ج7وج8.
ج7.وج8.كتاب البداية
والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي
(إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده
وأوحينا إلى ابراهيم وإسماعيل وإسحاق يعقوب والاسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون
وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك
وكلم الله موسى تكليما.
رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد
الرسل وكان الله عزيزا حكيما) [ النساء: 163 - 165 ].
وقد روى ابن حبان في صحيحه، وابن مردويه في تفسيره
وغيرهما من طريق إبراهيم بن هشام عن يحيى بن محمد الغساني الشامي - وقد تكلموا فيه
- حدثني أبي، عن جدي، عن أبي إدريس، عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله، كم الانبياء
؟ قال: " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ".
قلت: يا رسول الله كم الرسل منهم ؟ قال: " ثلاثمائة
وثلاثة عشر جم غفير " قلت: يا رسول الله من كان أولهم ؟ قال: " آدم
" قلت يا رسول الله نبي مرسل ؟ قال: " نعم " خلقه الله بيده ونفخ
فيه من روحه ثم سواه قبلا (1).
ثم قال يا أبا ذر أربعة سريانيون آدم وشيث ونوح وخنوخ
وهو إدريس وهو أول من خط بالقلم وأربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر
وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وأول النبيين آدم وآخرهم نبيك " (2).
وقد أورد هذا الحديث أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات.
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال: حدثنا محمد بن
عوف، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، عن علي بن زيد، عن القاسم، عن أبي
أمامة قال: قلت يا رسول الله كم الانبياء ؟ قال: " مائة ألف وأربعة وعشرون
ألفا الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر جما غفيرا " (3).
وهذا أيضا من هذا الوجه ضعيف فيه ثلاثة من الضعفاء معان
وشيخه وشيخ شيخه.
وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أحمد بن إسحاق،
أبو عبد الله الجوهري البصري، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا موسى بن عبيدة اليزيدي
(4)، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" بعث الله ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف إلى بني إسرائيل وأربعة آلاف إلى سائر
الناس " (5) موسى وشيخه ضعيفان أيضا وقال أبو يعلى
أيضا: حدثنا أبو الربيع، حدثنا محمد بن
__________
(1) قبلا: أي عيانا ومقابلة.
(2) أخرج قسما منه الهيثمي في زوائده 1 / 160 وقال: رواه
أحمد والبزار والطبراني في الاوسط بنحوه وعند النسائي طرف منه وفيه المسعودي وهو
ثقة ولكنه اختلط.
(3) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 159 وفيه: أن أبا
ذر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الهيثمي: ورواه أحمد والطبراني في
الكبير.
وفي 8 / 210 عن أبي أمامة أن رجلا قال يا رسول الله:..قال
الهيثمي ورواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن خليد الحلبي وهو ثقة
وأخرجه أحمد في مسنده 5 / 266.
(4) كذا في الاصل اليزيدي، وهو تحريف والصواب الربذي
والرجل معروف ومشهور وهو ضعيف جدا (قاله الهيثمي).
(5) رواه الهيثمي في زوائده ; وقال رواه أبو يعلى وفيه
موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف جدا.
8 / 210.
ثابت العبدي، حدثنا معبد بن خالد الانصاري، عن يزيد
الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان فيمن
خلا من إخواني من الانبياء ثمانية آلاف نبي ثم كان عيسى ثم كنت أنا " (1).
يزيد الرقاشي ضعيف.
وقد رواه الحافظ أبو بكر الاسماعيلي عن محمد بن عثمان بن
أبي شيبة، حدثنا أحمد بن طارق، حدثنا مسلم بن خالد، حدثنا زياد بن سعد، عن محمد بن
المنكدر، عن صفوان بن سليم، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت على
أثر ثمانية آلاف نبي منهم أربعة آلاف من بني إسرائيل " (2).
وهذا إسناد لا بأس به لكني لا أعرف حال أحمد بن طارق هذا.
والله أعلم.
حديث آخر قال عبد الله بن الامام أحمد وجدت في كتاب أبي
بخطه حدثني عبد المتعالي بن عبد الوهاب، حدثنا يحيى بن سعيد الاموي، حدثنا مجالد،
عن أبي الوداك قال: قال أبو سعيد:
هل تقر الخوارج بالدجال ؟ قال: قلت: لا فقال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " إني خاتم ألف نبي أو أكثر وما بعث الله نبيا يتبع إلا
وحذر أمته منه وإني قد بين لي فيه ما لم يبين لاحد منهم وأنه أعور وأن ربكم ليس
بأعور، وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى كأنها نخامة في حائط مجصص وعينه اليسرى
كأنها كوكب دري، معه من كل لسان، ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء وصورة
النار سوداء تدخن " (3) وهذا حديث غريب.
وقد روي عن جابر بن عبد الله ; فقال الحافظ أبو بكر
البزار: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر
قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لخاتم ألف نبي آو أكثر وإنه ليس منهم
نبي إلا وقد أنذر قومه الدجال، وإنه قد تبين لي فيه ما لم يتبين لاحد منهم، وإنه
أعور، وإن ربكم ليس بأعور " (4).
وهذا إسناد حسن وهو محمول على ذكر عدد من أنذر قومه
الدجال من الانبياء لكن في الحديث الآخر: " ما من نبي إلا وقد أنذر أمته
الدجال ".
فالله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر،
حدثنا شعبة، عن فرات [ يعني القزاز
] قال: سمعت أبا حازم [ يحدث ] قال: قاعدت أبا هريرة خمس
سنين فسمعته
__________
(1) رواه الهيثمي في الزوائد 8 / 211 وقال: رواه أبو
يعلى وفيه محمد بن ثابت العبدي وهو ضعيف.
(2) رواه الهيثمي في زوائده 8 / 210 وقال: رواه الطبراني
في الاوسط وفيه إبراهيم بن مهاجر بن مسمار وهو ضعيف، ووثقه ابن معين ويزيد الرقاشي
وثق على ضعفه.
(3) مسند أحمد ج 3 / 79 ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 8
/ 346 وقال: رواه أحمد وفيه مجالد بن سعيد وثقه النسائي في رواية وقال في آخرى ليس
بالقوي.
وضعفه جماعة.
وروى الهيثمي في مجمع الزوائد عن أبي سعيد: 7 / 336: وفيه:
ومعه مثل الجنة والنار فجنته عين ذات دخان وناره روضة خضراء، وقال: قلت هو في
الصحيح باختصار، ورواه أبو يعلى والبزار وفيه الحجاج بن أرطأة وهو مدلس.
وعطية ضعيف وقد وثق.
(4) رواه الهيثمي في زوائده 8 / 347 وقال: رواه البزار
وفيه مجالد بن سعيد وقد ضعفه الجمهور وفيه توثيق.
يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كانت بنو
إسرائيل تسوسهم (1) الانبياء كلما هلك نبي خلفه نبي،
وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون.
قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله قال: " فوا (2)
بيعة الاول فالاول أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم " (3).
وكذا رواه مسلم عن بندار ومن وجه آخر عن فرات به نحوه.
وقال البخاري: حدثنا عمرو بن حفص، حدثنا أبي، حدثني
الاعمش، حدثني شقيق قال: قال عبد الله - هو ابن مسعود - كأني أنظر إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم يحكي نبيا من الانبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه
ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " رواه مسلم من حديث الاعمش به
نحوه.
وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن زيد
بن أسلم، عن رجل عن أبي سعيد الخدري قال: وضع رجل يده اليمنى على النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: " إنا معشر الانبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الاجر إن كان
النبي من الانبياء ليبتلى بالقمل حتى يقتله، وإن كان النبي من الانبياء ليبتلى
بالفقر حتى يأخذ العباء فيجوبها وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء
" (4) هكذا رواه الامام أحمد من طريق زيد بن أسلم، عن رجل، عن أبي سعيد وقد
رواه ابن ماجة: عن دحيم عن ابن أبي فديك، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء
بن يسار عن أبي سعيد فذكره.
وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن عاصم بن
أبي النجود، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟
قال: " الانبياء ".
ثم الصالحون.
ثم الامثل فالامثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه
فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عليه ولا يزال
البلاء بالعبد حتى يمشي على [ ظهر ] الارض وما عليه خطيئة " (5).
ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث عاصم بن أبي
النجود.
وقال الترمذي حسن صحيح.
وتقدم في الحديث: " نحن معشر الانبياء أولاد علات
ديننا واحد وأمهاتنا شتى " (6)
والمعنى أن شرائعهم وإن اختلفت في الفروع، ونسخ بعضها
بعضا حتى انتهى الجميع إلى ما شرع الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين
إلا أن كل نبي بعثه الله فإنما دينه
__________
(1) تسوسهم: أي يتولون أمورهم كما تفعل الامراء والولاة
بالرعية ; والسياسة، القيام على الامر بما يصلحه.
(2) أي إذا بويع لخليفة بعد خليفة، فبيعة الاول صحيحة
يجب الوفاء بها، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بها.
(3) أخرجه البخاري في 60 كتاب الانبياء (50) بباب ما ذكر
عن بني اسرائيل.
ومسلم في 33 كتاب الامارة باب (10) حديث 44 ص 33 / 1471
وابن ماجه في الجهاد.
وأحمد في مسنده 2 / 297.
ما بين معقوفين في الحديث زيادة استدركت من دلائل النبوة
للبيهقي 6 / 338.
(4) مسند أحمد ج 3 / 94.
(5) مسند أحمد ج 1 / 172.
وابن ماجه في الفتن 23.
(6) تقدم تخريجه فليراجع.
الاسلام، وهو التوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له كما
قال الله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا
فاعبدون) [ الانبياء: 25 ] وقال تعالى: (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون
الرحمن آلهة يعبدون) [ الزخرف: 45 ] وقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن
اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) الآية
[ النحل: 36 ].
فأولاد العلات أن يكون الاب واحدا والامهات متفرقات،
فالاب بمنزلة الدين وهو التوحيد والامهات بمنزلة الشرائع في اختلاف أحكامها كما
قال تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) [ المائدة: 48 ] وقال: (لكل أمة جعلنا
منسكا هم ناسكوه) [ الحج: 67 ] وقال:
ولكل وجهة هو موليها) [ البقرة: 148 ] على أحد القولين
في تفسيرها.
والمقصود أن الشرائع وإن تنوعت في أوقاتها إلا أن الجميع
آمرة بعبادة الله وحده، لا شريك له وهو دين الاسلام الذي شرعه الله لجميع
الانبياء، وهو الدين الذي لا يقبل الله غيره يوم القيامة، كما قال تعالى: (ومن
يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) [ آل عمران: 85 ]
وقال تعالى: (ومن يرغب عن ملة ابراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في
الآخرة لمن الصالحين.
إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب
العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله
اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [ البقرة: 130 - 131 ] وقال تعالى:
(إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا)
الآية [ المائدة: 44 ].
فدين الاسلام هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو الاخلاص
له وحده دون ما سواه، والاحسان أن يكون على الوجه المشروع في ذلك الوقت المأمور
به، ولهذا لا يقبل الله من أحد عملا بعد أن بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على ما
شرعه له كما قال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) [ الاعراف:
158 ] وقال تعالى: (وأوحى إلى هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ) [ الانعام: 19 ]
وقال تعالى: (ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده) [ هود: 17 ].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت إلى
الاحمر والاسود " (1).
قيل أراد العرب والعجم.
وقيل الانس والجن: وقال صلى الله عليه وسلم: "
والذي نفسي بيده، لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم " (2)
والاحاديث في هذا كثيرة جدا.
والمقصود أن أخوة
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب المساجد ح 3 وأحمد في
مسنده 1 / 250، 301، 4 / 416، 5 / 145، 148، 162 مطولا.
والدارمي في سننه، كتاب السير (28) عن جابر بن عبد الله،
والبخاري في (8) كتاب الصلاة (56) باب.
وأبو داود عن أبي ذر في كتاب الصلاة باب: في المواضع
التي لا تجوز فيها الصلاة.
1 / 132 مختصرا.
(2) أخرجه الدارمي في سننه مقدمة 39 وأحمد في مسنده ج 3
/ 471، 4 / 266 عن عبد الله بن ثابت وفي آخره: " انكم حظي من الامم وأنا حظكم
من النبيين ".
العلات أن يكونوا من أب واحد وأمهاتهم شتى مأخوذ من شرب
العلل بعد النهل.
وأما أخوة الاخياف فعكس هذا أن تكون أمهم واحدة من آباء
شتى.
وأخوة الاعيان فهم الاشقاء من أب واحد وأم واحدة والله
سبحانه وتعالى أعلم.
وفي الحديث الآخر " نحن معاشر الانبياء لا نورث، ما
تركنا فهو صدقة " (1) وهذا من خصائص الانبياء أنهم لا يورثون، وما ذاك إلا
لان الدنيا أحقر عندهم من أن تكون مخلفة عنهم، ولان توكلهم على الله عزوجل في
ذراريهم أعظم
وأشد وآكد من أن يحتاجوا معه إلى أن يتركوا لورثتهم من
بعدهم ما لا يستأثرون به عن الناس، بل يكون جميع ما تركوه صدقة لفقراء الناس،
ومحاويجهم وذو خلتهم.
وسنذكر جميع ما يختص بالانبياء عليهم السلام مع خصائص
نبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين في أول كتاب النكاح من كتاب الاحكام
الكبير حيث ذكره الائمة من المصنفين اقتداء بالامام أبي عبد الله الشافعي رحمة
الله عليه وعليهم أجمعين.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية، عن الاعمش، عن زيد
بن وهب، عن عبد الرحمن، أن (2) عبد رب الكعبة قال: انتهيت إلى عبد الله بن عمرو، وهو
جالس في ظل الكعبة فسمعته يقول: بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر
إذ نزل منزلا فمنا من يضرب خباءه، ومنا من هو في جشرة، ومنا من ينتضل إذ نادى
مناديه: الصلاة جامعة قال فاجتمعنا قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبنا
فقال: " إنه لم يكن نبي قبلي إلا دل أمته على خير ما يعلمه لهم، وحذرهم ما
يعلمه شرا لهم، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وإن آخرها سيصيبها بلاء شديد
وأمور ينكرونها تجئ فتن يريق بعضها بعضا، تجئ الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي.
ثم تنكشف.
ثم تجئ الفتنة فيقول المؤمن هذه.
ثم تنكشف فمن سره منكم أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة
فلتدركه موتته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى
إليه، ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع فإن جاء آخر
ينازعه فاضربوا عنق الآخر
".
قال فأدخلت رأسي من بين الناس فقلت أنشدك بالله أنت سمعت
هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأشار بيده إلى أذنيه وقال: سمعته أذناي،
ووعاه قلبي.
قال: فقلت هذا ابن عمك - يعني معاوية - يأمرنا أن نأكل
أموالنا بيننا بالباطل، وأن نقتل أنفسنا وقد قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا
لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) [ النساء: 29 ] قال فجمع يديه فوضعهما على جبهته
ثم نكس هنيهة.
ثم رفع رأسه فقال أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله
ورواه أحمد أيضا عن وكيع عن الاعمش به وقال فيه أيها الناس إنه لم يكن نبي قبلي
إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرا لهم وينذره ما يعلمه شرا لهم وذكر
تمامه بنحوه.
وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طرق عن
الاعمش به ورواه مسلم أيضا من حديث الشعبي عن
__________
(1) تقدم تخريجه فليراجع في مكانه.
(2) في نسخ البداية المطبوعة أن والصواب ابن من المسند.
عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه (1) آخر الجزء الثامن من خط المصنف رحمه الله
تعالى يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب أخبار العرب وكان الفراغ من تتمة هذا المجلد
في سابع عشر شوال سنة سهر ربيعه من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام
بدمشق المحروسة على يد أفقر عباد الله وأحوجهم إلى رحمته وعفوه وغفرانه ولطفه
وكرمه إسماعيل الدرعي الشافعي الانصاري غفر الله تعالى له وختم له بخير ولاحبابه
ولاخوانه ولمشايخه ولجميع المسلمين والصلاة والسلام على محمد خير خلقه وآله وصحبه
وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
ذكر أخبار العرب قيل إن جميع العرب (2) ينتسبون إلى
إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام والتحية والاكرام.
والصحيح المشهور أن العرب العاربة قبل إسماعيل وقد قدمنا
أن العرب العاربة (3) منهم عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وجرهم والعماليق وأمم آخرون
لا يعلمهم إلا الله كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام وفي زمانه أيضا.
فأما العرب المستعربة (4) وهم عرب الحجاز فمن ذرية (5)
اسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
وأما عرب اليمن وهم حمير فالمشهور أنهم من قحطان واسمه مهزم
قاله ابن ماكولا وذكروا أنهم كانوا أربعة أخوة قحطان (6) وقاحط ومقحط وفالغ وقحطان
بن
__________
(1) مسند أحمد ج 2 / 161، 191.
وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب الامارة 46 والنسائي في سننه
- بيعة 25.
وابن ماجة في سننه: الفتن 9.
- جشرة: إخراج الدواب للرعي.
- النضل: الهزل والاعياء والتعب.
(2) قال الجوهري في الصحاح: العرب جيل من الناس وهم أهل
الامصار والاعراب سكان البادية والنسبة إلى
العرب عربي وإلى الاعراب اعرابي والذي عليه العرف العام
إطلاق لفظة العرب مشتقة من الاعراب.
وقال ابن حزم في الجمهرة ص 7: جميع العرب يرجعون إلى ولد
ثلاثة رجال.
وهم عدنان وقحطان وقضاعة.
وجاء في سبائك الذهب: ص 13: أعلم أن العرب كلها ترجع إلى
أصلين: عدنان وقحطان.
(3) قال في نهاية الارب: 18: فالعاربة هم العرب الاولى
الذي فهمهم الله اللغة العربية ابتداءا فتكلموا بها فقيل لهم عاربة أي بمعنى
الراسخة في العروبية.
وقد يقال فيهم العرب العرباء.
وهم العرب البائدة الذين بادوا ودرست آثارهم.
(4) المستعربة: قال في نهاية الارب: المستعربة هم
الداخلون في العروبية من بعد العجمة أخذا من استفعل بمعنى الصيرورة.
(5) قال ابن حزم في الجمهرة: عدنان من ولد اسماعيل بلا شك
في ذلك.
إلا أن تسمية الاسماء بينه وبينه قد جهلت جملة.
قال في سبائك الذهب: لا خلاف بينهم [ النسابين ] في أن
عدنان من ولد اسماعيل.
(6) قال ابن حزم ; قحطان.
فمختلف فيه من ولد من هو ؟ قالوا: من ولد اسماعيل - عليه
السلام - وهذا باطل
هود.
وقيل هو هود.
وقيل هود أخوه وقيل من ذريته وقيل إن قحطان من سلالة
اسماعيل حكاه ابن إسحاق وغيره فقال بعضهم هو قحطان بن [ الهميسع ] تيمن بن قيذر [
بنت ] (1) بن إسماعيل.
وقيل غير ذلك في نسبه إلى إسماعيل والله أعلم.
وقد ترجم البخاري في صحيحه على ذلك فقال (2): (باب نسبة
اليمن إلى اسماعيل عليه السلام) حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن يزيد بن أبي عبيد حدثنا
سلمة رضي الله عنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم من أسلم يتناضلون
بالسيوف فقال ارموا بني اسماعيل وأنا مع بني فلان لاحد الفريقين فأمسكوا بأيديهم
فقال مالكم قالوا وكيف نرمي وأنت مع بني فلان فقال ارموا وأنا معكم كلكم.
انفرد به البخاري وفي بعض ألفاظه: " ارموا بني
إسماعيل فإن أباكم كان راميا ارموا وأنا
مع ابن الادرع " فأمسك القوم فقال ارموا وأنا معكم
كلكم.
قال البخاري: وأسلم (3) بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن
عامر من خزاعة يعني وخزاعة فرقة ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين ارسل الله عليهم
سيل العرم كما سيأتي بيانه وكانت الاوس والخزرج منهم وقد قال لهم عليه الصلاة
والسلام ارموا بني إسماعيل فدل على أنهم من سلالته وتأوله آخرون على أن المراد
بذلك جنس العرب لكنه تأويل بعيد إذ هو خلاف الظاهر بلا دليل.
لكن الجمهور على أن العرب القحطانية من عرب اليمن وغيرهم
ليسوا من سلالة إسماعيل.
وعندهم أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين قحطانية
وعدنانية فالقحطانية شعبان (4) سبأ
__________
= بلا شك.
وقيل من ولد هود - عليه السلام - وهذا باطل بيقين قوله
تعالى: (وإلى عاد أخاهم هودا).
وقال صاحب تاريخ حماة: بني قحطان هم العاربة وان العاربة
هم بنو اسماعيل فقط.
وقال في مروج الذهب إن قحطان من ولد عابر..بن سام.
وهو أبو اليمن كلها وهو أول من تكلم بالعربية لاعرابه عن
المعاني وإبانته عنها.
وقال الطبري ج 1 / 104 قحطان أول من ملك اليمن.
(1) من سيرة ابن كثير، وفي سيرة ابن هشام نابت.
ما بين معكوفين.
(2) صحيح البخاري - كتاب بدء الخلق ج 4 / 156.
(3) في البخاري: ومنهم أسلم.
(4) قال السمعاني في الانساب ص 5: والعرب على طبقات ست:
شعب وقبيلة وعمارة وبطن وفخذ وفصيلة وما بينهما من الاباء فإنما يعرفها أهلها.
وحكى أبو عبيد، عن ابن الكلبي عن أبيه: تقديم الفصيلة
مقام العمارة قال صاحب سبائك الذهب: ولا يخفى أن الترتيب الاول أولى.
وحضر موت (1) والعدنانية شعبان أيضا ربيعة ومضر ابنا
نزار بن معد بن عدنان والشعب الخامس وهم قضاعة مختلف فيهم (2) فقيل إنهم عدنانيون
قال ابن عبد البر وعليه الاكثرون ويروى هذا
عن ابن عباس وابن عمر وجبير بن مطعم وهو اختيار الزبير
بن بكار وعمه مصعب الزبيري وابن هشام وقد ورد في حديث قضاعة بن معد ولكنه لا يصح
قاله ابن عبد البر وغيره ويقال إنهم لن (3) يزالوا في جاهليتهم وصدر من الاسلام
ينتسبون إلى عدنان فلما كان في زمن خالد بن يزيد بن معاوية وكانوا أخواله انتسبوا
إلى قحطان فقال في ذلك أعشى بن ثعلبة في قصيدة له: أبلغ قضاعة في القرطاس أنهم *
لولا خلائف آل الله ما عتقوا قالت قضاعة إنا من ذوي يمن * والله يعلم ما بروا وما
(4) صدقوا قد ادعوا والدا ما نال أمهم * قد يعلمون ولكن ذلك الفرق وقد ذكر أبو
عمرو السهيلي أيضا من شعر العرب ما فيه إبداع في تفسير (5) قضاعة في انتسابهم إلى
اليمن والله أعلم.
والقول الثاني أنهم من قحطان وهو قول ابن إسحاق والكلبي
وطائفة من أهل النسب.
قال ابن إسحاق وهو قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب
بن يعرب بن قحطان وقد قال بعض شعرائهم وهو عمرو بن مرة (6) صحابي له حديثان:
__________
(1) وسبأ اسمه عبد شمس وهو أول من سبى وأسر الاعادي.
وحضرموت وبنوه قبيلة من بني قحطان.
قال الجوهري: وحضرموت اسم بلد وقبيلة.
(2) قال في سبائك الذهب: وهم قبيلة من حمير من القحطانية.
وهذا هو المشهور في قضاعة وعليه جرى الكلبي وابن اسحاق.
(3) كذا في الاصل وفي سيرة ابن كثير: لن والصواب لم.
(4) كذا في الاصل وما وفي سيرة ابن كثير ولا.
(5) كذا في الاصل، وفي سيرة ابن كثير تعيير، و (6) عمرو
بن مرة بن عبس بن مالك بن الحرث بن مازن بن سعد بن مالك بن رفاعة بن نصر بن غطفان
بن قيس بن جهينة.
قال ابن سعد: كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم شيخا
كبيرا، يكنى أبا طلحة ويقال أبا مريم وقيل أبا مرة.
وهو أول من ألحق قضاعة باليمن.
قال ابن حبان وأبو عمر مات في خلافة معاوية.
وقال ابن سميع مات في خلافة عبد الملك بن مروان.
له في جامع الترمذي حديث واحد في كتاب الاحكام وهو عند
أحمد وفيه قوله لمعاوية: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من إمام
يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق الله تعالى أبواب السماء دون حاجته
ومسألته ومسكنته وله في مسند أحمد حديثان آخران أحدهما في ذم الحقوق.
وله عند الطبراني عدة أحاديث منها حديث في قصة إسلامه.
تقريب ابن حجر ج 2 / 79 الاصابة 3 / 15 مسند أحمد: جمهرة
أنساب العرب ص 445.
يا أيها الداعي ادعنا وأبشر * وكن قضاعيا ولا تنزر نحن
بنو الشيخ الهجان الازهر (1) قضاعة بن مالك بن حمير النسب المعروف غير المنكر * في
الحجر المنقوش تحت المنبر قال بعض أهل النسب هو قضاعة بن مالك بن عمر بن مرة بن زيد
بن حمير وقال ابن لهيعة عن معروف بن سويد عن أبي عشابة (2) محمد بن موسى عن عقبة
بن عامر قال قلت يا رسول الله أما نحن من معد قال لا قلت فمن نحن قال أنتم قضاعة
بن مالك بن حمير قال أبو عمر بن عبد البر ولا يختلفون أن جهينة بن زيد بن أسود بن
أسلم بن عمران بن إلحاف بن قضاعة قبيلة عقبة بن عامر الجهني فعلى هذا قضاعة في
اليمن في حمير بن سبأ وقد جمع بعضهم بين هذين القولين بما ذكره الزبير بن بكار
وغيره من أن قضاعة امرأة من جرهم تزوجها مالك بن حمير فولدت له قضاعة ثم خلف عليها
معد بن عدنان وابنها صغير وزعم بعضهم أنه كان حملا فنسب إلى زوج أمه (3) كما كانت
عادة كثير منهم ينسبون الرجل إلى زوج أمه والله أعلم.
وقال محمد بن سلام البصري النسابة: العرب ثلاثة جراثيم
العدنانية والقحطانية وقضاعة.
قيل له فأيهما اكثر العدنانية أو القحطانية فقال ما شاءت
قضاعة أن تيامنت فالقحطانية أكثر وإن تعددت فالعدنانية أكثر وهذا يدل على أنهم
يتلومون في نسبهم فإن صح حديث ابن لهيعة
المقدم فهو دليل على أنهم من القحطانية والله أعلم.
وقد قال الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر
وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (4).
قال علماء النسب يقال شعوب.
ثم قبائل ثم عمائر.
ثم بطون.
ثم أفخاذ، ثم فصائل.
ثم عشائر (5).
والعشيرة أقرب الناس إلى الرجل وليس بعدها شئ.
ولنبدأ أولا بذكر القحطانية
__________
(2) الهجان: الكريم العالي النسب.
والازهر: المشهور.
(2) قوله أبى عشابة كذا بالاصل بباء.
وليس بين الرجال من تكنى بهذه الكنية والموجود أبوعشانة
المعافري المصري.
واسمه حي بن يؤمن.
(3) في أصول الاحساب: فجاءت بقضاعة على فراش مالك بن مرة
فنسبته العرب إلى زوج أمه، وقيل إن اسم الجرهمية قضاعة فلما جاءت بولدها سمته
باسمها، وقيل كان اسمه عمرا.
وقيل كان اسمها عكبرة.
وقال الطبري في ذلك: ج 2 / 190: ونزار كان يكنى أبا إياد
أمه معانة بنت جوشم بن جلهمة بن عمرو وأخوته لامه وأبيه:.
وعد منهم قضاعة، وبه كان معد يكنى.
وفي أنساب السمعاني ; ص 6 قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: قضاعة من معد وكان به يكنى.
(4) سورة الحجرات الآية 13.
(5) تقدم التعليق على طبقات الانساب.
وقال النووي في تحرير التنبيه: وزاد بعضهم العشيرة قبل
الفصيلة.
وقال الجوهري في الصحاح: وعشيرة الرجل هم رهطه الادنون.
ثم نذكر بعدهم عرب الحجاز وهم العدنانية وما كان من أمر
الجاهلية ليكون ذلك متصلا بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله تعالى
وبه الثقة.
وقد قال البخاري (باب ذكر قحطان) حدثنا عبد العزيز بن
عبد الله [ قال ] حدثنا سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن أبي المغيث (1) عن أبي
هريرة [ رضي الله عنه ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة حتى يخرج
رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه وكذا رواه مسلم
عن قتيبة عن الدراوردي عن ثور بن زيد به.
قال السهيلي وقحطان أول من قيل له أبيت اللعن وأول من
قيل له أنعم صباحا.
وقال الامام أحمد حدثنا أبو المغيرة عن جرير حدثني راشد
بن سعد المقراي عن أبي حي، عن ذي فجر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
كان هذا الامر في حمير فنزعه الله منهم فجعله في قريش (وس ى ع ود ا ل ى ه م) قال
عبد الله كان هذا في كتاب أبي وحيث حدثنا به تكلم به على الاستواء يعني: "
وسيعود إليهم ".
قصة سبأ قال الله تعالى: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية
جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور.
فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين
ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل.
ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور.
وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة
وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين.
فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم
أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) (2).
قال علماء النسب منهم محمد بن إسحاق: اسم سبأ عبد شمس
(3) بن يشجب بن يعرب بن قحطان قالوا وكان أول من سبى من العرب فسمي سبأ لذلك.
وكان يقال له الرائش لانه كان يعطي الناس الاموال من
متاعه.
قال السهيلي: ويقال إنه أول من تتوج.
وذكر بعضهم أنه كان مسلما وكان له شعر بشر فيه بوجود
رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك قوله: سيملك بعدنا ملكا عظيما * نبي لا يرخص
في الحرام ويملك بعده منهم ملوك * يدينون العباد بغير ذام
__________
(1) في البخاري كتاب بدء الخلق باب ذكر قحطان: أبي
الغيث، وكذلك في سيرة ابن كثير.
(2) سورة سبأ الآيات من 15 - 19.
(3) في جمهرة أنساب العرب: اسم سبأ عامر.
ويملك بعدهم منا ملوك * يصير الملك فينا باقتسام ويملك
بعد قحطان نبي * تقي جبينه خير الانام (1) يسمى أحمدا ياليت أني * أعمر بعد مبعثه
بعام فأعضده وأحبوه بنصري * بكل مدجج وبكل رام متى يظهر فكونوا ناصريه * ومن يلقاه
يبلغه سلامي حكاه ابن دحية في كتابه التنوير في مولد البشير النذير.
وقال الامام أحمد حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا ابن لهيعة
عن عبد الله بن دعلة (2) سمعت عبد الله بن العباس يقول إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه
وسلم عن سبأ ما هو أرجل أم امرأة أم أرض قال: " بل هو رجل ولد عشرة فسكن
اليمن منهم ستة وبالشام منهم أربعة.
فأما اليمانيون فمذحج وكندة والازد والاشعريون وأنمار
وحمير [ وعربا كلها ].
وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان.
وقد ذكرنا في التفسير أن فروة بن مسيك الغطيفي (3) هو
السائل عن ذلك كما استقصينا طرق هذا الحديث وألفاظه هناك ولله الحمد.
والمقصود أن سبأ يجمع هذه القبائل كلها وقد كان فيهم
التبابعة بأرض اليمن واحدهم تبع وكان لملوكهم تيجان يلبسونها وقت الحكم كما كانت
الاكاسرة ملوك الفرس يفعلون ذلك وكانت العرب تسمي كل من ملك اليمن مع الشحر
وحضرموت تبعا، كما يسمون من ملك الشام مع الجزيرة قيصر، ومن ملك الفرس كسرى، ومن
ملك مصر فرعون، ومن ملك الحبشة النجاشي، ومن ملك الهند بطليموس، وقد كان من جملة ملوك
حمير بأرض اليمن بلقيس.
وقد قدمنا قصتها مع سليمان عليه السلام وقد كانوا في
غبطة عظيمة وأرزاق دارة وثمار وزروع كثيرة وكانوا مع ذلك على الاستقامة والسداد
وطريق الرشاد فلما بدلوا نعمة الله كفرا أحلوا قومهم دار البوار.
قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه أرسل الله إليهم ثلاثة
عشر نبيا وزعم السدي أنه
__________
(1) كذا في الاصل، وفي تفسير ابن كثير: مخبت.
(2) في المسند 1 / 316: ثنا أبو عبد الرحمن ثنا عبد الله
بن لهيعة بن عقبة الحضرمي، عن عبد الله بن هبيرة السبائي عن عبد الرحمن بن وعلة
قال: (3) في أنساب السمعاني: السائل فروة بن مسيك المرادي.
وفيه الذين تيامنوا: فالاسد وكندة وخمير والاشعريون
ومدحج، فقال رجل يا رسول الله ما أنمار قال: هم الذين منهم بجيلة وخثعم.
وفي إسناد آخر ذكر: هوازن وعك وسقط اسم مذحج.
ويذهب جواد علي في أن سبأ هو اسم لشعب وليس لرجل وأن هذا
الشعب كان يحكم ناحية صغيرة من اليمن ثم اتسع شيئا فشيئا.
أرسل إليهم اثني عشر ألف نبي فالله أعلم.
والمقصود أنهم لما عدلوا عن الهدى (1) إلى الضلال وسجدوا
للشمس من دون الله وكان ذلك في زمان بلقيس وقبلها أيضا واستمر ذلك فيهم حتى أرسل
الله عليهم سيل العرم (2) كما قال تعالى: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم
وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل.
ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) (3).
ذكر غير واحد من علماء السلف والخلف من المفسرين وغيرهم
أن سد مأرب كان صنعته (4) أن المياه تجري من بين جبلين فعمدوا في قديم الزمان فسدوا ما
بينهما ببناء محكم جدا حتى ارتفع الماء فحكم على أعالي الجبلين وغرسوا فيهما البساتين
والاشجار المثمرة الانيقة، وزرعوا الزروع الكثيرة، ويقال كان أول من بناه سبأ بن
يعرب (5) وسلط إليه سبعين واديا يفد إليه وجعل له ثلاثين فرضة يخرج منها الماء
ومات ولم يكمل بناؤه فكملته حمير بعده وكان اتساعه فرسخا في فرسخ (6) وكانوا في
غبطة عظيمة وعيش رغيد وأيام طيبة حتى ذكر قتادة وغيره أن المرأة كانت تمر بالمكتل
على رأسها فتمتلئ من الثمار ما يتساقط فيه من نضجه وكثرته وذكروا أنه لم يكن في
بلادهم شئ من البراغيث ولا الدواب المؤذية لصحة هوائهم وطيب فنائهم كما قال تعالى:
(لقد كان لسبأ في سكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة
طيبة ورب غفور)
[ سبأ: 15 ] وكما قال تعالى: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم
لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) [ إبراهيم: 3 ] فلما عبدوا غير الله وبطروا نعمته
وسألوا بعد تقارب ما بين قراهم وطيب ما بينها من البساتين وأمن الطرقات سألوا أن
يباعد بين أسفارهم وأن يكون سفرهم في مشاق وتعب وطلبوا أن يبدلوا بالخير شرا كما
سأل بنو إسرائيل بدل المن والسلوى البقول والقثاء والفوم والعدس والبصل فسلبوا تلك
النعمة العظيمة والحسنة العميمة بتخريب البلاد والشنات على وجوه العباد كما
__________
(1) قال القرطبي في الجامع: 14 / 285: بعد أن اعرضوا عن
أمره واتباع رسله بعد أن كانوا مسلمين.
(2) العرم: قال ابن عباس: العرم: السد وقال عطاء: العرم
اسم الوادي.
وقال الزجاج: العرم اسم الجرذ الذي نقب السكر عليهم -
فنسب السيل إليه.
وقال ابن الاعرابي: العرم من أسماء الفأر.
(3) سورة سبأ الآية 16.
(4) قال جواد علي في تاريخ العرب قبل الاسلام ج 2 / 100
- 212: أن المكربون (لقب أصحاب سبأ) هم الذين بدأوا إقامة السدود، وقد بدأت السدود
عمليات هندسية صغيرة غرضها احتجاز مياه الامطار الموسمية وقد أقيمت مجموعة من السدود.
إلى عهد المكرب يثع أمر بين فأقام هو وابنه سلسلة من
السدود أكملت سد مأرب.
وعثر ميلر في أنقاضه على كتابات تعود إلى أن بناءه كان
في القرن الثامن قبل الميلاد.
(5) تاريخ العرب قبل الاسام ص 174: العرم وهو سد أصم
طوله من الشرق إلى الغرب نحو ثمانمائة ذراع وعلوه بضعة عشر ذراعا وعرضه 150 ذراعا.
قال تعالى: (فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم).
قال غير واحد أرسل الله على أصل السد الفار وهو الجرذ
ويقال الخلد فلما فطنوا لذلك أرصدوا عندها السنانير (1) فلم تغن شيئا إذ قد حم
القدر ولم ينفع الحذر كلا لا وزر فلما تحكم في أصله الفساد سقط وانهار فسلك الماء
القرار فقطعت تلك الجداول والانهار وانقطعت تلك الثمار ومادت تلك الزروع والاشجار وتبدلوا
بعدها بردئ الاشجار والاثمار كما قال العزيز الجبار:
(وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل) قال ابن
عباس ومجاهد وغير واحد هو الاراك وثمره البرير وأثل وهو الطرفاء (2).
وقيل يشبهه.
وهو حطب لا ثمر له (وشئ من سدر قليل) وذلك لانه لما كان
يثمر النبق كان قليلا مع أنه ذو شوك كثير وثمره بالنسبة إليه كما يقال في المثل
لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى ولهذا قال تعالى: (ذلك
جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) أي إنما نعاقب هذه العقوبة الشديدة من
كفر بنا، وكذب رسلنا، وخالف أمرنا، وانتهك محارمنا.
وقال تعالى: (فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق) وذلك
أنهم لما هلكت أموالهم وخربت بلادهم احتاجوا أن يرتحلوا منها وينتقلوا عنها
فتفرقوا في غور البلاد ونجدها أيدى سبأ شذر مذر (3) فنزلت طوائف منهم الحجاز ومنهم
خزاعة نزلوا ظاهر مكة وكان من أمرهم ما سنذكره ومنهم المدينة المنورة اليوم فكانوا
أول من سكنها ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو
النضير فخالفوا الاوس والخزرج وأقاموا عندهم وكان من أمرهم ما سنذكره ونزلت طائفة
أخرى منهم الشام وهم الذين تنصروا فيما بعد وهم غسان وعاملة وبهراء ولخم وجذام وتنوخ
وتغلب وغيرهم وسنذكرهم عند ذكر فتوح الشام في زمن الشيخين رضي الله عنهما.
قال محمد بن إسحاق حدثني أبو عبيدة قال: قال الاعشى بن
قيس بن ثعلبة وهو ميمون بن قيس: وفي ذاك للمؤتسي أسوة * ومأرم عفى عليها العرم (4)
__________
(1) قال القرطبي في أحكامه: قال وهب: كانوا يزعمون أنهم
يجدون في عملهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا
إلى جانبها هرة.
(2) قال أبو عبيدة: الخمط: هو كل شجرة ذي شوك فيه مرارة.
وقال الزجاج: الخمط كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله.
والاثل: واحدته أثلة وجمعه أثلاث.
وقال الحسن: الاثل الخشب وقال أبو عبيدة: الاثل: هو شجر
النضار.
(3) مثل كانت العرب تضربه في سبأ فتقول: تفرقوا أيدي سبأ
وأيادي سبأ.
(4) كذا في الاصل مأرم والصواب من ابن هشام: مأرب.
رخام بنته لهم حمير * إذا جاء مواره لم يرم (1) فأروى
الزرع وأعنابها * على سعة ماؤهم إذ قسم (2) فصاروا أيادي لا بقدرو * ن على شرب طفل
إذا ما فطم (3) وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أن أول من خرج من اليمن
قبل سيل العرم عمرو بن عامر اللخمي ولخم هو ابن عدي بن الحارث بن مرة بن أزد (4)
بن زيد بن مهع (5) بن عمرو بن عريب بن يشجب بن زيد بن كهلان بن سبأ.
ويقال لخم بن عدي بن عمرو بن سبأ قاله ابن هشام.
قال ابن إسحاق وكان سبب خروجه من اليمن فيما حدثني أبو
زيد الانصاري أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عليهم الماء فيصرفونه
حيث شاؤوا من أرضهم، فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك، فاعتزم على النقلة عن اليمن
فكاد قومه فأمر أصغر ولده إذا أغلظ عليه ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه، ففعل ابنه ما
أمره به، فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي.
وعرض أمواله.
فقال أشراف من أشراف اليمن: اغتنموا غضبة عمرو فاشتروا
منه أمواله وانتقل في ولده وولد ولده.
وقالت الازد لا نتخلف عن عمرو بن عامر، فباعوا أموالهم
وخرجوا معه، فساروا حتى نزلوا بلاد عك مجتازين يرتادون البلدان، فحاربتهم عك،
فكانت حربهم سجالا، ففي ذلك قال عباس بن مرداس: وعك بن عدنان الذين تلعبوا (6)
بغسان حتى طردوا كل مطرد قال فارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلاد فنزل آل جفنة بن
عمرو بن عامر الشام ونزل الاوس
__________
(1) مواره: بضم الميم وفتحها: تلاطم مائة وتموجه.
(2) كذا في الاصل الزرع: وفي سيرة ابن كثير وابن هشام:
الزروع وهو الصواب.
وفي كتاب الاكليل للهمداني: فأروى الحروث وأعنابها على
ساعة ماؤهم ينقسم.
(3) في ابن هشام: ما يقدرون.
(4) في ابن هشام أدد وهو الصواب.
(5) في ابن هشام: هميسع وهو الصواب.
وفي جمهرة أنساب العرب ص 485: ابن زيد بن عريب بن زيد بن
كهلان بن سبأ.
وزاد ولخم هو مالك.
(6) في أصول الاحساب: تلقبوا.
قال ابن هشام ; وغسان ماء بسد مآرب في اليمن ويقال غسان:
ماء بالمشلل جبل وراء عزور: واد قريب من المدينة.
قريب من الجحفة.
وهي قرية على طريق المدينة في مكة.
وقال صاحب فهرست المعجم الجغرافي: رحل آل جفنة من اليمن،
إلى الشام ونزلوا بماء يقال له غسان فسموا به وأقاموا ببادية الشام.
ولقد لاحظنا الرأيين هنا لما بينهما من خلاف.
والخزرج يثرب ونزلت خزاعة مرا (1) ونزلت أزد السراة
السراة (2) ونزلت أزد عمان عمان ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه وفي ذلك
أنزل الله هذه الآيات (3) وقد روي عن السدي قريب من هذا.
وعن محمد بن إسحاق في روايته أن عمرو بن عامر كان كاهنا
وقال غيره كانت امرأته طريفة بنت الخير الحميرية كاهنة فأخبرت بقرب هلاك بلادهم
وكأنهم رأوا شاهد ذلك في الفأر الذي سلط على سدهم ففعلوا ما فعلوا والله أعلم.
وقد ذكرت قصته مطولة عن عكرمة فيما رواه ابن أبي حاتم في
التفسير.
فصل وليس جميع سبأ خرجوا من اليمن لما أصيبوا بسيل العرم
بل أقام أكثرهم بها وذهب أهل مأرب الذين كان لهم السد فتفرقوا في البلاد وهو مقتضى
الحديث المتقدم عن ابن عباس أن جميع قبائل سبأ لم يخرجوا من اليمن بل إنما تشاءم منهم
أربعة وبقي باليمن ستة وهم مذحج وكندة وأنمار والاشعريون وأنمار هو أبو خثعم
وبجيلة وحمير فهؤلاء ست قبائل من سبأ أقاموا باليمن واستمر
فيهم الملك والتبايعة حتى سلبهم ذلك ملك الحبشة بالجيش
الذي بعثه صحبة أميريه أبرهة وأرياط نحوا من سبعين سنة ثم استرجعه سيف بن ذي يزن
الحميري.
وكان ذلك قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقليل
كما سنذكره مفصلا قريبا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان.
ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن
عليا وخالد بن الوليد ثم أبا موسى الاشعري ومعاذ بن جبل وكانوا يدعون إلى الله
تعالى ويبينون لهم الحجج ثم تغلب على اليمن الاسود العنسي وأخرج نواب رسول الله
صلى الله عليه وسلم منها فلما قتل الاسود استقرت اليد الاسلامية عليها في أيام أبي
بكر الصديق رضي الله عنه كما سنبين ذلك بعد البعثة إن شاء الله تعالى.
قصة ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر المتقدم
ذكره اللخمي كذا ذكره ابن إسحاق وقال السهيلي: ونساب اليمن تقول نصر بن ربيعة (4)
بن نصر بن الحارث بن نمارة بن لخم وقال الزبير بن بكار ربيعة بن نصر بن مالك بن
__________
(1) مر وهو الذي يقال له مر الظهران، وهو على مرحلة من
مكة.
(2) السراة: جبل مشرف على عرفة ينقاد إلى صنعاء وإنما
سمي بذلك لعلوه ويقال له سراة: (3) قال الله تعالى: (لقد كان لسبإ في مسكنهم آية
فجنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا
فأرسلنا عليهم سيل العرم).
(4) في السهيلي: وبعضهم يقول فيه: نصر بن ربيعة وهو في
قول نساب اليمن ربيعة بن نصر.
=
شعوذ بن مالك بن عجم بن عمرو بن نمارة بن لخم ولخم أخو
جذام وسمي لخما لانه لخم أخاه أي لطمه فعضه الآخر في يده فجذمها فسمي جذاما.
وكان ربيعة أحد ملوك حمير التبابعة وخبره مع شق وسطيح
الكاهنين وإنذارهما بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما سطيح فاسمه ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب
بن عدي بن مازن غسان.
وأما شق فهو ابن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قيس (1)
بن عبقر بن أنمار بن نزار
ومنهم من يقول أنمار بن أراش بن لحيان بن عمرو بن الغوث
بن نابت (2) بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ ويقال إن سطيحا كان لا أعضاء له وإنما
كان مثل السطيحة ووجه في صدره وكان إذا غضب انتفخ وجلس وكان شق نصف إنسان ويقال إن
خالد بن عبد الله بن القسري كان سلالته وذكر السهيلي أنهما ولدا في يوم واحد وكان ذلك
يوم ماتت طريفة بنت الخير الحميرية ويقال إنها تفلت في فم كل منهما فورث الكهانة
عنها وهي امرأة عمرو بن عامر المتقدم ذكره والله أعلم.
قال محمد بن إسحاق وكان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين
أضعاف ملوك التبابعة فرأى رؤيا هائلة هالته وفظع (3) بها فلم يدع كاهنا ولا ساحرا
ولا عائفا ولا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه فقال لهم إني قد رأيت رؤيا
هالتني وفظعت بها فأخبروني بها وبتأويلها.
فقالوا (4) اقصصها علينا نخبرك بتأويلها.
فقال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم بتأويلها
(5) لانه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها.
فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى شق
وسطيح، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يخبرانه بما سأل عنه.
فبعث إليهما فقدم إليه سطيح قبل شق فقال له: إني قد رأيت
رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبرني بها فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها فقال أفعل.
رأيت حممة (6) خرجت من ظلمة.
__________
= وفي جمهرة ابن حزم: نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن
مسعود بن مالك بن عمم بن نمارة بن لخم.
ولخم هو مالك بن عدي.
(1) في ابن هشام: مس.
وفي الطبري: ابن نذير بن قيس.
(2) في ابن هشام وفي الاشتقاق لابن دريد: نبت.
(3) فظع بها: اشتدت عليه، يقال فظع به الامر: اشتد عليه.
(4) في ابن هشام: قالوا له: (5) في ابن هشام: عن تأويلها.
وفي الطبري بتأويلها.
(6) حممة: فحمة، وأراد هنا فحمة فيها نار.
وفي المسعودي جمرة خرجت ظلمة.
فوقعت بأرض تهمة (1).
فأكلت منها كل ذات جمجمة.
فقال له الملك ما اخطأت منها شيئا يا سطيح فما عندك في
تأويلها، قال: أحلف بما بين الحرتين من حنش لتهبطن أرضكم الحبش (2).
فليملكن ما بين أبين إلى جرش (3) فقال له الملك: يا سطيح
إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده.
فقال: لا وأبيك بل بعده بحين.
أكثر من ستين أو سبعين.
يمضين من السنين قال أفيدوم ذلك من سلطانهم (4) أم ينقطع
قال بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين ثم يقتلون (5) ويخرجون منها هاربين قال ومن
بلى ذلك من قتلهم وإخراجهم قال يليهم أرم [ بن ] ذي يزن يخرج عليهم من عدن.
فلا يترك منهم أحدا باليمن.
قال أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع قال بل ينقطع قال:
ومن يقطعه، قال: نبي زكي.
يأتيه الوحي من قبل العلي قال وممن هذا النبي ؟ قال: رجل
من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر.
يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر.
قال وهل للدهر من آخر قال نعم يوم يجمع فيه الاولون
والآخرون.
يسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون.
قال أحق ما تخبرني قال نعم.
والشفق والغسق والفلق إذا اتسق إن ما أنبأتك به لحق.
قال ثم قدم عليه شق فقال له كقوله لسطيح وكتمه ما قال
سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان قال نعم رأيت حممة خرجت من ظلمة.
فوقعت بين روضة وأكمة.
فأكلت منها كل ذات نسمة.
[ قال ] (6): فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقا وأن
قولهما واحد إلا أن سطيحا قال وقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة.
وقال شق وقعت بين روضة وأكمة فأكلت منها كل ذات نسمة
فقال له الملك ما أخطأت يا شق منها شيئا فما عندك في تأويلها فقال أحلف بما بين
الحرتين من انسان.
لينزلن أرضكم السودان فليغلبن على كل طفلة (7) البنان
وليملكن ما بين لين إلى نجران فقال له الملك وأبيك ياشق إن هذا لنا لغائظ موجع
فمتى هو كائن أفي زماني.
أم بعده قال لا بل بعده بزمان.
ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان.
ويذيقهم أشد الهوان.
قال ومن هذا العظيم
__________
(1) تهمة: الارض المنخفضة المتصوبة نحو البحر ومنها سميت
تهامة.
(2) الحبش: يقال إنهم بنو حبش بن كومش بن حام بن نوح وبه
سميت الحبشة.
(3) أبين: بفتح أوله ويكسر، مخلاف باليمن منه عدن.
وفي معجم البلدان: أبين: موضع في جبل عدن.
جرش: بضم أوله وفتح ثانيه: من مخاليف اليمن من جهة مكة.
وفتحت جرش في زمن النبي صلى الله عليه وسلم سنة 10 ه.
(4) في الطبري وابن هشام: ملكهم بدل سلطانهم.
(5) في الطبري: يقتلون بها أجمعون.
(6) ما بين المعكوفين زيادة من ابن هشام.
(7) طفلة: الناعمة الرخصة.
الشان ؟ قال غلام لبس بدني ولا مدن (1) يخرج عليهم من بيت
ذي يزن [ فلا يترك منهم أحدا باليمن
].
قال أفيدوم سلطانه أم ينقطع قال بل ينقطع برسول مرسل
يأتي بالحق والعدل من أهل الدين والفضل يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل قال: وما
يوم الفصل ؟ قال يوم يجزى فيه الولات يدعى فيه من السماء بدعوات تسمع منها الاحياء
والاموات ويجمع الناس فيه للميتات يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات.
قال أحق ما تقول قال إي ورب السماء والارض.
وما بينهما من رفع وخفض.
إن ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض (2).
قال ابن إسحاق فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا فجهز
بنيه وأهل بيته إلى العراق وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ
فأسكنهم الحيرة قال ابن إسحاق فمن بقية ولد ربيعة بن نصر النعمان بن المنذر بن النعمان
بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر يعني الذي كان نائبا على الحيرة لملوك
الاكاسرة وكانت العرب تفد إليه وتمتدحه وهذا الذي قاله محمد بن إسحاق من أن
النعمان بن المنذر من سلالة ربيعة بن نصر قاله أكثر الناس.
وقد روى ابن إسحاق أن امير المؤمنين عمر بن الخطاب لما
جئ بسيف النعمان بن المنذر سأل جبير بن مطعم عنه ممن كان ؟ فقال: من أشلاء قنص بن
معد بن عدنان قال ابن إسحاق فالله أعلم أي ذلك كان.
قصة تبع أبي كرب مع أهل المدينة
(وكيف أراد غزوة البيت الحرام ثم شرفه وعظمه وكساه الحلل
فكان أول من كساه) قال ابن إسحاق فلما هلك ربيعة بن نصر رجع ملك اليمن كله إلى
حسان بن تبان أسعد أبي كرب وتبان أسعد تبع الآخر ابن كلكيكرب (3) بن زيد وزيد تبع
الاول بن عمرو ذي الاذعار (4) بن أبرهة ذي المنار بن الرائش بن عدي (5) بن صيفي بن
سبأ الاصغر بن كعب كهف الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قس (6) بن معاوية بن جشم بن
عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أنس (7) بن الهميسع بن
العربحج والعربحج هو حمير بن سبأ الاكبر بن يعرب بن
__________
(1) مدن: وهو المقصر في الامور وفي ابن الاثير: مزن:
المتهم بالامر.
(2) أمض: الشك بلغة حمير.
وقال أبو عمرو: أمض: أي باطل.
(3) في ابن هشام كلي كرب وفي الطبري: بن ملكيكرب.
(4) اتفق الطبري وابن إسحاق على أن ذا الاذعار هو عمرو
وخالفهما المسعودي في مروج الذهب فقال: ذو الاذعار هو العبد بن ابراهة وكان ملكة
خمسا وعشرين وسنة.
(5) في الطبري: ابن قيس بن صيفي.
(6) في ابن هشام والطبري: ابن قيس.
(7) في الطبري وابن هشام: ابن أيمن بن الهميسع بن
العرنجج والعرنجج: هو من قولهم اعرنجج الرجل في أمره: إذا جد فيه.
كأنه أفعنلل.
يشجب بن قحطان.
قال عبد الملك بن هشام سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
قال ابن إسحاق وتبان أسعد أبو كرب هو الذي قدم المدينة
(1) وساق الحبرين من اليهود إلى اليمن وعمر البيت الحرام وكساه وكان ملكه قبل ملك
ربيعة بن نصر.
وكان قد جعل طريقه حين رجع من غزوة بلاد المشرق (2) على
المدينة وكان قد مر بها في بدأته فلم يهج أهلها وخلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة
فقدمها وهو مجمع لا خرابها واستئصال أهلها وقطع نخلها (3).
فجمع له هذا الحي من الانصار ورئيسهم عمرو بن طلحة (4)
أخو بني النجار ثم
أحد بني عمرو بن مبذول واسم مبذول عامر بن مالك بن
النجار واسم النجار تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة [ بن ]
عمرو بن عامر.
وقال ابن هشام: عمرو بن طلحة (4) هو عمرو بن معاوية بن
عمرو بن عامر بن مالك بن النجار وطلة أمه وهي بنت عامر بن زريق الخزرجية.
قال ابن إسحاق: وقد كان رجل من بني عدي بن النجار يقال
له أحمر عدا على رجل من أصحاب تبع وجده يجد (5) عذقا له فضربه بمنجله فقتله وقال
إنما التمر لمن أبره فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم.
فاقتتلوا فتزعم الانصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار
ويقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم ويقول والله إن قومنا لكهام (6) وحكى ابن إسحاق عن
الانصار: أن تبعا إنما كان حنقه على اليهود أنهم منعوهم منه.
قال السهيلي ويقال إنه إنما جاء لنصرة الانصار أبناء عمه
على اليهود الذين نزلوا عندهم في المدينة على شروط فلم يفوا بها واستطالوا عليهم
والله أعلم.
قال ابن إسحاق فبينا تبع على ذلك من قتالهم إذ جاءه
حبران من أحبار اليهود من بني قريظة عالمان راسخان (7) حين سمعا بما يريد من إهلاك
المدينة وأهلها فقالوا له أيها الملك لا تفعل فإنك إن
__________
(1) في مروج الذهب ج 2 / 82: أن تبع بن حسان بن كليكرب
هو الذي قدم المدينة يريد هدم الكعبة.
فمنعه أحبار اليهود، فكساها القصب اليماني.
(2) في ابن هشام والطبري: حين أقبل من المشرق.
(3) قيل إن تبعا لم يقصد غزوها، وإنما قصدها وقتل من
اليهود مقتلة عظيمة بسبب شكاية من شكاهم إليه من الاوس والخزرج بسبب سوء الجوار
انظر الطبري ج 2 / 39 وشرح السيرة لابي ذر.
(4) في الطبري وابن هشام: عمرو بن الطلة.
(5) يجد: يقطع.
(6) كذا في الاصل لكهام، والصواب كما في الطبري وابن
هشام: لكرام.
(7) هما: كعب وأسد من بني قريظة وكانا ابني عم وكانا
أعلم أهل زمانهما.
طبري ج 2 / 95.
أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينها ولم نأمن عليك جل (1)
العقوبة فقال لهما ولم ذلك قالا هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر
الزمان تكون داره وقراره فتناهى [ عن ذلك ] ورأى أن لهما علما وأعجبه ما سمع منهما
فانصرف عن المدينة وأتبعهما على دينهما.
قال ابن إسحاق: وكان تبع وقومه أصحاب أوثان يعبدونها
فتوجه إلى مكة وهي طريقه إلى اليمن حتى إذا كان بين عسفان وامج (2) أتاه نفر من
هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان فقالوا له أيها الملك ألا
ندلك على بيت مال داثرا غفلته الملوك قبلك فيه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والذهب
والفضة قال: بلى ; قالوا: بيت بمكة يعبده أهله، ويصلون عنده.
وإنما أراد الهذليون هلاكه بذلك لما عرفوا من هلاك من
أراده من الملوك وبغى عنده فلما أجمع لما قالوا أرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك،
فقالا له: ما أراد القوم إلا هلاكك وهلاك جندك ما نعلم بيتا لله عزوجل اتخذه في
الارض لنفسه غيره ولئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن وليهلكن من معك جميعا قال: فماذا
تأمرانني أن أصنع إذا أنا قدمت عليه قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله: تطوف به،
وتعظمه وتكرمه، وتحلق رأسك عنده، وتذلل له (3)، حتى تخرج من عنده.
قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك قالا أما والله إنه لبيت
أبينا إبراهيم عليه السلام وإنه لكما أخبرناك، ولكن أهله حالوا بيننا وبينه
بالاوثان التي نصبوها حوله، وبالدماء التي يهريقون عنده، وهم نجس أهل شرك - أو كما
قالا له - فعرف نصحهما وصدق حديثهما، وقرب النفر من هذيل، فقطع أيديهم وأرجلهم (4)
ثم مضى حتى قدم مكة، فطاف بالبيت، ونحر عنده، وحلق رأسه، وأقام بمكة ستة أيام -
فيما يذكرون - ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل،
__________
(1) في الطبري وابن هشام: عاجل.
وفي تراجعه عن المدينة وفضل ابن الطلة وامتناعه عن تبع
بقول خالد بن مالك بن النجار: أصحا أم انتهى ذكره * أم قضى من لذة وطره
يا بني النجار إن لنا * فيهم قبل الاوان تره سيد سامي
الملوك ومن * يغز عمرا لا يجد قدره وفي أخبار الازرقي: حتى إذا كان بالدف من جمدان
بين أمج وعسفان ج 1 / 133.
وجاء في تعليله: أن هذيل حسدا لقريش على ولايتهم البيت
فعلوا ذلك.
(2) عسفان: منهلة من مناهل الطريق بين الجحفة ومكة.
وقيل على ستة وثلاثين ميلا من مكة.
وأمج: بلد من أعراض المدينة وقيل واد.
(3) في الطبري: وتتذلل له ; وفي ابن هشام: وتذل له.
(4) في أخبار الازرقي: فضربت أعناقهم وصلبهم، 1 / 133.
وأري في المنام أن يكسوا البيت فكساء الخصف (1) ثم أري
في المنام أن يكسوه أحسن من ذلك فكساء المعافر (2) ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك
فكساء الملاء (3) والوصائل، وكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت وأوصى به
ولاته من جرهم وأمرهم بتطهيره وأن لا يقربوه دما ولا ميتة ولا مئلاتا (4) وهي
المحايض وجعل له بابا ومفتاحا ففي ذلك قالت سبيعة بنت الاحب تذكر ابنها خالد بن
عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وتنهاه عن البغي بمكة
وتذكر له ما كان من أمر تبع فيها: أبني لا تظلم بمك * كة لا الصغير ولا الكبير
واحفظ محارمها ب * ني ولا يغرنك الغرور أبني من يظلم بمك * ة يلق أطراف الشرور
أبني يضرب وجهه * ويلج بخديه السعير (5) أبني قد جربتها * فوجدت ظالمها يبور الله آمنها وما *
بنيت بعرصتها قصور ولله آمن طيرها
* والعصم تأمن في ثبير (6)
ولقد غزاها تبع * فكسا بنيتها الحبير وأذل ربي ملكه *
فيها فأوفى بالنذور يمشي إليها حافيا * بفنائها ألفا بعير ويظل يطعم أهلها * لحم
المهارى والجزور يسقيهم العسل المصفى * والرحيض من الشعير (7)
__________
(1) كذا في الاصل فكساء الخصف وفي الطبري وابن هشام:
فكساه الخصف ; والخصف: حصر تنسخ من خوص النخل ومن الليف.
(2) كذا في الاصل فكساء المعافر ; وفي الطبري وابن هشام:
فكساه المعافر.
والمعافر ثياب تنسب إلى قبيلة يمنية.
وفي الاخبار الازرقي: كساها الانطاع 1 / 250.
(3) كذا في الاصل فكساء الملاء والصواب كما في الطبري
وابن هشام فكساه الملاء والوصائل.
والملاء جمع ملاءة وهي الملحفة.
والوصائل: ثياب مخططة يمنية توصل بعضها ببعض.
وفي أخبار الازرقي: ثياب حبرة من عصب اليمن.
وقال أسعد في ذلك: وكسونا البيت الذي حرم الل * ه ملاء
ومعضدا وبرودا (4) في الطبري: ميلاثا.
(5) في ابن هشام وسيرة ابن كثير: يلح.
(6) العصم: الوعول التي تقصم في الجبال.
وثبير: جبل بمكة.
(7) الرحيض: المنقى والمصفى.
والفيل أهلك جيشه * يرمون فيها بالصخور والملك في أقصى
البلا * د وفي الاعاجم والخزور (1) فاسمع إذا حدثت واف * هم كيف عاقبة الامور
قال ابن إسحاق ثم خرج تبع متوجها إلى اليمن بمن معه من
الجنود (2) وبالحبرين حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه فأبوا
عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن.
قال ابن إسحاق: حدثني أبو مالك بن ثعلبة بن أبي مالك
القرظي قال سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيدالله يحدث: أن تعبا لما دنا من
اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا: لا تدخلها علينا وقد فارقت ديننا
فدعاهم إلى دينه وقال: إنه خير من دينكم قالوا تحاكمنا (3) إلى النار قال: نعم.
قال: وكانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم بينهم
فيما يختلفون فيه تأخذ (4) الظالم ولا تضر المظلوم فخرج قومه بأوثانهم وما يتقربون
به في دينهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما متقلديها حتى قعدوا للنار عند
مخرجها الذي تخرج منه فخرجت النار إليهم فلما أقلبت (5) نحوهم حادوا عنها وهابوها
فزجرهم (6) من حضرهم من الناس وأمروهم بالصبر لها فصبروا حتى غشيتهم فأكلت الاوثان
وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق
جباههما ولم تضرهما فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما (7) فمن هنالك كان أصل اليهودية
باليمن.
قال ابن إسحاق وقد حدثني محدث (8) أن الحبرين ومن خرج من
حمير إنما اتبعوا النار ليردوها وقالوا: من ردها فهو أولى بالحق.
فدنا منها رجال حمير بأوثانهم ليردوها، فدنت منهم
لتأكلهم فحادوا عنها ولم يستطيعوا ردها فدنا منها الحبران بعد ذلك وجعلا يتلوان
التوراة وهي تنقص (9)
__________
(1) كذا في الاصل الخزور وهو تحريف، وفي ابن هشام وسيرة
ابن كثير: الخزير والخزير: أمة من العجم ويقال لهم الخزر أيضا.
(2) في الطبري وابن هشام: من جنوده.
(3) في الطبري وابن هشام وسيرة ابن كثير: فحاكمنا.
(4) في ابن هشام والطبري: تأكل.
(5) في الطبري وابن هشام وسيرة ابن كثير: أقبلت.
(6) في الطبري وابن هشام وسيرة ابن كثير: فذمرهم: أي
حضهم وشجعهم.
(7) في سيرة ابن كثير وابن هشام والطبري: فأصفقت حمير
عند ذلك على دينه: أي اجتمعت.
(8) في الطبري: عن بعض أصحابه.
(9) كذا في الاصل والمطبوعة تنقص وهو تحريف والصواب في
الطبري وابن هشام وسيرة ابن كثير: تنكص.
عنهما، حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه فأصفقت عند
ذلك حمير على دينهما والله أعلم أي ذلك كان.
قال إبن إسحاق وكان رئام بيتا لهم يعظمونه وينحرون عنده
ويكلمون فيه (1) إذ كانوا على شركهم فقال الحبران لتبع: إنما هو شيطان يفتنهم بذلك
فخل بيننا وبينه قال: فشأنكما به فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن كلبا أسود
فذبحاه ثم هدما ذلك البيت فبقاياه اليوم كما ذكر لي بها آثار الدماء التي كانت تهراق
عليه.
وقد ذكرنا في التفسير الحديث الذي ورد عن النبي صلى الله
عليه وسلم: " لا تسبوا تبعا فإنه قد كان أسلم " قال السهيلي وروى معمر
عن همام بن منبه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا
أسعد الحميري فإنه أول من كسى الكعبة
".
قال السهيلي وقد قال تبع حين أخبره الحبران عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم شعرا: شهدت على أحمد أنه * رسول من الله باري النسم فلو مد
عمري إلى عمره * لكنت وزيرا له وابن عم وجاهدت بالسيف أعداءه * وفرجت عن صدره كل
هم قال ولم يزل هذا الشعر تتوارثه الانصار ويحفظونه بينهم وكان عند أبي أيوب
الانصاري رضي الله عنه وأرضاه.
قال السهيلي وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب القبور أن قبرا
حفر بصنعاء فوجد فيه امرأتان معهما لوح من فضة مكتوب بالذهب وفيه هذا قبر لميس وحبى
ابنتي تبع ماتا (2) وهما تشهدان ألا إله إلا
الله وحده لا شريك له وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما.
ثم صار الملك فيما بعد إلى حسان بن تبان أسعد وهو أخو
(3) اليمامة الزرقاء التي صلبت على باب مدينة جو (4) فسميت من يومئذ اليمامة.
__________
(1) في ابن هشام والطبري: منه وهي أكثر مناسبة.
(2) كذا في الاصل والمطبوعة وهو تحريف والصواب: ماتتا من
سيرة ابن كثير.
(3) في الطبري حسان بن تبع واليمامة الزرقاء ليست أخته
بل هي أخت رياح بن مرة رجل من طسم هرب من اليمامة وأخبر حسان بخبر أخته اليمامة.
وفي نهاية الارب للقلقشندي: سبأ بن سعد صاحب الحادثة.
(4) كانت اليمامة تسمى جو أو القرية، وبها أتى حسان
باليمامة ابنة مرة ففقئت عيونها فإذا فيها عروق سود، من أثر كحل حجر الاثمد.
وأمر حسان بأن تسمى جو اليمامة.
انظر الطبري ج 2 / 38 و 100.
قال ابن إسحاق فلما ملك ابنه حسان بن أبي كرب تبان أسعد
سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الاعاجم حتى إذا كانوا ببعض أرض
العراق كرهت حمير وقبائل اليمن السير معه وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم
فكلموا أخا له يقال له عمرو وكان معه في جيشه فقالوا له أقتل أخاك حسان ونملكك
علينا وترجع بنا إلى بلادنا فأجابهم فاجتمعوا على ذلك إلا ذارعين الحميري فإنه نهى
عمرا عن ذلك فلم يقبل منه فكتب ذو رعين رقعة فيها هذان البيتان.
ألا من يشتري سهرا بنوم * سعيد من يبيت قرير عين فأما
حمير غدرت وخانت (1) * فمعذرة الاله لذي رعين ثم استودعها عمرا (2).
فلما قتل عمرو أخاه حسان ورجع إلى اليمن منع منه النوم
وسلط عليه السهر فسأل الاطباء والحذاق (3) من الكهان والعرافين عما به فقيل له إنه
والله ما قتل رجل أخاه قط أو ذا رحم بغيا إلا ذهب نومه وسلط عليه السهر فعند ذلك
جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه فلما خلص إلى ذي رعين قال له إن لي عندك براءة قال
وما هي قال الكتاب الذي دفعته إليك
فأخرجه فإذا فيه البيتان فتركه ورأى أنه قد نصحه وهلك
عمرو فمرج أمر حمير عند ذلك وتفرقوا (4).
وثوب لخنيعة (5) ذي شناتر على ملك اليمن وقد ملكها سبعا
وعشرين سنة (6).
قال ابن إسحاق فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت
الملك يقال له لخنيعة ينوف ذو شناتر فقتل خيارهم وعبث ببيوت أهل المملكة منهم وكان
مع ذلك أمرءا فاسقا يعمل عمل قوم لوط فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك فيقع
عليه في مشربة له
__________
(1) في الاشتقاق لابن دريد ; 225: فإن تك حمير غدرت
وحانت.
(2) زاد ابن الاثير ج 1 / 420 قال: فلما بلغ حسان ما
أجمع عليه أخوه وقبائل اليمن قال لعمرو: يا عمرو لا تعجل علي منيتي * فالملك تأخذه
بغير حشود فأبى إلا قتله، فقتله بموضع رحبة مالك.
(3) في الطبري وابن هشام وسيرة ابن كثير: والحزاة: جمع
حاز وهو الذي ينظر في النجوم ويقضي بها.
(4) ملك عمرو بن تبع بعد أخيه أربعا وستين سنة ثم ملك
بعده تبع بن حسان بن كليكرب ثم عمرو بن تبع ثم مرثد بن عبد كلال ثم وليعة بن مرثد
ثم ابراهة بن الصباح بن وليعة ثم عمرو بن ذي قيفان.
على ما ذكره صاحب مروج الذهب 1 / 82 وكانت مدة ملكهم بعد
عمرو أخي حسان 253 سنة.
وفيما ذكره المسعودي أن تبع بن حسان كان قبل حسان تبان
أسعد كما ورد سابقا.
(5) قوله لخنيعة بالنون وهو كذلك في سيرة ابن هشام
والطبري وقال ابن دريد: لخيعة وفي ابن الاثير: لختيعة تنوف ذو شناتر وفي القاموس:
لختيعة ذو الشناتر من ملوك اليمن.
وفي مروج الذهب: ذو شناتر ولم يكن من أهل بيت الملك.
(6) في مروج الذهب: ثلاثين سنة وقيل: تسعا وعشرين 1 / 83.
قد صنعها لذلك لئلا يملك بعد ذلك (1) ثم يطلع من شربته
(2) تلك إلى حرسه ومن حضر من جنده قد أخذ مسواكا (3) فجعله في فيه ليعلمهم أنه قد
فرغ منه حتى بعث إلى زرعة (4) ذي
نواس بن تبان أسعد أخي حسان وكان صبيا صغيرا حين قتل
أخوه حسان ثم شب غلاما جميلا وسيما ذا هيئة وعقل فلما أتاه رسوله عرف ما يريد منه
فأخذ سكينا جديدا لطيفا (5) فخبأه بين قدميه ونعله ثم أتاه فلما خلا معه وثب إليه
فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله ثم حز رأسه فوضعه في الكوة التي كان يشرف منها ووضع
مسواكه في فيه ثم خرج على الناس فقالوا له: ذا نواس أرطب أم يباس فقال سل نحماس
استرطبان ذو نواس استرطبان لا بأس (6)
فنظروا إلى الكوة فإذا رأس لخنيعة مقطوع فخرجوا في أثر
ذي نواس حتى أدركوه فقالوا ما ينبغي أن يملكنا غيرك إذ أرحتنا من هذا الخبيث.
فملكوه عليهم واجتمعت عليه حمير وقبائل اليمن فكان آخر
ملوك حمير وتسمى يوسف فأقام في ملكه زمانا، وبنجران بقايا من أهل دين عيسى بن مريم
عليه السلام على الانجيل أهل فضل واستقامة من أهل دينهم لهم (7) رأس يقال له عبد
الله بن الثامر.
ثم ذكر ابن إسحاق سبب دخول أهل نجران في دين النصارى وأن
ذلك كان على يدي رجل يقال له فيميون (8) كان من عباد النصارى بأطراف الشام وكان مجلب
الدعوة وصحبه رجل
__________
(1) كانت حمير لا تملك من أبناء الملوك من نكح به.
(2) في المطبوعة شربته وفي الطبري وابن الاثير وابن
هشام: مشربته.
(3) في ابن الاثير والطبري وابن هشام: سواكا.
(4) في مروج الذهب: يوسف ذو نواس بن زرعة بن تبع الاصفر
بن حسان بن كليكرب.
وفي أخبار الدينوري ص 61، اسمه زرعة بن زيد بن كعب كهف
الظلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن جشم وإنما سمي ذا نواس للذؤلبة تنوس على
شعره.
(5) في الطبري وابن هشام: حديدا لطيفا.
وفي ابن الاثير: لطيفا.
(6) في ابن هشام والطبري نخماس.
وفي ابن الاثير نحاس.
والعبارة وردت هكذا في الاصل سل نخماس استرطبان أم يباس
وهي غير واضحة وسياق العبارة في الاغاني: " كان الغلام إذا خرج من عند لخنيعة
وقد لاط به قطعوا مشافر ناقته وذنبها وصاحوا به: أرطب أم يباس ولما
خرج ذو نواس من عنده وركب ناقة له.
قالوا: ذو نواس أرطب أم يباس ؟ فقال: ستعلم الاحراس، است
ذي نواس، است رطبان أم يباس
".
(7) كذا في الاصل وابن هشام والعبارة فيها خلل واضح،
والصواب في الطبري: أهل فضل واستقامة لهم من أهل دينهم رأس، وفي كامل ابن الاثير:
على استقامة، لهم رئيس يقال له..(8) في ابن الاثير أن عبد الله بن الثامر كان أصل
النصرانية بنجران.
وفي الطبري أن عبد الله بن الثامر كان موقع أصل ذلك
الدين (النصرانية) بنجران.
وقال الدينوري في الاخبار الطوال: أن عبد الله بن التامر
ملك النصارى في نجران أبي أن يهود فقتله ذو نواس.
وفي الطبري أن
يقال له صالح فكان (1) يتعبدان يوم الاحد ويعمل فيميون
بقية الجمعة في البناء وكان يدعوا للمرضى والزمنى وأهل العاهات فيشفون، ثم استأسره
وصاحبه بعض الاعراب فباعوهما بنجران فكان الذي اشترى فيميون يراه إذا قام في مصلاه
بالبيت الذي هو فيه في الليل يمتلئ عليه البيت نورا فأعجبه ذلك من أمره.
وكان أهل نجران يعبدون نخلة طويلة [ لها عيد كل سنة ]
(2) يعلقون عليها حلي نسائهم ويعكفون عندها فقال فيميون لسيده: أرأيت إن دعوت الله
على هذه الشجرة فهلكت أتعلمون أن الذي أنتم عليه باطل.
قال نعم فجمع له أهل نجران وقام فيميون إلى مصلاه فدعا
الله عليها فأرسل الله عليها قاصفا فجعفها (3) من أصلها ورماها إلى الارض فاتبعه
أهل نجران على دين النصرانية وحملهم على شريعة الانجيل حتى حدثت فيهم الاحداث التي
دخلت على أهل دينهم بكل أرض فمن هنالك كانت النصرانية بنجران من أرض العرب ثم ذكر
ابن إسحاق قصة عبد الله بن الثامر حين تنصر على يدي فيميون وكيف قتله وأصحابه ذو
نواس وخد لهم الاخدود (4).
وقال ابن هشام وهو الحفر المستطيل في الارض مثل الخندق
وأجج فيه النار وحرقهم بها قتل آخرين حتى قتل قريبا من عشرين ألفا كما قدمنا ذلك
مبسوطا في أخبار بني إسرائيل وكما هو مستقصى في تفسير سورة (والسماء ذات البروج) من كتابنا التفسير
ولله الحمد (5)
خروج الملك باليمن من حمير إلى الحبشة السودان كما أخبر
بذلك شق وسطيح الكاهنان وذلك أنه لم ينج من أهل نجران إلا رجل واحد يقال له دوس ذو
ثعلبان (6) على فرس له، فسلك الرمل فأعجزهم فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر ملك
الروم فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما بلغ منهم، وذلك لانه نصراني على
دينهم.
__________
= عبد الله بن الثامر قتله ملك كان قبل ذي نواس وان ذا
نواس قتل من كان بعده من أهل دينه ج 2 / 105.
وكان عبد الله بن الثامر قد تنصر على يدي فيميون،
واستجمع أهل نجران على دينه.
الطبري ابن الاثير - ابن هشام.
(1) الصواب: فكانا يتعبدان.
(2) ما بين معكوفين من الطبري وابن هشام.
(3) فجعفها: قطعها، وفي ابن الاثير: ريحا فجففتها
والقتها.
وفي ابن هشام والطبري: ريحا فجعفتها من أصلها (4) يقال
إن الذين خددوا الاخدود ثلاثة: تبع صاحب اليمن، وقسطنطين بن هلاني حين صرف النصارى
عن التوحيد إلى عبادة الصليب، وبختنصر من أهل بابل حين أمر الناس أن يسجدوا فامتنع
دانيال وأصحابه، فألقاهم في النار.
(5) راجع الآيات 4، 4، 5، 6 من سورة البروج.
