ج1. البداية
والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْفِدَاءِ عِمَادُ
الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ
الْأَوَّلِ الْآخِرِ، الْبَاطِنِ الظَّاهِرِ، الَّذِي هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ، الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَهُ
شَيْءٌ، الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ،
الْأَزَلِيُّ الْقَدِيمُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ
الْكَمَالِ، وَلَا يَزَالُ دَائِمًا مُسْتَمِرًّا بَاقِيًا سَرْمَدِيًّا بِلَا
انْقِضَاءٍ وَلَا انْفِصَالٍ وَلَا زَوَالٍ، يَعْلَمُ دَبِيبَ النَّمْلَةِ
السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ،
وَعَدَدَ الرِّمَالِ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وَرَفَعَ
السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ، وَزَيَّنَهَا بِالْكَوَاكِبِ الزَّاهِرَاتِ،
وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا، وَسَوَّى فَوْقَهُنَّ سَرِيرًا
شَرْجَعًا عَالِيًا مُنِيفًا مُتَّسِعًا مُقَبَّبًا مُسْتَدِيرًا، هُوَ الْعَرْشُ
الْعَظِيمُ لَهُ قَوَائِمُ عِظَامٌ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ،
وَتَحُفُّهُ الْكَرُوبِيُّونَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَهُمْ زَجَلٌ
بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّعْظِيمِ وَكَذَا أَرْجَاءُ السَّمَاوَاتِ مَشْحُونَةٌ
بِالْمَلَائِكَةِ،
وَيَفِدُ مِنْهُمْ
فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ بِالسَّمَاءِ
السَّابِعَةِ، لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ فِي تَهْلِيلٍ
وَتَحْمِيدٍ وَتَكْبِيرٍ وَصَلَاةٍ وَتَسْلِيمٍ. وَوَضَعَ الْأَرْضَ لِلْأَنَامِ
عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ
فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا، فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً
لِلسَّائِلِينَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَأَنْبَتَ فِيهَا مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ دَلَالَةً لِلْأَلِبَّاءِ مِنْ جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ
الْعِبَادُ إِلَيْهِ فِي شِتَائِهِمْ وَصَيْفِهِمْ وَلِكُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ
وَيَمْلِكُونَهُ مِنْ حَيَوَانٍ بَهِيمٍ.
وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، وَجَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ
مَاءٍ مَهِينٍ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، فَجَعَلَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا بَعْدَ أَنْ
لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَشَرَّفَهُ بِالْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، خَلَقَ
بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ آدَمَ أَبَا الْبَشَرِ وَصَوَّرَ جُثَّتَهُ وَنَفَخَ فِيهِ
مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ وَخَلَقَ مِنْهُ زَوْجَهُ حَوَّاءَ
أُمَّ الْبَشَرِ، فَآنَسَ بِهَا وَحْدَتَهُ وَأَسْكَنَهَا جَنَّتَهُ وَأَسْبَغَ
عَلَيْهِمَا نِعْمَتَهُ، ثُمَّ أَهْبَطَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ ; لِمَا سَبَقَ فِي
ذَلِكَ مِنْ حِكْمَةِ الْحَكِيمِ، وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً
وَقَسَّمَهُمْ بِقَدَرِهِ الْعَظِيمِ: مُلُوكًا وَرُعَاةً، وَفُقَرَاءَ
وَأَغْنِيَاءَ، وَأَحْرَارًا وَعَبِيدًا، وَحَرَائِرَ وَإِمَاءً، وَأَسْكَنَهُمْ
أَرْجَاءَ الْأَرْضِ طُولَهَا وَالْعَرْضَ، وَجَعَلَهُمْ خَلَائِفَ فِيهَا
يَخْلُفُ الْبَعْضُ مِنْهُمُ الْبَعْضَ إِلَى يَوْمِ الْحِسَابِ وَالْعَرْضِ عَلَى
الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، وَسَخَّرَ
لَهُمُ الْأَنْهَارَ
مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ تَشُقُّ الْأَقَالِيمَ إِلَى الْأَمْصَارِ مَا بَيْنَ
صِغَارٍ وَكِبَارٍ، عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَاتِ وَالْأَوْطَارِ، وَأَنْبَعَ
لَهُمُ الْعُيُونَ وَالْآبَارَ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ السَّحَابَ بِالْأَمْطَارِ;
فَأَنْبَتَ لَهُمْ سَائِرَ صُنُوفِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَآتَاهُمْ مِنْ كُلِّ
مَا سَأَلُوهُ بِلِسَانِ حَالِهِمْ وَقَالِهِمْ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [ إِبْرَاهِيمَ: 34
]. فَسُبْحَانَ الْكَرِيمِ الْغَنِيِّ الْعَظِيمِ الْحَلِيمِ، وَكَانَ مِنْ
أَعْظَمِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ خَلَقَهُمْ
وَرَزَقَهُمْ وَيَسَّرَ لَهُمُ السَّبِيلَ وَأَنْطَقَهُمْ ; أَنْ أَرْسَلَ
رُسُلَهُ إِلَيْهِمْ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ عَلَيْهِمْ مُبَيِّنَةً حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ
وَأَخْبَارَهُ وَأَحْكَامَهُ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْمَبْدَأِ
وَالْمَعَادِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ; فَالسَّعِيدُ مَنْ قَابَلَ الْأَخْبَارَ
بِالتَّصْدِيقِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالْأَوَامِرَ بِالِانْقِيَادِ، وَالنَّوَاهِيَ
بِالتَّعْظِيمِ ; فَفَازَ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَزُحْزِحَ عَنْ مَقَامِ
الْمُكَذِّبِينَ فِي الْجَحِيمِ ذَاتِ الزَّقُّومِ وَالْحَمِيمِ وَالْعَذَابِ
الْأَلِيمِ.
أَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ يَمْلَأُ أَرْجَاءَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ دَائِمًا أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ
إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَأَوَانٍ، وَوَقْتٍ وَحِينٍ، كَمَا
يَنْبَغِي لِجَلَالِهِ الْعَظِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ وَوَجْهِهِ
الْكَرِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ،
وَلَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ لَهُ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ
وَلَا وَزِيرَ لَهُ وَلَا مُشِيرَ لَهُ، وَلَا عَدِيدَ وَلَا نَدِيدَ وَلَا
قَسِيمَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَحَبِيبُهُ
وَخَلِيلُهُ الْمُصْطَفَى مِنْ خُلَاصَةِ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ مِنَ
الصَّمِيمِ، خَاتَمُ
الْأَنْبِيَاءِ، وَصَاحِبُ الْحَوْضِ الْأَكْبَرِ الرَّوَاءِ صَاحِبُ الشَّفَاعَةِ
الْعُظْمَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَحَامِلُ اللِّوَاءِ الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ
الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي يَرْغَبُ إِلَيْهِ فِيهِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ
حَتَّى الْخَلِيلُ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ
إِخْوَانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَلَّمَ وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ
أَزْكَى صَلَاةٍ وَتَسْلِيمٍ وَأَعْلَى تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ وَرَضِيَ اللَّهُ
عَنْ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ الْغُرِّ الْكِرَامِ السَّادَةِ النُّجَبَاءِ
الْأَعْلَامِ خُلَاصَةِ الْعَالَمِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ مَا اخْتَلَطَ
الظَّلَامُ بِالضِّيَاءِ وَأَعْلَنَ الدَّاعِي بِالنِّدَاءِ وَمَا نَسَخَ
النَّهَارُ ظَلَامَ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَهَذَا الْكِتَابُ أَذْكُرُ فِيهِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَحُسْنِ
تَوْفِيقِهِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ مِنْ ذِكْرِ
مَبْدَأِ الْمَخْلُوقَاتِ: مِنْ خَلْقِ الْعَرْشِ، وَالْكُرْسِيِّ،
وَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ وَالْجَانِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَكَيْفِيَّةِ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَقَصَصِ النَّبِيِّينَ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ إِلَى أَيَّامِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ النُّبُوَّةُ
إِلَى أَيَّامِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ
فَنَذْكُرُ سِيرَتَهُ كَمَا يَنْبَغِي فَنَشْفِي الصُّدُورَ وَالْغَلِيلَ
وَنُزِيحُ الدَّاءَ عَنِ الْعَلِيلِ، ثُمَّ نَذْكُرُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى
زَمَانِنَا وَنَذْكُرُ الْفِتَنَ وَالْمَلَاحِمَ، وَأَشْرَاطَ السَّاعَةِ، ثُمَّ
الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ، وَأَهْوَالَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ صِفَةَ ذَلِكَ وَمَا فِي
ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْهَائِلَةِ، ثُمَّ صِفَةَ
النَّارِ، ثُمَّ صِفَةَ الْجِنَانِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ الْحِسَانِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ
وَالسَّنَةِ وَالْآثَارِ وَالْأَخْبَارِ الْمَنْقُولَةِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ
الْعُلَمَاءِ وَوَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْآخِذِينَ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ
الْمُصْطَفَوَيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَى مَنْ جَاءَ بِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ
وَالسَّلَامِ.
وَلَسْنَا نَذْكُرُ
مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ إِلَّا مَا أَذِنَ الشَّارِعُ فِي نَقْلِهِ، مِمَّا
لَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْقِسْمُ الَّذِي لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ مِمَّا فِيهِ
بَسْطٌ لِمُخْتَصَرٍ عِنْدَنَا، أَوْ تَسْمِيَةٌ لِمُبْهَمٍ وَرَدَ بِهِ شَرْعُنَا
مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ لَنَا فَنَذْكُرُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّحَلِّي
بِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا الِاعْتِمَادُ وَالِاسْتِنَادُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَحَّ نَقْلُهُ أَوْ
حَسُنَ وَمَا كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ نُبَيِّنُهُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ
التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ
الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: كَذَلِكَ
نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا
ذِكْرًا [ طه: 99 ]. وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا مَضَى: مِنْ خَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَذِكْرِ
الْأُمَمِ الْمَاضِينَ، وَكَيْفَ فَعَلَ بِأَوْلِيَائِهِ، وَمَاذَا أَحَلَّ بِأَعْدَائِهِ
وَبَيَّنَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ
بَيَانًا شَافِيًا - كَمَا سَنُورِدُ عِنْدَ كُلِّ فَصْلٍ مَا وَصَلَ إِلَيْنَا
عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ تِلْوَ الْآيَاتِ
الْوَارِدَاتِ فِي ذَلِكَ - فَأَخْبَرَنَا بِمَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ
وَتَرَكَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِمَّا قَدْ يَتَزَاحَمُ عَلَى عِلْمِهِ
وَيَتَرَاجَمُ فِي فَهْمِهِ طَوَائِفُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا
لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ يَسْتَوْعِبُ نَقْلَهُ
طَائِفَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا أَيْضًا وَلَسْنَا نَحْذُو حَذْوَهُمْ وَلَا نَنْحُو
نَحْوَهُمْ، وَلَا نَذْكُرُ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلَ عَلَى سَبِيلِ
الِاخْتِصَارِ، وَنُبَيِّنُ مَا فِيهِ حَقٌّ مِنْهَا، يُوَافِقُ مَا عِنْدَنَا،
وَمَا خَالَفَهُ يَقَعُ فِيهِ الْإِنْكَارُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
بَلِّغُوا عَنِّي
وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَحَدِّثُوا
عَنِّي وَلَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا
فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى
الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا عِنْدَنَا، فَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا
يُصَدِّقُهَا وَلَا مَا يُكَذِّبُهَا فَيَجُوزُ رِوَايَتُهَا لِلِاعْتِبَارِ،
وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَسْتَعْمِلُهُ فِي كِتَابِنَا هَذَا. فَأَمَّا مَا شَهِدَ
لَهُ شَرْعُنَا بِالصِّدْقِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَيْهِ اسْتِغْنَاءً بِمَا
عِنْدَنَا، وَمَا شَهِدَ لَهُ شَرْعُنَا مِنْهَا بِالْبُطْلَانِ فَذَاكَ مَرْدُودٌ
لَا يَجُوزُ حِكَايَتُهُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالْإِبْطَالِ،
فَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَلَهُ الْحَمْدُ قَدْ أَغْنَانَا بِرَسُولِهِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَائِرِ الشَّرَائِعِ،
وَبِكِتَابِهِ عَنْ سَائِرِ الْكُتُبِ ; فَلَسْنَا نَتَرَامَى عَلَى مَا
بِأَيْدِيهِمْ مِمَّا قَدْ وَقَعَ فِيهِ خَبْطٌ وَخَلْطٌ وَكَذِبٌ وَوَضْعٌ
وَتَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ وَبَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ نَسْخٌ وَتَغْيِيرٌ،
فَالْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ قَدْ بَيَّنَهُ لَنَا رَسُولُنَا وَشَرَحَهُ
وَأَوْضَحَهُ، عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ كَمَا قَالَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ خَبَرُ مَا قَبْلَكُمْ وَنَبَأُ
مَا بَعْدَكُمْ وَحَكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ
مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي
غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَقَدْ
تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا طَائِرٌ
يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أَذْكَرَنَا مِنْهُ عِلْمًا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ وَرَوَى عِيسَى بْنُ مُوسَى
غُنْجَارُ، عَنْ رَقَبَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ
مُسْلِمٍ عَنْ
طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يَقُولُ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَقَامًا فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ
مَنَازِلَهُمْ وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ
وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ. قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ فِي أَطْرَافِهِ
هَكَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ عِيسَى غُنْجَارُ عَنْ أَبِي
حَمْزَةَ عَنْ رَقَبَةَ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ
ثَابِتٍ حَدَّثَنَا عِلْبَاءُ بْنُ أَحْمَرَ الْيَشْكُرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو
زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا
حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ صَعِدَ
الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى
الْعَصْرَ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ،
فَحَدَّثَنَا بِمَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَعْلَمُنَا أَحَفَظُنَا.
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ فَرَوَاهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ صَحِيحِهِ
عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ، وَحَجَّاجِ بْنِ الشَّاعِرِ
جَمِيعًا، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الضَّحَّاكِ بْنِ مَخْلَدٍ النَّبِيلِ، عَنْ
عَزْرَةَ، عَنْ عِلْبَاءَ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ عَمْرِو بْنِ أَخْطَبَ بْنِ
رِفَاعَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَعَفَّانُ
قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ،
عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى مُغَيْرِبَانِ
الشَّمْسِ
حَفِظَهَا مَنْ
حَفِظَهَا وَنَسِيَهَا مَنْ نَسِيَهَا. قَالَ عَفَّانُ: قَالَ حَمَّادٌ:
وَأَكْثَرُ حِفْظِي أَنَّهُ قَالَ: بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا
خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ، أَلَا فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ.
وَذَكَرَ تَمَامَ الْخُطْبَةِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ
مُغَيْرِبَانِ الشَّمْسِ قَالَ: أَلَا إِنَّ مِثْلَ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا
فِيمَا مَضَى مِنْهَا مِثْلُ مَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى
مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ ذَاتَ يَوْمٍ نَهَارًا، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَنَا
إِلَى أَنْ غَابَتِ الشَّمْسُ، فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِمَّا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ إِلَّا حَدَّثَنَاهُ حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَ ذَلِكَ
مَنْ نَسِيَهُ فَكَانَ مِمَّا قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الدُّنْيَا
خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ. وَذَكَرَ تَمَامَهَا
إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ دَنَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ، فَقَالَ " وَإِنَّ
مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا مِثْلُ مَا بَقِيَ مِنْ
يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ ".
وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [ الزُّمَرِ: 62 ]. فَكُلُّ مَا سِوَاهُ
تَعَالَى فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ، مَرْبُوبٌ مُدَبَّرٌ، مُكَوَّنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ
يَكُنْ، مُحْدَثٌ بَعْدَ عَدَمِهِ، فَالْعَرْشُ الَّذِي هُوَ سَقْفُ
الْمَخْلُوقَاتِ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ جَامِدٍ
وَنَاطِقٍ، الْجَمِيعُ خَلْقُهُ وَمِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ وَتَحْتَ قَهْرِهِ
وَقُدْرَتِهِ وَتَحْتَ تَصْرِيفِهِ وَمَشِيئَتِهِ. خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا
يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ
وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [ الْحَدِيدِ: 4 ]. وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ
قَاطِبَةً لَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ مُسْلِمٌ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَهِيَ
كَأَيَّامِنَا هَذِهِ، أَوْ كُلُّ يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَسَنَتَعَرَّضُ
لِإِيرَادِهِ فِي مَوْضِعِهِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْءٌ
مَخْلُوقٌ قَبْلَهُمَا ؟ فَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّهُ
لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمَا شَيْءٌ، وَأَنَّهُمَا خُلِقَتَا مِنَ الْعَدَمِ
الْمَحْضِ. وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَانَ قَبْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
مَخْلُوقَاتٌ أُخَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ. [ هُودٍ: 7 ].
الْآيَةَ. وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ كَمَا سَيَأْتِي كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَنْبَأَنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ الْعُقَيْلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ؟ قَالَ: كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَمَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ. وَرَوَاهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ وَلَفْظُهُ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ وَبَاقِيهِ سَوَاءٌ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي أَيِّهَا خَلَقَ أَوَّلًا ؟ فَقَالَ قَائِلُونَ: خَلَقَ الْقَلَمَ قَبْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَبَعْدَ الْقَلَمِ السَّحَابَ الرَّقِيقَ وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ
اللَّهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ اكْتُبْ فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا
هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. لَفْظُ أَحْمَدَ، وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِيمَا
نَقَلَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ الْهَمَذَانِيُّ وَغَيْرُهُ ; أَنَّ
الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ قَبْلَ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ
مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ
الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي
أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ،
أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كَتَبَ اللَّهُ
مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.
قَالُوا: فَهَذَا التَّقْدِيرُ هُوَ كِتَابَتُهُ بِالْقَلَمِ الْمَقَادِيرَ،
وَقَدْ دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ الْعَرْشِ، فَثَبَتَ
تَقَدُّمُ خَلْقِ الْعَرْشِ عَلَى الْقَلَمِ الَّذِي كَتَبَ بِهِ الْمَقَادِيرَ
كَمَا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْجَمَاهِيرُ. وَيُحْمَلُ حَدِيثُ الْقَلَمِ عَلَى
أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصِيْنٍ قَالَ: قَالَ أَهْلُ
الْيَمَنِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جِئْنَاكَ
لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ ؟
فَقَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَعَهُ
وَفِي رِوَايَةٍ: غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي
الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ
وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَفِي لَفْظٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. فَسَأَلُوهُ عَنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلِهَذَا قَالُوا جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ، فَأَجَابَهُمْ عَمَّا سَأَلُوا فَقَطْ، وَلِهَذَا لَمْ يُخْبِرْهُمْ بِخَلْقِ الْعَرْشِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الْمُتَقَدِّمِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَاءَ قَبْلَ الْعَرْشِ رَوَاهُ السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا غَيْرَ مَا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ، ثُمَّ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَ الظُّلْمَةَ لَيْلًا أَسْوَدَ مُظْلِمًا، وَجَعَلَ النُّورَ نَهَارًا مُضِيئًا مُبْصِرًا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الَّذِي خَلَقَ رَبُّنَا بَعْدَ الْقَلَمِ الْكُرْسِيُّ، ثُمَّ خَلَقَ بَعْدَ الْكُرْسِيِّ الْعَرْشَ، ثُمَّ خَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْهَوَاءَ وَالظُّلْمَةَ، ثُمَّ خَلَقَ الْمَاءَ فَوَضَعَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ فِيمَا
وَرَدَ فِي صِفَةِ خَلْقِ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ [ غَافِرٍ: 15 ].
وَقَالَ تَعَالَى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [ الْمُؤْمِنُونَ: 116 ]. وَقَالَ اللَّهُ: لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [ النَّمْلِ: 26 ]. وَقَالَ: وَهُوَ
الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [ الْبُرُوجِ: 14 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [ طه: 5 ]. وَقَالَ: ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [ الْأَعْرَافِ: 54 ]. فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ
الْقُرْآنِ وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [ غَافِرٍ: 7 ].
وَقَالَ تَعَالَى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [
الْحَاقَّةِ: 17 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ
حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ
وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الزُّمَرِ: 75 ]. وَفِي
الدُّعَاءِ الْمَرْوِيِّ فِي الصَّحِيحِ فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ: لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ
رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ عَمِّهِ شُعَيْبِ بْنِ
خَالِدٍ، حَدَّثَنِي سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَطْحَاءِ فَمَرَّتْ سَحَابَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُدْرُونَ مَا هَذَا قَالَ قُلْنَا: السَّحَابُ قَالَ: وَالْمُزْنُ قَالَ: قُلْنَا: وَالْمُزْنُ قَالَ: وَالْعَنَانُ قَالَ: فَسَكَتْنَا فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ؟ قَالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَمِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالٍ بَيْنَ رُكَبِهِنَّ وَأَظْلَافِهِنَّ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ الْعَرْشُ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ شَيْءٌ. هَذَا لَفْظُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سِمَاكٍ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَى شَرِيكٌ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ سِمَاكٍ وَوَقَفَهُ. وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ:
وَهَلْ تَدْرُونَ بُعْدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي. قَالَ: بُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا إِمَّا وَاحِدَةٌ أَوِ اثْنَتَانِ أَوِ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَالْبَاقِي نَحْوُهُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الرِّبَاطِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنْ جَرِيرٍ قَالَ أَحْمَدُ: كَتَبْنَاهُ مِنْ نُسْخَتِهِ وَهَذَا لَفْظُهُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ يُحَدِّثُ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهَدَتِ الْأَنْفُسُ، وَجَاعَتِ الْعِيَالُ، وَنَهَكَتِ الْأَمْوَالُ، وَهَلَكَتِ الْأَنْعَامُ، فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا، فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللَّهِ، وَنَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا تَقُولُ ؟ ! وَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ وَيْحَكَ إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا اللَّهُ ؟ إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَاوَاتِهِ لَهَكَذَا وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ. قَالَ ابْنُ بَشَّارٍ فِي حَدِيثِهِ: " إِنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ ". وَسَاقَ الْحَدِيثَ وَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى، وَابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُقْبَةَ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ. وَالْحَدِيثُ بِإِسْنَادِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ، هُوَ الصَّحِيحُ، وَافَقَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ; يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ. وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَكَانَ سَمَاعُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَابْنِ الْمُثَنَّى، وَابْنِ بَشَّارٍ مِنْ نُسْخَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا بَلَغَنِي. تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهَا أَبُو دَاوُدَ. وَقَدْ صَنَّفَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيُّ جُزْءًا فِي الرَّدِّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ سَمَّاهُ بِ ( بَيَانِ الْوَهْمِ وَالتَّخْلِيطِ الْوَاقِعِ فِي حَدِيثِ الْأَطِيطِ ) وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي الطَّعْنِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ رَاوِيهِ، وَذَكَرَ كَلَامَ النَّاسِ فِيهِ، وَلَكِنْ قَدْ رُوِيَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ غَيْرِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، فَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابَيِ السُّنَّةِ لَهُمَا، وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْحَافِظُ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي مُخْتَارَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ. قَالَ: فَعَظَّمَ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَالَ: إِنَّ كُرْسِيَّهُ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ لَهُ أَطِيطًا كَأَطِيطِ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ مِنْ ثِقَلِهِ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَلِيفَةَ هَذَا لَيْسَ بِذَاكَ الْمَشْهُورِ، وَفِي سَمَاعِهِ مِنْ عُمَرَ نَظَرٌ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيهِ مَوْقُوفًا وَمُرْسَلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ فِيهِ زِيَادَةً غَرِيبَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ; فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ. يُرْوَى: وَفَوْقَهُ بِالْفَتْحِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَبِالضَّمِّ قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ: وَهُوَ أَحْسَنُ. أَيْ: وَأَعْلَاهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ: أَنَّ أَهْلَ الْفِرْدَوْسِ يَسْمَعُونَ أَطِيطَ الْعَرْشِ، وَهُوَ تَسْبِيحُهُ وَتَعْظِيمُهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِقُرْبِهِمْ مِنْهُ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَقَدِ اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ الْحَافِظِ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ صِفَةِ الْعَرْشِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، بُعْدُ مَا بَيْنَ قُطْرَيْهِ مَسِيرَةُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَذَكَرْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [ الْمَعَارِجِ: 4 ]. أَنَّهُ بُعْدُ مَا بَيْنَ الْعَرْشِ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ مَسِيرَةُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَنَّ اتِّسَاعَهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الْعَرْشَ فَلَكٌ مُسْتَدِيرٌ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ مُحِيطٌ بِالْعَالَمِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَرُبَّمَا سَمَّوْهُ الْفَلَكَ التَّاسِعَ وَالْفَلَكَ الْأَطْلَسَ وَالْأَثِيرَ. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ
أَنَّ لَهُ
قَوَائِمَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَالْفَلَكُ لَا يَكُونُ لَهُ قَوَائِمُ
وَلَا يُحْمَلُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ فَوْقَ الْجَنَّةِ، وَالْجَنَّةُ فَوْقَ
السَّمَاوَاتِ، وَفِيهَا مِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَالْبُعْدُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْكُرْسِيِّ لَيْسَ هُوَ نِسْبَةُ فَلَكٍ إِلَى فَلَكٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ
الْعَرْشَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّرِيرِ الَّذِي لِلْمَلِكِ كَمَا
قَالَ تَعَالَى: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [ النَّمْلِ: 23 ]. وَلَيْسَ هُوَ
فَلَكًا، وَلَا تَفْهَمُ مِنْهُ الْعَرَبُ ذَلِكَ، وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا نَزَلَ
بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَهُوَ سَرِيرٌ ذُو قَوَائِمَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ،
وَهُوَ كَالْقُبَّةِ عَلَى الْعَالَمِ وَهُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ. قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [
غَافِرٍ: 7 ]. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ أَنَّهُمْ ثَمَانِيَةٌ،
وَفَوْقَ ظُهُورِهِنَّ الْعَرْشُ، وَقَالَ تَعَالَى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ
فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [ الْحَاقَّةِ: 17 ].
وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثَمَانِيَةٌ: أَرْبَعَةٌ
مِنْهُمْ يَقُولُونَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى
حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وَأَرْبَعَةٌ يَقُولُونَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ
وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ. فَأَمَّا
الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ هُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا عَبْدَةُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَدَّقَ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ فِي شَيْءٍ مِنْ
شِعْرِهِ فَقَالَ:
رُجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ وَالنِّسْرُ لِلْأُخْرَى وَلَيْثٌ
مُرْصَدُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ فَقَالَ:
وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لَوْنُهَا
يَتَوَرَّدُ
لَيْسَتْ بِطَالِعَةٍ لَهُمْ فِي رِسْلِهَا إِلَّا مُعَذَّبَةً وَإِلَّا تُجْلَدُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ. فَإِنَّهُ
حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ حَمَلَةَ
الْعَرْشِ الْيَوْمَ أَرْبَعَةٌ، فَيُعَارِضُهُ حَدِيثُ الْأَوْعَالِ اللَّهُمَّ
إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِثْبَاتَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى هَذِهِ
الصِّفَاتِ لَا يَنْفِي مَا عَدَاهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ فِي الْعَرْشِ قَوْلُهُ:
مَجِّدُوا اللَّهَ فَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى
كَبِيرَا
بِالْبِنَاءِ الْعَالِي الَّذِي بَهَرَ النَّاسَ وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ
سَرِيرَا
شَرْجَعًا لَا يَنَالُهُ بَصَرُ الْعَيْنِ تَرَى حَوْلَهُ الْمَلَائِكُ صُورَا
صُورٌ جَمْعُ
أَصْوَرَ، وَهُوَ الْمَائِلُ الْعُنُقِ لِنَظَرِهِ إِلَى الْعُلُوِّ،
وَالشَّرْجَعُ هُوَ الْعَالِي الْمُنِيفُ، وَالسَّرِيرُ هُوَ الْعَرْشُ فِي
اللُّغَةِ، وَمِنْ شِعْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
الَّذِي عَرَّضَ بِهِ عَنِ الْقِرَاءَةِ لِامْرَأَتِهِ حِينَ اتَّهَمَتْهُ
بِجَارِيَتِهِ:
شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا
وَتَحْمِلُهُ مَلَائِكَةٌ كِرَامٌ مَلَائِكَةُ الْإِلَهِ مُسَوِّمِينَا
ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَقَالَ
أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي
أَبِي، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ
عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ
أَنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ
عَامٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَلَفْظُهُ مَخْفِقُ الطَّيْرِ
سَبْعُمِائَةِ عَامٍ.
وَأَمَّا الْكُرْسِيُّ: فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْكُرْسِيُّ هُوَ الْعَرْشُ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنِ الْحَسَنِ بَلِ الصَّحِيحُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ الْكُرْسِيَّ غَيْرُ الْعَرْشِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا قَالَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [ الْبَقَرَةِ: 255 ]. أَيْ عِلْمُهُ، وَالْمَحْفُوظُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ رَوَاهُ شُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ الْفَلَّاسُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ فَجَعَلَهُ مَرْفُوعًا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ الْكَبِيرِ، وَمُسْلِمٍ الْبَطِينِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ: الْكُرْسِيُّ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ، وَالْكُرْسِيُّ بَيْنَ يَدَيِ
الْعَرْشِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ بُسِطْنَ، ثُمَّ وُصِلْنَ بَعْضُهُنَّ إِلَى بَعْضٍ مَا كُنَّ فِي سَعَةِ الْكُرْسِيِّ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ الْحَلْقَةِ فِي الْمَفَازَةِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ. أَوَّلُ الْحَدِيثِ مُرْسَلٌ. وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ مُنْقَطِعٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مَوْصُولًا، فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وُهَيْبٍ الْغَزِّيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّرِيِّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ ; أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُرْسِيِّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ
كَفَضْلِ الْفَلَاةِ
عَلَى تِلْكَ الْحَلْقَةِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ
وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ
الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ
عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [ هُودٍ:
7 ]. عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَاءُ ؟ قَالَ: عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ قَالَ:
وَالسَّمَاوَاتُ وَالْأَرَضُونَ وَكُلُّ مَا فِيهِنَّ مِنْ شَيْءٍ تُحِيطُ بِهَا
الْبِحَارُ، وَيُحِيطُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْهَيْكَلُ، وَيُحِيطُ بِالْهَيْكَلِ
فِيمَا قِيلَ الْكُرْسِيُّ. وَرَوَى عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ نَحْوَهُ،
وَفَسَّرَ وَهْبٌ الْهَيْكَلَ فَقَالَ: شَيْءٌ مِنْ أَطْرَافِ السَّمَاوَاتِ
مُحْدِقٌ بِالْأَرَضِينَ وَالْبِحَارِ كَأَطْنَابِ الْفُسْطَاطِ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى عِلْمِ الْهَيْئَةِ أَنَّ الْكُرْسِيَّ
عِبَارَةٌ عَنِ الْفَلَكِ الثَّامِنِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ فَلَكَ الْكَوَاكِبِ
الثَّوَابِتِ، وَفِيمَا زَعَمُوهُ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ
أَعْظَمُ مِنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، كَمَا وَرَدَ بِهِ
الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ أَنَّ نِسْبَتَهَا إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ حَلْقَةٍ
مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَهَذَا لَيْسَ نِسْبَةَ فَلَكٍ إِلَى فَلَكٍ، فَإِنْ
قَالَ قَائِلُهُمْ: نَحْنُ نَعْتَرِفُ بِذَلِكَ وَنُسَمِّيهِ مَعَ ذَلِكَ فَلَكًا
فَنَقُولُ الْكُرْسِيُّ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةً عَنِ الْفَلَكِ،
وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ الْكُرْسِيَّ
بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ كَالْمِرَقَاةِ إِلَيْهِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ
فَلَكًا. وَمَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّ الْكَوَاكِبَ الثَّوَابِتَ مُرَصَّعَةٌ
فِيهِ فَقَدْ قَالَ مَا لَا يَعْلَمُ، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِ هَذَا مَعَ
اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِهِمْ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ
اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ، ثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ
خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ صَفَحَاتُهَا مِنْ يَاقُوتَةٍ
حَمْرَاءَ، قَلُمُهُ نُورٌ، وَكِتَابُهُ نُورٌ، لِلَّهِ فِيهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ
سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ لَحْظَةٍ، يَخْلَقُ وَيَرْزُقُ، وَيُمِيتُ وَيُحْيِي،
وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ:
أَخْبَرَنِي مُقَاتِلٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: إِنَّ فِي صَدْرِ اللَّوْحِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، دِينُهُ
الْإِسْلَامُ، وَمُحَمَّدٌ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَصَدَّقَ بِوَعْدِهِ وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ قَالَ:
وَاللَّوْحُ لَوْحٌ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، طُولُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ، وَعَرْضُهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَحَافَّتَاهُ
الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ، وَدَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ، وَقَلَمُهُ نُورٌ،
وَكَلَامُهُ مَعْقُودٌ بِالْعَرْشِ، وَأَصْلُهُ فِي حِجْرِ مَلَكٍ. وَقَالَ أَنَسُ
بْنُ مَالِكٍ، وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فِي جَبْهَةِ
إِسْرَافِيلَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ.
بَابُ مَا وَرَدَ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [ الْأَنْعَامِ: 1 ]. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمُ
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [
الْأَعْرَافِ: 54 ]. فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ
الْمُفَسِّرُونَ فِي مِقْدَارِ هَذِهِ السِّتَّةِ الْأَيَّامِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا كَأَيَّامِنَا هَذِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْهَا كَأَلْفِ
سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. رَوَاهُنَّ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ،
وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِهِ
الَّذِي رَدَّ فِيهِ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ،
وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ
عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ،
وَغَيْرِهِ أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ: أَبْجَدْ هَوَّزْ حُطِّي
كَلَمُنْ سَعْفَصْ قَرَشَتْ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي أَوَّلِ الْأَيَّامِ
ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: فَرَوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ:
يَقُولُ أَهْلُ التَّوْرَاةِ ابْتَدَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَوْمَ الْأَحَدِ.
وَيَقُولُ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ: ابْتَدَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. وَنَقُولُ نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا انْتَهَى إِلَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَدَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَوْمَ السَّبْتِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَالَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَسَيَأْتِي فِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْأَحَدُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَهُوَ نَصُّ التَّوْرَاةِ، وَمَالَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ آخَرُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِلَفْظِ الْأَحَدِ، وَلِهَذَا كَمُلَ الْخَلْقُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فَكَانَ آخِرُهُنَّ الْجُمُعَةَ ; فَاتَّخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ عِيدَهُمْ فِي الْأُسْبُوعِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَضَلَّ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلَ الْكِتَابِ قَبْلَنَا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ الْبَقَرَةِ: 29 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ فُصِّلَتْ: 9 - 12 ].
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا كَالْأَسَاسِ لِلْبِنَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ غَافِرٍ: 64 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا. إِلَى أَنْ قَالَ: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [ النَّبَأِ: 6 - 13 ]. وَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 30 ]. أَيْ فَصَلْنَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى هَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَنَزَلَتِ الْأَمْطَارُ، وَجَرَتِ الْعُيُونُ وَالْأَنْهَارُ، وَانْتَعَشَ الْحَيَوَانُ. ثُمَّ قَالَ: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 32 ]. أَيْ عَمَّا خُلِقَ فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وَالنُّجُومِ الزَّاهِرَاتِ، وَالْأَجْرَامِ النَّيِّرَاتِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَاتِ عَلَى حِكْمَةِ خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [ يُوسُفَ: 105، 106 ]. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [ النَّازِعَاتِ: 27 - 32 ].
فَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَقَدُّمِ خَلْقِ السَّمَاءِ عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ، فَخَالَفُوا صَرِيحَ الْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ، وَلَمْ يَفْهَمُوا هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ. فَإِنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ دَحْيَ الْأَرْضِ وَإِخْرَاجَ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى مِنْهَا بِالْفِعْلِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مُقَدَّرًا فِيهَا بِالْقُوَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا [ فُصِّلَتْ: 10 ]. أَيْ هَيَّأَ أَمَاكِنَ الزَّرْعِ وَمَوَاضِعَ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ، ثُمَّ لَمَّا أَكْمَلَ خَلْقَ صُورَةِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَالْعُلْوِيِّ دَحَى الْأَرْضَ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا مَا كَانَ مُودَعًا فِيهَا فَخَرَجَتِ الْعُيُونُ، وَجَرَتِ الْأَنْهَارُ، وَنَبَتَ الزَّرْعُ وَالثِّمَارُ ; وَلِهَذَا فَسَّرَ الدَّحْىَ بِإِخْرَاجِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى مِنْهَا وَإِرْسَاءِ الْجِبَالِ، فَقَالَ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا. وَقَوْلُهُ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا. أَيْ قَرَّرَهَا فِي أَمَاكِنِهَا الَّتِي وَضَعَهَا فِيهَا وَثَبَّتَهَا وَأَكَّدَهَا وَأَطَّدَهَا. وَقَوْلُهُ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ الذَّارِيَاتِ: 47 - 49 ]. بِأَيْدٍ أَيْ بِقُوَّةٍ، وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ; وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا عَلَا اتَّسَعَ فَكُلُّ سَمَاءٍ أَعْلَى مِنَ الَّتِي تَحْتَهَا فَهِيَ أَوْسَعُ مِنْهَا ; وَلِهَذَا كَانَ الْكُرْسِيُّ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ، وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْهُنَّ كُلُّهُنَّ. وَالْعَرْشُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِكَثِيرٍ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا. أَيْ بَسَطْنَاهَا وَجَعَلْنَاهَا مَهْدًا أَيْ قَارَّةً سَاكِنَةً غَيْرَ مُضْطَرِبَةٍ وَلَا مَائِدَةٍ بِكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ. وَالْوَاوُ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فِي الْوُقُوعِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي الْإِخْبَارَ الْمُطْلَقَ فِي اللُّغَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي،
حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ
مُحْرِزٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ،
فَأَتَاهُ نَاسٌ مَنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: " اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا
بَنِي تَمِيمٍ " قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ
دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: " اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا
أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ " قَالُوا: قَدْ
قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالُوا: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا
الْأَمْرِ قَالَ: " كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ
عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ " فَنَادَى مُنَادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا ابْنَ
الْحُصَيْنِ. فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ،
فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا. هَكَذَا رَوَاهُ هَاهُنَا،
وَقَدْ رَوَاهُ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي وَكِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَفِي بَعْضِ
أَلْفَاظِهِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَهُوَ لَفْظُ النَّسَائِيِّ
أَيْضًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنِي ابْنُ
جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ مَوْلَى أَمِّ
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ: خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ فِيهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ فِيهَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ سُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ، وَهَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ هَارُونَ، وَيُوسُفَ بْنِ سَعِيدٍ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمِصِّيصِيِّ الْأَعْوَرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهِ مِثْلُهُ سَوَاءٌ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَدَّادِ، عَنِ الْأَخْضَرِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَوْمَ السَّابِعِ، وَخَلَقَ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ. وَذَكَرَ تَمَامَهُ بِنَحْوِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ، وَقَالَ
بَعْضُهُمْ عَنْ
كَعْبٍ، وَهُوَ أَصَحُّ يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِمَّا سَمِعَهُ أَبُو
هُرَيْرَةَ وَتَلَقَّاهُ مِنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فَإِنَّهُمَا كَانَا
يَصْطَحِبَانِ وَيَتَجَالَسَانِ لِلْحَدِيثِ فَهَذَا يُحَدِّثُهُ عَنْ صُحُفِهِ،
وَهَذَا يُحَدِّثُهُ بِمَا يُصَدِّقُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا تَلْقَّاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ كَعْبٍ،
عَنْ صُحُفِهِ فَوَهِمَ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَجَعَلَهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَكَّدَ رَفْعَهُ بِقَوْلِهِ: " أَخَذَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي ". ثُمَّ فِي
مَتْنِهِ غَرَابَةٌ شَدِيدَةٌ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ، وَفِيهِ ذِكْرُ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَمَا فِيهَا فِي سَبْعَةِ
أَيَّامٍ، وَهَذَا خِلَافُ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ فِي
أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ مِنْ دُخَانٍ،
وَهُوَ بُخَارُ الْمَاءِ الَّذِي ارْتَفَعَ حِينَ اضْطَرَبَ الْمَاءُ الْعَظِيمُ
الَّذِي خَلَقَ مِنْ زَبَدِهِ الْأَرْضَ بِالْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ الْبَالِغَةِ،
كَمَا قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ فِي خَبَرٍ
ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ
مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [ الْبَقَرَةِ: 29 ].
قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا
مِمَّا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ أَخْرَجَ
مِنَ الْمَاءِ دُخَانًا فَارْتَفَعَ فَوْقَ الْمَاءِ فَسَمَا عَلَيْهِ فَسَمَّاهُ
سَمَاءً، ثُمَّ أَيْبَسَ الْمَاءَ فَجَعَلَهُ أَرْضًا وَاحِدَةً، ثُمَّ فَتَقَهَا
فَجَعَلَ سَبْعَ أَرْضِينَ فِي يَوْمَيْنِ: الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ
الْأَرْضَ عَلَى حُوتٍ وَهُوَ النُّونُ الَّذِي
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [ الْقَلَمِ: 1 ]. وَالْحُوتُ فِي الْمَاءِ، وَالْمَاءُ عَلَى صَفَاةٍ، وَالصَّفَاةُ عَلَى ظَهْرِ مَلَكٍ، وَالْمَلَكُ عَلَى صَخْرَةٍ، وَالصَّخْرَةُ فِي الرِّيحِ ; وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي ذَكَرَ لُقْمَانُ لَيْسَتْ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ فَتَحَرَّكَ الْحُوتُ فَاضْطَرَبَ فَتَزَلْزَلَتِ الْأَرْضُ فَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَ فَقَرَّتْ. وَخَلَقَ اللَّهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الْجِبَالَ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الشَّجَرَ وَالْمَاءَ وَالْمَدَائِنَ وَالْعُمْرَانَ وَالْخَرَابَ، وَفَتَقَ السَّمَاءَ وَكَانَتْ رَتْقًا فَجَعَلَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ: الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ; لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا، ثُمَّ قَالَ: خَلَقَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ خَلْقَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبِحَارِ وَجِبَالِ الْبَرَدِ، وَمَا لَا يَعْلُمُهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ زَيَّنَ السَّمَاءَ بِالْكَوَاكِبِ فَجَعَلَهَا زِينَةً وَحِفْظًا تَحْفَظُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ يَذْكُرُ بِهِ السُّدِّيُّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فِيهَا غَرَابَةٌ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهَا مُتَلَقَّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ فَإِنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ لَمَّا أَسْلَمَ فِي زَمَنِ عُمَرَ كَانَ يَتَحَدَّثُ بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَشْيَاءَ مِنْ عُلُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَيَسْتَمِعُ لَهُ عُمَرُ تَأْلِيفًا لَهُ وَتَعَجُّبًا مِمَّا عِنْدَهُ مِمَّا يُوَافِقُ كَثِيرٌ مِنْهُ الْحَقَّ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ
الْمُطَهَّرُ،
فَاسْتَجَازَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ نَقْلَ مَا يُورِدُهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ ;
لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَمَّا جَاءَ مِنَ الْإِذْنِ فِي التَّحْدِيثِ عَنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ لَكِنَّ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِيمَا يَرْوِيهِ غَلَطٌ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ،
أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي كَعْبِ الْأَحْبَارِ: وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ
لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ أَيْ فِيمَا يَنْقُلُهُ لَا أَنَّهُ يَتَعَمَّدُ
ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَنَحْنُ نُورِدُ مَا نُورِدُهُ مِنَ الَّذِي يَسُوقُهُ كَثِيرٌ مِنْ كِبَارِ
الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَنْهُمْ، ثُمَّ نُتْبِعُ ذَلِكَ مِنَ
الْأَحَادِيثِ بِمَا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّحَّةِ أَوْ يُكَذِّبُهُ، وَيَبْقَى
الْبَاقِي مِمَّا لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ
وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ، عَنْ أَبِي زِنَادٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ
الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي. وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ،
عَنْ قُتَيْبَةَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ
الْبُخَارِيُّ: بَابُ مَا جَاءَ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [ الطَّلَاقِ: 12 ].
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ
عُلَيَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي
كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَاسٍ خُصُومَةٌ فِي
أَرْضٍ، فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَذَكَرَ لَهَا ذَلِكَ فَقَالَتْ: يَا أَبَا
سَلَمَةَ اجْتَنِبِ الْأَرْضَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ يَحْيَى
بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِهِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ
يُونُسَ، عَنْ أَبَانٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ،
عَنْ عَائِشَةَ بِمِثْلِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنَ
الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ
أَرَضِينَ. وَرَوَاهُ فِي الْمَظَالِمِ أَيْضًا عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ بِهِ.
وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِهِ.
وَذَكَرَ
الْبُخَارِيُّ هَاهُنَا حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ
اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا. الْحَدِيثَ.
وَمُرَادُهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - تَقْرِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [ الطَّلَاقِ: 12 ]. أَيْ
فِي الْعَدَدِ كَمَا أَنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ الْآنَ اثْنَا عَشَرَ مُطَابَقَةً
لِعِدَّةِ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ الْأَوَّلِ فَهَذِهِ
مُطَابَقَةٌ فِي الزَّمَنِ كَمَا أَنَّ تِلْكَ مُطَابَقَةٌ فِي الْمَكَانِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: أَنَّهُ خَاصَمَتْهُ أَرَوَى فِي حَقٍّ زَعَمَتْ أَنَّهُ
انْتَقَصَهُ لَهَا إِلَى مَرْوَانَ فَقَالَ: سَعِيدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا
أَنْتَقِصُ مِنْ حَقِّهَا شَيْئًا! أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا
فَإِنَّهُ يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، وَأَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي
هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ
الظُّلْمِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ: ذِرَاعٌ مِنَ الْأَرْضِ يَنْتَقِصُهُ الْمَرْءُ
الْمُسْلِمُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَيْسَ حَصَاةٌ مِنَ الْأَرْضِ يَأْخُذُهَا
أَحَدٌ إِلَّا طُوِّقَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى قَعْرِ الْأَرْضِ، وَلَا
يَعْلَمُ قَعْرَهَا إِلَّا الَّذِي خَلَقَهَا. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهَذَا
إِسْنَادٌ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ،
حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ
بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ. تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى،
عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ
الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ. تَفَرَّدَ بِهِ
أَيْضًا، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ
أَبِي سَلَمَةَ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَخَذَ مِنَ الْأَرْضِ شِبْرًا بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ
مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَيْضًا. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ
مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ.
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كَالْمُتَوَاتِرَةِ فِي إِثْبَاتِ سَبْعِ أَرَضِينَ،
وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ فَوْقَ الْأُخْرَى، وَالَّتِي
تَحْتَهَا فِي وَسَطِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْهَيْئَةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ
إِلَى السَّابِعَةِ، وَهِيَ صَمَّاءُ لَا جَوْفَ لَهَا، وَفِي وَسَطِهَا
الْمَرْكَزُ، وَهُوَ نُقْطَةٌ مُقَدَّرَةٌ مُتَوَهَّمَةٌ، وَهُوَ مَحَطُّ
الْأَثْقَالِ إِلَيْهِ يَنْتَهِي مَا يَهْبِطُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ إِذَا لَمْ
يُعَاوِقْهُ مَانِعٌ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُنَّ مُتَرَاكِمَاتٌ بِلَا تُفَاصُلٍ
أَوْ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَالَّتِي تَلِيهَا خَلَاءٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَهَذَا الْخِلَافُ جَارٍ فِي الْأَفْلَاكِ أَيْضًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَيْنَ
كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَبَيْنَ الْأُخْرَى مَسَافَةً لِظَاهِرِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [ الطَّلَاقِ: 12 ]. الْآيَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ
مَرَّتْ سَحَابَةٌ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ ؟ قُلْنَا: اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: الْعَنَانُ وَزَوَايَا الْأَرْضِ، يَسُوقُهُ اللَّهُ إِلَى مَنْ لَا يَشْكُرُونَهُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَا يَدْعُونَهُ. أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ فَوْقَكُمْ ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: الرَّقِيعُ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ وَسَقْفٌ مَحْفُوظٌ. أَتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الَّذِي فَوْقَهَا ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ. ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: الْعَرْشُ. أَتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ تَحْتَكُمْ ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَرْضٌ. أَتَدْرُونَ مَا تَحْتَهَا ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَرْضٌ أُخْرَى أَتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ. حَتَّى عَدَّ سَبْعَ أَرَضِينَ. ثُمَّ قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ لَوْ دَلَّيْتُمْ أَحَدَكُمْ إِلَى الْأَرْضِ
السُّفْلَى
السَّابِعَةِ لَهَبَطَ، ثُمَّ قَرَأَ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ
وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ الْحَدِيدِ: 3 ].. وَرَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ
مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ قَتَادَةَ،
قَالَ: حَدَّثَ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَذَكَرَهُ، إِلَّا أَنَّهُ
ذَكَرَ أَنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ كُلِّ أَرْضَيْنِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَذَكَرَ
فِي آخِرِهِ كَلِمَةً ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ
الْحَدِيدِ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ. قَالَ: وَيُرْوَى عَنْ أَيُّوبَ، وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَعَلِيِّ
بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ يَسْمَعِ الْحَسَنُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ
مِنْ حَدِيثِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَ لَفْظِ التِّرْمِذِيِّ سَوَاءً بِدُونِ
الزِّيَادَةِ فِي آخِرِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ بِشْرٍ،
عَنْ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا،
وَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَشْبَهَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَاهُ الْحَافِظَانِ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ،
وَالْبَيْهَقِيُّ
مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ صِفَةِ الْعَرْشِ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْعَالِ مَا
يُخَالِفُ هَذَا فِي ارْتِفَاعِ الْعَرْشِ عَنِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَمَا
يَشْهَدُ لَهُ. وَفِيهِ: " وَبُعْدُ مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ
خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَكِثَفُهَا أَيْ سُمْكُهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ ".
وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى حَدِيثِ "
طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ " أَنَّهَا سَبْعَةُ أَقَالِيمَ ; فَهُوَ
قَوْلٌ يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثَ الصَّحِيحَ، وَصَرِيحَ كَثِيرٍ
مِنْ أَلْفَاظِهِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ مِنْ
طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ثُمَّ إِنَّهُ حَمَلَ الْحَدِيثَ
وَالْآيَةَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِمَا بِلَا مُسْتَنَدٍ وَلَا دَلِيلٍ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَلَقَّاهُ عَنْهُمْ
طَائِفَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ مِنْ تُرَابٍ، وَالَّتِي
تَحْتَهَا مِنْ حَدِيدٍ، وَالْأُخْرَى مِنْ حِجَارَةٍ مِنْ كِبْرِيتٍ،
وَالْأُخْرَى مِنْ كَذَا. فَكُلُّ هَذَا إِذَا لَمْ يُخْبَرْ بِهِ وَيَصِحَّ
سَنَدُهُ إِلَى مَعْصُومٍ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ. وَهَكَذَا الْأَثَرُ
الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ أَرْضٍ مِنَ الْخَلْقِ
مِثْلُ مَا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ حَتَّى آدَمَ كَآدَمِكُمْ، وَإِبْرَاهِيمَ
كَإِبْرَاهِيمِكُمْ.
فَهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مُخْتَصَرًا، وَاسْتَقْصَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي
الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ إِنْ صَحَّ نَقْلُهُ عَنْهُ عَلَى
أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَهُ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا الْعَوَّامُ بْنُ
حَوْشَبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ
الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ، فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَأَلْقَاهَا عَلَيْهَا ;
فَاسْتَقَرَّتْ فَتَعَجَّبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خَلْقِ الْجِبَالِ، فَقَالَتْ:
يَا رَبِّ هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْجِبَالِ ؟ قَالَ: نَعَمْ ;
الْحَدِيدُ. قَالَتْ: يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ
الْحَدِيدِ ؟ قَالَ: نَعَمْ ; النَّارُ. قَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ
شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ: نَعَمْ ; الْمَاءُ. قَالَتْ يَا رَبِّ
فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ ؟ قَالَ: نَعَمْ ; الرِّيحُ.
قَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ ؟ قَالَ:
نَعَمْ ; ابْنُ آدَمَ، يَتَصَدَّقُ بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا مِنْ شَمَالِهِ.
تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ أَعْدَادَ جِبَالِ الْأَرْضِ فِي سَائِرِ
بِقَاعِهَا، شَرْقًا
وَغَرْبًا،
وَذَكَرُوا أَطْوَالَهَا، وَبُعْدَ امْتِدَادِهَا، وَارْتِفَاعِهَا، وَأَوْسَعُوا
الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بِمَا يَطُولُ شَرْحُهُ هُنَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا
وَغَرَابِيبُ سُودٌ [ فَاطِرٍ: 27 ]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ:
الْجُدُدُ ; الطَّرَائِقُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ: الْغَرَابِيبُ
الْجِبَالُ الطِّوَالُ السُّودُ، وَهَذَا هُوَ الْمُشَاهَدُ مِنَ الْجِبَالِ فِي
سَائِرِ الْأَرْضِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ بِقَاعِهَا وَأَلْوَانِهَا. وَقَدْ
ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْجُودِيَّ عَلَى التَّعْيِينِ ; وَهُوَ
جَبَلٌ عَظِيمٌ شَرْقِيَّ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ إِلَى جَانِبِ دِجْلَةَ عِنْدَ
الْمَوْصِلِ امْتِدَادُهُ مِنَ الْجَنُوبِ إِلَى الشَّمَالِ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ، وَارْتِفَاعُهُ مَسِيرَةُ نِصْفِ يَوْمٍ، وَهُوَ أَخْضَرُ ; لِأَنَّ
فِيهِ شَجَرًا مِنَ الْبَلُّوطِ، وَإِلَى جَانِبِهِ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا
قَرْيَةُ الثَّمَانِينَ ; لِسُكْنَى الَّذِينَ نَجَوْا فِي السَّفِينَةِ مَعَ
نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَوْضِعِهَا فَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ تَعَالَى طُورَ سَيْنَاءَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ الْبَهَاءُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ "
الْمُسْتَقْصَى فِي فَضَائِلِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى " فِي تَرْجَمَةِ
الْجِبَالِ الْمُقَدَّسَةِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ بَكْرٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ
يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَقْسَمَ
رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِأَرْبَعَةِ أَجْبُلٍ فَقَالَ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ
وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [ التِّينِ: 1 - 3 ]. فَالتِّينُ
طُورُ رَبِّنَا مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالزَّيْتُونُ
طُورُ رَبِّنَا
وَطُورُ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ. جَبَلُ مَكَّةَ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: التِّينُ جَبَلٌ عَلَيْهِ دِمَشْقُ، وَالزَّيْتُونُ جَبَلٌ عَلَيْهِ
بَيْتُ الْمَقْدِسِ. وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ كَعْبِ
الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَجْبُلٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَبَلُ
الْخَلِيلِ، وَلُبْنَانَ، وَالطُّورِ، وَالْجُودِيِّ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لُؤْلُؤَةً بَيْضَاءَ تُضِيءُ مَا بَيْنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَرْجِعْنَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى تُجْعَلَ فِي
زَوَايَاهُ نُورًا، وَيَضَعَ عَلَيْهَا كُرْسِيَّهُ حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَ أَهْلِ
الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ [ الزُّمَرِ: 75 ]. وَمِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ ثَنَا
عُثْمَانُ بْنُ أَبِي عَاتِكَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ
أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى جَبَلِ قَاسْيُونَ أَنْ
هَبْ ظِلَّكَ وَبَرَكَتَكَ لِجَبَلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: فَفَعَلَ.
فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: أَمَا إِذْ فَعَلْتَ فَإِنِّي سَأَبْنِي لِي
فِي حِضْنِكَ بَيْتًا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَالَ الْوَلِيدُ: فِي حِضْنِكَ:
أَيْ فِي وَسَطِهِ، وَهُوَ هَذَا الْمَسْجِدُ يَعْنِي مَسْجِدَ دِمَشْقَ أُعْبَدُ
فِيهِ بَعْدَ خَرَابِ الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَا تَذْهَبُ الْأَيَّامُ
وَاللَّيَالِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْكَ ظِلَّكَ وَبَرَكَتَكَ. قَالَ: فَهُوَ
عِنْدُ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ الْمُتَضَرِّعِ. وَعَنْ
خَلِيلِ بْنِ
دَعْلَجٍ: أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَتْ طَرَفَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَصَلَّتْ فِيهِ، وَصَعِدَتْ إِلَى طُورِ رَبِّنَا فَصَلَّتْ فِيهِ، وَبَاتَتْ عَلَى طَرَفِ الْجَبَلِ فَقَالَتْ: مِنْ هَاهُنَا يَتَفَرَّقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَإِلَى النَّارِ.
