَّلُوا إِلَى أَغْرَاضِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَجَاءَتِ الْعَيْنُ الصَّافِيَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ نَائِبِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ فِرْقَتَا الشِّيعَةِ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا ; مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى النَّاسِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى مَا يُرِيدُونَ، وَأَشَارَ مَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يُبَادِرَ إِلَيْهِمْ، وَيَحْتَاطَ عَلَيْهِمْ، وَيَبْعَثَ الشَّرَطَ وَالْمُقَاتِلَةَ فَيَقْمَعُهُمْ عَمَّا هُمْ مُجْمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ إِرَادَةِ الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ، فَقَامَ خَطِيبًا فِي النَّاسِ، وَذَكَرَ فِي خُطْبَتِهِ مَا بَلَغَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ الْأَخْذَ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَلَقَدْ عَلِمُوا أَنِّي لَسْتُ مِمَّنْ قَتَلَهُ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَمِمَّنْ أُصِيبَ بِقَتْلِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَعَنَ قَاتِلَهُ، وَإِنِّي لَا أَتَعَرَّضُ لِأَحَدٍ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَنِي بِالشَّرِّ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ الْأَخْذَ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، فَلْيَعْمِدُوا إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ،. فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْحُسَيْنَ وَخِيَارَ أَهْلِهِ ; فَلْيَأْخُذُوا مِنْهُ بِالثَّأْرِ ; وَلَا يَخْرُجُوا بِسُيُوفِهِمْ عَلَى أَهْلِ بَلَدِهِمْ، فَيَكُونُ فِيهِ حَتْفُهُمْ وَاسْتِئْصَالُهُمْ. فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ الْأَمِيرُ الْآخَرُ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ كَلَامُ هَذَا الْمُدَاهِنِ، إِنَّا وَاللَّهِ قَدِ اسْتَيْقَنَّا أَنَّ قَوْمًا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ عَلَيْنَا،

وَلَنَأْخُذَنَّ الْوَالِدَ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدَ بِالْوَالِدِ، وَالْحَمِيمَ بِالْحَمِيمِ، وَالْعَرِيفَ بِمَا فِي عِرَافَتِهِ، حَتَّى يَدِينُوا بِالْحَقِّ وَيَذِلُّوا لِلطَّاعَةِ. فَوَثَبَ إِلَيْهِ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ الْفَزَارِيُّ فَقَطَعَ عَلَيْهِ كَلَامَهُ، فَقَالَ: يَابْنَ النَّاكِثِينَ أَتُهَدِّدُنَا بِسَيْفِكَ وَغَشْمِكَ ؟ ! أَنْتَ وَاللَّهِ أَذَلُّ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّا لَا نَلُومُكَ عَلَى بُغْضِنَا وَقَدْ قَتَلْنَا أَبَاكَ وَجَدَّكَ، وَإِنَّا لَنَرْجُوَ أَنَّ نُلْحِقَكَ بِهِمَا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْقَصْرِ. وَسَاعَدَ الْمُسَيَّبَ بْنَ نَجَبَةَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، وَرَدَّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُمَّالِ، وَجَرَتْ فِتْنَةٌ وَشَرٌّ كَثِيرٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَنَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ عَنِ الْمِنْبَرِ، وَحَاوَلُوا أَنْ يُوقِعُوا بَيْنَ الْأَمِيرَيْنِ، فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَتِ الشِّيعَةُ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ بِالسِّلَاحِ، وَأَظْهَرُوا مَا كَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى النَّاسِ، وَرَكِبُوا مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ فَقَصَدُوا نَحْوَ الْجَزِيرَةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَأَمَّا الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيُّ الْكَذَّابُ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ بَغِيضًا إِلَى الشِّيعَةِ مِنْ يَوْمِ طُعِنَ الْحَسَنُ، وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى الشَّامِ بِأَهْلِ الْعِرَاقِ، فَلَجَأَ إِلَى الْمَدَائِنِ، فَأَشَارَ الْمُخْتَارُ عَلَى عَمِّهِ، وَهُوَ نَائِبُ الْمَدَائِنِ بِأَنْ يَقْبِضَ عَلَى الْحَسَنِ وَيَبْعَثَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَيَتَّخِذُ بِذَلِكَ عِنْدَهُ الْيَدَ الْبَيْضَاءَ، فَامْتَنَعَ عَمُّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَبْغَضَتْهُ الشِّيعَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ مَا كَانَ، وَقَتَلَهُ ابْنُ زِيَادٍ، كَانَ الْمُخْتَارُ يَوْمَئِذٍ بِالْكُوفَةِ، فَبَلَغَ ابْنَ زِيَادٍ أَنَّهُ يَقُولُ: لَأَقُومَنَّ بِنَصْرَةِ مُسْلِمٍ، وَلَآخُذُنَّ بِثَأْرِهِ.

فَأَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَضَرَبَ عَيْنَهُ بِقَضِيبٍ كَانَ بِيَدِهِ فَشَتَرَهَا، وَأَمَرَ بِسِجْنِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ أُخْتَهُ سَجْنُهُ بَكَتْ وَجَزِعَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَتَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ يَشْفَعُ عِنْدَهُ فِي إِخْرَاجِ الْمُخْتَارِ مِنَ السِّجْنِ، فَبَعَثَ يَزِيدُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ أَنَّ سَاعَةَ وُقُوفِكَ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ تُخْرِجُ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ مِنَ السِّجْنِ، فَلَمْ يُمْكِنِ ابْنَ زِيَادٍ غَيْرُ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَهُ وَقَالَ لَهُ: إِنْ وَجَدْتُكَ بِالْكُوفَةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ضَرَبْتُ عُنُقَكَ. فَخَرَجَ الْمُخْتَارُ إِلَى الْحِجَازِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَقْطَعَنَّ أَنَامِلَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَلَأَقْتُلَنَّ بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَدَدَ مَنْ قُتِلَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا. فَلَمَّا اسْتَفْحَلَ أَمْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ بَايَعَهُ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ عِنْدَهُ، وَلَمَّا حَاصَرَهُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ وَأَهْلُ الشَّامِ قَاتَلَ الْمُخْتَارُ دُونَهُ أَشَدَّ الْقِتَالِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَاضْطِرَابُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، نَقَمَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ، وَخَرَجَ مِنَ الْحِجَازِ، فَقَصَدَ الْكُوفَةَ فَدَخَلَهَا فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَالنَّاسُ يَتَهَيَّئُونَ لِلصَّلَاةِ، فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِمَلَأٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا سَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرُوا بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِالْأَعْدَاءِ. وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى إِلَى سَارِيَةٍ هُنَالِكَ، حَتَّى أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ صَلَّى مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ حَتَّى صُلِّيَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ وَعَظَّمُوهُ، وَجَعَلَ يَدْعُو إِلَى إِمَامِهِ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَيُظْهِرُ الِانْتِصَارَ لِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يُقِيمَ شِعَارَهُمْ، وَيُظْهِرَ مَنَارَهُمْ، وَيَسْتَوْفِيَ ثَأْرَهُمْ، وَيَقُولَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ مِنَ الشِّيعَةِ، وَقَدْ خَشِيَ أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى الْخُرُوجِ مَعَ سُلَيْمَانَ، فَجَعَلَ يُخَذِّلُهُمْ وَيَسْتَمِيلُهُمْ إِلَيْهِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي

قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ قِبَلِ وَلِيِّ الْأَمْرِ، وَمَعْدِنِ الْفَضْلِ، وَوَصِيِّ الْوَصِيِّ، وَالْإِمَامِ الْمَهْدِيِّ، بِأَمْرٍ فِيهِ الشِّفَاءُ، وَكَشْفُ الْغِطَاءِ، وَقَتْلُ الْأَعْدَاءِ، وَتَمَامُ النَّعْمَاءِ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاهُ، إِنَّمَا هُوَ عَشَمَةٌ مِنَ الْعَشَمِ، وَشَنٌّ بَالٍ، لَيْسَ بِذِي تَجْرِبَةٍ لِلْأُمُورِ، وَلَا لَهُ عِلْمٌ بِالْحُرُوبِ، إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ فَيَقْتُلَ نَفْسَهُ وَيَقْتُلَكُمْ، وَإِنِّي إِنَّمَا أَعْمَلُ عَلَى مَثَلٍ قَدْ مُثِّلَ لِي، وَأَمَرٍ قَدْ بُيِّنَ لِي، فِيهِ عِزُّ وَلِيِّكُمْ، وَقَتْلُ عَدُوِّكُمْ، وَشِفَاءُ صُدُورِكُمْ، فَاسْمَعُوا مِنِّي وَأَطِيعُوا أَمْرِي، ثُمَّ أَبْشِرُوا وَتَبَاشَرُوا، فَإِنِّي لَكُمْ بِكُلِّ مَا تَأْمَلُونَ وَتُحِبُّونَ كَفِيلٌ. فَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الشِّيعَةِ، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ مِنْهُمْ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، فَلَمَّا خَرَجُوا مَعَ سُلَيْمَانَ إِلَى النُّخَيْلَةِ قَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَشَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ وَغَيْرِهِمَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ نَائِبِ الْكُوفَةِ: إِنَّ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ أَشَدُّ عَلَيْكَمْ مِنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ الشُّرَطَ فَأَحَاطُوا بِدَارِهِ، فَأَخَذَهُ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ مُقَيَّدًا. وَقِيلَ: بِغَيْرِ قَيْدٍ. فَأَقَامَ بِهِ مُدَّةً وَمَرِضَ فِيهِ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي عِيسَى أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْتُ إِلَيْهِ مَعَ حُمَيْدِ بْنِ مُسْلِمٍ الْأَزْدِيِّ نَعُودُهُ وَنَتَعَاهَدُهُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَمَا وَرَبِّ الْبِحَارِ، وَالنَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ، وَالْمَهَامِهِ وَالْقِفَارِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْأَبْرَارِ، وَالْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ،

لَأَقْتُلَنَّ كُلَّ جَبَّارٍ، بِكُلِّ لَدْنٍ خَطَّارٍ، وَمُهَنَّدٍ بَتَّارٍ، وَجُمُوعٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، لَيْسُوا بِمِيلٍ أَغْمَارٍ، وَلَا بِعُزَّلٍ أَشْرَارٍ، حَتَّى إِذَا أَقَمْتُ عَمُودَ الدِّينِ، وَجَبَرْتُ صَدْعَ الْمُسْلِمِينَ، وَشَفَيْتُ غَلِيلَ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَدْرَكْتُ ثَأْرَ أَوْلَادِ النَّبِيِّينَ، لَمْ أَبْكِ عَلَى زَوَالِ الدُّنْيَا، وَلَمْ أَحْفِلْ بِالْمَوْتِ إِذَا دَنَا. قَالَ: وَكَانَ كُلَّمَا أَتَيْنَاهُ وَهُوَ فِي السِّجْنِ يُرَدِّدُ عَلَيْنَا هَذَا الْقَوْلَ حَتَّى خَرَجَ.

ذِكْرُ هَدْمِ الْكَعْبَةِ وَبِنَائِهَا فِي أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَدَمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْكَعْبَةَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَالَ جِدَارُهَا مِمَّا رُمِيَتْ بِهِ مِنْ حِجَارَةِ الْمَنْجَنِيقِ، فَهَدَمَ الْجُدْرَانَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ وَيُصَلُّونَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي تَابُوتٍ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، وَادَّخَرَ مَا كَانَ فِي الْكَعْبَةِ مِنْ حُلِيٍّ وَثِيَابٍ وَطِيبٍ عِنْدَ الْخَزَّانِ، حَتَّى أَعَادَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِنَاءَهَا عَلَى مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَهَا عَلَيْهِ مِنَ الشَّكْلِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا أَرَادَ ابْنُ الزُّبَيْرِ هَدْمَ الْبَيْتِ شَاوَرَ النَّاسَ فِي هَدْمِهَا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ بِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْشَى أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَكَ مَنْ يَهْدِمُهَا، فَلَا تَزَالُ تُهْدَمُ حَتَّى يَتَهَاوَنَ النَّاسُ بِحُرْمَتِهَا، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُصْلِحَ مَا وَهَى مِنْهَا، وَتَدَعَ بَيْتًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَأَحْجَارًا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَوِ احْتَرَقَ بَيْتُ أَحَدِكُمْ مَا رَضِيَ حَتَّى يُجَدِّدَهُ، فَكَيْفَ بِبَيْتِ رَبِّكُمْ ؟ ! ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ اسْتَخَارَ اللَّهَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ غَدَا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَبَدَأَ يَنْقُضُ الرُّكْنَ إِلَى الْأَسَاسِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْأَسَاسِ

وَجَدُوا أَصْلًا بِالْحَجَرِ مُشَبَّكًا كَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ، فَدَعَا ابْنُ الزُّبَيْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ بَنَى الْبَيْتَ وَأَدْخَلَ الْحَجَرَ فِيهِ، وَجَعَلَ لِلْكَعْبةِ بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ بِالْأَرْضِ ; بَابٌ يُدْخَلُ مِنْهُ وَبَابٌ يُخْرَجُ مِنْهُ، وَوَضَعَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ بِيَدِهِ، وَشَدَّهُ بِفِضَّةٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَصَدَّعَ، وَجَعَلَ طُولَ الْكَعْبَةِ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا، وَكَانَ طُولُهَا سَبْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فَاسْتَقْصَرَهُ، وَزَادَ فِي وُسْعِ الْكَعْبَةِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَلَطَّخَ جُدْرَانَهَا بِالْمِسْكِ، وَسَتَرَهَا بِالدِّيبَاجِ، ثُمَّ اعْتَمَرَ مِنْ مَسَاجِدِ عَائِشَةَ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى وَسَعَى، وَأَزَالَ مَا كَانَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَفِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالزُّبَالَةِ، وَمَا كَانَ حَوْلَهَا مِنَ الدِّمَاءِ، وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ قَدْ وَهَتْ مِنْ أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلِهَا مِنْ حِجَارَةِ الْمَنْجَنِيقِ، وَاسْوَدَّ الرُّكْنُ، وَانْصَدَعَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ النَّارِ الَّتِي كَانَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ.
وَكَانَ سَبَبُ تَجْدِيدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ لَهَا مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِكُفْرٍ لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا الْحَجَرَ، فَإِنَّ قَوْمَكِ

قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ، وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَخْرُجُونَ مِنَ الْآخَرِ، وَلَأَلْصَقْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ، فَإِنَّ قَوْمَكِ رَفَعُوا بَابَهَا لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا ". فَبَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَتْهُ بِهِ خَالَتُهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا. ثُمَّ لَمَّا غَلَبَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، كَمَا سَيَأْتِي، وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ هَدَمَ الْحَائِطَ الشَّمَالِيَّ وَأَخْرَجَ الْحَجَرَ كَمَا كَانَ أَوَّلًا، وَأَدْخَلَ الْحِجَارَةَ الَّتِي هَدَمَهَا إِلَى جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَرَضَّهَا فِيهَا، فَارْتَفَعَ الْبَابُ، وَسَدَّ الْغَرْبِيَّ، وَتِلْكَ آثَارُهُ إِلَى الْآنَ، وَذَلِكَ بِأَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْحَدِيثُ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: وَدِدْنَا أَنَّا تَرَكْنَاهُ وَمَا تَوَلَّى مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ هَمَّ الْمَهْدِيُّ بْنُ الْمَنْصُورِ الْعَبَّاسِيُّ أَنْ يُعِيدَهَا عَلَى مَا بَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَاسْتَشَارَ الْإِمَامَ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا الْمُلُوكُ مَلْعَبَةً. يَعْنِي يَتَلَاعَبُونَ فِي بِنَائِهَا بِحَسْبِ آرَائِهِمْ، فَهَذَا يَرَى رَأْيَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهَذَا يَرَى رَأْيَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَ

عَامِلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ أَخُوهُ عُبَيْدَةُ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا سَعِيدُ بْنُ نِمْرَانَ، وَامْتَنَعَ شُرَيْحٌ أَنْ يَحْكُمَ فِي زَمَانِ الْفِتْنَةِ، وَعَلَى الْبَصْرَةٍ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ التَّيْمِيُّ وَعَلَى قَضَائِهَا هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ. وَكَانَ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ وَقْعَةُ مَرْجِ رَاهِطٍ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَقَدِ اسْتَقَرَّ مُلْكُ الشَّامِ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَذَلِكَ بَعْدَ ظَفَرِهِ بِالضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ وَقَتْلِهِ لَهُ فِي الْوَقْعَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَقِيلَ: إِنَّ فِيهَا دَخَلَ مَرْوَانُ مِصْرَ وَأَخَذَهَا مِنْ نَائِبِهَا الَّذِي مِنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَحْدَمٍ. وَاسْتَقَرَّتْ يَدُ مَرْوَانَ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ وَأَعْمَالِهَا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ
فَفِيهَا اجْتَمَعَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، كُلُّهُمْ يَطْلُبُونَ الْأَخْذَ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ مِمَّنْ قَتَلَهُ.
وَقَدْ خَطَبَهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ حِينَ خَرَجُوا مِنَ الْكُوفَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِالنُّخَيْلَةِ، فَحَرَّضَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ خَرَجَ مِنْكُمْ لِطَلَبِ الدُّنْيَا ذَهَبِهَا وَحَرِيرِهَا فَلَيْسَ مَعَنَا مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا مَعَنَا سُيُوفٌ عَلَى عَوَاتِقِنَا، وَرِمَاحٌ فِي أَكُفِّنَا، وَزَادٌ يَكْفِينَا حَتَّى نَلْقَى عَدُوَّنَا. فَأَجَابُوهُ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ بِقَصْدِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِمُقَاتَلَةِ مَنْ بِالْكُوفَةِ مِنْ رُءُوسِ الْقَبَائِلِ مِنْ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ كَعُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَضْرَابِهِ، فَامْتَنَعَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ إِلَّا أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ ; فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي جَهَّزَ إِلَيْهِ الْجُيُوشَ، وَأَلَّبَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ مَا طَلَبَهُ مِنْهُ، وَقَالَ: لَيْسَ لَهُ إِلَّا السَّيْفُ، وَهَا هُوَ قَدْ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ قَاصِدًا

الْعِرَاقَ. فَصَمَّمَ النَّاسُ مَعَهُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ.
فَلَمَّا أَزْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ بَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أُمَرَاءُ الْكُوفَةِ مِنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ يَقُولَانِ لَهُ: إِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَكُونَ أَيْدِينَا وَاحِدَةً عَلَى ابْنِ زِيَادٍ. وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَبْعَثُوا مَعَهُمْ جَيْشًا لِيُقَوِّيَهُمْ عَلَى مَا قَصَدُوا لَهُ، وَبَعَثُوا إِلَيْهِ الْبَرِيدَ أَنْ يَنْتَظِرَهُمْ حَتَّى يَقْدُمُوا عَلَيْهِ، فَتَهَيَّأَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ لِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ فِي رُءُوسِ الْأُمَرَاءِ، وَجَلَسَ فِي أُبَّهَتِهِ، وَالْجُيُوشُ مُحْدِقَةٌ بِهِ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ فِي أَشْرَافِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ غَيْرِ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ ; لِئَلَّا يَطْمَعُوا فِيهِمْ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ كُلِّهَا لَا يَبِيتُ إِلَّا فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْأَمِيرَانِ عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَا لَهُ وَأَشَارَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَذْهَبُوا حَتَّى تَكُونَ أَيْدِيهِمْ كُلِّهِمْ وَاحِدَةً عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهِمُ ابْنِ زِيَادٍ، وَيُجَهِّزُوا مَعَهُمْ جَيْشًا آخَرَ ; فَإِنَّ أَهْلَ الشَّامِ جَمْعٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَهُمْ يُحَاجِفُونَ عَنِ ابْنِ زِيَادٍ، فَامْتَنَعَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِمَا وَقَالَ: إِنَّا قَدْ

خَرَجْنَا لِأَمْرٍ لَا نَرْجِعُ عَنْهُ، وَلَا نَتَأَخَّرُ فِيهِ. فَانْصَرَفَ الْأَمِيرَانِ رَاجِعِينَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَانْتَظَرَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ وَأَصْحَابُهُ أَصْحَابَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ وَاعَدُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ الْمَدَائِنِ أَنْ يَقْدُمُوا عَلَيْهِمُ النُّخَيْلَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمْ يَقْدُمُوا عَلَيْهِمْ وَلَا وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَقَامَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ فِي أَصْحَابِهِ خَطِيبًا، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى الذَّهَابِ لِمَا خَرَجُوا لَهُ، وَقَالَ: لَوْ قَدْ سَمِعَ إِخْوَانُكُمْ بِمَسِيرِكُمْ لَلَحِقُوكُمْ سِرَاعًا. فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ وَأَصْحَابُهُ مِنَ النُّخَيْلَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، فَسَارَ بِهِمْ مَرَاحِلَ، مَا يَتَقَدَّمَونَ مَرْحَلَةً إِلَى نَحْوِ الشَّامِ إِلَّا تَخَلَّفَ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ مَعَهُ، فَلَمَّا مَرُّوا بِقَبْرِ الْحُسَيْنِ صَاحُوا صَيْحَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَتَبَاكَوْا، وَبَاتُوا عِنْدَهُ لَيْلَةً، وَظَلُّوا يَوْمًا يَدْعُونَ وَيَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَيَتَرَضَّوْنَ عَنْهُ، وَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ لَوْ كَانُوا مَاتُوا مَعَهُ شُهَدَاءَ.
قُلْتُ: لَوْ كَانَ هَذَا الْعَزْمُ وَالِاجْتِمَاعُ قَبْلَ وُصُولِ الْحُسَيْنِ إِلَى تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ لَكَانَ أَنْفَعَ لَهُ وَأَنْصُرَ مِنِ اجْتِمَاعِهِمْ لِنُصْرَتِهِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ.
وَلَمَّا أَرَادُوا الِانْصِرَافَ جَعَلَ لَا يَسِيرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ الْقَبْرَ فَيَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُ، حَتَّى جَعَلُوا يَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ أَشَدَّ مِنِ ازْدِحَامِهِمْ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، ثُمَّ سَارُوا قَاصِدِينَ الشَّامَ، فَلَمَّا اجْتَازُوا بِقَرْقِيسِيَا تَحَصَّنَ مِنْهُمْ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ: إِنَّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِكُمْ فَأَخْرِجْ إِلَيْنَا سُوقًا، فَإِنَّا إِنَّمَا نُقِيمُ عِنْدَكُمْ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. فَأَمَرَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ أَنْ يُخْرَجَ السُّوقُ إِلَيْهِمْ،

وَأَمَرَ لِلرَّسُولِ إِلَيْهِ - وَهُوَ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ الْفَزَارِيُّ - بِفَرَسٍ وَأَلْفِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ: أَمَّا الْمَالُ فَلَا، وَأَمَّا الْفَرَسُ فَنَعَمْ. وَبَعَثَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ وَرُءُوسِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ، إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ عِشْرِينَ جَزُورًا وَطَعَامًا وَعَلَفًا كَثِيرًا، ثُمَّ خَرَجَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ فَشَيَّعَهُمْ، وَسَايَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ وَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَدْ وَجَّهُوا إِلَيْكُمْ جَيْشًا كَثِيفًا وَعَدَدًا كَثِيرًا مَعَ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَشُرَحْبِيلَ بْنِ ذِي الْكَلَاعِ، وَأَدْهَمَ بْنِ مُحْرِزٍ الْبَاهِلِيِّ، وَرَبِيعَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ الْغَنَوِيِّ، وَجَبَلَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيِّ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا، وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِمْ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ أَنْ يَدْخُلُوا مَدِينَتَهُ أَوْ يَكُونُوا عِنْدَ بَابِهَا، فَإِنْ جَاءَهُمْ أَحَدٌ كَانَ مَعَهُمْ عَلَيْهِ، فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: قَدْ عَرَضَ عَلَيْنَا أَهْلُ بَلَدِنَا مِثْلَ ذَلِكَ فَامْتَنَعْنَا. قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ ذَلِكَ فَبَادِرُوهُمْ إِلَى عَيْنِ الْوَرْدَةِ، فَيَكُونَ الْمَاءُ وَالْمَدِينَةُ وَالْأَسْوَاقُ خَلْفَ ظُهُورِكُمْ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَأَنْتُمْ آمِنُونَ مِنْهُ. ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَعْتَمِدُونَهُ فِي حَالِ الْقِتَالِ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ وَالنَّاسُ خَيَرًا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُمْ، وَسَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ فَبَادَرَ إِلَى عَيْنِ الْوَرْدَةِ، فَنَزَلَ غَرْبِيَّهَا، وَأَقَامَ هُنَاكَ خَمْسًا قَبْلَ وُصُولِ أَعْدَائِهِ إِلَيْهِ.

وَقْعَةُ عَيْنِ وَرْدَةَ
وَاسْتَرَاحَ سُلَيْمَانُ وَأَصْحَابُهُ وَاطْمَأَنُّوا، فَلَمَّا اقْتَرَبَ قُدُومُ أَهْلِ الشَّامِ إِلَيْهِمْ خَطَبَ سُلَيْمَانُ أَصْحَابَهُ، فَرَغَّبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَزَهَّدَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَقَالَ: إِنْ قُتِلْتُ فَالْأَمِيرُ عَلَيْكَمُ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَالٍ، فَإِنْ قُتِلَ فَرِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ. ثُمَّ بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُسَيَّبَ بْنَ نَجَبَةَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَغَارُوا عَلَى جَيْشِ شُرَحْبِيلَ بْنِ ذِي الْكَلَاعِ وَهُمْ غَارُّونَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَجَرَحُوا آخَرِينَ، وَاسْتَاقُوا نَعَمًا، وَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَأَرْسَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ فَصَبَّحَ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ وَجَيْشَهُ فَتَوَاقَفُوا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ قَائِمٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَدْ تَهَيَّأَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِصَاحِبِهِ، فَدَعَا الشَّامِيُّونَ أَصْحَابَ سُلَيْمَانَ إِلَى الدُّخُولِ فِي طَاعَةِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَدَعَا أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ الشَّامِيِّينَ إِلَى أَنْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ فَيَقْتُلُوهُ عَنِ الْحُسَيْنِ، وَامْتَنَعَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنْ يُجِيبَ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ الْآخَرَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا عَامَّةَ يَوْمِهِمْ إِلَى اللَّيْلِ، وَكَانَتِ الدَّائِرَةُ فِيهِ لِلْعِرَاقِيِّينَ عَلَى الشَّامِيِّينَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَصْبَحَ ابْنُ ذِي الْكَلَاعِ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَى الشَّامِيِّينَ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَقَدْ أَنَّبَهُ وَشَتَمَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ فِي هَذَا الْيَوْمِ

قِتَالًا لَمْ يَرَ الشِّيبُ وَالْمُرْدُ مِثْلَهُ قَطُّ، لَا يَحْجِزُ بَيْنَهُمْ إِلَّا أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ إِلَى اللَّيْلِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَصَلَ إِلَى الشَّامِيِّينَ أَدْهَمُ بْنُ مُحْرِزٍ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى حِينِ ارْتِفَاعِ الضُّحَى، ثُمَّ اسْتَدَارَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَحَاطُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَخَطَبَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ النَّاسَ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا عَظِيمًا جِدًّا، ثُمَّ تَرَجَّلَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ وَكَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، وَنَادَى: يَا عِبَادَ اللَّهِ، مَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالتَّوْبَةَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَالْوَفَاءَ بِعَهْدِهِ فَلْيَأْتِ إِلَيَّ. فَتَرَجَّلَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرُونَ وَكَسَرُوا جُفُونَ سُيُوفِهِمْ، وَحَمَلُوا حَتَّى صَارُوا فِي وَسَطِ الْقَوْمِ، وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً حَتَّى خَاضُوا فِي الدِّمَاءِ، وَقُتِلَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ، رَمَاهُ يَزِيدُ بْنُ الْحُصَيْنِ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ، ثُمَّ وَثَبَ، ثُمَّ وَقَعَ، ثُمَّ وَثَبَ، ثُمَّ وَقَعَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ، فَقَاتَلَ بِهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ مَيَّالَةُ الذَّوَائِبِ وَاضِحَةَ اللَّبَاتِ وَالتَّرَائِبِ أَنِّي غَدَاةَ الرَّوْعِ وَالتَّغَالُبِ
أَشْجَعُ مِنْ ذِي لِبْدَةٍ مُوَاثِبِ
قَطَّاعُ أَقْرَانٍ مَخُوفُ الْجَانِبِ
ثُمَّ قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَضَى فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ نَحْبَهُ، وَلَحِقَ صَحْبَهُ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ، فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا أَيْضًا وَهُوَ يَقُولُ:

رَحِمَ اللَّهُ أَخَوَيَّ، مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. وَحَمَلَ حِينَئِذٍ رَبِيعَةُ بْنُ الْمُخَارِقِ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ حَمْلَةً مُنْكَرَةً، وَتَبَارَزَ هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ، ثُمَّ اتَّحَدَا فَحَمَلَ ابْنُ أَخِي رَبِيعَةَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ احْتَمَلَ عَمَّهُ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَالٍ، فَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى الْجِهَادِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: الرَّوَاحَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَذَلِكَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَحَمَلَ بِالنَّاسِ فَفَرَّقَ مَنْ كَانَ حَوْلَهُ، ثُمَّ قُتِلَ، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمُفْتِينَ، قَتَلَهُ أَدْهَمُ بْنُ مُحْرِزٍ الْبَاهِلِيُّ أَمِيرُ الْحَرْبِ سَاعَتَئِذٍ مِنْ جِهَةِ الشَّامِيِّينَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ رِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ، فَانْحَازَ بِالنَّاسِ، وَقَدْ دَخَلَ الظَّلَامُ، وَرَجَعَ الشَّامِيُّونَ إِلَى رِحَالِهِمْ، وَانْشَمَرَ رِفَاعَةُ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ رَاجِعًا إِلَى بِلَادِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الشَّامِيُّونَ إِذَا الْعِرَاقِيُّونَ قَدْ كَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَلَمْ يَبْعَثُوا وَرَاءَهُمْ طَلَبًا وَلَا أَحَدًا، فَقَطَعَ رِفَاعَةُ بِمَنْ مَعَهُ الْخَابُورَ وَمَرَّ عَلَى قَرْقِيسِيَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الطَّعَامَ وَالْعَلَفَ وَالْأَطِبَّاءَ فَأَقَامُوا ثَلَاثًا حَتَّى اسْتَرَاحُوا ثُمَّ رَحَلُوا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى هِيتَ إِذَا سَعْدُ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَدْ أَقْبَلَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ قَاصِدِينَ إِلَى نُصْرَتِهِمْ، فَلَمَّا أَخْبَرُوهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ، وَنَعَوْا إِلَيْهِ أَصْحَابَهُمْ تَرَحَّمُوا عَلَيْهِمْ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُمْ وَتَبَاكَوْا عَلَى إِخْوَانِهِمْ، وَانْصَرَفَ أَهْلُ الْمَدَائِنِ إِلَيْهَا، وَرَجَعَ رَاجِعَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَيْهَا، وَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَإِذَا الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ كَمَا هُوَ فِي السِّجْنِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بَعْدُ، فَكَتَبَ إِلَى رِفَاعَةَ بْنِ شَدَّادٍ يُعَزِّيهِ فِيمَنْ قُتِلَ

مِنْهُمْ وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِمْ، وَيَغْبِطُهُمْ بِمَا نَالُوا مِنَ الشَّهَادَةِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَيَقُولُ: مَرْحَبًا بِالَّذِينِ أَعْظَمَ اللَّهُ أُجُورَهُمْ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ، وَاللَّهِ مَا خَطَا مِنْهُمْ أَحَدٌ خُطْوَةً إِلَّا كَانَ ثَوَابُ اللَّهِ لَهُ فِيهَا أَعْظَمَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَإِنَّ سُلَيْمَانَ قَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ وَجَعَلَ رُوحَهُ فِي أَرْوَاحِ النَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَبَعْدُ فَأَنَا الْأَمِيرُ الْمَأْمُونُ، قَاتِلُ الْجَبَّارِينَ وَالْمُفْسِدِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَعِدُّوا وَاسْتَعَدُّوا وَأَبْشِرُوا، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالطَّلَبِ بِدِمَاءِ أَهْلِ الْبَيْتِ. وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ قُدُومِهِمْ أَخْبَرَ النَّاسَ بِهَلَاكِهِمْ عَنْ رَئِيِّهِ الَّذِي كَانَ يَأْتِي إِلَيْهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يَأْتِيهِ شَيْطَانٌ فَيُوحِي إِلَيْهِ قَرِيبًا مِمَّا كَانَ يُوحِي شَيْطَانُ مُسَيْلِمَةَ إِلَيْهِ. وَكَانَ جَيْشُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ وَأَصْحَابِهِ يُسَمَّى بِجَيْشِ التَّوَّابِينَ.
وَقَدْ كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ الْخُزَاعِيُّ أَبُو مُطَرِّفٍ الْكُوفِيُّ صَحَابِيًّا جَلِيلًا نَبِيلًا عَابِدًا زَاهِدًا، رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا، وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ صِفِّينَ، وَكَانَ أَحَدُ مَنْ كَانَ يَجْتَمِعُ الشِّيعَةُ فِي دَارِهِ لِبَيْعَةِ الْحُسَيْنِ، وَكَتَبَ إِلَى الْحُسَيْنِ فِيمَنْ كَتَبَ بِالْقُدُومِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَمَّا قَدِمَهَا تَخَلَّوْا عَنْهُ، وَقُتِلَ بِكَرْبَلَاءَ، وَرَأَى هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا سَبَبًا فِي قُدُومِهِ، وَأَنَّهُمْ خَذَلُوهُ حَتَّى قُتِلَ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، فَنَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا، ثُمَّ اجْتَمَعُوا فِي هَذَا الْجَيْشِ،

وَسَمَّوْا جَيْشَهُمْ جَيْشَ التَّوَّابِينَ، وَسَمَّوْا سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ أَمِيرَ التَّوَّابِينَ، فَقُتِلَ سُلَيْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ بِعَيْنِ وَرْدَةَ، سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ قُتِلَ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأَمَّا الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ الْفَزَارِيُّ، فَإِنَّهُ قَدِمَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مِنَ الْعِرَاقِ وَشَهِدَ فَتْحَ دِمَشْقَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْعِرَاقِ وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ صِفِّينَ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ أَحَدَ الْكِبَارِ الَّذِينَ خَرَجُوا يَطْلُبُونَ بِدَمِ الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ وَرَأْسُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بَعْدَ الْوَقْعَةِ، وَكَتَبَ أُمَرَاءُ الشَّامِيِّينَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَظْفَرَهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَأَعْلَمَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْجُنُودِ وَمَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَقَدْ قَالَ: أَهْلَكَ اللَّهُ رُءُوسَ الضُّلَّالِ ; سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ وَأَصْحَابَهُ. وَعَلَّقَ الرُّءُوسَ بِدِمَشْقَ. وَكَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ قَدْ عَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى وَلَدَيْهِ ; عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَخَذَ بَيْعَةَ الْأُمَرَاءِ عَلَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.
وَفِيهَا دَخَلَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،

فَأَخَذَاهَا مِنْ يَدِ نَائِبِهَا الَّذِي كَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَحْدَمٍ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ مَرْوَانَ قَصَدَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ نَائِبُهَا ابْنُ جَحْدَمٍ، فَقَابَلَهُ مَرْوَانُ لِيُقَاتِلَهُ، فَاشْتَغَلَ بِهِ، وَخَلَصَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ مِنْ وَرَاءِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَحْدَمٍ، فَدَخَلَ مِصْرَ، فَمَلَكَهَا، وَهَرَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَدَخَلَ مَرْوَانُ إِلَى مِصْرَ، فَمَلَكَهَا وَجَعَلَ عَلَيْهَا وَلَدَهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مَرْوَانَ.
وَفِيهَا بَعَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ مُصْعَبًا لِيَفْتَحَ لَهُ الشَّامَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ، فَتَلَقَّاهُ إِلَى فِلَسْطِينَ، فَهَرَبَ مِنْهُ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَرَّ رَاجِعًا، وَلَمْ يَظْفَرْ بِشَيْءٍ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ الشَّامِ وَمِصْرَ لِمَرْوَانَ.
وَفِيهَا جَهَّزَ مَرْوَانُ جَيْشَيْنِ ; أَحَدُهُمَا مَعَ حُبَيْشِ بْنِ دُلَجَةَ الْقَيْنِيِّ لِيَأْخُذَ لَهُ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ، وَالْآخَرُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ إِلَى الْعِرَاقِ

لِيَنْتَزِعَهُ مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ لَقُوا جَيْشَ التَّوَّابِينَ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ عَيْنِ الْوَرْدَةِ ; قَتَلُوا أَكْثَرَ أَصْحَابِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ مَعَهُ وَاسْتَمَرُّوا ذَاهِبِينَ فَلَمَّا كَانُوا بِالْجَزِيرَةِ بَلَغَهُمْ مَوْتُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِأُمِّ خَالِدٍ امْرَأَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهِيَ أُمُّ هَاشِمٍ بِنْتُ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَرْوَانُ بِتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا لِيُصَغِّرَ ابْنَهَا خَالِدًا فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنْهُ أَنْ يُمَلِّكُوهُ بَعْدَ أَخِيهِ مُعَاوِيَةَ، فَتَزَوَّجَ أُمَّهُ لِيُصَغِّرَ أَمْرَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ دَاخِلٌ إِلَى عِنْدِ مَرْوَانَ، إِذْ جَعَلَ مَرْوَانُ يَتَكَلَّمُ فِيهِ عِنْدَ جُلَسَائِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ لَهُ فِيمَا خَاطَبَهُ بِهِ: يَابْنَ الرَّطْبَةِ الِاسْتِ. فَذَهَبَ خَالِدٌ إِلَى أُمِّهِ، فَأَخْبَرَهَا بِمَا قَالَ لَهُ، فَقَالَتْ: اكْتُمْ ذَلِكَ، وَلَا تُعْلِمْهُ أَنَّكَ أَعْلَمْتَنِي بِذَلِكَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا مَرْوَانُ قَالَ لَهَا: هَلْ ذَكَرَنِي خَالِدٌ عِنْدَكِ بِسُوءٍ ؟ فَقَالَتْ لَهُ: وَمَا عَسَاهُ يَقُولُ لَكَ وَهُوَ يُحِبُّكُ وَيُعَظِّمُكَ. ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ رَقَدَ عِنْدَهَا، فَلَمَّا أَخَذَهُ النَّوْمُ عَمَدَتْ إِلَى وِسَادَةٍ، فَوَضَعَتْهَا عَلَى وَجْهِهِ، وَتَحَامَلَتْ عَلَيْهَا هِيَ وَجَوَارِيهَا حَتَّى مَاتَ غَمًّا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ثَالِثِ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ بِدِمَشْقَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِحْدَى وَسِتُّونَ وَقِيلَ: إِحْدَى وَثَمَانُونَ سَنَةً. وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ: عَشَرَةَ أَشْهُرٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.

وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ جَدِّ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ الَّذِينَ كَانُوا بَعْدَهُ
هُوَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ، وَيُقَالُ: أَبُو الْحَكَمِ. وَيُقَالُ: أَبُو الْقَاسِمِ. وَهُوَ صَحَابِيٌّ عِنْدَ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ ; لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى عَنْهُ فِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، عَنْ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَرَوَى عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَكَانَ كَاتِبُهُ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَبُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ الْأَسَدِيَّةِ، وَكَانَتْ حَمَاتَهُ. وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو أَحْمَدَ: كَانَتْ خَالَتَهُ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِهَا حَمَاتَهُ وَخَالَتَهُ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ، وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَحْفَظْ عَنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ حِينَ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنَ التَّابِعِينَ. وَقَدْ كَانَ مَرْوَانُ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ وَفُضَلَائِهَا.

رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ امْرَأَةً إِلَى أُمِّهَا، فَقَالَ: إِنَّ جَرِيرًا الْبَجَلِيَّ يَخْطُبُ إِلَيْكُمْ أَسْلَمَ، وَهُوَ سَيِّدُ شَبَابِ الْمَشْرِقِ، وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَهُوَ سَيِّدُ شَبَابِ قُرَيْشٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَعُمَرُ. فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَجَادٌّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: قَدْ زَوَّجْنَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يُكْرِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ، وَكَانَ كَاتِبَ الْحُكْمِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ جَرَتْ قَضِيَّةُ الدَّارِ، وَبِسَبَبِهِ حُصِرَ عُثْمَانُ فِيهَا، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ أُولَئِكَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ، فَامْتَنَعَ عُثْمَانُ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ قَاتَلَ مَرْوَانُ يَوْمَ الدَّارِ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَتَلَ بَعْضَ أُولَئِكَ الْخَوَارِجِ، وَكَانَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَمَى طَلْحَةَ بِسَهْمٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَقَتَلَهُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: كَانَ عَلِيٌّ يَوْمَ الْجَمَلِ حِينَ انْهَزَمَ النَّاسُ يُكْثِرُ السُّؤَالَ عَنْ مَرْوَانَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهُ تَعْطِفُنِي عَلَيْهِ رَحِمٌ مَاسَّةٌ، وَهُوَ سَيِّدٌ مِنْ شَبَابِ قُرَيْشٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ، أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: مَنْ تَرَى لِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِكَ ؟ فَقَالَ: وَأَمَّا الْقَارِئُ لِكِتَابِ اللَّهِ، الْفَقِيهُ فِي دِينِ اللَّهِ، الشَّدِيدُ فِي حُدُودِ اللَّهِ،

فَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ. وَقَدِ اسْتَنَابَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ، يَعْزِلُهُ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِلَيْهَا، وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي سِنِينَ مُتَعَدِّدَةٍ.
وَقَالَ حَنْبَلٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَالَ: يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَ مَرْوَانَ قَضَاءٌ، وَكَانَ يَتَّبِعُ قَضَاءَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ وَذَكَرَ مَرْوَانَ يَوْمًا، فَقَالَ: قَالَ مَرْوَانُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ أَصْبَحْتُ فِيمَا أَنَا فِيهِ مِنْ هِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَهَذَا الشَّأْنِ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: كَانَ مَرْوَانُ إِذَا ذَكَرَ الْإِسْلَامَ قَالَ:
بِنِعْمَةِ رَبِّي لَا بِمَا قَدَّمَتْ يَدِي وَلَا بِبَرَاتِي إِنَّنِي كُنْتُ خَاطِئَا
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ، أَنَّهُ قَالَ: شَهِدَ مَرْوَانُ جِنَازَةً، فَلَمَّا صَلَّى عَلَيْهَا انْصَرَفَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَصَابَ قِيرَاطًا وَحُرِمَ قِيرَاطًا. فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ مَرْوَانُ، فَأَقْبَلَ يَجْرِي قَدْ بَدَتْ رُكْبَتَاهُ، فَقَعَدَ

حَتَّى أُذِنَ لَهُ.
وَرَوَى الْمَدَائِنِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ مَرْوَانَ كَانَ أَسْلَفَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ حِينَ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ سِتَّةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ لَا يَسْتَرْجِعَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ شَيْئًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بِذَلِكَ، فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَقَبِلَهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَنْبَأَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَانَا يُصَلِّيَانِ خَلْفَ مَرْوَانَ وَلَا يُعِيدَانِهَا، وَيَعْتَدَّانِ بِهَا.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدَّمَ الْخُطْبَةَ عَلَى الصَّلَاةِ يَوْمَ الْعِيدِ مَرْوَانُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: خَالَفْتَ السُّنَّةَ. فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: إِنَّهُ قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ".
قَالُوا: وَلَمَّا كَانَ نَائِبًا بِالْمَدِينَةِ كَانَ إِذَا وَقَعَتْ مُعْضِلَةٌ جَمَعَ مَنْ عِنْدِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَاسْتَشَارَهُمْ فِيهَا. قَالُوا: وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ الصِّيعَانَ، فَأَخَذَ بِأَعْدَلَهَا، فَنُسِبَ إِلَيْهِ الصَّاعُ، فَقِيلَ: صَاعُ مَرْوَانَ.

وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ اللَّهَبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ عِنْدِ مَرْوَانَ، فَلَقِيَهُ قَوْمٌ قَدْ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ فَقَالُوا: إِنَّهُ أَشْهَدَنَا الْآنَ عَلَى مِائَةِ رَقَبَةٍ أَعْتَقَهَا السَّاعَةَ. قَالَ: فَغَمَزَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَدِي، وَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، يَكٌّ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ رَقَبَةٍ. قَالَ الزُّبَيْرُ: الْيَكُّ: الْوَاحِدُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا بَلَغَ بَنُو أَبِي فُلَانٍ ثَلَاثِينَ رَجُلًا اتَّخَذُوا مَالَ اللَّهِ دُوَلًا، وَدِينَ اللَّهِ دَخَلًا، وَعِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا ".
وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى زَحْمُوَيْهِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا بَلَغَ بَنُو الْحَكَمِ ثَلَاثِينَ اتَّخَذُوا دِينَ اللَّهِ دَخَلًا، وَعِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا، وَمَالَ اللَّهِ دُوَلًا ". وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا بَلَغَ بَنُو أُمَيَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا ". وَذَكَرَهُ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ. وَرَوَاهُ الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ: " إِذَا بَلَغَ بَنُو أَبِي الْعَاصِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا " فَذَكَرَهُ.

وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ، عَنِ ابْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا بَلَغَ بَنُو الْحَكَمِ ثَلَاثِينَ اتَّخَذُوا مَالَ اللَّهِ بَيْنَهُمْ دُوَلًا، وَعِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا، وَكِتَابَ اللَّهِ دَغَلًا، فَإِذَا بَلَغُوا سِتَّةً وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ كَانَ هَلَاكُهُمْ أَسْرَعَ مِنْ لَوْكِ تَمْرَةٍ ".وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ فَقَالَ: " أَبُو الْجَبَابِرَةِ الْأَرْبَعَةِ ". وَهَذِهِ الطُّرُقُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ.
وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ بَنِي الْحَكَمِ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ وَيَرْقَوْنَ، فَأَصْبَحَ كَالْمُتَغَيِّظِ، وَقَالَ: " رَأَيْتُ بَنِي الْحَكَمِ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِي نَزْوَ الْقِرَدَةِ ". فَمَا رُئِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ. وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا، وَفِيهِ: فَأُوحِيَ إِلَيْهِ: إِنَّمَا هِيَ دُنْيَا أُعْطُوهَا. فَقَرَّتْ عَيْنُهُ. وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [ الْإِسْرَاءِ: 60 ]. يَعْنِي بَلَاءً لِلنَّاسِ وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَسَنَدُهُ إِلَى سَعِيدٍ ضَعِيفٌ. وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ، فَلِهَذَا أَضْرَبْنَا صَفْحًا عَنْ إِيرَادِهَا لِعَدَمِ صِحَّتِهَا.
وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ الْحَكَمُ مِنْ أَكْبَرِ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ،

وَقَدِمَ الْحَكَمُ الْمَدِينَةَ ثُمَّ طَرَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ، وَمَاتَ بِهَا، وَمَرْوَانُ كَانَ أَكْبَرَ الْأَسْبَابِ فِي حِصَارِ عُثْمَانَ، لِأَنَّهُ زَوَّرَ عَلَى لِسَانِهِ كِتَابًا إِلَى مِصْرَ بِقَتْلِ أُولَئِكَ الْوَفْدِ، وَلَمَّا كَانَ مُتَوَلِّيًا عَلَى الْمَدِينَةِ لِمُعَاوِيَةَ كَانَ يَسُبُّ عَلِيًّا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: لَقَدْ لَعَنَ اللَّهُ أَبَاكَ الْحَكَمَ وَأَنْتَ فِي صُلْبِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْحَكَمَ وَمَا وَلَدَ " وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ مَرْوَانُ أَرْضَ الْجَابِيَةِ، أَعْجَبَهُ إِتْيَانُهُ إِلَيْهِ، فَبَايَعَهُ، وَبَايَعَ لَهُ أَهْلَ الْأُرْدُنِّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا انْتَظَمَ لَهُ الْأَمْرُ نَزَلَ عَنِ الْإِمْرَةِ لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَيَكُونُ لِمَرْوَانَ إِمْرَةُ حِمْصَ، وَلِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ نِيَابَةُ دِمَشْقَ.
وَكَانَتِ الْبَيْعَةُ لِمَرْوَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلنِّصْفِ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. قَالَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: وَكَانَتْ وَقْعَةُ مَرْجِ رَاهِطٍ فِي ذِي الْحِجَّةِ، مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ عِيدِ النَّحْرِ بِيَوْمَيْنِ.
قَالُوا: فَغَلَبَ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، وَاسْتَوْسَقَ لَهُ مُلْكُ الشَّامِ وَمِصْرَ، فَلَمَّا

اسْتَقَرَّ مُلْكُهُ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ بَايَعَ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - وَالِدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - وَتَرَكَ الْبَيْعَةَ لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَرَاهُ أَهْلًا لِلْخِلَافَةِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ، وَإِنْ كَانَ خَالًا لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِأَعْبَاءِ بَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ إِنَّ أُمَّ خَالِدٍ دَبَّرَتْ أَمْرَ مَرْوَانَ فَسَمَّتْهُ، وَيُقَالُ: بَلْ وَضَعَتْ عَلَى وَجْهِهِ وَهُوَ نَائِمٌ وِسَادَةً، فَمَاتَ مَخْنُوقًا، ثُمَّ إِنَّهَا أَعْلَنَتِ الصُّرَاخَ هِيَ وَجَوَارِيهَا وَصِحْنَ: مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَجْأَةً. فَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فِي الْخِلَافَةِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مَذْعُورٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مَرْوَانُ: وَجَبَتِ الْجَنَّةُ لِمَنْ خَافَ النَّارَ. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: الْعِزَّةُ لِلَّهِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ أَبِي عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَرْبِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ آمَنْتُ بِالْعَزِيزِ الرَّحِيمِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ عَنْ إِحْدَى - وَقِيلَ: ثَلَاثٍ - وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: كَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَقَالَ خَلِيفَةُ: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: مَاتَ

مَرْوَانُ بِدِمَشْقَ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَشَرَةَ أَشْهُرٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُ: كَانَ قَصِيرًا، أَحْمَرَ الْوَجْهِ، أَوْقَصَ، دَقِيقَ الْعُنُقِ، كَبِيرَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ: خَيْطُ بَاطِلٍ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ، أَنَّ مَرْوَانَ مَاتَ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ مِصْرَ بِالصِّنَّبْرَةِ، وَيُقَالُ: بِلُدٍّ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ بِدِمَشْقَ، وَدُفِنَ بَيْنَ بَابِ الْجَابِيَةِ وَبَابِ الصَّغِيرِ.

خِلَافَةُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُوهُ فِي ثَالِثِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، جُدِّدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ بِدِمَشْقَ وَمِصْرَ وَأَعْمَالِهَا، فَاسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى مَا كَانَتْ يَدُ أَبِيهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ بَعَثَ بَعْثَيْنِ ; أَحَدُهُمَا مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ إِلَى الْعِرَاقِ لِيَنْتَزِعهَا مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَقِيَ فِي طَرِيقِهِ جَيْشَ التَّوَّابِينَ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ عِنْدَ عَيْنِ الْوَرْدَةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا تَقَدَّمَ، مِنْ ظَفَرِهِ بِهِمْ، وَقَتْلِهِ أَمِيرَهُمْ وَأَكْثَرَهُمْ. وَالْبَعْثُ الْآخَرُ مَعَ حُبَيْشِ بْنِ دُلَجَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَرْتَجِعَهَا مِنْ نَائِبِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَسَارَ نَحْوَهَا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا هَرَبَ نَائِبُهَا جَابِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفٍ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَجَهَّزَ نَائِبُ الْبَصْرَةِ مِنْ قِبَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، جَيْشًا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى ابْنِ دُلَجَةَ لِيُخْرِجُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ حُبَيْشُ بْنُ دُلَجَةَ سَارَ إِلَيْهِمْ، وَبَعَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَبَّاسَ بْنَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ نَائِبًا عَلَى الْمَدِينَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ فِي طَلَبِ حُبَيْشٍ، فَسَارَ فِي طَلَبِهِمْ حَتَّى لَحِقَهُمْ بِالرَّبَذَةِ، فَرَمَى يَزِيدُ بْنُ سِيَاهٍ حُبَيْشًا بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَقُتِلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَهُزِمَ الْبَاقُونَ، وَتَحَصَّنَ مِنْهُمْ خَمْسُمِائَةٍ فِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، فَقَتَلَهُمْ صَبْرًا، وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى الشَّامِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَمَّا دَخَلَ يَزِيدُ بْنُ سِيَاهٍ الْأَسْوَارِيُّ قَاتِلُ حُبَيْشِ بْنِ دُلَجَةَ إِلَى

الْمَدِينَةِ مَعَ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ كَانَ عَلَيْهِ ثِيَابُ بَيَاضٍ وَهُوَ رَاكِبٌ بِرْذَوْنًا أَشْهَبَ، فَمَا لَبِثَ أَنِ اسْوَدَّتْ ثِيَابُهُ وَدَابَّتُهُ مِمَّا يَتَمَسَّحُ النَّاسُ بِهِ وَمِنْ كَثْرَةِ مَا صَبُّوا عَلَيْهِ مِنَ الطِّيبِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّتْ شَوْكَةُ الْخَوَارِجِ بِالْبَصْرَةِ.
وَفِيهَا قَتَلَ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ، وَهُوَ رَأْسُ الْخَوَارِجِ وَرَأْسُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، مُسْلِمُ بْنُ عُبَيْسٍ فَارِسُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ قَتَلَهُ رَبِيعَةُ السَّلِيطِيُّ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمَا نَحْوُ خَمْسَةِ أُمَرَاءَ، وَقُتِلَ فِي وَقْعَةِ الْخَوَارِجِ قُرَّةُ بْنُ إِيَاسٍ الْمُزَنِيُّ أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَلَمَّا قُتِلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ رَأَّسَتِ الْخَوَارِجُ عَلَيْهِمْ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مَاحُوزَ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى الْمَدَائِنِ فَقَتَلُوا أَهْلَهَا، ثُمَّ غَلَبُوا عَلَى الْأَهْوَازِ وَغَيْرِهَا، وَجَبَوُا الْأَمْوَالَ وَأَتَتْهُمُ الْأَمْدَادُ مِنَ الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى أَصْفَهَانَ، وَعَلَيْهَا عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيُّ، فَالْتَقَاهُمْ فَهَزَمَهُمْ، وَلَمَّا قُتِلَ أَمِيرُ الْخَوَارِجِ ابْنُ مَاحُوزَ، كَمَا سَنَذْكُرُ، أَقَامُوا عَلَيْهِمْ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ أَمِيرًا.
ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ قِصَّةَ قِتَالِهِمْ مَعَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: دُولَابُ. وَكَانَتِ الدَّوْلَةُ لِلْخَوَارِجِ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَخَافَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ مِنَ الْخَوَارِجِ أَنْ

يَدْخُلُوا الْبَصْرَةَ، فَبَعَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَعَزَلَ نَائِبَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ، الْمَعْرُوفَ بِبَبَّةَ، بِالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَعْرُوفِ بِالْقُبَاعِ، وَأَرْسَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ الْأَزْدِيَّ عَلَى عَمَلِ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ قَالُوا لَهُ: إِنَّ قِتَالَ الْخَوَارِجِ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَكَ. فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ بَعَثَنِي عَلَى خُرَاسَانَ، وَلَسْتُ أَعْصِي أَمْرَهُ. فَاتَّفَقَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ مَعَ أَمِيرِهِمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عَلَى أَنْ كَتَبُوا كِتَابًا عَلَى لِسَانِ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِلَى الْمُهَلَّبِ يَأْمُرُهُ فِيهِ بِالْمَسِيرِ لِلْخَوَارِجِ لِيَكُفَّهُمْ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَلَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ اشْتَرَطَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنْ يُقَوِّيَ جَيْشَهُ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ الْخَوَارِجِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ كَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَمْضَى لَهُمْ ذَلِكَ وَسَوَّغَهُ. فَسَارَ إِلَيْهِمُ الْمُهَلَّبُ، وَكَانَ شُجَاعًا بَطَلًا صِنْدِيدًا، فَلَمَّا الْتَقَى هُوَ وَالْخَوَارِجُ أَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ فِي عُدَّةٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا مِنَ الدُّرُوعِ وَالزُّرُودِ وَالْخُيُولِ وَالسِّلَاحِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَهُمْ مُدَّةً يَأْكُلُونَ تِلْكَ النَّوَاحِيَ، وَقَدْ صَارَ لَهُمْ تَحَمُّلٌ عَظِيمٌ مَعَ شَجَاعَةٍ لَا تُدَانَى، وَإِقَدْامٍ لَا يُسَامَى، وَقُوَّةٍ لَا تُبَارَى، وَسَبْقٍ إِلَى حَوْمَةِ الْوَغَى لَا يُجَارَى، فَلَمَّا تَوَاقَفَ النَّاسُ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: سِلَّى وَسِلِّبْرَى. اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَصَبْرَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ صَبْرًا بَاهِرًا، وَكَانَ الْمُهَلَّبُ فِي نَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، ثُمَّ إِنَّ الْخَوَارِجَ حَمَلُوا حَمْلَةً مُنْكَرَةً، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْمُهَلَّبِ لَا يَلْوِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدٍ، وَلَا يَلْتَفِتُ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ، وَوَصَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَلُّهُمْ، وَأَمَّا الْمُهَلَّبُ فَإِنَّهُ سَبَقَ الْمُنْهَزِمِينَ، فَوَقَفَ لَهُمْ بِمَكَانٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ يُنَادِي: إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْ جَيْشِهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ مِنَ الْفُرْسَانِ الشُّجْعَانِ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رُبَّمَا يَكِلُ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيُهْزَمُونَ، وَيُنْزِلُ النَّصْرَ عَلَى الْجَمْعِ الْيَسِيرِ فَيَظْهَرُونَ،

وَلَعَمْرِي مَا بِكُمُ الْآنَ مِنْ قِلَّةٍ، وَأَنْتُمْ فُرْسَانُ أَهْلِ الْمِصْرَ وَأَهْلُ النَّصْرِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ أَحَدًا مِمَّنِ انْهَزَمَ مَعَكُمُ الْآنَ، وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا. ثُمَّ قَالَ: عَزَمْتُ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ إِلَّا أَخَذَ عَشَرَةَ أَحْجَارٍ مَعَهُ، ثُمَّ امْشُوا بِنَا إِلَى عَسْكَرِهِمْ ; فَإِنَّهُمُ الْآنَ آمِنُونَ، وَقَدْ خَرَجَتْ خُيُولُهُمْ فِي طَلَبِ إِخْوَانِكُمْ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ خَيْلُهُمْ حَتَّى تَسْتَبِيحُوا عَسْكَرَهُمْ، وَتَقْتُلُوا أَمِيرَهُمْ. فَفَعَلَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَزَحَفَ بِهِمْ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ عَلَى عَسْكَرِ الْخَوَارِجِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا نَحْوًا مِنْ سَبْعَةِ آلَافٍ، وَقَتَلَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْمَاحُوزِ فِي جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْأَزَارِقَةِ، وَاحْتَازَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَدْ أَرْصَدَ الْمُهَلَّبُ خُيُولًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ مِنْ طَلَبِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَجَعَلُوا يُقْتَطَعُونَ دُونَ قَوْمِهِمْ، وَانْهَزَمَ فَلُّهُمْ إِلَى كَرْمَانَ وَأَرْضِ أَصْبَهَانَ، وَأَقَامَ الْمُهَلَّبُ بِالْأَهْوَازِ حَتَّى قَدِمَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَعَزَلَ عَنْهَا الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ قَبْلَ مَهْلِكِهِ ابْنَهُ مُحَمَّدًا إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ مَسِيرِهِ إِلَى مِصْرَ. قُلْتُ: مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ هَذَا هُوَ وَالِدُ مَرْوَانَ الْحِمَارِ، وَهُوَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، وَهُوَ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَمِنْ يَدِهِ اسْتَلَبَ الْخِلَافَةَ الْعَبَّاسِيُّونَ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ عُبَيْدَةَ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَوَلَّاهَا أَخَاهُ مُصْعَبًا، وَذَلِكَ أَنَّ عُبَيْدَةَ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ:

وَقَدْ رَأَيْتُمْ مَا صَنَعَ اللَّهُ بِقَوْمِ صَالِحٍ فِي نَاقَةٍ قِيمَتُهَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَلَمَّا بَلَغَتْ أَخَاهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ وَعَزَلَهُ، فَسُمِّيَ مُقَوِّمَ النَّاقَةِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي آخِرِهَا عَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ الْكُوفَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الْخَطْمِيَّ، وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ الَّذِي كَانَ أَمِيرَ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ الْحَرَّةِ، لَمَّا خَلَعُوا يَزِيدَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الطَّاعُونُ الْجَارِفُ بِالْبَصْرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": كَانَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي ذَكَرَهُ شَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ مُعْظَمَ ذَلِكَ بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَمَاتَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْهُ أَحَدٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْهُ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَأَصْبَحَ النَّاسُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ مَوْتَى إِلَّا قَلِيلًا مِنْ آحَادِ النَّاسِ، حَتَّى ذُكِرَ أَنَّ أُمَّ الْأَمِيرِ بِهَا مَاتَتْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهَا مَنْ يَحْمِلُهَا، حَتَّى اسْتَأْجَرُوا لَهَا أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ،

حَدَّثَنِي مَعْدِيٌّ، عَنْ رَجُلٍ يُكَنَّى أَبَا النُّفَيْلِ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ زَمَنَ الطَّاعُونِ، قَالَ: كُنَّا نَطُوفُ فِي الْقَبَائِلِ وَنَدْفِنُ الْمَوْتَى، فَلَمَّا كَثُرُوا لَمْ نَقْوَ عَلَى الدَّفْنِ، فَكُنَّا نَدْخُلُ الدَّارَ، وَقَدْ مَاتَ أَهْلُهَا، فَنَسُدُّ بَابَهَا. قَالَ: فَدَخَلْنَا دَارًا فَفَتَّشْنَاهَا، فَلَمْ نَجِدْ فِيهَا أَحَدًا حَيًّا فَسَدَدْنَا بَابَهَا، فَلَمَّا مَضَتِ الطَّوَاعِينُ كُنَّا نَطُوفُ نَنْزِعُ تِلْكَ السُّدَدِ عَنِ الْأَبْوَابِ، فَفَتَحْنَا سُدَّةَ الْبَابِ الَّذِي كُنَّا فَتَّشْنَاهُ، فَإِذَا نَحْنُ بِغُلَامٍ فِي وَسَطِ الدَّارِ طَرِيٍّ دَهِينٍ، كَأَنَّمَا أُخِذَ سَاعَتَئِذٍ مِنْ حِجْرِ أُمِّهِ. قَالَ: وَنَحْنُ وُقُوفٌ عَلَى الْغُلَامِ نَتَعَجَّبُ مِنْهُ فَدَخَلَتْ كَلْبَةٌ مِنْ شَقٍّ فِي الْحَائِطِ، فَجَعَلَتْ تَلُوذُ بِالْغُلَامِ، وَالْغُلَامُ يَحْبُو إِلَيْهَا حَتَّى مَصَّ مِنْ لَبَنِهَا. قَالَ مَعْدِيٌّ: وَأَنَا رَأَيْتُ ذَلِكَ الْغُلَامَ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، وَقَدْ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ - يَعْنِي أَكْمَلَ بِنَاءَهَا - وَأَدْخَلَ فِيهَا الْحَجَرَ، وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ، يُدْخَلُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيُخْرَجُ مِنَ الْآخَرِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ خَالِدِ بْنِ رُسْتُمَ الصَّنْعَانِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ جِيلٍ، أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ يَوْمَ كَانَ عَلَيْهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ: حَدَّثَتْنِي أُمِّي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ: " لَوْلَا قُرْبُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَرَدَدْتُ الْكَعْبَةَ عَلَى

أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَزِيدُ فِي الْكَعْبَةِ مِنَ الْحِجْرِ ". قَالَ: فَأَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَحَفَرُوا فَوَجَدُوا قِلَاعًا أَمْثَالَ الْإِبِلِ، فَحَرَّكُوا مِنْهَا صَخْرَةً، فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ فَقَالَ: أَقِرُّوهَا عَلَى أَسَاسِهَا. فَبَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ، يُدْخَلُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيُخْرَجُ مِنَ الْآخَرِ.
قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ عَائِشَةَ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ، وَمَوْضُوعُ سِيَاقِ طُرُقِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ " الْأَحْكَامِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حُرُوبًا جَرَتْ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ بِخُرَاسَانَ، وَبَيْنَ الْحَرِيشِ بْنِ هِلَالٍ الْقُرَيْعِيِّ، يَطُولُ تَفْصِيلُهَا.
قَالَ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ
وَفِيهَا وَثَبَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيُّ الْكَذَّابُ بِالْكُوفَةِ؛ لِيَأْخُذَ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - فِيمَا يَزْعُمُ - وَأَخْرَجَ عَنْهَا عَامِلَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ مَغْلُوبِينَ إِلَى الْكُوفَةِ وَجَدُوا الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ الْكَذَّابَ مَسْجُونًا، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ يُعَزِّيهِمْ وَيَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا كَتَبَ بِهِ إِلَيْهِمْ خِفْيَةً: أَبْشِرُوا، فَإِنِّي لَوْ قَدْ خَرَجْتُ إِلَيْكُمْ جَرَّدْتُ فِيمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مِنْ أَعْدَائِكُمُ السَّيْفَ، فَجَعَلْتُهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ رُكَامًا، وَقَتَلْتُهُمْ فَذًّا وَتَوْأَمًا، فَرَحَّبَ اللَّهُ بِمَنْ قَارَبَ مِنْكُمْ وَاهْتَدَى، وَلَا يُبْعِدُ اللَّهُ إِلَّا مَنْ أَبَى وَعَصَى. فَلَمَّا وَصَلَهُمُ الْكِتَابُ

قَرَءُوهُ سِرًّا وَرَدُّوا إِلَيْهِ: إِنَّا كَمَا تُحِبُّ، فَمَتَى أَحْبَبْتَ أَخْرَجْنَاكَ مِنْ مَحْبَسِكَ. فَكَرِهَ أَنْ يُخْرِجُوهُ مِنْ مَكَانِهِ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ لِنُوَّابِ الْكُوفَةِ، فَتَلَطَّفَ فَكَتَبَ إِلَى زَوْجِ أُخْتِهِ صَفِيَّةَ - وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً - وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَشَفَعَ فِي خُرُوجِهِ مِنْ مَحْبِسِهِ عِنْدَ نَائِبَيِ الْكُوفَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، فَكَتَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَيْهِمَا يَشْفَعُ عِنْدَهُمَا فِيهِ فَلَمْ يُمْكِنْهُمَا رَدُّهُ، وَكَانَ فِيمَا كَتَبَ إِلَيْهِمَا ابْنُ عُمَرَ: قَدْ عَلِمْتُمَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمَا مِنَ الْوُدِّ وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَ الْمُخْتَارِ مِنَ الْقَرَابَةِ وَالصِّهْرِ، وَأَنَا أُقْسِمُ عَلَيْكُمَا لَمَا خَلَّيْتُمَا سَبِيلَهُ، وَالسَّلَامُ. فَاسْتُدْعِيَا بِهِ فَضَمِنَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَحْلَفَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ إِنْ هُوَ بَغَى لِلْمُسْلِمِينَ غَائِلَةً فَعَلَيْهِ أَلْفُ بَدَنَةٍ يَنْحَرُهَا تُجَاهَ الْكَعْبَةِ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ - مِنْ عَبْدٍ وَأَمَةٍ - حُرٌّ، فَالْتَزَمَ لَهُمَا بِذَلِكَ، وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَجَعَلَ يَقُولُ: قَاتَلَهُمَا اللَّهُ، أَمَّا حَلِفِي بِاللَّهِ، فَإِنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَأَمَّا إِهْدَائِي أَلْفَ بَدَنَةٍ فَيَسِيرٌ، وَأَمَّا عِتْقِي مَمَالِيكِي فَوَدِدْتُ أَنَّهُ قَدِ اسْتَتَمَّ لِي هَذَا الْأَمْرُ وَلَا أَمْلِكُ مَمْلُوكًا وَاحِدًا.
وَاجْتَمَعَتِ الشِّيعَةُ عَلَيْهِ، وَكَثُرَ أَصْحَابُهُ وَبَايَعُوهُ فِي السِّرِّ. وَكَانَ الَّذِي يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ لَهُ وَيُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَيْهِ خَمْسَةً ; وَهُمُ السَّائِبُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَ يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ، وَ أَحْمَرُ بْنُ شُمَيْطٍ ; وَرِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ، وَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ الْجُشَمِيُّ، وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُ يَقْوَى وَيَشْتَدُّ وَيَسْتَفْحِلُ وَيَرْتَفِعُ، حَتَّى عَزَلَ

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ الْكُوفَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، وَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ، وَبَعْثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ نَائِبًا عَلَيْهَا، وَبَعَثَ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ نَائِبًا عَلَى الْبَصْرَةِ.
فَلَمَّا دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ الْمَخْزُومِيُّ إِلَى الْكُوفَةِ، فِي رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، خَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَمَرَنِي أَنْ أَسِيرَ فِيكُمْ بِسِيرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. فَقَامَ إِلَيْهِ السَّائِبُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ فَقَالَ: لَا نَرْضَى إِلَّا بِسِيرَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّتِي سَارَ بِهَا فِي بِلَادِنَا، وَلَا نُرِيدُ سِيرَةَ عُثْمَانَ - وَتَكَلَّمَ فِيهِ - وَلَا سِيرَةَ عُمَرَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ لِلنَّاسِ إِلَّا خَيْرًا. وَصَدَّقَهُ عَلَى مَا قَالَ بَعْضُ أُمَرَاءِ الشِّيعَةِ، فَسَكَتَ الْأَمِيرُ وَقَالَ: إِنِّي سَأَسِيرُ فِيكُمْ بِمَا تُحِبُّونَ مِنْ ذَلِكَ.
وَجَاءَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ، وَهُوَ إِيَاسُ بْنُ مُضَارِبٍ الْعِجْلِيُّ إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ، وَلَسْتُ آمَنُ الْمُخْتَارَ، فَابْعَثْ إِلَيْهِ فَارْدُدْهُ إِلَى السِّجْنِ، فَإِنَّ عُيُونِي قَدْ أَخْبَرُونِي أَنَّ أَمْرَهُ قَدِ اسْتَجْمَعَ لَهُ، وَكَأَنَّكَ بِهِ وَقَدْ وَثَبَ بِالْمِصْرِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ زَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ، وَأَمِيرًا آخَرَ مَعَهُ، فَدَخَلَا عَلَى الْمُخْتَارِ فَقَالَا لَهُ: أَجِبِ الْأَمِيرَ. فَدَعَا بِثِيَابِهِ وَأَمَرَ بِإِسْرَاجِ

دَابَّتِهِ، وَتَهَيَّأَ لِلذَّهَابِ مَعَهُمَا، فَقَرَأَ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ الْآيَةَ. فَأَلْقَى الْمُخْتَارُ نَفْسَهُ وَأَمَرَ بِقَطِيفَةٍ أَنْ تُلْقَى عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ مَرِيضٌ، وَقَالَ: أَخْبِرَا الْأَمِيرَ بِحَالِي، فَرَجَعَا إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ فَاعْتَذَرَا عَنْهُ، فَصَدَّقَهُمَا وَلَهَا عَنْهُ.
فَلَمَّا كَانَ الْمُحَرَّمُ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَزْمَ الْمُخْتَارُ عَلَى الْخُرُوجِ لِطَلَبِ ثَأْرِ الْحُسَيْنِ - فِيمَا يَزْعُمُ - فَلَمَّا صَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الشِّيعَةُ وَثَبَّطُوهُ عَنِ الْخُرُوجِ الْآنَ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ، ثُمَّ أَنَفَذُوا طَائِفَةً مِنْهُمْ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ يَسْأَلُونَهُ عَنْ أَمْرِ الْمُخْتَارِ وَمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِهِ كَانَ مُلَخَّصُ مَا قَالَ لَهُمْ: إِنَّا لَا نَكْرَهُ أَنْ يَنْصُرَنَا اللَّهُ بِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَدْ كَانَ الْمُخْتَارُ بَلَغَهُ مَخْرَجُهُمْ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَخَشِيَ أَنْ يُكَذِّبَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهَمَّ بِالْخُرُوجِ قَبْلَ رُجُوعٍ أُولَئِكَ، وَجَعَلَ يَسْجَعُ لَهُمْ سَجْعًا مِنْ سَجْعِ الْكُهَّانِ بِذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا سَجَعَ بِهِ. فَلَمَّا رَجَعُوا أَخْبَرُوهُ بِمَا قَالَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَوِيَ أَمْرُ الشِّيعَةِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو مِخْنَفٍ أَنَّ أُمَرَاءَ الشِّيعَةِ قَالُوا لِلْمُخْتَارِ: اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ أُمَرَاءِ

الْكُوفَةِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ وَهُمْ أَلْبٌ عَلَيْنَا، وَإِنَّهُ إِنْ بَايَعَكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيُّ وَحَدَهُ أَغْنَانَا عَنْ جَمِيعِ مَنْ سِوَاهُ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ يَدْعُونَهُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُمْ فِي الْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَذَكَّرُوهُ سَابِقَةَ أَبِيهِ مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: قَدْ أَجَبْتُكُمْ إِلَى مَا سَأَلْتُمْ، عَلَى أَنْ أَكُونَ أَنَا وَلِيَّ أَمْرِكُمْ. فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الْمَهْدِيَّ قَدْ بَعَثَ الْمُخْتَارَ إِلَيْنَا وَزِيرًا لَهُ وَدَاعِيًا إِلَيْهِ. فَسَكَتَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ، فَرَجَعُوا إِلَى الْمُخْتَارِ فَأَخْبَرُوهُ، فَمَكَثَ ثَلَاثًا ثُمَّ خَرَجَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ إِلَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنِ الْأَشْتَرِ فَقَامَ إِلَيْهِ وَاحْتَرَمَهُ وَأَكْرَمَهُ وَجَلَسَ إِلَيْهِ فَدَعَاهُ الْمُخْتَارُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُمْ، وَأَخْرَجَ لَهُ كِتَابًا عَلَى لِسَانِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ يَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَ أَصْحَابِهِ مِنَ الشِّيعَةِ، فِيمَا قَامُوا فِيهِ مِنْ نُصْرَةِ آلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ: إِنَّهُ قَدْ جَاءَتْنِي كُتُبُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ بِغَيْرِ هَذَا النِّظَامِ، فَقَالَ الْمُخْتَارُ: إِنَّ هَذَا زَمَانٌ وَذَاكَ زَمَانٌ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ: فَمَنْ يَشْهَدُ أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ. فَتَقَدَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ فَشَهِدُوا بِذَلِكَ. فَقَامَ ابْنُ الْأَشْتَرِ مِنْ مَجْلِسِهِ وَأَجْلَسَ الْمُخْتَارَ فِيهِ وَبَايَعَهُ، وَدَعَا لَهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَشَرَابٍ مِنْ عَسَلٍ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ - وَكَانَ حَاضِرًا ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ هُوَ وَأَبُوهُ -: فَلَمَّا انْصَرَفَ الْمُخْتَارُ، قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ: يَا شَعْبِيُّ، وَمَاذَا تَرَى فِيمَا شَهِدَ بِهِ هَؤُلَاءِ ؟ فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ قُرَّاءٌ وَأُمَرَاءٌ وَوُجُوهُ النَّاسِ، وَلَا أَرَاهُمْ يُشْهِدُونَ إِلَّا بِمَا يَعْلَمُونَ. قَالَ:

وَكَتَمْتُهُ مَا فِي نَفْسِي مِنِ اتِّهَامِهِمْ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يَخْرُجُوا لِلْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَكُنْتُ عَلَى رَأْيِ الْقَوْمِ.
ثُمَّ جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَخْتَلِفُ إِلَى الْمُخْتَارِ فِي مَنْزِلِهِ هُوَ وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ اتَّفَقَ رَأْيُ الشِّيعَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُمْ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ; سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ.
وَقَدْ بَلَغَ ابْنَ مُطِيعٍ أَمْرُ الْقَوْمِ وَمَا اشْتَوَرُوا عَلَيْهِ، فَبَعَثَ الشُّرَطَ فِي كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْكُوفَةِ، وَأَلْزَمَ كُلَّ أَمِيرٍ بِحِفْظِ نَاحِيَتِهِ مِنْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا أَحَدٌ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الثُّلَاثَاءِ خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ قَاصِدًا إِلَى دَارِ الْمُخْتَارِ فِي مِائَةِ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ وَعَلَيْهِمُ الدُّرُوعُ تَحْتَ الْأَقْبِيَةِ، فَلَقِيَهُ إِيَاسُ بْنُ مُضَارِبٍ فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا ابْنَ الْأَشْتَرِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ ؟ إِنَّ أَمَرَكَ لِمُرِيبٌ، فَوَاللَّهِ لَا أَدْعُكَ حَتَّى أُحْضِرَكَ إِلَى الْأَمِيرِ فَيَرَى فِيكَ رَأْيَهُ. فَتَنَاوَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ رُمْحًا مِنْ يَدِ رَجُلٍ فَطَعَنَهُ فِي ثُغْرَةِ نَحْرِهِ، فَسَقَطَ وَأَمَرَ رَجُلًا فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَذَهَبَ بِهِ إِلَى الْمُخْتَارِ فَأَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ بَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ، فَهَذَا طَائِرٌ صَالِحٌ. ثُمَّ طَلَبَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْمُخْتَارِ أَنْ يَخْرُجَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، فَأَمَرَ الْمُخْتَارُ بِالنَّارِ أَنْ تُرْفَعَ، وَأَنْ يُنَادَى بِشِعَارِ أَصْحَابِهِ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ، يَا ثَارَاتِ الْحُسَيْنِ. ثُمَّ نَهَضَ الْمُخْتَارُ فَجَعْلَ يَلْبَسُ دِرْعَهُ وَسِلَاحَهُ وَهُوَ يَقُولُ:

قَدْ عَلِمَتْ بَيْضَاءُ حَسْنَاءُ الطَّلَلْ وَاضِحَةُ الْخَدَّيْنِ عَجْزَاءُ الْكَفَلْ أَنِّي غَدَاةَ الرَّوْعِ مِقْدَامٌ بَطَلْ
وَخَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ، فَجَعَلَ يَتَقَصَّدُ الْأُمَرَاءَ الْمُوَكَّلِينَ بِنَوَاحِي الْبَلَدِ، فَيَطْرُدُهُمْ عَنْ أَمَاكِنِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَيُنَادِي بِشِعَارِ الْمُخْتَارِ. وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ فَنَادَى بِشِعَارِ الْمُخْتَارِ: يَا ثَارَاتِ الْحُسَيْنِ. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، وَجَاءَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ فَاقْتَتَلَ هُوَ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ دَارِهِ وَحَصَرَهُ حَتَّى جَاءَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ فَطَرَدَهُ عَنْهُ.
فَرَجَعَ شَبَثٌ إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَجْمَعَ الْأُمَرَاءَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَنْهَضَ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّ أَمْرَ الْمُخْتَارِ قَدْ قَوِيَ وَاسْتَفْحَلَ، وَجَاءَتِ الشِّيعَةُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ إِلَى الْمُخْتَارِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ عَبَّى جَيْشَهُ وَصَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ، فَقَرَأَ فِيهَا: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَ عَبَسَ وَتَوَلَّى فِي الثَّانِيَةِ. قَالَ بَعْضُ مَنْ سَمِعَهُ: فَمَا سَمِعْتُ إِمَامًا أَفْصَحَ لَهْجَةً مِنْهُ. وَقَدْ جَهَّزَ ابْنُ مُطِيعٍ جَيْشًا؛ ثَلَاثَةَ آلَافٍ عَلَيْهِمْ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَأَرْبَعَةَ آلَافٍ أُخْرَى مَعَ رَاشِدِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ مُضَارِبٍ، فَوَجَّهَ الْمُخْتَارُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ فِي سِتِّمِائَةِ فَارِسٍ وَسِتِّمِائَةِ رَاجِلٍ إِلَى رَاشِدِ بْنِ إِيَاسٍ، وَبَعْثَ نُعَيْمَ بْنَ هُبَيْرَةَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ وَسِتِّمِائَةِ رَاجِلٍ إِلَى شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ. فَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ فَإِنَّهُ هَزَمَ قِرْنَهُ رَاشِدَ

بْنَ إِيَاسٍ وَقَتْلَهُ وَأَرْسَلَ إِلَى الْمُخْتَارِ يُبَشِّرُهُ، وَأَمَّا نُعَيْمُ بْنُ هُبَيْرَةَ فَإِنَّهُ لَقِيَ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ فَهَزَمَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ وَقَتْلَهُ وَجَاءَ فَأَحَاطَ بِالْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ وَحَصَرَهُ، وَأَقْبَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ نَحْوَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، فَاعْتَرَضَ لَهُ حَسَّانُ بْنُ فَائِدِ الْعَبْسِيُّ فِي نَحْوٍ مِنْ أَلْفَيْ فَارِسٍ مِنْ جِهَةِ ابْنِ مُطِيعٍ، فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً، فَهَزَمَهُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَ الْمُخْتَارِ، فَوَجَدَ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ قَدْ حَصَرَ الْمُخْتَارَ وَجَيْشَهُ، فَمَا زَالَ حَتَّى طَرَدَهُمْ عَنْهُ، وَكَرُّوا رَاجِعِينَ. وَخَلَصَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْمُخْتَارِ، وَارْتَحَلُوا مِنْ مَكَانِهِمْ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ فِي ظَاهِرِ الْكُوفَةِ فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ: اعْمِدْ بِنَا إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَلَيْسَ دُونَهُ أَحَدٌ يَرُدُّ عَنْهُ. فَوَضَعُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الْأَثْقَالِ وَأَجْلَسُوا هُنَالِكَ ضَعَفَةَ الْمَشَايِخِ وَالرِّجَالِ.