(6) في رواية للطبري أن الذي أفلت هو جبار بن فيض من أهل
نجران.
ثم قال: و " الثبت عندي أنه دوس ذو ثعلبان " ج
2 / 106.
وهو يوافق ما ذكره ابن اسحاق وابن الاثير.
فقال له بعدت بلادك منا ولكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه
على هذا الدين وهو أقرب إلى بلادك.
فكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره.
فقدم دوس على النجاشي بكتاب قيصر فبعث معه سبعين ألفا من
الحبشة وأمره عليهم رجلا منهم يقال له أرياط (1) ومعه في جنده ابرهة الاشرم فركب
ارياط البحر حتى نزل بساحل اليمن ومعه دوس وسار إليه ذو نواس في حمير ومن اطاعه من
قبائل
اليمن.
فلما التقوا انهزم ذو نواس وأصحابه فلما رأى ذو نواس ما نزل
به وبقومه وجه فرسه في البحر ثم ضربه فدخل فيه فخاض به ضحضاح البحر حتى أفضى به
إلى غمرة، فأدخله فيها فكان آخر العهد به ودخل أرياط اليمن وملكها (2).
__________
(1) أورد الطبري وصية النجاشي إلى أرياط في مسيره إلى
اليمن: إن أنت ظهرت عليهم فاقتل ثلث رجالهم.
وأخرب ثلث بلادهم واسب ثلث نسائهم وأبنائهم.
(2) تناول جواد علي في تاريخ العرب قبل الاسلام ج 3 /
150 وما بعدها مسألتي علاقة الاحباش باليمن والنصرانية واليهودية في جنوب الجزيرة
وأتى على كل الآراء التي أوردها العلماء في ذلك وخلاصاتها: تناول جواد علي في
كتابه: تاريخ العرب قبل الاسلام (ج 3 ص 150 وما يليها) مسألتي علاقة الاحباش باليمن
والنصرانية واليهودية في جنوبي الجزيرة وأتى على كل الآراء التي أوردها العلماء في
ذلك بتفصيل كامل، ونحن نورد خلاصة ذلك فيما يلي: 1 - من العلماء من يذهب إلى أن
أصل الاحباش من جنوبي الجزيرة، هاجروا إلى العدوة الافريقية لاسباب كثيرة، منها
استيلاء البرثيين على سواحل بلاد العرب الشرقية، ومن هؤلاء العلماء أدوارد جلازر
في كتابه " الاحباش
".
2 - إن لفظ أثيوبيا يوناني معناه الوجه المحترق أو
الاسود، وقد أطلق على أرض الحبشة وعلى مناطق واسعة لا تدخل في الحبشة اليوم تشمل
جنوب مصر وسواحل أفريقيا المطلة على البحر الاحمر والمحيط الهندي جنوبي بلاد
العرب، وهي تقابل لفظ كوش الوارد في التوراة، مما يدل على أن الاتصال كان وثيقا من
قديم الزمان بين الشعوب التي تسكن هذه النواحي.
3 - إن أصل الاحباش الذين هاجروا من جنوبي جزيرة العرب
إلى أفريقية غير معروف.
4 - لا يعرف على وجه التحديد مكان أرض " حبشت
" في جزيرة العرب، والموضع الذي نزلوا فيه أول ما عبروا باب المندب.
ويرى هرمل أن الحضارمة القدماء أقرب العرب الجنوبيين إلى
الحبش الجنوبيين، بدليل تقارب اللهجة الحضرمية القديمة المبينة في المسند واللغة
الحبشية.
5 - يذهب جلازر إلى أن الحبش هاجروا إلى أفريقية بين
سنتي 370 و 378 ميلادية، ويرى هرمل أن رحلتهم منها كانت سنة 375، وكان ذلك في عهد
ملكين من ملوك الحبش هما " الاعميدة " وابنه عيزان وكان عيزان يلقب بلقب
بملك أكسوم وحمير وريدان والحبشة وسلح وتيماء وصيمو والبجة وقسو.
وكان مركز الدولة في أكسوم، أي أن ما دخل في زمامها من
بلاد العرب كان تابعا لها.
6 - وحوالي سنة 378 قام زعيم عربي اسمه " ملك كرب
يهأمن " بطرد الاحباش من اليمن وانشأ ملكا عربيا، وتلقب بملك سبأ وذو ريدان
وحضرموت ويمنات، وخلفه أبناه أبو كرب أسعد ورا أمر أيمن، وكانوا يعبدون إلها =
...
__________
= يسمى ذو سموى أي إله السماء، ولوحظ أن بلاد اليمن أخذت
تسير بعد ذلك نحو ديانة التوحيد.
7 - يرى المستشرقون أن أبا كرب أسعد هو أسعد كامل تبع،
الذي يرى الاخباريون أنه أول من تهود من ملوك اليمن، وليس لدينا دليل على ذلك،
والثابت أن هذا الملك كان يتعبد لاله يسمى ذو سموت أو إله السماء.
8 - وكانت لهؤلاء الملوك جميعا عناية بمجموعة السدود التي
تعرف بسد مأرب، وأول أخبار نسمعها عن تصدعه حوالي سنة 450 أو 451 ميلادية في عهد
الملك شرحبيل يعفر، فاستعان بالحميرين وقبائل حضرموت لاصلاح الصدوع.
9 - كانت عاصمة سبأ مدينة حتى نهاية القرن الثالث
للميلاد، ثم حلت محلها مدينة ظفار، ويرى جلازر أن نجم مأرب أخذ في الافول منذ
القرن الاول للميلاد، وإن سبب هذا هو غزو الحبش لليمن.
ويرى هارتمان أن السبب ثورة الهمدانيين على الحميرين
وانتصارهم، ويرى جواد علي أن السبب قد يكون تحول التجارة عن مأرب بسبب تغير طرق التجارة
وتأثير الطرق البحرية التي أخذت تنافس الطرق البرية، وكانت سفن البيزنطيين قد أخذت
طريقها في البحر الاحمر " فسلبت من اليمانيين ثروة عظيمة ولم يبق في امكانهم
الانفاق على السد لادامته والمحافظة عليه، وهذا ما اضطر القبائل إلى الهجرة من هذه
الجنة التي ولجها الجفاف بالتدريج
" ولكن الملوك لم يهجروا مأرب دفعة واحدة، إذ تدل
النصوص على أنهم أقاموا بها أمدا من الوقت بعد ذلك 10 - وآخر ملوك حمير كما يقول
الاخباريون هو ذو نواس (وإن كان بعضهم يذهب إلى أن ابنه ذا جدن خلفه)
وللاخباريين عنه قصص طويل، وفي أيامه غزا الاحباش اليمن
من جديد.
ولم تورد النصوص المدونة بالمسند لدى نواس ذكرا، والنص
الذي يحدثنا عن غزو الاحباش لليمن هذه المرة يسمى نص " حصن غراب "
وتاريخه سنة 525 بعد الميلاد.
11 - ولا يذكر مؤرخو الرومان أن ملك حمير - عندما غزا
الاحباش اليمن - كان يهوديا ويكتفي بروكوبيوس بالقول بأن النجاشي كان نصرانيا، وبلغه
أن الحميرين كانوا يضطهدون النصارى ويعذبونهم، ولذلك أرسل أسطولا استولى على أرض
حمير وأقام عليها ملكا حميريا نصرانيا، وذكر أن بعض الحميريين كانوا على اليهودية،
أما بقيتهم فكانوا وثنيين على مذهب الهيلينيين.
أما الرواية الحبشية فتذهب إلى أن معظم أهل سبأ كانوا وثنيين،
وأن بعضهم كانوا يهودا، وأن اليهودية دخلت اليمن بعد تشتت اليهود عقب قضاء الرومان
على دولة اسرائيل وهم الامبراطور تيتوس لمعبد سليمان في أورشليم.
والمفهوم أن اليهودية دخلت اليمن بعد تشتت اليهود عقب
قضاء الرومان على دولة اسرائيل وهم الامبراطور تيتوس لمعبد سليمان في أورشليم.
والمفهوم أن اليهودية دخلت اليمن عن طريق الحجاز.
12 - أما النصرانية فلم تدخل اليمن من طريق واحد، "
وإنما دخلتها من البر والبحر، دخلتها من البر من ديار الشام فالحجاز فاليمن، ومن
العراق أيضا مع القوافل التجارية المستمرة التي كانت بين اليمن والعراق، ودخلتها
من البحر بواسطة السفن اليونانية والرومانية، ودخلتها كذلك مع الاحباش الذين
تنصروا أيضا في القرن الرابع للميلاد
".
13 - وقد قامت بين اليهودية والنصرانية منافسة في اليمن،
وانتصرت اليهودية بتولي ذي نواس اليهودي العرش، وتسميه كتابات اليونان والسريان
دميانوس ودمنوس.
وقد اضطهد ذو نواس النصارى، فكان ذلك سببا في غزو
الاحباش لليمن سنة 525 على ما ذكرناه.
14 - وأقام الاحباش ابرهة الحميري حاكما على اليمن، وكان
نصرانيا.
ثم اختلف أبرهة مع النجاشي، فأرسل =
قد ذكر ابن إسحاق هاهنا أشعارا للعرب فيما وقع من هذه
الكائنة الغريبة وفيها فصاحة وحلاوة وبلاغة وطلاوة ولكن تركنا إيرادها خشية
الاطالة وخوف الملالة وبالله المستعان.
خروج أبرهة الاشرم على أرياط واختلافهما قال ابن إسحاق:
فأقام أرياط بأرض اليمن سنين (1) في سلطانه ذلك ثم نازعه ابرهة [ الحبشي - وكان
في جنده ] حتى تفرقت الحبشة عليهما.
فانحاز إلى كل منهما طائفة [ منهم ] ثم سار أحدهما إلى
الآخر.
فلما تقارب الناس أرسل أبرهة إلى أرياط: إنك لن تصنع بأن
تلقى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئا شيئا، فابرز لي وأبرز لك، فاينا أصاب
صاحبه انصرف إليه جنده، فأرسل إليه أرياط انصفت، فخرج إليه أبرهة، وكان رجلا قصيرا
لحميا [ حادرا ] (2) وكان ذا دين في النصرانية وخرج إليه أرياط وكان رجلا جميلا
عظيما طويلا وفي يده حربة له.
وخلف أبرهة غلام - يقال له عتودة - يمنع ظهره.
فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يافوخه.
فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وعينه وأنفه
وشفته فبذلك سمي أبرهة الاشرم.
وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله (3)، وانصرف
جند أرياط إلى أبرهة.
فاجتمعت عليه الحبشة باليمن وودى أبرهة أرياط.
فلما بلغ ذلك النجاشي ملك الحبشة الذي بعثهم إلى اليمن
غضب غضبا شديدا على أبرهة وقال عدا على أميري فقتله بغير أمري ثم حلف لا يدع أبرهة
حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته فحلق أبرهة رأسه وملا جرابا من تراب اليمن ثم بعث به
إلى النجاشي ثم كتب إليه: أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك فاختلفنا في
أمرك وكل طاعته لك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة واضبط لها وأسوس منه.
وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك وبعثت إليه بجراب
تراب من أرضي ليضعه تحت قدمه فيبر قسمه في.
فلما انتهى ذلك
__________
= هذا الاخير جيشا بقيادة أرياط ليقضي على أبرهة.
وتمكن أبرهة من قتل أرياط ثم استرضى النجاشي.
وقد ترك لنا ابرهة نصا على درجة كبيرة من الاهمية، أورده
جواد علي كاملا، يذكر فيه ترميمه لسد مأرب مرتين، وكان أبرهة نائبا لملك الحبشة
ولكنه تلقب بملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وأعرابها في النجاد وفي تهامة، وهو
اللقب القديم للملوك حمير المستقلين.
وقد عظم شأن أبرهة ووفدت عليه وفود ملك الفرس والمنذر
والحارث بن جبلة ورؤساء القبائل.
وقد انتشرت المسيحية في اليمن بعد ذلك وبنيت الكنائس
الكثيرة وأهمها الكنيسة المعروفة بالقليس، وتركزت النصرانية بصفة خاصة في نجران
على ما هو معروف.
15 - وقد ظل سلطان الاحباش على اليمن حتى ثار عليهم سيف
بن ذي يزن وحرر بلاده منهم.
واستعان بالفرس، مما أدى إلى غزوهم اليمن على ما هو
معروف.
(1) في مروج الذهب: عشرين سنة، وفي أخبار الازرقي: سنتين.
(2) ما بين معقوفين في الحديث زيادة من الطبري.
(3) في الاخبار الطوال: أن ابرهة ضرب أرياط بالسيف على
مفرق رأسه فقتله، مخالفا بروايته ابن الاثير والطبري والمسعودي.
إلى النجاشي رضي عنه وكتب إليه أن أثبت بأرض اليمن حتى
يأتيك أمري فأقام أبرهة باليمن.
سبب قصد ابرهة بالفيل مكة ليخرب الكعبة (ألم تر كيف فعل
ربك بأصحاب الفيل.
ألم يجعل كيدهم في تضليل.
وأرسل عليهم طيرا أبابيل.
ترميهم بحجارة من سجيل.
فجعلهم كعصف مأكول) (1).
قيل أول من ذلل الفيلة إفريدون بن أثفيان (2) الذي قتل
الضحاك قاله الطبري وهو أول من اتخذ للخيل السرج.
وأما أول من سخر الخيل وركبها فطهمورث (3) وهو الملك
الثالث من ملوك الدنيا ويقال إن أول من ركبها اسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام
ويحتمل أنه أول من ركبها من العرب والله تعالى أعلم.
ويقال إن الفيل مع عظمة خلقه يفرق من الهر.
وقد احتال بعض أمراء الحروب في قتال الهنود بإحضار
سنانير إلى حومة الوغى فنفرت الفيلة (4).
قال ابن إسحاق ثم إن أبرهة بني القليس (5) بصنعاء كنيسة
لم ير مثلها في زمانها بشئ من الارض وكتب إلى النجاشي إني قد بنيت لك كنيسة لم يبن
مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب.
فذكر السهيلي أن أبرهة استذل أهل اليمن في بناء هذه
الكنيسة الخسيسة وسخرهم فيها أنواعا من السخر.
وكان من تأخر عن العمل حتى تطلع الشمس يقطع يده لا محالة.
وجعل ينقل
إليها من قصر بلقيس رخاما وأحجارا وأمتعة عظيمة وركب
فيها صلبانا من ذهب وفضة وجعل فيها منابر من عاج وأبنوس وجعل ارتفاعها عظيما جدا
واتساعها باهرا (6) فلما هلك بعد ذلك أبرهة وتفرقت الحبشة كان من يتعرض لاخذ شئ من
بنائها وامتعتها أصابته الجن بسوء.
وذلك لانها كانت مبنية على اسم صنمين - كعيب وامرأته -
وكان طول كل منهما ستون ذراعا.
فتركها أهل
__________
(1) سورة الفيل الآيات.
(2) في ابن الاثير اثغيان وهو أول من ذلل الفيلة
وامتطاها ونتج للبغال.
وفي مروج الذهب 1 / 231 افريدون بن اثقابان.
(3) في الطبري وابن الاثير: أول من اتخذ زينة الملوك من
الخيل والبغال والحمير.
(4) في مروج الذهب ج 2 / 9: والفيل يهرب من السنانير وهي
القطاط ولا يقف لها البتة.
وقد ذكر من ملوك الفرس أنها كانت توقي الفيلة..بتخلية
السنانير عليها.
وفي ذلك يقول هارون بن موسى أحد أمراء السند وكان قد
واجه ملك الهند فواجه الفيل بقط معه فهرب الفيل وكان ذلك سبب هزيمة الملك: وكنت قد
أعددت هرا لها * قليل التهيب للزندبيل (5) في الاخبار الطوال: بيعة.
(6) في رواية للطبري ج 2 / 110 أن أبرهة كتب إلى قيصر
يطلب مساعدته فأعانه بالصناع والفسيفساء والرخام.
اليمن على حالها.
فلم تزل كذلك إلى زمن السفاح (1) أول خلفاء بني العباس
فبعث إليها جامعة من أهل العزم والحزم والعلم فنقضوها حجرا حجرا ودرست آثارها إلى
يومنا هذا.
قال ابن إسحاق فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي
غضب رجل من النسأة من كنانة (1) الذين ينسئون شهر الحرام (2) إلى الحل بمكة أيام
الموسم كما قررنا ذلك عند قوله: (إنما النسئ زيادة في الكفر) الآية (3).
قال ابن إسحاق فخرج الكناني حتى أتى القليس فقعد فيه (4)
أي أحدث حيث لا يراه أحد ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر أبرهة بذلك.
فقال من صنع هذا.
فقيل له صنعه رجل من أهل
هذا البيت الذي تحجه العرب بمكة لما سمع بقولك أنك تريد
أن تصرف حج العرب إلى بيتك هذا فغضب فجاء فقعد فيها أي أنه ليس لذلك بأهل.
فغضب أبرهة عند ذلك وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه.
ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت.
ثم سار وخرج معه بالفيل (5) وسمعت بذلك العرب فاعظموه
وفظعوا به ورأوا جهاده حقا عليهم حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام.
فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له
ذو نفر.
فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده
عن بيت الله الحرام وما يريده من هدمه وإخرابه.
فأجابه من أجابه إلى ذلك.
ثم عرض له فقاتله.
فهزم ذو نفر وأصحابه وأخذ له ذو نفر فأتي به أسيرا.
فلما أراد قتله، قال له ذو نفر: يا أيها الملك لا تقتلني
فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من القتل (6).
فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق، وكان أبرهة رجلا
حليما ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له حتى إذا كان بأرض خثعم (7) عرض له
نفيل بن حبيب الخثعمي (8)
__________
(1) في ابن الاثير والطبري: من بني فقيم.
(2) كانوا يحلون الشهر من الاشهر الحرم، ويحرمون مكانه
الشهر من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر.
ونسأت الشئ فهو منسوء إذا أخرته.
وكانوا يحرمون القتال في المحرم، فإذا احتاجوا إلى ذلك
حرموا صفرا بدله وقاتلوا في المحرم.
(3) سورة التوبة الآية 37.
(4) في ابن هشام والطبري وابن الاثير: فيها وهو الصواب.
(5) قال ابن الاثير 1 / 442: كان اسمه محمودا، وقيل كان
معه ثلاثة عشر فيلا، وإنما وحد الله الفيل لانه عنى به كبيرها محمودا.
وقال الضحاك: ثمانية فيلة.
(6) في ابن هشام: قتلي.
(7) في الاشتقاق لابن دريد: خثعم اسم جبل سمي به بنو
عفرس بن خلف بن أفتل بن أنمار لانهم نزلوا عنده وقيل لانهم تخثعموا أي تلطخوا
بالدم عند حلف عقدوه بينهم.
(8) في ابن هشام والطبري: قبيلي.
في قبيلتي خثعم وهما شهران وناهس (1) ومن تبعه من قبائل
العرب فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له نفيل أسيرا فأتى به فلما هم بقتله قال له نفيل
أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب وهاتان يداي لك على قبيلتي خثعم -
شهران وناهس - بالسمع والطاعة.
فخلى سبيله (2) وخرج به معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج
إليه مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف في رجال ثقيف فقالوا
له أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ليس عندنا لك خلاف.
وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد - يعنون اللآت - إنما
تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز عنهم.
قال ابن إسحاق واللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو
تعظيم الكعبة.
قال فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة.
فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزله بالمغمس (3).
فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك فرجمت قبره العرب فهو
القبر الذي يرجم الناس بالغمس وقد تقدم في قصة ثمود أن أبا رغال كان رجلا منهم
وكان يمتنع بالحرم فلما خرج منه أصابه حجر فقتله وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال لاصحابه " وآية ذلك أنه دفن معه غصنان من ذهب " فحفروا فوجدوهما قال
وهو أبو ثقيف.
قلت والجمع بين هذا وبين ما ذكر ابن إسحاق أن أبا رغال
هذا المتأخر وافق اسمه اسم جده الاعلى ورجمه الناس كما رجموا قبر الاول أيضا والله
أعلم.
وقد قال جرير: إذا مات الفرزدق فارجموه * كرجمكم لقبر
أبي رغال الظاهر أنه الثاني.
قال ابن إسحاق فلما نزل أبرهة بالمغمس بعث رجلا من
الحبشة يقال له الاسود بن مفصود (4) على خيل له حتى انتهى إلى مكة.
فساق إليه أموال [ أهل ] تهامة من قريش وغيرهم.
وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم - وهو يومئذ
كبير قريش وسيدها - فهمت قريش وكنانة وهذيل (5) ومن كان بذلك الحرم [ من سائر
الناس ] (6) بقتاله.
ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا
__________
(1) يقال إن خثعم ثلاث: شهران وناعس وأكلب نهاية الارب
وقال أبو عبيدة: ويقال هو أكلب بن ربيعة بن نزار.
قال ابن حزم في الجمهرة: وأكلب بن ربيعة بن نزار دخلوا
في بني خثعم فقالوا: أكلب بن ربيعة بن عفرس.
(2) في الطبري: فأعفاه.
(3) المغمس: واقع بين الجعرانة والشرايع في طريق السيل
إلى الطائف ; على ثلثي فرسخ من مكة.
(4) في الطبري وابن الاثير: مقصود ; وفي نسخة للازرقي
كالاصل.
(5) في الازرقي زاد: خزاعة.
(6) ما بين معكوفين زيادة من الطبري.
ذلك.
وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له: سل عن سيد
أهل هذا البلد وشريفهم، ثم قل له: إن الملك يقول إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم
هذا البيت فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي
فائتني به فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها فقيل له عبد المطلب بن هاشم [ بن عبد مناف بن
قصي ].
فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة.
فقال له عبد المطلب والله ما نريد حربه ومالنا بذلك من
طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام - أو كما قال - فإن
يمنعه منه فهو حرمه وبيته وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه.
فقال له حناطة فانطلق معي إليه فإنه قد أمرني أن آتيه بك.
فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر
فسأل عن ذي نفر وكان له صديقا - حتى دخل عليه وهو في محبسه فقال له يا ذا نفر هل
عندك من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال له ذو نفر وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن
يقتله غدوا أو عشيا ؟ ما عندي غناء في شئ مما نزل بك إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق
لي.
فسأرسل إليه وأوصيه بك وأعظم عليه حقك واسأله أن يستأذن
لك على الملك فنكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك.
فقال حسبي.
فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش
وصاحب عين (1) مكة يطعم الناس بالسهل والوحوش في
رؤوس الجبال وقد أصاب له الملك مائتي بعير فاستأذن له
عليه وانفعه عنده بما استطعت.
قال: أفعل.
فكلم أنيس أبرهة فقال له أيها الملك هذا سيد قريش ببابك
يستأذن عليك وهو صاحب عين (1) مكة وهو الذي يطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس
الجبال فائذن له عليك فليكلمك في حاجته [ وأحسن إليه ] (2) فأذن له أبرهة قال وكان
عبد الملطب أوسم الناس وأعظمهم وأجملهم فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته
وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه.
فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى
جانبه ثم قال لترجمانه قل له حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان فقال: حاجتي أن يرد علي
الملك مائتي بعير أصابها لي.
فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه: قل له لقد كنت
أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني.
أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك
ودين آبائك قد جئت لاهدمه لا تكلمني فيه ؟ فقال له عبد المطلب إني أنا رب الابل،
وإن للبيت ربا سيمنعه.
فقال ما كان ليمتنع مني.
قال أنت وذاك.
فرد على عبد المطلب إبله.
قال ابن إسحاق ويقال إنه كان قد دخل مع عبد المطلب على
أبرهة يعمر (3) بن نفاثة بن
__________
(1) في الطبري وابن هشام والازرقي: صاحب عير مكة.
(2) ما بين معكوفين زيادة من الطبري.
(3) كذا في الاصل وابن هشام والازرقي ; وفي الطبري:
يعمرو بن نفاثة بن عدي بن الدئل.
واختلف في الدئل =
عدي بن الديل بن بكر بن عبدمناة بن كنانة سيد بني بكر
(1) وخويلد بن واثلة (2) سيد هذيل فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم
ولا يهدم البيت فأبى عليهم ذلك فالله أعلم أكان ذلك أم لا.
فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم
الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في رؤوس الجبال [ خوفا عليهم من معرة الجيش ]
(3).
ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر
من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده.
وقال عبد المطلب
- وهو أخذ بحلقة باب الكعبة -: لاهم إن العبد يم * نع
رحله فامنع رحالك (4) لا يغلبن صليبهم * ومحالهم غدوا محالك إن كنت تاركهم وقب *
لتنا فأمر ما بدا لك قال ابن هشام هذا ما صح له منها (5).
وقال ابن إسحاق ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة
وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال يتحرزون فيها فينتظرون ما أبرهة فاعل (6).
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة
__________
= بهمز أو الديل.
والمعروف أن الدئل هم الذين من بني كنانة وهم الهون أيضا
وأما الديل فهم من الازد ; وفي اياد وفي عبد القيس.
راجع نهاية الارب للقلقشندي - جمهرة انساب العرب لابن
حزم - الانساب للسمعاني.
لسان العرب مادة دأل.
(1) في ابن هشام والازرقي كالاصل وفي الطبري: بني كنانة.
وبنو بكر كما في جمهرة ابن حزم هم بطن من بطون كنانة.
(2) في الطبري والازرقي وابن هشام واثلة.
(3) زيادة اقتضاها السياق، من الطبري وابن الاثير
والازرقي وابن هشام.
والتحرز: التمنع، ويروى التحوز: وهو أن ينحاز إلى جهة
يتمنع.
ومعرة الجيش: شدته، أي عند نزولهم بقوم فيأكلوا من
زروعهم بغير علم وقبل وطأتهم من مروا به من مسلم أو معاهد واصابتهم إياهم في
حريمهم وأموالهم وزروعهم بما لم يؤذن لهم فيه.
(4) لاهم وفي الازرقي يا رب.
لاهم أصلها اللهم والعرب تحذف الالف واللام منها وتكتفي
بما بقي.
(5) زاد السهيلي: وانصر على آل الصليب * وعابديه اليوم
آلك وقد ذكر الطبري قصيدة أخرى لعبد المطلب غير هذه القصيدة ج 2 / 112 - 113.
وذكر الازرقي قصيدة أخرى له ص 145: منها:
قلت والاشرم تردى خيله * إن ذا الاشرم غر بالحرم (6) زاد
ابن هشام والطبري وابن الاثير: بمكة إذا دخلها.
وهيأ فيله وعبى جيشه، وكان اسم الفيل محمودا.
فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب (1) حتى قام
إلى جنب الفيل ثم أخذ بأذنه فقال أبرك محمود وارجع راشدا من حيث أتيت.
فإنك في بلد الله الحرام وأرسل أذنه.
فبرك الفيل.
قال السهيلي أي سقط إلى الارض وليس من شأن الفيلة أن
تبرك وقد قيل إن منها ما يبرك كالبعير فالله أعلم (2).
وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل.
وضربوا الفيل ليقوم فأبى فضربوا رأسه بالطبر زين (3)
ليقوم فأبى فادخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى فوجهوه راجعا إلى
اليمن فقام يهرول.
ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل
مثل ذلك.
ووجهوه إلى مكة فبرك.
وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان
(4) مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها: حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال
الحمص والعدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك وليس كلهم أصابت.
وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي منها جاؤوا.
ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن
فقال نفيل في ذلك: ألا حييت عنا يا ردينا * نعمناكم مع الاصباح عينا ردينة لو رأيت
فلا تريه * لدى جنب المحصب ما رأينا (5) إذا لعذرتني وحمدت أمري * ولم تأسي على ما
فات بينا حمدت الله إذ أبصرت طيرا * وخفت حجارة تلقى علينا (6) وكل القوم يسأل عن نفيل
* كأن علي للحبشان دينا
__________
(1) نفيل بن حبيب الخثعمي كما في الطبري وابن الاثير
والازرقي.
وقال في الروض الانف هو: نفيل بن عبد الله بن جزء بن
عامر بن مالك بن واهب بن جليحة بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن جلف بن أفتل.
وهو
خثعم.
ويتفق معه ابن حزم 391 في نسبه إلا أنه يقول: نفيل بن
حبيب بن عبد الله..وهو دليل الحبشة إلى البيت.
(2) عبارة السهيلي: قوله فبرك الفيل فيه نظر لان الفيل
لا يبرك فيحتمل أن يكون فعل فعل البارك الذي يلزم موضعه ولا يبرح فعبر بالبروك عن
ذلك ويحتمل أن يكون بروكه سقوطه إلى الارض لما دهمه من أمر الله تعالى، وقد سمعت
أن في الفيلة صنفا يبرك كما يبرك الجمل.
راجع حياة الحيوان الكبرى للدميري ج 2 / 232.
(3) الطبرزين: آلة معقفة من الحديد، وطبر كلمة فارسية
معناها الفأس.
وفي حياة الحيوان عند الدميري: فضربوه بالحديد.
(4) قال ابن الاثير في النهاية مادة بلس: قال عباد بن
موسى أظنها الزرازير.
1 / 111.
(5) في الطبري وابن الاثير: ولم تريه وفي الازرقي: ولن
تريه.
وقبله في الطبري وابن الاثير: آتانا قابس منكم عشاء *
فلم يقدر لقابسكم لدينا (6) في الطبري وابن الاثير: إذ عاينت بدل أبصرت.
قال ابن إسحاق: فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل
مهلك على كل منهل.
وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط (1) أنملة
أنملة كلما سقطت أنملة اتبعتها منه مدة تمت (2) قيحا ودما حتى قدموا به صنعاء وهو
مثل فرخ الطائر.
فما مات حتى أنصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون.
قال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة (3) أنه حدث أن أول
ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رئي بها مرائر الشجر
الحرمل، والحنظل والعشر (4) ذلك العام.
قال إبن إسحاق: فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم
كان مما يعدد الله على قريش من نعمته عليهم وفضله مارد عنهم من أمر الحبشة لبقاء
أمرهم ومدتهم فقال تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل.
ألم يجعل كيدهم في تضليل.
وأرسل عليهم طيرا أبابيل.
ترميهم بحجارة من
سجيل.
فجعلهم كعصف مأكول) (5).
ثم شرع ابن إسحاق وابن هشام يتكلمان على تفسير هذه
السورة والتي بعدها وقد بسطنا القول في ذلك في كتابنا التفسير بما فيه كفاية إن
شاء الله تعالى وله الحمد والمنة.
قال ابن هشام الابابيل الجماعات ولم تتكلم لها العرب
بواحد علمناه (6).
قال: وأما السجيل فأخبرني يونس النحوي وأبو عبيدة أنه
عند العرب: الشديد الصلب (7).
قال: وزعم
__________
(1) في الطبري: تسقط أنامله أنملة أنملة.
وفي ابن الاثير، فسقطت أعضاؤه عضوا عضوا.
(2) في الطبري وابن هشام: تمث بالثاء أي ترشح وتنزف.
(3) هو يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الاخنس الثقفي
المدني كما في أخبار الازرقي وكان فقيها عالما بالسيرة توفي عام 128 ه.
(4) الحرمل: شجر لا يأكله شئ سوى المعزى.
والعشر: شجر مر له صمغ ولبن وتعالج بلبنه الجلود قبل
دباغتها.
وأما القول بأن الحصبة والجدري أول ما رؤيا في العرب بعد
الفيل وأيضا العشر والحرمل والشجر فهذا مما لا ينبغي أن يعرض عليه ولا يعول عليه كثيرا
فالامراض والاشجار مذ خلق الله العالم، ومذ وجد الانسان على الارض وقبل الفيل
بدهور.
(5) سورة الفيل (6) أبابيل: قال صاحب القاموس في "
أبل ": فرق جمع بلا واحد.
والابالة القطعة من الطير أو المتتابعة منها.
قال صاحب اللسان " أبل ": الابابيل جماعة في
تفرقة، واحدها إبيل وإبول.
وزعم الرؤاسي أن واحدها إبالة.
(7) قال صاحب اللسان: السجيل: حجارة كالمدر، ومن قرأ
السجيل فهو الصلب الشديد.
وقال أبو عبيدة: تأويله كثيرة شديدة.
وقال أبو إسحاق: سجيل من سجلت إذا أعطيت وعند الجوهري:
بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة
واحدة وأنها سنج وجل (1) فالسنج
الحجر ; والجل الطين.
يقول: الحجارة من هذين الجنسين الحجر والطين.
قال: والعصف ورق الزرع الذي لم يقصب.
وقال الكسائي سمعت بعض النحويين يقول واحد الابابيل أبيل
وقال كثيرون من السلف الابابيل الفرق من الطير التي يتبع بعضها بعضا من ههنا وههنا.
وان ابن عباس كان له خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف
الكلاب وعن عكرمة كانت رؤوسها كرؤوس السباع خرجت عليهم من البحر وكانت خضرا.
وقال عبيد بن عمير كانت سودا بحرية في مناقيرها وأكفها
الحجارة.
وعن ابن عباس كانت أشكالها كعنقاء مغرب وعن ابن عباس كان
أصغر حجر منها كرأس الانسان ومنها ما هو كالابل.
وهكذا ذكره يونس بن بكير عن ابن إسحاق.
وقيل كانت صغارا والله أعلم (1) وقال ابن أبي حاتم حدثنا
أبو زرعة حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الاعمش عن أبي
سفيان عن عبيد بن عمير قال لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيرا
أنشئت من البحر أمثال الخطاطيف كل طير منها يحمل ثلاثة أحجار حجرين في رجليه وحجرا
في منقاره قال فجاءت حتى صفت على رؤوسهم.
ثم صاحت وألقت ما في رجليها ومناقيرها.
فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره.
ولا يقع على شئ من جسده إلى خرج من الجانب الآخر (2).
وبعث الله ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادنها شدة فأهلكوا
جميعا.
وقد تقدم أن ابن إسحاق قال وليس كلهم اصابته الحجارة
يعني بل رجع منهم راجعون إلى اليمن حتى أخبروا أهلهم بما حل بقومهم من النكال
وذكروا أن ابرهة رجع وهو يتساقط أنملة أنملة فلما وصل إلى اليمن انصدع صدره فمات
لعنه الله (3).
__________
= حجارة طبخت بنار جهنم مكتوب فيها اسماء القوم.
(1) في تفسير القرطبي: قال عبد المطلب: إنها اشباه
اليعاسيب.
وقال الكلبي: في مناقيرها حصى كحصى الحذف.
أمام كل فرقة طائر يقودها، أحمر المنقار، أسود الرأس
طويل العنق.
وقال سعيد بن جبير: خضر لها مناقير صفر.
وقيل كانت بيضا.
(2) قال القرطبي في تفسيره: قيل: كان الحجر يقع على بيضة
أحدهم فيخرقها ويقع في دماغه، ويخرق الدابة
والفيل.
ويغيب الحجر في الارض من شدة وقعه.
(3) في تفسير القرطبي ج 20 / 193: وكان أصحاب الفيل ستين
ألفا، لم يرجع منهم أحد إلا أميرهم، ورجع معه شرذمة لطيفة، فلما أخبروا بما رأوا
هلكوا.
وفي رواية للقرطبي: ولم يسلم منهم إلا رجلا من كندة -
نفيل بن حبيب -.
وجاء في أخبار الازرقي: وأقام بمكة فلال من الجيش وعسفاء
وبعض من ضمه العسكر، فكانوا بمكة يعتملون ويرعون لاهل مكة.
وروى ابن إسحاق قال حدثني عبد الله بن أبي بكر عن سمرة
(1) عن عائشة قالت لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان (2).
وتقدم أن سائس الفيل كان اسمه أنيسا فأما قائده فلم يسم
والله أعلم.
وذكر النقاش في تفسيره أن السيل احتمل جثثهم فألقاها في
البحر (3).
قال السهيلي وكانت قصة الفيل أول المحرم من سنة ست
وثمانين وثمانمائة (4) من تاريخ ذي القرنين.
قلت وفي عامها ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم على
المشهور.
وقيل كان قبل مولده بسنين كما سنذكر إن شاء الله تعالى
وبه الثقة.
ثم ذكر ابن إسحاق ما قالته العرب من الاشعار في هذه
الكائنة العظيمة التي نصر الله فيها بيته الحرام الذي يريد أن يشرفه ويعظمه ويطهره
ويوقره ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وما يشرع له من الدين القويم الذي أحد
أركانه الصلاة بل عماد دينه وسيجعل قبلته إلى هذه الكعبة المطهرة ولم يكن ما فعله بأصحاب
الفيل نصرة لقريش إذ ذاك على النصارى الذين هم الحبشة: فإن الحبشة إذ ذاك كانوا
أقرب لها من مشركي قريش وإنما كان النصر للبيت الحرام وإرهاصا وتوطئة لبعثة محمد
صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك ما قاله عبد الله بن الزبعرى السهمي: تنكلوا عن
بطن مكة إنها * كانت قديما لا يرام حريمها (5) لم تخلق الشعرى ليالي حرمت * إذ لا
عزيز من الانام يرومها (6)
سائل أمير الحبش عنها ما رأى * فلسوف ينبي الجاهلين
عليمها (7)
__________
(1) كذا في الاصل سمرة.
وفي ابن هشام والطبري وابن الاثير: عمرة.
وعمرة هي بنة عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الانصارية
المدنية الفقيهة.
كانت في حجر عائشة وروت عنها الكثير توفيت سنة 98 ه وقيل
سنة 106 ه عن سبع وسبعين سنة.
(2) جاء في تفسيره عن عتاب بن أسيد قال: وأنا أدركت
سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس 20 / 195.
(3) في الطبري ج 2 / 115: وبعث الله سيلا أتيا فذهب بهم
فألقاهم في البحر.
(4) في السهيلي سنة اثنتين وثمانين ; وفي مروج الذهب ج 2
/ 296.
وفي الطبري لمضي 42 سنة من ملك كسرى انوشروان وفي هذا
العام كان يوم جبلة.
وفي أيام العرب في الجاهلية يوم جبلة كان قبل الاسلام
بسبع وخمسين سنة.
نهاية الارب 414 وقال ابن سيد الناس: ص 27: ذكر أبو بكر
محمد بن موسى الخوارزمي قال: كان قدوم الفيل مكة لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم.
وافقه المسعودي.
وزاد كان قدوم ابرهة مكة لسبع عشرة خلت من المحرم ولست
عشرة ومائتين من تاريخ العرب ولسنة أربعين من ملك كسرى.
(5) تنكلوا ورويت تنكبوا ومعناها: انصرفوا وارجعوا خوفا.
(6) الشعرى: وهما شعريان - اسم نجم - الغميصاء والاخرى
تتبع الجوزاء.
(7) في ابن هشام الجيش بدل الحبش.
ستون ألفا لم يؤوبوا أرضهم * بل لم يعش بعد الاياب
سقيمها (1) كانت بها عاد وجرهم قبلهم * والله من فوق العباد يقيمها ومن ذلك قول
أبي قيس بن الاسلت الانصاري المدني: ومن صنعه يوم فيل الحبو * ش إذ كلما بعثوه رزم
محاجنهم تحت أقرابه * وقد شرموا أنفه فانخرم (2) وقد جعلوا سوطه مغولا * إذا يمموه
قفاه كلم
فولى وأدبر أدراجه * وقد باء بالظلم من كان ثم فأرسل من
فوقهم حاصبا * فلفهم مثل لف القزم (4) تحض على الصبر أحبارهم * وقد ثأجوا كثؤاج الغنم
(4) ومن ذلك قول أبي الصلت ربيعة بن أبي ربيعة وهب بن علاج الثقفي قال ابن هشام
ويروى لامية بن أبي الصلت: إن آيات ربنا ثاقبات * مما يماري فيهن إلا الكفور (5)
خلق الليل والنهار فكل * مستبين حسابه مقدور ثم يجلو النهار رب رحيم * بمهاة
شعاعها منثور حبس الفيل بالمغمس حتى * صار يحبو كأنه معقور لازما حلقة الجران كما
ق * د من صخر كبكب محدور (6) حوله من ملوك كندة أبطا * ل ملاويث في الحروب صقور
(7) خلفوه ثم ابذعروا جميعا * كلهم عظم ساقه مكسور كل دين يوم القيامة عند الل * ه إلا دين
الحنيفة بور ومن ذلك قول أبي قيس بن الاسلت أيضا: فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا *
بأركان هذا البيت بين الاخاشب (8)
__________
(1) في ابن هشام حذفت بل، ونبه السهيلي على أن بل زيادة
زادها بعضهم ممن ظن خطأ أن البيت مكسور.
(2) في الازرقي: وقد كلموا أنفه بالخزم.
(3) في الازرقي: يلفهم.
(4) في الازرقي: يحث على الطير أجنادهم.
(5) في الازرقي: إن آيات ربنا بينات.
(6) في ابن هشام كما قطر بدل كما قد.
وكبكب: اسم جبل.
(7) ملاويث جمع ملاث وهو الشديد والشريف.
(8) الاخاشب: جبال مكة وجبال منى.
فعندكم منه بلاء مصدق * غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
كتيبته بالسهل تمشي ورجله * على القاذفات في رؤوس المناقب فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم *
جنود المليك بين ساف وحاصب (1) قولوا سراعا هاربين ولم يؤب * إلى أهله ملحبش غير
عصائب (2) ومن ذلك قول عبيد الله بن قيس الرقيات في عظمة البيت وحمايته بهلاك من أراده
بسوء: كاده الاشرم الذي جاء بالفي * - ل فولى وجيشه مهزوم واستهلت عليهم الطير
بالجن * - دل حتى كأنه مرجوم ذاك من يغزه من الناس ير * جع وهو فل من الجيوش ذميم
قال ابن إسحاق: وغيره فلما هلك ابرهة ملك الحبشة (3) بعده ابنه يكسوم.
ثم من بعده أخوه مسروق بن ابرهة وهو آخر ملوكهم.
وهو الذي انتزع سيف بن ذي يزن الحميري الملك من يده
بالجيش الذين قدم بهم من عند كسرى أنو شروان كما سيأتي بيانه.
وكانت قصة الفيل في المحرم سنة ست وثمانين وثمانمائة من
تاريخ ذي القرنين وهو الثاني إسكندر بن فلبس المقدوني الذي يؤرخ له الروم.
ولما هلك أبرهة وابناه وزال ملك الحبشة عن اليمن هجر
القليس الذي كان بناه أبرهة وأراد صرف حج العرب إليه لجهله وقلة عقله.
وأصبح يبابا لا أنيس به.
وكان قد بناه على صنمين وهما كعيب وامرأته وكانا من خشب
طول كل منهما ستون ذراعا في السماء وكانا مصحوبين من الجان ولهذا كان لا يتعرض أحد
إلى أخذ شئ من بناء القليس وأمتعته إلا أصابوه بسوء.
فلم يزل كذلك إلى أيام السفاح أول خلفاء بني العباس فذكر
له أمره وما فيه من الامتعة والرخام الذي كان أبرهة نقله إليه من صرح بلقيس الذي
كان باليمن فبعث إليه من خربه حجرا حجرا وأخذ جميع ما فيه من الامتعة والحواصل
هكذا ذكره السهيلي والله أعلم.
خروج الملك عن الحبشة ورجوعه إلى سيف بن ذي يزن قال محمد
بن إسحاق رحمه الله: فلما هلك ابرهة ملك الحبشة يكسوم بن ابرهة وبه كان يكنى فلما هلك
يكسوم ملك اليمن من الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة.
قال: فلما طال البلاء على أهل اليمن (4) خرج سيف بن ذي
يزن الحميري وهو سيف بن ذي يزن بن ذي أصبح بن مالك بن
__________
(1) في الازرقي: فلما أجازوا بطن نعمان ردهم.
(2) في الازرقي: بالجيش، وفي هامشه قال: كذا في تصحيحات
الطبعة الاوروبية.
(3) في ابن هشام: ملك اليمن في الحبشة وفي الطبري: ملك
اليمن ابنه في الحبشة.
(4) أذل مسروق اليمن، حمير وقبائل اليمن، ووطئتهم الحبشة
فنكحوا نساءهم وقتلوا رجالهم واتخذوا أبناءهم
زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس
بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج، وهو حمير
بن سبأ - وكان سيف يكنى أبا مرة - حتى قدم على قيصر ملك الروم فشكى إليه ما هو فيه،
وسأله أن يخرجهم عنه ويليهم، وهو يخرج إليهم من شاء من الروم، فيكون له ملك اليمن،
فلم يشكه [ ولم يجد عنده شيئا مما يريد
].
فخرج (1) حتى أتى النعمان بن المنذر وهو عامل كسرى على
الحيرة وما يليها من أرض العراق، فشكا إليه أمر الحبشة فقال له النعمان إن لي على
كسرى وفادة في كل عام فاقم عندي حتى يكون ذلك ففعل ثم خرج معه فأدخله على كسرى
وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه وكان تاجه مثل القنقل (2) العظيم
فيما يزعمون يضرب فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ بالذهب والفضة معلقا بسلسلة من ذهب
في رأس طاقة في مجلسه ذلك، وكانت عنقه لا تحمل تاجه إنما يستر عليه بالثياب حتى
يجلس في مجلسه ذلك ثم يدخل رأسه في تاجه فإذا استوى في مجلسه كشف عنه الثياب فلا
يراه أحد لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له.
فلما دخل عليه [ سيف ] طأطأ رأسه فقال الملك: إن هذا
الاحمق يدخل علي من هذا الباب الطويل ثم يطأطئ رأسه.
فقيل ذلك لسيف
فقال إنما فعلت هذا لهمي لانه يضيق عنه كل شئ.
ثم قال: أيها الملك غلبتنا على بلادنا الاغربة.
قال كسرى أي الاغربة الحبشة أم السند قال بل الحبشة
فجئتك لتنصرني ويكون ملك بلادي لك فقال له كسرى بعدت بلادك مع قلة خيرها فلم أكن
لاورط جيشا من فارس بأرض العرب لا حاجة لي بذلك، ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف (3)
وكساه كسوة حسنة فلما قبض ذلك منه سيف خرج فجعل ينثر تلك الورق للناس، فبلغ ذلك
الملك فقال إن لهذا لشأنا ثم بعث إليه فقال عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس قال وما
أصنع بحباك، ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة، يرغبه فيها [ مما رأى من
زهادته فيها إنما
__________
= تراجمة بينهم وبين العرب (انظر الطبري - ابن الاثير) وقال
المسعودي: عم آذان سائر الناس وزاد على أبيه وأخيه..(1) في مروج الذهب ج 2 / 86:
أقام سيف على باب قيصر سبع سنين فأبى نجدته وقال له: أنتم يهود والحبشة نصارى وليس
في الديانة أن ننصر المخالف.
فمضى إلى كسرى فاستنجده فوعده أنو شروان بالنصرة، وشغل
بحرب الروم.
ومات سيف فأتى بعده ابنه معديكرب بن سيف.
الاخبار الطوال 63 ذهب إليه في انطاكية.
وفي ابن الاثير ان ذي يزن الذي طلب المساعدة الاولى من
كسرى.
(2) القنقل: مكيال، يسع ثلاثة وثلاثين منا (والمن: وزان
رطلين تقريبا).
(3) واف: وفى الدرهم المثقال، وذلك إذا عدله.
[ *
جئت الملك ليمنعني من الظلم ويدفع عني الذل ] (1) فجمع
كسرى مرازبته فقال لهم: ما ترون في أمر هذا الرجل وما جاء له.
فقال قائل: أيها الملك إن في سجونك رجالا قد حبستهم
للقتل فلو أنك بعثتهم معه فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت بهم وإن ظفروا كان ملكا
أزددته، فبعث معه كسرى من كان في سجونه وكانوا ثمانمائة رجل واستعمل عليهم وهرز
وكان ذا سن فيهم وأفضلهم حسبا وبيتا فخرجوا في ثمان سفائن فغرقت سفينتان ووصل إلى
ساحل عدن (2) ست سفائن (3)
فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه وقال له رجلي ورجلك
حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا فقال له وهرز: أنصفت وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك
اليمن وجمع إليه جنده (4) فأرسل إليهم وهرز ابنا له (5) ليقاتلهم فيختبر قتالهم، فقتل ابن وهرز
فزاده ذلك حنقا عليهم فلما تواقف الناس على مصافهم.
قال وهرز: أروني ملكهم فقالوا له أترى رجلا على الفيل
عاقدا تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء.
قال: نعم.
قالوا ذلك ملكهم فقال اتركوه قال فوقفوا طويلا ثم قال
علام هو ؟ قالوا قد تحول على الفرس.
قال اتركوه فتركوه طويلا ثم قال علام هو ؟ قالوا على
البغلة قال وهرز: بنت الحمار ذل وذل ملكه، إني سأرميه فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا
فأثبتوا حتى أوذنكم فإني قد أخطأت الرجل وإن رأيتم القوم قد استداروا به ولاثوا
فقد أصبت الرجل فاحملوا عليهم.
ثم وتر قوسه وكانت فيما يزعمون لا يوترها غيره من شدتها
وأمر بحاجبيه فعصبا له ثم رماه فصك الياقوتة التي بين عينيه وتغلغلت النشابة في
رأسه حتى خرجت من قفاه، ونكس عن دابته واستدارت الحبشة ولاثت به، وحملت عليهم
الفرس فانهزموا فقتلوا وهربوا في كل وجه، وأقبل وهرز ليدخل صنعاء حتى إذا أتى
بابها قال لا تدخل رايتي منكسة أبدا اهدموا هذا الباب فهدم، ثم دخلها ناصبا رايته
فقال سيف بن ذي يزن الحميري: يظن الناس بالملكي * ن أنهما قد التأما ومن يسمع
بلامهما * فإن الخطب قد فقما قتلنا القيل مسروقا * وروينا الكثيب دما وإن القيل
قيل النا * س وهرز مقسم قسما يذوق مشعشعا حتى * نفئ السبي والنعما
__________
(1) ما بين معكوفين في الحديث زيادة من الطبري اقتضاها
اكتمال المعنى.
(2) في مروج الذهب: أتوا ساحل حضرموت في مكان يقال له:
مثوب، فأمرهم وهرز أن يحرقوا السفن ليعلموا أنه الموت.
(3) في الطبري: فيهن ستمائة رجل.
(4) في الطبري: مائة ألف من الحبشة وحمير والاعراب.
وكهلان ومن سائر من سكن اليمن من الناس.
مروج الذهب 2 / 87.
(5) في الطبري: يقال له: نوزاد.
ووفدت العرب من الحجاز وغيرها على سيف يهنئونه بعود
الملك إليه وامتدحوه.
فكان من جملة من وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم،
فبشره سيف برسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما يعلم من أمره وسيأتي ذلك
مفصلا في باب البشارات به عليه الصلاة والسلام.
قال ابن إسحاق: وقال أبو الصلبت بن أبي ربيعة الثقفي قال
ابن هشام ويروى لامية بن أبي الصلت (1): ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن * ريم في
البحر للاعداء أحوالا (2) يمم قيصرا لما حان رحلته * فلم يجد عنده بعض الذي سالا
(3) ثم انثنى نحو كسرى بعد عاشرة * من السنين يهين النفس والمالا (4) حتى أتى ببني
الاحرار يحملهم * إنك عمري لقد أسرعت قلقالا (5) لله درهم من عصبة خرجوا * ما إن
أرى لهم في الناس أمثالا (6) غلبا مرازبة بيضا أساورة * أسدا تربب في الغيضات أشبالا (7)
يرمون عن سدف كأنها غبط * بزمخر يعجل المرمي إعجالا (8) أرسلت أسدا على سود الكلاب
فقد * أضحى شريدهم في الارض فلالا فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا * في رأس غمدان
دارا منك محلالا (9) واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم * وأسبل اليوم في برديك إسبالا
(10) تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا يقال - إن غمدان -
قصر باليمن بناه يعرب بن قحطان وملكه بعده واحتله واثلة بن حمير بن سبأ ويقال كان
ارتفاعه عشرين طبقة فالله أعلم.
__________
(1) في المسعودي 2 / 90: لابي زمعة جد أمية بن أبي الصلت
(2) في المسعودي: في لجة البحر أحوالا وأحوالا.
(3) في الطبري: أتى هرقل وقد شالت نعامتهم..قالا.
(4) في الطبري: ثم انتحى نحو كسرى بعد سابعة.
وفي الشعر والشعراء بعد تاسعة.
(5) في الطبري: انك لعمري لقد أطولت.
والاحرار يعني: الفرس.
وفي المسعودي: تخالهم في سواد الليل أجبالا.
(6) في الطبري: ما إن ترى.
وفي المسعودي: ما إن رأيت.
(7) في الطبري: غر جحاجحة بيض مرازبة.
وفي ابن هشام: بيضا مرازبة غلبا أساورة والغلب: الشداد.
والاساورة: رماة الفرس.
(8) في الطبري وابن هشام: شدف بدل سدف.
وشدف عظام الاشخاص وهنا يعني القسي.
(9) غمدان: قصر بناه يشرح بن يحصب وقيل بناه سليمان عليه
السلام وقد هدم في عهد عثمان رضي الله عنه.
(10) شالت نعامتهم: اشارة إلى هلاكهم.
فالهالك ترتفع رجلاه وينتكس رأسه فتظهر نعامة قدميه
وترتفع.
قال ابن إسحاق: وقال عدي بن زيد الحميري وكان أحد بني
تميم: ما بعد صنعاء كان يعمرها * ولاة ملك جزل مواهبها رفعها من بني لذي قزع ال *
مزن وتندى مسكا محاربها محفوفة بالجبال دون عرى ال * كائد ما يرتقى غواربها يأنس
فيها صوت النهام إذا * جاوبها بالعشي قاصبها (1) ساقت إليها الاسباب جند بني ال * أحرار فرسانها
مواكبها وفوزت بالبغال توسق بالح * تف وتسعى بها توالبها (2) حتى يراها الاقوال من طرف الم * نقل
مخضرة كتائبها يوم ينادون آل بربر واليك * سوم لا يفلحن هاربها
فكان يوما باقي الحديث وزا * لت إمة ثابت مراتبها (3)
وبدل الهيج بالزرافة والا * يام خون جم عجائبها (4) بعد بني تبع نخاورة * قد
اطمأنت بها مرازبها قال ابن هشام: وهذا الذي عني سطيح بقوله يليه إرم ذي يزن يخرج
عليهم من عدن، فلا يترك منهم أحدا باليمن.
والذي عنى شق بقوله: غلام ليس بدني ولا مدن يخرج من بيت
ذي يزن.
قال ابن إسحاق: وأقام وهرز والفرس باليمن فمن بقية ذلك
الجيش من الفرس الابناء (5) الذين باليمن اليوم.
وكان ملك الحبشة باليمن فيما بين أن دخلها أرياط إلى أن
قتلت الفرس مسروق بن أبرهة وأخرجت الحبشة اثنتين وسبعين سنة توارث ذلك منهم أربعة:
أرياط ثم أبرهة ثم يكسوم بن أبرهة ثم مسروق بن أبرهة.
ما ال إليه أمر الفرس باليمن قال ابن هشام: ثم مات وهرز
فأمر كسرى ابنه المرزبان بن وهرز على اليمن ثم مات
__________
(1) النهام: ذكر البوم القاصب: صاحب الزمارة.
(2) توالبها: جمع تولب وهو ولد الحمار.
(3) في بعض النسخ أمة وهو خطأ والصواب إمة: وهي النعمة.
(4) في ابن هشام وسيرة ابن كثير: الفيج بدل الهيج: وهو
المنفرد في مشيته.
والزرافة: الجماعة.
(5) في النهاية لابن الاثير: ويقال لاولاد فارس الابناء،
وهم الذين أرسلهم كسرى مع سيف بن ذي يزن، فقيل لاولادهم الابناء وغلب عليهم هذا
الاسم لان امهاتهم من غير جنس آبائهم.
المرزبان فأمر كسرى ابنه التينجان ثم مات فأمر ابن
التينجان (1)، ثم عزله عن اليمن وأمر عليها باذان وفي زمنه بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
قال ابن هشام فبلغني عن الزهري أنه قال: كتب كسرى إلى
باذان: أنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي فسر إليه فاستتبه فإن تاب
وإلا فابعث إلي برأسه، فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا
وكذا من شهر كذا، فلما أتى باذان الكتاب وقف لينتظر وقال إن كان نبيا فسيكون ما
قال فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن هشام: على يدي ابنه شيرويه.
قلت: وقال بعضهم بنوه تمالاوا على قتله، وكسرى هذا هو ابروبز بن
هرمز بن أنوشروان بن قباز (2)، وهو الذي غلب الروم في قوله تعالى: (آلم غلبت الروم
في أدنى الارض).
كما سيأتي بيانه.
قال السهيلي: وكان قتله ليلة الثلاثاء لعشر خلون من
جمادى الاولى سنة تسع (3) من الهجرة.
وكان والله أعلم لما كتب إليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم يدعوه إلى الاسلام فغضب ومزق كتابه، كتب إلى نائبه باليمن يقول له ما قال.
وفي بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لرسول باذان: إن ربي قد قتل الليلة ربك فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
قتل تلك الليلة بعينها، قتله بنوه لظلمه بعد عدله بعدما خلعوه وولوا ابنه شيرويه
فلم يعش بعد قتله أباه إلا ستة أشهر أو دونها (4).
وفي هذا يقول خالد بن حق الشيباني: وكسرى إذ تقسمه بنوه
* بأسياف كما اقتسم اللحام تمخضت المنون له بيوم * ألا ولكل حاملة تمام قال
الزهري: فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه وإسلام من معه من الفرس إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقالت الرسل: إلى من نحن يارسول الله.
قال أنتم منا وإلينا أهل البيت قال:
__________
(1) في الطبري ج 2 / 121 ابن الاثير ج 1 / 451: اسمه: خر
خسره بن البينجان.
وفي مروج الذهب: 2 / 83 ملك النوشجان بن وهرز بعد وهرز
ثم رجل يقال له سبحان ثم خرزاد ثم ابن سبحان ثم المرزبان ثم بعد خر خسرو وكان
مولده باليمن ثم بعده باذان.
وفي اخبار الدينوري: بعد وهرز وجه كسرى إلى أرض اليمن
بادان فلم يزل ملكا عليها إلى أن قام الاسلام.
وقال ابن الاثير: وقد اختلفوا في ولاة اليمن للاكاسرة
اختلافا كثيرا
(2) في الطبري وابن الاثير والمسعودي: قباذ، وفي قصة
مقتله قال الطبري 2 / 159: وثبت فارس على كسرى فقتلته وساعدهم على ذلك ابنه شيرويه: وكان
الذي قتله مهر هرمز بن مردنشاه فاذوسبان نيمروذ.
وزاد ابن الاثير: ان شيرويه أمر بقتل مهرمهز بعد دفن
أبيه.
(3) في الطبقات الكبرى لابن سعد ج 1 / 260: سنة سبع.
(4) في الطبري 2 / 166 وابن الاثير 1 / 497 ثمانية أشهر،
وفي المسعودي ج 1 / 291 سنة وستة أشهر.
وكان هلاكه بالطاعون.
الزهري ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان
منا أهل البيت.
قلت والظاهر أن هذا كان بعدما هاجر رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى المدينة ولهذا بعث الامراء إلى اليمن لتعليم الناس الخير ودعوتهم
إلى الله عز وجل، فبعث أولا خالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب، ثم أتبعهما أبا موسى
الاشعري ومعاذ بن جبل.
ودانت اليمن وأهلها للاسلام ومات باذان فقام بعده ولد
شهر بن باذان، وهو الذي قتله الاسود العنسي حين تنبأ وأخذ زوجته كما سيأتي بيانه
وأجلى عن اليمن نواب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قتل الاسود عادت اليد
الاسلامية عليها.
وقال ابن هشام: وهذا هو الذي عنى به سطيح بقوله: نبي زكي
يأتيه الوحي من قبل العلي.
والذي عنى شق بقوله بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق
والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل.
قال ابن إسحاق: وكان في حجر باليمن فيما يزعمون كتاب
بالزبور كتب بالزمان الاول: لمن ملك ذمار ؟ الحمير الاخيار، لمن ملك ذمار ؟ للحبشة
الاشرار.
لمن ملك ذمار ؟ لفارس الاحرار (1)، لمن ملك ذمار لقريش
التجار.
وقد نظم بعض الشعراء هذا المعنى فيما ذكره المسعودي: حين
شدت ذمار قيل لمن ان * ت فقالت لحمير الاخيار ثم سيلت من بعد ذاك فقال * ت أنا للحبش
أخبث الاشرار ثم قالوا من بعد ذاك لمن أن * ت فقالت لفارس الاحرار
ثم قالوا من بعد ذاك لمن أن * ت فقالت إلى قريش التجار
(2) ويقال إن هذا الكلام الذي ذكره محمد بن إسحاق، وجد مكتوبا عند قبر هود عليه
السلام حين كشفت الريح عن قبره بأرض اليمن وذلك قبل زمن بلقيس بيسير في أيام مالك
بن ذي المنار أخي عمرو ذي الاذعار بن ذي المنار ويقال كان مكتوبا على قبر هود أيضا
وهو من كلامه عليه السلام حكاه السهيلي والله أعلم.
__________
(1) سمى حمير الاخيار: لانهم كانوا أهل دين.
وسمى الحبشة الاشرار: لما احدثوا في اليمن من الفتن
والعبث والفساد.
وهمهم بهدم بيت الله الحرام.
فارس الاحرار: لانهم لم يؤدوا الاتاوة لسلطان أجنبي ولم
تخضع بلادهم لسيطرة ولم يدينوا لملك غريب عنهم.
(2) في مروج الذهب 2 / 94: كانت ملوك اليمن تنزل بمدينة
ظفار، وكان على باب ظفار مكتوب بالقلم الاول في حجر أسود: يوم شيدت ظفار قيل: لمن
أن ت الاخيار إن ملكي للاحبش الاشرار ثم سلبت من بعد ذلك ؟ فقالت * إن ملكي: لفارس
الاحرار ثم سيلت: ما بعد ذلك فقالت * إن ملكي إلى قريش التجار
قصة الساطرون صاحب الحضر وقد ذكر قصته هاهنا عبد الملك
بن هشام لاجل ما قاله بعض علماء النسب: إن النعمان بن المنذر الذي تقدم ذكره في
ورود سيف بن ذي يزن عليه وسؤاله في مساعدته في رد ملك اليمن إليه إنه من سلالة
الساطرون صاحب الحضر وقد قدمنا عن ابن إسحاق أن النعمان بن المنذر من ذرية ربيعة
بن نصر (1) وأنه روي عن جبير بن مطعم أنه من أشلاء فيصر (2) بن معد بن عدنان فهذه
ثلاثة أقوال في نسبه فاستطرد ابن هشام في ذكر صاحب الحضر.
والحضر حصن عظيم بناه هذا الملك وهو الساطرون على حافة
الفرات وهو منيف مرتفع البناء، واسع الرحبة والفناء، دوره بقدر مدينة
عظيمة وهو في غاية الاحكام والبهاء والحسن والسناء،
وإليه يجبى ما حوله من الاقطار والارجاء.
واسم الساطرون الضيزن بن معاوية بن عبيد بن أجرم من بني
سليح بن حلوان بن الحاف بن قضاعة كذا نسبه ابن الكلبي.
وقال غيره: كان من الجرامقة وكان أحد ملوك الطوائف وكان
يقدمهم إذا اجتمعوا لحرب عدو من غيرهم وكان حصنه بين دجلة والفرات (3).
قال ابن هشام: وكان كسرى سابور ذو الاكتاف غزا الساطرون
ملك الحضر وقال غير (4) ابن هشام: إنما الذي غزا صاحب الحضر سابور بن أردشير بن بابك
أول ملوك بني ساسان أذل ملوك الطوائف ورد الملك إلى الاكاسرة.
وأما سابور ذو الاكتاف بن هرمز فبعد ذلك بدهر طويل والله
أعلم ذكره السهيلي.
قال ابن هشام: فحضره سنتين - وقال غيره أربع سنين (5)،
وذلك لانه كان أغار على بلاد سابور في غيبته بأرض العراق - فأشرفت بنت الساطرون
(6) وكان اسمها النضيرة فنظرت إلى سابور وعليه ثياب ديباج وعلى رأسه تاج من ذهب
مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ وكان جميلا، فدست إليه: أتتزوجني إن فتحت لك باب الحضر
؟ فقال: نعم ! فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر،
__________
(1) قال الطبري في تاريخه 2 / 28: وهذا قول مضر وحماد
الراوية وهو باطل.
(2) كذا في الاصل قيصر، والصواب في الطبري قنص.
وجاء في 2 / 28 عنده: ولم يأت في قنص بن معد شئ أثبت من
قول جبير بن مطعم: أن النعمان كان من ولده.
(3) في الطبري 2 / 61 ابن الاثير 1 / 387 بجبال تكريث
بين دجلة والفرات مدينة يقال لها الحضر وكان بها رجل من الجرامقة يقال له الساطرون.
وزعم الكلبي أنه من العرب من قضاعة وأنه الضيزن بن
معاوية بن عبيد بن الاجرام بن عمرو بن النخع بن سيح بن حلفان بن عمران بن الحاف بن
قضاعة وامه من تزيد بن حلوان واسمها جيهلة.
(4) الطبري ج 2 / 61 ابن الاثير 1 / 387 المسعودي مروج
الذهب 2 / 271.
(5) في خبر الطبري وابن الاثير أربع سنين: وفي المسعودي:
أقام عليه سابور شهرا.
(6) في هشام: ساطرون، وفي المسعودي: والساطرون واسيطرون
هذه ألقاب.
وكان لا يبيت إلا سكران فأخذت مفاتيح باب الحضر من تحت
رأسه، وبعثت بها مع مولى لها.
ففتح الباب - ويقال بل دلتهم على نهر يدخل منه الماء
متسع فولجوا منه إلى الحضر، ويقال بل دلتهم على طلسم كان في الحضر وكان في علمهم
أنه لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء وتخضب رجلاها (1) بحيض جارية بكر زرقاء ثم ترسل
فإذا وقعت على سور الحضر سقط ذلك الطلسم فيفتح الباب ففعل ذلك فانفتح الباب، فدخل
سابو فقتل ساطرون واستباح الحضر وخربه وسار بها معه فتزوجها.
فبينا هي نائمة على فراشها ليلا إذ جعلت تململ لا تنام
فدعا لها بالشمع ففتش فراشها فوجد عليه ورقة آس (2).
فقال لها سابور أهذا الذي أسهرك ! قالت: نعم ؟ قال فما
كان أبوك يصنع بك ؟ قالت: كان يفرش لي الديباج ويلبسني الحرير ويطعمني المخ
ويسقيني الخمر (3).
قال: أفكان جزاء أبيك ما صنعت به.
أنت إلي بذلك أسرع، فربطت قرون (4) رأسها بذنب فرس ثم
ركض الفرس حتى قتلها ففيه يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة: ألم تر للحضر إذ أهله * بن
عمي وهل خالد من نعم أقام به شاهبور الجنو * د حولين تضرب فيه القدم فلما دعا ربه
دعوة * أناب إليه فلم ينتقم (5) فهل زاده ربه قوة * ومثل مجاوره لم يقم وكان دعا قومه
دعوة * هلموا إلى أمركم قد صرم فموتوا كراما بأسيافكم * أرى الموت يجشمه من جشم
وقال عدي بن زيد في ذلك: والحضر صابت عليه داهية * من فوقه أيد مناكبها (6) ربية
لم توق والدها * لحينها إذ أضاع راقبها (7) إذ غبقته صهباء صافية * والخمر وهل
يهيم شاربها فأسلمت أهلها بليلتها * تظن أن الرئيس خاطبها (8)
__________
(1) في الطبري وابن الاثير والمسعودي: فاكتب في رجلها.
(2) في الطبري وابن الاثير والمسعودي: ورقة من ورق الآس
(الريحان) ملتزقة بعكنة من عكنها قد آثرت فيها.
(3) في الطبري وابن الاثير والمسعودي: الزبد والمخ وشهد
الابكار من النحل وصفو الخمر: (4) ثم عصب غدائرها (الطبري - ابن الاثير - المسعودي).
(5) كذا في ابن هشام والذي في الطبري: فلما رأى ربه فعله
* أتاه طروقا فلم ينتقم (6) كذا في ابن هشام: وفي المسعودي: صبت بدل صابت.
وعجزه: من قصره قد أبد ساكنها.
(7) كذا في ابن هشام وفي المسعودي: ربيبة بدل ربية.
(8) كذا في ابن هشام والذي في المسعودي: واسلمت أهلا لليلتها.
فكان حظ العروس إذ جشر ال * صبح دماء تجري سبائبها (1)
وخرب الحضر واستبيح وقد * أحرق في خدرها مشاجبها وقال عدي بن زيد أيضا: أيها الشامت
المعير بالده * ر أأت المبرأ الموفور أم لديك العهد الوثيق من الا * يام بل أنت
جاهل مغرور من رأيت المنون خلدن أم * من ذا عليه من أن يضام خفير أين كسرى كسرى
الملوك أنو * شروان أم أين قبله سابور وبنو الاصفر الكرام ملوك ال ب روم لم يبق منهم
مذكور وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجل * ة تجبى إليه والخابور شاده مرمرا وجلله كل *
سا فللطير في ذراه وكور لم يهبه ريب المنون فبا * ن الملك عنه فبابه مهجور (2)
وتذكر رب الخورنق إذ * أشرف يوما وللهدى تفكير سره ماله وكثرة ما يم * لك والبحر
معرضا والسدير (3)
فارعوى قلبه وقال وما غب * طة حي إلى الممات يصير ثم اضحوا كأنهم
ورق ج * ف فألوت به الصبا والدبور قلت: ورب الخورنق الذي ذكره في شعره رجل من الملوك
المتقدمين وعظه بعض علماء زمانه في أمره الذي كان قد أسرف فيه وعتا وتمرد فيه
واتبع نفسه هواها ولم يراقب فيها مولاها فوعظه بمن سلف قبله من الملوك والدول وكيف
بادوا ولم يبق منهم أحد وأنه ما صار إليه عن غيره إلا وهو منتقل عنه إلى من بعده.
فأخذته موعظته وبلغت منه كل مبلغ فارعوى لنفسه، وفكر في
يومه وأمسه، وخاف من ضيق رمسه.
فتاب وأناب ونزع عما كان فيه وترك الملك ولبس زي الفقراء
وساح في الفلوات وحظي بالخلوات وخرج عما كان الناس فيه من اتباع الشهوات وعصيان رب
السموات وقد ذكر قصته مبسوطة الشيخ الامام موفق بن قدامة المقدسي رحمه الله في
كتاب التوابين وكذلك أوردها بإسناد متين الحافظ أبو القاسم السهيلي في كتاب الروض
الانف المرتب أحسن ترتيب وأوضح تبيين.
خبر ملوك الطوائف وأما صاحب الحضر وهو ساطرون فقد تقدم
أنه كان مقدما على سائر ملوك الطوائف وكان
__________
(1) جشر: طلع وأضاء.
سبائبها: طرائقها.
(2) في الطبري: فباد بدل فبان.
من زمن اسكندر بن فلبيس المقدوني اليوناني وذلك لانه لما
غلب على ملك الفرس دارا بن دارا وأذل مملكته وخرب بلاده واستباح بيضة قومه ونهب
حواصله ومزق شمل الفرس شذر مذر عزم أن لا يجتمع لهم بعد ذلك شمل ولا يلتئم لهم أمر
فجعل يقر كل ملك على طائفة من الناس في أقليم من أقاليم الارض ما بين عربها وأعاجمها
فاستمر كل ملك منهم يحمي حوزته ويحفظ حصته ويستغل محلته فإذا هلك قام ولده من بعده
أو أحد قومه فاستمر الامر كذلك قريبا من خمسمائة سنة حتى كان ازدشير بن بابك من
بني ساسان بن بهمن بن أسفنديار بن يشتاسب بن لهراسب فأعاد ملكهم إلى ما
كان عليه ورجعت الممالك برمتها إليه وأزال ممالك مملوك
الطوائف ولم يبق منهم تلد ولا طارف وكان تأخر عليه حصار صاحب الحضر الذي كان
أكبرهم وأشدهم وأعظمهم إذ كان رئيسهم ومقدمهم فلما مات أزدشير تصدى له ولده سابور
فحاصره حتى أخذه كما تقدم والله سبحانه وتعالى أعلم.
ذكر بني اسماعيل وما كان من أمور الجاهلية إلى زمان
البعثة تقدم ذكر اسماعيل نفسه عليه السلام مع ذكر الانبياء وكيف كان من أمره حين
احتمله أبوه إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مع أمه هاجر فاسكنها بوادي مكة
بين جبال فاران (1) حيث لا أنيس به ولا حسيس وكان إسماعيل رضيعا ثم ذهب وتركهما هنالك
عن أمر الله له بذلك ليس عند أمه سوى جراب (2) فيه تمر ووكاء فيه ماء فلما نفد ذلك
أنبع الله لهاجر زمزم التي هي طعام طعم وشفاء سقم كما تقدم بيانه في حديث ابن عباس
الطويل الذي رواه البخاري (3) رحمه الله.
ثم نزلت جرهم وهم طائفة من العرب العاربة من أمم العرب
الاقدمين عند هاجر بمكة على أن ليس لهم في الماء شئ إلا ما يشربون منه وينتفعون به
فاستأنست هاجر بهم وجعل الخليل عليه السلام يطالع أمرهم في كل حين يقال إنه كان
يركب البراق من بلاد بيت المقدس في ذهابه وإيابه ثم لما ترعرع الغلام وشب وبلغ مع
أبيه السعي كانت قصة الذبح كما تقدم بيان أن الذبيح هو إسماعيل على الصحيح ثم لما
كبر تزوج من جرهم امرأة (4) ثم فارقها وتزوج غيرها وتزوج بالسيدة (5) بنت
__________
(1) فاران: كلمة عبرانية معربة، وهي من اسماء مكة ذكرها
في التوراة، وقيل هي اسم لجبال مكة.
ياقوت 4 / 324.
(2) في الازرقي: شنة فيها ماء تشرب منها وتدر على ابنها
وليس معها زاد - 1 / 55.
(3) صحيح البخاري كتاب بدء الخلق - باب يزفون النسلان في
المشي ج 2 / 113.
(4) في الازرقي: عمارة بنت سعيد بن أسامة.
والذي في الروض الآنف: جداء بنت سعد وهي المرأة التي
أمره أبوه بتطليقها ثم تزوج أخرى: سامة بنت مهلهل، وقيل عاتكة.
امرأة من العماليق بنت صبدى الطبقات 1 / 51 المسعودي:
الجداء بنت سعد 2 / 51.
(5) كذا في الروض الآنف وفي الطبري - وفي ابن هشام رعلة
1 / 5 وفي الازرقي 1 / 86.
وقال الكلبي رعلة بنت يشجب بن يعرب بن لوزان بن جرهم
الطبقات 1 / 51.
المسعودي: سامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف بن هيني بنت نبت
2 / 52.
مضاض بن عمرو الجرهمي وجاءته بالبنين الاثنى عشر كما
تقدم ذكرهم وهم: نابت وقيذر.
ومنشا.
ومسمع.
وماشي.
ودما.
وأذر.
ويطور.
ونيشى.
وطيما.
وقيذما هكذا ذكره محمد بن إسحاق (1) وغيره عن كتب أهل
الكتاب وله ابنة واحدة اسمها نسمة (2) وهي التي زوجها من ابن أخيه العيصو بن إسحاق
بن إبراهيم فولد له منها الروم وفارس والاشبان أيضا في أحد القولين.
ثم جميع عرب الحجاز على اختلاف قبائلهم يرجعون في
أنسابهم إلى ولديه نابت وقيذر (3)، وكان الرئيس بعده
والقائم بالامور الحاكم في مكة والناظر في أمر البيت وزمزم نابت بن إسماعيل وهو
ابن أخت الجرهميين.
ثم تغلبت جرهم على البيت طمعا في بني أختهم فحكموا بمكة
وما والاها عوضا عن بني إسماعيل مدة طويلة فكان أول من صار إليه أمر البيت بعد
نابت مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن عيبر (5) بن نبت بن جرهم.
وجرهم بن قحطان ويقال جرهم بن يقطن بن عيبر بن شالخ بن
أرفخشذ بن سام بن نوح
__________
(1) قال الطبري 1 / 161 وقد ينطق اسماء أولاد اسماعيل
بغير الالفاظ التي ذكرت عن ابن إسحاق: نابت متفق عليه.
قيدر - قيذر - قيدار.
أذبل - أدبيل - أدبال - أدب ايل.
مبشا - منشا - مشا - مبشام - منشى.
مسمع - مشماعة.
ماشى - ماسى.
دما - دمار - دوما.
ادر - اذر - آزر - أذور.
قيذما - قيدمان - قيدما - نيش - نفيس - يافيش - فنس.
طيما - طما - ظيما.
يطور - تطور - طور - قمطور.
مسعودي 2 / 52.
نابت فيدار - ادبيل - مبسم - مشمع - دوما - دوام - مسا -
حداد - ثيما - يطور - نافش.
(2) في الطبري ج 1 / 162: بسمة تزوجها عيص بن إبراهيم
فولدت له الروم بن عيص فكل بني الاصغر من ولده وبعض الناس يزعم أن الاشبان من ولده
ولا أدري أمن بنت اسماعيل أم لا.
(3) في الطبري والازرقي: فمن نابت وقيدار نشر الله العرب
وزاد الازرقي وكان أكبرهم قيدار ونابت (4) في السهيلي والمسعودي: ابن هيني.
وفي رواية للمسعودي ان ملك جرهم يومئذ الحارث بن مضاض
وهو أولى من ولي البيت.
2 / 54 - 55.
الجرهمي، وكان نازلا بأعلى مكة بقعيقعان (1).
وكان السميدع سيد قطوراء نازلا بقومه في أسفل مكة (2)
وكل منهما يعشر من مر به مجتازا إلى مكة.
ثم وقع بين جرهم وقطوراء فاقتتلوا [ قتالا شديدا ] فقتل
السميدع واستوثق الامر لمضاض وهو الحاكم بمكة والبيت لا ينازعه في ذلك ولد إسماعيل
مع كثرتهم وشرفهم وانتثارهم بمكة وبغيرها وذل لخؤولتهم له ولعظمة البيت الحرام [ أن يكون به بغي
أو قتال ] (3).