فَصْلٌ فِي
الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ
لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى
الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا
وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [ النَّحْلِ: 14
18 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ
سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا
طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ
مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ فَاطِرٍ: 12 ].
وَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ
وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا [
الْفُرْقَانِ: 53 ]. وَقَالَ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ [ الرَّحْمَنِ: 19، 20 ]. فَالْمُرَادُ
بِالْبَحْرَيْنِ: الْبَحْرُ الْمِلْحُ الْمُرُّ وَهُوَ الْأُجَاجُ، وَالْبَحْرُ
الْعَذْبُ هُوَ هَذِهِ الْأَنْهَارُ السَّارِحَةُ بَيْنَ أَقْطَارِ الْأَمْصَارِ
لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ،
وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [ الشُّورَى: 32 - 34 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [ لُقْمَانَ: 31، 32 ]. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ الْبَقَرَةِ: 164 ]. فَامْتَنَّ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ فَالْبَحْرُ الْمُحِيطُ بِسَائِرِ أَرْجَاءِ الْأَرْضِ، وَمَا يَنْبَثِقُ مِنْهُ فِي جَوَانِبِهَا الْجَمِيعُ مَالِحُ الطَّعْمِ مُرٌّ، وَفِي هَذَا حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ لِصِحَّةِ الْهَوَاءِ ; إِذْ لَوْ كَانَ حُلْوًا لَأَنْتَنَ الْجَوُّ وَفَسَدَ الْهَوَاءُ ; بِسَبَبِ مَا يَمُوتُ فِيهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْعِظَامِ فَكَانَ يُؤَدِّي إِلَى تَفَانِي بَنِي آدَمَ وَفَسَادِ مَعَايِشِهِمْ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ. وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَحْرِ ؟ قَالَ: هُوَ
الطَّهُورُ مَاؤُهُ
الْحِلُّ مَيْتَتُهُ.
وَأَمَّا الْأَنْهَارُ فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ أَنْ يَكُونَ مَاؤُهَا حُلْوًا
عَذْبًا جَارِيًا فُرَاتًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، وَجَعَلَهَا جَارِيَةً
سَارِحَةً يُنْبِعُهَا تَعَالَى فِي أَرْضٍ، وَيَسُوقُهَا إِلَى أُخْرَى رِزْقًا
لِلْعِبَادِ، وَمِنْهَا كِبَارٌ وَمِنْهَا صِغَارٌ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ
وَالْمَصْلَحَةِ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ أَصْحَابُ عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَالتَّسْيِيرِ عَلَى تَعْدَادِ
الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ الْكِبَارِ، وَأُصُولِ مَنَابِعِهَا، وَإِلَى أَيْنَ
يَنْتَهِي سَيْرُهَا بِكَلَامٍ فِيهِ حِكَمٌ، وَدَلَالَاتٌ عَلَى قُدْرَةِ
الْخَالِقِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ وَالْحِكْمَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [ الطُّورِ: 6 ]. فِيهِ قَوْلَانِ
; أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَحْرُ الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ
الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ
بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، وَهُوَ
الَّذِي يَنْزِلُ مِنْهُ الْمَطَرُ قَبْلَ الْبَعْثِ فَتَحْيَا مِنْهُ
الْأَجْسَادُ مِنْ قُبُورِهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ الرَّبِيعِ بْنِ
أَنَسٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَحْرَ اسْمُ جِنْسٍ يَعُمُّ سَائِرَ الْبِحَارِ
الَّتِي فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فَقِيلَ: الْمَمْلُوءُ.
وَقِيلَ: يَصِيرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا تُؤَجَّجُ فَيُحِيطُ بِأَهْلِ
الْمَوْقِفِ. كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي
التَّفْسِيرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ: الْمَمْنُوعُ الْمَكْفُوفُ الْمَحْرُوسُ عَنْ أَنْ يَطْغَى فَيَغْمُرَ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا فَيَغْرَقُوا. رَوَاهُ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ وَغَيْرِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا الْعَوَّامُ، حَدَّثَنِي شَيْخٌ كَانَ مُرَابِطًا بِالسَّاحِلِ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا صَالِحٍ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: لَيْسَ مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا وَالْبَحْرُ يُشْرِفُ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَسْتَأْذِنُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَنْفَضِخَ عَلَيْهِمْ فَيَكُفُّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنِي شَيْخٌ مُرَابِطٌ قَالَ: خَرَجْتُ لَيْلَةً لِمَحْرَسٍ لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنَ الْحَرَسِ غَيْرِي فَأَتَيْتُ الْمِينَاءَ فَصَعِدْتُ فَجَعَلَ يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّ الْبَحْرَ يُشْرِفُ يُحَاذِي بِرُءُوسِ الْجِبَالِ فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا وَأَنَا مُسْتَيْقِظٌ فَلَقِيتُ أَبَا صَالِحٍ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا وَالْبَحْرُ يُشْرِفُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَسْتَأْذِنُ اللَّهَ أَنْ يَنْفَضِخَ عَلَيْهِمْ فَيَكُفُّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مُبْهَمٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا مِنْ
نِعَمِهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنْ كَفَّ شَرَّ الْبَحْرِ عَنْ أَنْ يَطْغَى
عَلَيْهِمْ، وَسَخَّرَهُ لَهُمْ يَحْمِلُ مَرَاكِبَهُمْ لِيَبْلُغُوا عَلَيْهَا
إِلَى الْأَقَالِيمِ النَّائِيَةِ بِالتِّجَارَاتِ وَغَيْرِهَا، وَهَدَاهُمْ فِيهِ
بِمَا خَلَقَهُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنَ النُّجُومِ، وَالْجِبَالِ الَّتِي
جَعَلَهَا لَهُمْ عَلَامَاتٍ يَهْتَدُونَ بِهَا فِي سَيْرِهِمْ، وَبِمَا خَلَقَ
لَهُمْ فِيهِ حِلْيَةً يَلْبَسُونَهَا مِنَ اللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ
النَّفِيسَةِ الْعَزِيزَةِ الْحَسَنَةِ الثَّمِينَةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ إِلَّا
فِيهِ، وَبِمَا خَلَقَ فِيهِ مِنَ الدَّوَابِّ الْغَرِيبَةِ، وَأَحَلَّهَا لَهُمْ
حَتَّى مَيْتَتَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ
وَطَعَامُهُ [ الْمَائِدَةِ: 96 ]. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ
الْآخَرِ: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ ; السَّمَكُ وَالْجَرَادُ،
وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي إِسْنَادِهِ
نَظَرٌ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: وَجَدْتُ فِي
كِتَابِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْبَغْدَادِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ قَالَ: كَلَّمَ اللَّهُ هَذَا
الْبَحْرَ الْغَرْبِيَّ، وَكَلَّمَ الْبَحْرَ الشَّرْقِيَّ فَقَالَ لِلْغَرْبِيِّ:
إِنِّي حَامِلٌ فِيكَ عِبَادًا مِنْ عِبَادِي فَكَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ بِهِمْ ؟
قَالَ: أُغْرِقُهُمْ. قَالَ: بَأْسُكَ فِي
نَوَاحِيكَ. وَحَرَمَهُ الْحِلْيَةَ وَالصَّيْدَ، وَكَلَّمَ هَذَا الْبَحْرَ الشَّرْقِيَّ فَقَالَ: إِنِّي حَامِلٌ فِيكَ عِبَادًا مِنْ عِبَادِي فَمَا أَنْتَ صَانِعٌ بِهِمْ ؟ قَالَ: أَحْمِلُهُمْ عَلَى يَدِي، وَأَكُونُ لَهُمْ كَالْوَالِدَةِ لِوَلَدِهَا. فَأَثَابَهُ الْحِلْيَةَ وَالصَّيْدَ. ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنْ سُهَيْلٍ إِلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ سُهَيْلٌ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا قُلْتُ الْمَوْقُوفُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَشْبَهُ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ وَجَدَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مَمْلُوءَتَيْنِ كُتُبًا مِنْ عُلُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ مِنْهَا الْمَعْرُوفُ وَالْمَشْهُورُ وَالْمَنْكُورُ وَالْمَرْدُودُ ; فَأَمَّا الْمَرْفُوعُ فَتَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَبُو الْقَاسِمِ الْمَدَنِيُّ قَاضِيهَا قَالَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ، ثُمَّ مَزَّقْتُ حَدِيثَهُ كَانَ كَذَّابًا وَأَحَادِيثُهُ مَنَاكِيرٌ. وَكَذَا ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالْجُوزَجَانِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنِّسَائِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ عَامَّةُ أَحَادِيثِهِ مَنَاكِيرٌ، وَأَفْظَعُهَا حَدِيثُ الْبَحْرِ.
قَالَ عُلَمَاءُ التَّسْيِيرِ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى الْعُرُوضِ، وَالْأَطْوَالِ، وَالْبِحَارِ، وَالْأَنْهَارِ، وَالْجِبَالِ، وَالْمِسَاحَاتِ، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْخَرَابِ وَالْعِمَارَاتِ، وَالْأَقَالِيمِ السَّبْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي اصْطِلَاحِهِمْ، وَالْأَقَالِيمِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْعُرْفِيَّةِ، وَمَا فِي الْبُلْدَانِ وَالْأَقَالِيمِ مِنَ الْخَوَاصِّ وَالنَّبَاتَاتِ، وَمَا يُوجَدُ فِي كُلِّ قُطْرٍ مِنْ صُنُوفِ الْمَعَادِنِ وَالتِّجَارَاتِ قَالُوا: الْأَرْضُ مَغْمُورَةٌ بِالْمَاءِ الْعَظِيمِ إِلَّا مِقْدَارَ الرُّبْعِ مِنْهَا، وَهُوَ تِسْعُونَ دَرَجَةً، وَالْعِنَايَةُ الْإِلَهِيَّةُ اقْتَضَتِ انْحِسَارَ الْمَاءِ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ مِنْهَا ; لِتَعِيشَ الْحَيَوَانَاتُ عَلَيْهِ، وَيَنْبُتَ الزَّرْعُ، وَالثِّمَارُ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَيِ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [ الرَّحْمَنِ: 10 - 13 ]. قَالُوا: الْمَعْمُورُ مِنْ هَذَا الْبَادِي مِنْهَا قَرِيبُ الثُّلُثَيْنِ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا وَهُوَ خَمْسٌ وَسِتُّونَ دَرَجَةً قَالُوا: فَالْبَحْرُ الْمُحِيطُ الْغَرْبِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ أُوقْيَانُوسُ، وَهُوَ الَّذِي يُتَاخِمُ بِلَادَ الْمَغْرِبِ، وَفِيهِ الْجَزَائِرُ الْخَالِدَاتُ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ سَاحِلِهِ عَشْرُ دَرَجٍ مَسَافَةُ شَهْرٍ تَقْرِيبًا، وَهُوَ بَحْرٌ لَا يُمْكِنُ سُلُوكُهُ، وَلَا رُكُوبُهُ لِكَثْرَةِ هَيْجِهِ وَاغْتِلَامِهِ وَمَا فِيهِ مِنَ الرِّيَاحِ، وَالْأَمْوَاجِ، وَلَيْسَ فِيهِ صَيْدٌ، وَلَا يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يُسَافَرُ فِيهِ لِمَتْجَرٍ
وَلَا لِغَيْرِهِ،
وَهُوَ آخِذٌ فِي نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ حَتَّى يُسَامِتَ الْجِبَالَ الْقُمْرَ،
وَيُقَالُ جِبَالُ الْقَمَرِ الَّتِي مِنْهَا أَصْلُ مَنْبَعِ نِيلِ مِصْرَ،
وَيَتَجَاوَزُ خَطَّ الِاسْتِوَاءِ، ثُمَّ يَمْتَدُّ شَرْقًا، وَيَصِيرُ
جَنُوبِيَّ الْأَرْضِ، وَفِيهِ هُنَاكَ جَزَائِرُ الزَّنْجِ، وَعَلَى سَوَاحِلِهِ
خَرَابٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ يَمْتَدُّ شَرْقًا، وَشَمَالًا حَتَّى يَتَّصِلَ بِبَحْرِ
الصِّينِ وَالْهِنْدِ، ثُمَّ يَمْتَدُّ شَرْقًا حَتَّى يُسَامِتَ نِهَايَةَ
الْأَرْضِ الشَّرْقِيَّةِ الْمَكْشُوفَةِ، وَهُنَاكَ بِلَادُ الصِّينِ، ثُمَّ
يَنْعَطِفُ فِي شَرْقِ الصِّينِ إِلَى جِهَةِ الشَّمَالِ حَتَّى يُجَاوِزَ بِلَادَ
الصِّينِ، وَيُسَامِتَ سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، ثُمَّ يَنْعَطِفُ
وَيَسْتَدِيرُ عَلَى أَرْضٍ غَيْرِ مَعْلُومَةِ الْأَحْوَالِ، ثُمَّ يَمْتَدُّ
مَغْرِبًا فِي شَمَالِ الْأَرْضِ، وَيُسَامِتُ بِلَادَ الرُّوسِ وَيَتَجَاوَزُهَا،
وَيَعْطِفُ مَغْرِبًا وَجَنُوبًا، وَيَسْتَدِيرُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَعُودُ إِلَى
جِهَةِ الْغَرْبِ، وَيَنْبَثِقُ مِنَ الْغَرْبِيِّ إِلَى مَتْنِ الْأَرْضِ
الزُّقَاقِ الَّذِي يَنْتَهِي أَقْصَاهُ إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ مِنَ الْغَرْبِ،
ثُمَّ يَأْخُذُ فِي بِلَادِ الرُّومِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ،
وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِهِمْ.
وَيَنْبَعِثُ مِنَ الْمُحِيطِ الشَّرْقِيِّ بِحَارٌ أُخَرُ فِيهَا جَزَائِرُ
كَثِيرَةٌ حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ إِنَّ فِي بَحْرِ الْهِنْدِ أَلْفُ جَزِيرَةٍ
وَسَبْعُمِائَةِ جَزِيرَةٍ فِيهَا مُدُنٌ وَعِمَارَاتٌ سِوَى الْجَزَائِرِ
الْعَاطِلَةِ، وَيُقَالُ لَهَا: الْبَحْرُ الْأَخْضَرُ. فَشَرْقِيُّهُ بَحْرُ الصِّينِ،
وَغَرْبِيُّهُ بَحْرُ الْيَمَنِ، وَشَمَالُهُ بَحْرُ الْهِنْدِ، وَجَنُوبِيُّهُ
غَيْرُ مَعْلُومٍ.
وَذَكَرُوا أَنَّ بَيْنَ بَحْرِ الْهِنْدِ، وَبَحْرِ الصِّينِ جِبَالًا فَاصِلَةً
بَيْنَهُمَا، وَفِيهَا فِجَاجٌ تَسْلُكُ الْمَرَاكِبُ بَيْنَهَا يُسَيِّرُهَا لَهُمُ
الَّذِي خَلَقَهَا، كَمَا جُعِلَ مِثْلُهَا فِي الْبَرِّ أَيْضًا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 31 ]. وَقَدْ ذَكَرَ بَطْلَيْمُوسُ أَحَدُ مُلُوكِ الْهِنْدِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْمَجِسْطِي الَّذِي عُرِّبَ فِي زَمَانِ الْمَأْمُونِ، وَهُوَ أَصْلُ هَذِهِ الْعُلُومِ أَنَّ الْبِحَارَ الْمُتَفَجِّرَةَ مِنَ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ، وَالشَّرْقِيِّ وَالْجَنُوبِيِّ، وَالشَّمَالِيِّ كَثِيرَةٌ جِدًّا فَمِنْهَا مَا هُوَ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ يُسَمَّى بِحَسَبِ الْبِلَادِ الْمُتَاخِمَةِ لَهُ فَمِنْ ذَلِكَ بَحْرُ الْقُلْزُمِ، وَالْقُلْزُمُ قَرْيَةٌ عَلَى سَاحِلِهِ قَرِيبٌ مِنْ أَيْلَةَ، وَبَحْرُ فَارِسَ، وَبَحْرُ الْخَزَرِ، وَبَحْرُ وَرْنَكَ، وَبَحْرُ الرُّومِ، وَبَحْرُ بَنْطَشَ، وَبَحْرُ الْأَزْرَقِ مَدِينَةٌ عَلَى سَاحِلِهِ، وَهُوَ بَحْرُ الْقَرْمِ أَيْضًا، وَيَتَضَايَقُ حَتَّى يَصُبَّ فِي بَحْرِ الرُّومِ عِنْدَ جَنُوبِيِّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَهُوَ خَلِيجُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ ; وَلِهَذَا تُسْرِعُ الْمَرَاكِبُ فِي سَيْرِهَا مِنَ الْقَرْمِ إِلَى بَحْرِ الرُّومِ، وَتُبْطِيءُ إِذَا جَاءَتْ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ إِلَى الْقَرْمِ لِاسْتِقْبَالِهَا جَرَيَانَ الْمَاءِ، وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ كُلَّ مَاءٍ جَارٍ فَهُوَ حُلْوٌ إِلَّا هَذَا، وَكُلُّ بَحْرٍ رَاكِدٍ فَهُوَ مِلْحٌ أُجَاجٌ إِلَّا مَا يُذْكَرُ عَنْ بَحْرِ الْخَزَرِ وَهُوَ بَحْرُ جُرْجَانَ، وَبَحْرُ طَبَرِسْتَانَ أَنَّ فِيهِ قِطْعَةً كَبِيرَةً مَاءً حُلْوًا فُرَاتًا عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ الْمُسَافِرُونَ عَنْهُ. قَالَ أَهْلُ الْهَيْئَةِ: وَهُوَ بَحْرٌ مُسْتَدِيرُ الشَّكْلِ إِلَى الطُّولِ مَا هُوَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مُثَلَّثٌ كَالْقَلْعِ وَلَيْسَ هُوَ مُتَّصِلًا بِشَيْءٍ مِنَ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ بَلْ مُنْفَرِدٌ وَحْدَهُ، وَطُولُهُ ثَمَانُمِائَةِ مِيلٍ، وَعَرْضُهُ سِتُّمِائَةٍ. وَقِيلَ: أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ ذَلِكَ
الْبَحْرُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَدُّ وَالْجَزْرُ عِنْدَ الْبَصْرَةِ،
وَفِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ نَظِيرُهُ أَيْضًا يَتَزَايَدُ الْمَاءُ مِنْ أَوَّلِ
الشَّهْرِ، وَلَا يَزَالُ فِي زِيَادَةٍ إِلَى تَمَامِ اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةَ
عَشَرَ مِنْهُ وَهُوَ الْمَدُّ ثُمَّ يَشْرَعُ فِي النَّقْصِ وَهُوَ الْجَزْرُ
إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ.
وَقَدْ ذَكَرُوا تَحْدِيدَ هَذِهِ الْبِحَارِ وَمُبْتَدَاهَا وَمُنْتَهَاهَا.
وَذَكَرُوا مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْبُحَيْرَاتِ الْمُجْتَمِعَةِ مِنَ
الْأَنْهَارِ، وَغَيْرِهَا مِنَ السُّيُولِ، وَهِيَ الْبَطَائِحُ. وَذَكَرُوا مَا
فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَنْهَارِ الْمَشْهُورَةِ الْكِبَارِ، وَذَكَرُوا
ابْتِدَاءَهَا، وَانْتِهَاءَهَا.
وَلَسْنَا بِصَدَدِ بَسْطِ ذَلِكَ وَالتَّطْوِيلِ فِيهِ، وَإِنَّمَا نَتَكَلَّمُ
عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَنْهَارِ الْوَارِدِ ذِكْرُهَا فِي الْحَدِيثِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا
لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ
لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ
كَفَّارٌ [ إِبْرَاهِيمَ: 32 - 34 ]. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ
قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ: أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ سِدْرَةَ
الْمُنْتَهَى قَالَ: فَإِذَا يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ بَاطِنَانِ،
وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ ; فَأَمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا
الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ. وَفِي لَفْظٍ فِي الْبُخَارِيِّ "
عُنْصُرُهُمَا " أَيْ: مَادَّتُهُمَا أَوْ شَكْلُهُمَا، وَعَلَى صِفَتِهِمَا
وَنَعْتِهِمَا، وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا
الْأَسْمَاءُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
عَنْ
خُبَيْبِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ
وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَيَزِيدُ، أَنْبَأَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فُجِّرَتْ أَرْبَعَةُ
أَنْهَارٍ مِنَ الْجَنَّةِ الْفُرَاتُ وَالنِّيلُ وَسَيْحَانُ وَجَيْحَانُ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَكَأَنَّ الْمُرَادَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مِنْ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْأَنْهَارَ تُشْبِهُ أَنْهَارَ
الْجَنَّةِ فِي صَفَائِهَا وَعُذُوبَتِهَا وَجَرَيَانِهَا، وَمِنْ جِنْسِ تِلْكَ
فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَنَحْوِهَا كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْعَجْوَةُ مِنَ
الْجَنَّةِ، وَفِيهَا شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ. أَيْ تُشْبِهُ ثَمَرَ الْجَنَّةِ لَا
أَنَّهَا مُجْتَنَاةٌ مِنَ الْجَنَّةِ فَإِنَّ الْحِسَّ يَشْهَدُ بِخِلَافِ ذَلِكَ
فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ. وَكَذَا
قَوْلُهُ: شِدَّةُ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ. وَهَكَذَا هَذِهِ الْأَنْهَارُ
أَصْلُ مَنْبَعِهَا مُشَاهَدٌ مِنَ الْأَرْضِ.
أَمَّا النِّيلُ ;
وَهُوَ النَّهْرُ الَّذِي لَيْسَ فِي أَنْهَارِ الدُّنْيَا لَهُ نَظِيرٌ فِي
خِفَّتِهِ، وَلَطَافَتِهِ، وَبُعْدِ مَسْرَاهُ فِيمَا بَيْنَ مُبْتَدَاهُ إِلَى
مُنْتَهَاهُ فَمُبْتَدَاهُ مِنَ الْجِبَالِ الْقُمْرِ أَيِ الْبِيضِ. وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ: جِبَالُ الْقَمَرِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْكَوْكَبِ. وَهِيَ فِي
غَرْبِيِّ الْأَرْضِ وَرَاءَ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ إِلَى الْجَانِبِ الْجَنُوبِيِّ.
وَيُقَالُ: إِنَّهَا حُمْرٌ تَنْبُعُ مِنْ بَيْنِهَا عُيُونٌ، ثُمَّ تَجْتَمِعُ
مِنْ عَشْرِ مَسِيلَاتٍ مُتَبَاعِدَةٍ، ثُمَّ تَجْتَمِعُ كُلُّ خَمْسَةٍ مِنْهَا
فِي بَحْرٍ، ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْهَا أَنْهَارٌ سِتَّةٌ، ثُمَّ تَجْتَمِعُ كُلُّهَا
فِي بُحَيْرَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا نَهْرٌ وَاحِدٌ هُوَ النِّيلُ
فَيَمُرُّ عَلَى بِلَادِ السُّودَانِ بِالْحَبَشَةِ، ثُمَّ عَلَى النَّوْبَةِ،
وَمَدِينَتِهَا الْعُظْمَى دُمْقُلَةَ، ثُمَّ عَلَى أُسْوَانَ، ثُمَّ يَفِدُ عَلَى
دِيَارِ مِصْرَ، وَقَدْ تَحَمَّلَ إِلَيْهَا مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ زِيَادَاتِ
أَمْطَارِهَا، وَاجْتَرَفَ مِنْ تُرَابِهَا، وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِمَا مَعًا
; لِأَنَّ مَطَرَهَا قَلِيلٌ لَا يَكْفِي زُرُوعَهَا وَأَشْجَارَهَا، وَتُرْبَتَهَا
رِمَالٌ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا حَتَّى يَجِيءَ النِّيلُ بِزِيَادَتِهِ وَطِينِهِ
فَيَنْبُتُ فِيهِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَهِيَ مِنْ أَحَقِّ الْأَرَاضِي
بِدُخُولِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ
إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ
وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [ السَّجْدَةِ: 27 ].
ثُمَّ يَتَجَاوَزُ النِّيلُ مِصْرَ قَلِيلًا فَيَفْتَرِقُ شَطْرَيْنِ عِنْدَ
قَرْيَةٍ عَلَى شَاطِئِهِ يُقَالُ لَهَا شَطَنُوفُ فَيَمُرُّ الْغَرْبِيُّ عَلَى
رَشِيدٍ، وَيَصُبُّ فِي الْبَحْرِ الْمَالِحِ، وَأَمَّا الشَّرْقِيُّ فَتَفْتَرِقُ
أَيْضًا عِنْدَ جَوْجَرَ فِرْقَتَيْنِ تَمُرُّ الْغَرْبِيَّةُ مِنْهُمَا عَلَى
دِمْيَاطَ مِنْ غَرْبِيِّهَا، وَيَصُبُّ فِي الْبَحْرِ، وَالشَّرْقِيَّةُ
مِنْهُمَا
تَمُرُّ عَلَى
أَشْمُونِ طَنَّاحٍ فَيَصُبُّ هُنَاكَ فِي بُحَيْرَةٍ شَرْقِيِّ دِمْيَاطَ يُقَالُ
لَهَا بُحَيْرَةُ تَنِّيسَ، وَبُحَيْرَةُ دِمْيَاطَ، وَهَذَا بُعْدٌ عَظِيمٌ
فِيمَا بَيْنَ مُبْتَدَاهُ إِلَى مُنْتَهَاهُ ; وَلِهَذَا كَانَ أَلْطَفَ
الْمِيَاهِ قَالَ ابْنُ سِينَا: لَهُ خُصُوصِيَّاتٌ دُونَ مِيَاهِ سَائِرِ
الْأَرْضِ فَمِنْهَا أَنَّهُ أَبْعَدُهَا مَسَافَةً مِنْ مَجْرَاهُ إِلَى
أَقْصَاهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَجْرِي عَلَى صُخُورٍ، وَرِمَالٍ لَيْسَ فِيهِ
خَزٌّ وَلَا طُحْلُبٌ وَلَا أَوْحَالٌ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَخْضَرُّ فِيهِ
حَجَرٌ وَلَا حَصَاةٌ ; وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِصِحَّةِ مِزَاجِهِ، وَحَلَاوَتِهِ
وَلَطَافَتِهِ، وَمِنْهَا أَنَّ زِيَادَتَهُ فِي أَيَّامِ نُقْصَانِ سَائِرِ
الْأَنْهَارِ، وَنُقْصَانَهُ فِي أَيَّامِ زِيَادَتِهَا، وَكَثْرَتِهَا، وَأَمَّا
مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ أَصْلَ مَنْبَعِ النِّيلِ مِنْ مَكَانٍ
مُرْتَفِعٍ اطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ فَرَأَى هُنَاكَ هَوْلًا عَظِيمًا،
وَجَوَارِيَ حِسَانًا، وَأَشْيَاءَ غَرِيبَةً، وَأَنَّ الَّذِي اطَّلَعَ عَلَى
ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ بَعْدَ هَذَا فَهُوَ مِنْ خُرَافَاتِ
الْمُؤَرِّخِينَ، وَهَذَيَانَاتِ الْأَفَّاكِينَ.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَمَّنْ
حَدَّثَهُ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ مِصْرُ أَتَى أَهْلُهَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ
حِينَ دَخَلَ شَهْرُ بَؤُونَةَ مِنْ أَشْهُرِ الْعَجَمِ الْقِبْطِيَّةِ فَقَالُوا:
يَا أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنَّ لِنِيلِنَا هَذَا سُنَّةً لَا يَجْرِي إِلَّا
بِهَا. فَقَالَ لَهُمْ: وَمَا ذَاكَ قَالُوا: إِذَا كَانَ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ
لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ عَمَدْنَا إِلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ بَيْنَ
أَبَوَيْهَا فَأَرْضَيْنَا أَبَوَيْهَا، وَجَعَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الْحَلْيِ،
وَالثِّيَابِ أَفْضَلَ مَا يَكُونُ، ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي هَذَا النِّيلِ.
فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: إِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ
الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ. فَأَقَامُوا بَؤُونَةَ، وَالنِّيلُ لَا
يَجْرِي لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. وَفِي رِوَايَةٍ فَأَقَامُوا بَؤُونَةَ،
وَأَبِيبَ، وَمِسْرَى، وَهُوَ لَا يَجْرِي حَتَّى هَمُّوا بِالْجَلَاءِ، فَكَتَبَ
عَمْرٌو إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ إِنَّكَ
قَدْ أَصَبْتَ بِالَّذِي فَعَلْتَ، وَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ
بِطَاقَةً دَاخِلَ
كِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهَا فِي النِّيلِ. فَلَمَّا قَدِمَ كِتَابُهُ أَخَذَ
عَمْرٌو الْبِطَاقَةَ فَفَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نِيلِ مِصْرَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا
تَجْرِي مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ فَلَا تَجْرِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ هُوَ الَّذِي يُجْرِيكَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُجْرِيَكَ.
فَأَلْقَى عَمْرٌو الْبِطَاقَةَ فِي النِّيلِ فَأَصْبَحَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَقَدْ
أَجْرَى اللَّهُ النِّيلَ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ،
وَقَطَعَ اللَّهُ تِلْكَ السُّنَّةَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى الْيَوْمِ.
وَأَمَّا الْفُرَاتُ فَأَصْلُهَا مِنْ شَمَالِيِّ أَرْزَنِ الرُّومِ فَتَمُرُّ
إِلَى قُرْبِ مَلْطِيَّةَ، ثُمَّ تَمُرُّ عَلَى سُمَيْسَاطَ، ثُمَّ عَلَى
إِلْبِيرَةَ قِبْلِيَّهَا، ثُمَّ تُشَرِّقُ إِلَى بَالِسَ، وَقَلْعَةِ جَعْبَرَ،
ثُمَّ إِلَى الرَّقَّةِ، ثُمَّ إِلَى الرَّحْبَةِ شَمَالَيَّهَا، ثُمَّ إِلَى
عَانَةَ، ثُمَّ إِلَى هِيتَ، ثُمَّ إِلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ تَخْرُجُ إِلَى
فَضَاءِ الْعِرَاقِ، وَتَصُبُّ فِي بِطَائِحَ كِبَارٍ أَيْ بُحَيْرَاتٍ، وَتَرُدُّ
إِلَيْهَا، وَتَخْرُجُ مِنْهَا أَنْهَارٌ كِبَارٌ مَعْرُوفَةٌ تَصُبُّ فِي
الْبَصْرَةِ.
وَأَمَّا سَيْحَانُ، وَيُقَالُ لَهُ سَيْحُونَ أَيْضًا فَأَوَّلُهُ مِنْ بِلَادِ
الرُّومِ، وَيَجْرِي مِنَ الشَّمَالِ، وَالْغَرْبِ إِلَى الْجَنُوبِ وَالشَّرْقِ،
وَهُوَ غَرْبِيُّ مَجْرَى
جَيْحَانَ،
وَدُونَهُ فِي الْقَدْرِ، وَهُوَ بِبِلَادِ الْأَرْمَنِ الَّتِي تُعْرَفُ
الْيَوْمَ بِبِلَادِ سِيسَ، وَقَدْ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الدَّوْلَةِ
الْإِسْلَامِيَّةِ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا تَغَلَّبَ
الْفَاطِمِيُّونَ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَلَكُوا الشَّامَ
وَأَعْمَالَهَا عَجَزُوا عَنْ صَوْنِهَا، مِنَ الْأَعْدَاءِ فَتَغَلَّبَ نِقْفُورُ
الْأَرْمَنِيُّ عَلَى هَذِهِ الْبِلَادِ أَعْنِي بِلَادَ سِيسَ فِي حُدُودِ
الثَّلَاثِمِائَةِ وَإِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَاللَّهُ الْمَسْؤُولُ عَوْدَهَا
إِلَيْنَا بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ. ثُمَّ يَجْتَمِعُ سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ عِنْدَ
أَذَنَةَ فَيَصِيرَانِ نَهْرًا وَاحِدًا، ثُمَّ يَصُبَّانِ فِي بَحْرِ الرُّومِ
بَيْنَ إِيَاسَ، وَطَرْسُوسَ.
وَأَمَّا جَيْحَانُ، وَيُقَالُ لَهُ جَيْحُونُ أَيْضًا، وَتُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ
جَاهَانَ، وَأَصْلُهُ فِي بِلَادِ الرُّومِ، وَيَسِيرُ فِي بِلَادِ سِيسَ مِنَ
الشَّمَالِ إِلَى الْجَنُوبِ، وَهُوَ يُقَارِبُ الْفُرَاتَ فِي الْقَدْرِ، ثُمَّ
يَجْتَمِعُ هُوَ وَسَيْحَانُ عِنْدَ أَذَنَةَ فَيَصِيرَانِ نَهْرًا وَاحِدًا،
ثُمَّ يَصُبَّانِ فِي الْبَحْرِ عِنْدَ إِيَاسَ، وَطَرْسُوسَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ
أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ
وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ الرَّعْدِ: 2 - 4 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَمَّنْ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا
شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ
الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ
وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرِينِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ [ النَّمْلِ: 60، 61 ]. وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ
وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ
مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا
ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً
لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [ النَّحْلِ: 10 - 13 ].
فَذَكَرَ تَعَالَى
مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِبَالِ، وَالْأَشْجَارِ، وَالثِّمَارِ،
وَالسُّهُولِ، وَالْأَوْعَارِ، وَمَا خَلَقَ مِنْ صُنُوفِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ
الْجَمَادَاتِ، وَالْحَيَوَانَاتِ فِي الْبَرَارِي، وَالْقِفَارِ، وَالْبِحَارِ
مَا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ،
وَمَا سَهَّلَ لِكُلِّ دَابَّةٍ مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي هِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ
فِي لَيْلِهَا وَنَهَارِهَا، وَصَيْفِهَا وَشِتَائِهَا، وَصَبَاحِهَا وَمَسَائِهَا
كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ
رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
[ هُودٍ: 6 ].
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ
عُبَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: خَلَقَ
اللَّهُ أَلْفَ أُمَّةٍ مِنْهَا سِتُّمِائَةٍ فِي الْبَحْرِ، وَأَرْبَعُمِائَةٍ
فِي الْبَرِّ، وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَهْلِكُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ الْجَرَادُ
فَإِذَا هَلَكَ تَتَابَعَتْ مِثْلَ النِّظَامِ إِذَا قُطِعَ سِلْكُهُ. عُبَيْدُ
بْنُ وَاقِدٍ أَبُو عَبَّادٍ الْبَصْرِيُّ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَالَ ابْنُ
عَدِيٍّ عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ، وَشَيْخُهُ أَضْعَفُ
مِنْهُ قَالَ الْفَلَّاسُ، وَالْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو
زُرْعَةَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَدَّثَ عَنْهُ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ،
وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عَدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ
بِعَيْنِهِ وَغَيْرَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ
بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ
شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [ الْأَنْعَامِ: 38 ].
بَابُ ذِكْرِ مَا
يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْآيَاتِ
قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ كَمَا قَالَ
تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى
إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
[ الْبَقَرَةِ: 29 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي
خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ
الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا
وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ
ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا
السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ [ فُصِّلَتْ: 9 - 12 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا
أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا
وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [ النَّازِعَاتِ: 27 - 30
]. وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْ قَوْلِهِ " وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا
" بِأَنَّ الدَّحْيَ غَيْرُ الْخَلْقِ، وَهُوَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ.
وَقَالَ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ
هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ
الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ
عَذَابَ السَّعِيرِ [ الْمُلْكِ: 1 - 5 ].
وَقَالَ تَعَالَى: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [ النَّبَأِ: 12 - 13 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [ نُوحٍ: 15 - 16 ]. وَقَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [ الطَّلَاقِ: 12 ]. وَقَالَ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [ الْفُرْقَانِ: 61 - 62 ]. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [ الصَّافَّاتِ: 6 - 10 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [ الْحِجْرِ: 16 - 18 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [ الذَّارِيَاتِ: 47 ].
وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ
آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 32 - 33 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ
مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ
الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا
اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ يس: 37 - 40 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [ الْأَنْعَامِ: 96 - 97 ].
وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي
اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ
مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ
رَبُّ الْعَالَمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 54 ]. وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ
جِدًّا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى كُلٍّ مِنْهَا فِي التَّفْسِيرِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْبِرُ عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَعَظَمَةِ
اتِّسَاعِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَأَنَّهَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْبَهَاءِ
وَالْكَمَالِ وَالسَّنَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [
الذَّارِيَاتِ: 7 ]. أَيِ الْخَلْقِ
الْحَسَنِ. وَقَالَ
تَعَالَى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ
كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [ الْمُلْكِ:
3 - 4 ]. أَيْ خَاسِئًا عَنْ أَنْ يَرَى فِيهَا نَقْصًا أَوْ خَلَلًا. وَهُوَ
حَسِيرٌ أَيْ كَلَيْلٌ ضَعِيفٌ، وَلَوْ نَظَرَ حَتَّى يَعْيَ وَيَكِلَّ وَيَضْعُفَ
لَمَا اطَّلَعَ عَلَى نَقْصٍ فِيهَا وَلَا عَيْبٍ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ
أَحْكَمَ خَلْقَهَا، وَزَيَّنَ بِالْكَوَاكِبِ أُفُقَهَا كَمَا قَالَ:
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [ الْبُرُوجِ: 1 ]. أَيِ النُّجُومِ. وَقِيلَ:
مَحَالُّ الْحَرَسِ الَّتِي يُرْمَى مِنْهَا بِالشُّهُبِ لِمُسْتَرِقِ السَّمْعِ،
وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلِقَدْ جَعَلْنَا فِي
السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ
رَجِيمٍ [ الْحِجْرِ: 16 - 17 ]. فَذَكَرَ أَنَّهُ زَيَّنَ مَنْظَرَهَا
بِالْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ ; الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ،
وَالنُّجُومِ الزَّاهِرَاتِ، وَأَنَّهُ صَانَ حَوْزَتَهَا عَنْ حُلُولِ
الشَّيَاطِينِ بِهَا، وَهَذَا زِينَةُ مَعْنًى فَقَالَ: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ
شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. كَمَا قَالَ: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ
إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى [ الصَّافَّاتِ: 6 - 8 ].
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ: وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلَقَدْ
زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [ الْمُلْكِ: 5 ]. خَلَقَ هَذِهِ
النُّجُومَ لِثَلَاثٍ ; جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا
لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا. فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا بِغَيْرِ
ذَلِكَ أَخْطَأَ
وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ قَتَادَةُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا
السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [
الْمُلْكِ: 5 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ
لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [ الْأَنْعَامِ: 97 ].
فَمَنْ تَكَلَّفَ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثِ أَيْ مَنْ عِلْمِ أَحْكَامِ مَا
تَدُلُّ عَلَيْهِ حَرَكَاتُهَا، وَمُقَارَنَاتُهَا فِي سَيْرِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ
يَدُلُّ عَلَى حَوَادِثَ أَرْضِيةٍ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ
كَلَامِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا حَدْسٌ وَظُنُونٌ كَاذِبَةٌ
وَدَعَاوَى بَاطِلَةٌ. وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
طِبَاقًا أَيْ ; وَاحِدَةً فَوْقَ وَاحِدَةٍ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ هَلْ هُنَّ مُتَرَاكِمَاتٍ ؟ أَوْ
مُتَفَاصِلَاتٍ بَيْنَهُنَّ خَلَاءٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالصَّحِيحُ الثَّانِي ;
لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنِ الْأَحْنَفِ،
عَنِ الْعَبَّاسِ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ
خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَمِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ،
وَكَثِفُ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ. الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ رَوَاهُ
أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ قَالَ فِيهِ:
وَوَجَدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا أَبُوكَ
آدَمُ. فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ مَرْحَبًا
وَأَهْلًا بِابْنِي نِعَمَ الِابْنُ أَنْتَ. إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ عَرَجَ بِي
إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ. وَكَذَا ذَكَرَ فِي الثَّالِثَةِ، وَالرَّابِعَةِ،
وَالْخَامِسَةِ، وَالسَّادِسَةِ، وَالسَّابِعَةِ. فَدَلَّ عَلَى التَّفَاصُلِ
بَيْنَهَا لِقَوْلِهِ: ثُمَّ عُرِجَ بِنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ
الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ
فَقِيلَ مَنْ هَذَا
؟. إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ، وَابْنُ الْمُنَادِي، وَأَبُو الْفَرَجِ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ
السَّمَاوَاتِ كُرِّيَّةٌ مُسْتَدِيرَةٌ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ يس: 40 ]. قَالَ الْحَسَنُ: يَدُورُونَ، وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ فِي فَلْكَةٍ مِثْلِ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى
ذَلِكَ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنَ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ تَطْلُعُ
فِي آخِرِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لَوْنُهَا
يَتَوَرَّدُ لَيْسَتْ بِطَالِعَةٍ لَهُمْ فِي رِسْلِهَا
إِلَّا مُعَذَّبَةً وَإِلَّا تُجْلَدُ
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ قُلْتُ: اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ
الْعَرْشِ فَتَسْتَأْذِنُ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا
يُقْبَلُ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنُ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا يُقَالُ لَهَا ارْجِعِي
مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
).
هَذَا لَفْظُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ. وَرَوَاهُ فِي التَّفْسِيرِ، وَفِي
التَّوْحِيدِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ أَيْضًا. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي
الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، وَمِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ،
وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِهِ
نَحْوَهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ لَا يُعَارِضُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ اسْتِدَارَةِ
الْأَفْلَاكِ الَّتِي هِيَ السَّمَاوَاتُ عَلَى أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ، وَلَا
يَدُلُّ عَلَى كُرِّيَّةِ الْعَرْشِ كَمَا زَعَمَهُ زَاعِمُونَ قَدْ أَبْطَلْنَا
قَوْلَهُمْ فِيمَا سَلَفَ. وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَصْعَدُ إِلَى فَوْقِ
السَّمَاوَاتِ مِنْ جِهَتِنَا حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ بَلْ هِيَ
تَغْرُبُ عَنْ أَعْيُنِنَا، وَهِيَ مُسْتَمِرَّةٌ فِي فَلَكِهَا الَّذِي هِيَ
فِيهِ، وَهُوَ الرَّابِعُ فِيمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ
التَّسْيِيرِ، وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَنْفِيهِ، بَلْ فِي الْحِسِّ وَهُوَ
الْكُسُوفَاتُ مَا
يَدُلُّ عَلَيْهِ وَيَقْتَضِيهِ فَإِذَا ذَهَبَتْ فِيهِ حَتَّى تَتَوَسَّطَهُ
وَهُوَ وَقْتُ نِصْفِ اللَّيْلِ مَثَلًا فِي اعْتِدَالِ الزَّمَانِ، بِحَيْثُ
يَكُونُ بَيْنَ الْقُطْبَيْنِ الْجَنُوبِيِّ وَالشَّمَالِيِّ فَإِنَّهَا تَكُونُ
أَبْعَدَ مَا يَكُونُ مِنَ الْعَرْشِ ; لِأَنَّهُ مُقَبَّبٌ مِنْ جِهَةِ وَجْهِ
الْعَالَمِ، وَهَذَا مَحَلُّ سُجُودِهَا كَمَا يُنَاسِبُهَا، كَمَا أَنَّهَا
أَقْرَبُ مَا تَكُونُ مِنَ الْعَرْشِ وَقْتَ الزَّوَالِ مِنْ جِهَتِنَا، فَإِذَا
كَانَتْ فِي مَحَلِّ سُجُودِهَا اسْتَأْذَنَتِ الرَّبَّ جَلَّ جَلَالُهُ فِي
طُلُوعِهَا مِنَ الشَّرْقِ، فَيُؤْذَنُ لَهَا، فَتَبْدُو مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ،
وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ كَارِهَةٌ لِعُصَاةِ بَنِي آدَمَ أَنْ تَطْلُعَ عَلَيْهِمْ،
وَلِهَذَا قَالَ أُمَيَّةُ:
لَيْسَتْ بِطَالِعَةٍ لَهُمْ فِي رِسْلِهَا إِلَّا مُعَذَّبَةً وَإِلَّا تُجْلَدُ
فَإِذَا كَانَ الْوَقْتُ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ طُلُوعَهَا فِيهِ مِنْ جِهَةِ
مَغْرِبِهَا تَسْجُدُ عَلَى عَادَتِهَا، وَتَسْتَأْذِنُ فِي الطُّلُوعِ مِنْ
عَادَتِهَا فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا، فَجَاءَ أَنَّهَا تَسْجُدُ أَيْضًا، ثُمَّ
تَسْتَأْذِنُ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا، ثُمَّ تَسْجُدُ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا،
وَتَطُولُ تِلْكَ اللَّيْلَةُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ، فَتَقُولُ: يَا
رَبِّ إِنَّ الْفَجْرَ قَدِ اقْتَرَبَ، وَإِنَّ الْمَدَى بَعِيدٌ. فَيُقَالُ لَهَا
ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ
آمَنُوا جَمِيعًا، وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ
آمَنَتْ مِنْ
قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا. وَفَسَّرُوا بِذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [ يس: 38 ]. قِيلَ: لِوَقْتِهَا الَّذِي تُؤْمَرُ فِيهِ أَنْ تَطْلُعَ مِنْ مَغْرِبِهَا وَقِيلَ: مُسْتَقَرُّهَا مَوْضِعُهَا الَّذِي تَسْجُدُ فِيهِ تَحْتَ الْعَرْشِ. وَقِيلَ: مُنْتَهَى سَيْرِهَا وَهُوَ آخِرُ الدُّنْيَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لَا مُسْتَقَرَّ لَهَا أَيْ لَيْسَتْ تَسْتَقِرُّ فَعَلَى هَذَا تَسْجُدُ، وَهِيَ سَائِرَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ يس: 40 ]. أَيْ لَا تُدْرِكُ الشَّمْسُ الْقَمَرَ فَتَطْلُعُ فِي سُلْطَانِهِ وَدَوْلَتِهِ، وَلَا هُوَ أَيْضًا وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ. أَيْ: لَيْسَ سَابِقَهُ بِمَسَافَةٍ يَتَأَخَّرُ ذَاكَ عَنْهُ فِيهَا بَلْ إِذَا ذَهَبَ النَّهَارُ جَاءَ اللَّيْلُ فِي إِثْرِهِ مُتَعَقِّبًا لَهُ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 54 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [ الْفُرْقَانِ: 62 ]. أَيْ: يُخْلِفُ هَذَا لِهَذَا وَهَذَا لِهَذَا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ
الشَّمْسُ فَقَدْ
أَفْطَرَ الصَّائِمُ. فَالزَّمَانُ الْمُحَقِّقُ يَنْقَسِمُ إِلَى لَيْلٍ
وَنَهَارٍ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا غَيْرُهُمَا ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: يُولِجُ
اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [ فَاطِرٍ: 13 ]. أَيْ: يُولِجُ مِنْ
هَذَا فِي هَذَا أَيْ: يَأْخُذُ مِنْ طُولِ هَذَا فِي قَصْرِ هَذَا
فَيَعْتَدِلَانِ كَمَا فِي أَوَّلِ فَصْلِ الرَّبِيعِ ; يَكُونُ اللَّيْلُ قَبْلَ
ذَلِكَ طَوِيلًا وَالنَّهَارُ قَصِيرًا، فَلَا يَزَالُ اللَّيْلُ يَنْقُصُ
وَالنَّهَارُ يَتَزَايَدُ حَتَّى يَعْتَدِلَا وَهُوَ أَوَّلُ الرَّبِيعِ، ثُمَّ
يَشْرَعُ النَّهَارُ يَطُولُ وَيَتَزَايَدُ، وَاللَّيْلُ يَتَنَاقَصُ إِلَى آخِرِ
فَصْلِ الرَّبِيعِ، ثُمَّ يَتَرَاجَعُ الْأَمْرُ وَيَنْعَكِسُ الْحَالُ فَيَشْرَعُ
النَّهَارُ يَتَنَاقَصُ وَاللَّيْلُ فِي ازْدِيَادٍ حَتَّى يَعْتَدِلَا أَيْضًا
فِي أَوَّلِ فَصْلِ الْخَرِيفِ، ثُمَّ يَشْرَعُ اللَّيْلُ يَطُولُ وَيَقْصُرُ
النَّهَارُ إِلَى آخِرِ فَصْلِ الْخَرِيفِ، ثُمَّ يَتَرَجَّحُ النَّهَارُ قَلِيلًا
قَلِيلًا، وَيَتَنَاقَصُ اللَّيْلُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَعْتَدِلَا فِي
أَوَّلِ فَصْلِ الرَّبِيعِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَهَكَذَا فِي كُلِّ عَامٍ،
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [
الْمُؤْمِنُونَ: 80 ]. أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الْحَاكِمُ
الَّذِي لَا يُخَالِفُ وَلَا يُمَانِعُ ; وَلِهَذَا يَقُولُ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ عِنْدَ
ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ، وَالنُّجُومِ، وَاللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ: ذَلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ الْأَنْعَامِ: 80، يس: 38، فُصِّلَتْ: 12 ]. أَيِ
الْعَزِيزِ الَّذِي قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، وَدَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ فَلَا
يُمَانَعُ، وَلَا يُغَالَبُ، الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَقَدَّرَ كُلَّ شَيْءٍ
تَقْدِيرًا عَلَى نِظَامٍ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَضْطَرِبُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ،
وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَفِي
رِوَايَةٍ فَأَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ ; كَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ
سَلَّامٍ، وَغَيْرِهِمَا: يَسُبُّ الدَّهْرَ أَيْ يَقُولُ فَعَلَ بِنَا الدَّهْرُ
كَذَا يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ أَيْتَمَ الْأَوْلَادَ أَرْمَلَ النِّسَاءَ. قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنَا الدَّهْرُ. أَيْ أَنَا الدَّهْرُ الَّذِي يَعْنِيهِ
فَإِنَّهُ فَاعِلُ ذَلِكَ الَّذِي أَسْنَدَهُ إِلَى الدَّهْرِ، وَالدَّهْرُ
مَخْلُوقٌ، وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ فَهُوَ يَسُبُّ
فَاعِلَ ذَلِكَ، وَيَعْتَقِدُهُ الدَّهْرَ، وَاللَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ
الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْمُتَصَرِّفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ: وَأَنَا
الدَّهْرُ بِيَدِيَ الْأَمْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ. وَكَمَا قَالَ
تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ
الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ
بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي
النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ [ آلِ عِمْرَانَ: 26 - 27 ]. وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ
[ يُونُسَ: 5 - 6 ].
أَيْ فَاوَتَ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي نُورِهِمَا، وَفِي شَكْلِهِمَا، وَفِي وَقْتِهِمَا، وَفِي سَيْرِهِمَا فَجَعَلَ هَذَا ضِيَاءً وَهُوَ شُعَاعُ الشَّمْسِ بُرْهَانٌ سَاطِعٌ وَضَوْءٌ بَاهِرٌ، وَالْقَمَرَ نُورًا، أَيْ أَضْعَفُ مِنْ بُرْهَانِ الشَّمْسِ، وَجَعَلَهُ مُسْتَفَادًا مِنْ ضَوْئِهَا، وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ. أَيْ يَطَّلِعُ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ صَغِيرًا ضَئِيلًا قَلِيلَ النُّورِ لِقُرْبِهِ مِنَ الشَّمْسِ، وَقِلَّةِ مُقَابَلَتِهِ لَهَا فَبِقَدْرِ مُقَابَلَتِهِ لَهَا يَكُونُ نُورُهُ ; وَلِهَذَا فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْهَا بِضِعْفِ مَا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الْأَوْلَى فَيَكُونُ نُورُهُ بِضِعْفِ النُّورِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ، ثُمَّ كُلَّمَا بَعُدَ ازْدَادَ نُورُهُ حَتَّى يَتَكَامَلَ إِبْدَارُهُ لَيْلَةَ مُقَابَلَتِهِ إِيَّاهَا مِنَ الْمَشْرِقِ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنَ الشَّهْرِ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي النَّقْصِ لِاقْتِرَابِهِ إِلَيْهَا مِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ، فَيَسْتَتِرُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الثَّانِي فَبِهِ تُعْرَفُ الشُّهُورُ، وَبِالشَّمْسِ تُعْرَفُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ، وَبِذَلِكَ تُعْرَفُ السِّنُونَ وَالْأَعْوَامُ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [ يُونُسَ: 5 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [ الْإِسْرَاءِ: 12 ]. وَقَالَ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ: 189 ]. وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ عَلَى هَذَا كُلِّهِ فِي التَّفْسِيرِ.
فَالْكَوَاكِبُ
الَّتِي فِي السَّمَاءِ مِنْهَا سَيَّارَاتٌ ; وَهِيَ الْمُتَحَيِّرَةُ فِي
اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ التَّسْيِيرِ، وَهُوَ عِلْمٌ غَالِبُهُ صَحِيحٌ بِخِلَافِ
عِلْمِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّ غَالِبَهُ بَاطِلٌ، وَدَعْوَى مَا لَا دَلِيلَ
عَلَيْهِ، وَهِيَ سَبْعَةٌ ; الْقَمَرُ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَعُطَارِدُ فِي
الثَّانِيَةِ، وَالزُّهْرَةُ فِي الثَّالِثَةِ، وَالشَّمْسُ فِي الرَّابِعَةِ،
وَالْمِرِّيخُ فِي الْخَامِسَةِ، وَالْمُشْتَرَى فِي السَّادِسَةِ، وَزُحَلُ فِي
السَّابِعَةِ. وَبَقِيَّةُ الْكَوَاكِبِ يُسَمُّونَهَا الثَّوَابِتَ، وَهِيَ
عِنْدَهُمْ فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ، وَهُوَ الْكُرْسِيُّ فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ
مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْكَوَاكِبُ كُلُّهَا فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَلَا
مَانِعَ مِنْ كَوْنَ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى هَذَا
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ
وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [ الْمُلْكِ: 5 ]. وَبِقَوْلِهِ:
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ
أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ فُصِّلَتْ: 12 ]. فَخَصَّ سَمَاءَ الدُّنْيَا
مِنْ بَيْنِهِنَّ بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ فَإِنْ دَلَّ هَذَا عَلَى كَوْنِهَا
مُرَصَّعَةً فِيهَا فَذَاكَ وَإِلَّا فَلَا مَانِعَ مِمَّا قَالَهُ الْآخَرُونَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَفْلَاكَ السَّبْعَةَ بَلِ الثَّمَانِيَةَ تَدُورُ بِمَا
فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ فِي الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ دَوْرَةً كُلِّيَّةً مِنَ الشَّرْقِ إِلَى الْغَرْبِ، وَعِنْدَهُمْ
أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَاتِ يَدُورُ عَلَى خِلَافِ
فَلَكِهِ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ ; فَالْقَمَرُ يَقْطَعُ فَلَكَهُ فِي
شَهْرٍ، وَالشَّمْسُ تَقْطَعُ فَلَكَهَا وَهُوَ الرَّابِعُ فِي سَنَةٍ فَإِذَا
كَانَ السَّيْرَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ، وَحَرَكَاتُهُمَا
مُتَقَارِبَةٌ كَانَ
قَدْرُ السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ بِقَدْرِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثِنْتَيْ عَشْرَةَ
مَرَّةً، وَزُحَلُ يَقْطَعُ فَلَكَهُ وَهُوَ السَّابِعُ فِي ثَلَاثِينَ سَنَةً،
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِقَدْرِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثَلَثُمِائَةٍ وَسِتِّينَ
مَرَّةً.
وَقَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى مَقَادِيرِ أَجْرَامِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ وَسِيَرِهَا
وَحَرَكَاتِهَا، وَتَوَسَّعُوا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى تَعَدَّوْا إِلَى
عِلْمِ الْأَحْكَامِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْحَوَادِثِ
الْأَرْضِيَّةِ، وَمِمَّا لَا عِلْمَ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ بِهِ. وَقَدْ كَانَ
الْيُونَانِيُّونَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْكُنُونَ الشَّامَ قَبْلَ زَمَنِ
الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدُهُورٍ لَهُمْ فِي هَذَا كَلَامٌ كَثِيرٌ
يَطُولُ بَسْطُهُ، وَهُمُ الَّذِينَ بَنَوْا مَدِينَةَ دِمَشْقَ، وَجَعَلُوا لَهَا
أَبْوَابًا سَبْعَةً، وَجَعَلُوا عَلَى رَأْسِ كُلِّ بَابٍ هَيْكَلًا عَلَى صِفَةِ
الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ يَعْبُدُونَ كُلَّ وَاحِدٍ فِي هَيْكَلِهِ،
وَيَدْعُونَهُ بِدُعَاءٍ يَأْثَرُهُ عَنْهُمْ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ
التَّوَارِيخِ وَغَيْرِهِمْ. وَذَكَرُهُ صَاحِبُ " السِّرِّ الْمَكْتُومِ فِي
مُخَاطَبَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ " وَهُوَ خُرَافَاتٌ لَا
يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا. وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَرَّنَانِيِّينَ فَلَاسِفَةِ
حَرَّانَ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَقَدْ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ
الْكَوَاكِبَ السَّبْعَ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الصَّابِئِينَ، وَلِهَذَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [ فُصِّلَتْ: 37 ].
وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا
عَنِ الْهُدْهُدِ أَنَّهُ قَالَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُخْبِرًا عَنْ بِلْقِيسَ وَجُنُودِهَا ; مَلِكَةِ سَبَأٍ فِي الْيَمَنِ وَمَا وَالَاهَا: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [ النَّمْلِ: 23 26 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [ الْحَجِّ: 18 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ النَّحْلِ: 48 50 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [ الرَّعْدِ: 15 ]. وَقَالَ تَعَالَى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [ الْإِسْرَاءِ: 44 ]. وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَلِمَّا كَانَ
أَشْرَفُ الْأَجْرَامِ الْمُشَاهَدَةِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هِيَ
الْكَوَاكِبَ، وَأَشْرَقُهُنَّ مَنْظَرًا، وَأَشْرَفُهُنَّ مُعْتَبَرًا الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ، اسْتَدَلَّ الْخَلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ شَيْءٍ
مِنْهُنَّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا
قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي
لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً
قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [
الْأَنْعَامِ: 77 - 79 ]. فَبَيَّنَ بِطْرِيقِ الْبُرْهَانِ الْقَطْعِيِّ أَنَّ
هَذِهِ الْأَجْرَامَ الْمُشَاهَدَاتِ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ
لَا يَصْلُحُ شَيْءٌ مِنْهَا لِلْإِلَهِيَّةِ ; لِأَنَّهَا كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ
مَرْبُوبَةٌ مُدَبَّرَةٌ مُسَخَّرَةٌ فِي سَيْرِهَا لَا تَحِيدُ عَمَّا خُلِقَتْ
لَهُ، وَلَا تَزِيغُ عَنْهُ إِلَّا بِتَقْدِيرٍ مُتْقَنٍ مُحَرَّرٍ لَا تَضْطَرِبُ
وَلَا تَخْتَلِفُ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهَا مَرْبُوبَةٌ مَصْنُوعَةٌ
مُسَخَّرَةٌ مَقْهُورَةٌ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ
وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ
وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [
فُصِّلَتْ: 37 ].
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ،
وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَئِذٍ
أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
الْمُخْتَارِ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الدَّانَاجُ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ،
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا
السِّيَاقِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ زِيَادٍ الْبَغْدَادِيُّ،
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
الْمُخْتَارِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الدَّانَاجِ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ زَمَنَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ فِي هَذَا
الْمَسْجِدِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، وَجَاءَ الْحَسَنُ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَحَدَّثَ
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثَوْرَانِ فِي النَّارِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ الْحَسَنُ: وَمَا ذَنْبُهُمَا ؟ فَقَالَ: أُحَدِّثُكَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ وَمَا
ذَنْبُهُمَا ؟ ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا
مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يَرْوِ عَبْدُ اللَّهِ الدَّانَاجُ، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ
الرَّقَاشِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ فِي
النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ،
وَعَمْرُو
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ
بَجِيلَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [ التَّكْوِيرِ: 1 ].
قَالَ: يُكَوِّرُ اللَّهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فِي الْبَحْرِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا دَبُورًا فَتُضْرِمُهَا نَارًا.
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ مَخْلُوقَاتِ
اللَّهِ خَلَقَهَا اللَّهُ لِمَا أَرَادَ، ثُمَّ يَفْعَلُ فِيهَا مَا يَشَاءُ،
وَلَهُ الْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ، وَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، فَلَا يُسْأَلُ
عَمَّا يَفْعَلُ لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ
وَحُكْمِهِ الَّذِي لَا يُرَدُّ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ
فِي أَوَّلِ كِتَابِ " السِّيرَةِ " مِنَ الشِّعْرِ لِزَيْدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هِيَ لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
إِلَى اللَّهِ أُهْدِي مِدْحَتِي وَثَنَائِيَا وَقَوْلًا رَصِينًا لَا يَنِي
الدَّهْرَ بَاقِيًا
إِلَى الْمَلِكِ الْأَعْلَى الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إِلَهٌ وَلَا رَبٌّ يَكُونُ
مُدَانِيَا
أَلَا أيُّهَا الْإِنْسَانُ إِيَّاكَ وَالرَّدَى فَإِنَّكَ لَا تُخْفِي مِنَ
اللَّهِ خَافِيَا
وَإِيَّاكَ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فَإِنَّ سَبِيلَ الرُّشْدِ
أَصْبَحَ بَادِيَا
حَنَانَيْكَ إِنَّ الْجِنَّ كَانَتْ رَجَاءَهُمْ وَأَنْتَ إِلَهِي رَبَّنَا
وَرَجَائِيَا
رَضِيتُ بِكَ
اَللَّهُمَّ رَبًّا فَلَنْ أُرَى أَدِينُ إِلَهًا غَيْرَكَ اَللَّهُ ثَانِيَا
وَأَنْتَ اَلَّذِي مِنْ فَضْلِ مَنٍّ وَرَحْمَةٍ بَعَثْتَ إِلَى مُوسَى رَسُولًا
مُنَادِيَا
فَقُلْتَ لَهُ يَا اِذْهَبْ وَهَارُونَ فَادْعُوَا إِلَى اَللَّهِ فِرْعَوْنَ
اَلَّذِي كَانَ طَاغِيَا
وَقُولَا لَهُ أَأَنْتَ سَوَّيْتَ هَذِهِ بِلَا وَتَدٍ حَتَّى اِطْمَأَنَّتْ كَمَا
هِيَا
وَقُولَا لَهُ أَأَنْتَ رَفَعْتَ هَذِهِ بِلَا عَمَدٍ أَرْفِقْ إِذًا بِكَ
بَانِيَا
وَقُولَا لَهُ أَأَنْتَ سَوَّيْتَ وَسْطَهَا مُنِيرًا إِذَا مَا جَنَّهُ
اَللَّيْلُ هَادِيَا
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُرْسِلُ اَلشَّمْسَ غَدْوَةً فَيُصْبِحُ مَا مَسَّتْ مِنَ
اَلْأَرْضِ ضَاحِيَا
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُنْبِتُ اَلْحَبَّ فِي اَلثَّرَى فَيُصْبِحُ مِنْهُ
اَلْبَقْلُ يَهْتَزُّ رَابِيَا
وَيُخْرِجُ مِنْهُ حَبَّهُ فِي رُءُوسِهِ وَفِي ذَاكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ
وَاعِيَا
وَأَنْتَ بِفَضْلٍ مِنْكَ نَجَّيْتَ يُونُسَا وَقَدْ بَاتَ فِي أَضْعَافِ حُوتٍ
لَيَالِيَا
وَإِنِّي وَلَوْ سَبَّحْتُ بِاسْمِكَ رَبَّنَا لِأُكْثِرَ إِلَّا مَا غَفَرْتَ
خَطَائِيَا
فَرَبَّ اَلْعِبَادِ أَلْقِ سَيْبًا وَرَحْمَةً عَلَيَّ وَبَارِكْ فِي بَنِيَّ
وَمَالِيَا
.
فَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَالْكَوَاكِبُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ مِنَ الثَّوَابِتِ
وَالسَّيَّارَاتِ، الْجَمِيعُ مَخْلُوقَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا
قَالَ:وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ فُصِّلَتْ: 12
].
وَأَمَّا مَا
يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي قِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ; مِنْ
أَنَّ الزُّهْرَةَ كَانَتِ امْرَأَةً حَسْنَاءَ فَرَاوَدَاهَا عَلَى نَفْسِهَا،
فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ يُعَلِّمَاهَا الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، فَعَلَّمَاهَا،
فَقَالَتْهُ ; فَرُفِعَتْ كَوْكَبًا إِلَى السَّمَاءِ فَهَذَا أَظُنُّهُ مِنْ
وَضْعِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْبَرَ بِهِ كَعْبُ
الْأَحْبَارِ، وَتَلَقَّاهُ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ فَذَكَرُوهُ عَلَى
سَبِيلِ الْحِكَايَةِ وَالتَّحْدِيثِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ رَوَى
الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا ;
رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ،
عَنْ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا، وَفِيهِ:
فَمَثَّلَتْ لَهُمَا الزَّهْرَةُ امْرَأَةً مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ
فَجَاءَتْهُمَا فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا. وَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَقَدْ رَوَاهُ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ
عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ بِهِ.
وَهَذَا أَصَحُّ وَأَثْبَتُ. وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ. وَقَالَ فِيهِ:
وَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ امْرَأَةٌ حُسْنُهَا فِي النِّسَاءِ كَحُسْنِ الزُّهْرَةِ
فِي سَائِرِ الْكَوَاكِبِ. وَذَكَرَ تَمَامَهُ. وَهَذَا أَحْسَنُ لَفْظٍ رُوِيَ
فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ
الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ سُهَيْلًا فَقَالَ: كَانَ عَشَّارًا ظَلُومًا فَمَسَخَهُ اللَّهُ شِهَابًا. ثُمَّ قَالَ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ إِلَّا مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ وَلَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، وَهُوَ لَيِّنُ الْحَدِيثِ. وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ عِلَّةٍ لِأَنَّا لَمْ نَحْفَظْهُ إِلَّا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. قُلْتُ: أَمَّا مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ الْقُرَشِيُّ فَهُوَ أَبُو حَفْصٍ الْحِمْصِيُّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْكُوفَةِ فَقَدْ ضَعَّفَهُ الْجَمِيعُ. وَقَالَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ وَيَكْذِبُ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ فَهُوَ الْخُوزِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِهِمْ قَالَ فِيهِ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ: مَتْرُوكٌ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: سَكَتُوا عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. وَمِثْلُ هَذَا الْإِسْنَادِ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِذَا أَحْسَنَّا الظَّنَّ قُلْنَا: هَذَا مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَيَكُونُ مِنْ خُرَافَاتِهِمُ الَّتِي لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ فِي
الْكَلَامِ عَلَى الْمَجَرَّةِ وَقَوْسِ قُزَحٍ
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا عَارِمٌ أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ،
عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ
هِرَقْلَ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ: إِنْ كَانَ بَقِيَ فِيهِمْ شَيْءٌ
مِنَ النُّبُوَّةِ فَسَيُخْبِرُنِي عَمَّا أَسْأَلُهُمْ عَنْهُ. قَالَ: فَكَتَبَ
إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنِ الْمَجَرَّةِ، وَعَنِ الْقَوْسِ، وَعَنِ الْبُقْعَةِ
الَّتِي لَمَّ تُصِبْهَا الشَّمْسُ إِلَّا سَاعَةً وَاحِدَةً. قَالَ: فَلَمَّا
أَتَى مُعَاوِيَةَ الْكِتَابُ وَالرَّسُولُ، قَالَ: إِنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَا
كُنْتُ آبَهُ لَهُ أَنْ أَسْأَلَ عَنْهُ إِلَى يَوْمِي هَذَا، مَنْ لِهَذَا ؟.
قِيلَ: ابْنُ عَبَّاسٍ. فَطَوَى مُعَاوِيَةُ كِتَابَ هِرَقْلَ، فَبُعِثَ بِهِ
إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ الْقَوْسَ أَمَانٌ لِأَهْلِ
الْأَرْضِ مِنَ الْغَرَقِ، وَالْمَجَرَّةَ بَابُ السَّمَاءِ الَّذِي تَنْشَقُّ
مِنْهُ، وَأَمَّا الْبُقْعَةُ الَّتِي لَمْ تُصِبْهَا الشَّمْسُ إِلَّا سَاعَةً
مِنَ النَّهَارِ فَالْبَحْرُ الَّذِي أُفْرِجَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَهَذَا
إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بْنُ
الْفَرَجِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُعَاذُ إِنِّي مُرْسِلُكَ إِلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَإِذَا سُئِلْتَ عَنِ الْمَجَرَّةِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ فَقُلْ هِيَ لُعَابُ حَيَّةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ. فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا، بَلِ الْأَشْبَهُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ. وَرِوَايَةُ الْفَضْلِ بْنِ الْمُخْتَارِ هَذَا أَبُو سَهْلٍ الْبَصْرِيُّ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مِصْرَ. قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: هُوَ مَجْهُولٌ يُحَدِّثُ بِالْأَبَاطِيلِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ. مُنْكَرُ الْحَدِيثِ جِدًّا. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا يُتَابَعُ عَلَى أَحَادِيثِهِ لَا مَتْنًا، وَلَا إِسْنَادًا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [ الرَّعْدِ: 12 - 13 ]. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ الْبَقَرَةِ: 164 ].
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنِ اللَّهَ يُنْشِئُ السَّحَابَ، فَيَنْطِقُ أَحْسَنَ النُّطْقِ، وَيَضْحَكُ أَحْسَنَ الضَّحِكِ. وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ نُطْقَهُ الرَّعْدُ. وَضَحِكَهُ الْبَرْقُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ الْبَرْقَ مَلَكٌ لَهُ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ ; وَجْهُ إِنْسَانٍ، وَوَجْهُ ثَوْرٍ، وَوَجْهُ نَسْرٍ، وَوَجْهُ أَسَدٍ، فَإِذَا مَصَعَ بِذَنْبِهِ فَذَلِكَ الْبَرْقُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو مَطَرٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ وَالصَّوَاعِقَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَرَوَى ابْنُ
جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ لَيْثٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: كَانَ
إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: سُبْحَانَ مَنْ سَبَّحَتْ لَهُ. وَكَذَا،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وَطَاوُسٍ، وَغَيْرِهِمْ.
وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا
سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الْحَدِيثَ وَقَالَ سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ
بِحَمْدِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ مَنْ خِيفَتِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا وَعِيدٌ
شَدِيدٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ: رَبُّكُمْ
لَوْ أَنَّ عَبِيدِي أَطَاعُونِي لَأَسْقَيْتُهُمُ الْمَطَرَ بِاللَّيْلِ،
وَأَطْلَعْتُ عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ بِالنَّهَارِ، وَلَمَا أَسْمَعْتُهُمْ صَوْتَ
الرَّعْدِ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا إِذَا
سَمِعْتُمْ صَوْتَ الرَّعْدِ فَاذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ ذَاكِرًا.
وَكُلُّ هَذَا مَبْسُوطٌ فِي التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
بَابُ ذِكْرِ خَلْقِ
الْمَلَائِكَةِ وَصِفَاتِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ آلِ عِمْرَانَ: 18 ]. وَقَالَ: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ
بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ [
النِّسَاءِ: 166 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا
سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ
بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا
يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ
يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ
كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 26 - 29 ]. وَقَالَ تَعَالَى:
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [ الشُّورَى: 5 ]. وَقَالَ تَعَالَى:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي
وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ غَافِرٍ: 7، 8 ].
وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [ فُصِّلَتْ: 38 ]. وَقَالَ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 19 20 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [ الصَّافَّاتِ: 164 - 166 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [ مَرْيَمَ: 64 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [ الِانْفِطَارِ: 10 - 12 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [ الْمُدَّثِّرِ: 31 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [ الرَّعْدِ: 23 - 24 ]. وَقَالَ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ فَاطِرِ: 1 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [ الْفُرْقَانِ: 25 - 26 ].
وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا [ الْفُرْقَانِ: 21 22 ]. وَقَالَ تَعَالَى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [ الْبَقَرَةِ: 98 ]. وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ التَّحْرِيمِ: 6 ]. وَالْآيَاتُ فِي ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا يَصِفُهُمْ تَعَالَى بِالْقُوَّةِ فِي الْعِبَادَةِ وَفِي الْخَلْقِ، وَحُسْنِ الْمَنْظَرِ، وَعَظَمَةِ الْأَشْكَالِ، وَقُوَّةِ الشَّكْلِ فِي الصُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ [ هُودٍ: 77 - 78 ]. الْآيَاتِ. فَذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَبْدُو لَهُمْ فِي صُورَةِ شَبَابٍ حِسَانٍ امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا حَتَّى قَامَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ الْحُجَّةُ، وَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. وَكَذَلِكَ كَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; فَتَارَةً يَأْتِي فِي صُورَةِ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ، وَتَارَةً فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ،
وَتَارَةً فِي
صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ مَا بَيْنَ كُلِّ
جَنَاحَيْنِ كَمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، كَمَا رَآهُ عَلَى هَذِهِ
الصِّفَةِ مَرَّتَيْنِ ; مَرَّةً مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ،
وَتَارَةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، وَهُوَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ
بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [ النَّجْمِ: 5 - 8 ]. أَيْ
جِبْرِيلُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ ;
ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَعَائِشَةُ. فَكَانَ قَابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. أَيْ إِلَى عَبْدِ
اللَّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَقَدْ
رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [ النَّجْمِ: 13 - 14 ].
وَكُلُّ ذَلِكَ الْمُرَادُ بِهِ جِبْرِيلُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ أَنَّ
سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فِي
السَّادِسَةِ أَيْ: أَصْلُهَا، وَفُرُوعُهَا فِي السَّابِعَةِ، إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. قِيلَ: غَشِيَهَا نُورُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ.
وَقِيلَ: غَشِيَهَا فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ. وَقِيلَ: غَشِيَهَا أَلْوَانٌ
مُتَعَدِّدَةٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ. وَقِيلَ: غَشِيَهَا الْمَلَائِكَةُ
مِثْلَ الْغِرْبَانِ. وَقِيلَ: غَشِيَهَا مِنَ اللَّهِ أَمْرٌ، فَلَا يَسْتَطِيعُ
أَحَدٌ أَنْ يَنْعَتَهَا ; أَيْ مِنْ حُسْنِهَا وَبَهَائِهَا. وَلَا مُنَافَاةَ
بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إِذِ الْجَمِيعُ مُمْكِنٌ حُصُولُهُ فِي حَالٍ
وَاحِدَةٍ. وَذَكَرْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبْقُهَا
كَالْقِلَالِ. وَفِي رِوَايَةٍ: كَقِلَالِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ
الْفِيَلَةِ، وَإِذَا يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ ; فَأَمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي ذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ. وَفِيهِ: ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ. وَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُسْتَنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ. وَذَكَرْنَا وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ فِي هَذَا ; أَنَّ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْكَعْبَةِ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَشُعْبَةُ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ ; أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فَقَالَ: هُوَ مَسْجِدٌ فِي السَّمَاءِ يُقَالُ لَهُ الضُّرَاحُ، وَهُوَ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ مِنْ فَوْقِهَا، حُرْمَتُهُ فِي السَّمَاءِ كَحُرْمَةِ الْبَيْتِ فِي الْأَرْضِ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ أَبَدًا. وَهَكَذَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلَوَيْهِ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ أَبُو حُذَيْفَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فِي السَّمَاءِ يُقَالُ لَهُ الضُّرَاحُ، وَهُوَ عَلَى مِثْلِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِحِيَالِهِ، لَوْ سَقَطَ لَسَقَطَ عَلَيْهِ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ
مَلَكٍ، ثُمَّ لَا
يَرَوْنَهُ قَطُّ، وَإِنَّ لَهُ فِي السَّمَاءِ حُرْمَةً عَلَى قَدْرِ حُرْمَةِ
مَكَّةَ. يَعْنِي فِي الْأَرْضِ. وَهَكَذَا قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالسُّدِّيُّ،
وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ هَلْ تَدْرُونَ مَا
الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّهُ
مَسْجِدٌ فِي السَّمَاءِ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ، لَوْ خَرَّ لَخَرَّ عَلَيْهَا،
يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ
يَعُودُوا آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ. وَزَعَمَ الضَّحَّاكُ أَنَّهُ تَعْمُرُهُ
طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْحِنُّ مِنْ قَبِيلَةِ إِبْلِيسَ
لَعَنَهُ اللَّهُ. كَانَ يَقُولُ سَدَنَتُهُ وَخُدَّامُهُ مِنْهُمْ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: فِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتٌ يَعْمُرُهُ مَلَائِكَتُهُ
بِالْعِبَادَةِ فِيهِ، وَيَفِدُونَ إِلَيْهِ بِالنَّوْبَةِ وَالْبَدَلِ، كَمَا
يَعْمُرُ أَهْلُ الْأَرْضِ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ بِالْحَجِّ فِي كُلِّ عَامٍ،
وَالِاعْتِمَارِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ فِي كُلِّ آنٍ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِهِ
الْمَغَازِي: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ فِي حَدِيثِ مُجَاهِدٍ: أَنَّ الْحَرَمَ
حَرَامٌ مَنَاهُ يَعْنِي قَدْرَهُ مِنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرَضِينَ
السَّبْعِ، وَأَنَّهُ رَابِعُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَيْتًا ; فِي كُلِّ سَمَاءٍ
بَيْتٌ، وَفِي كُلِّ أَرْضٍ بَيْتٌ لَوْ سَقَطَتْ سَقَطَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ،
ثُمَّ رَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَنَاهُ ; أَيْ مُقَابِلُهُ، وَهُوَ حَرْفٌ
مَقْصُورٌ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ،
عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مُؤَذِّنِ الْحَجَّاجِ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو
يَقُولُ: إِنَّ الْحَرَمَ مُحَرَّمٌ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ مِقْدَارُهُ
مِنَ الْأَرْضِ،
وَإِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مُقَدَّسٌ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ مِقْدَارُهُ
مِنَ الْأَرْضِ. كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَشَدُّ
وَأَطْوَلُ
وَاسْمُ الْبَيْتِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بَيْتُ الْعِزَّةِ، وَاسْمُ
الْمَلَكِ الَّذِي هُوَ مُقَدَّمُ الْمَلَائِكَةِ فِيهَا إِسْمَاعِيلُ، فَعَلَى
هَذَا يَكُونُ السَّبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ
فِي كُلِّ يَوْمٍ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ
آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ: أَيْ لَا تَحْصُلُ لَهُمْ نَوْبَةٌ فِيهِ إِلَى آخِرِ
الدَّهْرِ ; يَكُونُونَ مِنْ سُكَّانِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَحْدَهَا، وَلِهَذَا
قَالَ تَعَالَى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [ الْمُدَّثِّرِ: 31
].
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا
إِسْرَائِيلُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُوَرِّقٍ،
عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ
أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ; مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ
أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، لَوْ عَلِمْتُمْ مَا أَعْلَمُ
لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَمَا تَلَذَّذْتُمْ
بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ
إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي
شَجَرَةٌ تُعْضَدُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ
إِسْرَائِيلَ فَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ
مَوْقُوفًا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَرَفَةَ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عُرْوَةُ بْنُ مَرْوَانَ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ مَوْضِعُ قَدَمٍ وَلَا شِبْرٍ وَلَا كَفٍّ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ مَلَكٌ رَاكِعٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالُوا جَمِيعًا: مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ إِلَّا أَنَّا لَا نُشْرِكُ بِكَ شَيْئًا. فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّهُ مَا مِنْ مَوْضِعٍ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ إِلَّا وَهُوَ مَشْغُولٌ بِالْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ فِي صُنُوفٍ مِنَ الْعِبَادَةِ ; مِنْهُمْ مَنْ هُوَ قَائِمٌ أَبَدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ رَاكِعٌ أَبَدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ سَاجِدٌ أَبَدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي صُنُوفٍ أُخَرَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَهُمْ دَائِمُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ، وَتَسْبِيحِهِمْ، وَأَذْكَارِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمُ الَّتِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهَا، وَلَهُمْ مَنَازِلُ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [ الصَّافَّاتِ: 164 - 166 ]. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا قَالُوا: وَكَيْفَ يَصُفُّونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ؟ قَالَ: يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ.
وَقَالَ فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ ; جُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا، وَتُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا، وَجُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ. وَكَذَلِكَ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ صُفُوفًا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [ الْفَجْرِ: 22 ]. وَيَقِفُونَ صُفُوفًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [ النَّبَأِ: 38 ]. وَالْمُرَادُ بِالرُّوحِ هَاهُنَا بَنُو آدَمَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: ضَرْبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُشْبِهُونَ بَنِي آدَمَ فِي الشَّكْلِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالْأَعْمَشُ. وَقِيلَ: جِبْرِيلُ. قَالَهُ الشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ: الرُّوحُ بِقَدْرِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ. قَالَ: هُوَ مَلَكٌ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلَائِكَةِ خُلُقًا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، حَدَّثَنَا رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الرُّوحُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ هُوَ أَعْظَمُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْجِبَالِ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ تَسْبِيحَةٍ
مَلَكًا مِنَ
الْمَلَائِكَةِ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفًّا وَحْدَهُ. وَهَذَا غَرِيبٌ
جِدًّا.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
الْحَكِيمِ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ اللَّهِ بْنُ رِزْقٍ أَبُو
هُرَيْرَةَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ
حَدَّثَنِي عَطَاءٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا لَوْ
قِيلَ لَهُ: الْتَقِمِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ بِلَقْمَةٍ وَاحِدَةٍ
لَفَعَلَ، تَسْبِيحُهُ: سُبْحَانَكَ حَيْثُ كُنْتَ. وَهَذَا أَيْضًا حَدِيثٌ
غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ يَكُونُ مَوْقُوفًا. وَذَكَرْنَا فِي صِفَةِ حَمَلَةِ
الْعَرْشِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ
مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ
إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ، وَلَفْظُهُ " مَخْفِقُ الطَّيْرِ سَبْعُمِائَةِ عَامٍ. "
وَقَدْ وَرَدَ فِي صِفَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْرٌ عَظِيمٌ: قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [ النَّجْمِ: 5 ]. قَالُوا: كَانَ
مِنْ شِدَّةِ قُوَّتِهِ أَنَّهُ رَفَعَ مَدَائِنَ قَوْمِ لُوطٍ، وَكُنَّ سَبْعًا
بِمَنْ فِيهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ
أَلْفٍ، وَمَا مَعَهُمْ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْحَيَوَانَاتِ، وَمَا لِتِلْكَ الْمُدُنِ مِنَ الْأَرَاضِي وَالْمُعْتَمَلَاتِ وَالْعِمَارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، رَفَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى طَرَفِ جَنَاحِهِ حَتَّى بَلَغَ بِهِنَّ عَنَانَ السَّمَاءِ، حَتَّى سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ نُبَاحَ كِلَابِهِمْ وَصِيَاحَ دِيكَتِهِمْ، ثُمَّ قَلَبَهَا فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا. فَهَذَا هُوَ شَدِيدُ الْقُوَى. وَقَوْلُهُ: ذُو مِرَّةٍ. أَيْ خَلْقٍ حَسَنٍ وَبَهَاءٍ وَسَنَاءٍ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [ التَّكْوِيرِ: 19 ]. أَيْ: جِبْرِيلُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ " كَرِيمٌ ". أَيْ: حَسَنُ الْمَنْظَرِ " ذِي قُوَّةٍ ". أَيْ: لَهُ قُوَّةٌ وَبَأْسٌ شَدِيدٌ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. أَيْ: لَهُ مَكَانَةٌ وَمَنْزِلَةٌ عَالِيَةٌ رَفِيعَةٌ عِنْدَ اللَّهِ ذِي الْعَرْشِ الْمَجِيدِ. " مُطَاعٍ ثَمَّ ". أَيْ: مُطَاعٍ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى " أَمِينٍ ". أَيْ: ذِي أَمَانَةٍ عَظِيمَةٍ، وَلِهَذَا كَانَ هُوَ السَّفِيرَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ بِالْوَحْيِ فِيهِ الْأَخْبَارُ الصَّادِقَةُ، وَالشَّرَائِعُ الْعَادِلَةُ. وَقَدْ كَانَ يَأْتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي صِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَدْ رَآهُ عَلَى صِفَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ طَلْقِ بْنِ غَنَّامٍ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ زِرًّا، عَنْ قَوْلِهِ: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [ النَّجْمِ: 9 10 ]. قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ جَامِعِ بْنِ
أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ، وَلَهُ
سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ ; كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، يُسْقِطُ
مِنْ جَنَاحِهِ مِنَ التَّهَاوِيلِ مِنَ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ مَا اللَّهُ بِهِ
عَلِيمٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ،
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [ النَّجْمِ 13 - 14 ]. قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَيْتُ جِبْرِيلَ وَلَهُ
سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ يَنْتَثِرُ مِنْ رِيشِهِ التَّهَاوِيلُ ; الدُّرُّ
وَالْيَاقُوتُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ سَمِعْتُ شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ
يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَيْتُ جِبْرِيلَ عَلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَلَهُ
سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ. فَسَأَلْتُ عَاصِمًا عَنِ الْأَجْنِحَةِ فَأَبَى أَنْ
يُخْبِرَنِي. قَالَ: فَأَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْجَنَاحَ مَا
بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَهَذِهِ أَسَانِيدٌ جَيِّدَةٌ قَوِيَّةٌ.
انْفَرَدَ بِهَا أَحْمَدُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي حُسَيْنٌ،
حَدَّثَنِي
حُصَيْنٌ،
حَدَّثَنِي شَقِيقٌ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فِي خَضْرٍ تَعَلَّقَ بِهِ
الدُّرُّ. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَزِيعٍ
الْبَغْدَادِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [ النَّجْمِ: 11 ]. قَالَ: رَأَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ حُلَّتَا
رَفْرَفٍ قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. إِسْنَادٌ جَيِّدٌ
قَوِيٌّ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ:
كُنْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: وَلَقَدْ رَآهُ
بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [ التَّكْوِيرِ: 23 ]. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [
النَّجْمِ: 13 ]. فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ: إِنَّمَا ذَاكَ
جِبْرِيلُ لَمْ يَرَهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا
مَرَّتَيْنِ، رَآهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ سَادًّا عِظَمُ
خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ،
( ح ) وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
ذَرٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: أَلَا
تَزُورُنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا قَالَ: فَنَزَلَتْ: وَمَا نَتَنَزَّلُ
إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا [ مَرْيَمَ:
64 ]. الْآيَةَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ
بِالْخَيْرِ،
وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ
يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ
فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ
الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
أَخَّرَ الْعَصْرَ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: أَمَا إِنَّ جِبْرِيلَ قَدْ
نَزَلَ فَصَلَّى أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ عُمَرُ: أَعْلَمُ مَا تَقُولُ يَا عُرْوَةُ. قَالَ: سَمِعْتُ بَشِيرَ بْنَ
أَبِي مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: نَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَمَّنِي
فَصَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ
مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ. يَحْسِبُ بِأَصَابِعِهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ.
وَمِنْ صِفَةِ إِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; وَهُوَ أَحَدُ حَمَلَةِ
الْعَرْشِ، وَهُوَ الَّذِي يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بِأَمْرِ رَبِّهِ نَفَخَاتٍ
ثَلَاثَةٍ ; أُولَاهُنَّ: نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَالثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ
الصَّعْقِ، وَالثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْبَعْثِ. كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي
مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَحُسْنِ
تَوْفِيقِهِ. وَالصُّورُ: قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ، كُلُّ دَارَةٍ مِنْهُ كَمَا
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَفِيهِ مَوْضِعُ أَرْوَاحِ الْعِبَادِ حِينَ
يَأْمُرُهُ اللَّهُ بِالنَّفْخِ لِلْبَعْثِ، فَإِذَا نَفَخَ تَخْرُجُ الْأَرْوَاحُ
تَتَوَهَّجُ، فَيَقُولُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي
لَتَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ إِلَى الْبَدَنِ الَّذِي كَانَتْ تُعَمِّرُهُ فِي
الدُّنْيَا. فَتَدْخُلُ عَلَى الْأَجْسَادِ فِي قُبُورِهَا ; فَتَدِبُّ فِيهَا
كَمَا يَدِبُّ السُّمُّ فِي اللَّدِيغِ فَتَحْيَا الْأَجْسَادُ، وَتَنْشَقُّ
عَنْهُمُ الْأَجْدَاثُ، فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا سِرَاعًا إِلَى مَقَامِ
الْمَحْشَرِ. كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ
أَنْعَمُ،
وَصَاحِبُ الْقَرْنِ
قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ، وَانْتَظَرَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ ؟
قَالُوا: كَيْفَ نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ،
وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا
الْأَعْمَشُ، عَنْ سَعْدٍ الطَّائِيِّ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبَ
الصُّورِ فَقَالَ: عَنْ يَمِينِهِ جِبْرِيلُ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِيكَائِيلُ
عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبِي لَيْلَى حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ
الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ جِبْرِيلُ بِنَاحِيَةٍ إِذِ انْشَقَّ
أُفُقُ السَّمَاءِ فَأَقْبَلَ إِسْرَافِيلُ يَدْنُو مِنَ الْأَرْضِ وَيَتَمَايَلُ،
فَإِذَا مَلَكٌ قَدْ مَثُلَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَخْتَارَ
بَيْنَ نَبِيٍّ عَبْدٍ أَوْ مَلِكٍ نَبِيٍّ ؟ قَالَ: فَأَشَارَ جِبْرِيلُ إِلَيَّ
بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعْ. فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لِي نَاصِحٌ، فَقُلْتُ: عَبْدٌ
نَبِيٌّ. فَعَرَجَ ذَلِكَ الْمَلَكُ إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ
قَدْ كُنْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا
فَرَأَيْتُ مِنْ
حَالِكَ مَا شَغَلَنِي عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَمَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ فَقَالَ:
هَذَا إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلَقَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَهُ بَيْنَ
يَدَيْهِ صَافًّا قَدَمَيْهِ لَا يَرْفَعُ طَرْفَهُ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّبِّ
سَبْعُونَ نُورًا، مَا مِنْهَا مِنْ نُورٍ يَكَادُ يَدْنُو مِنْهُ إِلَّا
احْتَرَقَ بَيْنَ يَدَيْهِ لَوْحٌ، فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ فِي شَيْءٍ مِنَ
السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، ارْتَفَعَ ذَلِكَ اللَّوْحُ فَضَرَبَ جَبْهَتَهُ،
فَيَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِي أَمَرَنِي بِهِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِ
مِيكَائِيلَ أَمَرَهُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِ مَلَكِ الْمَوْتِ أَمَرَهُ
بِهِ. قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ ؟ قَالَ: عَلَى الرِّيحِ
وَالْجُنُودِ. قُلْتُ: وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ مِيكَائِيلُ ؟ قَالَ: عَلَى
النَّبَاتِ وَالْقَطْرِ ؟ قُلْتُ: وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ مَلَكُ الْمَوْتِ ؟ قَالَ:
عَلَى قَبْضِ الْأَنْفُسِ. وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ نَزَلَ إِلَّا لِقِيَامِ
السَّاعَةِ، وَمَا الَّذِي رَأَيْتَ مِنِّي إِلَّا خَوْفًا مِنْ قِيَامِ
السَّاعَةِ. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي يَقُولُ اللَّهُمَّ
رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ
فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ
الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ: أَنَّ إِسْرَافِيلَ أَوَّلُ مَنْ يَبْعَثُهُ اللَّهُ
بَعْدَ الصَّعْقِ لِيَنْفُخَ فِي الصُّورِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
النَّقَّاشُ: أَنَّ إِسْرَافِيلَ أَوَّلُ مَنْ سَجَدَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ،
فَجُوزِيَ بِوِلَايَةِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. حَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ
السُّهَيْلِيُّ
فِي كِتَابِهِ
" التَّعْرِيفُ وَالْإِعْلَامُ بِمَا أُبْهِمَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ
الْأَعْلَامِ ". وَقَالَ تَعَالَى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [ الْبَقَرَةِ: 98 ].
عَطَفَهُمَا عَلَى الْمَلَائِكَةِ لِشَرَفِهِمَا فَجِبْرِيلُ مَلَكٌ عَظِيمٌ قَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَمُوَكَّلٌ بِالْقَطْرِ وَالنَّبَاتِ،
وَهُوَ ذُو مَكَانَةٍ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْ أَشْرَافِ
الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا ابْنُ
عَيَّاشٍ، عَنْ عِمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ
حُمَيْدَ بْنَ عُبَيْدٍ مَوْلَى بَنِي الْمُعَلَّى يَقُولُ: سَمِعْتُ ثَابِتًا
الْبُنَانِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِجِبْرِيلَ: مَا لِيَ لَمْ أَرَ
مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا قَطُّ. فَقَالَ: مَا ضَحِكَ مِيكَائِيلُ مُنْذُ خُلِقَتِ
النَّارُ. فَهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ الْمُصَرَّحُ بِذِكْرِهِمْ فِي الْقُرْآنِ،
وَفِي الصِّحَاحِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الدُّعَاءِ النَّبَوِيِّ: اللَّهُمَّ
رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ. فَجِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِالْهُدَى
عَلَى الرُّسُلِ لِتَبْلِيغِ الْأُمَمِ، وَمِيكَائِيلُ مُوَكَّلٌ بِالْقَطْرِ
وَالنَّبَاتِ اللَّذَيْنِ يُخْلَقُ مِنْهُمَا الْأَرْزَاقُ فِي هَذِهِ الدَّارِ،
وَلَهُ أَعْوَانٌ يَفْعَلُونَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ بِأَمْرِ رَبِّهِ
يُصَرِّفُونَ الرِّيَاحَ وَالسَّحَابَ كَمَا يَشَاءُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّهُ مَا مِنْ قَطْرَةٍ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا
وَمَعَهَا مَلَكٌ يُقَدِّرُهَا فِي مَوْضِعِهَا مِنَ الْأَرْضِ، وَإِسْرَافِيلُ مُوَكَّلٌ
بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ لِلْقِيَامِ مِنَ
الْقُبُورِ،
وَالْحُضُورِ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ لِيَفُوزَ الشَّكُورُ، وَيُجَازَى
الْكَفُورُ فَذَاكَ ذَنْبُهُ مَغْفُورٌ وَسَعْيُهُ مَشْكُورٌ، وَهَذَا قَدْ صَارَ
عَمَلُهُ كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ وَهُوَ يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ.
فَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحْصُلُ بِمَا يَنْزِلُ بِهِ الْهُدَى،
وَمِيكَائِيلُ يَحْصُلُ بِمَا هُوَ مُوَكَّلٌ بِهِ الرِّزْقُ، وَإِسْرَافِيلُ
يَحْصُلُ بِمَا هُوَ مُوَكَّلٌ بِهِ النَّصْرُ وَالْجَزَاءُ وَأَمَّا مَلَكُ الْمَوْتِ
فَلَيْسَ بِمُصَرَّحٍ بِاسْمِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي الْأَحَادِيثِ
الصِّحَاحِ، وَقَدْ جَاءَ تَسْمِيَتُهُ فِي بَعْضِ الْآثَارِ بِعِزْرَائِيلَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي
وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [ السَّجْدَةِ: 11 ]. وَلَهُ
أَعْوَانٌ يَسْتَخْرِجُونَ رُوحَ الْعَبْدِ مِنْ جُثَّتِهِ حَتَّى تَبْلُغَ
الْحُلْقُومَ فَيَتَنَاوَلُهَا مَلَكُ الْمَوْتِ بِيَدِهِ، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ
يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا مِنْ يَدِهِ
فَيَلُفُّوهَا فِي أَكْفَانٍ تَلِيقُ بِهَا. كَمَا قَدْ بُسِطَ عِنْدَ قَوْلِهِ:
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [ إِبْرَاهِيمَ: 27 ]. ثُمَّ يَصْعَدُونَ بِهَا،
فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَإِلَّا
غُلِّقَتْ دُونَهَا، وَأُلْقِيَ بِهَا إِلَى الْأَرْضِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا
جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ
رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ
الْحَاسِبِينَ [ الْأَنْعَامِ: 61 - 62 ].
وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْأَرْضَ
بَيْنَ يَدَيْ مَلَكِ الْمَوْتِ مِثْلُ الطَّسْتِ يَتَنَاوَلُ مِنْهَا حَيْثُ
يَشَاءُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَلَائِكَةَ الْمَوْتِ يَأْتُونَ الْإِنْسَانَ
عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا أَتَاهُ مَلَائِكَةٌ بِيضُ الْوُجُوهِ
بِيضُ الثِّيَابِ طَيِّبَةُ الْأَرْوَاحِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَبِالضِّدِّ
مِنْ ذَلِكَ عِيَاذًا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
أَبِي يَحْيَى الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ شَمْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ
جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ عِنْدَ رَأْسِ رَجُلٍ
مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا مَلَكَ الْمَوْتِ ارْفُقْ بِصَاحِبِي فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ. فَقَالَ مَلَكُ
الْمَوْتِ: يَا مُحَمَّدُ طِبْ نَفْسًا، وَقَرَّ عَيْنًا فَإِنِّي بِكُلِّ
مُؤْمِنٍ رَفِيقٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ، وَلَا شَعَرٍ
فِي بَرٍّ وَلَا بَحْرٍ إِلَّا وَأَنَا أَتَصَفَّحُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ
مَرَّاتٍ، حَتَّى إِنِّي أَعْرَفُ بِصَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ مِنْهُمْ
بِأَنْفُسِهِمْ، وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ لَوْ أَنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَقْبِضَ
رُوحَ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرْتُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الْآمِرَ
بِقَبْضِهَا. قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ:
بَلَغَنِي أَنَّهُ يَتَصَفَّحُهُمْ عِنْدَ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا حَضَرَ
عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا كَانَ مِمَّنْ يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَاةِ دَنَا مِنْهُ
الْمَلَكُ، وَدَفَعَ عَنْهُ
الشَّيْطَانَ، وَلَقَّنَهُ الْمَلَكُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. فِي تِلْكَ الْحَالِ الْعَظِيمَةِ. هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ الصُّورِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ الْمَدَنِيِّ الْقَاصِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ: وَيَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ بِنَفْخَةِ الصَّعْقِ، فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الصَّعْقِ ; فَيُصْعَقُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ، وَأَهْلُ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا هُمْ قَدْ خَمَدُوا، جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى الْجَبَّارِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ مَاتَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شِئْتَ. فَيَقُولُ اللَّهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ بَقِيَ: فَمَنْ بَقِيَ ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَبَقِيَتْ حَمَلَةُ عَرْشِكَ، وَبَقِيَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ. فَيَقُولُ: لِيَمُتْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ. فَيُنْطِقُ اللَّهُ الْعَرْشَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ يَمُوتُ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ. فَيَقُولُ: اسْكُتْ فَإِنِّي كَتَبْتُ الْمَوْتَ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ تَحْتَ عَرْشِي. فَيَمُوتَانِ، ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى الْجَبَّارِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ مَاتَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فَيَقُولُ اللَّهُ وَهُوَ أَعْلَمُ: بِمَنْ بَقِيَ فَمَنْ بَقِيَ ؟ فَيَقُولُ: بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَبَقِيَتْ حَمَلَةُ عَرْشِكَ، وَبَقِيتُ أَنَا. فَيَقُولُ اللَّهُ: لِتَمُتْ حَمَلَةُ عَرْشِي. فَيَمُوتُونَ، وَيَأْمُرُ اللَّهُ الْعَرْشَ فَيَقْبِضُ الصُّورَ مِنْ إِسْرَافِيلَ، ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ مَاتَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ. فَيَقُولُ اللَّهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ بَقِيَ فَمَنْ بَقِيَ ؟ فَيَقُولُ: بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَبَقِيتُ أَنَا فَيَقُولُ اللَّهُ: أَنْتَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِي خَلَقْتُكَ لِمَا رَأَيْتَ فَمُتْ. فَيَمُوتُ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ كَانَ آخِرًا كَمَا كَانَ أَوَّلًا.
وَذَكَرَ تَمَامَ
الْحَدِيثِ بِطُولِهِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ،
وَالْبَيْهَقِيُّ. وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي كِتَابِ
" الطِّوَالَاتِ " وَعِنْدَهُ زِيَادَةٌ غَرِيبَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ:
فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: " أَنْتَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِي خَلَقْتُكَ لِمَا
أَرَدْتُ فَمُتْ مَوْتًا لَا تَحْيَا بَعْدَهُ أَبَدًا ".
وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَى أَسْمَائِهِمْ فِي الْقُرْآنِ:
هَارُوتُ، وَمَارُوتُ، فِي قَوْلِ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وَقَدْ
وَرَدَ فِي قِصَّتِهِمَا وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا آثَارٌ كَثِيرَةٌ
غَالِبُهَا إِسْرَائِيلِيَّاتٌ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدِيثًا مَرْفُوعًا،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " تَقَاسِيمِهِ "،
وَفِي صِحَّتِهِ عِنْدِي نَظَرٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَيَكُونُ مِمَّا تَلَقَّاهُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ كَمَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ: أَنَّهُ تَمَثَّلَتْ لَهُمَا
الزُّهْرَةُ امْرَأَةً مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ. وَعَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ أَيْضًا: أَنَّ الزُّهْرَةَ كَانْتِ امْرَأَةً،
وَأَنَّهُمَا لَمَّا طَلَبَا مِنْهَا مَا ذُكِرَ، أَبَتْ إِلَّا أَنْ
يُعَلِّمَاهَا الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، فَعَلَّمَاهَا فَقَالَتْهُ: فَارْتَفَعَتْ
إِلَى السَّمَاءِ فَصَارَتْ كَوْكَبًا. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي "
مُسْتَدْرَكِهِ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ
امْرَأَةٌ حُسْنُهَا فِي النِّسَاءِ كَحُسْنِ الزُّهْرَةِ فِي سَائِرِ
الْكَوَاكِبِ. وَهَذَا اللَّفْظُ أَحْسَنُ مَا وَرَدَ
فِي شَأْنِ
الزُّهْرَةِ، ثُمَّ قِيلَ: كَانَ أَمْرُهُمَا، وَقِصَّتُهُمَا فِي زَمَانِ
إِدْرِيسَ. وَقِيلَ: فِي زَمَانِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ. كَمَا حَرَّرْنَا
ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ خَبَرٌ إِسْرَائِيلِيٌّ مَرْجِعُهُ إِلَى كَعْبِ
الْأَحْبَارِ، كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ
كَعْبِ الْأَحْبَارِ بِالْقِصَّةِ. وَهَذَا أَصَحُّ إِسْنَادًا، وَأَثْبَتُ
رِجَالًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
، ثُمَّ قَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ [ الْبَقَرَةِ: 102 ]. قَبِيلَانِ
مِنَ الْجَانِّ. قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَهَذَا غَرِيبٌ وَبَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَرَأَ: " وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ ".
بِالْكَسْرِ، وَيَجْعَلُهُمَا عِلْجَيْنِ مِنْ أَهْلِ فَارِسٍ قَالَهُ
الضَّحَّاكُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: هُمَا مَلَكَانِ مِنَ السَّمَاءِ.
وَلَكِنْ سَبَقَ فِي قَدَرِ اللَّهِ لَهُمَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَمْرِهِمَا إِنْ
صَحَّ بِهِ الْخَبَرُ، وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا كَحُكْمِ إِبْلِيسَ إِنْ قِيلَ:
إِنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ، كَمَا
سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ.
وَمِنِ الْمَلَائِكَةِ الْمُسَمَّيْنَ فِي الْحَدِيثِ: مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدِ اسْتَفَاضَ فِي الْأَحَادِيثِ ذِكْرُهُمَا فِي
سُؤَالِ الْقَبْرِ. وَقَدْ أَوْرَدْنَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُثَبِّتُ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ
[ إِبْرَاهِيمَ: 27 ]. وَهُمَا فَتَّانَا الْقَبْرِ، مُوَكَّلَانِ بِسُؤَالِ
الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ، عَنْ رَبِّهِ، وَدِينِهِ، وَنَبِيِّهِ، وَيَمْتَحِنَانِ
الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ، وَهُمَا أَزْرَقَانِ أَفْرَقَانِ لَهُمَا أَنْيَابٌ
وَأَشْكَالٌ مُزْعِجَةٌ وَأَصْوَاتٌ مُفْزِعَةٌ. أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْ عَذَابِ
الْقَبْرِ، وَثَبَّتَنَا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ آمِينَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ: أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟ قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا بِهِ عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ لَكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ: ذَلِكَ فَمَا شِئْتَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ.
فَصْلٌ
ثُمَّ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هَيَّأَهُمُ
اللَّهُ لَهُ أَقْسَامٌ: فَمِنْهُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ كَمَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُمْ، وَمِنْهُمُ الْكَرُوبِيُّونَ الَّذِينَ هُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ، وَهُمْ
أَشْرَفُ الْمَلَائِكَةِ مَعَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ
عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [ النِّسَاءِ: 172 ].
وَمِنْهُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ ذَكَرَ
اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ
كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا
سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ
الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ
وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ [ غَافِرٍ: 7 - 9 ].
وَلَمَّا كَانَتْ سَجَايَاهُمْ هَذِهِ السَّجِيَّةَ الطَّاهِرَةَ، كَانُوا
يُحِبُّونَ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَيَدْعُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي
الْحَدِيثِ عَنِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا دَعَا الْعَبْدُ
لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ.
وَمِنْهُمْ سُكَّانُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ يَعْمُرُونَهَا عِبَادَةً دَائِبَةً
لَيْلًا وَنَهَارًا صَبَاحًا
وَمَسَاءً، كَمَا
قَالَ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 20
]. فَمِنْهُمُ الرَّاكِعُ دَائِمًا، وَالْقَائِمُ دَائِمًا، وَالسَّاجِدُ
دَائِمًا، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يَتَعَاقَبُونَ زُمْرَةً بَعْدَ زُمْرَةٍ إِلَى
الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ
آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْجِنَانِ، وَإِعْدَادِ
الْكَرَامَةِ لِأَهْلِهَا، وَتَهْيِئَةِ الضِّيَافَةِ لِسَاكِنِيهَا ; مِنْ
مَلَابِسَ، وَمَصَاغٍ، وَمَسَاكِنَ، وَمَآكِلَ، وَمَشَارِبَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ
بَشَرٍ.
وَخَازِنُ الْجَنَّةِ مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ: رِضْوَانُ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي
بَعْضِ الْأَحَادِيثِ. وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِالنَّارِ، وَهُمُ
الزَّبَانِيَةُ، وَمُقَدِّمُوهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَخَازِنُهَامَالِكٌ، وَهُوَ
مُقَدَّمٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَزَنَةِ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ
يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ [ غَافِرٍ: 49 ]. الْآيَةَ. وَقَالَ
تَعَالَى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ
مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ
كَارِهُونَ [ الزُّخْرُفِ: 77 - 78 ]. وَقَالَ تَعَالَى: عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ
غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
[ التَّحْرِيمِ: 6 ]. وَقَالَ تَعَالَى: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا
جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ
إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ
مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ
[ الْمُدَّثِّرِ: 30 - 31 ].
وَمِنْهُمُ
الْمُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ بَنِي آدَمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَوَاءٌ مِنْكُمْ
مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ
وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [ الرَّعْدِ: 10 - 11 ]. الْآيَاتِ.
قَالَ الْوَالِبِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ.
قَالَ: مَلَائِكَةٌ يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، فَإِذَا
جَاءَ قَدَرُ اللَّهِ خَلَّوْا عَنْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا
وَمَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِحِفْظِهِ فِي نَوْمِهِ، وَيَقَظَتِهِ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ، فَمَا مِنْ شَيْءٍ يَأْتِيهِ يُرِيدُهُ إِلَّا قَالَ:
وَرَاءَكَ. إِلَّا شَيْءٌ يَأْذَنُ اللَّهُ فِيهِ فَيُصِيبُهُ. وَقَالَ أَبُو
أُمَامَةَ: مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا وَمَعَهُ مَلَكٌ يَذُودُ عَنْهُ، حَتَّى
يُسْلِمَهُ لِلَّذِي قُدِّرَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
عَلِيٍّ فَقَالَ: إِنَّ نَفَرًا مِنْ مُرَادٍ يُرِيدُونَ قَتْلَكَ فَقَالَ: إِنَّ
مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ مِمَّا لَمْ يُقَدَّرْ، فَإِذَا جَاءَ
الْقَدَرُ خَلَّيَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، إِنَّ الْأَجَلَ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ.
وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ ق: 17 - 18 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
[ الِانْفِطَارِ: 10 - 12 ].
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ
الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
وَمِسْعَرٌ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكْرِمُوا الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ
الَّذِينَ لَا يُفَارِقُونَكُمْ إِلَّا عِنْدَ إِحْدَى حَالَتَيْنِ ;
الْجَنَابَةِ، وَالْغَائِطِ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ
بِجِذْمِ حَائِطٍ أَوْ بَعِيرِهِ أَوْ لِيَسْتُرْهُ أَخُوهُ. هَذَا مُرْسَلٌ مِنْ
هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ
بْنِ سُلَيْمَانَ الْقَارِئِ وَفِيهِ كَلَامٌ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنِ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ عَنِ التَّعَرِّي، فَاسْتَحْيُوا مِنْ
مَلَائِكَةِ اللَّهِ الَّذِينَ مَعَكُمُ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ الَّذِينَ لَا
يُفَارِقُونَكُمْ إِلَّا عِنْدَ إِحْدَى ثَلَاثِ حَالَاتٍ ; الْغَائِطِ،
وَالْجَنَابَةِ، وَالْغُسْلِ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ بِالْعَرَاءِ
فَلْيَسْتَتِرْ بِثَوْبِهِ، أَوْ بِجِذْمِ حَائِطٍ، أَوْ بَعِيرِهِ. وَمَعْنَى
إِكْرَامِهِمْ أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْهُمْ فَلَا يُمْلِي عَلَيْهِمُ الْأَعْمَالَ
الْقَبِيحَةَ الَّتِي يَكْتُبُونَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ كِرَامًا
فِي خُلُقِهِمْ
وَأَخْلَاقِهِمْ. وَمِنْ كَرَمِهِمْ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ
الْمَرْوِيِّ فِي الصِّحَاحِ، وَالسُّنَنِ، وَالْمَسَانِيدِ مِنْ حَدِيثِ
جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ
وَلَا كَلْبٌ وَلَا جُنُبٌ. وَفِي رِوَايَةٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ
عَلِيٍّ وَلَا بَوْلٌ. وَفِي رِوَايَةِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا
لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ، وَلَا تِمْثَالٌ. وَفِي
رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا لَا تَدْخُلُ
الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ تِمْثَالٌ، وَفِي رِوَايَةِ ذَكْوَانَ
أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً
مَعَهُمْ كَلْبٌ أَوْ جَرَسٌ. وَرَوَاهُ زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى عَنْهُ: لَا
تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً مَعَهُمْ جَرَسٌ.
وَقَالَ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَغْدَادِيُّ
الْمَعْرُوفُ
بِالْفَلُوسِيِّ، حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ حُمْرَانَ، حَدَّثَنَا سَلَّامٌ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ يَعْرِفُونَ بَنِي آدَمَ. وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَيَعْرِفُونَ أَعْمَالَهُمْ فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى عَبْدٍ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ ذَكَرُوهُ بَيْنَهُمْ وَسَمَّوْهُ، وَقَالُوا: أَفْلَحَ اللَّيْلَةَ فُلَانٌ، نَجَا اللَّيْلَةَ فُلَانٌ، وَإِذَا نَظَرُوا إِلَى عَبْدٍ يَعْمَلُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ ذَكَرُوهُ بَيْنَهُمْ وَسَمَّوْهُ، وَقَالُوا: هَلَكَ فُلَانٌ اللَّيْلَةَ. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: سَلَّامٌ هَذَا أَحْسَبُهُ سَلَّامًا الْمَدَائِنِيَّ، وَهُوَ لَيِّنُ الْحَدِيثِ. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَلَائِكَةُ يَتَعَاقَبُونَ ; مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يُعَرِّجُ إِلَيْهِ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ فَيَقُولُ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي ؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ. هَذَا اللَّفْظُ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ بِهَذَا السِّيَاقِ. وَهَذَا اللَّفْظُ تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " فِي الْبَدْءِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِهِ. وَقَالَ الْبَزَّارُ:
حَدَّثَنَا زِيَادُ
بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْحَلَبِيُّ، حَدَّثَنَا
تَمَّامُ بْنُ نَجِيحٍ، عَنِ الْحَسَنِ يَعْنِي الْبَصْرِيَّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ حَافِظَيْنِ
يَرْفَعَانِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَفِظَا فِي يَوْمٍ فَيَرَى فِي
أَوَّلِ الصَّحِيفَةِ وَفِي آخِرِهَا اسْتِغْفَارًا إِلَّا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي مَا بَيْنَ طَرَفَيِ الصَّحِيفَةِ. ثُمَّ
قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ تَمَّامُ بْنُ نَجِيحٍ، وَهُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ قُلْتُ:
وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ،
وَأَبُو زُرْعَةَ، وَالنِّسَائِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَرَمَاهُ ابْنُ حِبَّانَ
بِالْوَضْعِ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَا أَعْرِفُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لَهُ حَافِظَانِ مَلَكَانِ اثْنَانِ ;
وَاحِدٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَآخَرُ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظَانِهِ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَلَكَانِ كَاتِبَانِ ; عَنْ يَمِينِهِ
وَعَنْ شِمَالِهِ ; وَكَاتِبُ الْيَمِينِ أَمِيرٌ عَلَى كَاتِبِ الشَّمَالِ
يَكْتُبُ حَسَنَاتِهِ، وَكَاتِبُ الشَّمَالِ يَكْتُبُ سَيِّئَاتِهِ، فَأَرَادَ
صَاحِبُ الشِّمَالِ أَنْ يَكْتُبَهَا، قَالَ لَهُ صَاحِبُ الْيَمِينِ: أَمْهِلْهُ
لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ أَوْ يَسْتَغْفِرَ. وَإِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كَتَبَهَا
صَاحِبُ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَلَا اسْتِئْمَارٍ مَنْ صَاحِبِ
الشِّمَالِ. كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ [ ق: 17 - 18 ].