وَاسْتَخْلَفَ الْمُخْتَارُ عَلَى مَنْ هُنَالِكَ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ، وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ، وَعَبَّأَ الْمُخْتَارُ جَيْشَهُ كَمَا كَانَ، وَسَارَ نَحْوَ الْقَصْرِ، فَبَعَثَ ابْنُ مُطِيعٍ عَمْرَو بْنَ الْحَجَّاجِ فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ، وَسَارَ هُوَ وَابْنُ الْأَشْتَرِ أَمَامَهُ حَتَّى دَخَلَ الْكُوفَةَ مِنْ بَابِ الْكُنَاسَةِ، وَأَرْسَلَ ابْنُ مُطِيعٍ شَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ - الَّذِي قَتَلَ الْحُسَيْنَ - فِي أَلْفَيْنِ آخَرَيْنِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ سَعِيدَ بْنَ مُنْقِذٍ الْهَمَذَانِيَّ، وَسَارَ الْمُخْتَارُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سِكَّةِ شَبَثٍ، وَإِذَا

نَوْفَلُ بْنُ مُسَاحِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَخْرَمَةَ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، وَخَرَجَ ابْنُ مُطِيعٍ مِنَ الْقَصْرِ فِي النَّاسِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، فَتَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى الْجَيْشِ الَّذِي مَعَ نَوْفَلِ بْنِ مُسَاحِقٍ. فَهَزَمَهُمْ وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّةِ ابْنِ مُسَاحِقٍ فَمَتَّ إِلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ، فَأَطْلَقَهُ، فَكَّانِ لَا يَنْسَاهَا بَعْدُ لِابْنِ الْأَشْتَرِ.
ثُمَّ تَقَدَّمَ الْمُخْتَارُ بِجَيْشِهِ إِلَى الْكُنَاسَةِ وَحَصَرُوا ابْنَ مُطِيعٍ بِقَصْرِهِ ثَلَاثًا، وَمَعَهُ أَشْرَافُ النَّاسِ سِوَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، فَإِنَّهُ لَزِمَ دَارَهُ، فَلَمَّا ضَاقَ الْحَالُ عَلَى ابْنِ مُطِيعٍ وَأَصْحَابِهِ اسْتَشَارَهُمْ فَأَشَارَ عَلَيْهِ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ وَلَهُمْ مِنَ الْمُخْتَارِ أَمَانًا، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ هَذَا وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مُطَاعٌ بِالْحِجَازِ وَبِالْبَصْرَةِ. فَقَالَ لَهُ: فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَذْهَبَ بِنَفْسِكَ مُخْتَفِيًا حَتَّى تَلْحَقَ بِصَاحِبِكَ فَتُخْبِرَهُ بِمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ، وَبِمَا كَانَ مِنَّا فِي نَصْرِهِ وَإِقَامَةِ دَوْلَتِهِ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ خَرَجَ ابْنُ مُطِيعٍ مُخْتَفِيًا حَتَّى دَخَلَ دَارَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ أَخْذَ الْأُمَرَاءُ لَهُمْ أَمَانًا مِنْ أَمِيرِهِمُ ابْنِ الْأَشْتَرِ فَأَمَّنَهُمْ، فَخَرَجُوا مِنَ الْقَصْرِ وَجَاءُوا إِلَى الْمُخْتَارِ فَبَايَعُوهُ، وَجَاءَ الْمُخْتَارُ فَدَخْلَ الْقَصْرَ فَبَاتَ فِيهِ، وَأَصْبَحَ أَشْرَافُ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ وَعَلَى بَابِ الْقَصْرِ، فَخَرَجَ الْمُخْتَارُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَخَطَبَ النَّاسَ خُطْبَةً بَلِيغَةً، ثُمَّ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ وَقَالَ: فَوَالَّذِي جَعَلَ السَّمَاءَ سَقْفًا مَكْفُوفًا وَالْأَرْضَ فِجَاجًا سُبُلًا، مَا بَايَعْتُمْ بَعْدَ بَيْعَةِ عَلِيٍّ أَهْدَى مِنْهَا، ثُمَّ نَزَلَ فَدَخَلَ وَدَخَلَ النَّاسُ يُبَايِعُونَهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالطَّلَبِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ، وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْمُخْتَارِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ مُطِيعٍ فِي دَارِ أَبِي مُوسَى،

فَأَرَاهُ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ قَوْلَهُ، حَتَّى كَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يُرِيهِ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ قَوْلَهُ. فَسَكَتَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ بَعْثَ الْمُخْتَارُ إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَقَدْ أُخْبِرْتُ بِمَكَانِكَ، - وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا قَبْلَ ذَلِكَ - فَذَهَبَ ابْنُ مُطِيعٍ إِلَى الْبَصْرَةِ وَكْرِهَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ مَغْلُوبٌ. وَشَرَعَ الْمُخْتَارُ يَتَحَبَّبُ إِلَى النَّاسِ بِحُسْنِ السِّيرَةِ وَوَجَدَ فِي بَيْتِ الْمَالِ تِسْعَةَ آلَافِ أَلْفٍ، فَأَعْطَى الْجَيْشَ الَّذِينَ حَضَرُوا مَعَهُ الْقِتَالَ نَفَقَاتٍ كَثِيرَةً. وَاسْتَعْمَلَ عَلَى شُرْطَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَامِلٍ الشَّاكِرِيَّ، وَقَرَّبَ أَشْرَافَ النَّاسِ فَكَانُوا جُلَسَاءَهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَوَالِي الَّذِينَ قَامُوا بِنَصْرِهِ، وَقَالُوا لِأَبِي عَمْرَةَ كِيسَانَ مَوْلَى عُرَيْنَةَ، وَكَانَ عَلَى حَرَسِهِ: قَدَّمَ وَاللَّهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْعَرَبَ وَتَرَكَنَا، فَأَنْهَى ذَلِكَ أَبُو عَمْرَةَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: بَلْ هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [ السَّجْدَةِ: 22 ] فَقَالَ لَهُمْ أَبُو عَمْرَةَ: أَبْشِرُوا فَإِنَّهُ سَيَقْتُلُهُمْ وَيُقَرِّبُكُمْ فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ وَسَكَتُوا.
ثُمَّ إِنَّ الْمُخْتَارَ بَعَثَ الْأُمَرَاءَ إِلَى النَّوَاحِي وَالْبُلْدَانِ وَالْأَقَالِيمِ وَالرَّسَاتِيقِ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، وَعَقَدَ الْأَلْوِيَةَ وَالرَّايَاتِ. وَقَرَّرَ الْإِمَارَةَ وَالْوِلَايَاتِ، وَجَعَلَ يَجْلِسُ لِلنَّاسِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ اسْتَقْضَى شُرَيْحًا،

فَتَكَلَّمَ فِي شُرَيْحٍ طَائِفَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ، وَقَالُوا إِنَّهُ شَهِدَ عَلَى حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، وَإِنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ عَنْ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، وَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَزَلَهُ عَنِ الْقَضَاءِ، فَلَمَّا بَلَغَ شُرَيْحًا ذَلِكَ تَمَارَضَ وَلَزِمَ بَيْتَهُ، فَجَعَلَ الْمُخْتَارُ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَجَعَلَ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَالِكٍ الطَّائِيَّ قَاضِيًا.

فَصْلٌ ( تَتَبُّعُ الْمُخْتَارِ لِقَتَلَةِ الْحُسَيْنِ )
ثُمَّ شَرَعَ الْمُخْتَارُ يَتَتَبَّعُ قَتَلَةَ الْحُسَيْنِ مِنْ شَرِيفٍ وَوَضِيعٍ فَيَقْتُلُهُ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنْ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ كَانَ قَدْ جَهَّزَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ مِنْ دِمَشْقَ لِيَدْخُلَ الْكُوفَةَ، فَإِنْ هُوَ ظَفِرَ بِهَا فَلْيُبِحْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَجَعَلَ لَهُ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ، فَسَارَ ابْنُ زِيَادٍ قَاصِدًا الْكُوفَةَ فَلَقِيَ جَيْشَ التَّوَّابِينَ بِعَيْنِ الْوَرْدَةِ - كَمَا ذَكَرْنَا - ثُمَّ سَارَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْجَزِيرَةِ فَوَجَدَ بِهَا قَيْسَ عَيْلَانَ، وَهُوَ مِنْ أَنْصَارِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ كَانَ مَرْوَانُ أَصَابَ مِنْهُمْ قَتْلَى كَثِيرَةً يَوْمَ مَرْجِ رَاهِطٍ، وَهُمْ أَلْبٌ عَلَيْهِ، وَعَلَى ابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ بَعْدِهِ، فَتَعَوَّقَ عَنِ الْمَسِيرِ سَنَةً وَهُوَ مُحَاصِرٌ قَيْسَ عَيْلَانَ بِالْجَزِيرَةِ، ثُمَّ وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَانْحَازَ نَائِبُهَا عَنْهُ إِلَى تَكْرِيتَ، وَكَتَبَ

إِلَى الْمُخْتَارِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَنَدَبَ الْمُخْتَارُ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ اخْتَارَهَا، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي سَأُمِدُّكَ بِالرِّجَالِ بَعْدَ الرِّجَالِ. فَقَالَ لَهُ لَا تُمِدَّنِي إِلَّا بِالدُّعَاءِ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُخْتَارُ إِلَى ظَاهِرِ الْكُوفَةِ فَوَدَّعَهُ وَدَعَا لَهُ، وَقَالَ لَهُ: لِيَكُنْ خَبَرُكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ عِنْدِي، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ فَنَاجِزْهُمْ، وَلَا تُؤَخِّرْ فُرْصَةً.
وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ مَخْرَجِهِمْ مِنَ الْكُوفَةِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ جَهَّزَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مَعَ رَبِيعَةَ بْنِ مُخَارِقٍ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَالْأُخْرَى مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْلَةَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَقَالَ: أَيُّكُمْ سَبَقَ فَهُوَ الْأَمِيرُ، وَإِنْ سَبَقْتُمَا مَعًا فَالْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ أَسَنُّكُمَا، فَسَبَقَ رَبِيعَةُ بْنُ مُخَارِقٍ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَنَسٍ فَالْتَقَيَا فِي طَرَفِ أَرْضِ الْمَوْصِلِ مِمَّا يَلِي الْكُوفَةَ، فَتَوَاقَفَا هُنَالِكَ، وَيَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ مَرِيضٌ مُدْنَفٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُحَرِّضُ قَوْمَهُ عَلَى الْجِهَادِ وَيَدُورُ عَلَى الْأَرْبَاعِ وَهُوَ مَحْمُولٌ مُضْنًى رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ، وَهُوَ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: يَا شُرْطَةَ اللَّهِ، اصْبِرُوا تُؤَجَرُوا، وَقَاتِلُوا عَدُوَّكُمْ تَظْفَرُوا، ثُمَّ نَزَلَ فَوُضِعَ لَهُ سَرِيرُهُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَقَالَ لِقَوْمِهِ: قَاتِلُوا عَنْ أَمِيرِكُمْ إِنْ شِئْتُمْ أَوْ فِرُّوا عَنْهُ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: إِنْ هَلَكْتُ فَالْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ضَمْرَةَ الْعُذْرِيُّ رَأْسُ الْمَيْمَنَةِ، فَإِنْ هَلَكَ فَسِعْرُ بْنُ أَبِي سِعْرٍ رَأْسُ الْمَيْسَرَةِ. وَكَانَ وَرْقَاءُ بْنُ عَازِبٍ الْأَسَدِيُّ عَلَى الْخَيْلِ، وَهُوَ وَهَؤُلَاءِ، الثَّلَاثَةُ أُمَرَاءُ

الْأَرْبَاعِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الصُّبْحِ، فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالشَّامِيُّونَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَاضْطَرَبَتْ كُلٌّ مِنَ الْمَيْمَنَتَيْنِ وَالْمَيْسَرَتَيْنِ، ثُمَّ حَمَلَ وَرْقَاءُ عَلَى الْخَيْلِ فَهَزَمَهَا، وَفَرَّ الشَّامِيُّونَ، وَقُتِلَ أَمِيرُهُمْ رَبِيعَةُ بْنُ مُخَارِقٍ، وَاحْتَازَ جَيْشُ الْمُخْتَارِ مَا فِي عَسْكَرِهِمْ، وَرَجَعَ فُرَّارُهُمْ فَلَقَوُا الْأَمِيرَ الْآخَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَمْلَةَ فَقَالَ: مَا خَبَرُكُمْ ؟ فَأَخْبَرُوهُ فَرَجَعَ بِهِمْ وَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ يَزِيدَ بْنِ أَنَسٍ فَانْتَهَى إِلَيْهِمْ عِشَاءً، فَبَاتَ النَّاسُ مُتَحَاجِزِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَوَاقَفُوا عَلَى تَعْبِئَتِهِمْ وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَضْحَى مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَهَزَمَ جَيْشُ الْمُخْتَارِ جَيْشَ الشَّامِيِّينَ أَيْضًا، وَقَتَلُوا أَمِيرَهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَمْلَةَ، وَاحْتَوَوْا عَلَى مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ، وَأَسَرُوا مِنْهُمْ ثَلَاثَمِائَةِ أَسِيرٍ، فَجَاءُوا بِهِمْ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَنَسٍ وَهُوَ عَلَى آخَرِ رَمَقٍ، فَأَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ.
وَمَاتَ يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ خَلِيفَتُهُ وَرْقَاءُ بْنُ عَامِرٍ وَدَفَنَهُ، وَسَقَطَ فِي أَيْدِي أَصْحَابِهِ وَجَعَلُوا يَتَسَلَّلُونَ رَاجِعِينَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَقَالَ لَهُمْ وَرْقَاءُ: يَا قَوْمُ مَاذَا تَرَوْنَ ؟ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ قَدْ أَقْبَلَ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا مِنَ الشَّامِ، وَلَا أَرَى لَكُمْ بِهِمْ طَاقَةً، وَقَدْ هَلَكَ أَمِيرُنَا وَتَفَرَّقَ عَنَّا طَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَلَوِ انْصَرَفْنَا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِنَا وَنُظْهِرُ أَنَّا إِنَّمَا انْصَرَفْنَا حُزْنًا مِنَّا عَلَى أَمِيرِنَا لَكَانَ خَيْرًا لَنَا مِنْ أَنْ نَلْقَاهُمْ فَيَهْزِمُونَا، وَنَرْجِعَ مَغْلُوبِينَ. فَاتَّفَقَ رَأْيُ الْأُمَرَاءِ عَلَى ذَلِكَ، فَرَجَعُوا إِلَى الْكُوفَةِ.
فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُمْ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَأَنَّهُمْ قَدْ كَرُّوا رَاجِعِينَ، وَبَلَغَهُمْ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ قَدْ هَلَكَ، أَرْجَفَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِالْمُخْتَارِ، وَقَالُوا: قُتِلَ يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ فِي الْمَعْرَكَةِ

وَانْهَزَمَ جَيْشُهُ وَعَمَّا قَلِيلٍ يَقْدَمُ عَلَيْكُمُ ابْنُ زِيَادٍ فَيَسْتَأْصِلُكُمْ وَيَشْتَفُّ خَضْرَاءَكُمْ، ثُمَّ تَمَالَئُوا عَلَى الْخُرُوجِ عَلَى الْمُخْتَارِ وَقَالُوا: هُوَ كَذَّابٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى حَرْبِهِ وَقِتَالِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَقَالُوا: هُوَ كَذَّابٌ قَدْ قَدَّمَ مَوَالِيَنَا عَلَى أَشْرَافِنَا، وَزَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَقَوِّلٌ عَلَيْهِ. وَانْتَظَرُوا بِخُرُوجِهِمْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْكُوفَةِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ فَإِنَّهُ قَدْ عَيَّنَهُ الْمُخْتَارُ أَنْ يَخْرُجَ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ لِلِقَاءِ ابْنِ زِيَادٍ فَلَمَّا خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُ النَّاسِ مِمَّنْ كَانَ فِي جَيْشِ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِمْ فِي دَارِ شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُخْتَارِ، ثُمَّ وَثَبُوا فَرَكِبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ مَعَ أَمِيرِهَا فِي نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْكُوفَةِ وَقَصَدُوا قَصْرَ الْإِمَارَةِ، وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ عَمْرَو بْنَ تَوْبَةَ بَرِيدًا إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ سَرِيعًا، وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ إِلَى أُولَئِكَ يَقُولُ لَهُمْ: مَاذَا تَنْقِمُونَ ؟ فَإِنِّي أُجِيبُكُمْ إِلَى جَمِيعِ مَا تَطْلُبُونَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُثَبِّطَهُمْ عَنْ مُنَاهَضَتِهِ حَتَّى يَقْدَمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ وَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ لَا تُصَدِّقُونِي فِي أَمْرِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَابْعَثُوا مِنْ جِهَتِكُمْ وَأَبْعَثُ مِنْ جِهَتِي مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ. وَلَمْ يَزَلْ يُطَاوِلُهُمْ حَتَّى قَدِمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَانْقَسَمَ هُوَ وَالنَّاسُ فِرْقَتَيْنِ فَتَكَفَّلَ الْمُخْتَارُ بِأَهْلِ الْيَمَنِ، وَتَكَفُّلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ

بِمُضَرَ، وَعَلَيْهِمْ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَكَانَ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ الْمُخْتَارِ، حَتَّى لَا يَتَوَلَّى ابْنُ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيُّ قِتَالَ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَيَحْنُوَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ شَدِيدًا عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ اقْتَتَلَ النَّاسُ فِي نَوَاحِي الْكُوفَةِ قِتَالًا عَظِيمًا، وَكَثُرَتِ الْقَتْلَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَجَرَتْ فُصُولٌ وَأَحْوَالٌ حَرْبِيَّةٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَشْرَافِ؛ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، وَسَبْعُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ، وَقُتِلَ مِنْ مُضَرَ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَيُعَرَفُ هَذَا الْيَوْمُ بِجَبَّانَةِ السَّبِيعِ. وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ ثُمَّ كَانَتِ النُّصْرَةُ لِلْمُخْتَارِ عَلَيْهِمْ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ أَسِيرٍ، فَعَرَضُوا عَلَى الْمُخْتَارِ فَقَالَ: انْظُرُوا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَهِدَ مَقْتَلَ الْحُسَيْنِ فَاقْتُلُوهُ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ مِائَتَانِ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا، وَقَتَلَ أَصْحَابُهُ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُؤْذِيهِمْ وَيُسِيءُ إِلَيْهِمْ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُخْتَارِ، ثُمَّ أَطْلَقَ الْبَاقِينَ، وَهَرَبَ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ الزُّبِيدِيُّ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ قَتْلَ الْحُسَيْنِ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ مِنَ الْأَرْضِ.

ذِكْرُ مَقْتَلِ شَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ الَّتِي قَتَلَتْ حُسَيْنًا
وَهَرَبَ أَشْرَافُ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَكَانَ مِمَّنْ هَرَبَ

لِقَصْدِهِ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - فَبَعَثَ الْمُخْتَارُ فِي أَثَرِهِ غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: زَرْبِيٌّ. فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ شَمِرٌ لِأَصْحَابِهِ: تَقَدَّمُوا وَذَرُونِي وَرَاءَكُمْ بِصِفَةِ أَنَّكُمْ قَدْ هَرَبْتُمْ وَتَرَكْتُمُونِي حَتَّى يَطْمَعَ فِيَّ هَذَا الْعِلْجُ. فَسَاقُوا وَتَأَخَّرَ شَمِرٌ فَأَدْرَكَهُ زَرْبِيٌّ فَعَطْفَ عَلَيْهِ شَمِرٌ، فَدَقَّ ظَهْرَهُ فَقَتَلَهُ، وَسَارَ شَمِرٌ وَتَرْكَهُ، وَكَتَبَ كِتَابًا إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ يُنْذِرُهُ بِقُدُومِهِ عَلَيْهِ، وَوِفَادَتِهِ إِلَيْهِ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ فَرَّ مِنْ هَذِهِ الْوَقْعَةِ يَهْرُبُ إِلَى مُصْعَبٍ بِالْبَصْرَةِ، وَبَعَثَ شَمِرٌ الْكِتَابَ مَعَ عِلْجٍ مِنْ عُلُوجِ قَرْيَةٍ قَدْ نَزَلَ عِنْدَهَا يُقَالُ لَهَا الْكَلْتَانِيَّةُ عِنْدَ نَهْرٍ إِلَى جَانِبِ تَلٍّ هُنَاكَ، فَذَهَبَ ذَلِكَ الْعِلْجُ فَلَقِيَهُ عِلْجٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ: إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ قَالَ: إِلَى مُصْعَبٍ. قَالَ مِمَّنْ ؟ قَالَ مِنْ شَمِرٍ. فَقَالَ: اذْهَبْ مَعِي إِلَى سَيِّدِي. وَإِذَا سَيِّدُهُ أَبُو عَمْرَةَ أَمِيرُ حَرَسِ الْمُخْتَارِ، وَهُوَ قَدْ رَكِبَ فِي طَلَبِ شَمِرٍ، فَدَلَّهُ الْعِلْجُ عَلَى مَكَانِهِ فَقَصَدَهُ أَبُو عَمْرَةَ، وَقَدْ أَشَارَ أَصْحَابُ شَمِرٍ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا كُلُّهُ فَرَقٌ مِنَ الْكَذَّابِ، وَاللَّهِ لَا أَرْتَحِلُ مِنْ هَاهُنَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ حَتَّى أَمْلَأَ قُلُوبَهُمْ رُعْبًا، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ كَابَسَهُمْ أَبُو عَمْرَةَ فِي الْخَيْلِ فَأَعْجَلَهُمْ أَنْ يَرْكَبُوا أَوْ يَلْبَسُوا أَسْلِحَتَهُمْ، وَثَارَ إِلَيْهِمْ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ فَطَاعَنَهُمْ بِرُمْحِهِ وَهُوَ عُرْيَانُ، ثُمَّ دَخَلَ خَيْمَتَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا سَيْفًا وَهُوَ يَقُولُ:

نَبَّهْتُمُ لَيْثَ عَرِينٍ بَاسِلَا جَهْمًا مُحَيَّاهُ يَدُقُّ الْكَاهِلَا لَمْ يُرَ يَوْمًا عَنْ عَدُوٍّ نَاكِلَا
إِلَّا كَذَا مُقَاتِلًا أَوْ قَاتِلَا يُبْرِحْهُمُ ضَرْبًا وَيُرْوِي الْعَامِلَا
ثُمَّ مَا زَالَ يُنَاضِلُ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُهُ، وَهُمْ مُنْهَزِمُونَ صَوْتَ التَّكْبِيرِ وَقَوْلَ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ: اللَّهُ أَكْبَرُ قُتِلَ الْخَبِيثُ. عَرَفُوا أَنَّهُ قَدْ قُتِلَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: وَلَمَّا خَرَجَ الْمُخْتَارُ مِنْ جَبَّانَةِ السَّبِيعِ، وَأَقْبَلَ إِلَى الْقَصْرِ - يَعْنِي مُنْصَرَفَهُ مِنَ الْقِتَالِ - نَادَاهُ سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ، وَكَانَ فِي الْأَسْرَى:
امْنُنْ عَلَيَّ الْيَوْمَ يَا خَيْرَ مَعَدْ وَخَيْرَ مَنْ حَلَّ بِشِحْرٍ وَالْجَنَدْ
وَخَيْرَ مَنْ لَبَّى وَصَامَ وَسَجَدْ
قَالَ: فَبَعَثَهُ إِلَى السِّجْنِ، فَاعْتَقَلَهُ لَيْلَةً، ثُمَّ أَطْلَقُهُ مِنَ الْغَدِ، فَأَقْبَلَ إِلَى الْمُخْتَارِ، وَهُوَ يَقُولُ:

أَلَا أَخْبِرْ أَبَا إِسْحَاقَ أَنَّا نَزَوْنَا نَزْوَةً كَانَتْ عَلَيْنَا
خَرَجْنَا لَا نَرَى الضُّعَفَاءَ شَيْئًا وَكَانَ خُرُوجُنَا بَطَرًا وَحَيْنًا
نَرَاهُمْ فِي مَصَافِهِمُ قَلِيلًا وَهُمْ مِثْلُ الدَّبَا حِينَ الْتَقَيْنَا
بَرَزْنَا إِذْ رَأَيْنَاهُمْ فَلَمَّا رَأَيْنَا الْقَوْمَ قَدْ بَرَزُوا إِلَيْنَا
رَأَيْنَا مِنْهُمُ ضَرْبًا وَطَحْنًا وَطَعْنًا صَائِبًا حَتَّى انْثَنَيْنَا
نُصِرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ كُلَّ يَوْمٍ بِكُلِّ كَتِيبَةٍ تَنْعَى حُسَيْنَا
كَنَصْرِ مُحَمَّدٍ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَيَوْمَ الشِّعْبِ إِذْ لَاقَى حُنَيْنَا
فَأَسْجِحْ إِذْ مَلَكْتَ فَلَوْ مَلَكْنَا لَجُرْنَا فِي الْحُكُومَةِ وَاعْتَدَيْنَا
تَقَبَّلْ تَوْبَةً مِنِّي فَإِنِّي سَأَشْكُرُ إِذْ جَعَلْتَ النَّقْدَ دَيْنَا
وَجَعَلَ سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ يَحْلِفُ أَنَّهُ رَأَى الْمَلَائِكَةَ تَقَاتِلُ عَلَى الْخُيُولِ الْبُلْقِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَأْسِرْهُ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ، فَأَمَرَهُ الْمُخْتَارُ أَنْ يَصْعَدَ الْمِنْبَرَ فَيُخْبِرُ النَّاسَ بِذَلِكَ. فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَأَخْبَرَ النَّاسَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا نَزَلَ خَلَا بِهِ الْمُخْتَارُ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّكَ لَمْ تَرَ الْمَلَائِكَةَ، وَإِنَّمَا أَرَدْتَ

بِقَوْلِكَ هَذَا أَنِّي لَا أَقْتُلُكَ، وَلَسْتُ أَقْتُلُكَ فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ لَا تُفْسِدْ عَلَيَّ أَصْحَابِي. فَذَهَبَ سُرَاقَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَجَعَلَ يَقُولُ:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا إِسْحَاقَ أَنِّي رَأَيْتُ الْبُلْقَ دُهْمًا مُصْمِتَاتِ
كَفَرْتُ بِوَحْيِكُمْ وَجَعَلْتُ نَذْرًا عَلَيَّ قِتَالَكُمْ حَتَّى الْمَمَاتِ
رَأَتْ عَيْنَايَ مَا لَمْ تُبْصِرَاهُ كِلَانَا عَالِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ
إِذَا قَالُوا أَقُولُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ وَإِنْ خَرَجُوا لَبِسْتُ لَهُمْ أَدَاتِي
قَالُوا: ثُمَّ خَطَبَ الْمُخْتَارُ أَصْحَابَهُ فَحَرَّضَهُمْ فِي خُطْبَتِهِ تِلْكَ عَلَى تَتَبُّعِ مَنْ قَتَلَ الْحُسَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ الْمُقِيمِينَ بِهَا، فَقَالَ: مَا دِينُنَا تَرْكُ قَوْمٍ قَتَلُوا حُسَيْنًا يَمْشُونَ فِي الدُّنْيَا أَحْيَاءً آمِنِينَ، بِئْسَ نَاصِرُ آلِ مُحَمَّدٍ، إِنِّي إِذًا كَذَّابٌ كَمَا سَمَّيْتُمُونِي أَنْتُمْ، فَإِنِّي بِاللَّهِ أَسْتَعِينُ عَلَيْهِمْ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي سَيْفًا أَضْرِبُهُمْ، وَرُمْحًا أَطْعَنُهُمْ، وَطَالِبَ وَتْرِهِمْ، وَالْقَائِمَ بِحَقِّهِمْ، وَإِنَّهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ قَتَلَهُمْ، وَأَنْ يُذِلَّ مَنْ جَهِلَ حَقَّهُمْ، فَسَمُّوهُمْ ثُمَّ اتْبَعُوهُمْ حَتَّى تَقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ لِيَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ حَتَّى أُطَهِّرَ الْأَرْضَ

مِنْهُمْ، وَأَنْفِي مَنْ فِي الْمِصْرِ مِنْهُمْ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَتَبَّعُ مَنْ فِي الْكُوفَةِ مِنْهُمْ وَكَانُوا يَأْتُونَ بِهِمْ حَتَّى يُوقَفُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَأْمُرُ بِقَتْلِهِمْ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْقِتْلَاتِ مِمَّا يُنَاسِبُ مَا فَعَلُوا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّقَهُ بِالنَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ أَطْرَافَهُ وَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْمَى بِالنِّبَالِ حَتَّى يَمُوتَ، فَأَتَوْهُ بِمَالِكِ بْنِ بَشِيرٍ، فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ: أَنْتَ الَّذِي نَزَعْتَ بُرْنُسَ الْحُسَيْنِ عَنْهُ ؟ فَقَالَ: خَرَجْنَا وَنَحْنُ كَارِهُونَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا. فَقَالَ: اقْطَعُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ تَرَكُوهُ يَضْطَرِبُ حَتَّى مَاتَ، وَقَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَسَيْدٍ الْجُهَنِيَّ وَغَيْرَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ.

مَقْتَلُ خَوْلِيِّ بْنِ يَزِيدَ الْأَصْبَحِيِّ الَّذِي احْتَزَّ رَأْسَ الْحُسَيْنِ
بَعْثَ إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ أَبَا عَمْرَةَ صَاحِبَ حَرَسِهِ، فَكَبَسَ بَيْتَهُ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِمُ امْرَأَتُهُ، فَسَأَلُوهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ. وَأَشَارَتْ بِيَدِهَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مُخْتَفٍ فِيهِ، وَكَانَتْ تُبْغِضُهُ مِنْ لَيْلَةِ قَدِمَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ مَعَهُ إِلَيْهَا، وَكَانَتْ تَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْمُهَا الْعَيُوفُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ نَهَارِ بْنِ عَقْرَبٍ الْحَضْرَمِيِّ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَوَجَدُوهُ قَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ قَوْصَرَّةً، فَحَمَلُوهُ إِلَى الْمُخْتَارِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِ وَأَنْ يُحَرَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَبَعْثَ الْمُخْتَارُ إِلَى حَكِيمِ بْنِ فُضَيْلٍ السِّنْبِسِيِّ - وَكَانَ قَدْ سَلَبَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ - فَأُخِذَ، فَذَهَبَ أَهْلُهُ إِلَى عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فَرَكِبَ لِيَشْفَعَ فِيهِ عِنْدَ الْمُخْتَارِ، فَخَشِيَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخَذُوهُ أَنْ يَسْبِقَهُمْ عَدِيٌّ إِلَى الْمُخْتَارِ فَيُشَفِّعَهُ فِيهِ، فَقَتَلُوا حَكِيمًا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمُخْتَارِ، فَدَخَلَ عَدِيٌّ فَشَفَعَ فِيهِ فَشَفَّعَهُ فِيهِ، فَلَمَّا رَجَعُوا وَقَدْ قَتَلُوهُ شَتَمَهُمْ عَدِيٌّ، وَقَامَ مُتَغَضِّبًا عَلَيْهِمْ، وَقَدْ تَقَلَّدَ مِنَّةَ الْمُخْتَارِ، وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ إِلَى زَيْدِ بْنِ رُقَادٍ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، فَلَمَّا أَحَاطَ الطَّلَبُ بِدَارِهِ خَرَجَ فَقَاتَلَهُمْ فَرَمَوْهُ بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ حَتَّى سَقَطَ، ثُمَّ حَرَّقُوهُ وَبِهِ رَمَقُ الْحَيَاةِ، وَطَلَبَ الْمُخْتَارُ سِنَانَ بْنَ أَنَسٍ، الَّذِي كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ قَتَلَ الْحُسَيْنَ، فَوَجَدُوهُ قَدْ هَرَبَ إِلَى الْبَصْرَةِ أَوِ الْجَزِيرَةِ فَهُدِمَتْ دَارُهُ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مِمَّنْ هَرَبَ إِلَى مُصْعَبٍ فَأَمَرَ الْمُخْتَارُ بِهَدْمِ دَارِهِ، وَأَنْ يُبْنَى بِهَا دَارُ حَجَرِ بْنِ عَدِيٍّ الَّتِي كَانَ زِيَادٌ هَدَمَهَا.

مَقْتَلُ عُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَمِيرِ الْجَيْشِ الَّذِينَ قَتَلُوا الْحُسَيْنَ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، جَالِسًا ذَاتَ يَوْمٍ ;

إِذْ جَاءَ غُلَامٌ لَهُ، وَدَمُهُ يَسِيلُ عَلَى عَقِبَيْهِ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَنْ فَعَلَ بِكَ هَذَا ؟ فَقَالَ: ابْنُكَ عُمَرُ. فَقَالَ سَعْدُ: اللَّهُمَّ اقْتُلْهُ وَأَسِلْ دَمَهُ. وَكَانَ سَعْدٌ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ، فَلَمَّا ظَهَرَ الْمُخْتَارُ عَلَى الْكُوفَةِ اسْتَجَارَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَكَانَ صَدِيقًا لِلْمُخْتَارِ مِنْ قَرَابَتِهِ مِنْ عَلِيٍّ، فَأَتَى الْمُخْتَارَ فَأَخْذَ مِنْهُ لِعُمَرَ بْنِ سَعْدٍ أَمَانًا ; مَضْمُونُهُ أَنَّهُ آمِنٌ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ مَا أَطَاعَ وَلَزِمَ رَحْلَهُ وَمِصْرَهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ حَدَثًا، وَأَرَادَ الْمُخْتَارُ مَا لَمْ يَأْتِ الْخَلَاءَ فَيَبُولَ أَوْ يَغُوطَ، وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ الْمُخْتَارَ يُرِيدُ قَتْلَهُ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ لَيْلًا يُرِيدُ السَّفَرَ نَحْوَ مُصْعَبٍ أَوْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَنَمَى لِلْمُخْتَارِ بَعْضُ مَوَالِيهِ ذَلِكَ. فَقَالَ الْمُخْتَارُ: وَأَيُّ حَدَثٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا ؟ وَقِيلَ: إِنَّ مَوْلَاهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ: تَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِكَ وَرَحْلِكَ ؟ ارْجِعْ. فَرَجَعَ. وَلَمَّا أَصْبَحَ بَعْثَ إِلَى الْمُخْتَارِ يَقُولُ لَهُ: هَلْ أَنْتَ مُقِيمٌ عَلَى أَمَانِكَ ؟ وَقِيلَ: إِنَّهُ أَتَى الْمُخْتَارَ يَتَعَرَّفُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ: اجْلِسْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْدَةَ إِلَى الْمُخْتَارِ يَقُولُ لَهُ: هَلْ أَنْتَ مُقِيمٌ عَلَى أَمَانِكَ لَهُ ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ: اجْلِسْ. فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ الْمُخْتَارُ: لِصَاحِبِ حَرَسِهِ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِرَأْسِهِ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ، وَأَتَاهُ بِرَأْسِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْمُخْتَارَ قَالَ لَيْلَةً: لَأَقْتُلَنَّ غَدًا رَجُلًا عَظِيمَ الْقَدَمَيْنِ، غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفَ الْحَاجِبَيْنِ، يُسَرُّ بِقَتْلِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، وَكَانَ الْهَيْثَمُ بْنُ الْأَسْوَدِ حَاضِرًا فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ أَرَادَ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُهُ

الْعُرْيَانُ فَأَنْذَرَهُ، فَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا بَعْدَمَا أَعْطَانِي مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ ؟ وَكَانَ الْمُخْتَارُ حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ أَحْسَنَ السِّيرَةَ إِلَى أَهْلِهَا أَوَّلًا، وَكَتَبَ لِعُمَرَ بْنِ سَعْدٍ كِتَابَ أَمَانٍ إِلَّا أَنْ يُحْدِثَ حَدَثًا. قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ يَقُولُ: إِنَّمَا أَرَادَ الْمُخْتَارُ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ الْكَنِيفَ فَيُحَدِثَ فِيهِ. ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ قَلِقَ أَيْضًا، ثُمَّ جَعَلَ يَتَنَقَّلُ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى مَحَلَّةٍ، ثُمَّ صَارَ أَمْرُهُ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى دَارِهِ، وَقَدْ بَلَغَ الْمُخْتَارَ انْتِقَالُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، فَقَالَ: كَلَّا وَاللَّهِ، إِنَّ فِي عُنُقِهِ سِلْسِلَةً تَرُدُّهُ لَوْ جَهِدَ أَنْ يَنْطَلِقَ مَا اسْتَطَاعَ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَبَعْثَ إِلَيْهِ أَبَا عَمْرَةَ، فَدَخْلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَجِبِ الْأَمِيرَ، فَقَامَ عُمَرُ، فَعَثَرَ فِي جُبَّتِهِ، فَضَرَبَهُ أَبُو عَمْرَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ، وَجَاءَ بِرَأْسِهِ فِي أَسْفَلِ قَبَائِهِ حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُخْتَارِ، فَقَالَ الْمُخْتَارُ لِابْنِهِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ - وَكَانَ جَالِسًا عِنْدَ الْمُخْتَارِ -: أَتَعْرِفُ هَذَا الرَّأْسَ ؟ فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ: نَعَمْ، وَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُ، فَقَالَ: صَدَقْتَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَوُضِعَ رَأْسُهُ مَعَ رَأْسِ أَبِيهِ، ثُمَّ قَالَ الْمُخْتَارُ هَذَا بِالْحُسَيْنِ، وَهَذَا بِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَكْبَرِ، وَلَا سَوَاءَ، وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قُرَيْشٍ مَا وَفُّوا أُنْمُلَةً مِنْ أَنَامِلِهِ. ثُمَّ بَعَثَ الْمُخْتَارُ بِرَأْسَيْهِمَا إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا فِي ذَلِكَ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِلْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ مِنَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْمَهْدِيُّ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي نِقْمَةً عَلَى أَعْدَائِكُمْ، فَهُمْ بَيْنَ قَتِيلٍ وَأَسِيرٍ وَطَرِيدٍ وَشَرِيدٍ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَتَلَ قَاتِلَكُمْ وَنَصَرَ مُؤَازِرَكُمْ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِرَأْسِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِهِ، وَقَدْ قَتَلْنَا مَنْ شَرَكَ فِي دَمِ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ كُلَّ مَنْ قَدَرْنَا عَلَيْهِ، وَلَنْ يُعْجِزَ اللَّهَ مَنْ بَقِيَ، وَلَسْتُ بِمُنْحَجِمٍ عَنْهُمْ حَتَّى لَا يَبْلُغَنِي أَنَّ عَلَى أَدِيمِ الْأَرْضِ مِنْهُمْ إِرْمِيًّا فَاكْتُبْ إِلَيَّ أَيُّهَا الْمَهْدِيُّ بِرَأْيِكَ أَتَّبِعُهُ وَأَكُنْ عَلَيْهِ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْمَهْدِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
وَلَمْ يَذْكُرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مُحَمَّدًا ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ رَدَّ جَوَابَهُ، مَعَ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ قَدْ تَقَصَّى هَذَا الْفَصْلَ وَأَطَالَ شَرْحَهُ، وَيَظْهَرُ مِنْ غُبُونِ كَلَامِهِ وَنِظَامِهِ قُوَّةُ وَجْدِهِ بِهِ وَغَرَامِهِ، وَلِهَذَا تَوَسَّعَ فِي إِيرَادِهِ بِرِوَايَاتِ أَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَى، وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِيمَا يَرْوِيهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي بَابِ التَّشَيُّعِ، وَهَذَا الْمَقَامُ لِلشِّيعَةِ فِيهِ غَرَامٌ وَأَيُّ غَرَامٍ، إِذْ فِيهِ الْأَخْذُ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِهِ مِنْ قَتَلَتِهِمْ وَالِانْتِقَامُ مِنْهُمْ. وَلَا شَكَّ أَنَّ قَتْلَ قَتَلَتِهِ كَانَ مُتَحَتِّمًا، وَالْمُبَادِرَةُ إِلَيْهِ كَانَ مَغْنَمًا، وَلَكِنْ إِنَّمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدِ الْمُخْتَارِ الْكَذَّابِ الَّذِي صَارَ بِدَعْوَاهُ إِتْيَانَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ كَافِرًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّ اللَّهَ لِيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مَا يَكْتُبُهُ الْكَاتِبُونَ: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ

وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَمَا مِنْ يَدٍ إِلَّا يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا وَلَا ظَالِمٍ إِلَّا سَيُبْلَى بِظَالِمِ
وَسَيَأْتِي فِي تَرْجَمَةِ الْمُخْتَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ وَافْتِرَائِهِ، وَادِّعَائِهِ نُصْرَةَ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُتَسَتِّرٌ بِذَلِكَ لِيَجْمَعَ عَلَيْهِ رَعَاعًا مِنَ الشِّيعَةِ الَّذِينَ بِالْكُوفَةِ ; لِيُقِيمَ لَهُمْ دَوْلَةً وَيَصُولَ بِهِمْ وَيَجُولَ عَلَى مُخَالِفِيهِ صَوْلَةً.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّطَ عَلَيْهِ مَنِ انْتَقَمَ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْكَذَّابُ الَّذِي قَالَ فِيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ فَهَذَا هُوَ الْكَذَّابُ، وَهُوَ يُظْهِرُ التَّشَيُّعَ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَهُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ وَقَدْ وُلِّيَ الْكُوفَةَ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ كَمَا سَيَأْتِي، وَكَانَ الْحَجَّاجُ عَكْسَ هَذَا؛ كَانَ نَاصِبِيًّا جَلْدًا ظَالِمًا غَاشِمًا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ فِي طَبَقَةِ هَذَا، يُتَّهَمُ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَدَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَأَنَّهُ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ الْعَلِيِّ الْعَلَّامِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ الْمُخْتَارُ الْمُثَنَّى بْنَ مُخَرِّبَةَ الْعَبْدِيَّ إِلَى الْبَصْرَةِ يَدْعُو إِلَيْهِ مَنِ اسْتَطَاعَ مَنْ أَهْلِهَا، فَدَخَلَهَا وَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ فِيهِ قَوْمُهُ فَجَعَلَ يَدْعُو إِلَى الْمُخْتَارِ ثُمَّ أَتَى مَدِينَةَ الرِّزْقِ، فَعَسْكَرَ عِنْدَهَا فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْقُبَاعُ - وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ قَبْلَ أَنْ يُعْزَلَ

بِمُصْعَبٍ - جَيْشًا مَعَ عَبَّادِ بْنِ الْحُصَيْنِ أَمِيرِ الشُّرْطَةِ، وَقَيْسِ بْنِ الْهَيْثَمِ فَقَاتَلُوهُ وَأَخَذُوا مِنْهُ الْمَدِينَةَ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَكَانَ قَدْ قَامَ بِنُصْرَتِهِمْ بَنُو عَبْدِ الْقَيْسِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْجَيْشَ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ فَأَرْسَلَ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ، وَ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيَّ لِيُصْلِحَا بَيْنَ النَّاسِ وَسَاعَدَهُمَا مَالِكُ بْنُ مِسْمَعٍ، فَانْحَجَزَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَرَجَعَ إِلَى الْمُخْتَارِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مَغْلُولًا مَغْلُوبًا مَسْلُوبًا، وَأَخْبَرَ الْمُخْتَارَ بِمَا وَقَعَ مِنَ الصُّلْحِ عَلَى يَدَيِ الْأَحْنَفِ وَغَيْرِهِ مِنْ أُولَئِكَ الْأُمَرَاءِ، وَطَمِعَ الْمُخْتَارُ فِيهِمْ، وَكَاتَبَهُمْ فِي أَنْ يَدْخُلُوا مَعَهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ.
وَكَانَ كِتَابُهُ إِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ: مِنَ الْمُخْتَارِ إِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ وَمَنْ قِبَلَهُ، فَسِلْمٌ أَنْتُمْ، أَمَّا بَعْدُ: فَوَيْلُ أُمِّ رَبِيعَةَ مِنْ مُضَرَ، وَإِنَّ الْأَحْنَفَ يُورِدُ قَوْمَهُ سَقَرَ، حَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ لَهُمُ الصَّدَرَ، وَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مَا قَدْ خُطَّ فِي الْقَدَرِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُسَمُّونِي كَذَّابًا، وَقَدْ كُذِّبَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي، وَلَسْتُ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ حِبَّانِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ الْبَصْرَةَ فَقَعَدْتُ إِلَى حَلْقَةٍ فِيهَا الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. فَقَالَ: أَنْتُمْ مَوَالٍ لَنَا. قُلْتُ: وَكَيْفَ ؟ قَالَ: قَدْ

أَنْقَذْنَاكُمْ مِنْ أَيْدِي عَبِيدِكُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ. قُلْتُ: تَدْرِي مَا قَالَ شَيْخٌ مِنْ هَمْدَانَ فِينَا وَفِيكُمْ ؟ فَقَالَ الْأَحْنَفُ: وَمَا قَالَ ؟ قُلْتُ: قَالَ:
أَفَخَرْتُمْ أَنْ قَتَلْتُمْ أَعَبُدًا وَهَزَمْتُمْ مَرَّةً آلَ عَزَلْ
فَإِذَا فَاخَرْتُمُونَا فَاذْكُرُوا مَا فَعَلْنَا بِكُمْ يَوْمَ الْجَمَلْ
بَيْنَ شَيْخٍ خَاضِبٍ عُثْنُونَهُ وَفَتًى أَبْيَضَ وَضَّاحًا رِفَلْ
جَاءَنَا يَهْدِجُ فِي سَابِغَةٍ فَذَبَحْنَاهُ ضُحًى ذَبْحَ الْحَمَلْ
وَعَفَوْنَا فَنَسِيتُمْ عَفْوَنَا وَكَفَرْتُمْ نِعْمَةَ اللَّهِ الْأَجَلْ
وَقَتَلْتُمْ بِحُسَيْنٍ مِنْهُمُ بَدَلًا مِنْ قَوْمِكُمْ شَرَّ بَدَلْ
قَالَ: فَغَضِبَ الْأَحْنَفُ، وَقَالَ: يَا غُلَامُ، هَاتِ الصَّحِيفَةَ، فَأُتِيَ بِصَحِيفَةٍ فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ إِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَمَّا بَعْدُ: فَوَيْلُ أُمِّ رَبِيعَةَ مِنْ مُضَرَ، فَإِنَّ الْأَحْنَفَ يُورِدُ قَوْمَهُ سَقَرَ، حَيْثُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الصَّدَرِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونِي، فَإِنْ كُذِّبْتُ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي، وَلَسْتُ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ الْأَحْنَفُ: هَذَا مِنَّا أَوْ مِنْكُمْ.

فَصْلٌ ( مُصَانَعَةُ الْمُخْتَارِ ابْنَ الزُّبَيْرِ يُرِيدُ خِدَاعَهُ )
وَلَمَّا عَلِمَ الْمُخْتَارُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَا يَنَامُ عَنْهُمْ، وَأَنَّ جَيْشَ الشَّامِ مِنْ قِبَلِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَقْصِدُونَهُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ لَا يُرَامُ، شَرَعَ يُصَانِعُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، يُرِيدُ خِدَاعَهُ وَالْمَكْرَ بِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنِّي كُنْتُ بَايَعْتُكَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ لَكَ، فَلَمَّا رَأَيْتُكَ قَدْ أَعْرَضْتَ عَنِّي تَبَاعَدْتُ عَنْكَ، فَإِنْ كُنْتَ عَلَى مَا أَعْهَدُ مِنْكَ فَأَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَكَ. وَالْمُخْتَارُ يُخْفِي هَذَا كُلَّ الْإِخْفَاءِ عَنِ الشِّيعَةِ، فَإِذَا ذَكَرَ لَهُ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَصَادِقٌ أَمْ كَاذِبٌ ؟ فَدَعَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، فَقَالَ لَهُ: تَجَهَّزْ إِلَى الْكُوفَةِ فَقَدْ وَلَّيْتُكَهَا. فَقَالَ: وَكَيْفَ وَبِهَا الْمُخْتَارُ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَامِعٌ لَنَا مُطِيعٌ، وَأَعْطَاهُ قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا يَتَجَهَّزُ بِهَا، فَسَارَ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ لَقِيَهُ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ مِنْ جِهَةِ الْمُخْتَارِ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ مُلْبِسَةٍ، وَمَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ فَقَالَ لَهُ: أَعْطِهِ الْمَالَ، فَإِنْ هُوَ انْصَرَفَ وَإِلَّا فَأَرِهِ الرِّجَالَ فَقَاتِلْهُ حَتَّى يَنْصَرِفَ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجِدَّ قَبَضَ الْمَالَ وَسَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَاجْتَمَعَ هُوَ وَابْنُ مُطِيعٍ بِهَا عِنْدَ أَمِيرِهَا الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبَى رَبِيعَةَ وَذَلِكَ قَبْلَ وُثُوبِ الْمُثَنَّى بْنِ مُخَرِّبَةَ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَقَبْلَ وُصُولِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا.
وَبَعْثَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ابْنَ عَمِّهِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَكَمِ فِي جَيْشٍ إِلَى وَادِي الْقُرَى ; لِيَأْخُذُوا الْمَدِينَةَ مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَكَتَبَ الْمُخْتَارُ إِلَى

ابْنِ الزُّبَيْرِ: إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ أَمُدَّكَ بِمَدَدٍ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْمُخْتَارُ خَدِيعَتَهُ وَمُكَايَدَتَهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِنْ كُنْتَ عَلَى طَاعَتِي فَلَسْتُ أَكْرَهُ ذَلِكَ، فَابْعَثْ بِجُنْدٍ إِلَى وَادِي الْقُرَى لِيَكُونُوا مَدَدًا لَنَا عَلَى قِتَالِ الشَّامِيِّينَ فَجَهَّزَ الْمُخْتَارُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ عَلَيْهِمْ شُرَحْبِيلُ بْنُ وَرْسٍ الْهَمْدَانِيُّ لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا سَبْعُمِائَةٍ، وَقَالَ لَهُ: سِرْ حَتَّى تَدْخُلَ الْمَدِينَةَ فَإِنْ دَخَلَهَا فَاكْتُبْ إِلَيَّ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَخْذَ الْمَدِينَةِ مِنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَكَّةَ لِيُحَاصِرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِهَا، وَخَشِيَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَارُ بَعَثَ ذَلِكَ الْجَيْشَ مَكْرًا فَبَعَثَ الْعَبَّاسَ بْنَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ فِي أَلْفَيْنِ وَأَمْرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْأَعْرَابِ وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ فِي طَاعَتِي وَإِلَّا فَكَايِدُوهُمْ حَتَّى نُهْلِكَهُمْ.
فَأَقْبَلَ الْعَبَّاسُ بْنُ سَهْلٍ حَتَّى لَقِيَ ابْنَ وَرْسٍ بِالرَّقِيمِ وَقَدْ تَعَبَّى ابْنُ وَرْسٍ فِي جَيْشِهِ، فَاجْتَمَعَا عَلَى مَاءٍ هُنَالِكَ فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: أَلَسْتُمْ فِي طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ؟ فَقَالَ بَلَى. قَالَ فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ نَذْهَبَ إِلَى وَادِي الْقُرَى فَنُقَاتِلُ مَنْ بِهِ مِنَ الشَّامِيِّينَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ وَرْسٍ: فَإِنِّي لَمْ أُومَرْ بِطَاعَتِكَ، وَإِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَدْخُلَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ أَكْتُبَ إِلَى صَاحِبِي فَيَأْمُرَنِي بِأَمْرِهِ. فَفَهِمَ عَبَّاسٌ مَغْزَاهُ، وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُ أَنَّهُ فَطِنَ لِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: رَأْيُكَ أَفْضَلُ، فَاعْمَلْ مَا بَدَا لَكَ، ثُمَّ نَهَضَ الْعَبَّاسُ مِنْ عِنْدِهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْجُزُرَ وَالْغَنَمَ وَالدَّقِيقَ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُمْ حَاجَةٌ أَكِيدَةٌ إِلَى

ذَلِكَ، وَجُوعٌ كَثِيرٌ فَجَعَلُوا يَذْبَحُونَ وَيَطْبُخُونَ وَيَخْتَبِزُونَ وَيَأْكُلُونَ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ بَيَّتَهُمْ عَبَّاسُ بْنُ سَهْلٍ فَقَتَلَ أَمِيرَهُمْ وَطَائِفَةً مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ وَأَسَرَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ وَرَجَعَ الْقَلِيلُ مِنْهُمْ إِلَى الْمُخْتَارِ وَإِلَى بِلَادِهِمْ خَائِبِينَ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي يُوسُفُ أَنَّ عَبَّاسَ بْنَ سَهْلٍ انْتَهَى إِلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا ابْنُ سَهْلٍ فَارِسٌ غَيْرُ وَكَلْ أَرْوَعُ مِقْدَامٌ إِذَا الْكَبْشُ نَكَلْ وَأَعْتَلِي رَأْسَ الطِّرِمَّاحِ الْبَطَلْ
بِالسَّيْفِ يَوْمَ الرَّوْعِ حَتَّى يُنْخَزَلْ
فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُمُ الْمُخْتَارَ قَامَ فِي أَصْحَابِهِ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ الْفُجَّارَ الْأَشْرَارَ قَتَلُوا الْأَبْرَارَ الْأَخْيَارَ، أَلَا إِنَّهُ كَانَ أَمْرًا مَأْتِيًّا وَقَضَاءً مَقْضِيًّا، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ صَالِحِ بْنِ مَسْعُودٍ الْخَثْعَمِيِّ كِتَابًا يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَيْشًا لِنُصْرَتِهِ فَغَدَرَ بِهِمْ جَيْشُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ أَبْعَثَ جَيْشًا آخَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَبْعَثُ مِنْ قِبَلِكَ رُسُلًا إِلَيْهِمْ فَافْعَلْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَحَبَّ الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَيَّ مَا أُطِيعُ اللَّهَ فِيهِ، فَأَطِعِ اللَّهَ فِيمَا أَسْرَرْتَ وَأَعْلَنْتَ، وَاعْلَمْ أَنِّي لَوْ أَرَدْتُ الْقِتَالَ لَوَجَدْتُ النَّاسَ إِلَيَّ سِرَاعًا، وَالْأَعْوَانَ لِي كَثِيرَةً، وَلَكِنِّي أَعْتَزِلُهُمْ وَأَصْبِرُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، وَقَالَ لِصَالِحِ بْنِ مَسْعُودٍ: قُلْ لِلْمُخْتَارِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَكْفُفْ عَنِ الدِّمَاءِ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ كِتَابُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ

قَالَ: إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ بِجَمْعِ الْبِرِّ وَالْيُسْرِ، وَبِطَرْحِ الْكُفْرِ وَالْغَدْرِ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْمَدَائِنِيِّ، وَ أَبَى مِخْنَفٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَمَدَ إِلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَسَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَحَبَسَهُمْ حَتَّى يُبَايِعُوهُ، فَكَرِهُوا أَنْ يُبَايِعُوا إِلَّا مَنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فَتَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ وَاعْتَقَلَهُمْ بِزَمْزَمَ، فَكَتَبُوا إِلَى الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ يَسْتَصْرِخُونَهُ وَيَسْتَنْصِرُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ تَوَعَّدَنَا بِالْقَتْلِ وَالْحَرِيقِ فَلَا تَخْذُلُونَا كَمَا خَذَلْتُمُ الْحُسَيْنَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ. فَجَمَعَ الْمُخْتَارُ الشِّيعَةَ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ وَقَالَ: هَذَا كِتَابُ الْمَهْدِيِّ وَصَرِيخُ أَهْلِ الْبَيْتِ، قَدْ أَصْبَحُوا مَحْصُورِينَ يَنْتَظِرُونَ الْقَتْلَ وَالتَّحْرِيقَ. وَقَالَ: لَسْتُ أَبَا إِسْحَاقَ إِنْ لَمْ أَنْصُرْهُمْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، وَإِنْ لَمْ أُسَرِّبْ إِلَيْهِمُ الْخَيْلَ كَالسَّيْلِ يَتْلُوهُ السَّيْلُ، حَتَّى يَحِلَّ بِابْنِ الْكَاهِلِيَّةِ الْوَيْلُ. ثُمَّ وَجَّهَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيَّ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا مِنْ أَهْلِ الْقُوَّةِ، وَظَبْيَانَ بْنَ عُمَارَةَ التَّمِيمِيَّ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَبَا الْمُعْتَمِرِ فِي مِائَةٍ، وَهَانِئَ بْنَ قَيْسٍ فِي مِائَةٍ، وَعُمَيْرَ بْنَ طَارِقٍ فِي أَرْبَعِينَ، وَيُونُسَ بْنَ عِمْرَانَ فِي أَرْبَعِينَ، وَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ

الطُّفَيْلِ بْنِ عَامِرٍ بِتَوْجِيهِ الْجُنُودِ إِلَيْهِ، فَنَزَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيُّ بِذَاتِ عِرْقٍ حَتَّى تَلَاحَقَ بِهِ نَحْوٌ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَارِسًا، ثُمَّ سَارَ بِهِمْ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ نَهَارًا جِهَارًا، وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا ثَارَاتِ الْحُسَيْنِ. وَقَدْ أَعَدَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحَطَبَ لِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَصْحَابِهِ لِيُحَرِّقَهُمْ بِهِ إِنْ لَمْ يُبَايِعُوا، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْأَجَلِ يَوْمَانِ، فَعَمَدُوا - يَعْنِي أَصْحَابَ الْمُخْتَارِ - إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَأَطْلَقُوهُ مِنْ سِجْنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَالُوا: إِنْ أَذِنْتَ لَنَا قَاتَلْنَا ابْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَرَى الْقِتَالَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. فَقَالَ لَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَيْسَ يَبْرَحُ وَتَبْرَحُونَ حَتَّى يُبَايِعَ وَتُبَايِعُوا مَعَهُ، فَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ ثُمَّ لَحِقَهُمْ بَقِيَّةُ أَصْحَابِهِمْ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ وَهُمْ دَاخِلُونَ الْحَرَمَ: يَا ثَارَاتِ الْحُسَيْنِ فَلَمَّا رَأَى ابْنُ الزُّبَيْرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ خَافَهُمْ وَكَفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ أَخَذُوا مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَخَذُوا مِنَ الْحَجِيجِ مَالًا كَثِيرًا فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى دَخَلَ شِعْبَ عَلِيٍّ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ رَجُلٍ فَقَسَّمَ بَيْنَهُمْ ذَلِكَ الْمَالَ، هَكَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي صِحَّتِهَا نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَ نَائِبُهُ بِالْمَدِينَةِ أَخَاهُ مُصْعَبًا، وَنَائِبُهُ عَلَى الْبَصْرَةِ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَقَدِ اسْتَحْوَذَ الْمُخْتَارُ عَلَى الْكُوفَةِ، وَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ عَلَى بِلَادِ خُرَاسَانَ وَذَكَرَ حُرُوبًا جَرَتْ فِيهَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا.

فَصْلٌ ( شُخُوصُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ )

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَذَلِكَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ مَشَايِخِهِ: مَا هُوَ إِلَّا أَنْ فَرَغَ الْمُخْتَارُ مِنْ جَبَّانَةِ السَّبِيعِ وَأَهْلِ الْكُنَاسَةِ، فَمَا نَزَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ إِلَّا يَوْمَيْنِ حَتَّى أَشْخَصَهُ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ وَجَّهَهُ لَهُ لِقِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ ; فَخَرَجَ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُخْتَارُ يُودِّعُهُ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ خَاصَّةُ الْمُخْتَارِ، وَمَعَهُمْ كُرْسِيُّ الْمُخْتَارِ عَلَى بَغْلٍ أَشْهَبَ لِيَسْتَنْصِرُوا بِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَهُمْ حَافُّونَ بِهِ يَدْعُونَ وَيَسْتَصْرِخُونَ وَيَسْتَنْصِرُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ، فَرَجَعَ الْمُخْتَارُ بَعْدَ أَنْ وَصَّاهُ بِثَلَاثٍ ; قَالَ: يَا ابْنَ الْأَشْتَرِ، اتَّقِ اللَّهَ فِي سِرِّكَ وَعَلَانِيَتِكَ، وَأَسْرَعِ السَّيْرَ وَعَاجِلْ عَدُوَّكَ بِالْقِتَالِ. وَاسْتَمَرَّ أَصْحَابُ الْكُرْسِيِّ سَائِرِينَ مَعَ ابْنِ الْأَشْتَرِ، فَجَعْلَ ابْنُ الْأَشْتَرِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا، سُنَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِذْ عَكَفُوا عَلَى عِجْلِهِمْ. فَلَمَّا جَاوَزَ الْقَنْطَرَةَ إِبْرَاهِيمُ وَأَصْحَابُهُ انْصَرَفَ أَصْحَابُ الْكُرْسِيِّ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ سَبَبُ اتِّخَاذِ هَذَا الْكُرْسِيِّ مَا حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

أَحْمَدَ بْنِ شَبُّوَيْهِ، حَدَّثَنِي أَبِي، ثَنَا سُلَيْمَانُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنِي طُفَيْلُ بْنُ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ قَالَ: أَعْدَمْتُ مَرَّةً مِنَ الْوَرِقِ فَإِنِّي لَكَذَلِكَ إِذْ مَرَرْتُ بِبَابِ جَارٍ لِي لَهُ كُرْسِيٌّ قَدْ رَكِبَهُ وَسَخٌ شَدِيدٌ، فَخَطَرَ عَلَى بَالِي أَنْ لَوْ قُلْتُ فِي هَذَا، فَرَجَعْتُ فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ إِلَيَّ بِالْكُرْسِيِّ، فَأَرْسَلَ بِهِ، فَأَتَيْتُ الْمُخْتَارَ فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي كُنْتُ أَكْتُمُكَ شَيْئًا وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أَذْكُرَهُ لَكَ. قَالَ: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: كَرِّسِيٌّ كَانَ جَعْدَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ فِيهِ أَثَرَةً مِنْ عِلْمٍ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! فَأَخَّرْتَ هَذَا إِلَى الْيَوْمِ ؟ ابْعَثْ إِلَيْهِ. قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ وَقَدْ غُسِلَ فَخَرَجَ عُودًا نُضَارًا وَقَدْ تَشْرَّبَ الزَّيْتَ، فَأَمَرَ لِي بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ نُودِيَ فِي النَّاسِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. قَالَ: فَخَطَبَ الْمُخْتَارُ النَّاسَ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ أَمْرٌ إِلَّا وَهُوَ كَائِنٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِثْلُهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ التَّابُوتُ يُنْصَرُونَ بِهِ، وَإِنَّ هَذَا مِثْلُهُ. ثُمَّ أَمَرَ فَكُشِفَ عَنْهُ أَثْوَابُهُ، وَقَامَتِ السَّبَئِيَّةُ فَرَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ وَكَبَّرُوا ثَلَاثًا، فَقَامَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ فَأَنْكَرَ عَلَى النَّاسِ وَكَادَ أَنْ يَكَفِّرَ مَنْ يَصْنَعُ بِهَذَا التَّابُوتِ هَذَا التَّعْظِيمَ، وَأَشَارَ بِأَنْ يُكْسَرَ

وَيُخْرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَيُرْمَى بِهِ فِي الْحُشِّ، فَشَكَرَهَا النَّاسُ لِشَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ فَلَمَّا قِيلَ: هَذَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ قَدْ أَقْبَلَ. وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ بَعْثَ مَعَهُ بِالْكُرْسِيِّ يُحْمَلُ عَلَى بَغْلٍ أَشْهَبَ قَدْ غُشِّيَ بِأَثْوَابِ الْحَرِيرِ، عَنْ يَمِينِهِ سَبْعَةٌ، وَعَنْ يَسَارِهِ سَبْعَةٌ، فَلَمَّا تَوَاجَهُوا مَعَ الشَّامِيِّينَ - كَمَا سَيَأْتِي - وَغَلَبُوا الشَّامِيِّينَ وَقَتَلُوا ابْنَ زِيَادٍ، ازْدَادَ تَعْظِيمُهُمْ لِهَذَا الْكُرْسِيِّ حَتَّى بَلَغُوا بِهِ الْكُفْرَ، قَالَ الطُّفَيْلُ بْنُ جَعْدَةَ فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَنَدِمْتُ عَلَى مَا صَنَعْتُ. وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي هَذَا الْكُرْسِيِّ، وَكَثُرَ عَيْبُ النَّاسِ لَهُ فَغُيِّبَ حَتَّى لَا يُرَى بَعْدَ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْكَلْبَيِّ أَنَّ الْمُخْتَارَ طَلَبَ مِنْ آلِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ الْكُرْسِيَّ الَّذِي كَانَ عَلِيٌّ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ مِمَّا يَقُولُ الْأَمِيرُ. فَأَلَحَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَوْ جَاءُوا بِأَيِّ كُرْسِيٍّ كَانَ لَقَبِلَهُ مِنْهُمْ، فَحَمَلُوا إِلَيْهِ كُرْسِيًّا مِنْ بَعْضِ الدُّورِ، فَقَالُوا: هَذَا هُوَ، فَخَرَجَتْ شِبَامٌ وَشَاكِرٌ وَسَائِرُ رُءُوسِ الْمُخْتَارِ بِهِ، وَقَدْ عَصَّبُوهُ بِالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ.
وَحَكَى أَبُو مِخْنَفٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ سَدَنَ هَذَا الْكُرْسِيَّ مُوسَى بْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، ثُمَّ إِنَّهُ عُتِبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَدَفَعَهُ إِلَى حَوْشَبٍ الْبُرْسُمِيِّ، فَكَانَ صَاحِبَهُ حَتَّى هَلَكَ الْمُخْتَارُ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَيُرْوَى أَنَّ الْمُخْتَارَ كَانَ يُظْهِرُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِمَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُهُ هَذَا الْكُرْسِيَّ.

وَقَدْ قَالَ فِي هَذَا الْكُرْسِيِّ أَعْشَى هَمْدَانَ:
شَهِدْتُ عَلَيْكُمْ أَنَّكُمْ سَبَئِيَّةٌ وَإِنِّي بِكُمْ يَا شُرْطَةَ الشِّرْكِ عَارِفُ وَأُقْسِمُ مَا كُرْسِيُّكُمْ بِسَكِينَةٍ
وَإِنْ كَانَ قَدْ لُفَّتْ عَلَيْهِ اللَّفَائِفُ وَأَنْ لَيْسَ كَالتَّابُوتِ فِينَا وَإِنْ سَعَتْ
شِبَامٌ حَوَالَيْهِ وَنَهْدٌ وَخَارِفُ وَإِنِّي امْرُؤٌ أَحْبَبْتُ آلَ مُحَمَّدٍ
وَتَابَعْتُ وَحَيًا ضُمِّنَتْهُ الْمَصَاحِفُ وَتَابَعْتُ عَبْدَ اللَّهِ لَمَّا تَتَابَعَتْ
عَلَيْهِ قُرَيْشٌ شُمْطُهَا وَالْغَطَارِفُ
وَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ اللَّيْثِيُّ:
أَبْلِغْ أَبَا إِسْحَاقَ إِنْ جِئْتَهُ أَنِّي بِكُرْسِيِّكُمْ كَافِرُ
تَنْزُوا شِبَامٌ حَوْلَ أَعْوَادِهِ وَتَحْمِلُ الْوَحَيَ لَهُ شَاكِرُ
مُحْمَرَّةً أَعْيُنُهُمْ حَوْلَهُ كَأَنَّهُنَّ الْحِمَّصُ الْحَادِرُ
قُلْتُ: هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ عَقْلِ الْمُخْتَارِ وَأَتْبَاعِهِ وَضَعْفِهِ وَقِلَّةِ عِلْمِهِ وَكَثْرَةِ جَهْلِهِ وَرَدَاءَةِ فَهْمِهِ وَتَرْوِيجِهِ الْبَاطِلَ عَلَى أَتْبَاعِهِ وَتَشْبِيهِهِ الْبَاطِلَ بِالْحَقِّ لِيُضِلَّ بِهِ الطَّغَامَ وَيَجْمَعَ عَلَيْهِ جُهَّالَ الْعَوَامِّ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ فِي مِصْرَ طَاعُونٌ هَلَكَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَفِيهَا ضَرَبَ الدَّنَانِيرَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ بِمِصْرَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَهَا بِهَا.

قَالَ صَاحِبُ مِرْآةَ الزَّمَانِ: وَفِيهَا ابْتَدَأَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِبِنَاءِ الْقُبَّةِ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَعِمَارَةِ الْجَامِعِ الْأَقْصَى، وَكَمَلَتْ عِمَارَتُهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى مَكَّةَ، وَكَانَ يَخْطُبُ فِي أَيَّامِ مِنًى وَعَرَفَةَ، وَمُقَامَ النَّاسِ بِمَكَّةَ، وَيَنَالُ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَيَذْكُرُ مَسَاوِئَ بَنِي مَرْوَانَ، وَيَقُولُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْحَكَمَ وَمَا نَسَلَ، وَإِنَّهُ طَرِيدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَعِينُهُ، وَكَانَ يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ، وَكَانَ فَصِيحًا، فَمَالَ مُعْظَمُ أَهْلِ الشَّامِ إِلَيْهِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمَلِكِ فَمَنْعَ النَّاسِ مِنَ الْحَجِّ فَضَجُّوا، فَبَنَى لَهُمُ الْقُبَّةَ عَلَى الصَّخْرَةِ وَالْجَامِعَ الْأَقْصَى ; لِيَشْغَلَهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْحَجِّ وَيَسْتَعْطِفَ قُلُوبَهُمْ وَكَانُوا يَقِفُونَ عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَيَطُوفُونَ حَوْلَهَا كَمَا يَطُوفُونَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَيَنْحَرُونَ يَوْمَ الْعِيدِ وَيَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ فَفَتَحَ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ تَشْنِيعِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَيْهِ، فَكَانَ يُشَنِّعُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ وَيَقُولُ ضَاهَى بِهَا فِعْلَ الْأَكَاسِرَةِ فِي إِيوَانِ كِسْرَى، وَالْخَضْرَاءَ كَمَا فَعَلَ مُعَاوِيَةُ، وَنَقْلَ الطَّوَافَ مِنْ بَيْتِ اللَّهِ إِلَى قِبْلَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا أَرَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِنَاءَهَا سَارَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَعَهُ الْأَمْوَالُ وَالْعُمَّالُ، وَوَكَّلَ بِالْعَمَلِ رَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ، وَيَزِيدَ بْنَ سَلَّامٍ مَوْلَاهُ، وَجَمَعَ الصُّنَّاعَ وَالْمُهَنْدِسِينَ فَأَمْرَهُمْ فَصَوَّرُوا لَهُ الْقُبَّةَ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ فَأَعْجَبَهُ، وَبَنَى لِلْمَالِ بَيْتًا شَرْقِيَّ الْقُبَّةِ، وَشَحَنَهُ بِالْمَالِ، وَأَمَرَ رَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ، وَيَزِيدَ أَنْ يُفْرِغَا

الْأَمْوَالَ إِفْرَاغًا، وَلَا يَتَوَقَّفَا فِيهِ، فَبَثُّوا النَّفَقَاتِ وَأَكْثَرُوا فَبَنَوُا الْقُبَّةَ الَّتِي هِيَ الْيَوْمَ قَائِمَةٌ، وَبَنَوْا مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ سَبْعَ قِبَابٍ، وَالْقُبَّةُ الَّتِي بَاقِيَةٌ الْيَوْمَ عَلَى الْمِحْرَابِ هِيَ أَوْسَطُهَا، وَلَمَّا تَمَّ بِنَاءُ الْقُبَّةِ عَمِلَ لَهَا جَلَّالَيْنِ ; أَحَدُهُمَا مِنْ لَبُّودٍ أَحْمَرَ لِلشِّتَاءِ، وَالْآخَرُ مِنْ أُدُمٍ لِلصَّيْفِ، وَحَفَّ الصَّخْرَةَ بِدَرَابِزِينَ مِنَ السَّاجِ الْمُطَعَّمِ بِالْيَشْمِ، وَخَلْفَ الدَّرَابِزِينِ سُتُورٌ مِنَ الدِّيبَاجِ مُرْخَاةً بَيْنَ الْعُمُدِ، وَكَانَتِ السَّدَنَةُ كُلَّ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنٍ يَذُوِّبُونَ الْمِسْكَ، وَالْعَنْبَرَ وَالْمَاوَرْدَ وَالزَّعْفَرَانَ وَيَعْمَلُونَ مِنْهُ غَالِيَةً، وَيُخَمِّرُونَهَا مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ يَدْخُلُ الْخَدَمُ الْحَمَّامَ مِنَ اللَّيْلِ

فَيَغْتَسِلُونَ وَيَتَطَيَّبُونَ، وَيَلْبَسُونَ ثِيَابَ الْوَشْيِ، وَيَشُدُّونَ أَوْسَاطَهُمْ بِالْمَنَاطِقِ الْمُحَلَّاةِ بِالذَّهَبِ وَيُخْلِّقُونَ الصَّخْرَةَ، ثُمَّ يَضَعُونَ الْبَخُورَ فِي مَجَامِرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَفِيهَا الْعُودُ الْقَمَارِيُّ الْمَغْلِيُّ بِالْمِسْكِ، وَيُرْخِي السَّدَنَةُ السُّتُورَ فَتَخْرُجُ تِلْكَ الرَّائِحَةُ فَتَمْلَأُ الْمَدِينَةَ كُلَّهَا، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: أَلَا إِنَّ الصَّخْرَةَ قَدْ فُتِحَتْ، فَمَنْ أَرَادَ الزِّيَارَةَ فَلْيَأْتِ، فَيُقْبِلُ النَّاسُ مُبَادِرِينَ، فَيُصَلُّونَ وَيَخْرُجُونَ، فَمَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ رَائِحَةُ الْبَخُورِ قَالَ النَّاسُ: هَذَا كَانَ الْيَوْمَ فِي الصَّخْرَةِ.
وَأَبْوَابُ الصَّخْرَةِ أَرْبَعَةٌ، عَلَى كُلِّ بَابٍ عَشَرَةٌ مِنَ الْحَجَبَةِ، الْبَابُ الشَّمَالِيُّ يُسَمَّى بَابَ الْجَنَّةِ، وَالشَّرْقِيُّ بَابَ إِسْرَائِيلَ، وَالْغَرْبِيُّ بَابَ جِبْرِيلَ، وَالْقِبْلِيُّ بَابَ الْأَقْصَى، وَكَانُوا يُشْعِلُونَهَا بِدُهْنِ الْبَانِ، وَلَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ غَيْرَ أَيَّامِ الزِّيَارَةِ سِوَى الْخَدَمِ، وَكَانَ لِلْحَرَمِ عِشْرُونَ بَابًا، وَكَانَ فِيهِ أَلْفَ عَمُودٍ مِنَ الرُّخَامِ، وَفِي السُّقُوفِ سِتُّونَ أَلْفَ خَشَبَةٍ مِنَ السَّاجِ الْمَنْقُوشِ، وَمِنَ الْقَنَادِيلِ خَمْسَةُ آلَافِ قِنْدِيلٍ، وَكَانَ فِيهِ أَرْبَعُمِائَةِ سِلْسِلَةٍ، كُلُّ سِلْسِلَةٍ أَلْفُ رِطْلٍ شَامِيٍّ، طُولُ السَّلَاسِلِ ثَلَاثُونَ أَلْفَ ذِرَاعٍ، وَكَانَ يُوقَدُ فِي الصَّخْرَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ مِائَةُ شَمْعَةٍ، وَكَذَا فِي الْأَقْصَى، وَكَانَ يُوقَدُ فِي الْقَنَادِيلِ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنَ الزَّيْتِ الْمَفْتُولِ قِنْطَارٌ، وَكَانَ فِي الْحَرَمِ خَمْسُونَ قُبَّةً، وَمِنْ أَلْوَاحِ الرَّصَاصِ سَبْعُونَ أَلْفَ لَوْحٍ، وَكَانَ فِي الْحَرَمِ ثَلَاثُمِائَةِ خَادِمٍ ابْتَاعُوا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنَ الْخُمْسِ، كُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ قَامَ وَلَدُهُ بَعْدَهُ مَقَامَهُ، وَيَقْبِضُونَ أَرْزَاقَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَهْرًا بِشَهْرٍ، وَكَانَ فِي الْحَرَمِ مِائَةُ

صِهْرِيجٍ، وَكَانَتْ صَفَائِحُ الْقُبَّةِ وَسَقْفُ الْأَقْصَى مِنْ صَفَائِحِ الذَّهَبِ عِوَضَ الرَّصَاصِ، وَكَذَلِكَ أَبْوَابُ الْقُبَّةِ صَفَائِحُهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَمَلَ الْبِنَاءُ فَضَلَ مِنَ الْمَالِ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقِيلَ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ. وَكَتَبَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ، وَ يَزِيدُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعَرِّفَانِهِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمَا: قَدْ جَعَلْتُهُ لَكُمَا عِوَضًا عَنْ تَعَبِكُمَا. فَكَتَبَا إِلَيْهِ: إِنَّمَا قُمْنَا بِهَذَا الْبَيْتِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا نَقْبَلُ عَلَى ذَلِكَ عَرَضَ الدُّنْيَا، وَلَوَدِدْنَا أَنْ نَزِيدَ فِيهِ مِنْ حَلْيِ نِسَائِنَا. فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ إِذَا أَبَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَفْرِغَاهُ عَلَى الْقُبَّةِ وَالْأَبْوَابِ، فَمَا كَانَ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَأَمَّلَ الْقُبَّةَ مِمَّا عَلَيْهَا مِنَ الذَّهَبِ. فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ قَدِمَ الْقُدْسَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ فَوَجْدَ الْأَقْصَى وَقِبَابُهُ تَشْكُو مِنَ الْخَرَابِ، فَأَمَرَ بِقَلْعِ الصَّفَائِحِ الَّتِي عَلَى الْقُبَّةِ وَالْأَبْوَابِ، وَأَنْ يُعَمَّرَ بِهَا مَا تَشَعَّثَ فِي الْحَرَمِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ طَوِيلًا فَأَمَرَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ طُولِهِ وَيُزَادَ فِي عَرْضِهِ، وَلَمَّا كَمَلَ الْبِنَاءُ كَتَبُوا عَلَى الْقُبَّةِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ الْقِبْلِيَّ مِنْ جِهَةِ الْأَقْصَى بِالنَّصِّ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ: بَنَى هَذِهِ الْقُبَّةَ عَبْدُ اللَّهِ عَبْدُ الْمَلِكِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَكَانَ طُولُ الْمَسْجِدِ مِنَ الْقِبْلَةِ إِلَى الشَّمَالِ سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَسِتِّينَ ذِرَاعًا، وَعَرَضُهُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَسِتِّينَ ذِرَاعًا، وَكَانَ فَتْحُ الْقُدْسِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ

فَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ عَلَى يَدَيْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ ; وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ خَرَجَ مِنَ الْكُوفَةِ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، ثُمَّ اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُوَ سَائِرٌ لِقَصْدِ ابْنِ زِيَادٍ فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ فَكَانَ اجْتِمَاعُهُمَا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْخَازِرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْصِلِ خَمْسَةُ فَرَاسِخَ، فَبَاتَ ابْنُ الْأَشْتَرِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ سَاهِرًا لَا يَغْتَمِضُ بِنَوْمٍ، فَلَمَّا كَانَ قَرِيبَ الصُّبْحِ نَهَضَ فَعَبَّأَ جَيْشَهُ وَكَتَّبَ كَتَائِبَهُ، وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الْفَجْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتٍ، ثُمَّ رَكِبَ فَنَاهَضَ جَيْشَ ابْنِ زِيَادٍ وَزَحَفَ بِجَيْشِهِ رُوَيْدًا وَهُوَ مَاشٍ فِي الرَّجَّالَةِ حَتَّى أَشْرَفَ مِنْ فَوْقِ تَلٍّ عَلَى جَيْشِ ابْنِ زِيَادٍ، فَإِذَا هُمْ لَمْ يَتَحَرَّكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ نَهَضُوا إِلَى خَيْلِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ مَدْهُوشِينَ، فَرَكَبَ ابْنُ الْأَشْتَرِ فَرَسَهُ وَجَعَلَ يَقِفُ عَلَى رَايَاتِ الْقَبَائِلِ فَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى قِتَالِ ابْنِ زِيَادٍ وَيَقُولُ: هَذَا قَاتَلُ ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ جَاءَكُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَمْكَنَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، فَعَلَيْكُمْ بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ فَعَلَ فِي ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ فِرْعَوْنُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ! هَذَا ابْنُ زِيَادٍ قَاتِلُ الْحُسَيْنِ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَاءِ الْفُرَاتِ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ هُوَ وَأَوْلَادُهُ وَنِسَاؤُهُ، وَمَنَعَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى بَلَدِهِ أَوْ يَأْتِيَ يَزِيدَ بْنَ

مُعَاوِيَةَ حَتَّى قَتَلَهُ ! وَيْحَكُمْ، اشْفُوا صُدُورَكُمْ مِنْهُ، وَارْوُوا رِمَاحَكُمْ وَسُيُوفَكُمْ مِنْ دَمِهِ، هَذَا الَّذِي فَعَلَ فِي آلِ نَبِيِّكُمْ مَا فَعَلَ، قَدْ جَاءَكُمُ اللَّهُ بِهِ. ثُمَّ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ وَأَمْثَالِهِ، ثُمَّ نَزَلَ تَحْتَ رَايَتِهِ.
وَأَقْبَلَ ابْنُ زِيَادٍ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ قَدْ جَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ حُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عُمَيْرَ بْنَ الْحُبَابِ السُّلَمِيَّ، وَكَانَ قَدِ اجْتَمَعَ بِابْنِ الْأَشْتَرِ وَوَعْدَهُ أَنَّهُ مَعَهُ وَأَنَّهُ سَيَنْهَزِمُ بِالنَّاسِ غَدًا وَعَلَى خَيْلِ ابْنِ زِيَادٍ شُرَحْبِيلُ بْنُ ذِي الْكَلَاعِ، وَابْنُ زِيَادٍ فِي الرَّجَّالَةِ يَمْشِي مَعَهُمْ، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ تَوَاقَفَ الْفَرِيقَانِ حَتَّى حَمَلَ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ بِالْمَيْمَنَةِ عَلَى مَيْسَرَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَهَزَمَهَا، وَقُتِلَ أَمِيرُهَا عَلِيُّ بْنُ مَالِكٍ الْجُشَمِيُّ فَأَخْذَ رَايَتَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ قُرَّةُ بْنُ عَلِيٍّ فَقُتِلَ أَيْضًا، وَاسْتَمَرَّتِ الْمَيْسَرَةُ ذَاهِبَةً فَجَعَلَ ابْنُ الْأَشْتَرِ يُنَادِيهِمْ: إِلَيَّ يَا شُرْطَةَ اللَّهِ، أَنَا ابْنُ الْأَشْتَرِ. وَقَدْ كَشَفَ عَنْ رَأْسِهِ لِيَعْرِفُوهُ فَالْتَاثُوا بِهِ وَانْعَطَفُوا عَلَيْهِ، وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ حَمَلَتْ مَيْمَنَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَلَى مَيْسَرَةِ أَهْلِ الشَّامِ وَقِيلَ: بَلِ انْهَزَمَتْ مَيْسَرَةُ أَهْلِ الشَّامِ وَانْحَازَتْ إِلَى ابْنِ الْأَشْتَرِ، ثُمَّ حَمَلَ ابْنُ الْأَشْتَرِ بِمَنْ مَعَهُ وَجَعَلَ يَقُولُ لِصَاحِبِ رَايَتِهِ: ادْخُلْ بِرَايَتِكَ فِيهِمْ. وَقَاتَلَ ابْنُ الْأَشْتَرِ يَوْمَئِذٍ قِتَالًا عَظِيمًا، وَكَانَ لَا يَضْرِبُ بِسَيْفِهِ رَجُلًا إِلَّا صَرَعَهُ، وَكَثُرَتِ الْقَتْلَى بَيْنَهُمْ وَقِيلَ: إِنَّ

مَيْسَرَةَ أَهْلِ الشَّامِ ثَبَتُوا وَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا بِالرِّمَاحِ ثُمَّ بِالسُّيُوفِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْحَمْلَةَ ابْنُ الْأَشْتَرِ، فَانْهَزَمَ جَيْشُ الشَّامِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَقْتُلُهُمْ كَمَا تُقْتَلُ الْحُمْلَانِ، وَأَتْبَعَهُمْ بِنَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الشُّجْعَانِ، وَثَبَتَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ فِي مَوْقِفِهِ حَتَّى اجْتَازَ بِهِ ابْنُ الْأَشْتَرِ فَقَتَلَهُ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، لَكِنْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: الْتَمِسُوا فِي الْقَتْلَى رَجُلًا ضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ فَنَفَحَنِي مِنْهُ رِيحُ الْمِسْكِ، شَرَّقَتْ يَدَاهُ وَغَرَّبَتْ رِجْلَاهُ وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ رَايَةٍ مُنْفَرِدَةٍ عَلَى شَاطِئِ نَهْرِ خَازِرَ، فَالْتَمَسُوهُ فَإِذَا هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ وَإِذَا هُوَ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنُ الْأَشْتَرِ فَقَطَعَهُ نِصْفَيْنِ، فَاحْتَزُّوا رَأَسَهُ وَبَعَثُوهُ إِلَى الْمُخْتَارِ إِلَى الْكُوفَةِ مَعَ الْبِشَارَةِ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِأَهْلِ الشَّامِ. وَقُتِلَ مِنْ رُءُوسِ أَهْلِ الشَّامِ أَيْضًا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، وَ شُرَحْبِيلُ بْنُ ذِي الْكَلَاعِ، وَأَتْبَعَ الْكُوفِيُّونَ أَهْلَ الشَّامِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَغَرِقَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ قُتِلَ، وَاحْتَازُوا مَا كَانَ فِي مُعَسْكَرِهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْخُيُولِ.
وَقَدْ كَانَ الْمُخْتَارُ بِشَّرَ أَصْحَابَهُ بِالنَّصْرِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ الْخَبَرُ فَمَا نَدْرِي أَكَانَ ذَلِكَ تَفَاؤُلًا مِنْهُ أَوِ اتِّفَاقًا وَقْعَ لَهُ أَوْ كِهَانَةً - وَأَمَّا عَلَى مَا كَانَ يَزْعُمُ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فَلَا، فَإِنَّ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ كَفَرَ، وَمَنْ أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَفَرَ - لَكِنْ قَالَ: إِنَّ الْوَقْعَةَ كَانَتْ بِنَصِيبِينَ. فَأَخْطَأَ مَكَانَهَا، فَإِنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ، وَهَذَا مِمَّا انْتَقَدَهُ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ عَلَى أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ حِينَ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِالْفَتْحِ، وَقَدْ خَرَجَ الْمُخْتَارُ مِنَ الْكُوفَةِ لِيَتَلَقَّى الْبِشَارَةَ، فَأَتَى الْمَدَائِنَ فَصَعِدَ

مِنْبَرَهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ إِذْ جَاءَتْهُ الْبِشَارَةُ وَهُوَ هُنَالِكَ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَمَا سَمِعْتُهُ بِالْأَمْسِ يُخْبِرُنَا بِهَذَا ؟ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْوَقْعَةَ كَانَتْ بِنَصِيبِينَ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَإِنَّمَا قَالَ الْبَشِيرُ: إِنَّهُمْ كَانُوا بِالْخَازِرِ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا تُؤْمِنُ يَا شَعْبِيُّ حَتَّى تَرَى الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
ثُمَّ رَجَعَ الْمُخْتَارُ إِلَى الْكُوفَةِ وَفَى غَيْبَتِهِ هَذِهِ تَمَكَّنَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ كَانَ قَاتَلَهُ يَوْمَ جَبَّانَةِ السَّبِيعِ وَالْكُنَاسَةِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْبَصْرَةِ ; لِيَجْتَمِعُوا بِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ مِنْهُمْ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَأَمَّا ابْنُ الْأَشْتَرِ فَإِنَّهُ بَعَثَ بِالْبِشَارَةِ وَرَأَسِ عُبَيْدِ اللَّهِ إِلَى الْمُخْتَارِ، وَاسْتَقَلَّ هُوَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ فَبَعَثَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى نِيَابَةِ نَصِيبِينَ، وَبَعَثَ عُمَّالًا إِلَى الْمَوْصِلِ، وَأَخَذَ سِنْجَارَ وَدَارَا وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْجَزِيرَةِ.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ: كَانَ مَقْتَلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَالصَّوَابُ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ.

وَقَدْ قَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ الْبَارِقِيُّ يَمْدَحُ ابْنَ الْأَشْتَرِ عَلَى قَتْلِهِ ابْنَ زِيَادٍ:
أَتَاكُمْ غُلَامٌ مِنْ عَرَانِينِ مَذْحِجٍ جَرِيءٌ عَلَى الْأَعْدَاءِ غَيْرُ نَكُولِ فَيَا ابْنَ زِيَادٍ بُؤْ بِأَعْظَمِ مَالِكٍ
وَذُقْ حَدَّ مَاضِي الشَّفْرَتَيْنِ صَقِيلِ ضَرَبْنَاكَ بِالْعَضْبِ الْحُسَامِ بِحَدِّهِ
إِذَا مَا أَبَأْنَا قَاتِلًا بِقَتِيلِ جَزَى اللَّهُ خَيْرًا شُرْطَةَ اللَّهِ إِنَّهُمْ
شَفَوْا مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَمْسِ غَلِيلِي

وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ ابْنِ زِيَادٍ
هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ عُبَيْدٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَيُقَالُ لَهُ: زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ، وَ ابْنُ سُمَيَّةَ. أَمِيرُ الْعِرَاقِ بَعْدَ أَبِيهِ زِيَادٍ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: وَيُقَالُ لَهُ: عُبَيْدُ اللَّهِ ابْنُ مَرْجَانَةَ - وَهِيَ أُمُّهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَكَانَتْ مَجُوسِيَّةً. وَكُنْيَتُهُ أَبُو حَفْصٍ وَقَدْ سَكَنَ دِمَشْقَ بَعْدَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ عِنْدَ

الدِّيمَاسِ تُعْرَفُ بَعْدَهُ بِدَارِ ابْنِ عَجْلَانَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ الضَّبِّيِّ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ. وَحَدَّثَ عَنْهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَ أَبُو الْمُلَيْحِ بْنُ أُسَامَةَ، وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ: ذَكَرُوا أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ حِينَ قَتَلَ الْحُسَيْنَ كَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى زِيَادٍ أَنْ أَوْفِدْ إِلَيَّ ابْنَكَ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ لَمْ يَسْأَلْهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا نَفَذَ مِنْهُ، حَتَّى سَأَلَهُ عَنِ الشِّعْرِ فَلَمْ يَعْرِفْ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ مَا مَنَعَكَ مِنْ تَعَلُّمِ الشِّعْرِ ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَجْمَعَ فِي صَدْرِي مَعَ كَلَامِ الرَّحْمَنِ كَلَامَ الشَّيْطَانِ. فَقَالَ: اغْرُبْ، فَوَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنَ الْفِرَارِ يَوْمَ صِفِينَ إِلَّا قَوْلُ ابْنِ الْإِطْنَابَةِ حَيْثُ يَقُولُ:

أَبَتْ لِي عِفَّتِي وَأَبَى بَلَائِي وَأَخْذِي الْحَمْدَ بِالثَّمَنِ الرَّبِيحِ وَإِعْطَائِي عَلَى الْإِعْدَامِ مَالِي
وَإِقْدَامِي عَلَى الْبَطَلِ الْمُشِيحِ وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ
مَكَانَكِ تُعْذَرِي أَوْ تَسْتَرِيحِي لِأَدْفَعَ عَنْ مَآثِرَ صَالِحَاتٍ
وَأَحْمِي بَعْدُ عَنْ أَنْفٍ صَحِيحِ
ثُمَّ كَتَبَ إِلَى أَبِيهِ: أَنْ رَوِّهِ مِنَ الشِّعْرِ، فَرَوَّاهُ حَتَّى كَانَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَمِنْ شِعْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ:
سَيَعْلَمُ مَرْوَانُ ابْنُ نِسْوَةِ أَنَّنِي إِذَا الْتَقَتِ الْخِيلَانِ أَطْعَنُهَا شَزْرًا
وَإِنِّي إِذَا حَلَّ الضُّيُوفُ وَلَمْ أَجِدْ سِوَى فَرَسِي أَوْسَعْتُهُ لَهُمْ نَحْرًا
وَقَدْ سَأَلَ مُعَاوِيَةُ يَوْمًا أَهْلَ الْبَصْرَةِ عَنِ ابْنِ زِيَادٍ فَقَالُوا: إِنَّهُ لَظَرِيفٌ وَلَكِنَّهُ يَلْحَنُ. فَقَالَ: أَوَلَيْسَ اللَّحْنُ أَظْرَفَ لَهُ ؟ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّهُ يَلْحَنُ فِي كَلَامِهِ، أَيْ يُلْغِزُ. وَهُوَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
مَنْطِقٌ رَائِعٌ وَتَلْحَنُ أَحْيَا نًا وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنَا

وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ يَلْحَنُ فِي قَوْلِهِ لَحْنًا وَهُوَ ضِدُّ الْإِعْرَابِ. وَقِيلَ: أَرَادُوا اللَّحْنَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّوَابِ. وَهُوَ الْأَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَاسْتَحْسَنَ مُعَاوِيَةُ مِنْهُ السُّهُولَةَ فِي الْكَلَامِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَغَنَّى فِي كَلَامِهِ وَيُفَخِّمُهُ، وَيَتَشَدَّقُ فِيهِ، وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنَّهُ كَانَتْ فِيهِ لُكْنَةٌ مِنْ كَلَامِ الْعَجَمِ ; فَإِنَّ أُمَّهُ مَرْجَانَةَ كَانَتْ سُرِّيَّةً، وَكَانَتْ بِنْتَ بَعْضِ مُلُوكِ الْأَعَاجِمِ ; يُزْدَجِرْدَ أَوْ غَيْرِهِ. قَالُوا: وَكَانَ فِي كَلَامِهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْعَجَمِ ; قَالَ يَوْمًا لِبَعْضِ الْخَوَارِجِ: أَهَرُورِيٌّ أَنْتَ ؟ يَعْنِي: أَحَرُورِيٌّ أَنْتَ ؟ وَقَالَ يَوْمًا: مِنْ كَاتَلَنَا كَاتَلْنَاهُ. أَيْ: مَنْ قَاتَلَنَا قَاتَلْنَاهُ، وَقَوْلُ مُعَاوِيَةَ: ذَاكَ أَظْرَفُ لَهُ؛ أَيْ أَجْوَدُ لَهُ حَيْثُ نَزَعَ إِلَى أَخْوَالِهِ، وَقَدْ كَانُوا يُوصَفُونَ بِحُسْنِ السِّيَاسَةِ وَجَوْدَةِ الرِّعَايَةِ وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ.
ثُمَّ لَمَّا مَاتَ زِيَادٌ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَلَّى مُعَاوِيَةُ عَلَى الْبَصْرَةِ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ سَنَةً وَنِصْفًا ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى عَلَيْهَا ابْنَ زِيَادٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ. فَلَمَّا تَوَلَّى يَزِيدُ الْخِلَافَةَ جَمْعَ لَهُ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، فَبَنَى فِي إِمَارَةِ يَزِيدَ الْبَيْضَاءَ، وَجَعَلَ بَابَ الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ الَّذِي كَانَ لِكِسْرَى عَلَيْهَا، وَبَنَى الْحَمْرَاءَ وَهِيَ عَلَى سِكَّةِ الْمِرْبَدِ، فَكَانَ يَشْتُو فِي الْحَمْرَاءِ وَيَصِيفُ فِي الْبَيْضَاءِ.
قَالُوا: وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنَّ امْرَأَتِي مَاتَتْ،

وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ أُمَّهَا. فَقَالَ لَهُ: كَمْ عَطَاؤُكَ فِي الدِّيوَانِ ؟ فَقَالَ: سَبْعُمِائَةٍ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ، حُطَّهُ مِنْ عَطَائِهِ أَرْبَعَمِائَةٍ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَكْفِيكَ مَنْ فِقْهِكَ هَذَا ثَلَاثُمِائَةٍ !
قَالُوا: وَتَخَاصَمَتْ أُمُّ الْفُجَيْعِ وَزَوْجُهَا إِلَيْهِ وَقَدْ أَحَبَّتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تُفَارِقَ زَوْجَهَا، فَقَالَ أَبُو الْفُجَيْعِ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنَّ خَيْرَ شَطْرَيِ الرَّجُلِ آخِرُهُ، وَإِنَّ شَرَّ شَطْرَيِ الْمَرْأَةِ آخِرُهَا. فَقَالَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَسَنَّ اشْتَدَّ عَقْلُهُ، وَاسْتَحْكَمَ رَأْيُهُ، وَذَهَبَ جَهْلُهُ، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَسَنَّتْ سَاءَ خُلُقُهَا، وَقُلَّ عَقْلُهَا، وَعَقِمَ رَحِمُهَا، وَاحْتَدَّ لِسَانُهَا. فَقَالَ: صَدَقْتَ خُذْ بِيَدِهَا وَانْصَرِفْ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: أَمَرَ ابْنُ زِيَادٍ لِصَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَسُرِقَتْ، فَقَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا. فَقَالَ أَهْلُهُ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا خَيْرًا ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنُ زِيَادٍ، فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفَيْنِ آخَرَيْنِ، ثُمَّ وَجَدَ الْأَلْفَيْنِ فَصَارَتْ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَكَانَ خَيْرًا.
وَقِيلَ: لِهِنْدَ بِنْتِ أَسْمَاءَ بْنِ خَارِجَةَ - وَكَانَتْ قَدْ تَزَوَّجَتْ بِعِدَّةِ أَزْوَاجٍ مِنْ نُوَّابِ الْعِرَاقِ -: مَنْ أَعَزُّ أَزْوَاجِكِ عِنْدَكِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْكِ ؟ فَقَالَتْ: مَا أُكْرِمَ النِّسَاءُ إِكْرَامَ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ وَلَا هَابَ النِّسَاءُ هَيْبَةَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ،

وَوَدِدْتُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ، فَأَرَى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ وَأَشْتَفِي مِنْ حَدِيثِهِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ. وَكَانَ أَبَا عُذْرِهَا وَقَدْ تَزَوَّجَتْ بِالْآخَرِينَ أَيْضًا.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ جَهَرَ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي الْمَكْتُوبَةِ ابْنُ زِيَادٍ. قُلْتُ: يَعْنِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فِي الْكُوفَةِ، فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ لَا يَكْتُبُهُمَا فِي مُصْحَفِهِ، وَكَانَ فُقَهَاءُ الْكُوفَةِ عَنْ كُبَرَاءِ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَأْخُذُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَتْ فِي ابْنِ زِيَادٍ جُرْأَةٌ وَإِقْدَامٌ وَمُبَادَرَةٌ إِلَى مَا لَا يَجُوزُ، وَمَا لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ. ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَ مُسْلِمٌ، كِلَاهُمَا عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو دَخْلَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ. فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: وَهَلْ كَانَ فِيهِمْ نُخَالَةٌ ؟ إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ وَفِي غَيْرِهِمْ. وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ دَخَلَ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ يَعُودُهُ فَقَالَ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَنَّهُ قَالَ مَا مِنْ رَجُلٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ مَعْقِلٌ صَلَّى عَلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ وَلَمْ يَشْهَدْ دَفْنَهُ، وَاعْتَذَرَ بِمَا لَيْسَ يُجْدِي شَيْئًا، وَرَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ.
وَمِنْ جَرَاءَتِهِ إِقْدَامُهُ عَلَى الْأَمْرِ بِإِحْضَارِ الْحُسَيْنِ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ وَإِنْ قُتِلَ دُونَ ذَلِكَ. وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ إِلَى سُؤَالِهِ الَّذِي سَأَلَهُ فِيمَا طَلَبَ مِنْ ذَهَابِهِ إِلَىيَزِيدَ، أَوْ إِلَى مَكَّةَ، أَوْ إِلَى أَحَدِ الثُّغُورِ، فَلَمَّا أَشَارَ عَلَيْهِ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ بِأَنَّ الْحَزْمَ أَنْ يُحْضَرَ عِنْدَكَ وَأَنْتَ تُسَيِّرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى حَيْثُ شِئْتَ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ أَوْ غَيْرِهَا، فَوَافَقَ شَمِرًا عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ مِنْ إِحْضَارِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَبَى الْحُسَيْنُ أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُ لِيَقْضِيَ فِيهِ بِمَا يَرَاهُ ابْنُ مَرْجَانَةَ، وَقَدْ تَعِسَ وَخَابَ وَخَسِرَ، فَلَيْسَ لِابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْضُرَ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ مَرْجَانَةَ الْخَبِيثِ.
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، وَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ كُرْدُوسٍ، عَنْ حَاجِبِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَهُ الْقَصْرَ حِينَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ، قَالَ: فَاضْطَرَمَ فِي وَجْهِهِ نَارًا - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - فَقَالَ بِكُمِّهِ هَكَذَا عَلَى وَجْهِهِ، وَقَالَ: لَا تُحَدِّثَنَّ بِهَذَا أَحَدًا.
وَقَالَ شُرَيْكٌ، عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: قَالَتْ مَرْجَانَةُ لِابْنِهَا عُبَيْدِ اللَّهِ: يَا خَبِيثُ، قَتَلْتَ ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا تَرَى الْجَنَّةَ أَبَدًا.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنْ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لَمَّا مَاتَ بَايَعَ النَّاسُ فِي الْمِصْرَيْنِ لِعُبَيْدِ اللَّهِ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ، ثُمَّ خَرَجُوا عَلَيْهِ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَسَارَ إِلَى الشَّامِ فَاجْتَمَعَ بِمَرْوَانَ، وَحَسَّنَ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ وَيَدْعُوَ إِلَى نَفْسِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا تَقَدَّمَ مَعَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ. ثُمَّ سَيَّرَهُ مَرْوَانُ فِي جَيْشٍ إِلَى الْعِرَاقِ، فَالْتَقَى بِعَيْنِ الْوَرْدَةِ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُ جَيْشَ التَّوَّابِينَ فَكَسَرَهُمْ، وَاسْتَمَرَّ قَاصِدًا الْكُوفَةَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَتَعَوَّقَ فِي الطَّرِيقِ بِسَبَبِ مَنْ كَانَ يُمَانِعُهُ فِي أَرْضِ الْجَزِيرَةِ مِنَ الْأَعْدَاءِ مِمَّنْ بَايَعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ اتَّفَقَ خُرُوجُ ابْنِ الْأَشْتَرِ إِلَيْهِ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ، وَكَانَ مَعَ ابْنِ زِيَادٍ أَضْعَافُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ ظَفَرَ بِهِ ابْنُ الْأَشْتَرِ، فَقَتَلَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ، عَلَى شَاطِئِ نَهْرِ الْخَازِرِ قَرِيبًا مِنَ الْمَوْصِلِ بِخَمْسِ مَرَاحِلَ.
قَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ: وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. قُلْتُ: وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ.
ثُمَّ بَعَثَ ابْنُ الْأَشْتَرِ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمُخْتَارِ وَمَعَهُ رَأْسُ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَ شُرَحْبِيلَ بْنِ ذِي الْكَلَاعِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ رُؤَسَاءِ أَصْحَابِهِمْ، فَسُرَّ بِذَلِكَ الْمُخْتَارُ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ

يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ ابْنِ مَرْجَانَةَ وَأَصْحَابِهِ، طُرِحَتْ بَيْنَ يَدِيِ الْمُخْتَارِ، فَجَاءَتْ حَيَّةٌ دَقِيقَةٌ تَخَلَّلَتِ الرُّءُوسَ حَتَّى دَخَلَتْ فِي فَمِ ابْنِ مَرْجَانَةَ وَخَرَجَتْ مِنْ مِنْخَرِهِ، وَدَخَلَتْ فِي مِنْخَرِهِ وَخَرَجَتْ مِنْ فَمِهِ، وَجَعَلَتْ تَدْخُلُ وَتَخْرُجُ مَنْ رَأَسِهُ مِنْ بَيْنِ الرُّءُوسِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظٍ آخَرَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ نُضِّدَتْ فِي الْمَسْجِدِ فِي الرَّحَبَةِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ جَاءَتْ، قَدْ جَاءَتْ. فَإِذَا حَيَّةٌ قَدْ جَاءَتْ تَخَلَّلُ الرُّءُوسَ حَتَّى دَخَلَتْ فِي مِنْخَرَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَمَكَثَتْ هُنَيْهَةً ثُمَّ خَرَجَتْ فَذَهَبَتْ حَتَّى تَغَيَّبَتْ، ثُمَّ قَالُوا: قَدْ جَاءَتْ، قَدْ جَاءَتْ. فَفَعَلَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ بْنُ زَبْرٍ: وَفِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ قَالُوا: فِيهَا قُتِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، وَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، وَلِيَ قَتْلَهُمَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ، وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمَا إِلَى الْمُخْتَارِ فَبَعَثَ بِهِمَا إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَنُصِبَتْ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. وَهَكَذَا حَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ - زَادَ أَبُو أَحْمَدَ: فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ - وَسَكَتَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ ذَلِكَ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ

ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَلَكِنَّ بَعْثَ الرُّءُوسِ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُتَعَذِّرٌ ; لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ كَانَتْ قَدْ قَوِيَتْ وَتَحَقَّقَتْ بَيْنَ الْمُخْتَارِ، وَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَعَمَّا قَلِيلٍ أَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ مُصْعَبًا أَنْ يَسِيرَ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ لِحِصَارِ الْمُخْتَارِ وَقِتَالِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَقْتَلُ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ الْكَذَّابِ عَلَى يَدَيْ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ
كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ عَزَلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ نِيَابَةِ الْبَصْرَةِ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ الْمَعْرُوفَ بِالْقُبَاعِ، وَوَلَّاهَا لِأَخِيهِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ ; لِيَكُونَ رِدْءًا وَقَرْنًا وَكُفُؤًا لِلْمُخْتَارِ، فَلَمَّا قَدِمَ مُصْعَبٌ الْبَصْرَةَ دَخْلَهَا مُتَلَثِّمًا فَيَمَّمَ الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا صَعِدَهُ قَالَ النَّاسُ: أَمِيرٌ أَمِيرٌ. فَلَمَّا كَشَفَ اللِّثَامَ عَرَفَهُ النَّاسُ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ، وَجَاءَ الْقُبَاعُ فَجَلَسَ تَحْتَهُ بِدَرَجَةٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ قَامَ مُصْعَبٌ خَطِيبًا، فَاسْتَفْتَحَ ( الْقَصَصَ ) حَتَّى بَلَغَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ أَوِ الْكُوفَةِ، ثُمَّ قَالَ:

وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَأَشَارَ إِلَى الْحِجَازِ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، إِنَّكُمْ تُلَقِّبُونَ أُمَرَاءَكُمْ، وَقَدْ سَمَّيَتُ نَفْسِي الْجَزَّارَ. فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَفَرِحُوا بِهِ. وَلَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ الْكُوفَةِ حِينَ خَرَجُوا عَلَى الْمُخْتَارِ فَقَهَرَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ، كَانَ لَا يَنْهَزِمُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا قَصَدَ الْبَصْرَةَ، ثُمَّ لَمَّا خَرَجَ الْمُخْتَارُ لِتَلَقِّي ابْنِ الْأَشْتَرِ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّهُ قَتَلَ ابْنَ زِيَادٍ، اغْتَنَمَ مَنْ بَقِيَ بِالْكُوفَةِ مِنْ أَعْدَاءِ الْمُخْتَارِ غَيْبَتَهُ، فَذَهَبُوا إِلَى الْبَصْرَةِ فِرَارًا مِنَ الْمُخْتَارِ ; لِقِلَّةِ دِينِهِ وَكَفْرِهِ وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ، وَأَنَّهُ قَدَّمُ الْمَوَالِي عَلَى الْأَشْرَافِ. وَاتَّفَقَ أَنَّ ابْنَ الْأَشْتَرِ حِينَ قَتَلَ ابْنَ زِيَادٍ اشْتَغَلَ بِتِلْكَ النَّوَاحِي، فَأَحْرَزَ بِلَادًا وَأَقَالِيمَ وَرَسَاتِيقَ لِنَفْسِهِ، وَاسْتَهَانَ بِالْمُخْتَارِ، فَطَمِعَ مُصْعَبٌ فِيهِ وَبَعَثَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ، وَهُوَ نَائِبُهُمْ عَلَى خُرَاسَانَ، فَقَدِمَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ وَمَالٍ وَرِجَالٍ وَعَدَدٍ وَعُدَدٍ وَجَيْشٍ كَثِيفٍ، فَفَرِحَ بِهِ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَتَقَوَّى بِهِ مُصْعَبٌ، فَرَكِبَ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَرَكِبُوا فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ قَاصِدِينَ الْكُوفَةَ.
وَقَدَّمَ مُصْعَبٌ بَيْنَ يَدَيْهِ عَبَّادَ بْنَ الْحُصَيْنِ، وَجَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ، وَرَتَّبَ الْأُمَرَاءَ

عَلَى رَايَاتِهَا وَقَبَائِلِهَا كَمَالِكِ بْنِ مِسْمَعٍ، وَ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، وَ زِيَادِ بْنِ عُمَرَ، وَ قَيْسِ بْنِ الْهَيْثَمِ وَغَيْرِهِمْ. وَخَرَجَ الْمُخْتَارُ بِعَسْكَرِهِ فَنَزَلَ الْمَذَارَ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَبَا كَامِلٍ الشَّاكِرِيَّ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَامِلٍ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ الْجُشَمِيَّ، وَعَلَى الْخَيْلِ وَزِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ السَّلُولِيَّ، وَعَلَى الْمَوَالِي أَبَا عَمْرَةَ صَاحِبَ شُرْطَتِهِ. ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ، وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْجُيُوشَ، وَرَكِبَ هُوَ وَخَلْقٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُوَ يُبَشِّرُهُمْ بِالنَّصْرِ. فَلَمَّا انْتَهَى مُصْعَبٌ إِلَى قَرِيبِ الْكُوفَةِ لَقِيَتْهُمُ الْكَتَائِبُ الْمُخْتَارِيَّةُ، فَحَمَلَتْ عَلَيْهِمُ الْفُرْسَانُ الزُّبَيْرِيَّةُ، فَمَا لَبِثَتِ الْمُخْتَارِيَّةُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى هَرَبُوا عَلَى حِمْيَةٍ، وَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَخَلْقٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مَنِ الشِّيعَةِ الْأَغْبِيَاءِ، ثُمَّ انْتَهَتِ الْهَزِيمَةُ إِلَى الْمُخْتَارِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا انْتَهَتْ مُقَدِّمَةُ الْمُخْتَارِ إِلَيْهِ، جَاءَ مُصْعَبٌ فَقِطَعَ الدِّجْلَةَ إِلَى الْكُوفَةِ وَقَدْ حَصَّنَ الْمُخْتَارُ الْقَصْرَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ، وَخَرَجَ الْمُخْتَارُ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ فَنَزَلَ حَرُورَاءَ، فَلَمَّا قَرُبَ جَيْشُ مُصْعَبٍ مِنْهُ جَهَّزَ إِلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ كُرْدُوسًا، فَبَعَثَ إِلَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ سَعِيدَ بْنَ مُنْقِذٍ، وَإِلَى عَبْدِ الْقَيْسِ مَالِكَ

بْنَ الْمُنْذِرِ، وَإِلَى الْعَالِيَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْدَةَ، وَإِلَى الْأَزْدِ مُسَافِرَ بْنَ سَعِيدٍ، وَإِلَى بَنِي تَمِيمٍ سُلَيْمَ بْنَ يَزِيدَ الْكِنْدِيَّ، وَإِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ السَّائِبَ بْنَ مَالِكٍ، وَوَقَفَ الْمُخْتَارُ فِي بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى اللَّيْلِ ; فَقُتِلَ أَعْيَانُ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ وَقُتِلَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَتَفَرَّقَ عَنِ الْمُخْتَارِ بَاقِي أَصْحَابِهِ فَقِيلَ لَهُ: الْقَصْرَ الْقَصْرَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مِنْهُ وَأَنَا أُرِيدُ أَنَّ أَعُودَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ. ثُمَّ سَارَ إِلَى الْقَصْرِ فَدَخَلَهُ، وَجَاءَهُ مُصْعَبٌ فَفَرَّقَ الْقَبَائِلَ فِي نَوَاحِي الْكُوفَةِ، وَاقْتَسَمُوا الْمَحَالَّ، وَخَلَصُوا إِلَى الْقَصْرِ، وَقَدْ مَنَعُوا الْمُخْتَارَ الْمَادَّةَ وَالْمَاءَ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ يَخْرُجُ فَيُقَاتِلُهُمْ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْقَصْرِ. وَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحِصَارُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ الْحِصَارَ لَا يَزِيدُنَا إِلَّا ضَعْفًا، فَانْزِلُوا بِنَا حَتَّى نُقَاتِلَ حَتَّى اللَّيْلِ حَتَّى نَمُوتَ كِرَامًا. فَوَهَنُوا، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لَا أُعْطِي بِيَدِي. ثُمَّ اغْتَسَلَ وَتَطَيَّبَ وَتَحَنَّطَ وَخَرَجَ، فَقَاتَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى قُتِلُوا.
وَقِيلَ: بَلْ أَشَارَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَسَاوِرَتِهِ بِأَنْ يَدْخُلَ الْقَصْرَ دَارَ إِمَارَتِهِ فَدَخَلَهُ وَهُوَ مَلُومٌ مَذْمُومٌ، وَعَنْ قَرِيبٍ يَنْفُذُ فِيهِ الْقَدَرُ الْمَحْتُومُ، فَحَاصَرَهُ مُصْعَبٌ فِيهِ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ، حَتَّى أَصَابَهُمْ مِنْ جَهْدِ الْعَطَشِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ،

وَضَيَّقَ عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكَ وَالْمَقَاصِدَ وَانْسَدَّتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الْحِيَلِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ وَلَا حَلِيمٌ، ثُمَّ جَعَلَ الْمُخْتَارُ يُجِيلُ فِكْرَتَهُ وَيُكَرِّرُ رَوِيَّتَهُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ حَلَّ بِهِ، وَاسْتَشَارَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمَوَالِي وَالْعَبِيدِ وَلِسَانُ الْقَدَرِ وَالشَّرْعِ يُنَادِيهِ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ثُمَّ قَوَّى عَزْمَهُ قُوَّةُ الشُّجَاعَةِ الْمُرَكَّبَةِ فِيهِ عَلَى أَنْ أَخْرَجَتْهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ مَنْ كَانَ يُحَالِفُهُ وَيُوَالِيهِ، وَرَأَى أَنْ يَمُوتَ عَلَى فَرَسِهِ، حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهَا انْقِضَاءُ آخَرِ نَفَسِهِ، فَنَزَلَ حَمِيَّةً وَغَضَبًا، وَشُجَاعَةً وَكَلَبًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَجِدُ مَنَاصًا وَلَا مَفَرًّا وَلَا مَهَرَبًا، وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ سِوَى تِسْعَةَ عَشَرَ. وَلَعَلَّهُ إِنْ كَانَ قَدِ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ التِّسْعَةَ عَشَرَ الْمُوَكَّلُونَ بِسَقَرَ. وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْقَصْرِ قَالَ لِأَصْحَابِ مُصْعَبٍ: أَتُؤَمِّنُونِي ؟ قَالُوا: لَا، إِلَّا عَلَى حُكْمِ الْأَمِيرِ. فَقَالَ: إِلَّا حُكْمَ نَفْسِي أَبَدًا. ثُمَّ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ شَقِيقَانِ أَخَوَانِ، وَهَمَا طَرَفَةُ، وَ طَرَّافُ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَجَاجَةَ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، فَقَتَلَاهُ بِمَكَانِ الزَّيَّاتِينَ مِنَ الْكُوفَةِ وَاحْتَزَّا رَأْسَهُ وَأَتَيَا بِهِ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ دَخَلَ قَصْرَ الْإِمَارَةِ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا وُضِعَ رَأْسُ ابْنِ زِيَادٍ بَيْنَ يَدَيِ الْمُخْتَارِ، وَكَمَا وُضِعَ

رَأْسُ الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدِيِ ابْنِ زِيَادٍ - وَكَمَا سَيُوضَعُ رَأْسُ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ - فَلَمَّا وُضِعَ رَأْسُ الْمُخْتَارِ بَيْنَ يَدَيْ مُصْعَبٍ أَمْرَ لَهُمَا بِثَلَاثِينَ أَلْفًا.
وَقَدْ قَتَلَ مُصْعَبٌ جَمَاعَةً مِنَ الْمُخْتَارِيَّةِ وَأَسَرَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ أَسِيرٍ، فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ مُصْعَبٍ فِي الْوَقْعَةِ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ.
وَأَمَرَ مُصْعَبٌ بِكَفِّ الْمُخْتَارِ فَقُطِعَتْ وَسُمِرَتْ إِلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَزَلْ هُنَالِكَ حَتَّى قَدِمَ الْحَجَّاجُ، فَسَأَلَ عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ: هِيَ كَفُّ الْمُخْتَارِ، فَأَمَرَ بِهَا فَرُفِعَتْ وَانْتُزِعَتْ مِنْ هُنَالِكَ ; لِأَنَّ الْمُخْتَارَ كَانَ مِنْ قَبِيلَةِ الْحَجَّاجِ - فَالْمُخْتَارُ هُوَ الْكَذَّابُ وَالْمُبِيرُ الْحَجَّاجُ - وَلِهَذَا أَخَذَ الْحَجَّاجُ بِثَأْرِهِ مِنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَتْلَهُ وَصَلْبَهُ شُهُورًا.
وَقَدْ سَأَلَ مُصْعَبٌ أُمَّ ثَابِتٍ بِنْتَ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ امْرَأَةَ الْمُخْتَارِ عَنْهُ فَقَالَتْ: مَا عَسَى أَنْ أَقُولَ فِيهِ إِلَّا مَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ فِيهِ ؟ فَتَرَكَهَا وَاسْتَدْعَى بِزَوْجَتِهِ الْأُخْرَى، وَهِيَ عَمْرَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فَقَالَ لَهَا مَا تَقُولِينَ فِيهِ ؟ فَقَالَتْ: رَحِمَهُ اللَّهُ، لَقَدْ كَانَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ. فَسَجَنَهَا وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ: إِنَّهَا تَقُولُ إِنَّهُ نَبِيٌّ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ أَخْرِجْهَا فَاقْتُلْهَا. فَأَخْرَجَهَا إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ فَضُرِبَتْ ضَرَبَاتٍ حَتَّى مَاتَتْ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ:

إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ عِنْدِي قَتْلَ بَيْضَاءَ حُرَّةٍ عُطْبُولِ قُتِلَتْ هَكَذَا عَلَى غَيْرِ جُرْمٍ
إِنَّ لِلَّهِ دَرَّهَا مِنْ قَتِيلِ كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا
وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ مُصْعَبًا لَقِيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ: أَنَا ابْنُ أَخِيكَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: نَعَمْ، أَنْتَ الْقَاتِلُ سَبْعَةَ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ ؟ عِشْ مَا اسْتَطَعْتَ ! فَقَالَ مُصْعَبٌ: إِنَّهُمْ كَانُوا كَفَرَةً سَحَرَةً. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتَ عِدَّتَهُمْ غَنَمًا مِنْ تُرَاثِ أَبِيكَ لَكَانَ ذَلِكَ سَرَفًا.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الْكَذَّابِ
هُوَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بْنِ غِيَرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ الثَّقَفِيُّ، أَسْلَمَ أَبُوهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ لَمْ يَرَهُ، فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْغَابَةِ،

وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بَعْثَهُ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فِي قِتَالِ الْفُرْسِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ شَهِيدًا، وَقُتِلَ مَعَهُ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - كَمَا قَدَّمْنَا - وَعُرِفَ ذَلِكَ الْجِسْرُ بِهِ، وَهُوَ جِسْرٌ عَلَى دِجْلَةَ، فَيُقَالُ لَهُ إِلَى الْيَوْمِ جِسْرُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ الْعَابِدَاتِ، وَهِيَ زَوْجَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَهَا مُكْرِمًا وَمُحِبًّا وَمَاتَتْ فِي حَيَاتِهِ. وَأَمَّا أَخُوهَا الْمُخْتَارُ هَذَا فَإِنَّهُ كَانَ أَوَّلًا نَاصِبِيًّا يُبْغِضُ عَلِيًّا بُغْضًا شَدِيدًا، وَكَانَ عِنْدَ عَمِّهِ بِالْمَدَائِنِ، وَكَانَ عَمُّهُ نَائِبَهَا، فَلَمَّا دَخَلَهَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَوْمَ خَذَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى الشَّامِ لِقِتَالِ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ عَلِيٍّ، فَلَمَّا أَحَسَّ الْحَسَنُ مِنْهُمْ بِالْغَدْرِ، فَرَّ مِنْهُمْ إِلَى الْمَدَائِنِ فِي جَيْشٍ قَلِيلٍ، فَقَالَ الْمُخْتَارُ لِعَمِّهِ: لَوْ أَخَذْتَ الْحَسَنَ فَبَعَثْتَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ لَاتَّخَذْتَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ الْيَدَ الْبَيْضَاءَ أَبَدًا. فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ: بِئْسَ مَا تَأْمُرُنِي بِهِ يَابْنَ أَخِي.
فَمَا زَالَتِ الشِّيعَةُ تُبْغِضُهُ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ بِالْكُوفَةِ مَا كَانَ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ مِنَ الْأُمَرَاءِ بِالْكُوفَةِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَمَا لَأَنْصُرَنَّهُ، فَبَلَغَ ابْنَ زِيَادٍ ذَلِكَ فَحَبْسَهُ بَعْدَمَا ضَرَبَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ يَشْفَعُ فِيهِ، فَأَرْسَلَ يَزِيدُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فَأَطْلَقَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى

الْحِجَازِ فِي عَبَاءَةٍ، فَضَوَى إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، فَقَاتَلَ مَعَهُ حِينَ حَصَرَهُ أَهْلُ الشَّامِ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ بَلَغَ الْمُخْتَارُ مَا أَهْلُ الْعِرَاقِ فِيهِ مِنَ التَّخْبِيطِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَتَرَكَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَأَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ نَائِبِ الْكُوفَةِ فَفَعَلَ، فَسَارَ إِلَيْهَا.
وَكَانَ يُظْهِرُ مَدْحَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْعَلَانِيَةِ وَيَسُبُّهُ فِي السِّرِّ، وَيَمْدَحُ مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ، وَمَا زَالَ حَتَّى اسْتَحْوَذَ عَلَى الْكُوفَةِ بِطَرِيقِ التَّشَيُّعِ وَإِظْهَارِ الْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ الْتَفَّتْ عَلَيْهِ جَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ حَتَّى قَاوَمَ نُوَّابَ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى الْكُوفَةِ، وَأَخْرَجَ عَامِلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِنْهَا، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ الْمُخْتَارِ بِهَا، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ مُطِيعٍ كَانَ مُدَاهِنًا لِبَنِي أُمَيَّةَ، وَقَدْ خَرَجَ مَنَ الْكُوفَةِ، وَأَنَا وَمَنْ بِهَا فِي طَاعَتِكَ، فَصَدَّقَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَدْعُو لَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، وَيُظْهِرُ طَاعَتَهُ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي تَتَبُّعِ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ وَمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ بِكَرْبَلَاءَ مِنْ نَاحِيَةِ ابْنِ زِيَادٍ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَظَفِرَ بِرُءُوسِ كِبَارٍ مِنْهُمْ كَعُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَمِيرِ الْجَيْشِ الَّذِينَ قَتَلُوا الْحُسَيْنَ، وَ شَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ أَمِيرِ الْأَلْفِ الَّذِينَ وَلُوا قَتْلَ الْحُسَيْنِ، وَ سِنَانَ بْنَ أَبِي أَنَسٍ، وَ خَوْلِيِّ بْنِ يَزِيدَ الْأَصْبَحِيِّ، وَخَلْقًا غَيْرَ هَؤُلَاءِ، وَمَا زَالَ حَتَّى بَعَثَ سَيْفَ نِقْمَتِهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا

إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، وَهُوَ فِي جَيْشٍ أَعْظَمَ مِنْ جَيْشِ الْمُخْتَارِ بِأَضْعَافٍ، كَانُوا سِتِّينَ أَلْفًا، وَقِيلَ: ثَمَانِينَ أَلْفًا، فَقَتَلَ ابْنُ الْأَشْتَرِ بْنَ زِيَادٍ وَكَسَرَ جَيْشَهُ، وَاحْتَازَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِ، - وَاتَّفَقَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ -، ثُمَّ بَعَثَ بِرَأْسِ ابْنِ زِيَادٍ وَرُءُوسِ أَصْحَابِهِ مَعَ الْبِشَارَةِ إِلَى الْمُخْتَارِ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا. ثُمَّ إِنَّ الْمُخْتَارَ بَعْثَ بِرَأْسِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَرَأْسِ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ وَمَنْ مَعَهُمَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ فَأَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِهَا فَنُصِبَتْ عَلَى عَقَبَةِ الْحَجُونَ، وَقَدْ كَانُوا نَصَبُوهَا بِالْمَدِينَةِ.
وَطَابَتْ نَفْسُ الْمُخْتَارِ بِالْمُلْكِ وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَدُوٌّ وَلَا مُنَازِعٌ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ تَبَيَّنَ خِدَاعَهُ وَمَكْرَهُ وَسُوءَ مَذْهَبِهِ، فَبَعَثَ أَخَاهُ مُصْعَبًا أَمِيرًا عَلَى الْعِرَاقِ، فَسَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا، وَوَفَدَ إِلَيْهِ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْكُوفَةِ فَلَمْ يَتِمَّ سُرُورُ الْمُخْتَارِ حَتَّى سَارَ إِلَيْهِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْبَصْرَةِ فِي جَيْشٍ هَائِلٍ فَحَاصَرَهُ بِالْكُوفَةِ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَمَا زَالَ حَتَّى أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ، فَقَتَلَهُ وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَأَمَرَ بِصَلْبِ كَفِّهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، وَبَعَثَمُصْعَبٌ بِرَأْسِ الْمُخْتَارِ مَعَ رَجُلٍ مِنَ الشُّرَطِ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَوَصَلَ مَكَّةَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَوَجَدَ عَبْدَ اللَّهِ يَتَنَفَّلُ، فَمَا زَالَ يُصَلِّي حَتَّى أَسْحَرَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الْبَرِيدِ الَّذِي جَاءَ بِالرَّأْسِ، فَلَمَّا كَانَ قَرِيبَ الْفَجْرِ قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ ؟ فَأَلْقَى إِلَيْهِ الْكِتَابَ فَقَرَأَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَعِي الرَّأْسُ. فَقَالَ: أَلْقِهِ عَلَى بَابِ

الْمَسْجِدِ. فَأَلْقَاهُ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: جَائِزَتِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: جَائِزَتُكَ الرَّأْسُ الَّذِي جِئْتَ بِهِ تَأْخُذُهُ مَعَكَ إِلَىالْعِرَاقِ.
ثُمَّ زَالَتْ دَوْلَةُ الْمُخْتَارِ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الدُّوَلِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِزَوَالِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ صَادِقًا، بَلْ كَانَ كَاذِبًا وَكَاهِنًا، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ عَلَى يَدِ جِبْرِيلَ يَأْتِي إِلَيْهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى الْقَارِئُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا السُّدِّيُّ، عَنْ رِفَاعَةَ الْقِتْبَانِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمُخْتَارِ فَأَلْقَى لِي وِسَادَةً وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ أَخِي جِبْرِيلَ قَامَ عَنْ هَذِهِ لَأَلْقَيْتُهَا لَكَ. قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ. قَالَ: فَذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ أَخِي عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَمَّنَ مُؤْمِنًا عَلَى دَمِهِ فَقَتَلَهُ، فَأَنَا مِنَ الْقَاتِلِ بَرِيءٌ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ رَفَاعَةَ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ عَلَى رَأْسِ الْمُخْتَارِ، فَلَمَّا عَرَفْتُ كَذِبَهُ هَمَمْتُ أَنْ أَسُلَّ سَيْفِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثْنَاهُ عُمَرُ بْنُ الْحَمِقِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ أُعْطِيَ لِوَاءَ غَدْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَ ابْنُ مَاجَهْ

مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهِ. وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا:مَنْ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى دَمٍ فَقَتَلَهُ، فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ الْقَاتِلِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا وَفِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ اخْتِلَافٌ. وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ يَزْعُمُ أَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيهِ. فَقَالَ: صَدَقَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى الْمُخْتَارِ فَأَكْرَمَنِي وَأَنْزَلَنِي حَتَّى كَانَ يَتَعَاهَدُ مَبِيتِي بِاللَّيْلِ، قَالَ: فَقَالَ لِي: اخْرُجْ فَحَدِّثَ النَّاسَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا تَقَوُلُ فِي الْوَحْيِ ؟ فَقُلْتُ: الْوَحْيُ وَحْيَانِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ. وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا قَالَ: فَهَمُّوا بِي أَنْ يَأْخُذُونِي، فَقُلْتُ: مَا لَكُمْ وَذَاكَ، إِنِّي مُفْتِيكُمْ وَضَيْفُكُمْ، فَتَرَكُونِي. وَإِنَّمَا أَرَادَ عِكْرِمَةُ أَنْ يُعَرِّضَ بِالْمُخْتَارِ وَكَذِبِهِ فِي ادِّعَائِهِ أَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، مِنْ طَرِيقِ أُنَيْسَةَ بِنْتِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، أَنَّ أَبَاهَا دَخَلَ

عَلَى الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَامِرٍ لَوْ سَبَقْتَ رَأَيْتَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ. فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: حُقِرْتَ وَتَعِسْتَ، أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، كَذَّابٌ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا ابْنُ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ، أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ دَخْلَ عَلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، بَعْدَمَا قَتَلَ ابْنَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَكِ أَلْحَدَ فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَذَاقَهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَفَعَلَ بِهِ وَفَعَلَ، فَقَالَتْ: كَذَبْتَ، كَانَ بَرًّا بِالْوَالِدَيْنِ، صَوَّامًا قَوَّامًا، وَاللَّهِ لَقَدْ أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَأَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ كَذَّابَانِ الْآخِرُ مِنْهُمَا شَرٌّ مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُبِيرٌ. هَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِهَذَا السَّنَدِ وَاللَّفْظِ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " فِي كِتَابِ الْفَضَائِلِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُكْرَمٍ الْعَمِّيِّ الْبَصْرِيِّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي نَوْفَلٍ عَنْ أَبِي عَقْرَبٍ - وَاسْمُهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُسْلِمٍ - عَنْ

أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا. وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ فِي مَقْتَلِ الْحَجَّاجِ وَلَدَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.
وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْكَذَّابَ هُوَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَانَ يُظْهِرُ التَّشَيُّعَ وَيُبْطِنُ الْكَهَانَةَ، وَيُسِرُّ إِلَى أَخِصَّائِهِ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، وَلَكِنْ مَا أَدْرِي هَلْ كَانَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ أَمْ لَا ؟ وَكَانَ قَدْ وُضِعَ لَهُ كُرْسِيٌّ يُعَظَّمُ، وَيُحَفُّ بِالرِّجَالِ وَيُسْتَرُ بِالْحَرِيرِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْبِغَالِ، وَكَانَ يُضَاهِي بِهِ تَابُوتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ ضَالًّا مُضِلًّا، أَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ بَعْدَمَا انْتَقَمَ بِهِ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَهُوَ الْقَتَّالُ وَهُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ، نَائِبُ الْعِرَاقِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، الَّذِي انْتَزَعَ الْعِرَاقَ مِنْ يَدِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْمُخْتَارَ لَمْ يَزَلْ مُظْهِرًا مُوَافَقَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ حَتَّى قَدِمَ مُصْعَبٌ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي أَوَّلِ سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، وَأَظْهَرَ مُخَالَفَتَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ فَقَاتَلَهُ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ فِي نَحْوٍ مَنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَقَدْ حَمَلَ عَلَيْهِ الْمُخْتَارُ مَرَّةً فَهَزَمَهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ جَيْشُ الْمُخْتَارِ حَتَّى جَعَلُوا يَنْصَرِفُونَ إِلَى مُصْعَبٍ وَيَدْعُونَ الْمُخْتَارَ،

وَيَنْقِمُونَ عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكَهَانَةِ وَالْكَذِبِ. فَلَمَّا رَأَى الْمُخْتَارُ ذَلِكَ انْصَرَفَ إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَحَاصَرَهُ مُصْعَبٌ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَتَلَهُ فِي رَابِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سَبْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً فِيمَا قِيلَ.

فَصْلٌ ( اسْتِقْرَارُ الْأَمْرِ لِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِالْكُوفَةِ )
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِالْكُوفَةِ بَعْثَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ لِيَقْدَمَ عَلَيْهِ، وَبَعَثَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ لِيَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَحَارَ ابْنُ الْأَشْتَرِ فِي أَمْرِهِ، وَشَاوَرَ أَصْحَابَهُ إِلَى أَيِّهِمَا يَذْهَبُ، ثُمَّ اتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى بَلَدِهِمُ الْكُوفَةِ، فَقَدِمَ ابْنُ الْأَشْتَرَ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَاحْتَرَمَهُ كَثِيرًا، وَبَعَثَ مُصْعَبٌ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ عَلَى الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ وَأَذْرَبِيجَانَ وَأَرْمِينِيَّةَ - وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَصْرَةِ حِينَ خَرَجَ مِنْهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ - وَأَقَامَ هُوَ بِالْكُوفَةِ. ثُمَّ لَمْ تَنْسَلِخُ هَذِهِ السَّنَةُ حَتَّى عَزَلَهُ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ الْبَصْرَةِ وَوَلَّى عَلَيْهَا ابْنَهُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ شُجَاعًا جَوَادًا مُخَلِّطًا، يُعْطِي أَحْيَانًا حَتَّى لَا يَدَعَ شَيْئًا، وَيَمْنَعُ أَحْيَانًا مَا لَا يُمْنَعُ مِثْلُهُ، وَظَهَرَتْ خِفَّتُهُ وَطَيْشٌ فِي عَقْلِهِ وَسُرْعَةٌ فِي أَمْرِهِ، فَبَعَثَ الْأَحْنَفُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَعَزَلَهُ وَأَعَادَ إِلَى وِلَايَتِهَا أَخَاهُ مُصْعَبًا مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ وِلَايَةِ الْكُوفَةِ، قَالُوا: وَخَرَجَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِنَ الْبَصْرَةِ بِمَالٍ كَثِيرٍ مِنْ بَيْتِ مَالِهَا فَعَرَضَ لَهُ مَالِكُ بْنُ مِسْمَعٍ، فَقَالَ: لَا نَدَعُكَ تَذْهَبُ بِأَعْطِيَاتِنَا. فَضَمِنَ لَهُ

عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ الْعَطَاءَ، فَكَفَّ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ حَمْزَةُ لَمْ يَقْدَمْ عَلَى أَبِيهِ مَكَّةَ بَلْ عَدَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَوْدَعَ ذَلِكَ الْمَالَ رِجَالًا، فَكُلُّهُمْ غَلَّ مَا أَوْدَعَهُ وَجَحَدَهُ، سِوَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَدَّى إِلَيْهِ أَمَانَتَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ أَبَاهُ مَا صَنَعَ، قَالَ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ، أَرَدْتُ أَنْ أُبَاهِيَ بِهِ بَنِي مَرْوَانَ فَنَكَصَ.
وَذَكَرَ أَبُو مِخْنَفٍ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَلِيَ الْبَصْرَةَ سَنَةً كَامِلَةً، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَ عَامِلُهُ عَلَى الْكُوفَةِ أَخَاهُ مُصْعَبًا، وَعَلَى الْبَصْرَةِ ابْنَهُ حَمْزَةَ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ رَجَعَ إِلَيْهَا أَخُوهُ. وَعَلَى خُرَاسَانَ وَتِلْكَ الْبِلَادِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ السُّلَمِيُّ مِنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْوَلِيدُ بْنُ عَقَبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَ أَبُو الْجَهْمِ، وَهُوَ صَاحِبُ الْأَنْبِجَانِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَفِيهَا قُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ
فَفِيهَا رَدَّ عَبْدُ اللَّهِ أَخَاهُ مُصْعَبًا إِلَى إِمْرَةِ الْبَصْرَةِ، فَأَتَاهَا فَأَقَامَ بِهَا. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ ; قُبَاعًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ جَابِرَ بْنَ الْأَسْوَدِ الزُّهْرِيَّ، وَعَزَلَ عَنْهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَشْعَثِ ; لِكَوْنِهِ ضَرَبَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ سِتِّينَ سَوْطًا، فَإِنَّهُ أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَضَرَبَهُ فَعَزَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ
وَفِيهَا هَلَكَ مَلِكُ الرُّومِ قُسْطَنْطِينُ بْنُ قُسْطَنْطِينَ بِبَلَدِهِ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الْأَزَارِقَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ مُصْعَبًا كَانَ قَدْ عَزَلَ عَنْ نَاحِيَةِ فَارِسَ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ، وَكَانَ قَاهِرًا لَهُمْ، وَوَلَّاهُ الْجَزِيرَةَ، وَوَلَّى عَلَى فَارِسَ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ فَثَارُوا عَلَيْهِ فَقَاتَلَهُمْ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَهَرَهُمْ وَكَسَرَهُمْ، وَكَانُوا مَعَ أَمِيرِهِمِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْمَاحُوزِ، فَفَرُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى إِصْطَخْرَ، فَاتَّبَعَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَقَتَلُوا ابْنَهُ، ثُمَّ ظَفِرَ بِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى ثُمَّ هَرَبُوا إِلَى بِلَادِ أَصْبَهَانَ، وَنَوَاحِيهَا فَتَقَوَّوْا هُنَالِكَ، وَكَثُرَ عَدَدُهُمْ وَعُدَدُهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلُوا يُرِيدُونَ الْبَصْرَةَ، فَمَرُّوا بِبَعْضِ بِلَادِ فَارِسَ، وَتَرَكُوا عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ مُصْعَبٌ بِقُدُومِهِمْ رَكِبَ فِي النَّاسِ، وَجَعَلَ يَلُومُ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بِتَرْكِهِ هَؤُلَاءِ يَجْتَازُونَ بِبِلَادِهِ إِلَى الْبَصْرَةِ وَقَدْ رَكِبَ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ

بْنِ مَعْمَرٍ فِي آثَارِهِمْ، فَبَلَغَ الْخَوَارِجَ أَنَّ مُصْعَبًا أَمَامَهُمْ وَعُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ وَرَاءَهُمْ، فَعَدَلُوا إِلَى الْمَدَائِنِ فَجَعَلُوا يَقْتُلُونَ النِّسَاءَ وَالْوِلْدَانَ، وَيَبْقُرُونَ بُطُونَ الْحَبَالَى، وَيَفْعَلُونَ أَفْعَالًا لَمْ يَفْعَلْهَا غَيْرُهُمْ ; فَقَصَدَهُمْ نَائِبُ الْكُوفَةِ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَمَعَهُ أَهْلُهَا وَجَمَاعَاتٌ مِنْ أَشْرَافِهَا، مِنْهُمُ ابْنُ الْأَشْتَرِ، وَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِمْ عِنْدَ جِسْرِ الصَّرَاةِ، قَطَعَهُ الْخَوَارِجُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَأَمَرَ الْأَمِيرُ بِإِعَادَتِهِ، فَأُعِيدَ، فَفَرَّتِ الْخَوَارِجُ هَارِبِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاتَّبَعَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مِخْنَفٍ فِي سِتَّةِ آلَافٍ فَمَرُّوا عَلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ صَارُوا إِلَى أَرْضِ أَصْبَهَانَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلُوا فَحَاصَرُوا عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ شَهْرًا، بِمَدِينَةِ جُبَّا حَتَّى ضَيَّقُوا عَلَى النَّاسِ، فَنَزَلُوا إِلَيْهِمْ فَقَاتَلُوهُمْ فَكَشَفُوهُمْ وَقَتَلُوا أَمِيرَهُمِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْمَاحُوزِ، وَغَنِمُوا مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ، وَأَمَّرَتِ الْخَوَارِجُ عَلَيْهِمْ قَطَرِيَّ بْنَ الْفُجَاءَةِ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى بِلَادِ الْأَهْوَازِ، فَكَتَبَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ - وَهُوَ عَلَى الْمَوْصِلِ - أَنَّ يَسِيرَ إِلَى قِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَكَانَ أَبْصَرَ النَّاسَ بِقِتَالِهِمْ، وَبَعَثَ مَكَانَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ فَانْصَرَفَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْأَهْوَازِ فَقَاتَلَ فِيهَا الْخَوَارِجَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ قِتَالًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الْقَحْطُ الشَّدِيدُ بِبِلَادِ الشَّامِ ; بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مَعَهُ مِنَ الْغَزْوِ لِضَعْفِهِمْ وَقِلَّةِ طَعَامِهِمْ وَمِيرَتِهِمْ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا قُتِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُرِّ وَكَانَ مَنْ خَبَرِهِ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا شُجَاعًا تَتَقَلَّبُ بِهِ الْأَحْوَالُ وَالْأَيَّامُ وَالْآرَاءُ، حَتَّى صَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ لَا يَنْطَاعُ لِأَحَدٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَلَا لِآلِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ يَمُرُّ عَلَى عَامِلِ الْكُورَةِ مِنَ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ جَمِيعَ مَا فِي بَيْتِ مَالِهِ مِنَ الْحَوَاصِلِ قَهْرًا، وَيَكْتُبُ لَهُ بَرَاءَةً، وَيَذْهَبُ فَيُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَكَانَ الْخُلَفَاءُ وَالْأُمَرَاءُ يَبْعَثُونَ إِلَيْهِ الْجُيُوشَ فَيَطْرُدُهَا وَيَكْسِرُهَا، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ حَتَّى كَاعَ فِيهِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعُمَّالُهُ بِبِلَادِ الْعِرَاقِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَبَعْثَهُ فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ، وَقَالَ: ادْخُلِ الْكُوفَةَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ الْجُنُودَ سَتَصِلُ إِلَيْهِمْ سَرِيعًا. فَبَعَثَ فِي السِّرِّ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَظَهَرَ عَلَى أَمْرِهِ، فَأَعْلَمَ أَمِيرَ الْكُوفَةِ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَقَتَلُوهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَاسْتَرَاحَ النَّاسُ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا شَهِدَ مَوْقِفَ عَرَفَةَ أَرْبَعُ رَايَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لَا تَأْتَمُّ بِالْأُخْرَى ; الْوَاحِدَةُ لِمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَصْحَابِهِ، وَالثَّانِيَةُ لِنَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَالثَّالِثَةُ لِبَنِي أُمَيَّةَ، وَالرَّابِعَةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَفَعَ رَايَةَ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، ثُمَّ نَجْدَةُ، ثُمَّ بَنُو أُمَيَّةَ، ثُمَّ دَفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَدُفَعَ النَّاسَ مَعَهُ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِيمَنِ انْتَظَرَ دَفْعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَكِنَّهُ تَأَخَّرَ دَفْعُهُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَشْبَهَ بِتَأْخِيرِهِ دَفْعَ الْجَاهِلِيَّةِ، فَدَفَعَ ابْنُ عُمَرَ فَدَفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَتَحَاجَزَ النَّاسُ فِي هَذَا الْعَامِ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَكَانَ عَلَى نِيَابَةِ الْمَدِينَةِ

لِابْنِ الزُّبَيْرِ جَابِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ أَخُوهُ مُصْعَبٌ، وَعَلَى مُلْكِ الشَّامِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَوْسِيُّ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيُّ ابْنِ أَخِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ عَنْ نَحْوِ سَبْعِينَ سَنَةً.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ.
عَدِيُّ بْنُ حَاتِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ سَكَنَ الْكُوفَةَ ثُمَّ سَكَنَ قَرْقِيسْيَاءَ.
زَيْدُ بْنُ أَرَقَمَ بْنِ زَيْدٍ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ، وَابْنُ عَمِّ رَسُولِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ أَبُو الْعَبَّاسِ الْهَاشِمِيُّ بْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمُفَسِّرُ كِتَابِ اللَّهِ وَتُرْجُمَانُهُ، كَانَ يُقَالُ لَهُ: الْحَبْرُ وَالْبَحْرُ، رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَخَذَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأُمَمٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَلَهُ مُفْرَدَاتٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ ; لِاتِّسَاعِ عِلْمِهِ وَكَثْرَةِ فَهْمِهِ وَكَمَالِ عَقْلِهِ وَسِعَةِ فَضْلِهِ وَنُبْلِ أَصْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
وَأُمُّهُ أُمُّ الْفَضْلِ لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ أُخْتُ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ وَالِدُ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ وَهُوَ أَحَدُ إِخْوَةٍ عَشَرَةٍ ذُكُورٍ لِلْعَبَّاسِ مِنْ أُمِّ الْفَضْلِ، وَهُوَ آخِرُهُمْ مَوْلِدًا، وَقَدْ مَاتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنَ الْآخَرِ جِدًّا، كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ.
قَالَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ الْمَكِّيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ جَاءَ أَبِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَرَى أُمَّ الْفَضْلِ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى حَمْلٍ، فَقَالَ: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُقِرَّ أَعْيُنَكُمْ " قَالَ: فَأَتَى بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا فِي خِرْقَةٍ فَحَنَّكَنِي بِرِيقِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَنَّكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِيقِهِ غَيْرَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَيِّضَ وُجُوهَنَا بِغُلَامٍ فَوَلَدَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: وُلِدَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَامَ الْهِجْرَةِ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ، مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وُلِدْتُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ وَنَحْنُ فِي الشِّعْبِ، وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاحْتَجَّ الْوَاقِدِيُّ بِأَنَّهُ كَانَ قَدْ نَاهَزَ الْحُلُمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَخْتُونٌ، وَكَانُوا لَا يَخْتِنُونَ الْغُلَامَ حَتَّى يَحْتَلِمَ. وَقَالَ شُعْبَةُ، وَ هُشَيْمٌ

وَأَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، مَخْتُونٌ. زَادَ هُشَيْمٌ: وَقَدْ جَمَعْتُ الْمُحْكَمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: وَمَا الْمُحْكَمُ ؟ قَالَ: الْمُفَصَّلُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مَخْتُونٌ. وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَيُؤَيِّدُهُ صِحَّةُ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وَرَوَاهُ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعُ وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ ;

كَانَتْ أُمِّي مِنَ النِّسَاءِ وَكُنْتُ أَنَا مِنَ الْوِلْدَانِ. وَهَاجَرَ مَعَ أَبِيهِ قَبْلَ الْفَتْحِ، فَاتَّفَقَ لُقْيَاهُمَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُحْفَةِ وَهُوَ ذَاهِبٌ لِفَتْحِ مَكَّةَ، فَشَهِدَ الْفَتْحَ وَحُنَيْنًا وَالطَّائِفَ عَامَ ثَمَانٍ، وَقِيلَ: كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَحَجَّةُ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ. وَصَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حِينَئِذٍ وَلَزِمَهُ وَأَخَذَ عَنْهُ وَحَفِظَ، وَضَبَطَ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ وَالْأَحْوَالَ، وَأَخَذَ عَنِ الصَّحَابَةِ عِلْمًا عَظِيمًا مَعَ الْفَهْمِ الثَّاقِبِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْجَمَالِ وَالْمَلَاحَةِ وَالْأَصَالَةِ وَالْبَيَانِ، وَدَعَا لَهُ رَسُولُ الرَّحْمَنِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ الْأَرْكَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ بِأَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ التَّأْوِيلَ، وَأَنْ يُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي سَاعِدَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ يَدْعُو عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَيُقَرِّبُهُ وَيَقُولُ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاكَ يَوْمًا فَمَسَحَ رَأْسَكَ، وَتَفَلَ فِي فِيكَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ، وَبِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ وَانْشُرْ مِنْهُ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَوَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

غُسْلًا فَقَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا ؟ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ، وَفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ، ثَنَا حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ أَبُو يُونُسَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنْ كُرَيْبًا أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آخَرِ اللَّيْلِ فَصَلَّيْتُ خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَجَرَّنِي حَتَّى جَعَلَنِي حِذَاءَهُ، فَلَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صِلَاتِهِ خَنَسْتُ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِي: مَا شَأْنِي أَجْعَلُكَ فِي حِذَائِي فَتَخْنِسُ ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَيَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ حِذَاءَكَ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ: فَأَعْجَبْتُهُ، فَدَعَا اللَّهَ لِي أَنْ يَزِيدَنِي عِلْمًا وَفَهْمًا، قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُهُ يَنْفُخُ، ثُمَّ أَتَاهُ بِلَالٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الصَّلَاةُ. فَقَامَ فَصَلَّى مَا أَعَادَ وُضُوءًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، ثَنَا وَرْقَاءُ، سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي يَزِيدَ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَلَاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وُضُوءًا، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: مَنْ وَضَعَ ذَا ؟ فَقِيلَ: ابْنُ عَبَّاسٍ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ أَبِي جَهْضَمٍ مُوسَى بْنِ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ بِالْحِكْمَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ بِالْعِلْمِ - مَرَّتَيْنِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ الْقَاسِمِ الْهَاشِمِيُّ وَآخَرُونَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ النَّخَعِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مَرَّتَيْنِ وَدَعَا لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِكْمَةِ مَرَّتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ. تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ أَبُو مَالِكٍ النَّخَعِيُّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حُسَيْنٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ، قَالَ: ضَمَّنِي إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَ التِّرْمِذِيُّ، وَ النَّسَائِيُّ، وَ ابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ خَالِدٍ - وَهُوَ ابْنُ مِهْرَانَ

الْحَذَّاءُ - عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، ثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَعْطِ ابْنَ عَبَّاسٍ الْحِكْمَةَ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بِنَحْوِ هَذَا. وَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْمُتَّصِلُ هُوَ الصَّحِيحُ، فَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ وَفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، وَ عَفَّانُ، الْمَعْنَى، قَالَا: ثَنَا حَمَّادٌ، ثَنَا عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يُنَاجِيهِ، قَالَ عَفَّانُ: وَهُوَ كَالْمُعْرِضِ عَنِ الْعَبَّاسِ، فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى ابْنِ عَمِّكَ كَالْمُعْرِضِ عَنِّي ؟ فَقُلْتُ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ

يُنَاجِيهِ. قَالَ عَفَّانُ: قَالَ: أَوَكَانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ كَانَ عِنْدَكَ أَحَدٌ ; فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ كَانَ عِنْدَكَ رَجُلٌ تُنَاجِيهِ ؟ قَالَ: هَلْ رَأَيْتَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْمَهْدِيِّ عَنْ آبَائِهِ، وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أَمَا إِنَّكَ سَتُصَابُ فِي بَصَرِكَ فَكَانَ كَذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ صِفَةٍ أُخْرَى لِرُؤْيَتِهِ جِبْرِيلَ
، رَوَاهَا قُتَيْبَةُ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَأَنَّ الْعَبَّاسَ بَعَثَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ فِي حَاجَةٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَجُلًا، فَرَجَعَ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ مِنْ أَجْلِ مَكَانِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَلَقِيَ الْعَبَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ ابْنِي فَوَجَدَ عِنْدَكَ رَجُلًا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَكَ فَرَجَعَ وَرَاءَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَمِّ، تَدْرِي مَنْ ذَاكَ الرَّجُلُ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ

وَلَنْ يَمُوتَ ابْنُكَ حَتَّى يَذْهَبَ بَصَرُهُ وَيُؤْتَى عِلْمًا وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ كَذَلِكَ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضَائِلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا هُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا أَضْرَبْنَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا صَفْحًا، وَذَكَرْنَا مَا فِيهِ مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ عَمَّا سِوَاهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي بِمَرْوَ، ثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ. فَقَالَ: يَا عَجَبًا لَكَ يَابْنَ عَبَّاسٍ ! أَتَرَى النَّاسَ يَفْتَقِرُونَ إِلَيْكَ وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فِيهِمْ ؟ قَالَ: فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلْتُ أَنَا أَسْأَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِي بَابَهُ وَهُوَ قَائِلٌ، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ يَسْفِي الرِّيحُ عَلَيَّ مِنَ التُّرَابِ، فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي فَيَقُولُ: يَابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، مَا جَاءَ بِكَ ؟ هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيكَ ؟ فَأَقُولُ: لَا، أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ. قَالَ: فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ. قَالَ:

فَعَاشَ هَذَا الرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ حَتَّى رَآنِي وَقَدِ اجْتَمَعَ حَوْلِي النَّاسُ يَسْأَلُونِي، فَيَقُولُ: هَذَا الْفَتَى كَانَ أَعْقَلَ مِنِّي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، ثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَجَدْتُ عَامَّةَ عِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ، إِنْ كُنْتُ لَأَقِيلُ بِبَابِ أَحَدِهِمْ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي عَلَيْهِ لَأَذِنَ، وَلَكِنْ أَبْتَغِي بِذَلِكَ طِيبَ نَفْسِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كُنْتُ أَلْزَمُ الْأَكَابِرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَأَسْأَلُهُمْ عَنْ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ، وَكُنْتُ لَا آتِي أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا سُرَّ بِإِتْيَانِي ; لِقُرْبِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلْتُ أَسْأَلُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَوْمًا - وَكَانَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ - عَمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِالْمَدِينَةِ. فَقَالَ: نَزَلَ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سُورَةً وَسَائِرُهَا بِمَكَّةَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: عَامَّةُ عِلْمِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ

ثَلَاثَةٍ مِنْ عُمَرَ، وَ عَلِيٍّ، وَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كُنْتُ لَأَسْأَلُ عَنِ الْأَمْرِ الْوَاحِدِ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مُغِيرَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّى أَصَبْتَ هَذَا الْعِلْمَ ؟ قَالَ: بِلِسَانٍ سَئُولٍ، وَقَلْبٍ عَقُولٍ. وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يُجْلِسُ ابْنَ عَبَّاسٍ مَعَ مَشَايِخِ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُ: نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَكَانَ إِذَا أَقْبَلَ يَقُولُ عُمَرُ: جَاءَ فَتَى الْكُهُولِ، وَذُو اللِّسَانِ السَّئُولِ وَالْقَلْبِ الْعُقُولِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ الصَّحَابَةَ عَنْ تَفْسِيرِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَسَكَتَ بَعْضٌ وَأَجَابَ بَعْضٌ بِجَوَابٍ لَمْ يَرْتَضِهِ عُمَرُ، ثُمَّ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْهَا فَقَالَ: أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعِيَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ. وَأَرَادَ عُمَرُ بِذَلِكَ أَنْ يُقَرِّرَ عِنْدَهُمْ جَلَالَةَ قَدْرِهِ، وَكَبِيرَ مَنْزِلَتِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ. وَسَأَلَهُ مَرَّةً عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَاسْتَنْبَطَ أَنَّهَا فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، فَاسْتَحْسَنَهُ عُمَرُ وَاسْتَجَادَهُ، كَمَا ذَكَرْنَا

فِي التَّفْسِيرِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْيَمَانِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَقَدْ عَلِمْتَ عِلْمًا مَا عَلِمْنَاهُ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: قَالَ عُمَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّكَ لَأَصْبَحُ فِتْيَانِنَا وَجْهًا، وَأَحْسَنُهُمْ عَقْلًا وَأَفْقَهُهُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يُدْنِيكَ وَيُجْلِسُكَ مَعَ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، فَاحْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا ; لَا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا، وَلَا تَغْتَابَنَّ عِنْدَهُ أَحَدًا، وَلَا يُجَرِّبَنَّ عَلَيْكَ كَذِبًا. قَالَ الشَّعْبِيُّ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ وَاحِدَةٍ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ خَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ عُمَرَ، وَ عُثْمَانَ كَانَا يَدْعُوَانِ ابْنَ عَبَّاسٍ

فَيُشِيرُ مَعَ أَهْلِ بَدْرٍ، وَكَانَ يُفْتِي فِي عَهْدِ عُمَرَ، وَ عُثْمَانَ إِلَى يَوْمِ مَاتَ. قُلْتُ: وَشَهِدَ فَتْحَ إِفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَعَ ابْنِ أَبِي سَرْحٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَظَرَ أَبِي إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَوْمَ الْجَمَلِ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَقَالَ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَ مَنْ لَهُ ابْنُ عَمٍّ مِثْلُ هَذَا. وَقَدْ شَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَيْسَرَةِ، وَشَهِدَ مَعَهُ قِتَالَ الْخَوَارِجِ، وَكَانَ مِمَّنْ أَشَارَ عَلَى عَلِيٍّ أَنْ يَسْتَنِيبَ مُعَاوِيَةَ عَلَى الشَّامِ وَأَنْ لَا يَعْزِلَهُ عَنْهَا فِي بَادِئِ الْأَمْرِ، حَتَّى قَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: إِنْ أَحْبَبْتَ عَزْلَهُ فَوَلِّهِ شَهْرًا وَاعْزِلْهُ دَهْرًا. فَأَبَى عَلِيٌّ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَهُ، فَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا قَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. وَلَمَّا تَرَاوَضَ الْفَرِيقَانِ عَلَى تَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ، طَلَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ ; لِيُكَافِئَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَامْتَنَعَتْ مَذْحِجُ وَأَهْلُ الْيَمَنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَكَمَيْنِ مَا سَلَفَ أَيْضًا.
وَقَدِ اسْتَنَابَهُ عَلِيٌّ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي بَعْضِ السِّنِينَ، فَخَطَبَ بِهِمْ فِي عَرَفَاتٍ خُطْبَةً، وَفَسَّرَ فِيهَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: سُورَةَ النُّورِ. قَالَ مَنْ سَمِعَهُ: فَسَّرَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ لَأَسْلَمُوا.
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَرَّفَ بِالنَّاسِ فِي الْبَصْرَةِ، فَكَانَ يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ، وَيَجْتَمِعُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ حَوْلَهُ فَيُفَسِّرُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَيُذَكِّرُ النَّاسَ مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ إِلَى

الْغُرُوبِ، ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الْمَغْرِبَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَهُ فِي ذَلِكَ ; فَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ: هُوَ بِدْعَةٌ لَمْ يَعْمَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ ذِكْرِ اللَّهِ وَمُوَافَقَةِ الْحُجَّاجِ.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَنْتَقِدُ عَلَى عَلِيٍّ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا حَرَّقَ نَاسًا ارْتَدَوْا عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأُحَرِّقُهُمْ بِالنَّارِ ; إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ. وَكُنْتُ قَاتِلَهُمْ ; لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: وَيْحَ ابْنِ عَبَّاسٍ ! وَفِي رِوَايَةٍ: وَيْحَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُ لَغَوَّاصٌ عَلَى الْهَنَاتِ. وَقَدْ كَافَأَهُ عَلِيٌّ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَرَى إِبَاحَةَ الْمُتْعَةِ، وَتَحْلِيلَ الْحُمْرِ الْإِنْسِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّكَ امْرُؤٌ تَائِهٌ ;إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخْرَّجٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا، وَلَهُ أَلْفَاظٌ هَذَا مِنْ أَحْسَنِهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْمُؤَمِّلِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا نَصْرِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ يَقُولُ: وَرَدَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَسَأَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَكَانَ عَلَى خِلَافَتِهِ بِهَا - فَقَالَ صَعْصَعَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ آخِذٌ بِثَلَاثٍ، وَتَارِكٌ لِثَلَاثٍ ; آخِذٌ بِقُلُوبِ الرِّجَالِ إِذَا حَدَّثَ، وَبِحُسْنِ الِاسْتِمَاعِ إِذَا حُدِّثَ، وَبِأَيْسَرِ الْأَمْرَيْنِ إِذَا خُولِفَ، وَتَرْكِ الْمِرَاءِ، وَمُقَارَنَةِ اللَّئِيمِ، وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْضَرَ فَهْمًا وَلَا أَلَبَّ لُبًّا، وَلَا أَكْثَرَ عِلْمًا، وَلَا أَوْسَعَ حِلْمًا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عُمَرَ يَدْعُوهُ لِلْمُعْضِلَاتِ، ثُمَّ يَقُولُ: عِنْدَكَ، قَدْ جَاءَتْكَ مُعْضِلَةٌ. ثُمَّ لَا يُجَاوِزُ قَوْلَهُ، وَإِنَّ حَوْلَهُ لَأَهْلُ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَوْ أَدْرَكَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَسْنَانَنَا مَا عَشَّرَهُ مِنَّا أَحَدٌ. وَكَانَ يَقُولُ: نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمُ

النَّاسِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ حِينَ بَلَغَهُ مَوْتُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَصَفَّقَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى: مَاتَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ النَّاسِ وَأَحْلَمُ النَّاسِ، وَقَدْ أُصِيبَتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ لَا تُرْتَقُ. وَبِهِ إِلَى يَحْيَى بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: مَاتَ الْيَوْمَ مَنْ كَانَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي الْعِلْمِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: مَوْلَاكَ وَاللَّهِ أَفْقَهُ مَنْ مَاتَ وَمَنْ عَاشَ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ حِينَ كَانَ الصُّلْحُ وَأَوَّلُ مَا الْتَقَيْتُ أَنَا وَهُوَ فَإِذَا عِنْدَهُ أُنَاسٌ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِابْنِ عَبَّاسٍ، مَا تَحَاكَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ كَانَ أَعَزَّ عَلَيَّ بُعْدًا وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ قُرْبًا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ عَلِيًّا، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُذَمُّ فِي قَضَائِهِ، وَغَيْرُ هَذَا

الْحَدِيثِ أَحْسَنُ مِنْهُ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تُعْفِيَنِي مِنِ ابْنِ عَمِّي وَأُعْفِيَكَ مِنِ ابْنِ عَمِّكَ. قَالَ: ذَلِكَ لَكَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ حِينَ حَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالنَّاسِ: هُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْمَنَاسِكِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: رَكِبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَخْذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ يَابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا. فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: أَرِنِي يَدَيْكَ. فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ، فَقَبَّلَهُمَا، وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ جُبَيْرٍ، سَمِعْتُ ابْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمُ النَّاسِ. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ فَاتَ النَّاسَ بِخِصَالٍ ; بِعِلْمِ مَا سَبَقَهُ، وَفِقْهٍ فِيمَا احْتِيجَ إِلَيْهِ مِنْ رَأْيِهِ، وَحِلْمٍ وَنَسَبٍ وَنَائِلٍ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَعْلَمَ بِمَا سَبَقَهُ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، وَلَا بِقَضَاءِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ

مِنْهُ وَلَا أَفْقَهَ فِي رَأْيٍ مِنْهُ، وَلَا أَعْلَمَ بِشِعْرٍ وَلَا عَرَبِيَّةٍ، وَلَا بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَلَا بِحِسَابٍ، وَلَا بِفَرِيضَةٍ مِنْهُ، وَلَا أَعْلَمَ بِمَا مَضَى، وَلَا أَثْبَتَ رَأْيًا فِيمَا احْتِيجَ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَلَقَدْ كَانَ يَجْلِسُ يَوْمًا مَا يَذْكُرُ فِيهِ إِلَّا الْفِقْهَ، وَيَوْمًا التَّأْوِيلَ، وَيَوْمًا الْمَغَازِيَ، وَيَوْمًا الشِّعْرَ، وَيَوْمًا أَيَّامَ الْعَرَبِ، وَمَا رَأَيْتُ عَالِمًا قَطُّ جَلَسَ إِلَيْهِ إِلَّا خَضَعَ لَهُ، وَمَا رَأَيْتُ سَائِلًا قَطُّ سَأَلَهُ إِلَّا وَجَدَ عِنْدَهُ عِلْمًا. قَالَ: وَرُبَّمَا حَفِظْتُ الْقَصِيدَةَ مِنْ فِيهِ يَنْشِدُهَا ثَلَاثِينَ بَيْتًا. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ قُطُّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَا رَأَيْتُ مَجْلِسًا أَكْرَمَ مِنْ مَجْلِسِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَكْثَرَ فِقْهًا، وَلَا أَعْظَمَ هَيْبَةً ; أَصْحَابُ الْقُرْآنِ يَسْأَلُونَهُ، وَأَصْحَابُ الْعَرَبِيَّةِ يَسْأَلُونَهُ، وَأَصْحَابُ الشِّعْرِ عَنْهُ يَسْأَلُونَهُ، فَكُلُّهُمْ يَصْدُرُ فِي وَادٍ وَاسِعٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ بَسَقَ عَلَى النَّاسِ فِي الْعِلْمِ كَمَا تَبْسُقُ النَّخْلَةُ

السَّحُوقُ عَلَى الْوَدِيِّ الصِّغَارِ، وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ: قُلْتُ لِطَاوُسٍ: لِمَ لَزِمْتَ هَذَا الْغُلَامَ - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ - وَتَرَكْتَ الْأَكَابِرَ مِنَ الصَّحَابَةِ ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ إِذَا تَدَّارَءُوا فِي شَيْءٍ صَارُوا إِلَى قَوْلِهِ. وَقَالَ طَاوُسٌ أَيْضًا: مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْهُ. قَالَ: وَمَا خَالَفَهُ أَحَدٌ قَطُّ فَتَرَكَهُ حَتَّى يُقَرِّرَهُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَ أَبُو نُعَيْمٍ، وَغَيْرُهُمْ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَلَقَدْ مَاتَ يَوْمَ مَاتَ وَإِنَّهُ لَحَبْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ. قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُسَمَّى الْبَحْرَ ; لِكَثْرَةِ عِلْمِهِ.

وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ، وَالزَّبِيرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَدَّهُمْ قَامَةً، وَأَعْظَمَهُمْ جَفْنَةً، وَأَوْسَعَهُمْ عِلْمًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ أَعْرَبَ لِسَانًا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ ; وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ مَجْلِسًا قَطُّ أَجْمَعَ لِكُلِّ خَيْرٍ مِنْ مَجْلِسِ ابْنِ عَبَّاسٍ ; الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَتَفْسِيرُ الْقُرْآنِ، وَالْعَرَبِيَّةُ وَالشِّعْرُ، وَالطَّعَامُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا سُلَيْمُ بْنُ أَخْضَرَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: أَنْبَأَنِي مَنْ أَرْسَلَهُ الْحَكَمُ بْنُ أَيُّوبَ إِلَى الْحَسَنِ يَسْأَلُهُ: مَنْ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِالنَّاسِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ يَوْمَ عَرَفَةَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَانَ رَجُلًا مِثَجًّا - أَحْسَبُ فِي الْحَدِيثِ - كَثِيرَ الْعِلْمِ، وَكَانَ يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فَيَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَيُفَسِّرُهَا آيَةً آيَةً. وَقَدْ

رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ: رَوَى سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ الْهُذَلِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوَّلَ مَنْ عَرَّفَ بِالْبَصْرَةِ ; صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ فَفَسَّرَهُمَا حَرْفًا حَرْفًا، وَكَانَ مِثَجًّا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مِثَجًّا مِنَ الثَّجِّ وَهُوَ السَّيَلَانُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا وَقِيلَ: كَثِيرًا بِسُرْعَةٍ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَجْلِسًا لَوْ أَنَّ جَمِيعَ قُرَيْشٍ فَخَرَتْ بِهِ لَكَانَ لَهَا فَخْرًا، لَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ اجْتَمَعُوا حَتَّى ضَاقَ بِهِمُ الطَّرِيقُ، فَمَا كَانَ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَجِيءَ وَلَا يَذْهَبَ. قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَكَانِهِمْ عَلَى بَابِهِ. فَقَالَ لِي: ضَعْ لِي وَضَوْءًا. قَالَ: فَتَوَضَّأَ وَجَلَسَ، وَقَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ لَهُمْ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْقُرْآنِ وَحُرُوفِهِ وَمَا أُرِيدَ مِنْهُ فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ

فَآذَنْتُهُمْ فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَئُوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ عَنْهُ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ أَوْ أَكْثَرَ. ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانَكُمْ. فَخَرَجُوا. ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ أَوْ تَأْوِيلِهِ فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَآذَنْتُهُمْ. قَالَ: فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَئُوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ، وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا أَوْ أَكْثَرَ. ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانَكُمْ، فَخَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْفِقْهِ فَلْيَدْخُلْ. فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ لَهُمْ، فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَئُوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ إِخْوَانَكُمْ. فَخَرَجُوا ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْفَرَائِضِ وَمَا أَشْبَهَهَا فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَآذَنْتُهُمْ فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَئُوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ. فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانَكُمْ. فَخَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ وَالشِّعْرِ وَالْغَرِيبِ مِنَ الْكَلَامِ فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَئُوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَلَوْ أَنَّ قُرَيْشًا كُلَّهَا فَخَرَتْ بِذَلِكَ لَكَانَ فَخْرًا،

فَمَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.
وَقَالَ طَاوُسٌ، وَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: مَا رَأَيْنَا أَوْرَعَ مِنَ ابْنِ عُمَرَ، وَلَا أَفْقَهَ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ مَيْمُونٌ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَفْقَهَهُمَا. وَقَالَ شُرَيْكٌ الْقَاضِي، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قُلْتُ: أَجْمَلُ النَّاسِ. فَإِذَا نَطَقَ قُلْتُ: أَفْصَحُ النَّاسِ. فَإِذَا تَحَدَّثَ قُلْتُ: أَعْلَمُ النَّاسِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمَهُمَا بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ عَلِيٌّ أَعْلَمَهُمَا بِالْمُبْهَمَاتِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ قَدْ أَخَذَ مَا عِنْدَ عَلِيٍّ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مَا أَخَذَهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَ عُمَرَ، وَ عُثْمَانَ، وَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، مَعَ

دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ.
وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: خَطَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ عَلَى الْمَوْسِمِ فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَجَعَلَ يَقْرَؤُهَا وَيُفَسِّرُ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: مَا رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ كَلَامَ رَجُلٍ مِثْلَهِ، لَوْ سَمِعَتْهُ فَارِسُ وَالرُّومُ لَأَسْلَمَتْ. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَجَّ بِالنَّاسِ عَامَ قَتْلِ عُثْمَانَ، فَقَرَأَ سُورَةَ النُّورِ فَفَسَّرَهَا. وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، فَلَعَلَّ الْأَوَّلَ كَانَ فِي زَمَانِ عَلِيٍّ، فَقَرَأَ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَفِي فِتْنَةِ عُثْمَانَ سُورَةَ النُّورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْتُ الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَرَّتَيْنِ، مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ فَأَسْأَلُهُ عَنْهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:

أَرْبَعٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَا أَدْرِي مَا هِيَ ; الْأَوَّاهُ، وَالْحَنَّانُ، وَالرَّقِيمُ، وَالْغِسْلِينُ، وَكُلُّ الْقُرْآنِ أَعْلَمُهُ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ ; فَإِنْ كَانَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَهِيَ فِي السُّنَّةِ قَالَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَقُلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجَدَهَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَ عُمَرَ قَالَ بِهَا، وَإِلَّا اجْتَهَدَ رَأْيَهُ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، وَ عَبْدُ الرَّحْمَنَ بْنُ حَمَّادٍ الشَّعْبِيُّ، عَنْ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: شَتَمَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّكَ لَتَشْتُمُنِي وَفِيَّ ثَلَاثُ خِصَالٍ، إِنِّي لَآتِي عَلَى الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَوَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ عَلِمُوا مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي أَعْلَمُ، وَإِنِّي لَأَسْمَعُ بِالْحَاكِمِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ يَقْضِي بِالْعَدْلِ، فَأَفْرَحُ بِهِ، وَلَعَلِّي لَا أُقَاضِي إِلَيْهِ، وَلَا أُحَاكِمُ أَبَدًا، وَإِنِّي لَأَسْمَعُ بِالْغَيْثِ يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنْ أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ فَأَفْرَحُ بِهِ،

وَمَا لِي بِهَا مِنْ سَائِمَةٍ أَبَدًا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَكْرَمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ كَهْمَسٍ بِهِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا فَقَالَ: كَانَتِ السَّمَاءُ رَتْقًا لَا تَمْطُرُ، وَالْأَرْضُ رَتْقًا لَا تُنْبِتُ، فَفَتَقَ هَذِهِ بِالْمَطَرِ، وَهَذِهِ بِالنَّبَاتِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: صَحِبْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا نَزَلَ قَامَ شَطْرَ اللَّيْلِ، وَيُرَتِّلُ الْقُرْآنَ يَقْرَأُ حَرْفًا حَرْفًا، وَيُكْثِرُ فِي ذَلِكَ مِنَ النَّشِيجِ وَالنَّحِيبِ، وَيَقْرَأُ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ دِرْهَمٍ، قَالَ: كَانَ فِي هَذَا الْمَكَانِ - وَأَوْمَأَ إِلَى مَجْرَى الدُّمُوعِ مِنْ خَدَّيْهِ - مِنْ خَدَّيِ ابْنِ عَبَّاسٍ - مِثْلُ الشِّرَاكِ الْبَالِي مِنَ الْبُكَاءِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَيَقُولُ: أُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ. وَرَوَى هُشَيْمٌ

وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَلِكَ الرُّومُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ أَكْرَمُ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ أَكْرَمُ الْإِمَاءِ عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَعَنْ أَرْبَعَةٍ فِيهِمُ الرُّوحُ لَمْ يَرْكُضُوا فِي رَحِمٍ، وَعَنْ قَبْرٍ سَارَ بِصَاحِبِهِ، وَعَنْ مَكَانٍ فِي الْأَرْضِ لَمْ تَطْلُعْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَعَنْ قَوْسِ قُزَحَ مَا هُوَ ؟ وَعَنِ الْمَجَرَّةِ. فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْهُنَّ، فَكَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَيْهِ: أَمَّا أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ فَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَأَكْرَمُ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ آدَمُ، خَلَقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَكْرَمُ الْإِمَاءِ عَلَى اللَّهِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ لَمْ يَرْكُضُوا فِي رَحِمٍ، فَآدَمُ وَحَوَّاءُ، وَعَصَا مُوسَى، وَكَبْشُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي فَدَى بِهِ إِسْمَاعِيلَ - وَفِي رِوَايَةٍ: وَنَاقَةُ صَالِحٍ - وَأَمَّا الْقَبْرُ الَّذِي سَارَ بِصَاحِبِهِ فَهُوَ حُوتُ يُونُسَ، وَأَمَّا الْمَكَانُ الَّذِي لَمْ تُصِبْهُ الشَّمْسُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَهُوَ الْبَحْرُ الَّذِي انْفَلَقَ لِمُوسَى حَتَّى جَازَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْسُ قُزَحَ فَأَمَانٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الْغَرَقِ، وَالْمَجَرَّةُ بَابُ السَّمَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ: الَّذِي تَنْشَقُّ مِنْهُ، فَلَمَّا قَرَأَ مَلِكُ الرُّومِ ذَلِكَ أَعْجَبَهُ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هِيَ مِنْ عِنْدِ مُعَاوِيَةَ، وَلَا مِنْ قَوْلِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذِهِ

الْأَسْئِلَةِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَزِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا، وَفِي بَعْضِهَا نَظَرٌ ; أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ مَنْ لَا قَبْلَ لَهُ، وَعَنْ مَنْ لَا عَشِيرَةَ لَهُ، وَعَنْ مَنْ لَا أَبَ لَهُ، وَعَنْ شَيْءٍ، وَنِصْفِ شَيْءٍ، وَلَا شَيْءٍ، وَأَرْسَلَ قَارُورَةً ; فَقَالَ: ابْعَثْ إِلَيَّ فِي هَذِهِ بِبَزْرِ كُلِّ شَيْءٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَقُولُ: أَمَّا الَّذِي لَا قَبْلَ لَهُ فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا مَنْ لَا عَشِيرَةَ لَهُ فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا مَنْ لَا أَبَ لَهُ فَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ الْعَاقِلُ يَعْمَلُ بِعَقْلِهِ، وَأَمَّا نِصْفُ شَيْءٍ، فَالَّذِي لَهُ عَقْلٌ وَيَعْمَلُ بِرَأْيِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا لَا شَيْءَ فَالَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا يَعْمَلُ بِعَقْلِ غَيْرِهِ. وَمَلَأَ الْقَارُورَةَ مَاءً وَقَالَ: هَذَا بَزْرُ كُلِّ شَيْءٍ. فَأَعْجَبَ ذَلِكَ مَلِكَ الرُّومِ جِدًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصَلٌ ( تَوَلِّي ابْنِ عَبَّاسٍ إِمَامَةَ الْحَجِّ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ بِأَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ )
تَوَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ إِمَامَةَ الْحَجِّ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ بِأَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَهُ وَهُوَ مَحْصُورٌ، وَفِي غَيْبَتِهِ هَذِهِ قُتِلَ عُثْمَانُ. وَحَضَرَ مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَكَانَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ يَوْمَ صِفِّينَ، وَشَهِدَ قِتَالَ الْخَوَارِجِ، وَتَأَمَّرَ عَلَى الْبَصْرَةِ مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا يَسْتَخْلِفُ أَبَا الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَزِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الْخَرَاجِ، وَكَانَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ مَغْبُوطِينَ بِهِ، يُفَقِّهُهُمْ وَيُعَلِّمُ جَاهِلَهُمْ، وَيَعِظُ مُجْرِمَهُمْ، وَيُعْطِي فَقِيرَهُمْ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ عَلِيٌّ، وَيُقَالُ: إِنَّ عَلِيًّا عَزَلَهُ عَنْهَا قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَكْرَمَهُ وَقَرَّبَهُ وَاحْتَرَمَهُ

وَعَظَّمَهُ، وَكَانَ يُلْقِي عَلَيْهِ الْمَسَائِلَ الْمُعْضِلَةَ فَيُجِيبُ فِيهَا سَرِيعًا، فَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحَضَرَ جَوَابًا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ بِمَوْتِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ اتَّفَقَ كَوْنُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَعَزَّاهُ فِيهِ بِأَحْسَنِ تَعْزِيَةٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَدًّا حَسَنًا كَمَا قَدَّمْنَا، وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ ابْنَهُ يَزِيدَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَعَزَّاهُ بِعِبَارَةٍ فَصِيحَةٍ بَلِيغَةٍ وَجِيزَةٍ، شَكَرَهُ عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ - وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ أَيْضًا - وَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ وَرَامَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُرُوجَ إِلَى الْعِرَاقِ، نَهَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَشَدَّ النَّهْيِ، وَأَرَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِثِيَابِ الْحُسَيْنِ ; - لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ قَدْ أَضَرَّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ - فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُهُ حَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا وَلَزِمَ بَيْتَهُ، وَكَانَ يَقُولُ: يَا لِسَانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ، وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَفْعَلْ تَنْدَمْ، وَجَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: جُنْدَبٌ. فَقَالَ لَهُ أَوْصِنِي: فَقَالَ: أُوصِيكَ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْعَمَلِ لَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّ كُلَّ خَيْرٍ أَنْتَ آتِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَقْبُولٌ، وَإِلَى اللَّهِ مَرْفُوعٌ، يَا جُنْدَبُ، إِنَّكَ لَنْ تَزْدَادَ مِنْ يَوْمِكَ إِلَّا قُرْبًا، فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَأَصْبِحْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ مُسَافِرٌ، فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ، وَابْكِ عَلَى ذَنْبِكَ، وَتُبْ مِنْ خَطِيئَتِكَ، وَلْتَكُنِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ أَهْوَنَ مِنْ شِسْعِ

نَعْلِكَ، وَكَأَنْ قَدْ فَارَقْتَهَا وَصِرْتَ إِلَى عَدْلِ اللَّهِ، وَلَنْ تَنْتَفِعَ بِمَا خَلَّفْتَ، وَلَنْ يَنْفَعَكَ إِلَّا عَمَلُكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:أَوْصَى ابْنُ عَبَّاسٍ بِكَلِمَاتٍ خَيْرٍ مِنَ الْخَيْلِ الدُّهْمِ قَالَ: لَا تَكَلَّمَنَّ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ حَتَّى تَرَى لَهُ مَوْضِعًا، وَلَا تُمَارِيَنَّ سَفِيهًا وَلَا حَلِيمًا ; فَإِنَّ الْحَلِيمَ يَغْلِبُكَ وَالسَّفِيهَ يَزْدَرِيكَ، وَلَا تَذْكُرَنَّ أَخَاكَ إِذَا تَوَارَى عَنْكَ إِلَّا بِمَثَلِ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيكَ إِذَا تَوَارَيْتَ عَنْهُ، وَاعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَجْزِيٌّ بِالْإِحْسَانِ مَأْخُوذٌ بِالْإِجْرَامِ. فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: يَابْنَ عَبَّاسٍ، هَذَا خَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَلِمَةٌ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَمَامُ الْمَعْرُوفِ تَعْجِيلُهُ وَتَصْغِيرُهُ وَسَتْرُهُ. يَعْنِي أَنْ تُعَجَّلَ الْعَطِيَّةَ لِلْمُعْطَى، وَأَنْ تَصْغُرَ فِي عَيْنِ الْمُعْطِي، وَأَنْ تَسَتُرَهَا عَنِ النَّاسِ فَلَا تُظْهِرَهَا ; فَإِنَّ فِي إِظْهَارِهَا فَتْحَ بَابِ الرِّيَاءِ وَكَسْرَ قَلْبِ الْمُعْطَى، وَاسْتِحْيَاءَهُ مِنَ النَّاسِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعَزُّ النَّاسِ عَلَيَّ جَلِيسِي ; لَوِ اسْتَطَعْتُ أَنْ لَا يَقَعَ الذُّبَابُ عَلَى وَجْهِهِ لَفَعَلْتُ. وَقَالَ أَيْضًا: لَا يُكَافِئُ مَنْ أَتَانِي يَطْلُبُ حَاجَةً فَرَآنِي لَهَا مَوْضِعًا إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَا رَجُلٌ بَدَأَنِي بِالسَّلَامِ، أَوْ أَوْسَعَ لِي فِي مَجْلِسٍ، أَوْ قَامَ لِي عَنِ الْمَجْلِسِ أَوْ رَجُلٌ سَقَانِي شَرْبَةَ مَاءٍ عَلَى ظَمَأٍ،

أَوْ رَجُلٌ حَفِظَنِي بِظَهْرِ الْغَيْبِ. وَالْمَأْثُورُ عَنْهُ مِنْ هَذِهِ الْمَكَارِمِ كَثِيرٌ جِدًّا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا لَمْ نَذْكُرْهُ.
وَقَدْ عَدَّهُ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي الْعُمْيَانِ مِنَ الْأَشْرَافِ، وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ أُصِيبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَنَحَلَ جِسْمُهُ، فَلَمَّا أُصِيبَتِ الْأُخْرَى عَادَ إِلَيْهِ لَحْمُهُ فَقِيلَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَصَابَنِي مَا رَأَيْتُمْ فِي الْأُولَى شَفَقَةً عَلَى الْأُخْرَى، فَلَمَّا ذَهَبَتَا اطْمَأَنَّ قَلْبِي. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ وَقَعَ فِي عَيْنِهِ الْمَاءُ فَقِيلَ لَهُ: نَنْزِعُ مَنْ عَيْنِكَ الْمَاءَ، عَلَى أَنَّكَ لَا تُصَلِّي سَبْعَةَ أَيَّامٍ ؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّهُ مَنْ تَرْكَ الصَّلَاةَ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: نُزِيلُ هَذَا الْمَاءَ مِنْ عَيْنِكَ عَلَى أَنْ تَبْقَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ لَا تُصَلِّي إِلَّا عَلَى عُودٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا مُسْتَلْقِيًا، فَقَالَ: لَا، وَاللَّهِ وَلَا رَكْعَةً وَاحِدَةً، إِنَّهُ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً مُتَعَمِّدًا، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ.
وَقَدْ أَنْشَدَ الْمَدَائِنِيُّ لِابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ عَمِيَ:
إِنْ يَأْخُذِ اللَّهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا فَفِي لِسَانِي وَسَمْعِي مِنْهُمَا نُورُ قَلْبِي ذَكِيٌّ وَعَقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ
وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُورُ

وَلَمَّا وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَبَيْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، اعْتَزَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ النَّاسَ، فَدَعَاهُمَا ابْنُ الزُّبَيْرِ ; لِيُبَايِعَاهُ فَأَبَيَا عَلَيْهِ، وَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: لَا نُبَايِعُكَ وَلَا نُخَالِفُكَ، فَهَمَّ بِهِمَا، فَبَعَثَا أَبَا الطُّفَيْلِ عَامِرَ بْنَ وَاثِلَةَ فَاسْتَنْجَدَ لَهُمَا مِنَ الْعِرَاقِ مِنْ شِيعَتِهِمَا فَقَدِمَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَكَبَّرُوا بِمَكَّةَ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً، وَهَمُّوا بِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَانْطَلَقَ ابْنُ الزُّبَيْرِ هَارِبًا وَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: أَنَا عَائِذٌ بِاللَّهِ. فَكَفُّوهُمْ عَنْهُ، ثُمَّ مَالُوا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَقَدْ حَمَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ حَوْلَ دُورِهِمُ الْحَطَبَ لِيَحْرِقَهُمْ، فَخَرَجُوا بِهِمَا حَتَّى نَزَلُوا الطَّائِفَ، وَأَقَامَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَنَتَيْنِ لَمْ يُبَايِعْ أَحَدًا، كَمَا تَقَدَّمَ.
فَلَمَّا كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ: مَاتَ الْيَوْمَ حَبْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَلَمَّا وَضَعُوهُ لِيُدْخِلُوهُ فِي قَبْرِهِ جَاءَ طَائِرٌ أَبْيَضُ لَمْ يُرَ مِثْلُ خِلْقَتِهِ، فَدَخَلَ فِي أَكْفَانِهِ وَالْتَفَّ فِيهَا حَتَّى دُفِنَ مَعَهُ. قَالَ عَفَّانُ: فَكَانُوا يَرَوْنَهُ

عِلْمَهُ، فَلَمَّا وُضِعَ فِي اللَّحْدِ تَلَا تَالٍ لَا يُعْرَفُ مَنْ هُوَ - وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُمْ سَمِعُوا مِنْ قَبْرِهِ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي هَذَا الْقَوْلُ فِي وَفَاتِهِ هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَ الْوَاقِدِيُّ، وَ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحُفَّاظِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعِينَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا شَاذَّةٌ غَرِيبَةٌ مَرْدُودَةٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ. وَقِيلَ أَرْبَعًا وَسَبْعِينَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

صِفَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
كَانَ جَسِيمًا إِذَا قَعَدَ يَأْخُذُ مَكَانَ رَجُلَيْنِ، جَمِيلًا لَهُ وَفْرَةٌ، قَدْ شَابَ مُقَدَّمُ رَأْسِهِ، وَشَابَتْ لِمَّتُهُ، وَكَانَ يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ، وَقِيلَ: بِالسَّوَادِ. حَسَنَ الْوَجْهِ،

يَلْبَسُ حَسَنًا وَيُكْثِرُ مِنَ الطِّيبِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ فِي الطَّرِيقِ تَقُولُ النِّسَاءُ: هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ: رَجُلٌ مَعَهُ مِسْكٌ، وَكَانَ وَسِيمًا أَبْيَضَ، طَوِيلًا، صَبِيحًا، فَصِيحًا، وَلَمَّا عَمِيَ اعْتَرَى لَوْنَهُ صُفْرَةٌ يَسِيرَةٌ، وَقَدْ كَانَ بَنُو الْعَبَّاسِ عَشَرَةً، وَهُمُ الْفَضْلُ، وَ عَبْدُ اللَّهِ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَ مَعْبَدٌ، وَ قُثَمُ، وَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَ كَثِيرٌ، وَ الْحَارِثُ، وَ عَوْنٌ، وَ تَمَّامٌ، وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ تَمَّامٌ ; وَلِهَذَا كَانَ الْعَبَّاسُ يَحْمِلُهُ وَيَقُولُ:
تَمُّوا بِتَمَّامٍ فَصَارُوا عَشَرَهْ يَا رَبِّ فَاجْعَلْهُمْ كِرَامًا بَرَرَهْ وَاجْعَلْهُمْ ذِكْرًا وَأَنْمِ الثَّمَرَهْ
فَأَمَّا الْفَضْلُ فَمَاتَ بِأَجْنَادِينَ شَهِيدًا، وَعَبْدُ اللَّهِ بِالطَّائِفِ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ بِالْيَمَنِ، وَ مَعْبَدٌ، وَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِإِفْرِيقِيَّةَ،، وَ قُثَمُ، وَ كَثِيرٌ بِيَنْبُعَ وَقِيلَ: إِنَّ قُثَمَ مَاتَ بِسَمَرْقَنْدَ.

وَقَدْ قَالَ مُسْلِمُ بْنُ قَمَّادِينَ الْمَكِّيُّ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ بَنِي أُمٍّ وَاحِدَةٍ أَشْرَافًا، وُلِدُوا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، أَبْعَدَ قُبُورًا مِنْ بَنِي أُمِّ الْفَضْلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَوَاضِعَ قُبُورِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ. إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: الْفَضْلُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ،، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ بِالشَّامِ.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَلْبَسُ الْحُلَّةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ

الْعَبَّاسُ، وَ عَلِيٌّ، وَيُدْعَى السَّجَّادَ ; لِكَثْرَةِ صِلَاتِهِ، وَكَانَ أَجْمَلَ قُرَشِيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ. وَقِيلَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعَ الْجَمَالِ التَّامِّ. وَعَلَى هَذَا فَهُوَ أَبُو الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ، فَفِي وَلَدِهِ كَانْتِ الْخِلَافَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ، كَمَا سَيَأْتِي، وَكَانَ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا مُحَمَّدٌ، وَ الْفَضْلُ، وَ عَبْدُ اللَّهِ، وَ لُبَابَةُ، وَأُمُّهُمْ زُرْعَةُ بَنَتُ مُسَرَّحِ بْنِ مَعْدِيَكَرِبَ. وَأَسْمَاءُ وَهِيَ لِأُمِّ وَلَدٍ. وَكَانَ لَهُ مِنَ الْمَوَالِي عِكْرِمَةُ، وَ كُرَيْبٌ، وَ أَبُو مَعْبَدٍ، وَ شُعْبَةُ، وَ دَقِيقٌ، وَ أَبُو عَمْرَةَ، وَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَ مِقْسَمٌ.
وَقَدْ أَسْنَدَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ وَسَبْعِينَ حَدِيثًا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ الْعَدَوِيُّ الْكَعْبِيُّ، اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ عَلَى أَقْوَالٍ ; أَصَحُّهَا خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو، أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَكَانَ مَعَهُ أَحَدُ أَلْوِيَةِ بَنِي كَعْبٍ الثَّلَاثَةِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ أَحَادِيثُ.
وَأَبُو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ مُخْتَلَفٌ فِي اسْمِهِ وَفِي شُهُودِهِ بَدْرًا. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَ سُنَّةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ

وَاحِدٍ فِي تَارِيخِ وَفَاتِهِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَاشَ سَبْعِينَ سَنَةً.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ بَعْدَمَا جَاوَرَ بِهَا سَنَةً، وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْمُهَاجِرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ الْهِلَالِيُّ، الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، قَالَ الشِّعْرَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ، وَهُوَ مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ
فَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ الْأَشْدَقِ، قَتَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ رَكِبَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُنُودِهِ قَاصِدًا قَرْقِيسِيَاءَ ; لِيُحَاصِرَ زُفَرَ بْنَ الْحَارِثِ الْكِلَابِيَّ الَّذِي أَعَانَ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدَ عَلَى جَيْشِ مَرْوَانَ حِينَ قَاتَلُوهُمْ بِعَيْنِ وَرْدَةَ، وَمِنْ عَزْمِهِ إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقْصِدَ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا سَارَ إِلَيْهَا اسْتَخْلَفَ عَلَى دِمَشْقَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ الْأَشْدَقَ، فَتَحَصَّنَ بِهَا وَأَخْذَ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ مَعَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلَكِنَّهُ انْخَذَلَ عَنْهُ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ وَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى دِمَشْقَ فِي اللَّيْلِ، وَمَعَهُ حُمَيْدُ بْنُ حُرَيْثِ بْنِ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ، فَانْتَهَوْا إِلَى دِمَشْقَ وَعَلَيْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ نَائِبًا مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ هَرَبَ وَتَرَكَ الْبَلَدَ، فَدَخَلَهَا عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْخَزَائِنِ، وَخَطَبَ بِالنَّاسِ فَوَعَدَهُمُ الْعَدْلَ وَالنَّصَفَ وَالْعَطَاءَ الْجَزِيلَ وَالثَّنَاءَ الْجَمِيلَ، وَلَمَّا عَلِمَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِمَا فَعَلَهُ الْأَشْدَقُ، كَرَّ رَاجِعًا مِنْ فَوْرِهِ فَوَجَدَ الْأَشْدَقَ قَدْ حَصَّنَ دِمَشْقَ وَعَلَّقَ عَلَيْهَا السَّتَائِرَ وَالْمُسُوحَ، وَانْحَازَ الْأَشْدَقُ إِلَى حِصْنٍ رُومِيٍّ مَنِيعٍ كَانَ بِدِمَشْقَ فَنَزَلَهُ،

فَحَاصَرَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَاتَلَهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ مُدَّةَ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَرَاسَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَقَالَ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ أَنْ تُفْسِدَ أَمْرَ بَيْتِكَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَإِنَّ فِيمَا صَنَعْتَ قُوَّةً لِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَارْجِعْ إِلَى بَيْتِكَ، وَلَكَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ. وَحَلَفَ بِالْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ أَنَّكَ وَلِيُّ عُهَدِي مِنْ بَعْدِي، وَكَتَبَا بَيْنَهُمَا كِتَابًا، فَانْخَدَعَ لَهُ عَمْرٌو وَفَتَحَ أَبْوَابَ دِمَشْقَ، ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ مَعَ كُلِّ عَامِلٍ لِعَبْدِ الْمَلِكِ عَامِلٌ لَهُ، وَكَتَبَا بَيْنَهُمَا كِتَابَ أَمَانٍ، وَذَلِكَ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ. وَدَخَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ دِمَشْقَ إِلَى دَارِ الْإِمَارَةِ عَلَى عَادَتِهِ، وَبَعَثَ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ يَقُولُ لَهُ: رُدَّ عَلَى النَّاسِ أَعْطِيَاتِهِمُ الَّتِي أَخَذْتَهَا لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَمْرٌو يَقُولُ لَهُ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ إِلَيْكَ، وَلَيْسَ هَذَا الْبَلَدُ لَكَ، فَاخْرُجْ مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ بَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ يَأْمُرُهُ بِالْإِتْيَانِ إِلَى مَنْزِلِهِ بِدَارِ الْإِمَارَةِ الْخَضْرَاءِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ صَادَفَ عِنْدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ زَوْجُ ابْنَتِهِ أُمِّ مُوسَى بِنْتِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، فَاسْتَشَارَهُ عَمْرٌو فِي الذَّهَابِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَأَرَى أَنْ لَا تَأْتِيَهُ ; فَإِنَّ تُبَيْعًا الْحِمْيَرِيَّ ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: إِنَّ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءَ بَنِي إِسْمَاعِيلَ يُغْلِقُ أَبْوَابَ دِمَشْقَ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُقْتَلَ. فَقَالَ عَمْرٌو: وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ نَائِمًا مَا تَخَوَّفْتُ أَنْ يُنَبِّهَنِي ابْنُ الزَّرْقَاءِ، وَمَا كَانَ لِيَجْتَرِئَ عَلَى ذَلِكَ مِنِّي، مَعَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَتَانِي الْبَارِحَةَ فِي الْمَنَامِ

فَأَلْبَسَنِي قَمِيصَهُ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ لِلرَّسُولِ: أَبْلِغْهُ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: أَنَا رَائِحٌ إِلَيْكَ الْعَشِيَّةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ - يَعْنِي بَعْدَ الظُّهْرِ - لَبِسَ عَمْرٌو دِرْعًا بَيْنَ ثِيَابِهِ وَتَقَلَّدَ سَيْفَهُ وَنَهَضَ فَعَثَرَ بِالْبُسَاطِ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ وَبَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: إِنَّا نَرَى أَنْ لَا تَأْتِيَهُ. فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ وَمَضَى فِي مِائَةٍ مِنْ مَوَالِيهِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ أَمَرَ بَنِي مَرْوَانَ فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عِنْدَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ إِلَى الْبَابِ أَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنْ يَدْخُلَ وَأَنْ يُحْبَسَ مَنْ مَعَهُ، عِنْدَ كُلِّ بَابٍ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَدَخَلَ كَذَلِكَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى صَرْحَةِ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْ مَوَالِيهِ سِوَى وَصَيْفٍ وَاحِدٍ، فَرَمَى بِبَصَرِهِ فَإِذَا بَنُو مَرْوَانَ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ مُجْتَمِعُونَ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَحَسَّ بِالشَّرِّ فَالْتَفَتَ إِلَى وَصِيفِهِ، فَقَالَ لَهُ هَمْسًا: وَيْلَكَ انْطَلِقْ إِلَى أَخِي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فَقُلْ لَهُ فَلْيَأْتِنِي. فَلَمْ يَفْهَمْ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ: لَبَّيْكَ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَفْهَمْ أَيْضًا، وَقَالَ: لَبَّيْكَ. فَقَالَ: وَيْلَكَ ! اغْرُبْ عَنِّي فِي حَرَقِ اللَّهِ وَنَارِهِ. وَكَانَ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ حَسَّانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، فَأَذِنَ لَهُمَا عَبْدُ الْمَلِكِ بِالِانْصِرَافِ، فَلَمَّا خَرَجَا غُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ وَاقْتَرَبَ عَمْرٌو مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَرَحَّبَ بِهِ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ جَعَلَ يُحَدِّثُهُ طَوِيلًا. ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ قَالَ: يَا غُلَامُ، خُذِ السَّيْفَ عَنْهُ. فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّا لِلَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَوَتَطْمَعُ أَنْ تَتَحَدَّثَ مَعِي مُتَقَلِّدًا سَيْفَكَ ؟ فَأَخَذَ الْغُلَامُ السَّيْفَ عَنْهُ، ثُمَّ تَحَدَّثَا سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.

قَالَ: إِنَّكَ حَيْثُ خَلَعْتَنِي آلَيْتُ بِيَمِينِي إِنْ مَلَأْتُ عَيْنِي مِنْكَ وَأَنَا مَالِكٌ لَكَ أَنْ أَجْمَعَكَ فِي جَامِعَةٍ. فَقَالَتْ بَنُو مَرْوَانَ: ثُمَّ تُطْلِقُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: ثُمَّ أُطْلِقُهُ، وَمَا عَسَيْتُ أَنْ أَفْعَلَ بِأَبِي أُمَيَّةَ ؟ فَقَالَ بَنُو مَرْوَانَ: أَبِرَّ قَسَمَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عَمْرٌو: فَأَبِرَّ قَسَمَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَخْرَجَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ تَحْتِ فِرَاشِهِ جَامِعَةً فَطَرَحَهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ، قُمْ فَاجْمَعْهُ فِيهَا. فَقَامَ الْغُلَامُ فَجَمَعَهُ فِيهَا، فَقَالَ عَمْرٌو: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تُخْرِجَنِي فِيهَا عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَمَكْرًا يَا أَبَا أُمَيَّةَ عِنْدَ الْمَوْتِ ؟ لَاهَا اللَّهِ إِذًا، مَا كُنَّا لِنُخْرِجَكَ فِي جَامِعَةٍ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، وَلَمَّا نُخْرِجْهَا مِنْكَ إِلَّا صَعَدًا. ثُمَّ اجْتَبَذَهُ اجْتِبَاذَةً أَصَابَ فَمَهُ السَّرِيرُ فَكَسَرَ ثَنِيَّتَهُ، فَقَالَ عَمْرٌو: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْعُوَكَ كَسْرُ عَظْمِي إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ إِذَا بَقِيتَ تَفِي لِي وَتَصْلُحُ قُرَيْشٌ لَأَطْلَقْتُكَ، وَلَكِنْ مَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ قَطُّ فِي بَلَدٍ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ إِلَّا أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَمَا عَلِمْتَ يَا عَمْرُو أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فَحْلَانِ فِي شَوْلٍ ؟ فَلَمَّا تَحَقَّقَ عَمْرٌو مَا يُرِيدُ مِنْ قَتْلِهِ قَالَ لَهُ: أَغَدْرًا يَابْنَ الزَّرْقَاءِ ؟ وَبَيْنَمَا هُمَا كَذَلِكَ إِذْ أُذِّنَ لِلْعَصْرِ، فَقَامَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِيَخْرُجَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَأَمَرَ أَخَاهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مَرْوَانَ بِقَتْلِهِ، وَخَرَجَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ لَهُ

عَمْرٌو: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ أَنْ لَا تَلِيَ ذَلِكَ مِنِّي، وَلْيَتَوَلَّ ذَلِكَ غَيْرُكَ. فَكَفَّ عَنْهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ. وَلَمَّا رَأَى النَّاسُ عَبْدَ الْمَلِكِ قَدْ خَرَجَ وَلَيْسَ مَعَهُ عَمْرٌو أَرْجَفَ النَّاسُ بِعَمْرٍو، وَأَقْبَلَ أَخُوهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِي أَلْفِ عَبْدٍ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَأُنَاسٍ مَعَهُمْ كَثِيرٍ، وَأَسْرَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ الدُّخُولَ إِلَى دَارِ الْإِمَارَةِ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَجَعَلُوا يَدُقُّونَ بَابَ الْإِمَارَةِ وَيَقُولُونَ: أَسْمِعْنَا صَوْتَكَ يَا أَبَا أُمَيَّةَ. وَضَرَبَ رَجُلٌ مِنْهُمِ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي رَأْسِهِ بِالسَّيْفِ فَجَرَحَهُ، فَأَدْخَلَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَبِيٍّ صَاحِبُ الدِّيوَانِ بَيْتًا، وَأَحْرَزَهُ فِيهِ، وَوَقَعَتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَضَجَّتِ الْأَصْوَاتُ. وَلَمَّا رَجَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَجَدَ أَخَاهُ لَمْ يَقْتُلْهُ، فَلَامَهُ وَسَبَّهُ وَسَبَّ أُمَّهُ، - وَلَمْ تَكُنْ أُمُّ عَبْدِ الْعَزِيزِ أُمُّ عَبْدِ الْمَلِكِ - فَقَالَ: إِنَّهُ نَاشَدَنِي اللَّهَ وَالرَّحِمَ.
وَكَانَ ابْنَ عَمَّةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ قَالَ: يَا غُلَامُ، آتِنِي بِالْحَرْبَةِ. فَأَتَاهُ بِهَا فَهَزَّهَا، وَضَرَبَهُ بِهَا فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا، ثُمَّ ثَنَّى فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا، فَضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى عَضُدِ عَمْرٍو فَوَجْدَ مَسَّ الدِّرْعِ فَضَحِكَ، وَقَالَ: وَدَارِعٌ أَيْضًا ! إِنْ كُنْتَ لَمُعِدًّا، يَا غُلَامُ، ائْتِنِي بِالصَّمْصَامَةِ. فَأَتَاهُ بِسَيْفِهِ ثُمَّ أَمَرَ بِعَمْرٍو فَصُرِعَ فَجَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ فَذَبَحَهُ، وَهُوَ يَقُولُ:
يَا عَمْرُو إِنْ لَا تَدَعْ شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي أَضْرِبْكَ حَيْثُ تَقُولُ الْهَامَةُ اسْقُونِي

قَالُوا: وَانْتَفَضَ عَبْدُ الْمَلِكِ بَعْدَمَا ذَبَحَهُ كَمَا تَنْتَفِضُ الْقَصَبَةُ بِرِعْدَةٍ شَدِيدَةٍ جِدًّا، بِحَيْثُ إِنَّهُمْ مَا رَفَعُوهُ عَنْ صَدْرِهِ إِلَّا مَحْمُولًا، فَوَضَعُوهُ عَلَى سَرِيرِهِ وَهُوَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا قَطُّ قِتْلَةً، صَاحِبُ دُنْيَا وَلَا طَالِبُ آخِرَةٍ. وَدَفَعَ الرَّأْسَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُمِّ الْحَكَمِ، فَخَرَجَ بِهِ لِلنَّاسِ فَأَلْقَاهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَخَرَجَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ وَمَعَهُ الْبِدَرُ مِنَ الْأَمْوَالِ تُحْمَلُ، فَأُلْقِيَتْ بَيْنَ النَّاسِ فَجَعَلُوا يَخْتَطِفُونَهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهَا اسْتُرْجِعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَيُقَالُ إِنَّ الَّذِي وَلِيَ قَتْلَ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ مَوْلَى عَبْدِ الْمَلِكِ أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ بَعْدَمَا خَرَجَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ دَخَلَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَخُو عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ دَارَ الْإِمَارَةِ، بَعْدَ مَقْتَلِ أَخِيهِ، بِمَنْ مَعَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِمْ بَنُو مَرْوَانَ فَاقْتَتَلُوا، وَجُرِحَ جَمَاعَاتٌ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَجَاءَتْ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ صَخْرَةٌ فِي رَأْسِهِ أَشْغَلَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنِ الْقِتَالِ، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ: وَيْحَكُمُ أَيْنَ الْوَلِيدُ ؟ وَأَبِيهِمْ لَئِنْ كَانُوا قَتَلُوهُ لَقَدْ أَدْرَكُوا ثَأْرَهُمْ، فَأَتَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَبِيٍّ الْكِنَانِيُّ فَقَالَ: هَذَا الْوَلِيدُ عِنْدِي، قَدْ أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَأْسٌ، ثُمَّ أَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنْ يُقْتَلَ، فَشَفَعَ فِيهِ أَخُوهُ

عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ وَفِي جَمَاعَاتٍ آخَرِينَ مَعَهُ، كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ يَوْمَئِذٍ، فَشَفَّعَهُ فِيهِمْ وَأَمَرَ بِحَبْسِهِ فَسُجِنَ شَهْرًا، ثُمَّ سَيَّرَهُ وَبَنِي عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَأَهْلِيهِمْ إِلَى الْعِرَاقِ فَدَخَلُوا عَلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَأَكْرَمَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ.
ثُمَّ لَمَّا انْعَقَدَتِ الْجَمَاعَةُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ - كَمَا سَيَأْتِي - وَفَدُوا عَلَيْهِ فَكَادَ يَقْتُلُهُمْ، فَتَلَطَّفَ بَعْضُهُمْ فِي الْعِبَارَةِ حَتَّى رَقَّ لَهُمْ رِقَّةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: إِنَّ أَبَاكُمْ خَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَنِي أَوْ أَقْتُلَهُ، فَاخْتَرْتُ قَتْلَهُ عَلَى قَتْلِي، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَمَا أَرْغَبَنِي فِيكُمْ وَأَوْصَلَنِي لِقَرَابَتِكُمْ وَأَرْعَانِي لِحَقِّكُمْ ! فَأَحْسَنَ جَائِزَتَهُمْ وَقَّرَبَهُمْ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بَعَثَ إِلَى امْرَأَةِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ أَنِ ابْعَثِي إِلَيَّ بِكِتَابِ الْأَمَانِ الَّذِي كُنْتُ كَتَبْتُهُ لِعَمْرٍو. فَقَالَتْ: إِنِّي دَفَنْتُهُ مَعَهُ لِيُحَاكِمَكَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ.
وَقَدْ كَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَعَدَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ هَذَا أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ وَلَدِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ كَلَامًا مُجَرَّدًا فَطَمِعَ فِي ذَلِكَ وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُبْغِضُهُ بُغْضًا شَدِيدًا مِنَ الصِّغَرِ، ثُمَّ كَانَ هَذَا صَنِيعَهُ إِلَيْهِ فِي الْكِبَرِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذُكِرَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ ذَاتَ يَوْمٍ: عَجَبٌ مِنْكَ وَمِنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، كَيْفَ أَصَبْتَ غِرَّتَهُ حَتَّى قَتَلْتَهُ ؟ فَقَالَ:
أَدْنَيْتُهُ مِنِّي لِيَسْكُنَ رَوْعُهُ فَأَصُولُ صَوْلَةَ حَازِمٍ مُسْتَمْكِنِ
غَضَبًا وَمَحْمِيَةً لِدِينِي إِنَّهُ لَيْسَ الْمُسِيءُ سَبِيلُهُ كَالْمُحْسِنِ

قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: وَهَذَا الشِّعْرُ لِلصَّبِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، تَمَثَّلَ بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ.
وَرَوَى ابْنُ دُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْعُتْبِيِّ أَنْ عَبْدَ الْمَلِكِ قَالَ: لَقَدْ كَانَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ دَمِ النَّوَاظِرِ، وَلَكِنَّ وَاللَّهِ لَا يَجْتَمِعُ فَحْلَانِ فِي الْإِبِلِ إِلَّا أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَإِنَّا لَكَمَا قَالَ أَخُو بَنِي يَرْبُوعٍ:
أُجَازِي مَنْ جَزَانِي الْخَيْرَ خَيْرًا وَجَازِي الْخَيْرِ يُجْزَى بِالنَّوَالِ
وَأَجْزِي مَنْ جَزَانِي الشَّرَّ شَرًّا كَمَا تُحْذَى النِّعَالُ عَلَى النِّعَالِ
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ وَأَنْشَدَ أَبُو الْيَقْظَانِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ فِي قَتْلِهِ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ:
صَحَّتْ وَلَا تَشْلَلْ وَضَرَّتْ عَدُوَّهَا يَمِينٌ أَرَاقَتْ مُهْجَةَ ابْنِ سَعِيدِ
وَجَدْتُ ابْنَ مَرْوَانَ وَلَا تَبْلَ نَفْسُهُ شَدِيدًا ضَرِيرَ الْبَأْسِ غَيْرَ بَلِيدِ
هُوَ ابْنُ أَبِي الْعَاصِي لِمَرْوَانَ يَنْتَمِي إِلَى أُسْرَةٍ طَابَتْ لَهُ وَجُدُودِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَمَّا حِصَارُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ فَكَانَ فِي

سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ رَجَعَ إِلَيْهِ مَنْ بُطْنَانَ، فَحَاصَرَهُ بِدِمَشْقَ، وَأَمَّا قَتْلُهُ إِيَّاهُ فَكَانَ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ
هُوَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَبُو أُمَيَّةَ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالْأَشْدَقِ، يُقَالُ: إِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا أَحْسَنَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ. وَحَدِيثًا آخَرَ فِي الْعِتْقِ.
وَرَوَى عَنْ عُمَرَ، وَ عُثْمَانَ، وَ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ، وَحَدَّثَ عَنْهُ بَنُوهُ؛ أُمَيَّةُ وَسَعِيدٌ، وَ مُوسَى وَغَيْرُهُمْ. وَاسْتَنَابَهُ مُعَاوِيَةُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَبِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنَ الْكُرَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ، يُعْطِي الْكَثِيرَ، وَيَتَحَمَّلُ الْعَظَائِمَ، وَكَانَ وَصِيَّ أَبِيهِ مِنْ بَيْنِ بَنِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ - كَمَا

قَدَّمْنَا - مِنَ الْمَشَاهِيرِ الْكُرَمَاءِ، وَالسَّادَةِ النُّجَبَاءِ. قَالَ عَمْرٌو: مَا شَتَمْتُ رَجُلًا مُنْذُ كُنْتُ رَجُلًا، وَلَا كَلَّفْتُ مَنْ قَصَدَنِي أَنْ يَسْأَلَنِي ; لَهُوَ أَمَنُّ عَلَيَّ مِنِّي عَلَيْهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: خُطَبَاءُ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَخُطَبَاءُ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ: مُعَاوِيَةُ وَابْنُهُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَابْنُهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، ثَنَا حَمَّادٌ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَيُرْعَفَنَّ عَلَى مِنْبَرِي جَبَّارٌ مِنْ جَبَابِرَةِ بَنِي أُمَيَّةَ حَتَّى يَسِيلَ رُعَافُهُ. قَالَ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ رَعَفَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَالَ رُعَافُهُ.
وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ الْحَرَّةِ أَيَّامَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لِقِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَنَهَاهُ أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ، وَذَكَرَ لَهُ الْحَدِيثَ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ فَقَالَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ. الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ دَخَلَ إِلَى مِصْرَ بَعْدَمَا دَعَا إِلَى

بَيْعَةِ نَفْسِهِ، وَاسْتَقَرَّ لَهُ الشَّامُ وَدَخَلَ مَعَهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ فَفَتَحَ مِصْرَ، وَقَدْ كَانَ وَعَدَ عَمْرًا أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَنْ يَكُونَ قَبْلَ ذَلِكَ نَائِبًا بِدِمَشْقَ، فَلَمَّا قَوِيَتْ شَوْكَةُ مَرْوَانَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ لِوَلَدِهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَخَلَعَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ مِنْ ذَلِكَ، فَمَا زَالَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، حَتَّى كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ، وَعَزَمَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الْعِرَاقِ لِقِتَالِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَرَجَعَ مِنْ جَيْشِهِ وَدَخَلَ عَمْرٌو دِمَشْقَ وَتَحَصَّنَ بِهَا، وَأَجَابَهُ أَهْلُهَا، فَاتَّبَعَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فَحَاصَرَهُ، ثُمَّ اسْتَنْزَلَهُ عَلَى أَمَانٍ صُورِيٍّ، ثُمَّ قَتَلَهُ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَكَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ: سَنَةَ سَبْعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنَ الْغَرِيبِ مَا ذَكَرَهُ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ بِسَنَدٍ لَهُ: أَنْ رَجُلًا سَمِعَ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ عَلَى سُورِ دِمَشْقَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَبْلَ قَتْلِهِ بِمُدَّةٍ، هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
أَلَا يَا لِقَوْمِي لِلسَّفَاهَةِ وَالْوَهْنِ وَلِلْفَاجِرِ الْمَوْهُونِ وَالرَّأْيِ ذِي الْأَفْنِ
وَلِابْنِ سَعِيدٍ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَى قَدَمَيْهِ خَرَّ لِلْوَجْهِ وَالْبَطْنِ

رَأَى الْحِصْنَ مَنْجَاةً مِنَ الْمَوْتِ فَالْتَجَا إِلَيْهِ فَزَارَتْهُ الْمَنِيَّةُ فِي الْحِصْنِ
قَالَ: فَأَتَى الرَّجُلُ عَبْدَ الْمَلِكِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: وَيَحَكَ، سَمِعَهَا مِنْكَ أَحَدٌ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: ضَعْهَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ خَلَعَ عَمْرٌو الطَّاعَةَ، وَقَتَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ أَيْضًا أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ
وَيُقَالُ: الدِّيلِيُّ. قَاضِي الْبَصْرَةَ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، وَاسْمُهُ ظَالِمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سُفْيَانَ بْنِ جَنْدَلِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ حِلْسِ بْنِ نُفَاثَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الدُّئِلِ بْنِ بَكْرٍ أَبُو

الْأَسْوَدِ، الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ عِلْمُ النَّحْوِ وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ عَلَى أَقْوَالٍ ; أَشْهَرُهَا أَنَّ اسْمَهُ ظَالِمُ بْنُ عَمْرٍو. وَقِيلَ: عَكْسُهُ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: اسْمُهُ عَوَيْمِرُ بْنُ ظُوَيْلِمٍ. قَالَ: وَقَدْ أَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ، وَشَهِدَ الْجَمَلَ مَعَ عَلِيٍّ، وَهَلَكَ فِي وِلَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ: كَانَ ثِقَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي النَّحْوِ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ: مَاتَ فِي طَاعُونِ الْجَارِفِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَدْ كَانَ ابْتِدَاؤُهَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ. قُلْتُ: وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَغَيْرُهُ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى إِلَيْهِ عِلْمَ النَّحْوِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي

طَالِبٍ وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ نَحَا نَحْوَهُ وَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ، وَسَلَكَ طَرِيقَهَ فَسُمِّيَ هَذَا الْعِلْمُ النَّحْوَ لِذَلِكَ. وَكَانَ الْبَاعِثَ لِأَبِي الْأَسْوَدِ عَلَى بَسْطِ ذَلِكَ تَغَيُّرُ لُغَةِ النَّاسِ، وَدُخُولُ اللَّحْنِ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَيَّامَ وِلَايَةِ زِيَادٍ عَلَى الْعِرَاقِ، وَكَانَ أَبُو الْأَسْوَدِ مُؤَدِّبَ بَنِيهِ ; فَإِنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ يَوْمًا إِلَى زِيَادٍ فَقَالَ: تُوُفِّيَ أَبَانَا وَتَرَكَ بَنُونَ، فَأَمَرَهُ زِيَادٌ أَنْ يَضَعَ لِلنَّاسِ شَيْئًا يَهْتَدُونَ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا وَضَعَ مِنْهُ بَابُ التَّعَجُّبِ ; مِنْ أَجْلِ أَنَّ ابْنَتَهُ قَالَتْ لَهُ لَيْلَةً: يَا أَبَهْ، مَا أَحْسَنُ السَّمَاءِ ! فَقَالَ: نُجُومُهَا. فَقَالَتْ: إِنِّي لَمْ أَسْأَلْ عَنْ أَحْسَنِهَا، إِنَّمَا تَعَجَّبْتُ مِنْ حُسْنِهَا. فَقَالَ قُولِي: مَا أَحْسَنَ السَّمَاءَ !
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَقَدْ كَانَ أَبُو الْأَسْوَدِ يَبْخَلُ، وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ أَطَعْنَا الْمَسَاكِينَ فِي أَمْوَالِنَا لَكُنَّا مِثْلَهُمْ، وَعَشَّى لَيْلَةً مِسْكِينًا، ثُمَّ قَيَّدَهُ وَبَيَّتَهُ عِنْدَهُ، وَمَنَعَهُ أَنْ يَخْرُجَ لَيْلَتَهُ تِلْكَ ; لِئَلَّا يُؤْذِيَ الْمُسْلِمِينَ بِسُؤَالِهِ، فَقَالَ لَهُ الْمِسْكِينُ: أَطْلِقْنِي. فَقَالَ: هَيْهَاتَ، إِنَّمَا عَشَّيْتُكَ لِأُرِيحَ مِنْكَ الْمُسْلِمِينَ اللَّيْلَةَ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَطْلَقَهُ. وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ أَظْهَرَ خَارِجِيٌّ التَّحْكِيمَ بِمِنًى فَقُتِلَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ. وَالنُّوَّابُ فِيهَا هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ بْنِ جُنَادَةَ
، لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَلِأَبِيهِ أَيْضًا صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ. نَزَلَ الْكُوفَةَ وَبِهَا تُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ الْأَنْصَارِيَّةُ
، بَايَعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَتَلَتْ بِعَمُودِ خَيْمَتِهَا يَوْمَ الْيَرْمُوكِ تِسْعَةً مِنَ الرُّومِ لَيْلَةَ عُرْسِهَا، وَسَكَنَتْ دِمَشْقَ وَقَبْرُهَا بِبَابِ الصَّغِيرِ.
حَسَّانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ، الْأَمِيرُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْبَحْدَلِيُّ

الْكَلْبِيُّ. وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِبَيْعَةِ مَرْوَانَ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ سَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ سَلَّمَهَا لِمَرْوَانَ.
وَقَصْرُ حَسَّانَ بِدِمَشْقَ، وَيُعْرَفُ بِقَصْرِ ابْنِ أَبِي الْحَدِيدِ، وَهُوَ قَصْرُ الْبَحَادِلَةِ.
مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
يُوسُفُ بْنُ الْحَكَمِ الثَّقَفِيُّ
وَالِدُ الْحَجَّاجِ. قَدِمَ مِنَ الطَّائِفِ إِلَى الشَّامِ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى مِصْرَ وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَلْزَمُ مَرْوَانَ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ
أَخُو مَرْوَانَ، شَهِدَ الدَّارَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَكَانَ شَاعِرًا مُحْسِنًا، وَلَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ وَابْنُهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا ثَارَتِ الرُّومُ وَاسْتَجَاشُوا عَلَى مَنْ بِالشَّامِ، وَاسْتَضْعَفُوهُمْ لِمَا يَرَوْنَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَصَالِحَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، مَلِكَ الرُّومِ، وَهَادَنَهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ أَلْفَ دِينَارٍ خَوْفًا مِنْهُ عَلَى الشَّامِ.
وَفِيهَا وَقْعُ الْوَبَاءُ بِمِصْرَ، فَهَرَبَ مِنْهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى الشَّرْقِيَّةِ، فَنَزَلَ حُلْوَانَ وَهِيَ عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنَ الْقَاهِرَةِ وَاتَّخَذَهَا مَنْزِلًا وَاشْتَرَاهَا مِنَ الْقِبْطِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَبَنَى بِهَا دَارًا لِلْإِمَارَةِ، وَجَامِعًا، وَأَنْزَلَهَا الْجُنْدَ.
وَفِيهَا رَكِبَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى مَكَّةَ وَمَعَهُ أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ فَأَعْطَى وَفَرَّقَ، وَنَحَرَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ أَلْفَ بَدَنَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ شَاةٍ، وَأَغْنَى سَاكِنِي مَكَّةَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَنْعَمَ وَأَطْلَقَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّاسِ بِالْحِجَازِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْعُمَّالُ عَلَى الْأَمْصَارِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِيمَا قَبْلُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ

عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ
وَأُمُّهُ: جَمِيلَةُ بِنْتُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ. وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَرْوِ إِلَّا عَنْ أَبِيهِ حَدِيثًا وَاحِدًا، " إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا " الْحَدِيثَ. وَعَنْهُ ابْنَاهُ حَفْصٌ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ طَلَّقَ أَبُوهُ أُمَّهُ فَأَخَذَتْهُ جَدَّتُهُ الشَّمُوسُ بِنْتُ أَبِي عَامِرٍ، حَكَمَ لَهُ بِهَا الصِّدِّيقُ، وَقَالَ: شَمُّهَا وَلُطْفُهَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْكَ. ثُمَّ لَمَّا زَوَّجَهُ أَبُوهُ فِي أَيَّامِهِ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَهْرًا، ثُمَّ كَفَّ عَنِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ ثُمُنَ مَالِهِ، وَأَمْرَهُ أَنْ يَتَّجِرَ وَيُنْفِقَ عَلَى عَيَالِهِ. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ: أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ عَاصِمٍ وَبَيْنَ الْحَسَنِ أَوِ الْحُسَيْنِ مُنَازَعَةٌ فِي أَرْضٍ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ عَاصِمٌ مِنَ الْحَسَنِ الْغَضَبَ قَالَ: هِيَ لَكَ. فَقَالَ لَهُ: بَلْ هِيَ لَكَ. فَتَرَكَاهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لَهَا، وَلَا أَحَدٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا حَتَّى أَخَذَهَا النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَكَانَ عَاصِمٌ رَئِيسًا وَقُورًا، كَرِيمًا فَاضِلًا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَاتَ سَنَةَ سَبْعِينَ.

قَبِيصَةُ بْنُ جَابِرِ بْنِ وَهْبٍ الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ أَبُو الْعَلَاءِ
، مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، شَهِدَ خُطْبَةَ عُمَرَ بِالْجَابِيَةِ، وَكَانَ أَخَا مُعَاوِيَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَكَانَ مِنَ الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاءِ.
قَيْسُ بْنُ ذَرِيحٍ، أَبُو يَزِيدَ، اللَّيْثِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، مِنْ بَادِيَةِ الْحِجَازِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَخُو الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ مِنَ الرَّضَاعَةِ.
وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ لُبْنَى بِنْتَ الْحَبَّابِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَلَمَّا طَلَّقَهَا، هَامَ لِمَا بِهِ مِنَ الْغَرَامِ، وَسَكَنَ الْبَادِيَةَ، وَجَعَلَ يَقُولُ فِيهَا الْأَشْعَارَ وَنَحُلَ جِسْمُهُ، فَلَمَّا زَادَ مَا بِهِ أَتَاهُ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ، فَأَخْذَهُ وَمَضَى بِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَقَالَ لَهُ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، ارْكَبْ مَعِي فِي حَاجَةٍ. فَرَكِبَ، وَاسْتَنْهَضَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْ وُجُوهِ قُرَيْشٍ، فَذَهَبُوا مَعَهُ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا يُرِيدُ، حَتَّى أَتَى بِهِمْ بَابَ،

زَوْجِ لُبْنَى، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَإِذَا وُجُوهُ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكُمْ ! مَا جَاءَ بِكُمْ ؟ قَالُوا: حَاجَةٌ لِابْنِ أَبِي عَتِيقٍ. فَقَالَ الرَّجُلُ: اشْهَدُوا عَلَى أَنَّ حَاجَتَهُ مَقْضِيَّةٌ، وَحُكْمَهُ جَائِزٌ. فَقَالُوا: أَخْبِرْهُ بِحَاجَتِكَ. فَقَالَ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ: اشْهَدُوا عَلَى أَنَّ زَوْجَتَهُ لُبْنَى مِنْهُ طَالِقٌ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: قَبَّحَكَ اللَّهُ، أَلِهَذَا جِئْتَ بِنَا ؟ فَقَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكُمْ، يُطَلِّقُ هَذَا زَوْجَتَهُ، وَيَتَزَوَّجُ بِغَيْرِهَا، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمُوتَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي هَوَاهَا صَبَابَةً، وَاللَّهِ لَا أَبْرَحُ حَتَّى يَنْتَقِلَ مَتَاعُهَا إِلَى بَيْتِ قَيْسٍ، فَفَعَلَتْ، وَأَقَامُوا مُدَّةً فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ وَأَطْيَبِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
يَزِيدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ رَبِيعَةَ الْحِمْيَرِيُّ الشَّاعِرُ
كَانَ كَثِيرَ الشِّعْرِ وَالْهَجْوِ. وَقَدْ أَرَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ قَتْلَهُ ; لِكَوْنِهِ هَجَا أَبَاهُ زِيَادًا، فَمَنَعَهُ مُعَاوِيَةُ مِنْ قَتْلِهِ، وَقَالَ: أَدِّبْهُ. فَسَقَاهُ دَوَاءً مُسُهِلًا وَأَرْكَبَهُ عَلَى حِمَارٍ، وَطَافَ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَهُوَ يَسْلَحُ عَلَى الْحِمَارِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ:
يَغْسِلُ الْمَاءُ مَا صَنَعْتُ وَشِعْرِي رَاسِخٌ مِنْكَ فِي الْعِظَامِ الْبَوَالِي

بَشِيرُ بْنُ النَّضْرِ
قَاضِي مِصْرَ، كَانَ رِزْقُهُ فِي الْعَامِ أَلْفَ دِينَارٍ. تُوُفِّيَ بِمِصْرَ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْزَةَ الْخَوْلَانِيُّ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
مَالِكُ بْنُ يَخَامِرَ السَّكْسَكِيُّ الْأَلْهَانِيُّ الْحِمْصِيُّ
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، وَيُقَالُ: لَهُ صُحْبَةٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ عَنْهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي حَدِيثِ الطَّائِفَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْحَقِّ أَنَّهُمْ بِالشَّامِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: لَهُ صُحْبَةٌ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ تَابِعِيٌّ وَلَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَكَانَ مِنْ أَخَصِّ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَذَلِكَ أَنْ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ سَارَ فِي جُنُودٍ هَائِلَةٍ مِنَ الشَّامِ قَاصِدًا مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ بِالْعِرَاقِ، فَالْتَقَيَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَا قَبْلَهَا يَرْكَبُ كُلُّ وَاحِدٍ لِمُلْتَقَى الْآخَرِ، فَيَحُولُ بَيْنَهُمَا الشِّتَاءُ وَالْبَرْدُ وَالْوَحْلُ، فَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى بَلَدِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْعَامِ سَارَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ السَّرَايَا، وَدَخَلَ بَعْضُ مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ فَدَعَا أَهْلَهَا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فِي السِّرِّ، فَاسْتَجَابَ لَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَدْ كَانَ مُصْعَبٌ سَارَ إِلَى الْحِجَازِ، فَجَاءَ وَدَخَلَ الْبَصْرَةَ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، فَأَنَّبَ الْكُبَرَاءَ مِنَ النَّاسِ، وَشَتَمَهُمْ وَلَامَهُمْ عَلَى دُخُولِ أُولَئِكَ إِلَيْهِمْ، وَإِقْرَارِهِمْ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهَدَمَ دُورَ بَعْضِهِمْ، ثُمَّ شَخَصَ إِلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ بَلَغَهُ قَصْدُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَهُ بِجُنُودِ الشَّامِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ.
وَوَصَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى مَسْكِنٍ، وَكَتَبَ إِلَى الْمَرْوَانِيَّةِ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِمَنْ بَعَثَهُ إِلَيْهِمْ فَأَجَابُوهُ، وَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ يُوَلِّيَهُمْ أَصْبَهَانَ، فَقَالَ: نَعَمْ. وَهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَقَدْ جَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ،

وَخَرَجَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَخَذَلُوهُ وَجَعَلَ يَتَأَمَّلُ مَنْ مَعَهُ فَلَا يَجِدُهُمْ يُقَاوِمُونَ أَعْدَاءَهُ، فَاسْتَقْتَلَ وَطَمَّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: لِي بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ أُسْوَةٌ حِينَ امْتَنَعَ مِنْ إِلْقَائِهِ يَدَهُ، وَمِنَ الذِّلَّةِ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَجَعَلَ يُنْشِدُ وَيَقُولُ مُسَلِّيًا نَفْسَهُ:
وَإِنَّ الْأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ تَأَسَّوْا فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَّأَسِّيَا
وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أُمَرَائِهِ أَنْ يُقِيمَ بِالشَّامِ، وَأَنْ يَبْعَثَ إِلَى مُصْعَبٍ جَيْشًا فَأَبَى، وَقَالَ: لَعَلِّي أَبْعَثُ رَجُلًا شُجَاعًا لَا رَأْيَ لَهُ، أَوْ مَنْ لَهُ رَأْيٌ وَلَا شَجَاعَةَ لَهُ، وَإِنِّي أَجِدُ مِنْ نَفْسِي بَصَرًا بِالْحَرْبِ وَشَجَاعَةً، وَإِنَّ مُصْعَبًا فِي بَيْتِ شَجَاعَةٍ، أَبُوهُ أَشْجَعُ قُرَيْشٍ، وَأَخُوهُ لَا تُجْهَلُ شَجَاعَتُهُ، وَهُوَ شُجَاعٌ، لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ، وَهُوَ يُحِبُّ الدَّعَةَ وَالْخَفْضَ، وَمَعَهُ مَنْ يُخَالِفُهُ، وَمَعِي مَنْ يَنْصَحُ لِي. فَسَارَ بِنَفْسِهِ، فَلَمَّا تَقَارَبَ

الْجَيْشَانِ بَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أُمَرَاءِ مُصْعَبٍ بِكُتُبٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِهِ وَيَعِدُهُمُ الْوِلَايَاتِ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى مُصْعَبٍ فَأَلْقَى إِلَيْهِ كِتَابًا مَخْتُومًا، وَقَالَ: هَذَا جَاءَنِي مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ. فَفَتَحَهُ فَإِذَا هُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِتْيَانِ إِلَيْهِ، وَلَهُ نِيَابَةُ الْعِرَاقِ. وَقَالَ لِمُصْعَبٍ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أُمَرَائِكَ إِلَّا وَقَدْ جَاءَهُ كِتَابٌ مِثْلُ هَذَا فَإِنْ أَطَعْتَنِي ضَرَبْتُ أَعْنَاقَهُمْ. فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: إِنِّي لَوْ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَمْ تَنْصَحْنَا عَشَائِرُهُمْ بَعْدَهُمْ. فَقَالَ: فَأَوَقِرْهُمْ فِي الْحَدِيدِ وَابْعَثْهُمْ إِلَى أَبْيَضِ كِسْرَى فَاسْجُنْهُمْ فِيهِ، وَوَكِّلْ بِهِمْ مَنْ إِنْ غُلِبْتَ ضَرَبَ أَعْنُقَهُمْ، وَإِنْ غَلَبْتَ مَنَنْتَ بِهِمْ عَلَى عَشَائِرَهُمْ. فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا النُّعْمَانِ، إِنِّي لَفِي شُغْلٍ عَنْ هَذَا. ثُمَّ قَالَ مُصْعَبٌ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَحْرٍ - يَعْنِي الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ - إِنْ كَانَ لِيُحَذِّرُنِي غَدْرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ الْآنَ.
ثُمَّ تَوَاجَهَ الْجَيْشَانِ بِدَيْرِ الْجَاثَلِيقِ مِنْ مَسْكِنٍ، فَحَمَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ - وَهُوَ أَمِيرُ الْمُقَدِّمَةِ الْعِرَاقِيَّةِ لِجَيْشِ مُصْعَبٍ - عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ - وَهُوَ أَمِيرُ مُقَدِّمَةِ الشَّامِ - فَأَزَالَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَأَرْدَفَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَحَمَلُوا عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ، وَمَنْ مَعَهُ فَطَحَنُوهُمْ، وَقُتِلَ إِبْرَاهِيمُ

بْنُ الْأَشْتَرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَفَا عَنْهُ، وَقُتِلَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ عَلَى خَيْلِ مُصْعَبٍ فَهَرَبَ أَيْضًا وَلَجَأَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَجَعَلَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الْقَلْبِ يُنْهِضُ أَصْحَابَ الرَّايَاتِ، وَيَحُثُّ الشُّجْعَانَ وَالْأَبْطَالَ أَنْ يَتَقَدَّمُوا إِلَى أَمَامِ الْقَوْمِ، فَلَا يَتَحَرَّكُ أَحَدٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا إِبْرَاهِيمُ وَلَا إِبْرَاهِيمَ لِي الْيَوْمَ ! وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَتَخَاذَلَتِ الرِّجَالُ، وَضَاقَ الْحَالُ، وَكَثُرَ النِّزَالُ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: عَنْ يَحْيَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَرْسَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَخَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى مُصْعَبٍ يُعْطِيهِ الْأَمَانَ فَأَبَى، وَقَالَ: إِنَّ مِثْلِي لَا يَنْصَرِفُ عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَّا غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا.
قَالُوا: فَنَادَى مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ عِيسَى بْنَ مُصْعَبٍ فَقَالَ: يَابْنَ أَخِي، لَا تَقْتُلْ نَفْسَكَ، لَكَ الْأَمَانُ. فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: قَدْ آمَنَكَ عَمُّكَ فَامْضِ إِلَيْهِ. فَقَالَ: لَا تَتَحَدَّثُ نِسَاءُ قُرَيْشٍ أَنِّي أَسْلَمْتُكَ لِلْقَتْلِ. فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، فَارْكَبْ خَيْلَ السَّبْقِ فَالْحَقْ بِعَمِّكَ، فَأَخْبِرْهُ بِمَا صَنَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ فَإِنِّي مَقْتُولٌ هَاهُنَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَا أُخْبِرُ عَنْكَ أَحَدًا أَبَدًا، وَلَا أُخْبِرُ نِسَاءَ قُرَيْشٍ بِمَصْرَعِكَ أَبَدًا، وَلَا أُقْتَلُ إِلَّا مَعَكَ، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ رَكِبْتَ خَيْلَكَ، وَسِرْنَا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُمْ عَلَى

الْجَمَاعَةِ. فَقَالَ مُصْعَبٌ: لَا وَاللَّهِ، مَا الْفِرَارُ لِي بِعَادَةٍ، وَلَكِنْ أُقَاتِلُ، فَإِنْ قُتِلْتُ فَمَا السَّيْفُ لِي بِعَارٍ، وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ قُرَيْشٌ عَنِّي أَنِّي فَرَرْتُ مِنَ الْقِتَالِ. ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ: تَقَدَّمْ بَيْنَ يَدَيَّ حَتَّى أَحْتَسِبَكَ. فَتَقَدَّمَ ابْنُهُ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَأُثْخِنَ مُصْعَبٌ بِالرَّمْيِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَحَمَلُ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا ثَارَاتِ الْمُخْتَارِ ! فَصَرَعَهُ، وَنَزَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ التَّمِيمِيُّ، فَقَتَلَهُ وَحَزَّ رَأْسَهُ، وَأَتَى بِهِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَسَجَدَ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَأَطْلَقَ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: لَمْ أَقْتُلْهُ عَلَى طَاعَتِكَ، وَلَكِنْ بِثَأْرٍ كَانَ لِي عِنْدَهُ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَ لَهُ عَمَلًا قَبْلَ ذَلِكَ فَعَزَلَهُ عَنْهُ وَأَهَانَهُ.
قَالُوا: وَلَمَّا وُضِعَ رَأْسُ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَقَدْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ مُصْعَبٍ صُحْبَةٌ قَدِيمَةٌ، وَكَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَلِكَ عَقِيمٌ.
وَقَالَ: لَمَّا تَفَرَّقَ عَنْ مُصْعَبٍ جُمُوعُهُ قَالَ لَهُ ابْنُهُ عِيسَى: لَوِ اعْتَصَمْتَ بِبَعْضِ الْقِلَاعِ، وَكَاتَبْتَ مَنْ بَعُدُ عَنْكَ مِثْلَ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ وَغَيْرِهِ فَقَدِمُوا عَلَيْكَ، فَإِذَا اجْتَمَعَ لَكَ مَا تُرِيدُ مِنْهُمْ لَقِيَتَ الْقَوْمَ ; فَإِنَّكَ قَدْ ضَعُفْتَ جِدًّا. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ جَوَابًا. ثُمَّ ذَكَرَ مَا جَرَى لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَيْفَ قُتِلَ كَرِيمًا، وَلَمْ يُلْقِ بِيَدِهِ، وَلَمْ يَجِدْ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَفَاءً. وَكَذَلِكَ أَبُوهُ وَأَخُوهُ، وَنَحْنُ مَا وَجَدْنَا لَهُمْ وَفَاءً.
ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَبَقِيَ فِي قَلِيلٍ مِنْ خَوَاصِّهِ، وَمَالَ الْجَمِيعُ إِلَى

عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُحِبُّ مُصْعَبًا حَبًّا شَدِيدًا، وَكَانَ خَلِيلًا لَهُ قَبْلَ الْخِلَافَةِ، فَقَالَ لِأَخِيهِ مُحَمَّدٍ: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَآمِنْهُ، فَجَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُصْعَبُ قَدْ آمَنُكَ ابْنُ عَمِّكَ عَلَى نَفْسِكَ وَوَلَدِكَ وَمَالِكَ وَأَهْلِكَ، فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْبِلَادِ، وَلَوْ أَرَادَ بِكَ غَيْرَ ذَلِكَ لَكَانَ، فَقَالَ مُصْعَبٌ: قُضِيَ الْأَمْرُ، إِنَّ مِثْلِي لَا يَنْصَرِفُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْمَوْقِفِ إِلَّا غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا. فَتَقَدَّمَ ابْنُهُ عِيسَى فَقَاتَلَ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ يَابْنَ أَخِي لَا تَقْتُلْ نَفْسَكَ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ قَتْلِ أَبِيهِ بَعْدَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ: وَلَمَّا وُضِعَ رَأْسُ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ بَكَى وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَقْدِرُ أَنْ أَصْبِرَ عَلَيْهِ سَاعَةً وَاحِدَةً مِنْ حُبِّي لَهُ حَتَّى دَخَلَ السَّيْفُ بَيْنَنَا، وَلَكِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ ! وَلَقَدْ كَانَتِ الْمَحَبَّةُ وَالْحُرْمَةُ بَيْنَنَا قَدِيمَةً، مَتَى تَلِدُ النِّسَاءُ مِثْلَ مُصْعَبٍ ؟ ثُمَّ أَمَرَ بِمُوَارَاتِهِ، وَدَفَنَهُ هُوَ وَابْنَهُ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ فِي قُبُورٍ بِمَسْكِنٍ بِالْقُرْبِ مِنَ الْكُوفَةِ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَكَانَ مَقْتَلُ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى أَوِ الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا: وَلَمَّا قَتَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ مُصْعَبًا ارْتَحَلَ إِلَى الْكُوفَةِ فَنَزَلَ النُّخَيْلَةَ فَوَفَدَتْ عَلَيْهِ الْوُفُودُ بِهَا مِنْ رُؤَسَاءِ الْقَبَائِلِ وَسَادَاتِ الْعَرَبِ، وَجَعَلَ يُخَاطِبُهُمْ بِفَصَاحَةٍ

وَبَلَاغَةٍ وَاسْتِشْهَادٍ بِأَشْعَارٍ حَسَنَةٍ، وَبَايَعَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَفَرَّقَ الْعِمَالَاتِ فِي النَّاسِ، وَوَلَّى الْكُوفَةَ قَطَنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى أَخَاهُ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَيْهَا، وَخَطَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا بِالْكُوفَةِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ لَوْ كَانَ خَلِيفَةً كَمَا يَزْعُمُ لَخَرَجَ فَآسَى بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَغْرِزْ ذَنْبَهُ فِي الْحَرَمِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ أَخِي بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ وَأَمَرْتُهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِ الطَّاعَةِ، وَبِالشِّدَّةِ عَلَى أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا.
وَأَمَّا أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَقْتَلُ مُصْعَبٍ تَنَازَعَ فِي إِمَارَتِهَا حُمْرَانُ بْنُ أَبَانٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، فَغَلَبَهُ حُمْرَانُ بْنُ أَبَانٍ عَلَيْهَا فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا فَكَانَ أَشْرَفَ الرَّجُلَيْنِ. قَالَ أَعْرَابِيٌّ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رِدَاءَ ابْنِ أَبَانٍ مَالَ عَنْ عَاتِقِهِ يَوْمًا، فَابْتَدَرَهُ مَرْوَانُ، وَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ أَيُّهُمَا يُسَوِّيهِ عَلَى مَنْكِبَيْهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَدَّ حُمْرَانُ يَوْمًا رِجْلَهُ فَابْتَدَرَ مُعَاوِيَةُ، وَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ أَيُّهُمَا يَغْمِزُهَا. قَالَ: فَبَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ

خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ وَالِيًا عَلَيْهَا - يَعْنِي عَلَى الْبَصْرَةِ - فَأَخَذَهَا مِنْ حُمْرَانَ بْنِ أَبَانٍ وَاسْتَنَابَ فِيهَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ، وَعَزَلَ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانٍ عَنْهَا.

قَالُوا: وَقَدْ أَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِطَعَامٍ كَثِيرٍ فَعُمِلَ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ فَأَكَلُوا مِنْ سِمَاطِهِ، وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ عَلَى السَّرِيرِ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا أَلَذَّ عَيْشَنَا لَوْ أَنَّ شَيْئًا يَدُومُ، وَلَكِنْ نَحْنُ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ:
وَكُلُّ جَدِيدٍ يَا أُمَيْمَ إِلَى بِلًى وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا يَصِيرُ إِلَى كَانْ
فَلَمَّا فَرَغَ النَّاسُ مِنَ الطَّعَامِ نَهَضَ فَدَارَ فِي الْقَصْرِ، وَجَعَلَ يَسْأَلُ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ عَنْ أَحْوَالِ الْقَصْرِ وَمَنْ بَنَى أَمَاكِنَهُ وَبُيُوتَهُ، فَيُخْبِرُهُ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَجْلِسِهِ فَاسْتَلْقَى وَهُوَ يَقُولُ:
اعْمَلْ عَلَى مَهَلٍ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ وَاكَدَحْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانْ
فَكَأَنَّ مَا قَدْ كَانَ لَمْ يَكُ إِذْ مَضَى وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ قَدْ كَانْ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهَا رَجَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ - فِيمَا زَعَمَ الْوَاقِدِيُّ - إِلَى الشَّامِ.

قَالَ: وَفِيهَا عَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ جَابِرَ بْنَ الْأَسْوَدِ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ هُوَ آخِرَ أُمَرَائِهِ عَلَيْهَا، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهَا طَارِقُ بْنُ عَمْرٍو مَوْلَى عُثْمَانَ، مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْعِرَاقِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا عَقَدَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ نَائِبُ مِصْرَ لِحَسَّانَ الْغَسَّانِيِّ عَلَى غَزْوِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ، فَافْتَتَحَ قَرْطَاجَنَّةَ وَكَانَ أَهْلُهَا رُومًا عُبَّادَ أَصْنَامٍ.
وَفِيهَا قُتِلَ نَجْدَةُ الْحَرُورِيُّ الَّذِي تَغَلَّبَ عَلَى الْيَمَامَةَ، وَفِيهَا خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَوْرٍ فِي الْيَمَامَةِ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَهُوَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَصَيِّ بْنِ كِلَابٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ - وَيُقَالُ لَهُ: أَبُو عِيسَى أَيْضًا - الْأَسَدِيُّ. وَأَمُّهُ

الرَّبَابُ بِنْتُ أُنَيْفٍ الْكَلْبِيَّةُ. كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَشْجَعِهِمْ قَلْبًا، وَأَسْخَاهُمْ كَفًّا.
وَقَدْ حَكَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَسَعْدٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَرَوَى عَنْهُ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ الْجُمَحِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَوَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ يُجَالِسُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا.
حَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ جَمِيلًا نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ، فَقَالَ: إِنَّ هَاهُنَا فَتًى أَكْرَهُ أَنْ تَرَاهُ بُثَيْنَةُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَمِيرًا قَطُّ عَلَى مِنْبَرٍ أَحْسَنَ مِنْهُ. وَكَذَا قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ أَجْمَلُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَلِيَ إِمْرَةَ الْعِرَاقَيْنِ لِأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، حَتَّى قَتَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِمَسْكِنٍ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ أَوَانَا عَلَى نَهْرِ دُجَيْلٍ عِنْدَ دَيْرِ الْجَاثَلِيقِ، وَقَبْرُهُ إِلَى الْآنِ مَعْرُوفٌ هُنَاكَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا صِفَةَ قَتْلِهِ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ، وَأَنَّهُ قَتَلَ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ سَبْعَةَ

آلَافٍ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا قَتَلَ مُصْعَبٌ الْمُخْتَارَ طَلَبَ أَهْلُ الْقَصْرِ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ مِنْ مُصْعَبٍ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبَّادَ بْنَ الْحُصَيْنِ فَجَعَلَ يُخْرِجُهُمْ مُلْتَفِّينَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَصَرَكُمْ عَلَيْنَا، وَابْتَلَانَا بِالْأَسْرِ، يَابْنَ الزُّبَيْرِ مَنْ عَفَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ عَاقَبَ لَا يَأْمَنُ الْقِصَاصَ، نَحْنُ أَهْلُ قِبْلَتِكُمْ وَعَلَى مِلَّتِكُمْ وَقَدْ قَدَرْتَ فَاسْمَحْ وَاعْفُ عَنَّا. قَالَ: فَرَقَّ لَهُمْ مُصْعَبٌ وَأَرَادَ أَنْ يُخْلِيَ سَبِيلَهُمْ، فَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ وَغَيْرُهُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ، فَقَالُوا: قَدْ قَتَلُوا أَوْلَادَنَا وَعَشَائِرَنَا، وَجَرَحُوا مِنَّا خَلْقًا، اخْتَرْنَا أَوِ اخْتَرْهُمْ. فَأَمَرَ حِينَئِذٍ بِقَتْلِهِمْ، فَنَادَوْا بِأَجْمَعِهِمْ: لَا تَقْتُلْنَا وَاجْعَلْنَا مُقَدِّمَتَكَ فِي قِتَالِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَإِنْ ظَفَرْنَا فَلَكُمْ، وَإِنْ قُتِلْنَا لَا نُقْتَلُ حَتَّى نَقْتُلَ مِنْهُمْ طَائِفَةً وَكَانَ الَّذِي تُرِيدُ. فَأَبَى ذَلِكَ مُصْعَبٌ، فَقَالَ لَهُ مُسَافِرٌ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُصْعَبٌ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَكَ أَنْ لَا تَقْتُلَ نَفْسًا مُسْلِمَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَإِنَّ: مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ( النِّسَاءِ: 93 ) فَلَمْ يَسْمَعْ لَهُ، بَلْ أَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ جَمِيعِهِمْ، وَكَانُوا سَبْعَةَ آلَافِ نَفْسٍ، ثُمَّ كَتَبَ مُصْعَبٌ إِلَى ابْنِ الْأَشْتَرِ: إِنْ أَجَبْتَنِي فَلَكَ الشَّامُ، وَأَعِنَّةُ الْخَيْلِ. فَسَارَ ابْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى مُصْعَبٍ. وَقِيلَ: إِنَّ مُصْعَبًا لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ: أَيْ عَمِّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ قَوْمٍ خَلَعُوا الطَّاعَةَ، وَقَاتَلُوا حَتَّى إِذَا غُلِبُوا تَحَصَّنُوا، وَسَأَلُوا الْأَمَانَ فَأُعْطُوهُ، ثُمَّ قُتِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَالَ: وَكَمْ هُمْ ؟ قَالَ: خَمْسَةُ

آلَافٍ. فَسَبَّحَ ابْنُ عُمَرَ وَاسْتَرْجَعَ، وَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَتَى مَاشِيَةَ الزُّبَيْرِ فَذَبَحَ مِنْهَا خَمْسَةَ آلَافِ مَاشِيَةٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ أَلَسْتَ تَعُدُّهُ مُسْرِفًا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَتَرَاهُ إِسْرَافًا فِي الْبَهَائِمِ وَلَا تَرَاهُ إِسْرَافًا فِي مَنْ تَرْجُو تَوْبَتَهُ ؟ ! يَابْنَ أَخِي أَصِبْ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ مَا اسْتَطَعْتَ فِي دُنْيَاكَ.
ثُمَّ إِنَّ مُصْعَبًا بَعَثَ بِرَأْسِ الْمُخْتَارِ إِلَى أَخِيهِ بِمَكَّةَ، وَتَمَكَّنَ مُصْعَبٌ فِي الْعِرَاقِ تَمَكُّنًا زَائِدًا، فَقَرَّرَ بِهَا الْوِلَايَاتِ وَالْعُمَّالَ، وَحَظِيَ عِنْدَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ فَجَعَلَهُ عَلَى الْوِفَادَةِ، ثُمَّ رَحَلَ مُصْعَبٌ إِلَى أَخِيهِ بِمَكَّةَ فَأَعْلَمَهُ بِمَا فَعَلَ، فَأَقَرَّهُ عَلَى مَا صَنَعَ، إِلَّا إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ لَمْ يُمْضِ لَهُ مَا جَعَلَهُ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: أَعَمَدْتَ إِلَى رَايَةٍ خَفَضَهَا اللَّهُ، تُرِيدُ أَنْ تَرْفَعَهَا ؟ ثُمَّ كَشَفَ عَنْ ظَهْرِهِ فَإِذَا ضَرْبَةٌ قَدْ أَصَابَتْهُ، وَقَالَ لَهُ: أَتُرَانِي أُحِبُّ الْأَشْتَرَ وَهُوَ الَّذِي جَرَحَنِي هَذِهِ الْجِرَاحَةَ. ثُمَّ اسْتَدْعَى بِمَنْ قَدِمَ مَعَ مُصْعَبٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُلِّ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو حَاضِرٍ الْأَسَدِيُّ - وَكَانَ قَاضِيَ الْجَمَاعَةِ بِالْبَصْرَةِ -: إِنَّ لَنَا وَلَكُمْ مَثَلًا قَدْ مَضَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مَا قَالَ الْأَعْشَى:
عُلِّقْتُهَا عَرَضًا وَعُلِّقَتْ رَجُلًا غَيْرِي وَعُلِّقَ أُخْرَى غَيْرَهَا الرَّجُلُ

قُلْتُ كَمَا قِيلَ أَيْضًا:
جُنِنَّا بِلَيْلَى وَهِيَ جُنَّتْ بِغَيْرِنَا وَأُخْرَى بِنَا مَجْنُونَةٌ لَا نُرِيدُهَا
عُلِّقْنَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعُلِّقْتَ أَهْلَ الشَّامِ، وَعُلِّقَ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى مَرْوَانَ فَمَا عَسَيْنَا أَنْ نَصْنَعَ ؟ قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَمَا سَمِعْتُ جَوَابًا أَحْسَنَ مِنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ مُصْعَبٌ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مَحَبَّةً لِلنِّسَاءِ. وَقَدْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ جَمَاعَةٌ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: لِيَقُمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ فَلْيَسْأَلْ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا يُحِبُّهُ. فَقَامَ كُلٌّ يَسْأَلُ حَاجَتَهُ مِنْهُمْ، وَكَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُزَوِّجَهُ سُكَيْنَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ، وَعَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ - وَكَانَتَا أَحْسَنَ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ - وَأَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ إِمْرَةَ الْعِرَاقَيْنِ. فَأَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ تَزَوُّجَ بِعَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، وَكَانَ صَدَاقُهَا مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَتْ بَاهِرَةَ الْجَمَالِ جِدًّا، وَكَانَ مُصْعَبٌ أَيْضًا جَمِيلًا جِدًّا، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ زَوْجَاتِهِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اجْتَمَعَ فِي الْحِجْرِ

مُصْعَبٌ، وَ عُرْوَةُ، وَ عَبْدُ اللَّهِ، بَنُو الزُّبَيْرِ، وَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَالُوا: تَمَنَّوْا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْخِلَافَةَ، وَقَالَ عُرْوَةُ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى أَنْ يُؤْخَذَ عَنِّي الْعِلْمُ. وَقَالَ مُصْعَبٌ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى إِمْرَةَ الْعِرَاقِ وَالْجَمْعَ بَيْنَ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ وَسُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْمَغْفِرَةَ. قَالَ: فَنَالُوا كُلُّهُمْ مَا تَمَنَّوْا، وَلَعَلَّ ابْنُ عُمَرَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ.
وَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ يَوْمًا إِذْ دَعَانِي الْأَمِيرُ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَدْخَلَنِي دَارَ الْإِمَارَةِ، ثُمَّ كَشَفَ عَنْ سِتْرٍ فَإِذَا وَرَاءَهُ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا أَبْهَى، وَلَا أَحْسَنَ مِنْهَا. فَقَالَ: أَتَدْرِي مَنْ هَذِهِ ؟ فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: هَذِهِ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ، ثُمَّ خَرَجْتُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَنْ هَذَا الَّذِي أَظَهَرْتَنِي عَلَيْهِ ؟ قَالَ: هَذَا عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ. قَالَتْ: فَأَطْلِقْ لَهُ شَيْئًا. فَوَهَبَنِي عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ مَلَكْتُهُ.
وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ تَغَضَّبَتْ مَرَّةً عَلَى مُصْعَبٍ فَتَرَضَّاهَا بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَطْلَقَتْهَا هِيَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي أَصْلَحَتْ

بَيْنَهُمَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ أُهْدِيَتْ لَهُ نَخْلَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، ثِمَارُهَا مِنْ صُنُوفِ الْجَوَاهِرِ الْمُثْمِنَةِ، فَقُوِّمَتْ بِأَلْفِي أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَتْ مِنْ مَتَاعِ الْفُرْسِ فَأَعْطَاهَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ إِذَا كَتَبَ لِأَحَدٍ جَائِزَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ جَعَلَهَا مُصْعَبٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَقَدْ كَانَ مُصْعَبٌ مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ وَأَكْثَرِهِمْ عَطَاءً، لَا يَسْتَكْثِرُ مَا يُعْطِي وَلَوْ كَانَ مَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ ; فَكَانَتْ عَطَايَاهُ لِلْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ وَالْوَضِيعِ وَالشَّرِيفِ مُتَقَارِبَةً، وَكَانَ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ يُبَخَّلُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ مُصْعَبًا غَضِبَ مَرَّةً عَلَى رَجُلٍ فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ، مَا أَقْبَحَ بِمِثْلِي أَنْ يَقُومَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَتَعَلَّقَ بِأَطْرَافِكَ الْحَسَنَةِ، وَبِوَجْهِكَ الَّذِي يُسْتَضَاءُ بِهِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ سَلْ مُصْعَبًا فِيمَ قَتَلَنِي ؟ فَعَفَا عَنْهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْعَلَ مَا وَهَبْتَ لِي مِنْ حَيَاتِي فِي عَيْشٍ رَخِيٍّ. فَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ أَلْفٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ:

إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ نِصْفَهَا لِابْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ ; حَيْثُ يَقُولُ فِيكَ:
إِنَّ مُصْعَبًا شِهَابٌ مِنَ اللَّهِ تَجَلَّتْ عَنْ وَجْهِهِ الظَّلْمَاءُ
مُلْكُهُ مُلْكُ عِزَّةٍ لَيْسَ فِيهِ جَبَرُوتٌ مِنْهُ وَلَا كِبْرِيَاءُ
يَتَّقِي اللَّهَ فِي الْأُمُورِ وَقَدْ أَفْ لَحَ مَنْ كَانَ هَمَّهُ الِاتِّقَاءُ
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، قَدْ وَهَبْتَنِي حَيَاةً، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَجْعَلَ مَا قَدْ وَهَبْتَنِي مِنَ الْحَيَاةِ فِي عَيْشٍ رَخِيٍّ وَسِعَةٍ فَافْعَلْ. فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُؤَمِّلٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: بَلَغَ مُصْعَبًا عَنْ عَرِيفِ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ فَهَمَّ بِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، فَقَالَ لَهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اسْتَوْصُوا بِالْأَنْصَارِ خَيَّرًا - أَوْ قَالَ: مَعْرُوفًا - اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ فَأَلْقَى مُصْعَبٌ نَفْسَهُ عَنْ سَرِيرِهِ وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالْبِسَاطِ، وَقَالَ: أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى

الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ فَتَرَكَهُ.
وَمِنْ كَلَامِ مُصْعَبٍ فِي التَّوَاضُعِ أَنَّهُ قَالَ: الْعَجَبُ مِنِ ابْنِ آدَمَ كَيْفَ يَتَكَبَّرُ، وَقَدْ جَرَى فِي مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ ؟ !
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: سُئِلَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُصْعَبٍ فَقَالَ: كَانَ نَبِيلًا رَئِيسًا نَفِيسًا أَنِيسًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ الْمُخْتَارُ قَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَةَ آلَافٍ وَقِيلَ سَبْعَةَ آلَافٍ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَقِيَ ابْنُ عُمَرَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ ابْنُ عُمَرَ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ انْضَرَّ فِي عَيْنَيْهِ فَتَعَرَّفَ لَهُ حَتَّى عَرَفَهُ، قَالَ: أَنْتَ الَّذِي قَتَلَتْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَةَ آلَافٍ مِمَّنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ ؟ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُمْ بَايَعُوا الْمُخْتَارَ، فَقَالَ: أَمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مُسْتَكْرَهٌ أَوْ جَاهِلٌ فَيُنْظَرَ حَتَّى يَتُوبَ ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى غَنَمِ الزُّبَيْرِ فَنَحَرَ مِنْهَا خَمْسَةَ آلَافٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ أَمَا كَانَ مُسْرِفًا ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: وَهِيَ لَا تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تَعْرِفُهُ كَمَا يَعْرِفُهُ الْآدَمِيُّ وَيَعْبُدُهُ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ مُوَحِّدٌ ؟ ! ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، تَمَتَّعْ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الدُّنْيَا مَا اسْتَطَعْتَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: عِشْ مَا اسْتَطَعْتَ.

وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ زَافِرِ بْنِ قُتَيْبَةَ عَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَوْمًا لِجُلَسَائِهِ: مَنْ أَشْجَعُ الْعَرَبِ ؟ قَالُوا: شَبِيبٌ، قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ، فُلَانٌ، فُلَانٌ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّ أَشْجَعَ الْعَرَبِ لَرَجُلٌ جَمْعَ بَيْنَ سُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، وَعَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، وَأَمَةِ الْحَمِيدِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، وَأُمُّهُ رَبَابُ بِنْتُ أُنَيْفٍ الْكَلْبِيُّ، سَيِّدُ ضَاحِيَةِ الْعَرَبِ، وَوَلِيُّ الْعِرَاقَيْنِ خَمْسَ سِنِينَ، فَأَصَابَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَأَلْفَ أَلْفٍ، وَأَلْفَ أَلْفٍ، وَأُعْطِيَ الْأَمَانَ، فَأَبَى، وَمَشَى بِسَيْفِهِ حَتَّى مَاتَ، ذَلِكَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، لَا مَنْ قَطَعَ الْجُسُورَ مَرَّةً هَاهُنَا، وَمَرَّةً هَاهُنَا.
قَالُوا: وَكَانَ مَقْتَلُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي فُلَيْحُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي

كَثِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا وُضِعَ رَأْسُ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ:
لَقَدْ أَرْدَى الْفَوَارِسَ يَوْمَ عَبْسٍ غُلَامًا غَيْرَ مَنَّاعِ الْمَتَاعِ
وَلَا فَرِحٍ لِخَيْرٍ إِنْ أَتَاهُ وَلَا هَلِعٍ مِنَ الْحَدَثَانِ لَاعِ
وَلَا وَقَّافَةٍ وَالْخَيْلُ تَعْدُو وَلَا خَالٍ كَأُنْبُوبِ الْيَرَاعِ
فَقَالَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ بِرَأْسِهِ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ رَأَيْتُهُ وَالرُّمْحُ فِي يَدِهِ تَارَةً، وَالسَّيْفُ تَارَةً ; يَفْرِي بِهَذَا، وَيَطْعَنُ بِهَذَا، لَرَأَيْتَ رَجُلًا يَمْلَأُ الْقَلْبَ وَالْعَيْنَ شَجَاعَةً وَإِقْدَامًا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا تَفَرَّقَتْ رِجَالُهُ، وَكَثُرَ مَنْ قَصَدَهُ وَبَقِيَ وَحْدَهُ مَا زَالَ يُنْشِدُ:
وَإِنِّي عَلَى الْمَكْرُوهِ عِنْدَ حُضُورِهِ أُكَذِّبُ نَفْسِي وَالْجُفُونُ لَهُ تَغُضِي
وَمَا ذَاكَ مِنْ ذُلٍّ وَلَكِنْ حَفِيظَةً أَذُبُّ بِهَا عِنْدَ الْمَكَارِمِ عَنْ عِرْضِي
وَإِنِّي لِأَهْلِ الشَّرِّ بِالشَّرِّ مَرْصَدٌ وَإِنِّي لِذِي سِلْمٍ أَذَلُّ مِنَ الْأَرْضِ
فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: كَانَ وَاللَّهِ كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَصَدَقَ، وَلَقَدْ كَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَأَشَدِّهِمْ لِي إِلْفًا وَمَوَدَّةً، وَلَكِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ.

وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ غَسَّانَ بْنِ مُضَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ قَتَلَ مُصْعَبًا عِنْدَ دَيْرِ الْجَاثَلِيقِ عَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: دُجَيْلٌ، مِنْ أَرْضِ مَسْكِنَ، وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ، وَكَانَ ابْنُ ظَبْيَانَ فَاتِكًا رَدِيًّا، وَكَانَ يَقُولُ: لَيْتَنِي قَتَلْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ حِينَ سَجَدَ يَوْمَئِذٍ، فَأَكُونُ قَدْ قَتَلْتُ مَلِكَيِ الْعَرَبِ.
قَالَ يَعْقُوبُ: وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ. قُلْتُ: وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ. وَالَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي عُمْرِهِ يَوْمَ قُتِلَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ ; أَحَدُهَا خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَالثَّانِي أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَالثَّالِثُ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، أَنَّ امْرَأَتَهُ سُكَيْنَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ كَانَتْ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ، فَلَمَّا قُتِلَ تَطَلَّبَتْهُ فِي الْقَتْلَى حَتَّى عَرَفَتْهُ بِشَامَةٍ فِي فَخِذِهِ.

فَقَالَتْ: نِعْمَ بَعْلُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ كُنْتَ، أَدْرَكَكَ وَاللَّهِ مَا قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَحَلِيلِ غَانِيَةٍ تَرَكْتُ مُجَدَّلًا بِالْقَاعِ لَمْ يَعْهَدْ وَلَمْ يَتَثَلَّمِ
فَهَتَكْتُ بِالرُّمْحِ الطَّوِيلِ إِهَابَهُ لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْقَنَا بِمُحَرَّمِ
قَالَ الزُّبَيْرُ: وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ يَرْثِي مُصْعَبًا:
لَقَدْ أَوْرَثَ الْمِصْرَيْنِ خِزْيًا وَذِلَّةً قَتِيلٌ بِدَيْرِ الْجَاثَلِيقِ مُقِيمُ
فَمَا نَصَحَتْ لِلَّهِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ وَلَا صَدَقَتْ يَوْمَ اللِّقَاءِ تَمِيمُ
وَلَوْ كَانَ بِكْرِيًّا تَعَطَّفَ حَوْلَهُ كَتَائِبُ يَغْلِي حَمْيُهَا وَيَدُومُ
وَلَكِنَّهُ ضَاعَ الذِّمَامُ وَلَمْ يَكُنْ بِهَا مُضَرِيٌّ يَوْمَ ذَاكَ كَرِيمُ
جَزَى اللَّهُ كُوفِيًّا هُنَاكَ مَلَامَةً وَبَصْرِيَّهُمْ إِنَّ الْمَلُومَ مَلُومُ
وَإِنَّ بَنِي الْعَلَّاتِ أَخْلَوْا ظُهُورَنَا وَنَحْنُ صَرِيحٌ بَيْنَهُمْ وَصَمِيمُ
فَإِنْ نَفْنَ لَا يَبْقَى أُولَئِكَ بَعْدَنَا لِذِي حُرْمَةٍ فِي الْمُسْلِمِينَ حَرِيمُ

وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ يَرْثِي مُصْعَبًا أَيْضًا:
نَعَتِ السَّحَائِبُ وَالْغَمَامُ بِأَسْرِهَا جَسَدًا بِمَسْكِنَ عَارِيَ الْأَوْصَالِ
تُمْسِي عَوَائِذَهُ السِّبَاعُ وَدَارُهُ بِمَنَازِلٍ أَطْلَالُهُنَّ بَوَالِي
رَحَلَ الرِّفَاقُ وَغَادَرُوهُ ثَاوِيًا لِلرِّيحِ بَيْنَ صِبًا وَبَيْنَ شَمَالِ
وَقَدْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ مُصْعَبٍ الْكَلْبِيُّ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: دَخَلْتُ الْقَصْرَ بِالْكُوفَةِ فَإِذَا رَأَسُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَى تُرْسٍ بَيْنَ يَدَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْقَصْرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحِينٍ فَرَأَيْتُ رَأْسَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ عَلَى تُرْسٍ بَيْنَ يَدَيِ الْمُخْتَارِ، وَالْمُخْتَارُ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْقَصْرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحِينٍ فَرَأَيْتُ رَأْسَ الْمُخْتَارِ عَلَى تُرْسٍ بَيْنَ يَدَيْ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُصْعَبٌ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْقَصْرَ بَعْدَ حِينٍ فَرَأَيْتُ رَأْسَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى تُرْسٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى السَّرِيرِ، وَقَدْ حَكَاهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَصْلٌ ( خُطْبَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي مَقْتَلِ أَخِيهِ مُصْعَبٍ )

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَكَرَ أَبُو زَيْدٍ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: لَمَّا انْتَهَى إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَتْلُ أَخِيهِ مُصْعَبٍ، قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، أَلَا وَإِنَّهُ لَمْ يُذِلَّ اللَّهُ مَنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ فَرْدًا وَحْدَهُ، وَلَنْ يُفْلِحَ مَنْ كَانَ وَلَيَّهُ الشَّيْطَانُ وَحِزْبُهُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ الْأَنَامَ طُرًّا، أَلَا وَإِنَّهُ أَتَانَا مِنَ الْعِرَاقِ خَبَرٌ أَحْزَنَنَا وَأَفْرَحَنَا، أَتَانَا قَتْلُ مُصْعَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَمَّا الَّذِي أَفْرَحَنَا فَعِلْمُنَا أَنَّ قَتْلَهُ لَهُ شَهَادَةٌ، وَأَمَّا الَّذِي أَحْزَنَنَا فَإِنَّ لِفِرَاقِ الْحَمِيمِ لَوْعَةً يَجِدُهَا حَمِيمُهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ بِهِ، ثُمَّ يَرْعَوِي مِنْ بَعْدِهَا، وَذُو الرَّأْيِ جَمِيلُ الصَّبْرِ كَرِيمُ الْعَزَاءِ، وَلَئِنْ أُصِبْتُ بِمُصْعَبٍ فَلَقَدْ أُصِبْتُ بِالزُّبَيْرِ قَبْلَهُ، وَمَا أَنَا مِنْ عُثْمَانَ بِخُلُوِّ مُصِيبَةٍ، وَمَا مُصْعَبٌ إِلَّا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ، وَعَوْنٌ مِنْ أَعْوَانِي، أَلَا وَإِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ أَهْلُ الْغَدْرِ وَالنِّفَاقِ، أَسْلَمُوهُ وَبَاعُوهُ بِأَقَلِّ الثَّمَنِ، فَإِنْ يُقْتَلْ فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَمُوتُ عَلَى مَضَاجِعِنَا كَمَا تَمُوتُ بَنُو أَبِي الْعَاصِ ; وَاللَّهِ مَا قُتِلَ رَجُلٌ فِي زَحْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْإِسْلَامِ، وَمَا نَمُوتُ إِلَّا بِأَطْرَافِ الرِّمَاحِ أَوْ تَحْتَ ظِلِّ السُّيُوفِ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا عَارِيَةٌ مِنَ الْمَلِكِ الْأَعْلَى الَّذِي لَا يَزُولُ سُلْطَانُهُ وَلَا يَبِيدُ مُلْكُهُ، فَإِنْ تُقْبِلِ الدُّنْيَا لَا آخُذْهَا أَخْذَ الْأَشِرِ الْبَطِرِ، وَإِنْ تُدْبِرْ لَا أَبْكِ عَلَيْهَا بُكَاءَ الْحَزِينِ الْمَهِينِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ
وَاسْمُ الْأَشْتَرِ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ النَّخَعِيُّ، كَانَ أَبُوهُ الْأَشْتَرَ مِنْ كِبَارِ أُمَرَاءِ عَلِيٍّ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلِيٌّ عَلَى خُرَاسَانَ وَهُوَ مِمَّنْ قَامَ عَلَى عُثْمَانَ وَقَتَلَهُ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ هَذَا مِنَ الْأُمَرَاءِ الْمَعْرُوفِينَ بِالشَّجَاعَةِ وَلَهُ شَرَفٌ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ صَارَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقُتِلَ مَعَهُ هَذِهِ السَّنَةَ كَمَا ذَكَرْنَا.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى الْخُزَاعِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلِيٌّ عَلَى خُرَاسَانَ، وَسَكَنَ الْكُوفَةَ وَوَلِيَهَا مَرَّةً. تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُسَيْلَةَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُرَادِيُّ الصُّنَابِحِيُّ
كَانَ مِنَ الصُّلَحَاءِ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ.

عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ الْمَدَنِيُّ
رَبِيبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وُلِدَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَانَ عِنْدَ أُمِّهِ ; أُمِّ سَلَمَةَ. وَلَهُ رِوَايَاتٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
سَفِينَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
كَانَ عَبْدًا لِأُمِّ سَلَمَةَ فَأَعْتَقَتْهُ وَشَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْدِمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَنَا لَا أَزَالُ أَخْدِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ لَمْ تُعْتِقِينِي مَا عِشْتُ. وَقَدْ كَانَ سَفِينَةُ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلِيفًا، وَبِهِمْ خَلِيطًا، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ سَفِينَةَ سُئِلَ عَنِ اسْمِهِ لِمَ سُمِّيَ سَفِينَةَ ؟ قَالَ: سِمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفِينَةَ، خَرَجَ مَرَّةً وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ مَتَاعُهُمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْسُطْ كِسَاءَكَ فَبَسَطْتُهُ فَجَعْلَ فِيهِ مَتَاعَهُمْ ثُمَّ قَالَ لِي: احْمِلْ، مَا أَنْتَ إِلَّا سَفِينَةٌ. قَالَ: فَلَوْ حَمَلْتُ يَوْمَئِذٍ وِقْرَ بَعِيرٍ أَوْ بَعِيرَيْنِ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ مَا ثَقُلَ عَلَيَّ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ سَفِينَةَ قَالَ: رَكِبْتُ مَرَّةً سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ،

فَانْكَسَرَتْ بِنَا فَرَكِبْتُ لَوْحًا مِنْهَا فَطَرَحَنِي الْبَحْرُ إِلَى غَيْضَةٍ فِيهَا الْأَسَدُ، فَجَاءَنِي فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْحَارِثِ، أَنَا سَفِينَةُ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ، وَجَعَلَ يَدْفَعُنِي بِجَنْبِهِ أَوْ بِكَفِّهِ، حَتَّى وَضَعَنِي عَلَى الطَّرِيقِ، ثُمَّ هَمْهَمَ هَمْهَمَةً فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوَدِّعُنِي.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ، عَنْ سَفِينَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَيْتَ فَاطِمَةَ فَرَأَى فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ قِرَامًا مَضْرُوبًا، فَرَجَعَ وَلَمْ يَدْخُلْ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ لِعَلِيٍّ: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا الَّذِي رَدَّهُ ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: لَيْسَ لِي وَلَا لِنَبِيٍّ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا مُزَوِّقًا
عَمْرُو بْنُ أَخْطَبَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَعْرَجُ
غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَمَسَحَ رَأَسَهُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ جَمِّلْهُ، فَبَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ وَلَمْ يَبْيَضَّ شَعْرُهُ. تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ.
غُضَيْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ زُنَيْمٍ السَّكُونِيُّ
مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، لَهُ

رِوَايَاتٌ عَنِ الصَّحَابَةِ، قِيلَ: هُوَ مِنْ تَابِعِي أَهْلِ الشَّامِ، سَكَنَ حِمْصَ، وَكَانَ يَتَوَلَّى صَلَاةَ الْجُمْعَةِ نِيَابَةً عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ.
يَزِيدُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيُّ السَّكُونِيُّ
كَانَ عَابِدًا زَاهِدًا صَالِحًا، سَكَنَ الشَّامَ بِقَرْيَةِ زِبْدِينَ، وَقِيلَ: بِقَرْيَةِ جِسْرِينِ، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ دَاخِلَ بَابٍ شَرْقِيٍّ، وَهُوَ مُخْتَلِفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ يَسْتَسْقُونَ بِهِ إِذَا قَحَطُوا، وَقَدِ اسْتَسْقَى بِهِ مُعَاوِيَةُ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ قَالَ مُعَاوِيَةُ: " قُمْ يَزِيدُ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِخِيَارِنَا وَصُلَحَائِنَا "، فَيَسْتَسْقِي اللَّهَ فَيُسْقَوْنَ. وَكَانَ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ فِي الْجَامِعِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْقَرْيَةِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ بِالْجَامِعِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ يُضِيءُ لَهُ إِبْهَامُ قَدَمِهِ - وَقِيلَ: أَصَابِعُ رِجْلَيْهِ كُلُّهَا - حَتَّى يَدْخُلَ الْجَامِعَ، فَإِذَا رَجَعَ أَضَاءَتْ لَهُ حَتَّى يَدْخُلَ الْقَرْيَةَ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمْ يَدَعْ شَجَرَةً فِي قَرْيَةِ زِبْدِينَ إِلَّا صَلَّى عِنْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يَمْشِي فِي ضَوْءِ إِبْهَامِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ ذَاهِبًا إِلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ بِالْجَامِعِ بِدِمَشْقَ، وَآيِبًا إِلَى قَرْيَتِهِ، وَكَانَ يَشْهَدُ الصَّلَوَاتِ بِالْجَامِعِ بِدِمَشْقَ لَا تَفُوتُهُ بِهِ صَلَاةٌ.
مَاتَ بِقَرْيَةِ زِبْدِينَ أَوْ جِسْرَيْنِ مِنْ غُوطَةِ دِمَشْقَ رَحِمَهُ اللَّهُ.

عَمْرُو بْنُ الْأَسْوَدِ، أَبُو عِيَاضٍ، الْعَنْسِيُّ الْحِمْصِيُّ، مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ بِالشَّامِ، صَاحِبُ زُهْدٍ وَعِبَادَةٍ وَاجْتِهَادٍ، قَلِيلُ التَّشَيُّعِ، تُوُفِّيَ بِحِمْصَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ
فَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ وَبَيْنَ الْأَزَارِقَةِ مِنَ الْخَوَارِجِ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: سُولَافُ، مَكَثُوا نَحْوًا مِنْ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ مُتَوَاقِفِينَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ يَطُولُ بَسْطُهَا، وَقَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَقُتِلَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَبَايَعَ النَّاسُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، وَأَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ عَلَى الْأَهْوَازَ وَمَا مَعَهَا، وَشَكَرَ سَعْيَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثَنَاءً كَثِيرًا، ثُمَّ تَوَاقَعَ النَّاسُ فِي دَوْلَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْأَهْوَازِ، فَكَسَرَ النَّاسُ الْخَوَارِجَ كَسْرَةً عَظِيمَةً، وَهَرَبُوا فِي الْبِلَادِ لَا يَلْوُونَ بَلْ يُوَلْوِلُونَ، وَاتَّبَعَهُمْ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرُ النَّاسِ، وَدَاوُدُ بْنُ قَحْذَمَ لِيَطْرُدُوهُمْ، وَأَرْسَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أَخِيهِ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ أَنْ يُمِدَّهُمْ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، عَلَيْهِمْ عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ، فَطَرَدُوا الْخَوَارِجَ كُلَّ مَطْرَدٍ، وَلَكِنْ لَقِيَ الْجَيْشُ جُهْدًا عَظِيمًا، وَمَاتَتْ

خُيُولُهُمْ، وَلَمْ يَرْجِعْ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا مُشَاةً إِلَى أَهْلِيهِمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ خُرُوجُ أَبِي فُدَيْكٍ الْحَارِثِيِّ، وَهُوَ مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَغَلَبَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ، وَقَتَلَ نَجْدَةَ بْنَ عَامِرٍ الْحَارِثِيَّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ أَخَاهُ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَهَزَمَهُمْ أَبُو فُدَيْكٍ، وَأَخَذَ جَارِيَةً لِأُمَيَّةَ، وَاصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ، وَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِمَا وَقَعَ، وَاجْتَمَعَ عَلَى خَالِدٍ حَرْبُ أَبِي فُدَيْكٍ وَحَرْبُ الْأَزَارِقَةِ أَصْحَابِ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ بِالْأَهْوَازِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا بَعْثَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ; لِيُحَاصِرَهُ بِمَكَّةَ، قَالَ: وَكَانَ السَّبَبُ فِي بَعْثِهِ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ لَمَّا أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى الشَّامِ بَعْدَ قَتْلِهِ مُصْعَبًا وَأَخْذِهِ الْعِرَاقَ، نَدَبَ النَّاسَ إِلَى قِتَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ إِلَى ذَلِكَ، فَقَامَ الْحَجَّاجُ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا لَهُ. وَقَصَّ الْحَجَّاجُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ مَنَامًا زَعَمَ أَنَّهُ رَآهُ ; قَالَ: رَأَيْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنِّي أَخَذْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَسَلَخْتُهُ، فَابْعَثْ بِي إِلَيْهِ فَإِنِّي قَاتِلُهُ. فَبَعَثَهُ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَكَتَبَ مَعَهُ أَمَانًا لِأَهْلِ مَكَّةَ إِنْ هُمْ أَطَاعُوا.

قَالُوا: فَخَرَجَ الْحَجَّاجُ فِي جُمَادَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَمَعَهُ أَلْفَا فَارِسٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَسَلَكَ طَرِيقَ الْعِرَاقِ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِلْمَدِينَةِ حَتَّى نَزَلَ الطَّائِفَ، وَجَعَلَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى عَرَفَةَ، وَيُرْسِلُ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْخُيُولَ فَيَلْتَقِيَانِ، فَتُهْزَمُ خَيْلُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَتَظْفَرُ خَيْلُ الْحَجَّاجِ، ثُمَّ كَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي دُخُولِ الْحَرَمِ، وَمُحَاصِرَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ; فَإِنَّهُ قَدْ كَلَّتْ شَوْكَتُهُ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَمُدَّهُ بِرِجَالٍ أَيْضًا، فَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى طَارِقِ بْنِ عَمْرٍو يَأْمُرُهُ أَنْ يَلْحَقَ بِمَنْ مَعَهُ بِالْحَجَّاجِ، وَكَانَ طَارِقٌ يَتَوَلَّى الْمَدِينَةَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ قَدْ أَمَرَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا بِوَادِي الْقُرَى بِمَنْ مَعَهُ مِنْ جَيْشِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ فِي نَحْوِ خَمْسَةِ آلَافٍ، مِنَ الشَّامِ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَارْتَحَلَ الْحَجَّاجُ مِنَ الطَّائِفِ، فَنَزَلَ بِئْرَ مَيْمُونٍ، وَحَصَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِالْمَسْجِدِ، فَلَمَّا دَخَلَ ذُو الْحِجَّةِ حَجَّ بِالنَّاسِ الْحُجَّاجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَعَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ السِّلَاحُ، وَهُمْ وُقُوفٌ بِعَرَفَاتٍ، وَكَذَا فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاعِرِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ مَحْصُورٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْحَجِّ هَذِهِ السَّنَةَ، بَلْ نَحَرَ بُدْنًا يَوْمَ النَّحْرِ، وَهَكَذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ كَثِيرٌ مِمَّنْ مَعَهُ مِنَ الْحَجِّ، وَكَذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ كَثِيرٌ مِمَّنْ مَعَ الْحَجَّاجِ وَطَارِقِ بْنِ عَمْرٍو أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ، فَبَقُوا عَلَى إِحْرَامِهِمْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ التَّحَلُّلُ الثَّانِي، وَالْحَجَّاجُ وَأَصْحَابُهُ نُزُولٌ بَيْنَ الْحَجُونِ وَبِئْرِ مَيْمُونٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ أَمِيرِ خُرَاسَانَ يَدْعُوهُ إِلَى بَيْعَتِهِ، وَيَقْطَعُهُ خُرَاسَانَ سَبْعَ سِنِينَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابُ قَالَ لِلرَّسُولِ: بَعَثَكَ أَبُو الذِّبَّانِ ؟ وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكَ، وَلَكِنْ كُلْ كِتَابَهُ. فَأَكَلَهُ، وَبَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى بُكَيْرِ بْنِ وِشَاحٍ نَائِبِ ابْنِ خَازِمٍ عَلَى مَرْوَ يَعِدُهُ بِإِمْرَةِ خُرَاسَانَ إِنْ هُوَ خَلَعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَازِمٍ، فَخَلَعَهُ، فَجَاءَهُ ابْنُ خَازِمٍ فَقَاتَلَهُ فَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ، قَتَلَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: وَكِيعُ بْنُ عَمِيرَةَ، لَكِنْ كَانَ قَدْ سَاعَدَهُ غَيْرُهُ، فَجَلَسَ وَكِيعٌ عَلَى صَدْرِهِ وَفِيهِ رَمَقٌ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ وَكِيعٌ يَقُولُ: يَا ثَارَاتِ دُوَيْلَةَ - يَعْنِي أَخَاهُ - وَكَانَ دُوَيْلَةُ قَدْ قَتَلَهُ ابْنُ خَازِمٍ، ثُمَّ إِنَّ ابْنُ خَازِمٍ تَنَخَّمَ فِي وَجْهِ وَكِيعٍ، قَالَ وَكِيعٌ: لَمْ أَرَ أَحَدًا أَكْثَرَ رِيقًا مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَكَانَ أَبُو هُبَيْرَةَ إِذَا ذَكَرَ هَذَا يَقُولُ: هَذِهِ وَاللَّهِ الْبَسَالَةُ. وَقَالَ لَهُ ابْنُ خَازِمٍ: وَيْحَكَ، أَتَقْتُلُنِي بِأَخِيكَ ؟ لَعَنَكَ اللَّهُ، أَتَقْتُلُ كَبْشَ مُضَرَ بِأَخِيكَ الْعِلْجِ وَكَانَ لَا

يُسَاوِي كَفًّا مِنْ تُرَابٍ ؟ أَوْ قَالَ: مِنْ نَوًى. قَالُوا: فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَأَقْبَلَ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ فَأَرَادَ أَخْذَ الرَّأْسِ فَمَنَعَهُ مِنْهُ بِحَيْرُ بْنُ وَرْقَاءَ، فَضَرَبَهُ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ بِعَمُودٍ وَقَيَّدَهُ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّأْسَ، ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَمَقْتَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، فَسُرَّ بِذَلِكَ سُرُورًا كَثِيرًا، وَكَتَبَ إِلَى بُكَيْرِ بْنِ وِشَاحٍ فَأَقَرَّهُ عَلَى نِيَابَةِ خُرَاسَانَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أُخِذَتِ الْمَدِينَةُ مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَاسْتَنَابَ فِيهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ طَارِقَ بْنَ عَمْرٍو الَّذِي كَانَ بَعَثَهُ مَدَدًا لِلْحَجَّاجِ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ ابْنِ خَازِمٍ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ بْنِ أَسْمَاءَ السُّلَمِيُّ، أَبُو صَالِحٍ الْبَصْرِيُّ، أَمِيرُ خُرَاسَانَ، أَحَدُ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ، وَالْفُرْسَانِ الْمَشْكُورِينَ. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو

الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي " تَهْذِيبِهِ ": يُقَالُ: لَهُ صُحْبَةٌ. رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعِمَامَةِ السَّوْدَاءِ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، لَكِنْ لَمْ يُسَمُّوهُ.
رَوَى عَنْهُ سَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ الرَّازِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْأَزْرَقِ. رَوَى أَبُو بِشْرٍ الدُّولَابِيُّ أَنَّهُ قُتِلَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ. وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ بِشَيْءٍ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا فِي التَّهْذِيبِ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْغَابَةِ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ "، فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمِ بْنِ أَسْمَاءَ بْنِ الصَّلْتِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ سِمَاكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ، أَبُو صَالِحٍ السُّلَمِيُّ، أَمِيرُ خُرَاسَانَ، شُجَاعٌ مَشْهُورٌ، وَبَطَلٌ مَذْكُورٌ، رَوَى عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ الْأَزْرَقِ، وَسَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ، قِيلَ: إِنَّ لَهُ صُحْبَةً، وَفَتَحَ سَرْخَسَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى خُرَاسَانَ أَيَّامَ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَوَّلُ مَا وَلِيَهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، بَعْدَ مَوْتِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَابْنِهِ مُعَاوِيَةَ، وَجَرَى لَهُ فِيهَا حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، حَتَّى تَمَّ أَمْرُهُ بِهَا، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا أَخْبَارَهُ فِي كِتَابِ " الْكَامِلِ فِي التَّارِيخِ "، وَقُتِلَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ بِخُرَاسَانَ، هَكَذَا قَالَ: إِنَّهُ قُتِلَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ. وَهَكَذَا حَكَى شَيْخُنَا عَنِ الدُّولَابِيِّ،

وَكَذَا رَأَيْتُ فِي " التَّارِيخِ " لِشَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيِّ، وَالَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي سِيَاقِ " تَارِيخِهِ " أَنَّهُ قُتِلَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا قُتِلَ بَعْدَ مَقْتَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بَعَثَ بِرَأْسِ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِلَى ابْنِ خَازِمٍ، وَيَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ وَلَهُ خُرَاسَانُ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنَّ ابْنَ خَازِمٍ لَمَّا رَأَى رَأْسَ ابْنِ الزُّبَيْرِ حَلَفَ لَا يُعْطِيهِ طَاعَةً أَبَدًا، وَدَعَا بِطَسْتٍ فَغَسَلَ رَأْسَ ابْنِ الزُّبَيْرِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَأَطْعَمَ الْكِتَابَ لِلرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّكَ رَسُولٌ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَضَرَبَ عُنُقَهُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُصَيْنٍ، التَّمِيمِيُّ السَّعْدِيُّ، أَبُو بَحْرٍ الْبَصْرِيُّ
ابْنُ أَخِي صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَالْأَحْنَفُ لَقَبٌ لَهُ، وَإِنَّمَا اسْمُهُ الضَّحَّاكُ، وَقِيلَ: صَخْرٌ، أَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ.

وَكَانَ سَيِّدًا شَرِيفًا مُطَاعًا مُؤْمِنًا، عَلِيمَ اللِّسَانِ، وَكَانَ يُضْرَبُ بِحِلْمِهِ الْمَثَلُ، وَلَهُ أَخْبَارٌ فِي حِلْمِهِ سَارَتْ بِهَا الرُّكْبَانُ، قَالَ عَنْهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هُوَ مُؤْمِنٌ عَلِيمُ اللِّسَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا رَأَيْتُ شَرِيفَ قَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ: هُوَ بَصْرِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، وَكَانَ سَيِّدَ قَوْمِهِ، وَكَانَ أَعْوَرَ أَحْنَفَ الرِّجْلَيْنِ، دَمِيمًا قَصِيرًا كَوْسَجًا، لَهُ بَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، احْتَبَسَهُ عُمَرُ سَنَةً يَخْتَبِرُهُ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَاللَّهِ السَّيِّدُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ خَطَبَ عِنْدَ عُمَرَ فَأَعْجَبَهُ مَنْطِقُهُ، قِيلَ: ذَهَبَتْ عَيْنُهُ بِالْجُدَرِيِّ، وَقِيلَ: فِي فَتْحِ سَمَرْقَنْدَ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: كَانَ الْأَحْنَفُ جَوَادًا حَلِيمًا، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ ثُمَّ أَسْلَمَ، وَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا قَلِيلَ الْحَدِيثِ، وَكَانَ كَثِيرَ

الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ، وَكَانَ يُسْرِجُ الْمِصْبَاحَ، وَكَانَ يَضَعُ إِصْبَعَهُ فِيهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِنَفْسِهِ: إِذَا لَمْ تَصْبِرْ عَلَى الْمِصْبَاحِ، فَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ ؟ وَقِيلَ لَهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ سَوَّدَكَ قَوْمُكَ ؟ قَالَ: لَوْ عَابَ الْمَاءَ النَّاسُ مَا شَرِبْتُهُ. وَكَانَ الْأَحْنَفُ لَا يَحْسُدُ، وَلَا يَجْهَلُ، وَلَا يَدْفَعُ الْحَقَّ، وَقَالَ: إِنَّ مِنَ السُّؤْدُدِ الصَّبْرَ عَلَى الذُّلِّ، وَكَفَى بِالْحِلْمِ نَاصِرًا. وَقَالَ: مَا نَازَعَنِي أَحَدٌ إِلَّا أَخَذْتُ مِنْ أَمْرِي إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِنْ كَانَ فَوْقِي عَرَفْتُ قَدْرَهُ، وَإِنْ كَانَ دُونِي رَفَعْتُ نَفْسِي عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلِي تَفَضَّلْتُ. وَقَالَ: مَا ذَكَرْتُ أَحَدًا بِسُوءٍ بَعْدَ أَنْ يَقُومَ مِنْ عِنْدِي، وَلَا سَمِعْتُ كَلِمَةً تَسُوءُنِي إِلَّا طَأْطَأَتُ رَأْسِي ; لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا. وَأَغْلَظَ لَهُ رِجْلٌ فِي الْكَلَامِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى نَادِي قَوْمِهِ وَقَفَ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ عِنْدَكَ شَيْءٌ آخَرُ فَقُلْ ; لِئَلَّا يَسْمَعَكَ قَوْمِي فَيُؤْذُوكَ.
وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَيْهِ يَدْعُوهُ لِنَفْسِهِ، وَيَعِدُهُ بِوِلَايَةِ الشَّامِ، فَقَالَ: يَدْعُونِي ابْنُ الزَّرْقَاءِ إِلَى وِلَايَةِ الشَّامِ، وَاللَّهِ وَدِدْتُ أَنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ جَبَلًا مِنْ نَارٍ. وَكَانَ زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ يَقُولُ: قَدْ بَلَغَ الْأَحْنَفُ مِنَ السُّؤْدُدِ وَالشَّرَفِ مَا لَا يَنْفَعُهُ مَعَهُ وِلَايَةٌ، وَلَا يَضُرُّهُ عَزْلٌ، وَإِنَّهُ لَيَفِرُّ مِنَ الشَّرَفِ وَهُوَ يَتْبَعُهُ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ: وَهُوَ الَّذِي افْتَتَحَ مَرْوَ الرُّوذِ، وَكَانَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ فِي

جَيْشِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ - وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ - عَنْ سَبْعِينَ سَنَةٍ. وَقِيلَ: عَنْ أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ.
وَمِنْ كَلَامِهِ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْحِلْمِ مَا هُوَ ؟ فَقَالَ: الذُّلُّ مَعَ الصَّبْرِ. وَكَانَ إِذَا تَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ حِلْمِهِ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَجِدُ مَا تَجِدُونَ وَلَكِنِّي صَبُورٌ. وَقَالَ: وَجَدْتُ الْحِلْمَ أَنْصَرَ لِي مِنَ الرِّجَالِ. وَقَدِ انْتَهَى إِلَيْهِ الْحِلْمُ وَالسُّؤْدُدُ، وَقَالَ: أَحْيِ مَعْرُوفَكَ بِإِمَاتَةِ ذِكْرِهِ. وَقَالَ: عَجِبْتُ لِمَنْ يَجْرِي فِي مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ كَيْفَ يَتَكَبَّرُ ؟ ! وَقَالَ: مَا أَتَيْتُ بَابَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا أَنْ أُدْعَى، وَلَا دَخَلْتُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلَّا أَنْ يُدْخِلَانِي بَيْنَهُمَا. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: بِمَ سُدْتَ قَوْمَكَ ؟ قَالَ: بِتَرْكِي مِنْ أَمَرِكَ مَا لَا يَعْنِينِي، كَمَا عَنَاكَ مِنْ أَمْرِي مَا لَا يَعْنِيكَ. وَأَغْلَظَ لَهُ رِجْلٌ فِي الْكَلَامِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَحَنَفُ، لَئِنْ قُلْتَ لِي وَاحِدَةً لَتَسْمَعَنَّ بَدَلَهَا عَشْرًا. فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنْ قُلْتَ لِي عَشْرًا لَا تَسْمَعُ مِنِّي وَاحِدَةً. وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنْ تُعَذِّبْنِي فَأَنَا أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لِي فَأَنْتَ أَهْلٌ لِذَلِكَ.
وَقَدْ كَانَ زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ يُقَرِّبُهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُدْنِيهِ، فَلَمَّا مَاتَ زِيَادٌ وَوَلِيَ ابْنُهُ عُبَيْدِ اللَّهِ لَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا، فَتَأَخَّرَتْ عِنْدَهُ مَنْزِلَتُهُ ; لِقُبْحِ مَنْظَرِهِ، وَصَارَ يُقَدِّمُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ دُونَهُ، فَلَمَّا وَفَدَ بِرُؤَسَاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، أَدْخَلَهُمْ

عَلَيْهِ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ عِنْدَهُ، فَكَانَ الْأَحْنَفُ آخِرَ مَنْ أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ مُعَاوِيَةُ أَجَلَّهُ وَعَظَّمَهُ، وَأَدْنَاهُ وَكَرَّمَهُ، وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى الْفِرَاشِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ يُحَادِثُهُ دُونَهُمْ، ثُمَّ شَرَعَ الْحَاضِرُونَ فِي الثَّنَاءِ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَالْأَحْنَفُ سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ ؟ قَالَ: إِنْ تَكَلَّمْتُ خَالَفْتُهُمْ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اشْهَدُوا عَلَيَّ أَنِّي قَدْ عَزَلْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ عَنِ الْعِرَاقِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: انْظُرُوا لَكُمْ نَائِبًا عَلَيْكُمْ. وَأَجَّلَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَاخْتَلَفُوا بَيْنَهُمُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عُبَيْدَ اللَّهِ، وَلَا طَلَبَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَتَكَلَّمِ الْأَحْنَفُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فِي ذَلِكَ كَلِمَةً وَاحِدَةً مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بَعْدَ ثَلَاثٍ أَفَاضُوا فِي ذَلِكَ، وَكَثُرَ اللَّغَطُ وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ، وَالْأَحْنَفُ سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: تَكَلَّمْ. فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُوَلِّيَ فِيهَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مِثْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَإِنَّهُ رَجُلٌ حَازِمٌ، وَلَا يَسُدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَسَدَّهُ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ غَيْرَهُ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِنُوَّابِكَ. فَرَدَّهُ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْوِلَايَةِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ: كَيْفَ جَهِلْتَ مِثْلَ الْأَحْنَفِ ؟ إِنَّهِ عَزَلَكَ وَوَلَّاكَ وَهُوَ سَاكِتٌ. فَعَظُمَتْ مَنْزِلَةُ الْأَحْنَفِ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ زِيَادٍ.
تُوُفِّيَ الْأَحْنَفُ بِالْكُوفَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَمَشَى فِي

جِنَازَتِهِ. ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَوَجَدَهُ غَضْبَانَ عَلَى ابْنِهِ يَزِيدَ، وَأَنَّهُ أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ، قَالَ: فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى يَزِيدَ بِمَالٍ جَزِيلٍ، وَقُمَاشٍ كَثِيرٍ، فَأَعْطَى يَزِيدُ نِصْفَهُ لِلْأَحْنَفِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ مُجْدَعَةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ الْأَنْصَارِيُّ، الْحَارِثِيُّ الْأَوْسِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَأَبُوهُ أَيْضًا صَحَابِيٌّ، رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، وَحَدَّثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَبَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ بِالْكُوفَةِ فِي أَيَّامِ مُصْعَبٍ عَلَى الْعِرَاقِ.
عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ الْقَاضِي
وَهُوَ عُبَيْدَةُ بْنُ عَمْرٍو - وَيُقَالُ: ابْنُ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو - السَّلْمَانِيُّ، الْمُرَادِيُّ، أَبُو عَمْرٍو الْكُوفِيُّ، وَسَلْمَانُ بَطْنٌ مِنْ مُرَادٍ، أَسْلَمَ عُبَيْدَةُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ يُوَازِي شُرَيْحًا فِي الْقَضَاءِ. وَقَالَ ابْنُ

نُمَيْرٍ: كَانَ شُرَيْحٌ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرٌ كَتَبَ إِلَى عُبَيْدَةَ فِيهِ، وَانْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ. وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ قُتِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ بْنِ صَيْفِيٍّ الْمَخْزُومِيِّ، قَارِئُ أَهْلِ مَكَّةَ، لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَقَرَأَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ.
عَطِيَّةُ بْنُ بُسْرٍ الْمَازِنِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ.
عُبَيْدُ بْنُ نَضْلَةَ، أَبُو مُعَاوِيَةَ، الْخُزَاعِيُّ الْكُوفِيُّ
مُقْرِئُ أَهِلِ الْكُوفَةِ، مَشْهُورٌ بِالْخَيْرِ وَالْعِبَادَةِ، تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ، الْقُرَشِيُّ الْعَامِرِيُّ
أَحَدُ الشُّعَرَاءِ، مَدَحَ

مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّاعِرُ، السَّلُولِيُّ
أَحَدُ الشُّعَرَاءِ الْفُصَحَاءِ، مَدَحَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَنْ هَجَاهُ بِقَوْلِهِ:
شِرِبْنَا الْغَيْضَ حَتَّى لَوْ سُقِينَا دِمَاءَ بَنِي أُمَيَّةَ مَا رَوِينَا وَلَوْ جَاءُوا بِرَمْلَةَ أَوْ بِهِنْدٍ
لَبَايَعْنَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَا

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى يَدَيِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ، الْمُبِيرِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى بَنِي أَسَدٍ - وَكَانَ عَالِمًا بِفِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ - قَالَ: حُصِرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَيْلَةَ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ سِنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَقُتِلَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، فَكَانَ حَصْرُ الْحَجَّاجِ لَهُ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَجَّاجَ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْخَارِجَةِ، وَكَانَ فِي الْحَجِّ ابْنُ عُمَرَ، وَقَدْ كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ يَأْتَمَّ بِابْنِ عُمَرَ فِي الْمَنَاسِكِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ".
فَلَمَّا اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ، اسْتَهَلَّتْ وَأَهْلُ الشَّامِ مُحَاصِرُونَ أَهْلَ مَكَّةَ، وَقَدْ

نَصَبَ الْحَجَّاجُ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى مَكَّةَ ; لِيَحْصُرَ أَهْلَهَا، حَتَّى يَخْرُجُوا إِلَى الْأَمَانِ وَالطَّاعَةِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ مَعَ الْحَجَّاجِ خَلْقٌ قَدِمُوا عَلَيْهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَجَعَلُوا يَرْمُونَ بِالْمَنْجَنِيقِ، فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ مَعَهُ خَمْسُ مَجَانِيقَ، فَأَلَحَّ عَلَيْهَا بِالرَّمْيِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَحَبَسَ عَنْهُمُ الْمِيرَةَ فَجَاعُوا، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَجَعَلَتِ الْحِجَارَةُ تَقَعُ فِي الْكَعْبَةِ، وَالْحَجَّاجُ يَصِيحُ بِأَصْحَابِهِ: يَا أَهْلَ الشَّامِ، اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّاعَةِ ! فَكَانُوا يَحْمِلُونَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُمْ آخِذُوهُ فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ، فَيَشُدُّ عَلَيْهِمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، حَتَّى يُخْرِجَهُمْ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، ثُمَّ يَكُرُّونَ عَلَيْهِ فَيَشُدُّ عَلَيْهِمْ ; فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، وَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ جَمَاعَةً مِنْهُمْ وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْحَوَارِيِّ. وَقِيلَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: أَلَا تُكَلِّمُهُمْ فِي الصُّلْحِ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ وَجَدُوكُمْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ لَذَبَحُوكُمْ جَمِيعًا، وَاللَّهِ لَا أَسْأَلُهُمْ صُلْحًا أَبَدًا.
وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُمْ لَمَّا رُمُوا بِالْمَنْجَنِيقِ، جَاءَتِ الصَّوَاعِقُ وَالْبُرُوقُ

وَالرُّعُودُ، حَتَّى جَعَلَتْ تَعْلُو أَصْوَاتُهَا عَلَى صَوْتِ الْمَنْجَنِيقِ، وَنَزَلَتْ صَاعِقَةٌ فَأَصَابَتْ مِنَ الشَّامِيِّينَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَضَعُفَتْ عِنْدَ ذَلِكَ قُلُوبُهُمْ عَنِ الْمُحَاصَرَةِ، فَلَمْ يَزَلِ الْحَجَّاجُ يُشَجِّعُهُمْ، وَيَقُولُ: إِنِّي خَبِيرٌ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، هَذِهِ بُرُوقُ تِهَامَةَ وَرُعُودُهَا وَصَوَاعِقُهَا، وَإِنَّ الْقَوْمَ يُصِيبُهُمْ مِثْلَ الَّذِي يُصِيبُكُمْ. وَجَاءَتْ صَاعِقَةٌ مِنَ الْغَدِ فَقَتَلَتْ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً أَيْضًا، فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ يَقُولُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنَّهُمْ يُصَابُونَ مِثْلَكُمْ، وَأَنْتُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَهُمْ عَلَى الْمُخَالَفَةِ ؟
وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ يَرْتَجِزُونَ وَهُمْ يَرْمُونَ بِالْمَنْجَنِيقِ ; يَقُولُونَ:
خَطَّارَةٌ مِثْلُ الْفَنِيقِ الْمُزْبِدِ نَرْمِي بِهَا عُوَّاذَ هَذَا الْمَسْجِدِ
فَنَزَلَتْ صَاعِقَةٌ عَلَى الْمَنْجَنِيقِ فَأَحْرَقَتْهُ، فَتَوَقَّفَ أَهَّلُ الشَّامِ عَنِ الرَّمْيِ وَالْمُحَاصَرَةِ، فَخَطَبَهُمُ الْحَجَّاجُ فَقَالَ: وَيْحَكُمُ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ النَّارَ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَتَأْكُلَ قُرْبَانَهُمْ إِذَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ؟ فَلَوْلَا أَنَّ عَمَلَكُمْ مَقْبُولٌ مَا نَزَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ. فَعَادُوا إِلَى الْمُحَاصَرَةِ.
وَمَا زَالَ أَهْلُ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْأَمَانِ، وَيَتْرُكُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَمَّنَهُمْ، وَقَلَّ أَصْحَابُ ابْنِ الزُّبَيْرِ جِدًّا، حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْحَجَّاجِ حَمْزَةُ وَخُبَيْبٌ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَخَذَا

لِأَنْفُسِهِمَا أَمَانًا مِنَ الْحَجَّاجِ فَأَمَّنَهُمَا، وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى أُمِّهِ فَشَكَا إِلَيْهَا خِذْلَانَ النَّاسِ لَهُ، وَخُرُوجَهُمْ إِلَى الْحَجَّاجِ حَتَّى أَوْلَادِهِ وَأَهْلِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ صَبْرُ سَاعَةٍ، وَالْقَوْمُ يُعْطُونَنِي مَا شِئْتُ مِنَ الدُّنْيَا، فَمَا رَأْيُكِ ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، أَنْتَ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ ; إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ عَلَى حَقٍّ وَتَدْعُو إِلَى حَقٍّ فَاصْبِرْ عَلَيْهِ، فَقَدْ قُتِلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُكَ، وَلَا تُمَكِّنْ مِنْ رَقَبَتِكَ، يَلْعَبْ بِهَا غِلْمَانُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا أَرَدْتَ الدُّنْيَا فَلَبِئْسَ الْعَبْدَ أَنْتَ ; أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ وَأَهْلَكْتَ مَنْ قُتِلَ مَعَكَ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى حَقٍّ فَمَا وَهَنَ الدِّينُ، وَإِلَى كَمْ خُلُودُكُمْ فِي الدُّنْيَا ؟ الْقَتْلُ أَحْسَنُ. فَدَنَا مِنْهَا، فَقَبَّلَ رَأْسَهَا، وَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ رَأْيِي. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَكَنْتُ إِلَى الدُّنْيَا وَلَا أَحْبَبْتُ الْحَيَاةَ فِيهَا، وَمَا دَعَانِي إِلَى الْخُرُوجِ إِلَّا الْغَضَبُ لِلَّهِ أَنْ تُسْتَحَلَّ حُرْمَتُهُ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَ رَأْيَكِ، فَزِدْتِينِي بَصِيرَةً مَعَ بَصِيرَتِي، فَانْظُرِي يَا أُمَّاهُ، فَإِنِّي مَقْتُولٌ مِنْ يَوْمِي هَذَا، فَلَا يَشْتَدُّ حُزْنُكِ، وَسَلِّمِي لِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ ابْنَكِ لَمْ يَتَعَمَّدْ إِتْيَانَ مُنْكَرٍ، وَلَا عَمِلَ بِفَاحِشَةٍ قَطُّ، وَلَمْ يَجُرْ فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَلَمْ يَغْدُرْ فِي أَمَانٍ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ ظُلْمَ مُسْلِمٍ وَلَا مُعَاهَدٍ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي ظُلْمٌ عَنْ عَامِلٍ فَرَضِيتُهُ؛ بَلْ أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي آثَرُ مِنْ رِضَا رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَقُولُ هَذَا تَزْكِيَةً لِنَفْسِي، اللَّهُمَّ أَنْتِ أَعْلَمُ بِي مِنِّي وَمِنْ غَيْرِي، وَلَكِنِّي أَقُولُ ذَلِكَ تَعْزِيَةً لِأُمِّي لِتَسْلُوَ عَنِّي. فَقَالَتْ أُمُّهُ: إِنِّي لَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ عَزَائِي فِيكَ حَسَنًا إِنْ تَقَدَّمْتَنِي، أَوْ تَقَدَّمْتُكَ فَفِي نَفْسِي، اخْرُجْ يَا بُنَيَّ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرُكَ. فَقَالَ: جَزَاكِ اللَّهُ يَا أُمَّهْ خَيْرًا، فَلَا تَدَعِي الدُّعَاءَ قَبْلُ وَبَعْدُ لِي. فَقَالَتْ: لَا أَدَعَهُ أَبَدًا، فَمَنْ قُتِلَ عَلَى بَاطِلٍ فَلَقَدْ قُتِلْتَ عَلَى

حَقٍّ.
ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ طُولَ ذَلِكَ الْقِيَامِ فِي اللَّيْلِ الطَّوِيلِ، وَذَلِكَ النَّحِيبِ، وَالظَّمَأِ فِي هَوَاجِرِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَبِرَّهُ بِأَبِيهِ وَبِي، اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ سَلَّمْتُهُ لِأَمْرِكَ فِيهِ، وَرَضِيتُ بِمَا قَضَيْتَ، فَقَابِلْنِي فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِثَوَابِ الصَّابِرِينَ الشَّاكِرِينَ، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ: ادْنُ مِنِّي أُوَدِّعْكَ. فَدَنَا مِنْهَا فَقَبَّلَتْهُ، ثُمَّ أَخَذَتْهُ إِلَيْهَا فَاحْتَضَنَتْهُ لِتُوَدِّعَهُ، وَاعْتَنَقَهَا لِيُوَدِّعَهَا، وَكَانَتْ قَدْ أَضَرَّتْ فِي آخِرِ عُمْرِهَا، فَوَجَدَتْهُ لَابِسًا دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، مَا هَذَا لِبَاسُ مَنْ يُرِيدُ مَا تُرِيدُ مِنَ الشَّهَادَةِ. فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ، إِنَّمَا لَبِسْتُهُ لِأُطَيِّبَ خَاطِرَكِ، وَأُسَكِّنَ قَلْبَكِ بِهِ. فَقَالَتْ: لَا يَا بُنَيَّ، وَلَكِنِ انْزِعْهُ. فَنَزَعَهُ، وَجَعَلَ يَلْبَسُ بَقِيَّةَ ثِيَابِهِ وَيَتَشَدَّدُ، وَهِيَ تَقُولُ: شَمِّرْ ثِيَابَكَ. وَجَعَلَ يَتَحَفَّظُ مِنْ أَسْفَلِ ثِيَابِهِ ; لِئَلَّا تَبْدُو عَوْرَتَهُ إِذَا قُتِلَ، وَجَعَلَتْ تُذَكِّرُهُ بِأَبِيهِ الزُّبَيْرِ، وَجَدِّهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَجَدَّتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَطْلَبِ، وَخَالَتِهِ عَائِشَةَ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُرَجِّيهِ الْقُدُومَ عَلَيْهِمْ إِذَا هُوَ قُتِلَ شَهِيدًا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ عَهْدِهِ بِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَنْ أَبِيهِ وَأَبِيهَا، ثُمَّ قَالَتْ: امْضِ عَلَى بَصِيرَةٍ. فَوَدَّعَهَا، وَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ:
وَلَسْتُ بِمُبْتَاعِ الْحَيَاةِ بِسُبَّةٍ وَلَا مُرْتَقٍ مِنْ خَشْيَةِ الْمَوْتِ سُلَّمَا

قَالُوا: وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُنَاكَ خَمْسُمِائَةِ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَيَحْمِلُ عَلَيْهِمْ فَيَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ أَحَدٌ، وَهُوَ يَقُولُ:
إِنِّي إِذَا أَعْرِفُ يَوْمِي أَصْبِرْ إِذْ بَعْضُهُمْ يَعْرِفُ ثُمَّ يُنْكِرْ
وَيَقُولُ أَيْضًا:
الْمَوْتُ أَكْرَمُ مِنْ إِعْطَاءِ مَنَقَصَةٍ مَنْ لَمْ يَمُتْ غِبْطَةً فَالْغَايَةُ الْهَرَمُ
وَكَانَتْ أَبْوَابُ الْحَرَمِ قَدْ قَلَّ مَنْ يَحْرُسُهَا مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ لِأَهْلِ حِمْصَ حِصَارُ الْبَابِ الَّذِي يُوَاجَهُ بَابَ الْكَعْبَةِ، وَلِأَهْلِ دِمَشْقَ بَابُ بَنِي شَيْبَةَ، وَلِأَهْلِ الْأُرْدُنِ بَابُ الصَّفَا، وَلِأَهْلِ فِلَسْطِينَ بَابُ بَنِي جُمَحَ، وَلِأَهْلِ قِنَّسْرِينَ بَابُ بَنِي سَهْمٍ، وَعَلَى كُلِّ بَابٍ قَائِدٌ، وَمَعَهُ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ وَطَارِقُ بْنُ عَمْرٍو فِي نَاحِيَةِ الْأَبْطَحِ.
وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَا يَخْرُجُ عَلَى أَهْلِ بَابٍ إِلَّا فَرَّقَهُمْ وَبَدَّدَ شَمْلَهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ مُلْبِسٍ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ إِلَى الْأَبْطَحِ، ثُمَّ يَصِيحُ:
لَوْ كَانَ قِرْنِي وَاحِدًا كَفَيْتُهُ
فَيَقُولُ ابْنُ صَفْوَانَ وَأَهْلُ الشَّامِ أَيْضًا: إِي وَاللَّهِ، وَأَلْفُ رَجُلٍ. وَلَقَدْ كَانَ حَجَرُ الْمَنْجَنِيقِ يَقَعُ عَلَى طَرَفِ ثَوْبِهِ فَلَا يَنْزَعِجُ بِذَلِكَ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، فَيُقَاتِلُهُمْ

كَأَنَّهُ أَسَدٌ ضَارٍ، حَتَّى جَعَلَ النَّاسُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ إِقْدَامِهِ وَشَجَاعَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَاتَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي طُولَ لَيْلَتِهِ، ثُمَّ جَلَسَ فَاحْتَبَى بِحَمِيلَةِ سَيْفِهِ، فَأَغْفَى ثُمَّ انْتَبَهَ مَعَ الْفَجْرِ عَلَى عَادَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَذِّنْ يَا سَعْدُ. فَأَذَّنَ عِنْدَ الْمَقَامِ، وَتَوَضَّأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتِي الْفَجْرِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ قَرَأَ سُورَةَ " ن " حَرْفًا حَرْفًا، ثُمَّ سَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا أُرَانِي الْيَوْمَ إِلَّا مَقْتُولًا ; فَإِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنَّ السَّمَاءَ فُرِجَتْ لِي، فَدَخَلْتُهَا، وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ مَلِلْتُ الْحَيَاةَ، وَجَاوَزَتْ سِنِّي اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّ لِقَاءَكَ، فَأَحِبَّ لِقَائِي. ثُمَّ قَالَ: اكْشِفُوا وُجُوهَكُمْ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْكُمْ، فَكَشَفُوا عَنْ وُجُوهِهِمْ وَعَلَيْهِمُ الْمَغَافِرُ، فَحَرَّضَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَالصَّبْرِ، ثُمَّ نَهَضَ بِهِمْ، فَحَمَلَ وَحَمَلُوا حَتَّى كَشَفُوهُمْ إِلَى الْحَجُونِ، فَجَاءَتْهُ آجُرَّةٌ فَأَصَابَتْهُ فِي وَجْهِهِ، فَارْتَعَشَ لَهَا، فَلَمَّا وَجَدَ سُخُونَةَ الدَّمِ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ:
وَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدِّمَا
ثُمَّ رَجَعَ، فَجَاءَهُ حَجَرُ مَنْجَنِيقٍ مِنْ وَرَائِهِ فَأَصَابَهُ فِي قَفَاهُ فَوَقَذَهُ، ثُمَّ

وَقْعَ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ انْتَهَضَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ، وَابْتَدَرَهُ النَّاسُ، فَشَدَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَضَرَبَ الرَّجُلَ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى مِرْفَقِهِ الْأَيْسَرِ، وَجَعَلَ يَضْرِبُ وَمَا يَقْدِرُ أَنْ يَنْتَهِضَ حَتَّى كَثُرُوا عَلَيْهِ، فَابْتَدَرُوهُ بِالسُّيُوفِ، فَقَتَلُوهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَجَاءُوا إِلَى الْحَجَّاجِ فَأَخْبَرُوهُ، فَخَرَّ سَاجِدًا - قَبَّحَهُ اللَّهُ - ثُمَّ قَامَ هُوَ وَطَارِقُ بْنُ عَمْرٍو حَتَّى وَقَفَا عَلَيْهِ، وَهُوَ صَرِيعٌ، فَقَالَ طَارِقُ: مَا وَلَدَتِ النِّسَاءُ أَذْكَرَ مِنْ هَذَا. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: تَمْدَحُ مَنْ يُخَالِفُ طَاعَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ أَعْذَرُ لَنَا ; إِنَّا مُحَاصِرُوهُ وَلَيْسَ هُوَ فِي حِصْنٍ وَلَا خَنْدَقٍ وَلَا مَنَعَةٍ يَنْتَصِفُ مِنَّا، بَلْ يُفَضَّلُ عَلَيْنَا فِي كُلِّ مَوْقِفٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمَلِكِ صَوَّبَ طَارِقًا.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ ارْتَجَّتْ مَكَّةَ بُكَاءً عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَخَطَبَ الْحَجَّاجُ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ مِنْ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَتَّى رَغِبَ فِي الْخِلَافَةِ، وَنَازَعَهَا أَهْلَهَا، وَأَلْحَدَ فِي الْحَرَمِ، فَأَذَاقَهُ اللَّهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَإِنَّ آدَمَ كَانَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ أَشْرَفُ مِنْ مَكَّةَ، فَلَمَّا خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَأَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ، قُومُوا إِلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، بَلَغَنِي إِكْبَارُكُمْ وَاسْتِعْظَامُكُمْ قَتْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ مِنْ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، حَتَّى رَغِبَ فِي الدُّنْيَا، وَنَازَعَ الْخِلَافَةَ أَهْلَهَا، فَخَلَعَ طَاعَةَ اللَّهِ، وَأَلْحَدَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَتْ مَكَّةُ شَيْئًا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ لَمَنَعَتْ آدَمَ حُرْمَةُ الْجَنَّةِ، وَقَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا عَصَاهُ أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَآدَمُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ غَيَّرَ كِتَابَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ لَكَ: كَذَبْتَ ; لَقَلْتُ، وَاللَّهِ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمْ يُغَيِّرْ كِتَابَ اللَّهِ، بَلْ كَانَ قَوَّامًا بِهِ، صَوَّامًا، عَامِلًا بِالْحَقِّ.
وَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِمَا وَقَعَ، وَبَعَثَ بِرَأْسِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مَعَ رَأْسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ، وَعُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا مَرُّوا بِالْمَدِينَةِ أَنْ يَنْصِبُوا الرُّءُوسَ بِهَا، ثُمَّ يَسِيرُوا بِهَا إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ.
ثُمَّ أَمَرَ الْحَجَّاجُ بِجُثَّةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَصُلِبَتْ عَلَى ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ عِنْدَ الْحَجُونِ - يُقَالُ: مُنَكَّسَةً - فَمَا زَالَتْ مَصْلُوبَةً حَتَّى مَرَّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ يَا أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتَ صَوَّامًا قَوَّامًا، ثُمَّ قَالَ: أَمَا آنَ لِهَذَا الرَّاكِبِ أَنْ يَنْزِلَ ؟ فَبَعَثَ الْحَجَّاجُ، فَأُنْزِلَ عَنِ الْجِذْعِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ.
وَدَخَلَ الْحَجَّاجُ إِلَى مَكَّةَ، فَأَخَذَ الْبَيْعَةَ مِنْ أَهْلِهَا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ

عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَلَمْ يَزَلِ الْحَجَّاجُ مُقِيمًا بِمَكَّةَ حَتَّى أَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ عَامَهُ هَذَا أَيْضًا، وَهُوَ عَلَى مَكَّةَ وَالْيَمَامَةِ وَالْيَمَنِ.

وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ، أَبُو بَكْرٍ، وَيُقَالُ لَهُ: أَبُو خُبَيْبٍ، الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ، أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، هَاجَرَتْ بِهِ - وَهِيَ حَامِلٌ بِهِ مُتِمٌ - فَوَلَدَتْهُ بِقُبَاءَ أَوَّلَ مَقْدِمِهِمِ الْمَدِينَةَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا وَلَدَتْهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَمُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُمَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بِمَكَّةَ، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ بِهِ، وَأَنَا مُتِمٌّ، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ فَوَلَدْتُهُ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا دَخَلَ فِي جَوْفِهِ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: ثُمَّ حَنَّكَهُ، ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ، وَرَوَى عَنْ

أَبِيهِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَشَهِدَ الْجَمَلَ مَعَ أَبِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَحَضَرَ خُطْبَةَ عُمَرَ بِالْجَابِيَّةِ، وَرَوَاهَا عَنْهُ بِطُولِهَا، ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
وَقَدِمَ دِمَشْقَ لِغَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، ثُمَّ قَدِمَهَا مَرَّةً أُخْرَى، وَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ أَيَّامَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ غَلَبَ عَلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقَيْنِ وَمِصْرَ وَخُرَاسَانَ وَسَائِرِ بِلَادٍ الشَّامِ إِلَّا دِمَشْقَ، وَتَمَّتِ الْبَيْعَةُ لَهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ النَّاسُ بِخَيْرٍ فِي زَمَانِهِ.
وَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا خَرَجَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرَةً وَهِيَ حُبْلَى بِهِ، فَوَلَدَتْهُ بِقُبَاءَ أَوَّلَ مَقْدِمِهِمِ الْمَدِينَةَ، فَأَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَنَّكَهُ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَدَعَا لَهُ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَتِ الْيَهُودُ قَدْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ سَحَرُوا الْمُهَاجِرِينَ ; فَلَا يُولَدُ لَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا وُلِدَ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَيْشَ الشَّامِ حِينَ كَبَّرُوا عِنْدَ قَتْلِهِ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَلَّذِينِ كَبَّرُوا عِنْدَ مَوْلِدِهِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَبَّرُوا عِنْدَ قَتْلِهِ. وَأَذَّنَ الصِّدِّيقُ فِي أُذُنَيْهِ حِينَ وُلِدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

وَمَنْ قَالَ: إِنِ الصِّدِّيقَ طَافَ بِهِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ فِي خِرْقَةٍ فَهُوَ وَاهِمٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّمَا طَافَ الصِّدِّيقُ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ لِيَشْتَهِرَ أَمْرُ مِيلَادِهِ عَلَى خِلَافِ مَا زَعَمَتِ الْيَهُودُ.
وَقَالَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ: كَانَ عَارِضَا عَبْدِ اللَّهِ خَفِيفَيْنِ، وَمَا اتَّصَلَتْ لِحْيَتُهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّمَ فِي غِلْمَةٍ تَرَعْرَعُوا ; مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ بَايَعْتَهُمْ فَتُصِيبَهُمْ بَرَكَتُكَ، وَيَكُونُ لَهُمْ ذِكْرٌ. فَأُتِيَ بِهِمْ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ تَكَعْكَعُوا، وَاقْتَحَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنَّهُ ابْنُ أَبِيهِ وَبَايَعَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ شَرِبَ مِنْ دَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَانَ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ احْتَجَمَ فِي طَسْتٍ، فَأَعْطَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ لِيُرِيقَهُ فَشَرِبَهُ، فَقَالَ لَهُ:لَا تَمَسُّكَ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، وَوَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ، وَوَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، اذْهَبْ بِهَذَا الدَّمِ فَأَهْرِقْهُ حَيْثُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ فَلَمَّا بَعُدَ عَمَدَ إِلَى ذَلِكَ الدَّمِ فَشَرِبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: مَا صَنَعْتَ بِالدَّمِ ؟ قَالَ: عَمَدْتُ إِلَى أَخْفَى مَوْضِعٍ عَلِمْتُ فَجَعَلْتُهُ فِيهِ. قَالَ: فَلَعَلَّكَ شَرِبْتَهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: لَا تَمَسُّكَ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، وَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ، وَوَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ فَكَانَتْ تِلْكَ الْقُوَّةُ الَّتِي بِهِ مِنْ ذَلِكَ الدَّمِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، أَنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ كَانَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَارِسُ الْخُلَفَاءِ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَمُرُّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ يُصَلِّي خَلْفَ الْمَقَامِ كَأَنَّهُ خَشَبَةٌ مَنْصُوبَةٌ لَا يَتَحَرَّكُ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِذَا سَجَدَ وَقَعَتِ الْعَصَافِيرُ عَلَى ظَهْرِهِ، تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ لَا تَرَاهُ إِلَّا جِذْمَ حَائِطٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُومُ

لَيْلَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَرْكَعُ لَيْلَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَسْجُدُ لَيْلَهُ حَتَّى يُصْبِحَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَكَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمًا فَقَرَأْتُ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ وَالْمَائِدَةَ وَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي كَأَنَّهُ كَعْبٌ رَاتِبٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: ثَابِتٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ: تَعَلَّمَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّلَاةَ مَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ مِنْ عَطَاءٍ، وَعَطَاءٌ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الصِّدِّيقِ، وَ الصِّدِّيقُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: لَوْ رَأَيْتَ ابْنَ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي كَأَنَّهُ غُصْنُ شَجَرَةٍ تَصْفِقُهَا الرِّيحُ، وَالْمَنْجَنِيقُ يَقَعُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا. قَالَ سُفْيَانُ: كَأَنَّهُ لَا يُبَالِي. وَحَكَى بَعْضُهُمْ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ حَجَرًا مِنَ الْمَنْجَنِيقِ وَقَعَ عَلَى شُرَّافَةِ الْمَسْجِدِ فَطَارَتْ فِلْقَةٌ مِنْهُ فَمَرَّتْ بَيْنَ لِحْيَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَحَلْقِهِ، فَمَا زَالَ عَنْ مَقَامِهِ، وَلَا عُرِفَ ذَلِكَ فِي صَوْتِهِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، جَادَ مَا وَصَفْتَ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمًا

لِابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: صِفْ لَنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ جِلْدًا قَطُّ رُكِّبَ عَلَى لَحْمٍ، وَلَا لَحْمًا عَلَى عَصَبٍ، وَلَا عَصَبًا عَلَى عَظْمٍ مِثْلَهُ، وَلَا رَأَيْتُ نَفْسًا رُكِّبَتْ بَيْنَ جَنْبَيْنِ مِثْلَ نَفْسِهِ، وَلَقَدْ مَرَّتْ آجُرَّةٌ مِنْ رَمْيِ الْمَنْجَنِيقِ بَيْنَ لِحْيَتِهِ وَصَدْرِهِ، فَوَاللَّهِ مَا جَشِعَ وَلَا قَطَعَ لَهَا قِرَاءَتَهُ، وَلَا رَكَعَ دُونَ مَا كَانَ يَرْكَعُ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ خَرَجَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَيْهَا، وَلَقَدْ كَانَ يَرْكَعُ فَيَكَادُ يَقَعُ الرَّخَمُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَيَسْجُدُ فَكَأَنَّهُ ثَوْبٌ مَطْرُوحٌ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى ابْنَ الزُّبَيْرِ يَشْرَبُ فِي صَلَاتِهِ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: كَانَ قَارِئًا لِكِتَابِ اللَّهِ، مُتَّبِعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَانِتًا لِلَّهِ، صَائِمًا فِي الْهَوَاجِرِ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ، ابْنُ حَوَارِيِّ رَسُولِ اللَّهِ، وَأُمُّهُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللَّهِ، زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ، فَلَا يَجْهَلُ حَقَّهُ إِلَّا مَنْ أَعْمَاهُ اللَّهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يَوْمًا يُصَلِّي فَسَقَطَتْ حَيَّةٌ مِنَ السَّقْفِ تَطَوَّقَتْ عَلَى بَطْنِ ابْنِهِ هَاشِمٍ، فَصَرَخَ النِّسْوَةُ، وَانْزَعَجَ أَهْلُ الْمَنْزِلِ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِ تِلْكَ

الْحَيَّةَ، فَقَتَلُوهَا وَسَلِمَ الْوَلَدُ ; فَعَلُوا هَذَا كُلَّهُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَلْتَفِتْ، وَلَا دَرَى بِمَا جَرَى لِابْنِهِ حَتَّى سَلَّمَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ الْحِزَامِيُّ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَنْ لَا أُحْصِي كَثْرَةً مِنْ أَصْحَابِنَا، أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يُوَاصِلُ الصَّوْمَ سَبْعًا ; يَصُومُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَا يُفْطِرُ إِلَّا لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ الْأُخْرَى، وَيَصُومُ بِالْمَدِينَةِ وَلَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي مَكَّةَ، وَيَصُومُ بِمَكَّةَ فَلَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ إِذَا أَفْطَرَ أَوَّلُ مَا يُفْطِرُ عَلَى لَبَنِ لِقْحَةٍ، وَسَمْنٍ، وَصَبِرٍ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَأَمَّا اللَّبَنُ فَيَعْصِمُهُ، وَأَمَّا السَّمْنُ فَيَقْطَعُ عَنْهُ الْعَطَشَ، وَأَمَّا الصَّبِرُ فَيُفَتِّقُ الْأَمْعَاءَ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ، عَنْ رَوْحٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُوَاصِلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَيُصْبِحُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ وَهُوَ أَلْيَثُنَا. وَرُوِيَ مِثْلُهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سِوَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي وَسَطِهِ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَا يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَنْزِعْ ثَوْبَهُ عَنْ ظَهْرِهِ. وَقَالَ لَيْثٌ عَنْ

مُجَاهِدٍ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُطِيقُ مَا يُطِيقُهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْعِبَادَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَلَقَدْ جَاءَ سَيْلٌ مَرَّةً فَطَبَّقَ الْبَيْتَ، فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَطُوفُ سِبَاحَةً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَا يُنَازَعُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْعِبَادَةِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَالْفَصَاحَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُثْمَانَ جَعَلَهُ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ نَسَخُوا الْمَصَاحِفَ مَعَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَذَكَرَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي خُطَبَاءِ الْإِسْلَامِ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَابْنِهِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَابْنِهِ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ: رَأَيْتُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ رِدَاءً يَمَانِيًّا عَدَنِيًّا يُصَلِّي فِيهِ، وَكَانَ صَيِّتًا ; إِذَا خَطَبَ يُجَاوِبُهُ الْجَبَلَانِ أَبُو قُبَيْسٍ، وَزَرُودُ.
وَكَانَ آدَمَ نَحِيفًا، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ، وَكَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ، كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، مُجْتَهِدًا، شَهْمًا، فَصِيحًا، صَوَّامًا قَوَّامًا، شَدِيدَ الْبَأْسِ، ذَا أَنَفَةٍ، لَهُ نَفْسٌ شَرِيفَةٌ وَهِمَّةٌ عَالِيَةٌ، وَكَانَ خَفِيفَ اللِّحْيَةِ، لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِنَ الشَّعْرِ إِلَّا قَلِيلًا، وَكَانَتْ لَهُ جُمَّةٌ، وَكَانَ لَهُ لِحْيَةٌ صَفْرَاءُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ قِتَالَ الْبَرْبَرِ ; وَكَانُوا فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، وَالْمُسْلِمُونَ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَأَحَاطُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،

فَمَا زَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَحْتَالُ حَتَّى رَكِبَ فِي ثَلَاثِينَ فَارِسًا، وَسَارَ نَحْوَ مَلِكِ الْبَرْبَرِ، وَهُوَ مُنْفَرِدٌ وَرَاءَ الْجَيْشِ، وَجَوَارِيهِ يُظَلِّلْنَهُ بِرِيشِ النَّعَامِ، فَسَاقَ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ، وَالنَّاسُ يَظُنُّونَ أَنَّهُ ذَاهِبٌ فِي رِسَالَةٍ إِلَيْهِ، فَلَمَّا فَهِمَهُ الْمَلِكُ وَلَّى مُدْبِرًا، فَلَحِقَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَتَلَهُ، وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَجَعَلَهُ فَوْقَ رُمْحِهِ، وَكَبَّرَ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ، وَحَمَلُوا عَلَى الْبَرْبَرِ فَهَزَمُوهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمُوا مَغَانِمَ كَثِيرَةً جِدًّا، وَبَعْثَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ بِالْبِشَارَةِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَصَّ عَلَى عُثْمَانَ الْخَبَرَ، وَكَيْفَ جَرَى، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَتَسْتَطِيعُ أَنَّ تُؤَدِّيَ هَذَا لِلنَّاسِ فَوْقَ الْمِنْبَرِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَصَعِدَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَوْقَ الْمِنْبَرِ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَذَكَرَ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ مَا جَرَى. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَبِي الزُّبَيْرُ فِي جُمْلَةِ مِنْ حَضَرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ كَادَ أَنْ يُرْتَجَ عَلَيَّ فِي الْكَلَامِ مِنْ هَيْبَتِهِ فِي قَلْبِي، فَزَبَرَنِي بِعَيْنِهِ، وَأَشَارَ إِلَيَّ لِيَحْصِبَنِي، فَمَضَيْتُ فِي الْخُطْبَةِ كَمَا كُنْتُ، فَلَمَّا نَزَلْتُ قَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنِي أَسْمَعُ خُطْبَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ سَمِعْتُ خُطْبَتَكَ يَا بُنَيَّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ يَقُولُ: خَرَجَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ، فَنَزَلَ يَبُولُ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا عَلَى الرَّاحِلَةِ شَيْخٌ أَبْيَضُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَشَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَتَنَحَّى عَنْهَا، فَرَكِبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَاحِلَتَهُ وَمَضَى، قَالَ: فَنَادَاهُ: وَاللَّهِ يَابْنَ الزُّبَيْرِ لَوْ دَخَلَ قَلْبَكَ اللَّيْلَةَ مِنِّي شَعْرَةٌ

لَخَبَلْتُكَ. قَالَ: وَمِنْكَ أَنْتَ يَا لَعِينُ يَدْخُلُ قَلْبِي شَيْءٌ ؟ ! وَقَدْ رُوِيَ لِهَذِهِ الْحِكَايَةِ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى جَيِّدَةٍ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَانُوا عِنْدَ التَّنَاضِبِ أَبْصَرُوا رَجُلًا عِنْدَ شَجَرَةٍ، فَتَقَدَّمَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ، وَرَدَّ رَدًّا ضَعِيفًا، وَنَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ لَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: تَنَحَّ عَنِ الظِّلِّ. فَانْحَازَ مُتَكَارِهًا، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَجَلَسْتُ، وَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَقَلْتُ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ. فَمَا عَدَا أَنْ قَالَهَا حَتَّى قَامَتْ كُلُّ شَعْرَةٍ مِنِّي فَاجْتَذَبْتُهُ، وَقَلْتُ: أَنْتَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ وَتَبْدُو لِي هَكَذَا ؟ وَإِذْ لَيْسَ لَهُ سُفْلَةٌ، وَانْكَسَرَ وَنَهَرْتُهُ، وَقُلْتُ: إِلَيَّ تَتَبَدَّى وَأَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَذَهَبَ هَارِبًا، وَجَاءَ أَصْحَابِي، فَقَالُوا: أَيْنَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ عِنْدَكَ ؟ فَقُلْتُ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَهَرَبَ. قَالَ: فَمَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَأَخَذْتُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَشَدَدْتُهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، حَتَّى أَتَيْتُ بِهِمْ أَمَجَ وَمَا يَعْقِلُونَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَإِذَا نِسْوَةٌ يَطُفْنَ بِالْبَيْتِ، فَأَعْجَبْنَنِي، فَلَمَّا قَضَيْنَ طَوَافَهُنَّ خَرَجْنَ، فَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِنَّ ; لِأَعْلَمَ أَيْنَ مَنْزِلُهُنَّ، فَخَرَجْنَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى أَتَيْنَ الْعَقَبَةَ، ثُمَّ انْحَدَرْنَ حَتَّى أَتَيْنَ

فَجًّا فَدَخَلْنَ فِي خَرِبَةٍ، فَدَخَلْتُ فِي إِثْرِهِنَّ، فَإِذَا مَشْيَخَةٌ جُلُوسٌ فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِكَ يَابْنَ الزُّبَيْرِ ؟ فَقُلْتُ لَهُمْ: مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا: الْجِنُّ، وَتِلْكَ النِّسْوَةُ نِسَاؤُنَا، فَمَا تَشْتَهِي يَابْنَ الزُّبَيْرِ ؟ فَقُلْتُ: أَشْتَهِي رُطَبًا، وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ مِنْ رُطَبَةٍ، فَأَتَوْنِي بِرُطَبٍ فَأَكَلْتُ، ثُمَّ قَالُوا: احْمِلْ مَا بَقِيَ مَعَكَ، فَجِئْتُ بِهِ الْمَنْزِلَ، فَوَضَعْتُهُ فِي سَفَطٍ، وَوَضَعْتُ السَّفَطَ فِي صُنْدُوقٍ، ثُمَّ وَضَعْتُ رَأْسِي لِأَنَامَ، فَبَيْنَمَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ سَمِعْتُ جَلَبَةً فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيْنَ وَضَعَهُ ؟ قَالُوا: فِي الصُّنْدُوقِ. فَفَتَحُوهُ، فَإِذَا هُوَ فِي السَّفَطِ دَاخِلَهُ، فَهَمُّوا بِفَتْحِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَأَخَذُوا السَّفَطَ بِمَا فِيهِ، فَذَهَبُوا بِهِ، قَالَ: فَلَمْ آسَفْ عَلَى شَيْءٍ أَسَفِي كَيْفَ لَمْ أَثِبْ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الْبَيْتِ.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مِمَّنْ حَاجَفَ عَنْ عُثْمَانَ يَوْمَ الدَّارِ، وَجُرِحَ يَوْمَئِذٍ بِضْعَ عَشْرَةَ جِرَاحَةً، وَكَانَ عَلَى الرَّجَّالَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَجُرِحَ يَوْمَئِذٍ تِسْعَ عَشْرَةَ جِرَاحَةً أَيْضًا، وَقَدْ تَبَارَزَ يَوْمَئِذٍ هُوَ وَمَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْأَشْتَرِ فَاتَّحَدَا فَصَرَعَ الْأَشْتَرُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْأَشْتَرُ مِنَ الْقِيَامِ عَنْهُ، بَلِ احْتَضَنَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَجَعَلَ يُنَادِي، وَيَقُولُ:
اقْتُلُونِي وَمَالِكًا وَاقْتُلُوا مَالِكًا مَعِي
فَأَرْسَلَهَا مَثَلًا، ثُمَّ تَفَرَّقَا، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الْأَشْتَرُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ جُرِحَ يَوْمَئِذٍ

بِضْعًا وَأَرْبَعِينَ جِرَاحَةً، وَلَمْ يُوجَدْ إِلَّا بَيْنَ الْقَتْلَى وَبِهِ رَمَقٌ، وَقَدْ أَعْطَتْ عَائِشَةُ لِمَنْ بَشَّرَهَا أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَسَجَدَتْ لِلَّهِ شُكْرًا، وَقَدْ كَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا ; لِأَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهَا، وَكَانَ عَزِيزًا عَلَيْهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ تُحِبُّ أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ مِثْلَ حُبِّهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ. وَقَالَ: وَمَا رَأَيْتُ أَبِي وَعَائِشَةَ يَدْعُوَانِ لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ مِثْلَ دُعَائِهِمَا لِابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي أَخِي هَارُونُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: أَقْحَمَتِ السَّنَةُ نَابِغَةَ بَنِي جَعْدَةَ، فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَأَنْشَدَهُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
حَكَيْتَ لَنَا الصِّدِّيقَ لَمَّا وَلِيتَنَا وَعُثْمَانَ وَالْفَارُوقَ فَارْتَاحَ مُعْدِمُ
وَسَوَّيْتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحَقِّ فَاسْتَوَوْا فَعَادَ صَبَاحًا حَالِكُ اللَّيْلِ مُظْلِمُ
أَتَاكَ أَبُو لَيْلَى يَجُوبُ بِهِ الدُّجَا دُجَى اللَّيْلِ جَوَّابُ الْفَلَاةِ عَثَمْثَمُ
لِتَجْبُرَ مِنْهُ جَانِبًا ذَعْذَعَتْ بِهِ صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالزَّمَانُ الْمُصَمِّمُ

فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: هَوِّنْ عَلَيْكَ أَبَا لَيْلَى، فَإِنَّ الشِّعْرَ أَهْوَنُ وَسَائِلِكَ عِنْدَنَا، أَمَّا صِفْوَةُ مَالِنَا فَلِآلِ الزُّبَيْرِ، وَأَمَّا عَفْوُهُ فَإِنَّ بَنِي أَسَدٍ يَشْغَلُهَا عَنْكَ وَتَيْمًا، وَلَكِنْ لَكَ فِي مَالِ اللَّهِ حَقَّانِ: حَقٌّ بِرُؤْيَتِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَقٌّ لِشَرِكَتِكَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ فِي فَيْئِهِمْ. ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ دَارَ النَّعَمِ، فَأَعْطَاهُ قَلَائِصَ سَبْعًا، وَجَمَلًا رَحِيلًا، وَأَوْقَرَ لَهُ الرِّكَابَ بُرًّا وَتَمْرًا وَثِيَابًا، فَجَعَلَ النَّابِغَةُ يَسْتَعْجِلُ، وَيَأْكُلُ الْحَبَّ صِرْفًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَيْحَ أَبِي لَيْلَى، لَقَدْ بَلَغَ الْجَهْدُ. فَقَالَ النَّابِغَةُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:مَا وَلِيَتْ قُرَيْشٌ فَعَدَلَتْ، وَاسْتُرْحِمَتْ فَرَحِمَتْ، وَحَدَّثَتْ فَصَدَقَتْ، وَوَعَدَتْ خَيْرًا فَأَنْجَزَتْ، فَأَنَا وَالنَّبِيُّونَ فُرَّاطُ الْقَاصِفِينَ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ صَاحِبُ كِتَابِ " الْمُجَالَسَةِ ": أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ نَصْرٍ الْأَزْدِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الضَّبِّيُّ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَذِنَ مُعَاوِيَةُ لِلنَّاسِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَاحْتَفَلَ الْمَجْلِسُ، وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ، فَأَجَالَ بَصَرَهُ فِيهِمْ، ثُمَّ قَالَ: أَنْشِدُونِي لِقُدَمَاءِ الْعَرَبِ ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ جَامِعَةٍ، مِنْ أَجْمَعَ مَا قَالَتْهَا الْعَرَبُ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا خُبَيْبٍ. فَقَالَ: مَهْيَمْ ؟ قَالَ: أَنْشِدْنِي ذَلِكَ. فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ ; كُلُّ بَيْتٍ بِمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ: نَعَمْ، إِنْ سَاوَتْ. قَالَ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ، وَأَنْتَ وَافٍ كَافٍ. فَأَنْشَدَهُ لِلْأَفْوَهِ الْأَوَدِيِّ:
بَلَوْتُ النَّاسَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ فَلَمْ أَرَ غَيْرَ خَتَّالٍ وَقَالِ
فَقَالَ: صَدَقَ.
وَلَمْ أَرَ فِي الْخُطُوبِ أَشَدَّ وَقْعًا وَكَيْدًا مِنْ مُعَادَاةِ الرِّجَالِ
فَقَالَ: صَدَقَ.

وَذُقْتُ مَرَارَةَ الْأَشْيَاءِ طُرًّا فَمَا شَيْءٌ أَمَرُّ مِنَ السُّؤَالِ
فَقَالَ: صَدَقَ. ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَةُ: هِيهِ يَا أَبَا خُبَيْبٍ. قَالَ: إِلَى هَاهُنَا انْتَهَى. قَالَ: فَدَعَا مُعَاوِيَةُ بِثَلَاثِينَ عَبْدًا، عَلَى عُنُقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَدْرَةٌ، وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَمَرُّوا بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ الزُّبَيْرِ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى دَارِهِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي يَزِيدَ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ، عَنْ جُوَيْرِيَّةَ بْنِ أَسْمَاءَ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَجَّ تَلَقَّاهُ النَّاسُ، وَتَخَلَّفَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ جَاءَهُ وَقَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَكْثَرَ جِحَرَةَ رَأْسِكَ ؟ فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ ; لَا تَخْرُجْ عَلَيْكَ مِنْهَا حَيَّةٌ فَتَقْتُلَكَ. فَلَمَّا أَفَاضَ مُعَاوِيَةُ طَافَ مَعَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِهِ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ إِلَى دَارِهِ وَمَنَازِلِهِ بِقُعَيْقِعَانَ، فَذَهَبَ مَعَهُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا خَرَجَا قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: جَاءَ مَعَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى دُورِهِ وَمَنَازِلِهِ فَفَعَلَ مَاذَا ؟ لَا وَاللَّهِ لَا أَدَعُكَ حَتَّى تُعْطِيَنِي مِائَةَ أَلْفٍ. فَأَعْطَاهُ، فَجَاءَ مَرْوَانَ فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ ; جَاءَكَ رَجُلٌ قَدْ سَمَّى بَيْتَ مَالِ الدِّيوَانِ، وَبَيْتَ الْخِلَافَةِ، وَبَيْتَ كَذَا وَبَيْتَ كَذَا، فَأَعْطَيْتَهُ مِائَةَ أَلْفٍ. فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ؛ فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ ؟
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ،

عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: سَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مُعَاوِيَةَ شَيْئًا فَمَنَعَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَجْهَلُ أَنْ أَلْزَمَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ، فَلَا أَشْتُمُ لَكَ عِرْضًا، وَلَا أَقَصِبُ لَكَ حَسَبًا، وَلَكِنِّي أَسْدُلُ عِمَامَتِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ ذِرَاعًا، وَمِنْ خَلْفِي ذِرَاعًا فِي طَرِيقِ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَذْكُرُ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: مَنْ هَذَا ؟ فَيَقُولُونَ: ابْنُ حَوَارِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ بِنْتِ الصِّدِّيقِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: حَسْبُكَ بِهَذَا شَرًّا. ثُمَّ قَالَ: هَاتِ حَوَائِجَكَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَنَا غَسَّانُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَمَرَ ابْنًا لَهُ صَغِيرًا فَلَطَمَهُ لَطْمَةً دَوَّخَ مِنْهَا رَأْسَهُ، فَلَمَّا أَفَاقَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ لِلصَّبِيِّ: ادْنُ مِنِّي. فَدَنَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ: الْطِمْ مُعَاوِيَةَ. قَالَ: لَا أَفْعَلُ. قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ أَبِي. فَرَفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَدَهُ، فَلَطَمَ الصَّبِيَّ لَطْمَةً جَعَلَ يَدُورُ مِنْهَا كَمَا تَدُورُ الدُّوَّامَةُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: تَفْعَلُ هَذَا بِغُلَامٍ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ ؟ قَالَ: إِنَّهُ وَاللَّهِ قَدْ عَرَفَ مَا يَضُرُّهُ مِمَّا يَنْفَعُهُ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُحْسِنَ أَدَبَهُ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لَحِقَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى الشَّامِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَوَجَدَهُ وَهُوَ يَنْعَسُ عَلَى

رَاحِلَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَتَنْعَسُ وَأَنَا مَعَكَ ؟ أَمَا تَخَافُ مِنِّي أَنْ أَقْتُلَكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ قُتَّالِ الْمُلُوكِ، إِنَّمَا يَصِيدُ كُلُّ طَائِرٍ قَدْرَهُ. فَقَالَ: أَمَا لَقَدْ سِرْتُ تَحْتَ لِوَاءِ أَبِي إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ مَنْ تَعْلَمُ. فَقَالَ: لَا جَرَمَ قَتَلَكُمْ وَاللَّهِ بِشِمَالِهِ. فَقَالَ: أَمَا إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي نُصْرَةِ عُثْمَانَ، ثُمَّ لَمْ يُجْزَ بِهَا. فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ لِبُغْضِ عَلِيٍّ لَا لِنُصْرَةِ عُثْمَانَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّا قَدْ أَعْطَيْنَاكَ عَهْدًا، فَنَحْنُ وَافُونَ لَكَ بِهِ مَا عِشْتَ، فَسَيَعْلَمُ مَنْ بَعْدَكَ. فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا أَخَافُكَ إِلَّا عَلَى نَفْسِكَ، وَكَأَنِّي بِكَ قَدْ خُبِطْتَ فِي الْحِبَالَةِ، وَاسْتُحْكِمَتْ عَلَيْكَ الْأُنْشُوطَةُ، فَذَكَرْتَنِي وَأَنْتَ فِيهَا، فَقُلْتُ: لَيْتَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَهَا، لَيْتَنِي وَاللَّهِ لَهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَأَحْلُلَنَّكَ رُوَيْدًا، وَلَأُطْلِقَنَّكَ سَرِيعًا، وَلَبِئْسَ الْوَلِيُّ أَنْتَ تِلْكَ السَّاعَةَ. وَحَكَى ابْنُ عُيَيْنَةَ نَحْوَ هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا مَاتَ، وَجَاءَتْ بَيْعَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ انْشَمَرَ مِنْهَا ابْنَ الزُّبَيْرِ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، فَقَصَدَا مَكَّةَ فَأَقَامَا بِهَا، ثُمَّ خَرَجَ الْحُسَيْنُ إِلَى الْعِرَاقِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ مَقْتَلِهِ بِأَرْضِ كَرْبَلَاءَ مَا تَقَدَّمَ، وَتَفَرَّدَ بِالرِّيَاسَةِ وَالسُّؤْدُدِ

بِمَكَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ; وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُنْشِدُ بَعْدَ مَخْرَجِ الْحُسَيْنِ:
يَا لَكِ مِنْ قُنْبَرَةٍ بِمَعْمَرِ خَلَا لَكِ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي
وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي
يُعَرِّضُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَقِيلَ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِسِلْسِلَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَقَيْدٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَجَامِعَةٍ مِنْ فِضَّةٍ، وَحَلَفْتُ لَتَأْتِيَنِي فِي ذَلِكَ، فَأَبِرَّ قَسَمِي، وَلَا تَشُقَّ الْعَصَا. فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ:
وَلَا أَلِينُ لِغَيْرِ الْحَقِّ أَسْأَلُهُ حَتَّى يَلِينَ لِضِرْسِ الْمَاضِغِ الْحَجَرُ
فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ مِنْ بَعْدِهِ قَرِيبًا، اسْتَفْحَلَ أَمْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ جِدًّا، وَبُويِعَ لَهُ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ، وَبَايَعَ لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ بِدِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا، وَلَكِنْ عَارَضَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فِي ذَلِكَ، وَمَا زَالَ حَتَّى قَتَلَهُ وَجَمَاعَةً بِمَرْجِ رَاهِطٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَبَايَعَ لَهُ أَهْلُ الشَّامِ، ثُمَّ دَخَلَ مِصْرَ فَانْتَزَعَهَا مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ جَهَّزَ السَّرَايَا إِلَى الْعِرَاقِ، وَمَاتَ

وَاسْتَخْلَفَ بَعْدَهُ ابْنَهُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَمَا زَالَ حَتَّى قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَخَذَ الْعِرَاقَ مِنْهُ، ثُمَّ بَعَثَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، فَحَاصَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ، حَتَّى ظَفِرَ بِهِ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ.
وَكَانَتْ وِلَايَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا كُلِّهَا، وَبَنَى الْكَعْبَةَ فِي أَيَّامِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَدَّ بِنَاءَهَا كَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ، كَمَا أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَسَا الْكَعْبَةَ الْحَرِيرَ، وَكَانَتْ كُسْوَتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ الْأَنْطَاعَ وَالْمُسُوحَ.
وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَالِمًا عَابِدًا، مَهِيبًا وَقُورًا، كَثِيرَ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ، شَدِيدَ الْخُشُوعِ، قَوِيَّ السِّيَاسَةِ، قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدِ بْنُ جَبَلَةَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كَانَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ مِائَةُ غُلَامٍ يَتَكَلَّمُ كُلُّ غُلَامٍ مِنْهُمْ بِلُغَةٍ غَيْرِ لُغَةِ الْآخَرِ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُكَلِّمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِلُغَتِهِ، وَكُنْتَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ قُلْتَ: هَذَا رَجُلٌ لَمْ يُرِدِ اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِ قُلْتَ: هَذَا رَجُلٌ لَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا طَرْفَةَ عَيْنٍ.

وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى، قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى رَأْسِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِنَ الْمِسْكِ مَا لَوْ كَانَ لِي كَانَ رَأْسَ مَالٍ. وَكَانَ يُطَيِّبُ الْكَعْبَةَ حَتَّى كَانَ يُوجَدُ رِيحُهَا مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعَمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى امْرَأَتِهِ بِنْتِ الْحَسَنِ، فَرَأَى ثَلَاثَةَ مُثُلٍ - يَعْنِي أَفَرِشَةً - فَقَالَ: هَذَا لِي، وَهَذَا لِابْنَةِ الْحَسَنِ، وَهَذَا لِلشَّيْطَانِ. فَأَخْرَجُوهُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَشِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسَاوِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُعَاتِبُ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى الْبُخْلِ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:لَيْسَ بِالْمُؤْمِنِ مَنْ يَبِيتُ شَبْعَانَ، وَجَارُهُ إِلَى جَنْبِهِ جَائِعٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ الْوَرَّاقُ، ثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةَ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ حِينَ حُصِرَ: إِنَّ عِنْدِي نَجَائِبَ قَدْ أَعْدَدْتُهَا لَكَ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَحَوَّلَ إِلَى

مَكَّةَ، فَيَأْتِيكَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَكَ ؟ قَالَ: لَا، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يُلْحِدُ بِمَكَّةَ كَبْشٌ مِنْ قُرَيْشٍ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ، عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِ النَّاسِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَيَعْقُوبُ هَذَا هُوَ الْقُمِّيُّ، وَفِيهِ تَشَيُّعٌ وَضَعْفٌ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقْبَلُ تَفَرُّدُهُ بِهِ، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَلَيْسَ هُوَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى صِفَاتٍ حَمِيدَةٍ، وَقِيَامُهُ فِي الْإِمَارَةِ إِنَّمَا كَانَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ هُوَ كَانَ الْأَمْرُ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ أَرْشَدُ مِنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، حَيْثُ نَازَعَهُ بَعْدَ أَنِ اجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ، وَقَامَتِ الْبَيْعَةُ لَهُ فِي الْآفَاقِ، وَانْتَظَمَ لَهُ الْأَمْرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: أَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ: يَابْنَ الزُّبَيْرِ، إِيَّاكَ وَالْإِلْحَادَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، فَإِنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يُحِلُّهَا وَيَحُلُّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، لَوْ وُزِنَتْ ذُنُوبُهُ بِذُنُوبِ الثَّقَلَيْنِ لَوَزَنَتْهَا قَالَ: فَانْظُرْ أَنْ لَا

تَكَوُنَهُ يَابْنَ عَمْرٍو، فَإِنَّكَ قَرَأْتَ الْكُتُبَ، وَصَحِبْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ هَذَا وَجِهِي إِلَى الشَّامِ مُجَاهِدًا.
وَهَذَا قَدْ يَكُونُ رَفْعُهُ غَلَطًا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، مِمَّا أَصَابَهُ مِنَ الزَّامِلَتَيْنِ مِنْ عُلُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي صَادِقٍ، عَنْ حَنَشٍ الْكِنَانِيِّ، عَنْ عُلَيْمٍ الْكِنْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: لَيُحْرَقَنَّ هَذَا الْبَيْتُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنْ آلِ الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ، ثَنَا سَالِمُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ:

اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَعْلَمُ مِمَّا عَلَّمْتَنِي أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا إِلَّا قَتِيلًا، يُطَافُ بِرَأْسِهِ فِي الْأَسْوَاقِ.
وَقَدْ رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا أَفْصَحَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ صَغِيرٌ: السَّيْفُ، فَكَانَ لَا يَضَعُهُ مِنْ فِيهِ. وَكَانَ الزُّبَيْرُ إِذَا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ يَقُولُ لَهُ: أَمَا وَاللَّهِ لَيَكُونُنَّ لَكَ مِنْهُ يَوْمٌ وَيَوْمٌ وَأَيَّامٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ مَقْتَلِهِ، وَأَنَّ الْحَجَّاجَ صَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ فَوْقَ الثَّنِيَّةِ، وَأَنَّهُ رَبَطَ إِلَى جَنْبِهِ هِرَّةً مَيِّتَةً، فَكَانَ رِيحُ الْمِسْكِ يَغْلِبُ عَلَى رِيحِهَا، وَأَنَّ أُمَّهُ أَرْسَلَتْ إِلَى الْحَجَّاجِ تَقُولُ لَهُ: قَاتَلَكَ اللَّهُ، عَلَامَ تَصْلُبُ وَلَدِي ؟ فَقَالَ: إِنِّي اسْتَبَقْتُ أَنَا وَإِيَّاهُ إِلَى هَذِهِ الْخَشَبَةِ فَسَبَقَنِي إِلَيْهَا. وَأَنَّ أُمَّهُ جَاءَتْ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَيْهِ فَدَعَتْ لَهُ طَوِيلًا، وَلَا يَقْطُرُ مِنْ عَيْنِهَا دَمْعَةٌ، ثُمَّ انْصَرَفَتْ، وَكَذَلِكَ وَقَفَ عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ فَدَعَا لَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثَنَاءً كَثِيرًا جِدًّا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ، قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ خَرَجَتْ إِلَيْهِ أُمُّهُ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ عَلَى دَابَّةٍ، فَأَقْبَلَ الْحَجَّاجُ فِي أَصْحَابِهِ فَسَأَلَ عَنْهَا فَأُخْبِرَ بِهَا، فَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِ

نَصَرَ اللَّهُ الْحَقَّ وَأَظْهَرَهُ ؟ قَالَتْ: رُبَّمَا أُدِيلَ الْبَاطِلُ عَلَى الْحَقِّ، وَإِنَّكَ بَيْنَ فَرْثِهَا وَالْجِيَّةِ. فَقَالَ: إِنَّ ابْنَكِ أَلْحَدَ فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَقَدْ أَذَاقَهُ اللَّهُ ذَلِكَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ; قَطْعَ السُّبُلِ. قَالَتْ: كَذَبْتَ، كَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَدِينَةِ، وَسُرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَنَّكَهُ بِيَدِهِ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ حَتَّى ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ فَرَحًا بِهِ، وَقَدْ فَرِحْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ بِمَقْتَلِهِ، فَمَنْ كَانَ فَرِحَ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنْكَ وَمِنْ أَصْحَابِكَ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ بَرًّا بِالْوَالِدَيْنِ، صَوَّامًا، قَوَّامًا بِكِتَابِ اللَّهِ، مُعَظِّمًا لِحُرُمِ اللَّهِ، يُبْغِضُ أَنْ يُعْصَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَيَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ كَذَّابَانِ، الْآخِرُ مِنْهُمَا شَرٌّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مُبِيرٌ فَانْكَسَرَ الْحَجَّاجُ وَانْصَرَفَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمَلِكِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَلُومُهُ فِي مُخَاطَبَتِهِ أَسْمَاءَ، وَقَالَ: مَا لَكَ وَلِابْنَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ ؟

وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي " صَحِيحِهِ ": ثَنَا عَقَبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ، أَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي

نَوْفَلٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ، حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولًا لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ شَرُّهَا لَأُمَّةُ خَيْرٍ. ثُمَّ نَفَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَبَلَغَ الْحَجَّاجُ وُقُوفُ ابْنِ عُمَرَ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَأُنْزِلَ عَنْ جِذْعِهِ، وَأُلْقِيَ فِي قُبُورِ الْيَهُودِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ أَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَأْتِيَهُ، فَأَعَادَ عَلَيْهَا الرَّسُولَ: لِتَأْتِيَنِّي أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ مَنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ. فَأَبَتْ، وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا آتِيهِ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيَّ مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُونِي. قَالَ: فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَرَوْنِي سِبْتَيَّ. فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيٍتِينِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللَّهِ ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ، وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ: يَابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، أَنَا وَاللَّهِ

ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّذِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ، أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا، فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ. قَالَ: فَقَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا. انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمَّا صَلَبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى ثَنِيَّةِ الْحَجُونَ بَعَثَتْ إِلَيْهِ أَسْمَاءُ تَدْعُو عَلَيْهِ، وَطَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يُدْفَنَ، فَأَبَى عَلَيْهَا، حَتَّى كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُدْفَنَ، فَدُفِنَ بِالْحَجُونِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يُشْتَمُّ مِنْ عِنْدِ قَبْرِهِ رِيحُ الْمِسْكِ.
وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ طَارِقُ بْنُ عَمْرٍو فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ بِسَنَدِهِ أَنَّ الْحَجَّاجَ حَاصَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَنَّهُ اجْتَمَعَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَأَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ لِيَرْمِيَ بِهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ الَّذِي فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ يُؤْمِّنُ، وَأَنَّهُ أَمَّنَ مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَنَادَى فِيهِمْ بِذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ أَحَدٍ سِوَى ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَأَنَّهُ خَيَّرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَيْنَ ثَلَاثٍ، إِمَّا أَنْ يَذْهَبَ فِي الْأَرْضِ حَيْثُ شَاءَ، أَوْ يَبْعَثَهُ إِلَى الشَّامِ مُقَيَّدًا بِالْحَدِيدِ، أَوْ يُقَاتِلَ حَتَّى يَقْتُلَ. فَشَاوَرَ أُمَّهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ بِالثَّالِثِ فَقَطْ، وَيُرْوَى أَنَّهَا اسْتَدْعَتْ بِكَفَنٍ لَهُ

وَبَخَّرَتْهُ وَشَجَّعَتْهُ عَلَى الْقَتْلِ، فَخَرَجَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، فَقَاتَلَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَجَاءَتْهُ آجُرَّةٌ فَفَلَقَتْ رَأْسَهُ فَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْهَضَ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَاتَّكَأَ عَلَى مَرْفِقِهِ الْأَيْسَرِ وَجَعَلَ يَحْذِمُ بِالسَّيْفِ مَنْ جَاءَهُ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مَنْ أَهَّلِ الشَّامِ، فَضَرَبَهُ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ تَكَاثَرُوا عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ وَاحْتَزُّوا رَأْسَهُ، وَكَانَ مَقْتَلُهُ قَرِيبًا مِنَ الْحَجُونِ، وَيُقَالُ: بَلْ قُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ صَلَبَهُ الْحَجَّاجُ مُنَكَّسًا عَلَى ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ عِنْدَ الْحَجُونِ، ثُمَّ لَمَّا أَنْزَلَهُ دَفَنَهُ فِي مَقَابِرِ الْيَهُودِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقِيلَ: دُفِنَ بِالْحَجُونِ بِالْمَكَانِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّ وَالِدَتَهُ أَسْمَاءَ غَسَّلَتْهُ بَعْدَمَا تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ، وَخَيَّطَتْهُ وَكَفَّنَتْهُ، وَصَلَّتْ عَلَيْهِ، وَحَمَلَتْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَدَفَنَتْهُ فِي دَارِ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ زِيدَتْ فِي الْمَسْجِدِ، فَهُوَ مَدْفُونٌ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ الْمُخْتَارِ: مَا كَانَ يُحَدِّثُنَا كَعْبُ الْأَحْبَارِ شَيْئًا إِلَّا وَجَدْنَاهُ إِلَّا قَوْلَهُ: إِنَّ فَتَى ثَقِيفٍ يَقْتُلُنِي، وَهَذَا رَأْسُهُ بَيْنَ يَدَيَّ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: وَلَمْ يَشْعُرْ أَنَّهُ قَدْ خُبِّئَ لَهُ الْحَجَّاجُ. وَرُوِيَ هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.

قُلْتُ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مَقْتَلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ كَانَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَقِيلَ: الْآخِرَةِ مِنْهَا. وَعَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَقْتَلَهُ كَانَ عَلَى رَأْسِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ فِي سَابِعِ رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي أَوَّلِ سَنَةِ إِحْدَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ: فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَجَاوَزَ السَّبْعِينَ قَطْعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا أُمُّهُ فَإِنَّهَا لَمْ تَعِشْ بَعْدَهُ إِلَّا مِائَةَ يَوْمٍ، وَقِيلَ: إِنَّمَا عَاشَتْ بَعْدَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: خَمْسَةً. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهَا قَرِيبًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ: خُبَيْبٌ وَحَمْزَةُ وَعَبَّادٌ وَثَابِتٌ، وَأُمُّهُمْ تُمَاضِرُ بِنْتُ مَنْظُورٍ الْفَزَارِيِّ، وَهَاشِمٌ وَقَيْسٌ وَعُرْوَةُ - قُتِلَ مَعَ أَبِيهِ - وَالزُّبَيْرُ، وَأُمُّهُمْ أُمُّ هَاشِمٍ بِنْتُ حُلَّةَ بْنِ مَنْظُورٍ، وَعَامِرٌ وَمُوسَى وَأُمُّ حَكِيمٍ وَفَاطِمَةُ وَفَاخِتَةُ، وَأُمُّهُمْ جُثَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَبَكْرٌ وَرُقَيَّةُ، وَأُمُّهُمْ عَائِشَةُ بِنْتُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَمُصْعَبٌ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ.
وَقَدْ أَسْنَدَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا.
وَقَدْ رُثِيَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَخُوهُ مُصْعَبٌ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ حَسَنَةٍ بَلِيغَةٍ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْمَرٍ الذُّهْلِيِّ يَرْثِيهُمَا بِأَبْيَاتٍ:

لَعَمْرُكَ مَا أَبْقَيْتُ فِي النَّاسِ حَاجَةً وَلَا كُنْتُ مَلْبُوسَ الْهُدَى مُتَذَبْذِبًا
غَدَاةَ دَعَانِي مُصْعَبٌ فَأَجَبْتُهُ وَقَلْتُ لَهُ أَهْلًا وَسَهْلًا وَمَرْحَبًا
أَبُوكَ حَوَارِيُّ الرَّسُولِ وَسَيْفُهُ فَأَنْتَ بِحَمْدِ اللَّهِ مِنْ خَيْرِنَا أَبَا
وَذَاكَ أَخُوكَ الْمُهْتَدَى بِضِيَائِهِ بِمَكَّةَ يَدْعُونَا دُعَاءً مُثَوَّبَا
وَلَمْ أَكُ ذَا وَجْهَيْنِ وَجْهٍ لِمُصْعَبٍ مَرِيضٍ وَوَجْهٍ لِابْنِ مَرْوَانَ إِذْ صَبَا
وَكُنْتُ امْرَأً نَاصَحْتُهُ غَيْرَ مُؤْثِرٍ عَلَيْهِ ابْنَ مَرْوَانَ وَلَا مُتَقَرِّبَا
إِلَيْهِ بِمَا تُقْذَى بِهِ عَيْنُ مُصْعَبٍ وَلَكِنَّنِي نَاصَحْتُ فِي اللَّهِ مُصْعَبَا
إِلَى أَنْ رَمَتْهُ الْحَادِثَاتُ بِسَهْمِهَا فَلِلَّهِ سَهْمًا مَا أَسَدَّ وَأَصْوَبَا
فَإِنْ يَكُ هَذَا الدَّهْرُ أَوْدَى بِمُصْعَبٍ وَأَصْبَحَ عَبْدُ اللَّهِ شِلْوًا مُلَحَّبَا
فَكُلُّ امْرِئٍ حَاسٍ مِنَ الْمَوْتِ جُرْعَةً وَإِنْ حَادَ عَنْهَا جُهْدَهُ وَتَهَيَّبَا
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِأَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دَمَ مَحَاجِمِهِ يُهَرِيقُهُ، فَحَسَاهُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا صَنَعْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بِالدَّمِ ؟ قُلْتُ: جَعَلْتُهُ فِي مَكَانٍ ظَنَنْتُ أَنَّهُ خَافٍ عَلَى النَّاسِ. قَالَ: فَلَعَلَّكَ شَرِبْتَهُ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَمَنْ أَمَرَكَ أَنْ تَشْرَبَ الدَّمَ ؟ وَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ، وَوَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ.

وَدَخَلَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ مَرَّةً عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَائِمٌ فِي الدِّهْلِيزِ، وَمَعَهُ طَسْتٌ يَشْرَبُ مِنْهُ، فَدَخَلَ سَلْمَانُ، وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: فَرَغْتَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ سَلْمَانُ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: أَعْطَيْتَهُ غُسَالَةَ مَحَاجِمِي يُهَرِيقُ مَا فِيهَا. قَالَ سَلْمَانُ: شَرِبَهَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ. قَالَ: شَرِبْتَهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لِمَ ؟ قَالَ: أَحْبَبْتُ أَنْ يَكُونَ دَمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوْفِي. فَقَالَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ: وَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ، وَوَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ، لَا تَمَسُّكَ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ.
وَلَمَّا بَعَثَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ ذَلِكَ الْقَيْدَ مِنْ ذَهَبٍ، وَسِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ، وَجَامِعَةً مِنْ فِضَّةٍ، وَأَقْسَمَ لَتَأْتِيَنِّي فِيهَا، فَقَالُوا لَهُ: بِرَّ قَسَمَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ:
وَلَا أَلِينُ لِغَيْرِ الْحَقِّ أَسْأَلُهُ حَتَّى يَلِينَ لِضِرْسِ الْمَاضِغِ الْحَجَرُ
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَضَرْبَةٌ بِسَيْفٍ بِعِزٍّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ضَرْبَةٍ بِسَوْطٍ فِي ذُلٍّ. ثُمَّ دَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَأَظْهَرَ الْخِلَافَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ دَخَلَ عَلَى أُمِّهِ فَقَالَ: إِنَّ فِي الْمَوْتِ لَرَاحَةٌ. وَكَانَتْ أُمُّهُ قَدْ أَتَتْ عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ لَمْ يَسْقُطْ لَهَا سِنٌّ، وَلَمْ يَفْسُدْ لَهَا بَصَرٌ، فَقَالَتْ لَهُ: مَا أُحِبُّ أَنْ أَمُوتَ حَتَّى آتِيَ عَلَى أَحَدِ طَرَفَيْكَ، إِمَّا أَنْ تَمْلِكَ فَتَقَرَّ عَيْنِي، وَإِمَّا أَنْ تُقْتَلَ فَأَحْتَسِبَكَ. ثُمَّ خَرَجَ عَنْهَا، وَهُوَ يَقُولُ:

وَلَسْتُ بِمُبْتَاعِ الْحَيَاةِ بِسُبَّةٍ وَلَا مُرْتَقٍ مِنْ خَشْيَةِ الْمَوْتِ سُلَّمَا
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى آلِ الزُّبَيْرِ يَعِظُهُمْ وَيَقُولُ: لِيُكِنَّ أَحَدُكُمْ سَيْفَهُ كَمَا يُكِنُّ وَجْهَهُ، فَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَاللَّهِ مَا لَقِيتُ زَحْفًا قَطُّ إِلَّا فِي الرَّعِيلِ الْأَوَّلِ، وَمَا أَلِمْتُ جُرْحًا إِلَّا أَلَمَ الدَّوَاءِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ وَمَعَهُ سَيْفَانِ، فَأَوَّلُ مَنْ لَقِيَهُ الْأَسْوَدُ، فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ حَتَّى أَطَنَّ رِجْلَهُ، فَقَالَ لَهُ الْأَسْوَدُ: أَخُّ يَابْنَ الزَّانِيَةِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: اخْسَأْ يَابْنَ حَامٍ، أَسْمَاءُ زَانِيَةٌ ؟ ! ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْوَانِهِ يَرْمُونَ أَعْدَاءَهُ بِالْآجُرِّ، فَأَصَابَتْهُ آجُرَّةٌ مِنْ أَعْوَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَفَلَقَتْ رَأْسَهُ، فَوَقَفَ قَائِمًا وَهُوَ يَقُولُ:
لَوْ كَانَ قَرْنِي وَاحِدًا كَفَيْتُهُ
وَيَقُولُ:
وَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدِّمَا
ثُمَّ وَقَعَ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ مَوْلَيَانِ لَهُ، وَهُمَا يَقُولَانِ:

الْعَبْدُ يَحْمِي رَبَّهُ وَيَحْتَمِي
ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَحَزُّوا رَأْسَهُ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: أَنَا حَاضِرٌ مَقْتَلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، يَوْمَ قُتِلَ جَعَلَتِ الْجُيُوشُ تَدَخُلُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، وَكُلَّمَا دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ بَابٍ حَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ إِذْ جَاءَتْ شُرْفَةٌ مِنْ شُرُفَاتِ الْمَسْجِدِ، فَوَقَعَتْ عَلَى رَأْسِهِ فَصَرَعَتْهُ، وَهُوَ يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
أَسْمَاءُ يَا أَسْمَاءُ لَا تَبْكِينِي لَمْ يَبْقَ إِلَّا حَسَبِي وَدِينِي
وَصَارِمٌ لَانَتْ بِهِ يَمِينِي
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أُمَّهُ قَالَتْ لِلْحَجَّاجِ: أَمَا آنَ لِهَذَا الرَّاكِبِ أَنْ يَنْزِلَ ؟ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: ابْنُكُ الْمُنَافِقُ ؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا كَانَ مُنَافِقًا، إِنْ كَانَ لَصَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولًا لِلرَّحِمِ. فَقَالَ: انْصَرِفِي يَا عَجُوزُ، فَإِنَّكِ قَدْ خَرِفْتِ. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا خَرِفْتُ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:يَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَقَدْ رَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَأَنْتَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَمَرَّ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَوَقَفَ فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ،

وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ وَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ.
وَرَوَى سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: ذَكَرْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: كَانَ عَفِيفًا فِي الْإِسْلَامِ، قَارِئًا لِلْقُرْآنِ، صَوَّامًا قَوَّامًا، أَبُوهُ الزُّبَيْرُ، وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ، وَجَدُّهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّتُهُ خَدِيجَةُ، وَجَدَّتُهُ صَفِيَّةُ، وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ، وَاللَّهِ لَأُحَاسِبَنَّ لَهُ بِنَفْسِي مُحَاسَبَةً لَمْ أُحَاسِبْهَا لِأَبِي بَكْرٍ وَلَا لِعُمَرَ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ، ثَنَا حَوْثَرَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ أَبُو سَعِيدٍ الْعَبْسِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ قَالَ: شَهِدْتُ خُطْبَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِالْمَوْسِمِ، خَرَجَ عَلَيْنَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَلَبَّى بِأَحْسَنِ تَلْبِيَةٍ سَمِعْتُهَا قَطُّ، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكُمْ جِئْتُمْ مِنْ آفَاقٍ شَتَّى وُفُودًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ وَفْدَهُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَطْلُبُ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ طَالِبَ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يَخِيبُ، فَصَدِّقُوا قَوْلَكُمْ بِفِعْلٍ، فَإِنَّ مَلَاكَ الْقَوْلِ الْفِعْلُ، وَالنِّيَّةَ النِّيَّةَ، وَالْقُلُوبَ الْقُلُوبَ، اللَّهَ اللَّهَ فِي أَيَّامِكُمْ هَذِهِ ; فَإِنَّهَا أَيَّامٌ تُغْفَرُ فِيهَا الذُّنُوبُ، جِئْتُمْ مِنْ آفَاقٍ شَتَّى فِي غَيْرِ تِجَارَةٍ، وَلَا طَلَبِ مَالٍ، وَلَا دُنْيَا تَرْجُونَهَا هَاهُنَا. ثُمَّ لَبَّى وَلَبَّى النَّاسُ، فَمَا رَأَيْتُ بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمِئِذٍ.

وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ قَالَ: ثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، ثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: كُتِبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَوْعِظَةٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ لِأَهْلِ التَّقْوَى عَلَامَاتٌ يُعْرَفُونَ بِهَا، وَيَعْرِفُونَهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَكَظْمُ الْغَيْظِ، وَصَبْرٌ عَلَى الْبَلَاءِ، وَرِضًا بِالْقَضَاءِ، وَشُكْرٌ لِلنَّعْمَاءِ، وَذُلٌّ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا الْإِمَامُ كَالسُّوقِ ; مَا نَفَقَ فِيهَا حُمِلَ إِلَيْهَا، إِنْ نَفَقَ الْحَقُّ عِنْدَهُ حُمِلَ إِلَيْهِ وَجَاءَهُ أَهْلُهُ، وَإِنْ نَفَقَ الْبَاطِلُ عِنْدَهُ حُمِلَ إِلَيْهِ وَجَاءَهُ أَهْلُهُ.
وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: ثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يُعْطِي سَلَمَهُ قَطُّ لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةِ سُلْطَانٍ وَلَا غَيْرِهِ.
وَبِهَذِهِ الْإِسْنَادَاتِ أَهْلُ الشَّامِ كَانُوا يُعَيِّرُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَيَقُولُونَ لَهُ: يَابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ. فَقَالَتْ لَهُ أَسْمَاءُ: يَا بُنَيَّ، إِنَّهُمْ يُعَيِّرُونَكَ بِالنِّطَاقَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ لِي نِطَاقٌ وَاحِدٌ شَقَقْتُهُ نِصْفَيْنِ ; فَجَعَلْتُ فِي سُفْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدَهُمَا، وَأَوْكَيْتُ قِرْبَتَهُ بِالْآخَرِ لَمَّا خَرَجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ يُرِيدَانِ الْهِجْرَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا عَيَّرُوهُ بِالنِّطَاقَيْنِ يَقُولُ: إِيهًا وَاللَّهِ:

وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

وَمِمَّنْ قُتِلَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ بِمَكَّةَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، أَبُو صَفْوَانَ الْمَكِّيُّ
وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِيهِ، أَدْرَكَ حَيَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى عَنْ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَكَانَ سَيِّدًا شَرِيفًا مُطَاعًا حَلِيمًا، يَحْتَمِلُ الْأَذَى، لَوْ سَبَّهُ عَبْدٌ أَسْوَدُ، مَا اسْتَنْكَفَ عَنْهُ، وَلَمْ يَقْصِدْهُ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ فَرَدَّهُ خَائِبًا، وَلَا سَمِعَ بِمَفَازَةٍ إِلَّا حَفَرَ جُبًّا، أَوْ عَمِلَ فِيهَا بِرْكَةً، وَلَا عَقَبَةٍ إِلَّا سَهَّلَهَا.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ قَدِمَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ مِنَ الْعِرَاقِ، فَأَطَالَ الْخَلْوَةَ مَعَهُ، فَجَاءَ ابْنُ صَفْوَانَ فَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي شَغَلَكَ مُنْذُ الْيَوْمِ ؟ قَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُهَلَّبَ. فَقَالَ الْمُهَلَّبُ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: وَمَنْ هَذَا الَّذِي يَسْأَلُ عَنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ. فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ. وَكَانَ ابْنُ صَفْوَانَ كَرِيمًا جِدًّا.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ بِسَنَدِهِ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ حَاجًّا فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ تَلَقَّاهُ، فَجَعَلَ يُسَايِرُ مُعَاوِيَةَ، وَجَعَلَ أَهْلُ

الشَّامِ يَقُولُونَ: مَنْ هَذَا الَّذِي يُسَايِرُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ إِذَا الْجَبَلُ أَبْيَضُ مِنَ الْغَنَمِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذِهِ غَنَمٌ أَجْزَرْتُكَهَا ; تُقَسِّمُهَا بَيْنَ الْجُنْدِ. فَإِذَا هِيَ أَلَفَا شَاةٍ، فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا أَكْرَمَ مِنِ ابْنِ عَمِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ كَانَ ابْنُ صَفْوَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ صَبَرَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ حِينَ حَصَرَهُ الْحَجَّاجُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنِّي قَدْ أَقَلْتُكَ بَيْعَتِي، فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ. فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا قَاتَلْتُ عَنْ دِينِي. ثُمَّ صَبَّرَ نَفْسَهُ، حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ الْمَدَنِيُّ
وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَنَّكَهُ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ بَعْدَ الْيَوْمِ صَبْرًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَعَنْهُ ابْنَاهُ: إِبْرَاهِيمُ، وَ مُحَمَّدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِيسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كَانَ ابْنُ مُطِيعٍ مِنْ كِبَارِ رِجَالِ قُرَيْشٍ جَلَدًا وَشَجَاعَةً،

وَأَخْبَرَنِي عَمِّي مُصْعَبٌ أَنَّهُ كَانَ عَلَى قُرَيْشٍ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَقُتِلَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:
أَنَا الَّذِي فَرَرْتُ يَوْمَ الْحَرَّةْ وَالشَّيْخُ لَا يَفِرُّ إِلَّا مَرَّةْ لَأُجْبُرَنَّ كَرَةً بِفَرَّةْ
رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَوْفٍ الْأَشْجَعِيُّ الْغَطَفَانِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ مُؤْتَةَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَالْأُمَرَاءِ قَبْلَهُ، وَشَهِدَ الْفَتْحَ، وَكَانَتْ مَعَهُ رَايَةُ قَوْمِهِ يَوْمَئِذٍ، وَشَهِدَ فَتْحَ الشَّامِ، وَرَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَهُ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَخَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ بِالشَّامِ.
أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
وَالِدَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ عَامَ الْهِجْرَةِ حِينَ شَقَّتْ نِطَاقَهَا، وَرَبَطَتْ بِهِ سُفْرَةَ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ حِينَ خَرَجَا إِلَى غَارِ ثَوْرٍ لِلْهِجْرَةِ. وَأُمُّهَا قَيْلَةُ، وَقِيلَ: قُتَيْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ.
أَسْلَمَتْ أَسْمَاءُ قَدِيمًا، وَهُمْ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَهَاجَرَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا الزُّبَيْرُ، وَهِيَ حَامِلٌ مُتِمٌّ بِوَلَدِهَا عَبْدِ اللَّهِ، فَوَضَعَتْهُ بِقُبَاءٍ، أَوَّلَ مَقْدِمِهِمِ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ وَلَدَتْ لِلزُّبَيْرِ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْوَةَ، وَ الْمُنْذِرَ، ثُمَّ لَمَّا كَبُرَتْ طَلَّقَهَا الزُّبَيْرُ، وَقِيلَ: بَلْ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُهُ: إِنَّ مِثْلِي لَا تُوطَأُ أُمُّهُ. فَطَلَّقَهَا الزُّبَيْرُ، وَقِيلَ: بَلِ اخْتَصَمَتْ هِيَ وَالزُّبَيْرُ، فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِنْ دَخَلْتَ فَهِيَ طَالِقٌ. فَدَخَلْتُ فَبَانَتْ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ عُمِّرَتْ أَسْمَاءُ دَهْرًا صَالِحًا وَأَضَرَّتْ فِي آخِرِ عُمُرِهَا، وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ صَحِيحَةَ الْبَصَرِ، لَمْ يَسْقُطْ لَهَا سِنٌّ، وَأَدْرَكَتْ قَتْلَ وَلَدِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ مَاتَتْ بَعْدَهُ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: بِعَشَرَةٍ. وَقِيلَ: بِعِشْرِينَ. وَقِيلَ: بِبِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ: عَاشَتْ بَعْدَهُ مِائَةَ يَوْمٍ. وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَبَلَغَتْ مِنَ الْعُمُرِ مِائَةَ سَنَةٍ، وَلَمْ يَسْقُطْ لَهَا سِنٌّ، وَلَمْ يُنْكَرْ لَهَا عَقْلٌ، رَحِمَهَا اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهَا، وَقَدْ رَوَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ طَيِّبَةٍ مُبَارَكَةٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَرَحِمَهَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - يَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ - عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْبَصْرَةِ، وَأَضَافَهَا إِلَى أَخِيهِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ مَعَ الْكُوفَةِ، فَارْتَحَلَ إِلَيْهَا بِشْرٌ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ.
وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ الصَّائِفَةَ، فَهَزَمَ الرُّومَ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقْعَةُ عُثْمَانَ بْنِ الْوَلِيدِ بِالرُّومِ، مِنْ نَاحِيَةِ أَرْمِينِيَّةَ، وَهُوَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَالرُّومُ فِي سِتِّينَ أَلْفًا، فَهَزَمَهُمْ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ.
وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ أَيْضًا، وَهُوَ عَلَى

مَكَّةَ وَالْيَمَنِ وَالْيَمَامَةِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ، فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ، وَفِي قَوْلِ غَيْرِهِ: عَلَى الْكُوفَةِ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ. وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ. وَعَلَى إِمْرَةِ خُرَاسَانَ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ، يَعْنِي الَّذِي كَانَ نَائِبًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا غَيْرُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ، وَشَهِدَ الْيَرْمُوكَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْغَزْوِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيُّ
أَبُو مُحَمَّدٍ، لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ.
مَالِكُ بْنُ مِسْمَعِ بْنِ غَسَّانَ الْبَصْرِيُّ
كَانَ شَدِيدَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ.
ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ الْأَنْصَارِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، يُقَالُ

لَهُ: أَبُو زَيْدٍ الْأَشْهَلِيُّ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو قِلَابَةَ، أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ.
زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيَّةُ
رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَدَتْهَا أُمُّهَا بِالْحَبَشَةِ، وَلَهَا رِوَايَةٌ وَصُحْبَةٌ.
تَوْبَةُ بْنُ الْحُمَيِّرِ
وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: مَجْنُونُ لَيْلَى. كَانَ تَوْبَةُ يَشُنُّ الْغَارَاتِ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، فَرَأَى لَيْلَى، فَهَوَاهَا وَتَهَتَّكَ بِهَا، وَهَامَ بِهَا مَحَبَّةً وَعِشْقًا، وَقَالَ فِيهَا الْأَشْعَارَ الْكَثِيرَةَ الْقَوِيَّةَ الرَّائِقَةَ، الَّتِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا، وَلَمْ يُلْحَقْ فِيهَا ; لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَعَانِي وَالْحِكَمِ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ مَرَّةً: هَلْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ لَيْلَى رِيبَةٌ قَطُّ ؟ فَقَالَ: بَرِئْتُ مِنْ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كُنْتُ قَطُّ حَلَلْتُ سَرَاوِيلِي عَلَى مُحَرَّمٍ.
وَقَدْ دَخَلَتْ لَيْلَى عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ تَشْكُو ظُلَامَةً، فَقَالَ لَهَا: مَاذَا رَأَى مِنْكِ تَوْبَةُ حَتَّى عَشِقَكِ هَذَا الْعِشْقَ كُلَّهُ ؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ قَطُّ رِيبَةٌ، وَلَا خَنَا، وَإِنَّمَا الْعَرَبُ تَعْشَقُ وَتَعِفُّ،

وَتَقُولُ الْأَشْعَارَ فِي مَنْ تَهْوَى وَتُحِبُّ، مَعَ الْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ لِأَنْفُسِهَا عَنِ الدَّنَاءَاتِ. فَأَزَالَ ظُلَامَتَهَا وَأَجَازَهَا. تُوُفِّيَ تَوْبَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ لَيْلَى جَاءَتْ إِلَى قَبْرِهِ فَبَكَتْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ
فِيهَا عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ طَارِقَ بْنَ عَمْرٍو عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَأَضَافَهَا إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ، فَقَدِمَهَا الْحَجَّاجُ، فَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا، ثُمَّ خَرَجَ مُعْتَمِرًا، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي صَفَرٍ، فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَبَنَى فِي بَنِي سَلَمَةَ مَسْجِدًا، وَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْيَوْمَ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْحَجَّاجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهَذِهِ الْمُدَّةِ خَتَمَ جَابِرًا، وَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وَقَرَّعَهُمَا ; لِمَ لَا نَصَرَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَخَاطَبَهُمَا خِطَابًا غَلِيظًا - قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ - وَقَدِ اسْتَقْضَى أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ - أَظُنُّهُ - عَلَى الْيَمَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّ الْحَجَّاجَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَعِدَ مِنْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ: يَا أَهْلَ خَبِيثَةَ - يَعْنِي طَيْبَةَ - أَنْتُمْ شَرُّ أُمَّةٍ وَأَخَسُّ، وَلَوْلَا أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْصَانِي بِكُمْ لَجَعَلْتُهَا مِثْلَ جَوْفِ حِمَارٍ، يَا أَهْلَ خَبِيثَةَ، تَمَنَّوْنَ، هَلْ تَعَوَّذُونَ إِلَّا بِأَعْوَادٍ يَابِسَةٍ - يَعْنِي الْمِنْبَرَ - وَرُمَّةٍ بَالِيَةٍ، وَأَشَارَ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَنْصُرَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ ؟ فَقَالَ: قَدْ فَعَلَتُ. فَقَالَ: كَذَبْتَ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَخُتِمَ فِي عُنُقِهِ

بِرَصَاصٍ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ; خَتَمَهُ فِي يَدِهِ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي عُنُقِهِ، وَكَانَ قَصْدُهُ يُذِلُّهُمْ بِذَلِكَ، فَقَالَ أَنَسٌ: إِنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ هَذَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا نَقَضَ الْحَجَّاجُ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ الَّذِي كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَنَاهُ، وَأَعَادَهَا عَلَى بُنْيَانِهَا الْأَوَّلِ.
قُلْتُ: الْحَجَّاجُ لَمْ يَنْقُضْ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ جَمِيعَهُ؛ بَلْ إِنَّمَا هَدَمَ الْحَائِطَ الشَّامِيَّ، حَتَّى أَخْرَجَ الْحِجْرَ مِنَ الْبَيْتِ، ثُمَّ سَدَّهُ، وَأَدْخَلَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ مَا فَضَلَ مِنَ الْأَحْجَارِ، وَبَقِيَتِ الْحِيطَانُ الثَّلَاثَةُ بِحَالِهَا ; وَلِهَذَا بَقِيَ الْبَابَانِ الشَّرْقِيُّ وَالْغَرْبِيُّ وَهُمَا مُلْصَقَانِ بِالْأَرْضِ، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَكِنْ سَدَّ الْغَرْبِيَّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَرَدَمَ أَسْفَلَ الشَّرْقِيِّ، حَتَّى جَعَلَهُ مُرْتَفِعًا كَمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْحَجَّاجَ وَلَا عَبْدَ الْمَلِكِ مَا كَانَ بَلَغَ ابْنَ الزُّبَيْرِ مِنَ الْعِلْمِ النَّبَوِيِّ، الَّذِي كَانَتْ أَخْبَرَتْهُ بِهِ خَالَتُهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ - مِنْ قَوْلِهِ:لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ - وَفِي رِوَايَةٍ: بِجَاهِلِيَّةٍ - لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، وَأَدَخَلْتُ فِيهَا الْحِجْرَ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَلَأَلْصَقْتُهُمَا بِالْأَرْضِ، فَإِنَّ قَوْمَكِ قَصُرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ، فَلَمْ يُدْخِلُوا فِيهَا الْحِجْرَ، وَلَمْ يُتَمِّمُوهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَرَفَعُوا بَابَهَا لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا،

وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا فَلَمَّا تَمَكَّنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَنَاهَا كَذَلِكَ، وَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ الْمَلِكِ هَذَا الْحَدِيثُ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: وَدِدْنَا أَنَا تَرَكْنَاهُ وَمَا تَوَلَّى مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلِيَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ حَرْبَ الْأَزَارِقَةِ عَنْ أَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ لِأَخِيهِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ أَنْ يُجَهِّزَ الْمُهَلَّبَ إِلَى الْخَوَارِجِ الْأَزَارِقَةِ فِي جُيُوشٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَوَجَدَ بِشْرٌ عَلَى الْمُهَلَّبِ فِي نَفْسِهِ، حَيْثُ عَيَّنَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي كِتَابِهِ ; فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ طَاعَتِهِ فِي تَأْمِيرِهِ عَلَى النَّاسِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَمَا كَانَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، غَيْرَ أَنَّهُ أَوْصَى أَمِيرَ الْكُوفِيِّينَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مِخْنَفٍ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِالْأَمْرِ دُونَهُ، وَأَنْ لَا يَقْبَلَ لَهُ رَأْيًا وَلَا مَشُورَةً، فَسَارَ الْمُهَلَّبُ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأُمَرَاءِ الْأَرْبَاعِ مَعَهُ عَلَى مَنَازِلِهِمْ، حَتَّى نَزَلَ بِرَامَهُرْمُزَ، فَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهَا إِلَّا عَشْرًا حَتَّى جَاءَ نَعْيُ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأَنَّهُ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَارْفَضَّ بَعْضُ الْجَيْشِ، وَرَجَعُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَبَعَثُوا فِي آثَارِهِمْ مَنْ يَرُدُّهُمْ، وَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى الْفَارِّينَ يَتَوَعَّدُهُمْ إِنْ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى أَمِيرِهِمْ، وَيَتَوَعَّدُهُمْ بِسَطْوَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَعَدَلُوا يَسْتَأْذِنُونَ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ فِي الْمَصِيرِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ: إِنَّكُمْ تَرَكْتُمْ أَمِيرَكُمْ، وَأَقْبَلْتُمْ عَاصِينَ مُخَالِفِينَ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِذَنٌ وَلَا إِمَامٌ وَلَا أُمَّانٌ. فَلَمَّا جَاءَهُمْ ذَلِكَ، أَقْبَلُوا إِلَى رِحَالِهِمْ فَرَكِبُوهَا، ثُمَّ سَارُوا إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ، فَلَمْ يَزَالُوا مُخْتَفِينَ بِهَا حَتَّى قَدِمَ الْحَجَّاجُ وَالِيًا عَلَى الْعِرَاقِ مَكَانَ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بُكَيْرَ بْنَ وِشَاحٍ التَّمِيمِيَّ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ، وَوَلَّاهَا أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ الْقُرَشِيَّ ; لِيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَإِنَّهُ قَدْ كَادَتِ الْفِتْنَةُ تَتَفَاقَمُ بِخُرَاسَانَ بَعْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، فَلَمَّا قَدِمَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ خُرَاسَانَ عَرَضَ عَلَى بُكَيْرِ بْنِ وِشَاحٍ أَنْ يَكُونَ عَلَى شُرْطَتِهِ، فَأَبَى، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ طُخَارِسْتَانَ، فَخَوَّفُوهُ مِنْهُ أَنْ يَخْلَعَهُ هُنَالِكَ، فَتَرَكَهُ مُقِيمًا عِنْدَهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْحَجَّاجُ، وَهُوَ عَلَى إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْيَمَنِ وَالْيَمَامَةِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ اعْتَمَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَا نَعْلَمُ صِحَّةَ ذَلِكَ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
رَافِعُ بْنُ خَدِيجِ بْنِ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، وَصِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ، وَكَانَ يَتَعَانَى الْمَزَارِعَ وَالْفِلَاحَةَ، تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَأَسْنَدَ ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ حَدِيثًا، وَأَحَادِيثُهُ جَيِّدَةٌ، وَقَدْ أَصَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ سَهْمٌ فِي تَرْقُوَتِهِ، فَخَيَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْهُ وَبَيْنَ أَنْ

يَتْرُكَ فِيهِ الْقُطْبَةَ، وَيَشْهَدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَاخْتَارَ هَذِهِ، وَانْتَقَضَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَمَاتَ مِنْهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ، الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجَيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، مِنْ فُقَهَاءَ الصَّحَابَةِ، اسْتُصْغِرَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَشَاهِدِهِ الْخَنْدَقُ، وَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَرَوَى عَنْهُ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. كَانَ مِنْ نُجَبَاءَ الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ. وَقِيلَ: قَبْلَهَا بِعَشْرِ سِنِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا الْمِقْدَامُ بْنُ دَاوُدَ، ثَنَا خَالِدُ بْنُ نِزَارٍ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبَى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ فَقَالَ: النَّبِيُّونَ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيْ ؟

قَالَ: ثُمَّ الصَّالِحُونَ، إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلَّا السُّتْرَةَ - وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا الْعَبَاءَةَ - أَوْ نَحْوَهَا، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُبْتَلَى فَيَقْمَلُ حَتَّى يَنْبِذَ الْقَمْلَ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ بِالْبَلَاءِ أَشَدَّ فَرَحًا مِنْهُ بِالرَّخَاءِ.
وَقَالَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: ثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ أَهْلَهُ شَكَوْا إِلَيْهِ الْحَاجَةَ، فَخَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ لَهُ شَيْئًا، فَوَافَقَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَقُولُ:أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَغْنُوا عَنِ الْمَسْأَلَةِ ; فَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا رَزَقَ اللَّهُ عَبْدًا مِنْ رِزْقٍ أَوْسَعَ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ، وَلَئِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تَسْأَلُونِي لَأُعْطِيَنَّكُمْ مَا وَجَدْتُ وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبَى سَعِيدٍ نَحْوَهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، الْمَكِّيُّ ثُمَّ الْمَدَنِيُّ
أَسْلَمَ قَدِيمًا مَعَ أَبِيهِ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، وَهَاجَرَ وَعُمْرُهُ عَشْرُ سِنِينَ، وَقَدِ اسْتُصْغِرَ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانَ ابْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ أَجَازَهُ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَشَهِدَهَا وَمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ شَقِيقُ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ،

أُمُّهُمَا زَيْنَبُ بِنْتُ مَظْعُونٍ، أُخْتُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ.
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ، آدَمَ، لَهُ جُمَّةٌ تَضْرِبُ إِلَى مَنْكِبَيْهِ، جَسِيمًا، يَخْضِبُ بِالصُّفْرَةِ، وَيُحْفِي شَارِبَهُ، وَكَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَيُدْخِلُ الْمَاءَ فِي أُصُولِ عَيْنَيْهِ، وَقَدْ أَرَادَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْقَضَاءِ فَأَبَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَبُوهُ، وَشَهِدَ الْيَرْمُوكَ وَالْقَادِسِيَّةَ وَجَلُولَاءَ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ وَقَائِعَ الْفُرْسِ، وَشَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ، وَاخْتَطَّ بِهَا دَارًا، وَقَدِمَ الْبَصْرَةَ وَشَهِدَ غَزْوَ فَارِسَ، وَوَرَدَ الْمَدَائِنَ مِرَارًا، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ إِذَا أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ تَقَرَّبَ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ عَبِيدُهُ قَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ مِنْهُ، فَرُبَّمَا لَزِمَ أَحَدُهُمُ الْمَسْجِدَ ; فَإِذَا رَآهُ ابْنُ عُمَرَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَعْتَقَهُ، فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّهُمْ يَخْدَعُونَكَ. فَيَقُولُ: مَنْ خَدَعَنَا بِاللَّهِ انْخَدَعْنَا لَهُ. وَكَانَ لَهُ جَارِيَةً يُحِبُّهَا كَثِيرًا، فَأَعْتَقَهَا وَزَوَّجَهَا لِمَوْلَاهُ نَافِعٍ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَكَانَ لَهُ نَجِيبٌ اشْتَرَاهُ بِمَالٍ، فَأَعْجَبَهُ لَمَّا رَكِبَهُ، فَقَالَ: يَا نَافِعُ، أَدْخِلْهُ فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ. وَأَعْطَاهُ ابْنُ جَعْفَرٍ فِي نَافِعٍ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَا تَنْتَظِرُ بِبَيْعِهِ ؟ فَقَالَ: مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. وَاشْتَرَى مَرَّةً غُلَامًا بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَأَعْتَقَهُ، فَقَالَ الْغُلَامُ: يَا مَوْلَايَ، قَدْ أَعْتَقْتَنِي فَهَبْ لِي شَيْئًا أَعِيشُ بِهِ. فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَاشْتَرَى مَرَّةً خَمْسَةَ عَبِيدٍ، فَقَامَ يُصَلِّي فَقَامُوا خَلْفَهُ يُصَلُّونَ، فَقَالَ: لِمَنْ صَلَّيْتُمْ هَذِهِ الصَّلَاةَ ؟ فَقَالُوا: لِلَّهِ ! فَقَالَ: أَنْتُمْ أَحْرَارٌ لِمَنْ صَلَّيْتُمْ لَهُ. فَأَعْتَقَهُمْ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ مَا مَاتَ حَتَّى أَعْتَقَ أَلْفَ رَقَبَةٍ، وَرُبَّمَا تَصَدَّقَ

فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَكَانَتْ تَمْضِي عَلَيْهِ الْأَيَّامُ الْكَثِيرَةُ وَالشَّهْرُ لَا يَذُوقُ فِيهِ لَحْمًا، وَمَا كَانَ يَأْكُلُ طَعَامَهُ إِلَّا وَعَلَى مَائِدَتِهِ يَتِيمٌ.
وَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بِمِائَةِ أَلْفٍ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَايِعَ لِيَزِيدَ، فَمَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا، فَمَا رَزَقَنِي اللَّهُ فَلَا أَرُدُّهُ، وَكَانَ فِي مُدَّةِ الْفِتْنَةِ لَا يَأْتِي أَمِيرٌ إِلَّا صَلَّى خَلْفَهُ، وَأَدَّى إِلَيْهِ زَكَاةَ مَالِهِ، وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِمَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَكَانَ يَتَتَبَّعُ آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ مَكَانٍ صَلَّى فِيهِ، أَوْ قَعَدَ فِيهِ، حَتَّى إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَتَعَاهَدُهَا، وَيَصُبُّ فِي أَصْلِهَا الْمَاءَ حَتَّى لَا تَيْبَسَ، وَكَانَ إِذَا فَاتَتْهُ الْعِشَاءُ فِي جَمَاعَةٍ أَحْيَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَكَانَ يَقُومُ أَكْثَرَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ وَهُوَ فِي الْفَضْلِ مِثْلُ أَبِيهِ، وَكَانَ يَوْمَ مَاتَ خَيْرُ مَنْ بَقِيَ، وَمَكَثَ سِتِّينَ سَنَةً يُفْتِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ.
وَرَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، وَرَوَى عَنِ الصِّدِّيقِ، وَعَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَسَعْدٍ، وَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحَفْصَةَ وَعَائِشَةَ أُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ، وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ خَلَقٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ: مِنْهُمْ بَنُوهُ حَمْزَةُ، وَ بِلَالٌ، وَزَيْدٌ، وَسَالِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَعُمَرُ - إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا - وَأَسْلَمُ - مَوْلَى أَبِيهِ - وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ، وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَطَاوُسٌ، وَعُرْوَةُ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَوْلَاهُ نَافِعٌ.

وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ حَفْصَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ ; لَوْ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَكَانَ بَعْدُ يَقُومُ اللَّيْلَ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ مِنْ أَمْلَكِ شَبَابِ قُرَيْشٍ لِنَفْسِهِ عَنِ الدُّنْيَا ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ جَابِرٌ: مَا مِنَّا أَحَدٌ أَدْرَكَ الدُّنْيَا إِلَّا مَالَتْ بِهِ، وَمَالَ بِهَا، إِلَّا ابْنَ عُمَرَ، وَمَا أَصَابَ أَحَدٌ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا إِلَّا نَقَصَ مِنْ دَرَجَاتِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ كَرِيمًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: مَاتَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمَ مَاتَ وَمَا مِنَ الدُّنْيَا أَحَدٌ أَحَبَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يُعْدَلُ بِرَأْيهِ، فَإِنَّهُ أَقَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتِّينَ سَنَةً، فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، وَلَا مَنْ أَمْرِ أَصْحَابِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ مَالِكٌ: بَلَغَ ابْنُ عُمَرَ سِتًّا وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَأَفْتَى فِي الْإِسْلَامِ سِتِّينَ سَنَةً، يَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ النَّاسِ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَجَمَاعَةٌ: تُوُفِّيَ ابْنُ عُمَرَ سَنَةَ أَرْبَعٍ

وَسَبْعِينَ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَآخَرُونَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ. وَالْأَوَّلُ أَثْبَتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَاسْتُخْلِفَ عَلِيٌّ، أَتَاهُ ابْنُ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّكَ مَحْبُوبٌ إِلَى النَّاسِ، فَسِرْ إِلَى الشَّامِ فَقَدْ وَلَّيْتُكَهَا. فَقَالَ: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ وَقَرَابَتِي وَصُحْبَتِي لِرَسُولِ اللَّهِ وَالرَّحِمِ إِلَّا مَا وَلَّيْتَ غَيْرِي وَأَعْفَيْتَنِي. فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاسْتَعَانَ بِحَفْصَةَ أُخْتِهِ فَكَلَّمَتْهُ، ثُمَّ سَارَ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى مَكَّةَ هَارِبًا مِنْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: أَلَا تَخْرُجُ إِلَى الشَّامِ فَيُبَايِعُوكَ ؟ قَالَ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِأَهْلِ الْعِرَاقِ ؟ قَالَ: تُقَاتِلُهُمْ بِأَهْلِ الشَّامِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي مُلْكَ الْأَرْضِ، وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهَمْ بَايَعُونِي، وَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّهَا أَتَتْنِي وَرَجُلٌ يَقُولُ: لَا، وَآخَرُ يَقُولُ: نَعَمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ الْحَجَّاجُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَغَمَّضَ عَيْنَيْهِ، فَكَلَّمَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ.
تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ بَعْدَ مُنْصَرَفِ النَّاسِ مِنَ الْحَجِّ فِي آخِرِ السَّنَةِ، وَعُمْرُهُ أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْمُحَصَّبِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِمَكَّةَ.

وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ: أَبُو بَكْرٍ، وَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَ وَاقِدٌ، وَ عَبْدُ اللَّهِ، وَ عُمَرُ وَحَفْصَةُ وَسَوْدَةُ، أُمُّهُمْ صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي عُبَيْدٍ أُخْتُ الْمُخْتَارِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَ سَالِمٌ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَ حَمْزَةُ، وَأُمُّهُمْ أُمُّ وَلَدٍ، وَزَيْدٌ وَعَائِشَةُ لِأُمِّ وَلَدٍ، وَأَسْنَدَ أَلْفَيْنِ وَسِتَّمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا.
عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ جُنْدَعِ بْنِ لَيْثٍ، اللَّيْثِيُّ ثُمَّ الْجَنْدَعِيُّ، أَبُو عَاصِمٍ الْمَكِّيُّ
قَاصُّ أَهْلِ مَكَّةَ.
قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَرَآهُ أَيْضًا. رَوَى عَنْ أَبِيهِ - وَلَهُ صُحْبَةٌ - وَعَنْ عُمَرَ، وَ عَلِيٍّ، وَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَ ابْنِ عُمَرَ، وَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَغَيْرُهُمْ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَ أَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْلِسُ فِي حَلْقَتِهِ وَيَبْكِي، وَكَانَ يُعْجِبُهُ تَذْكِيرُهُ، وَكَانَ بَلِيغًا، وَكَانَ يَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ الْحَصَى بِدُمُوعِهِ.
قَالَ مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، قَالَ: كَانَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ إِذَا آخَى أَحَدًا فِي اللَّهِ اسْتَقْبَلَ بِهِ الْقِبْلَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا سُعَدَاءَ بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكَ، وَاجْعَلْ مُحَمَّدًا شَهِيدًا عَلَيْنَا بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ سَبَقَتْ لَنَا مِنْكَ الْحُسْنَى، غَيْرَ مُتَطَاوِلٍ عَلَيْنَا الْأَمَدُ، وَلَا قَاسِيَةٍ قُلُوبُنَا وَلَا قَائِلِينَ مَا لَيْسَ لَنَا بِحَقٍّ، وَلَا سَائِلَيْنِ مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ.
وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ مَاتَ قَبْلَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَبُو جُحَيْفَةَ وَهْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّوَائِيُّ
صَحَابِيٌّ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ دُونَ الْبُلُوغِ عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنْ رَوَى عَنْهُ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، وَعَنْ عَلِيٍّ، وَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ ; مِنْهُمْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَالْحَكَمُ، وَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، وَ الشَّعْبِيُّ، وَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَكَانَ قَدْ نَزَلَ الْكُوفَةَ وَابْتَنَى بِهَا دَارًا، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ صَاحِبَ شُرْطَةِ عَلِيٍّ، وَكَانَ عَلِيٌّ إِذَا خَطَبَ يَقُومُ أَبُو جُحَيْفَةَ تَحْتَ مِنْبَرِهِ.

سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيُّ
وَهُوَ أَحَدُ مَنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ الصَّحَابَةِ، وَمِنْ عُلَمَائِهِمْ، كَانَ يُفْتِي بِالْمَدِينَةِ، وَلَهُ مَشَاهِدُ مَعْرُوفَةٌ، فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ سَنَةً.
مَالِكُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ، الْأَصْبَحِيُّ الْمَدَنِيُّ
وَهُوَ جَدُّ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ فَاضِلًا عَالِمًا، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ.
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
مُقْرِئُ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِلَا مُدَافَعَةٍ، وَاسْمُهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ، قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَمِعَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَقْرَأَ النَّاسَ الْقُرْآنَ بِالْكُوفَةِ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ إِلَى إِمْرَةِ الْحَجَّاجِ، قَرَأَ عَلَيْهِ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، وَخَلْقٌ غَيْرُهُ، تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ.
أَبُو مُعْرِضٍ الْأَسَدِيُّ
اسْمُهُ مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيِّ، وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَامْتَدَحَهُ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ وَيُعْرَفُ

بِالْأُقَيْشِرِ، وَكَانَ أَحْمَرَ الْوَجْهِ كَثِيرَ الشَّعْرِ، تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ سَنَةً.
بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ الْأُمَوِيُّ
أَخُو عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَلِي إِمْرَةَ الْعِرَاقَيْنِ لِأَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ عِنْدَ عَقَبَةِ الْكَتَّانِ، وَكَانَ سَمْحًا جَوَادًا، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ دَيْرُ مَرْوَانَ عِنْدَ حَجِيرَا، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ خَالِدَ بْنَ حُصَيْنٍ الْكِلَابِيَّ يَوْمَ مَرْجِ رَاهِطٍ، وَكَانَ لَا تُغْلَقُ دُونَهُ الْأَبْوَابُ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا تَحْتَجِبُ النِّسَاءُ. وَكَانَ طَلِيقَ الْوَجْهِ، وَكَانَ يُجِيزُ عَلَى الشِّعْرِ بِأُلُوفٍ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ الْفَرَزْدَقُ، وَ الْأَخْطَلُ.
وَالْجَهْمِيَّةُ تَسْتَدِلُّ عَلَى الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ بِأَنَّهُ الِاسْتِيلَاءُ بِبَيْتِ الْأَخْطَلِ، فِيمَا مَدَحَ بِهِ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ ; فَإِنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ كَانَ الْأَخْطَلُ نَصْرَانِيًّا.
وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِ بِشْرٍ أَنَّهُ وَقَعَتِ الْقُرْحَةُ فِي يَمِينِهِ. فَقِيلَ لَهُ: نَقْطَعُهَا

مِنَ الْمِفْصَلِ. فَجَزِعَ، فَمَا أَمْسَى حَتَّى خَالَطَتِ الْكَتِفَ، ثُمَّ أَصْبَحَ وَقَدْ خَالَطَتِ الْجَوْفَ، ثُمَّ مَاتَ، وَلَمَّا احْتَضَرَ جَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ عَبْدًا أَرْعَى الْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ وَلَمْ أَلِ مَا وُلِيتُ. فَذُكِرَ قَوْلُهُ لِأَبِي حَازِمٍ - أَوْ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ - فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ يَفِرُّونَ إِلَيْنَا، وَلَمْ يَجْعَلْنَا نَفِرُّ إِلَيْهِمْ، إِنَّا لَنَرَى فِيهِمْ عِبَرًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ يَتَمَلْمَلُ عَلَى سَرِيرِهِ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْهُ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ، وَالْأَطِبَّاءُ حَوْلَهُ.
مَاتَ بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ أَمِيرٍ مَاتَ بِهَا، وَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ الْمَلِكِ مَوْتُهُ حَزِنَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ الشُّعَرَاءَ أَنْ يَرْثُوهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ
فَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ - أَخُو عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَهُوَ وَالِدُ مَرْوَانَ الْحِمَارِ - صَائِفَةَ الرُّومِ حِينَ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ مَرْعَشٍ، وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ نِيَابَةَ الْمَدِينَةِ لِيَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَهُوَ عَمُّهُ، وَعَزَلَ عَنْهَا الْحَجَّاجَ.
وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ نِيَابَةَ الْعِرَاقِ ; الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقَالِيمِ الْكِبَارِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ، فَرَأَى عَبْدَ الْمَلِكِ أَنَّهُ لَا يَسُدُّ عَنْهُ أَهْلَ الْعِرَاقِ غَيْرُ الْحَجَّاجِ ; لِسَطْوَتِهِ وَقَهْرِهِ وَقَسْوَتِهِ وَشَهَامَتِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ بِوِلَايَةِ الْعِرَاقِ، فَسَارَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْعِرَاقِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَاكِبًا عَلَى النَّجَائِبِ، فَنَزَلَ قَرِيبَ الْكُوفَةِ فَاغْتَسَلَ وَاخْتَضَبَ، وَلَبِسَ ثِيَابَهُ، وَتَقَلَّدَ سَيْفَهُ، وَأَلْقَى عَذَبَةَ الْعِمَامَةَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، ثُمَّ سَارَ فَنَزَلَ دَارَ الْإِمَارَةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَقَدْ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ الْأَوَّلُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَأَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ طَوِيلًا، وَقَدْ شَخَصُوا إِلَيْهِ بِأَبْصَارِهِمْ، وَجَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ، وَتَنَاوَلُوا الْحَصَى لِيَقْذِفُوهُ بِهَا، وَقَدْ كَانُوا حَصَبُوا الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، فَلَمَّا سَكَتَ أَبْهَتَهُمْ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَسْمَعُوا كَلَامَهُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ:

يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، يَا أَهْلَ الشِّقَاقِ، وَيَا أَهْلَ النِّفَاقِ وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ أَمْرُكُمْ لَيَهُمُّنِي قَبْلَ أَنْ آتَى إِلَيْكُمْ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَبْتَلِيَكُمْ بِي، فَأَجَابَ دَعْوَتِي، إِلَّا أَنِّي سِرْتُ الْبَارِحَةَ فَسَقَطَ مِنِّي سَوْطِي الَّذِي أُؤْذِيكُمْ بِهِ، فَاتَّخَذْتُ هَذَا مَكَانَهُ - وَأَشَارَ إِلَى سَيْفِهِ - ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَجُرَّنَّهُ فِيكُمْ جَرَّ الْمَرْأَةِ ذَيْلَهَا، وَلَأَفْعَلَنَّ بِكُمْ وَلَأَصْنَعَنَّ، فَلَمَّا سَمِعُوا كَلَامَهُ جَعَلَ الْحَصَى يَتَسَاقَطُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّهُ دَخَلَ الْكُوفَةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظُهْرًا، فَأَتَى الْمَسْجِدَ، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَهُوَ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَةٍ حَمْرَاءَ، مُتَلَثِّمٌ بِطَرَفِهَا، ثُمَّ قَالَ: عَلَيَّ بِالنَّاسِ. فَحَسِبَهُ النَّاسُ وَأَصْحَابَهُ مِنَ الْخَوَارِجِ، فَهَمُّوا بِهِ حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ قَامَ وَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ:
أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَّاعُ الثَّنَايَا مَتَى أَضَعُ الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِي
ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْمِلُ الشَّرَّ بِحَمْلِهِ، وَأَحْذُوهُ بِنَعْلِهِ،

وَأَجْزِيهِ بِمِثْلِهِ، وَإِنِّي لَأَرَى رُءُوسًا قَدْ أَيْنَعَتْ وَحَانَ قِطَافُهَا، وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى الدِّمَاءِ تَتَرَقْرَقُ بَيْنَ الْعَمَائِمِ وَاللِّحَى:
قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا فَشَمِّرِي
ثُمَّ أَنْشَدَ أَيْضًا:
هَذَا أَوَانُ الشَّدِّ فَاشْتَدِّي زِيَمْ قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ
لَسْتُ بِرَاعِي إِبِلٍ وَلَا غَنَمْ وَلَا بِجَزَّارٍ عَلَى ظَهْرِ وَضَمْ
قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِعَصْلَبِيٍّ أَرْوَعَ خَرَّاجٍ مِنَ الدَّوِّيِّ
مُهَاجِرٍ لَيْسَ بِأَعْرَابِيِّ

ثُمَّ قَالَ: إِنِّي يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ مَا أُغْمَزُ بِغِمَازٍ، وَلَا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ، وَلَقَدْ فُرِرْتُ عَنْ ذَكَاءٍ، وَجَرَيْتُ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى، وَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ نَثَرَ كِنَانَتَهُ، ثُمَّ عَجَمَ عِيدَانَهَا عُودًا عُودًا، فَوَجَدَنِي أَمَرَّهَا عُودًا، وَأَصْلَبَهَا مَغْمِزًا، فَوَجَّهَنِي إِلَيْكُمْ، فَإِنَّكُمْ طَالَمَا أَوْضَعْتُمْ فِي أَوْدِيَةِ الْفِتَنِ، وَسَنَنْتُمْ سُنَنَ الْغَيِّ، أَمَا وَاللَّهِ لَأَلْحُوَنَّكُمْ لَحْيَ الْعُودِ، وَلَأَعْصِبَنَّكُمْ عَصْبَ السَّلَمَةِ، وَلَأَضْرِبَنَّكُمْ ضَرْبَ غَرَائِبِ الْإِبِلِ، إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَعِدُ إِلَّا وَفَيْتُ، وَلَا أَخْلُقُ إِلَّا فَرَيْتُ، فَإِيَّايَ وَهَذِهِ الْجَمَاعَاتِ وَقِيلًا وَقَالًا، وَاللَّهِ لَتَسْتَقِيمُنَّ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ، أَوْ لَأَدَعَنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ شُغْلًا فِي جَسَدِهِ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ وَجَدْتُ بَعْدَ ثَالِثَةٍ مِنْ بَعْثِ الْمُهَلَّبِ - يَعْنِي الَّذِينَ كَانُوا قَدْ رَجَعُوا عَنْهُ لَمَّا سَمِعُوا بِمَوْتِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ كَمَا تَقَدَّمَ - سَفَكْتُ دَمَهُ، وَانْتَهَبْتُ مَالَهُ، ثُمَّ نَزَلَ

فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ تَحْتَهُ أَطَالَ السُّكُوتَ، حَتَّى إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَيْرٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى وَأَرَادَ أَنْ يَحْصِبَهُ بِهَا، وَقَالَ: قَبَّحَهُ اللَّهُ، مَا أَعْيَاهُ وَأَذَمَّهُ. فَلَمَّا نَهَضَ الْحَجَّاجُ وَتَكَلَّمَ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ، جَعَلَ الْحَصَى يَتَنَاثَرُ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ ; لِمَا يَرَى مِنْ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ.
وَيُقَالُ: إِنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ هَذِهِ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، إِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ( النَّحْلِ: 112 )، وَأَنْتُمْ أُولَئِكَ، فَاسْتَوْثِقُوا وَاسْتَقِيمُوا، فَوَاللَّهِ لَأُذِيقَنَّكُمُ الْهَوَانَ حَتَّى تَدِرُّوا، وَلَأَعْصِبَنَّكُمْ عَصَبَ السَّلَمَةِ حَتَّى تَنْقَادُوا، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقْبِلُنَّ عَلَى الْإِنْصَافِ، وَلَتَدَعُنَّ الْإِرْجَافَ وَكَانَ وَكَانَ، وَأَخْبَرَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، وَالْخَبَرُ وَمَا الْخَبَرُ، أَوْ لَأَهْبُرَنَّكُمْ بِالسَّيْفِ هَبْرًا يَدَعُ النِّسَاءَ أَيَامَى، وَالْأَوْلَادَ يَتَامَى، حَتَّى تَمْشُوا السُّمَّهَى، وَتُقْلِعُوا عَنْ هَا وَهَا. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ بَلِيغٍ غَرِيبٍ، يَشْتَمِلُ عَلَى وَعِيدٍ شَدِيدٍ، لَيْسَ فِيهِ وَعْدٌ بِخَيْرٍ.

فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ سَمِعَ تَكْبِيرًا فِي السُّوقِ، فَخَرَجَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، يَا أَهْلَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، إِنِّي سَمِعْتُ تَكْبِيرًا فِي الْأَسْوَاقِ، لَيْسَ بِالتَّكْبِيرِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّرْغِيبُ، وَلَكِنَّهُ تَكْبِيرٌ يُرَادُ بِهِ التَّرْهِيبُ، وَقَدْ عَصَفَتْ عَجَاجَةٌ تَحْتَهَا قَصْفٌ، يَا بَنِي اللَّكِيعَةِ، وَعَبِيدَ الْعَصَا، وَأَبْنَاءَ الْإِمَاءِ وَالْأَيَامَى، أَلَا يَرْبَعُ كُلُّ رِجْلٍ مِنْكُمْ عَلَى ظَلْعِهِ، وَيُحْسِنُ حَقْنَ دَمِهِ، وَيُبَصِرُ مَوْضِعَ قَدَمِهِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَأُوشِكُ أَنْ أُوقِعَ بِكُمْ وَقْعَةً تَكُونُ نَكَالًا لِمَا قَبِلَهَا، وَأَدَبًا لِمَا بَعْدَهَا. فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ التَّمِيمِيُّ ثُمَّ الْحَنْظَلِيُّ، قَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، أَنَا فِي هَذَا الْبَعْثِ، وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ وَعَلِيلٌ، وَهَذَا ابْنِي هُوَ أَشِبُّ مِنِّي. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَنَا عُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ التَّمِيمِيُّ. قَالَ: أَسَمِعْتَ كَلَامَنَا بِالْأَمْسِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَسْتَ الَّذِي غَزَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ: كَانَ حَبَسَ أَبِي وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا. قَالَ: أَوَلَيِسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
هَمَمْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ وَوَلَّيْتُ الْبُكَاءَ حَلَائِلَهُ

ثُمَّ قَالَ الْحَجَّاجُ: إِنِّي لَأَحْسَبُ أَنَّ فِي قَتْلِكَ صَلَاحُ الْمِصْرَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: قُمْ إِلَيْهِ يَا حَرَسِيُّ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَانْتَهَبَ مَالَهُ، وَأَمَرَ مُنَادِيًا فِي النَّاسِ: أَلَا إِنَّ عُمَيْرَ بْنَ ضَابِئٍ تَأَخَّرَ بَعْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ ثَلَاثًا، فَأُمِرَ بِقَتْلِهِ.
قَالَ: فَخَرَجَ النَّاسُ حَتَّى ازْدَحَمُوا عَلَى الْجِسْرِ، فَعَبَرَ عَلَيْهِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ مَذْحِجٍ، وَخَرَجَتْ مَعَهُمُ الْعُرَفَاءُ حَتَّى وَصَلُوا بِهِمْ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَأَخَذُوا مِنْهُ كِتَابًا بِوُصُولِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: قَدِمَ الْعِرَاقَ وَاللَّهِ رَجُلٌ ذَكَرٌ، الْيَوْمَ قُوتِلَ الْعَدُوُّ.
وَيُرْوَى أَنَّ الْحَجَّاجُ لَمْ يَعْرِفْ عُمَيْرَ بْنَ ضَابِئٍ حَتَّى قَالَ لَهُ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّ هَذَا جَاءَ إِلَى عُثْمَانَ وَقَدْ قُتِلَ فَلَطَمَ وَجْهَهُ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ عِنْدَ ذَلِكَ بِقَتْلِهِ.
وَبَعَثَ الْحَجَّاجُ الْحَكَمَ بْنَ أَيُّوبَ الثَّقَفِيَّ نَائِبًا عَلَى الْبَصْرَةِ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَدَّ عَلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَقَرَّ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحًا، ثُمَّ رَكِبَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ أَبَا يَعْفُورَ، وَوَلَّى قَضَاءَ الْبَصْرَةِ لِزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكُوفَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَأَقَرَّ عَمَّهُ يَحْيَى عَلَى نِيَابَةِ الْمَدِينَةِ، وَعَلَى بِلَادِ خُرَاسَانَ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ النَّاسُ بِالْبَصْرَةِ عَلَى الْحَجَّاجِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَ مِنْ

الْكُوفَةِ، بَعْدَ قَتْلِ عُمَيْرِ بْنِ ضَابِئٍ، وَقَامَ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِخُطْبَةٍ نَظِيرَ مَا قَامَ فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ الْأَكِيدِ، ثُمَّ أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي يَشْكُرَ، فَقِيلَ: هَذَا عَاصٍ. فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّ بِي فَتْقًا، وَقَدْ عَذَرَنِي بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ، وَهَذَا عَطَائِي مَرْدُودٌ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ، فَفَزِعَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَخَرَجُوا مِنَ الْبَصْرَةِ حَتَّى اجْتَمَعُوا عِنْدَ قَنْطَرَةِ رَامَهُرْمُزَ، وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَارُودِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْحَجَّاجُ - وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - فِي أُمَرَاءِ الْجَيْشِ مِنَ الْمِصْرَيْنِ، فَاقْتَتَلُوا هُنَاكَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَهَزَمَهُمِ الْحَجَّاجُ، وَقَتَلَ أَمِيرَهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْجَارُودِ فِي رُءُوسٍ مِنَ الْقَبَائِلِ مَعَهُ، وَأَمَرَ بِرُءُوسِهِمْ فَنُصِبَتْ عِنْدَ الْجِسْرِ مِنْ رَامْهُرْمُزَ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْمُهَلَّبِ فَقَوِيَ بِذَلِكَ، وَضَعُفَ أَمَرُ الْخَوَارِجِ، وَأَرْسَلَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ فَأَمَرَهُمَا بِمُنَاهَضَةِ الْأَزَارِقَةِ، فَنَهَضَا بِمَنْ مَعَهُمَا إِلَى الْخَوَارِجِ الْأَزَارِقَةِ فَأَجْلَوْهُمْ عَنْ أَمَاكِنِهِمْ مِنْ رَامْهُرْمُزَ بِأَيْسَرِ قِتَالٍ، فَهَرَبُوا إِلَى أَرْضِ كَازَرُونَ مِنْ إِقْلِيمِ سَابُورَ، وَسَارَ النَّاسُ وَرَاءَهُمْ، فَالْتَقَوْا فِي الْعَشْرِ الْآخَرِ مِنْ رَمَضَانَ.
فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ بَيَّتَ الْخَوَارِجُ الْمُهَلَّبَ مِنَ اللَّيْلِ، فَوَجَدُوهُ قَدْ تَحَصَّنَ بِخَنْدَقٍ حَوْلَ مُعَسْكَرِهِ، فَجَاءُوا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ فَوَجَدُوهُ غَيْرَ مُحْتَرِزٍ - وَكَانَ الْمُهَلَّبُ قَدْ أَمَرَهُ بِالِاحْتِرَازِ بِخَنْدَقٍ حَوْلَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ - فَاقْتَتَلُوا فِي اللَّيْلِ، فَقَتَلَتِ الْخَوَارِجُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مِخْنَفٍ وَطَائِفَةً مِنْ جَيْشِهِ، وَهَزَمُوهُمْ هَزِيمَةً مُنْكَرَةً.
وَيُقَالُ: إِنَّ الْخَوَارِجَ لَمَّا الْتَقَوْا مَعَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ كَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِعَشْرٍ بَقِينَ

مِنْ رَمَضَانَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَحَمَلَتِ الْخَوَارِجُ عَلَى جَيْشِ الْمُهَلَّبِ، فَاضْطَرُّوهُ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، فَجَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مِخْنَفٍ يَمُدُّهُ بِالْخَيْلِ بَعْدَ الْخَيْلِ، وَالرِّجَالِ بَعْدَ الرِّجَالِ، فَمَالَتِ الْخَوَارِجُ إِلَى مُعَسْكَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ إِلَى اللَّيْلِ، فَقُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، وَقُتِلَ مَعَهُ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ جَاءَ الْمُهَلَّبُ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِمَهْلِكِهِ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعَزِيهِ فِيهِ، فَنَعَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى النَّاسِ بِمِنًى، وَأَمَّرَ الْحَجَّاجُ مَكَانَهُ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ الْمُهَلَّبَ، فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ طَاعَةِ الْحَجَّاجِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ مُخَالَفَتُهُ، فَسَارَ إِلَى الْمُهَلَّبِ فَجَعَلَ لَا يُطِيعُهُ إِلَّا ظَاهِرًا، وَيَعْصِيهِ كَثِيرًا، ثُمَّ تَقَاوَلَا، فَهَمَّ الْمُهَلَّبُ أَنْ يُوقِعَ بِعَتَّابٍ، ثُمَّ حَجَزَ بَيْنَهُمَا النَّاسُ، فَكَتَبَ عَتَّابُ إِلَى الْحَجَّاجِ يَشْكُو الْمُهَلَّبَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَقَدَمَ عَلَيْهِ، وَأَعْفَاهُ مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْمُهَلَّبُ مَكَانَهُ ابْنَهُ حَبِيبَ بْنَ الْمُهَلَّبِ.
وَفِيهَا خَرَجَ دَاوُدُ بْنُ النُّعْمَانِ الْمَازِنِيُّ بِنَوَاحِي الْبَصْرَةِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ أَمِيرًا عَلَى سِرِّيَّةٍ فَقَتَلَهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَحَرَّكَ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ أَحَدُ بَنِي امْرِئِ الْقَيْسِ، وَكَانَ يَرَى رَأْيَ الصُّفْرِيَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الصُّفْرِيَّةِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَمَعَهُ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ، وَ الْبَطِينُ،

وَأَشْبَاهُهُمْ مِنْ رُءُوسِ الْخَوَارِجِ، وَاتَّفَقَ حَجُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَهَمَّ شَبِيبٌ بِالْفَتْكِ بِهِ، فَبَلَغَ عَبْدَ الْمَلِكِ ذَلِكَ مِنْ خَبَرِهِ، فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الْحَجِّ أَنَّ يَتَطَلَبَهُمْ، وَكَانَ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ هَذَا يُكْثِرُ الدُّخُولَ إِلَى الْكُوفَةِ وَالْإِقَامَةَ بِهَا، وَكَانَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ دَارَا وَأَهْلِ الْمَوْصِلِ يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ وَيُفَقِّهُهُمْ، وَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ مُصْفَرًّا كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، وَكَانَ إِذَا قَصَّ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَحُثُّ عَلَى ذِكْرِ الْمَوْتِ، ثُمَّ يَتَرَحَّمُ عَلَى الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَ عُمَرَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِمَا ثَنَاءً حَسَنًا، وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْكُرُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَسُبُّهُ وَيَنَالُ مِنْهُ، وَيُنْكِرُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَيْهِ وَقَتَلُوهُ مِنْ فَجَرَةِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، ثُمَّ يَحُضُّ أَصْحَابَهُ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَ الْخَوَارِجِ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَلِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ الَّذِي قَدْ شَاعَ فِي النَّاسِ وَذَاعَ، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ، وَيَذُمُّ الدُّنْيَا وَأَمْرَهَا وَيُصَغِّرُهَا، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ الْخَارِجِيُّ يَسْتَبْطِئُهُ فِي الْخُرُوجِ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ، وَيَنْدُبُهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَدِمَ شَبِيبٌ عَلَى صَالِحٍ وَهُوَ بِدَارَا، فَتَوَاعَدُوا وَتُوَافَقُوا عَلَى الْخُرُوجِ فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ - وَهِيَ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ - وَقَدِمَ عَلَى صَالِحٍ شَبِيبٌ، وَأَخُوهُ مُصَادٌ، وَالْمُحَلَّلُ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَامِرٍ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَبْطَالِ وَهُوَ بِدَارَا نَحْوُ

مِائَةٍ وَعَشَرَةِ أَنْفُسٍ، ثُمَّ وَثَبُوا عَلَى خَيْلٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، فَأَخَذُوهَا وَتَقْوَوْا بِهَا، ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمَرِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَكَانَ مِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
فِي قَوْلِ أَبِي مُسْهِرٍ، وَ أَبِي عُبَيْدٍ:
الْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ السُّلَمِيُّ أَبُو نَجِيحٍ
سَكَنَ حِمْصَ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، أَسْلَمَ قَدِيمًا هُوَ وَعَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَنَزَلَ الصُّفَّةَ، وَكَانَ مِنَ الْبَكَّائِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ، كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا أَسْمَاءَهُمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ( التَّوْبَةِ: 92 ).
وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، حَتَّى قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا. قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ، عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ; فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ رَوَاهُ

أَحْمَدُ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَرَوَى أَيْضًا:أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ ثَلَاثًا، وَعَلَى الثَّانِي وَاحِدَةً. وَقَدْ كَانَ الْعِرْبَاضُ شَيْخًا كَبِيرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَدْعُو: اللَّهُمَّ كَبِرَتْ سِنِّي، وَوَهَنَ عَظْمِي، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ. وَرَوَى أَحَادِيثَ.
أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَغَزَا حُنَيْنًا، وَكَانَ مِمَّنْ نَزَلَ الشَّامَ بِدَارَيَّا غَرْبِيِّ دِمَشْقَ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَقِيلَ: بِبَلَاطِ - قَرْيَةٍ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ - فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ، وَاسْمِ أَبِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَالْأَشْهُرُ مِنْهَا: جُرْثُومُ بْنُ نَاشِرٍ.
وَقَدْ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ ; مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَ مَكْحُولٌ الشَّامِيُّ، وَأَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، وَأَبُو قِلَابَةَ الْجَرْمِيُّ.
وَكَانَ مِمَّنْ يُجَالِسُ كَعْبَ الْأَحْبَارِ، وَكَانَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ يَخْرُجُ، فَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَتَفَكَّرُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الْمَنْزِلِ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ

لَا يَخْنُقَنِي اللَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ كَمَا أَرَاكُمْ تَخْتَنِقُونَ. فَبَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ إِذْ قُبِضَتْ رُوحُهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَرَأَتِ ابْنَتُهُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ أَبَاهَا قَدْ مَاتَ، فَانْتَبَهَتْ مَذْعُورَةً، فَقَالَتْ لِأُمِّهَا: أَيْنَ أَبِي ؟ قَالَتْ: هُوَ فِي مُصَلَّاهُ. فَنَادَتْهُ فَلَمْ يُجِبْهَا، فَجَاءَتْهُ فَحَرَّكَتْهُ فَسَقَطَ لِجَنْبِهِ، فَإِذَا هُوَ مَيِّتٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، وَخَلِيفَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: كَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي أَوَّلِ إِمْرَةِ مُعَاوِيَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ:
الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ
صَاحِبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ، مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَمِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ كِبَارِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ مِنْ كَثْرَةِ الصَّوْمِ، وَقَدْ حَجَّ الْبَيْتَ ثَمَانِينَ حَجَّةً وَعُمْرَةً، وَكَانَ يُهِلُّ مِنَ الْكُوفَةِ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ يَصُومُ حَتَّى يَخْضَرَّ وَيَصْفَرَّ، فَلَمَّا احْتَضَرَ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا الْجَزَعُ ؟ فَقَالَ: مَا لِيَ لَا أَجْزَعُ ؟ وَمَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنِّي ؟ وَاللَّهِ لَوْ أُنْبِئْتُ بِالْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ لَأَهَمَّنِي الْحَيَاءُ مِنْهُ مِمَّا قَدْ صَنَعْتُ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّجُلِ الذَّنَبُ الصَّغِيرُ فَيَعْفُو عَنْهُ، فَلَا يَزَالُ مُسْتَحْيِيًا مِنْهُ.

حُمْرَانُ بْنُ أَبَانٍ، مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
كَانَ مِنْ سَبْيِ عَيْنِ التَّمْرِ، اشْتَرَاهُ عُثْمَانُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَأْذَنُ لِلنَّاسِ عَلَى عُثْمَانَ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ
وَكَانَ فِي أَوَّلِهَا فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ مِنْهَا لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ اجْتِمَاعُ صَالِحِ بْنِ مُسَرِّحٍ أَمِيرِ الصُّفْرِيَّةِ، وَشَبِيبِ بْنِ يَزِيدَ أَحَدِ شُجْعَانِ الْخَوَارِجِ، فَقَامَ فِيهِمْ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ، فَأَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَأَنْ لَا يُقَاتِلُوا أَحَدًا حَتَّى يَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُمْ.
ثُمَّ مَالُوا إِلَى دَوَابِّ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، نَائِبِ الْجَزِيرَةِ لِأَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَخَذُوهَا فَتَقْوَوْا بِهَا، وَأَقَامُوا بِأَرْضِ دَارَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَتَحَصَّنَ مِنْهُمْ أَهْلُ دَارَا وَنَصِيبِينَ وَسِنْجَارَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ نَائِبُ الْجَزِيرَةِ خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ، عَلَيْهِمْ عَدِيُّ بْنُ عَدِيِّ بْنِ عُمَيْرَةَ، ثُمَّ زَادَهُ خَمْسَمِائَةٍ أُخْرَى، فَسَارَ فِي أَلْفٍ مِنْ حَرَّانَ إِلَيْهِمْ، وَكَأَنَّمَا يُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ وَهُوَ يَنْظُرُ ; لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَلَدِ الْخَوَارِجِ وَقُوَّتِهِمْ وَشِدَّةِ بِأَسِهِمْ، فَلَمَّا الْتَقَى مَعَ الْخَوَارِجِ هَزَمُوهُ هَزِيمَةً شَنِيعَةً بَالِغَةً، وَاحْتَوَوْا عَلَى مَا فِي مُعَسْكَرِهِ، وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى

مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ فَغَضِبَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ جَعْوَنَةَ، وَأَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ مَعَ خَالِدِ بْنِ جَزْءٍ السُّلَمِيِّ، وَقَالَ لَهُمَا: أَيُّكُمَا سَبَقَ إِلَيْهِمْ فَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ. فَسَارُوا إِلَيْهِمْ فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَالْخَوَارِجُ فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَةِ نَفْسٍ، وَعَشَرَةِ أَنْفُسٍ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى آمِدَ تَوَجَّهَ صَالِحٌ إِلَى خَالِدِ بْنِ جَزْءٍ فِي شَطْرِ النَّاسِ، وَوَجَّهَ شَبِيبًا إِلَى الْحَارِثِ بْنِ جَعْوَنَةَ فِي الْبَاقِينَ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ فِي هَذَا الْيَوْمِ قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ انْكَفَّ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْخَوَارِجِ نَحْوَ السَّبْعِينَ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَرْوَانَ نَحْوَ الثَّلَاثِينَ، وَهَرَبَتِ الْخَوَارِجُ فِي اللَّيْلِ، فَخَرَجُوا مِنَ الْجَزِيرَةِ، وَأَخَذُوا فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ، وَمَضَوْا حَتَّى قَطَعُوا الدَّسْكَرَةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمِ الْحَجَّاجُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرَةَ، فَسَارَ نَحْوَهُمْ حَتَّى لَحِقَهُمْ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ، وَلَيْسَ مَعَ صَالِحٍ سِوَى تِسْعِينَ رَجُلًا، فَالْتَقَى مَعَهُمْ،

وَقَدْ جَعَلَ صَالِحٌ أَصْحَابَهُ ثَلَاثَةَ كَرَادِيسَ ; فَهُوَ فِي كُرْدُوسٍ، وَشَبِيبٌ عَنْ يَمِينِهِ فِي كُرْدُوسٍ، وَسُوَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ يَسَارِهِ فِي كُرْدُوسٍ، وَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرَةَ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ أَبُو الرَّوَّاغِ الشَّاكِرِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْأَرْوَحِ التَّمِيمِيُّ، فَصَبَرَتِ الْخَوَارِجُ عَلَى قِلَّتِهِمْ صَبْرًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْكَشَفَ وَسُوَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ قُتِلَ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ أَمِيرُهُمْ، وَصُرِعَ شَبِيبٌ عَنْ فَرَسِهِ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْخَوَارِجَ حَتَّى احْتَمَلُوهُ، فَدَخَلُوا بِهِ حِصْنًا هُنَالِكَ، وَقَدْ بَقِيَ مَعَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، فَأَحَاطَ بِهِمُ الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرَةَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْرِقُوا الْبَابَ، فَفَعَلُوا، وَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ يَنْتَظِرُونَ حَرِيقَ الْبَابَ، فَيَأْخُذُونَ الْخَوَارِجَ قَهْرًا، فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ وَاطْمَأَنُّوا خَرَجَتْ عَلَيْهِمُ الْخَوَارِجُ مِنَ الْبَابِ عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ، فَبَيَّتُوا جَيْشَ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرَةَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَهَرَبَ النَّاسُ سِرَاعًا إِلَى الْمَدَائِنِ، وَاحْتَازَ شَبِيبٌ وَأَصْحَابُهُ مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ، فَكَانَ جَيْشُ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرَةَ أَوَّلَ جَيْشٍ هَزَمَهُ شَبِيبٌ، وَكَانَ مَقْتَلُ صَالِحِ بْنِ مُسَرِّحٍ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا دَخَلَ شَبِيبٌ الْكُوفَةَ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ غَزَالَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ شَبِيبًا جَرَتْ لَهُ

فُصُولٌ يَطُولُ تَفْصِيلُهَا بَعْدَ مَقْتَلِ صَالِحِ بْنِ مُسَرِّحٍ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْخَوَارِجُ وَبَايَعُوهُ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ جَيْشًا آخَرَ، فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمُوهُ ثُمَّ هَزَمَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَارَ فَحَاصَرَ الْمَدَائِنَ، فَلَمْ يَنَلْ مِنْهَا شَيْئًا، فَسَارَ فَأَخَذَ دَوَابَّ لِلْحَجَّاجِ مِنْ كَلْوَاذَا، وَمِنْ عَزْمِهِ أَنْ يُبَيِّتَ أَهْلَ الْمَدَائِنِ، فَهَرَبَ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجُنْدِ إِلَى الْكُوفَةِ فَلَمَّا وَصَلَ الْفَلُّ إِلَى الْحَجَّاجِ جَهَّزَ جَيْشًا أَرْبَعَةَ آلَافِ مُقَاتِلٍ إِلَى شَبِيبٍ، فَمَرُّوا عَلَى الْمَدَائِنِ، ثُمَّ سَارُوا فِي طَلَبِ شَبِيبٍ، فَجَعَلَ شَبِيبٌ يَسِيرُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَهُوَ يُرِيهِمْ أَنَّهُ خَائِفٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ يَكُرُّ فِي كُلِّ وَقْتٍ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ فَيَكْسِرُهَا، وَيَنْهَبُ مَا فِيهَا، وَلَا يُوَاجِهُ أَحَدًا إِلَّا هَزَمَهُ، وَالْحَجَّاجُ يُلِحُّ فِي طَلَبِهِ، وَيُجَهِّزُ إِلَيْهِ السَّرَايَا وَالْبُعُوثَ وَالْمَدَدَ، وَشَبِيبٌ لَا يُبَالِي بِأَحَدٍ، وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِائَةٌ وَسِتُّونَ فَارِسًا، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ، ثُمَّ سَارَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى حَتَّى وَاجَهَ الْكُوفَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُحَاصِرَهَا، فَخَرَجَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ إِلَى السَّبَخَةِ لِقِتَالِهِ، وَبِلَغَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يُبَالِ بِهِمْ، وَانْزَعَجَ النَّاسُ، وَخَافُوا مِنْهُ وَفَرِقُوا، وَهَمُّوا أَنْ يَدْخُلُوا الْكُوفَةَ خَوْفًا مِنْهُ، فَيَتَحَصَّنُوا فِيهَا مِنْهُ، حَتَّى قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي آثَارِهِمْ، وَقَدِ اقْتَرَبَ مِنْهُمْ، وَشَبِيبٌ نَازِلٌ بِالْكُوفَةِ بِالدَّيْرِ، لَيْسَ عِنْدَهُ خَبَرٌ مِنْهُمْ وَلَا خَوْفٌ، وَقَدْ أَمَرَ بِطَعَامٍ وَشِوَاءٍ أَنْ يُصْنَعَ لَهُ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ جَاءَكَ الْجُنْدُ فَأَدْرِكْ نَفْسَكَ. فَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى ذَلِكَ وَلَا يَكْتَرِثُ بِهِمْ، وَيَقُولُ لِلدِّهْقَانِ

الَّذِي يَصْنَعُ لَهُ الطَّعَامَ: عَجِّلْ بِهِ. فَلَمَّا اسْتَوَى أَكَلَهُ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةً تَامَّةً بِتَطْوِيلٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، ثُمَّ لَبِسَ دِرْعَهُ، وَتَقَلَّدَ سَيْفَيْنِ، وَأَخَذَ عَمُودَ حَدِيدٍ، ثُمَّ قَالَ: أَسْرِجُوا لِي الْبَغْلَةَ. فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ مُصَادٌ: أَفِي هَذَا الْيَوْمِ تَرْكَبُ بَغْلَةً، وَقَدْ أَحَاطَ بِكَ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَرَكِبَهَا، ثُمَّ فَتَحَ بَابَ الدَّيْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا أَبُو الْمُدَلَّهِ، لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى أَمِيرِ الْجَيْشِ الَّذِي تَقَدَّمُوا إِلَيْهِ، فَضَرَبَهُ بِالْعَمُودِ الْحَدِيدِ فَقَتَلَهُ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ الْمُجَالِدِ، وَحَمَلَ عَلَى الْجَيْشِ الْآخَرِ الْكَثِيفِ فَصَرَعَ أَمِيرَهُ، وَهَرَبَ النَّاسُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَجَئُوا إِلَى الْكُوفَةِ، وَمَضَى شَبِيبٌ حَتَّى أَغَارَ عَلَى أَسْفَلِ الْفُرَاتِ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً هُنَاكَ، وَخَرَجَ الْحَجَّاجُ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، ثُمَّ اقْتَرَبَ شَبِيبٌ مِنَ الْكُوفَةِ يُرِيدُ دُخُولَهَا، فَأَعْلَمَ الدَّهَاقِينُ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَأَسْرَعَ الْحَجَّاجُ الْخُرُوجَ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَقَصَدَ الْكُوفَةَ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ، وَبَادَرَهُ شَبِيبٌ إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَبَقَهُ الْحَجَّاجُ إِلَيْهَا، فَدَخَلَهَا الْعَصْرَ، وَوَصَلَ شَبِيبٌ إِلَى الْمِرْبَدِ عِنْدَ الْغُرُوبِ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ دَخَلَ شَبِيبٌ الْكُوفَةَ، وَقَصَدَ

قَصْرَ الْإِمَارَةِ، فَضَرَبَ بَابَهُ بِعَمُودِهِ الْحَدِيدِ، فَأَثَّرَتْ ضَرْبَتُهُ فِي الْبَابِ، فَكَانَتْ تُعْرَفُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ يُقَالُ: هَذِهِ ضَرْبَةُ شَبِيبٍ، وَسَلَكَ فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ، وَتَقَصَّدَ مَحَالَّ الْقَبَائِلِ، وَقَتَلَ رِجَالًا مِنْ رُؤَسَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَشْرَافِهِمْ، مِنْهُمْ أَبُو سُلَيْمٍ وَالِدُ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، وَعَدِيُّ بْنِ عَمْرٍو، وَأَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ، فِي طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ مَعَ شَبِيبٍ امْرَأَتُهُ غَزَالَةُ، وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً بِالشَّجَاعَةِ، فَدَخَلَتْ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ، وَجَلَسَتْ عَلَى مِنْبَرِهِ، وَجَعَلَتْ تَذُمُّ بَنِي مَرْوَانَ.
وَنَادَى الْحَجَّاجُ فِي النَّاسِ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي وَأَبْشِرِي. فَخَرَجَ شَبِيبٌ مِنَ الْكُوفَةِ، فَجَهَّزَ الْحَجَّاجُ فِي أَثَرِهِ سِتَّةَ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَسَارُوا وَرَاءَهُ، وَهُوَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، يَنْعَسُ وَيَهُزُّ رَأْسَهُ، وَفِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ يَكُرُّ عَلَيْهِمْ شَبِيبٌ، فَيَقْتُلُ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، حَتَّى قَتَلَ مَنْ جَيْشِ الْحَجَّاجِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ، مِنْهُمْ: زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ - قَتَلَهُ شَبِيبٌ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الْمُخْتَارِ - فَوَجَّهَ الْحَجَّاجُ مَكَانَهُ لِحَرْبِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَلَمْ يُقَابِلْ شَبِيبًا وَرَجَعَ، فَوَجَّهَ مَكَانَهُ عُثْمَانَ بْنَ قَطَنٍ الْحَارِثِيَّ، فَالْتَقَوْا فِي آخِرِ السَّنَةِ، فَقُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ قَطَنٍ، وَانْهَزَمَتْ جُمُوعُهُ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ سِتُّمِائَةِ نَفْسٍ، فَمِنْ أَعْيَانِهِمْ عَقِيلُ بْنُ شَدَّادٍ السَّلُولِيُّ،

وَخَالِدُ بْنُ نَهِيكٍ الْكِنْدِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ رَبِيعَةَ.
وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ شَبِيبٍ، وَتَزَلْزَلَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَ الْحَجَّاجُ، وَسَائِرُ الْأُمَرَاءِ، وَخَافَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْهُ خَوْفًا شَدِيدًا، فَبَعَثَ لَهُ جَيْشًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَقَدِمُوا فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَإِنَّ مَا مَعَ شَبِيبٍ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ، وَقَدْ مَلَأَ قُلُوبَ النَّاسِ رُعْبًا، وَجَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ لَهُ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَدَأْبَهُمْ حَتَّى اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ نَقَشَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَقَشَهَا.
وَقَالَ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ ": اخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ ضَرَبَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ ; فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ الدَّرَاهِمَ الْمَنْقُوشَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَكَانَتِ الدَّنَانِيرُ رُومِيَّةٌ، وَالدَّرَاهِمُ كِسْرَوِيَّةٌ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ وَكَانَ نَقْشُهُ لَهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ. وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: خَمْسٍ وَسَبْعِينَ. وَضُرِبَتْ فِي الْآفَاقِ سَنَةَ سِتَّةٍ وَسَبْعِينَ. وَذَكَرَ أَنَّهُ ضُرِبَ عَلَى الْجَانِبِ الْوَاحِدِ مِنْهَا " اللَّهُ أَحَدٌ "، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ " اللَّهُ

الصَّمَدُ "، قَالَ: وَحَكَى يَحْيَى بْنُ النُّعْمَانِ الْغِفَارِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ الدَّرَاهِمَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَمْرِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، سَنَةَ سَبْعِينَ، عَلَى ضَرْبِ الْأَكَاسِرَةِ، وَعَلَيْهَا " الْمُلْكُ بَرَكَةٌ " مِنْ جَانِبٍ، وَ " لِلَّهِ " مِنْ جَانِبٍ، ثُمَّ غَيَّرَهَا الْحَجَّاجُ، وَكَتَبَ اسْمَهُ عَلَيْهَا مِنْ جَانِبٍ، ثُمَّ خَلَّصَهَا بَعْدَهُ يُوسُفُ بْنُ هُبَيْرَةَ فِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ خَلَّصَهَا أَجْوَدَ مِنْهَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ فِي أَيَّامِ هِشَامٍ، ثُمَّ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ أَجْوَدَ مِنْهُمْ كُلِّهِمْ. وَلِذَلِكَ كَانَ الْمَنْصُورُ لَا يَقْبَلُ مِنْهَا إِلَّا الْهُبَيْرِيَّةَ وَالْخَالِدِيَّةَ وَالْيُوسُفِيَّةَ.
وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِلنَّاسِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ، مِنْهَا الدِّرْهَمُ الْبَغْلِيُّ، وَكَانَ ثَمَانِيَةَ دَوَانِقَ، وَالطَّبَرِيُّ وَكَانَ أَرْبَعَةَ دَوَانِقَ، وَالْمِصْرِيُّ ثَلَاثَةَ دَوَانِقَ، وَالْيَمَنِيُّ دَانَقًا، فَجَمَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَ الْبَغْلِيِّ وَالطَّبَرِيِّ، ثُمَّ أَخَذَ نِصْفَهَا فَجَعَلَهُ الدِّرْهَمَ الشَّرْعِيَّ، وَهُوَ نِصْفُ مِثْقَالٍ وَخُمْسُ مِثْقَالٍ، وَذَكَرُوا أَنَّ الْمِثْقَالَ لَمْ يُغَيِّرُوا وَزْنَهُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا وُلِدَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَهُوَ مَرْوَانُ

الْحِمَارُ، آخِرُ مَنْ تَوَلَّى الْخِلَافَةَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بِالشَّامِ، وَمِنْهُ أَخَذَهَا بَنُو الْعَبَّاسِ.
وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ نِيَابَةَ الْمَدِينَةِ لَأَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، وَعَزَلَ عَنْهَا يَحْيَى بْنَ مَرْوَانَ عَمَّهُ، وَاسْتَدْعَاهُ إِلَى الشَّامِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ نَائِبَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى إِمْرَةِ الْعِرَاقِ الْحَجَّاجُ، وَعَلَى خُرَاسَانَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ الْقُضَاعِيُّ
اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلَّ، أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَزَا جَلُولَاءَ وَالْقَادِسِيَّةَ وَتُسْتَرَ وَنَهَاوَنْدَ وَأَذْرَبِيجَانَ وَغَيْرَهَا، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، زَاهِدًا عَالِمًا، يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ، تُوُفِّيَ وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً بِالْكُوفَةِ.
صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ الْعَدَوِيُّ
مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ ذَا فَضْلٍ وَوَرَعٍ وَعِبَادَةٍ وَزُهْدٍ، كُنْيَتُهُ أَبُو الصَّهْبَاءِ، كَانَ يُصَلِّي حَتَّى مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ الْفِرَاشَ إِلَّا حَبْوًا، وَلَهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَمُرُّ عَلَيْهِ شَبَابٌ يَلْهُونَ

وَيَلْعَبُونَ، فَيَقُولُ: أَخْبِرُونِي عَنْ قَوْمٍ أَرَادُوا سَفَرًا، فَحَادُوا فِي النَّهَارِ عَنِ الطَّرِيقِ، وَنَامُوا اللَّيْلَ، فَمَتَى يَقْطَعُونَ سَفَرَهُمْ ؟ فَقَالَ لَهُمْ يَوْمًا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَقَالَ شَابٌّ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ يَا قَوْمِ إِنَّهُ مَا يَعْنِي بِهَذَا غَيْرَنَا، نَحْنُ بِالنَّهَارِ نَلْهُو وَبِاللَّيْلِ نَنَامُ. ثُمَّ تَبِعَ صِلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَعَبَّدُ مَعَهُ حَتَّى مَاتَ، وَمَرَّ عَلَيْهِ فَتًى يَجُرُّ ثَوْبَهُ، فَهَمَّ أَصْحَابُهُ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَقَالَ: دَعُونِي أَكْفِكُمْ أَمْرَهُ. ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ: يَابْنَ أَخَى، لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ. قَالَ: وَمَا حَاجَتُكَ ؟ قَالَ: أَنْ تَرَفَعَ إِزَارَكَ. قَالَ: نَعَمْ، وَنِعْمَتْ عَيْنٌ. فَرَفَعَ إِزَارَهُ، فَقَالَ صِلَةُ: هَذَا أَمْثَلُ مِمَّا أَرَدْتُمْ، لَوْ شَتَمْتُمُوهُ لَشَتَمَكُمْ.
وَمِنْهَا مَا حَكَاهُ جَعْفَرُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي غَزَاةٍ، وَفَى الْجَيْشِ صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ، فَنَزَلَ النَّاسُ عِنْدَ الْعَتَمَةِ، فَقُلْتُ: لَأَرْمُقَنَّ عَمَلَهُ اللَّيْلَةَ. فَدَخَلَ غَيْضَةً، وَدَخَلْتُ فِي أَثَرِهِ، فَقَامَ يُصَلِّي، وَجَاءَ الْأَسَدُ حَتَّى دَنَا مِنْهُ، وَصَعِدْتُ أَنَا فِي شَجَرَةٍ. قَالَ: فَتُرَاهُ الْتَفَتَ، أَوْ عَدَّهُ جِرْوًا حَتَّى سَجَدَ ؟ فَقُلْتُ: الْآنَ يَفْتَرِسُهُ. فَجَلَسَ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَالَ: أَيُّهَا السَّبْعُ، إِنْ كُنْتَ أُمِرْتَ بِشَيْءٍ فَافْعَلْ، وَإِلَّا فَاطْلُبِ الرِّزْقَ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ. فَوَلَّى الْأَسَدُ وَإِنَّ لَهُ لَزَئِيرًا تَصَّدَّعُ مِنْهُ الْجِبَالُ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصَّبَاحِ جَلَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ بِمَحَامِدَ لَمْ أَسْمَعْ بِمِثْلِهَا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تُجِيرَنِي مِنَ النَّارِ، أَوَ مِثْلِي يَجْتَرِئُ أَنْ يَسْأَلَكَ الْجَنَّةَ ؟ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْجَيْشِ، فَأَصْبَحَ كَأَنَّهُ بَاتَ عَلَى الْحَشَايَا، وَأَصْبَحْتُ وَبِي مِنَ الْفَتْرَةِ شَيْءٌ اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ.
قَالَ: وَذَهَبَتْ بِغْلَتُهُ بِثِقَلِهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ بَغْلَتِي

بِثِقَلِهَا. فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: فَلَمَّا الْتَقَيْنَا الْعَدُوَّ حَمَلَ هُوَ وَهِشَامُ بْنُ عَامِرٍ، فَصَنَعَا بِهِمْ طَعْنًا وَضَرْبًا، فَقَالَ الْعَدُوُّ: رَجُلَانِ مِنَ الْعَرَبِ صَنَعَا بِنَا هَذَا؛ فَكَيْفَ لَوْ قَاتَلُونَا كُلُّهُمْ ؟ أَعْطُوا الْمُسْلِمِينَ حَاجَتَهُمْ. يَعْنِي انْزِلُوا عَلَى حُكْمِهِمْ.
وَقَالَ صِلَةُ: جُعْتُ مَرَّةً فِي غَزَاةٍ جَوْعًا شَدِيدًا، فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ أَدْعُو رَبِّي وَأَسْتَطْعِمُهُ، إِذْ سَمِعْتُ وَجْبَةً مِنْ خَلْفِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِمِنْدِيلٍ أَبْيَضَ، فَإِذَا فِيهِ دَوْخَلَةٌ مَلْآنَةٌ رُطَبًا، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى شَبِعْتُ، وَأَدْرَكَنِي الْمَسَاءُ، فَمِلْتُ إِلَى دَيْرِ رَاهِبٍ فَحَدَّثْتُهُ الْحَدِيثَ، فَاسْتَطْعَمَنِي مِنَ الرُّطَبِ فَأَطْعَمْتُهُ، ثُمَّ إِنِّي مَرَرْتُ عَلَى ذَلِكَ الرَّاهِبِ بَعْدَ زَمَانٍ فَإِذَا نَخَلَاتٌ حِسَانٌ، فَقَالَ: إِنَّهُنَّ لَمِنَ الرُّطَبَاتِ الَّتِي أَطْعَمْتَنِي. وَجَاءَ بِذَلِكَ الْمِنْدِيلِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَكَانَتْ تُرِيهُ لِلنَّاسِ.
وَلَمَّا أُهْدِيَتْ مُعَاذَةُ إِلَى صِلَةَ، أَدْخَلَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَمَّامَ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ بَيْتَ الْعَرُوسِ ; بَيْتًا مُطَيَّبًا، فَقَامَ يُصَلِّي، فَقَامَتْ تُصَلِّي مَعَهُ، فَلَمْ يَزَالَا يُصَلِّيَانِ حَتَّى بَرَقَ الصُّبْحُ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْ عَمِّ، أَهْدَيْتُ إِلَيْكَ ابْنَةَ عَمِّكَ اللَّيْلَةَ، فَقُمْتَ تُصَلِّي وَتَرَكْتَهَا. قَالَ: إِنَّكَ أَدَخَلْتَنِي بَيْتًا أَوَّلَ النَّهَارِ أَذْكَرْتَنِي بِهِ النَّارَ، وَأَدْخَلْتَنِي بَيْتًا آخِرَ النَّهَارِ أَذْكَرْتَنِي بِهِ الْجَنَّةَ، فَلَمْ تَزَلْ فِكْرَتِي فِيهِمَا حَتَّى أَصْبَحْتُ. الْبَيْتُ الَّذِي أَذْكَرَهُ بِهِ النَّارَ هُوَ الْحَمَّامُ، وَالْبَيْتُ الَّذِي أَذْكَرَهُ بِهِ الْجَنَّةَ هُوَ بَيْتُ الْعَرُوسِ.

وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ادْعُ اللَّهَ لِي. فَقَالَ: رَغَّبَكَ اللَّهُ فِيمَا يَبْقَى، وَزَهَّدَكَ فِيمَا يَفْنَى، وَرَزَقَكَ الْيَقِينَ الَّذِي لَا تَرْكَنُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا تُعَوِّلُ فِي الدِّينِ إِلَّا عَلَيْهِ. وَكَانَ صِلَةُ فِي غَزَاةٍ، وَمَعَهُ ابْنُهُ، فَقَالَ لَهُ: أَيْ بُنَيَّ، تَقَدَّمْ فَقَاتِلْ حَتَّى أَحْتَسِبَكَ. فَحَمَلَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ صِلَةُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ عِنْدَ امْرَأَتِهِ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ، فَقَالَتْ: إِنْ كُنْتُنَّ جِئْتُنَّ لِتُهَنِّئْنَنِي فَمَرْحَبًا بِكُنَّ، وَإِنْ كُنْتُنَّ جِئْتُنَّ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَارْجِعْنَ.
تُوُفِّيَ صِلَةُ فِي غَزَاةٍ هُوَ وَابْنُهُ نَحْوَ بِلَادِ فَارِسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
زُهَيْرُ بْنُ قَيْسٍ الْبَلَوِيُّ
شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ وَسَكَنَهَا، لَهُ صُحْبَةٌ، قَتَلَتْهُ الرُّومُ بِبَرْقَةَ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّرِيخَ أَتَى الْحَاكِمَ بِمِصْرَ - وَهُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ - أَنَّ الرُّومَ نَزَلُوا بَرْقَةَ، فَأَمَرَهُ بِالنُّهُوضِ إِلَيْهِمْ، فَسَاقَ زُهَيْرٌ وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ نَفْسًا، فَوَجَدَ الرُّومَ، فَأَرَادَ أَنْ يَكُفَّ عَنِ الْقِتَالِ حَتَّى يَلْحَقَهُ الْعَسْكَرُ، فَقَالُوا: يَا أَبَا شَدَّادٍ، احْمِلْ بِنَا عَلَيْهِمْ. فَحَمَلُوا، فَقُتِلُوا جَمِيعًا.
الْمُنْذِرُ بْنُ الْجَارُودِ
مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. تَوَلَّى بَيْتَ الْمَالِ، وَوَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ
فِيهَا أَخْرَجَ الْحَجَّاجُ مُقَاتِلَةَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَانْضَافَ عَلَيْهِمْ عَشَرَةُ آلَافٍ، فَصَارُوا خَمْسِينَ أَلْفًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ لِشَبِيبِ بْنِ يَزِيدَ أَيْنَ كَانَ، وَأَنْ يُصَمِّمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ مَعَهُ، وَكَانُوا قَدْ تَجَمَّعُوا أَلْفَ رَجُلٍ، وَأَنْ لَا يَفْعَلُوا كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ قَبْلَهَا مِنَ الْفِرَارِ وَالْهَزِيمَةِ.
وَلَمَّا بَلَغَ شَبِيبًا مَا بَعَثَ بِهِ الْحَجَّاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْجُنُودِ، لَمْ يَعْبَأْ بِهِمْ شَيْئًا، بَلْ قَامَ فِي أَصْحَابِهِ خَطِيبًا، فَوَعَظَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَمُنَاجَزَةِ الْأَعْدَاءِ، ثُمَّ سَارَ شَبِيبٌ بِأَصْحَابِهِ نَحْوَ عَتَّابِ بْنِ وَرْقَاءَ، فَالْتَقَيَا فِي آخِرِ النَّهَارِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأَمَرَ شَبِيبٌ مُؤَذِّنَهُ سَلَّامَ بْنَ سَيَّارٍ الشَّيْبَانِيَّ فَأَذَّنَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ صَلَّى شَبِيبٌ بِأَصْحَابِهِ الْمَغْرِبَ، وَصَفَّ عَتَّابٌ أَصْحَابَهُ - وَكَانَ قَدْ خَنْدَقَ حَوْلَ جَيْشِهِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ - فَلَمَّا صَلَّى شَبِيبٌ بِأَصْحَابِهِ الْمَغْرِبَ انْتَظَرَ حَتَّى طَلَعَ الْقَمَرُ وَأَضَاءَ، تَأَمَّلَ الْمَيْمَنَةَ وَالْمَيْسَرَةَ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى أَصْحَابِ رَايَاتِ عَتَّابٍ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا شَبِيبٌ أَبُو الْمُدَلَّهِ، لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ. فَهَزَمَهُمْ، وَقُتِلَ أَمِيرُهُمْ قَبِيصَةُ بْنُ وَالِقٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ مَعَهُ، ثُمَّ كَرَّ عَلَى الْمَيْمَنَةِ وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ، فَفَرَّقَ شَمْلَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ قَصَدَ الْقَلْبَ، فَمَا زَالَ حَتَّى قُتِلَ الْأَمِيرُ عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ،

وَزَهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ، وَوَلَّى عَامَّةُ الْجَيْشِ مُدْبِرِينَ، وَدَاسُوا الْأَمِيرَ عَتَّابًا، وَزَهْرَةُ، فَوَطِئَتْهُ الْخَيْلُ، وَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ عَمَّارُ بْنُ يَزِيدَ الْكَلْبِيُّ، ثُمَّ قَالَ شَبِيبٌ لِأَصْحَابِهِ: لَا تَتَبَّعُوا مُنْهَزِمًا. وَانْهَزَمَ جَيْشُ الْحَجَّاجِ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ رَاجِعِينَ إِلَى الْكُوفَةِ.
وَكَانَ شَبِيبٌ لَمَّا احْتَوَى عَلَى الْمُعَسْكَرِ أَخَذَ مِمَّنْ بَقِيَ مِنْهُمُ الْبَيْعَةَ لَهُ بِالْإِمَارَةِ وَقَالَ لَهُمْ: إِلَى سَاعَةٍ تَهْرُبُونَ ؟ ثُمَّ احْتَوَى عَلَى مَا فِي الْمُعَسْكَرِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ، وَاسْتَدْعَى بِأَخِيهِ مُصَادٍ مِنَ الْمَدَائِنِ، ثُمَّ قَصَدَ نَحْوَ الْكُوفَةِ، وَقَدْ وَفَدَ إِلَى الْحَجَّاجِ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ، وَحَبِيبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَكَمِيُّ مِنْ مَذْحِجٍ فِي سِتَّةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَمَعَهُمَا خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَاسْتَغْنَى الْحَجَّاجُ بِهِمْ عَنْ نُصْرَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ لَا أَعَزَّ اللَّهُ مَنْ أَرَادَ بِكُمُ الْعِزَّ، وَلَا نَصَرَ مَنْ أَرَادَ بِكُمُ النَّصْرَ، اخْرُجُوا عَنَّا فَلَا تَشْهَدُوا مَعَنَا قِتَالَ عَدُّوِّنَا، الْحَقُوا بِالْحِيرَةِ فَانْزِلُوا مَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَلَا يُقَاتِلَنَّ مَعَنَا إِلَّا مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلًا، وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ قِتَالَ عَتَّابِ بْنِ وَرَقَاءَ. وَعَزَمَ الْحَجَّاجُ عَلَى قِتَالِ شَبِيبٍ بِنَفْسِهِ، وَسَارَ شَبِيبٌ حَتَّى بَلَغَ الصَّرَاةَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الشَّامِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، فَلَمَّا تَوَاجَهَ الْفَرِيقَانِ نَظَرَ الْحَجَّاجُ إِلَى شَبِيبٍ وَهُوَ فِي سِتِّمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَخَطَبَ الْحَجَّاجُ أَهْلَ الشَّامِ وَقَالَ: يَا أَهْلَ الشَّامِ،

أَنْتُمْ أَهْلُ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ، لَا يَغْلِبَنَّ بَاطِلُ هَؤُلَاءِ الْأَرْجَاسِ حَقَّكُمْ، غُضُّوا الْأَبْصَارَ، وَاجْثُوا عَلَى الرُّكَبِ، وَاسْتَقْبِلُوا بِأَطْرَافِ الْأَسِنَّةِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ.
وَأَقْبَلَ شَبِيبٌ وَقَدْ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ ثَلَاثَ فِرَقٍ ; وَاحِدَةٌ مَعَهُ، وَأُخْرَى مَعَ سُوَيْدِ بْنِ سُلَيْمٍ، وَأُخْرَى مَعَ الْمُجَلَّلِ بْنِ وَائِلٍ، وَأَمَرَ شَبِيبٌ سُوَيْدًا أَنْ يَحْمِلَ، فَحَمَلَ عَلَى جَيْشِ الْحَجَّاجِ، فَصَبَرُوا لَهُ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ وَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةً وَاحِدَةً، فَانْهَزَمَ عَنْهُمْ، فَنَادَى الْحَجَّاجُ: يَا أَهْلَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، هَكَذَا فَافْعَلُوا. ثُمَّ أَمَرَ الْحَجَّاجُ فَقُدِّمَ كُرْسِيُّهُ الَّذِي هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ إِلَى الْأَمَامِ، ثُمَّ أَمَرَ شَبِيبٌ الْمُجَلَّلَ أَنْ يَحْمِلَ، فَحَمَلَ، فَفَعَلُوا بِهِ كَمَا فَعَلُوا بِسُوِيدٍ، وَقَالَ لَهُمِ الْحَجَّاجُ كَمَا قَالَ لِأُولَئِكَ، وَقَدَّمَ كُرْسِيَّهُ إِلَى أَمَامٍ، ثُمَّ إِنَّ شَبِيبًا حَمَلَ عَلَيْهِمْ فِي كَتِيبَتِهِ فَثَبَتُوا لَهُ، حَتَّى إِذَا غَشَّى أَطْرَافَ الْأَسِنَّةِ وَثَبُوا فِي وَجْهِهِ فَقَاتَلَهُمْ طَوِيلًا، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ طَاعَنُوهُ قُدُمًا حَتَّى أَلْحَقُوهُ بِأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَأَى صَبْرَهُمْ نَادَى: يَا سُوَيْدُ، احْمِلْ فِي خَيْلِكَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ السِّكَّةِ ; لَعَلَّكَ تُزِيلُ أَهْلَهَا عَنْهَا، فَأْتِ الْحَجَّاجَ مِنْ وَرَائِهِ، وَنَحْمِلُ نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ أَمَامِهِ. فَحَمَلَ فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ قَدْ جَعَلَ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ رِدْءًا لَهُ مِنْ وَرَائِهِ ; لِئَلَّا يُؤْتُوا مِنْ خَلْفِهِمْ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ بَصِيرًا بِالْحَرْبِ أَيْضًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ حَرَّضَ شَبِيبٌ أَصْحَابَهُ عَلَى الْحَمْلَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِهَا، فَفَهِمَ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ، فَنَادَى: يَا أَهْلَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، اصْبِرُوا لِهَذِهِ الشِّدَّةِ الْوَاحِدَةِ، ثُمَّ وَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَا شَيْءٌ دُونَ الْفَتْحِ. فَجَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ، وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ شَبِيبٌ بِجَمِيعِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا غَشِيَهُمْ نَادَى

الْحَجَّاجُ بِجَمَاعَةِ النَّاسِ، فَوَثَبُوا فِي وَجْهِهِ، فَمَا زَالُوا يَطْعَنُونَ وَيُطْعَنُونَ، وَهُمْ مُسْتَظْهِرُونَ عَلَى شَبِيبٍ وَأَصْحَابِهِ حَتَّى رَدُّوهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ إِلَى مَا وَرَاءَهَا، فَنَادَى شَبِيبٌ فِي أَصْحَابِهِ: يَا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، الْأَرْضَ الْأَرْضَ. ثُمَّ نَزَلَ وَنَزَلَ أَصْحَابُهُ، وَنَادَى الْحَجَّاجُ: يَا أَهْلَ الشَّامِ، يَا أَهْلَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، هَذَا أَوَّلُ النَّصْرِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ. وَصَعِدَ مَسْجِدًا هُنَالِكَ لِشَبِيبٍ، وَمَعَهُ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ رَجُلًا مَعَهُمُ النَّبْلُ، وَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا عَامَّةَ النَّهَارِ، مِنْ أَشَدِّ قِتَالٍ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَالْحَجَّاجُ يَنْظُرُ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ مَكَانِهِ، ثُمَّ إِنَّ خَالِدَ بْنَ عَتَّابٍ اسْتَأْذَنَ الْحَجَّاجَ فِي أَنْ يَرْكَبَ فِي جَمَاعَةٍ فَيَأْتِيَ الْخَوَارِجَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُ، فَانْطَلَقَ فِي جَمَاعَةٍ مَعَهُ نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَدَخْلَ عَسْكَرَ الْخَوَارِجِ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَقَتَلَ مُصَادًا أَخَا شَبِيبٍ، وَغَزَالَةَ امْرَأَةَ شَبِيبٍ ; قَتَلَهَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: فَرْوَةُ بْنُ دَفَّانَ الْكَلْبِيُّ. وَخَرَقَ فِي جَيْشِ شَبِيبٍ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ الْحَجَّاجُ وَأَصْحَابُهُ وَكَبَّرُوا، وَانْصَرَفَ شَبِيبٌ وَأَصْحَابُهُ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى فَرَسٍ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ النَّاسَ أَنْ يَنْطَلِقُوا فِي تَطَلُّبِهِمْ، فَشَدُّوا عَلَيْهِمْ فَهَزَمُوهُمْ، وَتَخْلَّفَ شَبِيبٌ فِي حَامِيَةِ النَّاسِ، ثُمَّ انْطَلَقَ وَاتَّبَعَهُ الطَّلَبُ، فَجَعَلَ يَنْعَسُ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ حَتَّى يَخْفِقَ بِرَأْسِهِ، وَدَنَا مِنْهُ الطَّلَبُ، فَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَنْهَاهُ عَنِ النُّعَاسِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، فَجَعَلَ لَا يَكْتَرِثُ بِهِمْ، وَيَعُودُ فَتَخْفِقُ رَأْسُهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ بَعَثَ الْحَجَّاجُ إِلَى أَصْحَابِهِ يَقُولُ: دَعُوهُ فِي

حَرَقِ النَّارِ. فَتَرَكُوهُ وَرَجَعُوا.
ثُمَّ دَخَلَ الْحَجَّاجُ الْكُوفَةَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ شَبِيبًا لَمْ يُهْزَمْ قَبْلَهَا. ثُمَّ قَصَدَ شَبِيبٌ الْكُوفَةَ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ سَرِيَّةٌ مِنْ جَيْشِ الْحَجَّاجِ، فَالْتَقَوْا مَعَهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَهُزِمَ الْخَوَارِجُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَسَارَتِ الْخَوَارِجُ هَارِبِينَ.
وَكَانَ عَلَى سَرِيَّةِ الْحَجَّاجِ الْحَارِثُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الثَّقَفِيُّ فِي أَلْفِ فَارِسٍ مَعَهُ، فَحَمَلَ شَبِيبٌ عَلَى الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَكَسَرَهُ وَمَنْ مَعَهُ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ، وَدَخَلَ النَّاسُ الْكُوفَةَ هَارِبِينَ، وَحَصَّنَ النَّاسُ السِّكَكَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو الْوَرْدِ مَوْلَى الْحَجَّاجِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، فَقَاتِلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ هَرَبَ أَصْحَابُهُ، وَدَخَلُوا الْكُوفَةَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِ أَمِيرٌ آخَرُ فَانْكَسَرَ أَيْضًا، ثُمَّ سَارَ شَبِيبٌ بِأَصْحَابِهِ نَحْوَ السَّوَادِ، فَمَرُّوا بِعَامِلِ الْحَجَّاجِ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ خَطَبَ أَصْحَابَهُ وَقَالَ: اشْتَغَلْتُمْ بِالدُّنْيَا عَنِ الْآخِرَةِ. ثُمَّ رَمَى بِالْمَالِ فِي الْفُرَاتِ، ثُمَّ سَارَ بِهِمْ حَتَّى افْتَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَلَا يَبْرُزُ لَهُ أَحَدٌ إِلَّا قَتَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ عَلَى بَعْضِ الْمُدُنِ، فَقَالَ لَهُ: يَا شَبِيبُ ابْرُزْ إِلَيَّ وَأَبْرُزُ إِلَيْكَ - وَكَانَ صَدِيقَهُ - فَقَالَ لَهُ شَبِيبٌ: إِنِّي لَا أَحِبُّ قَتْلَكَ. فَقَالَ لَهُ: لَكِنِّي أُحِبُّ قَتْلَكَ، فَلَا تَغُرَّنَّكَ نَفْسُكَ وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَقَائِعِ. ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ شَبِيبٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَهَمَسَ رَأْسَهُ حَتَّى اخْتَلَطَ دِمَاغُهُ بِلَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، ثُمَّ كَفَّنَهُ وَدَفَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ أَنْفَقَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً عَلَى الْجُيُوشِ وَالْعَسَاكِرِ فِي طَلَبِ شَبِيبٍ فَلَمْ يُطِيقُوهُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَوْتًا قَدَرًا

مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِمْ، وَلَا صُنْعِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.

ذِكْرُ مَقْتَلِ شَبِيبٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عِنْدَ ابْنِ الْكَلْبِيِّ
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ عَلَى الْبَصْرَةِ ; الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ، وَهُوَ زَوْجُ ابْنَةِ الْحَجَّاجِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا أَرْبَعَةَ آلَافٍ يَتَطَلَّبُونَ شَبِيبًا، وَيَكُونُونَ تَبَعًا لِسُفْيَانَ بْنِ الْأَبْرَدِ، فَفِعْلَ فَالْتَقَوْا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَصَبَرَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِصَاحِبِهِ، ثُمَّ عَزَمَ أَصْحَابُ الْحَجَّاجِ فَحَمَلُوا عَلَى الْخَوَارِجِ، فَفَرُّوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ذَاهِبِينَ حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إِلَى جِسْرٍ هُنَاكَ، فَوَقَفَ عِنْدَهُ شَبِيبٌ فِي مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَعَجَزَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ، وَرَدِّهِ عَنْ مَوْقِفِهِ هَذَا بَعْدَمَا تَقَاتَلُوا نَهَارًا كَامِلًا أَشَدَّ قِتَالٍ يَكُونُ، ثُمَّ أَمَرَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ الرُّمَاةَ مِنْ أَصْحَابِهِ فَرَشَقُوهُمْ بِالنَّبْلِ رَشْقًا وَاحِدًا، فَفَرَّتِ الْخَوَارِجُ، ثُمَّ كَرَّتْ عَلَى الرُّمَاةِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا،

مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَبْرَدِ، وَجَاءَ اللَّيْلُ بِظَلَامِهِ، فَكَفَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَبَاتَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مُصِرًّا عَلَى مُنَاهَضَةِ الْآخَرِ، فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ عَبَرَ شَبِيبٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْجِسْرِ، فَبَيْنَمَا شَبِيبٌ عَلَى مَتْنِ الْجِسْرِ، وَهُوَ عَلَى حِصَانٍ لَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ فَرَسٌ أُنْثَى، فَنَزَا فَرَسُهُ وَهُوَ عَلَى الْجِسْرِ، وَنَزَلَ حَافِرُ فَرَسِ شَبِيبٍ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ، فَقَالَ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا. ثُمَّ انْغَمَرَ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ ارْتَفَعَ وَهُوَ يَقُولُ: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فَغَرِقَ.
وَلَمَّا تَحَقَّقَتِ الْخَوَارِجُ سُقُوطَهُ فِي الْمَاءِ كَرُّوا، وَانْصَرَفُوا ذَاهِبِينَ مُفَرَّقِينَ فِي الْبِلَادِ، وَجَاءَ أَمِيرُ جَيْشِ الْحَجَّاجِ، فَاسْتَخْرَجَ شَبِيبًا مِنَ الْمَاءِ، وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَشُقَّ صَدْرُهُ، فَاسْتُخْرِجَ قَلْبُهُ، فَإِذَا هُوَ مُجْتَمِعٌ صُلْبٌ كَأَنَّهُ صَخْرَةٌ، وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بِهِ الْأَرْضَ فَيَثِبُ قَامَةَ الْإِنْسَانِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ قَدْ أَبْغَضُوهُ لِمَا أَصَابَ مِنْ عَشَائِرِهِمْ، فَلَمَّا تَخَلَّفَ فِي السَّاقَةِ اشْتَوَرُوا وَقَالُوا: نَقْطَعُ الْجِسْرَ بِهِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَمَالَتِ السُّفُنُ بِالْجِسْرِ، وَنَفَرَ فَرَسُهُ، فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ فَغَرِقَ، فَنَادَوْا: غَرِقَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَعَرَفَ جَيْشُ الْحَجَّاجِ ذَلِكَ فَجَاءُوا فَاسْتَخْرَجُوهُ.
وَلَمَّا نُعِيَ شَبِيبٌ إِلَى أُمِّهِ، قَالَتْ: صَدَّقْتُمْ، إِنِّي كُنْتُ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ وَأَنَا حَامِلٌ بِهِ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنِّي شِهَابٌ مِنْ نَارٍ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَا يُطْفِئُهُ إِلَّا الْمَاءُ.
وَكَانَتْ أُمُّهُ جَارِيَةٌ اسْمُهَا جَهِيزَةُ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، وَكَانَتْ مِنْ أَشْجَعِ

النِّسَاءِ، تُقَاتِلُ مَعَ ابْنِهَا فِي الْحُرُوبِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهَا قُتِلَتْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَكَذَلِكَ قُتِلَتْ زَوْجَتُهُ غَزَالَةُ. وَكَانَتْ شَدِيدَةَ الْبَأْسِ خَارِجِيَّةً، وَكَانَ الْحَجَّاجُ مَعَ هَيْبَتِهِ يَخَافُ مِنْهَا أَشَدَّ خَوْفٍ، حَتَّى قَالَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ فَتْخَاءُ تَنْفِرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ
هَلَّا بَرَزْتَ إِلَى غَزَالَةَ فِي الْوَغَى بَلْ كَانَ قَلْبُكَ فِي جَنَاحَيْ طَائِرِ
قَالَ: وَقَدْ كَانَ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الصَّلْتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَرَاحِيلَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ الشَّيْبَانِيُّ - يَدَّعِي الْخِلَافَةَ، وَيَتَسَمَّى بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَهَرَهُ بِمَا قَهَرَهُ بِهِ مِنَ الْغَرَقِ لَنَالَ الْخِلَافَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا قَهَرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيِ الْحَجَّاجِ، لَمَّا أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِعَسَاكِرَ لِقِتَالِهِ، فَهَرَبَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَمَّا أَلْقَاهُ جَوَادُهُ عَلَى الْجِسْرِ فِي نَهْرِ دُجَيْلٍ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَغَرَقًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟

قَالَ: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ قَالَ: ثُمَّ أُخْرِجَ، وَحُمِلَ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَأَمَرَ فَنُزِعَ قَلْبُهُ مِنْ صَدْرِهِ، فَإِذَا هُوَ مِثْلُ الْحَجَرِ.
وَكَانَ شَبِيبٌ رَجُلًا طَوِيلًا أَشْمَطَ جَعْدَا، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي يَوْمِ عِيدِ النَّحْرِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ أُمْسِكَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَحُمِلَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ الْقَائِلَ:
فَإِنْ يَكُ مِنْكُمْ كَانَ مَرْوَانُ وَابْنُهُ وَعَمْرٌو وَمِنْكُمْ هَاشِمٌ، وَ حَبِيبُ
فَمِنَّا حُصَيْنٌ، وَ الْبَطِينُ وَقَعْنَبٌ وَمِنَّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ شَبِيبُ
فَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ: وَمِنَّا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَبِيبُ. فَأَعْجَبَهُ اعْتِذَارُهُ وَأَطْلَقَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا بَيْنَ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ نَائِبِ الْحَجَّاجِ، وَبَيْنَ الْخَوَارِجِ مِنَ الْأَزَارِقَةِ، وَأَمِيرِهِمْ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ، وَكَانَ أَيْضًا مِنَ الْفُرْسَانِ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ الْمَشْهُورِينَ، وَقَدْ تَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَنَفَرُوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَمَّا هُوَ فَشَرَدَ فِي الْأَرْضِ لَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ، وَقَدْ جَرَتْ بَيْنَهُمْ مُنَاوَشَاتٌ وَمُجَاوَلَاتٌ يَطُولُ بَسْطُهَا وَاسْتِقْصَاؤُهَا، وَقَدْ بَالَغَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذِكْرِهَا.
قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ الَّذِي كَانَ نَائِبَ خُرَاسَانَ، عَلَى

نَائِبِهَا أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ - كَمَا سَيَأْتِي - وَذَلِكَ أَنْ بُكَيْرًا اسْتَجَاشَ عَلَيْهِ النَّاسَ، وَغَدَرَ بِهِ وَقَتَلَهُ، وَقَدْ جَرَتْ بَيْنَهُمَا خُطُوبٌ طَوِيلَةٌ، قَدِ اسْتَقْصَاهَا أَبُو جَعْفَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَارِيخِهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاةُ شَبِيبِ بْنِ يَزِيدَ الْخَارِجِيِّ - كَمَا قَدَّمْنَا - وَقَدْ كَانَ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالْفُرُوسِيَّةِ عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ، لَمْ أَرَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِثْلَهُ، وَمِثْلَ الْأَشْتَرِ وَابْنِهُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَمِمَّنْ يُنَاطُ بِهَؤُلَاءِ فِي الشَّجَاعَةِ ; مِثْلَ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ مِنَ الْأَزَارِقَةِ الْخَوَارِجِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيُّ
كَانَ كَبِيرًا مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ، وَلَهُ بِالْمَدِينَةِ دَارٌ كَبِيرَةٌ بِالْمُصَلَّى، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ كَاتِبَ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى الرَّسَائِلِ، تُوُفِّيَ بِالشَّامِ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
كَانَتْ أُخْتُهُ تَحْتَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَوَلَّاهُ سِجِسْتَانَ، فَلَمَّا سَارَ إِلَيْهَا قِيلَ لَهُ: إِنَّ شَبِيبًا فِي طَرِيقِكَ، وَقَدْ أَعْيَا النَّاسَ،

فَاعْدِلْ إِلَيْهِ لَعَلَّكَ أَنْ تَقْتُلَهُ، فَيَكُونَ ذِكْرُ ذَلِكَ وَشُهْرَتُهُ لَكَ إِلَى الْأَبَدِ. فَلَمَّا سَارَ لَقِيَهُ شَبِيبٌ فَاقْتَتَلَ مَعَهُ، فَقَتَلَهُ شَبِيبٌ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عِيَاضُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَرِيُّ
شَهِدَ الْيَرْمُوكَ، وَحَدَّثَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُطَرِّفُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
وَقَدْ كَانُوا إِخْوَةً ; عُرْوَةُ، وَ مُطَرِّفٌ، وَ حَمْزَةُ، وَقَدْ كَانُوا يَمِيلُونَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ، فَاسْتَعْمَلَهُمِ الْحَجَّاجُ عَلَى أَقَالِيمَ، فَاسْتَعْمَلَ عُرْوَةَ عَلَى الْكُوفَةِ، وَ مُطَرِّفًا عَلَى الْمَدَائِنِ،، وَ حَمْزَةَ عَلَى هَمْدَانَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ
فَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِبِلَادِ الرُّومِ، فَفَتَحُوا إِرْقِيلِيَّةَ، فَلَمَّا رَجَعُوا أَصَابَهُمْ مَطَرٌ عَظِيمٌ وَثَلْجٌ وَبَرَدٌ، فَأُصِيبَ بِسَبَبِهِ نَاسٌ كَثِيرٌ.
وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ مُوسَى بْنَ نُصَيْرٍ غَزْوَ بِلَادِ الْمَغْرِبِ جَمِيعِهِ، فَسَارَ إِلَى طَنْجَةَ وَقَدَّمَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ طَارِقًا، فَقَتَلُوا مُلُوكَ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَبَعْضُهُمْ قَطَعُوا أَنْفَهُ وَنَفَوْهُ.
وَفِيهَا عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ، وَأَضَافَهَا إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ مَعَ سِجِسْتَانَ أَيْضًا، وَرَكِبَ الْحَجَّاجُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ شَأْنِ شَبِيبٍ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْكَوْفَةِ الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ الْحَضْرَمِيَّ، فَقَدِمَ الْمُهَلَّبُ عَلَى الْحَجَّاجِ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ شَأْنِ الْأَزَارِقَةِ أَيْضًا، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَاسْتَدْعَى بِأَصْحَابِ الْبَلَاءِ مِنْ جَيْشِهِ، فَمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ الْمُهَلَّبُ أَجْزَلَ الْحَجَّاجُ لَهُ الْعَطِيَّةَ، ثُمَّ وَلَّى الْحَجَّاجُ الْمُهَلَّبَ إِمْرَةَ سِجِسْتَانَ، وَوَلَّى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ إِمْرَةَ خُرَاسَانَ، ثُمَّ نَاقَلَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ خُرُوجِهِمَا مِنْ عِنْدِهِ، فَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ الْمُهَلَّبِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتَعَانَ بِصَاحِبِ الشُّرْطَةِ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ طَارِقٍ الْعَبْشَمِيُّ، حَتَّى

أَشَارَ عَلَى الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ، فَأَجَابَهُ الْحَجَّاجُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَلْزَمَ الْمُهَلَّبَ بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ; لِكَوْنِهِ اعْتَرَضَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ، وَأَمِيرُ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي كُلِّهَا الْحَجَّاجَ، وَنَائِبُهُ عَلَى خُرَاسَانَ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ وَنَائِبُهُ عَلَى سِجِسْتَانَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ الثَّقَفِيَّ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحٌ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ مُوسَى بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ.

وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ، صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَأَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ بَدْرًا فَمَنَعَهُ أَبُوهُ، وَخَلَّفَهُ عَلَى أَخَوَاتِهِ وَإِخْوَتِهِ، وَكَانُوا تِسْعَةً، وَقِيلَ: إِنَّهُ ذَهَبَ بَصَرُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ. تُوُفِّيَ جَابِرٌ بِالْمَدِينَةِ، وَعُمْرُهُ أَرْبَعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَأَسْنَدَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا.
شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ، أَبُو أُمَيَّةَ، الْكِنْدِيُّ
وَهُوَ قَاضِي الْكُوفَةِ، وَقَدْ

تَوَلَّى الْقَضَاءَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَلِيٌّ، ثُمَّ وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ فِي الْقَضَاءِ، إِلَى أَنْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ رِزْقُهُ عَلَى الْقَضَاءِ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ: خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَكَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْقَضَاءِ يَقُولُ: سَيَعْلَمُ الظَّالِمُ حَظَّ مَنْ نَقَصَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ إِذَا جَلَسَ لِلْقَضَاءِ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى ( ص: 26 ) الْآيَةَ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ يَنْتَظِرُ الْعِقَابَ، وَالْمَظْلُومَ يَنْتَظِرُ النَّصْرَ، أَوِ الْمَثُوبَةَ. وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ ؟ فَقَالَ: كَيْفَ يُصْبِحُ حَالُ مَنْ شَطْرُ النَّاسِ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ؟ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَكَثَ قَاضِيًا نَحْوَ سَبْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتُعْفِيَ مِنَ الْقَضَاءِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَصْلُهُ مِنْ أَوْلَادِ الْفَرَسِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْيَمَنِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ، وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَثَمَانِ سِنِينَ.

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ
نَزِيلُ فِلَسْطِينَ، وَقَدْ رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ لَهُ صُحْبَةٌ. وَقَدْ بَعَثَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ ; لِيُفَقِّهَ أَهْلَهَا فِي الدِّينِ، وَكَانَ مِنَ الْعُبَّادِ الصَّالِحِينَ.
جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ الْأَزْدِيُّ
شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى غَزْوِ الْبَحْرِ لِمُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالشَّجَاعَةِ وَالْخَيْرِ، تُوُفِّيَ بِالشَّامِ وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ
كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْعُبَّادِ، مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْخَوْفِ وَالْوَرَعِ، وَكَانَ يَعْتَزِلُ فِي بَيْتِهِ، وَلَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْبُكَاءِ، لَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى عَمِيَ، وَلَهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ، تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ الْأَزْدِيُّ
كَانَ شَاعِرًا مُطْبِقًا، هَجَا الْحَجَّاجَ فَنَفَاهُ إِلَى

الشَّامِ، فَتُوُفِّيَ بِهَا.
النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ الشَّاعِرُ
السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ الْكِنْدِيُّ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
سُفْيَانُ بْنُ سَلَمَةَ الْأَسَدِيُّ
مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ الْبَصْرِيُّ
زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ
فَفِيهَا وَقَعَ طَاعُونٌ عَظِيمٌ بِالشَّامِ، حَتَّى كَادُوا يَفْنُونَ مَنْ شِدَّتِهُ، وَلَمْ يَغْزُ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ; لِضَعْفِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ، وَوَصَلَتِ الرُّومُ فِيهَا أَنْطَاكِيَّةَ، فَأَصَابُوا خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا ; لِعِلْمِهِمْ بِضَعْفِ الْجُنُودِ وَالْمُقَاتِلَةِ.
وَفِيهَا غَزَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ رُتْبِيلَ مَلِكَ التُّرْكِ حَتَّى أَوْغَلَ فِي بِلَادِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ.
وَفِيهَا قَتَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ الْحَارِثَ بْنَ سَعِيدٍ الْمُتَنَبِّئَ الْكَذَّابَ، وَيُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ، مَوْلَى أَبِي الْجُلَاسِ الْعَبْدَرِيِّ. وَيُقَالُ: مَوْلَى الْحَكَمِ بْنِ مَرْوَانَ. كَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْحُولَةِ، فَنَزَلَ دِمَشْقَ، وَتَعَبَّدَ بِهَا، وَتَنَسَّكَ وَتَزَهَّدَ، ثُمَّ مُكِرَ بِهِ، وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى عَلَى عَقِبِهِ، وَانْسَلَخَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفَارَقَ حِزْبَ اللَّهِ الْمُفْلِحِينَ، وَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَمْ يَزَلِ الشَّيْطَانُ يَزُخُّ فِي قَفَاهُ حَتَّى أَخْسَرَهُ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ، وَأَخْزَاهُ وَأَشْقَاهُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُبَارَكٍ، ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ، قَالَ: كَانَ الْحَارِثُ الْكَذَّابُ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ، وَكَانَ مَوْلًى لِأَبِي الْجُلَاسِ، وَكَانَ لَهُ أَبٌ بِالْحُولَةِ، فَعَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ وَكَانَ رَجُلًا مُتَعَبِّدًا زَاهِدًا، لَوْ لَبِسَ جُبَّةً مِنْ ذَهَبٍ لَرُئِيَتْ عَلَيْهِ الزَّهَادَةُ وَالْعِبَادَةُ، وَكَانَ إِذَا أَخَذَ فِي التَّحْمِيدِ لَمْ يَسْمَعِ السَّامِعُونَ مِثْلَ تَحْمِيدِهِ، وَلَا أَحْسَنَ مِنْ كَلَامِهِ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ، وَكَانَ بِالْحُولَةِ: يَا أَبَتَاهُ، أَعْجِلْ عَلَيَّ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَشْيَاءَ أَتَخَوَّفُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ قَدْ عَرَضَ لِي. قَالَ: فَزَادَهُ أَبُوهُ غَيًّا عَلَى غَيِّهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ، أَقْبِلْ عَلَى مَا أُمِرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ وَلَسْتَ بِأَفَّاكٍ وَلَا أَثِيمٍ، فَامْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ. فَكَانَ يَجِيءُ إِلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ رَجُلًا رَجُلًا فُيُذَاكِرُهُمْ أَمْرَهُ، وَيَأْخُذُ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، إِنْ هُوَ يَرَى مَا يَرْضَى قَبِلَ وَإِلَّا كَتَمَ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَكَانَ يُرِيهِمُ الْأَعَاجِيبَ ; كَانَ يَأْتِي إِلَى رُخَامَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَيَنْقُرُهَا بِيَدِهِ فَتُسَبِّحُ تَسْبِيحًا بَلِيغًا، حَتَّى يَضِجَّ مِنْ ذَلِكَ الْحَاضِرُونَ. قُلْتُ: وَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنَا الْعَلَّامَةَ أَبَا الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، يَقُولُ: كَانَ يَنْقُرُ هَذِهِ الرُّخَامَةَ الْحَمْرَاءَ الَّتِي فِي الْمَقْصُورَةِ فَتُسَبِّحُ، وَكَانَ زِنْدِيقًا.

قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي رِوَايَةٍ: وَكَانَ الْحَارِثُ يُطْعِمُهُمْ فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: اخْرُجُوا حَتَّى أُرِيَكُمُ الْمَلَائِكَةَ. فَيَخْرُجُ بِهِمْ إِلَى دَيْرِ الْمُرَّانِ، فَيُرِيهِمْ رِجَالًا عَلَى خَيْلٍ، فَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ بِشْرٌ كَثِيرٌ، وَفَشَا أَمَرُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَثُرَ أَصْحَابُهُ وَأَتْبَاعُهُ، حَتَّى وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، قَالَ: فَعَرَضَ عَلَى الْقَاسِمِ أَمْرَهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ ; إِنْ هُوَ رَضِيَ أَمْرًا قَبِلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ كَتَمَهُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ: إِنِّي نَبِيٌّ. فَقَالَ الْقَاسِمُ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، مَا أَنْتَ نَبِيٌّ.
وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَكِنَّكَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ، دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنْتَ أَحَدُهُمْ وَلَا عَهْدَ لَكَ. قَالَ: ثُمَّ قَامَ فَخَرَجَ إِلَى أَبِي إِدْرِيسَ - وَكَانَ عَلَى الْقَضَاءِ بِدِمَشْقَ - فَأَعْلَمَهُ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْحَارِثِ، فَقَالَ أَبُو إِدْرِيسَ: نَعْرِفُهُ. ثُمَّ أَعْلَمَ أَبُو إِدْرِيسَ عَبْدَ الْمَلِكِ بِذَلِكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ مَكْحُولًا، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي زَكَرِيَّا دَخْلَا عَلَى الْحَارِثِ فَدَعَاهُمَا إِلَى نُبُوَّتِهِ، فَكَذَّبَاهُ وَرَدَّا عَلَيْهِ مَا قَالَ، وَدَخَلَا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَعْلَمَاهُ بِأَمْرِهِ، فَتَطَلَّبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ طَلَبًا حَثِيثًا، وَاخْتَفَى الْحَارِثُ، وَصَارَ إِلَى دَارٍ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ سِرًّا، وَاهْتَمَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بِشَأْنِهِ، حَتَّى رَكِبَ إِلَى الصِّنَّبْرَةِ فَنَزَلَهَا، فَوَرَدَ عَلَيْهِ هُنَاكَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، مِمَّنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْحَارِثِ وَهُوَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَعْلَمَهُ بِأَمْرِهِ وَأَيْنَ هُوَ، وَسَأَلَ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْجُنْدِ الْأَتْرَاكِ لِيَحْتَاطَ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ طَائِفَةً وَكَتَبَ إِلَى نَائِبِ الْقُدْسِ ; لِيَكُونَ فِي طَاعَةِ هَذَا الرَّجُلِ، وَيَفْعَلَ مَا يَأْمُرُهُ

بِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ الرَّجُلُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِمَنْ مَعَهُ انْتَدَبَ نَائِبَ الْقُدْسِ لِخِدْمَتِهِ، فَأَمْرَهُ أَنْ يَجْمَعَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّمُوعِ، وَيَجْعَلُ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ شَمْعَةً، فَإِذَا أَمَرَهُمْ بِإِشْعَالِهَا فِي اللَّيْلِ أَشْعَلُوهَا كُلُّهُمْ فِي سَائِرِ الطُّرُقِ وَالْأَزِقَّةِ، حَتَّى لَا يَخْفَى أَمْرُهُ، وَذَهَبَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ، فَدَخَلَ الدَّارَ الَّتِي فِيهَا الْحَارِثُ، فَقَالَ لِبَوَّابِهِ: اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ. فَقَالَ: فِي هَذِهِ السَّاعَةِ لَا يُؤْذَنُ عَلَيْهِ حَتَّى يُصْبِحَ. فَصَاحَ الْبَصْرِيُّ: أَسْرِجُوا. فَأَسْرَجَ النَّاسُ شُمُوعَهُمْ حَتَّى صَارَ اللَّيْلُ كَأَنَّهُ النَّهَارُ، وَهَجَمَ الْبَصْرِيُّ عَلَى الْحَارِثِ، فَاخْتَفَى مِنْهُ فِي سِرْبٍ هُنَاكَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: هَيْهَاتَ، تُرِيدُونَ أَنْ تَصِلُوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ.
قَالَ: فَأَدْخَلَ الْبَصْرِيُّ يَدَهُ فِي ذَلِكَ السِّرْبِ فَإِذَا بِثَوْبِهِ، فَاجْتَرَّهُ فَأَخْرَجَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْفَرْغَانِيِّينَ مِنْ أَتْرَاكِ الْخَلِيفَةِ: تَسَلَّمُوا. قَالَ: فَأَخَذُوهُ فَرَبَطُوهُ فَقَيَّدُوهُ، فَيُقَالُ: إِنَّ الْقُيُودَ وَالْجَامِعَةَ سَقَطَتْ مِنْ عُنُقِهِ مِرَارًا، وَيُعِيدُونَهَا، وَجَعَلَ يَقْرَأُ: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [ سَبَأٍ: 50 ]، وَقَالَ لِأُولَئِكَ الْأَتْرَاكِ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [ غَافِرٍ: 28 ] فَقَالُوا لَهُ بِلِسَانِهِمْ وَلُغَتِهِمْ: هَذَا كُرَانُنَا فَهَاتِ كُرَانَكَ. أَيْ: هَذَا قُرْآنُنَا فَهَاتِ قُرْآنَكَ. فَلَمَّا انْتَهَوْا بِهِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ أَمَرَ بِصَلْبِهِ عَلَى خَشَبَةٍ، وَأَمَرَ رَجُلًا فَطَعَنَهُ بِحَرْبَةٍ، فَانْثَنَتْ فِي ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَيْحَكَ، أَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ حِينَ طَعَنْتَهُ ؟ فَقَالَ: نَسِيتُ. فَقَالَ: وَيْحَكَ، سَمِّ اللَّهَ، ثُمَّ اطْعَنْهُ. قَالَ: فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ طَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ

حَبَسَهُ قَبْلَ صَلْبِهِ، وَأَمَرَ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ أَنْ يَعِظُوهُ وَيُعْلِمُوهُ أَنَّ هَذَا الَّذِي بِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ، فَصَلَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْعَدْلِ وَالدِّينِ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ، فَحَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عُتْبَةَ الْأَعْوَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْعَلَاءَ بْنَ زِيَادٍ الْعَدَوِيَّ يَقُولُ: مَا غَبَطْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بِشَيْءٍ مِنْ وِلَايَتِهِ إِلَّا بِقَتْلِهِ حَارِثًا ; حُدِّثْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَمَنْ قَالَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ أَحَدًا فَلَهُ الْجَنَّةُ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: بَلَغَنِي أَنَّ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: لَوْ حَضَرْتُكَ مَا أَمَرْتُكَ بِقَتْلِهِ. قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ بِهِ الْمَذْهَبُ، فَلَوْ جَوَّعَتَهُ لَذَهَبَ ذَلِكَ عَنْهُ. وَقَالَ الْوَلِيدُ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ نَافِعٍ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ اللَّجْلَاجِ يَقُولُ لِغَيْلَانَ: وَيْحَكَ يَا غَيْلَانُ، أَلَمْ يَأْخُذْكَ فِي شَبِيبَتِكَ تُرَامِي النِّسَاءَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِالتُّفَّاحِ، ثُمَّ صِرْتَ حَارِثِيًّا يَحْجُبُ امْرَأَتَهُ، وَيَزْعُمُ أَنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ تَحَوَّلْتَ فَصِرْتَ قَدَرِيًّا زِنْدِيقًا.
وَفِيهَا غَزَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ رُتْبِيلَ - مَلِكَ التُّرْكِ الْأَعْظَمَ فِيهِمْ - وَقَدْ كَانَ يُصَانِعُ الْمُسْلِمِينَ تَارَةً، وَيَتَمَرَّدُ أُخْرَى، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ

أَبِي بَكْرَةَ أَنْ نَاجِزْهُ بِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَسْتَبِيحَ أَرْضَهُ، وَتَهْدِمَ قِلَاعَهُ، وَتَقْتُلَ مُقَاتِلَتَهُ. فَخَرَجَ فِي جَمْعٍ مِنَ الْجُنُودِ مِنْ بِلَادِهِ، وَخَلْقٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، ثُمَّ الْتَقَى مَعَ رُتْبِيلَ - مَلِكِ التُّرْكِ - فَكَسَرَهُ، وَهَدَمَ أَرْكَانَهُ بِسَطْوَةٍ بِتَّارَةٍ، وَجَاسَ ابْنُ أَبِي بَكْرَةَ وَجُنْدُهُ خِلَالَ دِيَارِهِمْ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَقَالِيمِهِ وَمُدُنِهِ وَأَمْصَارِهِ، وَتَبَّرَ مَا هُنَالِكَ تَتْبِيرًا، ثُمَّ إِنَّ رُتْبِيلَ تَقَهْقَرَ مِنْهُ مُنْشَمِرًا، وَمَا زَالَ يَتْبَعُهُ حَتَّى اقْتَرَبَ مِنْ مَدِينَتِهِ الْعُظْمَى، حَتَّى كَانُوا مِنْهَا عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَخَافَتِ الْأَتْرَاكُ مِنْهُمْ خَوْفًا شَدِيدًا، ثُمَّ إِنَّ التُّرْكَ أَخَذَتْ عَلَيْهِمُ الطُّرُقَ وَالشِّعَابَ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكَ، حَتَّى ظَنَّ كُلٌّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا مَحَالَةَ هَالِكٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَنْ يُصَالِحَ رُتْبِيلَ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ سَبْعَمِائَةِ أَلْفٍ، وَيَفْتَحُوا لِلْمُسْلِمِينَ طَرِيقًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ، وَيَرْجِعُونَ عَنْهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَانْتَدَبَ شُرَيْحَ بْنَ هَانِئٍ الْحَارِثِيَّ - وَكَانَ صَحَابِيًّا، وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ عَلَيٍّ، وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ - فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْقِتَالِ وَالْمُصَابَرَةِ، وَالنِّزَالِ وَالْجِلَادِ بِالسُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَالنِّبَالِ، فَنَهَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ فَلَمْ يَنْتَهِ، وَأَجَابَهُ شِرْذِمَةٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ الشُّجْعَانِ وَأَهْلِ الْحَفَائِظِ، فَمَا زَالَ يُقَاتِلُ بِهِمِ التَّرْكَ حَتَّى فَنِيَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. قَالُوا: وَجَعَلَ شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ يَرْتَجِزُ، وَيَقُولُ:

أَصْبَحْتُ ذَا بَثٍّ أُقَاسِيَ الْكِبَرَا قَدْ عِشْتُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ أَعْصُرَا ثُمَّتَ أَدْرَكْتُ النَّبِيَّ الْمُنْذِرَا
وَبَعْدَهُ صِدِّيقَهُ وَعُمَرَا وَيَوْمَ مِهْرَانَ وَيَوْمَ تُسْتَرَا
وَالْجَمْعَ فِي صِفِّينِهِمْ وَالنَّهَرَا هَيْهَاتَ مَا أَطْوَلَ هَذَا عُمُرَا
ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقُتِلَ مَعَهُ خَلْقٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مَنْ خَرَجَ مِنَ النَّاسِ صُحْبَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ مِنْ أَرْضِ رُتْبِيلَ، وَهُمْ قَلِيلٌ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَجَّاجَ فَأَخْذَهُ مَا تَقَدَّمَ، وَمَا تَأَخَّرَ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَيَسْتَشِيرُهُ فِي بَعْثِ جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى بِلَادِ رُتْبِيلَ ; لِيَنْتَقِمُوا مِنْهُ بِسَبَبِ مَا حَلَّ بِالْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِ، فَحِينَ وَصَلَ الْبَرِيدُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْمُوَافَقَةِ عَلَى مَا رَأَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ، وَأَنْ يُعَجِّلَ ذَلِكَ سَرِيعًا، فَحِينَ وَصَلَ الْبَرِيدُ إِلَى الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ أَخَذَ فِي جَمْعِ الْجُيُوشِ، فَجَهَّزَ جَيْشًا كَثِيفًا لِذَلِكَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ ثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَابْتِيعَ الرَّغِيفُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِدِينَارٍ، وَقَاسَوْا شَدَائِدَ، وَمَاتَ بِسَبَبِ الْجُوعِ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَقَدْ قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ التُّرْكِ خَلْقًا كَثِيرًا أَيْضًا، قَتَلُوا أَضْعَافَهَمْ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْفَى شُرَيْحٌ مِنَ الْقَضَاءِ فَأَعْفَاهُ الْحَجَّاجُ مِنْ ذَلِكَ، وَوَلَّى مَكَانَهُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ

تَرْجَمَةُ شُرَيْحٍ عِنْدَ وَفَاتِهِ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ التَّمِيمِيُّ، أَبُو نَعَامَةَ الْخَارِجِيُّ، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَشَاهِيرِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَكَثَ عِشْرِينَ سَنَةً يُسَلِّمُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِالْخِلَافَةِ، وَقَدْ جَرَتْ لَهُ خُطُوبٌ وَحُرُوبٌ مَعَ جَيْشِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ مِنْ جِهَةِ الْحَجَّاجِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْهَا طَرَفًا صَالِحًا فِي أَمَاكِنِهِ.
وَكَانَ خُرُوجُهُ فِي زَمَنِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَتَغَلَّبَ عَلَى قِلَاعٍ كَثِيرَةٍ وَأَقَالِيمَ وَغَيْرِهَا، وَوَقَائِعُهُ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ جُيُوشًا كَثِيرَةً فَهَزَمَهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ بَرَزَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ الْحَرُورِيَّةِ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ أَعْجَفَ، وَبِيَدِهِ عَمُودُ حَدِيدٍ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ كَشَفَ قَطَرِيٌّ عَنْ وَجْهِهِ، فَوَلَّى الرَّجُلُ هَارِبًا، فَقَالَ لَهُ قَطَرِيٌّ: إِلَى أَيْنَ ؟ أَمَا تَسْتَحِي أَنْ تَفِرَّ وَلَمْ تَرَ طَعْنًا وَلَا ضَرْبًا ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَحِي أَنْ يَفِرَّ مِنْ مِثْلِكَ.
ثُمَّ إِنَّهُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ فِي جَيْشٍ، فَاقْتَتَلُوا بِطَبَرِسْتَانَ، فَعَثَرَ بِقَطَرِيٍّ فَرَسُهُ فَوَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ، فَتَكَاثَرُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَتَلَهُ سَوْدَةُ بْنُ الْحُرِّ الدَّارِمِيُّ.

وَكَانَ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ - مَعَ شَجَاعَتِهِ الْمُفَرِطَةِ وَإِقْدَامِهِ - مِنْ خُطَبَاءَ الْعَرَبِ الْمَشْهُورِينَ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَجَوْدَةِ الْكَلَامِ، وَالشِّعْرِ الْحَسَنِ، فَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ يُشَجِّعُ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ، وَمَنْ سَمِعَهَا انْتَفَعَ بِهَا:
أَقُولُ لَهَا وَقَدْ طَارَتْ شَعَاعًا مِنَ الْأَبْطَالِ وَيْحَكِ لَنْ تُرَاعِي
فَإِنَّكِ لَوْ سَأَلْتِ بَقَاءَ يَوْمٍ عَلَى الْأَجَلِ الَّذِي لَكَ لِمَ تُطَاعِي
فَصَبْرًا فِي مَجَالِ الْمَوْتِ صَبْرًا فَمَا نَيْلُ الْخُلُودِ بِمُسْتَطَاعِ
وَلَا ثَوْبُ الْحَيَاةِ بِثَوْبِ عِزٍّ فَيُطْوَى عَنْ أَخِي الْخَنَعِ الْيَرَاعِ
سَبِيلُ الْمَوْتِ غَايَةُ كُلِّ حَيٍّ وَدَاعِيهِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ دَاعِي
وَمَنْ لَا يَغْتَبِطْ يَسْأَمْ وَيَهْرَمْ وَتُسْلِمْهُ الْمَنُونُ إِلَى انْقِطَاعِ
وَمَا لِلْمَرْءِ خَيْرٌ فِي حَيَاةٍ إِذَا مَا عُدَّ مِنْ سَقَطِ الْمَتَاعِ
ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْحَمَاسَةِ، وَاسْتَحْسَنَهَا ابْنُ خَلِّكَانَ فِي تَارِيخِهِ كَثِيرًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَمِيرُ الْجَيْشِ الَّذِي دَخَلَ بِلَادَ التُّرْكِ، وَقَاتَلُوا رُتْبِيلَ - مَلِكَ التُّرْكِ - وَقَدْ قُتِلَ مِنْ جَيْشِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مَعَ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
وَقَدْ دَخَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَلَى الْحَجَّاجِ مَرَّةً، وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: كَمْ خَتَمْتَ بِخَاتَمِكَ هَذَا ؟ قَالَ: عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ. قَالَ: فَفِيمَ أَنْفَقْتَهَا ؟ قَالَ: فِي اصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ، وَرَدِّ الْمَلْهُوفِ، وَالْمُكَافَأَةِ بِالصَّنَائِعِ، وَتَزْوِيجِ الْعَقَائِلِ.
وَقِيلَ: إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ عَطَشَ يَوْمًا

فَأَخْرَجَتْ لَهُ امْرَأَةٌ كُوزَ مَاءٍ بَارِدٍ، فَأَعْطَاهَا ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ: إِنَّهُ أُهْدِيَ إِلَيْهِ وَصَيْفٌ وَوَصِيفَةٌ، وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: خُذْهُمَا لَكَ. ثُمَّ فَكَّرَ، وَقَالَ: وَاللَّهِ، إِنَّ إِيثَارَ بَعْضِ الْجُلَسَاءِ عَلَى بَعْضٍ لَشُحٌّ قَبِيحٌ، وَدَنَاءَةٌ رَدِيئَةٌ، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ، ادْفَعْ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُلَسَائِي وَصَيْفًا وَوَصِيفَةً. فَأُحْصِيَ ذَلِكَ فَكَانُوا ثَمَانِينَ وَصَيْفًا وَوَصِيفَةً.
تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ بِبُسْتَ. وَقِيلَ: بِذَرِيحَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا كَانَ السَّيْلُ الْجُحَافُ بِمَكَّةَ ; لِأَنَّهُ حَجَفَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مَرَّ بِهِ، وَحَمَلَ الْحُجَّاجَ مِنْ بَطْنِ مَكَّةَ وَالْجِمَالَ بِمَا عَلَيْهَا، وَالرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُنْقِذَهُمْ مِنْهُ، وَبَلَغَ الْمَاءُ إِلَى الْحَجُونِ وَغَرِقَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُ ارْتَفَعَ حَتَّى كَادَ أَنْ يُغَطِّيَ الْبَيْتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الطَّاعُونُ الْجَارِفُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِيهَا قَطَعَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ نَهْرَ بَلْخَ، وَأَقَامَ بِكَشَّ سَنَتَيْنِ صَابِرًا مُصَابِرًا لِلْأَعْدَاءِ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُمْ هُنَاكَ فُصُولٌ يُطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدِمَ عَلَيْهِ فِي غُبُونِ هَذِهِ الْمُدَّةِ كِتَابُ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِخَلْعِهِ الْحَجَّاجَ، فَبَعَثَهُ الْمُهَلَّبُ بِرُمَّتِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ حَتَّى قَرَأَهُ، ثُمَّ كَانَ مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ حُرُوبِ ابْنِ الْأَشْعَثِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ الْحَجَّاجُ الْجُيُوشَ مِنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمَا ; لِقِتَالِ

رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ ; لِيَقْتَصُّوا مِنْهُ مَا كَانَ مِنْ قَتْلِ جَيْشِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَجَهَّزَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمِصْرَيْنِ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَأَمَّرَ عَلَى الْجَمِيعِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ الْحَجَّاجُ يُبْغِضُهُ جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ إِلَّا هَمَمْتُ بِقَتْلِهِ.
وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يَوْمًا عَلَى الْحَجَّاجِ وَعِنْدَهُ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، فَقَالَ: انْظُرْ إِلَى مِشْيَتِهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ. فَأَسَرَّهَا الشَّعْبِيُّ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَالَ ابْنُ الْأَشْعَثِ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَأَجْهَدَنَّ أَنْ أُزِيلَهُ عَنْ سُلْطَانِهِ إِنْ طَالَ بِي وَبِهِ الْبَقَاءُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْحَجَّاجَ أَخْذَ فِي اسْتِعْرَاضِ هَذِهِ الْجُيُوشِ، وَبَذَلِ فِيهِمُ الْعَطَاءَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ رَأْيُهُ فِيمَنْ يُؤَمِّرُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَقَعَ اخْتِيَارُهُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَدَّمَهُ عَلَيْهِمْ، فَأَتَى عَمُّهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْأَشْعَثِ، فَقَالَ لِلْحَجَّاجِ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ تُؤَمِّرَهُ فَلَا يَرَى لَكَ طَاعَةً إِذَا جَاوَزَ جِسْرَ الْفُرَاتِ. فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ هُنَالِكَ، هُوَ لِي أَهْيَبُ، وَمِنِّي أَرْهَبُ أَنْ يُخَالِفَ أَمْرِي، أَوْ يَخْرُجَ عَنْ طَاعَتِي، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ، فَسَارَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِالْجُيُوشِ نَحْوَ أَرْضِ رُتْبِيلَ، فَلَمَّا بَلَغَ رُتْبِيلَ مَجِيءُ ابْنِ الْأَشْعَثِ بِالْجُنُودِ إِلَيْهِ كَتَبَ إِلَيْهِ رُتْبِيلَ يَعْتَذِرُ مِمَّا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ لِذَلِكَ كَارِهًا،

وَأَنَّهُمْ أَلْجَئُوهُ إِلَى قِتَالِهِمْ، وَسَأَلَ مِنَ ابْنِ الْأَشْعَثِ أَنْ يُصَالِحَهُ، وَأَنْ يَبْذُلَ لِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجَ، فَلَمْ يُجِبْهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى ذَلِكَ، وَصَمَّمَ عَلَى دُخُولِ بِلَادِهِ، وَجَمَعَ رُتْبِيلُ جُنُودَهُ، وَتَهَيَّأَ لَهُ وَلِحَرْبِهِ، وَجَعَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ كَلَّمَا دَخَلَ بَلَدًا أَوْ مَدِينَةً، أَوْ أَخَذَ قَلْعَةً مِنْ بِلَادِ رُتْبِيلَ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا نَائِبًا مِنْ جِهَتِهِ، وَجَعَلَ مَعَهُ مَنْ يَحْفَظُهَا، وَجَعَلَ الْمَسَالِحَ عَلَى كُلِّ أَرْضٍ وَمَكَانٍ مَخُوفٍ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادٍ وَمُدُنٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ رُتْبِيلَ، وَغَنِمَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جَزِيلَةً، وَسَبَى خَلْقًا كَثِيرَةً، ثُمَّ حَبَسَ النَّاسَ عَنِ التَّوَغُّلِ فِي بِلَادِ رُتْبِيلَ حَتَّى يُصْلِحُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِلَادِ، وَيَتَقَوَّوْا بِمَا فِيهَا مِنَ الْمُغَلَّاتِ وَالْحَوَاصِلِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُوا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ إِلَى أَعْدَائِهِمْ، فَلَا يَزَالُونَ يُجَوِّزُونَ الْأَرَاضِيَ وَالْأَقَالِيمَ حَتَّى يُحَاصِرُوهُمْ فِي مَدِينَتِهِمْ - مَدِينَةِ الْعُظَمَاءِ - عَلَى الْكُنُوزِ وَالْأَمْوَالِ وَالذَّرَّارِي حَتَّى يَغْنَمُوهَا، ثُمَّ يَقْتُلُونَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَعَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ هَذَا هُوَ الرَّأْيُ.
وَكَتَبَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى الْحَجَّاجِ يُخْبِرُهُ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْفَتْحِ، وَمَا صَنَعَ اللَّهُ لَهُمْ، وَبِهَذَا الرَّأْيِ الَّذِي رَآهُ لَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ وَجَّهَ هِمْيَانَ بْنَ عَدِيٍّ السَّدُوسِيَّ إِلَى كَرْمَانَ مَسْلَحَةً لِأَهْلِهَا ; لِيَمُدَّ عَامِلَ سِجِسْتَانَ وَالسِّنْدِ إِنِ احْتَاجَا إِلَى ذَلِكَ، فَعَصَى هِمْيَانُ وَمَنْ مَعَهُ، فَوَجَّهَ الْحَجَّاجُ إِلَيْهِ ابْنَ الْأَشْعَثِ، فَهَزَمَهُ وَأَقَامَ بِمَنْ مَعَهُ.

وَمَاتَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ بِإِمْرَةِ سِجِسْتَانَ مَكَانَ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَجَهَّزَ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ جَيْشًا أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَلْفَيْ أَلْفٍ سِوَى أُعْطِيَاتِهِمْ، وَكَانَ يُدْعَى هَذَا الْجَيْشُ جَيْشَ الطَّوَاوِيسِ، وَأَمَرَهُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى رُتْبِيلَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَهُ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَ أَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: بَلْ حَجَّ بِهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَ عَلَى الصَّائِفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَعَلَى الْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ الْحَجَّاجُ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ مُوسَى بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَسْلَمُ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ:
وَهُوَ أَبُو زَيْدِ بْنُ أَسْلَمَ، أَصْلُهُ مِنْ سَبْيِ عَيْنِ التَّمْرِ، اشْتَرَاهُ عُمَرُ بِمَكَّةَ لَمَّا حَجَّ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَتُوُفِّيَ وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَرَوَى عَنْ عُمَرَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، وَرَوَى عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَيْضًا، وَلَهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرِ بْنِ مَالِكٍ الْحَضْرَمِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ

أَهْلِ الشَّامِ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِالْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ، تُوُفِّيَ بِالشَّامِ وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَقِيلَ أَكْثَرُ، وَقِيلَ أَقَلُّ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:
وُلِدَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَفَاةً، سَكَنَ الْمَدِينَةَ، وَلَمَّا اسْتُشْهِدَ أَبُوهُ جَعْفَرٌ بِمُؤْتَةَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّهِمْ فَقَالَ: ائْتُونِي بِبَنِي أَخِي. فَأُتِيَ بِهِمْ كَأَنَّهُمْ أَفْرُخٌ، فَدَعَا بِالْحَلَّاقِ فَحَلَقَ رُءُوسَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ، وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللَّهِ فِي صَفْقَتِهِ فَجَاءَتْ أُمُّهُمْ فَذَكَرَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ، فَقَالَ: أَنَا لَهُمْ عِوَضًا مِنْ أَبِيهِمْ. وَقَدْبَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُمْرُهُمَا سَبْعُ سِنِينَ، وَهَذَا لَمْ يَتَّفِقْ لِغَيْرِهِمَا.
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ مِنْ أَسْخَى النَّاسِ، يُعْطِي الْجَزِيلَ الْكَثِيرَ وَيَسْتَقِلُّهُ، وَقَدْ تَصَدَّقَ مَرَّةً بِأَلْفَيْ أَلْفٍ، وَأَعْطَى مَرَّةً رَجُلًا سِتِّينَ أَلْفًا، وَمَرَّةً أَعْطَى رَجُلًا أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَقِيلَ: إِنَّ رَجُلًا جَلَبَ مَرَّةً سُكَّرًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَكَسَدَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَشْتَرِهِ أَحَدٌ، فَأَمَرَ ابْنُ جَعْفَرٍ قَيِّمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَأَنْ يَهَبَهُ لِلنَّاسِ. وَقِيلَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَجَّ وَنَزَلَ الْمَدِينَةَ فِي دَارِ مَرْوَانَ قَالَ يَوْمًا لِحَاجِبِهِ: انْظُرْ هَلْ تَرَى بِالْبَابِ الْحَسَنَ أَوِ الْحُسَيْنَ أَوِ ابْنَ جَعْفَرٍ أَوْ فُلَانًا - وَعَدَّ جَمَاعَةً - فَخَرَجَ فَلَمْ يَرَ

أَحَدًا، فَقِيلَ لَهُ: هُمْ مُجْتَمِعُونَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ يَتَغَدَّوْنَ. فَأَتَى مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: مَا أَنَا إِلَّا كَأَحَدِهِمْ. ثُمَّ أَخَذَ عَصًا فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَى بَابَ ابْنِ جَعْفَرٍ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، وَدَخَلَ فَأَجْلَسَهُ فِي صَدْرِ فِرَاشِهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَيْنَ غَدَاؤُكَ يَا ابْنَ جَعْفَرٍ ؟ فَقَالَ: وَمَا تَشْتَهِي مِنْ شَيْءٍ فَادْعُ بِهِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَطْعِمْنَا مُخًّا. فَقَالَ: يَا غُلَامُ هَاتِ مُخًّا. فَجَاءَ بِصَحْفَةٍ فَأَكَلَ مُعَاوِيَةُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ لِغُلَامِهِ: هَاتِ مُخًّا. فَجَاءَ بِصَحْفَةٍ أُخْرَى مَلْآنَةً مُخًّا، إِلَى أَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَتَعَجَّبَ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ: يَا ابْنَ جَعْفَرٍ مَا يَسَعُكَ إِلَّا الْكَثِيرُ مِنَ الْعَطَاءِ. فَلَمَّا خَرَجَ مُعَاوِيَةُ أَمَرَ لَهُ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَكَانَ ابْنُ جَعْفَرٍ صَدِيقًا لِمُعَاوِيَةَ، وَكَانَ يَفِدُ عَلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ فَيُعْطِيهِ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَيَقْضِي لَهُ مِائَةَ حَاجَةٍ، وَلَمَّا حَضَرَتْ مُعَاوِيَةَ الْوَفَاةُ أَوْصَى ابْنَهُ يَزِيدَ بِهِ. فَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ جَعْفَرٍ عَلَى يَزِيدَ قَالَ لَهُ: كَمْ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُعْطِيكَ كُلَّ سَنَةٍ ؟ قَالَ: أَلْفَ أَلْفٍ. فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَضَعَفْنَاهَا لَكَ. وَكَانَ يُعْطِيهِ أَلْفَيْ أَلْفٍ كُلَّ سَنَةٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا قُلْتُهَا لِأَحَدٍ قَبْلَكَ، وَلَا أَقُولُهَا لِأَحَدٍ بَعْدَكَ. فَقَالَ يَزِيدُ: وَلَا أَعْطَاكَهَا أَحَدٌ قَبْلِي، وَلَا يُعْطِيكَهَا أَحَدٌ بَعْدِي.
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَ ابْنِ جَعْفَرٍ جَارِيَةٌ تُغَنِّيهِ تُسَمَّى عِمَارَةَ، وَكَانَ يُحِبُّهَا مَحَبَّةً عَظِيمَةً، فَحَضَرَ عِنْدَهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ يَوْمًا، فَغَنَّتِ الْجَارِيَةُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا يَزِيدُ

افْتُتِنَ بِهَا وَلَمْ يَجْسُرْ عَلَى ابْنِ جَعْفَرٍ أَنْ يَطْلُبَهَا مِنْهُ، خَوْفًا أَنْ يَمْنَعَهُ إِيَّاهَا، فَلَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِ يَزِيدَ مِنْهَا حَتَّى مَاتَ أَبُوهُ مُعَاوِيَةُ، فَبَعَثَ يَزِيدُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ تِجَارَةً، وَأَمَرَهُ أَنَّ يَتَلَطَّفَ فِي أَمْرِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ، فَقَدِمَ الرَّجُلُ الْمَدِينَةَ، وَنَزَلَ جِوَارَ ابْنِ جَعْفَرٍ، وَأَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا وَتُحَفًا كَثِيرَةً، وَأَنِسَ بِهِ، وَلَا زَالَ حَتَّى أَخَذَ الْجَارِيَةَ، وَأَتَى بِهَا يَزِيدَ، وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَذُمُّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ عَلَى سَمَاعِهِ الْغِنَاءَ وَاللَّهْوِ، وَشِرَائِهِ الْمُوَلَّدَاتِ، وَيَقُولُ: أَمَا يَكْفِيهِ هَذَا الْأَمْرُ الْقَبِيحُ الَّذِي هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَغَيْرِهَا ؟ حَتَّى زَوَّجَ الْحَجَّاجَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ يَقُولُ: إِنَّمَا تَزَوَّجْتُهَا لِأَذِلَّ بِهَا آلَ أَبِي طَالِبٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا. وَقَدْ كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَطَلَّقَهَا. أَسْنَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ حَدِيثًا
. أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ
اسْمُهُ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، لَهُ أَحْوَالٌ وَمَنَاقِبُ، كَانَ يَقُولُ: قَلْبٌ نَقِيٌّ فِي ثِيَابٍ دَنِسَةٍ خَيْرٌ مِنْ قَلْبٍ دَنِسٍ فِي ثِيَابٍ نَقِيَّةٍ. وَقَدْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ ".
مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ الْقَدَرِيُّ
يُقَالُ: إِنَّهُ مَعْبَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ رَاوِي

حَدِيثِ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ. سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمُعَاوِيَةَ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَشَهِدَ يَوْمَ التَّحْكِيمِ، وَسَأَلَ أَبَا مُوسَى فِي ذَلِكَ، وَوَصَّاهُ، ثُمَّ اجْتَمَعَ بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَوَصَّاهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: إِيهًا يَا تَيْسَ جُهَيْنَةَ، مَا أَنْتَ مِنْ أَهْلِ السِّرِّ وَلَا الْعَلَانِيَةِ، وَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُكَ الْحَقُّ وَلَا يَضُرُّكُ الْبَاطِلُ. وَهَذَا تَوَسُّمٌ فِيهِ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ; وَلِهَذَا كَانَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يُقَالُ لَهُ: سَوْسَنُ. وَأَخَذَ غَيْلَانُ الْقَدَرَ مِنْ مَعْبَدٍ.
وَقَدْ كَانَتْ لِمَعْبَدٍ عِبَادَةٌ، وَفِيهِ زَهَادَةٌ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ فِي حَدِيثِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِيَّاكُمْ وَمَعْبَدًا ; فَإِنَّهُ ضَالٌّ مُضِلٌّ. وَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَعَاقَبَهُ الْحَجَّاجُ عُقُوبَةً عَظِيمَةً بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، ثُمَّ قَتَلَهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ: بَلْ صَلَبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ قَتَلَهُ. وَقَالَ

خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: مَاتَ قَبْلَ التِّسْعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ
فَفِيهَا: فَتَحَ عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ مَدِينَةَ قَالِيقَلَا، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَفِيهَا قُتِلَ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ ; قَتَلَهُ بُحَيْرُ بْنُ وَرْقَاءَ الصُّرَيْمِيُّ، وَكَانَ بُكَيْرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الشُّجْعَانِ، ثُمَّ ثَارَ لَبُكَيْرِ بْنِ وِشَاحٍ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهُ: صَعْصَعَةُ بْنُ حَرْبٍ الْعَوْفِيُّ الصُّرَيْمِيُّ. فَقَتَلَ بُحَيْرَ بْنَ وَرْقَاءَ الَّذِي قَتَلَ بُكَيْرًا ; طَعْنُهُ بِخِنْجَرٍ، وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ، فَحُمِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ، فَبَعَثَ الْمُهْلَّبُ بِصَعْصَعَةَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ بُحَيْرُ بْنُ وَرْقَاءَ قَالَ: ضَعُوا رَأْسَهُ عِنْدَ رِجْلِي. فَوَضَعُوهُ، فَطَعَنَهُ بَحِيرٌ بِحَرْبَتِهِ حَتَّى قَتَلَهُ، وَمَاتَ عَلَى إِثْرِهِ. وَقَدْ قَالَ لَهُ أَنَسُ بْنُ طَارِقٍ: اعْفُ عَنْهُ، فَقَدْ قَتَلْتَ بُكَيْرَ بْنَ وِشَاحٍ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا أَمُوتُ وَهَذَا حَيٌّ. ثُمَّ قَتَلَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا قُتِلَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فِتْنَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: كَانَ ابْتِدَاؤُهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِي سَنَةِ

ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ، وَقَدْ سَاقَهَا ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَوَافَقْنَاهُ فِي ذَلِكَ.
وَكَانَ سَبَبَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ أَنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ كَانَ الْحَجَّاجُ يُبْغِضُهُ، وَكَانَ هُوَ يَفْهَمُ ذَلِكَ، وَيُضْمِرُ لَهُ السُّوءَ وَزَوَالَ الْمُلْكِ عَنْهُ، فَلَمَّا أَمَّرَهُ الْحَجَّاجُ عَلَى ذَلِكَ الْجَيْشِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَأَمَرَهُ بِدُخُولِ بِلَادِ رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ، فَمَضَى وَصَنَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَخْذِهِ بَعْضَ بِلَادِ التُّرْكِ، ثُمَّ رَأَى لِأَصْحَابِهِ أَنْ يُقِيمُوا حَتَّى يَتَقَوَّوْا إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يَسْتَهْجِنُ رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ، وَيَسْتَضْعِفُ عَقْلَهُ، وَيَقْرَعُهُ بِالْجُبْنِ وَالنُّكُولِ عَنِ الْحَرْبِ، وَيَأْمُرُهُ حَتْمًا بِدُخُولِ بِلَادِ رُتْبِيلَ، ثُمَّ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِكِتَابٍ ثَانٍ ثُمَّ ثَالِثٍ، فَلَمَّا تَوَارَدَتْ كُتُبُ الْحَجَّاجِ إِلَيْهِ يَحُثُّهُ عَلَى التَّوَغُّلِ فِي بِلَادِ رُتْبِيلَ، جَمَعَ مَنْ مَعَهُ، وَقَامَ فِيهِمْ، فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا كَانَ رَأَى مِنَ الرَّأْيِ فِي ذَلِكَ، وَبِمَا كَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ مِنَ الْأَمْرِ بِمُعَاجَلَةِ رُتْبِيلَ، فَثَارَ

إِلَيْهِ النَّاسُ، وَقَالُوا: لَا، بَلْ نَأْبَى عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ الْحَجَّاجِ، وَلَا نَسْمَعُ لَهُ وَلَا نُطِيعُ. قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي مُطَرِّفُ بْنُ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ الْكِنَانِيُّ، أَنَّ أَبَاهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ شَاعِرًا خَطِيبًا، وَكَانَ مِمَّا قَالَ: إِنَّ مَثَلَ الْحَجَّاجِ فِي هَذَا الرَّأْيِ وَمَثَلَنَا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ لِأَخِيهِ: احْمِلْ عَبْدَكَ عَلَى الْفَرَسِ، فَإِنْ هَلَكَ هَلَكَ، وَإِنْ نَجَا فَلَكَ. إِنَّكُمْ إِنْ ظَفِرْتُمْ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي سُلْطَانِهِ، وَإِنْ هَلَكْتُمْ كُنْتُمُ الْأَعْدَاءَ الْبُغَضَاءُ. ثُمَّ قَالَ: اخْلَعُوا عَدُوَّ اللَّهِ الْحَجَّاجَ - وَلَمْ يَذْكُرْ خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ - وَبَايِعُوا لِأَمِيرِكُمْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوَّلُ خَالِعٍ لِلْحَجَّاجِ. فَقَالَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ: خَلَعْنَا عَدُوَّ اللَّهِ. وَوَثَبُوا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ فَبَايَعُوهُ عِوَضًا عَنِ الْحَجَّاجِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَبَعَثَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى رُتْبِيلَ، فَصَالَحَهُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ ظَفِرَ بِالْحَجَّاجِ فَلَا خَرَاجَ عَلَى رُتْبِيلَ أَبَدًا، ثُمَّ سَارَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِالْجُنُودِ الَّذِينَ مَعَهُ مُقْبِلًا مِنْ سِجِسْتَانَ إِلَى الْحَجَّاجِ ; لِيُقَاتِلَهُ وَيَأْخُذَ مِنْهُ الْعِرَاقَ، ثُمَّ لَمَّا تَوَسَّطُوا الطَّرِيقَ قَالُوا: إِنَّ خَلْعَنَا لِلْحَجَّاجِ خَلْعٌ لِابْنِ مَرْوَانَ. فَخَلَعُوهُمَا جَمِيعًا، وَجَدَّدُوا الْبَيْعَةَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ، فَبَايَعَهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسِنَةِ رَسُولِهِ، وَخَلْعِ أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَجِهَادِ الْمُحِلِّينَ. فَإِذَا قَالُوا: نَعَمْ. بَايَعَهُمْ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ مَا صَنَعُوا مِنْ خَلْعِهِ وَخَلْعِ

ابْنِ مَرْوَانَ، كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَيَسْتَعْجِلُهُ فِي بَعْثِهِ الْجُنُودَ إِلَيْهِ، وَجَاءَ الْحَجَّاجُ حَتَّى نَزَلَ الْبَصْرَةَ، وَبَلَغَ الْمُهَلَّبَ خَبَرُ ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَدْعُوهُ إِلَى ذَلِكَ فَأَبَى عَلَيْهِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَكَتَبَ الْمُهَلَّبُ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ يَا ابْنَ الْأَشْعَثِ قَدْ وَضَعْتَ رَجْلَكَ فِي رِكَابٍ طَوِيلٍ، أَبْقِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللَّهَ اللَّهَ، انْظُرْ لِنَفْسِكَ فَلَا تُهْلِكْهَا، وَدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَسْفِكْهَا، وَالْجَمَاعَةِ فَلَا تُفَرِّقْهَا، وَالْبَيْعَةِ فَلَا تَنْكُثْهَا، فَإِنْ قُلْتَ: أَخَافُ النَّاسَ عَلَى نَفْسِي، فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخَافَهُ مِنَ النَّاسِ، فَلَا تُعَرِّضْهَا لِلَّهِ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ، أَوِ اسْتِحْلَالِ مُحَرَّمٍ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ.
وَكَتَبَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْحَجَّاجِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ قَدْ أَقْبَلُوا إِلَيْكَ مِثْلَ السَّيْلِ الْمُنْحَدِرِ مِنْ عَلِ، لَيْسَ شَيْءٌ يَرُدُّهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى قَرَارِهِ، وَإِنَّ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ شِرَّةً فِي أَوَّلِ مَخْرَجِهِمْ وَصَبَابَةً إِلَى أَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَلَيْسَ شَيْءٌ يَرُدُّهُمْ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ، وَيَشَمُّوا أَوْلَادَهُمْ، ثُمَّ وَاقِعْهُمْ عِنْدَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

فَلَمَّا قَرَأَ الْحَجَّاجُ كِتَابَهُ قَالَ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ، لَا وَاللَّهِ مَا لِي نَظَرَ، وَلَكِنْ لِابْنِ عَمِّهِ نَصَحَ. وَلَمَّا وَقَعَ كِتَابُ الْحَجَّاجِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ هَالَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ، وَبَعَثَ إِلَى خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَأَقْرَأَهُ كِتَابَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كَانَ هَذَا الْحَدَثُ مِنْ قِبَلِ خُرَاسَانَ فَخَفْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ سِجِسْتَانَ فَلَا تَخَفْهُ.
ثُمَّ أَخَذَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي تَجْهِيزِ الْجُنُودِ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ فِي نُصْرَةِ الْحَجَّاجِ، وَتَجْهِيزِ الْحَجَّاجِ لِلْخُرُوجِ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَعَصَى رَأْيَ الْمُهَلَّبِ فِيمَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِ، وَكَانَ فِيهِ النُّصْحُ وَالصِّدْقُ، وَجُعِلَتْ كُتُبُ الْحَجَّاجِ لَا تَنْقَطِعُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بِخَبَرِ ابْنِ الْأَشْعَثِ صَبَاحًا وَمَسَاءً ; أَيْنَ نَزَلَ ؟ وَمِنْ أَيْنَ ارْتَحَلَ ؟ وَأَيُّ النَّاسِ إِلَيْهِ أَسْرَعُ ؟ وَجَعَلَ النَّاسُ يَلْتَفُّونَ عَلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ سَارَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ فَارِسٍ، وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ رَاجِلٍ، وَخَرَجَ الْحَجَّاجُ فِي جُنُودِ الشَّامِ مِنَ الْبَصْرَةِ نَحْوَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَنَزَلَ تُسْتَرَ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُطَهِّرَ بْنَ حَيٍّ الْعَكِّيَّ أَمِيرًا عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زُمَيْتٍ أَمِيرًا آخَرَ، فَانْتَهَوْا إِلَى دُجَيْلٍ، فَإِذَا مُقَدِّمَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبَانٍ الْحَارِثِيُّ، فَالْتَقَوْا فِي يَوْمِ الْأَضْحَى عِنْدَ نَهْرِ دُجَيْلٍ، فَهُزِمَتْ مُقَدِّمَةُ الْحَجَّاجِ، وَقَتَلَ أَصْحَابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، نَحْوَ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ،

وَاحْتَازُوا مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ مِنْ خُيُولٍ وَقُمَاشٍ وَأَمْوَالٍ، وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى الْحَجَّاجِ بِهَزِيمَةِ أَصْحَابِهِ، فَأَخَذَهُ مَا دَبَّ وَدَرَجَ، وَقَدْ كَانَ قَائِمًا يَخْطُبُ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ارْجِعُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُ أَرْفَقُ بِالْجُنْدِ، فَرَجَعَ بِالنَّاسِ، وَاتَّبَعَتْهُمْ خُيُولُ ابْنِ الْأَشْعَثِ لَا يُدْرِكُونَ مِنْهُمْ شَاذًّا إِلَّا قَتَلُوهُ، وَلَا فَاذًّا إِلَّا أَهْلَكُوهُ، وَمَضَى الْحَجَّاجُ هَارِبًا لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ، حَتَّى أَتَى الزَّاوِيَةَ، فَعَسْكَرَ عِنْدَهَا، وَجَعَلَ يَقُولُ: لِلَّهِ دَرُّ الْمُهَلَّبِ ! أَيُّ صَاحِبِ حَرْبٍ هُوَ ؟ ! قَدْ أَشَارَ عَلَيْنَا بِالرَّأْيِ، وَلَكِنَّا لَمْ نَقْبَلْ.
وَأَنْفَقَ الْحَجَّاجُ عَلَى جَيْشِهِ - وَهُوَ بِهَذَا الْمَكَانِ - مِائَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَخَنْدَقَ حَوْلَ جَيْشِهِ خَنْدَقًا، وَجَاءَ أَهْلُ الْعِرَاقِ فَدَخَلُوا الْبَصْرَةَ، وَاجْتَمَعُوا بِأَهَالِيهِمْ وَشَمُّوا أَوْلَادَهُمْ، وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ الْبَصْرَةَ، فَخَطَبَ النَّاسَ بِهَا، وَبَايَعَهُمْ وَبَايَعُوهُ عَلَى خَلْعِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَنَائِبِهِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَقَالَ لَهُمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ: لَيْسَ الْحَجَّاجُ بِشَيْءٍ، وَلَكِنِ اذْهَبُوا بِنَا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ لِنُقَاتِلَهُ. وَوَافَقَهُ عَلَى خَلْعِهِمَا جَمِيعُ مَنْ بِالْبَصْرَةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالشُّيُوخِ وَالشَّبَابِ، ثُمَّ أَمَرَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِخَنْدَقٍ حَوْلَ الْبَصْرَةِ فَعَمِلَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو

مَعْشَرٍ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِيهَا غَزَا مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ أَمِيرُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ، فَافْتَتَحَ مُدُنًا كَثِيرَةً، وَأَرَاضِيَ عَامِرَةً، وَأَوْغَلَ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى الزُّقَاقِ الْمُنْبَثِقِ مِنَ الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ الْمُحِيطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

بُحَيْرُ بْنُ وَرْقَاءَ الصُّرَيْمِيُّ الْبَصْرِيُّ
أَحَدُ الْأَشْرَافِ بِخُرَاسَانَ، وَالْقُوَّادِ وَالْأُمَرَاءِ، وَهُوَ الَّذِي حَارَبَ ابْنَ خَازِمٍ وَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ بُكَيْرَ بْنَ وِشَاحٍ.
ثُمَّ قُتِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ:
سُوِيدُ بْنُ غَفْلَةَ بْنِ عَوْسَجَةَ بْنِ عَامِرٍ
أَبُو أُمَيَّةَ الْجَعَفِيُّ الْكُوفِيُّ، شَهِدَ الْيَرْمُوكَ، وَحَدَّثَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْمُخَضْرَمِينَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى مَعَهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ عَامَ وُلِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وُلِدَ بَعْدَهُ بِسَنَتَيْنِ. وَعَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، لَمْ يُرَ يَوْمًا مُحْتَبِيًا وَلَا مُتَسَانِدًا، وَافْتَضَّ بِكْرًا عَامَ وَفَاتِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ

وَثَمَانِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ
كَانَ مِنَ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ الْعُلَمَاءِ، وَلَهُ وَصَايَا وَكَلِمَاتٌ حِسَانٌ، وَقَدْ رَوَى عِدَّةَ أَحَادِيثَ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعِينَ.

مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَبُو الْقَاسِمِ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَمَةً سَوْدَاءَ سِنْدِيَّةً مِنْ سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ، اسْمُهَا خَوْلَةُ.
وُلِدَ مُحَمَّدٌ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَوَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَعَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَقَدْ صَرَعَ مَرْوَانَ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَقَعَدَ عَلَى صَدْرِهِ، وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَنَاشَدَهُ مَرْوَانُ بِاللَّهِ، وَتَذَلَّلَ لَهُ فَأَطْلَقَهُ، فَلَمَّا وَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ ذَكَّرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: عَفْوًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَعَفَا عَنْهُ، وَأَجْزَلَ لَهُ الْجَائِزَةَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ، وَمِنَ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، وَمِنَ الْأَقْوِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَلَمَّا بُويِعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ لَمْ يُبَايِعْهُ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا شَرٌّ عَظِيمٌ، حَتَّى هَمَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَبَايَعَهُ ابْنُ عُمَرَ، تَابَعَهُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي الَّتِي قَبِلَهَا، أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا. وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَالرَّافِضَةُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ بِجَبَلِ رَضْوَى، وَأَنَّهُ حَيٌّ يُرْزَقُ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ، وَقَدْ قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ فِي ذَلِكَ:
أَلَا إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وُلَاةُ الْحَقِّ أَرْبَعَةٌ سَوَاءُ عَلَيٌّ وَالثَّلَاثَةُ مِنْ بَنِيهِ
هُمُ الْأَسْبَاطُ لَيْسَ بِهِمْ خَفَاءُ فَسِبْطٌ سِبْطُ إِيمَانٍ وَبِرٍّ
وَسِبْطٌ غَيَّبَتْهُ كَرْبُلَاءُ

وَسِبْطٌ لَا تَرَاهُ الْعَيْنُ حَتَّى
يَقُودَ الْخَيْلَ يَقْدُمُهَا لِوَاءُ تَغَيَّبَ لَا يُرَى عَنْهُمْ زَمَانًا
بِرَضْوَى عِنْدَهُ عَسَلٌ وَمَاءُ

وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كَانَتْ شِيعَتُهُ تَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَفِيهِ يَقُولُ السَّيِّدُ:
أَلَا قُلْ لِلْوَصِيِّ فَدَتْكَ نَفْسِي أَطَلْتَ بِذَلِكَ الْجَبَلِ الْمُقَامَا
أَضَرَّ بِمَعْشَرٍ وَالَوْكَ مِنَّا وَسَمَّوْكَ الْخَلِيفَةَ وَالْإِمَامَا
وَعَادَوْا فِيكَ أَهْلَ الْأَرْضِ طُرًّا مَقَامُكَ عَنْهُمُ سِتِّينَ عَامَا
وَمَا ذَاقَ ابْنُ خَوْلَةَ طَعْمَ مَوْتٍ وَلَا وَارَتْ لَهُ أَرْضٌ عِظَامَا
لَقَدْ أَمْسَى بِمُورِقِ شِعْبِ رَضْوَى تُرَاجِعُهُ الْمَلَائِكَةُ الْكَلَامَا
وَإِنَّ لَهُ بِهِ لَمَقِيلَ صِدْقٍ وَأَنْدِيَةً تُحَدِّثُهُ كِرَامَا
هَدَانَا اللَّهُ إِذْ حُزْتُمْ لِأَمْرٍ بِهِ وَعَلَيْهِ نَلْتَمِسُ الْتَمَامَا
تَمَامَ مَوَدَّةِ الْمَهْدِيِّ حَتَّى تَرَوْا رَايَاتِهِ تَتْرَى نِظَامَا
وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الرَّافِضَةِ إِلَى إِمَامَتِهِ، وَأَنَّهُ يُنْتَظَرُ خُرُوجُهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا يَنْتَظِرُ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُمُ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيَّ، الَّذِي يَخْرُجُ فِي زَعْمِهِمْ مِنْ سِرْدَابِ سَامَرَّا، وَهَذَا مِنْ خُرَافَاتِهِمْ وَهَذَيَانِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَبُهْتَانِهِمْ، وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ
فَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الزَّاوِيَةِ بَيْنَ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَالْحَجَّاجِ فِي آخِرِهِ، وَكَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، ثُمَّ تَوَاقَعُوا يَوْمًا آخَرَ، فَحَمَلَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ - أَحَدُ أُمَرَاءِ أَهْلِ الشَّامِ - عَلَى مَيْمَنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَهَزَمَهَا، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَخَرَّ الْحَجَّاجُ لِلَّهِ سَاجِدًا بَعْدَمَا كَانَ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَسَلَّ شَيْئًا مِنْ سَيْفِهِ، وَجَعَلَ يَتَرَحَّمُ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَيَقُولُ: مَا كَانَ أَكْرَمَهُ حِينَ صَبَرَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ.
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ: أَبُو الطُّفَيْلِ بْنُ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ. وَلَمَّا فَرَّ أَصْحَابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ رَجَعَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ، وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ الْكُوفَةَ، فَعَمَدَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَبَايَعُوهُ، فَقَاتَلَ الْحَجَّاجَ خَمْسَ لَيَالٍ أَشَدَّ الْقِتَالِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَحِقَ بِابْنِ الْأَشْعَثِ، وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَاسْتَنَابَ الْحَجَّاجُ عَلَى الْبَصْرَةِ أَيُّوبَ بْنَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ،

وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ الْكُوفَةَ، فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا عَلَى خَلْعِ الْحَجَّاجِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَكَثُرَ مُتَابِعُو ابْنِ الْأَشْعَثِ عَلَى ذَلِكَ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ، وَتَفَرَّقَتِ الْكَلِمَةُ جِدًّا، وَعَظُمَ الْخَطْبُ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا الْتَقَى جَيْشُ الْحَجَّاجِ وَجَيْشُ ابْنِ الْأَشْعَثِ بِالزَّاوِيَةِ، جَعَلَ جَيْشُ الْحَجَّاجِ يَحْمِلُ عَلَيْهِمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَقَالَ الْقُرَّاءُ - وَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبَلَةُ بْنُ زَحْرٍ -: أَيُّهَا النَّاسُ، لَيْسَ الْفِرَارُ مِنْ أَحَدٍ بِأَقْبَحَ مِنْهُ مِنْكُمْ، فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: قَاتِلُوهُمْ عَلَى جَوْرِهِمْ، وَاسْتِذْلَالِهِمُ الضُّعَفَاءَ، وَإِمَاتَتِهِمُ الصَّلَاةَ. ثُمَّ حَمَلَتِ الْقُرَّاءُ - وَهُمُ الْعُلَمَاءُ - عَلَى جَيْشِ الْحَجَّاجِ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَبَدَّعُوا فِيهِمْ، ثُمَّ رَجَعُوا فَإِذَا هُمْ بِمُقَدَّمِهِمْ جَبَلَةُ بْنُ زَحْرٍ صَرِيعًا، فَهَدَّهُمْ ذَلِكَ، فَنَادَاهُمْ جَيْشُ الْحَجَّاجِ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ، قَدْ قَتَلْنَا طَاغِيَتَكُمْ. ثُمَّ حَمَلَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ - وَهُوَ عَلَى خَيْلِ الْحَجَّاجِ - عَلَى مَيْسَرَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ - وَعَلَيْهَا الْأَبْرَدُ بْنُ قُرَّةَ التَّمِيمِيُّ - فَانْهَزَمُوا، وَلَمْ يُقَاتِلُوا كَثِيرَ قِتَالٍ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ مِنْهُمْ ذَلِكَ، وَكَانَ أَمِيرُ مَيْسَرَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ - الْأَبْرَدُ - شُجَاعًا لَا يَفِرُّ، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ خَامَرَ، فَنُقِضَتِ الصُّفُوفُ، وَرَكِبَ النَّاسُ

بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ، فَلَمَّا رَأَى مَا النَّاسُ فِيهِ أَخَذَ مَنِ اتَّبَعَهُ وَذَهَبَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا.

ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ.
وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ لَمَّا قَصَدَ الْكُوفَةَ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا، فَتَلَقَّوْهُ، وَحَفَوْا بِهِ، وَدَخَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ شِرْذِمَةً قَلِيلَةً أَرَادَتْ أَنْ تُقَاتِلَهُ دُونَ مَطَرِ بْنِ نَاجِيَةَ نَائِبِ الْحَجَّاجِ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَعَدَلُوا إِلَى الْقَصْرِ، فَلَمَّا وَصَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى الْكُوفَةِ أَمَرَ بِالسَّلَالِيمِ فَنُصِبَتْ عَلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَأَخَذَهُ، وَاسْتَنْزَلَ مَطَرَ بْنَ نَاجِيَةَ، وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَقَالَ لَهُ: اسْتَبْقِنِي; فَإِنِّي خَيْرٌ مِنْ فُرْسَانِكَ. فَحَبَسَهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ فَأَطْلَقَهُ وَبَايَعَهُ، وَاسْتَوْثَقَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ أَمْرُ الْكُوفَةِ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَنْ جَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ قَدِمَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَمَرَ بِالْمَسَالِحِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَحُفِظَتِ الثُّغُورُ وَالطُّرُقُ وَالْمَسَالِكُ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ رَكِبَ فَيْمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ مِنَ الْبَصْرَةِ فِي الْبَرِّ، حَتَّى مَرَّ بَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ وَالْعُذَيْبِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ الْأَشْعَثِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْعَبَّاسِ فِي خَيْلٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمَصْرَيْنِ، فَمَنَعُوا الْحَجَّاجَ مِنْ نُزُولِ الْقَادِسِيَّةِ، فَسَارَ الْحَجَّاجُ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ قُرَّةَ، وَجَاءَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ الْبَصْرِيَّةِ وَالْكُوفِيَّةِ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ الْجَمَاجِمِ، وَمَعَهُ جُنُودٌ كَثِيرَةٌ، وَفِيهِمُ الْقُرَّاءُ مِنَ الْمِصْرَيْنِ، وَخَلْقٌ مِنَ

الصَّالِحِينَ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: قَاتَلَ اللَّهُ ابْنَ الْأَشْعَثِ، أَمَا كَانَ يَزْجُرُ الطَّيْرَ حَيْثُ رَآنِي قَدْ نَزَلْتُ دَيْرَ قُرَّةَ، وَنَزَلَ هُوَ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ. وَكَانَ جُمْلَةُ مَنِ اجْتَمَعَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مِمَّنْ يَأْخُذُ الْعَطَاءَ، وَمَعَهُمْ مِثْلُهُمْ مِنْ مَوَالِيهِمْ، وَقَدِمَ عَلَى الْحَجَّاجِ فِي غُبُونِ ذَلِكَ أَمْدَادٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الشَّامِ، وَخَنْدَقَ كُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَحَوْلَ جَيْشِهِ خَنْدَقًا، يُمْتَنَعُ بِهِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، غَيْرَ أَنَّ النَّاسَ كَانَ يَبْرُزُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَيَقْتَتِلُونَ قِتَالًا شَدِيدًا فِي كُلِّ يَوْمٍ، حَتَّى أُصِيبَ مِنْ رُءُوسِ النَّاسِ خَلْقٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَاجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ مِنْ أَهْلِ الْمَشُورَةِ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ كَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يُرْضِيهِمْ مِنْكَ أَنْ تَعْزِلَ عَنْهُمُ الْحَجَّاجَ فَهُوَ أَيْسَرُ مِنْ قِتَالِهِمْ وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ، فَاسْتَحْضَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ عِنْدَ ذَلِكَ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ، وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَمَعَهُمَا جُنُودٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَتَبَ مَعَهُمَا كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقُولُ لَهُمْ: إِنْ كَانَ يُرْضِيكُمْ مِنِّي عَزْلُ الْحَجَّاجِ عَنْكُمْ عَزَلْتُهُ، وَأَبْقَيْتُ عَلَيْكُمْ أُعْطِيَّاتِكُمْ مِثْلَ أَهْلِ الشَّامِ، وَلْيَخْتَرِ ابْنُ الْأَشْعَثِ أَيَّ بَلَدٍ شَاءَ يَكُونُ عَلَيْهِ أَمِيرًا مَا عَاشَ وَعِشْتُ، وَتَكُونُ إِمْرَةُ الْعِرَاقِ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ. وَقَالَ فِي عَهْدِهِ هَذَا: فَإِنْ لَمْ يُجِبْ أَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى ذَلِكَ فَالْحَجَّاجُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ إِمْرَةُ الْحَرْبِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي طَاعَتِهِ وَتَحْتَ أَمْرِهِ، لَا يَخْرُجُونَ

عَنْ رَأْيِهِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ.
وَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ مَا كَتَبَ بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ عَزْلِهِ إِنْ رَضُوا بِهِ، شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مَشَقَّةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَعَظُمَ شَأْنُ هَذَا الرَّأْيِ عِنْدَهُ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ لَئِنْ أَعْطَيْتَ أَهْلَ الْعِرَاقِ نَزْعِي عَنْهُمْ لَا يَلْبَثُونَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يُخَالِفُوكَ وَيَسِيرُوا إِلَيْكَ، وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا جُرْأَةً عَلَيْكَ، أَلَمْ تَرَ وَتَسْمَعْ بِوُثُوبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَعَ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ عَلَى ابْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا سَأَلَهُمْ: مَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نَزْعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَلَمَّا نَزَعَهُ لَمْ تَتِمَّ لَهُمُ السَّنَةُ حَتَّى سَارُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ؟ وَإِنَّ الْحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ، كَانَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا ارْتَأَيْتَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ.
قَالَ: فَأَبَى عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَّا عَرْضَ هَذِهِ الْخِصَالِ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ كَمَا أَمَرَ، فَتَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ، فَنَادَى عَبْدُ اللَّهِ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَذَكَرَ مَا كَتَبَ بِهِ أَبُوهُ مَعَهُ إِلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ: وَأَنَا رَسُولُ أَخِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكُمْ بِذَلِكَ. فَقَالُوا: نَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا غَدًا، وَنَرُدُّ عَلَيْكُمُ الْخَبَرَ عَشِيَّةً، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَاجْتَمَعَ جَمِيعُ الْأُمَرَاءِ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا،

وَنَدَبَهُمْ إِلَى قَبُولِ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ عَزْلِ الْحَجَّاجِ عَنْهُمْ، وَبَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَإِبْقَاءِ الْأُعْطِيَّاتِ، وَإِمْرَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ بَدَلَ الْحَجَّاجِ. فَنَفَرَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَقْبَلُ ذَلِكَ; نَحْنُ أَكْثَرُ عَدَدًا وَعُدَدًا، وَهُمْ فِي ضِيقٍ مِنَ الْحَالِ، وَقَدْ حَكَّمْنَا عَلَيْهِمْ وَذَلُّوا لَنَا، وَاللَّهِ لَا نُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ أَبَدًا. ثُمَّ جَدَّدُوا خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ثَانِيَةً، وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ كُلُّهُمْ.
فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَعَمَّهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ الْخَبَرُ قَالَا لِلْحَجَّاجِ: شَأْنُكَ بِهِمْ إِذًا، فَنَحْنُ فِي طَاعَتِكَ كَمَا أَمَرَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَكَانَا إِذَا لَقِيَاهُ سَلَّمَا عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ، وَيُسَلِّمُ هُوَ أَيْضًا عَلَيْهِمْ بِالْإِمْرَةِ، وَتَوَلَّى الْحَجَّاجُ أَمْرَ الْحَرْبِ وَتَدْبِيرَهَا، كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ بَرَزَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِلْقِتَالِ وَالْحَرْبِ، فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سُلَيْمَانَ الْكَلْبِيَّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عُمَارَةَ بْنَ تَمِيمٍ اللَّخْمِيَّ، وَعَلَى الْخَيْلِ سُفْيَانَ بْنَ الْأَبْرَدِ، وَعَلَى الرَّجَّالَةِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَبِيبٍ الْحَكَمِيَّ، وَجَعَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ عَلَى مَيْمَنَتِهِ الْحَجَّاجَ بْنَ حَارِثَةَ الْخَثْعَمِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ الْأَبْرَدَ بْنَ قُرَّةَ التَّمِيمِيَّ، وَعَلَى الْخَيَّالَةِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعَلَى الرَّجَّالَةِ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍّ الزُّهْرِيَّ، وَعَلَى الْقُرَّاءِ جَبَلَةَ بْنَ زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ الْجُعْفِيَّ، وَكَانَ فِي الْقُرَّاءِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَكُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ - وَكَانَ شُجَاعًا فَاتِكًا عَلَى

كِبَرِ سِنِّهِ - وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَجَعَلُوا يَقْتَتِلُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ تَأْتِيهِمُ الْمِيرَةُ مِنَ الرَّسَاتِيقِ وَالْأَقَالِيمِ، مِنَ الْعَلَفِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّامِ الَّذِينَ مَعَ الْحَجَّاجِ فَفِي ضِيقٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَقِلَّةٍ مِنَ الطَّعَامِ، وَقَدْ فَقَدُوا اللَّحْمَ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَجِدُونَهُ، وَمَا زَالَتِ الْحَرْبُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلِّهَا، حَتَّى انْسَلَخَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ وَقِتَالِهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ، أَوْ يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ، وَالدَّائِرَةُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فِي أَكْثَرِ الْأَيَّامِ، وَقَدْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَجَّاجِ زِيَادُ بْنُ غَنْمٍ، وَكَسَرَ بِسْطَامُ بْنُ مِصْقَلَةَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ جُفُونَ سُيُوفِهِمْ، وَاسْتَقْتَلُوا، وَكَانُوا مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاةُ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ
وَهُوَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ ظَالِمٌ، أَبُو سَعِيدٍ الْأَزْدِيُّ، أَحَدُ أَشْرَافِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَوُجُوهِهِمْ وَدُهَاتِهِمْ وَأَجْوَادِهِمْ وَكُرَمَائِهِمْ، وُلِدَ عَامَ الْفَتْحِ، وَكَانُوا يَنْزِلُونَ فِيمَا بَيْنَ عُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ، وَقَدِ ارْتَدَّ قَوْمُهُ فَقَاتَلَهُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَظَفِرَ بِهِمْ، وَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى

الصِّدِّيقِ، وَفِيهِمْ أَبُو صُفْرَةَ، وَابْنُهُ الْمُهَلَّبُ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ، ثُمَّ نَزَلَ الْمُهَلَّبُ الْبَصْرَةَ وَقَدْ غَزَا فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ أَرْضَ الْهِنْدِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَوَلِيَ الْجَزِيرَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ وَلِيَ حَرْبَ الْخَوَارِجِ أَوَّلَ دَوْلَةِ الْحَجَّاجِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ فِي وَقْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَثَمَانَمِائَةٍ، فَعَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ الْحَجَّاجِ. وَكَانَ فَاضِلًا شُجَاعًا كَرِيمًا، يُحِبُّ الْمَدْحَ، وَلَهُ كَلَامٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ: نِعْمَ الْخَصْلَةُ السَّخَاءُ، تَسْتُرُ عَوْرَةَ الشَّرِيفِ، وَتَلْحَقُ خَسِيسَةَ الْوَضِيعِ، وَتُحَبِّبُ الْمَزْهُودَ فِيهِ. وَقَالَ: يُعْجِبُنِي فِي الرَّجُلِ خَصْلَتَانِ: أَنْ أَرَى عَقْلَهُ زَائِدًا عَلَى لِسَانِهِ، وَلَا أَرَى لِسَانَهُ زَائِدًا عَلَى عَقْلِهِ.
تُوُفِّيَ الْمُهَلَّبُ غَازِيًا بِمَرْوِ الرُّوذِ، وَعُمْرُهُ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ لَهُ عَشْرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ وَهُمْ: يَزِيدُ، وَزِيَادٌ، وَالْمُفَضَّلُ، وَمُدْرِكٌ، وَحَبِيبٌ، وَالْمُغِيرَةُ، وَقَبِيصَةُ، وَمُحَمَّدٌ، وَهِنْدٌ، وَفَاطِمَةُ.
تُوُفِّيَ الْمُهَلَّبُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ، وَلَهُ مَوَاقِفُ حَمِيدَةٌ، وَغَزَوَاتٌ مَشْهُورَةٌ فِي التُّرْكِ وَالْأَزَارِقَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَوَارِجِ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ عَلَى إِمْرَةِ خُرَاسَانَ، فَأَمْضَى لَهُ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا عَزَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَنْ

إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيَّ، وَكَانَتْ وِلَايَةُ أَبَانٍ عَلَى الْمَدِينَةِ سَبْعَ سِنِينَ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ عَلَى إِمْرَةِ بِلَادِ الْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، وَالنُّوَّابُ فِي الْأَقَالِيمِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ، وَهُوَ مَشْغُولٌ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَمَالِكِ بِحَرْبِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلِّهَا.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ الَّذِي كَانَ نَائِبَ الْمَدِينَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَسْمَاءُ بْنُ خَارِجَةَ الْفَزَارِيُّ الْكُوفِيُّ
كَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا، حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى يَوْمًا شَابًّا عَلَى بَابِ دَارِهِ جَالِسًا، فَسَأَلَهُ عَنْ قُعُودِهِ عَلَى بَابِهِ، فَقَالَ: حَاجَةٌ لَا أَسْتَطِيعُ ذِكْرَهَا. فَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: جَارِيَةٌ رَأَيْتُهَا دَخَلَتْ هَذِهِ الدَّارَ لَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْهَا، وَقَدْ خَطَفَتْ قَلْبِي مَعَهَا، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، وَأَدْخَلَهُ دَارَهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ كُلَّ جَارِيَةٍ عِنْدَهُ، حَتَّى مَرَّتْ تِلْكَ الْجَارِيَةُ، فَقَالَ: هَذِهِ. فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ فَاجْلِسْ عَلَى الْبَابِ مَكَانَكَ. فَخَرَجَ الشَّابُّ فَجَلَسَ مَكَانَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِ بَعْدَ سَاعَةٍ وَالْجَارِيَةُ مَعَهُ، قَدْ أَلْبَسَهَا أَنْوَاعَ الْحُلِيِّ، وَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَيْكَ وَأَنْتَ دَاخِلَ الدَّارِ إِلَّا أَنَّ الْجَارِيَةَ كَانَتْ لِأُخْتِي، وَكَانَتْ ضَنِينَةً بِهَا، فَاشْتَرَيْتُهَا لَكَ مِنْهَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَأَلْبَسْتُهَا هَذَا الْحُلِيَّ، فَهِيَ لَكَ بِمَا عَلَيْهَا، فَأَخَذَهَا الشَّابُّ وَانْصَرَفَ.

الْمُغِيرَةُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ
كَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا شُجَاعًا، لَهُ مَوَاقِفُ مَشْهُورَةٌ.
الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِقُبَاعٍ، وَلِيَ إِمْرَةَ الْبَصْرَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ
كَانَ مِنْ فُضَلَاءِ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَعْقَلِهِمْ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ
وَالِدُ الْفَقِيهِ إِسْحَاقَ، حَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ أُمُّ سُلَيْمٍ لَيْلَةَ مَاتَ ابْنُهَا، فَأَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ فَأَعْلَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعَرَسْتُمْ؟ بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا وَلَمَّا وُلِدَ حَنَّكَهُ بِتَمَرَاتٍ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
كَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ عَمِيَ، لَهُ رِوَايَاتٌ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ هَذِهِ السَّنَةَ.

سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ أَبُو أَيْمَنَ، الْخَوْلَانِيُّ الْمِصْرِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَغَزَا الْمَغْرِبَ، وَسَكَنَ مِصْرَ، وَبِهَا مَاتَ.
جَمِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ صَبَّاحِ بْنِ ظَبْيَانَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَرَامِ بْنِ ضِنَّةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْمِ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سُودِ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ، أَبُو عَمْرٍو الشَّاعِرُ
صَاحِبُ بُثَيْنَةَ، كَانَ قَدْ خَطَبَهَا فَمُنِعَتْ مِنْهُ، فَتَغَزَّلَ فِيهَا وَاشْتَهَرَ بِهَا، وَكَانَ أَحَدَ عُشَّاقِ الْعَرَبِ، كَانَتْ إِقَامَتُهُ بِوَادِي الْقُرَى، وَكَانَ عَفِيفًا صَيِّنًا،

دَيِّنًا شَاعِرًا إِسْلَامِيًّا، مِنْ أَفْصَحِ الشُّعَرَاءِ فِي زَمَانِهِ.
وَكَانَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ رَاوِيَتَهُ، وَهُوَ يَرْوِي عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَشْرَمٍ، عَنِ الْحُطَيْئَةِ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى، وَابْنِهِ كَعْبٍ. قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ: كَانَ جَمِيلٌ أَشْعَرَ الْعَرَبِ، حَيْثُ يَقُولُ:
وَخَبَّرْتُمَانِي أَنَّ تَيْمَاءَ مَنْزِلٌ لِلَيْلَى إِذَا مَا الصَّيْفُ أَلْقَى الْمَرَاسِيَا فَهَذِي شُهُورُ الصَّيْفِ عَنَّا قَدِ انْقَضَتْ
فَمَا لِلنَّوَى تَرْمِي بِلَيْلَى الْمَرَامِيَا
وَمِنْهَا قَوْلُهُ:
وَمَا زِلْتِ بِي يَا بُثْنُ حَتَّى لَوَ انَّنِي مِنَ الشَّوْقِ أَسَتَبْكِي الْحَمَامَ بَكَى لِيَا
وَمَا زَادَنِي الْوَاشُونَ إِلَّا صَبَابَةً وَلَا كَثْرَةُ النَّاهِينَ إِلَّا تَمَادِيَا
وَمَا أَحْدَثَ النَّأْيُ الْمُفَرِّقُ بَيْنَنَا سُلُوًّا وَلَا طُولُ اللَّيَالِي تَقَالِيَا
أَلَمْ تَعْلَمِي يَا عَذْبَةَ الرِّيقِ أَنَّنِي أَظَلُّ إِذَا لَمْ أَلْقَ وَجْهَكِ صَادِيَا
لَقَدْ خِفْتُ أَنْ أَلْقَى الْمَنِيَّةَ بَغْتَةً وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ إِلَيْكِ كَمَا هِيَا
وَمِمَّا أَوْرَدَهُ لَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفِيَّاتِ قَوْلُهُ:

إِنِّي لَأَحْفَظُ غَيْبَكُمْ وَيَسُرُّنِي لَوْ تَعْلَمِينَ بِصَالِحٍ أَنْ تَذْكُرِي
إِلَى أَنْ قَالَ:
مَا أَنْتِ وَالْوَعْدُ الَّذِي تَعِدِينَنِي إِلَّا كَبَرْقِ سَحَابَةٍ لَمْ تُمْطِرِ
وَقَوْلُهُ - وَرُوِيَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ -:
مَا زِلْتُ أَبْغِي الْحَيَّ أَتْبَعُ فَلَّهُمْ حَتَّى دُفِعْتُ إِلَى رَبِيبَةِ هَوْدَجِ
فَدَنَوْتُ مُخْتَفِيًا أُلِمُّ بِبَيْتِهَا حَتَّى وَلَجْتُ إِلَى خَفِيِّ الْمَوْلِجِ
قَالَتْ وَعَيْشِ أَخِي وَنِعْمَةِ وَالِدِي لَأُنَبِّهَنَّ الْحَيَّ إِنْ لَمْ تَخْرُجِ
فَتَنَاوَلَتْ رَأْسِي لِتَعْرِفَ مَسَّهُ بِمُخَضَّبِ الْأَطْرَافِ غَيْرِ مُشَنَّجِ
فَخَرَجْتُ خِيفَةَ أَهْلِهَا فَتَبَسَّمَتْ فَعَلِمْتُ أَنَّ يَمِينَهَا لَمْ تَحَرَّجِ
فَلَثَمْتُ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الْحَشْرَجِ

قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ: لَقِيَنِي جَمِيلُ بُثَيْنَةَ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنْ عِنْدِ هَذِهِ الْحَبِيبَةِ. فَقَالَ: وَإِلَى أَيْنَ؟ فَقُلْتُ: إِلَى هَذِهِ الْحَبِيبَةِ - يَعْنِي عَزَّةَ - فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا رَجَعْتَ إِلَى بُثَيْنَةَ فَوَاعَدْتَهَا لِي; فَإِنَّ لِي مِنْ أَوَّلِ الصَّيْفِ مَا رَأَيْتُهَا، وَكَانَ آخِرُ عَهْدِي بِهَا بِوَادِي الْقُرَى، وَهِيَ تَغْسِلُ هِيَ وَأُمُّهَا ثَوْبًا، فَتَحَادَثْنَا إِلَى الْغُرُوبِ. قَالَ كُثَيِّرٌ: فَرَجَعْتُ حَتَّى أَنَخْتُ بِهِمْ، فَقَالَ أَبُو بُثَيْنَةَ: مَا رَدَّكَ يَا ابْنَ أَخِي؟ فَقُلْتُ: أَبْيَاتٌ قُلْتُهَا، فَرَجَعْتُ لِأَعْرِضَهَا عَلَيْكَ، فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَأَنْشَدْتُهُ، وَبُثَيْنَةُ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ:
فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ أَرْسَلَ صَاحِبِي إِلَيْكِ رَسُولًا وَالرَّسُولُ مُوَكَّلُ
بِأَنْ تَجْعَلِي بَيْنِي وَبَيْنَكِ مَوْعِدًا وَأَنْ تَأْمُرِينِي مَا الَّذِي فِيهِ أَفْعَلُ
وَآخِرُ عَهْدِي مِنْكِ يَوْمَ لَقِيتِنِي بِأَسْفَلِ وَادِي الدَّوْمِ وَالثَّوْبُ يُغْسَلُ

قَالَ: فَضَرَبَتْ بُثَيْنَةُ جَانِبَ خَدْرِهَا، وَقَالَتِ: اخْسَأْ، اخْسَأْ. فَقَالَ أَبُوهَا: مَهْيَمْ؟ فَقَالَتْ: كَلْبٌ يَأْتِينَا إِذَا نَامَ النَّاسُ، مِنْ وَرَاءِ الرَّابِيَةِ. ثُمَّ قَالَتْ لِجَارِيَتِهَا: ابْغِينَا مِنَ الدَّوْمَاتِ حَطَبًا لِيُشْوَى بِهِ لِكُثَيِّرٍ شَاةٌ. فَقُلْتُ: أَنَا أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. وَانْطَلَقْتُ إِلَى جَمِيلٍ، فَقُلْتُ: مَوْعِدُكُ الدَّوْمَاتُ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَقْبَلَتْ بُثَيْنَةُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَاعَدَتْهُ إِلَيْهِ، وَجَاءَ جَمِيلٌ، وَكُنْتُ مَعَهُمْ، فَمَا رَأَيْتُ لَيْلَةً أَعْجَبَ مِنْهَا، وَلَا أَحْسَنَ مُنَادِمَاتٍ، وَانْفَضَّ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ وَمَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَفْهَمُ لِمَا فِي ضَمِيرِ صَاحِبِهِ مِنْهُ.
وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى جَمِيلٍ وَهُوَ يَمُوتُ فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ لَمْ يَشْرَبِ الْخَمْرَ قَطُّ، وَلَمْ يَزْنِ قَطُّ، وَلَمْ يَسْرِقْ، وَلَمْ يَقْتُلِ النَّفْسَ، وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: أَظُنُّهُ قَدْ نَجَا، وَأَرْجُو لَهُ الْجَنَّةَ، فَمَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَظُنُّكَ سَلِمْتَ، وَأَنْتَ تُشَبِّبُ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً بِبُثَيْنَةَ. فَقَالَ: لَا نَالَتْنِي شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ وَآخَرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إِنْ كُنْتُ

وَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهَا بِرِيبَةٍ. قَالَ: فَمَا بَرِحْنَا حَتَّى مَاتَ.
قُلْتُ: كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ، فَأَكْرَمَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ حُبِّهِ بُثَيْنَةَ، فَقَالَ: شَدِيدٌ، وَاسْتَنْشَدَهُ مِنْ أَشْعَارِهِ وَمَدَائِحِهِ فَأَنْشَدَهُ، فَوَعَدَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَعَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ آمِينَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، أَنَّ جَمِيلًا قَالَ لَهُ: هَلْ أَنْتَ مُبْلِغٌ عَنِّي رِسَالَةً إِلَى حَيِّ بُثَيْنَةَ، وَلَكَ مَا عِنْدِي؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَارْكَبْ نَاقَتِي، وَالْبَسْ حُلَّتِي هَذِهِ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ أَبْيَاتًا مِنْهَا قَوْلُهُ:
قُومِي بُثَيْنَةَ فَانْدُبِي بِعَوِيلِ وَابْكِ خَلِيلًا دُونَ كُلِّ خَلِيلِ
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى حَيِّهِمْ أَنْشَدَ الْأَبْيَاتَ، قَالَ: فَخَرَجَتْ بُثَيْنَةُ كَأَنَّهَا بَدْرٌ بَدَا فِي دُجْنَةٍ، وَهِيَ تَتَثَنَّى فِي مَرْطِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: وَيْحَكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ قَتَلْتَنِي، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَقَدْ فَضَحْتَنِي. فَقُلْتُ: بَلَى، وَاللَّهِ صَادِقٌ، وَهَذِهِ حُلَّتُهُ وَنَاقَتُهُ. فَلَمَّا تَحَقَّقَتْ ذَلِكَ صَاحَتْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا، وَصَكَّتْ وَجْهَهَا، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ الْحَيِّ إِلَيْهَا يَبْكِينَ مَعَهَا، ثُمَّ صَعِقَتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، ثُمَّ أَفَاقَتْ، وَهِيَ تَقُولُ:

وَإِنَّ سُلُوِّي عَنْ جَمِيلٍ لِسَاعَةٍ مِنَ الدَّهْرِ مَا حَانَتْ وَلَا حَانَ حِينُهَا
سَوَاءٌ عَلَيْنَا يَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ إِذَا مُتَّ بَأْسَاءُ الْحَيَاةِ وَلِينُهَا
قَالَ الرَّجُلُ: فَمَا رَأَيْتُ أَكْثَرَ بَاكِيًا وَلَا بَاكِيَةً مِنْ يَوْمئِذٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ بِدِمَشْقَ: لَوْ تَرَكْتَ الشِّعْرَ وَحَفِظْتَ الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: هَذَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يُخْبِرُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لِحِكْمَةً.
عُمَرُ بْنُ عَبِيدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ عُثْمَانَ، أَبُو حَفْصٍ الْقُرَشِيُّ التَّمِيمِيُّ
أَحَدُ الْأَجْوَادِ، وَالْأُمَرَاءِ الْأَمْجَادِ، فُتِحَتْ عَلَى يَدَيْهِ بُلْدَانٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ نَائِبًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَقَدْ فَتَحَ كَابُلَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ قُطْرِيَّ بْنَ الْفُجَاءَةِ.
رَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، وَابْنُ عَوْنٍ. وَوَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَتُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ، قَالَهُ الْمَدَائِنِيُّ.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

معايير الأحكام في قضية الطلاق؟

  معايير الأحكام في قضية الطلاق؟     أحكام الطلاق من القرآن والسنة الصحيحة   1 الطلاق للعدة الشرعة الباقية إلي يوم القيامة :   1. ما هي...