ثم صار الملك بعده إلى ابنه الحارث ثم إلى عمرو بن
الحارث.
ثم بغب جرهم بمكة واكثرت فيها الفساد وألحدوا بالمسجد
الحرام (4) حتى ذكر أن رجلا منهم يقال له اساف بن بغى وامرأة يقال لها نائلة بنت
وائل (5) اجتمعا في الكعبة فكان منه إليها الفاحشة
فمسخهما الله حجرين فنصبهما الناس قريبا من البيت
ليعتبروا بهما فلما طال المطال بعد ذلك بمدد عبدا من دون الله في زمن خزاعة كما
سيأتي بيانه في موضعه.
فكانا صنمين منصوبين يقال لهما إساف ونائلة.
فلما اكثرت جرهم البغي بالبلد الحرام تمالات عليهم خزاعة
الذين كانوا نزلوا حول الحرم
__________
(1) في الازرقي: وكان في أعلى مكة وكان يعشر من دخلها من
أعلاها وكان حوزهم وجه الكعبة والركن الاسود والمقام وموضع زمزم مصعدا يمينا
وشمالا وقعيقعان إلى أعلى الوادي.
(2) أسفل مكة واجيادين وكان حوزهم المسفلة ظهر الكعبة
والركن اليماني والغربي واجيادين والثنية إلى الرمضة وازرقي 1 / 82.
وفي المسعودي السميدع بن هوير بن لاوى بن قبطور بن وجرهم
وقطورا يومئذ أهل مكة 1 / 81 - 85.
كركر بن حيد 2 / 54.
(3) مابين معكوفين زيادة من الازرقي.
وفي المسعودي أن القتال كان على الجرهميين ثم اصطلحوا
وصارت ولاية البيت إلى العماليق.
ثم كانت لجرهم عليهم وأقاموا ولاة للبيت نحو ثلاثمائة
سنة.
وكان أول ملوكهم مضاض بن عمرو.
ثم عمرو بن مضاض ثم الحارث بن عمرو ثم عمرو بن الحارث ثم
مضاض بن الحارث بن عمرو بن مضاض بن عمرو.
(4) قال في الازرقي 86: فقام مضاض بن عمرو بن الحارث
فيهم فقال: يا قوم احذروا البغي فإنه لا بقاء لاهله قد رأيتم من كان قبلكم من
العماليق استخفوا بالحرم فلم يعظموه وتنازعوا بينهم واختلفوا..فلا تستخفوا بحق
الحرم وحرمة بيت الله ولا تظلموا من دخله وجاءه معظما لحرمته أو آخر جاءه بائعا
لسلعته أو مرتغبا في جواركم.
(5) في الازرقي: أساف بن سهيل اساف بن يعلى - بن عمرو
ونايلة بنت عمرو بن ذيب وقيل نائلة بنت زيد من جرهم نائلة بنت سهل - بنت زفيل.
وفي ابن هشام: اساف بن بغى ونائلة بنت ديك 1 / 84 وقيل
غير ذلك (ابن الكلبي - معجم البلدان - شرح القاموس).
وكانوا من ذرية عمرو بن عامر الذي خرج من اليمن لاجل ما
توقع من سيل العرم كما تقدم.
وقيل إن خزاعة من بني إسماعيل فالله أعلم.
والمقصود أنهم اجتمعوا لحربهم وآذنوهم بالحرب واقتتلوا
واعتزل بنو إسماعيل كلا الفريقين فغلبت خزاعة وهم بنو بكر بن عبد مناة وغبشان (1)
واجلوهم عن البيت فعمد عمرو (2) بن الحارث بن مضاض الجرهمي وهو سيدهم إلى غزالي
الكعبة وهما من ذهب وحجر الركن وهو الحجر الاسود وإلى سيوف محلاة وأشياء أخر
فدفنها في زمزم وعلم زمزم وارتحل بقومه فرجعوا إلى اليمن.
وفي ذلك يقول عمرو بن الحارث بن مضاض (3): وقائلة والدمع
سكب مبادر * وقد شرقت بالدمع منها المحاجر كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس
ولم يسمر بمكة سامر (4) فقلت لها والقلب مني كأنما * يلجلجه بين الجناحين طائر بلى نحن
كنا أهلها فأزالنا (5) * صروف الليالي والجدود العواثر وكنا ولاة البيت من بعد
نابت * نطوف بذاك البيت والخير ظاهر ونحن ولينا البيت من بعد نابت * بعز فما يحظى
لدينا المكاثر ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا * فليس لحي غيرنا ثم فاخر ألم تنكحوا من
خير شخص علمته (6) * فابناؤه منا ونحن الاصاهر فإن تنثني الدنيا علينا بحالها *
فإن لها حالا وفيها التشاجر فأخرجنا منها المليك بقدرة * كذلك يا للناس تجري المقادر (7)
__________
(1) بنو غبشان، منهم الحارث وهو غبشان بن عبد عمرو بن
بوي بن ملكان بن أفصى بطن من خزاعة.
(2) في الازرقي: مضاض بن عمرو ; وكان مضاض حسب رواية
الازرقي قد انعزل عن جرهم بعد بغيهم ولم يشترك في القتال بينهم وبين خزاعة.
وبعد نصر خزاعة جاءهم بنو اسماعيل فسألوهم السكنى معهم
وحولهم فأذنوا لهم.
وأرسل مضاض يستأذن
النزول مكة فرفضوا فانطلق مضاض نحو اليمن إلى أهله.
(3) في الازرقي مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض في قصيدة
طويلة 1 / 97.
وفي المسعودي الحارث بن مضاض الاصغر.
وفي ابن هشام عمرو بن الحارث بن عمرو بن مضاض.
(4) الحجون: الجبل المشرف على مسجد الحرس بأعلى مكة.
والصفا: مكان عال في أصل جبل أبي قبيس جنوبي المسجد
الحرام.
(5) في ياقوت والمسعودي: فأبادنا.
(6) في الازرقي: فانكح جدي خير شخص علمته.
(7) في التيجان: بالانسان بدل يا للناس وفي الازرقي بين
الناس.
أقول إذا نام الخلي ولم أنم * أذا العرش لا يبعد سهيل
وعامر (1) وبدلت منها أوجها لا أحبها * قبائل منها حمير ويحابر (2) وصرنا أحاديثا
وكنا بغبطة * بذلك عضتنا السنون الغوابر فسحت دموع العين تبكي لبلدة * بها حرم أمن
وفيها المشاعر وتبكي لبيت ليس يؤذى حمامه * يظل به أمنا وفيه العصافر (3) وفيه وحوش
لا ترام أنيسة * إذا خرجت منه فليست تغادر قال ابن إسحاق: وقال عمرو بن الحارث بن
مضاض أيضا يذكر بني بكر وغبشان الذين خلفوا بعدهم بمكة: يا أيها الناس سيروا إن
قصاركم (4) * أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا حثوا المطي وأرخوا من أزمتها * قبل
الممات وقضوا ما تقضونا كنا أناسا كما كنتم فغيرنا * دهر فأنتم كما صرنا تصيرونا (5) قال
ابن هشام: هذا ماصح له منها وحدثني بعض أهل العلم بالشعر أن هذه الابيات أول شعر
قيل في العرب وأنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن ولم يسم قائلها.
وذكر السهيلي لهذه
الابيات أخوة وحكى عندها حكاية معجبة وانشادات معربة.
قال: وزاد أبو الوليد الازرقي في كتابه فضائل مكة على هذه الابيات
المذكورة المنسوبة إلى عمرو بن الحارث بن مضاض: قد مال دهر علينا ثم أهلكنا *
بالبغي فينا وبز الناس ناسونا (6) واستخبروا في صنيع الناس قبلكم * كما استبان طريق
عنده الهونا كنا زمانا ملوك الناس قبلكم * بمسكن في حرام الله مسكونا قصة خزاعة
وعمرو بن يحيى وعبادة العرب للاصنام قال ابن إسحاق: ثم أن غبشان من خزاعة وليت
البيت دون بني بكر بن عبد مناة، وكان
__________
(1) سهيل وعامر: جبل من جبال مكة (الروض الانف - معجم
البلدان).
(2) في الازرقي: منهم بدل منها وشطره: وحمير قد بدلتها
واليحابر.
(3) في الازرقي والاعلام والروض اختلاف يسير في رواية
البيت.
(4) في ابن هشام والازرقي قصركم: أي غايتكم ونهايتكم.
وفي الازرقي: يا أيها الحي.
(5) في ابن هشام عجزه: دهر فأنتم كما كنا تكونونا.
وفي الازرقي: إنا كما كنتموا كنا فغيرنا * دهر فسوف كما
صرنا تصيرونا (6) في الازرقي: فيه بدل فينا.
وبر بدل وبز.
الذي يليه منهم عمرو بن الحارث الغبشاني، وقريش إذ ذاك
حلول وصرم (1)، وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة.
قالوا (2):
وإنما سميت خزاعة خزاعة لانهم تخزعوا من ولد عمرو بن
عامر حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام فنزلوا بمر الظهران فأقاموا به.
قال عون بن أيوب الانصاري ثم الخزرجي في ذلك (3): فلما
هبطنا بطن مر تخزعت * خزاعة منا في حلول كراكر (4) حمت كل واد من تهامة واحتمت *
بصم القنا والمرهفات البواتر
وقال أبو المطهر اسماعيل بن رافع الانصاري الاوسي: فلما
هبطنا بطن مكة أحمدت * خزاعة دار الآكل المتحامل فحلت أكاريسا وشتت قنابلا * على كل
حي بين نجد وساحل (5) نفوا جرهما عن بطن مكة واحتبوا * بعز خزاعي شديد الكواهل
فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم حليل (6) بن حبشية بن
سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي الذي تزوج قصي بن كلاب ابنته حبى فولدت له
بنيه الاربعة عبد الدار وعبد مناف، وعبد العزى وعبدا، ثم صار أمر البيت إليه كما
سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
واستمرت خزاعة على ولاية البيت نحوا من ثلاثمائة (7) سنة
وقيل خمسمائة سنة والله أعلم.
وكانوا سوس (8) في ولايتهم وذلك لان في زمانهم كان أول
عبادة الاوثان بالحجاز وذلك بسبب رئيسهم عمرو بن لحي (9) لعنه الله فإنه أول من
دعاهم إلى ذلك وكان ذا مال جزيل جدا.
يقال: إنه قفأ أعين عشرين بعيرا وذلك عبارة عن أنه ملك
عشرين ألف بعير وكان من عادة العرب أن من الملك ألف بعير فقأ عين واحد منها لانه
يدفع بذلك العين عنها.
__________
(1) صرم: جماعات متفرقة.
(2) قالوا: عن ابن هشام وغيره.
(3) كذا في ابن هشام وياقوت، وفي الازرقي حسان بن ثابت
الانصاري، ونسب صاحب التيجان الابيات إلى عمرو بن أنيف الغساني.
(4) كذا في الاصل والازرقي والروض الآنف.
وفي ابن هشام: خيول.
والحلول: البيوت الكبيرة.
وكراكر: جمات الخيل.
(5) الاكاريس: الجماعات من الناس.
والقنابل: جمع قنبلة: وهي القطعة من الخيل.
(6) في المسعودي: خليل.
(7) كذا في المسعودي، وفي الازرقي خمسمائة سنة.
(8) كذا في الاصل: ولعلها: وكانوا مشؤومين في ولايتهم.
(9) أبوه لحي وهو ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر وأمه
فهيرة بنت عامر بن عمرو بن مضاض بن عمرو الجرهمي.
كما في الازرقي.
وممن ذكر ذلك الازرقي وذكر السهيلي: أنه ربما ذبح أيام
الحجيج عشرة آلاف بدنة وكسى عشرة آلاف حلة في كل سنة يطعم العرب ويحيس لهم الحيس
بالسمن والعسل ويلت لهم السويق (1).
قالوا: وكان قوله وفعله فيهم كالشرع المتبع لشرفه فيهم
ومحلته عندهم وكرمه عليهم.
قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج
من مكة إلى الشام في بعض أموره فلما قدم مآب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق
وهم ولد عملاق ويقال ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح رآهم يعبدون الاصنام فقال
لهم ما هذه الاصنام التي أراكم تعبدون ؟ قالوا له: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا
ونستنصرها فتنصرنا.
فقال لهم: ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب
فيعبدونه (2).
فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس
بعبادته وتعظيمه.
قال ابن إسحاق: ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في
بني إسماعيل عليه السلام أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم، حين ضاقت عليهم،
والتمسوا الفسح في البلاد.
إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم، فحيث ما نزلوا
وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى سلخ ذلك بهم إلى أن كانوا يعبدون ما
استحسنوا من الحجارة وأعجبهم حتى خلفت الخلوف (3) ونسوا ما كانوا عليه.
وفي الصحيح عن أبي رجاء العطاردي.
قال: كنا في الجاهلية إذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من
التراب وجئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا بها.
قال ابن إسحاق: واستبدلوا بدين ابراهيم واسماعيل عليهما
السلام غيره فعبدوا الاوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الامم قبلهم من الضلالات ;
وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم عليه السلام يتمسكون بها من تعظيم البيت
والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفات
والمزدلفة، وهدى البدن، والاهلال بالحج والعمرة، مع
إدخالهم فيه ما ليس منه.
فكانت كنانة وقريش إذا هلوا قالوا: لبيك اللهم لبيك.
لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها
بيده.
يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: (وما يؤمن
أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (4) أي ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا
__________
(1) وذكر الازرقي: كان أول من أطعم الحج سدايف الابل
ولحمانها على الثريد وعم جميع الحاج بثلاثة أثواب من برود اليمن.
(2) في ابن هشام: فيعبدوه.
(3) خلوف: جمع خلف وهو القرن بعد القرن.
(4) سورة يوسف الآية 106.
جعلوا معي شريكا من خلقي (1).
وقد ذكر السهيلي وغيره: أن أول من لبى هذه التلبية عمرو
بن لحي وأن ابليس تبدى له في صورة شيخ فجعل يلقنه ذلك فيسمع منه ويقول كما يقول
واتبعه العرب في ذلك.
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا
سمعهم يقولون لبيك لا شريك لك يقول: " قد قد " أي حسب حسب.
وقد قال البخاري ثنا اسحاق بن إبراهيم حدثنا يحيى بن آدم
ثنا اسرائيل عن أبي حفص عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول من
سيب السوائب وعبد الاصنام، أبو خزاعة عمرو بن عامر وإني رأيته يجر أمعاءه في النار.
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وهذا يقتضي أن عمرو بن لحي هو أبو خزاعة الذي تنسب إليه
القبيلة بكمالها كما زعمه بعضهم من أهل النسب فيما حكاه بن إسحاق وغيره ولو تركنا
مجرد هذا لكان ظاهرا في ذلك بل كالنص ولكن قد جاء ما يخالفه من بعض الوجوه.
فقال البخاري وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب
عن الزهري.
قال سمعت سعيد بن المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها
للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس - والسائبة - التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا
يحمل عليها شئ.
قال وقال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: رأيت
عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه (2) في النار.
كان أول من سيب السوائب.
وهكذا رواه البخاري أيضا ومسلم من حديث صالح بن كيسان عن
الزهري عن سعيد عن أبي هريرة به.
ثم قال البخاري ورواه ابن الهاد عن الزهري قال الحاكم
أراد البخاري رواه ابن الهاد عن عبد الوهاب بن بخت عن الزهري كذا قال.
وقد رواه أحمد عن عمرو بن سلمة الخزاعي عن الليث بن سعد
عن يزيد بن الهاد عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: رأيت عمرو بن عامر يجر قصبه في
__________
(1) قال في مروج الذهب 2 / 137: كانت العرب في جاهليتها
فرقا: - منهم الموحد المقر بخالقه المصدق بالبعث والنشور.
- وكان من العرب من أقر بالخالق وانكر الرسل وعكف على
عبادة الاصنام وهذا الصنف هم الذين حجوا إلى الاصنام وقصدوها ونحروا لها البدن
ونسكوا لها النسائك.
- ومنهم من أقر بالخالق وكذب بالرسل والبعث.
- ومنهم من مال إلى اليهودية والنصرانية.
- ومنهم المار على عنجهيته الراكب لهجمته.
- ومنهم صنف يعبدون الملائكة ويزعمون أنها بنات الله.
(2) قصبه: أمعاءه.
النار، وكان أول من سيب السوائب وبحر البحيرة ولم يذكر
بينهما عبد الوهاب بن بخت كما قال الحاكم فالله أعلم.
وقال أحمد أيضا حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر
قصبه في النار، وهو أول من سيب السوائب.
وهذا منقطع من هذا الوجه.
والصحيح الزهري عن سعيد عنه كما تقدم وقوله في هذا
الحديث والذي قبله الخزاعي يدل على أنه ليس والد القبيلة بل منتسب إليها مع ما وقع
في الرواية من قوله أبو خزاعة تصحيف من الراوي من أخو خزاعة أو أنه كان يكني بأبي
خزاعة ولا يكون ذلك من باب الاخبار بأنه أبو خزاعة كلهم والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث
التيمي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: " لاكثم بن الجون الخزاعي يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن
خندف (1) يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه ".
فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله قال: "
لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أول من غير دين اسماعيل فنصب الاوثان وبحر البحيرة
(2) وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي ".
ليس في الكتب من هذا الوجه (2).
وقد رواه ابن جرير عن هناد بن عبدة عن محمد بن عمرو عن
أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه أو مثله وليس في الكتب
أيضا.
وقال البخاري حدثني محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله
الكرماني حدثنا حسان بن إبراهيم حدثنا يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا يجر
قصبه وهو أول من سيب السوائب
".
تفرد به البخاري.
وروى الطبراني من طريق صالح عن ابن عباس مرفوعا في ذلك.
والمقصود أن عمرو بن لحي لعنه الله كان قد ابتدع لهم
أشياء في الدين غير بها دين الخليل فاتبعه العرب في ذلك فضلوا بذلك ضلالا بعيدا
بينا فظيعا شنيعا وقد أنكر الله تعالى عليهم في كتابه العزيز في غير ما آية منه
فقال تعالى: (ولا تقولوا لم تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على
الله الكذب) [ النحل: 116 ] الآية.
وقال تعالى: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة
ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون) [ المائدة: 106 ]
وقد تكلمنا على هذا كله مبسوطا وبينا اختلاف السلف في تفسير ذلك فمن أراده فليأخذه
من ثم ولله الحمد والمنة.
وقال تعالى: (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم
تالله لتسئلن عما كنتم تفترون) [ النحل: 56 ].
وقال
__________
(1) قمعة: عمير وسمي قمعة لانه انقمع وقعد.
وخندف لقب بنت عمران بن الحاف بن قضاعة ; وقد خرجت مسرعة
فقيل لها: تخندفين، فسميت خندف.
(2) ومثله في الازرقي وفيه: ونصب الاصنام، وهو أول من
غير دين الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام ; 1 / 100.
تعالى:
(وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا
لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل
إلى شركائهم ساء ما يحكمون وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم ليردوهم
وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون) [ الانعام: 136 ]
[ وقال تعالى ]: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وانعام
حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا
يفترون) [ الانعام: 138 ].
[ وقال تعالى
].
(وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على
أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم أنه حكيم عليم.
قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما
رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) [ الانعام: 139 - 140 ] (1).
وقال البخاري في صحيحه (2).
باب جهل العرب حدثنا أبو النعمان حدثنا أبو عوانة عن أبي
بشر (3) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] قال إذا سرك أن تعلم جهل
العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الانعام (قد خسر الذين قتلوا أولادهم
سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين) وقد ذكرنا تفسير
هذه الآية وما كانوا ابتدعوه من الشرائع الباطلة الفاسدة التي ظنها كبيرهم عمرو بن
لحي قبحه الله مصلحة ورحمة بالدواب والبهائم وهو كاذب مفتر في ذلك ومع هذا الجهل
والضلال اتبعه هؤلاء الجهلة الطغام فيه بل قد تابعوه فيما هو أطم من ذلك وأعظم
بكثير وهو عبادة الاوثان مع الله عزوجل وبدلوا ما كان الله بعث به إبراهيم خليله
من الدين القويم والصراط
المستقيم من توحيد عبادة الله وحده لا شريك له وتحريم
الشرك وغيروا شعائر الحج ومعالم الدين بغير علم ولا برهان ولا دليل صحيح ولا ضعيف
واتبعوا في ذلك من كان قبلهم من الامم المشركين وشابهوا قوم نوح وكانوا أول من
أشرك بالله وعبد الاصنام ولهذا بعث الله إليهم نوحا وكان أول رسول بعث ينهى عن
عبادة الاصنام كما تقدم بيانه في قصة نوح (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن
__________
(1) وانعام حرمت ظهورها أي ما يسيبونه لآلهتهم.
وقال مجاهد: المراد البحيرة والوصيلة والحام.
فالبحيرة: الناقة.
التي انتجبت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا بحروا أذنها
واعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح.
الوصيلة: الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن ومن الشاه التي
وصلت سبعة أبطن.
والحامي: الفحل من الابل يضرب الضراب المعدود قبل عشرة
أبطن فإذا بلغ ذلك قالوا: هذا حام، أي حمى ظهره فيترك.
(2) كتاب بدء الخلق - باب قصة زمزم وجهل العرب ج 4 / 160
- 161.
(3) أبو النعمان هو محمد بن الفضل عارم.
وأبو عوانة اسمه الوضاح بن عبد الله اليشكري وأبو بشر:
واسمه جعفر بن أبي وحشية.
ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا) [
نوح: 23 ] الآية قال ابن عباس كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا
على قبورهم فلما طال عليهم الامد عبدوهم وقد بينا كيفية ما كان من أمرهم في
عبادتهم بما أغنى عن إعادته ههنا.
قال ابن إسحاق وغيره: ثم صارت هذه الاصنام في العرب بعد
تبديلهم دين اسماعيل فكان ود لبني كلب بن مرة (1) بن تغلب بن حلوان بن عمران بن
الحاف بن قضاعة.
وكان منصوبا بدومة الجندل وكان سواع لبني هذيل بن الياس
بن مدركة بن مضر.
وكان منصوبا بمكان يقال له رهاط (2).
وكان يغوث لبني أنعم من طئ ولاهل جرش من مذحج (3) وكان
منصوبا بجرش.
وكان يعوق منصوبا بأرض همدان (4) من اليمن لبني خيوان
بطن من همدان.
وكان نسر منصوبا بأرض حمير لقبيلة يقال لهم ذو الكلاع (5).
قال ابن إسحاق: وكان لخولان بأرضهم صنم يقال له عم أنس
(6) يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما بينه وبين الله فيما يزعمون فما دخل في حق
عم أنس من حق الله الذي قسموه له تركوه له وما دخل في حق الله من حق عم أنس ردوه
عليه وفيهم أنزل الله: (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا) قال: وكان لبني
ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يقال له سعد، صخرة بفلاة (7) من أرضهم طويلة
فاقبل رجل منهم بإبل له مؤبلة ليقفها عليه، التماس بركته، فيما يزعم فلما رأته
الابل وكانت مرعية لا تركب وكان الصنم يهراق عليه الدماء نفرت منه فذهبت في كل وجه
وغضب ربها [ الملكاني ] وأخذ حجرا فرماه به ثم قال لا بارك الله فيك نفرت على إبلي
ثم خرج في طلبها فلما اجتمعت له قال:
__________
(1) في ابن هشام وجمهرة أنساب العرب: وبرة ; وسدنته بنو
الفرافصة بن الاحوص بن كلب.
(2) كذا في الاصل وابن هشام ومعجم البلدان ورهاط: من أرض
ينبع.
وفي جمهرة أنساب العرب ص 492: وفي المحبر 316 كان بنعمان
ونعمان واد بقرب مكة من بلاد هذيل.
وسدنته: بنو صاهلة من هذيل وفي ياقوت سدنته بنو لحيان من
هذيل.
(3) عبارة ابن الكلبي في الاصنام: واتخذت مذحج وأهل جرش،
لم يجعل جرش من مذحج ; والمعروف ان جرش في حمير وفي نهاية الارب للقلقشندي حرش بطن من
حمير ص 215، ومذحج من كهلان بن سبأ.
وفي الجمهرة: كان لمذحج.
(4) في الجمهرة 492: في أرحب.
(5) في الجمهرة: كان لحمير بنجران.
وذو الكلاع، رهطه أحاظة بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن
زيد وهم بطن من حمير ص 478 -
492.
(6) في ابن هشام: عميانس، وفي عمود النسب للشنقيطي
كالاصل.
وفي الجمهرة لابن حزم: يعوق كان يعبده همدان وخولان.
(7) في معجم البلدان والاصنام لابن الكلبي: الفلاة بساحل
جدة.
ولم يذكر الصنم في المحبر.
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا * فشتتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة (1) * من الارض لا يدعو لغي ولا رشد قال ابن إسحاق: وكان في دوس صنم
(2) لعمرو
بن حممة الدوسي.
قال [ ابن إسحاق ] وكانت قريش قد اتخذت صنما على بئر في
جوف الكعبة يقال له هبل وقد تقدم فيما ذكره ابن هشام أنه أول صنم نصبه عمرو بن لحي
لعنه الله.
قال ابن إسحاق: واتخذوا إسافا ونائلة على موضع زمزم (3)
ينحرون عندهما ثم ذكر أنهما كانا رجلا وامرأة فوقع عليها في الكعبة فمسخهما الله
حجرين.
ثم قال [ ابن إسحاق ]: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن
محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة (4) أنها قالت سمعت عائشة تقول: ما زلنا نسمع أن
اسافا ونائلة كانا رجلا وامرأة من جرهم أحدثا في الكعبة فمسخهما الله عزوجل حجرين
والله أعلم.
وقد قيل إن الله لم يمهلهما حتى فجرا فيها بل مسخهما قبل
ذلك فعند ذلك نصبا عند الصفا والمروة فلما كان عمرو بن لحي نقلهما فوضعهما على
زمزم وطاف الناس بهما وفي ذلك يقول أبو طالب: وحيث ينيخ الاشعرون ركابهم * بمفضي
السيول من أساف ونائل وقد ذكر الواقدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر
بكسر نائلة يوم الفتح خرجت منها سوداء شمطاء تخمش وجهها وتدعو بالويل والثبور.
وقد ذكر السهيلي: أن أجا وسلمى وهما جبلان بأرض الحجاز
إنما سميا باسم رجل اسمه أجا بن عبد الحي فجر بسلمى بنت حام فصلبا في هذين الجبلين
فعرفا بهما قال: وكان بين أجا وسلمى صنم لطي يقال له قلس (5).
قال إبن إسحاق: واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه
فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى
سفره.
وإذا قدم من سفره تمسح به فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل
أن يدخل على أهله.
قال فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوحيد
قالت قريش: " أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب ".
__________
(1) تنوفة: القفر من الارض الذي لا ينبت شيئا.
(2) يسمى: ذو الكفين كما في ابن حزم ص 494 وأصنام ابن
الكلبي ص 37 والمحبر ص 218.
(3) كان أحد الصنمين أولا بلصق الكعبة، والآخر في موضع
زمزم فنقلت قريش الذي كان بلصق الكعبة إلى الآخر - أنظر الالوسي - وأصنام ابن
الكلبي.
وعند ابن حزم: إساف كان بالصفا ونائلة كانت بالمروة ص
492.
(4) تقدم التعليق فليراجع.
(5) في جمهرة ابن حزم وياقوت: قلس كان بنجد قريبا من فيد
سدنته بنو بولان.
قال ابن إسحاق: وقد كانت (1) العرب اتخذت مع الكعبة
طواغيت، وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة، لها سدنة وحجاب، وتهدي لها كما تهدي
للكعبة، وتطوف بها كطوافها بها، وتنحر عندها.
وهي مع ذلك تعرف فضل الكعبة عليها، لانها (2) بناء
إبراهيم الخليل عليه السلام ومسجده.
وكانت لقريش وبني كنانة العزى بنخلة (3) وكانت سدنتها
وحجابها بني (4) شيبان من سليم حلفاء بني هاشم.
وقد خربها خالد بن الوليد زمن الفتح كما سيأتي.
قال [
ابن إسحاق ]: وكانت اللات لثقيف بالطائف وكانت سدنتها
وحجابها بني (5) معتب من ثقيف وخربها أبو سفيان والمغيرة بن شعبة (6) بعد مجئ
أهل الطائف كما سيأتي.
قال [ ابن إسحاق ]: وكانت مناة للاوس والخزرج، ومن دان
بدينهم من أهل المدينة (7)، على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد.
وقد خربها أبو سفيان أيضا وقيل علي بن أبي طالب كما
سيأتي.
قال [ ابن إسحاق ]: وكان ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة
ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة.
وكان يقال له الكعبة اليمانية، ولبيت مكة الكعبة الشامية
وقد خربه جرير بن عبد الله البجلي كما سيأتي.
قال: وكان قلس لطي ومن يليها بجبلي طي بين أجا وسلمى،
وهما جبلان مشهوران كما تقدم.
قال: وكان رآم بيتا لحمير وأهل اليمن كما تقدم ذكره في
قصة تبع أحد ملوك حمير وقصة الحبرين حين خرباه وقتلا منه كلبا أسود.
قال: وكانت رضاء بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم
ولها يقول المستوغر واسمه كعب بن ربيعة بن كعب [ حين هدمها ]: ولقد شددت على رضاء
شدة * فتركتها قفرا بقاع أسحما (8)
وأعان عبد الله في مكروهها * وبمثل عبد الله أغشى
المحرما
__________
(1) في ابن هشام: وكانت.
(2) في ابن هشام: لانها كانت قد عرفت أنها بيت
إبراهيم..(3) نخلة: هي نخلة الشامية بإزاء الغمير عن يمين المصعد إلى العراق من
مكة وذلك فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال، وكانت العزى بواد منها (معجم
البلدان) وعند ابن حزم: العزى يعبدها غطفان وتعظمها قريش وغنى وباهلة.
(4) كذا في الاصل: والصواب بنو شيبان كما في ابن هشام.
وعند ابن حزم: سدنتها: بنو صرمة بن مرة.
(5) كذا في الاصل والصواب كما في ابن هشام بنو معتب.
وعند ابن حزم: آل أبي العاصي من بني مالك بن ثقيف.
وعند ابن الكلبي: من ثقيف بن عتاب بن مالك.
(6) كذا في الاصل والمحبر 315.
وعند ابن حزم: هدمه خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة ص
491 واقتصر في الاصنام ص 17 على المغيرة.
(7) في ابن هشام: يثرب.
(8) القاع: المنخفض من الارض.
ورواية العجز عند ابن الكلبي: فتركتها تلا تنازع أسحما.
ويقال إن المستوغر هذا عاش ثلاثمائة سنة وثلاثين سنة
وكان أطول مضر كلها عمرا وهو الذي يقول: ولقد سئمت من الحياة وطولها * وعمرت من
عدد السنين مئينا مائة حدتها بعدها مائتان لي * وازددت من عدد الشهور سنينا هل ما
بقي إلا كما قد فاتنا * يوم يمر وليلة تحدونا قال ابن هشام: ويروى هذه الابيات لزهير
بن جناب بن هبل.
قال السهيلي: ومن المعمرين الذين جازوا المائتين والثلاثمائة
زهير هذا وعبيد بن شربة ودغفل بن حنظلة النسابة والربيع بن ضبع الفزاري وذو الاصبع
العدواني ونصر بن دهمان بن أشجع بن ربث بن غطفان،
وكان قد اسود شعره بعد ابيضاضه وتقوم ظهره بعد اعوجابه.
قال [
ابن إسحاق ]: وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب بن (1) وائل
وإياد بسنداد وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة (2): بين الخورنق والسدير وبارق *
والبيت ذي الشرفات من سنداد وأول هذه القصيدة: ولقد علمت وأن تطاول بي المدى * أن السبيل
سبيل ذي الاعواد ماذا أؤمل بعد آل محرق * تركوا منازلهم وبعد إياد نزلوا بأنقرة
يسيل عليهم * ماء الفرات يجئ من أطواد أرض الخورنق والسدير وبارق * والبيت ذي
الكعبات من سنداد (3) جرت الرياح على محل ديارهم * فكأنما كانوا على ميعاد (4) وأرى
النعيم وكلما يلهى به * يوما يصير إلى بلى ونفاد (5) قال السهيلي: الخورنق قصر
بناه النعمان الاكبر لسابور ليكون ولده فيه عنده (6)، وبناه
__________
(1) في ابن هشام: ابني.
وسنداد: منازل لاياد اسفل سواد الكوفة وراء نجران الكوفة
(معجم البلدان).
(2) في رواية عند ابن هشام: للاسود بن يعفر النهشلي.
(3) في معجم البلدان " سنداد ": أهل الخورنق
وشطره: والقصر ذي الشرفات من سنداد.
(4) في معجم البلدان: عراص ديارهم.
(5) صدره في معجم البلدان: فإذا النعيم وكل ما يلهى به.
(6) قال ابن الكلبي كما نقل عنه ياقوت: أمر ببنائه بهرام
جور بن يزدجرد بن سابور ذي الاكتاف وذلك انه كان لا يبقى له ولد وكان قد لحق ابنه
بهرام جور في صغره علة فسأل عن منزل مرئ صحيح من الادواء.
فأشار عليه أطباؤه أن يخرجه إلى أرض العرب.
فأنفذه إلى النعمان وأمره أن يبني له قصرا.
فبناه له وأنزله إياه وعالجه حتى برأ من مرضه.
" مادة خورنق ".
رجل يقال له سنمار في عشرين سنة (1) ولم ير بناء أعجب
منه فخشي النعمان أن يبني لغيره مثله
فألقاه من أعلاه فقتله ففي ذلك يقول الشاعر: جزاني جزاه
الله شر جزائه * جزاء سنمار وما كان ذا ذنب سوى رضفه البنيان عشرين حجة * يعد عليه
بالقرامد والسكب (2) فلما انتهى البنيان يوما تمامه * وآض كمثل الطود والباذخ
الصعب (3) رمى بسنمار على حق رأسه * وذاك لعمر الله من أقبح الخطب (4) قال السهيلي:
أنشده الجاحظ في كتاب الحيوان.
والسنمار من أسماء القمر.
والمقصود أن هذه البيوت كلها هدمت لما جاء الاسلام جهز
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل بيت من هذه سرايا تخربه، وإلى تلك الاصنام من
كسرها، حتى لم يبق للكعبة ما يضاهيها، وعبد الله وحده لا شريك له.
كما سيأتي بيانه وتفصيله في مواضعه إن شاء الله تعالى
وبه الثقة.
خبر عدنان جد عرب الحجاز لا خلاف أن عدنان من سلالة
اسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام واختلفوا في عدة الآباء بينه وبين
اسماعيل.
على أقوال كثيرة فاكثر ما قيل أربعون أبا وهو الموجود
عند أهل الكتاب أخذوه من كتاب رخيا كاتب أرميا بن حلقيا على ما سنذكره وقيل بينهما
ثلاثون وقيل عشرون وقيل خمسة عشر وقيل عشرة وقيل تسعة وقيل سبعة وقيل إن أقل ما
قيل في ذلك أربعة لما رواه موسى بن يعقوب عن عبد الله بن وهب بن زمعة الزمعي عن
عمته عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " معد بن عدنان بن أدد
بن زند بن اليرى بن اعراق الثرى
".
قالت: أم سلمة فزند هو الهميسع واليرى هو نابت وإعراق
الثرى هو إسماعيل لانه ابن إبراهيم وإبراهيم لم تأكله النار كما أن النار لا تأكل
الثرى.
قال الدارقطني: لا نعرف زندا إلا في هذا الحديث وزند بن
الجون وهو أبو دلامة الشاعر: قال الحافظ أبو القاسم السهيلي وغيره من الائمة: مدة
ما بين عدنان إلى زمن اسماعيل أكثر من أن يكون بينهما أربعة أباء أو عشرة أو عشرون
وذلك أن معد بن عدنان كان عمره زمن بخت نصر ثنتي عشرة سنة.
وقد ذكر أبو جعفر الطبري وغيره أن الله تعالى أوحى في
ذلك الزمان إلى
أرمياء بن حلقيا أن اذهب إلى بخت نصر فأعلمه أني قد
سلطته على العرب وأمر الله أرميا أن يحمل
__________
(1) في معجم البلدان: بناه رجل من الروم يقال له سنمار
في ستين سنة (2) في معجم البلدان: سوى رمة البنيان، ستين حجة.
(3) في معجم البلدان: فلما رأى البنيان تم سحوقه.
(4) في معجم البلدان: فقال: اقذفوا بالعلج من فوق
رأسه..من أعجب الخطب.
معه معد بن عدنان على البراق كي لا تصيبه النقمة فيهم
فإني مستخرج من صلبه نبيا كريما أختم به الرسل ففعل أرميا ذلك واحتمل معدا على
البراق إلى أرض الشام فنشأ مع بنى إسرائيل ممن بقي منهم بعد خراب بيت المقدس وتزوج
هناك امرأة اسمها معانة بنت جوشن من بني دب بن جرهم قبل أن يرجع إلى بلاده ثم عاد
بعد أن هدأت الفتن وتمحضت جزيرة العرب وكان رخيا كاتب أرمياء قد كتب نسبه في كتاب
عنده ليكون في خزانة أرمياء فيحفظ نسب معد كذلك والله أعلم.
ولهذا كره مالك رحمه الله رفع النسب إلى ما بعد عدنان.
قال السهيلي: وإنما تكلمنا في رفع هذه الانساب على مذهب
من يرى ذلك ولم يكرهه كابن إسحاق والبخاري والزبير بن بكار والطبري وغيرهم من
العلماء، وأما مالك رحمه الله فقد سئل عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم فكره ذلك، وقال
له من أين له علم ذلك فقيل له فإلى إسماعيل فأنكر ذلك أيضا وقال ومن يخبره به وكره
أيضا أن يرفع في نسب الانبياء مثل أن يقال إبراهيم بن فلان بن فلان هكذا ذكره
المعيطي في كتابه.
قال: وقول مالك هذا نحو مما روى عن عروة بن الزبير أنه
قال ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان وإسماعيل، وعن ابن عباس أنه قال بين عدنان
واسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون وروي عن ابن عباس أيضا أنه كان إذا بلغ عدنان يقول
كذب النسابون مرتين أو ثلاثا والاصح عن ابن مسعود مثله.
وقال عمر بن الخطاب إنما تنسب إلى عدنان، وقال أبو عمر
بن عبد البر في كتابه الانباه في معرفة قبائل الرواه: روى ابن لهيعة (1) عن أبي
الاسود أنه سمع عروة بن الزبير يقول ما وجدنا
أحدا يعرف ما وراء عدنان ولا ما وراء قحطان إلا تخرصا،
وقال أبو الأسود: سمعت أبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة وكان من أعلم قريش بأشعارهم
وأنسابهم يقول ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء معد بن عدنان في شعر شاعر ولا علم عالم.
قال أبو عمر:
وكان قوم من السلف منهم عبد الله بن مسعود وعمرو بن
ميمون الازدي ومحمد بن كعب القرظي إذا تلوا (والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله)
قالوا: كذب النسابون.
قال أبو عمر رحمه الله: والمعنى عندنا في هذا غير ما
ذهبوا والمراد أن من ادعى احصاء بني آدم فإنهم لا يعلمهم إلا الله الذي خلقهم، وأما
أنساب العرب فإن أهل العلم بأيامها وأنسابها قد وعوا وحفظوا جماهيرها وأمهات
قبائلها، واختلفوا في بعض فروع ذلك.
__________
(1) ابن لهيعة: هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة بن
عقبة بن لهيعة الحضرمي الغافقي المصري، كان مكثرا من الحديث والاخبار والرواية.
توفي بمصر سنة سبعين ومائة.
وكان عمره احدى وثمانين سنة، وكان مولده سنة سبع وتسعين
(ابن خلكان).
قال أبو عمر: والذي عليه أئمة هذا الشأن في نسب عدنان
قالوا عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت (1) بن
إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام وهكذا ذكره محمد بن إسحاق بن يسار في
السيرة.
قال ابن هشام: ويقال عدنان بن أد يعني عدنان بن أد بن
أدد (2) ثم ساق أبو عمر بقية النسب إلى آدم كما قدمناه في قصة الخليل عليه السلام.
وأما الانساب إلى عدنان من سائر قبائل العرب فمحفوظة
شهيرة جدا لا يتمارى فيها اثنان والنسب النبوي إليه أظهر وأوضح من فلق الصبح وقد
ورد حديث مرفوع بالنص عليه كما سنورده في موضعه بعد الكلام على قبائل العرب وذكر
أنسابها وانتظامها في سلك النسب الشريف والاصل المنيف إن شاء الله تعالى وبه الثقة
وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وما أحسن ما نظم النسب النبوي الامام أبو العباس
عبد الله بن محمد الناشئ في قصيدته المشهورة المنسوبة
إليه وهي قوله: مدحت رسول الله أبغي بمدحه * وفور حظوظي من كريم المآرب مدحت امرءا
فاق المديح موحدا * بأوصافه عن مبعد ومقارب نبيا تسامى في المشارق نوره * فلاحت
هواديه لاهل المغارب أتتنا به الانباء قبل مجيئه * وشاعت به الاخبار في كل جانب وأصبحت
الكهان تهتف باسمه * وتنفي به رجم الظنون الكواذب وأنطقت الاصنام نطقا تبرأت * إلى
الله فيه من مقال الاكاذب وقالت لاهل الكفر قولا مبينا * أتاكم نبي من لؤي بن غالب ورام استراق
السمع جن فزيلت * مقاعدهم منها رجوم الكواكب هدانا إلى ما لم نكن نهتدي له * لطول
العمى من واضحات المذاهب وجاء بآيات تبين أنها * دلائل جبار مثيب معاقب فمنها
أنشقاق البدر حين تعممت * شعوب الضيامنة رؤوس الاخاشب ومنها نبوع الماء بين بنانه * وقد
عدم الوراد قرب المشارب فروى به جمأ غفيرا وأسهلت * بأعناقه طوعا أكف المذانب وبئر
طغت بالماء من مس سهمه * ومن قبل لم تسمح بمذقة شارب
__________
(1) ابن قتيبة في المعارف ساق نسب عدنان إلى قيدار بن
اسماعيل أخي نابت.
وهذا ما فعله الجواني في أصول الاحساب والزيدي في روضة
الالباب.
وهكذا قال هشام بن محمد الكلبي كما في رواية ابن
الاعرابي عنه (المسعودي) وقال المسعودي: 2 / 289: وقد نهى النبي أن يتجاوز عن معد،
وقد اختلف أهل النسب [ في رواياتهم ] فالواجب الواقف عند أمره عليه السلام ونهيه.
(2) في ابن هشام: ويقال عدنان بن أد.
وفي رواية الكلبي: عدنان بن أد بن أدد.
وضرع مراه فاستدر ولم يكن * به درة تصغي إلى كف حالب
ونطق فصيح من ذراع مبينة * لكيد عدو للعداوة ناصب
وإخباره بالامر من قبل كونه * وعند بواديه بما في العواقب ومن تلكم الآيات وحي أتى به * قريب
المآني مستجم العجائب تقاصرت الافكار عنه فلم يطع * بليغا ولم يخطر على قلب خاطب حوى
كل علم واحتوى كل حكمة * وفات مرام المستمر الموارب أتانا به لا عن روية مرتئ *
ولا صحف مستمل ولا وصف كاتب يواتيه طورا في إجابة سائل * وافتاء مستفت ووعظ مخاطب واتيان برهان
وفرض شرائع * وقص أحاديث ونص مآرب وتصريف أمثال وتثبيت حجة * وتعريف ذي جحد وتوقيف
كاذب وفي مجمع النادي وفي حومة الوغى * وعند حدوث المعضلات الغرائب فيأتي على ما
شئت من طرقاته * قويم المعاني مستدر الضرائب يصدق منه البعض بعضا كأنما * يلاحظ
معناه بعين المراقب وعجز الورى عن أن يجيئوا بمثل ما * وصفناه معلوم بطول التجارب
تأبى بعبد الله أكرم والد * تبلج منه عن كريم المناسب (1) وشيبة ذي الحمد الذي فخرت
به * قريش على أهل العلى والمناصب ومن كان يستسقى الغمام بوجهه * ويصدر عن آرائه
في النوائب وهاشم الباني مشيد افتخاره * بغر المساعي وامتنان المواهب وعبد مناف
وهو علم قومه اش * تطاط الاماني واحتكام الرغائب (2) وإن قصيا من كريم غراسه * لفي منهل
لم يدن من كف قاضب به جمع الله القبائل بعدما * تقسمها نهب الاكف السوالب وحل كلاب
من ذرى المجد معقلا * تقاصر عنه كل دان وغائب ومرة لم يحلل مريرة عزمه * سفاه سفيه
أو محوبة حائب
وكعب علا عن طالب المجد كعبه * فنال بأدنى السعي أعلا
المراتب وألوى لؤي بالعداة فطوعت * له همم الشم الانوف الاغالب وفي غالب بأس أبى
البأس دونهم * يدافع عنهم كل قرن مغالب وكانت لفهر في قريش خطابة * يعوذ بها
عند اشتجار المخاطب وما زال منهم مالك خير مالك * وأكرم مصحوب وأكرم صاحب
__________
(1) تبلج: أضاء.
(2) اشتطاط: ابتعاد.
وللنضر طول يقصر الطرف دونه * بحيث التقى ضوء النجوم
الثواقب لعمري لقد أبدى كنانة قبله * محاسن تأبى إن تطوع لغالب ومن قبله أبقى
خزيمة حمده * تليد تراث عن حميد الاقارب ومدركة لم يدرك الناس مثله * أعف وأعلى عن
دني المكاسب وإلياس كان اليأس منه مقارنا * لاعدائه قبل اعتداد الكتائب وفي مضر يستجمع
الفخر كله * إذا اعتركت يوما زحوف المقانب وحل نزار من رياسة أهله * محلا تسامى عن
عيون الرواقب وكان معد عدة لوليه * إذا خاف من كيد العدو المحارب وما زال عدنان
إذا عد فضله * توحد فيه عن قرين وصاحب وأد تأدى الفضل منه بغاية * وأرث حواه عن
قروم اشايب وفي أدد حلم تزيد بالحجا * إذا الحلم أزهاه قطوب الحواجب وما زال
يستعلي هميسع بالعلى * ويتبع آمال البعيد المراغب ونبت نبته دوحة العز وأبتنى *
معاقله في مشمخر الاهاضب وحيزت لقيذار سماحة حاتم * وحكمة لقمان وهمة حاجب
هموا نسل اسماعيل صادق وعده * فما بعده في الفخر مسعى لذاهب وكان خليل
الله أكرم من عنت * له الارض من ماش عليها وراكب وتارح ما زالت له أريحية * تبين
منه عن حميد المضارب وناحور نحار العدى حفظت له * مآثر لما يحصها عد حاسب وأشرع في
الهيجآء ضيغم غابة * يقد الطلى بالمرهفات القواضب وأرغو ناب في الحروب محكم * ضنين
على نفس المشح المغالب وما فالغ في فضله تلو قومه * ولا عابر من دونهم في المراتب
وشالخ وارفخشذ وسام سمت بهم * سجايا حمتهم كل زار وعائب وما زال نوح عندي ذي العرش
فاضلا * يعدده في المصطفين الاطايب ولمك أبوه كان في الروع رائعا * جريئا على نفس
الكمي المضارب ومن قبل لمك لم يزل متوشلخ * يذود العدى بالذائدات الشوازب وكانت
لادريس النبي منازل * من الله لم تقرن بهمة راغب ويارد بحر عند آل سراته * أبى
الخزايا مستدق المآرب وكانت لمهلاييل فهم فضائل * مهذبة من فاحشات المثالب وقينان
من قبل اقتنى مجد قومه * وفاد بشأو الفضل وخد الركائب وكان أنوش ناش للمجد نفسه *
ونزهها عن مرديات المطالب
وما زال شيث بالفضائل فاضلا * شريفا بريئا من ذميم المعائب
وكلهم من نور آدم أقبسوا * وعن عوده أجنوا ثمار المناقب وكان رسول الله أكرم منجب
* جرى في ظهور الطيبين المناجب مقابلة آباؤه أمهاته * مبرأة من فاضحات المثالب
عليه سلام الله في كل شارق * ألاح لنا ضوءا وفي كل غارب
هكذا أورد القصيدة الشيخ أبو عمر بن عبد البر وشيخنا
الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيبه من شعر الاستاذ أبي العباس عبد الله بن محمد
الناشي المعروف بابن شرشير (1) أصله من الانبار ورد بغداد ثم ارتحل إلى مصر فأقام
بها حتى مات سنة ثلاث وتسعين ومائتين وكان متكلما معتزليا يحكي عنه الشيخ أبو
الحسن الاشعري في كتابه المقالات فيما يحكي عن المعتزلة وكان شاعرا مطبقا حتى أن من
جملة اقتداره على الشعر كان يعاكس الشعراء في المعاني فينظم في مخالفتهم ويبتكر ما
لا يطيقونه من المعاني البديعة والالفاظ البليغة حتى نسبه بعضهم إلى التهوس
والاختلاط وذكر الخطيب البغدادي أن له قصيدة على قافية واحدة قريبا من أربعة آلاف
بيت ذكرها الناجم وأرخ وفاته كما ذكرنا.
قلت: وهذه القصيدة تدل على فضيلته وبراعته وفصاحته
وبلاغته وعلمه وفهمه وحفظه وحس لفظه واطلاعه واضطلاعه واقتداره على نظم هذا النسب
الشريف في سلك شعره وغوصه على هذه المعاني التي هي جواهر نفيسة من قاموس بحره
فرحمه الله وأثابه وأحسن مصيره وإيابه.
أصول انساب عرب الحجاز إلى عدنان وذلك لان عدنان ولد له
ولدان معد وعك.
قال السهيلي: ولعدنان أيضا ابن اسمه الحارث وآخر يقال له
المذهب.
قال وقد ذكر أيضا في بنيه الضحاك.
وقيل إن الضحاك ابن لمعد لا ابن عدنان.
قال وقيل إن عدن الذي تعرف به مدينة عدن وكذلك أبين كانا
ابنين لعدنان حكاه الطبري (2) فتزوج عك في الاشعريين وسكن في
__________
(1) ابن شرشير: اسم طائر يصل إلى الديار المصرية في زمن
الشتاء وهو أكبر من الحمام بقليل وهو كثير الوجود بساحل دمياط وباسمه سمي الرجل.
وابن شرشير هو الناشئ الاكبر، كان نحويا عروضيا متكلما
أقام ببغداد مدة طويلة ثم رحل إلى مصر وأقام بها إلى آخر عمره.
كان متبحرا في عدة علوم من جملتها علم المنطق وكان بقوة
علم الكلام نقض علل النحاة وأدخل على قواعد العروض شبها ومثلها بغير أمثلة الخليل
مات سنة 293 (شذرات الذهب 2 / 214).
(2) في نهاية الارب 321: قال الزهري: كان لعدنان ستة
أولاد: معد، وعبل واسمه الديب، وعدن وبه سميت
عدن من اليمن، وأد، وأبي الضحاك، والعني.
وأمهم مهدد.
وقال في جمهرة الانساب ص 9: ولد عدنان: معد، وعك وقيل
اسمه الحارث وقد قيل: عك بن الديث بن عدنان.
بلادهم من اليمن فصارت لغتهم واحدة فزعم بعض أهل اليمن
أنهم منهم فيقولون عك بن عدنان بن عبد الله بن الازد بن يغوث ويقال (1) عك بن
عدنان بن الذيب بن عبد الله بن الاسد ويقال الريث بدل الذيب والصحيح ما ذكرنا من
أنهم من عدنان.
قال عباس بن مرداس: وعك بن عدنان الذين تلعبوا * بغسان
حتى طردوا كل مطرد (2) وأما معد فولد له أربعة نزار وقضاعة وقنص وإياد (3) وكان قضاعة
بكره وبه كان يكنى وقد قدمنا الخلاف في قضاعة ولكن هذا هو الصحيح عند ابن إسحاق وغيره
والله أعلم.
وأما قنص فيقال إنهم هلكوا ولم يبق لهم بقية إلا أن النعمان
بن المنذر الذي كان نائبا لكسرى على الحيرة كان من سلالته على قول طائفة من السلف
وقيل بل كان من حمير كما تقدم والله أعلم.
وأما نزار فولد له ربيعة ومضر وأنمار قال ابن هشام وإياد
بن نزار كما قال الشاعر: وفتو حسن أوجههم * من إياد بن نزار بن معد قال [ ابن هشام ]:
وإياد ومضر شقيقان أمهما سودة بنت عك بن عدنان وأم ربيعة وأنمار شقيقة بنت عك بن عدنان.
ويقال جمعة بنت عك بن عدنان: قال ابن إسحاق فأما أنمار
فهو والد خثعم وبجيلة (4) قبيلة جرير بن عبد الله البجلي قال وقد تيامنت فلحقت باليمن.
قال ابن هشام: وأهل اليمن يقولون: أنمار بن أراش بن
لحيان بن عمرو بن الغوث بن نبت بن ملك بن زيد بن كهلان بن سبأ.
قلت: والحديث المتقدم في ذكر سبأ يدل على هذا والله أعلم.
قالوا: وكان مضر أول من حدا وذلك لانه كان حسن الصوت
فسقط يوما عن بعيره فوثبت يده فجعل يقول وايدياه وايدياه فأعنقت الابل لذلك.
قال ابن إسحاق: فولد مضر بن نزار
__________
= والظاهر أن كلمة الديث مقحمة.
فكل الذين عرضوا لعك بن عدنان لم يذكروه في نسبهم.
وفي الجمهرة أن الضحاك ولد لمعد بن عدنان.
(1) هذا قول ابن قتيبة في المعارف، وابن دريد في
الاشتقاق والجواني في أصول الاحساب.
(2) كذا في الاصل وفي ابن هشام: تلقبوا.
(3) لا خلاف بين النسابين في نسب نزار لمعد، وأما سائر
ولده فمختلف فيهم وفي عددهم.
وفي الجمهرة لم يأت على قضاعة، وذكر عبيد الرماح بن معد،
واعتبر الضحاك ولدا لمعد.
وفي الطبري زاد: قناصة وسنام وحيدان وحيدة وحيادة وجنيد
وجنادة والقحم.
والعرف وعوف وشك.
(4) في نهاية الارب: قال ابن الكلبي: إن انمار هذا لا
عقب له إلا ما يقال في بجيلة وخثعم فإنه يقال انهم ابناء انمار.
وقال في العبر: وبجيلة تنكر هذا.
وأما أنمار فهو كما قال أبو عبيد: خثعم وعنفر والغوث
وهنية وخزيمة وامهم بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة ص 216.
رجلين الياس وعيلان (1) وولد لالياس مدركة وطابخة وقمعة
(2) وأمهم خندف بنت عمران بن الحاف بن قضاعة.
قال ابن إسحاق وكان اسم مدركة عامرا واسم طابخة عمرا
ولكن اصطاد صيدا فبينا هما يطبخانه إذ نفرت الابل فذهب عامر في طلبها حتى أدركها
وجلس الآخر يطبخ فلما راحا على أبيهما ذكرا له ذلك فقال لعامر: أنت مدركة وقال
لعمرو: أنت طابخة قال: وأما قمعة فيزعم نساب مضر أن خزاعة من ولد عمرو بن لحي بن
قمعة بن الياس.
قلت: والاظهر أنه منها لا والدهم وأنهم من حمير كما تقدم
(3) والله أعلم.
قال ابن إسحاق: فولد مدركة خزيمة وهذيل وأمهما امرأة من
قضاعة وولد خزيمة كنانة وأسدا وأسدة (4) والهون وزاد أبو جعفر الطبري (5): في أبناء
كنانة على هؤلاء الاربعة عامرا والحارث والنضير وغنما وسعدا وعوفا وجرولا والحدال وغزوان.
قال [ ابن إسحاق ] وولد كنانة النضر (6) ومالكا وعبد
مناة وملكان.
قريش نسبا واشتقاقا وفضلا وهم بنو النضر بن كنانة
قال ابن إسحاق: وأم النضر برة بنت مر بن أد بن طابخة [
بن الياس بن مضر ] وسائر بنيه لامرأة أخرى.
وخالفه ابن هشام فجعل برة بنت مرأم النضر ومالك وملكان.
وأم عبد مناة هاله بنت سويد بن الغطريف من أزد شنوءة (7).
قال ابن هشام: النضر هو قريش فمن كان من ولده فهو قرشي
(8)، ومن لم يكن من ولده فليس بقرشي.
وقال: ويقال: فهر بن مالك هو قريش.
__________
(1) في نهاية الارب 376: وفي الروض الانف إياس.
وعيلان قيل هو قيس عيلان وامهما اسمى بنت سود بنت أسلم
بن الحارث بن قضاعة وفي كتاب نسب قريش ص 7 هي الحنفاء ابنة إياد بن معد وفي
الطبري: أم الياس الرباب بنت حيدة بن معد.
(2) قمعة وهو عمير وسمي قمعة لانه انقمع في الخباء وقعد
(نهاية الارب ص 228 - الجمهرة ص 10).
(3) كذا في نهاية الارب والجمهرة وتقدم التعليق فليراجع.
(4) لم يذكر ابن قتيبة في المعارف أسدة، وفي الجمهرة: إن
لخما وجذام وعاملة هم بنو أسدة بن خزيمة ص 11.
وأم كنانة عوانة بنت سعد بن قيس بن عيلان.
(5) كذا في الاصل والعبارة مختلة المعنى.
وعبارة الطبري بتمامها ج 2 / 188.
(6) النضر واسمه قيس كما في الطبري.
وفي جمهرة الانساب ملك بدل مالك وقال لم يعقب لكنانة ولد
غير هولاء.
(7) وفي الطبري: أم عبد مناة فكيهة وقيل فكهة وهي
الذفراء بنت هني بن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة.
(8) قرشي: قال صاحب اللسان في مادة قرش: قريش غير مصروف
إذا أردت القبيلة، والنسب إليه قرشي نادر، وقريشي على القياس.
قال: بكل قريشي عليه مهابة * سريع إلى داعي الندى
والتكرم قال ابن بري: اثبات الياء في النسب إلى قريش.
وقال في التهذيب: إذا نسبوا إلى قريش قالوا: قرشي بحذف
الزيادة وللشاعر إذا اضطر أن يقول قريشي.
فمن كان من ولده فهو قرشي، ومن لم يكن من ولده فليس
بقرشي.
وهذان القولان قد حكاهما غير واحد من أئمة النسب كالشيخ
أبي عمر بن عبد البر والزبير بن بكار ومصعب وغير واحد.
قال
أبو عبيد وابن عبد البر: والذي عليه الاكثرون أنه النضر
بن كنانة لحديث الاسعد (1) بن قيس قلت: وهو الذي نص عليه هشام بن محمد بن السائب الكلبي
وأبو عبيدة معمر بن المثنى وهو جا مذهب الشافعي رضي الله عنه.
ثم اختار أبو عمر أنه فهر بن مالك واحتج بأنه ليس أحد
اليوم ممن ينتسب إلى قريش إلا وهو يرجع في نسبه إلى فهر بن مالك ثم حكى اختيار هذا
القول عن الزبير بن بكار ومصعب الزبيري وعلي بن كيسان قال: وإليهم المرجع في هذا
الشأن وقد قال الزبير بن بكار: وقد أجمع نساب قريش وغيرهم أن قريشا إنما تفرقت من
فهر بن مالك والذي عليه من أدركت من نساب قريش أن ولد فهر بن مالك قرشي وأن من جاوز
فهر بن مالك بنسبه فليس من قريش ثم نصر هذا القول نصرا عزيزا وتحامى له بأنه ونحوه
أعلم بأنساب قومهم وأحفظ لما آثرهم (2).
وقد روي البخاري (3) من حديث كليب بن وائل قال قلت لربيبة
النبي صلى الله عليه وسلم - يعني زينب [ بنت أبي سلمة ] - في حديث ذكره أخبريني عن
النبي صلى الله عليه وسلم أكان من مضر ؟ قالت فممن كان إلا من مضر.
من بني النضر بن كنانة.
وقال الطبراني ثنا إبراهيم بن نائلة الاصبهاني حدثنا
إسماعيل بن عمرو البجلي ثنا الحسن بن صالح عن أبيه عن الجشيش (4) الكندي قال جاء
قوم من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أنت منا وادعوه فقال: "
لا، نحن بنو النضر بن كنانة لا نقف أمنا ولا ننتفي من أبينا " (5).
__________
(1) كذا في الاصل: والصواب كما في البخاري والبيهقي والسمعاني:
الاشعث.
(2) اختلف النسابون في قريش فمنهم من قال اسم شخص ومنهم
من قال اسم حي أو اسم قبيلة.
قيل هو قريش بن بدر بن يخلد بن النضر وبه سميت قريشا.
وقيل ان النضر بن كنانة كان اسمه قريشا وقيل القرشي.
وقيل أن فهر بن مالك هو جماع قريش، وقيل قريش ولده ولا
قريش غيرهم ولا يكون قريشي إلا منهم ولا من ولد فهر أحد إلا قريشي.
وقيل إن قريشا اسم لفهر وان فهر لقب عليه.
وقال المبرد: إن التسمية لقريش وقعت لقصي بن كلاب.
وعند القلقشندي: أن قريش قبيلة من كنانة غلب عليهم اسم
أبيهم فقيل لهم قريش على ما ذهب إليه جمهور النسابين وهو الاصح من الوجهين عند
الشافعية.
(انظر الانساب للسمعاني - الطبري - ابن الاثير - جمهرة
الانساب - نهاية الارب - طبقات ابن سعد).
(3) اول كتاب المناقب فتح الباري (6: 525) ورواه
الاسماعيلي من رواية حبان بن هلال، عن عبد الواحد.
(4) في أسد الغابة: جفشيش.
(5) لا نقفو أمنا: أي لا نتهمها ولا نقذفها، يقال قفا
فلان فلانا إذا قذفه بما ليس فيه، وقيل معناه لا نترك النسب
وقال الامام أبو عثمان سعيد بن يحيى بن سعيد ثنا أبي ثنا
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال جاء رجل من كندة يقال له الجشيش إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: يارسول الله إنا نزعم أن عبد مناف منا، فأعرض عنه، ثم عاد
فقال: مثل ذلك ثم أعرض عنه، ثم عاد فقال مثل ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " نحن بنو
النضر بن كنانة لا نقف أمنا ولا ننتفي من أبينا " قفال الاشعث ألا كنت سكت من
المرة الاولى فأبطل ذلك قولهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا غريب أيضا من
هذا الوجه والكلبي ضعيف والله أعلم.
وقد قال الامام أحمد (1) حدثنا بهز وعفان قالا ثنا حماد
بن سلمة.
قال ثني عقيل بن أبي طلحة وقال عفان عقيل بن طلحة السلمي
عن مسلم بن الهيصم عن الاشعث بن قيس أنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في
وفد كندة.
قال عفان - لا يروني أفضلهم قال فقلت يارسول الله.
انا نزعم أنكم منا قال: فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: نحن بنو النضر بن كنانة لا نقف أمنا ولا ننتفي من أبينا.
قال: فقال الاشعث بن قيس: فوالله لا أسمع أحدا نفى قريشا
من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد.
وهكذا رواه ابن ماجه (2) من طرق عن حماد بن سلمة به وهذا
إسناد جيد قوي وهو فيصل في هذه المسألة فلا التفات إلى قول من خالفه والله أعلم
ولله الحمد والمنة.
وقد قال جرير بن عطية التميمي يمدح هشام بن عبد الملك بن
مروان:
فما الام التي ولدت قريشا * بمقرفة النجار ولا عقيم (3)
وما قرم بأنجب من أبيكم * ولا خال بأكرم من تميم (4) قال ابن هشام: يعني أم النضر
بن كنانة وهي برة بنت مر أخت تميم بن مر.
وأما اشتقاق قريش فقيل من التقرش وهو التجمع بعد التفرق
وذلك في زمن قصي بن كلاب فإنهم كانوا متفرقين فجمعهم بالحرم (5) كما سيأتي بيانه
وقد قال حذافة بن غانم العدوي (6): أبوكم قصي كان يدعى مجمعا * به جمع الله
القبائل من فهر
__________
= إلى الآباء وننتسب إلى الامهات (النهاية 2 / 303).
(1) مسند الامام أحمد ج 5 / 211 وأخرجه البيهقي في
الدلائل ج 1 / 173 وفيه: مسلم بن هيضم.
(2) كتاب الحدود - باب - من نفى رجلا من قبيلته (2 / 871).
(3) المقرفة يعني اللئيمة، والنجار: الاصل.
العقيم: التي لا تحمل.
(4) القرم: استعاره هنا للرجل السيد ; وهو الفحل من
الابل.
(5) في الطبري ج 2 / 182: وجمع قبائل قريش فأنزلهم أبطح
مكة وكان بعضهم في الشغاب ورؤوس جبال مكة فقسم منازلهم بينهم فسمى مجمعا.
(6) في الطبري: مطرود وفي الازرقي فكالاصل.
وقال بعضهم: كان قصي يقال له قريش قيل من التجمع والتقرش
التجمع كما قال أبو خلدة اليشكري (1): اخوة قرشوا الذنوب علينا * في حديث من دهرنا
وقديم (2) وقيل سميت قريش من التقرش وهو التكسب والتجارة حكاه ابن هشام رحمه الله.
وقال الجوهري: القرش الكسب والجمع وقد قرش يقرش قال
الفراء: وبه سميت قريش وهي قبيلة وأبوهم النضر بن كنانة فكل من كان من ولده فهو
قرشي دون ولد كنانة فما فوقه.
وقيل من التفتيش قال هشام بن الكلبي كان النضر بن كنانة
تسمى قريشا لانه كان يقرش عن خلة الناس
وحاجتهم فيسدها بماله والتقريش هو التفتيش وكان بنوه
يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيرفدونهم بما يبلغهم بلادهم فسموا بذلك من فعلهم
وقرشهم قريشا وقد قال الحارث بن حلزة في بيان أن التقرش التفتيش: أيها الناطق
المقرش عنا * عند عمرو فهل له إبقاء (2) حكى ذلك الزبير بن بكار وقيل قريش تصغير
قرش (3) وهو دابة في البحر قال بعض الشعراء: وقريش هي التي تسكن البح * ر بها سميت
قريش قريشا قال البيهقي (4): أخبرنا أبو نصر بن قتادة أنا أبو الحسن علي بن عيسى
الماليني حدثنا محمد ابن الحسن بن الخليل النسوي أن أبا كريب حدثهم حدثنا وكيع بن
الجراح عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي ركانة العامري أن معاوية قال لابن عباس:
فلم سميت قريش قريشا ؟ فقال: لدابة تكون في البحر تكون أعظم دوابه، فيقال لها
القرش لا تمر بشئ من الغث والسمين إلا أكلته قال فأنشدني في ذلك شيئا فأنشد [ ته ]
شعر الجمحي إذ يقول: وقريش هي التي تسكن البح * ر بها سميت قريش قريشا تأكل الغث
والسمين ولا * تتركن لذي الجناحين ريشا (5) هكذا في البلاد حي قريش * يأكلون
البلاد أكلا كميشا
__________
(1) في ابن هشام: أبو جلدة وفيه: من عمرنا بدل من دهرنا.
(2) في الطبري: لهن انتهاء وفي اللسان: وهل لذاك بقاء.
(3) في اللسان: قريش دابة في البحر لا تدع دابة إلا
أكلتها فجميع الدواب تخافها، وروي عن ابن عباس أن النضر كان في سفينة فطلعت عليهم
دابة قريش فرماها بسهم فقتلها وحملها إلى مكة فسمي باسمها (نهاية الارب 356).
(4) أخرجه في دلائل النبوة ج 1 / 180 - 181 وفيه أبي
ريحانة العامري بدل من أبي ركانة.
(5) في البيهقي: ولا تترك فيها لذي جناحين ريشا.
ولهم آخر الزمان نبي * يكثر القتل فيهم والخموشا وقيل
سموا بقريش بن الحارث (1) بن يخلد بن النضر بن كنانة وكان دليل بني النضر وصاحب ميرتهم
فكانت العرب تقول: قد جاءت عير قريش قالوا وابن بدر بن قريش هو الذي حفر البئر
المنسوبة إليه (2) التي كانت عندها الوقعة العظمى يوم الفرقان (3) يوم التقى الجمعان
والله أعلم.
ويقال في النسبة إلى قريش قرشي وقريشي قال الجوهري وهو
القياس.
قال الشاعر: لكل قريشي عليه مهابة * سريع إلى داعي الندا
والتكرم قال فإذا أردت بقريش الحي صرفته وإن أردت القبيلة منعته قال الشاعر في ترك
الصرف: * وكفى قريش المعضلات وسادها (4) * وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي عمرو الاوزاعي
قال: حدثني شداد أبو عمار حدثني واثلة بن الاسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " إن الله [ تعالى ] اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من
كنانة، واصطفى هاشما من قريش واصطفاني من بني هاشم " (5).
قال أبو عمر بن عبد البر يقال بنو عبد المطلب فصيلة رسول
الله صلى الله عليه وسلم وبنو هاشم فخذه وبنو عبد مناف بطنه وقريش عمارته وبنو
كنانة قبيلته ومضر شعبه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.
ثم قال ابن إسحاق: فولد النضر بن كنانة مالكا ومخلدا (6)
قال ابن هشام والصلت وأمهم جميعا بنت سعد بن الظرب العدواني (7).
قال كثير بن عبد الرحمن وهو كثير عزة أحد بني مليح بن
عمرو من خزاعة:
__________
(1) في ابن حزم: قريش بن بدر بن يخلد بن النضر.
1 / 9 وفي الطبري قريش بن بدر بن يخلد بن الحارث بن يخلد
بن النضر بن كنانة.
(2) في الطبري: سميت بدرا بدرا.
(3) يوم الفرقان: وقعة بدر التي أظهر الله بها الاسلام
وفرق بين الحق والباطل.
وبين بدر والمدينة سبعة برد.
(4) البيت لعدي بن الرقاع يمدح الوليد بن عبد الملك
وصدره في اللسان: غلب المساميح الوليد سماحة..وقيل في قريش أن بعضهم نظر إلى النضر
فقال انظروا إلى النضر كأنه جمل قريش.
وقيل سميت قريشا من أجل أنها تقرشت عن الغارات.
وقيل لغلبة قريش وقهرهم سائر القبائل.
(5) أخرجه مسلم في أول كتاب الفضائل باب فضل نسب النبي
صلى الله عليه وسلم ح 1 ص 1782.
وأخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح وأخرجه الامام
أحمد في مسنده 4 / 107 وأخرجه البيهقي في دلائله 1 / 165 - 166.
(6) في ابن هشام والطبري: يخلد.
(7) في الطبري عكرشة بنت الحارث بن عمرو بن قيس العدواني
وعند ابن إسحاق عاتكة بنت عدوان.
وفي ابن الاثير: اسمها عاتكة ولقبها عكرشة.
أليس أبي بالصلت أم ليس إخوتي * لكل هجان من بني النضر
أزهرا (1) رأيت ثياب العصب مختلط السدى * بنا وبهم والحضرمي المخصرا (2) فإن لم
تكونوا من بني النضر فاتركوا * أراكا بأذناب الفواتج أخضرا (3) قال ابن هشام: وبنو
مليح بن عمرو يعزون إلى الصلت بن النضر (4).
قال ابن إسحاق: فولد مالك بن النضر فهر بن مالك، وأمه
جندلة بنت الحارث (5) بن مضاض الاصغر وولد فهر غالبا ومحاربا والحارث وأسدا وأمهم
ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة (6).
قال ابن هشام: وأختهم لابيهم جندلة بنت فهر.
قال ابن إسحاق: فولد غالب بن فهر لؤي بن غالب وتيم بن
غالب وهم الذين يقال لهم بنو الادرم (7) وأمهما سلمى بنت عمرو الخزاعي (8).
قال ابن هشام وقيس بن غالب وأمه سلمى بنت كعب بن عمرو
الخزاعي وهي أم لؤي (9) قال ابن إسحاق: فولد لؤي بن غالب أربعة نفر كعبا وعامرا وسامة
وعوفا.
قال ابن هشام ويقال: الحارث وهم جشم بن الحارث في هزان
من ربيعة وسعد بن لؤي وهما بنانة في شيبان بن
ثعلبة وبنانة (10) حاضنة لهم وخزيمة بن لؤي وهم عايذة في
شيبان بن ثعلبة.
__________
(1) الهجان: الكريم الاصل والعالي النسب ; والازهر:
المشهور.
(2) ثياب العصب: ثياب يمنية.
الحضرمي: النعال.
والمخصرة التي تضيق من جانبيها.
(3) كذا في الاصل وفي ابن هشام الفوائج: وهي رؤوس
الاودية وقيل هي عيون.
(4) الصلت بن مالك، وولده دخلوا في بني مليح من خزاعة،
وهم رهط كثير بن عبد الرحمن (الانباه على قبائل الرواه 93 - 94 جمهرة ابن حزم 1 /
12).
(5) في الطبري وابن الاثير جندلة بنت عامر بن الحارث.
وقال أبو عبيدة عمر بن المثنى: سلمى بنت أد بن طابخة بن
إلياس بن مضر.
(6) في الطبري: ولد فهر غالب الحارث ومحارب وأسد وعوف
وجون وذئب وأمهم ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة.
(7) الادرم: المدفون الكعبين من اللحم، وهو أيضا المنقوص
الدقن وغالب كان كذلك، وبنو الادرم هم اعراب مكة، وهم من قريش الظواهر لا من قريش
البطاح.
راجع الطبري.
(8) في الطبري وابن الاثير: عاتكة بنت النضر بن يخلد بن
كنانة وهي أولى العواتك اللاتي ولدن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش.
(9) في الطبري: أم كعب ماوية.
وأم عوف الباردة بنت عوف بن غنم بن عبد الله بن غطفان
خرجت إلى قومها لما مات لؤي وتزوجها سعد بن ذبيان بن بغيض وتبنى عوفا.
(10) بناتة حاضنة لهم وهي من بني القين كما عند ابن
إسحاق وفي الطبري بناتة أمهم.
واعتبر الطبري مخالفا ابن هشام في أن عائذة أم خزيمة.
ثم ذكر ابن إسحاق خبر سامة بن لؤي وأنه خرج إلى عمان،
فكان بها.
وذلك لشنآن كان بينه وبين أخيه عامر فأخافه عامر فخرج
عنه هاربا إلى عمان وأنه مات بها غريبا وذلك أنه كان برعى (1) ناقته فعلقت حية
بمشفرها فوقعت لشقها ثم نهشت الحية سامة حتى قتلته فيقال إنه كتب
بأصبعه على الارض: عين فابكي لسامة بن لؤي * علقت ما
بسامة العلاقة (2) لا أرى مثل سامة بن لؤي * يوم حلوا به قتيلا لناقه بلغا عامرا
وكعبا رسولا * أن نفسي إليهما مشتاقة إن تكن في عمان داري فإني * غالبي خرجت من
غير فاقه رب كأس هرقت يابن لؤي
* حذر الموت لم تكن مهراقه رمت دفع الخوف يابن لؤي * ما
لمن رام ذاك بالحتف طاقه وخروس السرى تركت رزيا * بعد جد وحدة ورشاقه (3) قال ابن
هشام: وبلغني أن بعض ولده أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتسب إلى سامة بن
لؤي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الشاعر ؟ فقال له بعض أصحابه: كأنك يارسول الله
أردت قوله " ؟ رب كأس هرقت يابن لؤي * حذر الموت لم تكن مهراقه فقال: "
أجل ".
وذكر السهيلي عن بعضهم أنه لم يعقب.
وقال الزبير ولد أسامة (4) بن لؤي غالبا والنبيت والحارث
قالوا وكانت له ذرية بالعراق (5) يبغضون عليا ومنهم علي بن الجعد كان يشتم أباه
لكونه سماه عليا ومن بني سامة بن لؤي محمد بن عرعرة بن اليزيد شيخ البخاري (6).
__________
= ووافق ابن قتيبة في المعارف، والسيرة في اعتبار الحارث
ولدا للؤي وخالفهما الطبري وابن دريد حيث لم يذكر في ولد لؤي اسما للحارث.
(1) كذا بالاصل، وفي ابن هشام: بينا هو يسير على ناقته، إذ
وضعت رأسها ترتع فأخذت حية بمشفرها فهصرتها حتى وقعت الناقة.
ويخالف صاحب الاغاني في روايته لقصة سامة بن إسحاق، بل
كان الخلاف بين سامة وأخيه كعب.
(2) العلاقة: هنا: الحية التي تعلقت بالناقة.
(3) خروس السرى: يريد ناقة صموتا على السرى لا تضجر منه.
رزيا في ابن هشام رديا والردى: التي سقطت من الاعياء.
(4) كذا بالاصل والصواب سامة.
(5) وهم بنو ناجية الذين قتلهم علي رضي الله عنهم على
الردة وسباهم كما عند ابن حزم في الجمهرة ص 13 والاغاني ووفيات الاعيان 1 / 349.
(6) كذا في الاصل اليزيد وهو تصحيف.
وقال ابن إسحاق: وأما عوف بن لؤي فإنه خرج - فيما يزعمون
- في ركب من قريش حتى إذا كان بأرض غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان، أبطئ به، فانطلق
من كان معه من قومه، فأتاه ثعلبة بن سعد، وهو أخوه في نسب بني ذبيان، فحبسه وزوجه والتاطه
(1) وآخاه.
فشاع نسبه في ذبيان.
وثعلبة - فيما يزعمون - (2).
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر (3) بن الزبير أو
محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله ابن الحصين أن عمر بن الخطاب قال: لو كنت مدعيا
حيا من العرب أو ملحقهم بنا لادعيت بني مرة بن عوف، إنا لنعرف منهم الاشباه مع ما
نعرف من موقع ذلك الرجل حيث وقع يعني عوف بن لؤي.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم أن عمر بن الخطاب قال
لرجال منهم من بني مرة: إن شئتم أن ترجعوا إلى نسبكم فارجعوا إليه.
قال ابن إسحاق: وكان القوم أشرافا في غطفان، هم سادتهم
وقادتهم (4).