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ
بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ،
حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ
قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. قَالُوا: وَإِيَّاكَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَإِيَّايَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ
فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ مِنْ
حَدِيثِ مَنْصُورٍ بِهِ. فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الْقَرِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
غَيْرُ الْقَرِينِ بِحِفْظِ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُوَكَّلٌ بِهِ
لِيَهْدِيَهُ، وَيُرْشِدَهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ إِلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ، وَطَرِيقِ
الرَّشَادِ كَمَا أَنَّهُ قَدْ وُكِّلَ بِهِ الْقَرِينُ مِنَ الشَّيَاطِينِ لَا
يَأْلُوهُ جَهْدًا فِي الْخَبَالِ وَالْإِضْلَالِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ
عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ
فَالْأَوَّلَ، فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ، وَجَاءُوا
يَسْتَمِعُونَ الذِّكَرَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُنْفَرِدًا بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ،
وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [ الْإِسْرَاءِ: 78
]. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ،
عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ:
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا. قَالَ: تَشْهَدُهُ
مَلَائِكَةُ
اللَّيْلِ، وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ،
وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَسْبَاطٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ
قُلْتُ: وَهُوَ مُنْقَطِعٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَضْلُ صَلَاةِ الْجَمِيعِ عَلَى
صَلَاةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً، وَيَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ
اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ. يَقُولُ أَبُو
هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ
كَانَ مَشْهُودًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَعَا الرَّجُلُ
امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا لِعَنَتْهَا
الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ. تَابَعَهُ شُعْبَةُ، وَأَبُو حَمْزَةَ، وَابْنُ
دَاوُدَ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا أَمَّنَ
الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ
الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. وَفِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بِلَفْظٍ: إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: آمِينَ
فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ
تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِهِ. وَفِي
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ
سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّ مَنْ وَافَقَ
قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. وَرَوَاهُ
بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ،
عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا
الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
هُوَ شَكٌّ يَعْنِي الْأَعْمَشَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ فَضْلًا
عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ، فَإِذَا وَجَدُوا أَقْوَامًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا:
هَلُمُّوا إِلَى بُغْيَتِكُمْ. فَيَجِيئُونَ فَيَحِفُّونَ بِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ
الدُّنْيَا فَيَقُولُ اللَّهُ: أَيُّ شَيْءٍ تَرَكْتُمْ عِبَادِي يَصْنَعُونَ ؟
فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ يَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ، وَيَذْكُرُونَكَ.
فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْنِي ؟ فَيَقُولُونَ لَا. فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ
رَأَوْنِي ؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ لَكَانُوا أَشَدَّ تَحْمِيدًا،
وَتَمْجِيدًا، وَذِكْرًا. قَالَ: فَيَقُولُ: فَأَيُّ شَيْءٍ يَطْلُبُونَ ؟
فَيَقُولُونَ: يَطْلُبُونَ الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا ؟
فَيَقُولُونَ: لَا. فَيَقُولُ:
وَكَيْفَ لَوْ
رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا،
وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا. قَالَ: فَيَقُولُ: مِنْ أَيٍّ يَتَعَوَّذُونَ ؟
فَيَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ. فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا. فَيَقُولُونَ: لَا.
فَيَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا
أَشَدَّ مِنْهَا هَرَبًا وَأَشَدَّ مِنْهَا خَوْفًا. قَالَ: فَيَقُولُ:
أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ. قَالَ: فَيَقُولُونَ: إِنَّ فِيهِمْ
فَلَانًا الْخَطَّاءَ، لَمْ يُرِدْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. فَيَقُولُ: هُمُ
الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ
الْحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَقَالَ: رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ،
وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَرَفَعَهُ سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ،
عَنْ عَفَّانَ، عَنْ وُهَيْبٍ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ كَمَا
ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا عَنْ سُهَيْلٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ، عَنْ وُهَيْبٍ بِهِ. وَقَدْ
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ
سُلَيْمَانَ هُوَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ
يَرْفَعْهُ نَحْوَهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا
الْأَعْمَشُ، وَابْنُ نُمَيْرٍ
أَخْبَرَنَا
الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً
مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ، مَا كَانَ الْعَبْدُ
فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ
اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ
مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ
إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السِّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ،
وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ
بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ. وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ
مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا
مَعْمَرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا
حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَتَغَشَّتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ
السِّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. وَكَذَا رَوَاهُ أَيْضًا
مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَشُعْبَةَ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ بِهِ نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ.
وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ
ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ،
عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُزَيْقٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِإِسْنَادِهِ
نَحْوَهُ. وَفِي
هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ.
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَالسُّنَنِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ
مَرْفُوعًا: وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ ;
رِضًا بِمَا يَصْنَعُ. أَيْ: تَتَوَاضَعُ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاخْفِضْ
لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [ الْإِسْرَاءِ: 24 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [
الشُّعَرَاءِ: 215 ]. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ
سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي عَنْ
أُمَّتِي السَّلَامَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، وَسُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
السَّائِبِ بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُلِقَتِ
الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَتِ الْجَانُّ
مِنْ مَارِجٍ مِنْ
نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ رَافِعٍ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.
وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ أَنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً بِقَلْبِ
الْعَبْدِ، وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِقَلْبِهِ فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إِيعَادٌ
بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالْفَقْرِ
وَفِي رِوَايَةٍ: بِالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ. وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ
الَّذِي رُوِيَ: إِذَا أَصْبَحَ الْعَبْدُ ابْتَدَرَهُ الشَّيْطَانُ وَالْمَلَكُ.
فَيَقُولُ الْمَلَكُ: افْتَحْ بِخَيْرٍ. وَيَقُولُ الشَّيْطَانُ: افْتَحْ بِشَرٍّ.
فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ وَحَمِدَهُ، تَوَلَّاهُ الْمَلَكُ، وَطَرَدَ عَنْهُ الشَّيْطَانَ
إِلَى اللَّيْلِ. فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ قَالَ الْمَلَكُ: اخْتِمْ بِخَيْرٍ،
وَيَقُولُ الشَّيْطَانُ: اخْتِمْ بِشَرٍّ. فَإِنْ خَتَمَ نَهَارَهُ بِخَيْرٍ،
تَوَلَّاهُ الْمَلَكُ حَتَّى يُصْبِحَ. وَطَرَدَ عَنْهُ الشَّيْطَانَ. وَكَذَلِكَ
إِذَا خَرَجَ الْعَبْدُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ
عَلَى اللَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. قَالَ لَهُ
الْمَلَكُ: هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ. ثُمَّ يَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ.
إِلَى آخِرِهِ. وَالْأَحَادِيثُ فِي ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَهُ الْحَمْدُ.
فَصْلٌ
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ عَلَى
أَقْوَالٍ: فَأَكْثَرُ مَا تُوجَدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كُتُبِ الْمُتَكَلِّمِينَ،
وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ. وَأَقْدَمُ
كَلَامٍ رَأَيْتُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ فِي تَرْجَمَةِ أُمَيَّةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ
بْنِ الْعَاصِ: أَنَّهُ حَضَرَ مَجْلِسًا لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ
كِرِيمِ بَنِي آدَمَ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [ الْبَيِّنَةِ: 7
]. وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أُمَيَّةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ. فَقَالَ
عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ: مَا أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ مَلَائِكَتِهِ هُمْ
خَدَمَةُ دَارَيْهِ وَرُسُلُهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا
مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [ الْأَعْرَافِ: 20 ]. فَقَالَ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: مَا تَقُولُ
أَنْتَ يَا أَبَا حَمْزَةَ ؟ فَقَالَ: قَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ آدَمَ فَخَلَقَهُ
بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ الْمَلَائِكَةَ، وَجَعَلَ
مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، وَمَنْ يَزُورُهُ الْمَلَائِكَةُ.
فَوَافَقَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الْحُكْمِ، وَاسْتَدَلَّ بِغَيْرِ
دَلِيلِهِ، وَأَضْعَفَ دَلَالَةَ مَا صَرَّحَ بِهِ مِنَ الْآيَةِ، وَهُوَ
قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
مَضْمُونُهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَاصَّةٍ بِالْبَشَرِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِالْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: وَيُؤْمِنُونَ بِهِ [ غَافِرٍ: 7 ]. وَكَذَلِكَ الْجَانُّ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ [ الْجِنِّ: 13 ]. وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ [ الْجِنِّ: 14 ]. قُلْتُ: وَأَحْسَنُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا، وَهُوَ أَصَحُّ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا اجْعَلْ لَنَا هَذِهِ نَأْكُلُ مِنْهَا وَنَشْرَبُ فَإِنَّكَ خَلَقْتَ الدُّنْيَا لِبَنِي آدَمَ. فَقَالَ اللَّهُ: لَنْ أَجْعَلَ صَالِحَ ذَرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِي كَمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ. فَكَانَ.
بَابُ ذِكْرِ خَلْقِ
الْجَانِّ وَقِصَّةِ الشَّيْطَانِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ فَبِأَيِ آلَاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ [ الرَّحْمَنِ: 14 - 16 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ
قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [ الْحِجْرِ: 26 - 27 ]. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،
وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مَارِجٍ مِنْ
نَارٍ. قَالُوا: مِنْ طَرَفِ اللَّهَبِ، وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ خَالِصِهِ
وَأَحْسَنِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ،
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ
مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ كَثِيرٌ
مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ: خُلِقَتِ الْجِنُّ قَبْلَ آدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَكَانَ قَبْلَهُمْ فِي الْأَرْضِ الْحِنُّ وَالْبِنُّ، فَسَلَّطَ
اللَّهُ الْجِنَّ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ، وَأَجْلَوْهُمْ عَنْهَا
وَأَبَادُوهُمْ مِنْهَا، وَسَكَنُوهَا بَعْدَهُمْ بِسَبَبِ مَا أَحْدَثُوا.
وَذَكَرَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا فَرَغَ
اللَّهُ مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فَجَعَلَ إِبْلِيسَ
عَلَى مُلْكِ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، وَإِنَّمَا سُمُّوا الْجِنَّ ; لِأَنَّهُمْ خَزَّانُ
الْجَنَّةِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مَعَ مُلْكِهِ خَازِنًا فَوَقَعَ فِي صَدْرِهِ:
إِنَّمَا أَعْطَانِي اللَّهُ هَذَا لِمَزِيَّةٍ لِي عَلَى الْمَلَائِكَةِ.
وَذَكَرَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْجِنَّ لَمَّا أَفْسَدُوا فِي
الْأَرْضِ وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسَ وَمَعَهُ
جُنْدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَتَلُوهُمْ وَأَجْلَوْهُمْ عَنِ الْأَرْضِ إِلَى
جَزَائِرِ الْبُحُورِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ خَلَّادٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ طَاوُسٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ اسْمُ إِبْلِيسَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَكِبَ الْمَعْصِيَةَ
عَزَازِيلَ، وَكَانَ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ، وَمِنْ أَشَدِّ الْمَلَائِكَةِ
اجْتِهَادًا وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا، وَكَانَ مِنْ حَيٍّ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ: كَانَ اسْمُهُ
عَزَازِيلَ، وَكَانَ مِنْ أَشْرِفِ الْمَلَائِكَةِ، مِنْ أُولِي الْأَجْنِحَةِ
الْأَرْبَعَةِ. وَقَالَ سُنَيْدٌ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أَشْرَفِ الْمَلَائِكَةِ وَأَكْرَمِهِمْ
قَبِيلَةً، وَكَانَ خَازِنًا عَلَى الْجِنَانِ، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ سَمَاءِ
الدُّنْيَا، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ الْأَرْضِ. وَقَالَ صَالِحٌ مَوْلَى
التَّوْأَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ يَسُوسُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ رَوَاهُ
ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ كَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسَ
مَلَائِكَةِ سَمَاءِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ،
وَإِنَّهُ لَأَصْلُ الْجِنِّ كَمَا أَنَّ آدَمَ أَصْلُ الْبَشَرِ. وَقَالَ شَهْرُ
بْنُ حَوْشَبٍ، وَغَيْرُهُ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ
الْمَلَائِكَةُ، فَأَسَرَهُ بَعْضُهُمْ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. رَوَاهُ
ابْنُ جَرِيرٍ قَالُوا: فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ آدَمَ لِيَكُونَ فِي
الْأَرْضِ هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَصَوَّرَ جُثَّتَهُ مِنْهَا جَعَلَ
إِبْلِيسُ وَهُوَ رَئِيسُ الْجَانِّ، وَأَكْثَرُهُمْ عِبَادَةً إِذْ ذَاكَ،
وَكَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلَ يُطِيفُ بِهِ. فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ
خَلْقٌ لَا يَتَمَالَكُ. وَقَالَ: أَمَا لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْكَ لَأَهْلِكَنَّكَ،
وَلَئِنْ سُلِّطْتَ عَلَيَّ لِأَعْصِيَنَّكَ، فَلَمَّا أَنْ نَفَخَ اللَّهُ فِي
آدَمَ مِنْ رُوحِهِ كَمَا سَيَأْتِي وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ
دَخَلَ إِبْلِيسَ مِنْهُ حَسَدٌ عَظِيمٌ، وَامْتَنَعَ مِنَ السُّجُودِ لَهُ.
وَقَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارِ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.
فَخَالَفَ الْأَمْرَ، وَاعْتَرَضَ عَلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَخْطَأَ فِي
قَوْلِهِ، وَابْتَعَدَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ، وَأُنْزِلَ مِنْ مَرْتَبَتِهِ
الَّتِي كَانَ قَدْ نَالَهَا بِعِبَادَتِهِ، وَكَانَ قَدْ تَشَبَّهَ
بِالْمَلَائِكَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِمْ ; لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ
نَارٍ، وَهُمْ مِنْ نُورٍ فَخَانَهُ طَبْعُهُ فِي أَحْوَجِ مَا كَانَ إِلَيْهِ،
وَرَجَعَ إِلَى أَصْلِهِ النَّارِيِّ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ ص: 73 - 74 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [ الْكَهْفِ: 50 ].
فَأَهْبَطَ
إِبْلِيسَ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ قَدَرًا أَنْ
يَسْكُنَهُ، فَنَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ حَقِيرًا ذَلِيلًا مَذْءُومًا مَدْحُورًا
مُتَوَعِّدًا بِالنَّارِ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ،
إِلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ جَاهَدَ كُلَّ الْجَهْدِ عَلَى إِضْلَالِ بَنِي آدَمَ
بِكُلِّ طَرِيقٍ وَبِكُلِّ مَرْصَدٍ، كَمَا قَالَ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي
كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ
ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ
جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ
مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ
فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا
غُرُورًا إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ
وَكِيلًا [ الْإِسْرَاءِ: 62 - 65 ].
وَسَنَذْكُرُ الْقِصَّةَ مُسْتَفَاضَةً عِنْدَ ذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْجَانَّ خُلِقُوا مِنَ النَّارِ، وَهُمْ
كَبَنِي آدَمَ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَنَاسَلُونَ، وَمِنْهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ وَمِنْهُمُ الْكَافِرُونَ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي
سُورَةِ الْجِنِّ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا
مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا
فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا
إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا
أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ
وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ
بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ [ الْأَحْقَافِ: 29 - 32 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا
سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ
نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ
صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ
شَطَطًا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ
الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ
يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ
حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ
لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا وَأَنَّا لَا
نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ
رَشَدًا وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ
قِدَدًا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ
نُعْجِزَهُ هَرَبًا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ
يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ
وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا
الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ
يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [ الْجِنِّ: 1 - 17 ].
وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ السُّورَةِ، وَتَمَامَ الْقِصَّةِ فِي آخِرِ
سُورَةِ " الْأَحْقَافِ " وَذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ الْمُتَعَلِّقَةَ
بِذَلِكَ هُنَالِكَ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ كَانُوا مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ،
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ مِنْ جِنِّ بُصْرَى، وَأَنَّهُمْ مَرُّوا بِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ
بِبَطْنِ نَخْلَةٍ مِنْ أَرْضِ مَكَّةَ فَوَقَفُوا فَاسْتَمَعُوا لِقِرَاءَتِهِ، ثُمَّ
اجْتَمَعَ بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً
كَامِلَةً فَسَأَلُوهُ عَنْ أَشْيَاءَ أَمَرَهُمْ بِهَا وَنَهَاهُمْ عَنْهَا،
وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ: لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
تَجِدُونَهُ أَوْفَرَ مَا
يَكُونُ لَحْمًا،
وَكُلُّ رَوْثَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ، وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْتَنْجَى بِهِمَا. وَقَالَ: إِنَّهُمَا زَادُ
إِخْوَانِكُمُ الْجِنِّ. وَنَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي السَّرَبِ ; لِأَنَّهَا
مَسَاكِنُ الْجِنِّ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سُورَةَ " الرَّحْمَنِ " فَمَا جَعَلَ يَمُرُّ فِيهَا
بِآيَةِ: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. إِلَّا قَالُوا: وَلَا
بِشَيْءٍ مِنْ آلَائِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ. وَقَدْ أَثْنَى
عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ لَمَّا
قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ عَلَى النَّاسِ فَسَكَتُوا فَقَالَ: الْجِنُّ كَانُوا
أَحْسَنَ مِنْكُمْ رَدًّا مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ إِلَّا قَالُوا: وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ آلَائِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ،
فَلَكَ الْحَمْدُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ جَابِرٍ، وَابْنِ جَرِيرٍ،
وَالْبَزَّارِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مُؤْمِنِي الْجِنِّ هَلْ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ أَوْ يَكُونُ جَزَاءُ طَائِعِهِمْ أَنْ لَا يُعَذَّبَ بِالنَّارِ
فَقَطْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ; الصَّحِيحُ: أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
لِعُمُومِ الْقُرْآنِ، وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [ الرَّحْمَنِ: 46 -
47 ].
فَامْتَنَّ تَعَالَى
عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَلَوْلَا أَنَّهُمْ يَنَالُونَهُ لَمَا ذَكَرَهُ، وَعَدَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، وَهَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ كَافٍ فِي
الْمَسْأَلَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ،
عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ إِنِّي أَرَاكَ
تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ، وَبَادِيَتِكَ
فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ
مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ.
وَأَمَّا كَافِرُو الْجِنِّ ; فَمِنْهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَمُقَدِّمُهُمُ
الْأَكْبَرُ إِبْلِيسُ عَدُوُّ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ، وَقَدْ سَلَّطَهُ هُوَ
وَذُرِّيَّتَهُ عَلَى آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، وَتَكَفَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
بِعِصْمَةٍ مَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ رُسُلَهَ، وَاتَّبَعَ شَرْعَهُ مِنْهُمْ،
كَمَا قَالَ: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ
وَكِيلًا [ الْإِسْرَاءِ: 65 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ
إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ
لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ
مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [ سَبَأِ:
20 - 21 ]. وَقَالَ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ
كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا
لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا
تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ [ الْأَعْرَافِ: 27 ].
وَقَالَ: وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ
مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ
سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى
أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ
مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ
صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي
إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ
الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ
فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ
جُزْءٌ مَقْسُومٌ [ الْحِجْرِ: 28 - 44 ].
وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي
الْأَعْرَافِ، وَهَاهُنَا، وَفِي سُورَةِ سُبْحَانَ، وَفِي سُورَةِ طه، وَفِي
سُورَةِ ص، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوَاضِعِهِ فِي
كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَسَنُورِدُهَا فِي قِصَّةِ آدَمَ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ إِبْلِيسَ أَنْظَرَهُ اللَّهُ، وَأَخَّرَهُ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ ; مِحْنَةً لِعِبَادِهِ، وَاخْتِبَارًا مِنْهُ لَهُمْ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ
يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ حَفِيظٌ [ سَبَأِ: 21 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ
الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ
سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي
وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ
إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ
تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ [ إِبْرَاهِيمَ: 22 - 23 ].
فَإِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ حَيٌّ الْآنَ، مُنْظَرٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلَهُ عَرْشٌ عَلَى وَجْهِ الْبَحْرِ، وَهُوَ جَالِسٌ
عَلَيْهِ، وَيَبْعَثُ سَرَايَاهُ يُلْقُونَ بَيْنَ النَّاسِ الشَّرَّ وَالْفِتَنَ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [
النِّسَاءِ: 76 ]. وَكَانَ اسْمُهُ قَبْلَ مَعْصِيَتِهِ الْعَظِيمَةِ عَزَازِيلَ
قَالَ النَّقَّاشُ: وَكُنْيَتُهُ أَبُو كُرْدُوسٍ. وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ صَيَّادٍ: مَا تَرَى ؟
قَالَ: أَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ. فَعَرَفَ أَنَّ مَادَّةَ
مُكَاشَفَتِهِ الَّتِي كَاشَفَهُ بِهَا شَيْطَانِيَّةٌ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ
إِبْلِيسَ الَّذِي هُوَ يُشَاهِدُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ
اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ. أَيْ: لَنْ تُجَاوِزَ قِيمَتَكَ الدَّنِيَّةَ
الْخَسِيسَةَ الْحَقِيرَةَ.
وَالدَّلِيلُ
عَلَى أَنَّ عَرْشَ
إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ،
حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ حَدَّثَنِي مَاعِزٌ
التَّمِيمِيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَرْشُ إِبْلِيسَ فِي الْبَحْرِ يَبْعَثُ
سَرَايَاهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ
مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً لِلنَّاسِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ
أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
عَرْشُ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ
فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً. تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ،
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنٍ
صَائِدٍ: مَا تَرَى ؟ قَالَ: أَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ. أَوْ قَالَ: عَلَى
الْبَحْرِ حَوْلَهُ حَيَّاتٌ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاكَ
عَرْشُ إِبْلِيسَ. هَكَذَا رَوَاهُ فِي مُسْنَدِ جَابِرٍ. وَقَالَ فِي مُسْنَدِ
أَبِي سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ،
أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِابْنِ صَائِدٍ: مَا
تَرَى ؟ قَالَ: أَرَى عَرْشًا عَلَى الْبَحْرِ حَوْلَهُ الْحَيَّاتُ. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ ذَاكَ عَرْشُ
إِبْلِيسَ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مَاعِزٍ التَّمِيمِيِّ، وَأَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ، وَلَكِنْ فِي
التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ. وَرَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ،
عَنْ أَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَضَعُ عَرْشَهُ
عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فِي النَّاسِ فَأَقْرَبُهُمْ عِنْدَهُ
مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا
زِلْتُ بِفُلَانٍ حَتَّى تَرَكْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا. فَيَقُولُ
إِبْلِيسُ: لَا وَاللَّهِ، مَا صَنَعْتَ شَيْئًا. وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ:
مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ. قَالَ: فَيُقَرِّبُهُ
وَيُدْنِيهِ وَيَلْتَزِمُهُ، وَيَقُولُ: نَعَمْ أَنْتَ. يُرْوَى بِفَتْحِ النُّونِ
بِمَعْنَى: نَعَمْ أَنْتَ ذَاكَ الَّذِي تَسْتَحِقُّ الْإِكْرَامَ. وَبِكَسْرِهَا
أَيْ: نِعْمَ مِنْكَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ النُّحَاةِ عَلَى جَوَازِ
كَوْنِ فَاعِلِ نَعَمْ مُضْمَرًا، وَهُوَ قَلِيلٌ وَاخْتَارَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ
أَبُو الْحَجَّاجِ الْأَوَّلَ، وَرَجَّحَهُ، وَوَجَّهَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَوْرَدْنَا هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُفَرِّقُونَ
بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [ الْبَقَرَةِ: 102 ]. يَعْنِي: أَنَّ السِّحْرَ
الْمُتَلَقَّى عَنِ الشَّيَاطِينِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُتَوَصَّلُ بِهِ
إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُتَآلِفِينَ غَايَةَ التَّآلُفِ الْمُتَوَادِّينَ
الْمُتَحَابِّينَ، وَلِهَذَا يَشْكُرُ إِبْلِيسُ سَعْيَ مَنْ كَانَ السَّبَبَ فِي
ذَلِكَ، فَالَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ يَمْدَحُهُ، وَالَّذِي يَغْضَبُ اللَّهُ
يُرْضِيهِ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
سُورَتَيِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مُطَّرِدَةً لِأَنْوَاعِ الشَّرِّ وَأَسْبَابِهِ
وَغَايَاتِهِ، وَلَا سِيَّمَا سُورَةُ: قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ
النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ
فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ. وَثَبَتَ
فِي الصَّحِيحَيْنِ،
عَنْ أَنَسٍ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ
يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ،
حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ أَبِي عِمَارَةَ، حَدَّثَنَا زِيَادٌ النُّمَيْرِيُّ،
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ آدَمَ فَإِنْ ذَكَرَ
اللَّهَ خَنَسَ، وَإِنْ نَسِيَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ الْوَسْوَاسُ
الْخَنَّاسُ.
وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ مَطَرَدَةً لِلشَّيْطَانِ عَنِ الْقَلْبِ كَانَ
فِيهِ تَذْكَارٌ لِلنَّاسِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا
نَسِيتَ [ الْكَهْفِ: 24 ]. وَقَالَ فَتَى مُوسَى: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا
الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [ الْكَهْفِ: 63 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَأَنْسَاهُ
الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [ يُوسُفَ: 42 ]. يَعْنِي السَّاقِي لَمَّا قَالَ
لَهُ يُوسُفُ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ. نَسِيَ السَّاقِي أَنْ يَذْكُرَهُ
لِرَبِّهِ يَعْنِي مَوْلَاهُ الْمَلِكَ. وَكَانَ هَذَا
النِّسْيَانُ مِنَ
الشَّيْطَانِ، فَلَبِثَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، وَلِهَذَا قَالَ
بَعْدَهُ: وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [ يُوسُفَ:
45 ]. أَيْ: تَذَكَّرَ قَوْلَ يُوسُفَ لَهُ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ. بَعْدَ
مُدَّةٍ وَقُرِئَ: " بَعْدَ أَمَهٍ " أَيْ نِسْيَانٍ، وَهَذَا الَّذِي
قُلْنَا مِنْ أَنَّ النَّاسِيَ هُوَ السَّاقِي هُوَ الصَّوَابُ مِنَ
الْقَوْلَيْنِ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ سَمِعْتُ أَبَا تَمِيمَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَدِيفِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عَثَرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارُهُ فَقُلْتُ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ،
فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ تَعَاظَمَ، وَقَالَ: بِقُوَّتِي
صَرَعْتُهُ. وَإِذَا قُلْتَ: بِسْمِ اللَّهِ. تَصَاغَرَ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ
الذُّبَابِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ إِسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَقَالَ
أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ
عُثْمَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ
فِي الْمَسْجِدِ جَاءَ الشَّيْطَانُ فَأَبَسَّ بِهِ كَمَا يَبُسُّ الرَّجُلُ
بِدَابَّتِهِ فَإِذَا سَكَنَ لَهُ زَنَقَهُ أَوْ أَلْجَمَهُ. قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ ذَلِكَ ; أَمَّا الْمَزْنُوقُ فَتَرَاهُ مَائِلًا
كَذَا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ، وَأَمَّا الْمُلْجِمُ فَفَاتِحٌ فَاهُ لَا يَذْكُرُ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ،
حَدَّثَنَا ثَوْرٌ
يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَيْنُ حَقٌّ
وَيَحْضُرُهَا الشَّيْطَانُ وَحَسَدُ ابْنِ آدَمَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ ذَرِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحَدِّثُ نَفْسِي بِالشَّيْءِ ; لَأَنَّ أَخِرَّ مِنَ
السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ
مِنْ حَدِيثِ مَنْصُورٍ، زَادَ النَّسَائِيُّ: وَالْأَعْمَشُ، كِلَاهُمَا عَنْ
ذَرٍّ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ،
عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ قَالَ: قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأْتِي
الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟
حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ
بِاللَّهِ، وَلِيَنْتَهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ،
وَمِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ عُرْوَةَ
بِهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ
طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [ الْأَعْرَافِ:
201 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوَذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ
الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [ الْمُؤْمِنُونَ: 97 - 98
].
وَقَالَ تَعَالَى:
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ الْأَعْرَافِ: 200 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ
لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ
مُشْرِكُونَ [ النَّحْلِ: 98 - 100 ].
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ. وَجَاءَ مِثْلُهُ
مِنْ رِوَايَةِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي
أُسَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، وَتَفْسِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ: فَهَمْزُهُ الْمَوْتَةُ،
وَهُوَ الْخَنْقُ الَّذِي هُوَ الصَّرْعُ، وَنَفْخُهُ الْكِبْرُ، وَنَفْثُهُ
الشِّعْرُ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: أَعُوذُ
بِاللَّهِ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ:
اسْتَعَاذَ مِنْ ذُكْرَانِ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثِهِمْ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ سُرَيْجٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ
ثَوْرٍ،
عَنِ الْحُصَيْنِ،
عَنْ أَبِي سَعْدٍ الْخَيْرِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا أَنْ يَجْمَعَ
كَثِيبًا فَلْيَسْتَدْبِرْهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَلْعَبُ بِمَقَاعِدِ بَنِي آدَمَ،
مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا، فَلَا حَرَجَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ،
وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ بِهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ،
عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ: سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ اسْتَبَّ
رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ
عِنْدَهُ جُلُوسٌ فَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ
وَجْهُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي
لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ:
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ". فَقَالُوا لِلرَّجُلِ:
أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! فَقَالَ:
إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ،
وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ
بِشِمَالِهِ وَلَا يَشْرَبُ بِشِمَالِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ
بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ. وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ بِهَذَا
الْإِسْنَادِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ هَذَا
الْوَجْهِ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ
عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ أَكَلَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ،
وَمَنْ شَرِبَ بِشِمَالِهِ شَرِبَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنْبَأَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي زِيَادٍ الطَّحَّانِ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا
يَشْرَبُ قَائِمًا، فَقَالَ لَهُ: " قِهْ ". قَالَ: لِمَ ؟ قَالَ:
" أَيَسُرُّكَ أَنْ يَشْرَبَ مَعَكَ الْهِرُّ ؟ ". قَالَ: لَا. قَالَ:
" فَإِنَّهُ قَدْ شَرِبَ مَعَكَ مَنْ هُوَ شَرُّ مِنْهُ الشَّيْطَانُ ".
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِي يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِمٌ مَا فِي بَطْنِهِ
لَاسْتَقَاءَ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ،
عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ جَابِرًا: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ
اسْمَ اللَّهِ حِينَ يَدْخُلُ وَحِينَ يَطْعَمُ، قَالَ الشَّيْطَانُ لَا
مَبِيتَ لَكُمْ
وَلَا عَشَاءَ هَاهُنَا. وَإِنْ دَخَلَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ
دُخُولِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ
عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ. قَالَ: نَعَمْ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا طَلَعَ حَاجِبُ
الشَّمْسِ فَدَعُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ
فَدَعُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ، وَلَا تَحَيَّنُوا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ
الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ
أَوِ الشَّيَاطِينِ. " لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ " قَالَ هِشَامٌ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ بِهِ. وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَقَالَ: هَا إِنَّ
الْفِتْنَةَ هَاهُنَا، إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ
الشَّيْطَانِ. هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُنْفَرِدًا بِهِ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ.
وَفِي السُّنَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى
أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالظِّلِّ. وَقَالَ إِنَّهُ مَجْلِسُ
الشَّيْطَانِ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي هَذَا مَعَانِي ; مِنْ أَحْسَنِهَا أَنَّهُ
لَمَّا كَانَ الْجُلُوسُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِيهِ تَشْوِيهٌ
بِالْخِلْقَةِ فِيمَا يَرَى كَانَ
يُحِبُّهُ
الشَّيْطَانُ ; لِأَنَّ خِلْقَتَهُ فِي نَفْسِهِ مُشَوَّهَةٌ وَهَذَا مُسْتَقِرٌّ
فِي الْأَذْهَانِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ
الشَّيَاطِينِ [ الصَّافَّاتِ: 65 ]. الصَّحِيحُ أَنَّهُمُ الشَّيَاطِينُ لَا
ضَرْبٌ مِنَ الْحَيَّاتِ كَمَا زَعَمَهُ مَنْ زَعْمَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنَّ النُّفُوسَ مَغْرُوزٌ فِيهَا قُبْحُ الشَّيَاطِينِ،
وَحُسْنُ خُلُقِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدُوا، وَلِهَذَا قَالَ
تَعَالَى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، وَقَالَ النِّسْوَةُ لَمَّا
شَاهَدْنَ جَمَالَ يُوسُفَ: حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا
مَلَكٌ كَرِيمٌ [ يُوسُفَ: 45 ]. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا
ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا اسْتَجْنَحَ أَوْ كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ
فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا
ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقْ بَابَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ
اللَّهِ، وَأَطْفِئْ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَأَوْكِ سِقَاءَكَ
وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ
تَعْرُضُ عَلَيْهِ شَيْئًا.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهِ. وَعِنْدَهُ: فَإِنَّ
الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ فِطْرٍ، عَنْ
أَبِي الزُّبَيْرِ،
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَغْلِقُوا أَبْوَابَكُمْ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ، وَأَوْكُوا أَسْقِيَتَكُمْ،
وَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا،
وَلَا يَكْشِفُ غِطَاءً، وَلَا يَحِلُّ وِكَاءً، وَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ
الْبَيْتَ عَلَى أَهْلِهِ. يَعْنِي الْفَأْرَةَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي
الْجَعْدِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ
يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ
الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنِي. فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ
الشَّيْطَانُ، وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ. وَحَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ
سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ مَنْصُورٍ،
عَنْ سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى
أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ
الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. فَرُزِقَا وَلَدًا لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَخِي، عَنْ
سُلَيْمَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ
ثَلَاثَ عُقَدٍ ; يَضْرِبُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ مَكَانَهَا، عَلَيْكَ لَيْلٌ
طَوِيلٌ فَارْقُدْ. فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ،
فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ
كُلُّهَا، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ
النَّفْسِ كَسْلَانَ. هَكَذَا رَوَاهُ مُنْفَرِدًا بِهِ
مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ
حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ يَعْنِي ابْنَ الْهَادِي، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا اسْتَيْقَظَ
أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا، فَإِنَّ
الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ بِشْرِ بْنِ
الْحَكَمِ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
زُنْبُورٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، كِلَاهُمَا عَنْ يَزِيدَ
بْنِ الْهَادِي بِهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَجُلٌ نَامَ لَيْلَهُ حَتَّى أَصْبَحَ. قَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ
فِي أُذُنَيْهِ " أَوْ قَالَ: " فِي أُذُنِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ
عُثْمَانَ، وَإِسْحَاقَ، كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ بِهِ. وَأَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مَنْصُورِ
بْنِ الْمُعْتَمِرِ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنْبَأَنَا
الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ،
فَإِذَا قُضِيَ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِيَ
أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَقَلْبِهِ، فَيَقُولُ: اذْكُرْ
كَذَا وَكَذَا.
حَتَّى لَا يَدْرِيَ أَثْلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا ؟ فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَثْلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا، سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ. هَكَذَا رَوَاهُ مُنْفَرِدًا بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ يَعْنِي الْأَحْمَرَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَاصُّوا الصُّفُوفَ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَقُومُ فِي الْخَلَلِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبَانُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: رَاصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بَيْنَ الْأَعْنَاقِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لِأَرَى الشَّيْطَانُ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهُ الْحَذْفُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ شَيْءٌ فَلْيَمْنَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيَمْنَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مَسَرَّةُ بْنُ مَعْبَدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ صَاحِبُ سُلَيْمَانَ قَالَ: رَأَيْتُ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ اللَّيْثِيَّ قَائِمًا يُصَلِّي فَذَهَبْتُ
أَمُرُّ بَيْنَ
يَدَيْهِ فَرَدَّنِي، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ يُصَلِّي صَلَاةَ
الصُّبْحِ وَهُوَ خَلْفَهُ فَقَرَأَ فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا
فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ، فَأَهْوَيْتُ
بِيَدِي فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ
إِصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ: الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، وَلَوْلَا دَعْوَةُ
أَخِي سُلَيْمَانَ لِأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ
يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا
يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ أَحَدٌ فَلْيَفْعَلْ. وَرَوَى أَبُو
دَاوُدَ مِنْهُ: " فَمَنِ اسْتَطَاعَ ". إِلَى آخِرِهِ، عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ أَبِي سُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ الزُّبَيْرِيِّ بِهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ،
حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ صَلَّى
صَلَاةً فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَّضَ لِي فَشَدَّ عَلَيَّ لِقَطْعِ
الصَّلَاةِ عَلَيَّ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَدْ
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ مُطَوَّلًا.
وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ
سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي
مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ ص: 35
]. مِنْ حَدِيثِ رَوْحٍ، وَغُنْدُرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ
تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ. أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. قَالَ: رَوْحٌ فَرَدَّهُ خَاسِئًا. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ. ثُمَّ قَالَ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ. ثَلَاثًا، وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ. فَقَالَ: إِنْ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ. ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ، وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [ لُقْمَانَ: 33 ]. يَعْنِي الشَّيْطَانَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [ فَاطِرٍ: 6 ]. فَالشَّيْطَانُ لَا يَأْلُو الْإِنْسَانَ خَبَالًا جَهْدَهُ وَطَاقَتَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ، كَمَا صَنَّفَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا رَحِمَهُ اللَّهُ كِتَابًا فِي ذَلِكَ سَمَّاهُ " مَصَائِدَ الشَّيْطَانِ " وَفِيهِ فَوَائِدُ جَمَّةٌ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي
دَاوُدَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ
فِي دُعَائِهِ: وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ
الْمَوْتِ. وَرَوَيْنَا فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ
وَعِزِّكَ وَجَلَالِكَ لَا أَزَالُ أُغْوِيهِمْ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي
أَجْسَادِهِمْ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَلَا أَزَالُ
أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الشَّيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ
مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [ الْبَقَرَةِ: 268 ].
فَوَعْدُ اللَّهِ هُوَ الْحَقُّ الصِّدْقُ، وَوَعْدُ الشَّيْطَانِ هُوَ
الْبَاطِلُ، وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ
السَّائِبِ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً
بِابْنِ آدَمَ، وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً ; فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ
بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ
بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ
مِنَ اللَّهِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمِنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ
مِنَ الشَّيْطَانِ، ثُمَّ قَرَأَ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ
وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي فَضْلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنَ
الْبَيْتِ الَّذِي تَقْرَأُ
فِيهِ، وَذَكَرْنَا
فِي فَضْلِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ لَا يَقْرَبُهُ
الشَّيْطَانُ حَتَّى يُصْبِحَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ يُوسُفَ، أَنْبَأَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ
قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ
وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ
كَانَتْ لَهُ عِدْلُ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ،
وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ
يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ
بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ،
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:
حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ
أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي
جَنْبَيْهِ بِإِصْبَعِهِ حِينَ يُولَدُ غَيْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَهَبَ
يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ. تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ،
عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: التَّثَاؤُبُ مِنَ
الشَّيْطَانِ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ
فَلْيَرُدَّهُ مَا
اسْتَطَاعَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَالَ: هَا. ضَحِكَ الشَّيْطَانُ. وَرَوَاهُ
أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ
حَدِيثِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِهِ. وَفِي لَفْظٍ إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ
فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيُبْغِضُ أَوْ يَكْرَهُ
التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا قَالَ: أَحَدُكُمْ هَا هَا. فَإِنَّمَا ذَلِكَ الشَّيْطَانُ
يَضْحَكُ مِنْ جَوْفِهِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا أَبُو
الْأَحْوَصِ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَتْ
عَائِشَةُ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ
الْتِفَاتِ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ. فَقَالَ: هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ
الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ. وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ،
وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ سُلَيْمِ بْنِ
أَسْوَدَ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ بِهِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي
كَثِيرٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرُّؤْيَا
الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلْمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ وَلِيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَمْشِيَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ أَنْ يَنْزِعَ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [ الْمُلْكِ: 5 ]. وَقَالَ: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [ الصَّافَّاتِ: 6 - 10 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [ الْحِجْرِ: 16 - 18 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [ الشُّعَرَاءِ: 210 - 212 ]. وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْجَانِّ: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [ الْجِنِّ: 8 - 9 ].
وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ أَبِي هِلَالٍ أَنَّ أَبَا الْأَسْودِ أَخْبَرَهُ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
الْمَلَائِكَةُ تَحَدَّثُ فِي الْعَنَانِ وَالْعَنَانُ الْغَمَامُ بِالْأَمْرِ
يَكُونُ فِي الْأَرْضِ فَتَسْمَعُ الشَّيَاطِينُ الْكَلِمَةَ فَتُقِرُّهَا فِي
أُذُنِ الْكَاهِنِ، كَمَا تُقَرُّ الْقَارُورَةُ فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ
كَذِبَةٍ. هَكَذَا رَوَاهُ فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ مُعَلَّقًا، عَنِ اللَّيْثِ بِهِ.
وَرَوَاهُ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ
اللَّيْثِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِنَحْوِهِ.
تَفَرَّدَ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ دُونَ مُسْلِمٍ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَتْ
عَائِشَةُ سَأَلَ نَاسٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ
الْكُهَّانِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَنَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا. فَقَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا
الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ
فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذِبَةٍ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الْحَقُّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ. وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ، فَحَرَّفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابَ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كِذِبَةٍ، فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا. فَيُصَدِّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ هَذَا. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [ الزُّخْرُفِ: 36 - 38 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [ فُصِّلَتْ: 25 ]. الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ ق: 27 - 29 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ
مُقْتَرِفُونَ [ الْأَنْعَامِ: 112 - 113 ].
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ
مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَبِيهِ،
وَاسْمُهُ رَافِعٌ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ
قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. قَالُوا: وَإِيَّاكَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَإِيَّايَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ
فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ قَابُوسَ، عَنْ أَبِيهِ، وَاسْمُهُ حُصَيْنُ بْنُ جُنْدُبٍ،
وَهُوَ أَبُو ظَبْيَانَ الْجَنْبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا
وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ. قَالُوا: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ. قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ.
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَقَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ
أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عُرْوَةَ
بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ أَنَّ عَائِشَةَ
زَوْجَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا، قَالَتْ: فَغِرْتُ
عَلَيْهِ، قَالَتْ: فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ. فَقَالَ: " مَالَكِ يَا
عَائِشَةُ أَغِرْتِ. " قَالَتْ فَقُلْتُ: وَمَالِي أَنْ لَا يَغَارَ مِثْلِي
عَلَى مِثْلِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أَفَأَخَذَكِ شَيْطَانُكِ. " قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ مَعِي
شَيْطَانٌ ؟ قَالَ: " نَعَمْ. " قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ ؟
قَالَ: " نَعَمْ. " قُلْتُ: وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:
" نَعَمْ. " وَلَكِنَّ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ
". وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَارُونَ، وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ
الْأَيْلِيُّ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُنْضِي
شَيْطَانَهُ كَمَا يُنْضِي أَحَدُكُمْ بِعِيرَهُ فِي السَّفَرِ. تَفَرَّدَ بِهِ
أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَمَعْنَى لَيُنْضِي شَيْطَانَهُ: لَيَأْخُذُ
بِنَاصِيَتِهِ فَيَغْلِبُهُ وَيَقْهَرُهُ، كَمَا يَفْعَلُ بِالْبَعِيرِ إِذَا
شَرَدَ ثُمَّ غَلَبَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْلِيسَ: قَالَ
فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ
لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ
وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 16 -
17 ].
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا أَبُو
عَقِيلٍ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَقِيلٍ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَالِمِ
بْنِ أَبِي
الْجَعْدِ، عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ
آدَمَ بِأَطْرُقِهِ ; فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: أَتُسْلِمُ
وَتَذْرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ ؟ قَالَ: " فَعَصَاهُ وَأَسْلَمَ "
قَالَ: وَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: أَتُهَاجِرُ وَتَذْرُ
أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ ؟ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَالْفَرَسِ فِي الطُّولِ.
فَعَصَاهُ وَهَاجَرَ. ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، وَهُوَ جَهْدُ
النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَقَالَ: أَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ
وَيُقَسَّمُ الْمَالُ ؟ قَالَ: " فَعَصَاهُ وَجَاهَدَ " قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ
كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ قُتِلَ كَانَ
حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ كَانَ غَرِقَ كَانَ
حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ
كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَدْخُلَهُ الْجَنَّةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا عُبَادَةُ بْنُ
مُسْلِمٍ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنِي جُبَيْرُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ
جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ
حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ
فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي،
وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي
وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ
أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي. قَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي الْخَسْفَ. وَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ
حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ مُسْلِمٍ بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.
بَابُ مَا وَرَدَ
فِي خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ
مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ
عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ
أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى
حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ
مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ الْبَقَرَةِ: 30 - 31 ]. وَقَالَ تَعَالَى:
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ
قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ آلِ عِمْرَانَ: 59 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [ النِّسَاءِ: 1 ]. كَمَا قَالَ: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ الْحُجُرَاتِ: 13 ]. وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ
إِلَيْهَا [ الْأَعْرَافِ: 189 ]. الْآيَةَ.
وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ
السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا
خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ
مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ
الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ
الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ
وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا
مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا
وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ
هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ
الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا
بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا
وَطَفِقَا
يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ
أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ
لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى
حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [
الْأَعْرَافِ: 11 - 25 ].
كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ
وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [ طه: 55 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ
خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ
يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ
السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ
مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ
عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ
الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي
الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ
مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [ الْحِجْرِ 26 - 44 ].
وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أَرَأَيْتَكَ
هَذَا الَّذِي
كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ
ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ
جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ
مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ
فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا
غُرُورًا إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ
وَكِيلًا [ الْإِسْرَاءِ: 61 - 65 ].
وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [ الْكَهْفِ: 50 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ
عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا
يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا
وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ
الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ
لَا يَبْلَى فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا
يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا
جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ
أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [ طه: 115 - 126 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ
بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا
أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا
مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ
سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ
اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ
فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ
الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ
مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ
فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا
مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ ص: 67 - 88 ].
فَهَذَا ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ،
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي التَّفْسِيرِ. وَلْنَذْكُرْ
هَاهُنَا مَضْمُونَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ، وَمَا
يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَاطَبَ الْمَلَائِكَةَ قَائِلًا لَهُمْ: إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. أَعْلَمَ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ مِنْ
آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ الَّذِينَ يُخْلِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا قَالَ: وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ [ الْأَنْعَامِ: 165 ]. وَقَالَ:
وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ [ النَّمْلِ: 62 ]. فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ
عَلَى سَبِيلِ التَّنْوِيهِ بِخَلْقِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا يُخْبِرُ
بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ قَبْلَ كَوْنِهِ. فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ سَائِلِينَ
عَلَى وَجْهِ الِاسْتِكْشَافِ وَالِاسْتِعْلَامِ عَنْ وَجْهِ الْحِكْمَةِ لَا
عَلَى وَجْهِ
الِاعْتِرَاضِ وَالتَّنَقُّصِ لِبَنِي آدَمَ وَالْحَسَدِ لَهُمْ، كَمَا قَدْ
يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ جَهَلَةِ الْمُفَسِّرِينَ: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ
يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ. قِيلَ: عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ
بِمَا رَأَوْا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَ آدَمَ مِنَ الْحِنِّ وَالْبِنِّ. قَالَهُ
قَتَادَةُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كَانَتِ الْحِنُّ وَالْبِنُّ قَبْلَ آدَمَ
بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَسَفَكُوا الدِّمَاءَ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جُنْدًا
مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَطَرَدُوهُمْ إِلَى جَزَائِرِ الْبُحُورِ، وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَعَنِ الْحَسَنِ أُلْهِمُوا ذَلِكَ. وَقِيلَ: لِمَا
اطَّلَعُوا عَلَيْهِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. فَقِيلَ: أَطْلَعَهُمْ عَلَيْهِ
هَارُوتُ وَمَارُوتُ عَنْ مَلَكٍ فَوْقَهُمَا يُقَالُ لَهُ: السِّجِلُّ. رَوَاهُ
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ
عَلِمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لَا يَخْلُقُ مِنْهَا إِلَّا مَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ
الْمَثَابَةِ غَالِبًا. وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ. أَيْ:
نَعْبُدُكَ دَائِمًا لَا يَعْصِيكَ مِنَّا أَحَدٌ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ
بِخَلْقِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَعْبُدُوكَ فَهَا نَحْنُ لَا نَفْتُرُ لَيْلًا وَلَا
نَهَارًا. قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا. أَيْ: أَعْلَمُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ
الرَّاجِحَةِ فِي خَلْقِ هَؤُلَاءِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. أَيْ: سَيُوجَدُ مِنْهُمُ
الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، وَالصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءُ. ثُمَّ
بَيَّنَ لَهُمْ شَرَفَ آدَمَ عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ فَقَالَ: وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي
يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ ; إِنْسَانٌ، وَدَابَّةٌ، وَأَرْضٌ، وَسَهْلٌ،
وَبَحْرٌ، وَجَبَلٌ، وَجَمَلٌ، وَحِمَارٌ،
وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ
مِنَ الْأُمَمِ وَغَيْرِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَّمَهُ اسْمَ الصَّحْفَةِ،
وَالْقِدْرِ حَتَّى الْفَسْوَةِ وَالْفُسَيَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَّمَهُ
اسْمَ كُلِّ دَابَّةٍ، وَكُلِّ طَيْرٍ، وَكُلِّ شَيْءٍ.
وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ:
عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ:
عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ
الذَّوَاتِ، وَأَفْعَالَهَا مُكَبَّرَهَا وَمُصَغَّرَهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هُنَا مَا
رَوَاهُ هُوَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوِ
اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَبُو
الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ
أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ. وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ آدَمَ،
قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: لَا يَخْلُقُ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَعْلَمَ
مِنْهُ. فَابْتُلُوا بِهَذَا. وَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ قَالُوا سُبْحَانَكَ
لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
أَيْ: سُبْحَانَكَ أَنْ يُحِيطَ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِكَ مِنْ غَيْرِ
تَعْلِيمِكَ،
كَمَا قَالَ: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [ الْبَقَرَةِ: 255 ]. قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. أَيْ أَعْلَمُ السِّرَّ كَمَا أَعْلَمُ الْعَلَانِيَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ. مَا قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا. وَبِقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. الْمُرَادُ بِهَذَا الْكَلَامِ إِبْلِيسُ وَمَا أَسَرَّهُ وَكَتَمَهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبَرِ وَالْعَدَاوَةِ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. قَوْلُهُمْ: لَنْ يَخْلُقَ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَعْلَمَ مِنْهُ، وَأَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ. قَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ. هَذَا إِكْرَامٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِآدَمَ حِينَ خَلَقَهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، كَمَا قَالَ: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ الْحِجْرِ: 29 ]. فَهَذِهِ أَرْبَعُ تَشْرِيفَاتٍ خَلْقُهُ لَهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ، وَنَفْخُهُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمْرُهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَتَعْلِيمُهُ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ مُوسَى الْكِلِيمُ حِينَ اجْتَمَعَ هُوَ وَإِيَّاهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَتَنَاظَرَا، كَمَا سَيَأْتِي: أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ. وَهَكَذَا يَقُولُ لَهُ أَهْلُ الْمَحْشَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ الْأَعْرَافِ: 11 - 12 ]. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: قَاسَ إِبْلِيسُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ، وَمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَلَا الْقَمَرُ إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ. رَوَاهُمَا ابْنُ جُرَيْجٍ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ نَظَرَ نَفْسَهُ بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ فَرَأَى نَفْسَهُ أَشْرَفَ مِنْ آدَمَ فَامْتَنَعَ مِنَ السُّجُودِ لَهُ، مَعَ وُجُودِ الْأَمْرِ لَهُ وَلِسَائِرِ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ، وَالْقِيَاسُ إِذَا كَانَ مُقَابِلًا بِالنَّصِّ كَانَ فَاسِدَ الِاعْتِبَارِ، ثُمَّ هُوَ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ الطِّينَ أَنْفَعُ وَخَيْرٌ مِنَ النَّارِ فَإِنَّ الطِّينَ فِيهِ ; الرَّزَانَةُ، وَالْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ، وَالنُّمُوُّ، وَالنَّارُ فِيهَا ; الطَّيْشُ، وَالْخِفَّةُ، وَالسُّرْعَةُ، وَالْإِحْرَاقُ. ثُمَّ آدَمُ شَرَّفَهُ اللَّهُ بِخَلْقِهِ لَهُ بِيَدِهِ، وَنَفْخِهِ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَلِهَذَا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ، كَمَا قَالَ: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ الْحِجْرِ: 28 - 35 ]. اسْتَحَقَّ هَذَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ اسْتَلْزَمَ تَنَقُّصُهُ لِآدَمَ وَازْدِرَاؤُهُ بِهِ
وَتَرَفُّعُهُ عَلَيْهِ
مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ الْإِلِهِيِّ، وَمُعَانَدَةَ الْحَقِّ فِي النَّصِّ عَلَى
آدَمَ عَلَى التَّعْيِينِ، وَشَرَعَ فِي الِاعْتِذَارِ بِمَا لَا يُجْدِي عَنْهُ
شَيْئًا، وَكَانَ اعْتِذَارُهُ أَشَدَّ مِنْ ذَنْبِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي
سُورَةِ سُبْحَانَ: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أَرَأَيْتَكَ
هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ
وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ
الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ
وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [ الْإِسْرَاءِ: 61 - 65 ].
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [
الْكَهْفِ: 50 ]. أَيْ: خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَمْدًا وَعِنَادًا
وَاسْتِكْبَارًا عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ خَانَهُ
طَبْعُهُ وَمَادَّتُهُ النَّارِيَّةُ الْخَبِيثَةُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا.
فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نَارٍ، كَمَا قَالَ. وَكَمَا قَدَّمْنَا فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَتِ الْجَانُّ
مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: كَانَ مِنَ الْجِنِّ
فَلَمَّا أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جُنْدًا مِنَ
الْمَلَائِكَةِ فَقَتَلُوهُمْ، وَأَجْلَوْهُمْ إِلَى جَزَائِرِ الْبِحَارِ،
وَكَانَ إِبْلِيسُ مِمَّنْ أُسِرَ فَأَخَذُوهُ مَعَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَكَانَ
هُنَاكَ فَلَمَّا أُمِرَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّجُودِ امْتَنَعَ إِبْلِيسُ
مِنْهُ. وَقَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَسَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَآخَرُونَ: كَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسَ الْمَلَائِكَةِ
بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلَ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الْحَارِثُ. قَالَ النَّقَّاشُ: وَكُنْيَتُهُ أَبُو
كُرْدُوسَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ مِنْ حَيٍّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ
لَهُمْ: الْحِنُّ، وَكَانُوا خُزَّانَ الْجِنَانِ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَفِهِمْ،
وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا وَعِبَادَةً، وَكَانَ مِنْ أُولِى الْأَجْنِحَةِ
الْأَرْبَعَةِ، فَمَسَخَهُ اللَّهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا. وَقَالَ فِي سُورَةِ ص:
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا
سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ
الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ
الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ
بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا
فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ ص: 71
- 85 ]. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا
تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 16 - 17 ]. أَيْ: بِسَبَبِ
إِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، وَلِآتِيَنَّهُمْ مِنْ
كُلِّ جِهَةٍ مِنْهُمْ. فَالسَّعِيدُ مَنْ خَالَفَهُ، وَالشَّقِيُّ مَنِ
اتَّبَعَهُ.
كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا
أَبُو عَقِيلٍ هُوَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَقِيلٍ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ
أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي الْفَاكِهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ
يَقْعُدُ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي
صِفَةِ إِبْلِيسَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمَلَائِكَةِ الْمَأْمُورِينَ
بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، أَهُمْ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ ؟ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
عُمُومُ الْآيَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِمْ
مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ ؟ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ، وَفِي السِّيَاقِ نَكَارَةٌ، وَإِنْ
كَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ رَجَّحَهُ، وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ مِنَ
السِّيَاقَاتِ الْأَوَّلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ: وَأَسْجَدَ لَهُ
مَلَائِكَتَهُ. وَهَذَا عُمُومٌ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: فَاهْبِطْ مِنْهَا وَاخْرُجْ مِنْهَا دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي السَّمَاءِ، فَأُمِرَ بِالْهُبُوطِ مِنْهَا وَالْخُرُوجِ
مِنَ الْمَنْزِلَةِ وَالْمَكَانَةِ الَّتِي كَانَ قَدْ نَالَهَا بِعِبَادَتِهِ
وَتَشَبُّهِهِ بِالْمَلَائِكَةِ فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، ثُمَّ سَلَبَ
ذَلِكَ بِكِبْرِهِ وَحَسَدِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِرَبِّهِ، فَأُهْبِطَ إِلَى
الْأَرْضِ مَذْءُومًا مَدْحُورًا، وَأَمَرَ اللَّهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَنْ يَسْكُنَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: وَقُلْنَا يَا آدَمُ
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا
وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [ الْبَقَرَةِ:
35 ]. وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ: قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا
لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ وَيَا
آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 18 -
19 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا
مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى
وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [ طه: 116 - 119 ]. وَسِيَاقُ هَذِهِ
الْآيَاتِ يَقْتَضِي أَنَّ خَلْقَ حَوَّاءَ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ آدَمَ الْجَنَّةَ
لِقَوْلِهِ: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ. وَهَذَا قَدْ
صَرَّحَ بِهِ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ.
وَلَكِنْ حَكَى السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَأَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
أَنَّهُمْ قَالُوا: أُخْرِجَ إِبْلِيسُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأُسْكِنَ آدَمُ
الْجَنَّةَ فَكَانَ يَمْشِي فِيهَا وَحْشًا، لَيْسَ لَهُ فِيهَا زَوْجٌ يَسْكُنُ
إِلَيْهَا فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةٌ قَاعِدَةٌ
خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ ضِلْعِهِ، فَسَأَلَهَا مَنْ أَنْتِ ؟ قَالَتْ: امْرَأَةٌ.
قَالَ: وَلِمَا خُلِقْتِ؟. قَالَتْ: لِتَسْكُنَ إِلَيَّ. فَقَالَتْ لَهُ
الْمَلَائِكَةُ يَنْظُرُونَ مَا بَلَغَ مِنْ عِلْمِهِ: مَا اسْمُهَا يَا آدَمُ.
قَالَ: حَوَّاءُ. قَالُوا: وَلِمَ كَانَتْ حَوَّاءَ ؟ قَالَ: لِأَنَّهَا خُلِقَتْ
مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِهِ الْأَقْصَرِ الْأَيْسَرِ وَهُوَ نَائِمٌ،
وَلَأَمَ مَكَانَهُ لَحْمًا. وَمِصْدَاقُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [
النَّسَاءِ: 1 ]. الْآيَةَ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا
تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ [ الْأَعْرَافِ: 189 ].
الْآيَةَ.
وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ زَائِدَةَ، عَنْ مَيْسَرَةَ الْأَشْجَعِيِّ،
عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّ
الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلْعِ
أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ
أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ
الشَّجَرَةَ. فَقِيلَ هِيَ الْكَرْمُ. وَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَجَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ
قَيْسٍ، وَالسُّدِّيِّ فِي رِوَايَةٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ،
وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: وَتَزْعُمُ يَهُودُ أَنَّهَا الْحِنْطَةُ.
وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَوَهْبِ بْنِ
مُنَبِّهٍ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَمُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ،
وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى. قَالَ وَهْبٌ: وَالْحَبَّةُ مِنْهُ
أَلْيَنُ مِنَ الزَّبَدِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ
حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ. هِيَ
النَّخْلَةُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: هِيَ التِّينَةُ. وَبِهِ
قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ
جُرَيْجٍ. وَقَالَ
أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَتْ شَجَرَةً مَنْ أَكَلَ مِنْهَا أَحْدَثَ، وَلَا
يَنْبَغِي فِي الْجَنَّةِ حَدَثٌ.
وَهَذَا الْخِلَافُ قَرِيبٌ. وَقَدْ أَبْهَمَ اللَّهُ ذِكْرَهَا وَتَعْيِينَهَا،
وَلَوْ كَانَ فِي ذِكْرِهَا مَصْلَحَةٌ تَعُودُ إِلَيْنَا لَعَيَّنَهَا لَنَا،
كَمَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمُحَالِّ الَّتِي تُبْهَمُ فِي الْقُرْآنِ.
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ الَّتِي
أُسْكِنَهَا آدَمُ، هَلْ هِيَ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ؟ هُوَ الْخِلَافُ
الَّذِي يَنْبَغِي فَصْلُهُ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا
هِيَ الَّتِي فِي السَّمَاءِ، وَهِيَ جَنَّةُ الْمَأْوَى، لِظَاهِرِ الْآيَاتِ
وَالْأَحَادِيثِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [ الْبَقَرَةِ: 175 ]. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لَيْسَتْ
لِلْعُمُومِ، وَلَا لِمَعْهُودٍ لَفْظِيٍّ، وَإِنَّمَا تَعُودُ عَلَى مَعْهُودٍ
ذِهْنِيٍّ، وَهُوَ الْمُسْتَقِرُّ شَرْعًا مِنْ جَنَّةِ الْمَأْوَى، وَكَقَوْلِ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: عَلَامَ أَخْرَجْتَنَا
وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ. الْحَدِيثَ. كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ،
وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو مَالِكٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَا:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَجْمَعُ اللَّهُ
النَّاسَ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَ تَزْلُفُ لَهُمُ الْجَنَّةُ فَيَأْتُونَ
آدَمَ فَيَقُولُونَ يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ فَيَقُولُ: وَهَلْ
أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ !. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
بِطُولِهِ، وَهَذَا فِيهِ قُوَّةٌ جَيِّدَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى
أَنَّهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، وَلَيْسَتْ تَخْلُو عَنْ نَظَرٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ
بَلِ الْجَنَّةُ الَّتِي أُسْكِنَهَا آدَمُ لَمْ تَكُنْ جَنَّةَ الْخُلْدِ ;
لِأَنَّهُ كُلِّفَ فِيهَا أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، وَلِأَنَّهُ
نَامَ فِيهَا وَأَخْرَجَ مِنْهَا، وَدَخَلَ عَلَيْهِ إِبْلِيسُ فِيهَا، وَهَذَا
مِمَّا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ جَنَّةَ الْمَأْوَى. وَهَذَا الْقَوْلُ مَحْكِيٌّ،
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَوَهْبِ بْنِ
مُنَبِّهٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي
الْمَعَارِفِ، وَالْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ،
وَأُفْرِدَ لَهُ مُصَنَّفًا عَلَى حِدَةٍ، وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
الْإِمَامِ وَأَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَنَقَلَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ ابْنُ خَطِيبِ الرَّيِّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ
أَبِي الْقَاسِمِ الْبَلْخِيِّ، وَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ. وَنَقَلَهُ
الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْقَدَرِيَّةِ. وَهَذَا
الْقَوْلُ هُوَ نَصُّ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَمِمَّنْ
حَكَى الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي
" الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ " وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ فِي
تَفْسِيرِهِ، وَأَبُو عِيسَى الرُّمَّانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَحَكَى عَنِ الْجُمْهُورِ الْأَوَّلَ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الرَّاغِبُ،
وَالْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي الْجَنَّةِ
الَّتِي أُسْكِنَاهَا يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَى قَوْلَيْنِ ; أَحَدُهُمَا:
أَنَّهَا جَنَّةُ الْخُلْدِ. الثَّانِي: جَنَّةٌ أَعَدَّهَا اللَّهُ لَهُمَا،
وَجَعَلَهَا دَارَ ابْتِلَاءٍ، وَلَيْسَتْ جَنَّةَ الْخُلْدِ الَّتِي جَعَلَهَا
دَارَ جَزَاءٍ. وَمَنْ قَالَ: بِهَذَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ ;
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي السَّمَاءِ، لِأَنَّهُ أَهْبَطَهُمَا مِنْهَا. وَهَذَا
قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالثَّانِي:
أَنَّهَا فِي
الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ امْتَحَنَهُمَا فِيهَا بِالنَّهْيِ عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي
نَهَيَا عَنْهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الثِّمَارِ. وَهَكَذَا قَوْلُ ابْنِ
جُبَيْرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ مِنْ ذَلِكَ، هَذَا كَلَامُهُ.
فَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ حِكَايَةَ أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ، وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ
أَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلِهَذَا حَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ،
هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمَاوَرْدِيُّ وَرَابِعُهَا:
الْوَقْفُ. وَرَجَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَكَى
الْقَوْلَ بِأَنَّهَا فِي السَّمَاءِ وَلَيْسَتْ جَنَّةَ الْمَأْوَى عَنْ أَبِي
عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ.
وَقَدْ أَوْرَدَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي سُؤَالًا يَحْتَاجُ مِثْلُهُ إِلَى
جَوَابٍ فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى طَرَدَ
إِبْلِيسَ حِينَ امْتَنَعَ مِنَ السُّجُودِ عَنِ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ،
وَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا وَالْهُبُوطِ مِنْهَا، وَهَذَا الْأَمْرُ لَيْسَ
مِنَ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ مُخَالَفَتُهُ، وَإِنَّمَا
هُوَ أَمْرٌ قَدَرِيٌّ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ، وَلِهَذَا قَالَ: اخْرُجْ
مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا [ الْأَعْرَافِ: 18 ]. وَقَالَ: اهْبِطْ مِنْهَا
فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا [ الْأَعْرَافِ: 13 ]. وَقَالَ:
اخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ الْحِجْرِ: 34 ]. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى
الْجَنَّةِ أَوِ السَّمَاءِ أَوِ الْمَنْزِلَةِ، وَأَيًّا مَا كَانَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ
لَيْسَ لَهُ الْكَوْنُ بَعْدَ هَذَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي طُرِدَ عَنْهُ،
وَأَبْعَدُ مِنْهُ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ
الْمُرُورِ وَالِاجْتِيَازِ. قَالُوا: وَمَعْلُومٌ مِنْ ظَاهِرِ سِيَاقَاتِ
الْقُرْآنِ أَنَّهُ وَسْوَسَ
لِآدَمَ وَخَاطَبَهُ
بِقَوْلِهِ لَهُ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى [
طه: 120 ]. وَبِقَوْلِهِ: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ
إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا
إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [ الْأَعْرَافِ: 20
21 ]. الْآيَةَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي اجْتِمَاعِهِ مَعَهُمَا فِي جَنَّتِهِمَا،
وَقَدْ أُجِيبُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِمَا
فِي الْجَنَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُرُورِ فِيهَا لَا عَلَى سَبِيلِ
الِاسْتِقْرَارِ بِهَا، أَوْ أَنَّهُ وَسْوَسَ لَهُمَا وَهُوَ عَلَى بَابِ
الْجَنَّةِ، أَوْ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. وَفِي الثَّلَاثَةِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ أَصْحَابُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الزِّيَادَاتِ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ
عُتَيٍّ هُوَ ابْنُ ضَمْرَةَ السَّعْدِيُّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: إِنَّ
آدَمَ لَمَّا احْتُضِرَ اشْتَهَى قِطْفًا مِنْ عِنَبِ الْجَنَّةِ، فَانْطَلَقَ
بَنُوهُ لِيَطْلُبُوهُ لَهُ، فَلَقِيَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَقَالُوا: أَيْنَ
تُرِيدُونَ يَا بَنِي آدَمَ ؟ فَقَالُوا: إِنَّ أَبَانَا اشْتَهَى قِطْفًا مِنْ
عِنَبِ الْجَنَّةِ. فَقَالُوا لَهُمْ: ارْجِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ فَانْتَهَوْا
إِلَيْهِ فَقَبَضُوا رُوحَهُ، وَغَسَّلُوهُ، وَحَنَّطُوهُ، وَكَفَّنُوهُ، وَصَلَّى
عَلَيْهِ جِبْرِيلُ وَبَنُوهُ خَلْفَ الْمَلَائِكَةِ، وَدَفَنُوهُ. وَقَالُوا:
هَذِهِ سُنَّتُكُمْ فِي مَوْتَاكُمْ. وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ بِسَنَدِهِ،
وَتَمَامُ لَفْظِهِ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالُوا:
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ الْوُصُولُ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا آدَمُ
الَّتِي اشْتَهَى مِنْهَا الْقِطْفُ مُمْكِنًا لَمَا ذَهَبُوا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ،
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْأَرْضِ لَا فِي السَّمَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ.
قَالُوا: وَالِاحْتِجَاجُ بِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: وَيَا آدَمُ
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ.
لَمْ يَتَقَدَّمْ
عَهْدٌ يُعُودُ عَلَيْهِ، فَهُوَ الْمَعْهُودُ الذِّهْنِيُّ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ
هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ فَإِنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ،
وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ. وَخُلِقَ لِيَكُونَ فِي
الْأَرْضِ، وَبِهَذَا أَعْلَمَ الرَّبُّ الْمَلَائِكَةَ حَيْثُ قَالَ: إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.
قَالُوا: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا
أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [ الْقَلَمِ: 17 ]. فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لَيْسَ
لِلْعُمُومِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مَعْهُودٌ لَفْظِيٌّ، وَإِنَّمَا هِيَ
لِلْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَهُوَ
الْبُسْتَانُ.
قَالُوا: وَذِكْرُ الْهُبُوطِ لَا يَدُلُّ عَلَى النُّزُولِ مِنَ السَّمَاءِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ
عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [ هُودٍ: 48 ]. الْآيَةَ. وَإِنَّمَا
كَانَ فِي السَّفِينَةِ حِينَ اسْتَقَرَّ عَلَى الْجُودِيِّ وَنَضَبَ الْمَاءُ
عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، أُمِرَ أَنْ يَهْبِطَ إِلَيْهَا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ
مُبَارَكًا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِصْرًا
فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [ الْبَقَرَةِ: 61 ]. الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى:
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ: 74 ].
الْآيَةَ. وَفِي الْأَحَادِيثِ وَاللُّغَةِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ.
قَالُوا: وَلَا مَانِعَ، بَلْ هُوَ الْوَاقِعُ، أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي
أُسْكِنَهَا آدَمُ كَانَتْ مُرْتَفِعَةً عَنْ سَائِرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ ذَاتِ
أَشْجَارٍ، وَثِمَارٍ، وَظِلَالٍ، وَنَعِيمٍ، وَنَضْرَةٍ، وَسُرُورٍ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى [ طه: 118 ]. أَيْ لَا
يُذَلُّ بَاطِنُكَ بِالْجُوعِ، وَلَا ظَاهِرُكَ بِالْعُرْيِ: وَأَنَّكَ لَا
تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [ طه: 119 ]. أَيْ لَا يَمَسُّ بَاطِنَكَ حَرُّ
الظَّمَأِ، وَلَا ظَاهِرَكَ حَرُّ الشَّمْسِ، وَلِهَذَا قَرَنَ بَيْنَ هَذَا
وَهَذَا، وَبَيْنَ هَذَا وَهَذَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُقَابَلَةِ. فَلَمَّا
كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ مِنْ أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا
أُهْبِطَ
إِلَى أَرْضِ
الشَّقَاءِ، وَالتَّعَبِ، وَالنَّصَبِ، وَالْكَدَرِ، وَالسَّعْيِ، وَالنَّكَدِ،
وَالِابْتِلَاءِ، وَالِاخْتِبَارِ، وَالِامْتِحَانِ، وَاخْتِلَافِ السُّكَّانِ ;
دِينًا، وَأَخْلَاقًا، وَأَعْمَالًا، وَقُصُودًا، وَإِرَادَاتٍ، وَأَقْوَالًا،
وَأَفْعَالًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ
وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [ الْبَقَرَةِ: 36 ]. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ
كَانُوا فِي السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ
لَفِيفًا [ الْإِسْرَاءِ: 204 ]. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا فِيهَا لَمْ
يَكُونُوا فِي السَّمَاءِ.
قَالُوا: وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُنْكِرُ وُجُودَ
الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْيَوْمَ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا، فَكُلُّ مَنْ
حُكِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ السَّلَفِ، وَأَكْثَرِ الْخَلَفِ مِمَّنْ
يُثْبِتُ وُجُودَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْيَوْمَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ
الْآيَاتُ، وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ، كَمَا سَيَأْتِي إِيرَادُهَا فِي
مَوْضِعِهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا [ الْبَقَرَةِ: 36 ].
أَيْ: عَنِ الْجَنَّةِ: فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ. أَيْ: مِنَ
النَّعِيمِ وَالنَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ إِلَى دَارِ التَّعَبِ وَالْكَدِّ
وَالنَّكَدِ، وَذَلِكَ بِمَا وَسْوَسَ لَهُمَا وَزَيَّنَهُ فِي صُدُورِهِمَا،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا
وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ
هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
[ الْأَعْرَافِ: 20 ]. يَقُولُ: مَا نَهَاكُمَا عَنْ أَكْلِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ
إِلَّا أَنَّ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. أَيْ: وَلَوْ
أَكَلْتُمَا مِنْهَا لَصِرْتُمَا كَذَلِكَ: وَقَاسَمَهُمَا. أَيْ: حَلَفَ لَهُمَا
عَلَى ذَلِكَ: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [ الْأَعْرَافِ: 21 ].
كَمَا قَالَ فِي
الْآيَةِ الْأُخْرَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ
أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى [ طه: 120 ]. أَيْ: هَلْ
أَدُلُّكَ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي إِذَا أَكَلْتَ مِنْهَا حَصَلَ لَكَ
الْخُلْدُ فِيمَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَاسْتَمْرَرْتَ فِي مُلْكٍ لَا
يَبِيدُ وَلَا يَنْقَضِي ؟ وَهَذَا مِنَ التَّغْرِيرِ وَالتَّزْوِيرِ
وَالْإِخْبَارِ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ: شَجَرَةِ
الْخُلْدِ. الَّتِي إِذَا أَكَلْتَ مِنْهَا خَلَّدْتَ.
وَقَدْ تَكُونُ هِيَ الشَّجَرَةُ الَّتِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي الضَّحَّاكِ،
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي
ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا ; شَجَرَةُ الْخُلْدِ. وَكَذَا رَوَاهُ
أَيْضًا عَنْ غُنْدَرٍ، وَحَجَّاجٍ، عَنْ شُعْبَةَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ شُعْبَةَ أَيْضًا بِهِ.
قَالَ غُنْدَرٌ: قُلْتُ لِشُعْبَةَ: هِيَ شَجَرَةُ الْخُلْدِ. قَالَ: لَيْسَ
فِيهَا هِيَ. تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَقَوْلُهُ: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا
سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [
الْأَعْرَافِ: 22 ]. كَمَا قَالَ فِي طه: فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا
سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.
وَكَانَتْ حَوَّاءُ أَكَلَتْ مِنَ الشَّجَرَةِ قَبِلَ آدَمَ، وَهِيَ الَّتِي
حَدَتْهُ عَلَى أَكْلِهَا،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ
بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ، وَلَوْلَا
حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا. تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ،
وَمُسْلِمٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ أَبِي وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
حَارِثٍ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَفِي كِتَابِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ
الَّذِي دَلَّ حَوَّاءَ عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ هِيَ الْحَيَّةُ،
وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ، وَأَعْظَمِهَا فَأَكَلَتْ حَوَّاءُ عَنْ
قَوْلِهَا، وَأَطْعَمَتْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ
لِإِبْلِيسَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ انْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا، وَعَلِمَا أَنَّهُمَا
عُرْيَانَانِ فَوَصَلَا مِنْ، وَرَقِ التِّينِ، وَعَمِلَا مَآزِرَ، وَفِيهَا
أَنَّهُمَا كَانَا عُرْيَانَيْنِ، وَكَذَا قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ كَانَ لِبَاسُهُمَا
نُورًا عَلَى فَرْجِهِ وَفَرْجِهَا.
وَهَذَا الَّذِي فِي هَذِهِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ غَلَطٌ مِنْهُمْ
وَتَحْرِيفٌ وَخَطَأٌ فِي التَّعْرِيبِ، فَإِنَّ نَقْلَ الْكَلَامِ مِنْ لُغَةٍ
إِلَى لُغَةٍ لَا يَكَادُ يَتَيَسَّرُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا سِيَّمَا
مِمَّنْ لَا
يَعْرِفُ كَلَامَ الْعَرَبِ جَيِّدًا، وَلَا يُحِيطُ عِلْمًا بِفَهْمِ كِتَابِهِ
أَيْضًا، فَلِهَذَا وَقَعَ فِي تَعْرِيبِهِمْ لَهَا خَطَأٌ كَثِيرٌ لَفْظًا
وَمَعْنَى، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا
لِبَاسٌ فِي قَوْلِهِ: يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا
سَوْآتِهِمَا. فَهَذَا لَا يَرُدُّ لِغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنُ إِشْكَابٍ،
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ رَجُلًا
طِوَالًا كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ، فَلَمَّا ذَاقَ
الشَّجَرَةَ سَقَطَ عَنْهُ لِبَاسُهُ، فَأَوَّلُ مَا بَدَا مِنْهُ عَوْرَتُهُ،
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ جَعَلَ يَشْتَدُّ فِي الْجَنَّةِ، فَأَخَذَتْ
شَعْرَهُ شَجَرَةٌ فَنَازَعَهَا، فَنَادَاهُ الرَّحْمَنُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا آدَمُ
مِنِّي تَفِرُّ. فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الرَّحْمَنِ قَالَ: يَا رَبِّ لَا،
وَلَكِنِ اسْتِحْيَاءً. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ
الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ. قَالَ: وَرَقِ
التِّينِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَبِتَقْدِيرِ
تَسْلِيمِهِ فَلَا يَضُرُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ
الْحَسَنِ
بْنِ ذَكْوَانَ،
عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَبَاكُمْ آدَمَ كَانَ كَالنَّخْلَةِ
السَّحُوقِ سِتِّينَ ذِرَاعًا، كَثِيرَ الشَّعْرِ، مُوَارَى الْعَوْرَةِ، فَلَمَّا
أَصَابَ الْخَطِيئَةَ فِي الْجَنَّةِ بَدَتْ لَهُ سَوْءَتُهُ، فَخَرَجَ مِنَ
الْجَنَّةِ فَلَقِيَتْهُ شَجَرَةٌ فَأَخَذَتْ بِنَاصِيَتِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ:
أَفِرَارًا مِنِّي يَا آدَمُ. قَالَ: بَلْ حَيَاءً مِنْكَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ
مِمَّا جِئْتُ بِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ،
عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عُتَيِّ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَهَذَا
أَصَحُّ، فَإِنَّ الْحَسَنَ لَمْ يُدْرِكْ أُبَيًّا. ثُمَّ أَوْرَدَهُ أَيْضًا
مِنْ طَرِيقِ خَيْثَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ الطَّرَابُلْسِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْوَهَّابِ أَبِي قِرْصَافَةَ الْعَسْقَلَانِيِّ، عَنْ آدَمَ بْنِ أَبِي
إِيَاسٍ، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ.
وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ
لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 22 - 23 ]. وَهَذَا اعْتِرَافٌ، وَرُجُوعٌ إِلَى
الْإِنَابَةِ، وَتَذَلُّلٌ وَخُضُوعٌ، وَاسْتِكَانَةٌ وَافْتِقَارٌ إِلَيْهِ
تَعَالَى فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ. وَهَذَا السِّرُّ مَا سَرَى فِي أَحَدٍ
مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَّا كَانَتْ عَاقِبَتُهُ إِلَى خَيْرٍ فِي دُنْيَاهُ
وَأُخْرَاهُ.
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ
وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [ الْأَعْرَافِ: 24 ]. وَهَذَا خِطَابٌ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ
وَإِبْلِيسَ.
قِيلَ: وَالْحَيَّةُ
مَعَهُمْ. أُمِرُوا أَنْ يَهْبِطُوا مِنَ الْجَنَّةِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ
مُتَعَادِينَ مُتَحَارِبِينَ، وَقَدْ يُسْتَشْهَدُ لِذِكْرِ الْحَيَّةِ مَعَهُمَا
بِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ. وَقَالَ مَا سَالَمْنَاهُنَّ
مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ.
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ طه: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ [ طه: 123 ]. هُوَ أَمْرٌ لِآدَمَ وَإِبْلِيسَ وَمَا تَنَاسَلَ مِنْهُمَا
عَدَاوَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ، وَاسْتَتْبَعَ آدَمَ حَوَّاءُ، وَإِبْلِيسَ الْحَيَّةُ.
وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ لَهُمْ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ
غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 78 ].
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ الْحَاكِمُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بَيْنَ
اثْنَيْنِ مُدَّعٍ وَمُدَّعَى عَلَيْهِ. قَالَ: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ.
وَأَمَّا تَكْرِيرُهُ الْإِهْبَاطَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ:
وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ
فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا
جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ الْبَقَرَةِ:
36 39 ]. فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالْإِهْبَاطِ
الْأَوَّلِ
الْهُبُوطُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَبِالثَّانِي مِنَ
السَّمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ فِي
الْأَوَّلِ: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أُهْبِطُوا
إِلَى الْأَرْضِ بِالْإِهْبَاطِ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَرَّرَهُ لَفْظًا، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا، وَنَاطَ مَعَ
كُلِّ مَرَّةٍ حُكْمًا ; فَنَاطَ بِالْأَوَّلِ: عَدَاوَتَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ،
وَبِالثَّانِي: الِاشْتِرَاطَ عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنْ تَبِعَ هُدَاهُ الَّذِي
يُنَزِّلُهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ السَّعِيدُ، وَمَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ
الشَّقِيُّ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ فِي الْكَلَامِ لَهُ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ
مَلَكَيْنِ أَنْ يُخْرِجَا آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنْ جِوَارِهِ، فَنَزَعَ جِبْرِيلُ
التَّاجَ عَنْ رَأْسِهِ، وَحَلَّ مِيكَائِيلُ الْإِكْلِيلَ عَنْ جَبِينِهِ،
وَتَعَلَّقَ بِهِ غُصْنٌ فَظَنَّ آدَمُ أَنَّهُ قَدْ عُوجِلَ بِالْعُقُوبَةِ
فَنَكَّسَ رَأْسَهُ يَقُولُ: الْعَفْوَ الْعَفْوَ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:
فِرَارًا مِنِّي يَا آدَمُ. قَالَ: بَلْ حَيَاءً مِنْكَ يَا سَيِّدِي. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ،
عَنْ حَسَّانَ هُوَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَكَثَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ عَامٍ،
وَفِي رِوَايَةٍ سِتِّينَ عَامًا، وَبَكَى عَلَى الْجَنَّةِ سَبْعِينَ عَامًا،
وَعَلَى خَطِيئَتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، وَعَلَى وَلَدِهِ حِينَ قُتِلَ أَرْبَعِينَ
عَامًا. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ
بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ
إِلَى أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا دَحْنَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ. وَعَنِ
الْحَسَنِ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ بِالْهِنْدِ، وَحَوَّاءُ بِجُدَّةَ، وَإِبْلِيسُ
بِدَسْتِمَيْسَانَ مِنَ الْبَصْرَةِ عَلَى أَمْيَالٍ، وَأُهْبِطَتِ الْحَيَّةُ
بِأَصْبَهَانَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَ
آدَمُ بِالْهِنْدِ، وَنَزَلَ مَعَهُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَبِقَبْضَةٍ مِنْ
وَرَقِ الْجَنَّةِ، فَبَثَّهُ فِي الْهِنْدِ فَنَبَتَتْ شَجَرَةُ الطِّيبِ
هُنَاكَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ بِالصَّفَا، وَحَوَّاءُ بِالْمَرْوَةِ.
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ مَعْمَرٌ: أَخْبَرَنِي عَوْفٌ، عَنْ قَسَامَةَ
بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حِينَ
أَهْبَطَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ عَلَّمَهُ صَنْعَةَ كُلِّ شَيْءٍ،
وَزَوَّدَهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ. فَثِمَارُكُمْ هَذِهِ مِنْ ثِمَارِ
الْجَنَّةِ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ تَتَغَيَّرُ، وَتِلْكَ لَا تَتَغَيَّرُ. وَقَالَ
الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ بَالُوَيْهِ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَائِدَةَ،
عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا أُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَا بَيْنَ
صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ
الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ
فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ; فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ
الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ:
وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ;
فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا،
وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ. وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي
الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْوَرْكَانِيُّ،
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَبَطَ آدَمُ وَحَوَّاءُ عُرْيَانَيْنِ
جَمِيعًا عَلَيْهِمَا وَرَقُ الْجَنَّةِ، فَأَصَابَهُ الْحَرُّ حَتَّى قَعَدَ
يَبْكِي، وَيَقُولُ لَهَا: يَا حَوَّاءُ قَدْ أَذَانِي الْحَرُّ " قَالَ:
" فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِقُطْنٍ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَغْزِلَ، وَعَلَّمَهَا،
وَأَمَرَ آدَمَ بِالْحِيَاكَةِ، وَعَلَّمَهُ أَنْ يَنْسِجَ. وَقَالَ: كَانَ آدَمُ
لَمْ يُجَامِعِ امْرَأَتَهُ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى هَبَطَ مِنْهَا لِلْخَطِيئَةِ
الَّتِي أَصَابَتْهُمَا بِأَكْلِهِمَا مِنَ الشَّجَرَةِ " قَالَ: "
وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنَامُ عَلَى حِدَةٍ يَنَامُ أَحَدُهُمَا فِي
الْبَطْحَاءِ، وَالْآخَرُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى حَتَّى أَتَاهُ جِبْرِيلُ
فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ " قَالَ: " وَعَلَّمَهُ كَيْفَ
يَأْتِيهَا، فَلِمَا أَتَاهَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: كَيْفَ وَجَدْتَ
امْرَأَتَكَ ؟ قَالَ: صَالِحَةً ". فَإِنَّهُ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَرَفْعُهُ
مُنْكَرٌ جِدًّا، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ. وَسَعِيدُ بْنُ
مَيْسَرَةَ هَذَا هُوَ أَبُو عِمْرَانَ الْبَكْرِيُّ الْبَصْرِيُّ. قَالَ فِيهِ
الْبُخَارِيُّ:
مُنْكَرُ
الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ. وَقَالَ ابْنُ
عَدِيٍّ: مُظْلِمُ الْأَمْرِ.
وَقَوْلُهُ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ الْبَقَرَةِ: 37 ]. قِيلَ: هِيَ قَوْلُهُ: رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ
مِنَ الْخَاسِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 23 ]. رُوِيَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَالْحَسَنِ،
وَقَتَادَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، وَعَطَاءٍ
الْخُرَاسَانِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَقَالَ ابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنُ إِشْكَابٍ، حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ
الْحَسَنِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَرَأَيْتَ يَا رَبِّ إِنْ
تُبْتُ وَرَجَعْتُ أَعَائِدِي إِلَى الْجَنَّةِ. قَالَ: نَعَمْ. فَذَلِكَ
قَوْلُهُ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ. وَهَذَا
غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْكَلِمَاتُ: اللَّهُمَّ لَا
إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ، اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ
سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ
خَيْرُ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ
وَبِحَمْدِكَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي
مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فَتَلَقَّى
آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ. قَالَ: قَالَ: آدَمُ يَا رَبِّ
أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ. قِيلَ لَهُ: بَلَى. وَنَفَخْتَ فِيَّ مَنْ رُوحِكَ.
قِيلَ لَهُ: بَلَى. وَعَطَسْتُ، فَقُلْتَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَسَبَقَتْ
رَحْمَتُكَ غَضَبَكَ. قِيلَ لَهُ: بَلَى. وَكَتَبْتَ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَ هَذَا.
قِيلَ لَهُ: بَلَى. قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ هَلْ أَنْتَ رَاجِعِي إِلَى
الْجَنَّةِ ؟. قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ،
وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ أَيْضًا، والْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَمَّا اقْتَرَفَ آدَمُ الْخَطِيئَةَ قَالَ: يَا رَبِّ أَسْأَلُكَ
بِحَقِّ مُحَمَّدٍ إِلَّا غَفَرْتَ لِي. فَقَالَ اللَّهُ: فَكَيْفَ عَرَفْتَ
مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ بَعْدُ. فَقَالَ: يَا رَبِّ لِأَنَّكَ لَمَّا
خَلَقْتَنِي بِيَدِكَ، وَنَفَخْتَ فِيَّ مَنْ رُوحِكَ رَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ
عَلَى قَوَائِمِ الْعَرْشِ مَكْتُوبًا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ. فَعَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تُضِفْ إِلَى اسْمِكَ إِلَّا أَحَبَّ
الْخَلْقِ إِلَيْكَ. فَقَالَ اللَّهُ: صَدَقْتَ يَا آدَمُ إِنَّهُ لَأَحَبُّ
الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَإِذْ سَأَلْتَنِي بِحَقِّهِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، وَلَوْلَا
مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَصَى آدَمُ
رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [ طه: 21 22
].
ذِكْرُ احْتِجَاجِ
آدَمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ
النَّجَّارِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: حَاجَّ
مُوسَى آدَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجْتَ
النَّاسَ بِذَنْبِكَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَشْقَيْتَهُمْ ! قَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى
أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ ! أَتَلُومُنِي
عَلَى أَمْرٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي، أَوْ
قَدَّرَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَمْرٍو
النَّاقِدِ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ،
عَنْ أَيُّوبَ بْنِ النَّجَّارِ بِهِ. قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ:
وَلَمْ يُخَرِّجَا عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ سِوَاهُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ،
عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ،
حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى:
أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ ! فَقَالَ لَهُ
آدَمُ: وَأَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ
! تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ! قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ
مُوسَى. مَرَّتَيْنِ قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ،
وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا
زَائِدَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى،
فَقَالَ: مُوسَى يَا آدَمُ أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ
فِيكَ مِنْ رُوحِهِ أَغْوَيْتَ النَّاسَ، وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ !
قَالَ: فَقَالَ آدَمُ: وَأَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ !
تَلُومُنِي عَلَى عَمَلٍ أَعْمَلُهُ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ
يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ! قَالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. وَقَدْ
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى بْنِ حَبِيبِ بْنِ
عَرَبِيٍّ، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ
بِهِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ
التَّيْمِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. قُلْتُ: هَكَذَا رَوَاهُ
الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
مُثَنَّى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَسَدٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ
بَعْضُهُمْ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ
أَيْضًا، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ، حَدَّثَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَوْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَذَكَرَ
نَحْوَهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ طَاوُسًا، سَمِعَ
أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا
خَيَّبْتَنَا، وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى
أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ !. وَقَالَ مَرَّةً بِرِسَالَتِهِ،
وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ ! أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ
قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً !. قَالَ: حَجَّ آدَمُ مُوسَى،
حَجَّ آدَمُ مُوسَى، حَجَّ آدَمُ مُوسَى. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ
عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى: يَا
آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا، وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ
لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ !
أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي
بِأَرْبَعِينَ سَنَةً ! فَحَجَّآدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. هَكَذَا
ثَلَاثًا.
قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَقَدْ
رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ عَشْرِ طُرُقٍ، عَنْ سُفْيَانَ
بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ
عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: لَقِيَ آدَمُ مُوسَى، فَقَالَ: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ
اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ
فَعَلْتَ ! فَقَالَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي كَلَّمَكَ اللَّهُ، وَاصْطَفَاكَ
بِرِسَالَتِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ ! أَنَا أَقْدَمُ أَمِ الذِّكْرُ
؟ قَالَ: لَا بَلِ الذِّكْرُ. فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا
عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُمَيْدٌ، عَنِ
الْحَسَنِ، عَنْ رَجُلٍ قَالَ: حَمَّادٌ أَظُنُّهُ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَجَلِيَّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَقِيَ
آدَمُ مُوسَى. فَذَكَرَ مَعْنَاهُ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ هُوَ ابْنُ حَازِمٍ،
عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقِيَ آدَمُ مُوسَى، فَقَالَ: أَنْتَ
آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، وَأَسْجَدَ
لَكَ مَلَائِكَتَهُ، ثُمَّ صَنَعْتَ مَا صَنَعْتَ ! قَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى
أَنْتَ الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ تَجِدُهُ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. وَكَذَا رَوَاهُ
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَهِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَفَعَهُ.
وَكَذَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ خَالِدٍ، وَهِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ سِيرِينَ، وَهَذَا عَلَى شَرْطِهِمَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى،
أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ
أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْتَجَّ آدَمُ
وَمُوسَى عِنْدَ رَبِّهِمَا، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ; قَالَ مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي
خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ
مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ إِلَى
الْأَرْضِ بِخَطِيئَتِكَ ! قَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ
بِرِسَالَتِهِ وَكَلَامِهِ، وَأَعْطَاكَ الْأَلْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ،
وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ ؟ قَالَ
مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا. قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا "
وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى
أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ
يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً ! قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى.
قَالَ الْحَارِثُ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ بِذَلِكَ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
ذُبَابٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، وَالْأَعْرَجِ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى،
فَقَالَ مُوسَى
لِآدَمَ: يَا آدَمُ أَنْتَ الَّذِي أَدْخَلْتَ ذُرِّيَّتَكَ النَّارَ ! فَقَالَ
آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، وَأَنْزَلَ
عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ، فَهَلْ وَجَدْتَ أَنِّي أَهْبِطُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
فَحَجَّهُ آدَمُ. وَهَذَا عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ. وَفِي قَوْلِهِ: " أَدْخَلْتَ ذُرِّيَّتَكَ النَّارَ "
نَكَارَةٌ.
فَهَذِهِ طُرُقُ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. رَوَاهُ عَنْهُ حُمَيْدُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَذَكْوَانُ أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ، وَطَاوُسُ بْنُ
كَيْسَانَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ، وَعَمَّارُ بْنُ
أَبِي عَمَّارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَهَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَيَزِيدُ
بْنُ هُرْمُزَ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ
حَدِيثِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ
أَرِنَا آدَمَ الَّذِي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. فَأَرَاهُ آدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: أَنْتَ آدَمُ ! فَقَالَ لَهُ آدَمُ: نَعَمْ. قَالَ:
أَنْتَ الَّذِي نَفَخَ اللَّهُ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ
مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا
حَمَلَكَ عَلَى أَنْ أَخْرَجْتَنَا، وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ لَهُ
آدَمُ: مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى. قَالَ: أَنْتَ مُوسَى نَبِيُّ بَنِي
إِسْرَائِيلَ، أَنْتَ الَّذِي كَلَّمَكَ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ فَلَمْ
يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ رَسُولًا مِنْ خَلْقِهِ ! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ سَبَقَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْقَضَاءُ بِهِ
قَبْلُ ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَجَّ آدَمُ
مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
صَالِحٍ الْمِصْرِيِّ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ قَالَ
أَبُو يَعْلَى:
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
الصَّبَّاحِ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، عَنِ الرُّدَيْنِيِّ بْنِ
أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ
قَالَ: أَبُو مُحَمَّدٍ أَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهُ رَفَعَهُ قَالَ: الْتَقَى آدَمُ
وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى لِآدَمَ: أَنْتَ أَبُو النَّاسِ أَسْكَنَكَ اللَّهُ
جَنَّتَهُ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ ! قَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى أَمَا
تَجِدُهُ عَلَيَّ مَكْتُوبًا ! قَالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ
مُوسَى. وَهَذَا الْإِسْنَادُ أَيْضًا لَا بَأْسَ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَرِوَايَةُ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ لَهُ ; عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ
الْحَسَنِ، عَنْ رَجُلٍ. قَالَ حَمَّادٌ: أَظُنُّهُ جُنْدُبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَجَلِيَّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقِيَ آدَمُ
مُوسَى. فَذَكَرَ مَعْنَاهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ مَسَالِكُ النَّاسِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ; فَرَدَّهُ قَوْمٌ
مِنَ الْقَدَرِيَّةِ لِمَا تَضَمَّنَ مِنْ إِثْبَاتِ الْقَدَرِ السَّابِقِ.
وَاحْتَجَّ بِهِ قَوْمٌ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لَهُمْ بَادِيَ
الرَّأْيِ ; حَيْثُ قَالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ
بِتَقْدِيمِ كِتَابِهِ، وَسَيَأْتِي الْجَوَابُ، عَنْ هَذَا. وَقَالَ آخَرُونَ:
إِنَّمَا حَجَّهُ لِأَنَّهُ لَامَهُ عَلَى ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ، وَالتَّائِبُ
مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا حَجَّهُ لِأَنَّهُ
أَكْبَرُ مِنْهُ
وَأَقْدَمُ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَبُوهُ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمَا فِي شَرِيعَتَيْنِ
مُتَغَايِرَتَيْنِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمَا فِي دَارِ الْبَرْزَخِ، وَقَدِ
انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ فِيمَا يَزْعُمُونَهُ.
وَالتَّحْقِيقُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ بَعْضُهَا
مَرْوِيٌّ بِالْمَعْنَى وَفِيهِ نَظَرٌ، وَمَدَارُ مُعْظَمِهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ،
وَغَيْرِهِمَا عَلَى أَنَّهُ لَامَهُ عَلَى إِخْرَاجِهِ نَفْسَهُ وَذُرِّيَّتَهُ
مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنَا لَمْ أُخْرِجْكُمْ، وَإِنَّمَا
أَخْرَجَكُمُ الَّذِي رَتَّبَ الْإِخْرَاجَ عَلَى أَكْلِي مِنَ الشَّجَرَةِ،
وَالَّذِي رَتَّبَ ذَلِكَ، وَقَدَّرَهُ وَكَتَبَهُ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ هُوَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَنْتَ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ لَيْسَ لَهُ نِسْبَةٌ
إِلَيَّ أَكْثَرَ مَا أَنِّي نُهِيتُ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ
مِنْهَا، وَكَوْنُ الْإِخْرَاجِ مُتَرَتِّبًا عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِي،
فَأَنَا لَمْ أُخْرِجْكُمْ وَلَا نَفْسِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا
مِنْ قَدَرِ اللَّهِ وَصُنْعِهِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ فَلِهَذَا حَجَّ
آدَمُ مُوسَى.
وَمَنْ كَذَّبَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَمُعَانِدٌ ; لِأَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَنَاهِيكَ بِهِ عَدَالَةً وَحِفْظًا
وَإِتْقَانًا، ثُمَّ هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَمَا
ذَكَرْنَا. وَمَنْ تَأَوَّلَهُ بِتِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا فَهُوَ
بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَمَا فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَقْوَى مَسْلَكًا
مِنَ الْجَبْرِيَّةِ. وَفِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ ; أَحَدُهَا: أَنَّ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَلُومُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ
فَاعِلُهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ قَتَلَ نَفْسًا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِهَا،
وَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [ الْقَصَصِ: 16 ]. الْآيَةَ، الثَّالِثُ: أَنَّهُ
لَوْ كَانَ الْجَوَابُ عَنِ اللَّوْمِ عَلَى الذَّنْبِ بِالْقَدَرِ الْمُتَقَدِّمِ
كِتَابَتُهُ عَلَى الْعَبْدِ لَانْفَتَحَ هَذَا لِكُلِّ مَنْ لِيمَ عَلَى أَمْرٍ
قَدْ فَعَلَهُ، فَيَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ،
فَيَنْسَدُّ بَابُ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ، وَلَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَاحْتَجَّ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ فِي الْأُمُورِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَهَذَا يُفْضِي إِلَى لَوَازِمَ فَظِيعَةٍ. فَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ جَوَابَ آدَمَ إِنَّمَا كَانَ احْتِجَاجًا بِالْقَدَرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ لَا الْمَعْصِيَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
ذِكْرُ
الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ،
حَدَّثَنَا عَوْفٌ، حَدَّثَنِي قَسَامَةُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ
مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى
قَدْرِ الْأَرْضِ ; فَجَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ، وَالْأَحْمَرُ، وَالْأَسْوَدُ،
وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ، وَالطَّيِّبُ، وَالسَّهْلُ، وَالْحَزْنُ، وَبَيْنَ
ذَلِكَ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ هَوْذَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ
سَمِعْتُ الْأَشْعَرِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ
الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ ; فَجَاءَ مِنْهُمُ
الْأَبْيَضُ، وَالْأَحْمَرُ، وَالْأَسْوَدُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ، وَالْحَزْنُ،
وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ، وَالطَّيِّبُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ. وَكَذَا رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ
عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ
الْمَازِنِيِّ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ
الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: فَبَعَثَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ جِبْرِيلَ فِي الْأَرْضِ لِيَأْتِيَهُ بِطِينٍ مِنْهَا، فَقَالَتِ
الْأَرْضُ: أَعُوذُ
بِاللَّهِ مِنْكَ أَنْ تَنْقُصَ مِنِّي أَوْ تَشِينَنِي. فَرَجَعَ وَلَمْ يَأْخُذْ. وَقَالَ: رَبِّ إِنَّهَا عَاذَتْ بِكَ فَأَعَذْتُهَا. فَبَعَثَ مِيكَائِيلَ، فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَأَعَاذَهَا، فَرَجَعَ، فَقَالَ كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ. فَبَعَثَ مَلَكَ الْمَوْتِ، فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَقَالَ: وَأَنَا أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَرْجِعَ وَلَمْ أُنَفِّذْ أَمْرَهُ، فَأَخَذَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ وَخَلَطَهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةٍ بَيْضَاءَ، وَحَمْرَاءَ، وَسَوْدَاءَ، فَلِذَلِكَ خَرَجَ بَنُو آدَمَ مُخْتَلِفِينَ، فَصَعِدَ بِهِ فَبَلَّ التُّرَابَ حَتَّى عَادَ طِينًا لَازِبًا، وَاللَّازِبُ: هُوَ الَّذِي يَلْزَقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ ص: 71 - 72 ]. فَخَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ لِئَلَّا يَتَكَبَّرَ إِبْلِيسُ عَنْهُ فَخَلَقَهُ بَشَرًا فَكَانَ جَسَدًا مِنْ طِينٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَمَرَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ فَفَزِعُوا مِنْهُ لَمَّا رَأَوْهُ، وَكَانَ أَشَدُّهُمْ مِنْهُ فَزَعًا إِبْلِيسَ، فَكَانَ يَمُرُّ بِهِ فَيَضْرِبُهُ فَيُصَوِّتُ الْجَسَدُ، كَمَا يُصَوِّتُ الْفَخَّارُ يَكُونُ لَهُ صَلْصَلَةٌ، فَلِذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [ الرَّحْمَنِ: 14 ]. وَيَقُولُ: لِأَمْرٍ مَا خُلِقْتَ، وَدَخَلَ مِنْ فِيهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ. وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: لَا تَرْهَبُوا مِنْ هَذَا فَإِنَّ رَبَّكُمْ صَمَدٌ، وَهَذَا أَجْوَفُ لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْهِ لَأُهْلِكَنَّهُ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحِينَ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: إِذَا نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَاسْجُدُوا لَهُ، فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فَدَخَلَ الرُّوحُ فِي رَأْسِهِ عَطَسَ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَقَالَ لَهُ اللَّهُ: رَحِمَكَ رَبُّكَ. فَلَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْهِ نَظَرَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ فِي جَوْفِهِ اشْتَهَى الطَّعَامَ فَوَثَبَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ إِلَى رَجْلَيْهِ عَجْلَانَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [ الْأَنْبِيَاءِ: 37 ]. فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [ الْحِجْرِ: 30 ].
وَذَكَرَ تَمَامَ
الْقِصَّةِ.
وَلِبَعْضِ هَذَا السِّيَاقِ شَاهِدٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ
مِنْهُ مُتَلَقَّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ
آدَمَ تَرَكَهُ مَا شَاءَ أَنْ يَدَعَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ
فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خَلْقٌ لَا يَتَمَالَكُ. وَقَالَ ابْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا
هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: لَمَّا نُفِخَ فِي آدَمَ فَبَلَغَ الرُّوحُ رَأْسَهُ عَطَسَ، فَقَالَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَقَالَ لَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
يَرْحَمُكَ اللَّهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ السَّكَنِ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ
فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ حَفْصٍ هُوَ ابْنُ عَاصِمِ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَفَعَهُ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ
فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: رَحِمَكَ رَبُّكَ يَا آدَمُ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ لَا
بَأْسَ بِهِ. وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا
أُمِرَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّجُودِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَجَدَ مِنْهُمْ
إِسْرَافِيلُ، فَأَثَابَهُ اللَّهُ أَنْ كَتَبَ الْقُرْآنَ فِي جَبْهَتِهِ. رَوَاهُ
ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ جَعَلَهُ طِينًا، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا خَلَقَهُ اللَّهُ وَصَوَّرَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ قَالَ: فَكَانَ إِبْلِيسُ يَمُرُّ بِهِ فَيَقُولُ: لَقَدْ خُلِقْتَ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ. ثُمَّ نَفَخَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ فَكَانَ أَوَّلَ مَا جَرَى فِيهِ الرُّوحُ بَصَرُهُ وَخَيَاشِيمُهُ فَعَطَسَ، فَلَقَّاهُ اللَّهُ رَحْمَةَ رَبِّهِ فَقَالَ اللَّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ: يَا آدَمُ اذْهَبْ إِلَى هَؤُلَاءِ النَّفَرِ فَقُلْ لَهُمْ، فَانْظُرْ مَاذَا يَقُولُونَ، فَجَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَقَالَ: يَا آدَمُ هَذَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا ذُرِّيَّتِي. قَالَ: اخْتَرْ يَدَيَّ يَا آدَمُ. قَالَ: اخْتَارُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ. وَبَسَطَ كَفَّهُ فَإِذَا مَنْ هُوَ كَائِنٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ، فَإِذَا رِجَالٌ مِنْهُمْ أَفْوَاهُهُمُ النُّورُ فَإِذَا رَجُلٌ يُعْجِبُ آدَمَ نُورُهُ قَالَ: يَا رَبِّ مِنْ هَذَا؟. قَالَ: ابْنُكَ دَاوُدُ. قَالَ: يَا رَبِّ فَكَمْ جَعَلْتَ لَهُ مِنَ الْعُمُرِ. قَالَ: جَعَلْتُ لَهُ سِتِّينَ. قَالَ: يَا رَبِّ فَأَتِمَّ لَهُ مِنْ عُمُرِي حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنَ الْعُمُرِ مِائَةُ سَنَةٍ. فَفَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَأُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا نَفِدَ عُمُرُ آدَمَ، بَعَثَ اللَّهُ مَلَكَ الْمَوْتِ، فَقَالَ آدَمُ: أَوَلَمَ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً. قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: أَوَلَمَ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ. فَجَحَدَ ذَلِكَ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عِيسَى، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ
النَّسَائِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ،
عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ
قَوْلَهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ،
حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ
آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَحَمِدَ
اللَّهَ بِإِذْنِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ يَا آدَمُ،
اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ فَسَلِّمْ
عَلَيْهِمْ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ
وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ
وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ بَيْنَهُمْ. وَقَالَ اللَّهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ:
اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ. فَقَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْ
رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ، ثُمَّ بَسَطَهُمَا فَإِذَا فِيهِمَا آدَمُ
وَذُرِّيَّتُهُ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَا هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ
ذَرِّيَّتُكَ. وَإِذَا كَلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَكْتُوبٌ عُمُرُهُ بَيْنَ
عَيْنَيْهِ، وَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَؤُهُمْ أَوْ مِنْ أَضْوَئِهِمْ لَمْ
يُكْتَبْ لَهُ إِلَّا أَرْبَعُونَ سَنَةً، قَالَ: يَا رَبِّ مَا هَذَا ؟ قَالَ:
هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ. وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ عُمُرَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً،
قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ. فَقَالَ: ذَاكَ الَّذِي كُتِبَ
لَهُ. قَالَ:
فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ عُمُرِي سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ: أَنْتَ
وَذَاكَ، اسْكُنِ الْجَنَّةَ. فَسَكَنَ الْجَنَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ
هَبَطَ مِنْهَا، وَكَانَ آدَمُ يَعُدُّ لِنَفْسِهِ، فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ،
فَقَالَ لَهُ آدَمُ: قَدْ عَجِلْتَ قَدْ كُتِبَ لِي أَلْفُ سَنَةٍ. قَالَ: بَلَى،
وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لِابْنِكَ دَاوُدَ مِنْهَا سِتِّينَ سَنَةً. فَجَحَدَ آدَمُ
فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ فَنَسِيَتْ ذَرِّيَّتُهُ، فَيَوْمَئِذٍ أُمِرَ
بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ. هَذَا لَفْظُهُ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو
نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي
صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ
ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ
نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ:
هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ. فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصَ مَا
بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ
آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ: دَاوُدُ. قَالَ: رَبِّ وَكَمْ
جَعَلْتَ عُمُرَهُ ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ
عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ
الْمَوْتِ، قَالَ: أَوَلَمَ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً ؟ قَالَ:
أَوَلَمَ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ ! قَالَ: فَجَحَدَ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ،
وَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ.
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ
بْنِ دُكَيْنٍ. وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا
فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: يَا آدَمُ هَؤُلَاءِ
ذَرِّيَّتُكَ، وَإِذَا فِيهِمُ الْأَجْذَمُ، وَالْأَبْرَصُ، وَالْأَعْمَى،
وَأَنْوَاعُ الْأَسْقَامِ، فَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا
بِذَرِّيَّتِي. قَالَ: كَيْ تَشْكُرَ نِعْمَتِي. ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ دَاوُدَ،
وَسَتَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ،
حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِي
إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ فَضَرَبَ كَتِفَهُ
الْيُمْنَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ كَأَنَّهُمُ الدُّرُّ، وَضَرَبَ
كَتِفَهُ الْيُسْرَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَأَنَّهُمُ الْحُمَمُ،
فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَمِينِهِ: إِلَى الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي. وَقَالَ
لِلَّذِي فِي كَتِفِهِ الْيُسْرَى: إِلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا
الْحَكَمُ بْنُ سِنَانٍ، عَنْ حَوْشَبٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ
آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ، فَأَخْرَجَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ صَفْحَتِهِ الْيُمْنَى،
وَأَخْرَجَ أَهْلَ النَّارِ مِنْ صَفْحَتِهِ الْيُسْرَى، فَأُلْقُوا عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ مِنْهُمُ الْأَعْمَى، وَالْأَصَمُّ، وَالْمُبْتَلَى، فَقَالَ آدَمُ: يَا
رَبِّ أَلَا سَوَّيْتَ بَيْنَ وَلَدِي. قَالَ: يَا آدَمُ إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ
أُشْكَرَ. وَهَكَذَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ،
عَنِ الْحَسَنِ بِنَحْوِهِ.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ
سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ
ذَرِّيَّتِكَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ
وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوهُ " وَرَحْمَةُ اللَّهِ " فَكُلُّ مَنْ
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ
حَتَّى الْآنَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ عَنْ
يَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ، وَمُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ كِلَاهُمَا عَنْ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ
طُولُ آدَمَ سِتِّينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِ أَذْرُعٍ عَرْضًا. انْفَرَدَ بِهِ
أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الدَّيْنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ
جَحَدَ آدَمُ، إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ، إِنِ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ
وَمَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا هُوَ ذَارِئٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،
فَجَعَلَ يَعْرِضُ ذُرِّيَّتَهُ عَلَيْهِ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ،
قَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ. قَالَ: أَيْ رَبِّ
كَمْ عُمُرُهُ ؟ قَالَ:
سِتُّونَ عَامًا.
قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ. قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ أَزِيدَهُ مِنْ
عُمُرِكَ. وَكَانَ عُمُرُ آدَمَ أَلْفَ عَامٍ فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ عَامًا،
فَكَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ
الْمَلَائِكَةَ، فَلَمَّا احْتُضِرَ آدَمُ أَتَتْهُ الْمَلَائِكَةُ لِتَقْبِضَهُ،
قَالَ: إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ عَامًا. فَقِيلَ لَهُ:
إِنَّكَ قَدْ وَهَبْتَهَا لِابْنِكَ دَاوُدَ. قَالَ: مَا فَعَلْتُ. وَأَبْرَزَ
اللَّهُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَشَهِدَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِنِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
لَمَّا خَلَقَهُ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ فَعَرَضَهُمْ عَلَيْهِ
فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ. قَالَ:
لَا إِلَّا أَنْ تَزِيدَهُ أَنْتَ مِنْ عُمُرِكَ. فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً
مِنْ عُمُرِهِ فَكَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ
الْمَلَائِكَةَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ رُوحَهُ، قَالَ: إِنَّهُ بَقِيَ
مِنْ أَجَلِي أَرْبَعُونَ سَنَةً. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَهَا
لِابْنِكَ دَاوُدَ. قَالَ: فَجَحَدَ. قَالَ: فَأَخْرَجَ اللَّهُ الْكِتَابَ،
وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ فَأَتَمَّهَا لِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ،
وَأَتَمَّ لِآدَمَ عُمُرَهُ أَلْفَ سَنَةً. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَعَلِيُّ
بْنُ زَيْدٍ فِي حَدِيثِهِ نَكَارَةٌ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَغَيْرِ وَاحِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الدَّيْنِ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ
آدَمُ. ثَلَاثًا. وَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ
مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي مُوَطَئِهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، أَنَّ
عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ
أَخْبَرَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ
مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [ الْأَعْرَافِ: 172 ]. الْآيَةَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَسْأَلُ عَنْهَا فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ
مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ
هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ. ثُمَّ مَسَحَ
ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ،
وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ بِهِ
الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ
أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ
فَيَدْخُلُ بِهِ النَّارَ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ،
وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو حَاتِمِ بْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ بِهِ. وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْ
عُمَرَ. وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ زَادَ أَبُو حَاتِمٍ:
وَبَيْنَهُمَا نُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ مُصَفَّى، عَنْ بَقِيَّةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ جُعْثُمٍ، عَنْ زَيْدِ
بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ
عَبْدِ الْحَمِيدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ
يَسَارٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ
الْحَافِظُ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَقَدْ تَابَعَ عُمَرَ بْنَ جُعْثُمٍ أَبُو
فَرْوَةَ يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ الرَّهَاوِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ
قَالَ: وَقَوْلُهُمَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ تَعَالَى
ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ كَالذَّرِّ، وَقِسْمَتِهِمْ قِسْمَيْنِ ; أَهْلِ
الْيَمِينِ، وَأَهْلِ الشَّمَالِ. وَقَالَ: هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي،
وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَلَا أُبَالِي. فَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ،
وَاسْتِنْطَاقُهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ فَلَمْ يَجِئْ فِي
الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ، وَتَفْسِيرُ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ
الْأَعْرَافِ، وَحَمْلُهَا عَلَى هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، كَمَا بَيَّنَّاهُ هُنَاكَ،
وَذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ مُسْتَقْصَاةً بِأَسَانِيدِهَا وَأَلْفَاظِ
مُتُونِهَا فَمَنْ أَرَادَ تَحْرِيرَهُ فَلْيُرَاجِعْهُ ثَمَّ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ يَعْنِي ابْنَ حَازِمٍ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنُعْمَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ
ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهَا
بَيْنَ يَدَيْهِ،
ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا، قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا
أَنَّ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ
تَقُولُوا إِلَى قَوْلِهِ: الْمُبْطِلُونَ. فَهُوَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَوِيٍّ
عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، و ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ فِي
مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ بِهِ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، إِلَّا أَنَّهُ
اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ ; فَرَوَى عَنْهُ مَرْفُوعًا،
وَمَوْقُوفًا. وَكَذَا رَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
مَرْفُوعًا. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ، وَالْوَالِبِيُّ، وَالضَّحَّاكُ،
وَأَبُو جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ. وَهَذَا أَكْثَرُ وَأَثْبَتُ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَكَذَا رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا
وَمَرْفُوعًا. وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ.
وَاسْتَأْنَسَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ; وَهُوَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ عَلَى
الذُّرِّيَّةِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ بِمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
حَجَّاجٌ، حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يُقَالُ
لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى
الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ. قَالَ: فَيَقُولُ: نَعَمْ.
فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ
فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ
بِي. أَخْرَجَاهُ
مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ: عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي
الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ. الْآيَةَ وَالَّتِي
بَعْدَهَا قَالَ: فَجَمَعَهُمْ لَهُ يَوْمَئِذٍ جَمِيعًا مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْهُ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَخَلَقَهُمْ، ثُمَّ صَوَّرَهُمْ، ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ
فَتَكَلَّمُوا، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، وَأَشْهَدَ
عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى. الْآيَةَ قَالَ:
فَإِنِّي أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ،
وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ، أَنْ لَا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
لَمْ نَعْلَمْ بِهَذَا. اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرِي، وَلَا رَبَّ
غَيْرِي، وَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا، وَإِنِّي سَأُرْسِلُ إِلَيْكُمْ رُسُلًا
يُنْذِرُونَكُمْ عَهْدِي وَمِيثَاقِي، وَأُنْزِلُ عَلَيْكُمْ كِتَابِي. قَالُوا:
نَشْهَدُ أَنَّكَ رَبُّنَا، وَإِلَهُنَا لَا رَبَّ لَنَا غَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ
لَنَا غَيْرُكَ. فَأَقَرُّوا لَهُ يَوْمَئِذٍ بِالطَّاعَةِ، وَرَفَعَ أَبَاهُمْ
آدَمَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَحَسَنَ
الصُّورَةِ وَدُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ لَوْ سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ.
فَقَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ، وَرَأَى فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ
السُّرُّجِ عَلَيْهِمُ النُّورُ، وَخُصُّوا بِمِيثَاقٍ آخَرَ مِنَ الرِّسَالَةِ
وَالنُّبُوَّةِ فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [ الْأَحْزَابِ:
7 ]. وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ
اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [
الرُّومِ: 30 ]. وَفِي ذَلِكَ قَالَ: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى [
النَّجْمِ: 56 ]. وَفِي ذَلِكَ قَالَ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ
وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ [ الْأَعْرَافِ: 102 ]. رَوَاهُ
الْأَئِمَّةُ ; عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، و ابْنُ
جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ مِنْ طَرِيقِ
أَبِي جَعْفَرٍ.
وَرَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ
السَّلَفِ بِسِيَاقَاتٍ تُوَافِقُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ
تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ امْتَثَلُوا
كُلُّهُمُ الْأَمْرَ الْإِلَهِيَّ، وَامْتَنَعَ إِبْلِيسُ مِنَ السُّجُودِ لَهُ
حَسَدًا، وَعَدَاوَةً لَهُ فَطَرَدَهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ
الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَنَفَاهُ عَنْهَا، وَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ طَرِيدًا
مَلْعُونًا شَيْطَانًا رَجِيمًا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَيَعْلَى، وَمُحَمَّدٌ
ابْنَا عُبَيْدٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي
يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ
الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَعَصَيْتُ فَلِيَ النَّارُ. وَرَوَاهُ
مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
ثُمَّ لَمَّا أُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّةَ الَّتِي أُسْكِنَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي
السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخِلَافِ فِيهِ أَقَامَ
بِهَا هُوَ وَزَوْجَتُهُ حَوَّاءُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ يَأْكُلَانِ مِنْهَا
رَغَدًا حَيْثُ شَاءَا، فَلَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَا
عَنْهَا سُلِبَا مَا كَانَا فِيهِ مِنَ اللِّبَاسِ، وَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ،
وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِي مَوَاضِعَ
هُبُوطِهِ مِنْهَا،
وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَقَامِهِ فِي الْجَنَّةِ ; فَقِيلَ: بَعْضُ يَوْمٍ
مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَخُلِقَ آدَمُ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا حَدِيثُهُ عَنْهُ: وَفِيهِ يَعْنِي يَوْمَ
الْجُمُعَةِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ الْيَوْمَ
الَّذِي خُلِقَ فِيهِ، فِيهِ أُخْرِجَ، وَقُلْنَا: إِنَّ الْأَيَّامَ السِّتَّةَ
كَهَذِهِ الْأَيَّامِ، فَقَدْ لَبِثَ بَعْضَ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ. وَفِي هَذَا
نَظَرٌ. وَإِنْ كَانَ إِخْرَاجُهُ فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ أَوْ
قُلْنَا: بِأَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ مِقْدَارُهَا سِتَّةُ آلَافِ سَنَةٍ، كَمَا
تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ
جَرِيرٍ، فَقَدْ لَبِثَ هُنَاكَ مُدَّةً طَوِيلَةً. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ خُلِقَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ،
وَالسَّاعَةُ مِنْهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَمَكَثَ
مُصَوَّرًا طِينًا قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ أَرْبَعِينَ سَنَةً،
وَأَقَامَ فِي الْجَنَّةِ قَبْلَ أَنْ يَهْبِطَ ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً
وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ سَوَّارٍ
خَبَرَ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، أَنَّهُ كَانَ لَمَّا أُهْبِطَ، رِجْلَاهُ فِي
الْأَرْضِ وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ فَحَطَّهُ اللَّهُ إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ ; لِمَا
تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَى صِحَّتِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ
خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا،
فَلَمْ يَزَلِ
الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ خُلِقَ كَذَلِكَ لَا
أَطْوَلَ مِنْ سِتِّينَ ذِرَاعًا، وَأَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لَمْ يَزَالُوا
يَتَنَاقَصُ خَلْقُهُمْ حَتَّى الْآنَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ اللَّهَ قَالَ: يَا آدَمُ
إِنَّ لِي حَرَمًا بِحِيَالِ عَرْشِي، فَانْطَلِقْ فَابْنِ لِي فِيهِ بَيْتًا
فَطُفْ بِهِ. كَمَا تَطُوفُ مَلَائِكَتِي بِعَرْشِي. وَأَرْسَلَ اللَّهُ لَهُ
مَلَكًا فَعَرَّفَهُ مَكَانَهُ، وَعَلَّمَهُ الْمَنَاسِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ
مَوْضِعَ كُلِّ خَطْوَةٍ خَطَاهَا آدَمُ صَارَتْ قَرْيَةً بَعْدَ ذَلِكَ.
وَعَنْهُ أَنَّ أَوَّلَ طَعَامٍ أَكَلَهُ آدَمُ فِي الْأَرْضِ أَنْ جَاءَهُ
جِبْرِيلُ بِسَبْعِ حَبَّاتٍ مِنْ حِنْطَةٍ فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا
مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيتَ عَنْهَا فَأَكَلْتَ مِنْهَا. فَقَالَ: وَمَا
أَصْنَعُ بِهَذَا ؟ قَالَ: ابْذُرْهُ فِي الْأَرْضِ. فَبَذَرَهُ، وَكَانَ كُلُّ
حَبَّةٍ مِنْهَا زِنَتُهَا أَزْيَدُ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ، فَنَبَتَتْ، فَحَصَدَهُ،
ثُمَّ دَرَسَهُ، ثُمَّ ذَرَاهُ، ثُمَّ طَحَنَهُ، ثُمَّ عَجَنَهُ، ثُمَّ خَبَزَهُ،
فَأَكَلَهُ بَعْدَ جَهْدٍ عَظِيمٍ، وَتَعَبٍ، وَنَكَدٍ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [ طه: 117 ]. وَكَانَ
أَوَّلُ كُسْوَتِهِمَا مِنْ شَعْرِ الضَّأْنِ جَزَّاهُ، ثُمَّ غَزَلَاهُ فَنَسَجَ
آدَمُ لَهُ جُبَّةً، وَلِحَوَّاءَ دِرْعًا وَخِمَارًا.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ وُلِدَ لَهُمَا بِالْجَنَّةِ شَيْءٌ مِنَ الْأَوْلَادِ ؟ فَقِيلَ:
لَمْ يُولَدْ لَهُمَا إِلَّا فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: بَلْ وُلِدَ لَهُمَا فِيهَا.
فَكَانَ قَابِيلُ وَأُخْتُهُ مِمَّنْ وُلِدَ بِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يُولَدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى،
وَأُمِرَ أَنْ يُزَوِّجَ كُلَّ ابْنِ أُخْتِ أَخِيهِ الَّتِي وُلِدَتْ مَعَهُ،
وَالْآخَرُ بِالْأُخْرَى، وَهَلُمَّ جَرًّا، وَلَمْ يَكُنْ تَحِلُّ أُخْتٌ
لِأَخِيهَا الَّذِي، وُلِدَتْ مَعَهُ.
ذِكْرُ قِصَّةِ
ابْنِي آدَمَ قَابِيلَ وَهَابِيلَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ
قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ
الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ
يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي
أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ
وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ
فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي
الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا
أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي
فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [ الْمَائِدَةِ: 27 - 31 ]. قَدْ تَكَلَّمْنَا
عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ
كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلْنَذْكُرْ هُنَا مُلَخَّصَ مَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ،
فَذَكَرَ السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَنَّ
آدَمَ كَانَ يُزَوِّجُ ذَكَرَ كُلِّ بَطْنٍ بِأُنْثَى الْأُخْرَى، وَأَنَّ
هَابِيلَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِ قَابِيلَ، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ
هَابِيلَ، وَأُخْتُ قَابِيلَ أَحْسَنُ فَأَرَادَ قَابِيلُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهَا
عَلَى أَخِيهِ، وَأَمَرَهُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُزَوِّجَهُ إِيَّاهَا
فَأَبَى، فَأَمَرَهُمَا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، وَذَهَبَ آدَمُ لِيَحُجَّ
إِلَى مَكَّةَ،
وَاسْتَحْفَظَ السَّمَاوَاتِ عَلَى بَنِيهِ فَأَبَيْنَ، وَالْأَرَضِينَ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ، فَتَقَبَّلَ قَابِيلُ بِحِفْظِ ذَلِكَ، فَلَمَّا ذَهَبَ
قَرَّبَا قُرْبَانَهُمَا، فَقَرَّبَ هَابِيلُ جَذَعَةً سَمِينَةً، وَكَانَ صَاحِبَ
غَنَمٍ، وَقَرَّبَ قَابِيلُ حِزْمَةً مِنْ زَرْعٍ مِنْ رَدِيءِ زَرْعِهِ،
فَنَزَلَتْ نَارٌ فَأَكَلَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ، وَتَرَكَتْ قُرْبَانَ قَابِيلَ
فَغَضِبَ. وَقَالَ: لِأَقْتُلَنَّكَ حَتَّى لَا تَنْكِحَ أُخْتِي. فَقَالَ:
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَمْرٍو، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ لَأَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ،
وَلَكِنْ مَنْعَهُ التَّحَرُّجُ أَنْ يَبْسُطَ إِلَيْهِ يَدَهُ.
وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: أَنَّ آدَمَ كَانَ مُبَاشِرًا
لِتَقَرُّبِهِمَا الْقُرْبَانَ، وَالتَّقَبُّلُ مِنْ هَابِيلَ دُونَ قَابِيلَ،
فَقَالَ: قَابِيلُ لِآدَمَ: إِنَّمَا تَقُبِّلَ مِنْهُ لِأَنَّكَ دَعَوْتَ لَهُ،
وَلَمْ تَدْعُ لِي. وَتَوَعَّدَ أَخَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَلَمَّا
كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَبْطَأَ هَابِيلُ فِي الرَّعْيِ، فَبَعَثَ آدَمُ أَخَاهُ
قَابِيلَ لِيَنْظُرَ مَا أَبْطَأَ بِهِ، فَلَمَّا ذَهَبَ إِذَا هُوَ بِهِ فَقَالَ
لَهُ: تُقُبِّلَ مِنْكَ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنِّي. فَقَالَ: إِنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. فَغَضِبَ قَابِيلُ عِنْدَهَا، وَضَرَبَهُ
بِحَدِيدَةٍ كَانَتْ مَعَهُ فَقَتَلَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ
بِصَخْرَةٍ رَمَاهَا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فَشَدَخَتْهُ. وَقِيلَ: بَلْ
خَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا وَعَضًّا، كَمَا تَفْعَلُ السِّبَاعُ فَمَاتَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ لَهُ لَمَّا تَوَعَّدَهُ بِالْقَتْلِ: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ
لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ
اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. دَلَّ عَلَى خُلُقٍ حَسَنٍ، وَخَوْفٍ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى، وَخَشْيَةٍ مِنْهُ، وَتَوَرُّعٍ أَنْ يُقَابِلَ أَخَاهُ بِالسُّوءِ
الَّذِي أَرَادَ مِنْهُ أَخُوهُ مِثْلُهُ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ،
عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا تَوَاجَهَ
الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ:
إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ. وَقَوْلُهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ
الظَّالِمِينَ. أَيْ: إِنِّي أُرِيدُ تَرْكَ مُقَاتَلَتِكَ، وَإِنْ كُنْتُ أَشَدَّ
مِنْكَ، وَأَقْوَى إِذْ قَدْ عَزَمْتَ عَلَى مَا عَزَمْتَ عَلَيْهِ أَنْ تَبُوءَ
بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ. أَيْ: تَتَحَمَّلُ إِثْمَ قَتْلِي مَعَ مَا لَكَ مِنَ
الْآثَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَ
ابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ آثَامَ الْمَقْتُولِ
تَتَحَوَّلُ بِمُجَرَّدِ قَتْلِهِ إِلَى الْقَاتِلِ، كَمَا قَدْ تَوَهَّمَهُ
بَعْضُ النَّاسِ، فَإِنَّ ابْنَ جَرِيرٍ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُورِدُهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْلَمُ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَرَكَ الْقَاتِلُ عَلَى
الْمَقْتُولِ مِنْ ذَنْبٍ. فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَلَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ
كُتُبِ الْحَدِيثِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ وَلَا ضَعِيفٍ أَيْضًا، وَلَكِنْ
قَدْ يَتَّفِقُ فِي بَعْضِ الْأَشْخَاصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُطَالِبُ
الْمَقْتُولُ الْقَاتِلَ، فَتَكُونُ حَسَنَاتُ الْقَاتِلِ لَا تَفِي بِهَذِهِ
الظُّلْمَةِ فَتُحَوَّلُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَقْتُولِ إِلَى الْقَاتِلِ، كَمَا
ثَبَتَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي سَائِرِ الْمَظَالِمِ، وَالْقَتْلُ مَنْ
أَعْظَمِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حَرَّرْنَا هَذَا كُلَّهُ فِي
التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ
سَعْدِ بْنِ
أَبِي وَقَّاصٍّ
أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ فِتْنَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ
الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي،
وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي. قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ
بَيْتِي فَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ لِيَقْتُلَنِي. قَالَ: كُنْ كَابْنِ آدَمَ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ مَرْفُوعًا.
وَقَالَ كُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ. وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَأَهْلُ السُّنَنِ
إِلَّا النَّسَائِيَّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ نَحْوَ هَذَا.
وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ قَالَا: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى
ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ
الْقَتْلَ. وَرَوَاهُ الْجَمَاعَةُ سِوَى أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ
بِهِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا مِثْلَ هَذَا سَوَاءً.
وَبِجَبَلِ قَاسِيُونَ شَمَالِيَّ دِمَشْقَ مَغَارَةٌ يُقَالُ لَهَا: مَغَارَةُ
الدَّمِ. مَشْهُورَةٌ بِأَنَّهَا الْمَكَانُ الَّذِي قَتَلَ قَابِيلُ أَخَاهُ
هَابِيلَ عِنْدَهَا. وَذَلِكَ مِمَّا تَلَقَّوْهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ
فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ كَثِيرٍ. وَقَالَ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ
أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَا بَكْرٍ،
وَعُمْرَ، وَهَابِيلَ، وَأَنَّهُ
اسْتَحْلَفَ
هَابِيلَ أَنَّ هَذَا دَمُهُ فَحَلَفَ لَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ
تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْمَكَانَ يُسْتَجَابُ عِنْدَهُ الدُّعَاءُ
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَصَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: إِنَّهُ، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمْرَ يَزُورُونَ هَذَا
الْمَكَانَ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ. وَهَذَا مَنَامٌ لَوْ صَحَّ عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ كَثِيرٍ هَذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ
لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ
أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ. ذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ حَمَلَهُ عَلَى
ظَهْرِهِ سَنَةً. وَقَالَ آخَرُونَ: حَمَلَهُ مِائَةَ سَنَةٍ. وَلَمْ يَزَلْ
كَذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ. قَالَ السُّدِّيُّ: بِإِسْنَادِهِ
عَنِ الصَّحَابَةِ: أَخَوَيْنِ فَتَقَاتَلَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ،
فَلَمَّا قَتَلَهُ عَمَدَ إِلَى الْأَرْضِ فَحَفَرَ لَهُ فِيهَا، ثُمَّ أَلْقَاهُ
وَدَفَنَهُ وَوَارَاهُ. فَلَمَّا رَآهُ يَصْنَعُ ذَلِكَ، قَالَ: يَا وَيْلَتَا
أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي.
فَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْغُرَابُ فَوَارَاهُ، وَدَفَنَهُ.
وَذَكَرَ أَهْلُ التَّوَارِيخِ وَالسِّيَرِ أَنَّ آدَمَ حَزِنَ عَلَى ابْنِهِ
هَابِيلَ حُزْنًا شَدِيدًا، وَأَنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا، وَهُوَ قَوْلُهُ
فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ.
تَغَيَّرَتِ اَلْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا فَوَجْهُ اَلْأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ
تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي طَعْمٍ وَلَوْنٍ
وَقَلَّ بَشَاشَةً اَلْوَجْهُ اَلْمَلِيحُ
فَأُجِيبَ آدَمُ.
أَبَا هَابِيلَ قَدْ قُتِلَا جَمِيعًا
وَصَارَ اَلْحَيُّ كَالْمَيْتِ اَلذَّبِيحِ وَجَاءَ بَشَرَّةٍ قَدْ كَانَ مِنْهَا
عَلَى خَوْفٍ فَجَاءَ بِهَا يَصِيحُ
وَهَذَا الشِّعْرُ فِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ يَكُونُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ
كَلَامًا يَتَحَزَّنُ بِهِ بِلُغَتِهِ فَأَلَّفَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى هَذَا وَفِيهِ
أَقْوَالٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ مُجَاهِدٌ: أَنَّ قَابِيلَ عُوجِلَ
بِالْعُقُوبَةِ يَوْمَ قُتِلَ أَخَاهُ، فَعُلِّقَتْ سَاقُهُ إِلَى فَخِذِهِ،
وَجُعِلَ وَجْهُهُ إِلَى الشَّمْسِ كَيْفَمَا دَارَتْ تَنْكِيلًا بِهِ
وَتَعْجِيلًا لِذَنْبِهِ وَبَغْيِهِ وَحَسَدِهِ لِأَخِيهِ لِأَبَوَيْهِ. وَقَدْ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ:مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي
الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ
وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ.
وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ التَّوْرَاةُ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
أَجَّلَهُ وَأَنْظَرَهُ، وَأَنَّهُ سَكَنَ فِي أَرْضِ نُودٍ فِي شَرْقِيِّ عَدَنٍ،
وَهُمْ يُسَمُّونَهُ قَيْنًا، وَأَنَّهُ وُلِدَ لَهُ خَنُوخُ، وَلِخَنُوخَ
عُنْدَرُ،
وَلِعُنْدَرَ مَحْوَاوِيلُ، وَلِمَحْوَاوِيلَ مَتُّوشِيلُ، وَلِمَتُّوشِيلَ لَامَكُ، وَتَزَوَّجَ هَذَا امْرَأَتَيْنِ عَدَّا وَصَلَا، فَوَلَدَتْ عَدَّا وَلَدًا اسْمُهُ أَبُلُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَكَنَ الْقِبَابَ وَاقْتَنَى الْمَالَ، وَوَلَدَتْ أَيْضًا تَوْبَلَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَخَذَ فِي ضَرْبِ الْوَنَجِ وَالصَّنْجِ، وَوَلَدَتْ صَلَا وَلَدًا اسْمُهُ تُوبَلْقِينُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ النُّحَاسَ وَالْحَدِيدَ، وَبِنْتًا اسْمُهَا نُعْمَى. وَفِيهَا أَيْضًا أَنَّ آدَمَ طَافَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَدَعَتِ اسْمَهُ شِيثَ، وَقَالَتْ: مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لِي خَلَفًا مِنْ هَابِيلَ الَّذِي قَتَلَهُ قَابِيلُ. وَوُلِدَ لِشِيثَ أَنُوشُ. قَالُوا: وَكَانَ عُمُرُ آدَمَ يَوْمَ وُلِدَ لَهُ شِيثُ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ عُمُرُ شِيثَ يَوْمَ وُلِدَ لَهُ أَنُوشُ مِائَةً وَخَمْسًا وَسِتِّينَ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ وَسَبْعِ سِنِينَ، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ غَيْرُ أَنُوشَ، فَوُلِدَ لِأَنُوشَ قَيْنَانُ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ تِسْعُونَ سَنَةً،
وَعَاشَ بَعْدَ
ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ
وَبَنَاتٌ، فَلَمَّا كَانَ عُمْرُ قَيْنَانَ سَبْعِينَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ
مَهْلَائِيلُ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً،
وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، فَلَمَّا كَانَ لِمَهْلَائِيلَ مِنَ الْعُمُرِ
خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ يَرْدُ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ
ثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ فَلَمَّا
كَانَ لِيَرْدَ مِائَةُ سَنَةٍ وَاثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ
خَنُوخُ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ
وَبَنَاتٌ فَلَمَّا كَانَ لِخَنُوخَ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ مَتُّوشَلَخُ،
وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ
فَلَمَّا كَانَ لِمَتُّوشَلَخَ مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ
لَامَكُ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعَمِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً،
وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، فَلَمَّا كَانَ لِلَامَكَ مِنَ الْعُمُرِ
مِائَةٌ وَاثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ نُوحٌ، وَعَاشَ بَعْدَ
ذَلِكَ خَمْسَمِائَةٍ، وَخَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ
وَبَنَاتٌ، فَلَمَّا كَانَ لِنُوحَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وُلِدَ لَهُ بِنُونَ ;
سَامٌ، وَحَامٌ، وَيَافِثُ. هَذَا مَضْمُونُ مَا فِي كِتَابِهِمْ صَرِيحًا.
وَفِي كَوْنِ هَذِهِ التَّوَارِيخِ مَحْفُوظَةً فِيمَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
نَظَرٌ، كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ طَاعِنِينَ عَلَيْهِمْ
فِي ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُقْحَمَةٌ فِيهَا. ذَكَرَهَا
بَعْضُهُمْ عَلَى
سَبِيلِ الزِّيَادَةِ وَالتَّفْسِيرِ. وَفِيهَا غَلَطٌ كَثِيرٌ، كَمَا
سَنَذْكُرُهُ فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ عَنْ
بَعْضِهِمْ أَنَّ حَوَّاءَ وَلَدَتْ لِآدَمَ أَرْبَعِينَ وَلَدًا فِي عِشْرِينَ
بَطْنًا. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَسَمَّاهُمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقِيلَ: مِائَةً وَعِشْرِينَ بَطْنًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى،
أَوَّلُهُمْ قَابِيلُ وَأُخْتُهُ قِلِيمَا، وَآخِرُهُمْ عَبْدُ الْمُغِيثِ
وَأُخْتُهُ أَمَةُ الْمُغِيثِ، ثُمَّ انْتَشَرَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ،
وَكَثُرُوا وَامْتَدُّوا فِي الْأَرْضِ وَنَمَوْا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا
وَنِسَاءً [ النِّسَاءِ: 1 ]. الْآيَةَ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَمُتْ
حَتَّى رَأَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ
أَرْبَعِينَ أَلْفَ نَسَمَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ
مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا
خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ
آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا
جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [
الْأَعْرَافِ: 189 - 190 ].
الْآيَاتِ. فَهَذَا
تَنْبِيهٌ أَوَّلًا بِذِكْرِ آدَمَ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إِلَى الْجِنْسِ، وَلَيْسَ
الْمُرَادُ بِهَذَا ذِكْرَ آدَمَ وَحَوَّاءَ بَلْ لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الشَّخْصِ
اسْتَطْرَدَ إِلَى الْجِنْسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ
مَكِينٍ [ الْمُؤْمِنُونَ: 12 13 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا
السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [
الْمُلْكِ: 5 ]. وَمَعْلُومٌ أَنَّ رُجُومَ الشَّيَاطِينِ لَيْسَتْ هِيَ أَعْيَانَ
مَصَابِيحِ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا اسْتَطْرَدَ مِنْ شَخْصِهَا إِلَى جِنْسِهَا.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنِ
الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: لَمَّا، وَلَدَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ، وَكَانَ لَا يَعِيشُ
لَهَا وَلَدٌ، فَقَالَ: سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ يَعِيشُ.
فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَعَاشَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ
وَأَمْرِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي
حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ
سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، كُلُّهُمْ
مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ:
صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ
غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ.
وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ فَهَذِهِ عِلَّةٌ
قَادِحَةٌ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا
عَلَى
الصَّحَابِيِّ، وَهَذَا أَشْبَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنَ
الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَهَكَذَا رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُتَلَقًّى عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَمَنْ دُونَهُ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ فَسَّرَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ
هَذِهِ الْآيَةَ بِخِلَافِ هَذَا، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا
لَمَا عَدَلَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَيْضًا فَاللَّهُ
تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ آدَمَ وَحَوَّاءَ لِيَكُونَا أَصْلَ الْبَشَرِ،
وَلِيَبُثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً فَكَيْفَ كَانَتْ حَوَّاءُ لَا
يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، كَمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا.
وَالْمَظْنُونُ بَلِ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ رَفْعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَأٌ. وَالصَّوَابُ وَقْفُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ حَرَّرْنَا هَذَا فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. ثُمَّ
قَدْ كَانَ آدَمُ وَحَوَّاءُ أَتْقَى لِلَّهِ مِمَّا ذُكِرَ عَنْهُمَا فِي هَذَا
فَإِنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ
مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ
شَيْءٍ، وَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ ؟ قَالَ: " مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ
وَعِشْرُونَ أَلْفًا ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ
؟ قَالَ: " ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، جَمٌّ غَفِيرٌ ".
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كَانَ أَوَّلَهُمْ ؟ قَالَ: " آدَمُ
". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ؟ قَالَ: " نَعَمْ.
خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، ثُمَّ سَوَّاهُ
قُبُلًا ".
وَقَالَ
الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَائِلَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ،
حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ هُرْمُزَ، عَنْ
عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ،
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ الْمَلَائِكَةِ
جِبْرِيلُ، وَأَفْضَلُ النَّبِيِّينَ آدَمُ وَأَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ، وَأَفْضَلُ الشُّهُورِ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَأَفْضَلُ اللَّيَالِي
لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَأَفْضَلُ النِّسَاءِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ. وَهَذَا
إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ نَافِعًا أَبَا هُرْمُزَ كَذَّبَهُ ابْنُ مَعِينٍ،
وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ،
وَغَيْرُهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَيْسَ أَحَدٌ فِي الْجَنَّةِ لَهُ لِحْيَةٌ إِلَّا
آدَمَ لِحْيَتُهُ سَوْدَاءُ إِلَى سُرَّتِهِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكْنَى فِي
الْجَنَّةِ إِلَّا آدَمُ كُنْيَتُهُ فِي الدُّنْيَا أَبُو الْبَشَرِ، وَفِي
الْجَنَّةِ أَبُو مُحَمَّدٍ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ شَيْخِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ مَرْفُوعًا. أَهْلُ الْجَنَّةِ يُدْعَوْنَ بِأَسْمَائِهِمْ إِلَّا آدَمَ
فَإِنَّهُ يُكْنَى أَبَا مُحَمَّدٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا
مَرَّ بِآدَمَ
وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ لَهُ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ
وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. قَالَ: وَإِذَا عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَنْ
يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ
شِمَالِهِ بَكَى، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا ؟. قَالَ: هَذَا آدَمُ
وَهَؤُلَاءِ نَسَمُ بَنِيهِ فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ أَهْلِ الْيَمِينِ، وَهُمْ
أَهْلُ الْجَنَّةِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ أَهْلِ الشِّمَالِ، وَهُمْ
أَهْلُ النَّارِ بَكَى. هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ، أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ عَقْلُ
آدَمَ مِثْلَ عَقْلِ جَمِيعِ وَلَدِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَمَرَرْتُ بِيُوسُفَ وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ. قَالُوا:
مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حُسْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَهَذَا مُنَاسِبٌ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَصَوَّرَهُ بِيَدِهِ
الْكَرِيمَةِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ فَمَا كَانَ لِيَخْلُقَ إِلَّا
أَحْسَنَ الْأَشْيَاءِ. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
وَابْنِ عَمْرٍو أَيْضًا مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا
خَلَقَ الْجَنَّةَ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا رَبَّنَا اجْعَلْ لَنَا هَذِهِ
فَإِنَّكَ خَلَقْتَ لِبَنِي آدَمَ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ،
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ
مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِيَّ كَمَنَ قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ. وَقَدْ وَرَدَ
الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ. وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ. إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَذَكَرُوا فِيهِ مَسَالِكَ كَثِيرَةً لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ وَفَاةِ
آدَمَ وَوَصِيَّتِهِ إِلَى ابْنِهِ شِيثَ
وَمَعْنَى شِيثَ: هِبَةُ اللَّهِ، وَسَمَّيَاهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا رُزِقَاهُ
بَعْدَ أَنْ قُتِلَ هَابِيلُ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ فِي حَدِيثِهِ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ
صَحِيفَةٍ وَأَرْبَعَ صُحُفٍ عَلَى شِيثَ خَمْسِينَ صَحِيفَةً. قَالَ: مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا حَضَرَتْ آدَمَ الْوَفَاةُ عَهِدَ إِلَى ابْنِهِ شِيثَ،
وَعَلَّمَهُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَعَلَّمَهُ عِبَادَاتِ تِلْكَ
السَّاعَاتِ، وَأَعْلَمَهُ بِوُقُوعِ الطُّوفَانِ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ: وَيُقَالُ
إِنَّ أَنْسَابَ بَنِي آدَمَ الْيَوْمَ كُلُّهَا تَنْتَهِي إِلَى شِيثَ، وَسَائِرُ
أَوْلَادِ آدَمَ غَيْرَهُ انْقَرَضُوا وَبَادُوا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِمَا تُوُفِّيَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
جَاءَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِحَنُوطٍ، وَكَفَنٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
مِنَ الْجَنَّةِ، وَعَزُّوا فِيهِ ابْنَهُ، وَوَصِيَّهُ شِيثَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَكَسَفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ
بِلَيَالِيهِنَّ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ:
حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ
حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عُتَيٍّ هُوَ ابْنُ ضَمْرَةَ السَّعْدِيُّ قَالَ:
رَأَيْتُ شَيْخًا بِالْمَدِينَةِ يَتَكَلَّمُ فَسَأَلْتُ عَنْهُ. فَقَالُوا: هَذَا
أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. فَقَالَ: إِنَّ آدَمَ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ
لِبَنِيهِ: أَيْ بَنِيَّ إِنِّي أَشْتَهِي مِنْ ثِمَارِ
الْجَنَّةِ. قَالَ:
فَذَهَبُوا يَطْلُبُونَ لَهُ فَاسْتَقْبَلَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَمَعَهُمْ
أَكْفَانُهُ وَحَنُوطُهُ، وَمَعَهُمُ الْفُئُوسُ وَالْمَسَاحِي وَالْمَكَاتِلُ،
فَقَالُوا لَهُمْ: يَا بَنِي آدَمَ مَا تُرِيدُونَ وَمَا تَطْلُبُونَ ؟ أَوْ مَا
تُرِيدُونَ وَأَيْنَ تَطْلُبُونَ ؟ قَالُوا: أَبُونَا مَرِيضٌ، وَاشْتَهَى مِنْ
ثِمَارِ الْجَنَّةِ. فَقَالُوا لَهُمْ: ارْجِعُوا فَقَدْ قُضِيَ أَبُوكُمْ،
فَجَاءُوا، فَلَمَّا رَأَتْهُمْ حَوَّاءُ عَرَفَتْهُمْ فَلَاذَتْ بِآدَمَ،
فَقَالَ: إِلَيْكِ عَنِّي، فَإِنِّي إِنَّمَا أُتِيتُ مِنْ قِبَلِكِ فَخَلِّي
بَيْنِي وَبَيْنَ مَلَائِكَةِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَقَبَضُوهُ، وَغَسَّلُوهُ،
وَكَفَّنُوهُ، وَحَنَّطُوهُ، وَحَفَرُوا لَهُ، وَأَلْحَدُوهُ، وَصَلَّوْا
عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلُوا قَبْرَهُ فَوَضَعُوهُ فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ حَثَوْا
عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالُوا: يَا بَنِي آدَمَ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ. إِسْنَادٌ صَحِيحٌ
إِلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مَيْمُونٍ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَبَّرَتِ
الْمَلَائِكَةُ عَلَى آدَمَ أَرْبَعًا. وَكَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى فَاطِمَةَ أَرْبَعًا،
وَكَبَّرَ عُمَرُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ صُهَيْبٌ عَلَى عُمَرَ
أَرْبَعًا. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ مَيْمُونٍ فَقَالَ:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ دَفْنِهِ ; فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ دُفِنَ عِنْدَ
الْجَبَلِ الَّذِي أُهْبِطَ عَلَيْهِ فِي الْهِنْدِ. وَقِيلَ: بِجَبَلِ أَبِي
قُبَيْسٍ بِمَكَّةَ، وَيُقَالُ إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ
زَمَنُ الطُّوفَانِ حَمَلَهُ هُوَ وَحَوَّاءُ فِي تَابُوتٍ فَدَفَنَهُمَا بِبَيْتِ
الْمَقْدِسِ حَكَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ
بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: رَأْسُهُ عِنْدَ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَرِجْلَاهُ
عِنْدَ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَدْ
مَاتَتْ حَوَّاءُ
بَعْدَهُ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ عُمُرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; فَقَدَّمْنَا فِي
الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: أَنَّ عُمُرَهُ
اكْتَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهَذَا لَا يُعَارِضُهُ مَا
فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَنَّهُ عَاشَ تِسْعَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً ; لِأَنَّ
قَوْلَهُمْ هَذَا مَطْعُونٌ فِيهِ مَرْدُودٌ إِذَا خَالَفَ الْحَقَّ الَّذِي
بِأَيْدِينَا مِمَّا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنِ الْمَعْصُومِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ
قَوْلَهُمْ هَذَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي الْحَدِيثِ
فَإِنَّ مَا فِي التَّوْرَاةِ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا مَحْمُولٌ عَلَى مُدَّةِ
مُقَامِهِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ الْإِهْبَاطِ، وَذَلِكَ تِسْعُمِائَةٍ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً شَمْسِيَّةً، وَهِيَ بِالْقَمَرِيَّةِ تِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ
وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَيُضَافُ إِلَى ذَلِكَ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً مُدَّةَ
مُقَامِهِ فِي الْجَنَّةِ قَبْلَ الْإِهْبَاطِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ،
وَغَيْرُهُ فَيَكُونُ الْجَمِيعُ أَلْفَ سَنَةٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: لَمَّا مَاتَ آدَمُ بَكَتِ الْخَلَائِقُ
عَلَيْهِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، فَلَمَّا مَاتَ آدَمُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ قَامَ بِأَعْبَاءِ الْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ شِيثُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ نَبِيًّا بِنَصِّ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ
خَمْسُونَ صَحِيفَةً، فَلَمَّا حَانَتْ وَفَاتُهُ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ أَنُوشَ
فَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ، ثُمَّ بَعْدَهُ وَلَدُهُ قَيْنَنُ، ثُمَّ مِنْ
بَعْدِهِ ابْنُهُ مَهْلَائِيلُ، وَهُوَ الَّذِي تَزْعُمُ الْأَعَاجِمُ مِنَ
الْفُرْسِ أَنَّهُ مَلَكَ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ
قَطَعَ الْأَشْجَارَ وَبَنَى الْمَدَائِنَ
وَالْحُصُونَ الْكِبَارَ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَى مَدِينَةَ بَابِلَ، وَمَدِينَةَ السُّوسِ الْأَقْصَى، وَأَنَّهُ قَهَرَ إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ، وَشَرَّدَهُمْ عَنِ الْأَرْضِ إِلَى أَطْرَافِهَا، وَشِعَابِ جِبَالِهَا، وَأَنَّهُ قَتَلَ خَلْقًا مِنْ مَرَدَةِ الْجِنِّ وَالْغِيلَانَ، وَكَانَ لَهُ تَاجٌ عَظِيمٌ، وَكَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ، وَدَامَتْ دَوْلَتُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا مَاتَ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ يَرْدُ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى وَلَدِهِ خَنُوخَ، وَهُوَ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ إِدْرِيسَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ
صِدِّيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [ مَرْيَمَ: 56 - 57 ].
فَإِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَوَصَفَهُ
بِالنُّبُوَّةِ وَالصِّدِّيقِيَّةِ، وَهُوَ خَنُوخُ هَذَا، وَهُوَ فِي عَمُودِ
نَسَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ النَّسَبِ، وَكَانَ أَوَّلَ بَنِي آدَمَ أَعْطِيَ
النُّبُوَّةَ بَعْدَ آدَمَ وَشِيثَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَذَكَرَ ابْنُ
إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَقَدْ أَدْرَكَ مِنْ حَيَاةِ
آدَمَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، وَثَمَانِي سِنِينَ، وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ
النَّاسِ: إِنَّهُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ
السُّلَمِيِّ لَمَّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنِ الْخَطِّ بِالرَّمْلِ فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ نَبِيٌّ يَخُطُّ بِهِ فَمَنْ
وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ. وَيَزْعُمُ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ التَّسْيِيرِ
وَالْأَحْكَامِ: أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَيُسَمُّونَهُ
هَرْمَسَ الْهَرَامِسَةِ، وَيَكْذِبُونَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، كَمَا
كَذَبُوا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ
وَالْأَوْلِيَاءِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا. هُوَ كَمَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، وَقَدْ رَوَى
ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ
جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: سَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا، وَأَنَا حَاضِرٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى لِإِدْرِيسَ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ؟ قَالَ كَعْبٌ: أَمَّا إِدْرِيسُ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنِّي أَرْفَعُ لَكَ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ جَمِيعِ عَمَلِ بَنِي آدَمَ لَعَلَّهُ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ، فَأَحَبَّ أَنْ يَزْدَادَ عَمَلًا، فَأَتَاهُ خَلِيلٌ لَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ: إِنِ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ كَذَا وَكَذَا، فَكَلِّمْ مَلَكَ الْمَوْتِ فَلْيُؤَخِّرْنِي حَتَّى أَزْدَادَ عَمَلًا فَحَمَلَهُ بَيْنَ جَنَاحَيْهِ، ثُمَّ صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ تَلَقَّاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ مُنْحَدِرًا فَكَلَّمَ مَلَكَ الْمَوْتِ فِي الَّذِي كَلَّمَهُ فِيهِ إِدْرِيسُ، فَقَالَ: وَأَيْنَ إِدْرِيسُ ؟ قَالَ: هُوَ ذَا عَلَى ظَهْرِي. فَقَالَ مَلَكُ الْمَوْتِ: فَالْعَجَبُ بُعِثْتُ وَقِيلَ لِي: اقْبِضْ رُوحَ إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. فَجَعَلْتُ أَقُولُ: كَيْفَ أَقْبِضُ رُوحَهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ ! فَقَبَضَ رُوحَهُ هُنَاكَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا وَعِنْدَهُ. فَقَالَ لِذَلِكَ الْمَلَكِ: سَلْ لِي مَلَكَ الْمَوْتِ كَمْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي ؟ فَسَأَلَهُ وَهُوَ مَعَهُ كَمْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَنْظُرَ. فَنَظَرَ فَقَالَ: إِنَّكَ لِتَسْأَلُنِي عَنْ رَجُلٍ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا طَرْفَةُ عَيْنٍ. فَنَظَرَ الْمَلَكُ إِلَى تَحْتِ جَنَاحِهِ إِلَى إِدْرِيسَ فَإِذَا هُوَ قَدْ قُبِضَ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَهَذَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَفِي بَعْضِهِ نَكَارَةٌ، وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا. قَالَ: إِدْرِيسُ رُفِعَ وَلَمْ يَمُتْ، كَمَا رُفِعَ عِيسَى. إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ إِلَى الْآنِ فَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ رُفِعَ حَيًّا إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قُبِضَ هُنَاكَ فَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا
عَلِيًّا. قَالَ: رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَمَاتَ بِهَا. وَهَكَذَا
قَالَ الضَّحَّاكُ، وَالْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ فِي
السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ أَصَحُّ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا. قَالَ: إِلَى
الْجَنَّةِ. وَقَالَ قَائِلُونَ: رُفِعَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ يَرْدُ بْنُ
مَهْلَائِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ إِدْرِيسَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ نُوحٍ بَلْ فِي
زَمَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ، وَاسْتَأْنَسُوا
فِي ذَلِكَ بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ فِي الْإِسْرَاءِ
أَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ
الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ آدَمُ
وَإِبْرَاهِيمُ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالِابْنِ الصَّالِحِ.
قَالُوا: فَلَوْ كَانَ فِي عَمُودِ نَسَبِهِ لَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَا لَهُ.
وَهَذَا لَا يَدُلُّ وَلَا بُدَّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ
الرَّاوِي حَفِظَهُ جَيِّدًا أَوْ لَعَلَّهُ قَالَهُ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْهَضْمِ
وَالتَّوَاضُعِ، وَلَمْ يَنْتَصِبْ لَهُ فِي مَقَامِ الْأُبُوَّةِ، كَمَا
انْتَصَبَ لِآدَمَ أَبِي الْبَشَرِ، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي هُوَ خَلِيلُ
الرَّحْمَنِ، وَهُوَ أَكْبَرُ أُولِي الْعَزْمِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
قِصَّةُ نُوحٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ
هُوَ نُوحُ بْنُ لَامَكَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ خَنُوخَ، وَهُوَ إِدْرِيسُ بْنُ
يَرْدَ بْنِ مَهْلَائِيلَ بْنِ قَيْنَنَ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثَ بْنِ آدَمَ أَبِي
الْبَشَرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَوْلِدُهُ بَعْدَ وَفَاةِ آدَمَ بِمِائَةِ
سَنَةٍ وَسِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ،
وَعَلَى تَارِيخِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ يَكُونُ بَيْنَ مَوْلِدِ نُوحٍ
وَمَوْتِ آدَمَ مِائَةٌ وَسِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَ بَيْنَهُمَا
عَشَرَةُ قُرُونٍ، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، حَدَّثَنَا
مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ أَخِيهِ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ، سَمِعْتُ أَبَا
سَلَّامٍ، سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَنَبِيٌّ كَانَ آدَمُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. مُكَلِّمٌ. قَالَ: فَكَمْ كَانَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ نُوحٍ ؟ قَالَ: عَشَرَةُ قُرُونٍ. قُلْتُ: وَهَذَا عَلَى شَرْطِ
مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى
الْإِسْلَامِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقَرْنِ مِائَةَ سَنَةٍ، كَمَا هُوَ
الْمُتَبَادَرُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَبَيْنَهُمَا
أَلْفُ سَنَةٍ لَا
مَحَالَةَ، لَكِنْ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ بِاعْتِبَارِ مَا قَيَّدَ
بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْإِسْلَامِ ; إِذْ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا قُرُونٌ
أُخَرُ مُتَأَخِّرَةٌ لَمْ يَكُونُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ حَدِيثَ أَبِي
أُمَامَةَ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ فِي عَشَرَةِ قُرُونٍ، وَزَادَنَا ابْنُ
عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ كَانُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ
مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ التَّوَارِيخِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ:
أَنَّ قَابِيلَ وَبَنِيهِ عَبَدُوا النَّارَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقَرْنِ الْجِيلَ مِنَ النَّاسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [ الْإِسْرَاءِ:
17 ]. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [
الْمُؤْمِنُونَ: 42 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [
الْفُرْقَانِ: 38 ]. وَقَالَ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ [
مَرْيَمَ: 74 ]. وَكَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي.
الْحَدِيثَ. فَقَدْ كَانَ الْجِيلُ قَبْلَ نُوحٍ يُعَمِّرُونَ الدُّهُورَ الطَّوِيلَةَ
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ أُلُوفٌ مِنَ السِّنِينَ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى
لَمَّا عُبِدَتِ الْأَصْنَامُ وَالطَّوَاغِيتُ، وَشَرَعَ النَّاسُ فِي الضَّلَالَةِ،
وَالْكُفْرِ فَبَعْثَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ فَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ
بُعِثَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا يَقُولُ لَهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَكَانَ قَوْمُهُ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو رَاسِبٍ فِيمَا ذَكَرَهُ
ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ سِنِّهِ يَوْمَ بُعِثَ. فَقِيلَ: كَانَ ابْنَ
خَمْسِينَ سَنَةً.
وَقِيلَ: ابْنَ
ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: ابْنَ أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ
سَنَةً حَكَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَعَزَا الثَّالِثَ مِنْهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّتَهُ وَمَا كَانَ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَا أَنْزَلَ
بِمَنْ كَفَرَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ بِالطُّوفَانِ، وَكَيْفَ أَنْجَاهُ
وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ;
فَفِي الْأَعْرَافِ، وَيُونُسَ، وَهُودٍ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُؤْمِنُونَ،
وَالشُّعَرَاءِ، وَالْعَنْكَبُوتِ، وَالصَّافَّاتِ، وَاقْتَرَبَتْ. وَأَنْزَلَ
فِيهِ سُورَةً كَامِلَةً فَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ
إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ
الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ
لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ
رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ
لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 59 - 64
].
وَقَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي
بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ
وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا
إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ
إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ
خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ [ يُونُسَ: 71 73 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ
: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [ هُودٍ: 25 - 49 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 76، 77 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 23 - 30 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ونَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [ الشُّعَرَاءِ: 105 - 122 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [ الْعَنْكَبُوتِ: 14 - 15 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ [ الصَّافَّاتِ: 75 - 82 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتْ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرٍ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [ الْقَمَرِ: 9 - 17 ]. وَقَالَ تَعَالَى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [ نُوحٍ: 1 - 28 ].
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَسَنَذْكُرُ مَضْمُونَ الْقِصَّةِ مَجْمُوعًا مِنْ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَمِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ، وَقَدْ جَرَى ذِكْرُهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فِيهَا مَدْحُهُ وَذَمُّ مَنْ خَالَفَهُ فَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [ النِّسَاءِ: 163 - 165 ].
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ الْأَنْعَامِ: 83 - 87 ]. الْآيَاتِ. وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي الْأَعْرَافِ. وَقَالَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [ التَّوْبَةِ: 70 ]. وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي يُونُسَ، وَهُودٍ. وَقَالَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [ إِبْرَاهِيمَ: 9 ]. وَقَالَ فِي
سُورَةِ سُبْحَانَ: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [ الْإِسْرَاءِ: 3 ]. وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [ الْإِسْرَاءِ: 17 ]. وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُؤْمِنُونَ، وَالشُّعَرَاءِ، وَالْعَنْكَبُوتِ. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [ الْأَحْزَابِ: 7 ]. وَقَالَ فِي سُورَةِ ص: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [ ص: 12 - 14 ]. وَقَالَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [ غَافِرٍ: 5، 6 ]. وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّورَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [ الشُّورَى: 13 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ ق: 12 - 14 ].
وَقَالَ فِي
الذَّارِيَاتِ: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ
[ الذَّارِيَاتِ: 46 ]. وَقَالَ فِي النَّجْمِ: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ
إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى [ النَّجْمِ: 52 ]. وَتَقَدَّمَتْ
قِصَّتُهُ فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ
الْحَدِيدِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي
ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [ الْحَدِيدِ: 26 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ
التَّحْرِيمِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ
وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ
فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ
ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [ التَّحْرِيمِ: 10 ].
وَأَمَّا مَضْمُونُ مَا جَرَى لَهُ مَعَ قَوْمِهِ مَأْخُوذًا مِنَ الْكِتَابِ
وَالسَّنَةِ وَالْآثَارِ، فَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ
بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْنِ الْجِيلُ أَوِ
الْمُدَّةُ عَلَى مَا سَلَفَ، ثُمَّ بَعْدَ تِلْكَ الْقُرُونِ الصَّالِحَةِ
حَدَثَتْ أُمُورٌ اقْتَضَتْ أَنْ آلَ الْحَالُ بِأَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى
عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ
حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ
قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقَالُوا لَا
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ
وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [ نُوحٍ: 23 ]. قَالَ: هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ
مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ
انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا
وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ
أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَصَارَتْ هَذِهِ
الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ. وَهَكَذَا
قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا
مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ:
كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَكَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ
يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ أَصْحَابُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا
يَقْتَدُونَ بِهِمْ: لَوْ صَوَّرْنَاهُمْ كَانَ أَشْوَقَ لَنَا إِلَى الْعِبَادَةِ
إِذَا ذَكَرْنَاهُمْ. فَصَوَّرُوهُمْ، فَلَمَّا مَاتُوا وَجَاءَ آخَرُونَ دَبَّ
إِلَيْهِمْ إِبْلِيسُ، فَقَالَ: إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَبِهِمْ
يُسْقَوْنَ الْمَطَرَ فَعَبَدُوهُمْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: وَدٌّ، وَيَغُوثُ، وَيَعُوقُ، وَسُوَاعٌ، وَنَسْرٌ
; أَوْلَادُ آدَمَ. وَكَانَ وَدٌّ أَكْبَرَهُمْ وَأَبَرَّهُمْ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا
الْحَسَنُ بْنُ
مُوسَى، حَدَّثَنَا
يَعْقُوبُ، عَنْ أَبِي الْمُطَهَّرِ قَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ هُوَ
الْبَاقِرُ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، قَالَ: فَلَمَّا
انْفَتَلَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: ذَكَرْتُمْ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ أَمَا
إِنَّهُ قُتِلَ فِي أَوَّلِ أَرْضٍ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ اللَّهِ. قَالَ: ذَكَرَ
وَدًّا رَجُلًا مُسْلِمًا، وَكَانَ مُحَبَّبًا فِي قَوْمِهِ، فَلَمَّا مَاتَ
عَسْكَرُوا حَوْلَ قَبْرِهِ فِي أَرْضِ بَابِلَ، وَجَزِعُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا
رَأَى إِبْلِيسُ جَزَعَهُمْ عَلَيْهِ تَشَبَّهَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، ثُمَّ
قَالَ: إِنِّي أَرَى جَزَعَكُمْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَهَلْ لَكَمَ أَنْ
أُصَوِّرَ لَكُمْ مِثْلَهُ فَيَكُونَ فِي نَادِيكُمْ فَتَذْكُرُونَهُ. قَالُوا:
نَعَمْ. فَصَوَّرَ لَهُمْ مِثْلَهُ، قَالَ: وَوَضَعُوهُ فِي نَادِيهِمْ وَجَعَلُوا
يَذْكُرُونَهُ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ، قَالَ: هَلْ لَكَمَ أَنْ
أَجْعَلَ فِي مَنْزِلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ تِمْثَالًا مِثْلَهُ لِيَكُونَ لَهُ
فِي بَيْتِهِ فَتَذْكُرُونَهُ. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَمَثَّلَ لِكُلِّ أَهْلِ
بَيْتٍ تِمْثَالًا مِثْلَهُ، فَأَقْبَلُوا فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ. قَالَ:
وَأَدْرَكَ أَبْنَاؤُهُمْ فَجَعَلُوا يَرَوْنَ مَا يَصْنَعُونَ بِهِ قَالَ:
وَتَنَاسَلُوا، وَدُرِسَ أَمْرُ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ حَتَّى اتَّخَذُوهُ إِلَهًا
يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ فَكَانَ أَوَّلَ مَا
عُبِدَ غَيْرَ اللَّهِ وَدٌّ الصَّنَمُ الَّذِي سَمَّوْهُ وَدًّا.