قوم لهم صيت في غطفان وقيس كلها فأقاموا على نسبهم قالوا
وكانوا يقولون إذا ذكر لهم نسبهم ما ننكره وما نجحده وإنه لاحب النسب إلينا ثم ذكر
أشعارهم في انتمائهم إلى لؤي قال ابن إسحاق: وفيهم كان البسل (5) وهو تحريم ثمانية
أشهر لهم من كل سنة من بين العرب وكانت العرب تعرف لهم ذلك ويأمنونهم فيها ويؤمنونهم
أيضا قلت: وكانت ربيعة ومضر إنما يحرمون أربعة أشهر من السنة وهي ذو القعدة وذو
الحجة والمحرم واختلفت ربيعة ومضر في الرابع وهو رجب فقالت: مضر هو الذي بين جمادى وشعبان وقالت
ربيعة
__________
= هو محمد بن عريرة بن البرند كما في تقريب التهذيب
والكاشف للذهبي وشذرات الذهب توفي سنة 213 ه.
روى عنه البخاري.
(1) تقدم التعليق على خروج أم عوف الباردة وزواجها في
بني ذبيان.
إلتاطه: ألصقه به، وضمه إليه وألحقه بنسبه.
(2) نقص في العبارة، لعل الساقط سهوا من الناسخ، وتكملته
كما في ابن هشام: " الذي يقول لعوف حين أبطئ به فتركه قومه: أحبس علي ابن لؤي جملك
* تركك القوم ولا منزل لك وفي الطبري القائل فزارة بن ذبيان وأوله: عرج علي.
(3) ينتمي إلى الزبير بن العوام الاسدي حدث عن عمه عروة
وابن عمه عباد بن عبيد الله كان فقيها عالما وثقه النسائي.
وابن سعد والدارقطني وذكره البخاري في الاوسط.
(4) ومنهم: هرم بن سنان بن مرة بن أبي حارثة، وخارجة بن
سنان، والحارث بن عوف، والحصين بن حمام وهاشم بن حرملة.
(5) البسل: الحلال والحرام فهو من الاضداد.
هو الذي بين شعبان وشوال وقد ثبت في الصحيحين (1) عن أبي
بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع: " إن الزمان قد
استدار كهيئته يوم خلق السموات والارض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث
متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " فنص
على ترجيح قول مضر لا ربيعة وقد قال الله عزوجل: (إن عدة الشهور عند الله اثني عشر
شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والارض منها أربعة حرم) فهذا رد على بني عوف بن
لؤي في جعلهم الاشهر الحرم ثمانية فزادوا على حكم الله وأدخلوا فيه ما ليس منه
وقوله في الحديث ثلاث متواليات رد على أهل النسئ الذين كانوا يؤخرون تحريم المحرم
إلى صفر.
وقوله فيه ورجب مضر رد على ربيعة.
قال ابن إسحاق: فولد كعب بن لؤي ثلاثة، مرة، وعديا،
وهصيصا وولد مرة، ثلاثة
أيضا كلاب بن مرة، وتيم بن مرة، ويقظة بن مرة من أمهات
ثلاث (2).
قال وولد كلاب رجلين قصي (3) بن كلاب وزهرة بن كلاب
وأمهما فاطمة بنت سعد بن سيل أحد [ بني ] الجدرة عمن جعثمة الاسد من اليمن حلفاء
بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وفي أبيها يقول الشاعر: ما نرى في الناس
شخصا واحدا * من علمناه كسعد بن سيل فارسا أضبط فيه عسرة * وإذا ما واقف القرن نزل (4) فارسا يستدرج
الخيل كما اس * تدرج الحر القطامي الحجل (5) قال السهيلي: سيل اسمه خير بن جمالة
(6) وهو أول من طليت له السيوف بالذهب والفضة.
قال ابن إسحاق: وإنما سمو الجدرة، لان عامر بن عمرو بن
خزيمة (7) بن جعثمة تزوج بنت الحارث بن مضاض الجرهمي وكانت جرهم إذ ذاك ولاة البيت.
فبنى للكعبة جدارا فسمي عامر بذلك الجادر فقيل لولده
الجدرة لذلك.
__________
(1) رواه البخاري عن ابي بكرة بن أبي شيبة في 64 كتاب
المغازي 77 باب حجة الوداع.
ومسلم في 28 كتاب القسامة (9) باب تغليط الدماء ج 29 ص 3
/ 1305.
(2) في الطبري أم كلاب هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث
بن فهر بن مالك من بني كنانة.
وتيم ويقظة أمهما كما ذكر ابن الكلبي: اسماء بنت عدي بن
حارثة وأما ابن إسحاق فقال أمهما: هند بنت حارثة البارقية.
(3) قصي اسمه زيد مات أبوه وهو فطيم فخرجت امه وتزوجت في
بني ربيعة فسمى زيد قصيا لبعده عن دار قومه (راجع الطبري).
(4) الاضبط الذي يعمل بكلتا يديه.
والقرن: الذي يقاوم بصلابة في الحرب.
(5) الحر القطامي: هنا - يعني الصقر.
(6) وفي الطبري: خير بن حمالة بن عوف بن غنم بن عامر
الجادر بن عمرو بن جعثمة.
(7) في الطبري والروض الانف: عمرو بن جعثمة، باسقاط
خزيمة.
خبر قصي بن كلاب وارتجاعه ولاية البيت إلى قريش وانتزاعه
ذلك من خزاعة وذلك أنه لما مات أبوه كلاب تزوج أمه ربيعة بن حرام من عذرة وخرج بها
وبه إلى بلاده ثم قدم قصي مكة وهو شاب فتزوج حبى ابنة رئيس خزاعة حليل بن حبشية (1).
فأما خزاعة فزعم أن حليلا أوصى إلى قصي بولاية البيت لما
رأى من كثرة نسله من ابنته وقال أنت أحق بذلك مني.
قال ابن إسحاق: ولم نسمع ذلك إلا منهم وأما غيرهم فإنهم
يزعمون أنه استغاث بإخوته من أمه وكان رئيسهم رزاح بن ربيعة وأخوته وبني كنانة
وقضاعة ومن حول مكة من قريش وغيرهم فأجلاهم عن البيت واستقل هو بولاية البيت لان
إجازة الحجيج كانت إلى صوفة (2) وهم بنو الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر
فكان الناس لا يرمون الجمار حتى يرموا ولا ينفرون من منى حتى ينفروا فلم يزل كذلك
فيهم حتى انقرضوا فورثهم ذلك بالقعدد بنو سعد بن زيد مناة بن تميم فكان أولهم
صفوان بن الحارث بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم وكان
ذلك في بيته حتى قام على آخرهم الاسلام وهو كرب بن صفوان.
وكانت الاجازة من المزدلفة في عدوان حتى قام الاسلام على
آخرهم وهو أبو سيارة عميلة بن الاعزل وقيل اسمه العاص واسم الاعزل خالد وكان يجيز بالناس
على أتان له عوراء مكث يدفع عليها في الموقف أربعين سنة وهو أول من جعل الدية مائة
وأول من كان يقول أشرق ثبير كيما نغير حكاه السهيلي.
__________
(1) والسبب في عودته إلى مكة كما يرويه الطبري وابن
إسحاق ; هو تعييره بنسبه لانه ادعى في بني ربيعة، ومرة تساب مع آخر فعيره وقال له:
لست منا..فأخبرته أمه بنسبه وشرفه فعاد إلى مكة في حاج قضاعة.
وفي مكة تزوج حبى بنت حليل.
وأقام قصي في مكة مع حليل وولدت له حبى عبد الدار وعبد
مناف وعبد العزى فلما انتشر ماله وعظم شرفه هلك حليل فرأى قصي أنه أولى بالكعبة
وأمر مكة من خزاعة وبني بكر.
فكلم رجالا من قريش وبني كنانة لمساعدته، وكتب إلى أخيه في
بني ربيعة..فاقتتلوا بمفضى مأزمي منى وكثرت القتلى في الحرم ودخلت قبائل العرب
بينهم واصطلحوا على أن يحكموا بينهم يعمر بن عوف..فحكم إلى قصي بحجابة الكعبة
وولاية البيت.
وقيل إن حليل كان ربما أعطى المفاتيح إلى ابنته حبى لما
كبر وضعف، وربما كان قصي أخذها في بعض الاحيان ففتح البيت للناس وأغلقه ولما هلك
حليل أوصى بولاية البيت لقصي فرفضت خزاعة فهاجت الحرب بينها وبينه.
ويذكر أيضا أن حليل لما كبر وضعف اعطى أبا غبشان
المفاتيح وهو من خزاعة فابتاعها منه قصي بزق خمر.
وصارت ولاية البيت له.
(راجع الطبري - ابن هشام - الروض الانف - ابن الاثير -
الازرقي).
(2) صوفة وهم الغوث وولده وسمي صوفة لان أمه حين جعلته
ربيطا في الكعبة علقت برأسه صوفة ; وقيل ألبسته ثوبا من الصوف.
ويقال: إن من ولي من البيت شيئا من غير أهله أو قام
بخدمة في البيت يقال لهم صوفة وصوفان.
وكان عامر بن الظرب العدواني لا يكون بين العرب نائرة
(1) إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به فتحاكموا إليه مرة في ميراث خنثى فبات
ليلته ساهرا يتروى ماذا يحكم به فرأته جارية له كانت ترعى عليه غنمه اسمها سخيلة،
فقالت له مالك لا أبالك ؟ الليلة ساهرا ؟ فذكر لها ما هو - مفكر فيه، وقال لعلها يكون
عندها في ذلك شئ فقالت اتبع القضاء المبال (2) فقال فرجتها والله يا سخيلة وحكم
بذلك.
قال السهيلي: وهذا الحكم من باب الاستدلال بالامارات والعلامات
وله أصل في الشرع قال الله تعالى: (وجاءوا على قميصه بدم كذب) [ يوسف: 18 ] حيث لا أثر لانياب الذئب
فيه.
وقال تعالى: (إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من
الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) [ يوسف: 26 - 27 ].
وفي الحديث: " انظروها فإن جاءت به أورق جعدا
جماليا فهو للذي رميت به
".
قال ابن إسحاق: وكان النسئ في بني فقيم بن عدي بن عامر
بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر.
قال ابن إسحاق: وكان أول من نسأ الشهور على العرب،
القلمس (3) وهو حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي ثم قام بعده ابنه عباد ثم
قلع بن عباد ثم أمية بن قلع ثم عوف بن أمية ثم كان آخرهم
أبو ثمامة جنادة بن عوف بن قلع بن عباد بن حذيفة وهو القلمس فعلى أبي ثمامة قام
الاسلام (4) وكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فخطبهم فحرم الاشهر الحرم فإذا أراد
أن يحل منها شيئا أحل المحرم وجعل مكانه صفرا ليواطئوا عدة ما حرم الله فيقول:
(اللهم إني أحللت أحد الصفرين الصفر الاول وانسأت الآخر للعام المقبل) فتتبعه
العرب في ذلك ففي ذلك يقول عمير بن قيس أحد بني فراس بن غنم [ بن ثعلبة ] بن مالك بن كنانة ويعرف
عمير بن قيس هذا بجدل الطعان (5):
لقد علمت معد أن قومي * كرام الناس أن لهم كراما
__________
(1) النائرة: الكائنة الشنيعة تكون بين القوم.
(2) أي دعه يقعد، كما في ابن إسحاق، فإن بال من حيث يبول
الرجل فهو رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة فهي امرأة.
(3) القلمس: سمي به لجوده إذ القلمس من أسماء البحار.
(4) قال السهيلي: وجدت له خبرا يدل على أنه أسلم فإنه
حضر الحج في زمن عمر فرأى الناس يزدحمون على الحجر الاسود فقال: أيها الناس: إني
قد أجرته منكم فخفقه عمر بالدرة.
وقال ويحك إن الله قد أبطل أمر الجاهلية.
الاصابة ج 1 / 247.
(5) في ابن هشام جذل الطعان سمي بذلك لثباته في الحرب
كأنه جذل شجرة واقف.
وقال أبو عبيدة جذل الطعان هو علقمة بن فراس بن غنم بن
ثعلبة بن مالك بن كنانة انظر (سيرة ابن هشام - الروض الانف - شرح السيرة لابي ذر).
فأي الناس فاتونا بوتر * وأي الناس لم نعلك لجاما (1)
ألسنا الناسئين على معد * شهور الحل نجعلها حراما وكان قصي في قومه سيدا رئيسا مطاعا
معظما والمقصود أنه جمع قريشا من متفرقات مواضعهم من جزيرة العرب واستعان بمن
أطاعه من أحياء العرب على حرب خزاعة وإجلائهم عن البيت
وتسليمه إلى قصي فكان بينهم قتال (2) كثيرة ودماء غزيرة
ثم تداعوا إلى التحكيم فتحاكموا إلى يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن
عبد مناة بن كنانة فحكم بأن قصيا أولى بالبيت من خزاعة وأن كل دم أصابه قصي من
خزاعة وبني بكر موضوع بشدخه تحت قدميه وأن ما أصابته خزاعة وبنو بكر من قريش
وكنانة وقضاعة ففيه الدية مؤداة وأن يخلى بين قصي وبين مكة والكعبة فسمي يعمر
يومئذ الشداخ.
قال ابن إسحاق: فولى قصي البيت وأمر مكة، وجمع قومه من
منازلهم إلى مكة، وتملك على قومه وأهل مكة فملكوه، إلا أنه أقر العرب على ما كانوا
عليه، لانه يرى ذلك دينا في نفسه لا ينبغي تغييره فأقر آل صفوان وعدوان والنسأة
ومرة بن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الاسلام فهدم الله به ذلك كله، قال [ ابن إسحاق
] فكان قصي أول بني كعب أصاب ملكا أطاع له به قومه وكانت إليه الحجابة والسقاية
والرفادة والندوة واللواء (3).
، فحاز شرف
مكة كله.
وقطع مكة رباعا بين قومه، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم
من مكة.
قلت: فرجع الحق إلى نصابه، ورد شارد العدل بعد إيابه، واستقرت بقريش
الدار، وقضت من خزاعة المراد والاوطار، وتسلمت بيتهم العتيق القديم لكن بما أحدثت خزاعة
من عبادة الاوثان ونصبها إياها حول الكعبة ونحرهم لها وتضرعهم عندها واستنصارهم
بها وطلبهم الرزق منها.
وأنزل قصي قبائل قريش أباطح مكة، وأنزل طائفة منهم
ظواهرها، فكان يقال قريش البطاح، وفريش الظواهر.
فكانت لقصي بن كلاب جميع الرئاسة من حجابة البيت وسدانته
واللواء وبنى دارا لازاحة الظلمات وفصل الخصومات سماها دار الندوة إذا أعضلت قضية
__________
(1) الوتر: طلب الثأر.
(2) اقتتلوا عند مفضى مأزمي منى.
فسمي المكان المفجر لما فجر فيه وسفك فيه من الدماء
وانتهك من حرمته (الازرقي 1 / 106).
(3) زاد الازرقي: القيادة.
والحجابة: أن تكون مفاتيح البيت عنده لا يدخله أحد إلا
بإذنه.
السقاية: يعني سقاية زمزم.
الرفادة: طعام تجمعه قريش كل عام لاهل الموسم.
الندوة: دار تخذها قصي للاجتماع بأهل المشورة والرأي.
اجتمع الرؤساء من كل قبيلة فاشتوروا فيها وفصلوها ولا
يعقد عقد لواء ولا عقد نكاح إلا بها ولا تبلغ جارية أن تدرع فتدرع إلا بها وكان
باب هذه الدار إلى المسجد الحرام.
ثم صارت هذه الدار فيما بعد إلى حكيم بن حزام (1) بعد بني
عبد الدار فباعها في زمن معاوية بمائة ألف درهم فلامه على بيعها معاوية، وقال بعت
شرف قومك بمائة ألف ؟ فقال إنما الشرف اليوم بالتقوى والله لقد ابتعتها في
الجاهلية بزق خمر وها أنا قد بعتها بمائة ألف وأشهدكم أن ثمنها صدقة في سبيل الله
فأينا المغبون.
ذكره الدارقطني في أسماء رجال الموطأ وكانت إليه سقاية
الحجيج فلا يشربون إلا من ماء حياضه وكانت زمزم إذ ذاك مطموسة من زمن جرهم قد
تناسوا أمرها من تقادم عهدها ولا يهتدون إلى موضعها قال الواقدي: وكان قصي أول من
أحدث وقيد النار بالمزدلفة ليهتدي إليها من يأتي من عرفات.
والرفادة وهي إطعام الحجيج أيام الموسم إلى أن يخرجوا
راجعين إلى بلادهم.
قال ابن إسحاق: وذلك أن قصيا فرضه عليهم فقال لهم: يا
معشر قريش إنكم جيران الله وأهل مكة وأهل الحرم، وأن الحجاج ضيف الله وزوار بيته،
وهم أحق بالضيافة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج، حتى يصدروا عنكم.
ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك في كل عام من أموالهم خرجا
فيدفعونه إليه، فيصنعه طعاما للناس أيام منى.
فجرى ذلك من أمره في الجاهلية حتى قام الاسلام، ثم جرى
في الاسلام إلى يومك هذا.
فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى
ينقضي الحج.
قلت: ثم انقطع هذا بعد ابن إسحاق ثم أمر بإخراج طائفة من بيت المال
فيصرف في حمل زاد وماء لابناء السبيل القاصدين إلى الحج وهذا صنيع حسن من وجوه
يطول ذكرها، ولكن الواجب أن يكون ذلك من خالص بيت المال، من أحل ما فيه والاولى أن
يكون من جوالي الذمة
لانهم لا يحجون البيت العتيق وقد جاء في الحديث: "
من استطاع الحج فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا " (2).
وقال قائلهم (3) في مدح قصي وشرفه في قومه: قصي لعمري
كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر
__________
(1) هو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن
قصي.
وفي ابن الاثير ج 2 / 23: أن عكرمة بن عامر بن هاشم بن
عبد مناف بن عبد الدار باعها من معاوية فجعلها دار الامارة بمكة.
وفي جمهرة ابن حزم أن عكرمة كانت له الندوة وباعها من
حكيم بن حزام في الجاهلية ولعله الصواب إذ أن حكيم الذي باعها زمن معاوية.
(2) تقدم تخريجه.
(3) هو حذافة بن غانم الجمحي كما في الازرقي: وفيه:
أبوهم قصي.
هموا ملاوا البطحاء مجدا وسؤددا * وهم طردوا عنا غواة
بني بكر قال ابن إسحاق: ولما فرغ قصي من حربه انصرف أخوه رزاح بن ربيعة إلى بلاده بمن
معه واخوته من أبيه الثلاثة وهم حن ومحمود وجلهمة (1).
قال رزاح في إجابته قصيا: ولما أتى من قصي رسول * فقال الرسول
أجيبوا الخليلا نهضنا إليه نقود الجيا
* د ونطرح عنا الملول الثقيلا نسير بها الليل حتى الصبا
* ح ونكمي النهار لئلا نزولا (2) فهن سراع كورد القصا * يجبن بنا من قصي رسولا
جمعنا من السر من اشمذين * ومن كل حي جمعنا قبيلا (3) فيا لك حلبة ما ليلة * تزيد
على الالف سيبا رسيلا فلما مررن على عسجر * وأسهلن من مستناخ سبيلا (4)
وجاوزن بالركن من ورقا * ن وجاوزن بالعرج حيا حلولا (5)
مررن على الحلي ما ذقنه * وعالجن من مر ليلا طويلا (6) ندني من العوذ أفلاءها * إرادة أن
يسترقن الصهيلا (7) فلما انتهينا إلى مكة * أبحنا الرجال قبيلا قبيلا نعاورهم ثم حد
السيو * ف وفي كل أوب خلسنا العقولا نخبزهم بصلاب النسو * ر خبز القوي العزيز
الذليلا (8) قتلنا خزاعة في دارها * وبكرا قتلنا وجيلا فجيلا نفيناهم من بلاد
الملي * ك كما لا يحلون أرضا سهولا فأصبح سيبهم في الحدي * د ومن كل حي شفينا الغليلا قال ابن
إسحاق: فلما رجع رزاح إلى بلاده نشره الله ونشر حنا، فهما قبيلا عذرة إلى اليوم.
قال ابن إسحاق: وقال قصي بن كلاب في ذلك: أنا ابن
العاصمين بني لؤي * بمكة منزلي وبها ربيت
__________
(1) في الطبري هؤلاء ليس بأخوته بل أولاد ربيعة بن حرام
من امرأة أخرى غير أم قصي.
(2) نكمي: نكمن.
(3) الاشمذين، قيل قبيلتان.
وقيل جبلان بين المدينة وخيبر.
(4) في ابن هشام عسجد وكلاهما موضع بعينه (انظر معجم
البلدان).
(5) ورقان والعرج موضعان: جبل وواد.
(معجم البلدان ومعجم ما استعجم).
(6) في ابن هشام: الحل - (7) العوذ: جمع عائذ: وهي
الناقة التي لها أولاد.
(8) نخبزهم: نسوقهم سوقا شديدا.
إلى البطحاء قد علمت معد * ومروتها رضيت بها رضيت
فلست لغالب أن لم تأثل * بها أولاد قيذر والنبيت (1)
رزاح ناصري وبه أسامي * فلست أخاف ضيما ما حييت وقد ذكر الاموي عن الاشرم عن أبي عبيدة
عن محمد بن حفص: أن رزاحا إنما قدم بعدما نفى قصي خزاعة والله أعلم.
فصل ثم لما كبر قصي فوض أمر هذه الوظائف التي كانت إليه
من رئاسات قريش وشرفها من الرفادة والسقاية والحجابة واللواء والندوة إلى ابنه عبد
الدار وكان أكبر ولده.
وإنما خصصه بها كلها لان بقية أخوته عبد مناف وعبد الشمس
وعبدا كانوا قد شرفوا في زمن أبيهم وبلغوا في قوتهم شرفا كبيرا فأحب قصي أن يلحق
بهم عبد الدار في السؤدد فخصصه (2) بذلك فكان أخوته لا ينازعونه في ذلك فلما
انقرضوا تشاجر أبناؤهم في ذلك وقالوا إنما خصص قصي عبد الدار بذلك ليلحقه بإخوته فنحن
نستحق ما كان آباؤنا يستحقونه وقال بنو عبد الدار هذا أمر جعله لنا قصي فنحن أحق
به واختلفوا اختلافا كثيرا وانقسمت بطون قريش فرقتين ففرقة بايعت عبد الدار
وحالفتهم وفرقة بايعت بني عبد مناف وحالفوهم على ذلك ووضعوا أيديهم عند الحلف في
جفنة (3) فيها طيب ثم لما قاموا مسحوا أيديهم بأركان الكعبة فسموا حلف المطيبين.
وكان منهم من قبائل قريش بنو أسد بن عبد العزى بن قصي
وبنو زهرة وبنو تيم وبنو الحارث بن فهر وكان مع بني عبد الدار بنو مخزوم وبنو سهم
وبنو جمح وبنو عدي (4) واعتزلت بنو عامر بن لؤي ومحارب بن فهر الجميع فلم يكونوا
مع واحد منهما ثم اصطلحوا واتفقوا على أن تكون الرفادة والسقاية لبني عبد مناف وأن
تستقر الحجابة واللواء والندوة في بني عبد الدار فانبرم الامر على ذلك واستمر.
وحكى الاموي عن الاشرم عن أبي عبيدة قال: وزعم قوم من
خزاعة أن قصيا لما تزوج حبى بنت حليل ونقل حليل عن ولاية البيت جعلها إلى ابنته
حبى واستناب عنها أبا غبشان
__________
(1) قيذر والنبيت من أولاد اسماعيل عليه السلام.
(2) قال له قصي: أما والله لالحقنك بالقوم وإن كانوا قد
شرفوا عليك لا يدخل رجل منهم الكعبة حتى تكون أنت
تفتحها..فأعطاه دار الندوة التي لا تقضي قريش أمرا إلا
فيها.
(الطبري - ابن الاثير - ابن هشام).
(3) التي أعطتهم الجفنة هي أم حكيم البيضاء بنت عبد
المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم وتوأمة أبيه (جمهرة ابن حزم - الروض الانف).
(4) في الطبري وابن الاثير وابن هشام: وتعاقد بنو عبد
الدار وتعاهدوا وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا، على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم
بعضهم بعضا، فسموا الاحلاف.
وتعبوا للقتال.
ثم تداعوا إلى الصلح وتحاجز الناس عن الحرب.
سليم بن عمرو بن لؤي بن ملكان بن قصي بن حارثة بن عمرو
بن عامر فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر وقعود فكان يقال (أخسر من صفقة أبي
غبشان) ولما رأت خزاعة ذلك اشتدوا على قصي فاستنصر أخاه فقدم بمن معه وكان ما كان
ثم فوض قصي هذه الجهات التي كانت إليه من السدانة والحجابة واللواء والندوة والرفادة
والسقاية إلى ابنه عبد الدار كما سيأتي تفصيله وإيضاحه وأقر الاجازة من مزدلفة في
بني عدوان وأقر النسئ في فقيم وأقر الاجازة وهو النفر في صوفة كما تقدم بيان ذلك
كله مما كان بأيديهم قبل ذلك.
قال ابن إسحاق: فولد قصي أربعة نفر وامرأتين عبد مناف
وعبد الدار وعبد العزى وعبدا وتخمر (1) وبرة، وأمهم كلهم حبى بنت حليل بن حبشية بن
سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي وهو آخر من ولي البيت من خزاعة ومن يده أخذ البيت قصي
بن كلاب.
قال ابن هشام: فولد عبد مناف بن قصي أربعة نفر هاشما
وعبد شمس والمطلب وأمهم عاتكة بنت مرة بن هلال ونوفل ين عبد مناف وأمه واقدة بنت
عمرو المازنية.
قال ابن هشام: وولد لعبد مناف أيضا أبو عمرو وتماضر
وقلابة وحية وريطة وأم الاخثم وأم سفيان.
قال ابن هشام: وولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر، وخمس
نسوة: عبد المطلب، وأسدا، وأبا صيفي، ونضلة والشفا، وخالدة وضعيفة، ورقية، وحية ;
فأم عبد المطلب ورقية: سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد (2) بن خداش بن عامر بن غنم
بن عدي بن النجار من المدينة وذكر أمهات الباقين (3).
قال وولد
عبد الملطب عشرة نفر وست نسوة وهم العباس وحمزة وعبد
الله وأبو طالب - واسمه عبد مناف - لا عمران والزبير والحارث، وكان بكر أبيه وبه
كان يكنى، وجحل، ومنهم من يقول حجل، وكان يلقب بالغيداق لكثرة خيره، والمقوم وضرار
وأبو لهب - واسمه عبد العزى - وصفية، وأم حكيم البيضاء، وعاتكة، وأميمة، وأروى، وبرة،
وذكر أمهاتهم إلى أن قال وأم عبد الله وأبي طالب والزبير وجميع النساء إلا صفية
فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب
بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن
معد بن عدنان.
قال [ ابن هشام ] فولد عبد الله محمدا رسول الله صلى
الله عليه وسلم سيد ولد آدم وأمه آمنة بنت وهب بن
__________
(1) لم يرد ذكر تخمر في الطبري.
وعند ابن الاثير لم يذكر إلا أولاده البنين الاربعة.
وعبدا، عبد قصي في الطبري وابن الاثير.
(2) في الطبري: ابن لبيد بن حرام.
وفي رواية عنده وعند ابن الاثير، اسمها: سلمى بنت عمرو
بن زيد الخزرجية النجارية.
(3) أم أسد: قيلة بنت عامر بن مالك الخزاعية ; وأم أبي
صيفي وحية: هند بنت عمرو بن ثعلبة الخزرجية، وأم نضلة والشفاء امرأة من قضاعة، وأم
خالدة وضعيفة واقدة بنت أبي عدي المازنية.
(ابن هشام).
عبد مناف بن زهرة (1) بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ثم
ذكر أمهاتها فأغرق إلى أن قال فهو أشرف ولد آدم حسبا، وأفضلهم نسبا من قبل أبيه
وأمه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.
وقد تقدم حديث الاوزاعي عن شداد أبي عمار عن واثلة بن
الاسقع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله اصطفى كنانة من ولد
إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى هاشما من قريش واصطفاني من بني هاشم "
رواه مسلم وسيأتي بيان مولده الكريم وما ورد فيه من الاخبار والآثار وسنورد عند
سرد النسب فوائد أخر ليست هاهنا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان.
ذكر جمل من الاحداث في الجاهلية قد تقدم ما كان من أخذ
جرهم ولاية البيت من بني إسماعيل طمعوا فيهم لانهم أبناء بناتهم وما كان من توثب
خزاعة على جرهم وانتزاعهم ولاية البيت منهم ثم ما كان من رجوع ذلك إلى قصي وبنيه
واستمرار ذلك في أيديهم إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فأقر تلك
الوظائف على ما كانت عليه.
ذكر جماعة مشهورين في الجاهلية خبر خالد بن سنان العبسي
الذي كان في زمن الفترة وقد زعم بعضهم أنه كان نبيا والله أعلم.
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن زهير
التستري حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور الرازي حدثنا محمد بن الصلت حدثنا قيس بن
الربيع عن سالم الافطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال: جاءت بنت خالد بن سنان
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبسط لها ثوبه وقال: " بنت نبي ضيعه قومه ".
وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار عن يحيى بن المعلى بن
منصور عن محمد بن الصلت عن قيس عن سالم عن سعيد عن ابن عباس.
قال ذكر خالد بن سنان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: " ذاك نبي ضيعه قومه
".
ثم قال ولا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه وكان قيس بن
الربيع (2) ثقة في نفسه إلا أنه كان ردئ الحفظ وكان له ابن يدخل في أحاديثه ما ليس
منها والله أعلم.
قال البزار وقد رواه الثوري عن سالم الافطس عن سعيد بن
جبير مرسلا وقال الحافظ أبو
__________
(1) ذهب ابن قتيبة في المعارف إلى القول أن زهرة اسم
امرأة عرف بها بنو زهرة، وهو خطأ على ما ورد عند ابن إسحاق والطبري وغيرهما أن
زهرة هو جد بني زهرة وهو زهرة بن كلاب ومن ولده الحارث وعبد مناف ومن ولد عبد مناف
وهب (انظر جمهرة الانساب ص 128).
(2) قيس بن الربيع أبو محمد الكوفي صدوق تغير لما كبر،
مات سنة بضع وستين ومائة وقال العجلي: الناس يضعفونه.
وقال ابن معين: ليس بشئ وقال أبو حاتم: ليس بقوي وقال
ابن عدي: عامة رواياته مستقيمة (ثقات العجلي - الكاشف 2 / 348 - التقريب 2 / 128).
يعلي الموصلي: حدثنا المعلى بن مهدي الموصلي قال حدثنا
أبو عوانة عن أبي يونس عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا من عبس يقال له خالد بن سنان
قال لقومه: إني أطفئ عنكم نار الحرتين فقال له رجل من قومه (1) والله يا خالد ما
قلت لنا قط إلا حقا فما شأنك وشأن نار الحرتين تزعم أنك تطفئها فخرج خالد ومعه
أناس من قومه فيهم عمارة بن زياد فأتوها فإذا هي تخرج من شق جبل فخط لهم خالد خطة
فأجلسهم فيها فقال إن أبطأت عليكم فلا تدعوني باسمي فخرجت كأنها خيل شقر يتبع
بعضها بعضا فاستقبلها خالد فجعل يضربها بعصاه وهو يقول: بدا بدا بدا كل هدى زعم
ابن راعية المعزى أني لا أخرج منها وثيابي بيدي حتى دخل معها الشق فأبطأ عليهم
فقال لهم عمارة بن زياد والله إن صاحبكم لو كان حيا لقد خرج إليكم بعد قالوا
فادعوه باسمه.
قال فقالوا إنه قد نهانا أن ندعوه باسمه فدعوه باسمه
فخرج وهو آخذ برأسه فقال ألم أنهكم أن تدعوني باسمي فقد والله قتلتموني فادفنوني
فإذا مرت بكم الحمر فيها حمار أبتر فأنبشوني فإنكم تجدوني حيا فدفنوه فمرت بهم
الحمر فيها حمار أبتر فقلنا أنبشوه فإنه أمرنا أن ننبشه فقال لهم عمارة لا تنبشوه
لا والله لا تحدث مضر أن ننبش موتانا وقد كان قال لهم خالد إن في عكن امرأته لوحين
فإن أشكل عليكم أمر فانظروا فيها فإنكم ستجدون ما تسألون عنه قال ولا يمسهما حائض فلما
رجعوا إلى امرأته سألوها عنهما فأخرجتهما إليهم وهي حائض فذهب ما كان فيهما من علم
(2).
قال أبو يونس: قال سماك بن حرب سئل عنه النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: " ذاك نبي أضاعه قومه " قال أبو يونس: قال سماك بن حرب
إن ابن خالد بن سنان أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " مرحبا بابن أخي ".
فهذا السياق موقوف على ابن عباس وليس فيه أنه كان نبيا
والمرسلات التي فيها أنه نبي لا يحتج بها هاهنا والاشبه أنه كان رجلا صالحا له
أحوال وكرامات فإنه إن كان في زمن الفترة فقد ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال: " إن أولى الناس بعيسى بن مريم أنا لانه ليس بيني
وبينه نبي ".
وإن كان قبلها فلا يمكن أن يكون نبيا لان الله تعالى قال:
(لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) (3) وقد قال غير واحد من العلماء إن الله
تعالى لم يبعث بعد إسماعيل نبيا في
العرب إلا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الانبياء الذي
دعا به إبراهيم الخليل باني الكعبة المكرمة التي جعلها الله قبلة لاهل الارض شرعا
وبشرت به الانبياء لقومهم حتى كان آخر من بشر به عيسى بن مريم عليه السلام وبهذا
المسلك بعينه يرد ما ذكره السهيلي وغيره من إرسال نبي من العرب يقال له شعيب بن ذي
مهذم بن شعيب بن صفوان صاحب مدين وبعث إلى العرب أيضا حنظلة بن صفوان فكذبوهما
فسلط الله على العرب بخت نصر فنال منهم من القتل والسبي نحو ما نال من بني
__________
(1) في المستدرك للحاكم قال: هو عمارة بن زياد.
(2) من الاساطير الغريبة ليس من سبيل لتصديقها والقبول
بها.
(3) سورة السجدة الآية 3.
إسرائيل وذلك في زمن معد بن عدنان والظاهر أن هؤلاء
كانوا قوما صالحين يدعون إلى الخير والله أعلم.
وقد تقدم ذكر عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف في أخبار
خزاعة بعد جرهم.
حاتم الطائي أحد أجواد الجاهلية وهو حاتم بن عبد الله بن
سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أحزم بن أبي أحزم (1) واسمه هرومة (2) بن
ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طئ أبو سفانة الطائي والدعدي بن حاتم
الصحابي، كان جوادا ممدحا في الجاهلية، وكذلك كان ابنه في الاسلام.
وكانت لحاتم مآثر وأمور عجيبة وأخبار مستغربة في كرمه
يطول ذكرها، ولكن لم يكن يقصد بها وجه الله والدار الآخرة، وإنما كان قصده السمعة
والذكر.
قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حدثنا محمد بن معمر
حدثنا عبيد بن واقد القيسي حدثنا أبو نصر هو الناجي عن عبد الله بن دينار عن ابن
عمر قال ذكر حاتم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ذاك أراد أمرا فأدركه
" (حديث غريب) قال الدارقطني تفرد به عبيد بن واقد عن أبي نصر الناجي ويقال
إن اسمه حماد.
قال ابن عساكر: وقد فرق أبو أحمد الحاكم بن أبي نصر
الناجي وبين أبي نصر حماد ولم يسم الناجي ووقع في بعض روايات الحافظ ابن عساكر عن
أبي نصر شيبة الناجي والله أعلم.
وقال الامام أحمد حدثنا يزيد بن إسماعيل حدثنا سفيان عن
سماك بن حرب عن مرى بن قطري عن عدي بن حاتم قال قلت لرسول الله صلى الله عليه
وسلم: " إن أبي كان يصل الرحم ويفعل ويفعل فهل له في ذلك، يعني من أجر.
قال: " إن أباك طلب شيئا فأصابه ".
وهكذا رواه أبو يعلى عن القواريري عن غندر عن شعبة عن
سماك به.
وقال: " إن أباك أراد أمرا فأدركه " يعني
الذكر.
وهكذا رواه أبو القاسم البغوي عن علي بن الجعد عن شعبة
به سواء وقد ثبت في الصحيح في الثلاثة الذين تسعر بهم جهنم منهم الرجل الذي ينفق
ليقال إنه كريم فيكون جزاؤه أن يقال ذلك في الدنيا وكذا في العالم والمجاهد وفي الحديث
الآخر في الصحيح أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان بن
عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة فقالوا له كان يقري الضيف ويعتق ويتصدق فهل
ينفعه ذلك فقال: " إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ".
هذا وقد كان من الاجواد المشهورين أيضا المطعمين في
السنين الممحلة والاوقات المرملة.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي (4) أنبأنا أبو عبد الله
الحافظ حدثني أبو بكر محمد بن عبد الله بن
__________
(1) كذا في بلوغ الارب للالوسي ; وفي جمهرة ابن حزم:
أخزم بن أبي أخزم.
(2) في الاغاني 17 / 363 عن ابن السكيت: هزومة.
(3) مسند أحمد ج 4 / 258 بتغيير في بعض ألفاظه.
(4) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 5 / 341.
يوسف العماني، حدثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبد
الواحد الكوفي، حدثنا ضرار بن صرد، حدثنا عاصم بن حميد، عن أبي حمزة الثمالي، عن
عبد الرحمن بن جندب، عن كميل بن زياد النخعي، قال: قال علي بن أبي طالب: يا سبحان
الله ! ما أزهد كثيرا من الناس في خير عجبا، لرجل يجيئه أخوه المسلم في حاجة (1)
فلا يرى نفسه للخير أهلا، فلو كان لا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا لكان ينبغي له أن
يسارع في مكارم الاخلاق فإنها تدل على سبيل (2) النجاح.
فقام إليه رجل وقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين
أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال نعم ! وما هو خير
منه: لما أتى بسبايا طئ وقعت جارية حمراء لعساء زلفا (3) عيطاء،
شماء الانف، معتدلة القامة والهامة، درماء الكعبين خدلجة الساقين (4) لفاء
الفخذين، خميصة الخصرين، ضامرة الكشحين، مصقولة المتنين.
قال فلما رأيتها أعجبت بها وقلت: لاطلبن إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيجعلها في فيئي فلما تكلمت أنسيت جمالها لما رأيت من فصاحتها،
فقالت: يا محمد: إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني ابنة سيد قومي،
وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف،
ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، وأنا ابنة حاتم طيئ.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا جارية هذه (5)
صفة المؤمنين حقا لو كان أبوك مؤمنا (6) لترحمنا عليه، خلوا عنا فإن أباها كان يحب
مكارم الاخلاق، والله تعالى يجب مكارم الاخلاق.
فقام أبو بردة بن ينار (7) فقال يا رسول الله، والله يحب
مكارم الاخلاق ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لا
يدخل الجنة أحد إلا بحسن الخلق
".
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثني عمر بن بكر عن أبي
عبد الرحمن الطائي - هو القاسم بن عدي
- عن عثمان عن عركى بن حليس الطائي عن أبيه عن جده وكان
أخا عدي بن حاتم لامه قال قيل لنوار امرأة حاتم (8) حدثينا عن حاتم قالت كل أمره
كان عجبا أصابتنا سنة حصت كل شئ فاقشعرت لها الارض واغبرت لها السماء وضنت المراضع
على أولادها وراحت الابل حدبا حدابير ما تبض بقطرة وحلقت المال وأنا لفي ليلة صنبر
بعيدة ما بين الطرفين إذ تضاغي الا صبية
__________
(1) في الدلائل: الحاجة.
(2) في الدلائل: سبل.
(3) في الدلائل: ذلفاء، وفي الاغاني حماء: وهي بيضاء.
وعيطاء: طويلة العنق.
(4) في الدلائل: درماء العين، خدلة الساقين ; وهو خطأ
والصواب ما أثبتناه: ودرماء المرأة التي لا تستبين كعوبها ; وخدلجة: ممتلئة.
(5) وهي ابنة حاتم واسمها سفانة وبها كان يكنى وقد أسلمت.
(6) في الدلائل: مسلما.
(7) في الدلائل: دينار، وفي الكنى والاسماء للدولابي ص
17: نيار واسمه هانئ.
(8) في الاغاني ج 17 / 387: اسمها ماوية.
من الجوع عبد الله وعدي وسفانة فوالله إن وجدنا شيئا
نعللهم به فقام إلى أحد الصبيان فحمله وقمت إلى الصبية فعللتها فوالله إن سكتا إلا
بعد هدأة من الليل ثم عدنا إلى الصبي الآخر فعللناه حتى سكت وما كاد ثم افترشنا
قطيفة لنا شامية ذات خمل فأضجعنا الصبيان عليها ونمت أنا وهو في حجرة والصبيان بيننا
ثم أقبل علي يعللني لانام وعرفت ما يريد فتناومت فقال مالك أنمت فسكت فقال: ما
أراها إلا قد نامت وما بي نوم فلما أدلهم الليل وتهورت النجوم وهدأت الاصوات وسكنت
الرجل إذ جانب البيت قد رفع فقال من هذا ؟ فولى حتى قلت إذا قد أسحرنا أو كدنا عاد
فقال من هذا ؟ قالت: جارتك فلانة يا أبا عدي ما وجدت على أحد معولا غيرك أتيتك من
عند أصيبة يتعاوون عواء الذئاب من الجوع قال أعجليهم علي قالت النوار: فوثبت.
فقلت.
ماذا صنعت أضطجع والله لقد تضاغى اصبيتك فما وجدت ما
تعللهم فكيف بهذه وبولدها فقال أسكتي فوالله لاشبعنك إن شاء الله.
قالت:
فأقبلت تحمل اثنين وتمشي جنبتيها أربعة كأنها نهامة
حولها رئالها فقام إلى فرسه فوجأ بحربته في لبته ثم قدح زنده وأورى ناره ثم جاء
بمدية فكشط عن جلده ثم دفع المدية إلى المرأة ثم قال: دونك ثم قال ابعثي صبيانك
فبعثتهم ثم قال سوءة أتأكلون شيئا دون أهل الصرم فجعل يطوف فيهم حتى هبوا وأقبلوا عليه
والتفع في ثوبه ثم اضطجع ناحية ينظر إلينا والله ما ذاق مزعة وانه لاحوجهم إليه
فأصبحنا وما على الارض منه إلا عظم وحافر.
وقال الدارقطني: حدثني القاضي أبو عبد الله المحاملي
حدثنا عبد الله بن أبي سعد وحدثنا عثيم بن ثوابة بن حاتم الطائي عن أبيه عن جده
قال: قالت امرأة حاتم لحاتم: يا أبا سفانة أشتهي أن آكل أنا وأنت طعاما وحدنا ليس عليه أحد
فأمرها فحولت خيمتها من الجماعة على فرسخ وأمر بالطعام فهئ وهي مرخاة ستورها عليه وعليها
فلما قارب نضج الطعام كشف عن رأسه ثم قال:
فلا تطبخي قدري وسترك دونها * علي إذن ما تطبخين حرام
ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي * بجزل إذا أوقدت لا بضرام قال ثم كشف الستور وقدم
الطعام ودعا الناس فأكل وأكلوا فقالت ما أتممت لي ما قلت فأجابها لا تطاوعني نفسي
ونفسي أكرم علي من أن يثني علي هذا وقد سبق لي السخاء ثم أنشأ يقول: أمارس نفسي
البخل حتى أعزها * واترك نفس الجود ما استثيرها (1) ولا تشتكيني جارتي غير أنها *
إذا غاب عنها بعلها لا أزورها سيبلغها خيري ويرجع بعلها * إليها ولم تقصر عليها
ستورها ومن شعر حاتم:
__________
(1) أمارس: أعالج.
أعزها: أغلبها وأقوى عليها.
إذا ما بت اشرب فوق ري * لسكر في الشراب فلا رويت إذا ما
بت أختل عرس جاري * ليخفيني الظلام فلا خفيت أأفضح جارتي وأخون جاري * فلا والله
أفعل ما حييت ومن شعره أيضا: ما ضر جارا لي أجاوره * أن لا يكون لبابه ستر (1)
أغضي إذا ما جارتي برزت * حتى يواري جارتي الخدر ومن شعر حاتم أيضا: وما من شيمتي شتم
ابن عمي * وما أنا مخلف من يرتجيني وكلمة حاسد من غير جرم * سمعت وقلت مري
فانقذيني وعابوها علي فلم تعبني * ولم يعرق لها يوما جبيني وذي وجهين يلقاني طليقا
* وليس إذا تغيب يأتسيني ظفرت بعيبه فكففت عنه * محافظة على حسبي وديني
ومن شعره: سلي البائس المقرور يا أم مالك * إذا ما أتاني
بين ناري ومجزري أأبسط وجهي إنه أول القرى * وإبذل معروفي له دون منكري وقال أيضا:
وانك إن أعطيت بطنك سؤله * وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقال القاضي أبو الفرج
المعافى بن زكرياء الجريري حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي حدثنا أبو العباس
المبرد أخبرني الثوري عن أبي عبيدة.
قال لما بلغ حاتم طئ قول المتلمس: قليل المال تصلحه
فيبقى * ولا يبقى الكثير على الفساد وحفظ المال خير من فناه * وعسف في البلاد بغير
زاد قال: ماله قطع الله لسانه حمل الناس على البخل فهلا قال:
__________
(1) في الاغاني 17 / 386: وما ضر جارا يا ابنة القوم
فاعلمي * يجاورني ألا يكون لي ستر بعيني عن جارات قومي غفلة * وفي السمع مني عن
حديثهم وقر قال: ليس البيتان في ديوانه.
وفي الشعر والشعراء نسب البيتان لمسكين الدارمي 1 / 530
ونسبه في الاغاني له في رواية ج 20 / 214 وفيه: ما ضر جارا لي أجاوره * ألا يكون
لبابه ستر
فلا الجود يفني المال قبل فنائه * ولا البخل في مال
الشحيح يزيد فلا تلتمس مالا بعيش مقتر * لكل غد رزق يعود جديد ألم تر أن المال غاد
ورائح * وان الذي يعطيك غير بعيد (1) قال القاضي أبو الفرج ولقد أحسن في قوله:
" وان الذي يعطيك غير بعيد
".
ولو كان مسلما لرجي له الخير في معاده وقد قال الله في
كتابه: (واسألوا الله من فضله) [ النساء: 32 ].
وقال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة
الداع إذا دعاني) [ البقرة: 186
].
وعن الوضاح بن معبد الطائي قال: وفد حاتم الطائي على
النعمان بن المنذر فأكرمه وأدناه ثم زوده عند انصرافه جملين ذهبا وورقا غير ما
أعطاه من طرائف بلده فرحل، فلما أشرف على أهله تلقته أعاريب طئ.
فقالت: يا حاتم أتيت من عند الملك وأتينا من عند أهالينا
بالفقر ! فقال حاتم: هلم فخذوا ما بين يدي فتوزعوه.
فوثبوا إلى ما بين يديه من حباء النعمان فاقتسموه.
فخرجت إلى حاتم طريفة جاريته، فقالت له: اتق الله وابق
على نفسك، فما يدع هؤلاء دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا.
فأنشأ يقول: قالت طريفة ما تبقى دراهمنا * وما بنا سرف
فيها ولا خرق إن يفن ما عندنا فالله يرزقنا * ممن سوانا ولسنا نحن نرتزق ما يألف
الدرهم الكاري خرقتنا * إلا يمر عليها ثم ينطلق إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا * ظلت
إلى سبل المعروف تستبق وقال أبو بكر بن عياش: قيل لحاتم هل في العرب أجود منك.
فقال: كل العرب أجود مني.
ثم أنشأ يحدث.
قال: نزلت على غلام من العرب يتيم ذات ليلة، وكانت له مائة من
الغنم، فذبح لي شاة منها وأتاني بها، فلما قرب إلي دماغها قلت: ما أطيب هذا الدماغ
! قال: فذهب فلم يزل يأتيني منه حتى قلت قد اكتفيت، فلما أصبحت إذا هو قد ذبح المائة
شاة وبقي لا شئ له ؟ فقيل فما صنعت به فقال: ومتى أبلغ شكره ولو صنعت به كل شئ.
قال: على كل حال فقال أعطيته مائة ناقة من خيار إبلي.
وقال محمد بن جعفر الخرائطي في كتاب " مكارم
الاخلاق " حدثنا العباس بن الفضل الربعي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثني حماد
الراوية ومشيخة من مشيخة طئ.
قالوا: كانت عنترة (2) بنت عفيف بن عمرو بن امرئ القيس
أم حاتم طئ لا تمسك شيئا سخاء وجودا
;
__________
(1) في البيت إقواء.
(2) كذا في الاصل، وفي مكارم الاخلاق غنية، وفي الشعر
والشعراء عنبة، وفي الاغاني ج 17 / 365 عتبة.
وكان اخوتها يمنعونها فتأبى وكانت امرأة موسرة فحبسوها
في بيت سنة يطعمونها قوتها لعلها تكف عما تصنع.
ثم اخرجوها بعد سنة وقد ظنوا أنها قد تركت ذلك الخلق
فدفعوا إليها صرمة (1) من مالها وقالوا استمتعي بها، فأتتها امرأة من هوازن وكانت
تغشاها فسألتها فقالت: دونك هذه الصرمة فقد والله مسني من الجوع ما آليت أن لا
أمنع سائلا ثم أنشأت تقول: لعمري لقدما عضني الجوع عضة * فآليت أن لا أمنع الدهر
جائعا فقولا لهذا اللائمي اليوم أعفني * وإن أنت لم تفعل فعض الاصابعا فماذا عساكم
أن تقولوا لاختكم * سوى عذلكم أو عذل من كان مانعا وماذا ترون اليوم إلا طبيعة *
فكيف بتركي يا بن امي الطبائعا (2) وقال الهيثم بن عدي عن ملحان بن عركي بن عدي بن
حاتم عن أبيه عن جده.
قال: شهدت حاتما يكيد (3) بنفسه، فقال لي: أي بني إني أعهد من
نفسي ثلاث خصال والله ما خاتلت جارة لريبة قط، ولا أوتمنت على أمانة إلا أديتها،
ولا أوتي أحد من قبلي بسوء.
وقال أبو بكر الخرائطي: حدثنا علي بن حرب، حدثنا عبد
الرحمن بن يحيى العدوي، حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبي مسكين - يعني
جعفر بن المحرر بن الوليد - عن المحرر (4) مولى أبي هريرة قال: مر نفر من عبد
القيس بقبر حاتم طيئ فنزلوا قريبا منه فقام إليه بعضهم يقال له أبو الخيبري فجعل
يركض قبره برجله.
ويقول: يا أبا جعد أقرنا.
فقال له بعض أصحابه: ما تخاطب من رمة (5) وقد بليت ؟
وأجنهم الليل فناموا، فقام صاحب القول فزعا يقول: يا قوم عليكم بمطيكم فإن حاتما
أتاني في النوم وأنشدني شعرا وقد حفظته يقول (6): أبا الخيبري وأنت امرؤ * ظلوم
العشيرة شتامها أتيت بصحبك تبغي القرى
* لدى حفرة قد صدت هامها أتبغي لي الذنب عند المبي * ت
وحولك طئ وانعامها
__________
(1) الصرمة: القطعة من الابل ما بين العشر إلى الثلاثين
أو إلى الخمسين والاربعين.
أو ما بين العشرة إلى الاربعين أو ما بين عشرة إلى بضع
عشرة (القاموس).
(2) في الديوان 42: ولا ما ترون إلا..طبائعا.
(3) يكيد بنفسه: يجود، وهو يحتضر.
(4) كذا في الاصل المحرر وفي الاغاني محرز، وفيه: الحديث
عن المحرز عن الوليد مولى أبي هريرة قال: سمعت محرز بن أبي هريرة (في التقريب محرر
بن أبي هريرة) ولم أجد للوليد ذكرا لا في التقريب أو في ثقات العجلي والكاشف.
(5) الرمة: العظم البالي والجمع رمم.
(6) الابيات في الاغاني ج 17 / 375 بتغيير في الالفاظ،
وفيه أن الذي أنشدها عدي بن حاتم، وهو من جاءه حاتم في النوم.
وإنا لنشبع أضيافنا * وتأتي المطي فنعتامها قال وإذا
ناقة صاحب القول تكوس (1) عقيرا فنحروها وقاموا يشتوون ويأكلون.
وقالوا والله لقد أضافنا حاتم حيا وميتا.
قال: وأصبح القوم واردفوا صاحبهم وساروا فإذا رجل ينوه
بهم راكبا جملا ويقود آخر.
فقال:
أيكم أبو الخيبري قال أنا قال إن حاتما أتاني في النوم
فأخبرني أنه قرى أصحابك ناقتك وأمرني آن أحملك وهذا بعير فخذه ودفعه إليه.
شئ من أخبار عبد الله بن جدعان هو عبد الله بن جدعان بن
عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة سيد بني تيم وهو ابن عم والد أبي بكر الصديق رضي
الله عنه.
وكان من الكرماء الاجواد في الجاهلية المطعمين للمسنتين
وكان في بدء أمره فقيرا مملقا وكان شريرا يكثر من الجنايات حتى أبغضه قومه وعشيرته
وأهله وقبيلته وأبغضوه حتى أبوه فخرج ذات يوم في شعاب مكة حائرا بائرا فرأى شقا في
جبل فظن أن يكون به شيئا يؤذي فقصده لعله يموت فيستريح مما هو فيه فلما اقترب منه
إذا ثعبان يخرج إليه ويثب عليه
فجعل يحيد عنه ويثب فلا يغني شيئا فلما دنا منه إذا هو
من ذهب وله عينان هما ياقوتتان فكسره وأخذه ودخل الغار فإذا فيه قبور لرجال من
ملوك جرهم ومنهم الحارث بن مضاض الذي طالت غيبته فلا يدري أين ذهب ووجد عند رؤوسهم
لوحا من ذهب فيه تاريخ وفاتهم ومدد ولايتهم وإذا عندهم من الجواهر واللآلئ والذهب
والفضة شئ كثير فأخذ منه حاجته ثم خرج وعلم باب الغار ثم انصرف، إلى قومه فأعطاهم
حتى أحبوه وسادهم وجعل يطعم الناس وكلما قل ما في يده ذهب إلى ذلك الغار فأخذ
حاجته ثم رجع فممن ذكر هذا عبد الملك بن هشام في كتاب " التيجان " وذكره
أحمد بن عمار في كتاب " ري العاطش وأنس الواحش " وكانت له جفنة يأكل
منها الراكب على بعيره ووقع فيها صغير فغرق.
وذكر ابن قتيبة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " لقد كنت استظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمي " (2) أي وقت
الظهيرة.
وفي حديث مقتل أبي جهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لاصحابه: " تطلبوه بين القتلى وتعرفوه بشجة في ركبته، فإني تزاحمت أنا وهو
على مأدبة لابن جدعان فدفعته فسقط على ركبته فانهشمت
__________
(1) كاس البعير: في القاموس: مشى على ثلاث قوائم وهو
معرقب.
وقال الزمخشري في الاساس أي قلب على رأسه.
(2) الصكة شدة الهاجرة، وتضاف إلى عمي، رجل من العمالقة
أغار على قومهم في الظهيرة فاجتاحهم.
قال الالوسي في بلوغ الارب: سميت الهاجرة صكة عمي لخبر
ذكره أبو حنيفة في الانواء وهو أن عميا رجل من عدوان، وقيل من إياد، وكان فقيها
فقدم في قومه معتمرا أو حاجا فلما كان على مرحلتين من مكة قال لقومه وهم في وسط
الظهيرة من أتى مكة غدا في مثل هذا الوقت كان له أجر عمرتين فصكوا الابل صكة شديدة
حتى أتوا مكة من الغداة.
فسميت الظهيرة صكة عمي.
1 / 89 - 90.
فأثرها باق في ركبته ".
فوجدوه كذلك.
وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق ويسقي اللبن حتى سمع
قول أمية بن أبي الصلت: ولقد رأيت الفاعلين وفعلهم * فرأيت أكرمهم بني الديان
البر يلبك بالشهاد طعامهم * لا ما يعللنا بنو جدعان
فأرسل ابن جدعان إلى الشام ألفي بعير [ وعادت ] تحمل البر والشهد والسمن، وجعل
مناديا ينادي كل ليلة على ظهر الكعبة أن هلموا إلى حفنة ابن جدعان.
فقال أمية في ذلك: له داع بمكة مشمعل * وآخر فوق كعبتها
ينادي (1) إلى ردح من الشيزى ملاء * لباب البر يلبك بالشهاد (2) ومع هذا كله فقد
ثبت في الصحيح لمسلم أن عائشة قالت:
يا رسول الله إن إبن جدعان كان يطعم الطعام ويقري الضيف
فهل ينفعه ذلك يوم القيامة ؟ فقال: " لا، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي
يوم الدين ".
امرؤ القيس بن حجر الكندي صاحب احدى المعلقات وهي أفخرهن
وأشهرهن التي أولها: * قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل * قال الامام أحمد: حدثنا هشام (3)
حدثنا أبو الجهم (4) عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار " وقد روى
هذا الحديث عن هشام جماعة كثيرون منهم بشر بن الحكم، والحسن بن عرفة، وعبد الله بن
هارون أمير المؤمنين المأمون أخو الامين ويحيى بن معين، وأخرجه ابن عدي من طريق
عبد الرزاق عن الزهري به وهذا منقطع وردئ من وجه آخر عن أبي هريرة ولا يصح من غير
هذا الوجه.
__________
(1) مشمعل: المبادر والمجتهد ; اشمعل القوم في الطلب إذا بادروا فيه
وتفرقوا والبيت في الاغاني وبلوغ الارب: وآخر فوق دارته ينادي (2) ردح جمع رداح
وهي الجفنة العظيمة قال الالوسي وهي سترة تكون في مؤخر البيت أو قطعة تزاد فيه
والرداح الخفيفة العظيمة.
والشيزي: خشب أسود تتخذ منه القصاع وروى الجوهري صدر
البيت هكذا: إلى ردح من الشيزى عليها (3) في المسند ج 2 / 228 هشيم بدل من هشام، وهو
هشيم بن بشير بن القاسم بن دينار، أبو معاوية السلمي
الواسطي توفي سنة 183 ه (التقريب - الكاشف) ثقة ثبت،
كثير التدليس.
(4) في المسند أبو الجهيم الواسطي.
وقال الحافظ ابن عساكر: هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث
بن عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن يعرب بن ثور بن مرتع بن
معاوية بن كندة.
أبو يزيد ويقال أبو وهب ويقال أبو الحارث الكندي.
كان بأعمال دمشق وقد ذكر مواضع منها في شعره فمن ذلك
قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل *
بسقط اللوى بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة لم يعف
رسمها * لما نسجتها من جنوب وشمال قال وهذه مواضع معروفة بحوران.
ثم روى من طريق هشام بن محمد بن السائب الكلبي حدثني
فروة بن سعيد بن عفيف بن معدي كرب عن أبيه عن جده.
قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل وفد من
اليمن فقالوا يا رسول الله لقد أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس.
قال: وكيف ذاك ؟ قالوا أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض
الطريق اخطأنا الطريق فمكثنا ثلاثا لا نقدر على الماء فتفرقنا إلى أصول طلح وسمر
ليموت كل رجل منا في ظل شجرة فبينا نحن بآخر رمق إذا راكب يوضع على بعير فلما رآه
بعضنا قال والراكب يسمع: ولما رأت أن الشريعة همها * وان البياض من فرائضها دامي
(1) تيممت العين التي عند ضارج * يفئ عليها الظل عرمضها طامي (2) فقال الراكب: ومن
يقول هذا الشعر وقد رأى ما بنا من الجهد ؟ قال قلنا امرؤ القيس بن حجر قال: والله ما كذب هذا
ضارج عندكم فنظرنا فإذا بيننا وبين الماء نحو من خمسين ذراعا فحبونا إليه على
الركب فإذا هو كما قال امرؤ القيس عليه العرمض يفئ عليه الظل فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " ذاك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة، شريف في الدنيا
خامل في الآخرة، بيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار " (3).
وذكر الكلبي: أن امرأ القيس أقبل براياته يريد قتال بني
أسد حين قتلوا أباه فمر بتبالة (4) وبها ذو الخلصة وهو صنم وكانت العرب تستقسم
عنده فاستقسم فخرج القدح الناهي ثم الثانية ثم الثالثة كذلك فكسر القداح وضرب بها
وجه ذي الخلصة وقال عضضت بأير أبيك لو كان أبوك المقتول لما عوقتني.
ثم أغار على بني أسد فقتلهم قتلا ذريعا قال ابن الكلبي:
فلم يستقسم عند ذي الخلصة حتى جاء الاسلام.
وذكر بعضهم أنه امتدح قيصر ملك الروم يستنجده في بعض
__________
(1) الشريعة: مشرعة الماء.
(2) ضارج: موضع ببلاد عبس.
(3) القصة في الشعر والشعراء 1 / 58 وما بعدها وعيون
الاخبار 1 / 143 - 144 والاغاني 7 / 123.
(4) تبالة: موضع ببلاد اليمن بينها وبين مكة 52 فرسخا
ومعجم البلدان 2 / 10.
الحروب ويسترفده فلم يجد ما يؤمله عنده فهجاه بعد ذلك
فيقال إنه سقاه سما فقتله فالجأه الموت إلى جنب قبر امرأة عند جبل يقال له عسيب
فكتب هنالك: أجارتنا إن المزار قريب * وإني مقيم ما اقام عسيب (1) أجارتنا إنا
غريبان ههنا * وكل غريب للغريب نسيب وذكروا أن المعلقات السبع كانت معلقة
بالكعبة، وذلك أن العرب كانوا إذا عمل أحدهم قصيدة عرضها على قريش فإن أجازوها
علقوها على الكعبة تعظيما لشأنها فاجتمع من ذلك هذه المعلقات السبع فالاولى لامرئ القيس
بن حجر الكندي كما تقدم وأولها: ققا نبك من ذكرى حبيب ومنزل * بسقط اللوى بين
الدخول فحومل والثانية للنابغة الذبياني: واسمه زياد بن معاوية ويقال زياد بن عمرو
بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض
وأولها: يا دار مية بالعلياء فالسند * أقوت وطال عليها سالف الابد والثالثة لزهير
بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني وأولها:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم * بحومانة الدراج فالمتثلم (2) والرابعة لطرفة
بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن
علي بن بكر بن وائل وأولها: لخولة أطلال ببرقة ثهمد * تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
والخامسة لعنترة بن شداد بن معاوية بن قراد بن مخزوم بن ربيعة بن مالك بن غالب بن
قطيعة بن عبس العبسي وأولها: هل غادر الشعراء من متردم * أم هل عرفت الدار بعد
توهم والسادسة لعلقمة بن عبدة بن النعمان بن قيس أحد بني تميم وأولها: طحا بك قلب
في الحسان طروب * بعيد الشباب عصر حان مشيب
__________
(1) عسيب: جبل بعالية نجد.
وامرؤ القيس بالاجماع مات مسموما بأنقرة في طريق بلد
الروم ; وقد ذكر في أنقرة.
معجم البلدان 4 / 124 - 125.
(2) المتثلم: جبل في بلاد بني مرة معجم البلدان ج 5 / 53.
والسابعة -
ومنهم من لا يثبتها في المعلقات وهو قول الاصمعي وغيره -
وهي للبيد بن ربيعة ابن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية
بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر وأولها: عفت الديار محلها
فمقامها * بمنى تأبد غولها فرجامها فأما القصيدة التي لا يعرف قائلها فيما ذكره
أبو عبيدة والاصمعي والمبرد وغيرهم فهي قوله: هل بالطلول لسائل رد * أم هل لها
بتكلم عهد وهي مطولة وفيها معان حسنة كثيرة.
أخبار أمية بن أبي الصلت الثقفي
قال الحافظ ابن عساكر: هو أمية بن أبي الصلت عبد الله بن
أبي ربيعة بن عوف (1) بن عقدة بن عزة (2) بن عوف بن ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن
أبو عثمان ويقال أبو الحكم الثقفي شاعر جاهلي قدم دمشق قبل الاسلام وقيل إنه كان مستقيما
(3) وإنه كان في أول أمره على الايمان ثم زاغ عنه وإنه هو الذي أراده الله تعالى
بقوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من
الغاوين) (4).
قال الزبير بن بكار: فولدت رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف
أمية الشاعر ابن أبي الصلت واسم أبي الصلت ربيعة بن وهب بن علاج بن أبي سلمة بن
ثقيف وقال غيره كان أبوه من الشعراء المشهورين بالطائف وكان أمية أشعرهم.
وقال عبد الرزاق قال الثوري: أخبرني حبيب بن أبي ثابت أن عبد الله
بن عمرو قال في قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها
فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين)
هو أمية بن أبي الصلت وكذا رواه أبو بكر بن مردويه عن
أبي بكر الشافعي عن معاذ بن المثنى عن مسدد عن أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير عن
نافع بن عاصم بن مسعود.
قال: إني لفي حلقة فيها عبد الله بن عمرو فقرأ رجل من
القوم الآية التي في الاعراف: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا
__________
(1) في الاغاني: ابن عمرو.
(2) في الاغاني: عنزة وفي الاصابة غيرة.
(3) في ابن عساكر: ويقال إنه كان نبيا.
(4) سورة الاعراف الآية 175.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص وزيد بن أسلم: نزلت في
أمية، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت، وتمنى أن يكون هو
ذلك الرسول ; ولما أرسل الله محمد صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به.
وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آمن شعره وكفر
قلبه.
وقيل غير ذلك القرطبي 7 / 320.
فانسلخ منها) فقال هل تدرون من هو ؟ فقال بعضهم: هو صيفي
بن الراهب.
وقال آخر: بل
هو بلعم رجل من بني إسرائيل فقال لا ! قال فمن ؟ قال هو
أمية بن أبي الصلت وهكذا قال أبو صالح والكلبي وحكاه قتادة عن بعضهم.
وقال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا عبد الله
بن شبيب الربعي حدثنا محمد بن مسلمة بن هشام المخزومي حدثنا اسماعيل بن الطريح بن
اسماعيل الثقفي حدثني أبي عن أبيه عن مروان بن الحكم عن معاوية بن أبي سفيان عن
أبيه.
قال: خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت الثقفي تجارا إلى الشام فكلما
نزلنا منزلا أخذ أمية سفرا له يقرأه علينا فكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى
النصارى فجاؤوه واكرموه واهدوا له وذهب معهم إلى بيوتهم ثم رجع في وسط النهار فطرح
ثوبيه وأخذ ثوبين له أسودين فلبسهما وقال لي هل لك يا أبا سفيان في عالم من علماء
النصارى إليه يتناهى علم الكتاب تسأله.
قلت: لا إرب لي فيه والله لئن حدثني بما أحب لا أثق به
ولئن حدثني بما أكره لاجدن منه.
قال فذهب وخالفه شيخ من النصارى فدخل علي فقال ما يمنعك
أن تذهب إلى هذا الشيخ قلت لست على دينه قال وإن فإنك تسمع منه عجبا وتراه.
ثم قال لي أثقفي أنت ؟ قلت لا ولكن قرشي ؟ قال فما يمنعك
من الشيخ فوالله إنه ليحبكم ويوصي بكم.
قال فخرج من عندنا ومكث أمية عندهم حتى جاءنا بعد هدأة من
الليل فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح كئيبا حزينا
ساقطا غبوقه على صبوحه ما يكلمنا ولا نكلمه.
ثم قال: ألا ترحل.
قلت وهل بك من رحيل ؟ قال نعم ! فرحلنا فسرنا بذلك
ليلتين ثم قال في الليلة الثالثة: لا تحدث يا أبا سفيان قلت وهل بك من حديث والله
ما رأيت مثل الذي رجعت به من عند صاحبك قال أما إن ذلك لشئ لست فيه إنما ذلك لشئ
وجلت منه من منقلبي قلت وهل لك من منقلب.
قال: أي والله لاموتن ثم لاحيين قال قلت هل أنت قابل أمانتي
قال على ماذا ؟ قلت على أنك لا تبعث ولا تحاسب قال فضحك ثم قال: بلى ! والله يا أبا
سفيان لنبعثن ثم لنحاسبن وليدخلن فريق الجنة وفريق النار.
قلت: ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك قال لا علم لصاحبي بذلك
لا في ولا في نفسه.
قال فكنا في ذلك ليلتين يعجب مني وأضحك منه حتى قدمنا
غوطة دمشق فبعنا متاعنا وأقمنا بها شهرين فارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى
فلما رأوه جاؤوه
واهدوا له وذهب معهم إلى بيعتهم فما جاء إلا بعد منتصف
النهار فلبس ثوبيه وذهب إليهم حتى جاء بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ورمى بنفسه
على فراشه فوالله ما نام ولا قام وأصبح حزينا كئيبا لا يكلمنا ولا نكلمه.
ثم قال: ألا ترحل ؟ قلت: بلى إن شئت.
فرحلنا كذلك في بثه وحزنه ليالي.
ثم قال لي: يا أبا سفيان هل لك في المسير لنتقدم أصحابنا
قلت هل لك فيه قال نعم ! فسرنا حتى برزنا من أصحابنا ساعة ثم قال: هيا صخر.
فقلت: ما تشاء ؟ قال حدثني عن عتبة بن ربيعة أيجتنب
المظالم والمجارم قلت: إي والله قال: ويصل الرحم ويأمر بصلتها.
قلت إي والله ! قال وكريم الطرفين وسط في العشيرة قلت
نعم ! قال فهل تعلم قرشيا أشرف منه ؟ قلت
لا والله لا أعلم قال أمحوج هو قلت لا بل هو ذو مال كثير
قال وكم أتى عليه من السن فقلت قد زاد على المائة قال فالشرف والسن والمال أزرين
به قلت ولم ذاك يزري به لا والله بل يزيده خيرا قال هو ذاك.
هل لك في المبيت قلت لي فيه قال فاضطجعنا حتى مر الثقل
قال فسرنا حتى نزلنا في المنزل وبتنا به ثم ارتحلنا منه فلما كان الليل قال لي يا
أبا سفيان قلت ما تشاء قال هل لك في مثل البارحة قلت هل لك فيه قال: نعم فسرنا على
ناقتين بختيتين حتى إذا برزنا قال: هيا صخر، هيه عن عتبة بن ربيعة قال قلت هبها
فيه قال أيجتنب المحارم والمظالم ويصل الرحم ويأمر بصلتها قلت إي والله إنه ليفعل
قال وذو مال قلت وذو مال قال أتعلم قرشيا أسود منه قلت: لا والله ما أعلم ؟ قال كم
أتى له من السن قلت قد زاد على المائة قال فإن السن والشرف والمال أزرين به قلت
كلا والله ما أزرى به ذلك وأنت قائل شيئا فقله.
قال لا تذكر حديثي يأتي منه ما هو آت ثم قال فإن الذي
رأيت أصابني أني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء ثم قلت أخبرني عن هذا النبي الذي
ينتظر قال هو رجل من العرب قلت قد علمت أنه من العرب فمن أي العرب هو قال من أهل
بيت تحجه العرب قلت وفينا بيت تحجه العرب قال هو من إخوانكم من قريش فأصابني والله
شئ ما أصابني مثله قط وخرج من يدي فوز الدنيا والآخرة وكنت أرجو أن أكون إياه قلت
فإذا كان ما كان فصفه لي قال رجل شاب حين دخل في الكهولة.
بدو أمره يجتنب المظالم والمحارم ويصل الرحم ويأمر
بصلتها وهو محوج كريم الطرفين متوسط في العشيرة أكثر
جنده من الملائكة قلت وما آية ذلك قال قد رجفت الشام منذ هلك عيسى بن مريم عليه
السلام ثمانين رجفة كلها فيها مصيبة وبقيت رجفة عامة فيها مصائب.
قال أبو سفيان: فقلت هذا والله الباطل لئن بعث الله
رسولا لا يأخذه إلا مسنا شريفا.
قال أمية: والذي حلفت به إن هذا لهكذا يا أبا سفيان تقول
إن قول النصراني حق.
هل لك في المبيت ؟ قلت نعم لي فيه قال فبتنا حتى جاءنا
الثقل ثم خرجنا حتى إذا كان بيننا وبين مكة مرحلتان ليلتان أدركنا راكب من خلفنا
فسألناه فإذا هو يقول أصابت أهل الشام بعدكم رجفة دمرت أهلها وأصابتهم فيها مصائب
عظيمة.
قال أبو سفيان فأقبل على أمية فقال كيف ترى قول النصراني
يا أبا سفيان قلت أرى وأظن والله إن ما حدثك به صاحبك حق قال أبو سفيان فقدمنا مكة
فقضيت ما كان معي ثم انطلقت حتى جئت اليمن تاجرا فكنت بها خمسة أشهر ثم قدمت مكة
فبينا أنا في منزلي جاءني الناس يسلمون علي ويسألون عن بضائعهم حتى جاءني محمد بن عبد
الله وهند عندي تلاعب صبيانها فسلم علي ورحب بي وسألني عن سفري ومقامي ولم يسألني
عن بضاعته ثم قام.
فقلت: لهند والله إنه هذا ليعجبني ما من أحد من قريش له
معي بضاعة إلا وقد سألني عنها وما سألني هذا عن بضاعته.
فقالت لي هند أو ما علمت شأنه فقلت وأنا فزع ما شأنه
قالت يزعم أنه رسول الله فوقذتني وتذكرت قول النصراني فرجفت حتى قالت لي هند مالك
؟ فانتبهت فقلت إن هذا لهو الباطل لهو أعقل من أن يقول هذا قالت بلى والله إنه
ليقولن ذلك ويدعو إليه وإن له لصحابة على دينه قلت هذا هو الباطل قال وخرجت فبينا
أنا أصرف بالبيت
إذ بي قد لقيته فقلت له إن بضاعتك قد بلغت كذا وكذا وكان
فيها خير فأرسل من يأخذها ولست آخذ منك فيها ما آخذ من قومي فأبى علي.
وقال إذن لا آخذها قلت فأرسل فخذها وأنا آخذ منك مثل ما
آخذ من قومي فأرسل إلى بضاعته فأخذها وأخذت منه ما كنت آخذ من غيره.
قال أبو سفيان: فلم أنشب أن خرجت إلى اليمن ثم قدمت
الطائف فنزلت على أمية بن أبي الصلت فقال لي يا أبا سفيان ما تشاء هل تذكر قول
النصراني فقلت أذكره وقد كان فقال: ومن ؟ قلت محمد بن
عبد الله قال ابن عبد المطلب قلت ابن عبد المطلب ثم قصصت
عليه خبر هند قال فالله يعلم ؟ وأخذ يتصبب عرقا.
ثم قال: والله يا أبا سفيان لعله.
إن صفته لهي ولئن ظهر وأنا حي لاطلبن من الله عزوجل في
نصره عذرا قال: ومضيت إلى اليمن فلم أنشب أن جاءني هنالك استهلاله وأقبلت حتى نزلت
على أمية بن أبي الصلت بالطائف فقلت يا أبا عثمان قد كان من أمر الرجل ما قد بلغك وسمعته
فقال قد كان لعمري قلت فأين أنت منه يا أبا عثمان فقال والله ما كنت لاومن برسول
من غير ثقيف أبدا قال أبو سفيان وأقبلت إلى مكة فوالله ما أنا ببعيد حتى جئت مكة
فوجدت أصحابه يضربون ويحقرون قال أبو سفيان فجعلت أقول فأين جنده من الملائكة قال
فدخلني ما يدخل الناس من النفاسة وقد رواه الحافظ البيهقي في كتاب الدلائل من حديث
اسماعيل بن طريح به ولكن سياق الطبراني الذي أوردناه أتم وأطول والله أعلم.
وقال الطبراني: حدثنا بكر بن أحمد بن نفيل حدثنا عبد
الله بن شبيب حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثنا مجامع بن عمرو الاسدي حدثنا ليث بن
سعد عن أبي الاسود محمد بن عبد الرحمن عن عروة بن الزبير عن معاوية بن أبي سفيان
عن أبي سفيان بن حرب أن أمية بن أبي الصلت كان بغزة أو بايلياء فلما قفلنا قال لي
أمية يا أبا سفيان هل لك أن تتقدم على الرفقة فنتحدث قلت نعم ! قال ففعلنا فقال لي
يا أبا سفيان إيه عن عتبة بن ربيعة قلت: كريم الطرفين ويجتنب المحارم والمظالم قلت
نعم قال وشريف مسن قلت وشريف مسن قال السن والشرف ازريا به فقلت له كذبت ما ازداد سنا
إلا ازداد شرفا قال يا أبا سفيان إنها كلمة ما سمعت أحدا يقولها لي منذ تبصرت فلا
تعجل علي حتى أخبرك قال قلت هات قال: إني كنت أجد في كتبي نبيا يبعث من حرتنا هذه
فكنت أظن بل كنت لا أشك إني أنا هو فلما دارست أهل العلم إذا هو من بني عبد مناف
فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحدا يصلح لهذا الامر غير عتبة بن ربيعة فلما
أخبرتني بسنه عرفت أنه ليس به حين جاوز الاربعين ولم يوح إليه قال أبو سفيان فضرب
الدهر ضربه فأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت في ركب من قريش أريد
اليمن في تجارة فمررت بأمية فقلت له كالمستهزئ به يا أمية قد خرج النبي الذي كنت
تنعته قال أما إنه حق فاتبعه قلت ما يمنعك من
اتباعه قال ما يمنعني إلا الاستحياء من نساء ثقيف إني
كنت أحدثهن أني هو ثم يرينني تابعا لغلام من بني عبد مناف ثم قال أمية كأني بك يا
أبا سفيان قد خالفته ثم قد ربطت كما يربط الجدي حتى يؤتى بك إليه فيحكم فيك بما
يريد.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الكلبي قال بينا أمية
راقد ومعه ابنتان له إذ فزعت إحداهما فصاحت عليه فقال لها ما شأنك قالت رأيت نسرين
كشطا سقف البيت فنزل أحدهما إليك فشق بطنك والآخر واقف على ظهر البيت فناداه فقال
أوعى قال نعم قال أزكى قال لا فقال ذاك خير أريد بأبيكما فلم يفعله وقد روى من وجه
آخر بسياق آخر فقال إسحاق بن بشر عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعثمان
بن عبد الرحمن عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال قدمت الفارعة أخت أمية بن أبي
الصلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة وكانت ذات لب وعقل وجمال وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم بها معجبا فقال لها ذات يوم يا فارعة هل تحفظين من
شعر أخيك شيئا فقالت نعم وأعجب من ذلك ما قد رأيت قالت كان أخي في سفر فلما انصرف
بدأني فدخل علي فرقد على سريري وأنا أحلق أديما في يدي إذ أقبل طائران أبيضان أو
كالطيرين أبيضين فوقع على الكوة أحدهما ودخل الآخر فوقع عليه فشق الواقع عليه ما
بين قصه إلى عانته ثم أدخل يده في جوفه فأخرجه قلبه فوضعه في كفه ثم شمه فقال له
الطائر الآخر أوعى قال وعى قال أزكى قال أبي ثم رد القلب إلى مكانه فالتأم الجرح
أسرع من طرفة عين ثم ذهبا فلما رأيت ذلك دنوت منه فحركته فقلت هل تجد شيئا.
قال: لا إلا توهينا في جسدي - وقد كنت ارتعبت مما رأيت -
فقال مالي أراكي مرتاعة.
قالت فأخبرته الخبر فقال خير أريد بي ثم صرف عني ثم انشأ
يقول: باتت همومي تسري طوارقها * اكف عيني والدمع سابقها ما أتاني من اليقين ولم *
أوت براة يقص ناطقها أم من تلظى عليه واقدة الن * نار محيط بهم سرادقها أم أسكن
الجنة التي وعد ال * أبرار مصفوفة نمارقها
لا يستوي المنزلان ثم ولا ال * أعمال لا تستوي طرائقها هما فريقان
فرقة تدخل الجن * نة حفت بهم حدائقها وفرقة منهم قد أدخلت ال * نار فساءتهم
مرافقها تعاهدت هذه القلوب إذا * همت بخير عاقت عوائقها وصدها للشقاء عن طلب ال *
جنة دينا الله ما حقها عبد دعا نفسه فعاتبها * يعلم أن البصير رامقها ما رغب النفس
في الحياة وان * تحيى قليلا فالموت لاحقها يوشك من فر من منيته * يوما على غرة
يوافقها إن لم تمت غبطة تمت هرما * للموت كأس والمرء ذائقها قال ثم انصرف إلى رحله
فلم يلبث إلا يسيرا حتى طعن في حيارته فأتاني الخبر فانصرفت إليه فوجدته منعوشا قد
سجى عليه فدنوت منه فشهق شهقة وشق بصره ونظر نحو السقف ورفع صوته.
وقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، لا ذو مال
فيفديني ولا ذو أهل فتحميني.
ثم أغمي
عليه إذ شهق شهقة فقلت قد هلك الرجل.
فشق بصره نحو السقف فرفع صوته.
فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، لا ذو براءة
فاعتذر، ولا ذو عشيرة فانتصر.
ثم أغمي عليه إذ شهق شهقة وشق بصره ونظر نحو السلف.
فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، بالنعم محفود
وبالذنب محصود، ثم أغمي عليه إذ شهق شهقة.
فقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما.
إن تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك لا ألما ثم أغمي
عليه إذ شهق شهقة فقال: كل عيش وان تطاول دهرا * صائر مرة (2) إلى أن يزولا ليتني كنت
قبل ما قد بدا لي * في قلال الجبال أرعى الوعولا قالت: ثم مات.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا فارعة إن
مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته
فانسلخ منها
".
الآية وقد تكلم الخطابي على غريب هذا الحديث.
وروى الحافظ ابن عساكر عن الزهري أنه قال قال أمة بن أبي
الصلت: ألا رسول لنا منا يخبرنا * ما بعد غايتنا من رأس مجرانا قال ثم خرج أمية بن
أبي الصلت إلى البحرين وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام أمية بالبحرين
ثماني سنين ثم قدم الطائف فقال لهم: ما يقول محمد بن عبد الله قالوا يزعم أنه نبي
هو الذي كنت تتمنى.
قال: فخرج حتى قدم عليه مكة فلقيه.
فقال: يابن عبد المطلب ما هذا الذي تقول قال أقول: إني
رسول الله وأن لا إله إلا هو.
قال: إني أريد أن أكلمك فعدني غدا قال فموعدك غدا قال فتحب أن آتيك
وحدي أو في جماعة من أصحابي وتأتيني وحدك أو في جماعة من أصحابك فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم أي ذلك شئت قال فإني آتيك في جماعة فأت في جماعة قال فلما كان
الغد غدا أمية في جماعة من قريش قال وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم معه نفر من
أصحابه حتى جلسوا في ظل الكعبة.
قال: فبدأ أمية فخطب ثم سجع ثم أنشد الشعر حتى إذا فرغ
الشعر قال أجبني يابن عبد المطلب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بسم الله الرحمن
الرحيم.
يسن والقرآن الحكيم) حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر
رجليه قال فتبعته قريش يقولون ما تقول يا أمية قال أشهد أنه على الحق.
فقالوا:
هل تتبعه قال حتى أنظر في أمره قال ثم خرج أمية إلى
الشام وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلما قتل أهل بدر قدم أمية من
الشام حتى نزل بدرا ثم ترحل يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل: يا أبا
الصلت ما تريد ؟ قال أريد محمدا قال وما تصنع ؟ قال أو من به والقى إليه مقاليد هذا
الامر قال: أتدري من في القليب ؟ قال لا قال: فيه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة،
وهما ابنا خالك - وأمه ربيعة بنت عبد شمس - قال فجدع أذني ناقته وقطع ذنبها ثم وقف
على القليب يقول: ماذا ببدر فالعقن * - قل من مرازبة جحاجح القصيدة إلى آخرها كما
سيأتي ذكرها بتمامها في قصة بدر إن شاء الله.
ثم رجع إلى مكة
والطائف وترك الاسلام.
ثم ذكر قصة الطيرين وقصة وفاته كما تقدم وأنشد شعره عند
الوفاة:
كل عيش وإن تطاول دهرا * صائر مرة إلى أن يزولا ليتني
كنت قبل ما قد بدا لي * في قلال الجبال أرعى الوعولا فاجعل الموت نصب عينيك واحذر *
غولة الدهر إن للدهر غولا نائلا ظفرها القساور والصد * عان والطفل في المنار
الشكيلا وبغاث النياف واليعفر النا * فر والعوهج البرام الضئيلا فقوله: القساور
جمع قسورة وهو الاسد.
والصدعان ثيران الوحش واحدها صدع والطفل الشكل من حمرة
العين، والبغاث الرخم، والنياف الجبال، واليعفر الظبي، والعوهج ولد النعامة.
يعني أن الموت لا ينجو منه الوحوش في البراري ولا الرخم
الساكنة في رؤوس الجبال ولا يترك صغيرا لصغره ولا كبيرا لكبره.
وقد تكلم الخطابي وغيره على غريب هذه الاحاديث وقد ذكر
السهيلي في كتابه التعريف والاعلام: أن أمية بن أبي الصلت أول من قال باسمك اللهم،
وذكر عند ذلك قصة غريبة وهو أنهم خرجوا في جماعة من قريش في سفر فيهم حرب بن أمية والد
أبي سفيان قال فمروا في مسيرهم بحية فقتلوها فلما أمسوا جاءتهم امرأة من الجان
فعاتبتهم في قتل تلك الحية ومعها قضيب فضربت به الارض ضربة نفرت الابل عن آخرها
فذهبت وشردت كل مذهب وقاموا فلم يزالوا في طلبها حتى ردوها فلما اجتمعوا جاءتهم
أيضا فضربت الارض بقضيبها فنفرت الابل فذهبوا في طلبها فلما أعياهم ذلك قالوا
والله هل عندك لما نحن فيه من مخرج فقال لا والله ولكن سأنظر في ذلك قال فساروا في
تلك المحلة لعلهم يجدون أحدا يسألونه عما قد حل بهم من العناء إذا نار تلوح على
بعد فجاؤوها فإذا شيخ على باب خيمة يوقد نارا وإذا هو من الجان في غاية الضآلة
والدمامة فسلموا عليه فسألهم عما هم فيه فقال إذا جاءتكم فقل بسمك اللهم فإنها
تهرب فلما اجتمعوا وجاءتهم الثالثة أو الرابعة قال في وجهها أمية بسمك اللهم فشردت
ولم يقر لها قرار لكن عدت الجن على حرب بن أمية فقتلوه بتلك الحية فتبره أصحابه هنالك
حيث لا جار ولا دار ففي ذلك يقول الجان: وقبر حرب بمكان قفر * وليس قرب قبر حرب
قبر
وذكر بعضهم: أنه كان يتفرس في بعض الاحيان في لغات الحيوانات
فكان يمر في السفر على الطير فيقول لاصحابه: إن هذا يقول كذا وكذا فيقولون لا نعلم
صدق ما يقول حتى مروا على قطيع غنم قد انقطعت منه شاة ومعها ولدها فالتفتت إليه
فثغت كأنها تستحثه.
فقال: أتدرون ما تقول له قالوا لا قال إنها تقول أسرع
بنا لا يجئ الذئب فيأكلك كما أكل الذئب أخاك عام أول فاسرعوا حتى سألوا الراعي هل
أكل له الذئب عام أول حملا بتلك البقعة فقال نعم.
قال: ومر يوما على بعير عليه امرأة راكبة وهو يرفع رأسه
إليها ويرغو.
فقال: إنه يقول لها إنك رحلتيني وفي
الحداجة مخيط فانزلوا تلك المرأة وحلوا ذلك الرحل فإذا
فيه مخيط كما قال.
وذكر ابن السكيت: أن أمية بن أبي الصلت بينما هو يشرب
يوما إذ نعب غراب.
فقال: له بفيك التراب مرتين.
فقيل له ما يقول ؟ فقال: إنه يقول إنك تشرب هذا الكأس
الذي في يدك ثم تموت.
ثم نعب الغراب فقال إنه يقول وآية ذلك أني أنزل على هذه
المزبلة فآكل منها فيعلق عظم في حلقي فأموت.
ثم نزل الغراب على تلك المزبلة فأكل شيئا فعلق في حلقه
عظم فمات.
فقال: أمية أما هذا فقد صدق في نفسه ولكن سأنظر هل صدق
في أم لا ثم شرب ذلك الكأس الذي في يده ثم اتكأ فمات.
وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن مهدي عن الثوري عن عبد
الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن
أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: * ألا كل شئ ما خلا الله باطل * وكاد أمية بن أبي
الصلت أن يسلم.
فقال الامام أحمد: حدثنا روح حدثنا زكريا بن إسحاق حدثنا
إبراهيم بن ميسرة أنه سمع عمرو بن الشريد يقول قال الشريد كنت ردفا لرسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال لي: أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت شئ ؟ قلت نعم ! قال فانشدني
فانشدته بيتا فلم يزل يقول لي كلما أنشدته بيتا أيه حتى أنشدته مائة بيت قال ثم
سكت النبي صلى الله عليه وسلم وسكت.
وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة عن أبي تميم بن
ميسرة به.
ومن غير وجه عن عمرو بن الشريد عن أبيه الشريد بن سويد
الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعض الروايات فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " أن كاد يسلم
".
وقال يحيى بن محمد بن صاعد حدثنا إبراهيم بن سعيد
الجوهري حدثنا أبو أسامة حدثنا حاتم بن أبي صفرة عن سماك بن حرب عن عمرو بن نافع
عن الشريد الهمداني وأخواله ثقيف قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
حجة الوداع فبينا أنا أمشي ذات يوم إذا وقع ناقة خلفي فإذا رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال الشريد فقلت نعم: قال ألا أحملك قلت بلى وما من إعياء ولكني أردت
البركة في ركوبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأناخ فحملني فقال: أمعك من شعر
أمية بن أبي الصلت ؟ قلت نعم ! قال هات فأنشدته قال أظنه قال مائة بيت فقال عند
الله علم أمية بن أبي الصلت: ثم قال ابن صاعد هذا حديث غريب فأما الذي يروي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أمية: " آمن شعره وكفر قلبه " فلا
أعرفه والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد - هو أبو بكر
بن أبي شيبة - حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عكرمة
عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق أمية في شئ من شعره قال:
زحل وثور تحت رجل يمينه * والنسر للاخرى وليث مرصد
والشمس تبدو كل آخر ليلة * حمراء يصبح لونها يتورد تأبى فما تطلع لنا في رسلها *
إلا معذبة وإلا تجلد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق.
وفي رواية أبي بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال
إن الشمس لا تطلع حتى ينخسها سبعون ألف ملك يقول لها اطلعي اطلعي فتقول لا أطلع
على قوم يعبدونني من دون الله فإذا همت بالطلوع أتاها شيطان يريد أن يثبطها فتطلع
بين قرنيه وتحرقه فإذا تضيفت للغروب عزمت لله عزوجل فيأتيها شيطان يريد أن يثبطها
عن السجود فتغرب من
قرنيه وتحرقه.
أورده ابن عساكر مطولا.
ومن شعره في حملة العرش: فمن حامل إحدى قوائم عرشه *
ولولا إله الخلق كلوا وأبلدوا قيام على الاقدام عانون تحته * فرائصهم من شدة الخوف
ترعد رواه ابن عساكر وروى عن الاصمعي أنه كان ينشد من شعر أمية: مجدوا الله فهو
للمجد أهل * ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الاعلى الذي سبق الن * ناس وسوى فوق
السماء سريرا شرجعا [ ما ] يناله بصر العي * - ن ترى دونه الملائك صورا ثم يقول
الاصمعي: الملائك جمع ملك والصور جمع أصور وهو المائل العنق وهؤلاء حملة العرش.
ومن شعر أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان التيمي:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني * حياؤك إن شيمتك الحياء وعلمك بالحقوق وأنت فرع * لك
الحسب المهذب والسناء كريم لا يغيره صباح * عن الخلق الجميل ولا مساء يباري الريح
مكرمة وجودا * إذا ما الكلب أحجره الشتاء وأرضك أرض مكرمة بنتها * بنو تيم وأنت
لها سماء إذا أثنى عليك المرء يوما * كفاه من تعرضه الثناء وله فيه مدائح أخر.
وقد كان عبد الله بن جدعان هذا من الكرماء الاجواد
الممحدين المشهورين وكان له جفنة يأكل الراكب منها وهو على بعيره من عرض حافتها
وكثرة طعامها، وكان يملاها لباب البر يلبك بالشهد والسمن، وكان يعتق الرقاب ويعين
على النوائب وقد سألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم أينفعه ذلك ؟ فقال إنه لم
يقل يوما من الدهر (رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) ومن شعر أمية البديع: لا ينكثون
الارض عند سؤالهم * كتطلب العلات بالعيدان بل يسفرون وجوههم فترى لها * عند السؤال
كأحسن الالوان
ج8. كتاب :البداية والنهاية
الامام الحافظ ابي الفداء اسماعيل بن كثير الدمشقي
وإذا المقل أقام وسط رحالهم * ردوه رب صواهل وقيان وإذا
دعوتهم لكل ملمة * سدوا شماع الشمس بالفرسان آخر ترجمة أمية بن أبي الصلت.
بحيرا الراهب الذي توسم في رسول الله صلى الله عليه وسلم
النبوة وهو مع عمه أبي طالب حين قدم الشام في تجار من أهل مكة وعمره إذا ذاك اثنتي
(1) عشرة سنة فرأى الغمامة تظله من بينهم.
فصنع لهم طعاما ضيافة واستدعاهم كما سيأتي بيان ذلك في
السيرة وقد روى الترمذي في ذلك حديثا بسطنا الكلام عليه هنالك وقد أورد له الحافظ
ابن عساكر شواهد وسائغات في ترجمة بحيرا ولم يورد ما رواه الترمذي وهذا عجب وذكر
ابن عساكر أن بحيرا كان يسكن قرية يقال لها الكفر بينها وبين بصرى ستة أميال وهي
التي يقال لها (دير بحيرا) قال ويقال:
إنه كان يسكن قرية يقال لها منفعة بالبلقاء وراء زيرا
والله أعلم.
ذكر قس بن ساعدة الايادي قال الحافظ أبو بكر محمد بن
جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب " هواتف الجان ": حدثنا داود القنطري،
حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني أبو عبد الله المشرقي، عن أبي الحارث الوراق، عن
ثور بن يزيد، عن مورق العجلي، عن عبادة بن الصامت.
قال: لما قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " يا معشر وفد إياد ما فعل قس بن ساعدة الايادي ".
قالوا: هلك يا رسول الله.
قال: " لقد شهدته يوما بسوق عكاظ على جمل أحمر
يتكلم بكلام معجب مونق لا أجدني أحفظه
".
فقام إليه أعرابي من أقاصي القوم فقال: أنا أحفظه يارسول
الله.
قال: فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: " فكان بسوق عكاظ
على جمل أحمر وهو يقول: يا معشر الناس اجتمعوا فكل من فات فات، وكل شئ آت آت، ليل
داج، وسماء ذات أبراج، وبحر عجاج، نجوم تزهر، وجبال مرسية، وأنهار مجرية، إن في السماء
لخبرا، وإن في الارض لعبرا، مالي أرى
الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالاقامة فأقاموا، أم
تركوا فناموا.
أقسم قس بالله قسما لا ريب فيه.
إن لله دينا هو أرضى من دينكم هذا ثم أنشأ يقول: في
الذاهبين الاولي * ن من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا * للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها * يمضي الاصاغر والاكابر لا من مضى يأتي الي * ك ولا من الباقين
غابر أيقنت أني لا محا * لة حيث صار القوم صائر وهذا إسناد غريب من هذا الوجه وقد
رواه الطبراني من وجه آخر فقال في كتابه " المعجم
__________
(1) في الاصل اثني وهو خطأ.
الكبير ":
حدثنا محمد بن السري بن مهران بن الناقد البغدادي، حدثنا
محمد بن حسان السهمي، حدثنا محمد بن الحجاج، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس.
قال: قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: " أيكم يعرف القس بن ساعدة الايادي ".
قالوا: كلنا يعرفه يا رسول الله.
قال:
" فما فعل " ؟ قالوا: هلك، قال: فما أنساه
بعكاظ في الشهر الحرام وهو على جمل أحمر وهو يخطب الناس وهو يقول: يا أيها الناس
اجتمعوا واستمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت.
إن في السماء لخبرا، وإن في الارض لعبرا، مهاد موضوع، وسقف
مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور.
وأقسم قس قسما حقا لئن كان في الامر رضي ليكون بعده سخط.
إن لله لدينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه.
مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون.
أرضوا بالمقام فأقاموا.
أم تركوا فناموا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفيكم من يروي شعره
؟ فأنشده بعضهم: في الذاهبين الاولي * - ن من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا *
للموت ليس ما مصادر
ورأيت قومي نحوها * يسعي الاصاغر والاكابر لا يرجع
الماضي إلي * ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا * لة حيث صار القوم صائر وهكذا
أورده الحافظ البيهقي في كتابه دلائل النبوة من طريق محمد بن حسان السلمي به.
وهكذا رويناه في الجزء الذي جمعه الاستاذ أبو محمد عبد
الله بن جعفر بن درستويه في أخبار قس قال حدثنا عبد الكريم بن الهيثم الدير عاقولي
عن سعيد بن شبيب، عن محمد بن الحجاج، عن إبراهيم الواسطي نزيل بغداد، ويعرف بصاحب
الفريسة.
وقد كذبه يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي والدارقطني
واتهمه غير واحد منهم ابن عدي بوضع الحديث.
وقد رواه البزار وأبو نعيم من حديث محمد بن الحجاج هذا
ورواه ابن درستويه وأبو نعيم من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وهذه
الطريق أمثل من التي قبلها وفيه: إن أبا بكر هو الذي أورد القصة بكمالها نظمها
ونثرها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث أحمد
بن موسى بن إسحاق الحطمي.
حدثنا علي بن الحسين بن محمد المخزومي حدثنا أبو حاتم السجستاني
حدثنا وهب بن جرير عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس.
قال قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال لهم: " ما فعل حليف لكم يقال له قس بن ساعدة الايادي " وذكر القصة
مطولة.
وأخبرنا الشيخ المسند الرحلة أحمد بن أبي طالب الحجار إجازة
إن لم يكن سماعا قال أجاز لنا جعفر بن علي الهمداني قال أخبرنا الحافظ أبو طاهر
أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السلفي سماعا وقرأت على شيخنا الحافظ أبي عبد
الله الذهبي أخبرنا أبو علي الحسن بن علي بن أبي بكر الخلال سماعا قال أنا جعفر بن
علي سماعا قال أنا السلفي سماعا
أنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي أنا
أبو الفضل محمد بن أحمد بن عيسى السعدي أنا أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن علي
المقرئ حدثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي قال حدثنا إسماعيل بن
إبراهيم بن أحمد السعدي - قاضي فارس - حدثنا أبو داود
سليمان بن سيف بن يحيى بن درهم الطائي من أهل حران حدثنا
أبو عمرو سعيد بن يربع عن محمد بن إسحاق حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم عن الحسن
بن أبي الحسن البصري أنه قال: كان الجارود بن المعلى بن حنش بن معلى العبدي
نصرانيا حسن المعرفة بتفسير الكتب وتأويلها عالما بسير الفرس وأقاويلها بصيرا
بالفلسفة والطب ظاهر الدهاء والادب كامل الجمال ذا ثروة ومال وأنه قدم على النبي
صلى الله عليه وسلم وافدا في رجال من عبد القيس ذوي اراء وأسنان وفصاحة وبيان وحجج
وبرهان فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وقف بين يديه وأشار إليه وأنشأ يقول:
يا نبي الهدى أتتك رجال * قطعت فدفدا وآلا فآلا وطوت نحوك الصحاصح تهوى * لا تعد
الكلال فيك كلالا كل بهماء قصر الطرف عنها * أرقلتها قلاصنا ارقالا وطوتها العتاق
يجمح فيها * بكماة كأنجم تتلألأ تبتغي دفع بأس يوم عظيم * هائل أوجع القلوب وهالا
ومزادا لمحشر الخلق طرا * وفراقا لمن تمادى ضلالا نحو نور من الاله وبرها * ن وبر
ونعمة أن تنالا خصك الله يا بن آمنة الخ * - ير بها إذ أتت سجالا سجالا فاجعل الحظ
منك يا حجة الل * ه جزيلا لاحظ خلف أحالا قال فأدناه النبي صلى الله عليه وسلم
وقرب مجلسه وقال له.
يا جارود لقد تأخر الموعود بك وبقومك.
فقال الجارود: فداك أبي وأمي أما من تأخر عنك فقد فاته
حظه وتلك أعظم حوبة وأغلظ عقوبة وما كنت فيمن رآك أو سمع بك فعداك واتبع سواك وإني
الآن على دين قد علمت به قد جئتك وها أنا تاركه لدينك أفذلك مما يمحص الذنوب
والمآثم والحوب ؟ ويرضى الرب عن المربوب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا ضامن لك ذلك
واخلص الآن لله بالوحدانية ودع عنك دين النصرانية.
فنال الجارود: فداك أبي وأمي مد يدك فأنا أشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنك محمد عبده ورسوله.
قال: فأسلم وأسلم معه أناس من قومه فسر النبي صلى الله
عليه وسلم بإسلامهم، وأظهر من
إكرامهم ما سروا به وابتهجوا به.
ثم أقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أفيكم
من يعرف قس بن ساعدة الايادي فقال الجارود فداك أبي وأمي كلنا نعرفه وإني من بينهم
لعالم بخبره واقف على أمره كان قس يارسول الله سبطا من أسباط العرب عمر ستمائة سنة
تقفز منها خمسة أعمار في البراري والقفار يضج بالتسبيح على مثال المسيح لا يقره
قرار ولا تكنه دار ولا يستمتع به جار.
كان يلبس الامساح ويفوق السياح، ولا يفتر من رهبانيته
يتحسى في سياحته بيض النعام ويأنس بالهوام،
ويستمتع بالظلام، يبصر فيعتبر، ويفكر فيختبر، فصار لذلك
واحدا تضرب بحكمته الامثال، وتكشف به الاهوال.
أدرك رأس الحواريين سمعان، وهو أول رجل تأله من العرب
ووحد، وأقر وتعبد، وأيقن بالبعث والحساب، وحذر سوء المآب، وأمر بالعمل قبل الفوت،
ووعظ بالموت وسلم بالقضاء، على السخط والرضا، وزار القبور، وذكر النشور، وندب
بالاشعار، وفكر في الاقدار، وأنبأ عن السماء والنماء، وذكر النجوم وكشف الماء،
ووصف البحار، وعرف الآثار، وخطب راكبا، ووعظ دائبا، وحذر من الكرب، ومن شدة الغضب،
ورسل الرسائل، وذكر كل هائل، وأرغم في خطبه، وبين في كتبه، وخوف الدهر، وحذر
الازر، وعظم الامر، وجنب الكفر، وشوق إلى الحنيفية، ودعا إلى اللاهوتية.
وهو القائل في يوم عكاظ.
شرق وغرب، ويتم وحزب، وسلم وحرب، ويابس ورطب، وأجاج
وعذب، وشموس وأقمار، ورياح وأمطار، وليل ونهار، وأناث وذكور، وبرار وبحور، وحب ونبات،
وآباء وأمهات، وجمع واشتات، وآيات في إثرها آيات، ونور وظلام، ويسر وإعدام، ورب
وأصنام، لقد ضل الانام، نشو مولود، ووأد مفقود، وتربية محصود، وفقير وغني، ومحسن
ومسئ، تبا لارباب الغفلة، ليصلحن العامل عمله، وليفقدن الآمل أمله، كلا بل هو إله
واحد، ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وأمات وأحيا، وخلق الذكر والانثى، رب
الآخرة والاولى.
أما بعد: فيا معشر إياد، أين ثمود وعاد ؟ وأين الآباء
والاجداد ؟ وأين العليل والعواد ؟ كل له معاد يقسم قس برب العباد، وساطح المهاد، لتحشرن
على الانفراد، في يوم التناد، إذا نفخ في الصور، ونقر في
الناقور، وأشرقت الارض، ووعظ الواعظ، فانتبذ القانط
وأبصر اللاحظ، فويل لمن صدف عن الحق الاشهر، والنور الازهر، والعرض الاكبر، في يوم
الفصل، وميزان العدل، إذا حكم القدير، وشهد النذير، وبعد النصير، وظهر التقصير،
ففريق في الجنة وفريق في السعير.
وهو القائل: ذكر القلب من جواه ادكار * وليال خلالهن نهار
وسجال هو اطل من غمام * ثرن ماء وفي جواهن نار ضوءها يطمس العيون وأرعا * دشداد في
الخافقين تطار وقصور مشيدة حوت الخ * - ير وأخرى خلت بهن قفار وجبال شوامخ راسيات
* وبحار مياههن غزار ونجوم تلوح في ظلم اللي * - ل نراها في كل يوم تدار ثم شمس
يحثها قمر اللي * - ل وكل متابع موار وصغير وأشمط وكبير * كلهم في الصعيد يوما
مزار وكبير مما يقصر عنه * حدسه الخاطر الذي لا يحار فالذي قد ذكرت دل على الل * ه
نفوسا لها هدى واعتبار
قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهما نسيت فلست
أنساه بسوق عكاظ، واقفا على جمل أحمر يخطب الناس: اجتمعوا فاسمعوا، وإذا سمعتم
فعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، وقولوا وإذا قلتم فاصدقوا، من عاش مات، ومن مات فات،
ولك ما هو آت آت، مطر ونبات، واحياء وأموات، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر،
وبحار تزخر، وضوء وظلام، وليل وأيام، وبر وآثام، إن في السماء خبرا، وإن في الارض
عبرا، يحار فيهن البصرا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تغور، وبحار لا تفور،
ومنايا دوان، ودهر خوان، كحد النسطاس، ووزن القسطاس.
اقسم قس قسما، لا كاذبا فيه ولا آثما، لئن كان في هذا
الامر
رضي، ليكونن سخط.
ثم قال: أيها الناس إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم
هذا الذي أنتم عليه وهذا زمانه وأوانه.
ثم قال مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، ارضوا بالمقام
فأقاموا ؟ أم تركوا فناموا.
والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى بعض أصحابه
فقال: أيكم يروي شعره لنا ؟ فقال أبو بكر الصديق: فداك أبي وأمي أنا شاهد له في
ذلك اليوم حيث يقول: في الذاهبين الاولي * - ن من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا
* للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها * يمضي الاصاغر والاكابر لا يرجع الماض
إلي * ي ولا من الباقين غابر أيقنت أني لا محا * لة حيث صار القوم صائر قال: فقام إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخ من عبد القيس عظيم الهامة، طويل القامة، بعيد ما
بين المنكبين فقال: فداك أبي وأمي وأنا رأيت من قس عجبا.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الذي رأيت يا
أخا بني عبد القيس ؟ فقال: خرجت في شبيبتي أربع بعيرا لي فدعني أقفو أثره في تنائف
قفاف ذات ضغابيس وعرصات جثجاث بين صدور جذعان، وغمير حوذان، ومهمه ظلمان، ورصيع ليهقان،
فبينا أنا في تلك القلوات أجول بسبسبها وأرنق فدفدها إذا أنا بهضبة في نشزاتها
أراك كباث مخضوضلة واغصانها متهدلة كأن بريرها حب الفلفل وبواسق اقحوان، وإذا بعين
خرارة وروضة مدهامة، وشجرة عارمة، وإذا أنا بقس بن ساعدة في أصل تلك الشجرة وبيده
قضيب.
فدنوت منه وقلت له: أنعم صباحا ! فقال: وأنت فنعم صباحك ! وقد وردت
العين سباع كثيرة فكان كلما ذهب سبع منها يشرب من العين قبل صاحبه ضربه قس بالقضيب
الذي بيده.
وقال: اصبر حتى يشرب الذي قبلك فذعرت من ذلك ذعرا شديدا،
ونظر إلي فقال لا تخف.
وإذا بقبرين بينهما مسجد فقلت ما هذان ؟ القبران ؟ قال
قبر أخوين كانا يعبدان الله عز وجل بهذا الموضع فأنا مقيم بين قبريهما عبد الله
حتى الحق بهما.
فقلت له: أفلا تلحق بقومك فتكون معهم في خيرهم وتبيانهم
على شرهم ؟ فقال لي: ثكلتك أمك أو ما علمت أن ولد
إسماعيل تركوا دين أبيهم واتبعوا الاضداد وعظموا الانداد
ثم أقبل على القبرين وانشأ يقول:
خليلي هبا طالما قد رقدتما * أجد كما لا تقضيان كراكما
أرى النوم بين الجلد والعظم منكما * كأن الذي يسقي العقار سقاكما أمن طول نوم لا
تجيبان داعيا * كأن الذي يسقي العقار سقاكما ألم تعلما أني بنجران مفردا *
ومالي فيه من حبيب سواكما مقيم على قبريكما لست بارحا * إياب الليالي أو يجيب صداكما
أأبكيكما طول الحياة وما الذي * يرد على ذي لوعة أن بكاكما فلو جعلت نفس لنفس أمرئ
فدى * لجدت بنفسي أن تكون فداكما كأنكما والموت أقرب غاية * بروحي في قبريكما قد أتاكما قال فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله قسا أما إنه سيبعث يوم القيامة أمة واحدة.
وهذا الحديث غريب جدا من هذا الوجه وهو مرسل إلا أن يكون
الحسن سمعه من الجارود والله أعلم.
وقد رواه البيهقي: والحافظ أبو القاسم بن عساكر من وجه
آخر من حديث محمد بن عيسى ابن محمد بن سعيد القرشي الاخباري ثنا أبي ثنا علي بن
سليمان بن علي عن علي بن عبد الله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
قال: قدم الجارود بن عبد الله فذكر مثله أو نحوه مطولا
بزيادات كثيرة في نظمه ونثره، وفيه ما ذكره عن الذي ضل بعيره فذهب في طلبه قال فبت
في واد لا آمن فيه حتفي، ولا أركن إلى غير سيفي، أرقب الكوكب، وأرمق الغيهب، حتى
إذا الليل عسعس، وكاد الصبح أن يتنفس، هتف بي هاتف يقول: يا أيها الراقد في الليل الاجم
* قد بعث الله نبيا في الحرم من هاشم أهل الوفاء والكرم * يجلو دجيات الدياجي
والبهم قال فأدرت طرفي فما رأيت له شخصا ولا سمعت له فحصا، قال فأنشأت أقول: يا
أيها الهاتف في داجي الظلم * أهلا وسهلا بك من طيف ألم
بين هداك الله في لحن الكلم * ماذا الذي تدعو إليه يغتنم
قال فإذا أنا بنحنحة وقائلا يقول: ظهر النور، وبطل الزور، وبعث الله محمدا بالحبور
صاحب النجيب الاحمر، والتاج والمغفر، والوجه الازهر، والحاجب الاقمر، والطرف
الاحور، صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله وذلك محمد المبعوث إلى الاسود والابيض أهل
المدر والوبر ثم أنشأ يقول: الحمد لله الذي * لم يخلق الخلق عبث لم يخلنا يوما سدى
* من بعد عيسى واكترث أرسل فينا أحمدا * خير نبي قد بعث صلى عليه الله ما * حج له
ركب وحث
وفيه من إنشاء قس بن ساعدة: يا ناعى الموت والملحود في
جدث * عليهم من بقايا قولهم خرق دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم * فهم إذا انتبهوا من
نومهم أرقوا حتى يعودوا بحال غير حالهم * خلقا جديدا كما من قبله خلقوا منهم عراة
ومنهم في ثيابهم * منها الجديد ومنها المنهج الخلق ثم رواه البيهقي عن محمد بن عبد
الله بن يوسف بن أحمد الاصبهاني.
حدثنا أبو بكر أحمد بن سعيد بن فرضخ الاخميمي بمكة ثنا القاسم
بن عبد الله بن مهدي ثنا أبو عبيد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ثنا سفيان بن
عيينة عن أبي حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
فذكر القصة وذكر الانشاد قال فوجد واعبد رأسه صحيفة
فيها: يا ناعي الموت والاموات في جدث * عليهم من بقايا نومهم خرق دعهم فإن لهم
يوما يصاح بهم * كما تنبه من نوماته الصعق منهم عراة وموتى في ثيابهم * منها
الجديد ومنها الازرق الخلق
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق لقد
آمن قس بالبعث.
وأصله مشهور وهذه الطرق على ضعفها كالمتعاضدة على إثبات
أصل القصة وقد تكلم أبو محمد بن درستويه على غريب ما وقع في هذا الحديث وأكثره
ظاهر إن شاء الله تعالى وما كان فيه غرابة شديدة نبهنا عليه في الحواشي.
وقال البيهقي:
أنا أبو سعيد بن محمد بن أحمد الشعيثي ثنا أبو عمرو بن
أبي طاهر المحمدي آباذي لفظا ثنا أبو لبابة محمد بن المهدي الاموردي ثنا أبي ثنا
سعيد بن هبيرة ثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أنس بن مالك قال قدم وفد أياد على
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل قس بن ساعدة ! قالوا هلك.
قال أما إني سمعت منه كلاما أرى أني أحفظه فقال بعض
القوم نحن نحفظه يا رسول الله قال هاتوا: فقال قائلهم إني واقف بسوق عكاظ فقال: يا
أيها الناس استمعوا واسمعوا وعوا، كل من عاش مات، وكل من مات فات، وكل ما هو آت
آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرسية وأنها مجرية
إن في السماء لخبرا، وإن في الارض لعبرا، أرى الناس يموتون ولا يرجعون أرضوا
بالاقامة فأقاموا، أم تركوا فناموا، أقسم قس قسما بالله لا آثم فيه، إن لله دينا
هو أرضى مما أنتم عليه ثم أنشأ يقول: في الذاهبين الاول * ين من القرون لنا بصائر
لما رأيت مصارعا * للقوم ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها * يمضي الاكابر والاصاغر
أيقنت أني لا محا * لة حيث صار القوم صائر
ثم ساقه البيهقي من طرق أخر قد نبهنا عليها فيما تقدم ثم
قال بعد ذلك كله وقد روى هذا الحديث عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس بزيادة
ونقصان.
وروى من وجه آخر عن الحسن البصري منقطعا وروى مختصرا من
حديث سعد بن أبي وقاص وأبي هريرة.
قلت: وعبادة بن الصامت كما تقدم وعبد الله بن مسعود كما
رواه أبو نعيم في كتاب الدلائل عن
عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطي عن أبي الوليد طريف
بن عبيد الله مولى علي بن أبي طالب بالموصل عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبي
معاوية عن الاعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود فذكره.
وروى أبو نعيم أيضا حديث عبادة المتقدم وسعد بن أبي وقاص.
ثم قال البيهقي وإذا روى الحديث من أوجه أخر وإن كان
بعضها ضعيفا دل على أن للحديث أصلا والله أعلم.
زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه هو زيد بن عمرو بن
نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي
القرشي العدوي.
وكان الخطاب والد عمر بن الخطاب عمه وأخاه لامه وذلك لان
عمرو بن نفيل كان قد خلف على امرأة أبيه بعد أبيه، وكان لها من نفيل أخوه الخطاب
قاله الزبير بن بكار ومحمد بن إسحاق.
وكان زيد بن عمرو قد ترك عبادة الاوثان وفارق دينهم وكان
لا بأكل إلا ما ذبح على اسم الله وحده.
قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني هشام بن عروة
عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى
الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري.
ثم يقول: اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به
ولكني لا أعلم ثم يسجد على راحلته.
وكذا رواه أبو أسامة عن هشام به وزاد وكان يصلي إلى
الكعبة ويقول إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم.
وكان يحيى الموؤودة ويقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته
لا تقتلها ادفعها إلي أكفلها فإذا ترعرعت فإن شئت فخذها وإن شئت فادفعها.
أخرجه النسائي من طريق أبي أسامة وعلقه البخاري فقال: وقال
الليث كتب إلى هشام بن عروة عن أبيه به وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: وقد
كان نفر من قريش زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وعثمان بن
الحويرث بن أسد بن عبد العزى وعبد الله بن جحش بن رياب بن يعمر بن صبرة بن برة بن
كبير بن غنم بن دودان بن أسعد بن أسد بن خزيمة.
وأمه أميمة بنت عبد المطلب.
واخته زينب بنت جحش التى تزوجها رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعد مولاه زيد بن حارثة كما
سيأتي بيانه.
حضروا قريشا عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من
أعيادهم، فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى بعض وقالوا تصادقوا وليكتم بعضكم
على بعض.
فقال قائلهم تعلمن والله ما قومكم على شئ لقد أخطأوا دين
إبراهيم وخالفوه ما وثن يعبد ؟ لا يضر ولا ينفع فابتغوا لانفسكم فخرجوا يطلبون
ويسيرون في الارض يلتمسون أهل كتاب من اليهود والنصارى والملل
كلها.
الحنيفية دين إبراهيم، فلما ورقة بن نوفل فتنصر واستحكم
في النصرانية وابتغى الكتب من أهلها حتى علم علما كثيرا من أهل الكتاب ولم يكن
فيهم أعدل أمرا واعدل ثباتا من زيد بن عمرو بن نفيل اعتزل الاوثان وفارق الاديان
من اليهود والنصارى والملل كلها إلا دين الحنيفية دين إبراهيم يوحد الله ويخلع من دونه
ولا يأكل ذبائح قومه فإذا هم بالفراق لما هم فيه.
قال: وكان الخطاب قد آذاه أذى كثيرا حتى خرج منه إلى
أعلى مكة ووكل به الخطاب شبابا من قريش وسفهاء من سفهائهم فقال لا تتركوه يدخل
فكان لا يدخلها إلا سرا منهم فإذا علموا به أخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم
دينهم أو يتابعه أحد إلى ما هو عليه.
وقال موسى بن عقبة سمعت من أرضى يحدث عن زيد بن عمرو بن
نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت
لها من الارض لم تذبحوها على غير اسم الله.
انكارا لذلك وإعظاما له ؟ وقال يونس عن ابن إسحاق وقد
كان زيد بن عمرو بن نفيل قد عزم على الخروج من مكة فضرب في الارض يطلب الحنيفية
دين إبراهيم وكانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما أبصرته قد نهض للخروج وأراده آدنت
الخطاب بن نفيل فخرج زيد إلى الشام يلتمس ويطلب في أهل الكتاب الاول دين إبراهيم
ويسأل عنه ولم يزل في ذلك فيما يزعمون حتى أتى الموصل والجزيرة كلها ثم أقبل حتى
أتى الشام فجال فيها حتى أتى راهبا ببيعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية
فيما يزعمون فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم فقال له الراهب إنك لتسأل عن دين ما
أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، لقد درس من علمه وذهب من كان يعرفه، ولكنه قد أظل
خروج نبي وهذا زمانه.
وقد كان شام اليهودية والنصرانية فلم يرض شيئا منها فخرج
سريعا حين قال له الراهب ما
قال يريد مكة حتى إذا كان بأرض لخم عدوا عليه فقتلوه
فقال ورقة يرثيه: رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما * تجنبت تنورا من النار حاميا بدينك
ربا ليس رب كمثله * وتركك أوثان الطواغي كماهيا وقد تدرك الانسان رحمة ربه * ولو
كان تحت الارض ستينا واديا وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: حدثنا أحمد بن طارق الوابشي
ثنا عمرو بن عطية عن أبيه عن ابن عمر عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يتأله في
الجاهلية فانطلق حتى أتى رجلا من اليهود فقال له أحب أن تدخلني معك في دينك.
فقال له اليهودي لا أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من
غضب الله.
فقال من غضب الله أفر.
فانطلق حتى أتى نصرانيا فقال له أحب أن تدخلني معك في
دينك، فقال لست أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من الضلالة.
فقال من الضلالة أفر.
قال له النصراني فإني أدلك على دين إن تبعته اهتديت.
قال أي دين ؟ قال دين إبراهيم قال فقال اللهم إني أشهدك
أني على دين إبراهيم عليه أحيى وعليه أموت.
قال فذكر شأنه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: هو أمة
وحده يوم القيامة.
وقد روى موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر نحو هذا وقال
محمد بن سعد حدثنا علي بن محمد بن عبد الله بن سيف القرشي عن اسماعيل عن مجالد
عن الشعبي عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قل قال زيد بن
عمرو بن نفيل: شاممت اليهودية والنصرانية فكرهتهما فكنت بالشام وما والاها حتى
أتيت راهبا في صومعة فذكرت له اغترابي عن قومي وكراهتي عبادة الاوثان واليهودية والنصرانية.
فقال له: أراك تريد دين إبراهيم يا أخا أهل مكة إنك
لتطلب دينا ما يوجد اليوم (أحد يدين) به وهو دين أبيك إبراهيم كان حنيفا لم يكن يهوديا
ولا نصرانيا كان يصلي ويسجد إلى هذا البيت الذي ببلادك فالحق ببلدك فإن الله يبعث
من قومك في بلدك من يأتي بدين إبراهيم الحنيفية وهو أكرم الخلق على الله.
وقال يونس عن ابن إسحاق حدثني بعض آل زيد بن عمرو بن نفيل:
إن زيدا كان إذا دخل الكعبة قال لبيك حقا حقا، تعبدا ورقا، عذت بما عاذ به إبراهيم
وهو قائم، إذ قال إلهي أنفي لك عان راغم، مهما
تجشمني فإني جاشم، البر أبغي لا انحال، ليس مهجر كمن قال.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي.
عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي
عن أبيه عن جده أن زيد بن عمرو وورقة بن نوفل خرجا يلتمسان الدين حتى انتهيا إلى
راهب بالموصل، فقال لزيد بن عمرو من أين أقبلت يا صاحب البعير ؟ فقال من بنية إبراهيم،
فقال وما تلتمس قال ألتمس الدين قال ارجع فإنه يوشك أن يظهر في أرضك.
قال: فأما ورقة فتنصر وأما أنا فعزمت على النصرانية فلم
يوافقني فرجع وهو يقول: لبيك حقا حقا * تعبدا ورقا البر أبغي لا انحال * فهل مهجر كمن
قال آمنت بما آمن به إبراهيم وهو يقول: انفي لك عان راغم، مهما تجشمني فإني جاشم،
ثم يخر فيسجد قال وجاء ابنه يعني سعيد بن زيد أحد العشرة رضي الله عنه فقال: يا
رسول الله إن أبي كما رأيت وكما بلغك فاستغفر له، قال نعم فإنه يبعث يوم القيامة
أمة واحدة.
قال وأتى زيد بن عمرو بن زيد على رسول الله صلى الله
عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة وهما يأكلان من سفرة لهما، فدعواه لطعامهما فقال زيد
بن عمرو: يا بن أخي أنا لا آكل مما ذبح على النصب.
وقال محمد بن سعد حدثنا محمد بن عمرو حدثني أبو بكر بن
أبي سبرة عن موسى بن ميسرة عن ابن أبي مليكة عن حجر بن أبي أهاب.
قال: رأيت زيد بن عمرو وأنا عند صنم بوانة بعدما رجع من الشام وهو
يراقب الشمس فإذا زالت استقبل للكعبة فصلى ركعة سجدتين ثم يقول هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل
لا أعبد حجرا ولا أصلي له ولا آكل ما ذبح له ولا استقسم الازلام وإنا أصلي لهذا
البيت حتى أموت.
وكان يحج فيقف بعرفة، وكان يلبي فيقول: لبيك لا شريك لك
ولا ند لك ثم يدفعه من عرفة ماشيا وهو يقول لبيك متعبدا مرقوقا.
وقال الواقدي: حدثني علي بن عيسى الحكمي عن أبيه عن عامر
بن ربيعة قال سمعت زيد ابن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل ثم
من بني عبد المطلب ولا أراني أدركه وأنا أو من به وأصدقه وأشهد أنه نبي فان طالت
بك مدة فرأيته فاقرئه مني السلام وسأخبرك
ما نعته حتى لا يخفى عليك قلت: هلم ! قال: هو رجل ليس
بالطويل ولا بالقصير ولا بكثير الشعر ولا بقليله وليست تفارق عينه حمرة وخاتم
النبوة بين كتفيه واسمه أحمد وهذا البلد مولده ومبعثه ثم يخرجه قومه منها ويكرهون
ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه فإني طفت البلاد كلها
أطلب دين إبراهيم فكان من اسأل من اليهود والنصارى والمجوس يقولون هذا الدين وراءك
وينعتونه مثل ما نعته لك ويقولون لم يبق نبي غيره.
قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت رسول الله صلى الله
عليه وسلم قول زيد بن عمرو وأقرائه منه السلام فرد عليه السلام وترحم عليه وقال قد
رأيته في الجنة يسحب ذيولا.
وقال البخاري في صحيحه: ذكر زيد بن عمرو بن نفيل.
حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا فضيل بن سليمان حدثنا موسى
بن عقبة حدثني سالم عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن
عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي فقدمت
إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة فأبى أن يأكل منها.
ثم قال زيد إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل
إلا ما ذكر اسم الله عليه وأن زيد بن عمرو يعيب على قريش ذبائحهم ويقول الشاة
خلقها الله وأنزل لها من السماء ماء وأنبت لها من الارض ثم يذبحونها على غير اسم
الله انكارا لذلك وإعظاما له.
قال موسى بن عقبة: وحدثني سالم بن عبد الله ولا أعلمه
إلا يحدث به عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين
ويتبعه فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم فقال إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني،
فقال إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله قال زيد وما أفر إلا من
غضب الله تعالى ولا أحمل من غضب الله شيئا ولا أستطيعه فهل تدلني على غيره ؟ قال
ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا قال زيد وما الحنيف ؟ قال دين إبراهيم عليه السلام لم
يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله فخرج زيد فلقي عالما من النصارى فذكر
مثله فقال لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من على غيره قال ما أعلمه إلا أن
تكون حنيفا قال وما الحنيف ؟ قال دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد
إلا الله فلما رأى زيد قولهم في
إبراهيم خرج فلما برز رفع يديه فقال اللهم إني أشهدك أني
على دين إبراهيم.
قال وقال الليث: كتب إلى هشام بن عروة عن أبيه عن اسماء
بنت أبي بكر قالت رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول يا
معشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري وكان يحيي الموؤودة يقول للرجل إذا
أراد أن يقتل ابنته لا تقتلها أنا أكفيك مؤنتها فيأخذها فإذا ترعرعت قال لابيها إن
شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤنتها انتهى ما ذكره البخاري.
وهذا الحديث الاخير قد أسنده الحافظ ابن عساكر من طريق
أبي بكر بن أبي داود عن عيسى بن حماد عن الليث عن هشام عن أبيه عن اسماء فذكر نحوه.
وقال عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه
عن أسماء قالت سمعت زيد بن عمرو بن نفيل وهو مسند ظهره إلى
الكعبة يقول: يا معشر قريش إياكم والزنا فإنه يورث الفقر.
وقد ساق ابن عساكر هاهنا أحاديث غريبة جدا وفي بعضها
نكارة شديدة.
ثم أورد من طرق متعددة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال: يبعث يوم القيامة أمة واحدة.
فمن ذلك ما رواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا يوسف
بن يعوقب الصفار حدثنا يحيى بن سعيد الاموي عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال سئل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يستقبل القبلة في
الجاهلية ويقول إلهي إله إبراهيم وديني دين إبراهيم ويسجد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحشر ذاك أمة وحده
بيني وبين عيسى بن مريم.
إسناده جيد حسن.
وقال الواقدي: حدثني موسى بن شيبة عن خارجة بن عبد الله
بن كعب بن مالك قال سمعت سعيد بن المسيب يذكر زيد بن عمرو بن نفيل فقال توفي وقريش
تبني الكعبة قبل أن ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، ولقد
نزل به وأنه ليقول أنا على دين إبراهيم فأسلم ابنه سعيد بن زيد واتبع رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأتى عمر بن الخطاب وسعيد بن زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسألاه عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال: غفر الله له ورحمه فإنه مات على دين إبراهيم
قال فكان المسلمون بعد ذلك اليوم لا يذكره ذاكر منهم إلا ترحم عليه واستغفر له، ثم
يقول سعيد بن المسيب رحمه الله وغفر له.
وقال محمد بن سعد عن الواقدي حدثني زكريا بن يحيى السعدي
عن أبيه قال مات
زيد بن عمرو بن نفيل بمكة ودفن بأصل حراء، وقد تقدم أنه
مات بأرض البلقاء من الشام لما عدا عليه قوم من بني لخم فقتلوه بمكان يقال له
ميفعة والله أعلم.
وقال الباغندي عن أبي سعيد الاشج عن أبي معاوية عن هشام
عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخلت الجنة فرأيت لزيد
بن عمرو بن نفيل دوحتين.
وهذا إسناد جيد وليس هو في شئ من الكتب.
ومن شعر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله ما قدمناه في بدء
الخلق من تلك القصيدة: إلى الله أهدي مدحتي وثنائيا * وقولا رضيا لا يني الدهر
باقيا إلى الملك الاعلى الذي ليس فوقه * إله ولا رب يكون مدانيا وقد قيل إنها
لامية بن أبي الصلت والله أعلم.
ومن شعره في التوحيد ما حكاه محمد بن إسحاق والزبير بن
بكار وغيرهما: وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الارض تحمل صخرا ثقالا دحاها فلما استوت
شدها * سواء وأرسى عليها الجبالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذبا
زلالا إذا هي سيقت إلى بلدة * أطاعت فصبت عليها سجالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له
الريح تصرف حالا فحالا وقال محمد بن إسحاق حدثني هشام بن عروة قال روي أبي أن زيد
بن عمرو قال:
أرب واحد أم ألف رب * أدين إذا تقسمت الامور عزلت اللات
والعزى جميعا * كذلك يفعل الجلد الصبور فلا العزى أدين ولا ابنتيها * ولا صنمي بني
عمرو أزور ولا غنما أدين وكان ربا
* لنا في الدهر إذ حلمي يسير عجبت وفي الليالي معجبات *
وفي الايام يعرفها البصير
بأن الله قد أفنى رجالا * كثيرا كان شأنهم الفجور وابقى
آخرين ببر قوم * فيربل منهم الطفل الصغير وبينا المرء يعثر ثاب يوما * كما يتروح الغصن
النضير ولكن أ عبد الرحمن ربي * ليغفر ذنبي الرب الغفور فتقوى الله ربكم احفظوها *
متى ما تحفظوها لا تبوروا ترى الابرار دارهم جنان * وللكفار حامية سعير وخزي في
الحياة وإن يموتوا * يلاقوا ما تضيق به الصدور هذا تمام ما ذكره محمد بن إسحاق من
هذه القصيدة.
وقد رواه أبو القاسم البغوي عن مصعب بن عبد الله عن
الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال قال هشام بن عروة عن أبيه عن
أسماء بنت أبي بكر قالت قال زيد بن عمرو بن نفيل: عزلت الجن والجنان عني * كذلك
يفعل الجلد الصبور فلا العزى أدين ولا ابنتيها * ولا صنمي بني طسم أدير ولا غنما
أدين وكان ربا * لنا في الدهر إذ حلمي صغير أربا واحدا أم ألف رب * أدين إذا تقسمت
الامور ألم تعلم بأن الله أفنى * رجالا كان شأنهم الفجور وابقى آخرين ببر قوم *
فيربو منهم الطفل الصغير وبينا المرء يعثر ثاب يوما * كما يتروح الغصن النضير قالت
فقال ورقة بن نوفل: رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما * تجنبت تنورا من النار حاميا
لدينك ربا ليس ربا كمثله * وتركك جنان الجبال كما هيا أقول إذا أهبطت أرضا مخوفة *
حنانيك لا تظهر علي الاعاديا حنانيك أن الجن كانت رجاءهم * وأنت إلهي ربنا ورجائيا
لتدركن المرء رحمة ربه * وإن كان تحت الارض سبعين واديا
أدين لرب يستجيب ولا أرى * أدين لمن لا يسمع الدهر واعيا أقول إذا صليت في كل بيعة
* تباركت قد أكثرت باسمك داعيا
تقدم أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام هو وورقة بن
نوفل وعثمان بن الحويرث وعبيد الله بن جحش فتنصروا إلا زيدا فإنه لم يدخل في شئ من
الاديان بل بقي على فطرته من عبادة الله وحده لا شريك له متبعا ما أمكنه من دين
إبراهيم على ما ذكرناه.
وأما ورقة بن نوفل فسيأتي خبره في أول المبعث.
وأما عثمان بن الحويرث فأقام بالشام حتى مات فيها عند
قيصر.
وله خبر عجيب ذكره الاموي ومختصره أنه لما قدم على قيصر
فشكى إليه ما لقي من قومه كتب له إلى ابن جفنة ملك عرب الشام ليجهز معه جيشا لحرب
قريش فعزم على ذلك فكتب إليه الاعراب تنهاه عن ذلك لما رأوا من عظمة مكة وكيف فعل
الله بأصحاب الفيل، فكساه ابن جفنة قميصا مصبوغا مسموما فمات من سمه فرثاه زيد بن
عمرو بن نفيل بشعر ذكره الاموي تركناه اختصارا وكانت وفاته قبل المبعث بثلاث سنين
أو نحوها والله سبحانه وتعالى أعلم.
شئ من الحوادث في زمن الفترة فمن ذلك بنيان الكعبة وقد
قيل: إن أول من بناه آدم وجاء في ذلك حديث مرفوع عن عبد الله بن عمرو وفي سنده ابن
لهيعة وهو ضعيف، وأقوى الاقوال أن أول من بناه الخليل عليه السلام.
كما تقدم وكذلك رواه سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن
علي بن أبي طالب قال: ثم تهدم فبنته العمالقة ثم تهدم فبنته جرهم ثم تهدم فبنته
قريش.
قلت: سيأتي بناء قريش له وذلك قبل المبعث بخمس سنين وقيل
بخمس عشرة سنة وقال الزهري كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ الحلم.
وسيأتي ذلك كله في موضعه إن شاء الله وبه الثقة.
كعب بن لؤي
روى أبو نعيم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة عن محمد بن
طلحة التيمي عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبي سلمة.
قال: كان كعب بن لؤي يجمع قومه يوم الجمعة وكانت قريش تسميه العروبة
فيخطبهم فيقول: أما بعد فأسمعوا وتعلموا، وافهموا واعلموا، ليل ساج، ونهار ضاح، والارض
مهاد، والسماء بناء، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام، والاولون كالآخرين، والانثى
والذكر والروح وما يهيج إلى بلى فصلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وثمروا أموالكم.
فهل رأيتم من هالك رجع ؟ أو ميت نشر ؟ الدار أمامكم،
والظن غير ما تقولون، حرمكم زينوه وعظموه، وتمسكوا به فسيأتي له نبأ عظيم ; وسيخرج
منه نبي كريم، ثم يقول: نهار وليل كل يوم بحادث * سواء علينا ليلها ونهارها يؤوبان
بالاحداث حتى تأوبا * وبالنعم الضافي علينا ستورها على غفلة يأتي النبي محمد *
فيخبر أخبارا صدوق خبيرها ثم يقول:
والله لو كنت فيها ذا سمع وبصر، ويد ورجل، لتنصبت فيها
تنصب الجمل،
ولارقلت بها إرقال العجل.
ثم يقول: يا ليتني شاهدا نجواء دعوته * حين العشيرة تبغي
الحق خذلانا قال وكان بين موت كعب بن لؤي ومبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
خمسمائة عام وستون سنة.
تجديد حفر زمزم على يدي عبد المطلب بن هاشم التي كان قد
درس رسمها بعد طم جرهم لها إلى زمانه.
قال محمد بن إسحاق: ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في
الحجر وكان أول ما ابتدى به عبد المطلب من حفرها كما حدثني يزيد بن أبي حبيب
المصري عن مرثد بن عبد الله المزني عن عبد الله بن رزين الغافقي أنه سمع علي بن
أبي طالب يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها.
قال قال عبد المطلب إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال
لي احفر طببة.
قال قلت وما طيبة ؟ قال ثم ذهب عني قال فلما كان الغد
رجعت إلى مضجعي فنمت فجاءني فقال احفر برة.
قال قلت وما برة ؟ قال ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت
إلى مضجعي فنمت فجاءني فقال احفر المضنونة قال قلت وما المضنونة ؟ قال ثم ذهب عني
فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني قال احفر زمزم.
قال قلت وما زمزم ؟ قال: لا تنزف أبدا ولا تزم، تسقي
الحجيج الاعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الاعصم، عند قرية النمل.
قال: فلما بين لي شأنها ودل على موضعها وعزف أنه قد صدق غدا بمعوله
ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب وليس له يومئذ ولد غيره فحفر فلما بدا لعبد المطلب
الطمى كبر فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته.
فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر ابينا
اسماعيل وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها.
قال: ما أنا بفاعل إن هذا الامر قد خصصت به دونكم
وأعطيته من بينكم قالوا له فانصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها.
قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه قالوا كاهنة بني سعد
بن هذيم قال: نعم وكانت بإشراف الشام فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أمية وركب
من كل قبيلة من قريش نفر فخرجوا والارض إذ ذاك مفاوز حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء
عبد المطلب وأصحابه فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم فأبوا عليهم
وقالوا إنا بمفازة وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم فقال عبد المطلب إني أرى أن
يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوة فكلما مات رجل دفعه أصحابه في
حفرته ثم واروه حتى يكون آخرهم رجلا واحدا فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه.
فقالوا: نعما أمرت به فحفر كل رجل لنفسه حفرة ثم قعدوا
ينتظرون الموت عطشى ثم إن عبد المطلب قال لاصحابه ألقينا بأيدينا هكذا للموت لا
نضرب في الارض لا نبتغي لانفسنا لعجز فعسى أن يزرقنا ماء ببعض البلاد فارتحلوا حتى
إذا بعث عبد المطلب راحلته انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب فكبر عبد المطلب وكبر
أصحابه ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستسقوا حتى ملاوا أسقيتهم ثم دعا قبائل قريش وهم
ينظرون إليهم في جميع هذه الاحوال فقال هلموا إلى الماء فقد سقانا الله فجاؤوا فشربوا
واستقوا
كلهم ثم قالوا قد والله قضى لك علينا والله ما نخاصمك في
زمزم أبدا إن الذي سقاك هذا الماء بهذه
الفلاة هو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشدا فرجع
ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبين زمزم.
قال ابن إسحاق فهذا ما بلغني عن علي بن أبي طالب في زمزم
قال ابن إسحاق وقد سمعت من يحدث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم: ثم
ادع بالماء الروى غير الكدر * يسقي حجيج الله في كل مبر ليس يخاف منه شئ ما عمر
قال فحرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش فقال تعلموا أني قد أمرت أن أحفر زمزم
قالوا فهل بين لك أين هي ؟ قال: لا ! قالوا فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت
فإن يك حقا من الله يبين لك وإن يك من الشيطان فلن يعود إليك فرجع ونام فأتى فقيل
له: احفر زمزم.
إنك إن حفرتها لن تندم.
وهي تراث من أبيك الاعظم.
لا تنزف أبدا ولا تزم.
تسقى الحجيج الاعظم.
مثل نعام جافل لم يقسم.
ينذر فيها ناذر بمنعم.
تكون ميراثا وعقدا محكم.
ليست لبعض ما قد تعلم.
وهي بين الفرث والدم.
قال ابن إسحاق: فزعموا أن عبد المطلب حنى قيل له ذلك قال
وأين هي ؟ قيل له عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدا.
فالله أعلم أي ذلك كان.
قال فغلبا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث وليس له يومئذ
ولد غيره.
زاد الاموي ومولاه أصرم فوجد قرية النمل ووجد الغراب
ينقر عندها بين الوثنين أساف ونائلة اللذين كانت قريش تنحر عندهما فجاء بالمعول
وقام ليحفر حيث أمر فقامت إليه قريش وقالت والله لا نتركنك تحفر بين وثنينا اللذين
ننحر عندهما فقال عبد المطلب لابنه الحارث: زد عني حتى أحفر فوالله لامضين لما أمرت
به فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر وكفوا عنه فلم يحفر إلا يسيرا
حتى بدا له الطمى فكبر وعرف أنه قد صدق فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالتين من
ذهب اللتين كانت جرهم قد دفنتهما ووجد فيها أسيافا قلعية وأدرعا.
فقالت له قريش: يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك وحق
قال لا ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم نضرب عليها بالقداح قالوا وكيف نصنع قال اجعل
للكعبة قدحين ولي قدحين ولكم قدحين فمن
خرج قدحاه على شئ كان له ومن تخلف قدحاه فلا شئ له.
قالوا:
أنصفت فجعل للكعبة قدحين أصفرين وله أسودين ولهم أبيضين
ثم أعطوا القداح للذي يضرب عند هبل وهبل أكبر أصنامهم ولهذا قال أبو سفيان يوم
أحد: أعل هبل.
يعني هذا الصنم.
وقام عبد المطلب يدعو الله.
وذكر يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق أن عبد المطلب جعل
يقول: اللهم أنت الملك المحمود
* ربي أنت المبدئ المعيد وممسك الراسية الجلمود * من
عندك الطارف والتليد
إن شئت ألهمت كما تريد * لموضع الحلية والحديد فبين
اليوم لما تريد * إني نذرت العاهد المعهودا أجعله رب لي فلا أعود قال وضرب صاحب
القداح فخرج الاصفران على الغزالين للكعبة، وخرج الاسودان على الاسياف والادراع
لعبد المطلب، وتخلف قدحا قريش.
فضرب عبد المطلب الاسياف بابا للكعبة، وضرب في الباب
الغزالين من ذهب فكان أول ذهب حلية للكعبة فيما يزعون.
ثم أن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحاج وذكر ابن إسحاق
وغيره أن مكة كان فيها أبيار كثيرة قبل ظهور زمزم في زمن عبد المطلب ثم عددها ابن
إسحاق وسماها وذكر أماكنها من مكة وحافريها إلى أن قال فعفت زمزم على البئار كلها وانصرف
الناس كلهم إليها لمكانها من المسجد الحرام ولفضلها على ما سواها من المياه ولانها
بئر اسماعيل بن إبراهيم وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها وعلى سائر العرب.
وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث إسلام أبي ذر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال في زمزم: إنها لطعام طعم.
وشفاء سقم.
وقال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن الوليد عن عبد الله
بن المؤمل عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ماء زمزم لما شرب منه.
وقد رواه ابن ماجه من حديث عبد الله بن المؤمل وقد
تكلموا فيه ولفظه ماء زمزم لما شرب له.
ورواه سويد بن سعيد عن عبد الله بن المبارك عن عبد
الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر عن جابر عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: ماء زمزم لما شرب له.
ولكن سويد بن سعيد ضعيف والمحفوظ عن ابن المبارك عن عبد
الله بن المؤمل كما تقدم وقد رواه الحاكم عن ابن عباس مرفوعا ماء زمزم لما شرب له
وفيه نظر والله أعلم.
وهكذا روى ابن ماجه أيضا والحاكم عن أبن عباس أنه قال
لرجل إذا شربت من زمزم فاستقبل الكعبة واذكر اسم الله وتنفس ثلاثا وتضلع منها فإذا
فرغت فاحمد الله فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن آية ما بيننا وبين
المنافقين لا يتضلعون من ماء زمزم.
وقد ذكر عن عبد المطلب أنه قال: اللهم إني لا أحلها
لمغتسل وهي لشارب حل وبل.
وقد ذكره بعض الفقهاء عن العباس بن عبد المطلب، والصحيح
أنه عن عبد المطلب نفسه فإنه هو الذي جدد حفر زمزم كما قدمنا والله أعلم.
وقد قال الاموي في مغازيه: حدثنا أبو عبيد أخبرني يحيى
بن سعيد عن عبد الرحمن بن حرملة سمعت سعيد بن المسيب يحدث أن عبد المطلب بن هاشم
حين احتفر زمزم.
قال: لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل.
وذلك أنه جعل لها حوضين حوضا للشرب، وحوضا للوضوء.
فعند ذلك قال: لا أحلها لمغتسل لينزه المسجد عن أن يغتسل
فيه.
قال أبو عبيد قال الاصمعي: قوله وبل اتباع قال أبو عبيد
والاتباع لا يكون بواو العطف وإنما هو كما قال معتمر بن سليمان أن بل بلغة حمير
مباح ثم قال أبو عبيد حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود أنه سمع زرا
أنه سمع العباس يقول: لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل.
وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن
علقمة أنه سمع ابن عباس
يقول ذلك وهذا صحيح اليهما، وكأنهما يقولان ذلك في
أيامهما على سبيل التبليغ والاعلام بما اشترطه عبد المطلب عند حفره لها فلا ينافي
ما تقدم والله أعلم.
وقد كانت السقاية إلى عبد المطلب أيام حياته ثم صارت إلى
ابنه أبي طالب مدة ثم اتفق أنه أملق في بعض السنين فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف
إلى الموسم الآخر وصرفها أبو طالب في الحجيج في عامه فيما يتعلق بالسقاية فلما كان
العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شئ فقال لاخيه العباس أسلفني أربعة عشر ألفا أيضا
إلى العام المقبل أعطيك جميع مالك فقال له العباس: بشرط إن لم تعطني تترك السقاية
لي أكفكها
فقال: نعم فلما جاء العام الآخر لم يكن مع أبي طالب ما
يعطي العباس فترك له السقاية فصارت إليه ثم من بعده صارت إلى عبد الله ولده ثم إلى
علي بن عبد الله بن عباس ثم إلى داود بن علي ثم إلى سليمان بن علي ثم إلى عيسى بن
علي ثم أخذها المنصور واستناب عليها مولاه أبا رزين ذكره الاموي.
نذر عبد المطلب ذبح ولده قال ابن إسحاق: وكان عبد المطلب
فيما يزعمون نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم لئن ولد له عشرة نفر ثم
بلغوا معه حتى يمنعوه ليذبحن أحدهم لله عند الكعبة.
فلما تكامل بنوه عشرة وعرف أنهم سيمنعونه وهم: الحارث.
والزبير.
وحجل.
وضرار.
والمقوم.
وأبو لهب.
والعباس.
وحمزة.
وأبو طالب.
وعبد الله.
جمعهم ثم أخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء لله عزوجل بذلك
فأطاعوه وقالوا كيف نصنع ؟ قال ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه ثم ائتوني
ففعلوا ثم أتوه، فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة وكانت تلك البئر هي التي يجمع
فيها ما يهدى للكعبة، وكان عند هبل قداح سبعة وهي الازلام التي يتحاكمون إليها إذا
أعضل عليهم أمر من عقل أو نسب أو أمر من الامور جاؤوه فاستقسموا بها فما أمرتهم به
أو نهتهم عنه امتثلوه.
والمقصود أن عبد المطلب لما جاء يستقسم بالقداح عند هبل
خرج القدح على ابنه عبد الله وكان أصغر ولده وأحبهم إليه، فأخذ عبد المطلب بيد
أبنه عبد الله وأخذ الشفرة ثم أقبل به إلى أساف ونائلة ليذبحه فقامت إليه قريش من انديتها
فقالوا: ما تريد يا عبد المطلب ؟ قال اذبحه فقالت له قريش وبنوه أخوة عبد الله
والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يجئ بابنه حتى يذبحه
فما بقاء الناس على هذا.
وذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن العباس هو الذي اجتذب
عبد الله من تحت رجل أبيه حين وضعها عليه ليذبحه فيقال إنه شج وجهه شجا لم يزل في
وجهه إلى أن مات ثم أشارت قريش على عبد المطلب أن يذهب إلى الحجاز فإن بها عرافة
لها تابع فيسألها عن ذلك ثم أنت على رأس أمرك إن أمرتك بذبحه فاذبحه وإن أمرتك
بأمر لك وله فيه مخرج قبلته فانطلقوا حتى أتوا المدينة فوجدوا العرافة وهي سجاح
فيما ذكره
يونس بن بكير عن ابن إسحاق بخيبر فركبوا حتى جاؤوها
فسألوها وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه فقالت لهم ارجعوا عني اليوم حتى
يأتيني تابعي فأسأله فرجعوا من عندها فلما خرجوا قام
عبد المطلب يدعو الله ثم غدوا عليها فقالت لهم قد جاءني
الخبر، كم الدية فيكم ؟ قالوا عشر من الابل وكانت كذلك قالت فارجعوا إلى بلادكم ثم
قربوا صاحبكم وقربوا عشرا من الابل ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح فإن خرجت على
صاحبكم فزيدوا من الابل حتى يرضى ربكم وإن خرجت على الابل فانحروها عنه فقد رضي ربكم
ونجا صاحبكم فخرجوا حتى قدموا مكة فلما اجمعوا على ذلك الامر قام عبد المطلب يدعو
الله ثم قربوا عبد الله وعشرا من الابل ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا
عشرا ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا فلم يزالوا يزيدون عشرا عشرا
ويخرج القدح على عبد الله حتى بلغت الابل مائة.
ثم ضربوا فخرج القدح على الابل فقالت عند ذلك قريش لعبد
المطلب وهو قائم عند هبل يدعو الله قد انتهى رضى ربك يا عبد المطلب.
فعندها زعموا أنه قال لا حتى اضرب عليها بالقداح ثلاث
مرات فضربوا ثلاثا ويقع القدح فيها على الابل فنحرت ثم تركت لا يصد عنها انسان ولا
يمنع.
قال ابن هشام ويقال ولا سبع وقد روى أنه لما بلغت الابل
مائة خرج على عبد الله أيضا فزادوا مائة أخرى حتى بلغت مائتين فخرج القدح على عبد
الله فزادوا مائة أخرى فصارت الابل ثلاثمائة.
ثم ضربوا فخرج القدح على الابل فنحرها عند ذلك عبد
المطلب والصحيح الاول والله أعلم.
وقد روى ابن جرير عن يونس بن عبد الاعلى عن ابن وهب عن
يونس بن يزيد عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن ابن عباس سألته امرأة أنها نذرت ذبح
ولدها عند الكعبة فأمرها بذبح مائة من الابل وذكر لها هذه القصة عن عبد المطلب.
وسألت عبد الله بن عمر فلم يفتها بشئ بل توقف.
فبلغ ذلك مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة فقال
إنهما لم يصيبا الفتيا ثم أمر المرأة أن تعمل ما استطاعت من خير ونهاها عن ذبح
ولدها ولم يأمرها بذبح الابل، وأخذ الناس بقول مروان بذلك والله أعلم.
تزويج عبد المطلب ابنه عبد الله من آمنة بنت وهب الزهرية
قال ابن إسحاق: ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد ابنه عبد الله فمر به - فيما يزعمون
- على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصي وهي أم قتال أخت ورقة بن نوفل بن أسد
بن عبد العزى بن قصي وهي عند الكعبة فنظرت إلى وجهه فقالت أين تذهب يا عبد الله ؟
قال مع أبي قالت لك مثل الابل التي نحرت عنك وقع على الآن.
قال أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه ولا فراقه فخرج به عبد
المطلب حتى أتى وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن
فهر وهو يومئذ سيد بني زهرة سنا وشرفا فزوجه ابنته آمنة بنت وهب وهي يومئذ سيدة
نساء قومها فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه فوقع عليها فحملت منه برسول
الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال
لها مالك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت بالامس ؟ قالت له فارقك النور الذي كان
معك بالامس فليس لي بك حاجة.
وكانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل - وكان قد تنصر واتبع
الكتب - أنه كائن في هذه الامة نبي
فطمعت أن يكون منها فجعله الله تعالى في أشرف عنصر وأكرم
محتد وأطيب أصل كما قال تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) وسنذكر المولد مفصلا
ومما قالت أم قتال بنت نوفل من الشعر تتأسف على ما فاتها من الامر الذي رامته وذلك
فيما رواه البيهقي من طريق يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق رحمه الله: عليك بآل زهرة
حيث كانوا * وآمنة التي حملت غلاما ترى المهدي حين نزا عليها * ونورا قد تقدمه
أماما إلى أن قالت: فكل الخلق يرجوه جميعا * يسود الناس مهتديا إماما يراه الله من
نور صفاه * فأذهب نوره عنا الظلاما وذلك صنع ربك إذ حباه * إذا ما سار يوما أو
أقاما
فيهدي أهل مكة بعد كفر * ويفرض بعد ذلكم الصياما وقال
أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي: حدثنا علي بن حرب حدثنا محمد بن عمارة
القرشي حدثنا مسلم بن خالد الزنجي حدثنا ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس
قال: لما انطلق عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوجه مر به على كاهنة من أهل تبالة
متهودة قد قرأت الكتب، يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية فرأت نور النبوة في وجه عبد
الله فقالت يافتى هل لك أن تفع علي الآن وأعطيك مائة من الابل ؟ فقال عبد الله:
أما الحرام فالممات دونه * والحل لا حل فأستبينه فكيف بالامر الذي تبغينه * يحمي
الكريم عرضه ودينه ثم مضى مع أبيه فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فأقام
عندها ثلاثا.
ثم إن نفسه دعته إلى ما دعته إليه الكاهنة فأتاها فقالت:
ما صنعت بعدي ؟ فأخبرها.
فقالت والله ما أنا بصاحبة ريبة ولكني رأيت في وجهك نورا
فأردت أن يكون في.
وأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد.
ثم أنشأت فاطمة تقول: إني رأيت مخيلة لمعت * فتلالات
بحناتم القطر فلمأتها نورا يضئ له * ما حوله كإضاءة البدر ورجوتها فخرا أبوء به *
ما كل قادح زنده يوري لله ما زهرية سلبت * ثوبيك ما استلبت وما تدري وقالت فاطمة
أيضا: بني هاشم قد غادرت من أخيكم * أمينة إذ للباه يعتركان كما غادر المصباح عند
خموده * فتائل قد ميثت له بدهان
وما كل ما يحوي الفتى من تلاده * بحزم ولا ما فاته
لتواني فأجمل إذا طالبت أمرا فانه * سيكفيكه جدان يعتلجان
سيكفيكه إما يد مقفللة * وإما يد مبسوطة ببنان ولما حوت
منه أمينة ما حوت * حوت منه فخرا ما لذلك ثان وروى الامام أبو نعيم الحافظ في كتاب
دلائل النبوة من طريق يعقوب بن محمد الزهري عن عبد العزيز بن عمران عن عبد الله بن
جعفر عن ابن عون عن المسور بن مخرمة عن ابن عباس قال إن عبد المطلب قدم اليمن في رحلة
الشتاء فنزل على حبر من اليهود قال فقال لي رجل من أهل الديور - يعني أهل الكتاب
يا عبد المطلب أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك ؟ قال نعم إذا لم يكن عورة.
قال ففتح إحدى منخري فنظر فيه ثم نظر في الآخر فقال أشهد
أن في إحدى يديك ملكا وفي الاخرى نبوة وإنا نجد ذلك في بني زهرة فكيف ذلك ؟ قلت لا
أدري قال هل لك من شاغة ؟ قلت وما الشاغة ؟ قال زوجة.
قلت أما اليوم فلا قال فإذا رجعت فتزوج فيهم.
فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة
فولدت حمزة وصفية ثم تزوج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب فولدت رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقالت قريش حين تزوج عبد الله بآمنة فلج أي فاز وغلب عبد الله
على أبيه عبد المطلب.
بسم الله الرحمن الرحيم كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال الله تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) ولما سأل هرقل ملك الروم لابي
سفيان تلك الاسئلة عن صفاته عليه الصلاة والسلام قال: كيف نسبه فيكم ؟ قال: هو
فينا ذو نسب.
قال كذلك الرسل تبعث في أنساب قومها، يعني في أكرمها
أحسابا وأكثرها قبيلة صلوات الله عليهم أجمعين.
فهو سيد ولد آدم وفخرهم في الدنيا والآخرة.
أبو القاسم.
وأبو إبراهيم.
محمد.
وأحمد.
والماحي الذي يمحى به الكفر.
والعاقب الذي ما بعده نبي.
والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه.
والمقفي.
ونبي الرحمة.
ونبي التوبة.
ونبي الملحمة.
وخاتم النبيين.
والفاتح.
وطه.
ويس.
وعبد الله.
قال البيهقي (1): وزاد بعض العلماء فقال سماه الله في
القرآن رسولا.
نبيا.
أمينا (2)
__________
(1) دلائل النبوة ج 1 / 160.
(2) كذا في الاصل، والصواب كما في البيهقي: أميا.
شاهدا.
مبشرا.
نذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
ورؤوفا رحيما.
ومذكرا.
وجعله رحمة ونعمة وهاديا (1).
وسنورد الاحاديث المروية في أسمائه عليه الصلاة والسلام
في باب نعقده بعد فراغ السيرة.
فإنه قد وردت أحاديث كثيرة في ذلك اعتنى بجمعها الحافظان
الكبيران أبو بكر البيهقي وأبو القاسم بن عساكر وأفرد الناس في ذلك مؤلفات حتى رام
بعضهم أن يجمع له عليه الصلاة والسلام ألف اسم.
وأما الفقيه الكبير أبو بكر بن العربي المالكي شارح
الترمذي بكتابه الذي سماه لاحوذي فانه ذكر من ذلك أربعة وستين اسما والله أعلم.
وهو ابن عبد الله وكان أصغر ولد أبيه عبد المطلب وهو
الذبيح الثاني المفدى بمائة من الابل كما تقدم.
قال الزهري: وكان أجمل رجال قريش وهو أخو الحارث والزبير
وحمزة وضرار وأبي طالب - واسمه عبد مناف - وأبي لهب - واسمه عبد العزى - والمقوم -
واسمه عبد الكعبة - وقيل هما اثنان وحجل واسمه المغيرة والغيداق وهو كبير الجود - واسمه نوفل -
ويقال إنه حجل.
فهؤلاء أعمامه عليه الصلاة والسلام.
وعماته ست وهن أروى.
وبرة.
وأميمة.
وصفية.
وعاتكة.
وأم حكيم - وهي البيضاء - وسنتكلم على كل منهم فيما بعد
إن شاء الله تعالى.
كلهم أولاد عبد المطلب - واسمه شيبة - يقال لشيبة كانت
في رأسه ويقال له شيبة الحمد لجوده.
وإنما قيل له عبد المطلب لان أباه هاشما لما مر بالمدينة
في تجارته إلى الشام نزل على عمرو بن زيد بن لبيد بن حرام بن خداش بن خندف (2) بن
عدي بن النجار الخزرجي النجاري وكان سيد قومه فأعجبته ابنته سلمى فخطبها إلى أبيها
فزوجها منه واشترط عليه مقامها عنده وقيل بل اشترط عليه أن لا تلد إلا عنده
بالمدينة فلما رجع من الشام بنى بها وأخذها معه إلى مكة
فلما خرج في تجارة أخذها معه وهي حبلى فتركها بالمدينة ودخل الشام فمات بغزة ووضعت
سلمى ولدها فسمته شيبة فأقام عند أخواله بني عدي بن النجار سبع سنين (3) ثم جاء
عمه المطلب بن عبد مناف فأخذه خفية من أمه فذهب به إلى مكة.
فلما رآه الناس ورأوه على الراحلة قالوا من هذا معك ؟
فقال عبدي ثم جاؤوا فهنأوه به وجعلوا يقولون له عبد المطلب لذلك فغلب عليه وساد في
قريش سيادة عظيمة وذهب بشرفهم ورآستهم.
فكان جماع أمرهم عليه وكانت إليه السقاية والرفادة بعد
المطلب وهو الذي جدد حفر زمزم بعدما كانت مطمومة من عهد جرهم وهو أول من طلى الكعبة
بذهب في أبوابها من تينك
__________
(1) زاد البيهقي: ونذيرا مبينا وسماه عبدا.
(2) في الطبري: جندب.
وفي الجمهرة اتفق مع ابن هشام: ابن خداش بن عامر بن غنم
بن عدي بن النجار.
(3) في الطبري زاد: أو ثماني سنين.
الغزالتين اللتين من ذهب وجدهما في زمزم مع تلك الاسياف
القلعية (1).
قال ابن هشام: وعبد المطلب أخو أسد وفضلة (2) وأبي صيفي
وحية وخالدة ورقية والشفاء وضعيفة.
كلهم أولاد هاشم واسمه عمرو وإنما سمي هاشما لهشمه
الثريد مع اللحم لقومه في سني المحل كما قال مطرود بن كعب الخزاعي في قصيدته وقيل
(3) للزبعرى والد عبد الله: عمرو الذي هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنتون عجاف
سنت إليه الرحلتان كلاهما * سفر الشتاء ورحلة الاصياف وذلك لانه أول من سن رحلتي الشتاء
والصيف وكان أكبر ولد أبيه.
وحكى ابن جرير أنه كان تؤام أخيه عبد شمس وأن هاشما خرج
ورجله ملتصقة برأس عبد شمس فما تخلصت حتى سال بينهما دم فقال الناس (4) بذلك يكون
بين أولادهما حروب فكانت وقعة بني العباس مع بني أمية بن عبد شمس سنة ثلاث وثلاثين
ومائة من الهجرة.
وشقيقهم الثالث المطلب وكان المطلب أصغر ولد أبيه وأمهم
عاتكة بنت مرة بن هلال.
ورابعهم نوفل من أم أخرى وهي واقدة بنت عمرو المازنية
وكانوا قد سادوا قومهم بعد أبيهم وصارت إليهم الرياسة
وكان يقال لهم المجيرون (5) وذلك لانهم أخذوا لقومهم قريش الامان من ملوك الاقاليم ليدخلوا
في التجارات إلى بلادهم فكان هاشم قد أخذ أمانا من ملوك الشام والروم وغسان وأخذ
لهم عبد شمس من النجاشي الاكبر ملك الحبشة، وأخد لهم نوفل من الاكاسرة، وأخذ لهم
المطلب أمانا من ملوك حمير.
ولهم يقول الشاعر: يا أيها الرجل المحول رحله * ألا نزلت
بآل عبد مناف وكان إلى هاشم السقاية والرفادة بعد أبيه، وإليه وإلى أخيه المطلب
نسب ذوي القربى، وقد كانوا شيئا واحدا في حالتي الجاهلية والاسلام لم يفترقوا،
ودخلوا معهم في الشعب، وانخذل عنهم بنو عبد شمس ونوفل.
ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته: جزى الله عنا عبد شمس
ونوفلا * عقوبة شر عاجلا غير آجل ولا يعرف بنو أب تباينوا في الوفاة مثلهم، فإن
هاشما مات بغزة من أرض الشام، وعبد
__________
(1) تقدم التعليق على ذلك في الحرب بين جرهم وخزاعة،
واعتكاف عمرو بن الحارث بن مضاض قومه والقتال إلى جانبهم..فليراجع.
(2) كذا في الاصل وفي ابن هشام وجمهرة أنساب العرب: نضلة.
(3) في الطبري قال الكلبي للزبعرى.
(4) في الطبري: فتطير من ذلك فقيل تكون بينهما دماء.
وعنده في رواية أخرى أن عبد شمس هو أكبر ولد عبد مناف.
وفي جمهرة الانساب: كان هاشم وعبد مناف توأمين وخرج عبد
شمس في الولادة قبل هاشم.
(5) عند الطبري: فكانوا أول من أخد لقريش العصم فانتشروا
من الحرم.
وفي الطبري وابن الاثير: المجيرون = المخيرون.
شمس مات بمكة (1)، ونوفل مات بسلامان من أرض العراق،
ومات المطلب - وكان يقال له القمر لحسنه - بريمان من طريق اليمن.
فهؤلاء الاخوة الاربعة المشاهير وهم هاشم، وعبد شمس،
ونوفل، والمطلب.
ولهم أخ خامس ليس بمشهور وهو أبو عمرو واسمه عبد، وأصل
اسمه عبد قصي (2).
فقال الناس عبد بن قصي درج ولا عقب له.
قاله الزبير بن بكار وغيره.
وأخوات ست وهن: تماضر، وحية، وريطة، وقلابة، وأم الاخثم،
وأم سفيان.
كل هؤلاء أولاد عبد مناف ومناف اسم صنم وأصل اسم عبد
مناف المغيرة.
وكان قد رأس في زمن والده، وذهب به الشرف كل مذهب.
وهو أخو عبدالدار الذي كان أكبر ولد أبيه وإليه أوصي
بالمناصب كما تقدم وعبد العزى وعبد وبرة وتخمر وأمهم كلهم حبى بنت حليل بن حبشي
(3) بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعى وأبوها آخر ملوك خزاعة وولاة البيت منهم،
وكلهم أولاد قصي واسمه زيد.
وإنما سمي بذلك لان أمه تزوجت بعد أبيه بربيعة بن حزام
بن عذرة فسافر بها إلى بلاده وابنها صغير فسمي قصيا لذلك.
ثم عاد إلى مكة وهو كبير ولم شعث قريش وجمعها من متفرقات
البلاد، وأزاح يد خزاعة عن البيت، وأجلاهم عن مكة ورجع الحق إلى نصابه وصار رئيس
قريش على الاطلاق وكانت إليه الوفادة (4) والسقاية - وهو سنها - والسدانة والحجابة
واللواء وداره دار الندوة كما تقدم بسط ذلك كله - ولهذا قال الشاعر: قصي، لعمري
كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر وهو أخو زهرة كلاهما ابنا كلاب أخي
تيم ويقظة أبي مخزوم ثلاثتهم أبناء مرة أخي عدي وهصيص وهم أبناء كعب وهو الذي كان
يخطب قومه كل جمعة ويبشرهم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد في ذلك
أشعارا كما قدمنا، وهو أخو عامر وسامة وخزيمة وسط والحارث وعوف سبعتهم أبناء لؤي
أخي تيم الادرم وهما أبناء غالب أخي الحارث ومحارب ثلاثتهم أبناء فهر، وهو أخو
الحارث وكلاهما ابن مالك.
وهو أخو الصلت ويخلد، وهم بنو النضر الذي إليه جماع
قريش: على الصحيح كما قدمنا الدليل عليه، وهو أخو مالك وملكان وعبد مناة وغيرهم
كلهم أولاد كنانة أخي أسد وأسدة والهون أولاد خزيمة، وهو أخو هذيل وهما ابنا مدركة
- واسمه عمرو أخو طابخة واسمه عامر وقمعة ثلاثتهم أبناء الياس وأخي الياس هون
غيلان والد فيس كلها وهما ولدا مضر أخي
__________
(1) في ابن الاثير: وقبر بأجياد.
ونوفل مات بسلمان من طريق العراق.
المطلب بردمان من أرض اليمن.
(2) لم يذكره ابن هشام في أولاد عبد مناف بل ذكره وكذلك
الطبري في أولاد قصي، وذكر أنه لم يعقب انظر جمهرة أنساب العرب، وزاد ابن هشام اسم
أبي عمرو من أولاد عبد مناف.
(3) كذا في الاصول والصواب حبشية (الطبري - ابن هشام).
(4) كذا في الاصول وفادة والصواب الرفادة وقد وردت كثيرا
(الطبري - ابن هشام).
ربيعة.
ويقال لهما الصريحان من ولد إسماعيل وأخواهما أنمار
وإياد تيامنا، اربعتهم ابناء نزار أخي قضاعة - في قول طائفة ممن ذهب إلى أن قضاعة
حجازية عدنانية - وقد تقدم بيانه كلاهما أبناء معد بن عدنان.
وهدا النسب بهده الصفة لا خلاف فيه بين العلماء فجميع
قبائل عرب الحجاز ينتهون إلى هذا النسب ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى
(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (1) لم يكن بطن من بطون قريش إلا
ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نسب يتصل بهم.
وصدق ابن عباس رضي الله عنه فيما قال وأزيد مما قال،
وذلك أن جميع قبائل العرب العدنانية تنتهي إليه بالآباء وكثير منهم بالامهات أيضا
كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره في أمهاته وأمهات آبائه وأمهاتهم ما يطول ذكره.
وقد حرره ابن إسحاق رحمه الله والحافظ ابن عساكر.
وقد ذكرنا في ترجمة عدنان نسبه وما قيل فيه وأنه من ولد
إسماعيل لا محالة وإن اختلف في كم بينهما أبا (2) ؟ على أقوال قد بسطناها فيما
تقدم والله أعلم.
وقد ذكرنا بقية النسب من عدنان إلى آدم وأوردنا قصيدة
أبي العباس الناشئ المتضمنة ذلك، كل ذلك في أخبار عرب الحجاز ولله الحمد.
وقد تكلم الامام أبو جعفر بن جرير رحمه الله في أول
تاريخه (3) على ذلك كلاما مبسوطا جيدا محررا نافعا.
وقد ورد حديث في انتسابه عليه السلام إلى عدنان وهو على
المنبر ولكن الله أعلم
بصحته، كما قال الحافظ أبو بكر البيهقي (4) أنبأنا أبو
الحسن علي بن أحمد بن عمر بن حفص المقرئ - ببغداد - حدثنا أبو عيسى بكار بن أحمد
بن بكار [ قال ] حدثنا أبو جعفر أحمد بن موسى بن سعد (5) - املاء سنة ست وتسعين
ومائتين -، [ قال ]: حدثنا أبو جعفر محمد بن أبان
القلانسي [ قال ]: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن ربيعة القدامي [ قال ]
حدثنا مالك بن أنس، عن الزهري عن أنس [ بن مالك ] وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن
الحارث بن هشام.
قال (6):
بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجالا من كندة يزعمون
أنهم منه وأنه منهم فقال: " إنما كان يقول ذلك: العباس، وأبو سفيان بن حرب [
إذا قدما المدينة ليأمنا ] فيأمنا بذلك.
وإنا لن ننتفي من
__________
(1) سورة الشورى الآية: 23 (2) كذا بالاصول والصواب: كم
أب بينهما.
(3) راجع الطبري بداية الجزء الثاني.
(4) دلائل النبوة ج 1 / 174 وفيه: أبو الحسن علي بن أحمد
بن محمد بن حفص وصحح الحديث من الدلائل.
(5) في البيهقي: سعيد.
(6) في البيهقي: قالا:
بائنا، نحن بنو النضر بن كنانة ": قال: وخطب النبي
صلى الله عليه وسلم فقال:
" أنا محمد، بن عبد الله، بن عبد المطلب، بن هاشم،
بن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب بن مرة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك،
بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نذار (1) وما افترق الناس
فرقتين إلا جعلني الله في خيرها (2) فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شئ من عهر الجاهلية.
وخرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم، حتى
انتهيت إلى أبي وأمي، فأنا خيركم نفسا، وخيركم أبا " وهذا حديث غريب جدا من
حديث مالك.
تفرد به القدامي (3) وهو ضعيف.
ولكن سنذكر له شواهد من وجوه أخر.
فمن ذلك قوله: " خرجت من نكاح لا من سفاح "
قال عبد الرزاق أخبرنا ابن عيينة عن جعفر بن محمد عن
أبيه أبي جعفر الباقر في قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من
أنفسكم) قال لم يصبه شئ من ولادة الجاهلية قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح " وهذا مرسل جيد.
وهكذا رواه البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن محمد بن إسحاق
الصنعاني عن يحيى بن أبي بكير عن عبد الغفار بن القاسم عن جعفر بن محمد عن أبيه.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله
أخرجني من النكاح ولم يخرجني من السفاح " وقد رواه ابن عدي موصولا فقال حدثنا
أحمد بن حفص حدثنا محمد بن أبي عمرو العدني المكي حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن
علي بن الحسين قال أشهد على أبي حدثني عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "
خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني
أبي وأمي ولم يصبني من سفاح الجاهلية شئ " هذا غريب من هذا الوجه ولا يكاد
يصح.
وقال هشيم حدثنا المديني عن أبي الحويرث عن ابن عباس قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ولدني من نكاح أهل الجاهلية شئ، ما
ولدني إلا نكاح كنكاح الاسلام " وهذا أيضا غريب أورده الحافظ ابن عساكر ثم
أسنده من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعف والله أعلم.
وقال محمد بن سعد أخبرنا محمد بن عمر حدثني محمد بن عبد
الله بن مسلم عن عمه الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " ولدت من نكاح غير سفاح " ثم أورد ابن عساكر من حديث أبي عاصم عن
شبيب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: (وتقلبك في الساجدين) قال من نبي إلى
نبي حتى أخرجت نبيا.
ورواه عن عطاء.
وقال محمد بن سعد أخبرنا هشام بن محمد الكلبي عن أبيه
قال كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم فما وجدت فيهن سفاحا ولا شيئا مما
كان من أمر الجاهلية.
__________
(1) في البيهقي: نزار.
(2) في البيهقي: خيرهما.
(3) القدامي من أهل المصيصة كان يقلب الاخبار، قلب على
مالك أكثر من مائة حديث وخمسين حديثا ذكره ابن حبان في المجروحين 2 / 39 ولم يرد
ذكره في ثقات العجلي، له ترجمة في تقريب التهذيب، ابن الربيع الكرماني أبو عبد
الرحمن، ثقة 1 / 446 والكاشف 2 / 112.
وثبت في صحيح البخاري (1) من حديث عمرو بن أبي عمرو عن
سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعثت من
خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه ".
وفي صحيح مسلم (2) من حديث الاوزاعي عن شداد أبي عمار عن
واثلة بن الاسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله اصطفى من
ولد إبراهيم اسماعيل واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا
واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ".
وقال الامام أحمد حدثنا أبو نعيم (3) عن سفيان عن يزيد
بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن أبي وداعة قال قال العباس
بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقول الناس " فصعد المنبر فقال: من أنا ؟
" قالوا أنت رسول الله قال: " أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن
الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة، وخلق
القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا.
فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا " (4) صلوات الله
وسلامه عليه دائما أبدا إلى يوم الدين.
وقال يعقوب بن سفيان حدثنا عبيد الله بن موسى عن اسماعيل
بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن العباس بن عبد
المطلب قال: قلت يارسول الله إن قريشا إذا التقوا، لقي بعضهم بعضا بالبشاشة، وإذا
لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها.
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك غضبا شديدا
ثم قال: " والذي نفس محمد بيده لا يدخل قلب رجل الايمان حتى يحبكم الله
ولرسوله " فقلت يارسول الله إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم فجعلوا مثلك
كمثل نخلة في كبوة من الارض.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله [
عزوجل ] يوم خلق الخلق جعلني في خيرهم، ثم لما فرقهم جعلني في خيرهم قبيلة (5).
ثم حين جعل البيوت جعلني
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في 61 كتاب المناقب (23) باب
صفة النبي صلى الله عليه وسلم فتح الباري 6 / 566.
وفيه عن سعيد بن أبي سعيد المقبري.
وأخرجه البيهقي عنه في دلائله 1 / 175.
(2) صحيح مسلم أول كتاب الفضائل باب فضل نسب النبي ح 1 ص
1782.
(3) أبو نعيم وهو الفضل بن دكين.
(4) مسند أحمد ج 4 / 166 - 167 وأخرجه الترمذي في 50
كتاب المناقب - باب فضل النبي صلى الله عليه وسلم 5 / 653 وقال: حديث حسن.
(5) أخرجه البيهقي بإسناده في دلائل النبوة ج 1 / 167 -
168.
في الكلام نقص واضح وتمامه من الدلائل: ثم حين فرقهم
جعلني في خير الفريقين، ثم حين جعل القبائل جعلني في خير قبيلة.
وأخرجه ابن ماجه في المقدمة (11) باب ح (140) ص (1 / 50)
والترمذي في كتاب المناقب وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي الزوائد: رجال إسناده ثقات.
في خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا ".
ورواه أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن فضيل عن يزيد بن أبي
زياد عن عبد الله بن الحارث عن ربيعة بن الحارث قال بلغ النبي صلى الله عليه وسلم
فذكره بنحو ما تقدم ولم يذكر العباس (1).
وقال يعقوب بن سفيان حدثني يحيى بن عبد الحميد حدثني قيس
بن عبد الله عن الاعمش عن عليلة (2) بن ربعي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " إن الله قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما، فذلك قوله
[ تعالى ]: (وأصحاب اليمين) (3) و (أصحاب الشمال) (4)، فأنا من أصحاب اليمين وأنا
خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثالثا، فذلك قوله [
تعالى ]: و (أصحاب الميمنة) (5)
(والسابقون السابقون) (6) فأنا من السابقين، وأنا خير
السابقين، ثم جعل الا ثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة فذلك قوله [ تعالى ]:
(وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) (7) وأنا أتقى ولد
آدم وأكرمهم على الله ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا وذلك
قوله [ عزوجل ]: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (8)
" فأنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب ".
وهذا الحديث فيه
غرابة ونكارة.
وروى الحاكم والبيهقي (9) من حديث محمد بن ذكوان خال ولد
حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن ابن عمر قال: إنا لقعود بفناء النبي صلى الله
عليه وسلم إذ مرت به امرأة، فقال بعض القوم هذه ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو سفيان: مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن.
فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فجاء
رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعرف في وجهه الغضب.
فقال:
" ما بال أقوال تبلغني عن أقوام إن الله خلق
السماوات سبعا فاختار العلياء منها فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق فاختار
من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر
قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم فأنا خيار من خيار، فمن أحب
العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم " هذا أيضا حديث غريب (10).
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا
__________
(1) أخرجه من هذا الوجه أحمد في مسنده ج 4 / 166 - 167.
(2) كذا في الاصول والصواب عباية بن ربعي.
ذكره العقيلي في الضعفاء الكبير 3 / 415.
(3) سورة الواقعة الآية 37.
(4) سورة الواقعة الآية 41.
(5) سورة الواقعة الآية 8.
(6) سورة الواقعة الآية 10.
(7) سورة الحجر الآية 13.
(8) سورة الاحزاب الآية 33.
(9) دلائل النبوة ج 1 / 171 والحاكم في المستدرك 4 / 73.
(10) سرده العقيلي في الضعفاء وقال لا يتابع عليه.
وضعف العقيلي يزيد بن عوانة.
فخر "
وروى الحاكم والبيهقي أيضا (1) من حديث موسى بن عبيدة [
قال ] حدثنا عمرو بن عبد الله بن نوفل عن الزهري عن أبي أسامة أو أبي سلمة عن
عائشة رضي الله عنها قالت قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال لي جبريل [ عليه السلام ]
قلبت الارض من مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد، وقلبت الارض مشارقها
ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم " قال الحافظ البيهقي وهذه
الاحاديث وإن كان في رواتها من لا يحتج به فبعضها يؤكد بعضا ومعنى جميعها يرجع إلى
حديث واثلة بن الاسقع [ وأبي هريرة ] والله أعلم.
قلت وفي هذا المعنى يقول أبو طالب يمتدح النبي صلى الله
عليه وسلم: إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر * فعبد مناف سرها وصميمها فان حصلت أشراف عبد
منافها * ففي هاشم أشرافها وقديمها وإن فخرت يوما فإن محمدا * هو المصطفى من سرها
وكريمها تداعت قريش غثها وسمينها * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها (2) وكنا قديما لا
نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها (3) ونحمي جماها كل يوم كريهة * ونضرب عن
أحجارها من يرومها بنا انتعش العود الذواء وإنما * بأكنافنا تندى وتنمى أرومها (4)
وقال أبو السكن زكريا بن يحيى الطائي في الجزء المنسوب إليه المشهور: حدثني عمر بن
أبي زحر بن حصين، عن جده حميد بن منهب، قال: قال جدي خريم بن أوس: هاجرت إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقدمت عليه منصرفه من تبوك، فأسلمت، فسمعت العباس بن عبد المطلب
يقول: يارسول الله إني أريد أن أمتدحك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل، لا
يفضض الله فاك، فأنشأ يقول: من قبلها طبت في الظلال وفي * مستودع حيث يخضف الورق ثم هبطت البلاد
لا بشر أن * ت ولا مضغة ولا علق بل نطفة تركب السفين وقد * ألجم نسرا وأهله الغرق
تنقل من صلب إلى رحم * إذا مضى عالم بدا طبق
__________
= محمد بن ذكوان اتفقوا على ضعفه، وقال البخاري منكر
الحديث، وقال ابن حبان: سقط الاحتجاج به وقال
الدارقطني: ضعيف وقال أبو حاتم: منكر الحديث كثير الخطأ.
(1) دلائل النبوة ج 1 / 176 وأخرجه الهيثمي في مجمع
الزوائد 8 / 217 وعزاه للطبراني في الاوسط.
(2) الغث: اللحم الضعيف، هنا استعارة لضعيف النسب.
(3) قال الله تعالى: ولا تصعر خدك للناس أي لا تميله
إمالة المتكبر والمتعجرف.
(4) الاروم: الاصول، جمع أرومة.
حتى احتوى بيتك المهيمن من * خندف علياء تحتها النطق
وأنت لما ولدت أشرقت الا * رض وضاءت بنورك الافق فنحن في ذلك الضياء وفي ال * نور وسبل
الرشاد نخترق وقد روى هذا الشعر لحسان بن ثابت.
فروى الحافظ أبو القاسم بن عساكر من طريق أبي الحسن بن
أبي الحديد: أخبرنا محمد بن أبي نصر أنا عبد السلام بن محمد بن أحمد القرشي حدثنا
أبو حصين محمد بن إسماعيل بن محمد التميمي حدثنا محمد بن عبد الله الزاهد
الخراساني حدثني اسحاق بن إبراهيم بن سنان حدثنا سلام بن سليمان أبو العباس
المكفوف المدائني حدثنا ورقاء بن عمر عن ابن أبي نجيج عن عطاء ومجاهد عن ابن عباس
قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: فداك أبي وأمي أين كنت وآدم في
الجنة ؟ قال فتبسم حتى بدت نواجذه ثم قال: " كنت في صلبه وركب بي السفينة في
صلب أبي نوح وقذف بي في صلب أبي إبراهيم لم يلتق أبواي على سفاح قط لم يزل الله
ينقلني من الاصلاب الحسيبة إلى الارحام الطاهرة صفتي مهدي (1) لا ينشعب شعبتان إلا
كنت في خيرهما وقد أخذ الله بالنبوة ميثاقي وبالاسلام عهدي ونشر في التوراة
والانجيل ذكري وبين كل نبي صفتي تشرق الارض بنوري والغمام بوجهي وعلمني كتابه
وزادني شرفا في سمائه وشق لي اسما من أسمائه فذو العرش محمود وأنا محمد وأحمد
ووعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر وأن يجعلني أول شافع وأول مشفع ثم أخرجني من خير قرن
لامتي، وهم الحمادون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " قال
ابن عباس فقال حسان بن ثابت في النبي صلى الله عليه
وسلم: قلبها طبت في الظلال وفي * مستودع يوم يخصف الورق ثم سكنت البلاد لا بشر أن
* ت ولا نطفة ولا علق مطهر تركب السفين وقد * ألجم نسرا وأهله الغرق تنقل من صلب
إلى رحم * إذا مضى طبق بدا طبق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله
حسانا " فقال علي بن أبي طالب وجبت الجنة لحسان ورب الكعبة ثم قال الحافظ ابن
عساكر هذا حديث غريب جدا.
قلت: بل منكر جدا والمحفوظ أن هذه الابيات للعباس رضي
لله عنه ثم أوردها من حديث أبي السكن زكريا بن يحيى الطائي كما تقدم.
قلت: ومن الناس من يزعم أنها للعباس بن مرداس السلمي
فالله أعلم.
تنبيه:
قال القاضي عياض - في كتابه الشفاء -: " وأما أحمد
الذي أتى في الكتب وبشرت به الانبياء فمنع الله بحكمته أن يسمى به أحد غيره ولا
يدعى به مدعو قبله.
حتى لا يدخل لبس على
__________
(1) كذا بالاصل، وفي سيرة ابن كثير: صفيا مهذبا.
ضعيف القلب أوشك.
وكذلك محمد لم يسم به أحد من العرب ولا غيرهم، إلى أن
شاع قبل وجوده وميلاده أن نبيا يبعث اسمه محمد.
فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم
وهو (والله أعلم حيث يجعل رسالاته) وهم: محمد بن احيحة بن الجلاح الاوسي.
ومحمد بن سلمة (1) الانصاري.
ومحمد بن البراء الكندي (2).
ومحمد بن سفيان بن مجاشع.
ومحمد بن حمران الجعفي.
ومحمد بن خزاعي السلمي لا سابع لهم.
ويقال إن أول من سمى محمدا محمد بن سفيان بن مجاشع.
واليمن تقول بل محمد بن اليحمد من الازد.
ثم إن الله حمى كل من تسمى به أن يدعي النبوة أو يدعيها
له أحد، أو يظهر عليه سبب يشكل (3) أحدا في أمره حتى تحققت الشيمتان له صلى الله
عليه وسلم لم ينازع فيهما
".
هذا لفظه.
باب مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد صلوات الله
عليه وسلامه يوم الاثنين.
لما رواه مسلم في صحيحه من حديث غيلان بن جرير بن (4)
عبد الله بن معبد الزماني (5) عن أبي قتادة أن أعرابيا قال يارسول الله، ما تقول
في صوم يوم الاثنين فقال: " ذاك يوم ولدت فيه وانزل علي فيه ".
وقال الامام أحمد (6) حدثنا وموسى بن داود حدثنا ابن لهيعة
عن خالد بن أبي عمران عن حنش الصنعاني عن ابن عباس قال: ولد رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم
الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، ورفع الحجر الاسود يوم
الاثنين.
تفرد به أحمد ورواه عمرو بن بكير عن ابن لهيعة وزاد نزلت
سورة المائدة يوم الاثنين (اليوم أكملت لكم دينكم).
وهكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود به وزاد أيضا وكانت
وقعة بدر يوم الاثنين.
ممن قال هذا يزيد بن حبيب وهذا منكر جدا.
قال ابن عساكر والمحفوظ أن يدرا ونزول: (اليوم أكملت لكم
دينكم) يوم الجمعة وصدق ابن عساكر.
وروى عبد الله بن عمر عن كريب عن ابن عباس ولد رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين.
وهكذا روي من غير هذا الوجه عن ابن عباس أنه ولد يوم
الاثنين.
وهذا ما لا خلاف فيه أنه ولد صلى الله عليه وسلم يوم
الاثنين.
وأبعد بل أخطأ من قال ولد يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من
ربيع الاول نقله الحافظ ابن دحية فيما قرأه في كتاب أعلام الروى باعلام الهدى لبعض
الشيعة.
ثم
__________
(1) كذا بالاصول والصواب محمد بن مسلمة.
(2) كذا بالاصول وفي سيرة ابن كثير: البكري.
(3) في سيرة ابن كثير: يشكك.
(4) كذا في الاصل ابن عبد الله وهو خطأ وعند مسلم عن عبد
الله.
أخرجه مسلم في 13 كتاب الصيام 36 باب استحباب صيام ثلاثة
أيام..ص 819.
(5) الزماني نسبة إلى زمان بن مالك بطن من ربيعة.
(6) مسند أحمد ج 1 / 277.
شرع ابن دحية في تضعيفه وهو جدير بالتضعيف إذ هو خلاف
النص.
ثم الجمهور على أن ذلك كان في شهر ربيع الاول فقيل
لليلتين خلتا منه قاله ابن عبد البر في الاستيعاب ورواه الواقدي عن أبي معشر نجيح
بن عبد الرحمن المدني.
وقيل لثمان خلون منه حكاه الحميدي عن ابن حزم.
ورواه مالك وعقيل ويونس بن يزيد وغيرهم عن الزهري عن
محمد بن جبير بن مطعم ونقل ابن عبد البر عن أصحاب التاريخ أنهم صححوه وقطع به
الحافظ الكبير محمد بن موسى الخوارزمي ورجحه الحافظ أبو الخطاب بن دحية في كتابه
التنوير في مولد البشير النذير وقيل لعشر خلون منه نقله ابن دحية في كتابه ورواه
ابن عساكر عن أبي جعفر الباقر ورواه مجالد عن الشعبي كما مر.
وقيل لثنتي عشرة خلت منه نص عليه ابن إسحاق ورواه ابن
أبي شيبة في مصنفه عن عفان عن سعيد بن مينا عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد
رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الاثنين الثامن عشر من شهر ربيع الاول
وفيه بعث وفيه عرج به إلى السماء وفيه هاجر وفيه مات.
وهذا هو المشهور عند الجمهور والله أعلم.
وقيل لسبع عشرة (1) خلت منه كما نقله ابن دحية عن بعض
الشيعة.
وقيل لثمان بقين منه نقله ابن دحية من خط الوزير أبي
رافع بن الحافظ أبي محمد بن حزم عن أبيه والصحيح عن ابن حزم الاول أنه لثمان مضين
منه كما نقله عنه الحميدي وهو أثبت.
والقول الثاني: إنه ولد في رمضان نقله ابن عبد البر عن
الزبير بن بكار وهو قول غريب جدا وكان مستنده أنه عليه الصلاة والسلام أوحي إليه
في رمضان بلا خلاف وذلك على رأس أربعين سنة من عمره فيكون مولده في رمضان وهذا فيه
نظر والله أعلم.
وقد روى خيثمة بن سليمان الحافظ عن خلف بن محمد كردوس
الواسطي عن المعلى بن عبد الرحمن عن عبد الحميد بن جعفر عن الزهري عن عبيد الله بن
عبد الله عن ابن عباس قال ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين في ربيع
الاول وانزلت عليه النبوة يوم الاثنين في أول شهر ربيع الاول وأنزلت عليه البقرة
يوم الاثنين في ربيع الاول.
وهذا غريب جدا رواه ابن عساكر.
قال الزبير بن بكار حملت به أمه في أيام التشريق في شعب
أبي طالب عند الجمرة الوسطى.
وولد بمكة بالدار المعروفة بمحمد بن يوسف أخي
الحجاج بن يوسف لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.
ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن عثمان بن عقبة
بن مكرم عن المسيب بن شريك عن شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده قال حمل برسول الله صلى
الله عليه وسلم في يوم عاشوراء في المحرم وولد يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من
شهر رمضان سنة ثلاث وعشرين من عزوة أصحاب الفيل.
وذكر غيره أن الخيزران وهي أم هارون الرشيد لما حجت أمرت
ببناء هذه الدار مسجدا.
فهو يعرف بها اليوم.
وذكر السهيلي أن مولده عليه الصلاة والسلام كان في
العشرين من نيسان.
وهذا أعدل الزمان والفصول وذلك لسنة اثنتين وثمانين
وثمانمائة لذي القرنين فيما ذكر أصحاب الزيج.
وزعموا أن الطالع كان لعشرين درجة من الجدى وكان المشتري
وزحل مقترنين في ثلاث درج من العقرب وهي درجة وسط السماء.
وكان
__________
(1) في الاصل لسبعة عشر، وهو خطأ.
موافقا من البروج الحمل وكان ذلك عند طلوع القمر أول
الليل نقله كله ابن دحية والله أعلم.
قال ابن إسحاق: وكان مولده عليه الصلاة والسلام عام
الفيل وهذا هو المشهور عن الجمهور.
قال إبراهيم بن المنذر الحزامي: وهو الذي لا يشك فيه أحد
من علمائنا أنه عليه الصلاة والسلام ولد عام الفيل وبعث على رأس أربعين سنة من
الفيل.
وقد رواه البيهقي من حديث أبي اسحاق السبيعي عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس.
قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل وقال محمد بن
إسحاق حدثني المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قيس بن مخرمة قال
ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، كنا لدين.
قال وسأل عثمان رضي الله عنه قباث بن اشيم أخا بني يعمر
بن ليث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه
وسلم أكبر مني وأنا أقدم منه في الميلاد.
ورأيت خزق الفيل أخضر محيلا.
ورواه الترمذي والحاكم من حديث محمد بن إسحاق به.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عام
عكاظ ابن عشرين سنة.
وقال ابن إسحاق: كان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة.
وكان بناء الكعبة بعد الفجار
بخمسة عشر سنة، والمبعث بعد بنائها بخمس سنين.
وقال محمد بن جبير بن مطعم ": كانت عكاظ بعد الفيل
بخمس عشرة سنة، وبناء الكعبة بعد عكاظ بعشر سنين، والمبعث بعد بنائها بخمس عشرة
سنة.
وروى الحافظ البيهقي من حديث عبد العزيز بن أبي ثابت
المديني [ قال ] حدثنا الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث قال: سمعت عبد الملك بن
مروان، يقول لقباث بن أشيم الكناني ثم الليثي: يا قباث أنت أكبر أم رسول الله صلى
الله عليه وسلم ؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسن [ منه ].
ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي
أمي على روث الفيل محبلا أعقله.
وتنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة.
وقال يعقوب بن سفيان حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير [
قال ] حدثنا نعيم يعني ابن ميسرة - عن بعضهم عن سويد بن غفلة أنه قال: أنا لدة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولدت عام الفيل.
قال البيهقي وقد روي عن سويد بن غفلة أنه قال أنا أصغر
من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين.
قال يعقوب وحدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا عبد العزيز بن
أبي ثابت حدثني عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان النوفلي عن أبيه عن محمد بن جبير
بن مطعم.
قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وكانت بعده عكاظ
بخمس عشرة سنة، وبني البيت على رأس خمس وعشرين سنة من الفيل، وتنبأ رسول الله صلى الله
عليه وسلم على رأس أربعين سنة من الفيل.
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل
على قول الجمهور فقيل بعده بشهر، وقيل بأربعين يوما، وقيل بخمسين يوما - وهو أشهر
- وعن أبي جعفر الباقر كان قدوم الفيل للنصف من المحرم، ومولد رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعده بخمس وخمسين ليلة، وقال آخرون بل كان عام الفيل قبل مولد رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعشر سنين.
قاله ابن أبزى.
وقيل بثلاث وعشرين سنة رواه شعيب بن
شعيب عن أبيه عن جده كما تقدم وقيل بعد الفيل بثلاثين
سنة.
قاله موسى بن عقبة عن الزهري رحمه الله.
واختاره موسى بن عقبة أيضا رحمه الله.
وقال أبو زكريا العجلاني: بعد الفيل بأربعين عاما، رواه
ابن عساكر وهذا غريب جدا، وأغرب منه ما قال خليفة بن خياط حدثني شعيب بن حبان عن
عبد الواحد بن أبي عمرو عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: ولد
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفيل بخمس عشرة سنة
وهذا حديث غريب ومنكر وضعيف أيضا، قال خليفة بن خياط والمجتمع عليه أنه عليه
السلام ولد عام الفيل.
صفة مولده الشريف عليه الصلاة والسلام قد تقدم أن عبد
المطلب لما ذبح تلك الابل المائة عن ولده عبد الله حين كان نذر ذبحه فسلمه الله
تعالى لما كان قدر في الازل من ظهور النبي الامي صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل
وسيد ولد آدم من صلبه، فذهب كما تقدم فزوجه أشرف عقيلة في قريش آمنة بنت وهب بن
عبد مناف بن زهرة الزهرية، فحين دخل بها وأفضى إليها حملت برسول الله صلى الله
عليه وسلم، وقد كانت أم قتال رقيقة بنت نوفل أخت ورقة بن نوفل توسمت ما كان بين عيني
عبد الله قبل أن يجامع آمنة من النور، فودت أن يكون ذلك متصلا بها لما كانت تسمع
من أخيها من البشارات بوجود محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه قد أزف زمانه فعرضت
نفسها عليه.
قال بعضهم ليتزوجها وهو أظهر والله أعلم، فامتنع عليها
فلما انتقل ذلك النور الباهر إلى آمنة بمواقعته إياها كأنه تندم على ما كانت عرضت
عليه.
فتعرض لها لتعاوده.
فقالت لا حاجة لي فيك وتأسفت على ما فاتها من ذلك وأنشدت
في ذلك ما قدمناه من الشعر الفصيح البليغ.
وهذه الصيانة لعبد الله ليست له وإنما هي لرسول الله صلى
الله عليه وسلم، فإنه كما قال تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) وقد تقدم
الحديث المروي من طريق جيد أنه قال عليه الصلاة والسلام: " ولدت من نكاح لا
من سفاح ".
والمقصود أن أمه حين حملت به توفي أبوه عبد الله وهو حمل
في بطن أمه على المشهور.
قال محمد بن سعد حدثنا محمد بن عمر - هو الواقدي - حدثنا
موسى بن عبيدة اليزيدي.
وحدثنا سعيد بن أبي زيد عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي
صعصعة.
قال: خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام إلى غزة في عير من عيران
قريش يحملونه تجارات، ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا فمروا بالمدينة وعبد الله بن
عبد المطلب يومئذ مريض، فقال أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم
مريضا شهرا ومضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبد المطلب عن ابنه عبد الله فقالوا
خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار وهو مريض.
فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث.
فوجده قد توفي ودفن في دار النابغة فرجع إلى أبيه
فأخبره، فوجد عليه عبد المطلب وإخوته وأخواته وجدا شديدا، ورسول الله صلى الله
عليه وسلم يومئذ حمل.
ولعبد الله بن عبد المطلب يوم توفي خمس وعشرون سنة
قال الواقدي: هذا هو أثبت الاقاويل في وفاة عبد الله
وسنه عندنا.
قال الواقدي: وحدثني معمر عن الزهري أن عبد المطلب بعث
عبد الله إلى المدينة يمتار لهم تمرا فمات.
قال محمد بن سعد وقد أنبأنا هشام بن محمد بن السائب
الكلبي عن أبيه وعن عوانة بن الحكم.
قالا: توفي عبد الله بن عبد المطلب بعد ما أتى على رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرين شهرا، وقيل سبعة أشهر.
وقال محمد بن سعد: والاول أثبت أنه توفي ورسول الله صلى
الله عليه وسلم حمل.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن حسن عن عبد السلام
عن ابن خربوذ.
قال: توفي عبد الله بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن
شهرين، وماتت أمه وهو ابن أربع سنين، ومات جده وهو ابن ثمان سنين، فأوصى به إلى
عمه أبي طالب.
والذي رجحه الواقدي وكاتبه الحافظ محمد بن سعد أنه عليه
الصلاة والسلام توفي أبوه وهو جنين في بطن أمه وهذا أبلغ اليتم وأعلى مراتبه.
وقد تقدم في الحديث " ورؤيا أمي الذي رأت حين حمل
بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام " وقال محمد بن إسحاق فكانت آمنة
بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى
الله عليه وسلم فقيل لها إنك قد حملت بسيد هذه الامة، فإذا وقع إلى الارض فقولي:
أعيذه بالواحد * من شر كل حاسد من كل بر عاهد * وكل عبد رائد يذود عني ذائد * فإنه عند الحميد
الماجد حتى أراه قد أتى المشاهد وآية ذلك أنه يخرج معه نور يملا قصور بصرى من أرض
الشام، فإذا وقع فسميه محمدا.
فإن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الارض،
واسمه في الانجيل أحمد يحمده أهل
السماء وأهل الارض، واسمه في القرآن محمد.
وهذا وذاك يقتضي أنها رأت حين حملت به عليه السلام كأنه
خرج منها نور أضاءت له قصور الشام.
ثم لما وضعته رأت عيانا تأويل ذلك كما رأته قبل ذلك
هاهنا والله أعلم.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا محمد بن عمر - هو الواقدي -
حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم عن الزهري.
وقال الواقدي: حدثنا موسى بن عبدة عن أخيه ومحمد بن كعب
القرظي.
وحدثني عبد الله بن جعفر الزهري عن عمته أم بكر بنت
المسود عن أبيها.
وحدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم المزني وزياد بن حشرج عن
أبي وجزة.
وحدثنا معمر عن أبي نجيح عن مجاهد.
وحدثنا طلحة بن عمرو بن عطاء عن ابن عباس: دخل حديث
بعضهم في حديث بعض.
أن آمنة بنت وهب قالت لقد علقت به - تعني رسول الله صلى
الله عليه وسلم - فما وجدت له مشقة حتى وضعته، فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له
ما بين المشرق إلى المغرب، ثم وقع إلى الارض معتمدا على يديه، ثم أخذ قبضة من
التراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء.
وقال بعضهم وقع جاثيا على ركبتيه، وخرج معه نور
ضاءت له قصور الشام وأسواقها حتى رؤيت أعناق الابل
ببصرى، رافعا رأسه إلى السماء.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي أنبأنا محمد بن عبد الله
الحافظ أنبأنا محمد بن إسماعيل [ قال ] أنبأنا محمد بن إسحاق حدثنا يونس بن مبشر
بن الحسن [ قال ] حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، [ قال ] حدثنا عبد العزيز بن
عمران حدثنا عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن أبي
سويد الثقفي عن عثمان بن أبي العاص، [ قال ]: حدثتني أمي أنها شهدت ولادة آمنة بنت
وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ولدته، قالت فما شئ أنظره في البيت إلا
نور، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لاقول ليقعن علي.
وذكر القاضي عياض عن الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف أنها
كانت قابلته وأنها أخبرت به حين سقط على يديها واستهل سمعت قائلا يقول يرحمك الله،
وإنه سطع منه نور رئيت منه قصور الروم.
قال محمد بن إسحاق: فلما وضعته بعثت إلى عبد المطلب
جاريتها - وقد هلك أبوه وهي حبلى ويقال إن عبد الله هلك والنبي صلى الله عليه وسلم
ابن ثمانية وعشرين شهرا فالله أعلم أي ذلك كان - فقالت قد ولد لك غلام فانظر إليه،
فلما جاءها أخبرته وحدثته بما كانت رأت حين حملت به، وما قيل لها فيه، وما أمرت أن
تسميه.
فأخذه عبد المطلب فأدخله على هبل في جوف الكعبة، فقال
عبد المطلب يدعو ويشكر الله عزوجل ويقول: الحمد لله الذي أعطاني * هذا الغلام
الطيب الاردان قد ساد في المهد على الغلمان * أعيذه بالبيت ذي الاركان حتى يكون
بلغة الفتيان * حتى أراه بالغ البنيان أعيذه من كل ذي شنان * من حاسد مضطرب العنان
ذي همة ليس له عينان * حتى أراه رافع اللسان أنت الذي سميت في القرآن * في كتب
ثابتة المثاني * أحمد مكتوب على اللسان * وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله
الحافظ أنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حاتم الدرابودي - بمرو - [ قال ]: حدثنا أبو
عبد الله البوشنجي، حدثا أبو أيوب: سليمان بن سلمة الخبائري، حدثنا يونس بن عطاء
بن عثمان بن ربيعة بن زياد بن الحارث الصدائي - بمصر - حدثنا الحكم بن أبان، عن
عكرمة، عن ابن عباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختونا مسرورا،
قال فأعجب [ به ] جده عبد المطلب وحظي عنده.
وقال: ليكونن لابني هذا شأن فكان له شأن.
وهذا الحديث في صحته نظر.
وقد رواه الحافظ ابن عساكر من حديث سفيان بن محمد
المصيصي عن هشيم عن يونس بن عبيد عن الحسن عن
أنس.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كرامتي على
الله أني ولدت مختونا ولم ير سوأتي أحد ثم أورده من طريق الحسن بن عرفة عن هشيم به.
ثم أورده من طريق محمد بن محمد بن سليمان - هو
الباغندي - حدثنا عبد الرحمن بن أيوب الحمصي حدثنا موسى
بن أبي موسى المقدسي حدثني خالد بن سلمة عن نافع عن ابن عمر.
قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا مختونا.
وقال أبو نعيم: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي
حدثنا الحسين بن أحمد بن عبد الله المالكي حدثنا سليمان بن سلمة الخبائري حدثنا
يونس بن عطاء حدثنا الحكم بن أبان حدثنا عكرمة عن ابن عباس عن أبيه العباس.
قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختونا مسرورا،
فأعجب ذلك جده عبد المطلب وحظي عنده، وقال ليكونن لابني هذا شأن، فكان له شأن.
وقد ادعى بعضهم صحته لما ورد له من الطرق حتى زعم بعضهم
أنه متواتر وفي هذا كله نظر، ومعنى مختونا أي مقطوع الختان، ومسرورا أي مقطوع
السرة من بطن أمه.
وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن عيينة
البصري حدثنا علي بن محمد المدائني السلمي حدثنا سلمة بن محارب بن مسلم بن زياد عن
أبيه عن أبي بكرة أن جبريل ختن النبي صلى الله عليه وسلم حين طهر قلبه وهذا غريب
جدا.
وقد روى أن جده عبد المطلب ختنه وعمل له دعوة جمع قريشا
عليها والله أعلم.
وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأني محمد
بن كامل القاضي - شفاها - أن محمد بن إسماعيل حدثه - يعني السلمي - حدثنا أبو صالح: عبد
الله بن صالح حدثني معاوية بن صالح، عن أبي الحكم التنوخي، قال: كان المولود إذا ولد
في قريش دفعوه إلى نسوة من قريش إلى الصبح يكفأن عليه برمة، فلما ولد رسول الله
صلى الله عليه وسلم دفعه عبد المطلب إلى نسوة فكفأن عليه برمة، فلما أصبحن أتين
فوجدن البرمة قد انفلقت عنه باثنتين ووجدنه مفتوح العينين شاخصا ببصره إلى السماء.
فأتاهن عبد المطلب، فقلن له: ما رأينا مولودا مثله،
وجدناه قد انفلقت عنه البرمة، ووجدناه مفتوحا عينيه شاخصا ببصره إلى السماء.
فقال:
احفظنه فإني أرجو أن يكون له شأن، أو أن يصيب خيرا، فلما
كان اليوم السابع ذبح عنه، ودعا له قريشا، فلما أكلوا قالوا: يا عبد المطلب أرأيت
ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه، ما سميته ؟ قال سميته محمدا، قالوا فما رغبت به
عن أسماء أهل بيته ؟ قال أردت أن يحمده الله [ تعالى ] في السماء وخلقه في الارض
قال أهل اللغة: كل جامع لصفات الخير يسمى محمدا كما قال بعضهم:
إليك -
أبيت اللعن - أعملت ناقتي * إلى الماجد القرم الكريم
المحمد وقال بعض العلماء: ألهمهم الله عزوجل أن سموه محمدا لما فيه من الصفات
الحميدة ليلتقي الاسم والفعل، ويتطابق الاسم والمسمى في الصورة والمعنى، كما قال عمه
أبو طالب ويروى لحسان: وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد
وسنذكر أسماءه عليه الصلاة والسلام وشمائله وهي صفاته
الظاهرة وأخلاقه الطاهرة ودلائل نبوته وفضائل منزلته في آخر السيرة إن شاء الله.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا احمد بن شيبان الرملي حدثنا أحمد بن إبراهيم
الحبلي حدثنا الهيثم بن جميل حدثنا زهير عن محارب بن دثار عن عمرو بن يثربي عن العباس
بن عبد المطلب قال قلت: يارسول الله ! دعاني إلى الدخول في دينك أمارة لنبوتك،
رأيتك في المهد تناغي القمر وتشير إليه بإصبعك، فحيث أشرت إليه مال.
قال: " إني كنت أحدثه ويحدثني ويلهيني عن البكاء،
واسمع وجبته حين يسجد تحت العرش
".
ثم قال تفرد به الليثي وهو مجهول.
فصل فيما وقع من الايات ليلة مولده عليه الصلاة والسلام
قد ذكرنا في باب هواتف الجان ما تقدم من خرور كثير من الاصنام ليلتئذ لوجوهها
وسقوطها عن أماكنها، وما رآه النجاشي ملك الحبشة، وظهور النور معه حتى أضاءت له
قصور الشام حين ولد، وما كان من سقوطه جائيا رافعا رأسه إلى السماء، وانفلاق تلك البرمة
عن وجهه الكريم، وما شوهد من النور في المنزل الذي ولد فيه ودنو النجوم منهم وغير
ذلك.
حكى السهيلي عن تفسير بقي بن مخلد الحافظ أن ابليس رن
أربع رنات: حين لعن، وحين أهبط، وحين ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين
أنزلت الفاتحة.
قال محمد بن إسحاق: وكان هشام بن
عروة يحدث عن أبيه عن عائشة قالت: كان يهودي قد سكن مكة
يتجر بها فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في
مجلس من قريش: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود ؟ فقال القوم والله ما
نعلمه فقال الله أكبر، أما إذا أخطأكم فلا بأس انظروا واحفظوا ما أقول لكم: ولد
هذه الليلة نبي هذه الامة الاخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف
فرس.
لا يرضع ليلتين وذلك أن عفريتا من الجن ادخل أصبعه في
فمه فمنعه الرضاع فتصدع القوم من مجلسهم وهم يتعجبون من قوله وحديثه فلما صاروا إلى
منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله فقالوا قد والله ولد لعبد الله بن عبد المطلب
غلام سموه محمدا فالتقى القوم فقالوا هل سمعتم حديث اليهودي وهل بلغكم مولد هذا
الغلام ؟ فانطلقوا حتى جاؤوا اليهودي فأخبروه الخبر.
قال فاذهبوا معي حتى أنظر إليه، فخرجوا به حتى أدخلوه
على آمنة فقالوا اخرجي إلينا ابنك فاخرجته وكشفوا له عن ظهره.
فرأى تلك الشامة.
فوقع اليهودي مغشيا عليه.
فلما أفاق قالوا له مالك ويلك ؟ قال قد ذهبت والله
النبوة من بني إسرائيل، فرحتم بها يا معشر قريش.
والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني صالح بن إبراهيم عن يحيى بن
عبد الرحمن بن أسعد
بن زرارة قال حدثني من شئت من رجال قومي ممن لا أتهم عن
حسان بن ثابت.
قال: إني لغلام يفعة ابن سبع سنين - أو ثمان سنين - أعقل ما رأيت
وسمعت إذا بيهودي في يثرب يصرخ ذات غداة يا معشر يهود فاجتمعوا إليه - وأنا أسمع - فقالوا ويلك
مالك ؟ قال قد طلع نجم أحمد الذي يولد به في هذه الليلة.
وروى الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة من حديث أبي
بكر بن عبد الله العامري عن سليمان بن سحيم وذريح بن عبد الرحمن كلاهما عن عبد
الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال سمعت أبي مالك بن سنان يقول جئت بني عبد الاشهل
يوما لاتحدث فيهم ونحن يومئذ في هدنة من الحرب، فسمعت يوشع اليهودي يقول: أظل خروج
نبي يقال له أحمد يخرج من الحرم.
فقال له خليفة بن ثعلبة الاشهلي - كالمستهزئ به ما صفته
؟ فقال رجل ليس بالقصير ولا
بالطويل في عينيه حمرة يلبس الشملة ويركب الحمار.
سيفه على عاتقه وهذا البلد مهاجره.
قال فرجعت إلى قومي بني خدرة وأنا يومئذ أتعجب مما يقول
يوشع فأسمع رجلان منا يقول ويوشع يقول هذا وحده ! ؟ كل يهود يثرب يقولون هذا.
قال أبي مالك بن سنان فخرجت حتى جئت بني قريظة فأجد جمعا
فتذاكروا النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الاحمر الذي لم يطلع
إلا لخروج نبي أو ظهوره ولم يبق أحد إلا أجمد وهذا مهاجره.
قال أبو سعيد فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أخبره
أبي هذا الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أسلم الزبير لاسلم
ذووه من رؤساء اليهود إنما هم له تبع " وقال أبو نعيم: حدثنا عمر بن محمد
حدثنا ابراهيم بن السندي حدثنا النضر بن سلمة حدثنا إسماعيل بن قيس بن سليمان بن
زيد بن ثابت عن أم سعد بنت سعد بن الربيع سمعت زيد بن ثابت يقول: كان أحبار يهود بني
قريظة والنضير يذكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم فلما طلع الكوكب الاحمر أخبروا
أنه نبي وأنه لا نبي بعده.
واسمه أحمد ومهاجره إلى يثرب فلما قدم رسول الله صلى
الله عليه وسلم المدينة أنكروا وحسدوا وكفروا.
وقد أورد هذه القصة الحافظ أبو نعيم في كتابه من طرق
أخرى ولله الحمد.
وقال أبو نعيم ومحمد بن حبان: حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم
حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن
حاطب عن أسامة بن زيد، قال قال زيد بن عمرو بن نفيل قال لي حبر من أحبار الشام: قد
خرج في بلدك نبي - أو هو خارج - قد خرج نجمه فارجع فصدقه واتبعه.
ذكر ارتجاس ايوان كسرى وسقوط الشرفات وخمود النيران
ورؤيا الموبذان وغير ذلك من الدلالات قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل
الخرائطي في كتاب هواتف الجان: حدثنا علي بن حرب حدثنا أبو أيوب يعلى بن عمران -
من آل جرير بن عبد الله البجلي - حدثني مخزوم بن هاني المخزومي عن أبيه - وأتت
عليه خمسون ومائة سنة - قال: لما كانت الليلة التي ولد فيها
رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى وسقطت
منه أربع عشرة شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة
ساوة، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادهم،
فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك، فتصبر عليه تشجعا، ثم رأى أنه لا يدخر ذلك عن مرازبته
فجمعهم ولبس تاجه وجلس على سريره.
ثم بعث إليهم، فلما اجتمعوا عنده.
قال: أتدرون فيم بعثت إليكم ؟ قالوا: لا، إلا أن يخبرنا
الملك [ ذلك ]، فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب خمود النيران فازداد غما إلى
غمه، ثم أخبرهم بما رأى وما هاله، يقال الموبذان وأنا - أصلح الله الملك - قد رأيت
في هذه الليلة رؤيا ثم قص عليه رؤياه في الابل، يقال أي شئ يكون هذا يا موبذان ؟
قال حدث يكون في ناحية العرب - وكان أعلمهم من انفسهم - فكتب عند ذلك: من كسرى ملك
الملوك إلى النعمان بن المنذر ; أما بعد فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله
عنه، فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن نفيلة الغساني، فلما ورد عليه قال
له: ألك علم بما أريد أن أسألك عنه ؟ فقال لتخبرني أو ليسألني الملك عما أحب، فإن
كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلم.
فأخبره بالذي وجه به إليه فيه.
قال علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح،
قال فائته فاسأله عما سألتك عنه ثم ائتني بتفسيره.
فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح وقد أشفى على الضريح.
فسلم عليه وكلمه فلم يرد إليه سطيخ جوابا فانشأ يقول:
أصم أم يسمع غطريف اليمن * أم فاد فار لم به شأو العنن يا فاصل الخطة أعيت من ومن * أتاك
شيخ الحي من آل سنن وأمه من آل ذئب بن حجن * أزرق نهم الناب صرار الاذن أبيض فضفاض
الرداء والبدن * رسول قيل العجم يسري للوسن يجوب بي الارض علنداة شزن * لا يرهب
الرعد ولا ريب الزمن ترفعني وجنا وتهوي بي وجن * حتى أتى عاري الجآجي والقطن تلفه
في الريح بوغاء الدمن * كأنما حثحث من حضني ثكن
قال فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه يقول: عبد المسيح، على
جمل مشيح، أتى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الايوان،
وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة،
وانتشرت في بلادها، يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي
السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما.
يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات وكل ما هو آت آت.
ثم قصى سطيح مكانه فنهض عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول:
شمر فإنك ماضي العزم شمير * لا يفزعنك تفريق وتغيير إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم *
فإن ذا الدهر أطوار دهارير
فربما ربما أضحوا بمنزلة * يخاف صولهم الاسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته * والهرمزان وشابور وسابور والناس أولاد علات فمن
علموا * أن قد أقل فمحقور ومهجور ورب قوم لهم صحبان ذي اذن * بدت تلهيهم فيه المزامير وهم بنو الام
إما إن رأوا نشبا * فذاك بالغيب محفوظ ومنصور والخير والشر مقرونان في قرن *
فالخير متبع والشر محذور قال فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بما قال له سطيح،
فقال كسرى ألى أن يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور وأمور، فملك منهم عشرة في
أربع سنين، وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه.
ورواه البيهقي من حديث عبد الرحمن بن محمد بن إدريس عن
علي بن حرب الموصلي بنحوه.
قلت: كان آخر ملوكهم - الذي سلب منه الملك يزدجرد بن
شهريار بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان وهو الذي انشق الايوان في زمانه.
وكان لاسلافه في الملك ثلاثة آلاف سنة ومائة وأربعة
وستون سنة.
وكان أول ملوكهم خيومرت بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح.
أما سطيح هذا فقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه هو الربيع
ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن الازد.
ويقال الربيع بن مسعود وأمه ردعا بنت سعد بن الحارث
الحجوري وذكر غير ذلك في نسبه.
قال وكان يسكن الجابية ثم روى عن أبى حاتم السجستاني قال
سمعت المشيخة منهم أبو عبيدة وغيره قالوا وكان من بعد لقمان بن عاد.
ولد في زمن سيل العرم وعاش إلى ملك ذي نواس وذلك نحو من
ثلاثين قرنا وكان مسكنه البحرين وزعمت عبد القيس أنه منهم وتزعم الازد أنه منهم
وأكثر المحدثين يقولون هو من الازد ولا ندري ممن هو غير أن ولده يقولون إنه من الازد.
وروي عن ابن عباس أنه قال: لم يكن شئ من بني آدم يشبه
سطيحا إنما كان لحما على وضم ليس فيه عظم ولا عصب إلا في رأسه وعينيه وكفيه وكان
يطوى كما يطوى الثوب من رجليه إلى عنقه.
ولم يكن فيه شئ يتحرك إلا لسانه.
وقال غيره إنه كان إذا غضب انتفخ وجلس.
ثم ذكر ابن عباس أنه قدم مكة فتلقاه جماعة من رؤسائهم
منهم عبد شمس وعبد مناف أبناء قصي فامتحنوه في أشياء فأجابهم فيها بالصدق، فسألوه
عما يكون في آخر الزمان.
فقال خذوا مني ومن إلهام الله إياي: أنتم الآن يا معشر
العرب في زمان الهرم سواء بصائركم وبصائر العجم، لا علم عندكم ولا فهم، وينشأ من عقبكم
ذوو فهم، يطلبون أنواع العلم فيكسرون الصنم، ويتبعون الردم، ويقتلون العجم، يطلبون
الغنم.
ثم قال والباقي الابد، والبالغ الامد ليخرجن من ذا البلد،
نبي مهتد، يهدي إلى الرشد، يرفض بغوث والفند، يبرأ عن عبادة الضدد، يعبد ربا
انفرد، ثم يتوفاه الله بخير دار محمودا، من الارض مفقودا، وفي
السماء مشهودا، ثم يلي أمره الصديق إذا قضى صدق، وفي رد
الحقوق لا خرق ولا نزق، ثم يلي أمره الحنيف، مجرب غطريف، قد أضاف المضيف، وأحكم
التحنيف.
ثم ذكر عثمان ومقتله وما يكون بعد ذلك من أيام بني أمية
ثم بني العباس.
وما بعد ذلك من الفتن والملاحم ساقه ابن عساكر بسنده عن
ابن عباس بطوله.
وقد قدمنا قوله لربيعة بن نصر ملك اليمن حين أخبره
برؤياه قبل أن يخبره بها ثم ما يكون في بلاد اليمن من الفتن وتغيير الدول حتى يعود
إلى سيف بن ذي يزن
فقال له: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع ؟ قال بل ينقطع.
قال ومن يقطعه ؟ قال نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي
قال وممن هذا النبي ؟ قال من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه
إلى آخر الدهر قال وهل للدهر من آخر ؟ قال نعم، يوم يجمع فيه الاولون والآخرون،
يسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيئون.
قال أحق ما تخبرني ؟ قال نعم والشفق والغسق والقمر إذا
اتسق إن ما أنبأتك عليه لحق.
ووافقه على ذلك شق سوآ بسواء بعبارة أخرى كما تقدم.
ومن شعر سطيح قوله: عليكم بتقوى الله في السر والجهر *
ولا تلبسوا صدق الامانة بالغدر وكونوا لجار الجنب حصنا وجنة * إذا ماعرته النائبات
من الدهر وروى ذلك الحافظ ابن عساكر ثم أورد ذلك المعافى بن زكريا الجريري فقال:
وأخبار سطيح كثيرة وقد جمعها غير واحد من أهل العلم.
والمشهور أنه كان كاهنا وقد أخبر عن النبي صلى الله عليه
وسلم وعن نعته ومبعثه.
وروى لنا بإسناد الله به أعلم أن النبي صلى الله عليه
وسلم سئل عن سطيح فقال: " نبي ضيعه قومه ".
قلت: أما هذا الحديث فلا أصل له في شئ من كتب الاسلام
المعهودة ولم أره بإسناد أصلا.
ويروى مثله في خبر خالد بن سنان العبسي ولا يصح أيضا
وظاهر هذه العبارات تدل على علم جيد لسطيح وفيها روائح التصديق لكنه لم يدرك
الاسلام كما قال الجريري.
فإنه قد ذكرنا في هذا الاثر أنه قال لابن أخته: يا عبد
المسيح إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة وغاضت بحيرة ساوة،
وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطح شاما بملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات وكل
ما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه وكان ذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم
بشهر - أو شية - أي أقل منه - وكانت وفاته بأطراف الشام مما يلي أرض العراق -
فالله أعلم بأمره وما صار إليه.
وذكر ابن طرار الحريري أنه عاش سبعمائة سنة.
وقال غيره خمسمائة سنة، وقيل ثلاثمائة سنة فالله أعلم.
وقد روى ابن عساكر أن ملكا سأل سطيحا عن نسب غلام اختلف
فيه فأخبره على الجلية في كلام طويل مليح فصيح.
فقال له الملك ياسطيح ألا تخبرني عن
علمك هذا ؟ فقال إن علمي هذا ليس مني ولا بجزم ولا بظن
ولكن أخذته عن أخ لي قد سمع الوحي بطور سيناء.
فقال له أرأيت أخاك هذا الجني أهو معك لا يفارقك، فقال
انه ليزول حيث أزول، ولا أنطق إلا بما يقول.
وتقدم أنه ولد هو وشق بن مصعب بن يشكر بن رهم بن بسر بن
عقبة الكاهن الآخر ولدا في يوم واحد، فحملا إلى الكاهنة
طريفة بنت الحسين الحميدية فتفلت في أفواههما فورثا منها الكهانة وماتت من يومها.
وكان نصف إنسان ويقال إن خالد بن عبد الله القسري من
سلالته، وقد مات شق قبل سطيح بدهر.
وأما عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حبان بن نفيلة
الغساني النصراني فكان من المعمرين وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخ وقال هو
الذي صالح خالد بن الوليد على.
وذكر له معه قصة طويلة وأنه أكل من يده سم ساعة فلم يصبه
سوء لانه لما أخذه قال: بسم الله وبالله رب الارض والسماء الذي لا يضر مع اسمه أذى.
ثم أكله فعلته غشية فضرب بيديه على صدره ثم عرق وأفاق
رضي الله عنه وذكر لعبد المسيح أشعارا غير ما تقدم.
وقال أبو نعيم: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا محمد
بن عثمان بن أبي شيبه حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا المسيب بن شريك حدثنا محمد بن شريك
عن شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده.
قال: كان بمر الظهران راهب من الرهبان يدعى عيصا من أهل
الشام وكان متخفرا بالعاص بن وائل وكان الله قد آتاه علما كثيرا وجعل فيه منافع
كثيرة لاهل مكة من طيب ورفق وعلم.
وكان يلزم صومعة له ويدخل مكة في كل سنة فيلقى الناس
ويقول إنه يوشك أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة يدين له العرب ويملك العجم هذا
زمانه ومن أدركه واتبعه أصاب حاجته ومن أدركه فخالفه أخطأ حاجته وبالله ما تركت
أرض الخمر والخمير والامن ولا حللت بأرض الجوع والبؤس والخوف إلا في طلبه وكان لا
يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه فيقول ما جاء بعد.
فيقال له فصفه فيقول لا.
ويكتم ذلك للذي قد علم أنه لاق من قومه مخافة على نفسه
أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يكون إليه من الاذى يوما.
ولما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله
عليه وسلم خرج
عبد الله بن عبد المطلب حتى أتى عيصا فوقف في أصل صومعته
ثم نادى: يا عيصاه.
فناداه من هذا ؟ فقال أنا عبد الله فأشرف عليه فقال كن
أباه فقد ولد المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين ويبعث يوم الاثنين ويموت
يوم الاثنين قال فإنه قد ولد لي مع الصبح مولود.
قال فما سميته ؟ قال محمدا قال والله لقد كنت أشتهي أن
يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال نعرفه بها منها أن نجمه طلع البارحة
وأنه ولد اليوم وأن اسمه محمد.
انطلق إليه فإن الذي كنت أخبركم عنه ابنك.
قال فما يدريك أنه ابني ولعله أن يولد في هذا اليوم
مولود غيره ؟ قال قد وافق ابنك الاسم ولم يكن الله ليشبه علمه على العلماء فإنه
حجة.
وآية ذلك أنه الآن وجع فيشتكي أياما ثلاثة، فيظهر به
الجوع ثلاثا ثم يعافى.
فاحفظ لسانك فإنه لم يحسد أحد حسده قط ولم يبغ على أحد
كما يبغى عليه.
إن تعش حتى يبدو مقاله ثم يدعو لظهر لك من قومك ما لا
تحتمله إلا على صبر وعلى ذلك فاحفظ لسانك ودار عنه قال فما عمره ؟ قال إن طال عمره
وإن قصر لم يبلغ السبعين، يموت في وتر دونها من الستين في إحدى وستين أو ثلاث
وستين في أعمار جل أمته.
قال
وحمل برسول الله صلى الله عليه وسلم في عاشر المحرم.
وولد يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من رمضان سنة ثلاث
وعشرين من غزوة أصحاب الفيل.
هكذا رواه أبو نعيم وفيه غرابة.
حواضنه ومراضعه عليه الصلاة والسلام كانت أم أيمن واسمها
بركة تحضنه، وكان قد ورثها عليه الصلاة والسلام من أبيه فلما كبر أعتقها وزوجها
مولاه زيد بن حارثة (1)، فولدت له أسامة بن زيد رضي الله عنهم.
وأرضعته مع أمه عليه الصلاة والسلام مولاة عمه أبي لهب
ثويبة (2) قبل حليمة السعدية.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما (3) من حديث الزهري عن
عروة بن الزبير عن زينب بنت أم سلمة (4) عن أم حبيبة بنت أبي سفيان.
قالت: يارسول الله أنكح أختي بنت أبي سفيان - ولمسلم عزة
بنت أبي سفيان -.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أو تحبين ذلك
؟ " قلت نعم ! لست لك بمخلية، وأحب من
شاركني في خير أختي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإن ذلك لا يحل
لي " قالت فإنا نحدث انك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة - وفي رواية درة بنت أبي
سلمة قال: " بنت أم سلمة ؟
" قلت نعم قال: " إنها لو لم تكن ربيبتي في
حجري ما حلت لي.
إنها لابنة أخي من الرضاعة.
أرضعتني وأبا سلمة ثويبة.
فلا تعرضن علي بناتكن ولا اخواتكن " زاد البخاري
قال عروة.
وثويبة مولاة لابي لهب أعتقها فأرضعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر خيبة (5).
فقال له ماذا لقيت ؟ فقال أبو لهب لم ألق بعدكم خيرا غير
أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة - وأشار إلى النقرة (6) التي بين الابهام والتي
تليها من الاصابع -.
وذكر السهيلي وغيره: أن الرائي له هو أخوه العباس.
وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر.
وفيه أن أبا لهب قال للعباس إنه ليخفف علي في مثل يوم
الاثنين.
قالوا لانه لما بشرته ثويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد
الله أعتقها من ساعته فجوزي بذلك لذلك.
__________
(1) في طبقات ابن سعد ج 8 / 223 أن أم أيمن تزوجت عبيد
بن زيد من بني الحارث بن الخزرج فولدت له أيمن، وقتل يوم حنين ثم تزوجت زيد بن
حارثة، مولى خديجة، بعد النبوة، فولدت له أسامة.
(2) وهي أول من أرضع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن
أبن لها يقال له مسروح وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب وبعده أبا سلمة بن
عبد الاسد المخزومي - وقيل معه
-.
(3) البخاري - كتاب النكاح - باب وأمهاتكم اللاتي
أرضعنكم..وباب: وربائبكم اللاتي في حجوركم ومسلم في 17 كتاب الرضاع (4) باب تحريم
الربيبة ح 16 ص 1073.
(4) زينب بنت أبي سلمة - وأمها أم سلمة -.
(5) في البخاري ودلائل البيهقي: حبيبة.
(6) في البيهقي: النقير وفي ابن سعد النقيرة.
رضاعه عليه الصلاة والسلام من حليمة بنت أبي ذؤيب
السعدية وما ظهر عليه من البركة وآيات النبوة
قال محمد بن إسحاق: فاسترضع له عليه الصلاة والسلام من
حليمة بنت أبي ذؤيب، واسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة
(1) بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان بن مضر قال
واسم أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرضعه - يعني زوج حليمة الحارث بن عبد
العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة (1) بن سعد بن بكر بن هوازن (2).
وأخوته عليه الصلاة والسلام - يعني من الرضاعة - عبد
الله بن الحارث وأنيسة بنت الحارث وحذافة (3) بنت الحارث وهي الشيماء وذكروا (4)
أنها كانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه إذا كان عندهم.
قال ابن إسحاق: حدثني جهم بن أبي جهم مولى [ لامرأة من
بني تميم كانت عند الحارث ابن حاطب، ويقال له مولى الحارث بن حاطب ] (5).
قال حدثني من سمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال حدثت
عن حليمة بنت الحارث أنها قالت ! قدمت مكة في نسوة وذكر الواقدي بإسناده انهن كن
عشرة نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن بها الرضعاء من بني سعد نلتمس بها الرضعاء في
سنة شهباء فقدمت على أتان لي قمراء كانت أذمت بالركب (6) ومعي صبي (7) لنا وشارف
لنا والله ما تبض بقطرة.
وما ننام ليلتنا ذلك أجمع (8) مع صبينا ذاك ما نجد في
ثديي ما
__________
(1) في ابن هشام: ابن ناصرة ابن قصية بن نصر وفي الطبري
باسقاط نصر وفي السهيلي فصية بالفاء.
(الروض الانف - الطبقات - الطبري - شرح السيرة).
(2) قدم الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة
حين أنزل عليه القرآن، فأتاه فقال: أي بني مالك ولقومك يشكونك ويزعمون أنك تقول:
إن الناس يبعثون بعد الموت ثم يصيرون إلى جنة ونار..ثم أسلم وحسن إسلامه..(الاصابة
- الروض الانف).
(3) في الاصابة: خذامة، وفي الطبري جذامة والطبقات:
جدامة.
(4) الطبري - ابن هشام في السيرة - الطبقات.
(5) ما بين معقوفين ليس في ابن هشام، وهذا ما عودنا عليه
ابن كثير في نقله عن ابن هشام وغيره ; فإنه يلخص المعنى بعبارته فيزيد ويحذف ولا
يلتزم النص إلا قليلا، وأحيانا كثيرة يخلط نقله بما يفسد المعنى.
(6) في ابن هشام: ادمت وفي الطبري اذمت.
قال أبو ذر في شرح السيرة: أدمت أي أطلت عليهم المسافة
لتمهلهم عليها.
وأذمت، ويروى أذممت: أي أعيت وتخلف بالركب بسببها ولم
تستطع اللحاق به.
(7) وهو عبد الله بن الحارث، وكانت ترضعه (الطبقات 8 /
110).
(8) في ابن هشام والطبري: وما ننام للينا أجمع من صبينا
الذي معنا = معي = من بكائه من الجوع.
يغنيه ولا في شارفنا ما يغذيه.
ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج.
فخرجت على أتاني تلك فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم
ضعفا وعجفا.
فقدمنا مكة فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها
رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل إنه يتيم، تركناه.
قلنا ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه ؟ إنما نرجو المعروف من
أبي الولد، فأما أمه فماذا عسى أن تصنع الينا، فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا
أخذت رضيعا غيري.
فلما لم نجد غيره وأجمعنا الانطلاق قلت لزوجي الحارث بن
عبد العزى والله إني لاكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع.
لانطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه.
فقال لا عليك أن تفعلي فعسى أن يجعل الله لنا فيه بركة.
فذهبت فأخذته فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره، فما
هو إلا أن أخذته فجئت به رحلي فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن.
فشرب حتى روي وشرب أخوه حتى روي.
وقام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل، فحلب ما شرب
وشربت حتى روينا.
فبتنا بخير ليلة.
فقال صاحبي حين أصبحنا: يا حليمة والله إني لاراك قد
أخذت نسمة مباركة.
ألم تري ما بتنا به الليلة من الخير والبركة حين أخذناه.
فلم يزل الله عزوجل يزيدنا خيرا.
ثم خرجنا راجعين إلى بلادنا فوالله لقطعت أتأتي بالركب
حتى ما يتعلق بها حمار حتى أن صواحبي ليقلن: ويلك يا بنت أبي ذؤيب هذه أتانك التي
خرجت عليها معنا ؟ فأقول نعم والله إنها لهي فقلن والله إن لها لشأنا.
حتى قدمنا أرض بني سعد.
وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها فإن كانت غنمي
لتسرح ثم تروح شباعا لبنا فتحلب ما شئنا وما حوالينا أو حولنا أحد تبض له شاة
بقطرة لين وإن أغنامهم لتروح جياعا حتى إنهم ليقولون لرعائهم - أو لرعيانهم -
ويحكم انظروا
حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب فاسرحوا معهم.
فيسرحون مع غنمي حيث تسرح فتروح أغنامهم جياعا ما فيها
قطرة لبن وتروح أغنامي شباعا لبنا نحلب ما شئنا.
فلم يزل الله يرينا البركة نتعرفها حتى بلغ سنتين فكان
يشب شبابا لا تشبه الغلمان.
فوالله ما بلغ السنتين حتى كان غلاما جفرا (1) فقدمنا به
على أمه ونحن أضن شئ به مما رأينا فيه من البركة.
فلما رأته أمه قلت لها دعينا نرجع بابننا هذه السنة
الاخرى فإنا نخشى عليه وباء (2) مكة.
فوالله ما زلنا بها حتى قالت نعم.
فسرحته معنا فأقمنا به شهرين أو ثلاثة (3).
فبينما هو خلف بيوتنا مع أخ له من الرضاعة في بهم لنا
جاء أخوه ذلك يشتد، فقال ذاك أخي القرشي جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا
بطنه.
فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فنجده فائما منتقعا لونه.
فاعتنقه أبوه وقال يا بني ما شأنك ؟ قال جاءني رجلان
عليهما ثياب بيض أضجعاني وشقا بطني ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه ثم رداه كما كان
فرجعنا به معنا.
فقال أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب
فانطلقي بنا نرده
__________
(1) الجفر: الغليط الشديد، هنا استجفر أي قوي على الاكل.
(2) كذا في الاصل وابن هشام والطبري.
والوبأ يهمز ويقصر والوباء بالمد: الطاعون.
(3) في ابن هشام والطبري وابن سيد الناس: بأشهر.
والبهم: الصغار من الغنم واحدتها بهمة.
إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف.
قالت حليمة فاحتملناه فلم ترع أمه إلا به.
فقدمنا به عليها فقالت ما ردكما به ياظئر ؟ فقد كنتما
عليه حريصين ؟ فقالا لا والله إلا أن الله قد أدى عنا، وقضينا الذي علينا، وقلنا
نخشى الاتلاف والاحداث نرده إلى أهله.
فقالت ما ذاك بكما فاصدقاني شأنكما ؟ فلم تدعنا حتى
أخبرناها خبره، فقالت أخشيتما عليه الشيطان، كلا والله ما للشيطان عليه من سبيل.
والله إنه لكائن لابني هذا شأن ألا أخبركما خبره ؟ قلنا
بلى ! قالت حملت به فما حملت حملا قط أخف [ علي ] منه فأريت في النوم حين حملت به
كأنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام ثم وقع حين ولدته وقوعا ما يقعه المولود،
معتمدا على يديه رافعا رأسه إلى السماء،
فدعاه عنكما.
وهذا الحديث قد روي من طرق أخر وهو من الاحاديث المشهورة
المتداولة بين أهل السير والمغازي (1).
وقال الواقدي: حدثني معاذ بن محمد عن عطاء بن أبي رباح
عن ابن عباس قال خرجت حليمة تطلب النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجدت البهم تقيل
فوجدته مع أخته فقالت في هذا الحر ؟ فقالت أخته يا أمه ما وجد أخي حرا.
رأيت غمامة تظلل عليه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى
انتهى إلى هذا الموضع.
وقال ابن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا له أخبرنا عن نفسك.
قال:
" نعم أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى [ أخي ] عيسى
عليهما السلام، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام،
واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا [ مع أخ لي ] في بهم لنا أتاني رجلان
عليهما ثياب بيض معهما طست من ذهب مملوء ثلجا، فأضجاني فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي
فشقاه فأخرجا منه علقة سوداء فألقياها.
ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج، حتى إذا ألقياه (2) رداه
كما كان، ثم قال أحدهما لصاحبه زنه بعشرة من أمته فوزنني بعشرة فوزنتهم، ثم قال
زنه بمائة من أمته فوزنني بمائة فوزنتهم.
ثم قال زنه بألف من أمته فوزنني بألف فوزنتهم، فقال دعه
عنك، فلو وزنته بأمته لوزنهم " وهذا إسناد جيد قوي (3).
__________
(1) ورد حادث شق الصدر في كتب السيرة، فقد رواه ابن هشام
في السيرة (1 / 176) طبقات ابن سعد (1 / 112) دلائل النبوة لابي نعيم (1 / 111) دلائل
النبوة للبيهقي 1 / 135 - 136 الخصائص الكبرى للسيوطي (1 / 54).
وقد أشار له أصحاب التفاسير في تفسير قوله عزوجل (ألم
نشرح لك صدرك).
وفي الاحاديث أن حادثة شق الصدر هذه تكررت ; لما أصبح
عمره صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ولما جاوز صلى الله عليه وسلم الخمسين من عمره
(راجع أحمد - ابن حبان - ابن عساكر - مسلم - الحاكم).
(2) في الطبري وابن هشام: أنقياه.
(3) أخرجه البيهقي في الدلائل ج 1 / 146 والطبري ج 1 /
128 والحاكم في المستدرك 2 / 600 وقال: صحيح.
وقد روى أبو نعيم الحافظ في الدلائل من طريق عمر بن
الصبح وهو أبو نعيم عن ثور بن يزيد عن مكحول عن شداد بن أوس هذه القصة مطولة جدا
ولكن عمر بن صبح هذا متروك كذاب متهم بالوضع.
فلهذا لم نذكر لفظ الحديث إذ لا يفرح به ثم قال: وحدثنا
أبو عمرو بن حمدان حدثنا الحسن بن نفير حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية بن الوليد
عن بحير بن سعيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن عتبة بن عبد
الله (1) أنه حدثه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان أول شأنك
يا رسول الله ؟ قال: " كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر فانطلقت أنا وابن لها
في بهم لنا ولم نأخذ معنا زادا فقلت يا أخي اذهب فائتنا بزاد من عند أمنا فانطلق
أخي ومكث عند البهم فأقبل [ إلي ] طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه أهو هو
؟ فقال نعم ! فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني للقفا فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه.
فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه ائتني
بماء ثلج فغسلا به جوفي ثم قال ائتني بماء برد فغسلا به قلبي ثم قال ائتني
بالسكينة فذرها (2) في قلبي ثم قال أحدهما لصاحبه خطه فخاطه وختم على قلبي بخاتم
النبوة، فقال أحدهما لصاحبه اجعله في كفة واجعل ألفا من أمته في كفة، فإذا أنا
أنظر إلى الالف فوقي اشفق أن يخر علي بعضهم.
فقال لو أن أمته وزنت به لمال بهم ثم انطلقا فتركاني
وفرقت فرقا شديدا، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيت فأشفقت أن يكون قد لبس
(3) بي فقالت أعيذك بالله.
فرحلت بعيرا لها، وحملتني على الرحل وركبت خلفي حتى
بلغنا إلى أمي، فقالت أديت أمانتي وذمتي وحدثتها بالذي لقيت فلم يرعها.
وقالت " إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام
" ورواه أحمد من حديث بقية بن الوليد به.
وهكذا رواه عبد الله بن المبارك وغيره عن بقية بن الوليد
به.
وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي داود الطيالسي حدثنا
جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي أخبرني عمير بن عمر بن عروة بن الزبير.
قال سمعت عروة بن الزبير يحدث عن أبي ذر الغفاري قال:
قلت يا رسول الله: كيف علمت أنك نبي حين
علمت ذلك واستيقنت أنك نبي ؟ قال: " يا أبا ذر
أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة وقع أحدهما على الارض، وكان الآخر بين السماء
والارض فقال أحدهما لصاحبه أهو هو ؟ قال هو هو.
قال
__________
= الاسناد، ولم يخرجاه.
وأقره الذهبي.
وهو في السيرة 1 / 177 وما بين معقوفين في الحديث زيادة
من ابن هشام والطبري.
ثور بن يزيد الكلاعي أبو خالد الحمصي أحد الحفاظ العلماء
مات سنة 153 ه وقيل سنة 155 ه.
وخالد بن معدان بن أبي كريب الكلاعي أبو عبد الله الشامي
الحمصي توفي سنة 103 وقيل غير ذلك.
(تراجم الرجال - تهذيب التهذيب).
(1) في دلائل البيهقي: عتبة بن عبد.
(2) في البيهقي: فذراها.
(3) في البيهقي: التبس بي: أي أصابني مس.
زنه برجل فوزنني برجل فرجحته " وذكر تمامه، وذكر شق
صدره وخياطته وجعل الخاتم بين كتفيه قال: " فما هو إلا أن وليا عني فكأنما
أعاين الامر معاينة " ثم أورد ابن عساكر عن أبي بن كعب بنحو ذلك.
ومن حديث شداد بن أوس بأبسط من ذلك.
وثبت في صحيح مسلم (1) من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن
أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام وهو يلعب مع
الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب واستخرج منه علقة سوداء فقال هذا
حظ الشيطان [ منك ]، ثم غسله في طشت من ذهب بماء زمزم، ثم لامه، ثم أعاده في مكانه
وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا إن محمدا قد قتل فاستقبلوه وهو
منتقع اللون.
قال أنس وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.
وقد رواه ابن عساكر من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث
عن عبد ربه بن سعيد عن ثابت البناني عن أنس أن الصلاة فرضت بالمدينة، وأن ملكين
أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبا به إلى زمزم فشقا بطنه فأخرجا حشوته في
طشت من ذهب فغسلاه بماء زمزم ثم لبسا جوفه حكمة وعلما.
ومن طريق ابن وهب أيضا عن يعقوب بن
عبد الرحمن الزهري عن أبيه عبد الرحمن بن عامر بن عتبة
بن أبي وقاص عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال قال خذوا
خيرهم وسيدهم، فأخذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمد به إلى زمزم فشق جوفه ثم
أتى بتور من ذهب فغسل جوفه ثم ملئ حكمة وإيمانا.
وثبت من رواية سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس.
وفي الصحيحين من طريق شريك [ بن عبد الله ] بن أبي نمر
عن أنس وعن الزهري عن أنس عن أبي ذر وقتادة عن أنس وعن مالك بن صعصعة عن النبي صلى
الله عليه وسلم في حديث الاسراء كما سيأتي قصة شرح الصدر ليلتئذ وإنه غسل بماء
زمزم، ولا منافاة لاحتمال وقوع ذلك مرتين مرة وهو صغير ومرة ليلة الاسراء ليتأهب للوفود
إلى الملا الاعلى ولمناجاة الرب عزوجل والمثول بين يديه تبارك وتعالى (2).
وقال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
لاصحابه: " أنا أعربكم، أنا قرشي واسترضعت في بني سعد بن بكر " وذكر ابن
إسحاق: أن حليمة لما أرجعته إلى أمه بعد فطامه مرت به على ركب من النصارى (3) فقاموا إليه
عليه الصلاة والسلام فقبلوه وقالوا إنا سنذهب بهذا
__________
(1) أخرجه بطوله الحاكم في المستدرك 2 / 616 - 617 -
وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
والامام أحمد في مسنده 3 / 149.
4 / 184 وأخرجه مسلم في صحيحه في 1 كتاب الايمان (74)
باب الاسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ح 261 ص (1 / 147).
وأخرجه البيهقي في الدلائل ج 2 / 5 وما بعدها.
لامه: جمعه وضم بعضه إلى بعض.
ظئره: أي مرضعته.
المخيط: هي الابرة ; وفي رواية بقية حصه فحاصه.
قال أبو الفضل (أحد الرواة) يحصه: يخيطه.
(2) انظر دلائل النبوة للبيهقي ج 2 / 136 - 137.
(3) في دلائل البيهقي: أن أمه التي ترضعه نزلت به سوق
عكاظ، فرآها كاهن من الكهان فقال: يا أهل عكاظ =
الغلام إلى ملكنا فإنه كائن له شأن فلم تكد تنفلت منهم
إلا بعد جهد.
وذكر أنها لما ردته حين تخوفت عليه أن يكون أصابه عارض،
فلما قربت من مكة افتقدته فلم تجده فجاءت جده
عبد المطلب فخرج هو وجماعة في طلبه، فوجده ورقة بن نوفل
ورجل آخر من قريش فأتيا به جده، فأخذه على عاتقه وذهب فطاف به يعوذه ويدعو له ثم
رده إلى أمه آمنة.
وذكر الاموي من طريق عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي - وهو
ضعيف - عن الزهري عن سعيد بن المسيب قصة مولده عليه الصلاة والسلام ورضاعه من حليمة
على غير سياق محمد بن إسحاق.
وذكر أن عبد المطلب أمر ابنه عبد الله أن يأخذه فيطوف به
في أحياء العرب ليتخذ له مرضعة فطاف حتى استأجر حليمة على رضاعه وذكر أنه أقام
عندها ست سنين تزيره جده في كل عام فلما كان من شق صدره عندهم ما كان ردته إليهم
فأقام عند أمه حتى كان عمره ثماني سنين ماتت فكفله جده عبد المطلب فمات وله عليه
الصلاة والسلام عشر سنين، فكفله عماه شقيقا أبيه الزبير وأبو طالب، فلما كان له
بضع عشرة سنة خرج مع عمه الزبير إلى اليمن.
فذكر أنهم رأوا منه آيات في تلك السفرة منها أن فحلا من
الابل كان قد قطع بعض الطريق في واد ممرهم عليه فلما رأى رسول الله صلى الله عليه
وسلم برك حتى حك بكلكله الارض فركبه عليه الصلاة والسلام.
ومنها أنه خاض بهم سيلا عرما فأيبسه الله تعالى حتى
جاوزوه ثم مات عمه الزبير وله أربع عشرة سنة فانفرد به أبو طالب.
والمقصود أن بركته عليه الصلاة والسلام حلت على حليمة
السعدية وأهلها وهو صغير ثم عادت على هوازن بكمالهم فواضله حين أسرهم بعد وقعتهم،
وذلك بعد فتح مكة بشهر.
فمتوا إليه برضاعه فأعتقهم وتحنن عليهم وأحسن إليهم كما
سيأتي مفصلا في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال محمد بن إسحاق: في وقعة هوازن عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده [ عبد الله بن عمرو
].
قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين فلما أصاب من
أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا يا رسول الله إنا
أهل (1) وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك.
وقال خطيبهم زهير بن صرد (2) فقال: يارسول الله إن ما في
الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك (3) اللاتي كن يكفلنك، فلو أنا ملحنا (4) ابن
أبي شمر، أو
__________
= اقتلوا هذا الغلام، فإن له ملكا، فزاغت به أمه التي
ترضعه، فأنجاه الله تعالى، 1 / 88.
(1) في سيرة ابن هشام: إنا أصل وعشيرة.
(2) كذا في الاصل ودلائل البيهقي وطبقات ابن سعد، وهو
زهير يكنى أبو صرد كما في سيرة ابن هشام.
وفي الواقدي 3 / 950: أبو صرد زهير بن صرد وفي هامش
السيرة الحلبية أبو صرد ويكنى أبو برقان ج 2 / 307.
(3) حواضنك: النساء اللاتي أرضعنك، فحاضنة الرسول صلى
الله عليه وسلم من بني سعد بن بكر وهم من هوازن.
(4) ملحنا: وفي رواية مالحنا، يعني أرضعنا، وابن أبي شمر
هو الحارث الغساني ملك الغساسنة.
النعمان بن المنذر ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك
رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت خير المكفولين.
ثم أنشد: أمنن علينا رسول الله في كرم * فإنك المرء
نرجوه وندخر امنن على بيضة قد عاقها قدر * ممزق شملها في دهرها غير أبقت لنا الدهر
هتافا على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا
أرجح الناس حلما حين يختبر امنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك يملاه من محضها
درر (1) امنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتي وما تذر (2) لا تجعلنا
كمن شالت نعامته * واستبق منا فانا معشر زهر (3) إنا لنشكر للنعمى وإن كفرت *
وعندنا بعد هذا اليوم مدخر وقد رويت هذه القصة من طريق عبيدالله بن رماحس الكلبي
الرملي عن زياد بن طارق الجشمي عن أبي صرد زهير بن جرول - وكان رئيس قومه - قال لما أسرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فبينا هو يميز بين الرجال والنساء وثبت حتى قعدت
بين يديه وأسمعته شعرا، أذكره حين شب ونشأ في هوازن حيث أرضعوه: امنن علينا رسول
الله في دعة * فانك المرء نرجوه وننتظر امنن على بيضة قد عاقها قدر * ممزق
شملها في دهرها غير
أبقت لنا الحرب هتافا على حزن * على قلوبهم الغماء
والغمر إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلما حين يختبر امنن على نسوة
قد كنت ترضعها * إذ فوك تملاه من محضها الدرر إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها * وإذ يزينك
ما تأتي وما تذر لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فإنا معشر زهر إنا لنشكر
للنعمى وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر فألبس العفو من قد كنت ترضعه * من
أمهاتك إن العفو مشتهر إنا نؤمل عفوا منك تلبسه * هذي البرية إذ تعفو وتنتصر فاغفر
عفا الله عما أنت راهبه * يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر
__________
(1) في دلائل البيهقي: مخضها الدرر.
وفي الواقدي: محضها الدرر وفيه مملوءة بدل يملاه.
(2) صدره في الواقدي: اللائي إذ كنت طفلا كنت ترضعها.
(3) شالت نعامته: أي تفرقت كلمتهم أو ذهب عزهم (القاموس
المحيط).
قال (1)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما ما كان
لي ولبني عبد المطلب فهو لله ولكم " فقالت الانصار: وما كان لنا فهو لله
ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
وسيأتي أنه عليه الصلاة والسلام أطلق لهم الذرية وكانت
ستة آلاف ما بين صبي وامرأة، وأعطاهم أنعاما وأناسى كثيرا.
حتى قال أبو الحسين بن فارس فكان قيمة ما أطلق لهم يومئذ
خمسمائة ألف ألف درهم.
فهذا كله من بركته العاجلة في الدنيا، فكيف ببركته على
من اتبعه في الدار الآخرة.
فصل قال ابن إسحاق: بعد ذكر رجوعه عليه الصلاة والسلام
إلى أمه آمنة بعد رضاعة حليمة له.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب،
وجده عبد المطلب في كلاءة الله وحفظه، ينبته الله نباتا حسنا لما يريد به من
كرامته فلما بلغ ست سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن
عمرو بن حزم أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنة توفيت وهو ابن ست سنين
بالابواء بين مكة والمدينة، كانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار
تزيره إياهم.
فماتت وهي راجعة به إلى مكة (2).
وذكر الواقدي بأسانيده أن النبي صلى الله عليه وسلم خرجت
به أمه إلى المدينة ومعها أم أيمن وله ست سنين، فزارت أخواله.
قالت أم أيمن فجاءني ذات يوم رجلان من يهود المدينة
فقالا لي أخرجي إلينا أحمد ننظر إليه، فنظر إليه وقلباه فقال أحدهما لصاحبه هذا
نبي هذه الامة وهذه دار هجرته، وسيكون بها من القتل والسبي أمر عظيم.
فلما سمعت أمه خافت وانصرفت به، فماتت بالابواء وهي
راجعة.
وقد قال الامام أحمد (3) حدثنا حسين بن محمد حدثنا أيوب
بن جابر عن سماك عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن بريدة عن أبيه قال: خرجنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بودان قال: " مكانكم حتى آتيكم "
فانطلق ثم جاءنا وهو ثقيل، فقال: " إني أتيت قبر أم محمد فسألت ربي الشفاعة -
يعني لها - فمنعنيها، وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن لحوم
الاضاحي بعد ثلاثة أيام فكلوا وامسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن الاشربة في هذه
الاوعية فاشربوا ما بدا لكم " وقد رواه البيهقي (4) من طريق سفيان الثوري عن
علقمة بن مرثد (5) عن سليمان بن بريدة
__________
(1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نساؤكم وابناؤكم
أحب إليكم، أم أموالكم ؟ فقالوا: خيرتنا..أبناؤنا ونساؤنا أحب إلينا (ابن هشام -
دلائل البيهقي).
(2) وفي رواية للطبري: أن قبر آمنة في شعب أبي ذر بمكة.
وفي معجم البلدان شعب أبي دب قال: يقال فيه مدفن آمنة بنت وهب أم الرسول
صلى الله عليه وسلم.
وفيه أيضا أن قبرها بالابواء.
وقال أبو عمر بن عبد البر: وقيل ابن سبع سنين وقال محمد
بن حبيب: توفيت أمه وهو ابن ثماني سنين..(ابن سيد الناس).
(3) مسند أحمد ج 5 / 357.
(4) دلائل النبوة 1 / 189.
(5) في الدلائل وطبقات ابن سعد: علقمة بن مرثد.
عن أبيه قال: انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسم
قبر فجلس وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب ثم بكى فاستقبله عمر فقال ما
يبكيك يا رسول الله ؟ قال: هذا قبر آمنة بنت وهب استأذنت ربي في أن أزور قبرها
فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فأبى علي، وأدركتني رقتها فبكيت ".
قال فما رئيت ساعة أكثر باكيا من تلك الساعة.
تابعه محارب بن دثار عن بريدة عن أبيه.
ثم روي البيهقي (1) عن الحاكم عن الاصم عن بحر بن نصر عن
عبد الله بن وهب حدثنا ابن جريج عن أيوب بن هاني عن مسروق بن الاجدع عن عبد الله
بن مسعود.
قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في المقابر، وخرجنا
معه، فأمرنا فجلسنا ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها = فناجاه طويلا ثم
ارتفع نحيب رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إلينا (2) فتلقاه عمر بن الخطاب
فقال يا رسول الله ما الذي أبكاك ؟ لقد أبكانا وأفزعنا.
فجاء فجلس إلينا فقال: " افزعكم بكائي " ؟
قلنا نعم ! قال: " إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب، وإني
استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي، واستأذنت ربي في الاستغفار لها فلم يأذن لي فيه،
ونزل علي: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى
من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن
موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه أن إبراهيم لاواه حليم) (3) فأخذني ما يأخذ
الولد للوالدة من الرقة فذلك الذي أبكاني " غريب ولم يخرجوه.
وروى مسلم (4) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن عبيد
عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر
أمه فبكى وأبكى من حوله ثم قال: " استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته
في الاستغفار لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور تذكركم الموت ".
وروى مسلم (5) عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان عن حماد
بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي ؟ قال: " في النار
" فلما قفا دعاه فقال: " إن أبي وأباك في النار ".
وقد روى البيهقي (6) من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين عن
إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه.
قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن
أبي كان يصل الرحم، وكان، وكان، فأين هو ؟ قال:
" في النار " قال فكأن الاعرابي وجد من ذلك،
فقال يا رسول الله أين أبوك ؟ قال: " حيثما مررت
__________
(1) دلائل النبوة ج 1 / 189 عن أبي عبد الله الحافظ عن
أبي العباس محمد بن يعقوب.
(2) في الدلائل: إلينا (3) سورة التوبة الآيتان 113 -
114.
(4) 11 كتاب الجنائز 36 باب استئذان النبي صلى الله عليه
وسلم ربه في زيارة قبر أمه ح 105 - 106 ص 671، وأخرجه النسائي في كتاب الجنائز.
وابن ماجه وعند الترمذي بعضه.
(5) كتاب الايمان 1 - 88 باب ح 347 ص 191.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه.
(6) دلائل النبوة ج 1 / 191.
بقبر كافر فبشره بالنار " قال فأسلم الاعرابي بعد
ذلك.
فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبا، ما
مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار.
غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه (1).
وقال الامام أحمد حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا سعيد - هو
ابن أبي أيوب - حدثنا ربيعة بن سيف المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله
بن عمرو.
قال بينما نحن نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ
بصر بامرأة لا بظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فإذا فاطمة
بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما أخرجك من بيتك يا فاطمة ؟ فقالت
أتيت أهل هذا البيت فترحمت إليهم ميتهم وعزيتهم.
قال: " لعلك بلغت معهم الكدى " (2) قالت معاذ
الله أن أكون بلغتها معهم وقد سمعتك تذكرني في ذلك ما تذكر (3).
قال:
" لو بلغتيها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك
" ثم رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي (4) من حديث ربيعة بن سيف بن
مانع المعافري الصنمي الاسكندري وقد قال البخاري عنده مناكير.
وقال النسائي: ليس به بأس وقال مرة صدوق، وفي نسخة ضعيف.
وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان يخطئ كثيرا.
وقال الدارقطني صالح.
وقال ابن يونس في تاريخ مصر في حديثه مناكير توفي قريبا
من سنة عشرين ومائة، والمراد بالكدى القبور - وقيل النوح -.
والمقصود أن عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين
الجاهلية خلافا لفرقة الشيعة فيه وفي ابنه أبي طالب على ما سيأتي في وفاة أبي
طالب، وقد قال البيهقي - بعد روايته هذه الاحاديث في كتابه دلائل النبوة: وكيف لا يكون
أبواه وجده عليه الصلاة والسلام بهذه الصفة في الآخرة وقد كانوا يعبدون الوثن، حتى
ماتوا ولم يدينوا دين عيسى بن مريم عليه السلام، وكفرهم لا يقدح في نسبه عليه
الصلاة والسلام لان انكحة الكفار صحيحة.
ألا تراهم يسلمون مع زوجاتهم فلا يلزمهم تجديد العقد ولا
مفارقتهن إذا كان مثله يجوز في الاسلام وبالله التوفيق.
انتهى كلامه.
قلت: واخباره صلى الله عليه وسلم عن أبويه وجده عبد المطلب بأنهم من
أهل النار لا ينافي الحديث الوارد عنه من طرق متعددة أن أهل الفترة والاطفال والمجانين
والصم يمتحنون في العرصات يوم القيامة، كما بسطناه سندا ومتنا في تفسيرنا عند قوله
تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) فيكون منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب.
فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب فلا منافاة ولله الحمد
والمنة.
__________
(1) أخرجه في مجمع الزوائد عن الطبراني في الكبير وقال:
رجاله رجال الصحيح.
(2) الكدى: المقابر.
(3) إشارة إلى حديث أخرجه أصحاب السنن قال صلى الله عليه
وسلم: لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج.
(4) مسند أحمد 2 / 169، أبو داود في الجنائز 3 / 261،
النسائي 4 / 27 وقال: أبو عبد الرحمن ضعيف واستدركه الحاكم (1 / 373).
وأما الحديث الذي ذكره السهيلي وذكر أن في إسناده
مجهولين إلى ابن أبي الزناد عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم سأل ربه أن يحيي أبويه، فأحياهما وآمنا به، فإنه حديث منكر جدا.
وإن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة الله تعالى.
لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه والله أعلم.
فصل قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
مع جده عبد المطلب بن هاشم - يعني بعد موت أمه آمنة بنت وهب - فكان يوضع لعبد
المطلب فراش في ظل الكعبة وكان ينوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس
عليه أحد من بنيه إجلالا له.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام
جفر، حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه.
فيقول عبد المطلب، إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله
إن له لشأنا، ثم يجلسه معه على فراشه ويمسح ظهره بيده ويسره ما يراه يصنع.
وقال الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري وحدثنا
عبد الله بن جعفر عن عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله.
وحدثنا هاشم بن عاصم الاسلمي عن المنذر بن جهم.
وحدثنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.
وحدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز عن أبي الحويرث.
وحدثنا ابن أبي سبرة عن سليمان بن سحيم عن نافع عن ابن
جبير - دخل حديث بعضهم في بعض - قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون مع
أمه آمنة بنت وهب، فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب وضمه ورق عليه رقة لم
يرقها على ولده، وكان يقربه منه ويدنيه، ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام.
وكان يجلس على فراشه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك دعوا
ابني إنه يؤسس ملكا (1).
وقال قوم من بني مدلج لعبد المطلب: احتفظ به فإنا لم نر
قدما أشبه بالقدم الذي في المقام منه.
فقال عبد المطلب لابي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء ! فكان
أبو طالب يحتفظ به.
وقال عبد المطلب لام أيمن - وكانت تحضنه - يا بركة لا
تغفلي عن ابني فإني وجدته مع غلمان قريب من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني
نبي هذه الامة.
وكان عبد المطلب لا يأكل طعاما إلا يقول: علي بابني
فيؤتى به إليه.
فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول
الله صلى الله عليه وسلم وحياطته ثم مات عبد المطلب ودفن بالحجون.
وقال ابن إسحاق: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثمان سنين (2) هلك جده عبد المطلب بن
__________
(1) في الطبقات: إنه ليؤنس ملكا.
(2) الطبري - الطبقات، وفي رواية شكك فيها الطبري قال:
وكان بعضهم يقول توفي عبد المطلب ورسول الله ابن =
هاشم.
ثم ذكر جمعه بناته وأمره إياهن أن يرثينه.
وهن أروى وأميمة، وبرة، وصفية، وعاتكة، وأم حكيم البيضاء
وذكر أشعارهن وما قلن في رثاء أبيهن وهو يسمع قبل موته وهذا أبلغ النوح.
وبسط القول في ذلك وقد قال ابن هشام ولم أر أحدا من أهل
العلم بالشعر يعرف هذا الشعر (1) قال ابن إسحاق: فلما هلك عبد المطلب بن هاشم ولي
السقاية وزمزم بعده ابنه العباس، وهو من أحدث إخوته سنا فلم تزل إليه حتى قام
الاسلام وأقرها في يده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد جده عبد المطلب
مع عمه أبي طالب لوصية عبد المطلب له به، ولانه كان شقيق أبيه عبد الله أمهما
فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم.
قال فكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم [ بعد جده ] وكان إليه ومعه.
وقال الواقدي: أخبرنا معمر عن ابن نجيح عن مجاهد.
وحدثنا معاذ بن محمد الانصاري عن عطاء عن ابن عباس.
وحدثنا محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر وإبراهيم بن
إسماعيل بن أبي حبيبة - دخل حديث بعضهم في حديث بعض - قالوا: لما توفي عبد المطلب
قبض أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكون معه، وكان أبو طالب لا مال
له، وكان يحبه حبا شديدا لا يحبه ولده، وكان لا ينام إلا إلى جنبه، ويخرج فيخرج
معه.
وصب به أبو طالب صبابة لم يصب مثلها بشئ قط.
وكان يخصه بالطعام وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعا أو
فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا.
فكان إذ أراد أن يغديهم قال كما أنتم حتى يأتي ولدي.
فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم فكانوا
يفضلون من طعامهم، وإن لم يكن منهم (2) لم يشبعوا، فيقول أبو طالب: إنك لمبارك.
وكان الصبيان يصبحون رمصا شعثا، ويصبح رسول الله صلى
الله عليه وسلم دهينا كحيلا (3).
وقال الحسن بن عرفة حدثنا علي بن ثابت عن طلحة بن عمرو
سمعت عطاء بن أبي رباح سمعت ابن عباس يقول: كان بنو أبي طالب يصبحون رمصا عمصا
ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم صقيلا
دهينا وكان أبو طالب يقرب إلى الصبيان صفحتهم أول
البكرة، فيجلسون وينتهبون ويكف رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فلا ينتهب معهم.
فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه على حدة.
وقال ابن اسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن
الزبير أن أباه حدثه أن رجلا من لهب (4) كان عائفا فكان إذا قدم مكة أتاه رجال من
قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فيهم.
__________
= عشر سنين.
وقال محمد بن حبيب توفي جده بعد وفاة أمه (وعمره ثماني
سنين) بسنة وأحد عشر شهرا سنة تسع من عام الفيل.
(1) راجع سيرة ابن هشام ج 1 / 179 وما بعدها.
(2) في الطبقات: معهم بدل منهم.
(3) رواه ابن سعد في الطبقات: ج 1 / 119.
(4) بنو لهب من أزد شنوءة.
وقيل هو لهب بن آحجن بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد
الله بن مالك بن
قال: فأتى أبو طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام، مع من
يأتيه، قال: فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم شغله عنه شئ.
فلما فرغ قال: الغلام، علي به.
فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه، فجعل يقول ويلكم
ردوا علي الغلام الذي رأيته آنفا فوالله ليكونن له شأن.
قال وانطلق به أبو طالب.
فصل في خروجه عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب إلى
الشام وقصته مع بحيرى الراهب قال ابن إسحاق: ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى
الشام.
فلما تهيا للرحيل وأجمع السير صب به (1) رسول الله صلى
الله عليه وسلم - فيما يزعمون - فرق له أبو طالب وقال والله لاخرجن به معي ولا
أفارقه ولا يفارقني أبدا - كما قال - فخرج به.
فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له
بحيرى في صومعة له.
وكان إليه علم أهل النصرانية، ولم يزل في تلك الصومعة
منذ قط راهب فيها.
إليه يصير علمهم عن كتاب، فيما يزعمون.
يتوارثونه كابرا عن كابر، فلما نزلوا
ذلك العام ببحيرى - وكانوا كثيرا ما يمرون به فلا يكلمهم
ولا يعرض لهم - حتى كان ذلك العام.
فلما نزلوا قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا وذلك
فيما يزعمون عن شئ رآه وهو في صومعته، يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الركب حتى أقبل وغمامة تظلله من بين القوم (2).
ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه.
فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة وتهصرت (3) أغصان
الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها.
فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بطعام فصنع.
ثم أرسل إليهم.
فقال إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش فأنا أحب أن
تحضروا كلكم، كبيركم وصغيركم، وعبدكم وحركم.
فقال له رجل منهم: والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم.
ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك
اليوم ؟ قال له بحيرى صدقت قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع
لكم طعاما فتأكلون (4) منه كلكم، فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صلى الله عليه
وسلم من بين القوم، لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة فلما رآهم بحيري لم ير الصفة
التي يعرف ويجده عنده، قفال: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم
__________
= نصر بن الازد، وهي القبيلة التي تعرف بالعيافة والزجر
والعائف: الذي يتغرس في خلقة الانسان فيخبر بما يؤول حاله إليه ; (شرح القاموس -
الروض الانف).
(1) صب به وفي البيهقي ضب به: أي تعلق وتشبث.
وصب به: أي مال إليه ورق عليه.
ورويت ضبت به: أي أمسك قاله السهيلي.
(2) العبارة في سيرة ابن هشام: في الركب حين أقبلوا،
وغمامة تظله من بين القوم.
(3) تهصرت: مالت وتدلت.
وهصرت الغصن: إذا جذبته حتى يميل.
وفي البيهقي: شمرت.
(4) كذا في الاصل وعند ابن هشام: فتأكلوا وهو الصواب.
عن طعامي، قالوا: يا بحيرى ما تخلف أحد ينبغي له أن
يأتيك إلا غلام، وهو أحدثنا سنا فتخلف في رحالنا.
قال لا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.
قال فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى، إن كان
للؤم بنا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن
طعام من بيننا.
ثم قال إليه فاحتضنه (1) وأجلسه مع القوم، فلما رأى (2)
بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده من صفته،
حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرى وقال له يا غلام: أسألك بحق
اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه.
وإنما قال له بحيرى ذلك لانه سمع قومه يحلفون بهما (3)
فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لا تسألني باللات والعزى شيئا.
فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما.
فقال له بحيرى: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ؟
فقال له سلني عما بدا لك.
فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره.
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره.
فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته.
ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه موضعه من
صفته التي عنده، فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب، فقال [ له ] ما هذا الغلام منك ؟
قال: ابني قال بحيرى ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا، قال:
فإنه ابن أخي.
قال فما فعل أبوه ؟ قال مات وأمه حبلى به، قال صدقت ارجع
بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود.
فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه
كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده، فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى
أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام (4).
قال ابن إسحاق: فزعموا فيما روى الناس أن زريرا، وثماما،
ودريسما (5) - وهم نفر من أهل الكتاب - قد كانوا رأوا [ من ] رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما
رأى بحيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب فأرادوه فردهم عنه بحيرى.
فذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنهم [
إن ] أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه، حتى عرفوا ما قال لهم، وصدقوه بما قال،
فتركوه وانصرفوا عنه.
وقد ذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن أبا طالب قال في
ذلك ثلاث قصائد هكذا ذكر ابن إسحاق هذا السياق من غير اسناد منه.
وقد ورد نحوه من طريق مسند مرفوع.
فقال الحافظ أبو بكر الخرائطي حدثنا عباس بن محمد الدوري
حدثنا قراد أبو نوح حدثنا
__________
(1) احتضنه: هنا: أي اجلسه إلى جنبه.
(2) فلما رآه عن ابن إسحاق.
(3) يقال إنه سأله بالات والعزى اختبارا، ولعل هذا مناسب
أكثر.
(5) في ابن هشام: زريرا وتماما ودريسا.
وفي الدلائل للبيهقي: زبيرا وثماما ودريسا.
(4) قال أبو عمر بن عبد البر كانت رحلة أبي طالب ثلاث
عشرة من الفيل.
وقال أبوالحس الماوردي خرج به عمه أبو طالب في تجارة وهو
ابن تسع سنين.
وذكر ابن سعد بإسناد له عن داود بن الحصين أنه كان ابن
اثنتي عشرة سنة.
يونس عن (1) أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه
قال: خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش.
فلما أشرفوا على الراهب - يعني بحيري - هبطوا فحلوا
رحالهم فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج ولا يلتفت إليهم.
قال: فنزل وهم يحلون رحالهم.
فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم
فقال هذا سيد العالمين.
وفي رواية البيهقي (2) زيادة هذا رسول رب العالمين، بعثه
الله رحمة للعالمين.
فقال له أشياخ من قريش: وما علمك ؟ فقال إنكم حين أشرفتم
من العقبة لم يبق شجرة ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا يسجدون إلا لنبي، وإني أعرفه
بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه [ مثل التفاحة ].
ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به - وكان هو في رعية
الابل - فقال: أرسلوا إليه.
فأقبل وغمامة [ عليه ] تظله.
فلما دنا من القوم قال انظروا إليه عليه غمامة فلما دنا
من القوم وجدهم قد سبقوه إلي فئ الشجرة فلما جلس مال فئ الشجرة عليه.
قال انظروا إلى فئ الشجرة مال عليه.
قال: فبينما هو قائم عليهم وهو ينشدهم (3) ألا يذهبوا به إلى الروم،
فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه فالتفت فإذا هو بسبعة نفر (4) من الروم قد أقبلوا.
قال فاستقبلهم فقال ما جاء بكم ؟ قالوا جئنا أن هذا
النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس، وإنا أخبرنا خبره [
فبعثنا ] إلى طريقك هذه.
قال [ لهم ]: فهل خلفكم أحد هو خير منكم ؟ قالوا لا.
إنما أخبرناه خبره إلى طريقك هذه.
قال أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من
الناس رده ؟ فقالوا لا.
قال فبايعوه وأقاموا معه عنده.
قال فقال الراهب أنشدكم الله أيكم وليه ؟ قالوا: أبو
طالب.
فلم
يزل يناشده حتى رده، وبعث معه أبو بكر بلالا وزوده
الراهب من الكعك والزيت.
هكذا رواه الترمذي (5) عن أبي العباس الفضل بن سهل
الاعرج عن قراد أبي نوح به.
والحاكم والبيهقي وابن عساكر من طريق أبي العباس محمد بن
يعقوب الاصم عن عباس بن محمد الدوري به.
وهكذا رواه غير واحد من الحفاظ من حديث أبي نوح عبد
الرحمن بن غزوان الخزاعي مولاهم، ويقال له الضبي ويعرف بقراد (6).
سكن بغداد وهو من الثقات الذين أخرج لهم البخاري، ووثقه
جماعة
__________
(1) في دلائل البيهقي يونس بن أبي إسحق، السبيعي صدوق
وثقه ابن معين وقال أحمد حديثه مضطرب وقال أبو حاتم لا يحتج به مات 159 (الكاشف ج
3 / 264.
تقريب التهذيب 2 / 384).
(2) دلائل النبوة ج 2 / 24.
(3) في دلائل البيهقي: يناشدهم.
(4) في دلائل البيهقي: بتسعة نفر - وفي رواية الاصم بسبعة -.
(5) كتاب المناقب (50) 3 - باب ما جاء في بدء نبوة النبي
صلى الله عليه وسلم ح 3620 (ص 5: 590 - 591) وأخرجه الحاكم في المستدرك (2 / 615 - 617)
وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال الذهبي " أظنه موضوعا، فبعضه باطل "
وأخرجه البيهقي في الدلائل ج 2 / 24 وما بعدها.
(6) قراد هو أبو نوح عبد الرحمن بن غزوان الخزاعي روى
عنه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وغيرهما، وأخرج له =
من الائمة والحفاظ ولم أر أحدا جرحه ومع هذا في حديثه
هذا غرابة، قال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال عباس الدوري ليس في الدنيا أحد يحدث به غير قراد
أبي نوح وقد سمعه منه أحمد بن حنبل رحمه الله ويحيى بن معين لغرابته وانفراده.
حكاه البيهقي وابن عساكر.
قلت: فيه من الغرائب أنه من مرسلات الصحابة فإن أبا موسى
الاشعري إنما قدم في سنة خيبر سنة سبع من الهجرة.
ولا يلتفت إلى قول ابن إسحاق في جعله له من المهاجرة إلى
أرض الحبشة من مكة وعلى كل تقدير فهو مرسل.
فإن هذه القصة كانت ولرسول الله صلى الله عليه وسلم من
العمر فيما ذكره بعضهم ثنتا عشرة سنة، ولعل أبا موسى تلقاه من النبي صلى الله عليه
وسلم فيكون أبلغ، أو من بعض كبار
الصحابة رضي الله عنهم، أو كان هذا مشهورا مذكورا أخذه
من طريق الاستفاضة.
الثاني: أن الغمامة لم تذكر في حديث أصح من هذا.
الثالث:
أن قوله وبعث معه أبو بكر بلالا إن كان عمره عليه الصلاة
والسلام إذ ذاك ثنتي عشرة سنة فقد كان عمر أبي بكر إذ ذاك تسع سنين أو عشرة، وعمر
بلال أقل من ذلك، فأين كان أبو بكر إذ ذاك ؟ ثم أين كان بلال ؟ كلاهما غريب اللهم إلا
أن يقال إن هذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرا.
إما بأن يكون سفره بعد هذا أو إن كان القول بأن عمره كان
إذ ذاك ثنتي عشرة سنة غير محفوظ، فإنه إنما ذكره مقيدا بهذا الواقدي.
وحكي السهيلي عن بعضهم أنه كان عمره عليه الصلاة والسلام
إذ ذاك تسع سنين والله أعلم (1).
قال الواقدي: احدثني محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر
وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين.
قالوا:
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة
خرج به عمه أبو طالب إلى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة ونزلوا بالراهب
بحيرى.
فقال لابي طالب بالسر ما قال.
وأمره أن يحتفظ به فرده معه أبو طالب إلى مكة.
وشب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب يكاؤه
الله [ عزوجل ] ويحفظه ويحوطه من أمور الجاهلية
__________
= البخاري والاربعة سوى ابن ماجه.
وثقه علي بن المديني وابن نمير ويعقوب بن شيبة وابن سعد
وابن حبان وروى له الدارقطني وقال: ثقة.
(1) قال ابن سيد الناس ج 1 / 43: في متنه نكارة وهي
ارسال أبي بكر مع النبي وكيف وأبو بكر لم يبلغ العشر سنين فإن النبي صلى الله عليه
وسلم كان أكبر من أبي بكر بأزيد من عامين وكانت للنبي تسعة أعوام على ما قاله
الطبري وغيره - أو اثنا عشر - وبلال لم ينتقل لابي بكر إلا بعد ذلك بأكثر من عشرين
عام فإنه كان لبني خلف الجمحيين وعند ما عذب في الله اشتراه أبو بكر.
وقال ابن حجر في الاصابة الحديث رجاله ثقات وليس فيه
منكر سوى هذه اللفظة فتحمل على أنها مدرجة فيه مقطعة من حديث آخر وهما من أحد
رواته.
وأخرج ابن منده بسند ضعيف عن ابن عباس أنا أبا بكر
الصديق صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة والنبي صلى الله عليه
وسلم ابن عشرين سنة.
قال ابن حجر إن صحت هذه القصة فهي سفرة أخرى بعد سفرة
أبي طالب.
(الخصائص ج 1 / 144 - 145).
ومعائبها لما يريد [ به ] من كرامته حتى بلغ أن كان
رجلا، أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم
حلما وأمانة، وأصدقهم حديثا، وأبعدهم من الفحش والاذى.
ما رئي ملاحيا ولا مماريا أحدا، حتى سماه قومه الامين.
لما جمع الله فيه من الامور الصالحة فكان أبو طالب يحفظه
ويحوطه وينصره ويعضده حتى مات.
وقال محمد بن سعد: أخبرنا خالد بن معدان (1) حدثنا معتمر
بن سليمان سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز أن عبد المطلب - أو أبا طالب شك خالد - قال
لما مات عبد الله عطف على محمد، فكان لا يسافر سفرا إلا كان معه فيه، وإنه توجه
نحو الشام فنزل منزلا فأتاه فيه راهب.
فقال إن فيكم رجلا صالحا: ثم قال أين أبو هذا الغلام ؟
قال فقال ها أنا ذا وليه - أو قيل هذا وليه - قال احتفظ بهذا الغلام ولا تذهب به
إلى الشام، إن اليهود حسد، وإني أخشاهم عليه.
قال: ما أنت تقول ذلك، ولكن الله يقوله.
فرده، وقال: اللهم إني أستودعك محمد ! ثم إنه مات.
قصة بحيرا حكى السهيلي عن سير الزهري أن بحيرى كان حبرا
من أحبار يهود.
قلت: والذي يظهر من سياق القصة أنه كان راهبا نصرانيا
والله أعلم.
وعن المسعودي أنه كان من عبد القيس وكان اسمه جرجيس (2).
وفي كتاب المعارف لابن قتيبة سمع هاتف في الجاهلية قبل
الاسلام بقليل يهتف ويقول: ألا إن خير أهل الارض ثلاثة، بحيرى، ورئاب بن البراء
الشني، والثالث المنتظر.
وكان الثالث المنتظر هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن قتيبة وكان قبر رئاب الشني وقبر ولده من بعده لا
يزال يرى عندهما طش، وهو المطر الخفيف.
فصل في منشئه عليه الصلاة والسلام ومرباه وكفاية الله
له، وحياطته، وكيف كان يتيما فأواه وعائلا فأغناه
قال محمد بن إسحاق: فشب رسول الله صلى الله عليه وسلم
يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد من كرامته ورسالته، حتى بلغ
أن كان رجلا، أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا، وأحسنهم جوارا، وأعظمهم
حلما، وأصدقهم حديثا، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والاخلاق التي تدنس الرجال
تنزها وتكرما، حتى ما اسمه في قومه إلا الامين، لما جمع الله فيه من الامور
الصالحة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - يحدث عما كان الله
يحفظه به في صغره وأمر جاهليته أنه قال: " لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل
الحجارة لبعض ما
__________
(1) في ابن سعد: خالد بن خداش.
ج 1 / 120 - 121.
(2) في المسعودي سرجس وكان مؤمنا على دين المسيح عيسى
ابن مريم صلى الله عليه وسلم.
يلعب الغلمان، كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته
يحمل عليه الحجارة، فإني لاقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة،
ثم قال شد عليك إزارك.
قال فأخذته فشددته علي، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي
وإزاري على من بين أصحابي
".
وهذه القصة شبيهه بما في الصحيح عند بناء الكعبة حين كان
ينقل هو وعمه العباس فإن لم تكنها فهي متقدمة عليها كالتوطئة لها والله أعلم.
قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار
أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ينقل الحجارة.
فقال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم اجعل إزارك
على عاتقك من الحجارة ففعل فخر إلى الاض وطمحت عيناه إلى السماء، ثم قال فقال:
" إزاري " فشد عليه إزاره أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق (1).
وأخرجاه أيضا من حديث روح بن عبادة عن زكرياء بن أبي
إسحاق (2) عن عمرو بن دينار عن جابر بنحوه.
وقال البيهقي (3): أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد
بن أبي عمرو قالا أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني
حدثنا محمد بن بكير الحضرمي حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي حدثنا عمرو بن
أبي قيس عن سماك عن عكرمة حدثني ابن
عباس عن أبيه: أنه كان ينقل الحجارة إلى البيت حين بنت
قريش البيت، قال وأفردت قريش رجلين رجلين، الرجال ينقلون الحجارة، وكانت النساء
تنقل الشيد.
قال: فكنت أنا وابن أخي وكنا نحمل على رقابنا وأزرنا تحت
الحجارة، فإذا غشينا الناس أئتزرنا.
فبينما أنا أمشي ومحمد أمامي قال: فخر وانبطح على وجهه،
فجئت أسعى، وألقيت حجري وهو ينظر إلى السماء فقلت ما شأنك ؟ فقام وأخذ إزاره قال:
" إني نهيت أن أمشي عريانا
".
قال وكنت أكتمها من الناس مخافة أن يقولوا مجنون.
وروى البيهقي (4) من حديث يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق
حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن الحسن بن محمد عن علي بن أبي طالب عن
أبيه عن جده علي بن أبي طالب.
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما هممت
بشئ مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عزوجل
فيهما.
قلت ليلة لبعض فتيان مكة - ونحن في رعاء غنم أهلها -
فقلت
__________
(1) صحيح البخاري 25 كتاب الحج 42 باب فضل مكة وبنيانها
فتح الباري (3 / 439) ومسلم كتاب الحيض ح 77 ص 268.
البخاري في 8 كتاب الصلاة (8) باب كراهية التعري في
الصلاة فتح الباري (1 / 474) ومسلم.
(2) كذا في الاصل والصواب كريا بن إسحاق: المكي، ثقة رمي
بالقدر (التقريب 1 / 261).
(3) دلائل النوبة ج 2 / 32.
(4) ج 2 / 33.
لصاحبي أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر
الفتيان فقال بلى.
قال: فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا
بالغرابيل والمزامير، فقلت ما هذا ؟ قالوا تزوج فلان فلانة.
فجلست أنظر وضرب الله على أذني فوالله ما أيقظني إلا مس
الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت ؟ فقلت ما فعلت شيئا ثم أخبرته بالذي رأيت،
ثم قلت له ليلة أخرى أبصر لي غنمي حتى أسمر [ بمكة ] ففعل فدخلت فلما جئت مكة سمعت
مثل الذي سمعت
تلك الليلة.
فسألت، فقيل نكح فلان فلانة، فجلست أنظر، وضرب الله على
أذني فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي، فقال ما فعلت ؟ فقلت لا شئ
ثم أخبرته الخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشئ من ذلك حتى أكرمني الله عزوجل
بنبوته " وهذا حديث غريب جدا وقد يكون عن علي نفسه ويكون قوله في آخره "
حتى أكرمني الله عزوجل بنبوته " مقحما والله أعلم (1).
وشيخ ابن إسحاق هذا ذكره ابن حبان في الثقات.
وزعم بعضهم أنه من رجال الصحيح.
قال شيخنا في تهذيبه ولم أقف على ذلك والله أعلم.
وقال الحافظ البيهقي (2): حدثني أبو عبد الله الحافظ
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا الحسن بن علي بن عفان العامري، حدثنا أبو
أسامة حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أسامة بن
زيد عن زيد بن حارثة.
قال: كان صنم من نحاس يقال له: أساف، ونائلة (3) يتمسح
به المشركون إذا طافوا.
فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفت معه، فلما مررت
مسحت به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تمسه ".
قال زيد: فطفنا فقلت في نفسي لامسنه حتى أنظر ما يكون،
فمسحته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألم تنه " قال البيهقي:
زاد غيره عن محمد بن عمرو بإسناده قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما
استلم صنما قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه وأنزل عليه.
وتقدم قوله عليه الصلاة والسلام لبحيرى حين سأله باللات
والعزى " لا تسألني بهما فوالله ما أبغضت شيئا بغضهما " فأما الحديث
الذي قاله الحافظ أبو بكر البيهقي أخبرنا أبو سعد الماليني (4).
أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ حدثنا إبراهيم بن أسباط
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن
__________
(1) الخبر رواه السيوطي في الخصائص الكبرى 1 / 89 ورواه
أبو نعيم في دلائله (143) وسبل الهدى (2 / 199) وقال: رواه اسحاق بن راهويه والبزار وابن
حبان.
(2) دلائل النبوة ج 2 / 34 ونقله السيوطي في الخصائص
الكبرى ج 1 / 89.
(3) في الدلائل: أو نائلة.
(4) هو أبو سعد أحمد بن محمد الماليني.
سفيان الثوري عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل (1)
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم: يشهد مع
المشركين مشاهدهم قال: فسمع ملكين خلفه وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم
خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال كيف نقوم خلفه، وإنما عهده باستلام الاصنام ؟.
قال فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم.
فهو حديث انكره غير واحد من الائمة على عثمان بن أبي
شيبة حتى قال الامام أحمد فيه لم يكن أخوه يتلفظ بشئ من هذا.
وقد حكى البيهقي عن بعضهم (2) أن معناه أنه شهد مع من
يستلم الاصنام وذلك قبل أن يوحى إليه والله أعلم.
وقد تقدم في حديث زيد بن حارثة أنه اعتزل شهود مشاهد
المشركين حتى أكرمه الله برسالته.
وثبت في الحديث أنه كان لا يقف بالمزدلفة ليلة عرفة بل
كان يقف مع الناس بعرفات كما قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق.
حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عثمان بن أبي سليمان عن
نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه جبير.
قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على دين قومه وهو
يقف على بعير له بعرفات من بين قومه حتى يدفع معهم، توفيقا من الله عزوجل له.
قال البيهقي (3): معنى قوله على دين قومه ما كان بقي من
إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، [ في حجهم ومناكحهم وبيوعهم، دون الشرك ] ولم
يشرك بالله قط صلوات الله وسلامه عليه دائما.
قلت: ويفهم من قوله هذا أيضا أنه كان يقف بعرفات قبل أن
يوحى إليه.
وهذا توفيق من الله له.
ورواه الامام أحمد عن يعقوب عن محمد بن إسحاق به.
ولفظه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل
عليه وإنه لواقف على بعير له مع الناس بعرفات حتى يدفع معهم توفيقا من الله.
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو عن محمد بن جبير
بن مطعم عن أبيه قال: أضللت بعيرا لي بعرفة (4) فذهبت اطلبه فإذا النبي صلى الله
عليه وسلم واقف فقلت إن هذا من الحمس (5) ما شأنه ههنا ؟ وأخرجاه
__________
(1) في دلائل البيهقي: عبد الله بن محمد بن عقيل، أبو
محمد المدني، الطالبي روى عنه ابن عمر وجابر قال فيه
الترمذي صدوق، كان أحمد وإسحاق والحميري يحتجون بحديثه
وتوفي فيما قاله الواقدي بعد سنة 140 ه.
(الكاشف ج 2 / 113 - التقريب والتهذيب 1 / 447).
(2) أبو القاسم الطبراني عن المعمري عن عثمان بن أبي شيبة.
قال ابن حجر: " هذا الحديث أنكره الناس، فبالغوا،
والمنكر قوله عن الملك، " عهده باستلام الاصنام " فإن ظاهره أنه باشر الاستلام،
وليس ذلك مرادا، بل المراد أنه شهد مباشرة المشركين استلام اصنامهم (المطالب
العالية).
وفي السيرة الشامية: المراد بالمشاهد مشاهد الحلف ونحوها
لا مشاهد استلام الاصنام.
(3) دلائل النبوة ج 2 / 37.
(4) كذا في الاصل والصواب: عرنة كما في سيرة ابن كثير
وعرنة: واد بحذاء عرفات.
(5) الحمس: جمع أحمس، وهو الشديد الصلب، وهم قريش وسميت
حمسا لزعمهم بأنهم اشتدوا في دينهم إلى
=
من حديث سفيان بن عيينة به.
شهوده عليه الصلاة والسلام حرب الفجار قال ابن إسحاق:
هاجت حرب الفجار (1) ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وإنما سمي يوم
الفجار، بما استحل فيه هذان الحيان - كنانة وقيس عيلان - من المحارم بينهم.
وكان قائد قريش وكنانة حرب بن أمية بن عبد شمس وكان
الظفر في أول النهار لقيس على كنانة حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة على
قيس وقال ابن هشام: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة - أو خمس
عشرة سنة - فيما حدثني به أبو عبيدة النحوي عن أبي عمرو بن العلاء هاجت حرب الفجار
بين قريش ومن معها من كنانة وبين قيس عيلان.
وكان الذي هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب
بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أجاز لطيمة (2) - أي تجارة -
للنعمان بن المنذر.
فقال [ له ] البراض بن قيس - أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد
مناة بن كنانة - أتجيزها على كنانة ؟
قال نعم وعلى الخلق.
فخرج فيها عروة الرحال وخرج البراض يطلب غفلته.
حتى إذا كان بتيمن ذي طلال (3) بالعالية، غفل عروة فوثب
عليه البراض فقتله في الشهر الحرام.
فلذلك سمي الفجار، وقال البراض في ذلك: وداهية تهم الناس
قبلي * شددت لها بني بكر ضلوعي (4) هدمت بها بيوت بني كلاب * وأرضعت الموالي
بالضروع رفعت له بذي طلال كفي * فخر يميد كالجذع الصريع (5)
__________
= حد التزهد والتأله ; ودخل معهم كنانة وخزاعة وقيل بنو
عامر بن صعصعة.
(راجع سيرة ابن هشام في تفاصيل مهمة حول الحمس).
وكانت قريش ومن يدين دينها يقفون عشية عرفة بالمزدلفة
ويقولون: نحن قطن البيت.
وكان بقية الناس والعرب يقفون بعرفات: (البخاري - مسلم،
كتاب الحج، أبو داود والنسائي في المناسك).
(1) الفجار بكسر الفاء.
بمعنى المفاجرة كالقتال والمقاتلة وسمي الفجار لان
القتال جرى في الشهر الحرام ففروا فيه جميعا.
(2) كذا في الاصل وفي العقد الفريد وابن هشام: أجار
لطيمة واللطيمة الجمال التي تحمل التجارة، من طيب وبر وأشباههما.
(3) ذي طلال: واد إلى جانب فدك، وفي معجم البلدان، وهو
الصواب، أنه بعالية نجد.
(4) رواية البيت في العقد الفريد: وداهية يهال الناس
منها * شددت على بني بكر ضلوعي (5) رواية البيت في الاغاني والعقد الفريد: جمعت له
يدي بنصل سيف * أفل فخر كالجذع الصريع
وقال لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب: وأبلغ - إن
عرضت - بني كلاب * وعامر والخطوب لها موالي
وأبلغ -
إن عرضت - بني نمير * واخوال القتيل بني هلال بأن الوافد
الرحال أمسى * مقيما عند تيمن ذي طلال قال ابن هشام: فأتى آت قريشا فقال: إن
البراض قد قتل عروة، وهو في الشهر الحرام بعكاظ.
فارتحلوا وهوازن لا تشعر بهم.
ثم بلغهم الخبر فأتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم.
فاقتتلوا حتى جاء الليل، فدخلوا الحرم، فأمسكت هوازن
عنهم، ثم التقوا بعد هذا اليوم أياما والقوم متساندون على كل قبيل من قريش وكنانة
رئيس منهم، وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم.
قال: وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم.
أخرجه أعمامه معهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كنت أنبل على أعمامي " أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها.
قال ابن هشام: وحديث الفجار طويل هو أطول مما ذكرت،
وإنما منعني من استقصائه قطعه حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال السهيلي: والفجار بكسر الفاء على وزن قتال.
وكانت الفجارات في العرب أربعة ذكرهن المسعودي (2).
وآخرهن، فجار البراض هذا.
وكان القتال فيه في أربعة أيام، يوم شمطة، ويوم العبلاء،
وهما عند عكاظ، ويوم الشرب - وهو أعظمها يوما - وهو الذي حضره رسول الله صلى الله
عليه وسلم وفيه قيدا رئيس قريش وبني كنانة وهما حرب بن أمية وأخوه سفيان أنفسهما
لئلا يفروا.
وانهزمت يومئذ قيس إلا بني نضر فإنهم ثبتوا.
ويوم الحريرة عند نخلة.
ثم تواعدوا من العام المقبل إلى عكاظ.
فلما توافوا الموعد ركب عتبة بن ربيعة جمله ونادى يا
معشر مضر علام تقاتلون ؟ فقالت له هوازن: ما تدعو إليه ؟ قال الصلح، قالوا وكيف ؟
قال ندي قتلاكم ونرهنكم رهائن عليها، ونعفو عن دياتنا.
قالوا ومن لنا بذلك قال أنا، قالوا ومن أنت ؟ قال عتبة
بن ربيعة فوقع الصلح على ذلك وبعثوا إليهم أربعين رجلا فيهم حكيم بن حزام فلما رأت
بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم عفوا عن ديانهم وانقضت حرب الفجار.
وقد ذكر الاموي حروب الفجار وأيامها واستقصاها مطولا
فيما رواه عن الاثرم.
وهو المغيرة بن علي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى فذكر
ذلك.
فصل قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو سعد الماليني أنبأنا
أبو أحمد بن عدي الحافظ حدثنا يحيى ابن علي بن هشام (1) الخفاف حدثنا أبو عبد
الرحمن الازدي (2) حدثنا اسماعيل بن علية بن
__________
(1) في الدلائل: هشام.
(2) في الدلائل: الاذرمي.
عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم
عن أبيه [ عن عبد الرحمن بن عوف
].
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شهدت مع
عمومتي حلف المطيبين فما أحب أن أنكثه - أو كلمة نحوها - وإن لي حمر النعم ".
قال وكذلك رواه بشر بن المفضل عن عبد الرحمن.
قال: وأخبرنا أبو نصر بن قتادة حدثنا أبو عمرو بن مطر حدثنا أبو بكر
بن أحمد بن داود السمناني حدثنا معلى بن مهدي حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة
عن أبيه عن أبي هريرة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما شهدت حلفا
لقريش إلا حلف المطيبين، وما أحب أن لي حمر النعم وأني كنت نقضته " قال:
والمطيبون هاشم، وأمية، وزهرة، ومخزوم، قال البيهقي: كذا روي هذا التفسير مدرجا في
الحديث ولا أدري قائله (1)، وزعم بعض أهل السير (2) أنه أراد حلف الفضول فإن النبي
صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين.
قلت: هذا لا شك فيه، وذلك أن قريشا تحالفوا بعد موت قصي وتنازعوا في
الذي كان جعله قصي لابن عبدالدار من السقاية، والرفادة، واللواء، والندوة،
والحجابة، ونازعهم فيه بنو عبد مناف.
وقامت مع كل طائفة قبائل من قريش وتحالفوا عن النصرة
لحزبهم فأحضر أصحاب بني عبد مناف جفنة فيها طيب فوضعوا أيديهم فيها وتحالفوا.
فلما قاموا مسحوا أيديهم بأركان البيت.
فسموا المطيبين كما تقدم وكان هذا قديما ولكن المراد
بهذا الحلف حلف الفضول وكان في دار عبد الله بن جدعان كما رواه الحميدي عن سفيان
بن عيينة عن عبد الله عن محمد وعبد الرحمن ابني أبي بكر قالا: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به
في الاسلام لاجبت، تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها
وألا يعد (3) ظالم مظلوما
".
قالوا: وكان حلف الفضول قبل المبعث بعشرين سنة في شهر ذي
القعدة، وكان بعد حرب الفجار بأربعة أشهر.
وذلك لان الفجار كان في شعبان (4) من هذه السنة، وكان
حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب، وكان أول من تكلم به ودعا إليه
الزبير بن عبد المطلب وكان سببه أن
__________
(1) وقال البيهقي في السنن الكبرى بعد روايته للحديث:
" لا أدري: هذا التفسير من قول أبي هريرة أو من دونه.
6 / 366.
(2) أراد ابن قتيبة وقد ذكره في حديث السنن ونقل قوله:
" إن حلف المطيبين هو حلف الفضول " وعقب البيهقي: " إن قوله إنما
هو حلف الفضول غلط، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدرك حلف المطيبين، لان
ذلك كان قديما قبل أن يولد بزمان
".
والثابت لدينا، ومن خلال سياق أحاديث تكوين المطيبين يتبين
أنه في زمان هاشم أبي عبد المطلب جدا الرسول صلى الله عليه وسلم (3) كذا في الاصل وفي
السهيلي: ولا يعز ظالم على مظلوم.
(4) قال المسعودي ج 2 / 293: انتهى الفجار في شوال.
ووافقه ابن سيد الناس وابن سعد في الطبقات.
وفي رواية لابن سعد عن عروة بن الزبير ; كان حلف الفضول
منصرف قريش من الفجار ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن عشرين سنة.
رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل
فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدي الاحلاف عبدالدار ومخزوما وجمحا وسهما وعدي بن
كعب فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل وزبروه - أي انتهروه - فلما رأى الزبيدي
الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس - وقريش في أنديتهم حول الكعبة - فنادى بأعلى
صوته: يا آل فهر لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائي الدار والنفر ومحرم أشعث لم يقض
عمرته * يا للرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن ما ثثت كرامته * ولا حرام لثوب الفاجر
الغدر فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا مترك فاجتمعت هاشم وزهرة
وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما وتحالفوا في ذي القعدة في
شهر حرام فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى
يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة.
وما رسى ثبير وحراء مكنهما.
وعلى التأسي في المعاش.
فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول (1)، وقالوا لقد دخل
هؤلاء في فضل من الامر.
ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي
فدفعوها إليه.
وقال الزبير بن عبد المطلب في ذلك: حلفت لنعقدن حلفا
عليهم * وإن كنا جميعا أهل دار نسميه الفضول إذا عقدنا * يعزبه الغريب لذي الجوار
ويعلم من حوالي البيت أنا * أباة الضيم نمنع كل عار وقال الزبير أيضا: إن الفضول
تعاقدوا وتحالفوا * ألا يقيم ببطن مكة ظالم أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا * فالجار والمعتر
فيهم سالم وذكر قاسم بن ثابت - في غريب الحديث -: أن رجلا من خثعم قدم مكة حاجا -
أو معتمرا - ومعه ابنة له يقال لها القتول من أوضأ نساء العالمين، فاغتصبها منه
نبيه بن الحجاج وغيبها
__________
(1) سمي هذا الحلف بحلف الفضول باسم ثلاثة من زعماء جرهم
وهم: الفضل بن فضالة والفضل بن وداعة والفضل بن الحارث.
وقيل في النهاية: الفضل بن شراعة والفضل بن وداعة والفضل
بن قضاعة.
والفضول جمع فضل وهي أسماء هؤلاء الذين تقدموا.
وقيل بل سمي كذلك لانهم تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها
وألا يغزو ظالم مظلوما.
وقال السهيلي: ما قاله ابن قتيبة حسن ولكن في الحديث ما
هو أقوى منه: السنن الكبرى ج 6 / 366 - 367.
وزعم ابن إسحاق أن هذا الحلف عقدوه على التناصر، والاخذ
للمظلوم من الظالم..وكان حلف الفضول أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب.
عنه.
فقال الخثعمي: من يعديني على هذا الرجل ؟ فقيل له عليك
بحلف الفضول (1).
فوقف عند الكعبة ونادى يا آل حلف الفضول: فإذا هم يعنقون
إليه من كل جانب، وقد انتضوا أسيافهم يقولون: جاءك الغوث فما لك ؟ فقال إن نبيها
ظلمني في بنتي وانتزعها مني قسرا فساروا معه حتى وقفوا على باب داره، فخرج إليهم
فقالوا له أخرج الجارية ويحك فقد، علمت من نحن وما تعاقدنا عليه، فقال افعل، ولكن متعوني
بها الليلة، فقالوا لا والله ولا شخب لقحة فأخرجها إليهم وهو يقول: راح صحبي ولم
أحيي القتولا * لم أودعهم وداعا جميلا إذ أجد الفضول أن يمنعوها * قد أراني ولا
أخاف الفضولا لا تخالي أني عشية راح الرك * ب هنتم علي أن لا يزولا وذكر أبياتا
أخر غير هذه.
وقد قيل إنما سمي هذا حلف الفضول لانه أشبه حلفا تحالفته
جرهم على مثل هذا من نصر المظلوم على ظالمه.
وكان الداعي إليه ثلاثة من أشرافهم اسم كل واحد منهم
فضل: وهم الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، والفضل بن الحارث.
هذا قول ابن قتيبة (1).
وقال غيره الفضل بن شراعة، والفضل بن بضاعة، والفضل بن
قضاعة وقد أورد السهيلي هذا رحمه الله.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: وتداعت قبائل من قريش إلى
حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه.
وكان حلفهم عنده بنو هاشم وبنو عبد المطلب وبنو أسد بن
عبد العزى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة.
فتعاهدوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها
وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه وكانوا على من ظلمه حتى يرد عليه
مظلمته فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.
قال محمد بن إسحاق: فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر [ بن ] قنفذ
التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " لقد شهدت في دار عبد الله بن
جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعي به في
الاسلام لاجبت ".
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن
الهاد الليثي أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه أنه كان بين الحسين بن علي
بن أبي طالب وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - والوليد يومئذ أمير المدينة، أمره
عليها عمه معاوية بن أبي سفيان.
منازعة في مال كان بينهما بذي المروة (2) فكان الوليد
تحامل على الحسين في حقه لسلطانه، فقال له الحسين: أحلف بالله لتنصفني من حقي أو
لآخذن سيفي ثم لاقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لادعون
__________
(1) انظر الحاشية (1) ص 356.
(2) ذو المروة: قرية بوادي القرى، وقيل بين خشب ووادي
القرى.
(معجم البلدان).
بحلف الفضول.
قال فقال عبد الله بن الزبير - وهو عند الوليد حين قال
له الحسين ما قال - وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لاقومن معه حتى ينصف
من حقه أو نموت جميعا.
قال وبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك.
وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل
ذلك.
فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي.
تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة بنت خويلد قال ابن
إسحاق: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال على مالها
مضاربة (1).
فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من
صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج لها في مال
تاجرا إلى الشام وتعطيه أفضل ما تعطي غيره من التجار.
مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله
عليه وسلم منها وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى نزل الشام، فنزل
رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب (2) من الرهبان،
فاطلع الراهب إلى ميسرة.
فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت الشجرة ؟ فقال ميسرة
هذا رجل من قريش من أهل الحرم فقال له الراهب ما نزل تحت هذه
الشجرة إلا نبي (3) ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم
سلعته - يعني تجارته - التي خرج بها واشترى ما أراد أن يشتري.
ثم أقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة، فكان ميسرة - فيما
يزعمون - إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو يسير على
بعيره، فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به، فأضعف أو قريبا، وحدثها
ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من إظلال الملائكة إياه.
وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة، مع ما أراد الله
بها من كرامتها.
فلما أخبرها ميسرة ما أخبرها بعثت إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقالت له - فيما يزعمون - يا بن عم أني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك (4) في
قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، ثم عرضت نفسها عليه، وكانت أوسط نساء قريش نسبا
وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا.
كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه، فلما
قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك لاعمامه، فخرج
__________
(1) المضاربة: المقارضة، حيث كانت خديجة تقارضهم مالها
في تجارتهم بشئ تجعل لهم منه.
(2) كان اسم الراهب نسطورا وليس هو بحيرى الذي ورد ذكره
في حديث أبي طالب ; وكان نزول في سوق بصرى.
عيون الاثر.
وطبقات ابن سعد.
(3) يريد بقوله إنه ما نزل تحتها هذه الساعة إلا نبي،
ولم يرد ما نزل تحتها قط إلا نبي ; لبعد العهد بالانبياء قبل ذلك.
(4) كذا في الاصل وشرح المواهب وشرح السيرة والروض
والطبري.
وسطتك: شرفك.
قال السهيلي: من الوسط.
والوسط من أوصاف المدح والتفضيل.
معه عمه حمزة (1) حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه
فتزوجها عليه الصلاة والسلام.
قال ابن هشام: فأصدقها عشرين بكرة وكانت أول امرأة
تزوجها [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.
قال ابن إسحاق: فولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ولده كلهم إلا إبراهيم: القاسم وكان به يكنى، والطيب والطاهر (2)، وزينب، ورقية، وأم
كلثوم، وفاطمة.
قال ابن هشام أكبرهم القاسم، ثم الطيب، ثم الطاهر.
وأكبر بناته رقية ثم زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة (3).
قال البيهقي عن الحاكم: قرأت بخط أبي بكر بن أبي خيثمة
حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال أكبر ولده عليه الصلاة والسلام القاسم، ثم
زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية.
وكان أول من مات من ولده القاسم [ مات بمكة ]، ثم عبد
الله.
وبلغت خديجة خمسا وستين سنة، ويقال خمسين.
وهو أصح.
وقال غيره بلغ القاسم أن يركب الدابة والنجيبة ثم مات
بعد النبوة، وقيل مات وهو رضيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن له
مرضعا في الجنة يستكمل رضاعه " والمعروف أن هذا في حق إبراهيم (4).
وقال يونس بن بكير: حدثنا إبراهيم بن عثمان عن القاسم
(5) عن ابن عباس قال ولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين وأربع نسوة:
القاسم، وعبد الله، وفاطمة، وأم كلثوم، وزينب، ورقية.
وقال الزبير بن بكار عبد الله هو الطيب وهو الطاهر، سمي
بذلك لانه ولد بعد
__________
(1) يقال إن الذي ينهض معه صلى الله عليه وسلم هو أبو
طالب، وهو الذي خطب خطبة النكاح.
وقيل لعلهما خرجا معا وخطب أبو طالب الخطبة لانه كان أسن
من حمزة (الروض الانف، شرح المواهب).
(2) في أولاد الرسول صلى الله عليه وسلم من خديجة خلاف
فذكر بعضهم ثلاثة بنين القاسم والطاهر والطيب وقال آخرون ما نعلمها ولدت غلاما إلا
القاسم.
والارجح أن الطاهر والطيب لقبان لعبد الله وقال ابن سعد:
إن عبد الله ولد في الاسلام فسمي الطيب والطاهر وفي موت القاسم في الجاهلية خلاف.
فقد ذكر السهيلي عن الزبير أن القاسم مات رضيعا..فبكت
خديجة.
فقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت أسمعتك صوته
في الجنة..فهو دليل على أنه لم يهلك في الجاهلية.
(3) في الطبقات عن ابن عباس: قبل النبوة القاسم (وفي
رواية عنده مات ابن سنتين وهذا يناقض ما ذهب إليه الزبير، وفي رواية للبيهقي: أن
القاسم قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيب) ثم زينب ثم رقية ثم فاطمة ثم أم
كلثوم ثم عبد الله.
(4) تقدم التعليق قريبا فليراجع.
وذكر ابن سعد ان ابراهيم ولد في ذي الحجة سنة ثمان من
الهجرة.
ومات وهو
ابن ستة عشر شهرا وقال صلى الله عليه وسلم ان له ظئرا
تتم رضاعه في الجنة وهو صديق.
وفي رواية ثمانية عشر شهرا.
يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من شهر ربيع الاول سنة عشر.
(5) عن الحكم عن مقسم أبي القاسم كما في دلائل النبوة ج
2 / 70.
النبوة فماتوا قبل البعثة.
وأما بناته فأدركن البعثة ودخلن في الاسلام وهاجرن معه
صلى الله عليه وسلم قال ابن هشام: وأما إبراهيم فمن ماربة (1) القبطية التي أهداها
له المقوقس صاحب اسكندرية من كورة أنصنا (2) وسنتكلم على أزواجه وأولاده عليه
الصلاة والسلام في باب مفرد لذلك في آخر السيرة إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
قال ابن هشام: وكان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة فيما حدثني غير واحد من أهل العلم، منهم أبو عمرو
المدني، وقال يعقوب بن سفيان كتبت عن إبراهيم بن المنذر حدثني عمر بن أبي بكر
المؤملي حدثني غير واحد أن عمرو بن أسد زوج خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعمره خمسا وعشرين سنة وقريش تبني الكعبة.
وهكذا نقل البيهقي عن الحاكم أنه كان عمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم حين تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة وكان عمرها إذ ذاك خمسا وثلاثين -
وقيل خمسا وعشرين سنة - (3).
وقال البيهقي: باب ما كان يشتغل به رسول الله صلى الله
عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو بكر بن عبد
الله أخبرنا الحسن بن سفيان حدثنا سويد بن سعيد حدثنا عمرو بن أبي يحيى بن سعيد
القرشي عن جده سعيد عن أبي هريرة.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بعث الله
نبيا إلا راعي غنم " فقال له أصحابه وأنت يارسول الله ؟ قال: " وأنا
رعيتها لاهل مكة بالقراريط " (4) رواه البخاري (5) عن أحمد بن محمد المكي عن
عمرو بن يحيى به.
ثم روى البيهقي من طريق الربيع بن بدر - وهو ضعيف (6) -
عن أبي الزبير عن
__________
(1) مارية بنت شمعون (والمارية البقرة الفتية بتخفيف
الياء وبالتشديد الملساء.
وسبب اهدائها إلى النبي أنه صلى الله عليه وسلم
أرسل إلى المقوقس واسمه جريج بن ميناء فقارب المقوقس
الاسلام وارسل هدية إلى النبي بغلته دلدل ومارية وقدحا من قوارير (الروض الانف).
(2) أنصنا: بالفتح ثم السكون وكسر الصاد مدينة من نواحي
الصعيد على شرقي النيل ويقال انها كانت مدينة السحرة ينسب إليها كثير من أهل العلم.
(3) قيل كان سنه صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين سنة
وقيل ثلاثين وقيل سبعا وثلاثين وقيل ستا وعشرين.
وكان عمر خديجة إذ ذاك أربعين سنة وقيل خمسا وأربعين.
وكانت خديجة قد تزوجت قبله رجلين: عتيق بن عائذ بن عبد
الله بن عمر بن مخزوم ثم أبو هالة التميمي وهو من بني أسيد بن عمرو واسمه هند بن
زرارة بن النباش.
(4) دلائل النبوة ج 2 / 65.
(5) في 37 كتاب الاجارة (2) باب رعي الغنم فتح الباري (4
/ 441).
وأخرجه ابن ماجه في كتاب التجارات وابن سعد في الطبقات.
(6) الربيع بن بدر ضعفه ابن معين.
وقال ابن حبان يقلب الاسانيد وقال الدارقطني والازدي:
متروك.
وقال النسائي ويعقوب بن سفيان متروك.
تهذيب التهذيب (3 / 239).
جابر.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " آجرت نفسي من خديجة
سفرتين بقلوص " وروى البيهقي من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمار بن
أبي عمار عن ابن عباس: أن أبا خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو - أظنه
- قال سكران (1).
ثم قال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان أنا
عبد الله بن جعفر حدثنا يعقوب بن سفيان قال حدثني إبراهيم بن المنذر حدثني عمر بن
أبي بكر المؤملي (2) حدثني عبد الله بن أبي عبيد (3) بن محمد بن عمار بن ياسر عن
أبيه عن مقسم بن أبي القاسم (4) مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل أن عبد الله بن
الحارث حدثه أن عمار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله
صلى الله عليه وسلم خديجة وما يكثرون فيه يقول: أنا أعلم الناس بتزويجه إياها، إني كنت
له تربا، وكنت له إلفا وخدنا.
وإني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم.
حتى إذا كنا بالحزورة (5) أجزنا على أخت خديجة، وهي
جالسة على أدم
تبيعها، فنادتني، فانصرفت إليها، ووقف لي رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
فقالت:
أما بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة ؟ قال عمار:
فرجعت إليه فأخبرته فقال: " بلى لعمري " فذكرت لها قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقالت اغدوا علينا إذا أصبحنا، فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا
بقرة، والبسوا أبا خديجة حلة، وصفرت لحيته، وكلمت أخاها فكلم أباه وقد سقي خمرا
فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانة وسألته أن يزوجه فزوجه خديجة وصنعوا
من البقرة طعاما فأكلنا منه ونام أبو هاشم استيقظ صاحيا.
فقال: ما هذه الحلة وما هذه الصفرة وهذا الطعام ؟ فقالت
له ابنته التي كانت قد كلمت عمارا هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك، وبقرة
أهداها لك، فذبحناها حين زوجته خديجة، فأنكر أن يكون زوجه، وخرج يصيح حتى جاء
الحجر، وخرج بنو هاشم برسول الله صلى الله عليه وسلم فجاؤوه فكلموه.
فقال أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته خديجة ؟ فبرز له
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نظر إليه، قال إن كنت زوجته فسبيل ذاك، وإن لم
أكن فعلت فقد زوجته.
وقد ذكر الزهري في سيره أن أباها زوجها منه وهو سكران
وذكر نحو ما تقدم حكاه السهيلي.
قال المؤملي: المجتمع عليه أن عمها عمرو بن أسد هو الذي
زوجها منه وهذا هو الذي رجحه السهيلي (6) وحكاه عن ابن عباس وعائشة قالت: وكان
خويلد مات قبل الفجار، وهو
__________
(1) وأخرجه الامام أحمد في مسنده مطولا بإسناد ضعيف.
والهيثمي في مجمع الزوائد عنه وعن الطبراني وقال رجال أحمد
والطبراني رجال الصحيح.
(2) في الدلائل ج 2 / 71 ; الموصلي.
(3) في الدلائل وتقريب التهذب: أبي عبيدة.
(4) في الدلائل، مقسم: أبي القاسم مولى عبد الله، وهو
الصواب.
ويقال له مولى ابن عباس للزومه، صدوق.
مات سنة 101 ه.
(تقريب التهذيب).
(5) الحزورة: كانت الحزورة سوق مكة، ودخلت في المسجد لما
زيد، وباب الحزورة معروف من أبواب المسجد الحرام، والعامة تقول: باب عزورة.
(6) وعند الواقدي قال: الثبت عندنا المحفوظ من أهل العلم
أن أباها خويلد بن أسد مات قبل الفجار وان عمها =
الذي نازع تبعا حين أراد أخذ الحجر الاسود إلى اليمن،
فقام في ذلك خويلد وقام معه جماعة من قريش ثم رأى تبع في منامه ما روعه، فنزع عن
ذلك وترك الحجر الاسود مكانه.
وذكر ابن إسحاق: في آخر السيرة أن أخاها عمرو بن خويلد
هو الذي زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله أعلم.
فصل قال ابن إسحاق: وقد كانت خديجة بنت خويلد ذكرت لورقة
بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي - وكان ابن عمها، وكان نصرانيا قد تتبع الكتب
وعلم من علم الناس ما ذكر لها غلامها من قول الراهب وما كان يرى منه إذ كان
الملكان يظلانه - فقال ورقة: لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الامة،
قد عرفت أنه كائن لهذه الامة نبي ينتظر هذا زمانه - أو كما قال - فجعل ورقة يستبطئ
الامر ويقول حتى متى ؟ وقال في ذلك: لججت وكنت في الذكرى لجوجا * لهم طالما ما
بعث النشيجا (1) ووصف من خديجة بعد وصف * فقد طال انتظاري يا خديجا ببطن المكتين
على رجائي * حديثك أن أرى منه خروجا (2) بما خبرتنا من قول قس * من الرهبان أكره
أن يعوجا (3) بأن محمدا سيسود قوما * ويخصم من يكون له حجيجا (4) ويظهر في البلاد
ضياء نور * يقوم به البرية أن تموجا فيلقى من يحاربه خسارا * ويلقى من يسالمه
فلوجا (5) فيا ليتني إذا ما كان ذاكم * شهدت وكنت أولهم ولوجا (6)
__________
= عمرو بن أسد زوجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وافقه الكلبي عن ابن عباس.
وابن سعد بسنده عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس.
(الطبقات - عيون الاثر).
(1) اللجاج: التمادي في الامر.
والنشيج: بكاء الصبي الذي يضرب فلا يخرج بكاؤه ويردده في
صدره قال ابن
الاعرابي: النشيج من الفم والنخير من الانف.
وفي التهذيب: غص البكاء في حلقه عند الفزعة فهو إذ ذاك
نشيج.
(2) المكتين: قال السهيلي في روضه: ثنى مكة وهي واحدة
لان لها بطاحا وظواهر.
وهذا كثير عند العرب في أشعارهم.
(3) قس: هو قس بن ساعدة الايادي خطيب العرب.
(4) في سيرة ابن هشام: فينا بدل قوما.
وفي بلوغ الارب للآلوسي: يوما.
(5) فلوجا: الفلوج الظهور على الخصم والعدو.
(6) قوله " فياليتي " بحذف نون الوقاية ;
وحذفها مع ليت نادر.
قال ابن مالك في الالفية: وليتني فشا وليتي ندرا * ومع
لعل أعكس...
ولوجا في الذي كرهت قريش * ولو عجت بمكتها عجيجا (1)
أرجي بالذي كرهوا جميعا * إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا وهل أمر السفالة غير كفر * بمن
يختار من سمك البروجا فإن يبقوا وأبق يكن أمور * يضج الكافرون لها ضجيجا وإن أهلك
فكل فتى سيلقى * من الاقدار متلفة خروجا (2) وقال ورقة أيضا فيما رواه يونس بن بكير
عن ابن إسحاق عنه: أتبكر أم أنت العشية رائح * وفي الصدر من إضمارك الحزن قادح ؟
(3) لفرقة قوم لا أحب فراقهم * كأنك عنهم بعد يومين نازح وأخبار صدق خبرت عن محمد
* يخبرها عنه إذا غاب ناصح أتاك الذي وجهت يا خير حرة * بغور وبالنجدين حيث
الصحاصح (4) إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت * وهن من الاحمال تعص دوالج (5) فيخبرنا
عن كل خير بعلمه * وللحق أبواب لهن مفاتح
بأن ابن عبد الله احمد مرسل * إلى كل من ضمت عليه
الاباطح وظني به أن سوف يبعث صادقا * كما أرسل العبدان هود وصالح وموسى وإبراهيم
حتى يرى له * بهاء ومنشور من الذكر واضح ويتبعه حيا لؤي وغالب * شبابهم والاشيبون الجحاجح
(6) فإن أبق حتى يدرك الناس دهره * فإني به مستبشر الود فارح وإلا فإني يا خديجة
فاعلمي * عن ارضك في الارض العريضة سائح وزاد الاموي: فمتبع دين الذي أسس البنا *
وكان له فضل على الناس راجح وأسس بنيانا بمكة ثابتا * تلالا فيه بالظلام المصابح
__________
(1) في بلوغ الارب للالوسي: ولوجا في الذي كرهت
قريشا..(2) المتلفة: المهلكة.
خروجا في سيرة ابن هشام حروجا: وهي الكثيرة التصرف.
(3) في بلوغ الارب: وفي الصبر بدل وفي الصدر.
(4) في بلوغ الارب: فتاك بدل أتاك.
والصحاصح: جمع صحصح وهو ما استوى من الارض وجرد أي لا
شجر فيها ولا قرار ماء.
(5) قعص: وأقعصه إذا قتله قتلا سريعا.
دوالح: من دلح البعير إذا مر بحمله مثقلا ; أي تثاقل في
مشيه من ثقل الحمل كما قال الازهري.
(6) في بلوغ الارب: لؤي بن غالب.
والجحاجح جمع جحجح وهو السيد السمح والكريم.
مثابا لافناء القبائل كلها * تخب إليه اليعملات الطلائح
حراجيج أمثال القداح من السرى * يعلق في أرساغهن السرايح ومن شعره فيما أورده أبو
القاسم السهيلي في روضه (1): لقد نصحت لاقوام وقلت لهم * أنا النذير فلا يغرركم
أحد
لا تعبدن إلها غير خالقكم * فان دعوكم فقولوا بيننا حداد
(2) سبحان ذي العرش سبحانا يدوم له * وقبلنا سبح الجودي والجمد (3) مسخر كل ما تحت
السماء له * لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد لا شئ مما نرى تبقى بشاشته * يبقى الاله ويودي
المال والولد لم تغن عن هرمز يوما خزائنه * والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا
سليمان إذ تجرى الرياح به * والجن والانس فيما بينها مرد (4) أين الملوك التي كانت
لعزتها * من كل أوب إليها وافد يفد حوض هنالك مورود بلا كذب * لابد من ورده يوما
كما وردوا ثم قال هكذا نسبه أبو الفرج إلى ورقة، قال وفيه أبيات تنسب إلى أمية بن
أبي الصلت.
قلت: وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله
عنه أنه كان يستشهد في بعض لاحيان بشئ من هذه الابيات والله أعلم.
فصل في تجديد قريش بناء الكعبة قبل المبعث بخمس سنين ذكر
البيهقي (5) بناء الكعبة قبل تزويجه عليه الصلاة والسلام خديجة.
والمشهور أن بناء قريش الكعبة بعد تزويج خديجة كما
ذكرناه بعشر سنين.
ثم شرع البيهقي في ذكر بناء الكعبة في
__________
(1) قاله لما مر ببلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو يعذب برمضاء مكة ونهاهم عنه فلم ينتهوا ; فقال: والله لئن قتلتموه لاتخذن
قبره حنانا (بلوغ الارب - 2 / 271).
(2) في بلوغ الارب للالوسي وعجزه: فإن دعيتم فقولوا دونه
حدد.
والحدد: بفتح الحاء والدال: المنع.
(3) عند الالوسي: سبحان ذي العرش لا شئ يعادله * رب
البرية فرد واحد صمد سبحانه ثم سبحانا نعوذ به * وقبلنا سبح الجودي والجمد
(4) في الالوسي: ولا سليمان إذا دان الشعوب له * والجن
والانس تجري بينها البرد (5) أنظر دلائل النبوة ج 2 / 43 وما بعدها.
زمن إبراهيم كما قدمناه في قصته، وأورد حديث ابن عباس
المتقدم في صحيح البخاري وذكر ما ورد من الاسرائيليات في بنائه في زمن آدم ولا يصح
ذلك، فإن ظاهر القرآن يقتضي أن إبراهيم أول من بناه مبتدئا وأول من أسسه، وكانت
بقعته معظمة قبل ذلك معتنى بها مشرفة في سائر الاعصار والاوقات قال الله تعالى: (إن أول بيت وضع
للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان
آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) [ آل عمران: 96 - 97 ] وثبت
في الصحيحين (1) عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال: "
المسجد الحرام " قلت ثم أي ؟ قال:
" المسجد الاقصى " قلت كم بينهما ؟ قال:
" أربعون سنة " وقد تكلمنا على هذا فيما تقدم، وإن المسجد الاقصى أسسه
اسرائيل وهو يعقب عليه السلام.
وفي الصحيحين أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات
والارض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة.
وقال البيهقي (2) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو
عبد الله الصفار حدثنا أحمد بن مهران حدثنا عبيد الله [ بن موسى ] حدثنا اسرائيل
عن أبي يحيى عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو، قال: كان البيت قبل الارض بألفي سنة،
(وإذا الارض مدت) [ الانشقاق: 3 ] قال من تحته مدت.
قال وقد تابعه منصور عن مجاهد.
قلت: وهذا غريب جدا وكأنه من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن
عمرو يوم اليرموك وكان فيهما اسرائيليات يحدث منها وفيهما منكرات وغرائب.
ثم قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو
جعفر محمد بن محمد بن محمد (3) بن عبد الله البغدادي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح حدثنا أبو
صالح الجهني حدثني ابن لهيعة عن يزيد بن (4) أبي الخير عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بعث الله
جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما ابنيا لي بيتا، فخط لهما
جبريل فجعل آدم يحفر وحواء تنقل، حتى أجابه الماء نودي من تحته حسبك يا آدم، فلما
بنيا أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به وقيل له أنت أول الناس، وهذا أول بيت، ثم
تناسخت القرون حتى حجه نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه ".
قال البيهقي: تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا.
__________
(1) أخرجه البخاري في 60 كتاب الانبياء 10 باب حدثنا موسى
بن إسماعيل الفتح 6 / 407 وأخرجه مسلم في أول كتاب المساجد ح (1) صفحة (370).
(2) دلائل ج 2 / 44، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2 / 518
وقال حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(3) في الدلائل ج 2 / 44 محمد بن محمد بن عبد الله.
(4) كذا في الاصل وفي الدلائل: يزيد عن أبي الخير.
قلت: وهو ضعيف، ووقفه على عبد الله بن عمرو أقوى وأثبت
والله أعلم.
وقال الربيع [ بن سليمان ]: أنبأنا الشافعي أنبأنا سفيان
عن ابن أبي لبيد عن محمد بن كعب القرظي - أو غيره - قال: حج آدم فلقيته الملائكة
فقالوا بر نسكك يا آدم لقد حججنا قبلك بألفي عام.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني بقية - أو قال ثقة
- من أهل المدينة عن عروة بن الزبير أنه قال: ما من نبي إلا وقد حج البيت إلا ما
كان من هود وصالح.
قلت: وقد قدمنا حجهما إليه.
والمقصود الحج إلى محله وبقعته وإن لم يكن ثم بناء والله
أعلم.
ثم أورد البيهقي حديث ابن عباس المتقدم في قصة إبراهيم
عليه السلام بطوله وتمامه وهو في صحيح البخاري.
ثم روى البيهقي من حديث سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة
قال: سأل رجل عليا عن قوله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى
للعالمين) أهو أول بيت بني في الارض ؟ قال لا ولكنه أول بيت وضع فيه البركة للناس
والهدى ومقام
إبراهيم، ومن دخله كان آمنا.
وإن شئت نبأتك كيف بناؤه.
إن الله تعالى أوحى إلى ابراهيم أن ابن لي بيتا في
الارض، فضاق به ذرعا فأرسل [ الله ] إليه السكينة، وهي ريح خجوج لها رأس، فاتبع أحدهما
صاحبه حتى انتهت ثم تطوقت في موضع البيت تطوق الحية، فبنى إبراهيم [ وكان يبني هو
ساقا كل يوم ] حتى بلغ مكان الحجر، قال لابنه أبغني حجرا، فالتمس حجرا حتى أتاه
به، فوجد الحجر الاسود قد ركب، فقال لابيه من أين لك هذا ؟ قال جاء به من لا يتكل
على بنائك، جاء به جبريل، من السماء فأتمه (1).
قال فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، ثم انهدم
فبنته جرهم، ثم انهدم فبنته قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ رجل شاب.
فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الاسود اختصموا فيه،
فقالوا: نحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
أول من خرج عليهم فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط ثم ترفعه جميع القبائل كلهم.
وقال أبو داود الطيالسي حدثنا حماد بن سلمة وقيس وسلام
كلهم عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب.
قال: لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش، فلما أرادوا وضع الحجر
تشاجروا من يضعه، فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله صلى
الله عليه وسلم من باب بني شيبة فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه وأمر كل فخذ أن يأخذوا
بطائفة من الثوب فرفعوه وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، قال يعقوب بن
سفيان أخبرني أصبغ بن فرج أخبرني ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال: لما بلغ رسول
الله صلى الله عليه وسلم الحلم جمرت امرأة الكعبة، فطارت شرارة من مجمرها في ثياب
الكعبة فاحترقت فهدموها، حتى إذا بنوها، فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن
أي القبائل تلي رفعه.
فقالوا: تعالوا نحكم أول من
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (3 / 69 - 71) ورواه في
أخبار مكة (1 / 24 - 25) ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
ووافقه الذهبي.
يطلع علينا، فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو غلام عليه وشاح نمرة، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أخرج سيد كل قبيلة،
فأعطاه ناحية من الثوب، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن،
فكان هو يضعه، فكان لا يزداد على السن الارضي (1) حتى
دعوه الامين قبل أن ينزل عليه الوحي، فطفقوا لا ينحرون جزورا إلا التمسوه فيدعو
لهم فيها، وهذا سياق حسن، وهو من سير الزهري، وفيه من الغرابة قوله: فلما بلغ
الحلم.
والمشهور أن هذا كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم عمره
خمس وثلاثون سنة، وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله (2).
وقال موسى بن عقبة: كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس
عشرة سنة.
وهكذا قال مجاهد، وعروة، ومحمد بن جبير بن مطعم، وغيرهم.
فالله أعلم.
وقال موسى بن عقبة: كان بين الفجار وبين بناء الكعبة خمس
عشرة سنة.
قلت: وكان الفجار وحلف الفضول في سنة واحدة إذ كان عمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون سنة.
وهذا يؤيد ما قال محمد بن إسحاق والله أعلم (3).
قال موسى بن عقبة: وإنما حمل قريشا على بنائها أن السيول
كانت تأتي من فوقها، من فوق الردم الذي صفوه فخر به فخافوا أن يدخلها الماء.
وكان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة.
فأرادوا أن يشيدوا بنيانها وأن يرفعوا بابها حتى لا
يدخلها إلا من شاؤوا فأعدوا لذلك نفقة وعمالا.
ثم غدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر أن يمنعهم الذي
ارادوا.
فكان أول رجل طلعها وهدم منها شيئا: والوليد بن المغيرة،
فلما رأوا الذي فعل الوليد تتابعوا فوضعوها، فأعجبهم ذلك.
فلما أرادوا أن يأخذوا في بنيانها أحضروا عمالهم فلم
يقدر رجل منهم أن يمضي أمامه موضع قدم فزعموا أنهم رأوا حية قد أحاطت بالبيت،
رأسها عند ذنبها.
فأشفقوا منها شفقة شديدة، وخشوا أن يكونوا قد وقعوا مما
عملوا في هلكة.
وكانت الكعبة حرزهم ومنعتهم من الناس وشرفا لهم فلما سقط
في أيديهم والتبس عليهم أمرهم قام فيهم المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم فذكر
ما كان
__________
(1) في الدلائل: ثم طفق لا يزداد على السن إلا رضا.
(2) رواه الازرقي في أخبار مكة 1 / 99.
(3) قال ابن هشام: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم
أربع عشرة سنة أو خمس عشرة هاجت حرب الفجار.
وقال ابن إسحاق: هاجت حرب الفجار ورسول الله صلى الله
عليه وسلم ابن عشرين سنة.
وقال ابن سيد الناس: ولما بلغ
رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت
قريش لبنيان الكعبة.
وقال الازرقي: اختصمت قريش..وطلع عليهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاحا نمرة والذي جزم به ابن إسحق أن بنيان الكعبة
كان قبل المبعث بخمس سنين.
1 / 159.
نقول يمكن أن يكون الحريق تقدم وقته على الشروع في
البناء، أو لعل البناء كان في فترات..انتهت قبل المبعث بخمس سنوات.
ويمكن أن يكون قد وقع التباس لدى المؤرخين في زمن احتراق
الكعبة (فقال الزهري لما بلغ رسول الله الحلم احترقت..و) والانتهاء من هدمها
وبنائها.
من نصحه لهم وأمره إياهم أن لا يتشاجروا ولا يتحاسدوا في
بنائها.
وأن يقتسموها أرباعا.
وأن لا يدخلوا في بنائها مالا حرام.
وذكر أنهم لما عزموا على ذلك ذهبت الحية في السماء
وتغيبت عنهم ورأوا أن ذلك من الله عز وجل.
قال: ويقول بعض الناس إنه اختطفها طائر وألقاها نحو
أجياد (1).
وقال محمد بن إسحاق بن يسار: فلما بلغ رسول الله صلى
الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبناء الكعبة وكانوا يهمون بذلك
ليسقفوها ويهابون هدمها.
وإنما كانت رضما فوق القامة.
فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة،
وإنما كان في بئر في جوف الكعبة.
وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى لبني مليح بن عمرو
بن خزاعة.
فقطعت قريش يده وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند
دويك.
وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة (2) لرجل من تجار
الروم.
فتحطمت.
فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها.
قال الاموي: كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم تحمل آلات
البناء من الرخام والخشب والحديد سرحها قيصر مع باقوم الرومي إلى الكنيسة التي
أحرقها الفرس للحبشة فلما بلغت مرساها من جدة بعث الله عليها ريحا فحطمتها.
قال ابن إسحاق: وكان بمكة رجل قبطي نجار فتهيأ لهم في
أنفسهم بعض ما يصلحها.
وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما
يهدى إليها كل يوم.
فتشرف (3) على جدار الكعبة وكانت مما يهابون، وذلك أنه
كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت (4) وكشت وفتحت
فاها، فكانوا يهابونها، فبينما هي يوما تشرف على جدار
الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله عليها طائرا فاختطفها فذهب بها.
فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضي ما
أردنا، عندنا عامل رقيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية.
وحكى السهيلي: عن رزين أن سارقا دخل الكعبة في أيام جرهم
ليسرق كنزها.
فانهار البئر عليه حتى جاؤوا فأخرجوه وأخذوا منه ما كان
أخذه، ثم سكنت هذا البئر حية رأسها كرأس الجدي وبطنها أبيض وظهرها أسود فأقامت
فيها خمسمائة عام وهي التي ذكرها محمد بن إسحاق.
قال محمد بن إسحاق: فلما أجمعوا أمرهم لهدمها وبنيانها
قام أبو وهب عمرو بن عابد بن عبد بن عمران بن مخزوم - وقال ابن هشام عابد بن عمران
بن مخزوم - فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه.
فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا
طيبا.
لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من
الناس -
__________
(1) أجياد، وفي الدلائل جياد.
(2) في الاخبار الازرقي بالشعيبة ; وهي واقعة جنوب جدة
وتبعد عنها مقدار مرحلتين.
(3) في سيرة ابن هشام: تتشرق أي تبرز للشمس ويقال تشرقت:
إذا قعدت للشمس لا يحجبك عنها شئ.
(4) احزألت: رفعت رأسها وتجمعت تستعد للوثوب.
والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله
بن عمرو بن مخزوم.
ثم رجح ابن إسحاق أن قائل ذلك أبو وهب بن عمرو - قال
وكان خال أبي النبي صلى الله عليه وسلم وكان شريفا ممدحا.
وقال ابن إسحاق: ثم إن قريشا تجزأت الكعبة.
فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وما بين الركن
الاسود والركن اليماني لبني مخزوم (1) وقبائل من قريش انضموا إليهم.
وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم (2).
وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد
العزى ولبني عدي بن كعب، وهو الحطيم (3).
ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه.
فقال الوليد بن المغيرة أنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول
ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع اللهم إنا لا نريد
إلا الخير.
ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة،
وقالوا: ننظر فإن أصيب لم تهدم منها شيئا ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شئ، فقد
رضي الله ما صنعنا من هدمها.
فأصبح الوليد غاديا على عمله، فهدم وهدم الناس معه - حتى
إذا انتهى الهدم بهم إلى الاساس - أساس إبراهيم عليه السلام - أفضوا إلى حجارة خضر
كالاسنة (4) أخذ بعضها بعضا - ووقع في صحيح البخاري عن يزيد بن رومان كأسنمة الابل
- قال السهيلي وأرى رواية السيرة كالالسنة وهما والله أعلم.
قال ابن أسحاق: فحدثني بعض من يروي الحديث أن رجلا (5)
من قريش ممن كان يهدمها ادخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما، فلما تحرك
الحجر انتفضت مكة بأسرها.
فانتهوا عن ذلك الاساس.
وقال موسى بن عقبة: وزعم عبد الله بن عباس أن أولية قريش
كانوا يحدثون أن رجلا (6) من قريش لما اجتمعوا لينزعوا الحجارة [ وانتهوا ] إلى
تأسيس إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عمد رجل منهم إلى حجر من الاساس الاول فرفعه
وهو لا يدري أنه من الاساس الاول، فأبصر
__________
(1) زاد في تاريخ مكة: وبني تميم.
(2) زاد في اخبار مكة فذكر: بني عامر بن لؤي.
(3) الحطيم: سمي حطيما، كما قيل، لان الناس يزدحمون فيه
حتى يحطم بعضهم بعضا.
(4) في رواية الازرقي: كأنها الابل الخلف لا يطيق الحجر
منها ثلاثون رجلان.
ومن قال الاسنمة فهي جمع سنام، وأراد أن الحجارة تدخل
بعضها في بعض كما تدخل عظام الاسنمة بعضها ببعض.
ومن قال الاسنة فهي جمع سنان: أي أسنة الرماح.
(5) في تاريخ الازرقي: هو الوليد بن المغيرة.
وفي رواية له عن سعيد بن المسيب قال: أبو وهب بن عمرو بن
عائد بن عمران بن مخزوم.
وعن جبير بن مطعم قال: عامر بن نوفل بن عبد مناف وقال
الواقدي: وقد ثبت أنه أبو وهب.
(6) كذا في الاصل، والصواب من الدلائل رجالا.
القوم برقة تحت الحجر كادت تلتمع بصر الرجل، ونزا الحجر
من يده فوقع في موضعه وفزع الرجل والبناة.
فلما ستر الحجر عنهم ما تحته إلى مكانه عادوا إلى
بنيانهم وقالوا لا تحركوا هذا الحجر ولا شيئا بحذائه.
قال ابن إسحاق: وحدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا
بالسريانية فلم يعرفوا ما هو، حتى قرأه لهم رجل من يهود (1)، فإذا هو أنا الله ذو
بكة، خلقتها يوم خلقت السماوات والارض، وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك
حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها - قال ابن هشام يعني جبلاها - مبارك لاهلها في
الماء واللبن.
قال ابن إسحاق: وحدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه:
مكة [ بيت ] الله الحرام، يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، لا يحلها أول من أهلها.
قال وزعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا في الكعبة قبل مبعث
النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة - إن كان ما ذكر حقا - مكتوبا فيه: من يزرع
خيرا يحصد غبطة، ومن يزرع شرا يحصد ندامة.
يعملون السيئات ويجزون الحسنات ؟ أجل كما يجتنى من الشوك
العنب.
وقال سعيد بن يحيى الاموي: حدثنا المعتمر بن سليمان
الرقي عن عبد الله بن بشر الزهري - يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
قال: " وجد في المقام ثلاثة أصفح، في الصفح الاول: إني أنا الله ذويكة،
صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر وخففتها بسبعة أملاك حنفاء، وباركت لاهلها في اللحم
واللبن وفي الصفح الثاني: إني أنا الله ذويكة، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي.
فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته، وفي الصفح الثالث: إني
أنا الله ذوبكة، خلقت الخير والشر وقدرته.
فطوبى لمن أجريت الخير على يديه وويل لمن أجريت الشر على
يديه.
قال ابن اسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة
لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة.
ثم بنوها حتى بلغ البناء موضع الركن فاختصموا فيه، كل
قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه
دون الاخرى.
حتى تحاوروا أو تحالفوا، وأعدوا للقتال فقربت بنو عبد
الدار جفنة مملوءة دما.
ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت،
وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة.
فسموا لعقة الدم.
فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ثم انهم اجتمعوا
في المسجد فتشاوروا وتناصفوا.
فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد
الله بن عمرو بن مخزوم - وكان عامئذ أسن قريش (2) كلها قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم
فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه.
ففعلوا.
فكان أول داخل دخل
__________
(1) كذا في الاصل وابن هشام وفي دلائل البيهقي: حبر من
يهود اليمن، وفى رواية: من حمير.
(2) ذكر الازرقي أن أبا زمعة بن الاسود كان أسن القوم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رأوه قالوا: هذا الامين رضينا، هذا محمد.
فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " هلموا إلي ثوبا " فأتى به، وأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم
قال: " لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب (1).
ثم ارفعوه جميعا " ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه
وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم.
ثم بنى عليه.
وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الامين.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا ثابت - يعني
أبا يزيد - حدثنا هلال يعني ابن حبان عن مجاهد عن مولاه - وهو السائب بن عبد الله
- أنه حدثه أنه كان فيمن بنى الكعبة في الجاهلية قال: وكان لي حجر - أنا نحته
أعبده من دون الله - قال: وكنت أجئ باللبن الخاثر الذي آنفه على نفسي فأصبه عليه
فيجئ الكلب فيلحسه ثم يشغر فيبول عليه قال: فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر ولا يرى الحجر
أحد.
فإذا هو وسط أحجارنا مثل رأس الرجل يكاد يترايا منه وجه
الرجل.
فقال بطن من قريش: نحن نضعه وقال آخرون نحن نضعه فقالوا
اجعلوا بينكم حكما.
فقالوا أول رجل يطلع من الفج.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أتاكم الامين.
فقالوا له فوضعه في ثوب.
ثم دعا بطونهم فرفعوا نواحيه فوضعه هو صلى الله عليه
وسلم.
قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله
عليه وسلم ثماني عشرة ذراعا وكانت تكسى
القباطي.
ثم كسيت بعد البرور (2).
وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف (3).
قلت: وقد كانوا أخرجوا منها الحجر - وهو ستة أذرع أو سبعة أذرع من
ناحية الشام - قصرت بهم النفقة أي لم يتمكنوا أن يبنوه على قواعد إبراهيم.
وجعلوا للكعبة بابا واحدا من ناحية
__________
(1) أي بزاوية من زواياه فكان عتبة بن ربيعة في ربع عبد
مناف، وفي الربع الثاني: أبي زمعة بن الاسود، وفي الثالث العاص بن وائل (في
الطبقات: قيس بن عدي)، وفي الرابع أبو حذيفة بن المغيرة.
(2) كذا في الاصل، وفي السيرة والازرقي البرود: وهي ثياب
يمنية.
والقباطي: جمع قبطية بالضم وهو ثوب من ثياب مصر رقيق
أبيض.
(3) الديباج: معربة وهي القماش المنقوش.
وفيمن كساها الديباج: روى الفاكهي من طريق مسعر عن جسرة:
أن خالد بن جعفر بن كلاب أول من كسا الكعبة الديباج في الجاهلية.
وعن الدارقطني في المؤتلف: أن نتيلة بنت حيان والدة
العباس بن عبد المطلب كست الكعبة الديباج.
وقال ابن حجر: وحصلنا في أول من كساها الديباج على ستة
أقوال: 1 - خالد - 2 - نتيلة - معاوية - يزيد - ابن الزبير - الحجاج.
قال: كسوة خالد ونتيلة لم تشملها كلها.
وأما معاوية فلعله كساها في آخر خلافته فصادف ذلك خلافة
ابنه يزيد.
وأما ابن الزبير فلعله كساها بعد تجديد بنائها لكن لم
يداوم على كسوتها الديباج.
وأما الحجاج فكساها بأمر عبد الملك واستمر على ذلك،
فلعله أول من داوم على كسوتها في كل سنة.
(الروض الانف أخبار مكة).
الشرق.
وجعلوه مرتفعا لئلا يدخل إليها كل أحد فيدخلوا من شاؤوا
ويمنعوا من شاؤوا (1) وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لها: " ألم تري أن قومك قصرت بهم النفقة.
ولولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابا
شرقيا وبابا غربيا، وأدخلت فيها الحجر " ولهذا لما تمكن ابن الزبير بناها على
ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءت في غاية البهاء
والحسن والسناء كاملة على قواعد الخليل.
لها بابان ملتصقان بالارض شرقيا وغربيا.
يدخل الناس من هذا ويخرجون من الآخر.
فلما قتل الحجاج بن الزبير كتب إلى عبد الملك بن مروان -
وهو الخليفة يومئذ - فيما صنعه ابن الزبير واعتقدوا أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه.
فأمر باعادتها إلى ما كانت عليه فعمدوا إلى الحائط
الشامي فحصوه وأخرجوا منه الحجر ورصوا حجارته في أرض الكعبة.
فارتفع باباها وسدوا الغربي واستمر الشرقي على ما كان
عليه فلما كان في زمن المهدي - أو ابنه المنصور - استشار مالكا في إعادتها على ما
كان صنعه ابن الزبير.
فقال مالك رحمه الله: إني أكره أن يتخذها الملوك ملعبة.
فتركها على ما هي عليه.
فهي إلى الآن كذلك.
وأما المسجد الحرام: فأول من أخر البيوت من حول الكعبة
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اشتراها من أهلها وهدمها فلما كان عثمان اشترى دورا
وزادها فيه.
فلما ولى ابن الزبير أحكم بنيانه، وحسن جدرانه وأكثر
أبوابه.
ولم يوسعه شيئا آخر.
فلما استبد بالامر عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع
جدرانه وأمر بالكعبة فكسيت الديباج.
وكان الذي تولى ذلك بأمره الحجاج بن يوسف.
وقد ذكرنا قصة بناء البيت والاحاديث الواردة في ذلك في
تفسير سورة البقرة عند قوله: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) (2)
وذكرنا ذلك مطولا مستقصى فمن شاء كتبه هاهنا ولله الحمد والمنة.
قال ابن إسحاق: فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما
أرادوا قال الزبير بن عبد المطلب، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب
بنيان الكعبة لها: عجبت لما تصوبت العقاب * إلى الثعبان وهي لها اضطراب وقد كانت
تكون لها كشيش * وأحيانا يكون لها وثاب إذا قمنا إلى التأسيس شدت * تهيبنا البناء
وقد نهاب فلما أن خشينا الزجر جاءت * عقاب تتلئب لها انصباب (3) فضمتها إليها ثم
خلت * لنا البنيان ليس لها حجاب فقمنا حاشدين إلى بناء * لنا منه القواعد والتراب
__________
(1) زاد في تاريخ مكة: رفعوا بابها حتى لا تدخلها
السيول، ولا ترقا إلا بسلم.
(2) سورة البقرة الآية 127.
(3) الزجر: المنع.
ويروى الرجز: العذاب.
غداة يرفع التأسيس منه * وليس على مساوينا ثياب (1) أعز
به المليك بني لؤي * فليس لاصله منهم ذهاب وقد حشدت هناك بنو عدي * ومرة قد تقدمها كلاب
فبوأنا المليك بذاك عزا * وعند الله يلتمس الثواب وقد قدمنا في فصل ما كان الله يحوط
به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقذار الجاهلية، أنه كان هو والعباس عمه
ينقلان الحجارة، وأنه عليه الصلاة والسلام لما وضع إزاره تحت الحجارة على كتفه نهى
عن خلع إزاره فأعاده إلى سيرته الاولى.
فصل وذكر ابن إسحاق ما كانت قريش ابتدعوه في تسميتهم
الحمس، وهو الشدة في الدين والصلابة.
وذلك لانهم عظموا الحرم تعظيما زائدا بحيث التزموا بسببه
أن لا يخرجوا منه ليلة عرفة.
وكانوا يقولون نحن أبناء الحرم وقطان بيت الله.
فكانوا لا يقفون بعرفات مع علمهم أنها من مشاعر إبراهيم
عليه السلام، حتى لا يخرجوا عن نظام ما كانوا قرروه من البدعة الفاسدة.
وكانوا لا يدخرون من اللبن أقطا ولا سمنا ولا يسلون شحما
وهم حرم.
ولا يدخلون بيتا من شعر ولا يستظلون إن استظلوا إلا ببيت
من أدم.
وكانوا يمنعون الحجيج والعمار - ما داموا محرمين - أن
يأكلوا إلا من طعام قريش، ولا يطوفوا إلا في ثياب قريش، فإن لم يجد أحد منهم ثوب
أحد من الحمس وهم قريش وما ولدوا ومن دخل معهم من كنانة وخزاعة طاف عريانا ولو
كانت امرأة ولهذا كانت المرأة إذا اتفق طوافها لذلك وضعت يدها على فرجها وتقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله * وبعد هذا اليوم لا أحله
فإن تكرم أحد ممن يجد ثوب أحمسي فطاف في ثياب نفسه فعليه
إذا فرغ من الطواف أن يلقيها فلا ينتفع بها بعد ذلك.
وليس له ولا لغيره أن يمسها.
وكانت العرب تسمي تلك الثياب اللقى (3) قال بعض الشعراء:
كفى حزنا كري عليه كأنه * لقى بين أيدي الطائفين حريم
__________
(1) مساوينا والمساوي هنا: السوآت ; وفي سيرة ابن هشام:
مسوينا أي مسوي البنيان.
ثياب: إشارة إلى أنهم كانوا ينقلون الحجارة عراة ويرون
أن ذلك كان دينا وأنه من باب التشمير والجد في الطاعة.
(2) في سيرة ابن هشام: وما بدا منه فلا أحله.
يقال ان المرأة التي قالت ذلك هي ضباعة بنت عامر بن
صعصعة ثم من بني سلمة بن قشير (الروض الانف).
(3) اللقى: الشئ الملقى ويقال المنسى وجمعه: ألقاء.
قال ابن إسحاق: فكانوا كذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله
عليه وسلم وأنزل عليه القرآن ردا عليهم فيما ابتدعوه فقال [ تعالى ]: (ثم أفيضوا
من حيث أفاض الناس) أي جمهور العرب من عرفات (واستغفروا الله إن الله غفور رحيم)
(1) وقد
قدمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقف بعرفات قبل أن ينزل عليه توفيقا من
الله له، وأنزل الله عليه ردا عليهم فيما كانوا حرموا من اللباس والطعام على الناس
(يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب
المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (2) الآية.
وقال زياد البكائي (3) عن ابن إسحاق: ولا أدري أكان
ابتداعهم لذلك قبل الفيل أو بعده (4).
مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
وذكر شئ من البشارات بذلك قال محمد بن إسحاق رحمه الله:
وكانت الاحبار من اليهود والكهان من النصارى ومن العرب (5) قد تحدثوا بأمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب زمانه، أما الاحبار من اليهود والرهبان.
من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه، وما
كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه.
قال الله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي
يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل) [ الاعراف: 157 ] الآية وقال الله
تعالى: (وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين
يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) [ الصف: 6 ].
وقال الله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على
الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم
من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل) [ الفتح: 29 ] الآية.
وقال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما
آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، قال
أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ؟ قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين)
[ آل عمران: 81 ] وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: " ما بعث الله نبيا إلا
أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته
الميثاق لئن بعث
__________
(1) سورة البقرة الآية 199.
(2) سورة الاعراف الآيتان 31 و 32.
(3) زياد البكائي هو أبو محمد زياد بن عبد الله بن طفيل
القيسي العامري البكائي راوي السيرة عن ابن إسحاق توفي سنة 183 ه.
(4) ورد في تاريخ مكة ج 1 / 176: قال ابن جريج لما أن
أهلك الله تعالى أصحاب الفيل عظمت العرب قريشا.
وأهل مكة وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم
فازدادوا في تعظيم الحرم والمشاعر الحرام..وقالت قريش نحن أهل الله وبنوا
إبراهيم..فابتدعوا في دينهم أحداثا أداروها بينهم.
(5) في سيرة ابن هشام: والرهبان من النصارى، والكهان من
العرب.
محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وليتبعنه " يعلم
من هذا أن جميع الانبياء بشروا وأمروا باتباعه.
وقد قال إبراهيم عليه السلام فيما دعا به لاهل مكة: ربنا
وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك) الآية [ البقرة 129 ].
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو النضر حدثنا الفرج بن فضالة
حدثنا لقمان بن عامر سمعت أبا أمامة قال قلت يارسول الله، ما كان بدء أمرك ؟ قال:
" دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور
الشام " وقد روى محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم عنه مثله ومعنى هذا أنه أراد بدء أمره بين الناس واشتهار
ذكره وانتشاره فذكر دعوة إبراهيم الذي تنسب إليه العرب، ثم بشرى عيسى الذي هو خاتم
أنبياء بني اسرائيل كما تقدم.
يدل هذا على أن من بينهما من الانبياء بشروا به أيضا.
أما في الملا الاعلى فقد كان أمره مشهورا مذكورا معلوما
من قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام كما قال الامام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي
حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الاعلى بن هلال السلمي عن
العرباض بن سارية.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني عبد
الله خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي
إبراهيم، وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات المؤمنين " (1).
وقد رواه الليث عن معاوية بن صالح وقال: إن أمه رأت حين
وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام.
وقال الامام أحمد أيضا حدثنا عبد الرحمن حدثنا منصور بن
سعد عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر قال: قلت يا رسول الله،
متى كنت نبيا ؟ قال " وآدم بين الروح والجسد " تفرد بهن أحمد (2).
وقد رواه عمر بن أحمد بن شاهين في كتاب دلائل النبوة من
حديث أبي هريرة فقال حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز - يعني أبا القاسم
البغوي - حدثنا أبو همام الوليد بن مسلم عن الاوزاعي حدثني يحيى عن أبي سلمة عن
أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم متى وجبت لك النبوة ؟ قال:
" بين خلق آدم ونفخ الروح فيه " ورواه من وجه آخر عن الاوزاعي به.
وقال:
__________
(1) كذا في الاصل وفي دلائل البيهقي: النبيين.
(2) أخرج الحديثان أحمد في مسنده ج 4 / 127 - 128 و 4 /
66 و 5 / 379.
وأخرج الجزء الاول من حديث الحاكم في المستدرك 2 / 600
وقال هذا حديث صحيح الاسناد، وأقره الذهبي وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال
رواه أحمد والطبراني والبزار وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد
وقد وثقه ابن حبان.
" وآدم منجدل في طينته ".
وروى عن البغوي أيضا عن أحمد بن المقدام عن بقية بن سعيد
بن بشير عن قتادة عن أبي هريرة
- مرفوعا - في قول الله تعالى: (وإذ أخذنا من النبيين
ميثاقهم ومنك ومن نوح) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كنت أول النبيين في
الخلق وآخرهم في البعث " ومن حديث أبي مزاحم عن قيس بن الربيع عن جابر عن
الشعبي عن ابن عباس قيل يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ قال: " وآدم بين الروح
والجسد ".
وأما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن مما
تسترق من السمع، إذ كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم، وكان الكاهن والكاهنة
لا يزال يقع منهما بعض ذكر أموره ولا يلقى العرب لذلك فيه بالا.
حتى بعثه الله تعالى، ووقعت تلك الامور التي كانوا
يذكرون فعرفوها، فلما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضر زمان مبعثه
حجبت الشياطين عن السمع، وحيل بينها وبين المقاعد التي كانت تعقد لاستراق السمع
فيها، فرموا بالنجوم فعرفت الشياطين أن ذلك لامر حدث من أمر الله عزوجل.
قال (1) وفي ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه
وسلم: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى
الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا) إلى آخر السورة.
وقد ذكرنا تفسير ذلك كله في كتابنا التفسير، وكذا قوله
تعالى: (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا أنصتوا
فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين، قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى
مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم) الآيات، ذكرنا تفسير ذلك كله
هناك.
قال محمد بن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن
الاخنس أنه حدث أن أول
العرب فزع للرمي بالنجوم حين رمي بها - هذا الحي من ثقيف
- وإنهم جاؤوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أدهى العرب
وأمكرها (2)، فقالوا له يا عمرو ألم تر ما حدث في
السماء من القذف بهذه النجوم ؟ قال بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي
بها في البر والبحر ويعرف بها الانواء من الصيف والشتاء، لما يصلح الناس في
معايشهم هي التي يرمى بها، فهو والله طي الدنيا، وهلاك هذا الخلق وإن كانت نجوما
غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا لامر أراد الله به هذا الخلق فما هو ؟.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن امرأة من بني
سهم - يقال لها الغيطلة (3) -
__________
(1) أي ابن إسحاق.
(2) في سيرة ابن هشام: وأنكرها رأيا.
أي أهداها رأيا من النكر وهو الدهاء، ويروي بالباء من
البكور في الشئ وهو مبادرته فيه وسبقه إليه.
(3) قال ابن هشام الغيطلة من بني مرة بن عبد مناة بن
كنانة، أخوه بني مدلج بن مرة.
ويقال الغيطلة بنت مالك بن الحارث بن عمرو بن الصعق بن
شنوق بن مرة.
كانت كاهنة في الجاهلية جاءها صاحبها ليلة من الليالي
فانقض تحتها، ثم قال: أدر ما أدر، يوم عقر ونحر، قلت قريش حين بلغها ذلك ما يريد ؟
ثم جاءها ليلة أخرى فانقض تحتها ثم قال: شعوب ما شعوب ؟ تصرع فيه كعب (1) الجنوب.
فلما بلغ ذلك قريشا قالوا ما ذا يريد ؟ إن هذا لامر هو
كائن فانظروا ما هو، فما عرفوه حتى كانت وقعة بدر وأحد بالشعب، فعرفوا أنه كان
الذي جاء به إلى صاحبته.
قال ابن إسحاق: وحدثني علي بن نافع الجرشي أن جنبا (2) -
بطنا من اليمن - كان لهم كاهن في الجاهلية، فلما ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم وانتشر في العرب، قالت له جنب: انظر لنا في أمر هذا الرجل واجتمعوا له في
أسفل جبله.
فنزل إليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس
له، فرفع رأسه إلى السماء طويلا، ثم جعل ينزو، ثم قال: أيها الناس إن الله أكرم
محمدا
واصطفاه، وطهر قلبه وحشاه ومكثه فيكم أيها الناس قليل.
ثم اشتد في جبله راجعا من حيث جاء، ثم ذكر ابن إسحاق قصة
سواد بن قارب وقد أخرناها إلى هواتف الجان.
فصل قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال
من قومه قالوا: إن مما دعانا إلى الاسلام - مع رحمة الله تعالى وهداه لنا - أن كنا
نسمع من رجل من يهود (3) - وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس
لنا، وكانت لا يزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا:
إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ماس نسمع
ذلك منهم.
فلما بعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أجبناه حين
دعانا إلى الله، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به.
فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا به.
ففينا وفيهم نزلت هذه الآية: (ولما جاءهم كتاب من عند
الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا
كفروا به فلعنة الله على الكافرين).
وقال ورقاء: عن ابن أبي نجيح عن علي الازدي: كانت اليهود
تقول اللهم ابعث لنا هذا
__________
(1) المراد هنا كعب بن لؤي، وسياق الحديث الآتي يؤيد ذلك
خاصة أن معظم الذين صرعوا في بدر وأحد من أشراف قريش من كعب بن لؤي.
(2) جنب: هم بطن من بني يزيد بن حرب بن علة بن جلد بن
مالك بن أدد وهو مذحج وهم: بنو منبه والحارث والغلى وسبحان وشمره وهفان.
وفي جمهرة الانساب: والقاموس ومعجم البلدان سنحان بدل
سبحان وشمران بدل شمر.
سموا جنب أو جناب لانهم تحالفوا على بني عمهم صداء أو
صدا كما في نهاية الارب وهم من اتباع الكافر الصليحي - لعله كاهنهم - القائم
بنواحي زبيد.
(3) عبارة ابن هشام: لما كنا نسمع من رجال يهود.
النبي يحكم بيننا وبين الناس يستفتحون به - أي يستنصرون
به [ على الناس ] - رواه البيهقي (1).
ثم روي من طريق عبد الملك بن هارون بن عنبرة (2) عن أبيه
عن جده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قال: كانت اليهود بخيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود خيبر،
فعاذت اليهود بهذا الدعاء فقالوا: اللهم [ إنا ] نسألك بحق محمد النبي الامي الذي وعدتنا
أن تخرجه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا
الدعاء، فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به.
فأنزل الله عزوجل: (وكانوا من قبل يستفتحون على اللذين
كفروا) (3) الآية وروى عطية عن ابن عباس نحوه.
وروي عن عكرمة من قوله نحو ذلك أيضا.
وقال ابن إسحاق: وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن
بن عوف عن محمود بن لبيد عن سلمة بن سلام بن وقش - وكان من أهل بدر - قال: كان لنا
جار من يهود في بني عبد الاشهل، قال: فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد
الاشهل.
قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا.
علي فروة لي مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامة والبعث
والحساب والميزان والجنة والنار.
قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان، لا يرون أن بعثا كائن بعد
الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان أو ترى هذا كائنا ؟ إن الناس يبعثون بعد موتهم إلى
دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم ؟ قال: نعم، والذي يحلف به ويود أن له تحطه
(4) من تلك النار أعظم تنور في الدار، يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه، وأن
ينجو من تلك النار غدا قالوا له: ويحك يا فلان فما آية ذلك ؟ قال: نبي مبعوث من
نحو هذه البلاد.
وأشار بيده إلى نحو مكة واليمن، قالوا ومتى نراه ؟ قال -
فنظر إلي، وأنا من أحدثهم سنا - فقال: أن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه.
قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله [
محمدا ] رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا.
قال: فقلنا له: ويحك يا فلان ألست بالذي قلت لنا فيه ما
قلت ؟ قال بلى ولكن ليس به.
رواه أحمد عن يعقوب عن أبيه عن ابن عباس.
ورواه البيهقي عن الحاكم باسناده من طريق يونس بن بكير
(5).
وروى أبو نعيم في الدلائل عن عاصم بن عمر بن قتادة عن
محمود بن لبيد عن محمد بن
__________
(1) دلائل النبوة ج 2 / 76.
(2) في الدلائل ابن عنترة / وهو الصواب (التقريب -
الثقات للعجلي - الكاشف للذهبي).
قال الدارقطني: ضعيفان وقال أبو حاتم متروك وقال ابن
حبان يضع الحديث وأبوه ثقة ووثق هارون العجلي.
وأحمد وابن معين.
(3) سورة البقرة جزء من الآية 89.
(4) كذا في الاصل وفي سيرة ابن هشام: ولود أن له بحظه.
(5) أخرجه أحمد في مسنده 3 / 468 والبيهقي في الدلائل 2
/ 78 - 79 ونقله الصالحي في السيرة الشامية (1 / 135) وقال: رواه ابن إسحاق والبخاري
وصححه الحاكم، والخبر في الاكتفاء والوفا.
سلمة قال: لم يكن في بني عبد الاشهل إلا يهودي واحد يقال
له يوشع، فسمعته يقول - وإني لغلام في إزار - قد أظلكم خروج نبي يبعث من نحو هذا
البيت.
ثم أشار بيده إلى بيت الله، فمن أدركه فليصدقه.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنا وهو بين
أظهرنا لم يسلم حسدا وبغيا.
وقد قدمنا حديث أبي سعيد عن أبيه في أخبار يوشع هذا عن
خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته وأخبار الزبير بن باطاعن ظهور كوكب
مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه الحاكم عن البيهقي بإسناده من طريق يونس
بن بكير عنه.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من
بني قريظة قال: قال لي: هل تدري عم كان اسلام ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية، وأسد
بن عبيد - نفر من بني هدل، أخوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم، ثم كانوا
سادتهم في الاسلام - قال: قلت: لا، قال: فإن رجلا من اليهود من أرض الشام يقال له
ابن الهيبان قدم علينا قبل الاسلام بسنين فحل بين أظهرنا، لا والله ما رأينا رجلا
قط لا يصلي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له: أخرج يا
بن الهيبان فاستسق لنا، فيقول: لا والله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة، فنقول له
كم ؟ فيقول صاعا من تمر، أو مدين من شعير.
قال فنخرجها، ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرثنا (1) فيستسقي
لنا، فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب ويسقى.
قد فعل ذلك
غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثا.
قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر يهود ما
ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع ؟ قال قلنا أنت أعلم قال:
فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف (2) خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجره
فكنت أرجو أن يبعث فاتبعه، وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود، فإنه
يبعث بسفك الدماء وسبي الذراري [ والنساء ] فيمن خالفه فلا يمنعنكم ذلك منه.
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصر (3) بني قريظة قال
هؤلاء الفتية - وكانوا شبابا أحداثا -: يا بني قريظة والله إنه للنبي الذي عهد
إليكم فيه ابن الهيبان.
قالوا ليس به قالوا بلى والله إنه لهو بصفته، فنزلوا
فأسلموا فاحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم.
قال ابن إسحاق فهذا ما بلغنا عن أحبار يهود.
قلت: وقد قدمنا في قدوم تبع اليماني وهو أبو كرب تبان أسعد إلى
المدينة ومحاصرته إياها وأنه خرج إليه ذانك الحبران من اليهود فقالا له إنه لا سبيل
لك عليها، أنها مهاجر بني يكون في آخر الزمان فثناه ذلك عنها.
وقد روى أبو نعيم في الدلائل من طريق الوليد بن مسلم
حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده.
قال قال عبد الله بن سلام: إن
__________
(1) في سيرة ابن هشام ودلائل البيهقي: حرتنا.
(2) أتوكف: أنتظر خروجه واستشعر ; وفي الدلائل: أتوقع.
أظل زمانه أي أشرف وقرب.
(3) المراد هنا حين غزا صلى الله عليه وسلم بني قريظة
عقب منصرفه من غزوة الخندق.
الله لما أراد هدى زيد بن سعية قال زيد لم يبق شئ من
علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم، حين نظرت إليه إلا
اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما.
قال فكنت أتلطف له لان أخالطه فأعرف حلمه وجهله، فذكر
قصة إسلافه للنبي صلى الله عليه وسلم مالا في ثمرة، قال فلما حل الاجل أتيته فأخذت
بمجامع قميصه وردائه - وهو في جنازة مع أصحابه - ونظرت إليه بوجه غليظ، وقلت: يا
محمد ألا تقضيني حقي ؟ فوالله ما علمتكم بني
عبد المطلب لمطل، قال فنظر إلى عمر وعيناه يدوران في
وجهه كالفلك المستدير.
ثم قال يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ما أسمع، وتفعل ما أرى ؟ فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم.
ثم قال: " أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا
عمر، أن تأمرني بحسن الاداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه.
وزد عشرين صاعا من ثمر " فأسلم زيد بن سعية رضي
الله عنه.
وشهد بقية المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتوفي، عام تبوك رحمه الله.
ثم ذكر ابن إسحاق رحمه الله: إسلام سلمان الفارسي رضي
الله عنه وأرضاه فقال حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الانصاري عن محمود بن لبيد عن
عبد الله بن عباس.
قال حدثني سلمان الفارسي - من فيه - قال: كنت رجلا
فارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية يقال لها جي (1) وكان أبي دهقان (2) قريته وكنت
أحب خلق الله إليه، فلم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية، واجتهدت
في المجوسية، حتى كنت قطن (3) النار التي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة.
قال وكانت لابي ضيمة عظيمة، قال فشغل في بنيان له يوما
فقال لي يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب إليها فاطلعها،
وأمرني فيها ببعض ما يريد.
ثم قال لي ولا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلي
من ضيعتي، وشغلتني عن كل شئ من أمري.
قال فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من
كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون.
وكنت لا أدري ما أمر الناس، لحبس أبي إياي في بيته، فلما
سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم.
وقلت هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما
برحتهم حتى غربت الشمس وتركت ضيعة أبي فلم آتها.
ثم قلت لهم أين أصل هذا الدين ؟ قالوا بالشام، فرجعت إلى
أبي وقد بعث في طلبي، وشغلته عن أمره كله.
فلما جئت قال: أي بني أين كنت ألم أكن أعهد إليك ما عهدته
؟ قال قلت
__________
(1) جي: اسم مدينة ناحية أصبهان القديمة، وهي الآن خراب
منفردة، وتسمى الآن عند العجم شهرستان وعند المحدثين المدينة.
معجم البلدان 2 / 202 وفي رواية أنه من رامهرمز فلعله
ولد بها ونشأ في جى كما في دلائل أبي
نعيم (213).
(2) الدهقان: معربة وهو شيخ القرية، العارف بالفلاحة وما
يصلح الارض من الشجر يلجأ إليه في معرفة ذلك.
(3) قطن النار: خادمها الذي يخدمها ويمنعها من أن تخبو.
يا أبة مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت
من دينهم فوالله مازلت عندهم حتى غربت الشمس قال أي بني، ليس في ذلك الدين خير،
دينك ودين آبائك خير منه.
قال قلت: كلا والله إنه لخير من ديننا.
قال فخافني فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته، قال
وبعثت إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم.
قال: فقدم عليهم ركب من الشام فجاؤوني (1) النصارى
فأخبروني بهم.
فقلت [ لهم ] إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى
بلادهم فآذنوني.
قال: فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم.
فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام،
فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين علما ؟ قالوا الاسقف في الكنيسة.
قال فجئته فقلت له: إني رغبت في هذا الدين، وأحببت أن
أكون معك وأخدمك في كنيستك، وأتعلم منك، فأصلي معك.
قال ادخل، فدخلت معه فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة
ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا له شيئا كنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال
من ذهب وورق، قال وابغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع.
ثم مات واجتمعت له النصارى ليدفنوه.
فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم
فيها، فإذا جئتموه بها كنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئا.
قال فقالوا لي: وما علمك بذلك ؟ قال فقلت لهم أنا أدلكم
على كنزه، قالوا: فدلنا [ عليه
].
قال فأريتهم موضعه، فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا
وورقا، فلما رأوها قالوا: لا ندفنه أبدا قال فصلبوه ورجموه بالحجارة.
وجاؤوا برجل آخر فوضعوه مكانه.
قال سلمان فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس، أرى أنه أفضل
منه [ و ] أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة ولا أدأب ليلا ونهارا [ منه ].
قال فأحببته حبا لم أحب شيئا قبله مثله.
قال فأقمت معه زمانا ثم حضرته الوفاة فقلت له إني قد كنت
معك وأحببتك حبا لم
أحبه شيئا قبلك وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى فإلى
من توصي بي ؟ وبم تأمرني به ؟ قال أي بني، والله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت
عليه.
لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا
رجلا بالموصل وهو فلان وهو على ما كنت عليه فالحق به.
قال فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل.
فقلت [ له ]: يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق
بك وأخبرني أنك على أمره، فقال لي أقم عندي.
فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه فلم يلبث أن
مات فلما حضرته الوفاة قلت له يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك
وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي وبم تأمرني ؟ قال يا بني والله ما
أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين (2) وهو فلان فالحق به، فلما مات
وغيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته
__________
(1) كذا في الاصل والنسخ المطبوعة ; وفي سيرة ابن هشام
تجار من النصارى، وفي دلائل البيهقي: ناس تجارتهم.
(2) نصيبين: مدينة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من
الموصل إلى الشام بينها وبين الموصل ستة أيام.
خبري وما أمرني به صاحباي.
فقال أقم عندي فأقمت عنده.
فوجدته على أمر صاحبيه فأقمت مع خير رجل، فوالله ما لبث
أن نزل به الموت فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلانا كان أوصي بي إلى فلان ثم أوصى
بي فلان إلى فلان ثم أوصي بي فلان إليك فإلى من توصي بي وبم تأمرني ؟ قال يا بني
والله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجل بعمورية (1) من أرض الروم
فإنه على مثل ما نحن عليه.
فإن أحببت فائته فإنه على أمرنا.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية فأخبرته خبري ; فقال
أقم عندي فأقمت عند خير رجل على هدي أصحابه وأمرهم.
قال واكتسبت حتى كانت لي بقرات وغنيمة، قال ثم نزل به
أمر الله فلما حضر قلت له يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي
فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان.
ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي وبم تأمرني ؟ قال
أي بني، والله ما أعلم أصبح [ اليوم ] أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك أن
تأتيه، ولكنه قد أظل زمان نبي، مبعوث بدين إبراهيم يحرج
بأرض العرب مهاجره إلى الارض بين حرتين بينهما نخل به
علامات لا تخفى يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت
أن تلحق بتلك البلاد فافعل.
قال ثم مات وغيب ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث.
ثم مربي نفر من كلب تجار، فقلت لهم: احملوني إلى أرض
العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه قالوا نعم فاعطيتموها وحملوني معهم، حتى إذا
بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي عبدا، فكنت عنده ورأيت النخل فرجوت
أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي، ولم يحق في نفسي.
فبينا أنا عنده إلى قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من
المدينة، فابتاعني فاحتملني إلى المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة
صاحبي لها، فأقمت بها وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام ولا
أسمع له بذكر مما أنا فيه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس
عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل.
وسيدي جالس تحتي، إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال
يا فلان قاتل الله بني قيلة (2).
والله إنهم لمجتمعون الآن بقباء (3) على رجل قدم من مكة
اليوم يزعمون أنه نبي.
قال سلمان فلما سمعتها أخذتني الرعدة حتى ظننت أني ساقط
على سيدي فنزلت عن النخلة، فجعلت أقول لابن عمه ماذا تقول ؟ ماذا تقول ؟ قال فغضب
سيدي فلكمني لكمة شديدة.
ثم قال مالك ولهذا ؟ أقبل على عملك، قال فقلت لا شئ إنما
أردت أن استثبته عما قال.
قال وقد كان عندي شئ قد جمعته فلما أمسيت أخذته.
ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو
بقباء - فدخلت عليه فقلت له إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو
حاجة وهذا شئ كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم.
قال فقربته إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لاصحابه " كلوا " وأمسك يده
__________
(1) عمورية: بلد في بلاد الروم غزاه المعتصم.
وسميت بعمورية بنت الروم بن اليفز بن سام بن نوح.
(2) قيلة: بنت كاهل بعد عذرة..من قضاعة أم الاوس والخزرج.
(3) قباء: اسم بئر عرفت القرية بها، وتقع قرية قباء على
ميلين من المدينة على يسار القاصد إلى مكة.
فلم يأكل، فقلت في نفسي هذه واحدة ثم انصرفت عنه فجمعت
شيئا وتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة.
ثم جئته فقلت له إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية
أكرمتك بها.
قال فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأمر أصحابه
فأكلوا معه، قال فقلت في نفسي هاتان ثنتان.
قال ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع
الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه وعليه شملتان (1) وهو جالس في أصحابه فسلمت
عليه.
ثم استدبرته أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي
صاحبي ؟ فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني استثبت في شئ
وصف لي.
فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فأكببت
عليه أقبله وأبكي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تحول "
فتحولت بين يديه، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يابن عباس.
فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذاك أصحابه.
ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم بدر وأحد.
قال سلمان.
ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كاتب يا
سلمان " فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير (2) وأربعين أوقية.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، " لاصحابه
" أعينوا أخاكم " فأعانوني في النخل: الرجل بثلاثين ودية، والرجل بعشرين
ودية، والرجل بخمس عشرة ودية والرجل بعشرة (3).
يعين الرجل بقدر ما عنده حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية.
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذهب يا
سلمان ففقر لها، فإذا فرغت فائتني أكن أنا أضعها بيدي ".
قال: ففقرت، وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها.
فجعلنا نقرب إليه الودي، ويضعه رسول الله صلى الله عليه
وسلم بيده حتى إذا فرغنا فوالذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة (4).
فأديت النخل وبقي علي المال.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من
ذهب من بعض المعادن.
فقال "
ما فعل الفارسي المكاتب ؟ " قال فدعيت له قال
" خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان " قال قلت: وأين تقع هذه مما على
يارسول الله ؟ قال: " خذها فإن الله سيؤدي بها عنك " قال فأخذتها فوزنت
لهم منها - والذي نفس سلمان بيده
- أربعين أوقية، فأوفيتهم حقهم وعتق سلمان.
فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حرا ثم لم
يفتني معه مشهد (5).
__________
(1) في سيرة ابن هشام والبيهقي: وعلي شملتان لي.
والشملة: الكساء الغليظ يشتمل به الانسان، أي يلتحف به.
(2) كذا في الاصول: أبي بالحفر والغرس يقال فقرت الارض
إذا حفرتها، وفي النهاية: فقير النخلة: حفرة تحفر للفسيلة إذا حولت لتغرس فيها.
(3) الصواب بعشر (سيرة ابن هشام - دلائل البيهقي).
(4) في الروض الانف: أن سلمان غرس ودية واحدة بيده وغرس
الباقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاشت كلها إلا التي غرسها سلمان.
(ابن سيد الناس) - البخاري.
(5) خبر إسلام سلمان الفارسي في طبقات ابن سعد، ودلائل
النبوة لابي نعيم (213) ومسند أحمد 5 / 438 تاريخ الاسلام للذهبي (2 / 52) تهذيب تاريخ
دمشق (6 / 192) والخصائص الكبرى للسيوطي (1 / 45) عيون الاثر (60 / 68).
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حسب عن رجل من عبد
القيس عن سلمان أنه قال لما قلت وأين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله ؟ أخذها
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلبها على لسانه، ثم قال: " خذها فأوفهم منها
" فأخذتها فأوفيتهم منها حقهم كله أربعين أوقية.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة حدثني
من لا أتهم عن عمر بن عبد العزيز بن مروان قال حدثت عن سلمان أنه قال لرسول الله
صلى الله عليه وسلم حين أخبره أن صاحب عمورية قال له: إيت كذا وكذا وكذا من أرض
الشام، فإن بها رجلان بين غيضتين (1)
يخرج كل سنة من هذه الغيضة مستجيزا يعترضه ذوو الاسقام
فلا يدعو لاحد منهم إلا شفي، فاسأله عن هذا الدين الذي تبتغي فهو يخبرك عنه قال
سلمان فخرجت حتى جئت حيث وصف لي فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك، حتى يخرج
لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الاخرى.
فغشيه الناس بمرضاهم، لا يدعو لمريض إلا شفي، وغلبوني
عليه، فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخل إلا منكبه.
قال فتناولته فقال: من هذا ؟ والتفت إلي قال قلت يرحمك
الله أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم، قال إنك لتسأل عن شئ ما يسأل عنه الناس
اليوم، قد أظلك زمان نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم، فأته فهو يحملك عليه.
ثم دخل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسلمان: " لئن
كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى بن مريم " هكذا وقع في هذه الرواية.
وفيها رجل مبهم وهو شيخ عاصم بن عمر بن قتادة.
وقد قيل إنه الحسن بن عمارة ثم هو منقطع بل معضل بين عمر
بن عبد العزيز وسلمان رضي الله عنه.
قوله لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى بن مريم
غريب جدا بل منكر.
فإن الفترة أقل ما قيل فيها انها أربعمائة سنة، وقيل
ستمائة سنة بالشمسية، وسلمان أكثر ما قيل إنه عاش ثلاثمائة سنة وخمسين سنة.
وحكى العباس ابن يزيد البحراني إجماع مشايخه على أنه عاش
مائتين وخمسين سنة.
واختلفوا فيما زاد إلى ثلاثمائة وخمسين سنة والله أعلم.
والظاهر أنه قال لقد لقيت وصي عيسى بن مريم فهذا ممكن
بالصواب.
وقال السهيلي: الرجل المبهم هو الحسن بن عمارة وهو ضعيف
وإن صح لم يكن فيه نكارة.
لان ابن جرير ذكر أن المسيح نزل من السماء بعدما رفع
فوجد أمه وامرأة أخرى يبكيان عند جذع المصلوب فأخبرهما أنه لم يقتل وبعث الحواريين
بعد ذلك.
قال وإذا جاز نزوله مرة جاز نزوله مرارا ثم يكون نزوله
الظاهر حين يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويتزوج حينئذ امرأة من بني جذام وإذا مات
دفن في حجرة روضة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى البيهقي (2) في كتاب دلائل النبوة قصة سلمان هذه
من طريق يونس بن بكير عن
__________
(1) الغيضة: الشجر الملتف.
(2) دلائل النبوة ج 2 / 92.
محمد بن إسحاق كما تقدم ورواها أيضا عن الحاكم عن الاصم
عن يحيى بن أبي طالب.
حدثنا علي بن عاصم حدثنا حاتم بن أبي صفرة (2) عن سماك
بن حرب عن يزيد (2) بن صوحان أنه سمع سلمان يحدث كيف كان أول إسلامه.
فذكر قصة طويلة وذكر أنه كان من رامهرمز وكان له أخ أكبر
منه غني وكان سلمان فقيرا في كنف أخيه، وأن ابن دهقانها كان صاحبا له وكان يختلف
معه إلى معلم لهم وأنه كان يختلف ذلك الغلام إلى عباد من النصارى في كهف لهم فسأله
سلمان أن
يذهب به معه إليهم فقال له إنك غلام وأخشى أن تنم عليهم
فيقتلهم أبي، فالتزم له أن لا يكون منه شئ يكرهه فذهب به معه فإذا هم ستة - أو
سبعة - كأن الروح قد خرجت منهم من العبادة يصومون النهار ويقومون الليل يأكلون الشجر
وما وجدوا فذكر عنهم أنهم يؤمنون بالرسل المتقدمين وأن عيسى عبد الله ورسوله وابن
أمته أيده بالمعجزات.
وقالوا له يا غلام إن لك ربا وإن لك معادا وإن بين يديك
جنة ونارا وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى الله بما
يصنعون وليسوا على دينه.
ثم جعل يتردد مع ذلك الغلام إليهم ثم لزمهم سلمان
بالكلية ثم أجلاهم ملك تلك البلاد وهو أبو ذلك الغلام الذي صحبه سلمان إليهم عن
أرضه واحتبس الملك ابنه عنده وعرض سلمان دينهم وعلى أخيه الذي هو أكبر منه فقال
إني مشتغل بنفسي في طلب المعيشة فارتحل معهم سلمان حتى دخلوا كنيسة الموصل فسلم
عليهم أهلها ثم أرادوا أن يتركوني عندهم فأبيت إلا صحبتهم فخرجوا حتى أتوا واديا
بين جبال فتحدر إليهم رهبان تلك الناحية يسلمون عليهم واجتمعوا إليهم وجعلوا يسألونهم
عن غيبتهم عنهم ويسألونهم عني فيثنون علي خيرا، وجاء رجل معظم فيهم فخطبهم فأثنى
على الله بما هو أهله وذكر الرسل وما أيدوا به وذكر عيسى بن مريم وأنه كان عبد
الله ورسوله وأمرهم بالخير ونهاهم عن الشر، ثم لما أرادوا الانصراف تبعه سلمان
ولزمه قال فكان يصوم النهار ويقوم الليل من الاحد إلى الاحد فيخرج إليهم ويعظهم
ويأمرهم وينهاهم فمكث على ذلك مدة طويلة، ثم أراد أن يزور بيت المقدس فصحبه سلمان
إليه قال فكان فيما يمشي يلتفت إلي ويقبل علي فيعظني ويخبرني أن لي ربا وأن بين
يدي جنة ونارا وحسابا ويعلمني ويذكرني نحو ما كان يذكر القوم يوم الاحد قال فيما
يقول لي: يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج من تهامة يأكل الهدية ولا
يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم [ النبوة ] وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب فأما
أنا فإني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه، قلت له وإن
أمرني بترك دينك وما أنت عليه ؟ قال وإن أمرك فإن الحق فيما يجئ به ورضي الرحمن
فيما قال.
ثم ذكر قدومهما إلى بيت المقدس وأن صاحبه صلى فيه هاهنا
وهاهنا ثم نام وقد أوصاه أنه إذا بلغ الظل مكان كذا أن يوقظه فتركه سلمان حينا آخر
أزيد مما قال ليستريح، فلما استيقظ ذكر
__________
(1) كذا في الاصل، والصواب كما في الدلائل حاتم بن أبي
صغيرة، وهو أبو يونس البصري، وأبو صغيرة اسمه مسلم وهو جده لامه وقيل زوج أمه، ثقة
/ التقريب 1 / 137.
(2) كذا في الاصل وفي الدلائل: زيد بن صوحان.
الله ولام سلمان على ترك ما أمره من ذلك ثم خرجا من بيت
المقدس فسأله مقعد فقال يا عبد الله سألتك حين وصلت فلم تعطني شيئا وها أنا أسألك
فنظر فلم يجد أحدا فأخذ بيده وقال قم بسم الله فقام وليس به بأس ولا قلبة كأنما
نشط من عقال.
فقال لي يا عبد الله احمل علي متاعي حتى أذهب إلى أهلي
فأبشرهم، فاشتغلت به ثم أدركت الرجل فلم ألحقه ولم أدر أين ذهب وكلما سألت عنه
قوما قالوا أمامك حتى لقيني ركب من العرب من بني كلب فسألتهم فلما سمعوا لغتي أناخ
رجل منهم بعيره فحملني خلفه حتى أتوا بي بلادهم.
فباعوني فاشترتني امرأة من الانصار فجعلتني في حائط لها
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم
; ثم ذكر ذهابه إليه بالصدقة والهدية ليستعلم ما قال
صاحبه، ثم تطلب النظر إلى خاتم النبوة فلما رآه آمن من ساعته.
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره الذي جرى له.
قال فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق
فاشتراه من سيدته فأعتقه، قال ثم سألته يوما عن دين النصارى فقال: لا خير فيهم.
قال فوقع في نفسي من أولئك الذين صحبتهم ومن ذلك الرجل
الصالح الذي كان معي ببيت المقدس فدخلني من ذلك أمر عظيم حتى أنزل الله على رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين
أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم
قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) [ المائدة: 82 ] فدعاني رسول الله صلى الله عليه
وسلم فجئت وأنا خائف فجلست بين يديه فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم: (ذلك بأن منهم
قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) الآيات.
ثم قال: " يا سلمان أولئك الذين كنت معهم وصاحبك لم
يكونوا نصارى كانوا مسلمين " فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لهو أمرني
باتباعك.
فقلت له: فإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه ؟ قال: نعم،
فاتركه فإن الحق وما يرضى الله فيما يأمرك.
وفي هذا السياق غرابة كثيرة وفيه
بعض المخالفة لسياق محمد بن إسحاق وطريق محمد بن إسحاق
أقوى إسنادا وأحسن اقتصاصا وأقرب إلى ما رواه البخاري في صحيحه من حديث معتمر بن
سليمان بن طرخان التيمي عن أبيه عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي أنه تداوله بضعة
عشر، من رب إلى رب، أي من معلم إلى معلم ومرب إلى مثله والله أعلم.
قال السهيلي: تداوله ثلاثون سيدا من سيد إلى سيد، فالله
أعلم.
وكذلك استقصى قصة إسلامه الحافظ أبو نعيم في الدلائل
وأورد لها أسانيد وألفاظا كثيرة، وفي بعضها أن اسم سيدته التي كاتبته حلبسة فالله
أعلم.
ذكر أخبار غريبة في ذلك.
قال أبو نعيم في الدلائل: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا
محمد بن زكريا الغلابي (1) حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي السوية المنقري
حدثنا عباد بن كسيب عن أبيه عن أبي
__________
(1) هو ابو بكر محمد بن زكريا بن دينار الغلابي البصري
يعرف بزكرويه.
عتوارة الخزاعي عن سعير بن سوادة العامري قال كنت عشيقا
لعقيلة من عقائل الحي، أركب لها الصعب والذلول لا أبقى من البلاد مسرحا أرجوا ربحا
في متجر إلا أتيته، فانصرفت من الشام بحرث وأناث أريد به كبة (1) الموسم ودهماء
العرب، فدخلت مكة بليل مسدف فأقمت حتى تعرى عني قميص الليل فرفعت رأسي فإذا قباب مسامتة
شعف الجبال، مضروبة بأنطاع الطائف وإذا جزر تنحر وأخرى تساق، وإذا أكلة وحثثة على
الطهاة يقولون: ألا عجلوا ألا عجلوا، وإذا رجل يجهر على نشز من الارض، ينادي يا
وفد الله ميلوا إلى الغداء.
وأنيسان على مدرجة يقول: يا وفد الله من طعم فليرح إلى
العشاء، فجهرني (2) ما رأيت فأقبلت أريد عميد القوم، فعرف رجل الذي بي، فقال
أمامك، وإذا شيخ كأن في خديه الاساريع (3)، وكأن الشعرى توقد من جبينه، قد لاث على
رأسه عمامة سوداء قد أبرز من ملائها جمة فينانة كأنها سماسم.
قال في بعض الروايات تحته كرسي سماسم (4) ومن دونها
نمرقة بيده قضيب متخصر به حوله شمايخ جلس
نواكس الاذقان ما منهم أحد يفيض بكلمة.
وقد كان نمي إلي خبر من أخبار الشام أن النبي الامي هذا
أوان نجومه، فلما رأيته ظننته ذلك.
فقلت السلام عليك يارسول الله.
فقال:
مه مه، كلا وكأن قد وليتني إياه فقلت من هذا الشيخ ؟
فقالوا هذا أبو نضلة (5)، هذا هاشم بن عبد
مناف، فوليت وأنا أقول هذا والله المجد لا مجد آل جفنة - يعني ملوك عرب الشام من
غسان كان يقال لهم آل جفنة -.
وهذه الوظيفة التي حكاها عن هاشم هي الرفادة يعني إطعام
الحجيج زمن الموسم.
وقال أبو نعيم: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر حدثنا
محمد بن أحمد بن أبي يحيى حدثنا سعيد بن عثمان حدثنا علي بن قتيبة الخراساني حدثنا
خالد بن الياس عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم عن أبيه عن جده.
قال سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب قال.
بينا أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها
فزعا شديدا، فأتيت كاهنة قريش وعلي مطرف خز وجمتي تضرب منكبي فلما نظرت إلي عرفت
في وجهي التغيير وأنا يومئذ سيد قومي فقالت: ما بال سيدنا قد أتانا متغير اللون ؟ هل
رابه من حدثان الدهر شئ ؟ فقلت لها بلى ! وكان لا يكلمها أحد من الناس حتى يقبل
يدها اليمني، ثم يضع يده على أم رأسها ثم يذكر حاجته ولم أفعل لاني [ كنت ]
__________
(1) كبة: الزحام.
(2) جهرني: راعني.
(3) الاساريع: خطوط وطرائق ; وقد تكون: الدود بيض حمر
الرؤوس واحدتها أسروع ويسروع (قاموس محيط (سرع).
(4) سماسم: الاولى عيدان السمسم.
والثانية خشب أسود.
(5) نضلة أحد ابناء هاشم.==