وَمُقْتَضَى هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ كُلَّ صَنَمٍ مِنْ هَذِهِ عَبَدَهُ طَائِفَةٌ
مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا تَطَاوَلَتِ الْعُهُودُ
وَالْأَزْمَانُ جَعَلُوا تِلْكَ الصُّوَرَ تَمَاثِيلَ مُجَسَّدَةً لِيَكُونَ
أَثْبَتَ لَهَا، ثُمَّ عُبِدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَلَهُمْ فِي عِبَادَتِهَا مَسَالِكُ كَثِيرَةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِنَا
التَّفْسِيرِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَتْ عِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ
تِلْكَ الْكَنِيسَةَ الَّتِي رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا
مَارِيَّةُ. فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا قَالَ: أُولَئِكَ
إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا،
ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْفَسَادَ لَمَّا انْتَشَرَ فِي الْأَرْضِ، وَعَمَّ
الْبَلَاءُ بِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ فِيهَا بَعَثَ اللَّهُ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ
نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
لَهُ، وَيَنْهَى عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، فَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ
اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ
الشَّفَاعَةِ قَالَ: فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو
الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ
الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ، أَلَا تَشْفَعُ لَنَا
إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغَنَا، فَيَقُولُ: رَبِّي
قَدْ غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَا يَغْضَبُ
بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَنَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُ، نَفْسِي نَفْسِي،
اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ. فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ:
يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ
عَبْدًا شَكُورًا، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا
بَلَغَنَا، أَلَا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ: رَبِّي
قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَا يَغْضَبُ
بَعْدَهُ مِثْلَهُ. نَفْسِي نَفْسِي. وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ،
كَمَا أَوْرَدَهُ
الْبُخَارِيُّ فِي قِصَّةِ نُوحٍ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَاهُمْ إِلَى إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ لَا يَعْبُدُوا مَعَهُ صَنَمًا، وَلَا تِمْثَالًا، وَلَا طَاغُوتًا، وَأَنْ يَعْتَرِفُوا بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ هُمْ كُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [ الصَّافَّاتِ: 77 ]. وَقَالَ فِيهِ، وَفِي إِبْرَاهِيمَ: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [ الْحَدِيدِ: 26 ]. أَيْ: كُلُّ نَبِيٍّ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ فَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ النَّحْلِ: 36 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ الزُّخْرُفِ: 45 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الْأَنْبِيَاءِ: 25 ]. وَلِهَذَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [ الْأَعْرَافِ: 59 ]. وَقَالَ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [ هُودٍ: 26 ]. وَقَالَ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 23 ]. وَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [ نوحٍ: 2 - 14 ].
الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ. فَذَكَرَ أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الدَّعْوَةِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالسِّرِّ وَالْإِجْهَارِ، بِالتَّرْغِيبِ تَارَةً وَالتَّرْهِيبِ أُخْرَى، وَكُلُّ هَذَا فَلَمْ يَنْجَحْ فِيهِمْ، بَلِ اسْتَمَرَّ أَكْثَرُهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ وَالطُّغْيَانِ، وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَنَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ، وَتَنَقَّصُوهُ وَتَنَقَّصُوا مَنْ آمَنَ بِهِ. وَتَوَعَّدُوهُمْ بِالرَّجْمِ وَالْإِخْرَاجِ، وَنَالُوا مِنْهُمْ، وَبَالَغُوا فِي أَمْرِهِمْ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ. أَيِ: السَّادَةُ الْكُبَرَاءُ مِنْهُمْ: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 60 ]. أَيْ: لَسْتُ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنِّي ضَالٌّ بَلْ عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ، رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَيِ: الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [ الْأَعْرَافِ: 62 ]. وَهَذَا شَأْنُ الرَّسُولِ أَنْ يَكُونَ بَلِيغًا، أَيْ: فَصِيحًا نَاصِحًا أَعْلَمَ النَّاسِ باللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالُوا لَهُ فِيمَا قَالُوا: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [ هُودٍ: 27 ]. تَعَجَّبُوا أَنْ يَكُونَ بَشَرًا رَسُولًا، وَتَنَقَّصُوا بِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَرَأَوْهُمْ أَرَاذِلَهُمْ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَقْيَادِ النَّاسِ، وَهُمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، كَمَا قَالَ هِرَقْلُ: وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُمْ: بَادِيَ الرَّأْيِ. أَيْ: بِمُجَرَّدِ مَا دَعَوْتَهُمُ اسْتَجَابُوا لَكَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ، وَهَذَا الَّذِي ذَمُّوهُمْ بِهِ
هُوَ عَيْنُ مَا
يُمْدَحُونَ بِسَبَبِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّ الْحَقَّ الظَّاهِرَ لَا
يَحْتَاجُ إِلَى رَوِيَّةٍ، وَلَا فِكْرٍ، وَلَا نَظَرٍ. بَلْ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ،
وَالِانْقِيَادُ لَهُ مَتَى ظَهَرَ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَادِحًا لِلصَّدِّيقِ. مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى
الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ كَبْوَةٌ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ
يَتَلَعْثَمْ. وَلِهَذَا كَانَتْ بَيْعَتُهُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ أَيْضًا
سَرِيعَةً مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، وَلَا رَوِيَّةٍ ; لِأَنَّ أَفْضَلِيَّتَهُ عَلَى
مَنْ عَدَاهُ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ عِنْدَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ،
وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ الْكِتَابَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَنُصَّ فِيهِ عَلَى
خِلَافَتِهِ فَتَرَكَهُ. وَقَالَ: يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا
بَكْرٍ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَوْلُ كَفَرَةِ قَوْمِ نُوحٍ لَهُ، وَلِمَنْ
آمَنَ بِهِ: وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ. أَيْ: لَمْ يَظْهَرْ
لَكُمْ أَمْرٌ بَعْدَ اتِّصَافِكُمْ بِالْإِيمَانِ، وَلَا مَزِيَّةٌ عَلَيْنَا:
بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ
أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ [ هُودٍ: 27 - 28 ].
وَهَذَا تَلَطُّفٌ فِي الْخِطَابِ مَعَهُمْ، وَتَرَفُّقٌ بِهِمْ فِي الدَّعْوَةِ
إِلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [ طه: 44 ]. وَقَالَ تَعَالَى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
[ النَّحْلِ: 125 ]. وَهَذَا مِنْهُ يَقُولُ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ
عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ. أَيُّ
النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ. أَيْ فَلَمْ تَفْهَمُوهَا،
وَلَمْ تَهْتَدُوا إِلَيْهَا أَنُلْزِمُكُمُوهَا. أَيْ أَنَغْصِبُكُمْ بِهَا،
وَنَجْبُرُكُمْ عَلَيْهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.
أَيْ: لَيْسَ لِي فِيكُمْ حِيلَةٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ. أَيْ: لَسْتُ أُرِيدُ مِنْكُمْ أُجْرَةً عَلَى إِبْلَاغِي إِيَّاكُمْ مَا يَنْفَعُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ، وَأُخَرَاكُمْ إِنْ أَطْلُبْ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ الَّذِي ثَوَابُهُ خَيْرٌ لِي، وَأَبْقَى مِمَّا تُعْطُونَنِي أَنْتُمْ. وَقَوْلُهُ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ [ هُودٍ: 29 ] كَأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُبْعِدَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ، وَوَعَدُوهُ أَنْ يَجْتَمِعُوا بِهِ إِذَا هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَقَالَ إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ فَأَخَافُ إِنْ طَرَدَتْهُمْ أَنْ يَشْكُونِي إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا قَالَ: وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [ هُودٍ: 30 ]. وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْرُدَ عَنْهُ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ ; كَعَمَّارٍ، وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ، وَخَبَّابٍ، وَأَشْبَاهِهِمْ نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَتَيِ الْأَنْعَامِ، وَالْكَهْفِ: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ. أَيْ بَلْ أَنَا عَبْدٌ رَسُولٌ لَا أَعْلَمُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مَا أَعْلَمَنِي بِهِ. وَلَا أَقْدِرُ إِلَّا عَلَى مَا أَقْدَرَنِي عَلَيْهِ، وَلَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا، وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ. يَعْنِي مِنْ أَتْبَاعِهِ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ. أَيْ لَا أَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا خَيْرَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ، وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، كَمَا قَالُوا فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [ الشُّعَرَاءِ: 111 ].
وَقَدْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ، وَالْمُجَادَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [ الْعَنْكَبُوتِ: 14 ]. أَيْ: وَمَعَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ فَمَا آمَنَ بِهِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، وَكَانَ كُلَّمَا انْقَرَضَ جِيلٌ وَصَّوْا مَنْ بَعْدَهُمْ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ. وَمُحَارَبَتِهِ، وَمُخَالَفَتِهِ، وَكَانَ الْوَالِدُ إِذَا بَلَغَ وَلَدُهُ وَعَقَلَ عَنْهُ كَلَامَهُ وَصَّاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَنْ لَا يُؤْمِنَ بِنُوحٍ أَبَدًا مَا عَاشَ وَدَائِمًا مَا بَقِيَ، وَكَانَتْ سَجَايَاهُمْ تَأْبَى الْإِيمَانَ وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [ نُوحٍ: 27 ]. وَلِهَذَا قَالُوا: يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [ هُودٍ: 32 - 33 ]. أَيْ: إِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَكْتَرِثُهُ أَمْرٌ بَلْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ هُودٍ: 34 ]. أَيْ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ يَمْلِكَ أَحَدٌ هِدَايَتَهُ هُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْغِوَايَةَ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [ هُودٍ: 36 ]. وَهَذِهِ تَعْزِيَةٌ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِهِ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، وَتَسْلِيَةٌ لَهُ عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. أَيْ: لَا يَسُوأَنَّكَ مَا جَرَى فَإِنَّ النَّصْرَ قَرِيبٌ، وَالنَّبَأَ عَجِيبٌ
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.
وَذَلِكَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا يَئِسَ مِنْ صَلَاحِهِمْ، وَفَلَاحِهِمْ، وَرَأَى أَنَّهُمْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ، وَتَوَصَّلُوا إِلَى أَذِيَّتِهِ، وَمُخَالَفَتِهِ، وَتَكْذِيبِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ مِنْ فِعَالٍ، وَمَقَالٍ دَعَا عَلَيْهِمْ دَعْوَةَ غَضَبٍ لِلَّهِ فَلَبَّى اللَّهُ دَعْوَتَهُ وَأَجَابَ طِلْبَتَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [ الصَّافَّاتِ: 75 - 76 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [ الْأَنْبِيَاءِ: 76 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ونَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ الشُّعَرَاءِ: 117 - 118 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [ الْقَمَرِ: 10 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ [ الْمُؤْمِنُونَ: 26 ]. وَقَالَ تَعَالَى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [ نُوحٍ: 25 - 27 ]. فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ خَطَايَاهُمْ مِنْ كُفْرِهِمْ وَفُجُورِهِمْ، وَدَعْوَةِ نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَصْنَعَ الْفُلْكَ، وَهِيَ السَّفِينَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي لَمْ يَكُنْ لَهَا نَظِيرٌ قَبْلَهَا، وَلَا يَكُونُ بَعْدَهَا مِثْلَهَا، وَتَقَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ أَمْرُهُ، وَحَلَّ بِهِمْ بِأُسُهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أَنَّهُ لَا يُعَاوِدُهُ فِيهِمْ وَلَا يُرَاجِعُهُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ قَدْ تُدْرِكُهُ رِقَّةٌ عَلَى قَوْمِهِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ.
أَيْ
يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ اسْتِبْعَادًا لِوُقُوعِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ قَالَ إِنْ
تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ. أَيْ: نَحْنُ
الَّذِينَ نَسْخَرُ مِنْكُمْ، وَنَتَعَجَّبُ مِنْكُمْ فِي اسْتِمْرَارِكُمْ عَلَى
كُفْرِكُمْ، وَعِنَادِكُمُ الَّذِي يَقْتَضِي وُقُوعَ الْعَذَابِ بِكُمْ
وَحُلُولَهُ عَلَيْكُمْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ
وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ. وَقَدْ كَانَتْ سَجَايَاهُمُ الْكُفْرَ
الْغَلِيظَ، وَالْعِنَادَ الْبَالِغَ فِي الدُّنْيَا. وَهَكَذَا فِي الْآخِرَةِ
فَإِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ رَسُولٌ،
كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ،
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: يَجِيءُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأُمَّتُهُ فَيَقُولُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ: هَلْ بَلَّغْتَ. فَيَقُولُ: نَعَمْ. أَيْ رَبِّ. فَيَقُولُ
لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ. فَيَقُولُونَ: لَا مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ.
فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ. فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ.
فَتَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ. وَهُوَ قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [ الْبَقَرَةِ: 143 ].
وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ فَهَذِهِ الْأُمَّةُ تَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ نَبِيِّهَا
الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ نُوحًا بِالْحَقِّ،
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْحَقَّ وَأَمَرَهُ بِهِ. وَأَنَّهُ بَلَّغَهُ إِلَى
أُمَّتِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَتَمِّهَا، وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِمَّا
يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ إِلَّا وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِهِ. وَلَا شَيْئًا مِمَّا
قَدْ يَضُرُّهُمْ إِلَّا وَقَدْ نَهَاهُمْ عَنْهُ وَحَذَّرَهُمْ مِنْهُ. وَهَكَذَا
شَأْنُ جَمِيعِ الرُّسُلِ حَتَّى إِنَّهُ حَذَّرَ قَوْمَهُ الْمَسِيحَ
الدَّجَّالَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَوَقَّعُ
خُرُوجَهُ فِي
زَمَانِهِمْ حَذَرًا عَلَيْهِمْ وَشَفَقَةً وَرَحْمَةً بِهِمْ، كَمَا قَالَ
الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَالِمٌ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا
هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: إِنِّي لَأُنْذِرِكُمُوهُ،
وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمُهُ، لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ
قَوْمَهُ، وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ
لِقَوْمِهِ ; تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شَيْبَانَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَدِيثًا مَا
حَدَّثَ بِهِ نَبِيٌّ قَوْمَهُ ؟ إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّهُ يَجِيءُ مَعَهُ
بِمِثَالِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالَّتِي يَقُولُ: إِنَّهَا الْجَنَّةُ هِيَ
النَّارُ، وَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ. لَفْظُ
الْبُخَارِيِّ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: لَمَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ
أَمْرَهُ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرًا لِيَعْمَلَ مِنْهُ السَّفِينَةَ فَغَرَسَهُ،
وَانْتَظَرَهُ مِائَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ نَجَرَهُ فِي مِائَةٍ أُخْرَى. وَقِيلَ: فِي
أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ
الثَّوْرِيِّ: وَكَانَ مِنْ خَشَبِ السَّاجِ. وَقِيلَ: مِنَ الصَّنَوْبَرِ. وَهُوَ
نَصُّ التَّوْرَاةِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ طُولَهَا
ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، وَعَرْضَهَا خَمْسِينَ ذِرَاعًا، وَأَنْ يُطْلَى ظَاهِرُهَا
وَبَاطِنُهَا بِالْقَارِ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهَا جُؤْجُؤًا أَزْوَرَ يَشُقُّ
الْمَاءَ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: كَانَ
طُولُهَا ثَلَثَمِائَةِ ذِرَاعٍ فِي عَرْضِ خَمْسِينَ ذِرَاعًا. وَهَذَا الَّذِي
فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَا رَأَيْتُهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: سِتُّمِائَةٍ فِي عَرْضِ ثَلَثِمِائَةٍ. وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: أَلْفٌ وَمِائَتَا ذِرَاعٍ فِي عَرْضِ سِتِّمِائَةِ ذِرَاعٍ.
وَقِيلَ: كَانَ طُولُهَا أَلْفَيْ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ، قَالُوا
كُلُّهُمْ: وَكَانَ ارْتِفَاعُهَا ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، وَكَانَتْ ثَلَاثَ
طَبَقَاتٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَشْرُ أَذْرُعٍ ; فَالسُّفْلَى لِلدَّوَابِّ وَالْوُحُوشِ،
وَالْوُسْطَى لِلنَّاسِ، وَالْعُلْيَا لِلطُّيُورِ، وَكَانَ بَابُهَا فِي
عَرْضِهَا، وَلَهَا غِطَاءٌ مِنْ فَوْقِهَا مُطْبَقٌ عَلَيْهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَا
إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [ الْمُؤْمِنُونَ: 26
]. أَيْ ; بِأَمْرِنَا لَكَ، وَبِمَرْأَى مِنَّا لِصَنْعَتِكَ لَهَا،
وَمُشَاهَدَتِنَا لِذَلِكَ لِنُرْشِدَكَ إِلَى الصَّوَابِ فِي صَنْعَتِهَا فَإِذَا
جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا
تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 27
]. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِأَمْرِهِ الْعَظِيمِ الْعَالِي أَنَّهُ إِذَا جَاءَ
أَمْرُهُ، وَحَلَّ بَأْسُهُ أَنْ يَحْمِلَ فِي هَذِهِ السَّفِينَةِ مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَسَائِرِ مَا فِيهِ رُوحٌ مِنَ
الْمَأْكُولَاتِ، وَغَيْرِهَا لِبَقَاءِ نَسْلِهَا، وَأَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ
أَهْلَهُ أَيْ: أَهْلَ بَيْتِهِ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ;
أَيْ إِلَّا مَنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ قَدْ نَفَذَتْ فِيهِ الدَّعْوَةُ
الَّتِي لَا تُرَدُّ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ حُلُولُ الْبَأْسِ الَّذِي لَا يُرَدُّ،
وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُرَاجِعَهُ فِيهِمْ إِذَا حَلَّ بِهِمْ مَا يُعَايِنُهُ مِنَ
الْعَذَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي قَدْ حَتَّمَهُ عَلَيْهِمُ الْفَعَّالُ لِمَا
يُرِيدُ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ قَبْلُ.
وَالْمُرَادُ
بِالتَّنُّورِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَجْهُ الْأَرْضِ أَيْ ; نَبَعَتِ الْأَرْضُ
مِنْ سَائِرِ أَرْجَائِهَا حَتَّى نَبَعَتِ التَّنَانِيرُ الَّتِي هِيَ مَحَالُّ
النَّارِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: التَّنُّورُ عَيْنٌ فِي الْهِنْدِ. وَعَنِ
الشَّعْبِيِّ: بِالْكُوفَةِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: بِالْجَزِيرَةِ. وَقَالَ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الْمُرَادُ بِالتَّنُّورِ فَلَقُ الصُّبْحِ. وَتَنْوِيرُ
الْفَجْرِ أَيْ: إِشْرَاقُهُ وَضِيَاؤُهُ أَيْ: عِنْدَ ذَلِكَ فَاحْمِلْ فِيهَا
مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا
احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ
عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. هَذَا أَمْرٌ
ثَانٍ عِنْدَ حُلُولِ النِّقْمَةِ بِهِمْ أَنْ يَحْمِلَ فِيهَا مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وَفِي كِتَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ
يَحْمِلَ مِنْ كُلِّ مَا يُؤْكَلُ سَبْعَةَ أَزْوَاجٍ، وَمِمَّا لَا يُؤَكَلُ
زَوْجَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَهَذَا مُغَايِرٌ لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى
فِي كِتَابِنَا الْحَقِّ: اثْنَيْنِ. إِنْ جَعْلَنَا ذَلِكَ مَفْعُولًا بِهِ.
وَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ تَوْكِيدًا لِزَوْجَيْنِ، وَالْمَفْعُولُ بِهِ
مَحْذُوفٌ فَلَا تَنَافِيَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ
مِنَ الطُّيُورِ الدُّرَّةُ، وَآخِرُ مَا دَخَلَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْحِمَارُ،
وَدَخَلَ إِبْلِيسُ مُتَعَلِّقًا بِذَنَبِ الْحِمَارِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي
حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ،
حَدَّثَنِي
اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا
حَمَلَ نُوحٌ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قَالَ
أَصْحَابُهُ: وَكَيْفَ نُطَمْئِنُ أَوْ كَيْفَ تَطْمَئِنُّ الْمَوَاشِي وَمَعَنَا
الْأَسَدُ ؟ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحُمَّى فَكَانَتْ أَوَّلَ حُمَّى
نَزَلَتْ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ شَكَوُا الْفَأْرَةَ فَقَالُوا: الْفُوَيْسِقَةُ
تُفْسِدُ عَلَيْنَا طَعَامَنَا وَمَتَاعَنَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْأَسَدِ
فَعَطَسَ فَخَرَجَتِ الْهِرَّةُ مِنْهُ فَتَخَبَّأَتِ الْفَأْرَةُ مِنْهَا. هَذَا
مُرْسَلٌ. وَقَوْلُهُ: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ. أَيْ
مَنِ اسْتَجَبْتُ فِيهِمُ الدَّعْوَةَ النَّافِذَةَ مِمَّنْ كَفَرَ فَكَانَ
مِنْهُمِ ابْنُهُ يَامٌ الَّذِي غَرِقَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ: وَمَنْ آمَنَ،
أَيْ وَاحْمِلْ فِيهَا مَنْ آمَنَ بِكَ مِنْ أُمَّتِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. هَذَا مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ وَالْمُقَامِ
بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَدَعْوَتِهِمُ الْأَكِيدَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا بِضُرُوبِ
الْمَقَالِ، وَفُنُونِ التَّلَطُّفَاتِ، وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ تَارَةً،
وَالتَّرْغِيبِ وَالْوَعْدِ أُخْرَى.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عِدَّةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ ; فَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ كَانُوا ثَمَانِينَ نَفْسًا مَعَهُمْ نِسَاؤُهُمْ. وَعَنْ كَعْبِ
الْأَحْبَارِ كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ نَفْسًا. وَقِيلَ: كَانُوا عَشَرَةً.
وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانُوا نُوحًا وَبَنِيهِ الثَّلَاثَةَ، وَكَنَائِنَهُ
الْأَرْبَعَ بِامْرَأَةِ يَامٍ الَّذِي انْخَزَلَ وَانْعَزَلَ وَسَلَكَ غَيْرَ
طَرِيقِ النَّجَاةِ فَمَا عَدَلَ إِذْ عَدَلَ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ
مُخَالَفَةٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ بَلْ هِيَ نَصٌّ فِي أَنَّهُ قَدْ رَكِبَ مَعَهُ
مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ طَائِفَةٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ. كَمَا قَالَ: وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: كَانُوا سَبْعَةً. وَأَمَّا امْرَأَةُ نُوحٍ، وَهِيَ أَمُّ أَوْلَادِهِ كُلِّهِمْ ; وَهُمْ حَامٌ، وِسَامٌ، وَيَافِثُ، ويامٌ، وَتُسَمِّيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ كَنْعَانَ، وَهُوَ الَّذِي قَدْ غَرِقَ، وَعَابِرٌ. وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ الطُّوفَانِ. قِيلَ: إِنَّهَا غَرِقَتْ مَعَ مَنْ غَرِقَ، وَكَانَتْ مِمَّنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ لِكُفْرِهَا. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي السَّفِينَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَفَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ أَنَّهَا أُنْظِرَتْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ: لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [ نُوحٍ: 26 ]. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 28 - 29 ]. أَمَرَهُ أَنَّ يَحْمَدَ رَبَّهُ عَلَى مَا سَخَّرَ لَهُ مِنْ هَذِهِ السَّفِينَةِ فَنَجَّاهُ بِهَا، وَفَتَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ، وَأَقَرَّ عَيْنَهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [ الزُّخْرُفِ: 12 - 14 ]. وَهَكَذَا يُؤْمَرُ بِالدُّعَاءِ فِي ابْتِدَاءِ الْأُمُورِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَأَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُهَا مَحْمُودَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَاجَرَ: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا [ الْإِسْرَاءِ: 80 ].
وَقَدِ امْتَثَلَ
نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ
اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. أَيْ عَلَى
اسْمِ اللَّهِ ابْتِدَاءُ سَيْرِهَا وَانْتِهَاؤُهُ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ. أَيْ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ مَعَ كَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا لَا يُرَدُّ
بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، كَمَا أَحَلَّ بِأَهْلِ الْأَرْضِ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ. وَعَبَدُوا غَيْرَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهِيَ
تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَرْسَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَطَرًا لَمْ تَعْهَدْهُ الْأَرْضُ قَبْلَهُ، وَلَا
تُمْطِرْهُ بَعْدَهُ كَانَ كَأَفْوَاهِ الْقِرَبِ، وَأَمَرَ الْأَرْضَ فَنَبَعَتْ
مِنْ جَمِيعِ فِجَاجِهَا وَسَائِرِ أَرْجَائِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَدَعَا
رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ
مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ
قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ [ الْقَمَرِ: 10 - 13
]. وَالدُّسُرُ: الْمَسَامِيرُ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا أَيْ بِحِفْظِنَا
وَكَلَاءَتِنَا وَحِرَاسَتِنَا وَمُشَاهَدَتِنَا لَهَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ
كُفِرَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ فِي ثَالِثَ
عَشَرَ شَهْرِ آبٍ فِي حَمَارَةِ الْقَيْظِ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا
طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ. أَيِ السَّفِينَةِ. لِنَجْعَلَهَا
لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ: ارْتَفَعَ الْمَاءُ عَلَى أَعْلَى جَبَلٍ بِالْأَرْضِ خَمْسَةَ
عَشَرَ ذِرَاعًا. وَهُوَ الَّذِي عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: ثَمَانِينَ
ذِرَاعًا. وَعَمَّ جَمِيعَ الْأَرْضِ ; طُولَهَا وَالْعَرْضَ، سَهْلَهَا
وَحَزْنَهَا، وَجِبَالَهَا، وَقِفَارَهَا وَرِمَالَهَا، وَلَمْ
يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِمَّنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ عَيْنٌ تَطْرِفُ، وَلَا صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ. قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ قَدْ مَلَئُوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لَمْ تَكُنْ بُقْعَةٌ فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَلَهَا مَالِكٌ وَحَائِزٌ. رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [ هُودٍ: 42 - 43 ]. وَهَذَا الِابْنُ هُوَ يَامٌ أَخُو سَامٍ وَحَامٍ وَيَافِثَ. وَقِيلَ: اسْمُهُ كَنْعَانُ. وَكَانَ كَافِرًا عَامِلًا غَيْرَ صَالِحٍ، مُخَالِفًا أَبَاهُ فِي دِينِهِ وَمَذْهَبِهِ، فَهَلَكَ مَعَ مَنْ هَلَكَ. هَذَا وَقَدْ نَجَا مَعَ أَبِيهِ الْأَجَانِبُ فِي النَّسَبِ لَمَّا كَانُوا مُوَافِقِينَ فِي الدِّينِ وَالْمَذْهَبِ: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. أَيْ ; لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا أَحَدٌ مِمَّنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ أَنْ تَبْلَعَ مَاءَهَا، وَأَمَرَ السَّمَاءَ أَنْ تُقْلِعَ. أَيْ تُمْسِكُ عَنِ الْمَطَرِ وَغِيضَ الْمَاءُ. أَيْ نَقَصَ عَمَّا كَانَ وَقُضِيَ الْأَمْرُ، أَيْ وَقَعَ بِهِمُ الَّذِي كَانَ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَقَدَرِهِ، مِنْ إِحْلَالِهِ بِهِمْ مَا حَلَّ بِهِمْ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. أَيْ ; نُودِيَ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِ الْقُدْرَةِ بُعْدًا لَهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 64 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ [ يُونُسَ: 73 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا
قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 77 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ
أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [
الشُّعَرَاءِ: 119 - 122 ] وَقَالَ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ
السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [ الْعَنْكَبُوتِ: 14 - 15 ].
وَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ [ الصَّافَّاتِ: 82 ] وَقَالَ:
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي
وَنُذُرٍ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [
الْقَمَرِ: 15 - 17 ]. وَقَالَ تَعَالَى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا
فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا
كَفَّارًا [ نُوحٍ: 25 - 27 ]. وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَهُ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ دَعْوَتَهُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامَانِ: أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ
أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيِّ،
عَنْ فَائِدٍ مَوْلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، أَنَّ إِبْرَاهِيمَ
بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ
أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ
مِنْ قَوْمِ نُوحٍ أَحَدًا لِرَحِمِ أُمَّ الصَّبِيِّ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَكَثَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ يَعْنِي إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَغَرَسَ مِائَةَ سَنَةٍ
الشَّجَرَ فَعَظُمَتْ، وَذَهَبَتْ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ قَطَعَهَا، ثُمَّ
جَعَلَهَا سَفِينَةً، وَيَمُرُّونَ عَلَيْهِ، وَيَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ:
تَعْمَلُ سَفِينَةً فِي الْبَرِّ كَيْفَ تَجْرِي. قَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ.
فَلَمَّا فَرَغَ وَنَبَعَ الْمَاءُ وَصَارَ فِي السِّكَكِ. خَشِيَتْ أُمُّ
الصَّبِيِّ عَلَيْهِ وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا خَرَجَتْ بِهِ إِلَى
الْجَبَلِ حَتَّى بَلَغَتْ ثُلْثَهُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ، خَرَجَتْ بِهِ
حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَقَبَتَهَا
رَفَعَتْهُ بِيَدَيْهَا، فَغَرِقَا، فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا
لِرَحِمِ أُمَّ الصَّبِيِّ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ
الْأَحْبَارِ، وَمُجَاهِدٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ شَبِيهٌ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ،
وَأَحْرَى بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا مُتَلَقًّى عَنْ مِثْلِ
كَعْبِ الْأَحْبَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبْقِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، فَكَيْفَ
يَزْعُمُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ عُوَجَ بْنَ عُنُقَ، وَيُقَالُ: ابْنَ
عِنَاقَ كَانَ مَوْجُودًا مِنْ قَبْلِ نُوحٍ إِلَى زَمَانِ مُوسَى وَيَقُولُونَ:
كَانَ كَافِرًا مُتَمَرِّدًا جَبَّارًا عَنِيدًا، وَيَقُولُونَ: كَانَ لِغَيْرِ
رِشْدَةٍ بَلْ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ عُنُقُ بِنْتُ آدَمَ مِنْ زِنًا، وَأَنَّهُ
كَانَ يَأْخُذُ مِنْ طُولِهِ السَّمَكَ مِنْ قَرَارِ الْبِحَارِ، وَيَشْوِيهِ فِي
عَيْنِ الشَّمْسِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِنُوحٍ، وَهُوَ فِي السَّفِينَةِ: مَا
هَذِهِ الْقُصَيْعَةُ الَّتِي لَكَ، وَيَسْتَهْزِئُ بِهِ. وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُ
كَانَ طُولُهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ
وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَثُلُثًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْهَذَيَانَاتِ
الَّتِي لَوْلَا أَنَّهَا مُسَطَّرَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ التَّفَاسِيرِ،
وَغَيْرِهَا مِنَ التَّوَارِيخِ، وَأَيَّامِ النَّاسِ لَمَا تَعَرَّضْنَا
لِحِكَايَتِهَا لِسَقَاطَتِهَا، وَرَكَاكَتِهَا، ثُمَّ إِنَّهَا مُخَالِفَةٌ
لِلْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ.
أَمَّا الْمَعْقُولُ
فَكَيْفَ يَسُوغُ فِيهِ أَنْ يُهْلِكَ اللَّهُ وَلَدَ نُوحٍ لِكُفْرِهِ، وَأَبُوهُ
نَبِيُّ الْأُمَّةِ وَزَعِيمُ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَلَا يُهْلِكُ عُوجَ بْنَ
عُنُقَ، وَيُقَالُ: عَنَاقُ. وَهُوَ أَظْلَمُ وَأَطْغَى عَلَى مَا ذَكَرُوا،
وَكَيْفَ لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَا أُمَّ الصَّبِيِّ، وَلَا
الصَّبِيَّ، وَيَتْرُكُ هَذَا الدَّعِيَّ الْجَبَّارَ الْعَنِيدَ الْفَاجِرَ
الشَّدِيدَ الْكَافِرَ الشَّيْطَانَ الْمَرِيدَ عَلَى مَا ذَكَرُوا ؟ !
وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الْآخَرِينَ. وَقَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ
دَيَّارًا ثُمَّ هَذَا الطُّولُ الَّذِي ذَكَرُوهُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ
الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ. فَهَذَا نَصُّ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ
الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.
أَنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ أَيْ ; لَمْ يَزَلِ
النَّاسُ فِي نُقْصَانٍ فِي طُولِهِمْ مِنْ آدَمَ إِلَى يَوْمِ إِخْبَارِهِ
بِذَلِكَ، وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ مَنْ كَانَ
أَطْوَلَ مِنْهُ فَكَيْفَ يُتْرَكُ هَذَا وَيُذْهَلُ عَنْهُ، وَيُصَارُ إِلَى
أَقْوَالِ الْكَذَبَةِ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ بَدَّلُوا
كُتَبَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةَ وَحَرَّفُوهَا وَأَوَّلُوهَا وَوَضَعُوهَا عَلَى
غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا هُمْ يَسْتَقِلُّونَ بِنَقْلِهِ أَوْ
يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ، وَهُمُ الْكَذَبَةُ الْخَوَنَةُ، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ
اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَا أَظُنُّ أَنَّ هَذَا
الْخَبَرَ عَنْ عُوجَ بْنِ عَنَاقَ إِلَّا اخْتِلَاقًا مِنْ بَعْضِ
زَنَادِقَتِهِمْ وَفُجَّارِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا أَعْدَاءَ
الْأَنْبِيَاءِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُنَاشَدَةَ نُوحٍ رَبَّهُ فِي وَلَدِهِ،
وَسُؤَالَهُ لَهُ عَنْ غَرَقِهِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْلَامِ وَالِاسْتِكْشَافِ،
وَوَجْهُ السُّؤَالِ أَنَّكَ وَعَدْتَنِي بِنَجَاةِ أَهْلِي مَعِي وَهُوَ مِنْهُمْ
وَقَدْ غَرِقَ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أَيِ الَّذِينَ وَعَدْتُ
بِنَجَاتِهِمْ أَيْ أَمَا قُلْنَا لَكَ: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ
الْقَوْلُ مِنْهُمْ. فَكَانَ هَذَا مِمَّنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ
بِأَنْ سَيَغْرَقُ بِكُفْرِهِ، وَلِهَذَا سَاقَتْهُ الْأَقْدَارُ إِلَى أَنِ
انْحَازَ عَنْ حَوْزَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَغَرِقَ مَعَ حِزْبِهِ أَهْلِ
الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ
بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ
سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ. هَذَا أَمْرٌ لِنُوحٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَضَبَ الْمَاءُ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَمْكَنَ
السَّعْيُ فِيهَا، وَالِاسْتِقْرَارُ عَلَيْهَا، أَنْ يَهْبِطَ مِنَ السَّفِينَةِ
الَّتِي كَانَتْ قَدِ اسْتَقَرَّتْ بَعْدَ سَيْرِهَا الْعَظِيمِ عَلَى ظَهْرِ
جَبَلِ الْجُودِيِّ وَهُوَ جَبَلٌ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ مَشْهُورٌ، وَقَدْ
قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عِنْدَ خَلْقِ الْجِبَالِ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ. أَيِ
اهْبِطْ سَالِمًا مُبَارَكًا عَلَيْكَ، وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ سَيُولَدُ بَعْدُ.
أَيْ مِنْ أَوْلَادِكَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ كَانَ
مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَسْلًا، وَلَا عَقِبًا سِوَى نُوحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ. فَكُلُّ
مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ مِنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ
يَنْتَسِبُونَ إِلَى أَوْلَادِ نُوحٍ الثَّلَاثَةِ ; وَهُمْ سَامٌ، وَحَامٌ،
وَيَافِثُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامٌ أَبُو الْحَبَشِ،
وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ
الْعَقَدِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ،
عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِثْلَهُ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالرُّومِ هُنَا الرُّومُ الْأُوَلُ، وَهُمُ
الْيُونَانُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى رُومِيِّ بْنِ لِيطِيِّ بْنِ يُونَانَ بْنِ
يَافِثَ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
أَنَّهُ قَالَ: وَلَدُ نُوحٍ ثَلَاثَةٌ: سَامٌ، وَيَافِثُ، وَحَامٌ. وَوَلَدَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ثَلَاثَةً ; فَوَلَدَ سَامٌ الْعَرَبَ وَفَارِسَ
وَالرُّومَ. وَوَلَدَ يَافِثُ التُّرْكَ وَالسَّقَالِبَةَ وَيَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ. وَوَلَدَ حَامٌ الْقِبْطَ وَالسُّودَانَ وَالْبَرْبَرَ. قُلْتُ:
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عَبَّادٍ أَبُو
الْعَبَّاسِ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ
الرَّهَاوِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وُلِدَ لِنُوحٍ ; سَامٌ
وَحَامٌ، وَيَافِثُ.
فَوُلِدَ لِسَامٍ الْعَرَبُ وَفَارِسُ وَالرُّومُ، وَالْخَيْرُ فِيهِمْ. وَوُلِدَ
لِيَافِثَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَالتُّرْكُ وَالصَّقَالِبَةُ، وَلَا خَيْرَ
فِيهِمْ. وَوُلِدَ لِحَامٍ الْقِبْطُ وَالْبَرْبَرُ وَالسُّودَانُ. ثُمَّ قَالَ:
لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ تَفَرَّدَ بِهِ
مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاحْتَمَلُوا حَدِيثَهُ. وَرَوَاهُ غَيْرُهُ
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مُرْسَلًا وَلَمْ يُسْنِدْهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مِنْ
قَوْلِ سَعِيدٍ. قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ هُوَ الْمَحْفُوظُ،
عَنْ سَعِيدٍ قَوْلُهُ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مِثْلُهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ أَبُو فَرْوَةَ الرَّهَاوِيُّ ضَعِيفٌ
بِمَرَّةٍ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُولَدْ لَهُ هَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَةُ الْأَوْلَادُ إِلَّا بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَإِنَّمَا وُلِدَ لَهُ
قَبْلَ السَّفِينَةِ كَنْعَانُ الَّذِي غَرِقَ، وَعَابِرُ مَاتَ قَبْلَ
الطُّوفَانِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَوْلَادَهُ الثَّلَاثَةَ كَانُوا مَعَهُ فِي
السَّفِينَةِ هُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَأُمُّهُمْ، وَهُوَ نَصُّ التَّوْرَاةِ. وَقَدْ
ذُكِرَ أَنَّ حَامًا وَاقَعَ امْرَأَتَهُ فِي السَّفِينَةِ، فَدَعَا عَلَيْهِ
نُوحٌ أَنْ تُشَوَّهَ خِلْقَةُ نُطْفَتِهِ فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ أَسْوَدُ وَهُوَ
كَنْعَانُ بْنُ حَامٍ جَدُّ السُّودَانِ. وَقِيلَ: بَلْ رَأَى أَبَاهُ نَائِمًا،
وَقَدْ بَدَتْ عَوْرَتُهُ فَلَمْ يَسْتُرْهَا وَسَتَرَهَا أَخَوَاهُ فَلِهَذَا
دَعَا عَلَيْهِ أَنْ تُغَيَّرَ نُطْفَتُهُ، وَأَنْ يَكُونَ
أَوْلَادُهُ
عَبِيدًا لِإِخْوَتِهِ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ
زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَالَ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: لَوْ بَعَثْتَ لَنَا
رَجُلًا شَهِدَ السَّفِينَةَ فَحَدَّثَنَا عَنْهَا ؟ قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِمْ حَتَّى
أَتَى إِلَى كَثِيبٍ مِنْ تُرَابٍ، فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ
بِكَفِّهِ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَا ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ. قَالَ: هَذَا كَعْبُ حَامَ بْنِ نُوحٍ. قَالَ: وَضَرَبَ الْكَثِيبَ
بِعَصَاهُ، وَقَالَ: قُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ. فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ يَنْفُضُ
التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ قَدْ شَابَ. فَقَالَ لَهُ: عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
هَكَذَا هَلَكْتَ. قَالَ: لَا. وَلَكِنِّي مِتُّ وَأَنَا شَابٌّ، وَلَكِنِّي
ظَنَنْتُ أَنَّهَا السَّاعَةُ فَمِنْ ثَمَّ شِبْتُ. قَالَ: حَدِّثْنَا عَنْ
سَفِينَةِ نُوحٍ. قَالَ: كَانَ طُولُهَا أَلْفَ ذِرَاعٍ وَمِائَتَيْ ذِرَاعٍ،
وَعَرْضُهَا سِتُّمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَكَانَتْ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ ; فَطَبَقَةٌ
فِيهَا الدَّوَابُّ وَالْوَحْشُ، وَطَبَقَةٌ فِيهَا الْإِنْسُ، وَطَبَقَةٌ فِيهَا
الطَّيْرُ، فَلَمَّا كَثُرَ أَرْوَاثُ الدَّوَابِّ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِ اغْمِزْ ذَنَبَ الْفِيلِ، فَغَمَزَهُ
فَوَقَعَ مِنْهُ خِنْزِيرٌ وَخِنْزِيرَةٌ فَأَقْبَلَا عَلَى الرَّوْثِ، وَلَمَّا
وَقَعَ الْفَأْرُ يَخْرِزُ السَّفِينَةَ بِقَرْضِهِ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِ اضْرِبْ بَيْنَ عَيْنَيِ الْأَسَدِ،
فَخَرَجَ مِنْ مَنْخَرِهِ سِنَّوْرٌ وَسِنَّوْرَةٌ فَأَقْبَلَا عَلَى الْفَأْرِ.
فَقَالَ لَهُ عِيسَى: كَيْفَ عَلِمَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْبِلَادَ
قَدْ غَرِقَتْ.
قَالَ: بَعَثَ الْغُرَابَ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ فَوَجَدَ جِيفَةً فَوَقَعَ
عَلَيْهَا، فَدَعَا عَلَيْهِ بِالْخَوْفِ فَلِذَلِكَ لَا يَأْلَفُ الْبُيُوتَ.
قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ الْحَمَامَةَ فَجَاءَتْ بِوَرَقِ زَيْتُونٍ بِمِنْقَارِهَا
وَطِينٍ بِرِجْلَيْهَا، فَعَلِمَ أَنَّ الْبِلَادَ قَدْ غَرِقَتْ فَطَوَّقَهَا
الْخُضْرَةَ الَّتِي فِي عُنُقِهَا، وَدَعَا لَهَا أَنْ تَكُونَ فِي أُنْسٍ
وَأَمَانٍ فَمِنْ ثَمَّ تَأْلَفُ الْبُيُوتَ. قَالَ: فَقَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَلَا نَنْطَلِقُ بِهِ إِلَى أَهْلِينَا فَيَجْلِسُ مَعَنَا
وَيُحَدِّثُنَا ؟ قَالَ: كَيْفَ يَتْبَعُكُمْ مَنْ لَا رِزْقَ لَهُ ؟ قَالَ:
فَقَالَ لَهُ: عُدْ بِإِذْنِ اللَّهِ فَعَادَ تُرَابًا، وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ
جِدًّا.
وَرَوَى عِلْبَاءُ بْنُ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ ثَمَانُونَ رَجُلًا مَعَهُمْ أَهْلُوهُمْ،
وَأَنَّهُمْ كَانُوا فِي السَّفِينَةِ مِائَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، وَأَنَّ
اللَّهَ وَجَّهَ السَّفِينَةَ إِلَى مَكَّةَ فَدَارَتْ بِالْبَيْتِ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا، ثُمَّ وَجَّهَهَا إِلَى الْجُودِيِّ فَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ فَبَعَثَ
نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْغُرَابَ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ الْأَرْضِ، فَذَهَبَ
فَوَقَعَ عَلَى الْجِيَفِ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ الْحَمَامَةَ فَأَتَتْهُ
بِوَرَقِ الزَّيْتُونِ، وَلَطَّخَتْ رِجْلَيْهَا بِالطِّينِ، فَعَرَفَ نُوحٌ أَنَّ
الْمَاءَ قَدْ نَضَبَ، فَهَبَطَ إِلَى أَسْفَلِ الْجُودِيِّ فَابْتَنَى قَرْيَةً،
وَسَمَّاهَا ثَمَانِينَ، فَأَصْبَحُوا ذَاتَ يَوْمٍ، وَقَدْ تَبَلْبَلَتْ
أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى ثَمَانِينَ لُغَةً ; إِحْدَاهَا لُغَةُ الْعَرَبِيِّ،
فَكَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَفْقَهُ كَلَامَ بَعْضٍ، فَكَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ
السَّلَامُ يُعَبِّرُ عَنْهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: رَكِبُوا فِي السَّفِينَةِ فِي الْيَوْمِ
الْعَاشِرِ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ فَسَارُوا مِائَةً وَخَمْسِينَ
يَوْمًا،
وَاسْتَقَرَّتْ بِهِمْ عَلَى الْجُودِيِّ شَهْرًا، وَكَانَ خُرُوجُهُمْ مِنَ
السَّفِينَةِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ
جَرِيرٍ خَبَرًا مَرْفُوعًا يُوَافِقُ هَذَا، وَأَنَّهُمْ صَامُوا يَوْمَهُمْ
ذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الصَّمَدِ بْنُ حَبِيبٍ الْأَزْدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،
عَنْ شِبْلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُنَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ صَامُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ
فَقَالَ: " مَا هَذَا مِنَ الصَّوْمِ ؟ " فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ
الَّذِي نَجَّى اللَّهُ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْغَرَقِ، وَغَرِقَ
فِيهِ فِرْعَوْنُ، وَهَذَا يَوْمٌ اسْتَوَتْ فِيهِ السَّفِينَةُ عَلَى الْجُودِيِّ
فَصَامَ نُوحٌ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا أَحَقُّ
بِمُوسَى وَأَحَقُّ بِصَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ ". وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ:
" مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ
أَصَابَ مِنْ غَدَاءِ أَهْلِهِ فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ". وَهَذَا
الْحَدِيثُ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَالْمُسْتَغْرَبُ
ذِكْرُ نُوحٍ أَيْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ: أَنَّهُمْ أَكَلُوا مِنْ
فُضُولِ أَزْوَادِهِمْ، وَمِنْ حُبُوبٍ كَانَتْ مَعَهُمْ قَدِ اسْتَصْحَبُوهَا،
وَطَحَنُوا الْحُبُوبَ يَوْمَئِذٍ، وَاكْتَحَلُوا
بِالْإِثْمِدِ
لِتَقْوِيَةِ أَبْصَارِهِمْ لَمَّا ابْهَارَّتْ مِنَ الضِّيَاءِ بَعْدَ مَا
كَانُوا فِي ظُلْمَةِ السَّفِينَةِ، فَكُلُّ هَذَا لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ،
وَإِنَّمَا يُذْكَرُ فِيهِ آثَارٌ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا
يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَلَا يُقْتَدَى بِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ ذَلِكَ
الطُّوفَانَ أَرْسَلَ رِيحًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَسَكَنَ الْمَاءُ،
وَانْسَدَّتْ يَنَابِيعُ الْأَرْضِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْقُصُ وَيَغِيضُ
وَيُدْبِرُ، وَكَانَ اسْتِوَاءُ الْفُلْكِ عَلَى الْجُودِيِّ فِيمَا يَزْعُمُ
أَهْلُ التَّوْرَاةِ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ لِسَبْعَ عَشْرَ لَيْلَةً مَضَتْ
مِنْهُ، وَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ الْعَاشِرِ رُئِيَتْ رُءُوسُ
الْجِبَالِ، فَلَمَّا مَضَى بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا فَتَحَ نُوحٌ
كَوَّةَ الْفُلْكِ الَّتِي صَنَعَ فِيهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ الْغُرَابَ لِيَنْظُرَ
لَهُ مَا فَعَلَ الْمَاءُ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ الْحَمَامَةَ
فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ فَلَمْ يَجِدْ لِرِجْلَيْهَا مَوْضِعًا، فَبَسَطَ يَدَهُ
لِلْحَمَامَةِ فَأَخَذَهَا فَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ مَضَتْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، ثُمَّ
أَرْسَلَهَا لِتَنْظُرَ لَهُ، فَرَجَعَتْ حِينَ أَمْسَتْ وَفِي فِيهَا وَرَقُ
زَيْتُونَةٍ فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ قَلَّ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ،
ثُمَّ مَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا فَلَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ
فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْأَرْضَ قَدْ بَرَزَتْ، فَلَمَّا كَمَلَتِ السَّنَةُ
فِيمَا بَيْنَ أَنْ أَرْسَلَ اللَّهُ الطُّوفَانَ إِلَى أَنْ أَرْسَلَ نُوحٌ
الْحَمَامَةَ، وَدَخَلَ يَوْمٌ وَاحِدٌ مِنَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ
اثْنَتَيْنِ بَرَزَ وَجْهُ الْأَرْضِ وَظَهَرَ الْبَرُّ، وَكَشَفَ نُوحٌ غِطَاءَ
الْفُلْكِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ هُوَ بِعَيْنِهِ مَضْمُونُ
سِيَاقِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
وَفِي الشَّهْرِ
الثَّانِي مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ فِي سِتٍّ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْهُ قِيلَ
يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ
مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ.
وَفِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ نُوحًا قَائِلًا لَهُ:
اخْرُجْ مِنَ الْفُلْكِ أَنْتَ وَامْرَأَتُكَ وَبَنُوكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ،
وَجَمِيعُ الدَّوَابِّ الَّتِي مَعَكَ، وَلِتَنْمُوَا وَلِتَكْثُرُوا فِي
الْأَرْضِ، فَخَرَجُوا، وَابْتَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَأَخَذَ مِنْ جَمِيعِ الدَّوَابِّ الْحَلَالِ وَالطَّيْرِ الْحَلَالِ فَذَبَحَهَا
قُرْبَانًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ لَا
يُعِيدَ الطُّوفَانَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ تَذْكَارَ الْمِيثَاقِ
إِلَيْهِ الْقَوْسُ الَّذِي فِي الْغَمَامِ، وَهُوَ قَوْسُ قُزَحَ الَّذِي قَدَّمْنَا
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَمَانٌ مِنَ الْغَرَقِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ قَوْسٌ بِلَا وَتَرٍ. أَيْ ; أَنَّ هَذَا الْغَمَامَ لَا
يُوجَدُ مِنْهُ طُوفَانٌ كَأَوَّلِ مَرَّةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَقَدْ أَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْ جَهَلَةِ الْفُرْسِ وَأَهْلِ الْهِنْدِ، وُقُوعَ
الطُّوفَانِ، وَاعْتَرَفَ بِهِ آخَرُونَ مِنْهُمْ. وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانَ
بِأَرْضِ بَابِلَ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْنَا. قَالُوا: وَلَمْ نَزَلْ نَتَوَارَثُ
الْمُلْكَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ مِنْ لَدُنْ كُيُومُرْثَ يَعْنُونَ آدَمَ إِلَى
زَمَانِنَا هَذَا. وَهَذَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ زَنَادِقَةِ الْمَجُوسِ
عُبَّادِ النِّيرَانِ، وَأَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ. وَهَذِهِ سَفْسَطَةٌ مِنْهُمْ،
وَكُفْرٌ فَظِيعٌ، وَجَهْلٌ بَلِيغٌ، وَمُكَابَرَةٌ لِلْمَحْسُوسَاتِ، وَتَكْذِيبٌ
لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ. وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ
النَّاقِلُونَ عَنْ رُسُلِ الرَّحْمَنِ مَعَ مَا تَوَاتَرَ عِنْدَ النَّاسِ فِي
سَائِرِ الْأَزْمَانِ عَلَى وُقُوعِ الطُّوفَانِ، وَأَنَّهُ عَمَّ جَمِيعَ
الْبِلَادِ، وَلَمْ يُبْقِ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ كَفَرَةِ الْعِبَادِ ;
اسْتِجَابَةً لِدَعْوَةِ نَبِيِّهِ الْمُؤَيِّدِ الْمَعْصُومِ، وَتَنْفِيذًا لِمَا
سَبَقَ فِي الْقَدَرِ الْمَحْتُومِ.
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ
أَخْبَارِ نُوحٍ نَفْسِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [ الْإِسْرَاءِ: 3 ].
قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ، وَشَرَابِهِ،
وَلِبَاسِهِ، وَشَأْنِهِ كُلِّهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
بُرْدَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ
الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ
عَلَيْهَا. وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّكُورَ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ
بِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، فَإِنَّ
الشُّكْرَ يَكُونُ بِهَذَا وَبِهَذَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ
الْمُحَجَّبَا
ذِكْرُ صَوْمِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: بَابُ صِيَامِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَدَّثَنَا
سَهْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ ابْنِ
لَهِيعَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي فِرَاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: صَامَ نُوحٌ الدَّهْرَ إِلَّا يَوْمَ الْفِطْرِ،
وَيَوْمَ الْأَضْحَى. هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ لَهِيعَةَ بِإِسْنَادِهِ وَلَفْظِهِ. وَقَدْ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ:
حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ
خَالِدٍ الْحَرَّانَيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي قَنَّانٍ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ رَبَاحٍ أَبِي فِرَاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو
يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
صَامَ نُوحٌ الدَّهْرَ إِلَّا يَوْمَ الْفِطْرِ، وَالْأَضْحَى، وَصَامَ دَاوُدُ
نِصْفَ الدَّهْرِ، وَصَامَ إِبْرَاهِيمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ
صَامَ الدَّهْرَ وَأَفْطَرَ الدَّهْرَ.
ذِكْرُ حَجَّةِ
نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا
أَبِي، عَنْ زَمْعَةَ هُوَ ابْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامَ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَتَى وَادِي عُسْفَانَ قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ
أَيُّ وَادٍ هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا وَادِي عُسْفَانَ. قَالَ: لَقَدْ مَرَّ بِهَذَا
الْوَادِي نُوحٌ وَهُودٌ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَى بَكَرَاتٍ لَهُمْ حُمْرٍ خَطْمُهُمُ
اللِّيفُ أَزُرُهُمُ الْعَبَاءُ، وَأَرْدِيَتُهُمُ النِّمَارُ يَحُجُّونَ
الْبَيْتَ الْعَتِيقَ. فِيهِ غَرَابَةٌ.
ذِكْرُ وَصِيَّتِهِ
لِوَلَدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الصَّقْعَبِ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ
قَالَ: حَمَّادٌ أَظُنُّهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ عَلَيْهِ جُبَّةُ سِيجَانٍ مَزْرُورَةٌ
بِالدِّيبَاجِ، فَقَالَ: " أَلَا إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا قَدْ وَضَعَ كُلَّ
فَارِسٍ ابْنِ فَارِسٍ " أَوْ قَالَ: " يُرِيدُ أَنْ يَضَعَ كُلَّ
فَارِسٍ ابْنِ فَارِسٍ، وَرَفَعَ كُلَّ رَاعٍ بْنِ رَاعٍ ". قَالَ: فَأَخَذَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَجَامِعِ جُبَّتِهِ،
وَقَالَ: " أَلَّا أَرَى عَلَيْكَ لِبَاسَ مَنْ لَا يَعْقِلُ ". ثُمَّ
قَالَ: " إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: إِنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ
آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ، وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ ; آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ، فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ
فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ
السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِهَا
يَرْزُقُ الْخَلْقُ، وَأَنْهَاكَ عَنِ الشِّرْكِ
وَالْكِبْرِ ".
قَالَ: قُلْتُ، أَوْ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الشِّرْكُ قَدْ
عَرَفْنَاهُ، فَمَا الْكِبْرُ ؟ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا نَعْلَانِ حَسَنَتَانِ
لَهُمَا شِرَاكَانِ حَسَنَانِ ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ: هُوَ أَنْ
يَكُونَ لِأَحَدِنَا حُلَّةٌ يَلْبَسُهَا ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ: هُوَ
أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا دَابَّةٌ يَرْكَبُهَا ؟ قَالَ: " لَا ".
قَالَ: أَفَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا أَصْحَابٌ يَجْلِسُونَ إِلَيْهِ ؟
قَالَ: " لَا ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الْكِبْرُ ؟ قَالَ:
" سَفَهُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ،
وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ. وَرَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ فِي وَصِيَّةِ نُوحٍ لِابْنِهِ
أَوْصَيْتُكَ بِخَصْلَتَيْنِ، وَأَنْهَاكَ عَنْ خَصْلَتَيْنِ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ
أَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَكِبَ
السَّفِينَةَ كَانَ عُمُرُهُ سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَزَادَ وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ
ثَلَاثَمِائَةٍ
وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ نَظَرٌ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يُمْكِنِ
الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ فَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ، فَإِنَّ
الْقُرْآنَ يَقْتَضِي أَنَّ نُوحًا مَكَثَ فِي قَوْمِهِ بَعْدَ الْبِعْثَةِ،
وَقَبْلَ الطُّوفَانِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا كَمَا قَالَ
تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ
سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ. [
الْعَنْكَبُوتِ: 14 ] ثُمَّ اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ
كَانَ مَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَحْفُوظًا مِنْ أَنَّهُ بُعِثَ وَلَهُ
أَرْبَعُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَأَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ
ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً فَيَكُونُ قَدْ عَاشَ عَلَى هَذَا أَلْفَ
سَنَةٍ وَسَبْعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَأَمَّا قَبْرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْأَزْرَقِيُّ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ التَّابِعَيْنِ
مُرْسَلًا، أَنَّ قَبْرَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،
وَهَذَا أَقْوَى وَأَثْبَتُ مِنَ الذِّكْرِ الَّذِي يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ
الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْ أَنَّهُ بِبَلْدَةٍ بِالْبِقَاعِ تُعْرَفُ الْيَوْمَ
بِكَرْكِ نُوحٍ، وَهُنَاكَ جَامِعٌ قَدْ بُنِيَ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَأُوْقِفَتْ
عَلَيْهِ أَوْقَافٌ فِيمَا ذُكِرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قِصَّةُ هُودٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَهُوَ هُودُ بْنُ شَالِخِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَيُقَالُ: إِنَّ هُودًا هُوَ عَابِرُ بْنُ شَالِخِ بْنِ سَامِ بْنِ
نُوحٍ، وَيُقَالُ: هُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحِ بْنِ الْجَارُودِ بْنِ
عَادِ بْنِ عَوْصَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ
ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَكَانُوا عَرَبَا يَسْكُنُونَ الْأَحْقَافَ، وَهِيَ
جِبَالُ الرَّمْلِ، وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ مِنْ عُمَانَ وَحَضْرَمَوْتَ بِأَرْضٍ
مُطِلَّةٍ عَلَى الْبَحْرِ يُقَالُ لَهَا: الشِّحْرُ، وَاسْمُ وَادِيهِمْ مُغِيثٌ،
وَكَانُوا كَثِيرًا مَا يَسْكُنُونَ الْخِيَامَ ذَوَاتِ الْأَعْمِدَةِ الضِّخَامِ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ
الْعِمَادِ [ الْفَجْرِ: 6، 7 ]. أَيْ ; عَادَ إِرَمَ. وَهُمْ عَادٌ الْأُولَى،
وَأَمَّا عَادٌ الثَّانِيَةُ فَمُتَأَخِّرَةٌ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي
مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا عَادٌ الْأُولَى فَهُمْ عَادٌ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ [ الْفَجْرِ: 7 8 ]. أَيْ ;
مِثْلُ الْقَبِيلَةِ. وَقِيلَ: مِثْلُ الْعَمَدِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، كَمَا
بَيَّنَّاهُ فِي التَّفْسِيرِ.
وَمِنْ زَعْمٍ أَنَّ إِرَمَ مَدِينَةٌ تَدُورُ فِي الْأَرْضِ، فَتَارَةً فِي
الشَّامِ، وَتَارَةً فِي الْيَمَنِ، وَتَارَةً فِي الْحِجَازِ، وَتَارَةً فِي
غَيْرِهَا، فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ. وَقَالَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا
بُرْهَانَ يُعَوِّلُ عَلَيْهِ، وَلَا مُسْتَنَدَ يَرْكَنُ
إِلَيْهِ، وَفِي
صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي ذِكْرِ
الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ قَالَ فِيهِ:. مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ مِنَ
الْعَرَبِ ; هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَنَبِيُّكَ يَا أَبَا ذَرٍّ.
وَيُقَالُ: إِنَّ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ
بِالْعَرَبِيَّةِ. وَزَعَمَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّ أَبَاهُ أَوَّلُ مَنْ
تَكَلَّمَ بِهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا نُوحٌ. وَقِيلَ
آدَمُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُقَالُ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
الْعَرَبُ الْعَارِبَةُ. وَهُمْ قَبَائِلُ كَثِيرَةٌ مِنْهُمْ ; عَادٌ، وَثَمُودُ،
وَجُرْهُمُ، وَطَسْمٌ، وَجَدِيسُ، وَأَمِيمُ، وَمَدْيَنُ، وَعِمْلَاقُ، وَعَبِيلٌ،
وَجَاسِمٌ، وَقَحْطَانُ، وَبَنُو يَقْطُنَ، وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا الْعَرَبُ
الْمُسْتَعْرِبَةُ فَهُمْ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ،
وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَوَّلَ مَنْ
تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ الْفَصِيحَةِ الْبَلِيغَةِ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَ
كَلَامَ الْعَرَبِ مِنْ جُرْهُمَ الَّذِينَ نَزَلُوا عِنْدَ أُمِّهِ هَاجَرَ
بِالْحَرَمِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى، وَلَكِنْ أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِهَا فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ
وَالْبَيَانِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَتَلَفَّظُ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَادًا وَهُمْ عَادٌ الْأُولَى كَانُوا أَوَّلَ مَنْ عَبَدَ
الْأَصْنَامَ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَكَانَ أَصْنَامُهُمْ ثَلَاثَةً، صَدٌّ،
وَصُمُودٌ، وَهِرَا. فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ أَخَاهُمْ هُودًا عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قَوْمِ
نُوحٍ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: وَإِلَى عَادٍ
أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ
إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ
يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَعَجِبْتُمْ
أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي
الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَالُوا
أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا
فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ
عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ
مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ [ الْأَعْرَافِ: 65 - 72 ].
وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ نُوحٍ فِي سُورَةِ هُودٍ: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ [ هُودٍ: 50 - 60 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ: ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 31 - 41 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بَعْدَ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ أَيْضًا: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ: وَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ [ فُصِّلَتْ: 15 - 16 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [ الْأَحْقَافِ: 21 - 25 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي الذَّارِيَاتِ: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [ الذَّارِيَاتِ: 41 - 42 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي النَّجْمِ: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى [ النَّجْمِ: 50 - 55 ].
وَقَالَ تَعَالَى
فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتْ: كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ
عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ [ الْقَمَرِ: 18 - 22 ]. وَقَالَ فِي الْحَاقَّةِ: وَأَمَّا عَادٌ
فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ
وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ
أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [ الْحَاقَّةِ: 6
- 8 ]. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ
إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ
عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [ الْفَجْرِ: 6
- 14 ].
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي أَمَاكِنِهَا مِنْ
كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ جَرَى ذِكْرُ
عَادٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالْفَرْقَانِ، وَالْعَنْكَبُوتِ،
وَفِي سُورَةِ ص، وَفِي سُورَةِ ق، وَلْنَذْكُرْ مَضْمُونَ الْقِصَّةِ مَجْمُوعًا
مِنْ هَذِهِ السِّيَاقَاتِ مَعَ مَا يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ أَوَّلُ الْأُمَمِ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ بَعْدَ
الطُّوفَانِ. وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ لَهُمْ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ
خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [
الْأَعْرَافِ: 69 ]. أَيْ ; جَعَلَهُمْ أَشَدَّ أَهْلِ زَمَانِهِمْ فِي
الْخِلْقَةِ وَالشِّدَّةِ وَالْبَطْشِ. وَقَالَ فِي الْمُؤْمِنُونَ: ثُمَّ أَنْشَأْنَا
مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 31 ].
وَهُمْ قَوْمُ هُودٍ
عَلَى الصَّحِيحِ. وَزَعَمَ آخَرُونَ: أَنَّهُمْ ثَمُودُ. لِقَوْلِهِ:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً [ الْمُؤْمِنُونَ:
41 ]. قَالُوا: وَقَوْمُ صَالِحٍ هَمُ الَّذِينَ أُهْلِكُوا بِالصَّيْحَةِ
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [ الْحَاقَّةِ: 6 ].
وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا يَمْنَعُ مِنِ اجْتِمَاعِ الصَّيْحَةِ وَالرِّيحِ
الْعَاتِيَةِ عَلَيْهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي فِي قِصَّةِ أَهْلِ مَدْيَنَ أَصْحَابِ
الْأَيْكَةِ، فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعُقُوبَاتِ، ثُمَّ
لَا خِلَافَ أَنَّ عَادًا قَبْلَ ثَمُودَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَادًا كَانُوا عَرَبًا جُفَاةً كَافِرِينَ، عُتَاةً
مُتَمَرِّدِينَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ فِيهِمْ رَجُلًا
مِنْهُمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ،
وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، فَكَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ وَتَنَقَّصُوهُ فَأَخَذَهُمُ
اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ،
وَرَغَّبَهُمْ فِي طَاعَتِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ، وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ خَيْرَ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ ذَلِكَ عُقُوبَةَ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ
إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ [ الْأَعْرَافِ 66 ]. أَيْ ; هَذَا الْأَمْرُ
الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ سَفَهٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ
عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي يُرْتَجَى مِنْهَا النَّصْرُ وَالرِّزْقُ،
وَمَعَ هَذَا نَظُنُّ أَنَّكَ تَكْذِبُ فِي دَعْوَاكَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ.
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 67 ]. أَيْ ; لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَظُنُّونَ،
وَلَا مَا تَعْتَقِدُونَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ
أَمِينٌ [ الْأَعْرَافِ: 68 ]. وَالْبَلَاغُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْكَذِبِ فِي
أَصْلِ الْمُبَلِّغِ، وَعَدَمَ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ،
وَيَسْتَلْزِمُ إِبْلَاغَهُ بِعِبَارَةٍ فَصِيحَةٍ وَجِيزَةٍ جَامِعَةٍ مَانِعَةٍ،
لَا لَبْسَ فِيهَا وَلَا اخْتِلَافَ وَلَا اضْطِرَابَ، وَهُوَ مَعَ هَذَا
الْبَلَاغِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فِي غَايَةِ النُّصْحِ لِقَوْمِهِ،
وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ وَالْحِرْصِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ، لَا يَبْتَغِي
مِنْهُمْ أَجْرًا، وَلَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ جُعْلًا، بَلْ
هُوَ مُخْلِصٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَالنُّصْحِ لِخَلْقِهِ لَا يَطْلُبُ أَجْرَهُ إِلَّا مِنَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَإِنَّ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُلَّهُ فِي يَدَيْهِ، وَأَمْرُهُ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ: يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ [ هُودٍ: 51 ]. أَيْ ; مَا لَكُمْ عَقْلٌ تُمَيِّزُونَ بِهِ وَتَفْهَمُونَ أَنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ فِطَرُكُمُ الَّتِي خُلِقْتُمْ عَلَيْهَا، وَهُوَ دِينُ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نُوحًا، وَأَهْلَكَ مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْخَلْقِ، وَهَا أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَلَا أَسْأَلُكُمْ أَجْرًا عَلَيْهِ، بَلْ أَبْتَغِي ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ مَالِكُ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَلِهَذَا قَالَ مُؤْمِنُ يس: اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ يس: 21 - 22 ]. وَقَالَ قَوْمُ هُودٍ لَهُ فِيمَا قَالُوا: يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ. [ هُودٍ: 53 ]. يَقُولُونَ: مَا جِئْتَنَا بِخَارِقٍ يَشْهَدُ لَكَ بِصِدْقِ مَا جِئْتَ بِهِ. وَمَا نَحْنُ بِالَّذِينِ نَتْرُكُ عِبَادَةَ أَصْنَامِنَا عَنْ مُجَرَّدِ قَوْلِكَ بِلَا دَلِيلٍ أَقَمْتَهُ، وَلَا بُرْهَانٍ نَصَبْتَهُ، وَمَا نَظُنُّ إِلَّا أَنَّكَ مَجْنُونٌ فِيمَا تَزْعُمُهُ، وَعِنْدَنَا ; إِنَّمَا أَصَابَكَ هَذَا أَنَّ بَعْضَ آلِهَتِنَا غَضِبَ عَلَيْكَ فَأَصَابَكَ فِي عَقْلِكَ فَاعْتَرَاكَ جُنُونٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ [ هُودٍ: 54 - 55 ]. وَهَذَا تَحَدٍّ مِنْهُ لَهُمْ، وَتَبَرُّؤٌ مِنْ آلِهَتِهِمْ، وَتَنَقُّصٌ مِنْهُ لَهَا، وَبَيَانُ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا تَضُرُّ، وَأَنَّهَا جَمَادٌ حُكْمُهَا حُكْمُهُ، وَفِعْلُهَا فِعْلُهُ، فَإِنْ كَانَتْ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنَّهَا تَنْصُرُ وَتَنْفَعُ وَتَضُرُّ، فَهَا أَنَا بَرِيءٌ مِنْهَا لَاعِنٌ لَهَا فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ. أَنْتُمْ وَهِيَ جَمِيعًا بِجَمِيعِ مَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَصِلُوا
إِلَيْهِ، وَتَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَا تُؤَخِّرُونِي سَاعَةً وَاحِدَةً، وَلَا طَرْفَةَ عَيْنٍ فَإِنِّي لَا أُبَالِي بِكُمْ، وَلَا أُفَكِّرُ فِيكُمْ، وَلَا أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. أَيْ ; أَنَا مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ وَمُتَأَيِّدٌ بِهِ. وَوَاثِقٌ بِجَنَابِهِ الَّذِي لَا يَضِيعُ مَنْ لَاذَ بِهِ. وَاسْتَنَدَ إِلَيْهِ، فَلَسْتُ أُبَالِي مَخْلُوقًا سِوَاهُ، وَلَسْتُ أَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا أَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، وَهَذَا وَحْدَهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ هُودًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّهُمْ عَلَى جَهْلٍ وَضَلَالٍ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ بِسُوءٍ، وَلَا نَالُوا مِنْهُ مَكْرُوهًا، فَدَلَّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ وَبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَفَسَادِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ قَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ [ يُونُسَ: 71 ]. وَهَكَذَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [ الْأَنْعَامِ: 80 - 83 ]. وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 33 - 35 ].
اسْتَبْعَدُوا أَنْ
يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا بَشَرِيًّا، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ أَدْلَى بِهَا
كَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ الْكَفَرَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ
النَّاسَ [ يُونُسَ: 2 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ
يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا
رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ
لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [ الْإِسْرَاءِ: 94 -
95 ]. وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ. أَيْ ;
لَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ فَإِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ.
وَقَوْلُهُ: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا
أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا
حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ
إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ [
الْمُؤْمِنُونَ: 35 - 39 ]. اسْتَبْعَدُوا الْمَعَادَ وَأَنْكَرُوا قِيَامَ
الْأَجْسَادِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا تُرَابًا وَعِظَامًا، وَقَالُوا: هَيْهَاتَ
هَيْهَاتَ. أَيْ ; بَعِيدٌ بَعِيدٌ هَذَا الْوَعْدُ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ. أَيْ ; يَمُوتُ قَوْمٌ
وَيَحْيَا آخَرُونَ. وَهَذَا هُوَ اعْتِقَادُ الدَّهْرِيَّةِ، كَمَا يَقُولُ
بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنَ الزَّنَادِقَةِ: أَرْحَامٌ تَدْفَعُ، وَأَرْضٌ تَبْلَعُ.
وَأَمَّا الدُّورِيَّةُ فَهُمُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَعُودُونَ
إِلَى هَذِهِ الدَّارِ بَعْدَ كُلِّ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهَذَا
كُلُّهُ كَذِبٌ، وَكُفْرٌ وَجَهْلٌ وَضَلَالٌ، وَأَقْوَالٌ بَاطِلَةٌ، وَخَيَالٌ
فَاسِدٌ بِلَا بُرْهَانٍ، وَلَا دَلِيلٍ يَسْتَمِيلُ عَقْلَ الْفَجَرَةِ
الْكَفَرَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [
الْأَنْعَامِ: 113 ]. وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا وَعَظَهُمْ بِهِ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ
رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ.
يَقُولُ لَهُمْ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ بَنَاءً عَظِيمًا
هَائِلًا كَالْقُصُورِ، وَنَحْوِهَا
تَعْبَثُونَ
بِبِنَائِهَا ; لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَكُمْ فِيهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُنُونَ الْخِيَامَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ
كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ
مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ. فَعَادُ إِرَمَ هُمْ عَادٌ الْأُولَى الَّذِينَ كَانُوا
يَسْكُنُونَ الْأَعْمِدَةَ الَّتِي تَحْمِلُ الْخِيَامَ.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ إِرَمَ مَدِينَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَهِيَ تَتَنَقَّلُ
فِي الْبِلَادِ فَقَدْ غَلِطَ وَأَخْطَأَ. وَقَالَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ. قِيلَ: هِيَ الْقُصُورُ. وَقِيلَ: بُرُوجُ
الْحَمَامِ. وَقِيلَ: مَآخِذُ الْمَاءِ. لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. أَيْ ; رَجَاءً
مِنْكُمْ أَنْ تُعَمِّرُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ أَعْمَارًا طَوِيلَةً وَإِذَا
بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا
الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ
وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
وَقَالُوا لَهُ فِيمَا قَالُوا: أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ
مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ. أَيْ ; أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَنُخَالِفُ
آبَاءَنَا وَأَسْلَافَنَا، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا
جِئْتَ بِهِ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، فَإِنَّا
لَا نُؤْمِنُ بِكَ وَلَا نَتْبَعُكَ وَلَا نُصَدِّقُكَ، كَمَا قَالُوا: سَوَاءٌ
عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا
خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ
الْخَاءِ فَالْمُرَادُ بِهِ اخْتِلَاقُ الْأَوَّلِينَ أَيْ ; أَنَّ هَذَا الَّذِي
جِئْتَ بِهِ إِلَّا اخْتِلَاقٌ مِنْكَ، وَأَخَذْتَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ
هَكَذَا فَسَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعَيْنِ، وَأَمَّا
عَلَى قِرَاءَةِ ضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ فَالْمُرَادُ بِهِ الدِّينُ أَيْ ;
إِنْ هَذَا الدِّينَ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ إِلَّا دِينُ الْآبَاءِ
وَالْأَجْدَادِ مِنْ أَسْلَافِنَا، وَلَنْ نَتَحَوَّلَ عَنْهُ وَلَا نَتَغَيَّرَ
وَلَا نَزَالُ مُتَمَسِّكِينَ بِهِ. وَيُنَاسِبُ كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ الْأُولَى
وَالثَّانِيَةِ قَوْلُهُمْ: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. قَالَ: قَدْ وَقَعَ
عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.
أَيْ ; قَدِ اسْتَحَقَّيْتُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ الرِّجْسَ، وَالْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ أَتُعَارِضُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِعِبَادَةِ أَصْنَامٍ أَنْتُمْ نَحَتُّمُوهَا، وَسَمَّيْتُمُوهَا آلِهَةً مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمِ اصْطَلَحْتُمْ عَلَيْهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ. أَيْ ; لَمْ يُنَزِّلْ عَلَى مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ دَلِيلًا وَلَا بُرْهَانًا، وَإِذَا أَبَيْتُمْ قَبُولَ الْحَقِّ وَتَمَادَيْتُمْ فِي الْبَاطِلِ، وَسَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَنْهَيْتُكُمْ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ أَمْ لَا، فَانْتَظِرُوا الْآنَ عَذَابَ اللَّهِ الْوَاقِعَ بِكُمْ، وَبَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، وَنَكَالَهُ الَّذِي لَا يُصَدُّ. وَقَالَ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرَ إِهْلَاكِهِمْ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا كَقَوْلِهِ: فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَكَقَوْلِهِ: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ. وَكَقَوْلِهِ:
فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
وَأَمَّا تَفْصِيلُ إِهْلَاكِهِمْ ; فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ
عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ
هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. كَانَ هَذَا أَوَّلَ
مَا ابْتَدَأَهُمُ الْعَذَابُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُمْحِلِينَ مُسْنِتِينَ
فَطَلَبُوا السُّقْيَا، فَرَأَوْا عَارِضًا فِي السَّمَاءِ وَظَنُّوهُ سُقْيَا
رَحْمَةٍ فَإِذَا هُوَ سُقْيَا عَذَابٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ مَا
اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ. أَيْ ; مِنْ وُقُوعِ الْعَذَابِ. وَهُوَ قَوْلُهُمْ:
فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. وَمِثْلُهَا فِي
الْأَعْرَافِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ هَاهُنَا الْخَبَرَ. الَّذِي ذَكَرَهُ
الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: فَلَمَّا أَبَوْا إِلَّا
الْكُفْرَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أُمْسِكَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ ثَلَاثَ سِنِينَ
حَتَّى جَهَدَهُمْ ذَلِكَ. قَالَ: وَكَانَ النَّاسُ إِذَا جَهَدَهُمْ أَمْرٌ فِي
ذَلِكَ الزَّمَانِ فَطَلَبُوا مِنَ اللَّهِ الْفَرَجَ مِنْهُ إِنَّمَا
يَطْلُبُونَهُ بِحَرَمِهِ وَمَكَانِ بَيْتِهِ. وَكَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ
ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَبِهِ الْعَمَالِيقُ مُقِيمُونَ وَهُمْ مِنْ سُلَالَةِ
عِمْلِيقَ بْنِ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكَانَ سَيِّدُهُمْ إِذْ ذَاكَ
رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ قَوْمِ
عَادٍ، وَاسْمُهَا: جَلْهَدَةُ ابْنَةُ الْخَيْبَرِيِّ. قَالَ: فَبَعَثَ عَادٌ
وَفْدًا قَرِيبًا مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا لِيَسْتَقُوا لَهُمْ عِنْدَ الْحَرَمِ،
فَمَرُّوا بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ بِظَاهِرِ مَكَّةَ فَنَزَلُوا عَلَيْهِ
فَأَقَامُوا عِنْدَهُ شَهْرًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ تُغَنِّيهِمُ الْجَرَدَاتَانِ
قَيْنَتَانِ لِمُعَاوِيَةَ وَكَانُوا قَدْ وَصَلُوا إِلَيْهِ فِي شَهْرٍ، فَلَمَّا
طَالَ مُقَامُهُمْ عِنْدَهُ، وَأَخَذَتْهُ شَفَقَةٌ
عَلَى قَوْمِهِ،
وَاسْتَحْيَا مِنْهُمْ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ، عَمِلَ شِعْرًا
يُعَرِّضُ لَهُمْ بِالِانْصِرَافِ، وَأَمَرَ الْقَيْنَتَيْنِ أَنْ تُغَنِّيَهُمْ
بِهِ، فَقَالَ:
أَلَّا يَا قَيْلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ لَعَلَّ اَللَّهَ يُصْبِحُنَا
غَمَامًا فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إِنَّ عَادًا
قَدَ أمْسَوْا لَا يُبِينُونَ اَلْكَلَامَا مِنَ الْعَطَشِ اَلشَّدِيدِ فَلَيْسَ
نَرْجُو
بِهِ اَلشَّيْخَ اَلْكَبِيرَ وَلَا اَلْغُلَامَا وَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمْ
بِخَيْرٍ
فَقَدْ أَمْسَتْ نِسَاؤُهُمْ عِيَامًا وَإِنَّ اَلْوَحْشَ يَأْتِيهِمْ جِهَارًا
وَلَا يَخْشَى لِعَادِيٍّ سِهَامًا وَأَنْتُمْ هَاهُنَا فِيمَا اِشْتَهَيْتُمْ
نَهَارَكُمْ وَلَيْلَكُمُ اِلتَّمَامَا فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمٍ
وَلَا لُقُّوا اَلتَّحِيَّةَ وَالسَّلَامَا
قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ تَنَبَّهَ الْقَوْمُ لِمَا جَاءُوا لَهُ، فَنَهَضُوا إِلَى
الْحَرَمِ وَدَعَوْا لِقَوْمِهِمْ فَدَعَا دَاعِيهِمْ، وَهُوَ قَيْلُ بْنُ عِتْرٍ
فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَّابَاتٍ ثَلَاثًا ; بَيْضَاءَ، وَحَمْرَاءَ، وَسَوْدَاءَ.
ثُمَّ نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: اخْتَرْ لِنَفْسِكَ وَلِقَوْمِكَ مِنْ
هَذَا السَّحَابِ. فَقَالَ: اخْتَرْتُ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ فَإِنَّهَا
أَكْثَرُ السَّحَابِ مَاءً. فَنَادَاهُ مُنَادٍ: اخْتَرْتَ رَمَادًا رِمْدَدًا لَا
تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا لَا وَالِدًا تَتْرُكُ وَلَا وَلَدًا، إِلَّا
جَعَلَتْهُ هَمِدَا، إِلَّا بَنِي اللَّوْذِيَّةِ الْمُهْدَا. قَالَ: وَهُوَ
بَطْنٌ مِنْ عَادٍ كَانُوا مُقِيمِينَ بِمَكَّةَ فَلَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ
قَوْمَهُمْ. قَالَ: وَمَنْ بَقِيَ مِنْ أَنْسَابِهِمْ
وَأَعْقَابِهِمْ
هُمْ عَادٌ الْآخِرَةُ. قَالَ: وَسَاقَ اللَّهُ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ الَّتِي
اخْتَارَهَا. قَيْلُ بْنُ عِتْرٍ بِمَا فِيهَا مِنَ النِّقْمَةِ إِلَى عَادٍ
حَتَّى تَخَرَّجَ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ يُقَالُ لَهُ: الْمُغِيثُ، فَلَمَّا
رَأَوْهَا اسْتَبْشَرُوا، وَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا. فَيَقُولُ
تَعَالَى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا. أَيْ ; كُلَّ شَيْءٍ أُمِرَتْ بِهِ
فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَبْصَرَ مَا فِيهَا وَعَرَفَ أَنَّهَا رِيحٌ فِيمَا
يَذْكُرُونَ امْرَأَةً مِنْ عَادٍ يُقَالُ لَهَا: مَهْدٌ، فَلَمَّا تَبَيَّنَتْ
مَا فِيهَا صَاحَتْ، ثُمَّ صَعِقَتْ، فَلَمَّا أَفَاقَتْ قَالُوا: مَا رَأَيْتِ
يَا مَهْدُ ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ رِيحًا فِيهَا كَشُهُبِ النَّارِ، أَمَامَهَا
رِجَالٌ يَقُودُونَهَا. فَسَخَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ
وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا. وَالْحُسُومُ: الدَّائِمَةُ. فَلَمْ تَدَعْ مِنْ
عَادٍ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ. قَالَ: وَاعْتَزَلَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فِيمَا ذُكِرَ لِي فِي حَظِيرَةٍ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا
يُصِيبُهُمْ إِلَّا مَا يَلِينُ عَلَيْهِمُ الْجُلُودُ، وَتَلْتَذُّ الْأَنْفُسُ،
وَإِنَّهَا لِتَمُرُّ عَلَى عَادٍ بِالظَّعْنِ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ وَتَدْمَغُهُمْ بِالْحِجَارَةِ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدِيثًا فِي مُسْنَدِهِ يُشْبِهُ هَذِهِ
الْقِصَّةَ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي أَبُو
الْمُنْذِرِ سَلَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ
أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ الْحَارِثِ وَهُوَ ابْنُ حَسَّانَ،
وَيُقَالُ: ابْنُ يَزِيدَ الْبَكْرِيُّ. قَالَ: خَرَجْتُ أَشْكُو الْعَلَاءَ بْنَ
الْحَضْرَمِيِّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَرْتُ
بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا عَجُوزٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطِعٌ بِهَا، فَقَالَتْ
لِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَاجَةً، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغِي إِلَيْهِ ؟
قَالَ: فَحَمَلْتُهَا فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا الْمَسْجِدُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، وَإِذَا رَايَةٌ سَوْدَاءُ تَخْفِقُ، وَبِلَالٌ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ قَالُوا: يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَجْهًا، قَالَ: فَجَلَسْتُ، قَالَ: فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ أَوْ قَالَ: رَحْلَهُ، فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ، فَقَالَ: هَلْ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي تَمِيمٍ شَيْءٌ. فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَكَانَتْ لَنَا الدَّبْرَةُ عَلَيْهِمْ، وَمَرَرْتُ بِعَجُوزٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطِعٍ بِهَا، فَسَأَلَتْنِي أَنْ أَحْمِلَهَا إِلَيْكَ، وَهَا هِيَ بِالْبَابِ، فَأَذِنَ لَهَا فَدَخَلَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَنِي تَمِيمٍ حَاجِزًا فَاجْعَلِ الدَّهْنَاءَ، فَحَمِيَتِ الْعَجُوزُ وَاسْتَوْفَزَتْ، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِلَى أَيْنَ تَضْطَرُّ مُضَرَكَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ مِثْلِي مَا قَالَ الْأَوَّلُ: مِعْزًى حَمَلَتْ حَتْفَهَا. حَمَلْتُ هَذِهِ وَلَا أَشْعُرُ أَنَّهَا كَانَتْ لِي خَصْمًا، أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ، قَالَ: هِيهِ وَمَا وَافِدُ عَادٍ ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ، وَلَكِنْ يَسْتَطْعِمُهُ، قُلْتُ: إِنَّ عَادًا قَحَطُوا، فَبَعَثُوا وَفْدًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: قَيْلٌ فَمَرَّ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَسْقِيهِ الْخَمْرَ، وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا: الْجَرَادَتَانِ، فَلَمَّا مَضَى الشَّهْرُ خَرَجَ إِلَى جِبَالِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجِئْ إِلَى مَرِيضٍ فَأُدَاوِيَهُ، وَلَا إِلَى أَسِيرٍ فَأُفَادِيَهُ، اللَّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ تَسْقِيهِ، فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَاتٌ سُودٌ، فَنُودِيَ مِنْهَا: اخْتَرْ. فَأَوْمَأَ إِلَى سَحَابَةٍ مِنْهَا سَوْدَاءَ. فَنُودِيَ مِنْهَا: خُذْهَا رَمَادًا رِمْدَدًا لَا تُبْقِي مِنْ عَادٍ
أَحَدًا. قَالَ:
فَمَا بَلَغَنِي أَنَّهُ بَعَثَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا كَقَدْرِ مَا
يَجْرِي فِي خَاتَمِي هَذَا مِنَ الرِّيحِ حَتَّى هَلَكُوا. قَالَ أَبُو وَائِلٍ:
وَصَدَقَ وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ إِذَا بَعَثُوا وَفْدًا لَهُمْ،
قَالُوا: لَا تَكُنْ كَوَافِدِ عَادٍ. وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ
عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ بِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ
مِنْ حَدِيثِ سَلَّامٍ أَبِي الْمُنْذِرِ، عَنْ عَاصِمِ ابْنِ بَهْدَلَةَ، وَمِنْ
طَرِيقِهِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَهَكَذَا أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَهَذِهِ
الْقِصَّةَ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ جَرِيرٍ، وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ هَذَا السِّيَاقُ لِإِهْلَاكِ عَادٍ الْآخِرَةِ فَإِنَّ فِيمَا
ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَغَيْرُهُ ذِكْرًا لِمَكَّةَ، وَلَمْ تُبْنَ إِلَّا
بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ حِينَ أَسْكَنَ فِيهَا هَاجَرَ وَابْنَهُ
إِسْمَاعِيلَ، فَنَزَلَتْ جُرْهُمٌ عِنْدَهُمْ، كَمَا سَيَأْتِي وَعَادٌ الْأُولَى
قَبْلَ الْخَلِيلِ، وَفِيهِ ذِكْرُ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ وَشِعْرُهُ، وَهُوَ
مِنَ الشِّعْرِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ زَمَانِ عَادٍ الْأُولَى لَا يُشْبِهُ كَلَامَ
الْمُتَقَدِّمِينَ. وَفِيهِ أَنَّ فِي تِلْكَ السَّحَابَةِ شَرَرُ نَارٍ، وَعَادٌ
الْأَوْلَى إِنَّمَا أُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ،
وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ: هِيَ
الْبَارِدَةُ، وَالْعَاتِيَةُ الشَّدِيدَةُ الْهُبُوبِ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ
سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [ الْحَاقَّةِ: 7 ]. أَيْ ;
كَوَامِلَ مُتَتَابِعَاتٍ. قِيلَ: كَانَ أَوَّلَهَا الْجُمُعَةُ. وَقِيلَ:
الْأَرْبِعَاءُ. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ
خَاوِيَةٍ [ الْحَاقَّةِ: 7 ]. شَبَّهَهُمْ بِأَعْجَازِ النَّخْلِ الَّتِي لَا
رُءُوسَ لَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَجِيءُ إِلَى أَحَدِهِمْ
فَتَحْمِلُهُ فَتَرْفَعُهُ فِي الْهَوَاءِ، ثُمَّ
تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَتَشْدَخُهُ، فَيَبْقَى جُثَّةً بِلَا رَأْسٍ، كَمَا قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [ الْقَمَرِ: 19 ]. أَيْ ; فِي يَوْمِ نَحْسٍ عَلَيْهِمْ، مُسْتَمِرٌّ عَذَابُهُ عَلَيْهِمْ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [ الْقَمَرِ: 20 ]. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْيَوْمَ النَّحْسَ الْمُسْتَمِرَّ هُوَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ. وَتَشَاءَمَ بِهِ لِهَذَا الْفَهْمِ فَقَدْ أَخْطَأَ وَخَالَفَ الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [ فُصِّلَتْ: 16 ]. وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، فَلَوْ كَانَتْ نَحِسَاتٍ فِي أَنْفُسِهَا لَكَانَتْ جَمِيعُ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ الْمُنْدَرِجَةِ فِيهَا مَشْئُومَةً. وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ أَيْ ; عَلَيْهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى وَفِي عَادٍ: إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [ الذَّارِيَاتِ: 41 ]. أَيِ الَّتِي لَا تُنْتِجُ خَيْرًا فَإِنَّ الرِّيحَ الْمُفْرَدَةَ لَا تَنْثُرُ سَحَابًا وَلَا تُلَقِّحُ شَجَرًا، بَلْ هِيَ عَقِيمٌ لَا نَتِيجَةَ خَيْرٍ لَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [ الذَّارِيَاتِ: 42 ]. أَيْ ; كَالشَّيْءِ الْبَالِي الْفَانِي الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [ الْأَحْقَافِ: 21 ]. فَالظَّاهِرُ أَنَّ عَادًا هَذِهِ هِيَ عَادٌ
الْأُولَى فَإِنَّ سِيَاقَهَا شَبِيهٌ بِسِيَاقِ قَوْمِ هُودٍ، وَهُمُ الْأُولَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ هُمْ عَادٌ الثَّانِيَةُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا، وَمَا سَيَأْتِي مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [ الْأَحْقَافِ: 24 ]. فَإِنَّ عَادًا لَمَّا رَأَوْا هَذَا الْعَارِضَ، وَهُوَ النَّاشِئُ فِي الْجَوِّ كَالسَّحَابِ، ظَنُّوهُ سَحَابَ مَطَرٍ فَإِذَا هُوَ سَحَابُ عَذَابٍ، اعْتَقَدُوهُ رَحْمَةً فَإِذَا هُوَ نِقْمَةٌ، رَجَوْا فِيهِ الْخَيْرَ فَنَالُوا مِنْهُ غَايَةَ الشَّرِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ [ الْأَحْقَافِ: 24 ]. أَيْ ; مِنَ الْعَذَابِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. [ الْأَحْقَافِ: 24 ]. يُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ هُوَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الرِّيحِ الصَّرْصَرِ الْعَاتِيَةِ الْبَارِدَةِ الشَّدِيدَةِ الْهُبُوبِ الَّتِي اسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِمْ سَبْعُ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا الثَّمَانِيَةِ، فَلَمْ تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا، بَلْ تَتَبَّعَتْهُمْ حَتَّى كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ كُهُوفَ الْجِبَالِ وَالْغِيرَانِ فَتَلُفُّهُمْ وَتُخْرِجُهُمْ وَتُهْلِكُهُمْ، وَتُدَمِّرُ عَلَيْهِمُ الْبُيُوتَ الْمُحْكَمَةَ، وَالْقُصُورَ الْمُشَيَّدَةَ فَكَمَا مُنُوا بِقُوَّتِهِمْ وَشِدَّتِهِمْ، وَقَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ؟ سَلَّطَ اللَّهُ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَقْدَرُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الرِّيحُ الْعَقِيمُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الرِّيحَ أَثَارَتْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ سَحَابَةً ظَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَنَّهَا سَحَابَةٌ فِيهَا رَحْمَةٌ بِهِمْ، وَغِيَاثٌ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فَأَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ شَرَرًا وَنَارًا، كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَيَكُونُ هَذَا كَمَا أَصَابَ أَصْحَابَ الظُّلَّةِ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ، وَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الرِّيحِ الْبَارِدَةِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَهُوَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْعَذَابِ بِالْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُتَضَادَّةِ مَعَ الصَّيْحَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ
الضَّرِيسِ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ الَّتِي أُهْلِكُوا بِهَا إِلَّا
مِثْلَ مَوْضِعِ الْخَاتَمِ فَمَرَّتْ بِأَهْلِ الْبَادِيَةِ فَحَمَلَتْهُمْ
وَمَوَاشِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَلَمَّا رَأَى
ذَلِكَ أَهْلُ الْحَاضِرَةِ مِنْ عَادٍ الرِّيحَ وَمَا فِيهَا قَالُوا هَذَا
عَارِضٌ مُمْطِرُنَا. [ الْأَحْقَافِ: 24 ]. فَأَلْقَتْ أَهْلَ الْبَادِيَةِ وَمَوَاشِيَهُمْ
عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرَةِ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عَبْدَانَ بْنِ
أَحْمَدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّا الْكُوفِيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ،
عَنْ مُسْلِمٍ الْمُلَائِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ - كَذَا قَالَ -: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا فُتِحَ عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا مِثْلُ مَوْضِعِ
الْخَاتَمِ، ثُمَّ أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ فَحَمَلَتْهُمُ الْبَدْوَ إِلَى
الْحَضَرِ، فَلَمَّا رَآهَا أَهْلُ الْحَضَرِ قَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا
مُسْتَقْبِلُ أَوْدِيَتِنَا. وَكَانَ أَهْلُ الْبَوَادِي فِيهَا فَأُلْقِيَ أَهْلُ
الْبَادِيَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرَةِ حَتَّى هَلَكُوا. قَالَ: عَتَتْ عَلَى
خَزَائِنِهَا حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ خِلَالِ الْأَبْوَابِ. قُلْتُ: وَقَالَ
غَيْرُهُ خَرَجَتْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي رَفْعِهِ نَظَرٌ، ثُمَّ اخْتُلِفَ
فِيهِ عَلَى مُسْلِمٍ الْمُلَائِيِّ، وَفِيهِ نَوْعُ اضْطِرَابٍ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُمْ رَأَوْا عَارِضًا، وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ لُغَةً
السَّحَابُ. كَمَا دَلَّ
عَلَيْهِ حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ حَسَّانَ الْبَكْرِيِّ إِنْ جَعَلْنَاهُ مُفَسِّرًا لِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ يُحَدِّثُنَا عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ. قَالَتْ: وَإِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَخَرَجَ وَدَخَلَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا أَمْطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَفَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَ: لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ. طَرِيقٌ أُخْرَى. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَنْبَأَنَا عَمْرٌو، وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا قَطُّ حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ، وَقَالَتْ: كَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا؛ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ، قَدْ عُذِّبَ
قَوْمُ نُوحٍ
بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ
مُمْطِرُنَا. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ،
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ. فَهَذَا
الْحَدِيثُ كَالصَّرِيحِ فِي تَغَايُرِ الْقِصَّتَيْنِ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ
أَوَّلًا. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ
الْأَحْقَافِ خَبَرًا عَنْ قَوْمِ عَادٍ الثَّانِيَةِ، وَتَكُونُ بَقِيَّةُ
السِّيَاقَاتِ فِي الْقُرْآنِ خَبَرًا عَنْ عَادٍ الْأُولَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ.
وَقَدَّمْنَا حَجَّ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذِكْرِ حَجِّ نُوحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَرُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
أَنَّهُ ذَكَرَ صِفَةَ قَبْرِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ.
وَذَكَرَ آخَرُونَ أَنَّهُ بِدِمَشْقَ، وَبِجَامِعِهَا مَكَانٌ فِي حَائِطِهِ
الْقِبْلِيِّ يَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ قَبْرُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ صَالِحٍ
نَبِيِّ ثَمُودَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَهُمْ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ يُقَالُ: ثَمُودُ بِاسْمِ جَدِّهِمْ ثَمُودَ أَخِي
جَدِيسٍ، وَهُمَا ابْنَا عَابَرَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكَانُوا
عَرَبًا مِنَ الْعَارِبَةِ يَسْكُنُونَ الْحِجْرَ الَّذِي بَيْنَ الْحِجَازِ
وَتَبُوكَ، وَقَدْ مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى تَبُوكَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ، وَكَانُوا بَعْدَ قَوْمِ عَادٍ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ
كَأُولَئِكَ، فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ
وَرَسُولُهُ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ بْنِ مَاسِخِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ حَاجِرِ بْنِ
ثَمُودَ بْنِ عَابَرَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، فَدَعَاهُمْ إِلَى
عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يَخْلَعُوا الْأَصْنَامَ
وَالْأَنْدَادَ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا فَآمَنَتْ بِهِ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ، وَكَفَرَ جُمْهُورُهُمْ، وَنَالُوا مِنْهُ بِالْمَقَالِ وَالْفَعَالِ،
وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَقَتَلُوا النَّاقَةَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ حُجَّةً
عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا
قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ
بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا
تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ
فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ
بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ
قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وعَتَوْا عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ
جَاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ
رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [
الْأَعْرَافِ: 73 - 79 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ [ هُودٍ: 61 - 68 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ الْحِجْرِ: 80 - 84 ]. وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [ الْإِسْرَاءِ: 59 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [ الشُّعَرَاءِ: 141 - 159 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [ النَّمْلِ: 45 - 53 ].
. وَقَالَ تَعَالَى
فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا
الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتْ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ
فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ
وَسُعُرٍ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ
سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ
فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ
قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى
فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [ الْقَمَرِ: 23 - 32 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ
لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا
فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا يَخَافُ
عُقْبَاهَا [ الشَّمْسِ: 11 - 15 ].
وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ ذِكْرِ عَادٍ وَثَمُودَ،
كَمَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالْفُرْقَانِ، وَسُورَةِ ص،
وَسُورَةِ ق، وَالنَّجْمِ، وَالْفَجْرِ. وَيُقَالُ: إِنَّ هَاتَيْنِ
الْأُمَّتَيْنِ لَا يَعْرِفُ خَبَرَهُمَا أَهْلُ الْكِتَابِ، وَلَيْسَ لَهُمَا
ذِكْرٌ فِي كِتَابِهِمُ التَّوْرَاةِ، وَلَكِنْ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ مُوسَى أَخْبَرَ عَنْهُمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ:
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ
اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ
إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [ إِبْرَاهِيمَ: 8 - 9 ].
الْآيَةَ الظَّاهِرُ
أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ مُوسَى مَعَ قَوْمِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ
هَاتَانِ الْأُمَّتَانِ مِنَ الْعَرَبِ لَمْ يَضْبِطُوا خَبَرَهُمَا جَيِّدًا،
وَلَا اعْتَنَوْا بِحِفْظِهِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُمَا كَانَ مَشْهُورًا فِي
زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا كُلِّهِ فِي
التَّفْسِيرِ مُسْتَقْصًى، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَالْمَقْصُودُ الْآنَ ذِكْرُ قِصَّتِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَكَيْفَ
نَجَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ آمَنَ بِهِ.
وَكَيْفَ قَطَعَ دَابِرَ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِكُفْرِهِمْ
وَعُتُوِّهِمْ، وَمُخَالَفَتِهِمْ رَسُولَهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَدْ
قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَرَبًا، وَكَانُوا بَعْدَ عَادٍ، وَلَمْ
يَعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ
جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً
فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ
وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ
الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ. أَيْ إِنَّمَا جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِهِمْ لِتَعْتَبِرُوا
بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَتَعْمَلُوا بِخِلَافِ عَمَلِهِمْ، وَأَبَاحَ
لَكُمْ هَذِهِ الْأَرْضَ تَبْنُونَ فِي سُهُولِهَا الْقُصُورَ، وَتَنْحِتُونَ مِنَ
الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ. أَيْ حَاذِقِينَ فِي صَنْعَتِهَا وَإِتْقَانِهَا
وَإِحْكَامِهَا، فَقَابِلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ بِالشُّكْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ
وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَمُخَالَفَتَهُ،
وَالْعُدُولَ عَنْ طَاعَتِهِ
فَإِنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ وَخِيمَةٌ؛ وَلِهَذَا وَعَظَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ. أَيْ مُتَرَاكِمٌ كَثِيرٌ حَسَنٌ بَهِيٌّ نَاضِجٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ. وَقَالَ لَهُمْ أَيْضًا: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا. أَيْ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَأَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَجَعَلَكُمْ عُمَّارَهَا. أَيْ أَعْطَاكُمُوهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ فَهُوَ الْخَالِقُ الرَّزَّاقُ فَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ لَا سِوَاهُ فَاسْتَغْفِرُوهُ، ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ. أَيْ أَقْلِعُوا عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، وَأَقْبِلُوا عَلَى عِبَادَتِهِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ مِنْكُمْ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْكُمْ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا. أَيْ قَدْ كُنَّا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ عَقْلُكَ كَامِلًا قَبْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَهِيَ دُعَاؤُكَ إِيَّانَا إِلَى إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَتَرْكِ مَا كُنَّا نَعْبُدُهُ مِنَ الْأَنْدَادِ، وَالْعُدُولِ عَنْ دِينِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ. وَهَذَا تَلَطُّفٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي الْعِبَارَةِ وَلِينِ الْجَانِبِ، وَحُسْنُ تَأَتٍّ فِي الدَّعْوَةِ لَهُمْ إِلَى الْخَيْرِ. أَيْ فَمَا ظَنُّكُمْ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَقُولُ لَكُمْ، وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ ؟ مَاذَا عُذْرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ ؟ وَمَاذَا يُخَلِّصُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ ؟ وَأَنْتُمْ تَطْلُبُونَ مِنِّي أَنْ أَتْرُكَ دُعَاءَكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ ؟ وَأَنَا لَا
يُمْكِنُنِي هَذَا؛
لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيَّ، وَلَوْ تَرَكْتُهُ لَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنْكُمْ وَلَا
مِنْ غَيْرِكُمْ أَنْ يُجِيرَنِي مِنْهُ، وَلَا يَنْصُرَنِي فَأَنَا لَا أَزَالُ
أَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَقَالُوا لَهُ أَيْضًا: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ
الْمُسَحَّرِينَ. أَيْ مِنَ الْمَسْحُورِينَ. يَعْنُونَ مَسْحُورًا لَا تَدْرِي
مَا تَقُولُ فِي دُعَائِكَ إِيَّانَا إِلَى إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ
وَحْدَهُ، وَخَلْعِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ. وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَيْهِ
الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسَحَّرِينَ الْمَسْحُورُونَ. وَقِيلَ: مِنَ
الْمُسَحَّرِينَ. أَيْ مِمَّنْ لَهُ سَحْرٌ وَهِيَ الرِّئَةُ كَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ: إِنَّمَا أَنْتَ بَشَرٌ لَهُ سَحْرٌ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ
لِقَوْلِهِمْ بَعْدَ هَذَا: مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا. وَقَوْلُهُمْ:
فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. سَأَلُوا مِنْهُ أَنْ
يَأْتِيَهُمْ بِخَارِقٍ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ قَالَ هَذِهِ
نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ
فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ. وَقَالَ: قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ
اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَقَالَ
تَعَالَى: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ ثَمُودَ اجْتَمَعُوا يَوْمًا فِي
نَادِيهِمْ، فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَالِحٌ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ
وَذَكَّرَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ وَوَعَظَهُمْ وَأَمَرَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ
أَنْتَ أَخْرَجْتَ لَنَا مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ وَأَشَارُوا إِلَى صَخْرَةٍ
هُنَاكَ نَاقَةً مِنْ صِفَتِهَا كَيْتَ وَكَيْتَ، وَذَكَرُوا أَوْصَافًا
سَمَّوْهَا وَنَعَتُوهَا وَتَعَنَّتُوا فِيهَا، وَأَنْ تَكُونَ عُشَرَاءَ
طَوِيلَةً مِنْ صِفَتِهَا كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَالِحٌ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَجَبْتُكُمْ إِلَى مَا سَأَلْتُمْ عَلَى
الْوَجْهِ الَّذِي طَلَبْتُمْ أَتُؤْمِنُونَ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ.
وَتُصَدِّقُونِي فِيمَا أُرْسِلْتُ بِهِ. قَالُوا: نَعَمْ.
فَأَخَذَ
عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى مُصَلَّاهُ
فَصَلَّى لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ دَعَا رَبَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ أَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
تِلْكَ الصَّخْرَةَ أَنْ تَنْفَطِرَ عَنْ نَاقَةٍ عَظِيمَةٍ كَوْمَاءَ عُشَرَاءَ
عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي طَلَبُوا وَعَلَى الصِّفَةِ الَّتِي
نَعَتُوا، فَلَمَّا عَايَنُوهَا كَذَلِكَ رَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا، وَمَنْظَرًا
هَائِلًا، وَقُدْرَةً بَاهِرَةً، وَدَلِيلًا قَاطِعًا، وَبُرْهَانًا سَاطِعًا
فَآمَنَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَاسْتَمَرَّ أَكْثَرُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ
وَضَلَالِهِمْ وَعِنَادِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: فَظَلَمُوا بِهَا. أَيْ جَحَدُوا
بِهَا، وَلَمْ يَتَّبِعُوا الْحَقَّ بِسَبَبِهَا. أَيْ أَكْثَرُهُمْ، وَكَانَ
رَئِيسُ الَّذِينَ آمَنُوا جُنْدَعَ بْنَ عَمْرِو بْنِ مِخْلَاةَ بْنِ لَبِيدِ
بْنِ جَوَّاسٍ، وَكَانَ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، وَهُمْ بَقِيَّةُ الْأَشْرَافِ
بِالْإِسْلَامِ فَصَدَّهُمْ ذُؤَابُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لَبِيدٍ، وَالْحُبَابُ
صَاحِبُ أَوْثَانِهِمْ، وَرَبَابُ بْنُ صَمْعَرِ بْنِ جَلْهَسٍ، وَدَعَا جُنْدَعٌ
ابْنَ عَمِّهِ شِهَابَ بْنَ خَلِيفَةَ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَهَمَّ
بِالْإِسْلَامِ فَنَهَاهُ أُولَئِكَ فَمَالَ إِلَيْهِمْ. فَقَالَ فِي ذَلِكَ
رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ: مِهْرَشُ بْنُ غَنْمَةَ بْنِ
الدُّمَيْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ شِعْرًا:
وَكَانَتْ عُصْبَةٌ مِنْ آلِ عَمْرٍو إِلَى دِينِ النَّبِيِّ دَعَوْا شِهَابَا
عَزِيزَ ثَمُودَ كُلُّهُمْ جَمِيعًا
فَهَمَّ بِأَنْ يُجِيبَ وَلَوْ أَجَابَا لَأَصْبَحَ صَالِحٌ فِينَا عَزِيزًا
وَمَا عَدَلُوا بِصَاحِبِهِمْ ذُؤَابَا وَلَكِنَّ الْغُوَاةَ مِنْ آلِ حِجْرٍ
تَوَلَّوْا بَعْدَ رُشْدِهِمُ ذِئَابَا
وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً. أَضَافَهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ، كَقَوْلِهِ: بَيْتُ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ. لَكُمْ آيَةً. أَيْ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ. فَاتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ تَبْقَى هَذِهِ النَّاقَةُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ تَرْعَى حَيْثُ شَاءَتْ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَتَرِدُ الْمَاءَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَكَانَتْ إِذَا وَرَدَتِ الْمَاءَ تَشْرَبُ مَاءَ الْبِئْرِ يَوْمَهَا ذَلِكَ فَكَانُوا يَرْفَعُونَ حَاجَتَهُمْ مِنَ الْمَاءِ فِي يَوْمِهِمْ لِغَدِهِمْ، وَيُقَالُ إِنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ لَبَنِهَا كِفَايَتَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ. أَيِ اخْتِبَارًا لَهُمْ أَيُؤْمِنُونَ بِهَا أَمْ يَكْفُرُونَ ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بِمَا يَفْعَلُونَ: فَارْتَقِبْهُمْ أَيِ انْتَظِرْ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَاصْطَبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ فَسَيَأْتِيكَ الْخَبَرُ عَلَى جَلِيَّةٍ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ. فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ هَذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَعْقِرُوا هَذِهِ النَّاقَةَ لِيَسْتَرِيحُوا مِنْهَا، وَيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ مَاؤُهُمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [ الْأَعْرَافِ: 77 ]. وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى قَتْلَهَا مِنْهُمْ رَئِيسَهُمْ قُدَارَ بْنَ سَالِفِ بْنِ جُنْدَعٍ، وَكَانَ أَحْمَرَ أَزْرَقَ قَصِيرًا، وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ وَلَدُ زَانِيَةٍ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ سَالِفٍ. وَهُوَ مِنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: صِيبَانُ، وَكَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِهِمْ؛ فَلِهَذَا نُسِبَ
الْفِعْلُ إِلَى
جَمِيعِهِمْ كُلِّهِمْ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ
امْرَأَتَيْنِ مِنْ ثَمُودَ اسْمُ إِحْدَاهُمَا صَدُوفُ بِنْتُ الْمُحَيَّا بْنِ
زُهَيْرِ بْنِ الْمُحَيَّا، وَكَانَتْ ذَاتَ حَسَبٍ وَمَالٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ
رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ، فَفَارَقَتْهُ فَدَعَتِ ابْنَ عَمٍّ لَهَا يُقَالُ لَهُ:
مِصْدَعُ بْنُ مَهْرَجِ بْنِ الْمُحَيَّا، وَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا إِنْ
هُوَ عَقَرَ النَّاقَةَ، وَاسْمُ الْأُخْرَى عُنَيْزَةُ بِنْتُ غُنَيْمِ بْنِ
مِجْلَزٍ، وَتُكْنَى أُمَّ عُثْمَانَ، وَكَانَتْ عَجُوزًا كَافِرَةً، لَهَا
بَنَاتٌ مِنْ زَوْجِهَا ذُؤَابِ بْنِ عَمْرٍو أَحَدِ الرُّؤَسَاءِ، فَعَرَضَتْ
بَنَاتَهَا الْأَرْبَعَ عَلَى قُدَارِ بْنِ سَالِفٍ إِنْ هُوَ عَقَرَ النَّاقَةَ
فَلَهُ أَيُّ بَنَاتِهَا شَاءَ، فَانْتُدِبَ هَذَانِ الشَّابَّانِ لِعَقْرِهَا،
وَسَعَوْا فِي قَوْمِهِمْ بِذَلِكَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ سَبْعَةٌ آخَرُونَ
فَصَارُوا تِسْعَةً، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَانَ فِي
الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ.
وَسَعَوْا فِي بَقِيَّةِ الْقَبِيلَةِ، وَحَسَّنُوا لَهُمْ عَقْرَهَا
فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَطَاوَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَانْطَلَقُوا يَرْصُدُونَ
النَّاقَةَ، فَلَمَّا صَدَرَتْ مِنْ وِرْدِهَا كَمَنَ لَهَا مِصْدَعٌ فَرَمَاهَا
بِسَهْمٍ فَانْتَظَمَ عَظْمَ سَاقِهَا، وَجَاءَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْقَبِيلَةِ
فِي قَتْلِهَا، وَحَسَرْنَ عَنْ وُجُوهِهِنَّ تَرْغِيبًا لَهُمْ، فَابْتَدَرَهُمْ
قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ فَشَدَّ عَلَيْهَا بِالسَّيْفِ فَكَشَفَ عَنْ عُرْقُوبِهَا،
فَخَرَّتْ سَاقِطَةً إِلَى الْأَرْضِ، وَرَغَتْ رَغَاةً وَاحِدَةً عَظِيمَةً،
تُحَذِّرُ وَلَدَهَا، ثُمَّ طَعَنَ فِي لَبَّتِهَا فَنَحَرَهَا، وَانْطَلَقَ
سَقْبُهَا، وَهُوَ فَصِيلُهَا فَصَعِدَ جَبَلًا مَنِيعًا، وَرَغَا ثَلَاثًا.
وَرَوَى عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَمَّنْ سَمِعَ الْحَسَنَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ
أَيْنَ أُمِّي، ثُمَّ دَخَلَ فِي صَخْرَةٍ فَغَابَ فِيهَا، وَيُقَالُ: بَلِ
اتَّبَعُوهُ فَعَقَرُوهُ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ
فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ. وَقَالَ تَعَالَى: إِذِ
انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ
وَسُقْيَاهَا. أَيِ احْذَرُوهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ
رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا
هِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ
قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ
النَّاقَةَ، وَذَكَرَ الَّذِي عَقَرَهَا، فَقَالَ: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا
انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَارِمٌ عَزِيزٌ مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ مِثْلُ أَبِي
زَمْعَةَ. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ بِهِ. عَارِمٌ أَيْ شَهْمٌ عَزِيزٌ
أَيْ رَئِيسٌ مَنِيعٌ أَيْ مُطَاعٌ فِي قَوْمِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
خُثَيْمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيْمٍ أَبِي
يَزِيدَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: أَلَا أُحَدِّثُكَ بِأَشْقَى النَّاسِ. قَالَ:
بَلَى. قَالَ: