ج10. البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير
القرشي الدمشقي (774 هـ).
نَكُونُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ نُصْلِحُهَا وَنَقُومُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا لِأَصْحَابِهِ غِلْمَانٌ يَقُومُونَ عَلَيْهَا، وَكَانُوا لَا يَفْرُغُونَ أَنْ يَقُومُوا عَلَيْهَا، فَأَعْطَاهُمْ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّ لَهُمُ الشَّطْرَ مِنْ كُلِّ زَرْعٍ وَنَخِيلٍ وَشَيْءٍ مَا بَدَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَأْتِيهِمْ كُلَّ عَامٍ فَيَخْرُصُهَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُضَمِّنُهُمُ الشَّطْرَ، فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِدَّةَ خَرْصِهِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَرْشُوهُ، فَقَالَ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ، تُطْعِمُونِي السُّحْتَ، وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَلَأَنْتُمْ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ عِدَّتِكُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلَا يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ وَحُبِّي إِيَّاهُ عَلَى أَنْ لَا أَعْدِلَ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ. قَالَ: فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنِ صَفِيَّةَ خُضْرَةً، فَقَالَ: " يَا صَفِيَّةُ، مَا هَذِهِ الْخُضْرَةُ ؟ " فَقَالَتْ: كَانَ رَأْسِي فِي حِجْرِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَأَنَا نَائِمَةٌ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ قَمَرًا وَقَعَ فِي حِجْرِي، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَلَطَمَنِي، وَقَالَ: تَتَمَنَّيْنَ مَلِكَ يَثْرِبَ ؟! قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْغَضِ النَّاسِ إِلَيَّ؛ قَتَلَ زَوْجِي وَأَبِي، فَمَا زَالَ يَعْتَذِرُ إِلَيَّ وَيَقُولُ: إِنَّ أَبَاكِ أَلَّبَ عَلَيَّ الْعَرَبَ " وَفَعَلَ وَفَعَلَ، حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِي، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ ثَمَانِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ كُلَّ عَامٍ، وَعِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَانِ عُمَرَ غَشُّوا الْمُسْلِمِينَ، وَأَلْقَوْا ابْنَ عُمَرَ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ فَفَدَعُوا يَدَيْهِ،
فَقَالَ
عُمَرُ: مَنْ كَانَ لَهُ سَهْمٌ بِخَيْبَرَ فَلْيَحْضُرْ حَتَّى نَقْسِمَهَا.
فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ. فَقَالَ رَئِيسُهُمْ: لَا تُخْرِجْنَا، دَعْنَا نَكُونُ
فِيهَا كَمَا أَقَرَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَبُو بَكْرٍ. فَقَالَ عُمَرُ لِرَئِيسِهِمْ: أَتُرَانِي سَقَطَ عَنِّي قَوْلُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ بِكَ إِذَا رَقَصَتْ
بِكَ رَاحِلَتُكَ نَحْوَ الشَّامِ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا؟ "
وَقَسَمَهَا عُمَرُ بَيْنَ مَنْ كَانَ شَهِدَ خَيْبَرَ مِنْ أَهْلِ
الْحُدَيْبِيَةِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مُخْتَصَرًا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِهِ "
فَقَالَ: وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قُلْتُ: وَلَمْ أَرَهُ فِي "
الْأَطْرَافِ ". فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَحَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْمَهْرِيُّ،
حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ
سَأَلَتْ يَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِرَّهُمْ،
عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا عَلَى النِّصْفِ مِمَّا
خَرَجَ
مِنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
أُقِرُّكُمْ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا ". فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ،
وَكَانَ التَّمْرُ يُقْسَمُ عَلَى السُّهْمَانِ مِنْ نِصْفِ خَيْبَرَ، وَيَأْخُذُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُسَ، وَكَانَ أَطْعَمَ
كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ أَزْوَاجِهِ مِنَ الْخُمُسِ مِائَةَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ،
وَعِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ، فَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ إِخْرَاجَ الْيَهُودِ،
أَرْسَلَ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
لَهُنَّ: مَنْ أَحَبَّ مِنْكُنَّ أَنْ أَقْسِمَ لَهَا نَخْلًا بِخَرْصِهَا مِائَةَ
وَسْقٍ، فَيَكُونُ لَهَا أَصْلُهَا وَأَرْضُهَا وَمَاؤُهَا، وَمِنَ الزَّرْعِ
مَزْرَعَةً عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ فَعَلْنَا، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ
نَعْزِلَ الَّذِي لَهَا فِي الْخُمُسِ كَمَا هُوَ فَعَلْنَا.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي
نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ،
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ يَهُودَ
خَيْبَرَ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُمْ إِذَا شَاءَ، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ
فَلْيَلْحَقْ بِهِ، فَإِنِّي مُخْرِجٌ يَهُودَ. فَأَخْرَجَهُمْ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ،
عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ جُبَيْرَ
بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: أَعْطَيْتَ بَنِي
الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ وَتَرَكْتَنَا، وَنَحْنُ وَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ
وَاحِدَةٍ مِنْكَ. فَقَالَ: " إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ
شَيْءٌ وَاحِدٌ ". قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: وَلَمْ يَقْسِمِ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي
عَبْدِ
شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا. تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ. وَفِي لَفْظٍ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ بَنِي
هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا
فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: دَخَلُوا مَعَهُمْ فِي الشِّعْبِ، وَنَاصَرُوهُمْ فِي
إِسْلَامِهِمْ وَجَاهِلِيَّتِهِمْ.
قُلْتُ: وَقَدْ ذَمَّ أَبُو طَالِبٍ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ حَيْثُ
يَقُولُ:
جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا عُقُوبَةَ شَرٍّ عَاجِلًا غَيْرَ
آجِلِ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ سَابِقٍ، ثَنَا زَائِدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا. قَالَ:
فَسَّرَهُ نَافِعٌ فَقَالَ: إِذَا كَانَ مَعَ الرَّجُلِ فَرَسٌ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ
أَسْهُمٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَرَسٌ، فَلَهُ سَهْمٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي زَيْدٌ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ يَقُولُ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا أَنْ أَتْرُكَ
آخِرَ النَّاسِ بَبَّانًا لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ، مَا فُتِحَتْ عَلَيَّ قَرْيَةٌ
إِلَّا قَسَمْتُهَا
كَمَا
قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، وَلَكِنِّي
أَتْرُكُهَا خِزَانَةً لَهُمْ يَقْتَسِمُونَهَا. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ عُمَرَ بِهِ. وَهَذَا السِّيَاقُ يَقْتَضِي أَنَّ خَيْبَرَ بِكَمَالِهَا
قُسِمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا ابْنُ السَّرْحِ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ
أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ:بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً بَعْدَ
الْقِتَالِ، وَنَزَلَ مَنْ نَزَلَ مِنْ أَهْلِهَا عَلَى الْجَلَاءِ بَعْدَ
الْقِتَالِ. وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ:خَمَّسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ ثُمَّ قَسَمَ سَائِرَهَا عَلَى مَنْ شَهِدَهَا.
وَفِيمَا قَالَهُ الزُّهْرِيُّ نَظَرٌ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ خَيْبَرَ
جَمِيعَهَا لَمْ تُقْسَمْ، وَإِنَّمَا قُسِمَ نِصْفُهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ
كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا مَالِكٌ وَمَنْ تَابَعَهُ
عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي الْأَرَاضِي الْمَغْنُومَةِ، إِنْ شَاءَ
قَسَمَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَرْصَدَهَا
لِمَصَالِحِ
الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ شَاءَ قَسَمَ بَعْضَهَا وَأَرْصَدَ بَعْضَهَا لِمَا
يَنُوبُهُ فِي الْحَاجَاتِ وَالْمَصَالِحِ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنُ، ثَنَا
أَسَدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، حَدَّثَنِي سُفْيَانُ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي
حَثْمَةَ، قَالَ:قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ، نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَحَاجَتِهِ، وَنِصْفًا بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ، قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا.
تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ. ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ بُشَيْرِ
بْنِ يَسَارٍ مُرْسَلًا، فَعَيَّنَ نِصْفَ النَّوَائِبِ، الْوَطِيحَ
وَالْكَتِيبَةَ وَالسُّلَالِمَ وَمَا حِيزَ مَعَهَا، وَنِصْفَ الْمُسْلِمِينَ،
الشِّقَّ وَالنَّطَاةَ وَمَا حِيزَ مَعَهُمَا، وَسَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا حِيزَ مَعَهُمَا.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
فُضَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، مَوْلَى
الْأَنْصَارِ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَلَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ فَقَسَمَهَا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ
سَهْمًا، جَمَعَ كَلُّ سَهْمٍ مِائَةَ سَهْمٍ، فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفَ مِنْ ذَلِكَ وَعَزَلَ
النِّصْفَ الثَّانِي لِمَنْ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْوُفُودِ وَالْأُمُورِ وَنَوَائِبِ
النَّاسِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ.
قَالَ
أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، ثَنَا مُجَمِّعُ بْنُ يَعْقُوبَ
بْنِ مُجَمِّعِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ، سَمِعْتُ أَبِي يَعْقُوبَ بْنِ
مُجَمِّعٍ يَقُولُ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ،
عَنْ عَمِّهِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ - وَكَانَ أَحَدَ
الْقُرَّاءِ الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ - قَالَ: قُسِمَتْ خَيْبَرُ عَلَى
أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا
وَخَمْسَمِائَةٍ، فِيهِمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ
سَهْمَيْنِ، وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ مَالِكٌ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَخْبَرَهُ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْتَتَحَ بَعْضَ خَيْبَرَ
عَنْوَةً. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: قُرِئَ عَلَى
الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ وَأَنَا شَاهِدٌ، أَخْبَرَكُمُ ابْنُ وَهْبٍ،
حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنْ خَيْبَرَ بَعْضُهَا
كَانَ عَنْوَةً، وَبَعْضُهَا صُلْحًا، وَالْكَتِيبَةُ أَكْثَرُهَا عَنْوَةً،
وَفِيهَا صُلْحٌ. قُلْتُ لِمَالِكٍ: وَمَا الْكَتِيبَةُ؟ قَالَ: أَرْضُ خَيْبَرَ،
وَهِيَ أَرْبَعُونَ أَلْفَ عَذْقٍ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَالْعَذْقُ:
النَّخْلَةُ. وَالْعِذْقُ: الْعُرْجُونُ.
وَلِهَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا
حَرَمِيٌّ، ثَنَا شُعْبَةُ، ثَنَا
عُمَارَةُ،
عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ قُلْنَا:
الْآنَ نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ.
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، ثَنَا قُرَّةُ بْنُ حَبِيبٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا
شَبِعْنَا - يَعْنِي مِنَ التَّمْرِ - حَتَّى فَتَحْنَا خَيْبَرَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتِ الشَّقُّ وَالنَّطَاةُ فِي سُهْمَانِ
الْمُسْلِمِينَ، الشَّقُّ ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَنَطَاةُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ،
قَسَمَ الْجَمِيعَ عَلَى أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَهْمٍ، وَدَفَعَ ذَلِكَ إِلَى
مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ، مَنْ حَضَرَ خَيْبَرَ وَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَلَمْ
يَغِبْ عَنْ خَيْبَرٍ مِمَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ إِلَّا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ، فَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ. قَالَ: وَكَانَ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ
أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَكَانَ مَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ، لِكُلِّ فَرَسٍ
سَهْمَانِ، فَصُرِفَ إِلَى كُلِّ مِائَةِ رَجُلٍ سَهْمٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ
سَهْمًا، وَزِيدَ الْمِائَتَا فَارِسٍ أَرْبَعَمِائَةِ سَهْمٍ لِخُيُولِهِمْ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَلْفًا
وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَمِائَتَا فَرَسٍ.
قُلْتُ: وَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ
بِسَهْمٍ، وَكَانَ أَوَّلَ سَهْمٍ مِنْ سُهْمَانِ
الشِّقِّ
مَعَ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتِ الْكَتِيبَةُ خُمُسًا لِلَّهِ تَعَالَى،
وَسَهْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَهْمَ ذَوِي
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، وَطُعْمَةَ
أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطُعْمَةَ أَقْوَامٍ
مَشَوْا فِي صُلْحِ أَهْلِ فَدَكَ، مِنْهُمْ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ،
أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثِينَ وَسْقًا
مِنْ تَمْرٍ، وَثَلَاثِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ. قَالَ: وَكَانَ وَادِيَاهَا
اللَّذَانِ قُسِّمَتْ عَلَيْهِ يُقَالُ لَهُمَا: وَادِي السُّرَيْرِ وَوَادِي
خَاصٍ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ تَفَاصِيلَ الْإِقْطَاعَاتِ مِنْهَا
فَأَجَادَ وَأَفَادَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ: وَكَانَ الَّذِي وَلِيَ قِسْمَتَهَا وَحِسَابَهَا جَبَّارُ بْنُ صَخْرِ
بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَنْسَاءَ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
قُلْتُ: وَكَانَ الْأَمِيرُ عَلَى خَرْصِ نَخِيلِ خَيْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رَوَاحَةَ، فَخَرَصَهَا سَنَتَيْنِ، ثُمَّ لَمَّا قُتِلَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
كَمَا سَيَأْتِي فِي يَوْمِ مُؤْتَةَ - وَلِي بَعْدَهُ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ
عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَ بِتَمْرٍ
جَنِيبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ " قَالَ:
لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا
بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ. فَقَالَ: " لَا تَفْعَلْ،
بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَاهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَخَا بَنِي
عَدِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى خَيْبَرَ وَأَمَّرَهُ عَلَيْهَا. وَعَنْ عَبْدِ
الْمَجِيدِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ.
قُلْتُ: كَانَ سَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي
أَصَابَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا قَسَمَ بِخَيْبَرَ وَفَدَكَ بِكَمَالِهَا -
وَهِيَ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ نَزَلُوا مِنْ شِدَّةِ
رُعْبِهِمْ مِنْهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فَصَالَحُوهُ -
وَأَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ، الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا، مِمَّا لَمْ يُوجِفِ
الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَمْوَالُ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَكَانَ يَعْزِلُ
مِنْهَا نَفَقَةَ أَهْلِهِ لِسَنَةٍ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ مَجْعَلَ مَالِ
اللَّهِ، يَصْرِفُهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ،
فَلَمَّا مَاتَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، اعْتَقَدَتْ فَاطِمَةُ
وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَكْثَرَهُنَّ -
أَنَّ هَذِهِ الْأَرَاضِيَ تَكُونُ مَوْرُوثَةً عَنْهُ، وَلَمْ يَبْلُغْهُنَّ مَا
ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَحْنُ
مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ ".
وَلَمَّا طَلَبَتْ فَاطِمَةُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْعَبَّاسُ نَصِيبَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَسَأَلُوا الصِّدِّيقَ أَنْ
يُسَلِّمَهُ
إِلَيْهِمْ، ذَكَرَ لَهُمْ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ ". وَقَالَ: أَنَا أَعُولُ مَنْ كَانَ يَعُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي. وَصَدَقَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، فَإِنَّهُ الْبَارُّ الرَّاشِدُ فِي ذَلِكَ، التَّابِعُ لِلْحَقِّ، وَطَلَبَ الْعَبَّاسُ وَعَلِيٌّ - عَلَى لِسَانِ فَاطِمَةَ، إِذْ قَدْ فَاتَهُمُ الْمِيرَاثُ - أَنْ يَنْظُرَا فِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ، وَأَنْ يَصْرِفَا ذَلِكَ فِي الْمَصَارِفِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُهَا فِيهَا، فَأَبَى عَلَيْهِمُ الصِّدِّيقُ ذَلِكَ، وَرَأَى أَنَّ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ فِيمَا كَانَ يَقُومُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ مَسْلَكِهِ وَلَا عَنْ سُنَنِهِ. فَتَغَضَّبَتْ فَاطِمَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَوَجَدَتْ فِي نَفْسِهَا بَعْضَ الْمَوْجِدَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ، وَالصِّدِّيقُ مَنْ قَدْ عَرَفَتْ هِيَ وَالْمُسْلِمُونَ مَحِلَّهُ وَمَنْزِلَتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيَامَهُ فِي نُصْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنْ نَبِيِّهِ وَعَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ خَيْرًا، وَتُوُفِّيَتْ فَاطِمَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ جَدَّدَ عَلِيٌّ الْبَيْعَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ أَيَّامُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، سَأَلُوهُ أَنْ يُفَوِّضَ أَمْرَ هَذِهِ الصَّدَقَةِ إِلَى عَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسِ، وَثَقَّلُوا عَلَيْهِ بِجَمَاعَةٍ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، فَفَعَلَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ وَاتِّسَاعِ مَمْلَكَتِهِ وَامْتِدَادِ رَعِيَّتِهِ، فَتَغَلَّبُ عَلَى عَلِيٍّ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ فِيهَا، ثُمَّ تَسَاوَقَا يَخْتَصِمَانِ إِلَى عُمَرَ، وَقَدَّمَا بَيْنَ أَيْدِيهِمَا جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، وَسَأَلَا مِنْهُ أَنْ يَقْسِمَهَا بَيْنَهُمَا، فَيَنْظُرَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِيمَا لَا يَنْظُرُ فِيهِ الْآخَرُ. فَامْتَنَعَ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَخَشِيَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِسْمَةُ تُشْبِهُ قِسْمَةَ الْمَوَارِيثِ، وَقَالَ: انْظُرَا فِيهَا وَأَنْتُمَا جَمِيعٌ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا
عَنْهَا
فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ، وَالَّذِي تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ لَا
أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ هَذَا. فَاسْتَمَرَّا فِيهَا، وَمَنْ بَعْدَهُمَا
مِنْ وَلَدِهِمَا إِلَى أَيَّامِ بَنِي الْعَبَّاسِ، تُصْرَفُ فِي الْمَصَارِفِ
الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُهَا
فِيهَا، أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ وَفَدَكَ، وَسَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ.
فَصْلٌ مَنْ شَهِدَ خَيْبَرَ
وَأَمَّا مَنْ شَهِدَ خَيْبَرَ مِنَ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ، فَرَضَخَ لَهُمْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ،
وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، ثَنَا بِشْرُ بْنُ
الْمُفَضَّلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنِي عُمَيْرٌ مَوْلَى آبِي
اللَّحْمِ قَالَ:شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا فِيَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ بِي فَقُلِّدْتُ سَيْفًا،
فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ، فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ، فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ
مِنْ خُرْثِيِّ الْمَتَاعِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا،
عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:
حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ
وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
الْمُهَاجِرِ
عَنْ قُنْفُذٍ، عَنْ عُمَيْرٍ، بِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَشَهِدَ خَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءً، فَرَضَخَ لَهُنَّ، وَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنَّ
بِسَهْمٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ سُحَيْمٍ، عَنْ أُمَيَّةَ بِنْتِ أَبِي
الصَّلْتِ، عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ قَدْ سَمَّاهَا لِي، قَالَتْ:
أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي
غِفَارٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَرَدْنَا أَنْ نَخْرُجَ مَعَكَ
إِلَى وَجْهِكَ هَذَا - وَهُوَ يَسِيرُ إِلَى خَيْبَرَ - فَنُدَاوِي الْجَرْحَى،
وَنُعِينُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا اسْتَطَعْنَا. فَقَالَ: " عَلَى بَرَكَةِ
اللَّهِ ". قَالَتْ: فَخَرَجْنَا مَعَهُ. قَالَتْ: وَكُنْتُ جَارِيَةً
حَدَثَةً، فَأَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
حَقِيبَةِ رَحْلِهِ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصُّبْحِ وَأَنَاخَ، وَنَزَلْتُ عَنْ حَقِيبَةِ
رَحْلِهِ. قَالَتْ: وَإِذَا بِهَا دَمٌ مِنِّي، وَكَانَتْ أَوَّلَ حَيْضَةٍ
حِضْتُهَا. قَالَتْ: فَتَقَبَّضْتُ إِلَى النَّاقَةِ وَاسْتَحْيَيْتُ. فَلَمَّا
رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِي، وَرَأَى
الدَّمَ، قَالَ: " مَا لَكِ ؟ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ؟ " قَالَتْ: قُلْتُ:
نَعَمْ. قَالَ: " فَأَصْلِحِي مِنْ نَفْسِكِ، ثُمَّ خُذِي إِنَاءً مِنْ
مَاءٍ، فَاطْرَحِي فِيهِ مِلْحًا، ثُمَّ اغْسِلِي مَا أَصَابَ الْحَقِيبَةَ مِنَ
الدَّمِ، ثُمَّ عُودِي لِمَرْكَبِكِ ". قَالَتْ: فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ
خَيْبَرَ، رَضَخَ لَنَا مِنَ الْفَيْءِ، وَأَخَذَ هَذِهِ الْقِلَادَةَ الَّتِي
تَرَيْنَ فِي عُنُقِي، فَأَعْطَانِيهَا وَعَلَّقَهَا بِيَدِهِ فِي عُنُقِي،
فَوَاللَّهِ لَا
تُفَارِقُنِي
أَبَدًا. وَكَانَتْ فِي عُنُقِهَا حَتَّى مَاتَتْ، ثُمَّ أَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ
مَعَهَا. قَالَتْ: وَكَانَتْ لَا تَطَّهَّرُ مِنْ حَيْضِهَا إِلَّا جَعَلَتْ فِي
طَهُورِهَا مِلْحًا، وَأَوْصَتْ بِهِ أَنْ يُجْعَلَ فِي غُسْلِهَا حِينَ مَاتَتْ
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ
بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ. قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي "
أَطْرَافِهِ ": وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي
سَبْرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحُيْمٍ، عَنْ أُمِّ عَلِيٍّ بِنْتِ أَبِي
الْحَكَمِ، عَنْ أُمَيَّةَ بِنْتِ أَبِي الصَّلْتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا رَافِعُ بْنُ
سَلَمَةَ الْأَشْجَعِيُّ، حَدَّثَنِي حَشْرَجُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ
أَبِيهِ، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غَزَاةِ خَيْبَرَ وَأَنَا سَادِسَةُ سِتِّ نِسْوَةٍ. قَالَتْ:
فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَعَهُ نِسَاءٌ.
قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا فَدَعَانَا. قَالَتْ: فَرَأَيْنَا فِي وَجْهِهِ
الْغَضَبَ، فَقَالَ: " مَا أَخْرَجَكُنَّ، وَبِأَمْرِ مَنْ خَرَجْتُنَّ؟
" قُلْنَا: خَرَجْنَا نُنَاوِلُ السِّهَامَ، وَنَسْقِي السَّوِيقَ، وَمَعَنَا
دَوَاءٌ لِلْجَرْحَى، وَنَغْزِلُ الشَّعْرَ فَنُعِينُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
قَالَ: " قُمْنَ فَانْصَرِفْنَ ". قَالَتْ: فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْهِ خَيْبَرَ أَخْرَجَ لَنَا سِهَامًا كَسِهَامِ الرِّجَالِ. فَقُلْتُ لَهَا:
يَا جَدَّةُ، وَمَا الَّذِي أَخْرَجَ لَكُنَّ ؟ قَالَتْ: تَمْرًا.
قُلْتُ: إِنَّمَا أَعْطَاهُنَّ مِنَ الْحَاصِلِ، فَأَمَّا أَنَّهُ أَسْهَمَ
لَهُنَّ فِي الْأَرْضِ كَسِهَامِ
الرِّجَالِ
فَلَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِي كِتَابِي، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْحَافِظِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيَّ أَخْبَرَهُ، حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ بْنُ الْجَهْمِ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَرَجِ، ثَنَا
الْوَاقِدِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ، وَمَعِي
زَوْجَتِي وَهِيَ حُبْلَى، فَنَفِسَتْ فِي الطَّرِيقِ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِيَ: " انْقَعْ لَهَا
تَمْرًا، فَإِذَا انْغَمَرَ بَلُّهُ، فَامْرُثْهُ لِتَشْرَبَهُ ".
فَفَعَلْتُ، فَمَا رَأَتْ شَيْئًا تَكْرَهُهُ، فَلَمَّا فَتَحْنَا خَيْبَرَ
أَجْدَى النِّسَاءَ، وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُنَّ، فَأَجْدَى زَوْجَتِي وَوَلَدِي
الَّذِي وُلِدَ قَالَ عَبْدُ السَّلَامِ: لَسْتُ أَدْرِي غُلَامٌ أَوْ جَارِيَةٌ.
ذِكْرُ
قُدُومِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ كَانَ بَقِيَ بِالْحَبَشَةِ مِمَنْ
هَاجَرَ إِلَيْهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنِ انْضَمَّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ
الْيَمَنِ، عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
مُخَيِّمٌ بِخَيْبَرَ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، ثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ، ثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي
بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ
أَنَا وَأَخَوَانِ لِي، أَنَا أَصْغَرُهُمْ، أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ،
وَالْآخَرُ أَبُو رُهْمٍ - إِمَّا قَالَ: فِي بِضْعٍ. وَإِمَّا قَالَ: فِي
ثَلَاثَةٍ وَخَمْسِينَ، أَوِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي -
فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ
بِالْحَبَشَةِ، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَقَمْنَا مَعَهُ
حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَكَانَ أُنَاسٌ مِنَ النَّاسِ يَقُولُونَ
لَنَا - يَعْنِي لِأَهْلِ السَّفِينَةِ -: سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ.
وَدَخَلَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَهِيَ مِمَنْ قَدِمَ مَعَنَا، عَلَى
حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرَةً، وَقَدْ
كَانَتْ هَاجَرَتْ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِيمَنْ هَاجَرَ، فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى
حَفْصَةَ، وَأَسْمَاءُ عِنْدَهَا، فَقَالَ عُمَرُ حِينَ رَأَى أَسْمَاءَ: مَنْ
هَذِهِ ؟ قَالَتْ: أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ قَالَ عُمَرُ:
الْحَبَشِيَّةُ
هَذِهِ ؟ الْبَحْرِيَّةُ هَذِهِ ؟ قَالَتْ أَسْمَاءُ: نَعَمْ. قَالَ:
سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكُمْ. فَغَضِبَتْ وَقَالَتْ: كَلَّا وَاللَّهِ، كُنْتُمْ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ،
وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا فِي دَارِ - أَوْ فِي أَرْضِ - الْبُعَدَاءِ
وَالْبُغَضَاءِ بِالْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ فِي اللَّهِ وَفِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَايْمُ اللَّهِ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا وَلَا
أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَذْكُرَ مَا قُلْتَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْأَلُهُ، وَوَاللَّهِ لَا أَكْذِبُ وَلَا أَزِيغُ وَلَا
أَزِيدُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ عُمَرَ قَالَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: "
فَمَا قُلْتِ لَهُ ؟ " قَالَتْ: قَلْتُ كَذَا وَكَذَا قَالَ: لَيْسَ
بِأَحَقَّ بِي مِنْكُمْ، وَلَهُ وَلِأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَكُمْ
أَنْتُمْ أَهْلَ السَّفِينَةِ هِجْرَتَانِ ". قَالَتْ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ
أَبَا مُوسَى وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ يَأْتُونِي أَرْسَالًا يَسْأَلُونِي عَنْ
هَذَا الْحَدِيثِ، مَا مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ هُمْ بِهِ أَفْرَحُ وَلَا أَعْظَمُ
فِي أَنْفُسِهِمْ مِمَّا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا
مُوسَى، وَإِنَّهُ لَيَسْتَعِيدُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنِّي.
وَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنِّي لَأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الْأَشْعَرِيِّينَ
بِالْقُرْآنِ، حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ، وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ
أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ، وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ
حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ، وَمِنْهُمْ حَكِيمٌ، إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ - أَوْ
قَالَ: الْخَيْلَ - قَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَصْحَابِي يَأْمُرُونَكُمْ أَنْ
تَنْظُرُوهُمْ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَرَّادٍ،
عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا حَفْصُ
بْنُ غِيَاثٍ، ثَنَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ
أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنِ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، فَقَسَمَ لَنَا وَلَمْ يَقْسِمْ
لِأَحَدٍ لَمْ يَشْهَدِ الْفَتْحَ غَيْرَنَا تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ
مُسْلِمٍ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ
بُرَيْدٍ، بِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى
النَّجَاشِيِّ، يَطْلُبُ مِنْهُ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْحَبَشَةِ،
فَقَدِمُوا صُحْبَةَ جَعْفَرٍ وَقَدْ فَتَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَيْبَرَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ،
عَنِ الْأَجْلَحِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ،أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدِمَ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ خَيْبَرَ،
فَقَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ
وَالْتَزَمَهُ، وَقَالَ: " مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أَنَا أُسَرُّ، بِفَتْحِ
خَيْبَرَ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ ؟ " وَهَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، عَنِ
الْأَجْلَحِ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا.
وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ حَسَنِ بْنِ حُسَيْنٍ الْعُرَنِيِّ، عَنِ
الْأَجْلَحِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ قَدِمَ جَعْفَرٌ مِنَ
الْحَبَشَةِ، فَتَلَقَّاهُ وَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي
بِأَيِّهِمَا أَفْرَحُ، بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا
أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْعَلَوِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْبَيْرُوتِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي طَيْبَةَ،
حَدَّثَنِي مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الرُّعَيْنِيُّ، ثَنَا سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ
جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، تَلَقَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا نَظَرَ جَعْفَرٌ إِلَيْهِ حَجَلَ -
قَالَ مَكِّيٌّ: يَعْنِي مَشَى عَلَى رِجْلٍ وَاحِدَةٍ، إِعْظَامًا لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فِي
إِسْنَادِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ إِلَى الثَّوْرِيِّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الَّذِينَ تَأَخَّرُوا مَعَ جَعْفَرٍ مِنْ أَهْلِ
مَكَّةَ إِلَى أَنْ
قَدِمُوا
مَعَهُ خَيْبَرَ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا وَسَرَدَ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ
نِسَائِهِمْ وَهُمْ، جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيُّ، وَامْرَأَتُهُ
أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وُلِدَ بِالْحَبَشَةِ،
وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ،
وَامْرَأَتُهُ أَمِينَةُ بِنْتُ خَلَفِ بْنِ أَسْعَدَ، وَوَلَدَاهُ سَعِيدٌ
وَأَمَةُ بِنْتُ خَالِدٍ، وُلِدَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَأَخُوهُ عَمْرُو بْنُ
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَمُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ، وَكَانَ إِلَى آلِ
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ. قَالَ: وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
قَيْسٍ، حَلِيفُ آلِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَأَسْوَدُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ
خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ الْأَسَدِيُّ، وَجَهْمُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ
شُرَحْبِيلِ الْعَبْدَرِيُّ، وَقَدْ مَاتَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَرْمَلَةَ بِنْتُ
عَبْدِ الْأَسْوَدِ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَابْنُهُ عَمْرٌو وَابْنَتُهُ خُزَيْمَةُ
مَاتَا بِهَا، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَعَامِرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيُّ،
وَعُتْبَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ هُذَيْلٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ
خَالِدِ بْنِ صَخْرٍ التَّيْمِيُّ، وَقَدْ هَلَكَتْ بِهَا امْرَأَتُهُ رَيْطَةُ
بِنْتُ الْحَارِثِ، رَحِمَهَا اللَّهُ، وَعُثْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ أُهْبَانَ
الْجُمَحِيُّ، وَمَحْمِيَةُ بْنُ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيُّ حَلِيفُ بَنِي سَهْمٍ،
وَمَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَضْلَةَ الْعَدَوِيُّ، وَأَبُو حَاطِبِ بْنُ
عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَمَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ
شَمْسٍ الْعَامِرِيَّانِ، وَمَعَ مَالِكٍ هَذَا امْرَأَتُهُ عَمْرَةُ بِنْتُ
السَّعْدِيِّ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ لَقِيطٍ الْفِهْرِيُّ.
قُلْتُ: وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ إِسْحَاقَ أَسْمَاءَ الْأَشْعَرِيِّينَ الَّذِينَ
كَانُوا مَعَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأَخَوَيْهِ أَبَا بُرْدَةَ وَأَبَا
رُهْمٍ، وَعَمَّهَ أَبَا عَامِرٍ، بَلْ لَمْ يَذْكُرْ مِنَ
الْأَشْعَرِيِّينَ
غَيْرَ أَبِي مُوسَى، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذِكْرِ أَخَوَيْهِ وَهُمَا أَسَنُّ
مِنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وَكَأَنَّ ابْنَ
إِسْحَاقَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى حَدِيثِ أَبِي مُوسَى فِي
ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَقَدْ كَانَ مَعَهُمْ فِي السَّفِينَتَيْنِ نِسَاءٌ، مِنْ نِسَاءِ مَنْ
هَلَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُنَالِكَ. وَقَدْ حَرَّرَ هَاهُنَا شَيْئًا كَثِيرًا
حَسَنًا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا سُفْيَانُ،
سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ وَسَأَلَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ،أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَتَى رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ - يَعْنِي أَنْ يَقْسِمَ
لَهُ - فَقَالَ بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لَا تُعْطِهِ. فَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ. فَقَالَ: وَاعْجَبًا لِوَبْرٍ تَدَلَّى
مِنْ قَدُومِ الضَّأْنِ! تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَيُذْكَرُ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
أَخْبَرَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُخْبِرُ
سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
أَبَانَ
عَلَى سَرِيَّةٍ مَنِ الْمَدِينَةِ قِبَلَ نَجِدٍ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
فَقَدِمَ أَبَانُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ بَعْدَمَا افْتَتَحَهَا، وَإِنَّ حُزُمَ خَيْلِهِمْ لَلِيفٌ.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَقْسِمْ لَهُمْ.
فَقَالَ أَبَانُ: وَأَنْتَ بِهَذَا يَا وَبْرُ تَحَدَّرَ مِنْ رَأْسِ ضَالٍ ؟!
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أَبَانُ،
اجْلِسْ ". وَلَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ وَقَدْ أَسْنَدَ أَبُو دَاوُدَ هَذَا
الْحَدِيثَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيِّ، بِهِ نَحْوَهُ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا عَمْرُو
بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي جَدِّي - وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو
بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ -أَنَّ أَبَانَ بْنَ سَعِيدٍ أَقْبَلَ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ. فَقَالَ أَبَانُ
لِأَبِي هُرَيْرَةَ: وَاعْجَبًا لَكَ، وَبْرٌ تَرَدَّى مِنْ قَدُومِ ضَالٍ!
تَنْعَى عَلَيَّ امْرَأً أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِيَدِي، وَمَنَعَهُ أَنْ يُهِينَنِي
بِيَدِهِ ؟! هَكَذَا رَوَاهُ مُنْفَرِدًا بِهِ هَاهُنَا.
وَقَالَ فِي الْجِهَادِ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عَنْبَسَةَ
بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِخَيْبَرَ بَعْدَمَا افْتَتَحَهَا، فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَسْهِمْ لِي. فَقَالَ بَعْضُ آلِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ:
لَا تَقْسِمْ لَهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ.
الْحَدِيثَ. قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثَنِيهِ السَّعِيدِيُّ - يَعْنِي عَمْرَو بْنَ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ - عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا. فَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ خَيْبَرَ
وَتَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ
طَرِيقِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَّهُ قَدِمَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا افْتَتَحَ خَيْبَرَ
فَكَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَشْرَكُونَا فِي أَسْهَامِهِمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رُوحٌ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: مَا شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَغْنَمًا قَطُّ إِلَّا قَسَمَ لِي، إِلَّا خَيْبَرَ، فَإِنَّهَا كَانَتْ لِأَهْلِ
الْحُدَيْبِيَةِ خَاصَّةً.
قُلْتُ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو مُوسَى، جَاءَا بَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ
وَخَيْبَرَ.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا
مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ،
حَدَّثَنِي ثَوْرٌ، حَدَّثَنِي سَالِمٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ،
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ فَلَمْ نَغْنَمُ
ذَهَبًا وَلَا فِضَّةَ، إِنَّمَا
غَنِمْنَا الْإِبِلَ، وَالْبَقَرَ، وَالْمَتَاعَ، وَالْحَوَائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَادِي الْقُرَى، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ. أَهْدَاهُ لَهُ بَعْضُ بَنِي الضُّبَيْبِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ، حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَلَّا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا ". فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ.
ذِكْرُ
قِصَّةِ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْبُرْهَانُ الَّذِي ظَهَرَ
عِنْدَهَا
قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَوَاهُ عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يُوسُفَ، ثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ:لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ. هَكَذَا أَوْرَدَهُ هَاهُنَا مُخْتَصَرًا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا لَيْثٌ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:لَمَّا فُتِحَتْ
خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا
سُمٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
اجْمَعُوا لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنَ الْيَهُودِ ". فَجَمَعُوا لَهُ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي سَائِلُكُمْ
عَنْ شَيْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ ؟ " قَالُوا: نَعَمْ يَا
أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " مَنْ أَبُوكُمْ ؟ قَالُوا: أَبُونَا فُلَانٌ. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ
فُلَانٌ ". قَالُوا:
صَدَقْتَ
وَبَرَرْتَ. فَقَالَ: " هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ
سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ ؟ " قَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ
كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا، كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَهْلُ النَّارِ ؟ "
فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا، ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا. فَقَالَ لَهُمْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَاللَّهِ لَا
نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا ". ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: " هَلْ أَنْتُمْ
صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ سَأَلْتُكُمْ ؟ " فَقَالُوا: نَعَمْ يَا أَبَا
الْقَاسِمِ. فَقَالَ: " هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمًّا ؟ "
فَقَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: " مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟ ". قَالُوا:
أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ نَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا
لَمْ يَضُرَّكَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْجِزْيَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ،
وَفِي الْمُغَازِي أَيْضًا، عَنْ قُتَيْبَةَ كِلَاهُمَا عَنِ اللَّيْثِ، بِهِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ،
أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ،
ثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ
امْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ أَهْدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شَاةً مَسْمُومَةً، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: " أَمْسِكُوا،
فَإِنَّهَا مَسْمُومَةٌ " وَقَالَ لَهَا: مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ ؟
قَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ أَعْلَمَ، إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَسَيُطْلِعُكَ اللَّهُ
عَلَيْهِ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أُرِيحُ النَّاسَ مِنْكَ. قَالَ: فَمَا عَرَضَ
لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ،
عَنْ هَارُونِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، بِهِ. ثُمَّ
رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ، ثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ هِلَالٍ
- هُوَ ابْنُ خَبَّابٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً
مِنَ الْيَهُودِ أَهَدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شَاةً مَسْمُومَةً، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَقَالَ: " مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا
صَنَعْتِ ؟ " قَالَتْ: أَحْبَبْتُ - أَوْ أَرَدْتُ - إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا
فَإِنَّ اللَّهَ سَيُطْلِعُكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا أُرِيحُ
النَّاسَ مِنْكَ. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا احْتَجَمَ. قَالَ: فَسَافَرَ مَرَّةً،
فَلَمَّا أَحْرَمَ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَاحْتَجَمَ تَفَرَّدَ بِهِ
أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
زَيْدٍ،عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ
مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، قَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ. فَقَالَ: " مَا
كَانَ
اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَيَّ ". أَوْ قَالَ: " عَلَى ذَلِكَ ".
قَالُوا: أَلَا نَقْتُلُهَا ؟ قَالَ: " لَا " قَالَ: أَنَسٌ فَمَا
زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْمَهْرِيُّ، ثَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: قَالَ كَانَ جَابِرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُأَنَّ يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ سَمَّتْ شَاةً
مَصْلِيَّةً، ثُمَّ أَهْدَتْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الذِّرَاعَ، فَأَكَلَ مِنْهَا، وَأَكَلَ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، ثُمَّ
قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ ". وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى الْمَرْأَةِ، فَدَعَاهَا فَقَالَ لَهَا: " أَسَمَمْتِ هَذِهِ
الشَّاةَ ؟ " قَالَتِ الْيَهُودِيَّةُ: مَنْ أَخْبَرَكَ ؟ قَالَ: "
أَخْبَرَتْنِي هَذِهِ الَّتِي فِي يَدِي ". وَهِيَ الذِّرَاعُ. قَالَتْ:
نَعَمْ. قَالَ: " فَمَا أَرَدْتِ بِذَلِكَ ؟ " قَالَتْ: قُلْتُ: إِنْ
كُنْتَ نَبِيًّا فَلَنْ تَضُرَّكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا
مِنْكَ. فَعَفَا عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلَمْ يُعَاقِبْهَا، وَتُوَفِّيَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ
الشَّاةِ، وَاحْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
كَاهِلِهِ، مِنْ أَجْلِ الَّذِي
أَكَلَ
مِنَ الشَّاةِ، حَجَمَهُ أَبُو هِنْدٍ بِالْقَرْنِ، وَالشَّفْرَةِ وَهُوَ مَوْلَى
لِبَنِي بَيَاضَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، ثَنَا خَالِدٌ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيَّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً
مَصْلِيَّةً، نَحْوَ حَدِيثِ جَابِرٍ، قَالَ: فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ
مَعْرُورٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكِ عَلَى
الَّذِي صَنَعْتِ ؟ " فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ جَابِرٍ، فَأَمَرَ بِهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُتِلَتْ. وَلَمْ يَذْكُرْ
أَمْرَ الْحِجَامَةِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهَا فِي الِابْتِدَاءِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ
بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ أَمَرَ بِقَتْلِهَا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ امْرَأَةً
يَهُودِيَّةً أَهْدَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شَاةً مَصْلِيَّةً بِخَيْبَرَ، فَقَالَ: " مَا هَذِهِ ؟ " قَالَتْ:
هَدِيَّةٌ. وَحَذِرَتْ أَنْ تَقُولَ: صَدَقَةٌ. فَلَا يَأْكُلُ. قَالَ: فَأَكَلَ
وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَمْسِكُوا ". ثُمَّ قَالَ
لِلْمَرْأَةِ:
" هَلْ سَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ ؟ " قَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَكَ هَذَا ؟
قَالَ: " هَذَا الْعَظْمُ ". لِسَاقِهَا، وَهُوَ فِي يَدِهِ. قَالَتْ:
نَعَمْ. قَالَ: " لِمَ ؟ " قَالَتْ: أَرَدْتُ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ
نَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ. قَالَ: فَاحْتَجَمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْكَاهِلِ، وَأَمَرَ
أَصْحَابَهُ فَاحْتَجَمُوا، وَمَاتَ بَعْضُهُمْ. قَالَ الزُّهْرِيُّ:
فَأَسْلَمَتْ، فَتَرَكَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ، وَلَعَلَّهُ قَدْ يَكُونُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
حَمَلَهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، وَكَذَلِكَ
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالُوا:لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ،
أَهْدَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْيَهُودِيَّةُ - وَهِيَ ابْنَةُ أَخِي
مَرْحَبٍ - لِصَفِيَّةَ شَاةً مَصْلِيَّةً وَسَمَّتْهَا، وَأَكْثَرَتْ فِي
الْكَتِفِ وَالذِّرَاعِ، لِأَنَّهُ بَلَغَهَا أَنَّهُ أَحَبُّ أَعْضَاءِ الشَّاةِ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَفِيَّةَ، وَمَعَهُ بِشْرُ بْنُ
الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَدَّمَتْ إِلَيْهِمُ
الشَّاةَ الْمَصْلِيَّةَ، فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْكَتِفَ، وَانْتَهَشَ مِنْهَا، وَتَنَاوَلَ بِشْرٌ عَظْمًا
فَانْتَهَشَ مِنْهُ، فَلَمَّا اسْتَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لُقْمَتَهُ، اسْتَرَطَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ مَا فِي فِيهِ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْفَعُوا
أَيْدِيَكُمْ، فَإِنَّ كَتِفَ هَذِهِ الشَّاةِ يُخْبِرُنِي أَنِّي نُعِيتُ فِيهَا
".
فَقَالَ
بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ لَقَدْ وَجَدْتُ ذَلِكَ فِي
أَكْلَتِي الَّتِي أَكَلْتُ، فَمَا مَنَعَنِي أَنْ أَلْفِظَهَا إِلَّا أَنِّي
أَعْظَمْتُكَ أَنْ أُنَغِّصَكَ طَعَامَكَ، فَلَمَّا أَسَغْتَ مَا فِي فِيكَ، لَمْ
أَرْغَبْ بِنَفْسِي عَنْ نَفْسِكَ، وَرَجَوْتُ أَنْ لَا تَكُونَ اسْتَرَطْتَهَا وَفِيهَا
نَعْيٌ. فَلَمْ يَقُمْ بِشْرٌ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى عَادَ لَوْنُهُ
كَالطَّيْلَسَانِ، وَمَاطَلَهُ وَجَعُهُ، حَتَّى كَانَ لَا يَتَحَوَّلُ حَتَّى
يُحَوَّلَ قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ جَابِرٌ:وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، حَجَمَهُ مَوْلَى بَنِي بَيَاضَةَ
بِالْقَرْنِ وَالشَّفْرَةِ، وَبَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْدَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ، حَتَّى كَانَ وَجَعُهُ الَّذِي تُوُفِّيَ
فِيهِ، فَقَالَ: " مَا زِلْتُ أَجِدُ مِنَ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ مِنَ
الشَّاةِ يَوْمَ خَيْبَرَ عِدَادًا، حَتَّى كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعِ
أَبْهَرِي ". فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شَهِيدًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:فَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَتْ لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ امْرَأَةُ
سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ شَاةً مَصْلِيَّةً، وَقَدْ سَأَلَتْ: أَيُّ عُضْوٍ أَحَبُّ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقِيلَ لَهَا:
الذِّرَاعُ، فَأَكْثَرَتْ فِيهَا مِنَ السُّمِّ، ثُمَّ سَمَّتْ سَائِرَ الشَّاةِ،
ثُمَّ جَاءَتْ بِهَا، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، تَنَاوَلَ
الذِّرَاعِ، فَلَاكَ
مِنْهَا
مُضْغَةً فَلَمْ يُسِغْهَا، وَمَعَهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، قَدْ
أَخَذَ مِنْهَا كَمَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَمَّا بِشْرٌ فَأَسَاغَهَا، وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَفَظَهَا، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ هَذَا الْعَظْمَ يُخْبِرُنِي
أَنَّهُ مَسْمُومٌ ". ثُمَّ دَعَا بِهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَقَالَ: " مَا
حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ: بَلَغْتَ مِنْ قَوْمِي مَا لَمْ يَخْفَ
عَلَيْكَ فَقُلْتُ: إِنْ كَانَ كَذَّابًا اسْتَرَحْتُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ
نَبِيًّا فَسَيُخْبَرُ قَالَ: فَتَجَاوَزَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَاتَ بِشْرٌ مِنْ أَكْلَتِهِ الَّتِي أَكَلَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَرْوَانُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدِ
بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ - وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ أُمُّ
بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ -: " يَا أُمَّ بِشْرٍ، إِنَّ هَذَا
الْأَوَانَ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنَ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ مَعَ
أَخِيكِ بِخَيْبَرَ ". قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأَبْهَرُ: الْعِرْقُ الْمُعَلَّقُ
بِالْقَلْبِ. قَالَ: فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَيَرَوْنَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ شَهِيدًا، مَعَ مَا أَكْرَمَهُ
اللَّهُ بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ بِشْرٍ
وَسُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ
الْحَرَّانِيُّ
قَالَا: ثَنَا أَبُو عَتَّابٍ سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ:أَنَّ
يَهُودِيَّةً أَهْدَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شَاةً سَمِيطًا، فَلَمَّا بَسَطَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمْسِكُوا فَإِنَّ عُضْوًا مِنْ
أَعْضَائِهَا يُخْبِرُنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ ". فَأَرْسَلَ إِلَى
صَاحِبَتِهَا: " أَسَمَمْتِ طَعَامَكِ ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ:
" مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ
أُرِيحَ النَّاسَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ
سَيُطْلِعُكَ عَلَيْهِ. فَبَسَطَ يَدَهُ وَقَالَ: " كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ
". قَالَ: فَأَكَلْنَا وَذَكَرْنَا اسْمَ اللَّهِ، فَلَمْ يَضُرَّ أَحَدٌ
مِنَّا ثُمَ قَالَ: لَا يُرْوَى عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي نَضْرَةَ إِلَّا
مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قُلْتُ: وَفِيهِ نَكَارَةٌ وَغَرَابَةٌ شَدِيدَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ رَأَى
فِي مَنَامِهِ رُؤْيَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُحَاصِرٌ خَيْبَرَ، فَطَمِعَ مِنْ رُؤْيَاهُ أَنْ يُقَاتِلَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَظْفَرُ بِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَجَدَهُ قَدِ
افْتَتَحَهَا، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَعْطِنِي مَا غَنِمْتَ مِنْ حُلَفَائِي -
يَعْنِي أَهْلَ خَيْبَرَ - فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" كَذَبَتْ رُؤْيَاكَ ". وَأَخْبَرَهُ بِمَا رَأَى، فَرَجَعَ
عُيَيْنَةُ، فَلَقِيَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ
تُوضِعُ فِي غَيْرِ شَيْءٍ ؟! وَاللَّهِ لَيَظْهَرَنَّ مُحَمَّدٌ عَلَى مَا
بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَإِنَّ يَهُودَ كَانُوا يُخْبِرُونَنَا بِهَذَا، أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ أَبَا رَافِعٍ سَلَّامَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ يَقُولُ: إِنَّا لَنَحْسُدُ مُحَمَّدًا عَلَى النُّبُوَّةِ حَيْثُ خَرَجَتْ مِنْ بَنِي هَارُونَ، إِنَّهُ لَمُرْسَلٌ، وَيَهُودُ لَا تُطَاوِعُنِي عَلَى هَذَا، وَلَنَا مِنْهُ ذِبْحَانِ، وَاحِدٌ بِيَثْرِبَ، وَآخَرُ بِخَيْبَرَ، قَالَ الْحَارِثُ: قُلْتُ لِسَلَّامٍ: يَمْلِكُ الْأَرْضَ ؟! قَالَ: نَعَمْ وَالتَّوْرَاةِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى، وَمَا أُحِبُّ أَنْ تَعْلَمَ يَهُودُ بِقَوْلِي فِيهِ.
فَصْلٌ
قِصَّةُ مِدْعَمٍ وَنَوْمِ بِلَالٍ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ، انْصَرَفَ إِلَى وَادِي الْقُرَى، فَحَاصَرَ أَهْلَهَا
لَيَالِيَ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ
قِصَّةِ مِدْعَمٍ، وَكَيْفَ جَاءَهُ سَهْمٌ غَارِبٌ فَقَتَلَهُ، وَقَالَ النَّاسُ:
هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي
أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ
نَارًا " وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " نَحْوَ
مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي ذِكْرُ قِتَالِهِ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِوَادِي الْقُرَى.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ
زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ،أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَشْجَعَ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ،
فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "
صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ ". فَتَغَيَّرَ وُجُوهُ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ،
فَقَالَ: " إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ".
فَفَتَّشْنَا مَتَاعَهُ، فَوَجَدْنَا خَرَزًا مِنْ
خَرَزِ
يَهُودَ مَا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ - زَادَ أَبُو
دَاوُدَ: وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ - وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ
بْنِ سَعْدٍ،، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، بِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ بَنِي فَزَارَةَ أَرَادُوا أَنْ يُقَاتِلُوا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْجِعَهُ مِنْ خَيْبَرَ،
وَتَجَمَّعُوا لِذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ يُوَاعِدُهُمْ مَوْضِعًا مُعَيَّنًا،
فَلَمَّا تَحَقَّقُوا ذَلِكَ، هَرَبُوا كُلَّ مَهْرَبٍ، وَذَهَبُوا مِنْ طَرِيقِهِ
كُلَّ مَذْهَبٍ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا حَلَّتْ صَفِيَّةُ مِنَ اسْتِبْرَائِهَا، دَخَلَ بِهَا بِمَكَانٍ
يُقَالُ لَهُ: سَدُّ الصَّهْبَاءِ. فِي أَثْنَاءِ طَرِيقِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ،
وَأَوْلَمَ عَلَيْهَا بِحَيْسٍ، وَأَقَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُبْنَى عَلَيْهِ
بِهَا، وَأَسْلَمَتْ، فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَجَعَلَ عِتَاقَهَا
صَدَاقَهَا، وَكَانَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا فَهِمَهُ
الصَّحَابَةُ لَمَّا مَدَّ عَلَيْهَا الْحِجَابَ وَهُوَ مُرْدِفُهَا وَرَاءَهُ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي " السِّيرَةِ " قَالَ: لَمَّا
أَعْرَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَفِيَّةَ
بِخَيْبَرَ، أَوْ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، وَكَانَتِ الَّتِي جَمَّلَتْهَا إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَشَّطَتْهَا، وَأَصْلَحَتْ
مِنْ أَمْرِهَا أُمُّ سُلَيْمٍ بِنْتُ مِلْحَانَ، أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،
وَبَاتَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُبَّةٍ
لَهُ، وَبَاتَ أَبُو أَيُّوبَ مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ، يَحْرُسُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُطِيفُ بِالْقُبَّةِ حَتَّى أَصْبَحَ،
فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانَهُ
قَالَ:
"
مَا لَكَ يَا أَبَا أَيُّوبَ ؟ " قَالَ: خِفْتُ عَلَيْكَ مِنْ هَذِهِ
الْمَرْأَةِ، وَكَانَتِ امْرَأَةً قَدْ قَتَلْتَ أَبَاهَا وَزَوْجَهَا وَقَوْمَهَا،
وَكَانَتْ حَدِيثَةَ عَهْدٍ بِكُفْرٍ، فَخِفْتُهَا عَلَيْكَ. فَزَعَمُوا أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اللَّهُمَّ
احْفَظْ أَبَا أَيُّوبَ كَمَا بَاتَ يَحْفَظُنِي ". ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي
الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فَذَكَرَ نَوْمَهُمْ عَنْ صَلَاةِ
الصُّبْحِ مَرْجِعَهُمْ مِنْ خَيْبَرَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَهُمُ اسْتِيقَاظًا، فَقَالَ: " مَاذَا
صَنَعْتَ بِنَا يَا بِلَالُ ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخَذَ
بِنَفْسِي الَّذِي أَخَذَ بِنَفْسِكَ. قَالَ: " صَدَقْتَ ". ثُمَّ
اقْتَادَ نَاقَتَهُ غَيْرَ كَثِيرٍ، ثُمَّ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى كَمَا
كَانَ يُصَلِّيهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ سَعِيدٍ مُرْسَلًا. وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، ثَنَا ابْنُ
وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، فَسَارَ لَيْلَةً،
حَتَّى إِذَا أَدْرَكَنَا الْكَرَى عَرَّسَ، وَقَالَ لِبِلَالٍ: " اكْلَأْ
لَنَا اللَّيْلَ ". قَالَ: فَغَلَبَتْ بِلَالًا عَيْنَاهُ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ
إِلَى رَاحِلَتِهِ، فَلَمْ يَسْتَيْقِظِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا بِلَالٌ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى ضَرَبَتْهُمُ
الشَّمْسُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَوَّلَهُمُ اسْتِيقَاظًا، فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ: " يَا بِلَالُ ! " قَالَ: أَخَذَ بِنَفْسِي الَّذِي
أَخَذَ بِنَفْسِكَ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:
فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ شَيْئًا، ثُمَّ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأَمَرَ
بِلَالًا فَأَقَامَ لَهُمُ الصَّلَاةَ، وَصَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ، فَلَمَّا أَنْ
قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: " مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا
ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِلذِّكْرَى )
( طه: 14 ) قَالَ يُونُسُ: وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ يَقْرَأُهَا كَذَلِكَ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ وَهْبٍ، بِهِ. وَفِيهِ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَرْجِعَهُمْ مِنْ خَيْبَرَ.
وَفِي حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَرْجِعَهُمْ مِنَ
الْحُدَيْبِيَةِ، فَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ بِلَالًا هُوَ الَّذِي كَانَ
يَكْلَؤُهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَكْلَؤُهُمْ.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَرَّتَيْنِ.
قَالَ: وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي قَتَادَةَ نَوْمُهُمْ عَنِ
الصَّلَاةِ، وَفِيهِ حَدِيثُ الْمِيضَأَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ إِحْدَى
هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ، أَوْ مَرَّةٌ ثَالِثَةٌ. قَالَ: وَذَكَرَالْوَاقِدِيُّ
فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَرْجِعَهُمْ مِنْ غَزْوَةِ
تَبُوكَ. قَالَ: وَرَوَى زَافِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ جَامِعِ
بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّ
ذَلِكَ كَانَ مَرْجِعَهُمْ مِنْ تَبُوكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ مَا رَوَاهُ صَاحِبُ " الصَّحِيحِ " مِنْ
قِصَّةِ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ فِي قِصَّةِ نَوْمِهِمْ عَنِ الصَّلَاةِ، وَقِصَّةِ الْمَرْأَةِ
صَاحِبَةِ السَّطِيحَتَيْنِ، وَكَيْفَ أَخَذُوا مِنْهُمَا مَاءً رَوَى الْجَيْشَ
بِكَمَالِهِ، وَلَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْهُمَا شَيْئًا. ثُمَّ ذَكَرَ مَا رَوَاهُ
مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ،
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ وَفِيهِ نَوْمُهُمْ عَنِ
الصَّلَاةِ، وَتَكْثِيرُ الْمَاءِ مِنْ تِلْكَ الْمِيضَأَةِ. وَقَدْ رَوَاهُ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ،
عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ:
لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ - أَوْ
قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
خَيْبَرَ أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ
بِالتَّكْبِيرِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْبَعُوا
عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ
تَدْعُونَ
سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ ". وَأَنَا خَلْفَ دَابَّةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعَنِي وَأَنَا أَقُولُ: لَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. فَقَالَ: " يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
قَيْسٍ ". قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " أَلَا
أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ ؟ ". قُلْتُ: بَلَى يَا
رَسُولَ اللَّهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. قَالَ: " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إِلَّا بِاللَّهِ وَقَدْ رَوَاهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ مَلٍّ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ كَانَ مَرْجِعَهُمْ مِنْ خَيْبَرَ، فَإِنَّ
أَبَا مُوسَى إِنَّمَا قَدِمَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فِيمَا بَلَغَنِي، قَدْ أَعْطَى ابْنَ لَقِيمٍ الْعَبْسِيَّ حِينَ
افْتَتَحَ خَيْبَرَ مَا بِهَا مِنْ دَجَاجَةٍ أَوْ دَاجِنٍ، وَكَانَ فَتْحُ
خَيْبَرَ فِي صَفَرٍ، فَقَالَ ابْنُ لَقِيمٍ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ:
رُمِيَتْ نَطَاةُ مِنَ الرَّسُولِ بِفَيْلَقٍ شَهْبَاءَ ذَاتِ مَنَاكِبٍ وَفَقَارِ
وَاسْتَيْقَنَتْ بِالذُّلِّ لَمَّا شُيِّعَتْ
وَرِجَالُ أَسْلَمَ وَسْطَهَا وَغِفَارِ
صَبَحَتْ
بَنِي عَمْرِو بْنِ زُرْعَةَ غُدْوَةٌ
وَالشَّقُّ أَظْلَمَ أَهْلُهُ بِنَهَارِ جَرَّتْ بِأَبْطَحِهَا الذُّيُولَ فَلَمْ
تَدَعْ
إِلَّا الدَّجَاجَ تَصِيحُ بِالْأَسْحَارِ وَلِكُلِّ حِصْنٍ شَاغِلٌ مِنْ
خَيْلِهِمْ
مِنْ عَبْدِ الَاشْهَلِ أَوْ بَنِي النَّجَّارِ وَمُهَاجِرِينَ قَدَ اعْلَمُوا
سِيمَاهُمُ
فَوْقَ الْمَغَافِرِ لَمْ يَنُوا لِفَرَارِ وَلَقَدْ عَلِمْتُ لَيَغْلِبَنَّ
مُحَمْدٌ
وَلَيَثْوِيَنَّ بِهَا إِلَى أَصْفَارِ فَرَّتْ يَهُودٌ عِنْدَ ذَلِكَ فِي
الْوَغَى
تَحْتَ الْعَجَاجِ غَمَائِمَ الْأَبْصَارِ
فَصْلٌ مَنِ اسْتُشْهِدَ بِخَيْبَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ
عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَغَيْرُهُ
مِنْ أَصْحَابِ الْمُغَازِي
فَمِنْ خَيْرِ الْمُهَاجِرِينَ، رَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ بْنِ سَخْبَرَةَ
الْأَسَدِيُّ، مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَثَقِيفُ بْنُ عَمْرٍو، وَرِفَاعَةُ بْنُ
مَسْرُوحٍ، حُلَفَاءُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ
الْهُبَيْبِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ سُحَيْمِ بْنِ غِيَرَةَ، مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ
لَيْثٍ، حَلِيفُ بَنِي أَسَدٍ وَابْنُ أُخْتِهِمْ.
وَمِنَ الْأَنْصَارِ، بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ - مِنْ أَكْلَةِ
الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَمَا تَقَدَّمَ - وَفُضَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ السَّلَمِيَّانِ، وَمَسْعُودُ
بْنُ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ خَلَدَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ الزُّرَقِيُّ،
وَمَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَشْهَلِيُّ، وَأَبُو ضَيَّاحِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ
النُّعْمَانِ الْعَمْرِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ، وَعُرْوَةُ بْنُ مُرَّةَ
بْنِ سُرَاقَةَ، وَأَوْسٌ الْفَائِدُ، وَأُنَيْفُ بْنُ حَبِيبٍ، وَثَابِتُ بْنُ
أَثْلَةَ، وَطَلْحَةُ، وَعُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ رُمِيَ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ،
وَعَامِرُ بْنُ الْأَكْوَعِ، أَصَابَهُ طَرَفُ سَيْفِهِ فِي رُكْبَتِهِ
فَقَتَلَهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْأَسْوَدُ الرَّاعِي. وَقَدْ
أَفْرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَاهُنَا قِصَّتَهُ، وَقَدْ أَسْلَفْنَاهَا فِي
أَوَائِلِ الْغَزْوَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمِمَّنِ اسْتُشْهِدَ بِخَيْبَرَ - فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ شِهَابٍ - مِنْ بَنِي زُهْرَةَ، مَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنَ الْقَارَةِ، وَمِنَ الْأَنْصَارِ ثُمَّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، أَوْسُ بْنُ قَتَادَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
خَبَرُ
الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ الْبَهْزِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ، كَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ السُّلَمِيُّ ثُمَّ
الْبَهْزِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي بِمَكَّةَ مَالًا عِنْدَ
صَاحِبَتِي أُمِّ شَيْبَةَ بِنْتِ أَبِي طَلْحَةَ - وَكَانَتْ عِنْدَهُ، لَهُ
مِنْهَا مُعَرِّضُ بْنُ الْحَجَّاجِ - وَمَالًا مُتَفَرِّقًا فِي تُجَّارِ أَهْلِ
مَكَّةَ، فَأْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَا
بُدَّ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أَقُولَ. قَالَ: " قُلْ ". قَالَ
الْحَجَّاجُ: فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا قَدِمْتُ مَكَّةَ، وَجَدْتُ بِثَنِيَّةِ
الْبَيْضَاءِ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ يَسْتَمِعُونَ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُونَ
عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ
بَلَغَهُمْ أَنَّهُ قَدْ سَارَ إِلَى خَيْبَرَ، وَقَدْ عَرَفُوا أَنَّهَا قَرْيَةُ
الْحِجَازِ، رِيفًا وَمَنَعَةً وَرِجَالًا، وَهُمْ يَتَجَسَّسُونَ الْأَخْبَارَ
مِنَ الرُّكْبَانِ، فَلَمَّا رَأَوْنِي قَالُوا: الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ -
قَالَ: وَلَمْ يَكُونُوا عَلِمُوا بِإِسْلَامِي - عِنْدَهُ وَاللَّهِ الْخَبَرُ،
أَخْبِرْنَا يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الْقَاطِعَ قَدْ
سَارَ إِلَى خَيْبَرَ، وَهِيَ بَلَدُ يَهُودَ وَرِيفُ الْحِجَازِ. قَالَ: قُلْتُ:
قَدْ بَلَغَنِي ذَلِكَ، وَعِنْدِي مِنَ
الْخَبَرِ مَا يَسُرُّكُمْ. قَالَ: فَالْتَبَطُوا بِجَنْبَيْ نَاقَتِي يَقُولُونَ: إِيهٍ يَا حَجَّاجُ. قَالَ: قُلْتُ: هُزِمَ هَزِيمَةً لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهَا قَطُّ، وَقَدْ قُتِلَ أَصْحَابُهُ قَتْلًا لَمْ تَسْمَعُوا بِمِثْلِهِ قَطُّ، وَأُسِرَ مُحَمَّدٌ أَسْرًا، وَقَالُوا: لَا نَقْتُلُهُ حَتَّى نَبْعَثَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، فَيَقْتُلُوهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِمَنْ كَانَ أَصَابَ مِنْ رِجَالِهِمْ. قَالَ: فَقَامُوا وَصَاحُوا بِمَكَّةَ، وَقَالُوا: قَدْ جَاءَكُمُ الْخَبَرُ، وَهَذَا مُحَمَّدٌ، إِنَّمَا تَنْتَظِرُونَ أَنْ يُقْدَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ، فَيُقْتَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، قَالَ: قُلْتُ: أَعِينُونِي عَلَى جَمْعِ مَالِي بِمَكَّةَ وَعَلَى غُرَمَائِي، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقْدِمَ خَيْبَرَ، فَأُصِيبَ مِنْ فَلِّ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التُّجَّارُ إِلَى مَا هُنَالِكَ. قَالَ: فَقَامُوا فَجَمَعُوا لِي مَا كَانَ لِي كَأَحَثِّ جَمْعٍ سَمِعْتُ بِهِ. قَالَ: وَجِئْتُ صَاحِبَتِي فَقُلْتُ: مَالِي - وَكَانَ عِنْدَهَا مَالٌ مَوْضُوعٌ - فَلَعَلِّي أَلْحَقُ بِخَيْبَرَ فَأُصِيبَ مِنْ فُرَصِ الْبَيْعِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَنِي التُّجَّارُ. قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْخَبَرَ وَجَاءَهُ عَنِّي، أَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ إِلَى جَنْبِي وَأَنَا فِي خَيْمَةٍ مِنْ خِيَامِ التُّجَّارِ، فَقَالَ: يَا حَجَّاجُ، مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ ؟! قَالَ: قُلْتُ: وَهَلْ عِنْدَكَ حِفْظٌ لِمَا وَضَعْتُ عِنْدَكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: قُلْتُ: فَاسْتَأْخِرْ عَنِّي حَتَّى أَلْقَاكَ عَلَى خَلَاءٍ، فَإِنِّي فِي جَمْعِ مَالِي كَمَا تَرَى، فَانْصَرَفَ عَنِّي حَتَّى أَفْرُغَ. قَالَ: حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْ جَمْعِ كَلِّ شَيْءٍ كَانَ لِي بِمَكَّةَ، وَأَجْمَعْتُ الْخُرُوجَ، لَقِيتُ الْعَبَّاسَ فَقُلْتُ: احْفَظْ عَلَيَّ حَدِيثِي يَا أَبَا الْفَضْلِ، فَإِنِّي أَخْشَى الطَّلَبَ، ثَلَاثًا، ثُمَّ قُلْ مَا شِئْتَ. قَالَ: أَفْعَلُ. قُلْتُ: فَإِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ تَرَكْتُ ابْنَ أَخِيكَ عَرُوسًا عَلَى بِنْتِ مَلِكِهِمْ - يَعْنِي صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ - وَقَدِ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، وَانْتَثَلَ مَا فِيهَا، وَصَارَتْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ. قَالَ: مَا تَقُولُ يَا حَجَّاجُ ؟ ! قَالَ: قُلْتُ: إِي وَاللَّهِ، فَاكْتُمْ عَنِّي، وَلَقَدْ أَسْلَمْتُ، وَمَا جِئْتُ إِلَّا لِآخُذَ مَالِيَ، فَرَقًا مِنْ أَنْ أُغْلَبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَضَتْ ثَلَاثٌ فَأَظْهِرْ أَمْرَكَ، فَهُوَ وَاللَّهِ عَلَى مَا تُحِبُ قَالَ: حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، لَبِسَ الْعَبَّاسُ حُلَّةً لَهُ وَتَخَلَّقَ وَأَخْذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى الْكَعْبَةَ فَطَافَ بِهَا، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: يَا أَبَا الْفَضْلِ، هَذَا وَاللَّهِ التَّجَلُّدُ لِحَرِّ الْمُصِيبَةِ. قَالَ: كَلَّا وَاللَّهِ الَّذِي حَلَفْتُمْ بِهِ، لَقَدِ افْتَتَحَ مُحَمَّدٌ خَيْبَرَ، وَتُرِكَ عَرُوسًا عَلَى بِنْتِ مَلِكِهِمْ، وَأَحْرَزَ أَمْوَالَهُمْ وَمَا فِيهَا، وَأَصْبَحَتْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ. قَالُوا: مَنْ جَاءَكَ بِهَذَا الْخَبَرِ ؟! قَالَ: الَّذِي جَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ، وَلَقَدْ دَخَلَ عَلَيْكُمْ مُسْلِمًا وَأَخَذَ مَالَهُ، فَانْطَلَقَ لِيَلْحَقَ بِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ فَيَكُونُ مَعَهُ. فَقَالُوا: يَا لِعِبَادِ اللَّهِ، انْفَلَتَ عَدُوُّ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ عَلِمْنَا لَكَانَ لَنَا وَلَهُ شَأْنٌ. قَالَ: وَلَمْ يَنْشَبُوا أَنْ جَاءَهُمُ الْخَبَرُ بِذَلِكَ. هَكَذَا
ذَكَرَ
ابْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُنْقَطِعَةً.
وَقَدْ أَسْنَدَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَقَالَ: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثَنَا مَعْمَرٌ، سَمِعْتُ ثَابِتًا يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ
قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَيْبَرَ، قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي
بِمَكَّةَ مَالًا، وَإِنَّ لِي بِهَا أَهْلًا، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ آتِيَهُمْ،
أَفَأَنَا فِي حِلٍّ إِنْ أَنَا نِلْتُ مِنْكَ أَوْ قُلْتُ شَيْئًا ؟ فَأَذِنَ
لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ مَا شَاءَ،
فَأَتَى امْرَأَتَهُ حِينَ قَدِمَ فَقَالَ: اجْمَعِي لِي مَا كَانَ عِنْدَكِ،
فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ مِنْ غَنَائِمِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ،
فَإِنَّهُمْ قَدِ اسْتُبِيحُوا وَأُصِيبَتْ أَمْوَالُهُمْ. قَالَ: وَفَشَى ذَلِكَ
بِمَكَّةَ، فَانْقَمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَأَظْهَرَ الْمُشْرِكُونَ فَرَحًا
وَسُرُورًا. قَالَ: وَبَلَغَ الْخَبَرُ الْعَبَّاسَ فَعُقِرَ وَجَعَلَ لَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ. قَالَ مَعْمَرٌ: فَأَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ،
عَنْ مِقْسَمٍ قَالَ: فَأَخَذَ ابْنًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: قُثَمُ. وَاسْتَلْقَى
وَوَضَعَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
حَيَّ قُثَمْ حَيَّ قُثَمْ
شَبِيهُ ذِي الْأَنْفِ الْأَشَمْ
نَبِيِّ
ذِي النِّعَمْ
يُرْغِمُ مَنْ رَغِمْ
قَالَ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ: ثُمَّ أَرْسَلَ غُلَامًا لَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ
عِلَاطٍ: وَيْلَكَ ! مَا جِئْتَ بِهِ وَمَاذَا تَقُولُ ؟! فَمَا وَعَدَ اللَّهُ
خَيْرٌ مِمَّا جِئْتَ بِهِ! فَقَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ لِغُلَامِهِ:
أَقْرِئْ عَلَى أَبِي الْفَضْلِ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ فَلْيَخْلُ لِي فِي
بَعْضِ بُيُوتِهِ لِآتِيَهُ، فَإِنَّ الْخَبَرَ عَلَى مَا يَسُرُّهُ. فَجَاءَ
غُلَامُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ بَابَ الدَّارِ قَالَ: أَبْشِرْ يَا أَبَا الْفَضْلِ.
قَالَ: فَوَثَبَ الْعَبَّاسُ فَرِحًا حَتَّى قَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ،
فَأَخْبَرَهُ مَا قَالَ الْحَجَّاجُ فَأَعْتَقَهُ. قَالَ: ثُمَّ جَاءَهُ
الْحَجَّاجُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدِ افْتَتَحَ خَيْبَرَ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ، وَجَرَتْ سِهَامُ
اللَّهِ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَاصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ وَاتَّخَذَهَا لِنَفْسِهِ، وَخَيَّرَهَا أَنْ
يُعْتِقَهَا وَتَكُونُ زَوْجَةً، أَوْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا، فَاخْتَارَتْ أَنْ
يُعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَتَهُ. قَالَ: وَلَكِنِّي جِئْتُ لِمَالٍ كَانَ لِي
هَاهُنَا أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَهُ فَأَذْهَبَ بِهِ، فَاسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَذِنَ لِي أَنْ أَقُولَ مَا
شِئْتُ، فَأَخْفِ عَلَيَّ ثَلَاثًا، ثُمَّ اذْكُرْ مَا بَدَا لَكَ. قَالَ:
فَجَمَعَتِ امْرَأَتُهُ مَا كَانَ عِنْدَهَا مِنْ حُلِيٍّ وَمَتَاعٍ، فَجَمَعَتْهُ
وَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثٍ
أَتَى الْعَبَّاسُ امْرَأَةَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: مَا فَعَلُ زَوْجُكِ ؟
فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ
ذَهَبَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَتْ: لَا يُحْزِنُكَ اللَّهُ يَا أَبَا الْفَضْلِ، لَقَدْ شَقَّ عَلَيْنَا الَّذِي بَلَغَكَ. قَالَ: أَجَلْ، لَا يُحْزِنُنِي اللَّهُ، وَلَمْ يَكُنْ بِحَمْدِ اللَّهِ إِلَّا مَا أَحْبَبْنَا، فَتَحَ اللَّهُ خَيْبَرَ عَلَى رَسُولِهِ، وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللَّهِ، وَاصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَتْ لَكِ حَاجَةٌ فِي زَوْجِكِ فَالْحَقِي بِهِ. قَالَتْ: أَظُنُّكَ وَاللَّهِ صَادِقًا قَالَ: فَإِنِّي صَادِقٌ، وَالْأَمْرُ عَلَى مَا أَخْبَرْتُكِ. ثُمَّ ذَهَبَ حَتَّى أَتَى مَجَالِسَ قُرَيْشٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ إِذَا مَرَّ بِهِمْ: لَا يُصِيبُكَ إِلَّا خَيْرٌ يَا أَبَا الْفَضْلِ. قَالَ: لَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خَيْرٌ بِحَمْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ أَنَّ خَيْبَرَ فَتَحَهَا اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللَّهِ، وَاصْطَفَى صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ سَأَلَنِي أَنْ أُخْفِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا جَاءَ لِيَأْخُذَ مَالَهُ وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ شَيْءٍ هَاهُنَا، ثُمَّ يَذْهَبُ. قَالَ: فَرَدَّ اللَّهُ الْكَآبَةَ الَّتِي كَانَتْ بِالْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ كَانَ دَخَلَ بَيْتَهُ مُكْتَئِبًا حَتَّى أَتَى الْعَبَّاسَ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، فَسُرَّ الْمُسْلِمُونَ وَرَدَّ مَا كَانَ مِنْ كَآبَةٍ أَوْ غَيْظٍ أَوْ حُزْنٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ سِوَى النَّسَائِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، بِهِ نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ، عَنْ
مَعْمَرٍ،
بِهِ نَحْوَهُ.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ " أَنَّ
قُرَيْشًا كَانَ بَيْنَهُمْ تَرَاهُنٌ عَظِيمٌ وَتَبَايُعٌ، مِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ: يَظْهَرُ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَظْهَرُ
الْحَلِيفَانِ وَيَهُودُ خَيْبَرَ. وَكَانَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ السُّلَمِيُّ
ثُمَّ الْبَهْزِيُّ قَدْ أَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ خَيْبَرَ، وَكَانَ تَحْتَهُ أُمُّ شَيْبَةَ أُخْتُ
بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ مُكْثِرًا مِنَ
الْمَالِ، وَكَانَتْ لَهُ مَعَادِنُ أَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَلَمَّا ظَهَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَيْبَرَ، اسْتَأْذَنَ
الْحَجَّاجُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الذَّهَابِ
إِلَى مَكَّةَ يَجْمَعُ أَمْوَالَهُ، فَأَذِنَ لَهُ، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا
تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمِمَّا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ
قَوْلُ حَسَّانَ:
بِئْسَ مَا قَاتَلَتْ خَيَابِرُ عَمَّا جَمَّعُوا مِنْ مَزِارِعٍ وَنَخِيلِ
كَرِهُوا الْمَوْتَ فَاسْتُبِيحَ حِمَاهُمْ وَأَقَرُّوا فِعْلَ اللَّئِيمِ
الذَّلِيلِ
أَمِنَ
الْمَوْتِ يَهْرُبُونَ فِإِنَّ الْ مَوْتَ مَوْتَ الْهُزَالِ غَيْرُ جَمِيلِ
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ
الْأَنْصَارِيِّ:
وَنَحْنُ وَرَدْنَا خَيْبَرًا وَفُرُوضَهُ بِكُلِّ فَتًى عَارِي الْأَشَاجِعِ
مِذْوَدِ
جَوَادٍ لَدَى الْغَايَاتِ لَا وَاهِنِ الْقُوَى جَرِيءٍ عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي
كُلِّ مَشْهَدِ
عَظِيمِ رَمَادِ الْقِدْرِ فِي كُلِّ شَتْوَةٍ ضَرُوبٍ بِنَصْلِ الْمَشْرَفِيِّ
الْمُهَنَّدِ
يَرَى الْقَتْلَ مَدْحًا إِنْ أَصَابَ شَهَادَةً مِنَ اللَّهِ يَرْجُوهَا
وَفَوْزًا بِأَحْمَدَ
يَذُودُ وَيَحْمِي عَنْ ذِمَارِ مُحَمَدٍ وَيَدْفَعُ عَنْهُ بِاللِّسَانِ وَبِالْيَدِ
وَيَنْصُرُهُ مِنْ كُلِ أَمْرٍ يَرِيبُهُ يَجُودُ بِنَفْسٍ دُونَ نَفْسِ مُحَمَّدِ
يُصَدِّقُ بِالْإِنْبَاءِ بِالْغَيْبِ مُخْلِصًا يُرِيدُ بِذَاكَ الْعِزَّ
وَالْفَوْزَ فِي غَدِ
فَصْلٌ
فِي مُرُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْقُرَى
وَمُحَاصَرَتِهِ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ، وَمُصَالَحَةِ يَهُودِ تَيْمَاءَ عَلَى
مَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:خَرَجْنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى وَادِي
الْقُرَى، وَكَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ الْجُذَامِيُّ قَدْ وَهَبَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا أَسْوَدَ يُقَالُ
لَهُ: مِدْعَمٌ. وَكَانَ يُرَحِّلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَلَمَّا نَزَلْنَا بِوَادِي الْقُرَى انْتَهَيْنَا إِلَى يَهُودَ،
وَقَدِمَ إِلَيْهَا نَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَبَيْنَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِ اسْتَقْبَلَتْنَا
يَهُودُ بِالرَّمْيِ حِينَ نَزَلْنَا، وَلَمْ نَكُنْ عَلَى تَعْبِيَةٍ، وَهُمْ
يَصِيحُونَ فِي آطَامِهِمْ، فَيُقْبِلُ سَهْمٌ عَائِرٌ، فَأَصَابَ مِدْعَمًا
فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ بِالْجَنَّةِ. فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَلَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،
إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ
تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلَ عَلَيْهِ نَارًا ".
فَلَمَّا
سَمِعَ بِذَلِكَ النَّاسُ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ
نَارٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ،
عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَعَبَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ وَصَفَّهُمْ، وَدَفَعَ لِوَاءَهُ إِلَى سَعْدِ بْنِ
عُبَادَةَ، وَرَايَةً إِلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَرَايَةً إِلَى سَهْلِ
بْنِ حُنَيْفٍ، وَرَايَةً إِلَى عَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى
الْإِسْلَامِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ
وَحَقَنُوا دِمَاءَهُمْ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ. قَالَ: فَبَرَزَ رَجُلٌ
مِنْهُمْ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ
بَرَزَ آخَرُ فَبَرَزَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ آخَرُ، فَبَرَزَ
إِلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ، حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ
رَجُلًا كُلَّمَا قُتِلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، دَعَا مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ إِلَى
الْإِسْلَامِ، وَلَقَدْ كَانَتِ الصَّلَاةُ تَحْضُرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَيُصَلِّي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ، ثُمَّ يَعُودُ
فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ،
وَقَاتَلَهُمْ حَتَّى أَمْسَوْا، وَغَدَا عَلَيْهِمْ، فَلَمْ تَرْتَفِعِ الشَّمْسُ
قَيْدَ رُمْحٍ حَتَّى أَعْطَوْا بِأَيْدِيهِمْ، وَفَتَحَهَا عَنْوَةً، وَغَنَّمَهُمُ
اللَّهُ أَمْوَالَهُمْ، وَأَصَابُوا أَثَاثًا وَمَتَاعًا كَثِيرًا، وَأَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْقُرَى أَرْبَعَةَ
أَيَّامٍ، فَقَسَّمَ مَا أَصَابَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَتَرَكَ الْأَرْضَ
وَالنَّخِيلَ فِي أَيْدِي الْيَهُودِ
وَعَامَلَهُمْ
عَلَيْهَا، فَلَمَّا بَلَغَ يَهُودَ تَيْمَاءَ مَا وَطِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَفَدَكَ وَوَادِي الْقُرَى،
صَالَحُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِزْيَةِ،
وَأَقَامُوا بِأَيْدِيهِمْ أَمْوَالَهُمْ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ أَخْرَجَ يَهُودَ
خَيْبَرَ وَفَدَكَ، وَلَمْ يُخْرِجْ أَهْلَ تَيْمَاءَ وَوَادِي الْقُرَى،
لِأَنَّهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي أَرْضِ الشَّامِ، وَيَرَى أَنَّ مَا دُونَ وَادِي
الْقُرَى إِلَى الْمَدِينَةِ حِجَازٌ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الشَّامِ. قَالَ:
ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا
إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ خَيْبَرَ وَوَادِي الْقُرَى،
وَغَنَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أُمِّ عِمَارَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُرْفِ وَهُوَ يَقُولُ: لَا
تَطْرُقُوا النِّسَاءَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ قَالَتْ: فَذَهَبَ رَجُلٌ مِنَ
الْحَيِّ، فَطَرَقَ أَهْلَهُ فَوَجَدَ مَا يَكْرَهُ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ وَلَمْ
يُهِجْهُ، وَضَنَّ بِزَوْجَتِهِ أَنْ يُفَارِقَهَا، وَكَانَ لَهُ مِنْهَا
أَوْلَادٌ، وَكَانَ يُحِبُّهَا، فَعَصَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَرَأَى مَا يَكْرَهُ.
فَصْلٌ مُعَامَلَةُ النَّبِيِّ يَهُودَ خَيْبَرَ
ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا افْتَتَحَ خَيْبَرَ، عَامَلَ
يَهُودَهَا
عَلَيْهَا عَلَى شَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَرْعٍ. وَقَدْ
وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ: عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ. وَفِي بَعْضِهَا: وَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نُقِرُّكُمْ فِيهَا مَا شِئْنَا ".
وَفِي " السِّيَرِ " أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ رَوَاحَةَ، يَخْرُصُهَا عَلَيْهِمْ عِنْدَ اسْتِوَاءِ ثِمَارِهَا، ثُمَّ
يُضَمِّنُهُمْ إِيَّاهُ، فَلَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بِمُؤْتَةَ،
بَعَثَ جَبَّارَ بْنَ صَخْرٍ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَوْضِعُ تَحْرِيرِ أَلْفَاظِهِ
وَبَيَانِ طُرُقِهِ كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ مِنْ كِتَابِ " الْأَحْكَامِ
الْكَبِيرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: سَأَلْتُ ابْنَ شِهَابٍ: كَيْفَ كَانَ
إِعْطَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ خَيْبَرَ
نَخْلَهُمْ ؟ فَأَخْبَرَنِيأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً بَعْدَ الْقِتَالِ، وَكَانَتْ خَيْبَرُ مِمَّا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، خَمَّسَهَا وَقَسَمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ،
وَنَزَلَ مَنْ نَزَلَ مِنْ أَهْلِهَا عَلَى الْجَلَاءِ بَعْدَ الْقِتَالِ،
فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "
إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُ إِلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ، عَلَى أَنْ تَعْمَلُوهَا
وَتَكُونُ ثِمَارُهَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَأُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ
اللَّهُ ". فَقَبِلُوا وَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ يَعْمَلُونَهَا، وَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
رَوَاحَةَ فَيَقْسِمُ ثَمَرَهَا، وَيَعْدِلُ عَلَيْهِمْ فِي الْخَرْصِ، فَلَمَّا
تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقَرَّهَا
أَبُو
بَكْرٍ بِأَيْدِيهِمْ، عَلَى الْمُعَامَلَةِ الَّتِي عَامَلَهُمْ عَلَيْهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ
أَقَرَّهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ، ثُمَّ بَلَغَ
عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي
وَجَعِهِ الَّذِي قَبَضَهُ اللَّهُ فِيهِ: " لَا يَجْتَمِعَنَّ بِجَزِيرَةِ
الْعَرَبِ دِينَانِ " فَفَحَصَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى بَلَغَهُ
الثَّبَتُ، فَأَرْسَلَ إِلَى يَهُودَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِي فِي
إِجْلَائِكُمْ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يَجْتَمِعَنَّ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ
" فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَأْتِنِي بِهِ أُنْفِذْهُ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُ عَهْدٌ فَلْيَتَجَهَّزْ لِلْجَلَاءِ. فَأَجْلَى عُمَرُ مِنْ لَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُ عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْتُ: قَدِ ادَّعَى يَهُودُ خَيْبَرَ فِي أَزْمَانٍ مُتَأَخِّرَةٍ بَعْدَ
الثَّلَاثِمِائَةِ، أَنَّ بِأَيْدِيهِمْ كِتَابًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيهِ أَنَّهُ وَضَعَ الْجِزْيَةَ عَنْهُمْ، وَقَدِ
اغْتَرَّ بِهَذَا الْكِتَابِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى قَالَ بِإِسْقَاطِ
الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ، مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ خَيْرُونَ،
وَهُوَ كِتَابٌ مُزَوَّرٌ مَكْذُوبٌ مُفْتَعَلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَقَدْ بَيَّنْتُ
بُطْلَانَهُ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ، وَقَدْ تَعَرَّضَ
لِذِكْرِهِ وَإِبْطَالِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَصْحَابِ فِي كُتُبِهِمْ، كَابْنِ
الصَّبَّاغِ فِي " شَامِلِهِ "، وَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ فِي "
تَعْلِيقَتِهِ " وَصَنَّفَ فِيهِ ابْنُ الْمُسْلِمَةِ جُزْءًا مُنْفَرِدًا
لِلرَّدِّ عَلَيْهِ وَقَدْ تَحَرَّكُوا بِهِ بَعْدَ السَّبْعِمِائَةِ،
وَأَظْهَرُوا كِتَابًا فِيهِ نُسْخَةُ مَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي كُتُبِهِمْ،
وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ مَكْذُوبٌ، فَإِنَّ فِيهِ شَهَادَةَ
سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ،، وَقَدْ كَانَ مَاتَ
قَبْلَ
زَمَنِ خَيْبَرَ وَفِيهِ شَهَادَةُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَلَمْ
يَكُنْ أَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ، وَفِي آخِرِهِ: وَكَتَبَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ وَهَذَا لَحْنٌ وَخَطَأٌ، وَفِيهِ وَضْعُ الْجِزْيَةِ، وَلَمْ تَكُنْ
شُرِعَتْ بَعْدُ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا شُرِعَتْ أَوَّلَ مَا شُرِعَتْ وَأُخِذَتْ
مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ وَفَدُوا فِي حُدُودِ سَنَةِ تِسْعٍ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ،
وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ إِلَى أَمْوَالِنَا بِخَيْبَرَ نَتَعَاهَدُهَا،
فَلَمَّا قَدِمْنَا تَفَرَّقْنَا فِي أَمْوَالِنَا. قَالَ: فَعُدِيَ عَلَيَّ
تَحْتَ اللَّيْلِ وَأَنَا نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِي فَفُدِعَتْ يَدَايَ مِنْ
مِرْفَقَيَّ، فَلَمَّا اسْتَصْرَخْتُ عَلَى صَاحِبَيَّ، فَأَتَيَانِي
فَسَأَلَانِي: مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكَ ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي. فَأَصْلَحَا مِنْ
يَدِي، ثُمَّ قَدِمَا بِي عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: هَذَا عَمَلُ يَهُودَ. ثُمَّ
قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّا
نُخْرِجُهُمْ إِذَا شِئْنَا، وَقَدْ عَدَوْا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
فَفَدَعُوا يَدَيْهِ كَمَا بَلَغَكُمْ، مَعَ عَدْوَتِهِمْ عَلَى الْأَنْصَارِيِّ
قَبْلَهُ، لَا نَشُكُّ أَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَهُ، لَيْسَ لَنَا هُنَاكَ
عَدُوٌّ غَيْرُهُمْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مِنْ خَيْبَرَ فَلْيَلْحَقْ بِهِ،
فَإِنِّي مُخْرِجٌ يَهُودَ. فَأَخْرَجَهُمْ.
قُلْتُ: كَانَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سَهْمُهُ الَّذِي بِخَيْبَرَ، وَقَدْ
كَانَ وَقَفَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَشَرَطَ فِي الْوَقْفِ مَا أَشَارَ بِهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي
" الصَّحِيحَيْنِ " وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ النَّظَرَ فِيهِ لِلْأَرْشَدِ
فَالْأَرْشَدِ مِنْ بَنَاتِهِ وَبَنِيهِ.
قَالَ
الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ ": جِمَاعُ
أَبْوَابِ السَّرَايَا الَّتِي تُذْكَرُ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ وَقَبْلَ عُمْرَةِ
الْقَضِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ تَارِيخُ بَعْضِهَا لَيْسَ بِالْوَاضِحِ عِنْدَ أَهْلِ
الْمَغَازِي.
سَرِيَّةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى بَنِي فَزَارَةَ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، ثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ،
ثَنَا إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ أَبِي
بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَأَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَغَزَوْنَا بَنِيَ فَزَارَةَ، فَلَمَّا دَنَوْنَا
مِنَ الْمَاءِ، أَمَرَنَا أَبُو بَكْرٍ فَعَرَّسْنَا، فَلَمَّا صَلَّيْنَا
الصُّبْحَ أَمَرَنَا أَبُو بَكْرٍ فَشَنَنَّا الْغَارَةَ، فَقَتَلْنَا عَلَى
الْمَاءِ مَنْ قَتَلْنَا. قَالَ سَلَمَةُ: ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى عُنُقٍ مِنَ
النَّاسِ فِيهِ مِنَ الذُّرِّيَةِ وَالنِّسَاءِ، نَحْوَ الْجَبَلِ وَأَنَا أَعْدُو
فِي آثَارِهِمْ، فَخَشِيتُ أَنْ يَسْبِقُونِي إِلَى الْجَبَلِ، فَرَمَيْتُ
بِسَهْمٍ فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَبَلِ. قَالَ: فَجِئْتُ بِهِمْ
أَسُوقُهُمْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ حَتَّى أَتَيْتُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَفِيهِمُ
امْرَأَةٌ مِنْ فَزَارَةَ عَلَيْهَا قَشْعٌ مِنْ أَدَمِ، وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا
مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَبِ. قَالَ: فَنَفَّلَنِي أَبُو بَكْرٍ بِنْتَهَا. قَالَ:
فَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ بِتُّ فَلَمْ
أَكْشِفْ
لَهَا ثَوْبًا. قَالَ: فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي السُّوقِ، فَقَالَ لِي: " يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ
" قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي،
وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا. قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَنِي، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ لَقِيَنِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّوقِ فَقَالَ: "
يَا سَلَمَةُ، هَبْ لِي الْمَرْأَةَ، لِلَّهِ أَبُوكَ ". قَالَ: فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي وَمَا كَشَفْتُ لَهَا
ثَوْبًا. وَهِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَبَعَثَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَفِي أَيْدِيهِمْ
أُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَفَدَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، بِهِ.
سَرِيَّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى تُرْبَةٍ مِنْ
أَرْضِ هَوَازِنَ، وَرَاءَ مَكَّةَ بِأَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ
ثُمَّ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا، وَمَعَهُ دَلِيلٌ
مِنْ بَنِي هِلَالٍ، وَكَانُوا يَسِيرُونَ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُونَ النَّهَارَ،
فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى بِلَادِهِمْ هَرَبُوا مِنْهُمْ،
وَكَرَّ
عُمَرُ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ لَكَ فِي قِتَالِ
خَثْعَمٍ ؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمْ يَأْمُرْنِي إِلَّا بِقِتَالِ هَوَازِنَ فِي أَرْضِهِمْ.
سَرِيَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ إِلَى يُسَيْرِ بْنِ رِزَامٍ
الْيَهُودِيِّ
ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ
عُرْوَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ
فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا، فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، إِلَى يُسَيْرِ
بْنِ رِزَامٍ الْيَهُودِيِّ، حَتَّى أَتَوْهُ بِخَيْبَرَ، وَبَلَغَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَجْمَعُ غَطَفَانَ
لِيَغْزُوَهُ بِهِمْ، فَأَتَوْهُ فَقَالُوا: أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَعْمِلَكَ عَلَى خَيْبَرَ فَلَمْ يَزَالُوا
بِهِ حَتَّى تَبِعَهُمْ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا، مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ
رَدِيفٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا بَلَغُوا قَرْقَرَةَ ثِبَارَ، وَهِيَ مِنْ
خَيْبَرَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ، نَدِمَ يُسَيْرُ بْنُ رِزَامٍ، فَأَهْوَى
بِيَدِهِ إِلَى سَيْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، فَفَطِنَ لَهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، فَزَجَرَ بِعَيْرَهُ، ثُمَّ اقْتَحَمَ يَسُوقُ
بِالْقَوْمِ، حَتَّى إِذَا اسْتَمْكَنَ مِنْ يُسَيْرٍ، ضَرَبَ رِجْلَهُ
فَقَطَعَهَا،
وَاقْتَحَمَ
يُسَيْرٌ وَفِي يَدِهِ مِخْرَشٌ مِنْ شَوْحَطٍ، فَضَرَبَ بِهِ وَجْهَ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، فَشَجَّهُ شَجَّةً مَأْمُومَةً، وَانْكَفَأَ كُلُّ رَجُلٍ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَدِيفِهِ فَقَتَلَهُ، غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنَ
الْيَهُودِ أَعْجَزَهُمْ شَدًّا، وَلَمْ يُصَبْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ،
وَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَجَّةِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، فَلَمْ تَقِحْ وَلَمْ تُؤْذِهِ حَتَّى مَاتَ.
سَرِيَّةٌ أُخْرَى مَعَ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ
رَوَى مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا
إِلَى بَنِي مُرَّةَ فِي أَرْضِ فَدَكَ، فَاسْتَاقَ نَعَمَهُمْ، فَقَاتَلُوهُ
وَقَتَلُوا عَامَّةَ مَنْ مَعَهُ، وَصَبَرَ هُوَ يَوْمَئِذٍ صَبْرًا عَظِيمًا،
وَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ لَجَأَ إِلَى فَدَكَ، فَبَاتَ بِهَا عِنْدَ
رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ
الصَّحَابَةِ، فَذَكَرَ مِنْهُمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَأَبَا مَسْعُودٍ
الْبَدْرِيَّ، وَكَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَقْتَلَ أُسَامَةَ بْنِ
زَيْدٍ لِمِرْدَاسِ بْنِ نَهِيكٍ حَلِيفِ بَنِي مُرَّةَ، وَقَوْلُهُ حِينَ عَلَاهُ
بِالسَّيْفِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَنَّ الصَّحَابَةَ لَامُوهُ عَلَى
ذَلِكَ
حَتَّى سُقِطَ فِي يَدِهِ وَنَدِمَ عَلَى مَا فَعَلَ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ
الْقِصَّةَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي
سَلَمَةَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْكَلْبِيَّ إِلَى أَرْضِ
بَنِي مُرَّةَ، فَأَصَابَ مِرْدَاسَ بْنَ نَهِيكٍ حَلِيفًا لَهُمْ مِنَ
الْحُرَقَةِ، قَالَ: فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
قَالَ:أَدْرَكْتُهُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ - يَعْنِي مِرْدَاسَ بْنَ
نَهِيكٍ - فَلَمَّا شَهَرْنَا عَلَيْهِ السِّلَاحَ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَلَمْ نَنْزِعْ عَنْهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ، فَلَمَّا
قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَخْبَرْنَاهُ، فَقَالَ: " يَا أُسَامَةُ، مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ ؟ " فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا
مِنَ الْقَتْلِ. قَالَ: " فَمَنْ لَكَ يَا أُسَامَةُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ ؟ " فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا زَالَ يُرَدِّدُهَا عَلَيَّ
حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنَّ مَا مَضَى مِنْ إِسْلَامِي لَمْ يَكُنْ، وَأَنِّي
أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ وَلَمْ أَقْتُلْهُ. فَقُلْتُ: إِنِّي أُعْطِي اللَّهَ
عَهْدًا أَنْ لَا أَقْتُلُ رَجُلًا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَبَدًا.
فَقَالَ: " بَعْدِي يَا أُسَامَةُ ". فَقُلْتُ: بَعَدَكَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، أَنْبَأَنَا
حُصَيْنٌ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانِ قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ
قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ. قَالَ: فَصَبَّحْنَاهُمْ، وَكَانَ مِنْهُمْ رَجُلٌ
إِذَا أَقْبَلَ الْقَوْمُ كَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ
عَلَيْنَا،
وَإِذَا أَدْبَرُوا كَانَ حَامِيَتَهُمْ. قَالَ: فَغَشَيْتُهُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ
الْأَنْصَارِ، فَلَمَّا تُغَشَّيْنَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَكَفَّ
عَنْهُ الْأَنْصَارِيُّ وَقَتَلْتُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ
مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ " قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا مِنَ الْقَتْلِ. قَالَ: فَكَرَّرَهَا
عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ إِلَّا يَوْمَئِذٍ
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ مَكِيثٍ الْجُهَنِيِّ
قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ الْكَلْبِيَّ، كَلْبَ لَيْثٍ، إِلَى بَنِي الْمُلَوِّحِ
بِالْكَدِيدِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ، وَكُنْتُ فِي سَرِيَّتِهِ،
فَمَضَيْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْقَدِيدِ، لَقِينَا الْحَارِثَ بْنَ مَالِكِ
بْنِ الْبَرْصَاءِ اللَّيْثِيَّ، فَأَخَذْنَاهُ فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا جِئْتُ
لِأُسْلِمَ. فَقَالَ لَهُ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ
لِتُسْلِمَ، فَلَا يَضُرُّكَ رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى
غَيْرِ ذَلِكَ اسْتَوْثَقْنَا مِنْكَ. قَالَ: فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا وَخَلَّفَ
عَلَيْهِ رُوَيْجِلًا أَسْوَدَ كَانَ مَعَنَا، وَقَالَ: امْكُثْ مَعَهُ حَتَّى
نَمُرَّ عَلَيْكَ، فَإِنْ نَازَعَكَ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ. وَمَضَيْنَا حَتَّى
أَتَيْنَا بَطْنَ الْكَدِيدِ، فَنَزَلْنَا عَشِيَّةً بَعْدِ الْعَصْرِ،
فَبَعَثَنِي أَصْحَابِي إِلَيْهِ، فَعَمَدْتُ إِلَى تَلٍّ يُطْلِعُنِي عَلَى
الْحَاضِرِ فَانْبَطَحْتُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَخَرَجَ
رَجُلٌ
مِنْهُمْ، فَنَظَرَ فَرَآنِي مُنْبَطِحًا عَلَى التَّلِّ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ:
إِنِّي لَأَرَى سَوَادًا عَلَى هَذَا التَّلِّ مَا رَأَيْتُهُ فِي أَوَّلِ
النَّهَارِ، فَانْظُرِي لَا تَكُونُ الْكِلَابُ اجْتَرَّتْ بَعْضَ أَوْعِيَتِكِ ؟
فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا. قَالَ:
فَنَاوِلِينِي قَوْسِي وَسَهْمَيْنِ مِنْ نَبْلِي. فَنَاوَلَتْهُ، فَرَمَانِي
بِسَهْمٍ فِي جَبِينِي - أَوْ قَالَ: فِي جَنْبِي - فَنَزَعْتُهُ فَوَضَعْتُهُ
وَلَمْ أَتَحَرَّكْ، ثُمَّ رَمَانِي بِالْآخَرِ فَوَضَعَهُ فِي رَأْسِ مَنْكِبِي،
فَنَزَعْتُهُ فَوَضَعْتُهُ وَلَمْ أَتَحَرَّكْ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمَا
وَاللَّهِ لَقَدْ خَالَطَهُ سَهْمَايَ، وَلَوْ كَانَ رَبِيئَةً لَتَحَرَّكَ،
فَإِذَا أَصْبَحْتِ فَابْتَغِي سَهْمَيَّ فَخُذِيهِمَا، لَا تَمْضُغُهُمَا عَلَيَّ
الْكِلَابُ.
قَالَ: فَأَمْهَلْنَا، حَتَّى إِذَا رَاحَتْ رَوَايِحُهُمْ، وَحَتَّى احْتَلَبُوا
وَعَطَّنُوا وَسَكَنُوا، وَذَهَبَتْ عَتَمَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، شَنَنَّا عَلَيْهِمُ
الْغَارَةَ فَقَتَلْنَا وَاسْتَقْنَا النَّعَمَ، وَوَجَّهْنَا قَافِلِينَ بِهِ،
وَخَرَجَ صَرِيخُ الْقَوْمِ إِلَى قَوْمِهِمْ بِقُرْبِنَا. قَالَ: وَخَرَجْنَا
سِرَاعًا حَتَّى نَمُرَّ بِالْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ
وَصَاحِبِهِ، فَانْطَلَقْنَا بِهِ مَعَنَا، وَأَتَانَا صَرِيخُ النَّاسِ،
فَجَاءَنَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ إِلَّا بَطْنُ الْوَادِي مِنْ قُدَيْدٍ، بَعَثَ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ
شَاءَ مَاءً، مَا رَأَيْنَا قَبْلَ ذَلِكَ مَطَرًا وَلَا حَالًا، وَجَاءَ بِمَا
لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ وُقُوفًا
يَنْظُرُونَ إِلَيْنَا، مَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ
وَنَحْنُ نَجِدُّ بِهَا أَوْ نَحْدُوهَا - شَكَّ
النُّفَيْلِيُّ
- فَذَهَبْنَا سِرَاعًا حَتَّى أَسْنَدْنَا بِهَا فِي الْمَسْلَكِ، ثُمَّ
حَدِرْنَا عَنْهُ حَتَّى أَعْجَزْنَا الْقَوْمَ بِمَا فِي أَيْدِينَا. وَقَدْ
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، فَقَالَ فِي
رِوَايَتِهِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ غَالِبٍ. وَالصَّوَابُ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِإِسْنَادٍ آخَرَ، وَقَالَ فِيهِ:
وَكَانَ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا.
ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ سَرِيَّةَ بَشِيرِ بْنِ
سَعْدٍ أَيْضًا إِلَى نَاحِيَةِ خَيْبَرَ، فَلَقُوا جَمْعًا مِنَ الْعَرَبِ،
وَغَنِمُوا نَعَمًا كَثِيرًا، وَكَانَ بَعْثُهُ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ
بِإِشَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ مَعَهُ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ، وَدَلِيلُهُ حُسَيْلُ بْنُ
نُوَيْرَةَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ دَلِيلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ.
سَرِيَّةُ أَبِي حَدْرَدٍ إِلَى الْغَابَةِ
قَالَ يُونُسُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ مِنْ حَدِيثِ قِصَّةِ أَبِي
حَدْرَدٍ
وَغَزْوَتِهِ إِلَى الْغَابَةِ مَا حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي حَدْرَدٍ قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَأَصْدَقْتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. قَالَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى نِكَاحِي فَقَالَ: " كَمْ أَصْدَقْتَ ؟ " فَقُلْتُ: مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. فَقَالَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ! وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُمْ تَأْخُذُونَهَا مِنْ وَادٍ مَا زَادَ، وَاللَّهِ مَا عِنْدِي مَا أُعِينُكَ بِهِ ". فَلَبِثْتُ أَيَّامًا، ثُمَّ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ جُشَمَ بْنِ مُعَاوِيَةَ يُقَالُ لَهُ: رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ، أَوْ قَيْسُ بْنُ رِفَاعَةَ. فِي بَطْنٍ عَظِيمٍ مِنْ جُشَمَ، حَتَّى نَزَلَ بِقَوْمِهِ وَمَنْ مَعَهُ بِالْغَابَةِ، يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ قَيْسًا عَلَى مُحَارَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ ذَا اسْمٍ وَشَرَفٍ فِي جُشَمَ. قَالَ: فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: " اخْرُجُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ حَتَّى تَأْتُوا مِنْهُ بِخَبَرٍ وَعِلْمٍ ". وَقَدَّمَ لَنَا شَارِفًا عَجْفَاءَ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَحَدُنَا، فَوَاللَّهِ مَا قَامَتْ بِهِ ضَعْفًا، حَتَّى دَعَمَهَا الرِّجَالُ مِنْ خَلْفِهَا بِأَيْدِيهِمْ، حَتَّى اسْتَقَلَّتْ وَمَا كَادَتْ، وَقَالَ: " تَبَلَّغُوا عَلَى هَذِهِ " فَخَرَجْنَا وَمَعَنَا سِلَاحُنَا مِنَ النَّبْلِ وَالسُّيُوفِ، حَتَّى إِذَا جِئْنَا قَرِيبًا مِنَ الْحَاضِرِ مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَكَمَنْتُ فِي نَاحِيَةٍ، وَأَمَرْتُ صَاحِبَيَّ فَكَمَنَا فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى مِنْ حَاضِرِ الْقَوْمِ، وَقُلْتُ لَهُمَا: إِذَا سَمِعْتُمَانِي قَدْ كَبَّرْتُ وَشَدَدْتُ فِي الْعَسْكَرِ فَكَبِّرَا وَشُدَّا مَعِي. فَوَاللَّهِ إِنَّا لَكَذَلِكَ نَنْتَظِرُ أَنْ نَرَى غِرَّةً أَوْ نَرَى شَيْئًا، وَقَدْ غَشِيَنَا اللَّيْلُ حَتَّى ذَهَبَتَ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ رَاعٍ قَدْ سَرَّحَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ وَتَخَوَّفُوا عَلَيْهِ، فَقَامَ صَاحِبُهُمْ رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ، فَأَخَذَ
سَيْفَهُ
فَجَعَلَهُ فِي عُنُقِهِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَتَيَقَّنَنَّ أَمْرَ رَاعِينَا،
وَلَقَدْ أَصَابَهُ شَرٌّ. فَقَالَ نَفَرٌ مِمَّنْ مَعَهُ: وَاللَّهِ لَا
تَذْهَبُ، نَحْنُ نَكْفِيكَ. فَقَالَ: لَا يَذْهَبُ إِلَّا أَنَا. قَالُوا:
فَنَحْنُ مَعَكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَتْبَعُنِي مِنْكُمْ أَحَدٌ. وَخَرَجَ
حَتَّى يَمُرَّ بِي، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي نَفَحْتُهُ بِسَهْمٍ، فَوَضَعْتُهُ فِي
فُؤَادِهِ، فَوَاللَّهِ مَا تَكَلَّمَ، فَوَثَبْتُ إِلَيْهِ فَاحْتَزَزْتُ
رَأْسَهُ، ثُمَّ شَدَدَتُ نَاحِيَةَ الْعَسْكَرِ وَكَبَّرْتُ، وَشَدَّ صَاحِبَايَ
وَكَبَّرَا، فَوَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا النِّجَاءُ مِمَنْ كَانَ فِيهِ،
عِنْدَكَ عِنْدَكَ، بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ نِسَائِهِمْ
وَأَبْنَائِهِمْ وَمَا خَفَّ مَعَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَاسْتَقْنَا إِبِلًا
عَظِيمَةً وَغَنَمًا كَثِيرَةً، فَجِئْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجِئْتُ بِرَأْسِهِ أَحْمِلُهُ مَعِي، فَأَعْطَانِي
مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا فِي صَدَاقِي، فَجَمَعْتُ
إِلَيَّ أَهْلِي.
السَرِيَّةُ الَّتِي قَتَلَ فِيهَا مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ عَامِرَ بْنَ
الْأَضْبَطِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ،
عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:بَعَثَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِضَمٍ فِي نَفَرٍ
مِنَ
الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، أَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَمُحَلِّمُ
بْنُ جَثَّامَةَ بْنِ قَيْسٍ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَطْنِ إِضَمٍ،
مَرَّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيُّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ، مَعَهُ
مُتَيِّعٌ لَهُ، وَوَطْبٌ مِنْ لَبَنٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا بِتَحِيَّةِ
الْإِسْلَامِ، فَأَمْسَكْنَا عَنْهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ
فَقَتَلَهُ لِشَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَخَذَ بِعِيرَهُ
وَمُتَيِّعَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَنَزَلَ فِينَا الْقُرْآنُ: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا
تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ
عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ
كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( النِّسَاءِ: 94 ) وَهَكَذَا رَوَاهُ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنِ الْقَعْقَاعِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، سَمِعْتُ زِيَادَ
بْنَ ضُمَيْرَةَ بْنِ سَعْدٍ الضَّمْرِيَّ يُحَدِّثُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ،
عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، قَالَ
- وَكَانَا شَهِدَا حُنَيْنًا - قَالَ: فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الظُّهْرِ، فَقَامَ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَقَعَدَ فِيهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ يَطْلُبُ بِدَمِ عَامِرِ بْنِ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيِّ، وَهُوَ سَيِّدُ قَيْسٍ، وَجَاءَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ يَرُدُّ عَنْ مُحَلِّمِ بْنِ جَثَّامَةٍ وَهُوَ سَيِّدُ خِنْدِفٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمِ عَامِرٍ: " هَلْ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِنَّا الْآنَ خَمْسِينَ بَعِيرًا وَخَمْسِينَ إِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ؟ " فَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ وَاللَّهِ لَا أَدَعُهُ حَتَّى أُذِيقَ نِسَاءَهُ مِنَ الْحُزْنِ مِثْلَ مَا أَذَاقَ نِسَائِي. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ مُكَيْتِلٍ. وَهُوَ قَصْدٌ مِنَ الرِّجَالِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَجِدُ لِهَذَا الْقَتِيلِ مَثَلًا فِي غُرَّةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا كَغَنَمٍ وَرَدَتْ فَرُمِيَتْ أُولَاهَا فَنَفَرَتْ أُخْرَاهَا، اسْنُنِ الْيَوْمَ وَغَيِّرْ غَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ لَكَمَ أَنْ تَأْخُذُوا خَمْسِينَ بَعِيرًا الْآنَ وَخَمْسِينَ إِذَا رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ ؟ " فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى رَضُوا بِالدِّيَةِ، فَقَالَ قَوْمُ مُحَلِّمِ بْنِ جَثَّامَةَ: ائْتُوا بِهِ حَتَّى يَسْتَغْفِرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ طُوَالٌ ضَرْبَ اللَّحْمِ، فِي حُلَّةٍ قَدْ تَهَيَّأَ فِيهَا لِلْقَتْلِ، فَقَامَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ لَا تَغْفِرْ لِمُحَلِّمٍ ". قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَامَ وَإِنَّهُ لَيَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بِطَرَفٍ ثَوْبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: زَعَمَ قَوْمُهُ
أَنَّهُ
اسْتَغْفَرَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ
أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَرِ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ضُمَيْرَةَ، عَنْ
أَبِيهِ وَعَمِّهِ، فَذَكَرَ بَعْضَهُ. وَالصَّوَابُ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ضُمَيْرَةَ، عَنْ
أَبِيهِ وَجَدِّهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْحَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
ضُمَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ وَجَدَهُ، بِنَحْوِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ
يَقْبَلُوا الدِّيَةَ حَتَّى قَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَخَلَا بِهِمْ
وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قَيْسٍ، سَأَلَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتِيلًا تَتْرُكُونَهُ لِيُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ
فَمَنَعْتُمُوهُ إِيَّاهُ، أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَغْضَبَ عَلَيْكُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِهِ، أَوْ
يَلْعَنَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَلْعَنَكُمُ
اللَّهُ بِلَعْنَتِهِ لَكُمْ، وَاللَّهِ لَتُسْلِمُنَّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَآتِيَنَّ بِخَمْسِينَ مِنْ بَنِي
تَمِيمٍ كُلُّهُمْ يَشْهَدُونَ أَنَّ الْقَتِيلَ كَافِرٌ مَا صَلَّى قَطُّ،
فَلَأَطُلَّنَّ دَمَهُ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ لَهُمْ، أَخَذُوا الدِّيَةَ.
وَهَذَا مُنْقَطِعٌ مُعْضَلٌ.
وَقَدْ
رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ لَا يَتَّهِمُ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ،أَنَّ
مُحَلِّمًا لَمَّا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
قَالَ لَهُ: " أَمَّنْتَهُ بِاللَّهِ ثُمَّ قَتَلْتَهُ ؟! " ثُمَّ دَعَا
عَلَيْهِ. قَالَ الْحَسَنُ: فَوَاللَّهِ مَا مَكَثَ مُحَلِّمٌ إِلَّا سَبْعًا
حَتَّى مَاتَ، فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، ثُمَّ دَفَنُوهُ، فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ،
ثُمَّ دَفَنُوهُ، فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَرَضَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْحِجَارَةِ
حَتَّى وَارَوْهُ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: " إِنَّ الْأَرْضَ لَتَطَّابَقُ عَلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ،
وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يَعِظَكُمْ فِي حُرْمِ مَا بَيْنَكُمْ بِمَا
أَرَاكُمْ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُحَلِّمَ بْنَ جَثَّامَةَ مَبْعَثًا، فَلَقِيَهُمْ عَامِرُ
بْنُ الْأَضْبَطِ فَحَيَّاهُمْ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ - وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ
حِنَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ - فَرَمَاهُ مُحَلِّمٌ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَ
الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَكَلَّمَ
فِيهِ عُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ، فَقَالَ الْأَقْرَعُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سُنَّ
الْيَوْمَ وَغَيِّرْ غَدًا. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى تَذُوقَ نِسَاؤُهُ
مِنَ الثُّكْلِ مَا ذَاقَ نِسَائِي. فَجَاءَ مُحَلِّمٌ فِي بُرْدَيْنِ، فَجَلَسَ
بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ
لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا
غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ".
فَقَامَ
وَهُوَ يَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بِبُرْدَيْهِ، فَمَا مَضَتْ لَهُ سَابِعَةٌ حَتَّى
مَاتَ، فَدَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَجَاءُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: " إِنَّ الْأَرْضَ
تَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ صَاحِبِكُمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ
يَعِظَكُمْ مِنْ حُرْمَتِكُمْ ". ثُمَّ طَرَحُوهُ بَيْنَ صَدَفَيْ جَبَلٍ،
فَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا الْآيَةَ وَقَدْ
ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَرَوَاهُ شُعَيْبٌ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ
نَحْوَ هَذِهِ الْقِصَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ مُحَلِّمَ بْنَ
جَثَّامَةَ، وَلَا عَامِرَ بْنَ الْأَضْبَطِ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ
عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِنَحْوِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَالَ: وَفِيهِ نَزَلَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا الْآيَةَ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَعْنَاهَا فِي
" التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
سَرِيَّةُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ
ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعْدِ
بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى سَرِيَّةٍ، بَعَثَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا
لَهُ وَيُطِيعُوا. قَالَ: فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ فَقَالَ: اجْمَعُوا لِي
حَطَبًا. فَجَمَعُوا، فَقَالَ: أَوْقِدُوا نَارًا، فَأَوْقَدُوا، ثُمَّ قَالَ:
أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
تَسْمَعُوا لِي وَتُطِيعُوا ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَادْخُلُوهَا. قَالَ:
فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَقَالُوا: إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّارِ. قَالَ: فَسَكَنَ
غَضَبُهُ وَطُفِئَتِ النَّارُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: " لَوْ دَخَلُوهَا مَا
خَرَجُوا مِنْهَا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ وَهَذِهِ الْقِصَّةُ
ثَابِتَةٌ أَيْضًا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى بْنِ
مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا
عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي " التَّفْسِيرِ "
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
عُمْرَةُ
الْقَضَاءِ
وَيُقَالُ: الْقِصَاصِ. وَرَجَّحَهُ السُّهَيْلِيُّ. وَيُقَالُ: عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ.
فَالْأَوَّلُ قَضَاءٌ عَمَّا كَانَ أُحْصِرَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالثَّانِي
مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ( الْبَقَرَةِ: 194 )
وَالثَّالِثُ مِنَ الْمُقَاضَاةِ الَّتِي كَانَ قَاضَاهُمْ عَلَيْهَا، عَلَى أَنْ
يَرْجِعَ عَنْهُمْ عَامَهُ هَذَا، ثُمَّ يَأْتِي فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَلَا
يَدْخُلَ مَكَّةَ إِلَّا فِي جُلْبَانِ السِّلَاحِ، وَأَنْ لَا يُقِيمَ أَكْثَرَ
مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَهَذِهِ الْعُمْرَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْفَتْحِ " الْمُبَارَكَةِ: لَقَدْ صَدَقَ
اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا
تَخَافُونَ الْآيَةَ ( الْفَتْحِ: 27 ). وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا
مُسْتَقْصًى فِي كِتَابِنَا " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ.
وَهِيَ الْمَوْعُودُ بِهَافِي قَوْلِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ قَالَ لَهُ: أَلَمْ تَكُنْ تُحَدِّثُنَا أَنَّا
سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَالَ: " بَلَى أَفَأَخْبَرْتُكَ
أَنَّكَ تَأْتِيهِ عَامَكَ هَذَا ؟ " قَالَ: لَا. قَالَ: " فَإِنَّكَ
آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ وَهِيَ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ رَوَاحَةَ حِينَ دَخَلَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ، يَوْمَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَهُوَ يَقُولُ:
خَلُّوا
بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَأَوِيلِهِ كَمَا
ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
أَيْ هَذَا تَأْوِيلُ الرُّؤْيَا الَّتِي كَانَ رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَقَامَ بِهَا شَهْرَيْ رَبِيعٍ
وَجُمَادَيَيْنَ وَرَجَبًا وَشَعْبَانَ وَشَهْرَ رَمَضَانَ وَشَوَّالًا، يَبْعَثُ
فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ سَرَايَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فِي
الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ، مُعْتَمِرًا عُمْرَةَ
الْقَضَاءِ، مَكَانَ عُمْرَتِهِ الَّتِي صَدُّوهُ عَنْهَا - قَالَابْنُ هِشَامٍ:
وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُوَيْفَ بْنَ الْأَضْبَطِ الدُّئِلِيَّ -
وَيُقَالُ لَهَا: عُمْرَةُ الْقِصَاصِ، لِأَنَّهُمْ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ
مِنْ سَنَةِ سِتٍّ، فَاقْتَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْهُمْ، فَدَخَلَ مَكَّةَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ
الَّذِي صَدُّوهُ فِيهِ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ. بَلَغَنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ.
وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ فِي " مَغَازِيهِ ":
لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ
أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ وَبَعَثَ سَرَايَاهُ، حَتَّى اسْتَهَلَّ ذِي الْقِعْدَةِ،
فَنَادَى فِي النَّاسِ أَنْ يَتَجَهَّزُوا لِلْعُمْرَةِ. فَتَجَهَّزُوا وَخَرَجُوا
إِلَى مَكَّةَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِمَّنْ كَانَ صُدَّ
مَعَهُ فِي عُمْرَتِهِ
تِلْكَ،
وَهِيَ سَنَةُ سَبْعٍ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ خَرَجُوا عَنْهُ،
وَتَحَدَّثَتْ قُرَيْشٌ بَيْنَهَا أَنْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فِي عُسْرَةٍ
وَجَهْدٍ وَشِدَّةٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: صَفُّوا لَهُ عِنْدَ دَارِ النَّدْوَةِ، لِيَنْظُرُوا
إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ، اضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ، وَأَخْرَجَ عَضُدَهُ
الْيُمْنَى، ثُمَّ قَالَ: " رَحِمَ اللَّهُ امَرَأً أَرَاهُمُ الْيَوْمَ مِنْ
نَفْسِهِ قُوَّةً ". ثُمَّ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، وَخَرَجَ يُهَرْوِلُ،
وَيُهَرْوِلُ أَصْحَابُهُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا وَارَاهُ الْبَيْتُ مِنْهُمْ
وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ، مَشَى حَتَّى يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ
الْأَسْوَدَ، ثُمَّ هَرْوَلَ كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى سَائِرَهَا فَكَانَ
ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَظُنُّونَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ،
وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا
صَنَعَهَا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، لِلَّذِي بَلَغَهُ عَنْهُمْ، حَتَّى
حَجَّ حِجَّةَ الْوَدَاعِ، فَلَزِمَهَا، فَمَضَتِ السُّنَّةُ بِهَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادٌ، هُوَ
ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ،
فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَفْدٌ وَهَنَهُمْ حُمَّى
يَثْرِبَ.
فَأَمْرَهُمُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ
الثَّلَاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ
يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءَ
عَلَيْهِمْ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَزَادَ ابْنُ سَلَمَةَ - يَعْنِي
حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ - عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَامِهِمُ
الَّذِي اسْتَأْمَنَ قَالَ: " ارْمُلُوا ". لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ
قُوَّتَهُمْ، وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ قِبَلِ قُعَيْقِعَانَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ،
عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ. وَأَسْنَدَ
الْبَيْهَقِيُّ طَرِيقَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا سُفْيَانُ،
ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، سَمِعَ ابْنَ أَبِي أَوْفَى
يَقُولُ:لَمَّا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
سَتَرْنَاهُ مِنْ غِلْمَانِ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْهُمْ، أَنْ يُؤْذُوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ
عَلَى هَذَا الْمَقَامِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي
تِلْكَ الْعُمْرَةِ، دَخَلَهَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِخِطَامِ
نَاقَتِهِ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ خَلُّوا فَكُلُّ الْخَيْرِ فِي
رَسُولِهِ
يَا
رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ أَعْرِفُ حَقَّ اللَّهِ فِي قَبُولِهِ
نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ. إِلَى آخَرِ
الْأَبْيَاتِ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ. يَعْنِي يَوْمَ
صِفِّينَ. قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالدَّلِيلُ عَلَى
ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ إِنَّمَا أَرَادَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْمُشْرِكُونَ
لَمْ يُقِرُّوا بِالتَّنْزِيلِ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ عَلَى التَّأْوِيلِ مَنْ
أَقَرَّ بِالتَّنْزِيلِ.
وَفِيمَا قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْحَافِظَ الْبَيْهَقِيَّ رَوَى
مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ
يَدَيْهِ - وَفِي رِوَايَةٍ: وَهُوَ آخِذٌ بِغَرْزِهِ - وَهُوَ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ قَدْ نَزَّلَ الْرَحْمَنُ فِي
تَنْزِيلِهِ
بِأَنَّ خَيْرَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِهِ نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ
وَفِي رِوَايَةٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ:
خَلُّوا
بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَامَ
الْقَضِيَّةِ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ عَلَى نَاقَتِهِ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ
بِمِحْجَنِهِ - قَالَ هِشَامٌ: مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ - وَالْمُسْلِمُونَ
يَشْتَدُّونَ حَوْلَهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَقُولُ:
بِسْمِ الَّذِي لَا دِينَ إِلَّا دِينُهُ بِسْمِ الَّذِي مُحَمَّدٌ رَسُولُهُ
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِنْ عَامِ
الْحُدَيْبِيَةِ مُعْتَمِرًا، فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَهُوَ
الشَّهْرُ الَّذِي صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، حَتَّى
إِذَا بَلَغَ يَأْجَجَ وَضَعَ الْأَدَاةَ كُلَّهَا، الْحَجَفَ وَالْمَجَانَّ
وَالرِّمَاحَ وَالنَّبْلَ، وَدَخَلُوا بِسِلَاحِ الرَّاكِبِ، السُّيُوفِ، وَبَعَثَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ جَعْفَرَ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ إِلَى مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ
الْعَامِرِيَّةِ،
فَخَطَبَهَا عَلَيْهِ، فَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ، وَكَانَ تَحْتَهُ
أُخْتُهَا أُمُّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ، فَزَوَّجَهَا الْعَبَّاسُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: " اكْشِفُوا
عَنِ الْمَنَاكِبِ، وَاسْعَوْا فِي الطَّوَافِ ". لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ
جَلَدَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ، وَكَانَ يُكَايِدُهُمْ بِكُلِّ مَا اسْتَطَاعَ،
فَاسْتَكَفَّ أَهْلُ مَكَّةَ، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ،
يَنْظُرُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابِهِ، وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
يَرْتَجِزُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُتَوَشِّحًا بِالسَّيْفِ وَهُوَ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ أَنَا الشَّهِيدُ أَنَّهُ رَسُولُهُ
قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ فِي صُحُفٍ تُتْلَى عَلَى رَسُولِهِ
فَالْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ كَمَا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى
تَنْزِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
قَالَ: وَتَغَيَّبَ رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْظًا، وَحَنَقًا،
وَنَفَاسَةً، وَحَسَدًا، وَخَرَجُوا إِلَى الْخَنْدَمَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَأَقَامَ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَكَانَ
ذَلِكَ آخِرَ الْقَضِيَّةِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ مِنَ
الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَتَاهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ
الْعُزَّى، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسِ
الْأَنْصَارِ يَتَحَدَّثُ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَصَاحَ حُوَيْطِبُ بْنُ
عَبْدِ الْعُزَّى: نُنَاشِدُكَ اللَّهَ وَالْعَقْدَ لَمَا خَرَجْتَ مِنْ
أَرْضِنَا، فَقَدْ مَضَتِ الثَّلَاثُ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ كَذَبْتَ،
لَا أُمَّ لَكَ، لَيْسَ بِأَرْضِكَ وَلَا
بِأَرْضِ
آبَائِكَ، وَاللَّهِ لَا يَخْرُجُ. ثُمَّ نَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُهَيْلًا وَحُوَيْطِبًا فَقَالَ: " إِنِّي قَدْ نَكَحْتُ
فِيكُمُ امْرَأَةً، فَمَا يَضُرُّكُمْ أَنْ أَمْكُثَ حَتَّى أَدْخُلَ بِهَا،
وَنَصْنَعَ الطَّعَامَ فَنَأْكُلُ وَتَأْكُلُونَ مَعَنَا ؟ ". فَقَالُوا:
نُنَاشِدُكَ اللَّهَ وَالْعَقْدَ إِلَّا خَرَجْتَ عَنَّا. فَأَمَرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رَافِعٍ فَأَذَّنَ بِالرَّحِيلِ،
وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ بَطْنَ
سَرِفٍ، وَأَقَامَ الْمُسْلِمُونَ، وَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رَافِعٍ لِيَحْمِلَ مَيْمُونَةَ، وَأَقَامَ بِسَرِفٍ
حَتَّى قَدِمَتْ عَلَيْهِ مَيْمُونَةُ، وَقَدْ لَقِيَتْ مَيْمُونَةُ وَمَنْ
مَعَهَا عَنَاءً وَأَذًى مِنْ سُفَهَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَمِنْ صِبْيَانِهِمْ،
فَقَدِمَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَرِفٍ،
فَبَنَى بِهَا، ثُمَّ أَدْلَجَ، فَسَارَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَقَدَّرَ
اللَّهُ أَنْ يَكُونَ مَوْتُ مَيْمُونَةَ بِسَرَفٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِحِينٍ،
فَمَاتَتْ حَيْثُ بَنَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ ابْنَةِ حَمْزَةَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ، فِي تِلْكَ الْعُمْرَةِ: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ
وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَاعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ الَّذِي صُدَّ فِيهِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ
لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ نَحْوًا مِنْ
هَذَا السِّيَاقِ.
وَلِهَذَا السِّيَاقِ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ مِنْ أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَفِي
" صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ طَرِيقِ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ،
عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْبَيْتِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأَسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقَاضَاهُمْ
عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ، وَلَا يَحْمِلَ سِلَاحًا
إِلَّا
سُيُوفًا، وَلَا يُقِيمَ بِهَا إِلَّا مَا أَحَبُّوا، فَاعْتَمَرَ مِنَ الْعَامِ
الْمُقْبِلِ، فَدَخَلَهَا كَمَا كَانَ صَالَحَهُمْ، فَلَمَّا أَنْ أَقَامَ بِهَا
ثَلَاثًا أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ فَخَرَجَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ تَكُنْ هَذِهِ عُمْرَةَ قَضَاءٍ، وَإِنَّمَا
كَانَتْ شَرْطًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْتَمِرُوا مِنْ قَابِلٍ، فِي
الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُمْ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا النُّفَيْلِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، سَمِعْتُ أَبَا
حَاضِرٍ الْحِمْيَرِيَّ يُحَدِّثُ أَبِي مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ قَالَ: خَرَجْتُ
مُعْتَمِرًا عَامَ حَاصَرَ أَهْلُ الشَّامِ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، وَبَعَثَ
مَعِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي بِهَدْيٍ. قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى أَهْلِ
الشَّامِ، مَنَعُونَا أَنْ نَدْخُلَ الْحَرَمَ. قَالَ: فَنَحَرْتُ الْهَدْيَ
مَكَانِي، ثُمَّ أَحْلَلْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ
الْمُقْبِلِ خَرَجْتُ لِأَقْضِيَ عُمْرَتِي، فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ
فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: أَبْدِلِ الْهَدْيَ،فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُبْدِلُوا الْهَدْيَ الَّذِي
نَحَرُوا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو
دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَاضِرٍ عُثْمَانَ بْنِ حَاضِرٍ الْحِمْيَرِيِّ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا الْحَاكِمُ، أَنْبَأَنَا
الْأَصَمُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ
بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ:
كَانَ
أَبِي يَسْأَلُ كَثِيرًا: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَبْدَلَ هَدْيَهُ الَّذِي نَحَرَ، حِينَ صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ
الْبَيْتِ ؟ وَلَا يَجِدُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا، حَتَّى سَمِعْتُهُ يَسْأَلُ أَبَا
حَاضِرٍ الْحِمْيَرِيَّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ،
حَجَجْتُ عَامَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْحَصْرِ الْأَوَّلِ، فَأَهْدَيْتُ
هَدْيًا، فَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَحَرْتُ فِي الْحَرَمِ،
وَرَجَعْتُ إِلَى الْيَمَنِ، وَقُلْتُ: لِي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ. فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَجَجْتُ،
فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَسَأَلْتُهُ عَمَّا نَحَرْتُ: عَلَيَّ بَدَلَهُ أَمْ
لَا ؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَبْدِلْ،فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ قَدْ أَبْدَلُوا الْهَدْيَ الَّذِي نَحَرُوا عَامَ
صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَأَبْدَلُوا ذَلِكَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فَعَزَّتِ
الْإِبِلُ عَلَيْهِمْ، فَرَخَّصَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْبَقَرِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي غَانِمُ بْنُ أَبِي غَانِمٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاجِيَةَ بْنَ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيَّ عَلَى
هَدْيِهِ، يَسِيرُ بِالْهَدْيِ أَمَامَهُ، يَطْلُبُ الرَّعْيَ فِي الشَّجَرِ،
مَعَهُ أَرْبَعَةُ فِتْيَانٍ مِنْ أَسْلَمَ، وَقَدْ سَاقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ سِتِّينَ بَدَنَةً.
فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ صَاحِبِ الْبُدْنِ أَسُوقُهَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُلَبِّي وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ يُلَبُّونَ، وَمَضَى مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ
بِالْخَيْلِ إِلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ، فَيَجِدُ بِهَا نَفَرًا مِنْ
قُرَيْشٍ، فَسَأَلُوا مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَبِّحُ هَذَا الْمَنْزِلَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَرَأَوْا سِلَاحًا كَثِيرًا مَعَ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، فَخَرَجُوا سِرَاعًا حَتَّى أَتَوْا قُرَيْشًا، فَأَخْبَرُوهُمْ بِالَّذِي رَأَوْا مِنَ السِّلَاحِ وَالْخَيْلِ، فَفَزِعَتْ قُرَيْشٌ وَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَحْدَثْنَا حَدَثًا، وَإِنَّا عَلَى كِتَابِنَا وَهُدْنَتِنَا، فَفِيمَ يَغْزُونَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ ؟ وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ الظَّهْرَانِ، وَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّلَاحَ إِلَى بَطْنِ يَأْجَجَ، حَيْثُ يَنْظُرُ إِلَى أَنْصَابِ الْحَرَمِ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ مِكْرَزَ بْنَ حَفْصِ بْنِ الْأَحْنَفِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، حَتَّى لَقُوهُ بِبَطْنِ يَأْجَجَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ وَالْهَدْيِ وَالسِّلَاحِ، قَدْ تَلَاحَقُوا، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، مَا عُرِفْتَ صَغِيرًا وَلَا كَبِيرًا بِالْغَدْرِ، تَدْخُلُ بِالسِّلَاحِ فِي الْحَرَمِ عَلَى قَوْمِكَ، وَقَدْ شَرَطْتَ لَهُمْ أَنْ لَا تَدْخُلَ إِلَّا بِسِلَاحِ الْمُسَافِرِ، السُّيُوفِ فِي الْقُرُبِ ؟! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَا أُدْخِلُ عَلَيْهِمُ السِّلَاحَ ". فَقَالَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ: هَذَا الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ، الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ. ثُمَّ رَجَعَ سَرِيعًا بِأَصْحَابِهِ إِلَى مَكَّةَ فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَا يَدْخُلُ بِسِلَاحٍ، وَهُوَ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي شَرَطَ لَكُمْ. فَلَمَّا أَنْ جَاءَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ يُخْبِرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَخَلَّوْا مَكَّةَ، وَقَالُوا: لَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ وَلَا إِلَى أَصْحَابِهِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَدْيِ أَمَامَهُ حَتَّى حُبِسَ بِذِي طُوًى، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ، وَهُمْ مُحْدِقُونَ بِهِ يُلَبُّونَ، وَهُمْ مُتَوَشِّحُونَ السُّيُوفَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى ذِي طُوًى، وَقَفَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ، وَالْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الَّتِي تُطْلِعُهُ عَلَى الْحَجُونِ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ، وَابْنُ رَوَاحَةَ آخِذٌ بِزِمَامِهَا، وَهُوَ يَرْتَجِزُ
بِشِعْرِهِ
وَيَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ
إِلَى آخِرِهِ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:قَدِمَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ
رَابِعَةٍ - يَعْنِي مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ - فَقَالَ
الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَفْدٌ قَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى
يَثْرِبَ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ الثَّلَاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ،
وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ
عَلَيْهِمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، ثَنَا
إِسْمَاعِيلُ، يَعْنِي ابْنَ زَكَرِيَّا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ،
عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ فِي عُمْرَتِهِ،
بَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ
قُرَيْشًا تَقُولُ: مَا يَتَبَاعَثُونَ مِنَ الْعَجَفِ. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: لَوِ
انْتَحَرْنَا مِنْ ظَهْرِنَا، فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهِ، وَحَسَوْنَا مِنْ
مَرَقِهِ، أَصْبَحْنَا غَدًا حِينَ نَدْخُلُ عَلَى الْقَوْمِ وَبِنَا جَمَامَةٌ.
فَقَالَ: " لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنِ اجْمَعُوا لِي مِنْ أَزْوَادِكُمْ
".
فَجَمَعُوا
لَهُ، وَبَسَطُوا الْأَنْطَاعَ، فَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوا، وَحَثَا كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي جِرَابِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَقَعَدَتْ قُرَيْشٌ نَحْوَ الْحِجْرِ،
فَاضْطَبَعَ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ: " لَا يَرَى الْقَوْمُ فِيكُمْ
غَمِيزَةً ". فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ رَمَلَ، حَتَّى إِذَا تَغَيَّبَ
بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مَشَى إِلَى الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ:
مَا يَرْضَوْنَ بِالْمَشْيِ، أَمَا إِنَّهُمْ لَيَنْقُزُونَ نَقْزَ الظِّبَاءِ!
فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، فَكَانَتْ سُنَّةً قَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ:
وَأَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ
هَذَا الْوَجْهِ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا أَبُو سَلَمَةَ مُوسَى، ثَنَا حَمَّادٌ - يَعْنِي
ابْنَ سَلَمَةَ - أَنْبَأَنَا أَبُو عَاصِمٍ الْغَنَوِيُّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ
قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: يَزْعُمُ قَوْمُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَمَلَ بِالْبَيْتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ.
فَقَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا. قُلْتُ: مَا صَدَقُوا وَمَا كَذَبُوا ؟! قَالَ:
صَدَقُوا، رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَبُوا
لَيْسَ بِسُنَّةٍ، إِنَّ قُرَيْشًا زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَتْ: دَعُوا
مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ حَتَّى يَمُوتُوا مَوْتَ النَّغَفِ. فَلَمَّا صَالَحُوهُ
عَلَى أَنْ يَجِيئُوا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيُقِيمُوا بِمَكَّةَ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ قِبَلِ قُعَيْقِعَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: " ارْمُلُوا بِالْبَيْتِ ثَلَاثًا
". قَالَ: وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ
حَدِيثِ
سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
حُسَيْنٍ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبْجَرَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ
أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِهِ نَحْوَهُ.
وَكَوْنُ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ سُنَّةً مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، فَإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ فِي عُمْرَةِ
الْقَضَاءِ، وَفِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ أَيْضًا، كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ
أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَهُ. وَثَبَتَ فِي حَدِيثِ
جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَمَلَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ فِي الطَّوَافِ. وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ: فِيمَ الرَّمَلَانُ وَقَدْ أَطَّأَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ ؟ وَمَعَ
هَذَا لَا نَتْرُكُ شَيْئًا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَمَوْضِعُ تَقْرِيرِ هَذَا كِتَابُ " الْأَحْكَامِ ".
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا يَرَى ذَلِكَ سُنَّةً، كَمَا
ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:إِنَّمَا
سَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لِيُرِيَ
الْمُشْرِكِينَ
قُوَّتَهُ. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نُسُكَهُ فِي الْقَضَاءِ، دَخَلَ الْبَيْتَ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِ حَتَّى
أَذَّنَ بِلَالٌ الظُّهْرَ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ
أَبِي جَهْلٍ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أَبَا الْحَكَمِ حَيْثُ لَمْ يَسْمَعْ
هَذَا الْعَبْدَ يَقُولُ مَا يَقُولُ. وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ أَبِي قَبْلَ أَنْ يَرَى هَذَا. وَقَالَ
خَالِدُ بْنُ أَسِيدٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ أَبِي وَلَمْ يَشْهَدْ
هَذَا الْيَوْمَ، حِينَ يَقُومُ بِلَالُ ابْنُ أُمِّ بِلَالٍ يَنْهَقُ فَوْقَ
الْكَعْبَةِ. وَأَمَّا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَرِجَالٌ مَعَهُ، لَمَّا سَمِعُوا
بِذَلِكَ غَطَّوْا وُجُوهَهُمْ. قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: قَدْ أَكْرَمَ
اللَّهُ أَكْثَرَهُمْ بِالْإِسْلَامِ.
قُلْتُ: كَذَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ، أَنَّ هَذَا
كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي عَامِ
الْفَتْحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا
قِصَّةُ تَزْوِيجِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بِمَيْمُونَةَ
فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ
الْحَارِثِ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ وَهُوَ حَرَامٌ، وَكَانَ الَّذِي زَوَّجَهُ
إِيَّاهَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَانَتْ
جَعَلَتْ أَمْرَهَا إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ الْفَضْلِ، فَجَعَلَتْ أُمُّ الْفَضْلِ
أَمْرَهَا إِلَى زَوْجِهَا الْعَبَّاسِ، فَزَوَّجَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَتْ إِلَيْهَا خِطْبَةُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا وَهِيَ رَاكِبَةٌ بَعِيرًا
قَالَتِ: الْجَمَلُ وَمَا عَلَيْهِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. قَالَ: وَفِيهَا نَزَلَتِ الْآيَةُ: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ
وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا
خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ( الْأَحْزَابِ: 50 ).
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ
مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَمَاتَتْ بِسَرَفٍ.
قَالَ
السُّهَيْلِيُّ: وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَسْوَدِ
يَتِيمِ عُرْوَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ
مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، قَالَ: وَتَأَوَّلُوا رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ
الْأُولَى أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا، أَيْ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ، كَمَا قَالَ
الشَّاعِرُ:
قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا فَدَعَا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ
مَخْذُولَا
أَيْ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ مُتَظَافِرَةٌ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا قَوْلُهُ: تَزَوَّجَهَا
وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَقَدْ كَانَ فِي شَهْرِ ذِي
الْقَعْدَةِ أَيْضًا، وَهُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ:
قَالَ لِيَ الثَّوْرِيُّ: لَا تَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ،
أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍأَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. قَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ: رَوَى سُفْيَانُ
الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَابْنِ خُثَيْمٍ،
عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ
خُثَيْمٍ فَحَدَّثَنَا هَاهُنَا - يَعْنِي بِالْيَمَنِ - وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرٍو
فَحَدَّثَنَا ثَمَّ - يَعْنِي بِمَكَّةَ - وَأَخْرَجَاهُ فِي "
الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِهِ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ،
أَنْبَأَنَا عَطَاءٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: وَهِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِنْ كَانَتْ
خَالَتَهُ، مَا تَزَوَّجَهَا إِلَّا بَعْدَ مَا أَحَلَّ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي ثِقَةٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، يَزْعُمُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ
مُحْرِمٌ. فَذَكَرَ كَلِمَتَهُ: إِنَّمَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، فَكَانَ الْحِلُّ وَالنِّكَاحُ جَمِيعًا، فَشُبِّهَ
ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ.
وَرَوَى
مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ
الْعَامِرِيِّ،عَنْ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ:
تُزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ
حَلَالَانِ بِسَرِفٍ. لَكِنْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هَذَا الْحَدِيثَ،
عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ مُرْسَلًا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ،
أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَصْفَهَانِيُّ الزَّاهِدُ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي،
ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، ثَنَا مَطَرٌ
الْوَرَّاقُ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ
يَسَارٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ:تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ،
وَكُنْتُ الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا، وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، بِهِ.
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ
حَمَّادٍ، عَنْ مَطَرٍ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ
مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ رَبِيعَةَ
مُرْسَلًا.
قُلْتُ: وَكَانَتْ وَفَاتُهَا بِسَرِفٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَيُقَالُ:
سَنَةَ سِتِّينَ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
ذِكْرُ
خُرُوجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ
عُمْرَتِهِ
قَدْ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا
إِلَيْهِ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ
لِيَرْحَلَ عَنْهُمْ، كَمَا وَقَعَ بِهِ الشَّرْطُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ أَنْ
يَعْمَلَ وَلِيمَةَ عُرْسِهِ بِمَيْمُونَةَ عِنْدَهُمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ
تَأْلِيفَهُمْ بِذَلِكَ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا: بَلِ اخْرُجْ عَنَّا.
فَخَرَجَ. وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ
إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ:اعْتَمَرَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ
أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ، حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمُوا بِهَا
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَتَبُوا الْكِتَابَ، كَتَبُوا: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. قَالُوا: لَا نُقِرُّ بِهَذَا، لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ
رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ شَيْئًا، وَلَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ. قَالَ: " أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ ". ثُمَّ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: " امْحُ رَسُولَ
اللَّهِ ". قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحُوكَ أَبَدًا. فَأَخَذَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ، وَلَيْسَ يُحْسِنُ
يَكْتُبُ، فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
لَا يُدْخِلُ مَكَّةَ إِلَّا السَّيْفَ فِي الْقِرَابِ، وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ
أَهْلِهَا بِأَحَدٍ أَرَادَ أَنْ يَتْبَعَهُ،
وَأَنْ
لَا يَمْنَعَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا. فَلَمَّا
دَخَلَهَا وَمَضَى الْأَجَلُ، أَتَوْا عَلِيًّا فَقَالُوا: قُلْ لِصَاحِبِكَ:
اخْرُجْ عَنَّا، فَقَدْ مَضَى الْأَجَلُ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبِعَتْهُ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي: يَا عَمُّ، يَا
عَمُّ. فَتَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: دُونَكِ
ابْنَةَ عَمِّكِ، فَحَمَلَتْهَا، فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ،
فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَخَذْتُهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي. وَقَالَ جَعْفَرٌ:
ابْنَةُ عَمِّي، وَخَالَتُهَا تَحْتِي. وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي. فَقَضَى
بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا وَقَالَ: "
الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ ". وَقَالَ لِعَلِيٍّ: " أَنْتَ
مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ ". وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: " أَشْبَهْتَ خَلْقِي
وَخُلُقِي " وَقَالَ لِزَيْدٍ: " أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا ".
قَالَ عَلِيٌّ: أَلَا تَتَزَوَّجُ ابْنَةَ حَمْزَةَ ؟ قَالَ: " إِنَّهَا
ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ.
وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ قِصَّةَ ابْنَةِ حَمْزَةَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ
أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ،أَنَّ عُمَارَةَ ابْنَةَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأُمَّهَا
سَلْمَى بِنْتُ عُمَيْسٍ، كَانَتْ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " عَلَامَ نَتْرُكُ
ابْنَةَ عَمِّنَا يَتِيمَةً بَيْنَ ظَهَرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ ؟ فَلَمْ يَنْهَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِخْرَاجِهَا، فَخَرَجَ بِهَا،
فَتَكَلَّمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَكَانَ وَصِيَّ حَمْزَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا حِينَ آخَى بَيْنَ
الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا، ابْنَةُ أَخِي. فَلَمَّا سَمِعَ
بِذَلِكَ جَعْفَرٌ قَالَ: الْخَالَةُ وَالِدَةٌ، وَأَنَا أَحَقُّ بِهَا لِمَكَانِ
خَالَتِهَا عِنْدِي أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَقَالَ عَلِيٌّ: أَلَا أَرَاكُمْ
تَخْتَصِمُونَ! هِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَأَنَا أَخْرَجْتُهَا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ
الْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ
لَكُمْ
إِلَيْهَا سَبَبٌ دُونِي، وَأَنَا أَحَقُّ بِهَا مِنْكُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا أَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، أَمَّا
أَنْتَ يَا زَيْدُ فَمَوْلَى اللَّهِ وَمَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَأَمَّا أَنْتَ
يَا عَلِيُّ فَأَخِي وَصَاحِبِي، وَأَمَّا أَنْتَ يَا جَعْفَرُ فَتُشْبِهُ خَلْقِي
وَخُلُقِي، وَأَنْتَ يَا جَعْفَرُ أَوْلَى بِهَا، تَحْتَكَ خَالَتُهَا، وَلَا
تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَلَى عَمَّتِهَا " فَقَضَى
بِهَا لِجَعْفَرٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ:فَلَمَّا قَضَى بِهَا لِجَعْفَرٍ، قَامَ جَعْفَرٌ فَحَجَلَ
حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " مَا
هَذَا يَا جَعْفَرُ ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَانَ النَّجَاشِيُّ
إِذَا أَرْضَى أَحَدًا، قَامَ فَحَجَلَ حَوْلَهُ. فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَزَوَّجْهَا. فَقَالَ: " ابْنَةُ أَخِي مِنَ
الرَّضَاعَةِ ". فَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " هَلْ جَزَيْتُ سَلَمَةَ ؟.
قُلْتُ: لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ هُوَ الَّذِي زَوَّجَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمِّهِ أُمِّ سَلَمَةَ،
لِأَنَّهُ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ أَخِيهِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي
الْحِجَّةِ، وَتَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ تِلْكَ الْحِجَّةَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْعُمْرَةِ، فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ( الْفَتْحِ: 27 ) يَعْنِي خَيْبَرَ.
فَصْلٌ
سَرِيَّةُ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيِّ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ
ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا سَرِيَّةَ ابْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيِّ
إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ عَنِ الْوَاقِدِيِّ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لَمَّا
رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمْرَةِ
الْقَضِيَّةِ، رَجَعَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ، فَبَعَثَ ابْنَ
أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيَّ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا، فَخَرَجَ إِلَى بَنِي
سُلَيْمٍ، وَكَانَ عَيْنُ بَنِي سُلَيْمٍ مَعَهُ، فَلَمَّا فَصَلَ مِنَ
الْمَدِينَةِ، خَرَجَ الْعَيْنُ إِلَى قَوْمِهِ، فَحَذَّرَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ،
فَجَمَعُوا جَمْعًا كَثِيرًا، وَجَاءَهُمُ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ وَالْقَوْمُ
مُعِدُّونَ، فَلَمَّا أَنْ رَآهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَوْا جَمْعَهُمْ، دَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ،
فَرَشَقُوهُمْ بِالنَّبْلِ وَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَهُمْ، وَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا
إِلَى مَا دَعَوْتُمْ إِلَيْهِ، فَرَمَوْهُمْ سَاعَةً، وَجَعَلَتِ الْأَمْدَادُ
تَأْتِي، حَتَّى أَحْدَقُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَقَاتَلَ الْقَوْمُ
قِتَالًا شَدِيدًا، حَتَّى قُتِلَ عَامَّتُهُمْ، وَأُصِيبَ ابْنُ أَبِي
الْعَوْجَاءِ بِجِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَتَحَامَلَ حَتَّى رَجَعَ إِلَى
الْمَدِينَةِ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ
شَهْرِ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ.
فَصْلٌ
رَدُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَتَهُ زَيْنَبَ
عَلَى زَوْجِهَا
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - يَعْنِي سَنَةَ
سَبْعٍ - رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَتَهُ
زَيْنَبَ عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ - وَقَدْ قَدَّمْنَا
الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ - وَفِيهَا قَدِمَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ مِنْ
عِنْدِ الْمُقَوْقِسِ وَمَعَهُ مَارِيَةُ وَسِيرِينُ، وَقَدْ أَسْلَمَتَا فِي
الطَّرِيقِ، وَغُلَامٌ خَصِيٌّ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا اتَّخَذَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْبَرَهُ دَرَجَتَيْنِ وَمَقْعَدَهُ.
قَالَ: وَالثَّبَتُ عِنْدَنَا أَنَّهُ عُمِلَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ.
بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ
سَنَةُ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ ف
فَصْلٌ فِي إِسْلَامِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
وَعُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَكَانَ قُدُومُهُمْ
أَوَائِلَ سَنَةِ ثَمَانٍ، عَلَى مَا سَيَأْتِي
قَدْ تَقَدَّمَ طَرَفٌ مِنْ ذَلِكَ، فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ
مَقْتَلِ أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ
الْهِجْرَةِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا بَعْدَ
عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، فَرَوَى مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ
الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ كُنْتُ
لِلْإِسْلَامِ مُجَانِبًا
مُعَانِدًا حَضَرْتُ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَنَجَوْتُ، ثُمَّ حَضَرْتُ أُحُدًا فَنَجَوْتُ، ثُمَّ حَضَرْتُ الْخَنْدَقَ فَنَجَوْتُ، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَمْ أُوضِعُ! وَاللَّهِ لَيَظْهَرَنَّ مُحَمَّدٌ عَلَى قُرَيْشٍ. فَلَحِقْتُ بِمَالِي بِالْوَهْطِ، وَأَقْلَلْتُ مِنَ النَّاسِ - أَيْ مِنْ لِقَائِهِمْ - فَلَمَّا حَضَرَ الْحُدَيْبِيَةُ، وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصُّلْحِ، وَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ إِلَى مَكَّةَ، جَعَلْتُ أَقُولُ: يَدْخُلُ مُحَمَّدٌ قَابِلًا مَكَّةَ بِأَصْحَابِهِ، مَا مَكَّةُ بِمَنْزِلٍ وَلَا الطَّائِفُ، وَلَا شَيْءَ خَيْرٌ مِنَ الْخُرُوجِ. وَأَنَا بَعْدُ نَاءٍ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَأَرَى لَوْ أَسْلَمَتْ قُرَيْشٌ كُلُّهَا لَمْ أُسْلِمْ، فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَجَمَعْتُ رِجَالًا مِنْ قَوْمِي، وَكَانُوا يَرَوْنَ رَأْيِي، وَيَسْمَعُونَ مِنِّي، وَيُقَدِّمُونَنِي فِيمَا نَابَهُمْ، فَقُلْتُ لَهُمْ: كَيْفَ أَنَا فِيكُمْ ؟ قَالُوا: ذُو رَأْيِنَا وَمِدْرَهُنَا فِي يُمْنِ نَقِيبَةٍ وَبَرَكَةِ أَمْرٍ، قَالَ: قُلْتُ: تَعْلَمُونَ أَنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ أَمْرًا يَعْلُو الْأُمُورَ عُلُوًّا مُنْكَرًا، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا. قَالُوا: وَمَا هُوَ ؟ قُلْتُ: نَلْحَقُ بِالنَّجَاشِيِّ فَنَكُونُ مَعَهُ، فَإِنْ يَظْهَرْ مُحَمَّدٌ كُنَّا عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، فَنَكُونُ تَحْتَ يَدِ النَّجَاشِيِّ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدِ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ تَظْهَرْ قُرَيْشٌ فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عَرَفُوا، قَالُوا: هَذَا الرَّأْيُ. قَالَ: قُلْتُ: فَاجْمَعُوا مَا نَهْدِيهِ لَهُ. وَكَانَ أَحَبَّ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الْأَدَمُ، فَجَمَعْنَا أَدَمًا كَثِيرًا، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَوَاللَّهِ إِنَّا
لِعِنْدَهُ إِذْ جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَعَثَهُ بِكِتَابٍ كَتَبَهُ، يُزَوِّجُهُ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، وَلَوْ قَدْ دَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَسَأَلْتُهُ إِيَّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْتُ عُنُقَهُ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ سَرَرْتُ قُرَيْشًا، وَكُنْتُ قَدْ أَجَزَأْتُ عَنْهَا حِينَ قَتَلْتُ رَسُولَ مُحَمَّدٍ. فَدَخَلْتُ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَسَجَدْتُ لَهُ كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِصَدِيقِي، أَهْدَيْتَ لِي مِنْ بِلَادِكِ شَيْئًا ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَهْدَيْتُ لَكَ أَدَمًا كَثِيرًا. ثُمَّ قَدَّمْتُهُ فَأَعْجَبَهُ، وَفَرَّقَ مِنْهُ شَيْئًا بَيْنَ بَطَارِقَتِهِ، وَأَمَرَ بِسَائِرِهِ فَأُدْخِلَ فِي مَوْضِعٍ، وَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ وَيُحْتَفَظَ بِهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ طِيبَ نَفْسِهِ قُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ، وَهُوَ رَسُولُ عَدُوٍّ لَنَا قَدْ وَتَرَنَا، وَقَتَلَ أَشْرَافَنَا وَخِيَارَنَا، فَأَعْطِنِيهِ فَأَقْتُلَهُ. فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَرَفَعَ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفِي ضَرْبَةً ظَنَنْتُ أَنَّهُ كَسَرَهُ، فَابْتَدَرَ مَنْخَرَايَ، فَجَعَلْتُ أَتَلَقَّى الدَّمَ بِثِيَابِي، فَأَصَابَنِي مِنَ الذُّلِّ مَا لَوِ انْشَقَّتْ بِيَ الْأَرْضُ دَخَلْتُ فِيهَا، فَرَقًا مِنْهُ. ثُمَّ قُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَكْرَهُ مَا قُلْتُ مَا سَأَلَتُكَ. قَالَ: فَاسْتَحْيَا وَقَالَ: يَا عَمْرُو، تَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَكَ رَسُولَ مَنْ يَأْتِيهِ النَّامُوسُ الْأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَالَّذِي كَانَ يَأْتِي عِيسَى لِتَقْتُلَهُ ؟! قَالَ عَمْرُو: فَغَيَّرَ اللَّهُ قَلْبِي عَمَّا كُنْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: عَرَفَ هَذَا الْحَقَّ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ وَتُخَالِفُ أَنْتَ ؟! ثُمَّ قُلْتُ: أَتَشْهَدُ أَيُّهَا الْمَلِكُ بِهَذَا ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَشْهَدُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ يَا عَمْرُو، فَأَطِعْنِي وَاتَّبِعْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَعَلَى الْحَقِّ،
وَلَيَظْهَرَنَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ. قُلْتُ: أَتُبَايِعُنِي لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعَنِي عَلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ دَعَا بِطَسْتٍ، فَغَسَلَ عَنِّي الدَّمَ وَكَسَانِي ثِيَابًا، وَكَانَتْ ثِيَابِي قَدِ امْتَلَأَتْ بِالدَّمِ فَأَلْقَيْتُهَا، ثُمَّ خَرَجْتُ عَلَى أَصْحَابِي، فَلَمَّا رَأَوْا كِسْوَةَ النَّجَاشِيِّ سُرُّوا بِذَلِكَ وَقَالُوا: هَلْ أَدْرَكْتَ مِنْ صَاحِبِكَ مَا أَرَدْتَ ؟ فَقُلْتُ لَهُمْ: كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَقُلْتُ: أَعُودُ إِلَيْهِ. فَقَالُوا: الرَّأْيُ مَا رَأَيْتَ. قَالَ: فَفَارَقْتُهُمْ وَكَأَنِّي أَعْمِدُ لِحَاجَةٍ، فَعَمَدْتُ إِلَى مَوْضِعِ السُّفُنِ، فَأَجِدُ سَفِينَةً قَدْ شُحِنَتْ تُدْفَعُ. قَالَ: فَرَكِبْتُ مَعَهُمْ وَدَفَعُوهَا، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الشُّعَيْبَةِ، وَخَرَجْتُ مِنَ السَّفِينَةِ وَمَعِي نَفَقَةٌ، فَابْتَعْتُ بَعِيرًا، وَخَرَجْتُ أُرِيدَ الْمَدِينَةَ، حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ، ثُمَّ مَضَيْتُ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِالْهَدَةِ، فَإِذَا رَجُلَانِ قَدْ سَبَقَانِي بِغَيْرِ كَثِيرٍ يُرِيدَانِ مَنْزِلًا، وَأَحَدُهُمَا دَاخِلٌ فِي الْخَيْمَةِ، وَالْآخَرُ يُمْسِكُ الرَّاحِلَتَيْنِ. قَالَ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: قُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ: مُحَمَّدًا، دَخَلَ النَّاسُ فِي الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ بِهِ طَعْمٌ، وَاللَّهِ لَوْ أَقَمْتُ لَأُخِذَ بِرِقَابِنَا كَمَا يُؤْخَذُ بِرَقَبَةِ الضَّبُعِ فِي مَغَارَتِهَا. قُلْتُ: وَأَنَا وَاللَّهِ قَدْ أَرَدْتُ مُحَمَّدًا، وَأَرَدْتُ الْإِسْلَامَ. فَخَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَرَحَّبَ بِي، فَنَزَلْنَا جَمِيعًا فِي الْمَنْزِلِ، ثُمَّ تُرَافَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا
الْمَدِينَةَ،
فَمَا أَنْسَى قَوْلَ رَجُلٍ لَقِينَاهُ بِبِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ يَصِيحُ: يَا
رَبَاحُ، يَا رَبَاحُ، يَا رَبَاحُ فَتَفَاءَلْنَا بِقَوْلِهِ وَسُرِرْنَا، ثُمَّ
نَظَرَ إِلَيْنَا فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: قَدْ أَعْطَتْ مَكَّةُ الْمُقَادَةَ
بَعْدَ هَذَيْنِ. فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِينِي وَيَعْنِي خَالِدَ بْنَ
الْوَلِيدِ، وَوَلَّى مُدْبِرًا إِلَى الْمَسْجِدِ سَرِيعًا، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ
بَشَّرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدُومِنَا، فَكَانَ
كَمَا ظَنَنْتُ، وَأَنَخْنَا بِالْحَرَّةِ، فَلَبِسْنَا مِنْ صَالِحِ ثِيَابِنَا،
ثُمَّ نُودِيَ بِالْعَصْرِ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ وَإِنَّ
لِوَجْهِهِ تَهَلُّلًا، وَالْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ قَدْ سُرُّوا بِإِسْلَامِنَا،
فَتَقَدَّمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَايَعَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عُثْمَانُ بْنُ
طَلْحَةَ فَبَايَعَ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ
جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَرْفَعَ طَرَفِي إِلَيْهِ
حَيَاءً مِنْهُ. قَالَ: فَبَايَعْتُهُ عَلَى أَنْ يُغْفَرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِي، وَلَمْ يَحْضُرْنِي مَا تَأَخَّرَ فَقَالَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ
مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَالْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا قَالَ:
فَوَاللَّهِ مَا عَدَلَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي أَمْرٍ حَزَبَهُ مُنْذُ
أَسْلَمْنَا، وَلَقَدْ كُنَّا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ،
وَلَقَدْ كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بِتِلْكَ الْحَالَةِ، وَكَانَ عُمَرُ عَلَى خَالِدٍ
كَالْعَاتِبِ.
قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ شَيْخُ الْوَاقِدِيِّ: فَذَكَرْتُ هَذَا
الْحَدِيثَ لِيَزِيدَ بْنِ
أَبِي
حَبِيبٍ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي رَاشِدٌ مَوْلَى حَبِيبِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ
الثَّقَفِيِّ، عَنْ مَوْلَاهُ حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ نَحْوَ ذَلِكَ.
قُلْتُ: كَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
حَبِيبٍ، عَنْ رَاشِدٍ، عَنْ مَوْلَاهُ حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ مِنْ فِيهِ. فَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ بَعْدَ مَقْتَلِ
أَبِي رَافِعٍ. وَسِيَاقُ الْوَاقِدِيِّ أَبْسَطُ وَأَحْسَنُ. قَالَ
الْوَاقِدِيُّ، عَنْ شَيْخِهِ عَبْدِ الْحَمِيدِ: فَقُلْتُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي
حَبِيبٍ: وَقَّتَ لَكَ مَتَى قَدِمَ عَمْرٌو وَخَالِدٌ ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا
أَنَّهُ قَالَ: قَبْلَ الْفَتْحِ. قُلْتُ: فَإِنَّ أَبِي أَخْبَرَنِي أَنَّ
عَمْرًا وَخَالِدًا وَعُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ قَدِمُوا لِهِلَالِ صَفَرٍ سَنَةَ
ثَمَانٍ.
وَسَيَأْتِي عِنْدَ وَفَاةِ عَمْرٍو مِنْ " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مَا
يَشْهَدُ لِسِيَاقِ إِسْلَامِهِ، وَكَيْفِيَّةِ حُسْنِ صُحْبَتِهِ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَكَيْفَ مَاتَ
وَهُوَ يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ فِي مُدَّةِ مُبَاشَرَتِهِ
الْإِمَارَةَ بَعْدَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَصِفَةُ مَوْتِهِ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
طَرِيقُ
إِسْلَامِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ خَالِدِ
بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ بِي مَا أَرَادَ مِنَ الْخَيْرِ،
قَذَفَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامَ، وَحَضَرَنِي رُشْدِي، فَقُلْتُ: قَدْ شَهِدْتُ
هَذِهِ الْمَوَاطِنَ كُلَّهَا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَلَيْسَ فِي مَوْطِنٍ أَشْهَدُهُ إِلَّا أَنْصَرِفُ وَأَنَا أَرَى فِي نَفْسِي
أَنِّي مَوْضِعٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا سَيَظْهَرُ، فَلَمَّا
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ
خَرَجْتُ فِي خَيْلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ بَعُسْفَانَ، فَقُمْتُ بِإِزَائِهِ
وَتَعَرَّضْتُ لَهُ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ أَمَامَنَا، فَهَمَمْنَا
أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ لَمْ يُعْزَمْ لَنَا - وَكَانَتْ فِيهِ خِيَرَةٌ -
فَاطَّلَعَ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِنَا مِنَ الْهَمِّ بِهِ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ
صَلَاةَ الْعَصْرِ صَلَاةَ الْخَوْفِ، فَوَقْعَ ذَلِكَ مِنَّا مَوْقِعًا،
وَقُلْتُ: الرَّجُلُ مَمْنُوعٌ فَاعْتَزَلَنَا وَعَدَلَ عَنْ سَنَنِ خَيْلِنَا،
وَأَخَذَ ذَاتَ الْيَمِينِ، فَلَمَّا صَالَحَ قُرَيْشًا بِالْحُدَيْبِيَةَ،
وَدَافَعَتْهُ قُرَيْشٌ بِالرَّاحِ، قَلْتُ فِي نَفْسِي: أَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ ؟
أَيْنَ الْمَذْهَبُ ؟ إِلَى
النَّجَاشِيِّ ؟ فَقَدِ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا، وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ آمِنُونَ، فَأَخْرُجُ إِلَى هِرَقْلَ ؟ فَأَخْرُجُ مِنْ دِينِي إِلَى نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ يَهُودِيَّةٍ، فَأُقِيمُ فِي عَجَمٍ تَابِعًا، فَأُقِيمُ فِي دَارِي فِيمَنْ بَقِيَ ؟ فَأَنَا فِي ذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، فَتَغَيَّبْتُ وَلَمْ أَشْهَدْ دُخُولَهُ، وَكَانَ أَخِي الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَدْ دَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، فَطَلَبَنِي فَلَمْ يَجِدْنِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ كِتَابًا، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَعْجَبَ مِنْ ذَهَابِ رَأْيِكَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَعَقْلُكَ عَقْلُكَ! وَمِثْلُ الْإِسْلَامِ جَهِلَهُ أَحَدٌ ؟! وَقَدْ سَأَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْكَ، وَقَالَ: " أَيْنَ خَالِدٌ ؟ " فَقُلْتُ: يَأْتِي اللَّهُ بِهِ. فَقَالَ: " مَا مِثْلُهُ جَهِلَ الْإِسْلَامَ، وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَحَدَّهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَقَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ ". فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا قَدْ فَاتَكَ، فَقَدْ فَاتَكَ مَوَاطِنُ صَالِحَةٌ. قَالَ: فَلَمَّا جَاءَنِي كِتَابُهُ نَشِطْتُ لِلْخُرُوجِ، وَزَادَنِي رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، وَسَرَّنِي سُؤَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِّي، وَأَرَى فِي النَّوْمِ كَأَنِّي فِي بِلَادٍ ضَيِّقَةٍ مُجْدِبَةٍ، فَخَرَجْتُ إِلَى بِلَادٍ خَضْرَاءَ وَاسِعَةٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا فَلَمَّا أَنْ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ قُلْتُ: لَأَذْكُرَنَّهَا لِأَبِي بَكْرٍ. فَقَالَ: مَخْرَجُكَ الذى هَدَاكَ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ، وَالضِّيقُ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ. قَالَ: فَلَمَّا أَجْمَعْتُ الْخُرُوجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: مَنْ أُصَاحِبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَلَقِيتُ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ،
فَقُلْتُ: يَا أَبَا وَهْبٍ، أَمَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، إِنَّمَا نَحْنُ أَكَلَةُ رَأْسٍ، وَقَدْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَلَوْ قَدِمْنَا عَلَى مُحَمَّدٍ وَاتَّبَعْنَاهُ، فَإِنَّ شَرَفَ مُحَمَّدٍ لَنَا شَرَفٌ. فَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ، فَقَالَ: لَوْ لَمْ يَبْقَ غَيْرِي مَا اتَّبَعْتُهُ أَبَدًا. فَافْتَرَقْنَا، وَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ قُتِلَ أَخُوهُ وَأَبُوهُ بِبَدْرٍ. فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ مَا قُلْتُ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، قَلْتُ: فَاكْتُمْ عَلَيَّ. قَالَ: لَا أَذْكُرُهُ. فَخَرَجْتُ إِلَى مَنْزِلِي، فَأَمَرْتُ بِرَاحِلَتِي، فَخَرَجْتُ بِهَا إِلَى أَنْ لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا لِي صَدِيقٌ، فَلَوْ ذَكَرْتُ لَهُ مَا أَرْجُو. ثُمَّ ذَكَرْتُ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُذَكِّرَهُ، ثُمَّ قُلْتُ: وَمَا عَلَيَّ وَأَنَا رَاحِلٌ مِنْ سَاعَتِي. فَذَكَرْتُ لَهُ مَا صَارَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: إِنَّمَا نَحْنُ بِمَنْزِلَةِ ثَعْلَبٍ فِي جُحْرٍ، لَوْ صُبَّ فِيهِ ذَنُوبٌ مِنْ مَاءٍ لَخَرَجَ. وَقُلْتُ لَهُ نَحْوًا مِمَّا قُلْتُ لِصَاحِبِي، فَأَسْرَعَ الْإِجَابَةَ، وَقَالَ: إِنِّي غَدَوْتُ الْيَوْمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْدُوَ، وَهَذِهِ رَاحِلَتِي بِفَخٍّ مُنَاخَةٍ. قَالَ: فَاتَّعَدْتُ أَنَا وَهُوَ يَأْجَجَ، إِنْ سَبَقَنِي أَقَامَ، وَإِنْ سَبَقْتُهُ أَقَمْتُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَدْلَجْنَا سَحَرًا، فَلَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ حَتَّى الْتَقَيْنَا بِيَأْجَجَ، فَغَدَوْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الْهَدَةِ، فَنَجِدُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بِهَا فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ، فَقُلْنَا: وَبِكَ. فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ مَسِيرُكُمْ ؟ فَقُلْنَا: وَمَا أَخْرَجَكَ. فَقَالَ: وَمَا أَخْرَجَكُمْ ؟ قُلْنَا: الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعُ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَذَاكَ الَّذِي أَقْدَمَنِي. فَاصْطَحَبْنَا جَمِيعًا حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ، فَأَنَخْنَا بِظَهْرِ الْحَرَّةِ رِكَابَنَا، فَأُخْبِرَ بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُرَّ بِنَا، فَلَبِسْتُ مِنْ صَالِحِ ثِيَابِي، ثُمَّ عَمَدْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيَنِي أَخِي، فَقَالَ: أَسْرِعْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُخْبِرَ بِكَ، فَسُرَّ بِقُدُومِكَ، وَهُوَ يَنْتَظِرُكُمْ. فَأَسْرَعْنَا الْمَشْيَ، فَاطَّلَعْتُ عَلَيْهِ، فَمَا زَالَ يَتَبَسَّمُ إِلَيَّ حَتَّى وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ: " تَعَالَ ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ، قَدْ كُنْتُ أَرَى لَكَ عَقْلًا رَجَوْتُ أَنْ لَا يُسْلِمَكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَأَيْتَ مَا كُنْتُ أَشْهَدُ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ عَلَيْكَ مُعَانِدًا لِلْحَقِّ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَهَا لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ كُلَّ مَا أَوْضَعَ فِيهِ مِنْ صَدٍّ عَنْ سَبِيلِكَ ". قَالَ خَالِدٌ: وَتَقَدَّمَ عُثْمَانُ وَعَمْرٌو فَبَايَعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَكَانَ قُدُومُنَا فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْدِلُ بِي أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِيمَا حَزَبَهُ.
سَرِيَّةُ
شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ الْأَسَدِيِّ إِلَى نَفَرٍ مِنْ هَوَازِنَ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: بَعَثَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ فِي
أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا إِلَى جَمْعٍ مِنْ هَوَازِنَ، وَأَمَرَهُ أَنْ
يُغِيرَ عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ وَكَانَ يَسِيرُ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُ النَّهَارَ،
حَتَّى صَبَّحَهُمْ غَارِّينَ، وَقَدْ أَوْعَزَ إِلَى أَصْحَابِهِ أَنْ لَا
يُمْعِنُوا فِي الطَّلَبِ، فَأَصَابُوا نَعَمًا كَثِيرًا وَشَاءً، فَاسْتَاقُوا
ذَلِكَ حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَكَانَتْ سِهَامُهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ
بَعِيرًا، كُلَّ رَجُلٍ.
وَزَعَمَ غَيْرُهُ أَنَّهُمْ أَصَابُوا سَبْيًا أَيْضًا، وَأَنَّ الْأَمِيرَ
اصْطَفَى مِنْهُ جَارِيَةً وَضِيئَةً، ثُمَّ قَدِمَ أَهْلُوهُمْ مُسْلِمِينَ،
فَشَاوَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِيرَهُمْ فِي
رَدِّهِنَّ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: نَعَمْ. فَرَدُّوهُنَّ، وَخَيَّرَ الَّتِي
عِنْدَهُ فَاخْتَارَتِ الْمُقَامَ عِنْدَهُ.
وَقَدْ
تَكُونُ هَذِهِ السَّرِيَّةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ،
عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ،عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَكَانَ فِيهِمْ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: فَأَصَبْنَا إِبِلًا كَثِيرًا، فَبَلَغَتْ
سِهَامُنَا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، وَنَفَّلَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا بَعِيرًا. أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ
" مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ،
وَمِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى نَجْدٍ، فَخَرَجْتُ فِيهَا،
فَأَصَبْنَا نَعَمًا كَثِيرًا، فَنَفَّلَنَا أَمِيرُنَا بَعِيرًا بَعِيرًا لِكُلِّ
إِنْسَانٍ، ثُمَّ قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَسَمَ بَيْنِنَا غَنِيمَتَنَا، فَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا
اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا بَعْدَ الْخُمُسِ، وَمَا حَاسَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي أَعْطَانَا صَاحِبُنَا، وَلَا عَابَ
عَلَيْهِ مَا صَنَعَ، فَكَانَ لِكُلٍّ مِنَّا ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا
بِنَفْلِهِ.
سَرِيَّةُ
كَعْبِ بْنِ عُمَيْرٍ إِلَى بَنِي قُضَاعَةَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَعْبَ بْنَ عُمَيْرٍ الْغِفَارِيَّ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا، حَتَّى
انْتَهَوْا إِلَى ذَاتِ أَطْلَاحٍ مِنَ الشَّامِ، فَوَجَدُوا جَمْعًا مِنْ
جَمْعِهِمْ كَثِيرًا، فَدَعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا
لَهُمْ وَرَشَقُوهُمْ بِالنَّبْلِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ الْقِتَالِ
حَتَّى قُتِلُوا، فَأَفْلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ جَرِيحٌ فِي الْقَتْلَى، فَلَمَّا
أَنْ بَرَدَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ تَحَامَلَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَمَّ بِالْبَعْثَةِ إِلَيْهِمْ، فَبَلَغَهُ
أَنَّهُمْ سَارُوا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ.
غَزْوَةُ
مُؤْتَةَ
وَهِيَ سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فِي نَحْوٍ مَنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، إِلَى
الْبَلْقَاءِ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بَعْدَ قِصَّةِ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ: فَأَقَامَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيَّةَ ذِي
الْحِجَّةِ - وَوَلِيَ تِلْكَ الْحِجَّةَ الْمُشْرِكُونَ - وَالْمُحَرَّمَ
وَصَفَرًا وَشَهْرَيْ رَبِيعٍ، وَبَعَثَ فِي جُمَادَى الْأُولَى بَعْثَهُ إِلَى
الشَّامِ، الَّذِينَ أُصِيبُوا بِمُؤْتَةَ، فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ
بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثَهُ إِلَى مُؤْتَةَ فِي جُمَادَى
الْأُولَى مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ،
وَقَالَ: " إِنْ أُصِيبَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى
النَّاسِ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ عَلَى
النَّاسِ ". فَتَجَهَّزَ النَّاسُ ثُمَّ تَهَيَّئُوا لِلْخُرُوجِ، وَهُمْ
ثَلَاثَةُ آلَافٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْحَكَمِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ النُّعْمَانُ بْنُ فُنْحُصٍ الْيَهُودِيُّ،
فَوَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَعَ
النَّاسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَمِيرُ النَّاسِ، فَإِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ
قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلْيَرْتَضِ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَهُمْ
رَجُلًا، فَلْيَجْعَلُوهُ عَلَيْهِمْ ". فَقَالَ النُّعْمَانُ: أَبَا الْقَاسِمِ،
إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا، فَلَوْ سَمَّيْتَ مَنْ سَمَّيْتَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا،
أُصِيبُوا جَمِيعًا، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا
سَمَّوُا الرَّجُلَ عَلَى الْقَوْمِ، فَقَالُوا: إِنْ أُصِيبَ فُلَانٌ فَفُلَانٌ،
فَلَوْ سَمَّوْا مِائَةً أُصِيبُوا جَمِيعًا. ثُمَّ جَعَلَ الْيَهُودِيُّ يَقُولُ
لِزَيْدٍ: اعْهَدْ فَإِنَّكَ لَا تَرْجِعُ أَبَدًا، إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ
نَبِيًّا. فَقَالَ زَيْدٌ: أَشْهَدُ أَنَّهُ نَبِيٌّ صَادِقٌ بَارٌّ رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا حَضَرَ خُرُوجُهُمْ، وَدَّعَ النَّاسُ أُمَرَاءَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِمْ،
فَلَمَّا وُدِّعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ مَعَ مَنْ وُدِّعَ بَكَى،
فَقَالُوا: مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا بِي
حُبُّ الدُّنْيَا وَلَا صَبَابَةٌ بِكُمْ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ يَذْكُرُ
فِيهَا النَّارَ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا
مَقْضِيًّا ( مَرْيَمَ: 71 )، فَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ لِي بِالصَّدَرِ بَعْدَ
الْوُرُودِ ؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: صَحِبَكُمُ اللَّهُ وَدَفَعَ عَنْكُمْ،
وَرَدَّكُمْ إِلَيْنَا صَالِحِينَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ:
لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ
الزَّبَدَا
أَوْ
طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً
بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا حَتَّى يُقَالَ إِذَا مَرُّوا
عَلَى جَدَثِي
أَرْشَدَهُ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ تَهَيَّئُوا لِلْخُرُوجِ، فَأَتَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَوَدَّعَهُ ثُمَّ قَالَ:
فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي
نُصِرُوا
إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الْخَيْرَ نَافِلَةً اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي ثَابِتُ
الْبَصَرِ
أَنْتَ الرَّسُولُ فَمَنْ يُحْرَمْ نَوَافِلَهُ وَالْوَجْهَ مِنْهُ فَقَدْ أَزْرَى
بِهِ الْقَدَرُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ الْقَوْمُ وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَيِّعُهُمْ، حَتَّى إِذَا وَدَّعَهُمْ وَانْصَرَفَ
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ:
خَلَفَ السَّلَامُ عَلَى امْرِئٍ وَدَّعْتُهُ فِي النَّخْلِ خَيْرِ مُشَيِّعٍ
وَخَلِيلِ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا
أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَعَثَ
إِلَى
مُؤْتَةَ فَاسْتَعْمَلَ زَيْدًا، فَإِنَّ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، فَإِنَّ قُتِلَ
جَعْفَرٌ فَابْنُ رَوَاحَةَ، فَتَخَلَّفَ ابْنُ رَوَاحَةَ، فَجَمَّعَ مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَآهُ فَقَالَ: " مَا
خَلَّفَكَ ؟ " فَقَالَ: أُجَمِّعُ مَعَكَ. قَالَ: " لَغَدْوَةٌ أَوْ
رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ".
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، ثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنِ الْحَكَمِ،
عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي سَرِيَّةٍ، فَوَافَقَ
ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. قَالَ: فَقَدِمَ أَصْحَابَهُ، وَقَالَ: أَتَخَلَّفُ
فَأُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ،
ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ. قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ فَقَالَ: " مَا مَنَعَكَ أَنْ تَغْدُوَ مَعَ
أَصْحَابِكَ ؟ " قَالَ: فَقَالَ أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعَكَ الْجُمُعَةَ،
ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَتَهُمْ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ،
عَنِ الْحَجَّاجِ - وَهُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ - ثُمَّ عَلَّلَهُ التِّرْمِذِيُّ
بِمَا حَكَاهُ عَنْ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَسْمَعِ الْحَكَمُ عَنْ
مِقْسَمٍ إِلَّا خَمْسَةَ أَحَادِيثَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهَا.
قُلْتُ: وَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ فِي رِوَايَتِهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْحَدِيثِ، أَنَّهُ يَقْتَضِي
أَنَّ خُرُوجَ الْأُمَرَاءِ إِلَى مُؤْتَةَ كَانَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ مَضَوْا حَتَّى نَزَلُوا مَعَانٍ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَبَلَغَ النَّاسَ أَنَّ هِرَقْلَ قَدْ نَزَلَ مَآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامٍ وَالْقَيْنِ وَبَهْرَاءَ وَبَلِيٍّ مِائَةُ أَلْفٍ مِنْهُمْ، عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنَ بَلِيٍّ، ثُمَّ أَحَدُ إِرَاشَةَ، يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ زَافِلَةَ - وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَبَلَغَهُمْ أَنَّ هِرَقْلَ نَزَلَ بِمَآبَ، فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ وَمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْمُسْتَعْرِبَةِ. وَقِيلَ: كَانَ الرُّومُ مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَمَنْ عَدَاهُمْ خَمْسُونَ أَلْفًا. وَأَقَلُّ مَا قِيلَ: إِنَّ الرُّومَ كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ، وَمِنَ الْعَرَبِ خَمْسُونَ أَلْفًا. حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ - فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ أَقَامُوا عَلَى مَعَانٍ لَيْلَتَيْنِ يَنْظُرُونَ فِي أَمْرِهِمْ، وَقَالُوا: نَكْتُبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخْبِرُهُ بِعَدَدِ عَدُّونَا، فَإِمَّا أَنْ يَمُدَّنَا بِالرِّجَالِ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَنَا بِأَمْرِهِ فَنَمْضِيَ لَهُ. قَالَ: فَشَجَّعَ النَّاسَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ وَقَالَ: يَا قَوْمِ، وَاللَّهِ إِنَّ الَّتِي تَكْرَهُونَ لَلَّتِي خَرَجْتُمْ تَطْلُبُونَ، الشَّهَادَةُ، وَمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ بِعَدَدٍ وَلَا قُوَّةٍ وَلَا كَثْرَةٍ، مَا نُقَاتِلُهُمْ إِلَّا بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِهِ، فَانْطَلِقُوا فَإِنَّمَا هِيَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا ظُهُورٌ وَإِمَّا شَهَادَةٌ. قَالَ: فَقَالَ
النَّاسُ:
قَدْ وَاللَّهِ صَدَقَ ابْنُ رَوَاحَةَ. فَمَضَى النَّاسُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ رَوَاحَةَ فِي مَحْبِسِهِمْ ذَلِكَ:
جَلَبْنَا الْخَيْلَ مِنْ أَجَأٍ وَفَرْعٍ تُغَرُّ مِنَ الْحَشِيشِ لَهَا
الْعُكُومُ
حَذَوْنَاهَا مِنَ الصَّوَّانِ سِبْتًا أَزَلَّ كَأَنَّ صَفْحَتَهُ أَدِيمُ
أَقَامَتْ لَيْلَتَيْنِ عَلَى مَعَانٍ فَأُعْقِبَ بَعْدَ فَتْرَتِهَا جُمُومُ
فَرُحْنَا وَالْجِيَادُ مُسَوَّمَاتٌ تَنَفَّسُ فِي مَنَاخِرِهَا السَّمُومُ
فَلَا وَأَبِي مَآبَ لَنَأْتِيَنْهَا وَإِنْ كَانَتْ بِهَا عَرَبٌ وَرُومُ
فَعَبَّأْنَا أَعِنَّتَهَا فَجَاءَتْ عَوَابِسَ وَالْغُبَارُ لَهَا بَرِيمُ
بِذِي لَجَبٍ كَأَنَّ الْبِيضَ فِيهِ إِذَا بَرَزَتْ قَوَانِسُهَا النُّجُومُ
فَرَاضِيَةُ
الْمَعِيشَةِ طَلَّقَتْهَا
أَسِنَّتُنَا فَتَنْكِحُ أَوْ تَئِيمُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ
حَدَّثَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: كُنْتُ يَتِيمًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
رَوَاحَةَ فِي حِجْرِهِ، فَخَرَجَ بِي فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ، مُرْدِفِي عَلَى
حَقِيبَةِ رَحْلِهِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَسِيرُ لَيْلَةً إِذْ سَمِعْتُهُ
وَهُوَ يُنْشِدُ أَبْيَاتَهُ هَذِهِ:
إِذَا أَدَّيْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي مَسِيرَةَ أَرْبَعٍ بَعْدَ الْحِسَاءِ
فَشَأْنُكِ أَنْعُمٌ وَخَلَاكِ ذَمٌّ وَلَا أَرْجِعْ إِلَى أَهْلِي وَرَائِي
وَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ وَغَادَرُونِي بِأَرْضِ الشَّامِ مُشْتَهِيَ الثَّوَاءِ
وَرَدَّكَ كُلُّ ذِي نَسَبٍ قَرِيبٍ إِلَى الرَّحْمَنِ مُنْقَطِعَ الْإِخَاءِ
هُنَالِكَ لَا أُبَالِي طَلْعَ بَعْلٍ وَلَا نَخْلٍ أَسَافِلُهَا رِوَاءِ
قَالَ:
فَلَمَّا سَمِعْتُهُنَّ مِنْهُ بَكَيْتُ، فَخَفَقَنِي بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: مَا
عَلَيْكَ يَا لُكَعُ أَنْ يَرْزُقَنِي اللَّهُ الشَّهَادَةَ، وَتَرْجِعَ بَيْنَ
شُعْبَتَيِ الرَّحْلِ ؟! ثُمَّ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي بَعْضِ
سَفَرِهِ ذَلِكَ وَهُوَ يَرْتَجِزُ:
يَا زَيْدُ زَيْدَ الْيَعْمَلَاتِ الذُّبَّلِ تَطَاوَلَ اللَّيْلُ هُدِيتَ
فَانْزِلِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ مَضَى النَّاسُ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِتُخُومِ
الْبَلْقَاءِ لَقِيَتْهُمْ جُمُوعُ هِرَقْلَ مِنَ الرُّومِ وَالْعَرَبِ،
بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَلْقَاءِ يُقَالُ لَهَا: مَشَارِفُ. ثُمَّ دَنَا
الْعَدُوُّ، وَانْحَازَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: مُؤْتَةُ.
فَالتَقَى النَّاسُ عِنْدَهَا، فَتَعَبَّأَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَجَعَلُوا
عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ رَجُلًا مِنْ بَنِي عُذْرَةَ يُقَالُ لَهُ: قُطْبَةُ بْنُ
قَتَادَةَ. وَعَلَى مَيْسَرَتِهِمْ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ:
عَبَايَةُ بْنُ مَالِكٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنِ
الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: شَهِدْتُ مُؤْتَةَ، فَلَمَّا دَنَا
مِنَّا الْمُشْرِكُونَ، رَأَيْنَا مَا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِهِ، مِنَ الْعُدَّةِ،
وَالسِّلَاحِ، وَالْكُرَاعِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْحَرِيرِ، وَالذَّهَبِ، فَبَرِقَ
بَصَرِي، فَقَالَ لِي ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كَأَنَّكَ
تَرَى جُمُوعًا كَثِيرَةً! قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَشْهَدْ مَعَنَا
بَدْرًا، إِنَّا لَمْ نُنْصَرْ بِالْكَثْرَةِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
قَالَ
ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ الْتَقَى النَّاسُ فَاقْتَتَلُوا، فَقَاتَلَ زَيْدُ بْنُ
حَارِثَةَ بِرَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
شَاطَ فِي رِمَاحِ الْقَوْمِ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ، فَقَاتَلَ بِهَا، حَتَّى
إِذَا أَلْحَمَهُ الْقِتَالُ، اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ فَعَقَرَهَا،
ثُمَّ قَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ فَكَانَ جَعْفَرٌ أَوَّلَ رَجُلٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ عَقَرَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، حَدَّثَنِي أَبِي الَّذِي أَرْضَعَنِي،
وَكَانَ أَحَدَ بَنِي مُرَّةَ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ
غَزْوَةِ مُؤْتَةَ قَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى جَعْفَرٍ حِينَ
اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ ثُمَّ عَقَرَهَا، ثُمَّ قَاتَلَ الْقَوْمَ
حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا طَيِّبَةً وَبَارِدًا شَرَابُهَا
وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهَا
عَلَيَّ إِنْ لَاقَيْتُهَا ضِرَابُهَا
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ،
وَلَمْ يَذْكُرِ الشِّعْرَ
.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ جَوَّزَ قَتْلَ الْحَيَوَانِ خَشْيَةَ أَنْ
يَنْتَفِعَ بِهِ الْعَدُوُّ، كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْأَغْنَامِ
إِذَا لَمْ تَتْبَعْ فِي السَّيْرِ، وَيُخْشَى مِنْ لُحُوقِ الْعَدُوِّ لَهَا
وَانْتِفَاعِهِمْ بِهَا، أَنَّهَا تُذْبَحُ وَتُحَرَّقُ، لِيُحَالَ بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ عَلَى جَعْفَرٍ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ
إِذَا خِيفَ أَخْذُ الْعَدُوِّ لَهُ، وَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي النَّهْيِ عَنْ
قَتْلِ الْحَيَوَانِ عَبَثًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ
جَعْفَرًا أَخَذَ اللِّوَاءِ بِيَمِينِهِ فَقُطِعَتْ، فَأَخَذَهُ بِشَمَالِهِ
فَقُطِعَتْ، فَاحْتَضَنَهُ بِعَضُدَيْهِ، حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ
وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَأَثَابَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ جَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ
يَطِيرُ بِهِمَا حَيْثُ شَاءَ، وَيُقَالُ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ ضَرَبَهُ
يَوْمَئِذٍ ضَرْبَةً فَقَطَعَهُ بِنِصْفَيْنِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي الَّذِي
أَرْضَعَنِي، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي مُرَّةَ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: فَلَمَّا قُتِلَ
جَعْفَرٌ، أَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ الرَّايَةَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ
بِهَا وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ، فَجَعَلَ يَسْتَنْزِلُ نَفْسَهُ، وَيَتَرَدَّدُ
بَعْضَ التَّرَدُّدِ، ثُمَّ قَالَ:
أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّهْ لَتَنْزِلِنَّ أَوْ لَتُكْرَهِنَّهْ
إِنْ
أَجْلَبَ النَّاسُ وَشَدُّوا الرَّنَّهْ مَا لِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّهْ
قَدْ طَالَ مَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّهْ هَلْ أَنْتِ إِلَّا نُطْفَةٌ فِي
شَنَّهْ
وَقَالَ أَيْضًا:
يَا نَفْسُ إِنْ لَا تُقْتَلِي تَمُوتِي هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صَلِيتِ
وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ
يُرِيدُ صَاحِبَيْهِ، زَيْدًا وَجَعْفَرًا، ثُمَّ نَزَلَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَتَاهُ
ابْنُ عَمٍّ لَهُ بِعَرْقٍ مِنْ لَحَمَ فَقَالَ: شُدَّ بِهَذَا صُلْبَكَ،
فَإِنَّكَ قَدْ لَقِيتَ فِي أَيَّامِكَ هَذِهِ مَا لَقِيتَ. فَأَخَذَهُ مِنْ
يَدِهِ، فَانْتَهَسَ مِنْهُ نَهْسَةً، ثُمَّ سَمِعَ الْحَطْمَةَ فِي نَاحِيَةِ
النَّاسِ فَقَالَ: وَأَنْتَ فِي الدُّنْيَا ؟! ثُمَّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ
أَخَذَ سَيْفَهُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ. قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ، أَخُو بَنِي
الْعَجْلَانِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اصْطَلِحُوا عَلَى رَجُلٍ
مِنْكُمْ. قَالُوا: أَنْتَ. قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. فَاصْطَلَحَ النَّاسُ
عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَلَمَّا أَخَذَ الرَّايَةَ دَافَعَ الْقَوْمَ
وَحَاشَى بِهِمْ، ثُمَّ انْحَازَ وَانْحِيزَ عَنْهُ حَتَّى انْصَرَفَ بِالنَّاسِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا أُصِيبَ الْقَوْمُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي
:أَخَذَ
الرَّايَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا، ثُمَّ
أَخَذَهَا جَعْفَرٌ، فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا ". قَالَ: ثُمَّ
صَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَغَيَّرَتْ
وُجُوهُ الْأَنْصَارِ، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
رَوَاحَةَ بَعْضُ مَا يَكْرَهُونَ، ثُمَّ قَالَ: " ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَاتَلَ بِهَا حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا " ثُمَّ
قَالَ: " لَقَدْ رُفِعُوا إِلَيَّ فِي الْجَنَّةِ، فِيمَا يَرَى النَّائِمُ،
عَلَى سُرُرٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَرَأَيْتُ فِي سَرِيرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ
ازْوِرَارًا عَنْ سَرِيرَيْ صَاحِبَيْهِ، فَقُلْتُ: عَمَّ هَذَا ؟ " فَقِيلَ
لِي: مَضَيَا، وَتَرَدَّدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَعْضَ التَّرَدُّدِ
ثُمَّ مَضَى هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَذَا مُنْقَطِعًا.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ وَاقِدٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ
زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى زَيْدًا
وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ،
فَقَالَ: أَخْذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ
فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ - وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ
- حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَقَالَ
فِيهِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: " وَمَا
يَسُرُّهُمْ
أَنَّهُمْ عِنْدَنَا ".
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، ثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ - الْمَخْزُومِيُّ، وَلَيْسَ بِالْحِزَامِيِّ - عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ،عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ
زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ
فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ " قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنْتُ فِيهِمْ فِي
تِلْكَ الْغَزْوَةِ، فَالْتَمَسْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَوَجَدْنَاهُ
فِي الْقَتْلَى، وَوَجَدْنَا فِي جَسَدِهِ بِضْعًا وَتِسْعِينَ مِنْ طَعْنَةٍ
وَرَمْيَةٍ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ
عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ أَبِي هِلَالٍ - وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ
اللَّيْثِيُّ - قَالَ: وَأَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ
أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ قَتِيلٌ،
فَعَدَدْتُ بِهِ
خَمْسِينَ،
بَيْنَ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ، لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي دُبُرِهِ، وَهَذَا أَيْضًا
مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ. وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ
وَالَّتِي قَبْلَهَا، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اطَّلَعَ
عَلَى هَذَا الْعَدَدِ، وَغَيْرَهُ اطَّلَعَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. أَوْ
أَنَّ هَذِهِ فِي قُبُلِهِ أُصِيبَهَا قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ، فَلَمَّا صُرِعَ
إِلَى الْأَرْضِ ضَرَبُوهُ أَيْضًا ضَرَبَاتٍ فِي ظَهْرِهِ، فَعَدَّ ابْنُ عُمَرَ
مَا كَانَ فِي قُبُلِهِ وَهُوَ فِي وُجُوهِ الْأَعْدَاءِ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَمِمَّا يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ مِنْ قَطْعِ يَمِينِهِ وَهِيَ
مُمْسِكَةٌ اللِّوَاءَ، ثُمَّ شِمَالِهِ، مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، ثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَيَّا ابْنَ
جَعْفَرٍ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ ذِي الْجَنَاحَيْنِ. وَرَوَاهُ
أَيْضًا فِي الْمَنَاقِبِ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ
الْوَلِيدِ يَقُولُ: لَقَدِ انْقَطَعَتْ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ،
فَمَا بَقِيَ فِي يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ
.
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ،
حَدَّثَنِي قَيْسٌ سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ يَقُولُ: لَقَدْ دُقَّ فِي
يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، وَصَبَرَتْ فِي يَدِي صَفِيحَةٌ
يَمَانِيَةٌ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ
قَتَادَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، ثَنَا أَبُو خَلِيفَةَ
الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ الْجُمَحِيُّ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا
الْأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سُمَيْرٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ
تُفَقِّهُهُ، فَغَشِيَهُ النَّاسُ، فَغَشِيتُهُ فِي مَنْ غَشِيَهُ فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو قَتَادَةَ، فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ
الْأُمَرَاءِ، وَقَالَ: " عَلَيْكُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ
زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
". قَالَ: فَوَثَبَ جَعْفَرٌ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كُنْتُ
أَرْهَبُ أَنْ تَسْتَعْمِلَ زَيْدًا عَلَيَّ. قَالَ: " امْضِ، فَإِنَّكَ لَا
تَدْرِي أَيُّ ذَلِكَ خَيْرٌ " فَانْطَلَقُوا، فَلَبِثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ،
فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ،
فَأَمَرَ فَنُودِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أُخْبِرُكُمْ عَنْ
جَيْشِكُمْ هَذَا، إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا فَلَقُوا الْعَدُوَّ، فَقُتِلَ زَيْدٌ
شَهِيدًا - فَاسْتَغْفَرَ لَهُ - ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ جَعْفَرٌ، فَشَدَّ عَلَى
الْقَوْمِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا - شَهِدَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ وَاسْتَغْفَرَ
لَهُ - ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَأَثْبَتَ
قَدَمَيْهِ حَتَّى
قُتِلَ
شَهِيدًا - فَاسْتَغْفَرَ لَهُ - ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأُمَرَاءِ، هُوَ أَمَّرَ نَفْسَهُ " ثُمَّ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ إِنَّهُ
سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِكَ، فَأَنْتَ تَنْصُرُهُ ". فَمِنْ يَوْمَئِذٍ سُمِّيَ
خَالِدٌ سَيْفَ اللَّهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ شَيْبَانَ، بِهِ نَحْوَهُ. وَفِيهِ زِيَادَةٌ
حَسَنَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا اجْتَمَعَ
إِلَيْهِ النَّاسُ قَالَ: " ثَابَ خَبَرٌ، ثَابَ خَبَرٌ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عِمَارَةَ بْنِ
غَزِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ
قَالَ: لَمَّا الْتَقَى النَّاسُ بِمُؤْتَةَ، جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَكَشَفَ اللَّهُ لَهُ مَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ، فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى مُعْتَرَكِهِمْ، فَقَالَ:
" أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ، فَحَبَّبَ
إِلَيْهِ الْحَيَاةَ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِ الْمَوْتَ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ
الدُّنْيَا، فَقَالَ: الْآنَ حِينَ اسْتَحْكَمَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ، تُحَبِّبُ إِلَيَّ الدُّنْيَا ؟! فَمَضَى قُدُمًا حَتَّى
اسْتُشْهِدَ " فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ: " اسْتَغْفِرُوا لَهُ، فَقَدْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ
يَسْعَى.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ،
أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا قُتِلَ
زَيْدٌ أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَجَاءَهُ الشَّيْطَانُ،
فَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْحَيَاةَ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِ الْمَوْتَ، وَمَنَّاهُ
الدُّنْيَا، فَقَالَ: الْآنَ حِينَ اسْتَحْكَمَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ تُمَنِّينِي الدُّنْيَا ؟! ثُمَّ مَضَى قُدُمًا حَتَّى اسْتُشْهِدَ
". فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ثُمَّ قَالَ: " اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، فَإِنَّهُ شَهِيدٌ، دَخَلَ
الْجَنَّةَ، وَهُوَ يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ بِجَنَاحَيْنِ مِنْ يَاقُوتٍ، حَيْثُ
يَشَاءُ مِنَ الْجَنَّةِ " قَالَ: " ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ مُعْتَرَضًا
" فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْصَارِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا
اعْتَرَضَهُ ؟ قَالَ: " لَمَّا أَصَابَتْهُ الْجِرَاحُ نَكَلَ، فَعَاتَبَ
نَفْسَهُ فَتَشَجَّعَ، وَاسْتُشْهِدَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ ". فَسُرِّيَ عَنْ
قَوْمِهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا أَخَذَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
الرَّايَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ ".
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَحَدَّثَنِي الْعَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ
ابْنُ رَوَاحَةَ مَسَاءً، بَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ،
غَدَا وَقَدْ جَعَلَ مُقَدِّمَتَهُ سَاقَتَهُ، وَسَاقَتَهُ مُقَدِّمَتَهُ،
وَمَيْمَنَتَهُ مَيْسَرَتَهُ. قَالَ: فَأَنْكَرُوا مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ
رَايَاتِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، وَقَالُوا: قَدْ جَاءَهُمْ مَدَدٌ. فَرُعِبُوا
وَانْكَشَفُوا مُنْهَزِمِينَ. قَالَ: فَقُتِلُوا مَقْتَلَةً لَمْ يُقْتَلْهَا
قَوْمٌ. وَهَذَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ،
فِي
" مَغَازِيهِ " فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ: ثُمَّ صَدَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَكَثَ بِهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى مُؤْتَةَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَقَالَ: " إِنْ أُصِيبَ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُهُمْ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ أَمِيرُهُمْ ". فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا لَقُوا ابْنَ أَبِي سَبْرَةَ الْغَسَّانِيَّ بِمُؤْتَةَ، وَبِهَا جُمُوعٌ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَالرُّومِ، بِهَا تَنُوخُ وَبَهْرَاءُ، فَأَغْلَقَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ الْحِصْنَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ خَرَجُوا فَالْتَقَوْا عَلَى [ رَدْغٍ ] أَحْمَرَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَقُتِلَ، ثُمَّ أَخَذَهُ جَعْفَرٌ فَقُتِلَ، ثُمَّ أَخَذَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقُتِلَ، ثُمَّ اصْطَلَحَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ أُمَرَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيِّ، فَهَزَمَ اللَّهُ الْعَدُوَّ، وَأَظْهَرَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: وَبَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، يَعْنِي سَنَةَ ثَمَانٍ. قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَرَّ عَلَيَّ جَعْفَرٌ فِي الْمَلَائِكَةِ، يَطِيرُ كَمَا يَطِيرُونَ، وَلَهُ جَنَاحَانِ " قَالَ: وَزَعَمُوا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِ أَهْلِ مُؤْتَةَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ شِئْتَ فَأَخْبِرْنِي، وَإِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ ". قَالَ: أَخْبِرْنِي يَا
رَسُولَ
اللَّهِ. قَالَ: فَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَبَرَهُمْ كُلَّهُ، وَوَصَفَهُ لَهُمْ. فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ مَا تَرَكْتَ مِنْ حَدِيثِهِمْ حَرْفًا لَمْ تَذْكُرْهُ، وَإِنَّ
أَمْرَهُمْ لَكَمَا ذَكَرْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ رَفَعَ لِيَ الْأَرْضَ حَتَّى رَأَيْتُ
مُعْتَرَكَهُمْ ".
فَهَذَا السِّيَاقُ فِيهِ فَوَائِدٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَتْ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ،
وَفِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، مِنْ أَنَّ خَالِدًا
إِنَّمَا حَاشَى بِالْقَوْمِ، حَتَّى تَخَلَّصُوا مِنَ الرُّومِ وَعَرَبِ
النَّصَارَى فَقَطْ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَالْوَاقِدِيُّ مُصَرِّحَانِ
بِأَنَّهُمْ هَزَمُوا جُمُوعَ الرُّومِ وَالْعَرَبِ الَّذِينَ مَعَهُمْ، وَهُوَ
ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: ثُمَّ أَخَذَ
الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ ".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ وَمَالَ إِلَيْهِ
الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ، لِمَا ذَكَرَهُ مِنَ
الْحَدِيثِ.
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَبَيْنِ قَوْلِ
الْبَاقِينَ، وَهُوَ أَنَّ خَالِدًا لَمَّا أَخَذَ الرَّايَةَ حَاشَى بِالْقَوْمِ
الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى خَلَّصَهُمْ مِنْ أَيْدِي الْكَافِرِينَ مِنَ الرُّومِ
وَالْمُسْتَعْرِبَةِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ وَحَوَّلَ الْجَيْشَ مَيْمَنَةً
وَمَيْسَرَةً، وَمُقَدِّمَةً وَسَاقَةً، كَمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ، تَوَهَّمَ
الرُّومُ أَنَّ ذَلِكَ عَنْ مَدَدٍ جَاءَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا حَمَلَ
عَلَيْهِمْ خَالِدٌ، هَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ
عُرْوَةَ قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ أَصْحَابُ مُؤْتَةَ، تَلَقَّاهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ قَالَ:
وَلَقِيَهُمُ الصِّبْيَانُ يَشْتَدُّونَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلٌ مَعَ الْقَوْمِ عَلَى دَابَّةٍ، فَقَالَ: "
خُذُوا الصِّبْيَانَ فَاحْمِلُوهُمْ، وَأَعْطُونِي ابْنَ جَعْفَرٍ ". فَأُتِي
بِعَبْدِ اللَّهِ، فَأَخَذَهُ فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: وَجَعَلَ
النَّاسُ يَحْثُونَ عَلَيْهِمْ بِالتُّرَابِ وَيَقُولُونَ: يَا فُرَّارُ،
فَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسُوا بِالْفُرَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ الْكُرَّارُ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ". وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ،
وَفِيهِ غَرَابَةٌ. وَعِنْدِي أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ قَدْ وَهِمَ فِي هَذَا
السِّيَاقِ، فَظَنَّ أَنَّ هَذَا لِجُمْهُورِ الْجَيْشِ، وَإِنَّمَا كَانَ
لِلَّذِينِ فَرُّوا حِينَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَأَمَّا بَقِيَّتُهُمْ فَلَمْ
يَفِرُّوا، بَلْ نُصِرُوا، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فِي
قَوْلِهِ: ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، فَفَتَحَ اللَّهُ
عَلَى يَدَيْهِ ". فَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لِيُسَمُّوهُمْ فُرَّارًا
بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَلَقَّوْهُمْ، إِكْرَامًا لَهُمْ وَإِعْظَامًا،
وَإِنَّمَا كَانَ التَّأْنِيبُ وَحَثْيُ التُّرَابِ لِلَّذِينِ فَرُّوا
وَتَرَكُوهُمْ هُنَالِكَ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، ثَنَا زُهَيْرٌ، ثَنَا
يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ
،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
قَالَ: كُنْتُ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً، وَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ،
فَقُلْنَا: كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ وَبُؤْنَا
بِالْغَضَبِ ؟ ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ فَبِتْنَا. ثُمَّ
قُلْنَا: لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَتْ لَنَا تَوْبَةٌ، وَإِلَّا ذَهَبْنَا. فَأَتَيْنَاهُ
قَبْلَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ، فَخَرَجَ فَقَالَ: " مَنِ الْقَوْمُ ؟ "
قَالَ: فَقُلْنَا: نَحْنُ الْفَرَّارُونَ. فَقَالَ: " لَا، بَلْ أَنْتُمُ
الْعَكَّارُونَ، أَنَا فِئَتُكُمْ، وَأَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ ". قَالَ:
فَأَتَيْنَاهُ حَتَّى قَبَّلْنَا يَدَهُ.
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ غُنْدُرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ،
عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا فِي سَرِيَّةٍ
فَفَرَرْنَا، فَأَرَدْنَا أَنْ نَرْكَبَ الْبَحْرَ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحْنُ
الْفَرَّارُونَ. فَقَالَ: " لَا، بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ وَرَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ
أَبِي زِيَادٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ
حَدِيثِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى وَأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ
قَالَا: حَدَّثَنَا
شَرِيكٌ،
عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَلَمَّا لَقِينَا الْعَدُوَّ انْهَزَمْنَا فِي أَوَّلِ
غَادِيَةٍ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِي نَفَرٍ لَيْلًا فَاخْتَفَيْنَا، ثُمَّ
قُلْنَا: لَوْ خَرَجْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاعْتَذَرْنَا إِلَيْهِ. فَخَرَجْنَا إِلَيْهِ، ثُمَّ لَقِينَاهُ قُلْنَا: نَحْنُ
الْفَرَّارُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ،
وَأَنَا فِئَتُكُمْ " قَالَ الْأَسْوَدُ: " وَأَنَا فِئَةُ كُلِّ
مُسْلِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ
بَعْضِ آلِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَهُمْ أَخْوَالُهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ
زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لِامْرَأَةِ
سَلَمَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: مَا لِي لَا أَرَى سَلَمَةَ يَحْضُرُ
الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ
الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَتْ: مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ، كُلَّمَا خَرَجَ صَاحَ
بِهِ النَّاسُ: يَا فُرَّارُ، فَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ ! حَتَّى قَعَدَ
فِي بَيْتِهِ مَا يَخْرُجُ. وَكَانَ فِي غَزَاةِ مُؤْتَةَ.
قُلْتُ: لَعَلَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ فَرُّوا لَمَّا عَايَنُوا كَثْرَةَ جُمُوعِ
الْعَدُوِّ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، فَإِنَّ
الصَّحَابَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، كَانُوا ثَلَاثَةَ
آلَافٍ،
وَكَانَ الْعَدُوُّ - عَلَى مَا ذَكَرُوهُ - مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَمِثْلُ هَذَا
يُسَوِّغُ الْفِرَارَ، عَلَى مَا قَدْ تَقَرَّرَ، فَلَمَّا فَرَّ هَؤُلَاءِ،
ثَبَتَ بَاقِيهُمْ، وَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَتَخَلَّصُوا مِنْ أَيْدِي
أُولَئِكَ، وَقَتَّلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، كَمَا ذَكَرَهُ
الْوَاقِدِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ مِنْ قَبْلِهِ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَيُشَاكِلُهُ بِالصِّحَّةِ، مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ
مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ مَنْ خَرَجَ مَعَ زَيْدِ بْنِ
حَارِثَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ
مِنَ الْيَمَنِ، لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ سَيْفِهِ، فَنَحَرَ رَجُلٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ جَزُورًا، فَسَأَلَهُ الْمَدَدِيُّ طَائِفَةً مِنْ جِلْدِهِ،
فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَاتَّخَذَهُ كَهَيْئَةِ الدَّرَقَةِ، وَمَضَيْنَا
فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ لَهُ أَشْقَرَ،
عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذَهَّبٌ وَسِلَاحٌ مُذَهَّبٌ، فَجَعَلَ الرُّومِيُّ يُغْرِي
بِالْمُسْلِمِينَ، وَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ، فَمَرَّ بِهِ
الرُّومِيُّ فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ، فَخَرَّ وَعَلَاهُ، فَقَتَلَهُ، وَحَازَ
فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ
لِلْمُسْلِمِينَ،
بَعَثَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَخَذَ مِنْهُ السَّلَبَ. قَالَ عَوْفٌ:
فَأَتَيْتَهُ فَقُلْتُ: يَا خَالِدُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ ؟ قَالَ: بَلَى،
وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ. فَقُلْتُ: لَتَرُدَّنَّهُ إِلَيْهِ أَوْ
لَأُعَرِّفَنَّكَهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. قَالَ عَوْفٌ: فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ
الْمَدَدِيِّ وَمَا فَعَلَ خَالِدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا خَالِدُ، رُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ
". قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْتُ: دُونَكَ يَا خَالِدُ، أَلَمْ أَفِ لَكَ ؟!
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَا ذَاكَ ؟
" فَأَخْبَرْتُهُ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ: " يَا خَالِدُ، لَا تَرُدَّ عَلَيْهِ، هَلْ أَنْتُمْ
تَارِكُو لِي أُمَرَائِي، لَكُمْ صِفْوَةُ أَمْرِهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ قَالَ
الْوَلِيدُ: سَأَلْتُ ثَوْرًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَنِي عَنْ خَالِدِ
بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ عَوْفٍ بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ
مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ
مَالِكٍ، بِهِ نَحْوَهُ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَنِمُوا مِنْهُمْ، وَسَلَبُوا مِنْ أَشْرَافِهِمْ،
وَقَتَلُوا مِنْ أُمَرَائِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
أَنَّ خَالِدًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: انْدَقَّتْ فِي يَدِي يَوْمَ
مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، وَمَا ثَبَتَ فِي يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ
يَمَانِيَةٌ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَثْخَنُوا فِيهِمْ قَتْلًا، وَلَوْ لَمْ
يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا قَدَرُوا عَلَى التَّخَلُّصِ
مِنْهُمْ،
وَهَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَالْوَاقِدِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ،
وَحَكَاهُ ابْنُ هِشَامٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَغَازِي فِي
فِرَارِهِمْ وَانْحِيَازِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ
مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ ظَهَرُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ
الْمُشْرِكِينَ انْهَزَمُوا قَالَ: وَحَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثُمَّ أَخَذَهَا خَالِدٌ،
فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ ". يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِهِمْ عَلَيْهِمْ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ قُطْبَةَ بْنَ قَتَادَةَ
الْعُذْرِيَّ، وَكَانَ رَأْسَ مَيْمَنَةِ الْمُسْلِمِينَ، حَمَلَ عَلَى مَالِكِ
بْنِ زَافِلَةَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: رَافِلَةُ. بِالرَّاءِ - وَهُوَ
أَمِيرُ أَعْرَابِ النَّصَارَى، فَقَتَلَهُ، وَقَالَ يَفْتَخِرُ بِذَلِكَ:
طَعَنْتُ ابْنَ رَافِلَةَ بْنِ الْإِرَاشِ بِرُمْحٍ مَضَى فِيهِ ثُمَّ انْحَطَمْ
ضَرَبْتُ
عَلَى جِيدِهِ ضَرْبَةً فَمَالَ كَمَا مَالَ غُصْنُ السَّلَمْ
وَسُقْنَا نِسَاءَ بَنِي عَمِّهِ غَدَاةَ رَقُوقَيْنِ سَوْقَ النَّعَمْ
وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا نَحْنُ فِيهِ، لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ أَمِيرِ الْجَيْشِ
إِذَا قُتِلَ، أَنْ يَفِرَّ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ إِنَّهُ صَرَّحَ فِي شِعْرِهِ
بِأَنَّهُمْ سَبَوْا مِنْ نِسَائِهِمْ، وَهَذَا وَاضِحٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ
لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْمُخَاشَاةُ وَالتَّخَلُّصُ مِنْ أَيْدِي الرُّومِ، وَسَمَّى
هَذَا نَصْرًا وَفَتْحًا، أَيْ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ إِحَاطَةِ
الْعَدُوِّ بِهِمْ، وَتَرَاكُمِهِمْ وَتَكَاثُرِهِمْ وَتَكَاثُفِهِمْ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ
مُقْتَضَى الْعَادَةِ أَنْ يُصْطَلَمُوا بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَمَّا تَخَلَّصُوا
مِنْهُمْ وَانْحَازُوا عَنْهُمْ، كَانَ هَذَا غَايَةَ الْمُرَامِ فِي هَذَا
الْمُقَامِ، وَهَذَا مُحْتَمَلٌ، لَكِنَّهُ خِلَافَ الظَّاهِرِ مِنْ قَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ".
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ يَسْتَدِلُّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ
فَقَالَ: وَقَدْ قَالَ - فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ، وَأَمْرِ خَالِدِ
بْنِ الْوَلِيدِ، وَمُخَاشَاتِهِ بِالنَّاسِ وَانْصِرَافِهِ
بِهِمْ
قَيْسُ بْنُ الْمُحَسَّرِ الْيَعْمُرِيُّ، يَعْتَذِرُ مِمَّا صَنَعَ يَوْمَئِذٍ
وَصَنَعَ النَّاسُ:
فَوَاللَّهِ لَا تَنْفَكُّ نَفْسِي تَلُومُنِي عَلَى مَوْقِفِي وَالْخَيْلُ
قَابِعَةٌ قُبْلُ
وَقَفْتُ بِهَا لَا مُسْتَجِيرًا فَنَافِذًا وَلَا مَانِعًا مَنْ كَانَ حُمَّ لَهُ
الْقَتْلُ
عَلَى أَنَّنِي آسَيْتُ نَفْسِي بِخَالِدٍ أَلَا خَالِدٌ فِي الْقَوْمِ لَيْسَ
لَهُ مِثْلُ
وَجَاشَتْ إِلَيَّ النَّفْسُ مِنْ نَحْوِ جَعْفَرٍ بِمُؤْتَةَ إِذْ لَا يَنْفَعُ
النَّابِلَ النَّبْلُ
وَضَمَّ إِلَيْنَا حُجْزَتَيْهِمْ كِلَيْهِمَا مُهَاجِرَةٌ لَا مُشْرِكُونَ وَلَا
عُزْلُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَيَّنَ قَيْسٌ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ
ذَلِكَ فِي شِعْرِهِ، أَنَّ الْقَوْمَ حَاجَزُوا وَكَرِهُوا الْمَوْتَ، وَحَقَّقَ
انْحِيَازَ خَالِدٍ بِمَنْ مَعَهُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَمَّا الزُّهْرِيُّ
فَقَالَ، فِيمَا بَلَغَنَا عَنْهُ: أَمَّرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ خَالِدَ
بْنَ الْوَلِيدِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَتَّى رَجَعَ
إِلَى الْمَدِينَةِ.
فَصْلٌ
إِخْبَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْتِشْهَادِ جَعْفَرٍ
وَصَاحِبَيْهِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أُمِّ
عِيسَى الْخُزَاعِيَّةِ، عَنْ أُمِّ جَعْفَرٍ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، عَنْ جَدَّتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: لَمَّا
أُصِيبَ جَعْفَرٌ وَأَصْحَابُهُ، دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ دَبَغْتُ أَرْبَعِينَ مَنًّا، وَعَجَنْتُ عَجِينِي،
وَغَسَّلْتُ بَنِيَّ وَدَهَّنْتُهُمْ وَنَظَّفْتُهُمْ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ائْتِنِي بِبَنِي جَعْفَرٍ
". فَأَتَيْتُهُ بِهِمْ فَشَمَّهُمْ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا يُبْكِيكَ، أَبَلَغَكَ عَنْ
جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ شَيْءٌ ؟ قَالَ: " نَعَمْ، أُصِيبُوا هَذَا الْيَوْمَ
" قَالَتْ: فَقُمْتُ أَصِيحُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيَّ النِّسَاءُ، وَخَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ:
" لَا تَغْفُلُوا عَنْ آلِ جَعْفَرٍ أَنْ تَصْنَعُوا لَهُمْ طَعَامًا،
فَإِنَّهُمْ قَدْ شُغِلُوا بِأَمْرِ صَاحِبِهِمْ وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ،، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أُمِّ
عِيسَى، عَنْ أُمِّ عَوْنٍ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَسْمَاءَ،
فَذَكَرَ الْأَمْرَ بِعَمَلِ الطَّعَامِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهَا أُمُّ
جَعْفَرٍ
وَأُمُّ عَوْنٍ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ خَالِدٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ
جَعْفَرٍ حِينَ قُتِلَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ يَشْغَلُهُمْ
أَوْ: أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ خَالِدِ بْنِ سَارَةَ الْمَخْزُومِيِّ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ.
ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:لَمَّا أَتَى نَعْيُ جَعْفَرٍ، عَرَفْنَا فِي وَجْهِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُزْنَ. قَالَتْ: فَدَخَلَ
عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النِّسَاءَ عَنَّيْنَنَا
وَفَتَنَّنَا. قَالَ: " ارْجِعْ إِلَيْهِنَّ فَأَسْكِتْهُنَّ " قَالَتْ:
فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. قَالَتْ: وَرُبَّمَا ضَرَّ
التَّكَلُّفُ. يَعْنِي أَهْلَهُ. قُلْتُ: قَالَ: " فَاذْهَبْ
فَأَسْكِتْهُنَّ، فَإِنْ أَبَيْنَ فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ ".
قَالَتْ: وَقُلْتُ
فِي
نَفْسِي: أَبْعَدَكَ اللَّهُ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتَ نَفْسَكَ، وَمَا أَنْتَ
بِمُطِيعٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ:
وَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَحْثِيَ فِي أَفْوَاهِهِنَّ
التُّرَابَ انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ فِي
شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، سَمِعْتُ
يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَمْرَةُ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ
تَقُولُ: لَمَّا قُتِلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْحُزْنُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَأَنَا أَطَّلِعُ
مِنْ صَائِرِ الْبَابِ - شَقٍّ - فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ،
إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ. وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ.
قَالَتْ: فَذَهَبَ الرَّجُلُ، ثُمَّ أَتَى فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنَا.
فَزَعَمَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
" فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ مِنَ التُّرَابِ " قَالَتْ عَائِشَةُ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، فَوَاللَّهِ مَا
أَنْتَ تَفْعَلُ، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنَ الْعَنَاءِ وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ
وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ
عَمْرَةَ، عَنْهَا
.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، ثَنَا أَبِي،
سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي يَعْقُوبَ يُحَدِّثُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا، اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ،
وَقَالَ: " إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ أَوِ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ جَعْفَرٌ،
فَإِنْ قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
". فَلَقُوا الْعَدُوَّ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ،
ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ أَخَذَهَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَتَى خَبَرُهُمُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ، فَحَمِدَ
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ إِخْوَانَكُمْ لَقُوا الْعَدُوَّ،
وَإِنَّ زَيْدًا أَخَذَ الرَّايَةَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ،
ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ بَعْدَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَاتَلَ حَتَّى
قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ أَوِ اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ
سُيُوفِ اللَّهِ، خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ ".
قَالَ: ثُمَّ أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُمْ
فَقَالَ: " لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ، ادْعُوَا لِيَ
ابْنَيْ أَخِي ". قَالَ: فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّنَا أَفْرُخٌ، فَقَالَ: "
ادْعُوا لِيَ الْحَلَّاقَ " فَجِيءَ بِالْحَلَّاقِ، فَحَلَقَ رُءُوسَنَا،
ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا مُحَمَّدٌ فَشَبِيهُ عَمِّنَا أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا
عَبْدُ اللَّهِ فَشَبِيهُ خَلْقِي وَخُلُقِي " ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي
فَأَشَالَهَا وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ، بَارِكْ
لِعَبْدِ اللَّهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ ". قَالَهَا
ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ. قَالَ: فَجَاءَتْ أُمُّنَا فَذَكَرَتْ لَهُ يُتْمَنَا، وَجَعَلَتْ
تُفْرِحُ لَهُ، فَقَالَ: " الْعَيْلَةَ تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ وَأَنَا
وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِبَعْضِهِ،
وَالنَّسَائِيُّ فِي السِّيَرِ بِتَمَامِهِ مِنْ حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ،
بِهِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرْخَصَ لَهُمْ
فِي الْبُكَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنْهُ بَعْدَهَا.
وَلَعَلَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، مِنْ
حَدِيثِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا لَمَّا أُصِيبَ
جَعْفَرٌ: " تَسَلَّبِي ثَلَاثًا ثُمَّ اصْنَعِي مَا شِئْتِ تَفَرَّدَ بِهِ
أَحْمَدُ. فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهَا فِي التَّسَلُّبِ، وَهُوَ
الْمُبَالَغَةُ فِي الْبُكَاءِ وَشَقِّ الثِّيَابِ، وَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ
التَّخْصِيصِ لَهَا بِهَذَا، لِشِدَّةِ حُزْنِهَا عَلَى جَعْفَرٍ أَبِي
أَوْلَادِهَا، وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا لَهَا بِالتَّسَلُّبِ،
وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِحْدَادِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَصْنَعُ
بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَتْ، مِمَّا يَفْعَلُهُ الْمُعْتَدَّاتُ عَلَى
أَزْوَاجِهِنَّ، مِنَ الْإِحْدَادِ الْمُعْتَادِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُرْوَى
:
" تَسَلَّيْ ثَلَاثًا ". أَيْ تَصَبَّرِي ثَلَاثًا، وَهَذَا بِخِلَافِ
الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ،
ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَوْمَ الثَّالِثَ مِنْ
قَتْلِ جَعْفَرٍ فَقَالَ: " لَا تُحِدِّي بَعْدَ يَوْمِكِ هَذَا فَإِنَّهُ
مِنْ أَفْرَادِ أَحْمَدَ أَيْضًا، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنَّهُ
مُشْكِلٌ إِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي "
الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ
تُحِدَّ عَلَى مَيِّتِهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِنْ كَانَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
مَحْفُوظًا، فَتَكُونُ مَخْصُوصَةً بِذَلِكَ، أَوْ هُوَ أَمْرٌ بِالْمُبَالَغَةِ
فِي الْإِحْدَادِ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَرَثَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ زَوْجَهَا بِقَصِيدَةٍ تَقُولُ
فِيهَا:
فَآلَيْتُ لَا تَنْفَكُّ نَفْسِي حَزِينَةً عَلَيْكَ وَلَا يَنْفَكُّ جِلْدِيَ
أَغْبَرَا فَلَلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِثْلَهُ فَتًى
أَكَرَّ وَأَحْمَى فِي الْهِيَاجِ وَأَصْبَرَا
ثُمَّ لَمْ تَنْشَبْ أَنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَخَطَبَهَا أَبُو بَكْرٍ
الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَتَزَوَّجَهَا، فَأَوْلَمَ، وَجَاءَ
النَّاسُ لِلْوَلِيمَةِ، فَكَانَ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
،
فَلَمَّا ذَهَبَ النَّاسُ اسْتَأْذَنَ عَلِيٌّ أَبَا بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، فِي أَنْ يُكَلِّمَ أَسْمَاءَ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ، فَأَذِنَ لَهُ،
فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنَ السِّتْرِ نَفَحَهُ رِيحُ طِيبِهَا، فَقَالَ لَهَا
عَلِيٌّ، عَلَى وَجْهِ الْبَسْطِ: مَنِ الْقَائِلَةُ فِي شِعْرِهَا:
فَآلَيْتُ لَا تَنْفَكُّ نَفْسِي حَزِينَةً عَلَيْكَ وَلَا يَنْفَكُّ جِلْدِيَ
أَغْبَرَا
قَالَتْ: دَعْنَا مِنْكَ يَا أَبَا الْحَسَنِ، فَإِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ دُعَابَةٌ.
فَوَلَدَتْ لِلصِّدِّيقِ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَلَدَتْهُ بِالشَّجَرَةِ
بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَاهِبٌ إِلَى حِجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ
وَتُهِلَّ، وَسَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ، ثُمَّ لَمَّا تُوُفِّيَ الصِّدِّيقُ،
تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهَا وَعَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ اسْتِقْبَالُ رَسُولِ اللَّهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ،
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: فَلَمَّا دَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ
تَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُسْلِمُونَ، قَالَ: وَلَقِيَهُمُ الصِّبْيَانُ يَشْتَدُّونَ، وَرَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلٌ مَعَ الْقَوْمِ عَلَى
دَابَّةٍ، فَقَالَ: " خُذُوا الصِّبْيَانَ فَاحْمِلُوهُمْ وَأَعْطُونِي ابْنَ
جَعْفَرٍ ". فَأُتِيَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَأَخَذَهُ فَحَمَلَهُ
بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: وَجَعَلَ النَّاسُ يَحْثُونَ عَلَى الْجَيْشِ التُّرَابِ
وَيَقُولُونَ: يَا فُرَّارُ، فَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟! قَالَ: فَيَقُولُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسُوا
بِالْفُرَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ الْكُرَّارُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا مُرْسَلٌ
.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، ثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ
مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ
بِالصِّبْيَانِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَإِنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَسُبِقَ بِي
إِلَيْهِ. قَالَ: فَحَمَلَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: ثُمَّ جِيءَ بِأَحَدِ
ابْنَيْ فَاطِمَةَ، إِمَّا حَسَنٌ وَإِمَّا حُسَيْنٌ، فَأَرْدَفَهُ خَلْفَهُ،
فَدَخَلْنَا الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةً عَلَى دَابَّةٍ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ
وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمٍ
الْأَحْوَلِ، عَنْ مُوَرِّقٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، ثَنَا
جَعْفَرُ بْنُ خَالِدِ بْنِ سَارَةَ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ: لَوْ رَأَيْتَنِي وَقُثَمَ وَعُبَيْدَ اللَّهِ
ابْنَيِ الْعَبَّاسِ وَنَحْنُ صِبْيَانٌ نَلْعَبُ، إِذْ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَابَّةٍ فَقَالَ: " ارْفَعُوا هَذَا إِلَيَّ
". فَحَمَلَنِي أَمَامَهُ وَقَالَ لِقُثَمَ: " ارْفَعُوا هَذَا إِلَيَّ
". فَجَعَلَهُ وَرَاءَهُ، وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَحَبَّ إِلَى عَبَّاسٍ
مِنْ قُثَمَ، فَمَا اسْتَحَى مِنْ عَمِّهِ أَنْ حَمَلَ قُثَمَ وَتَرَكَهُ. قَالَ:
ثُمَّ مَسَحَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثًا. وَقَالَ كُلَّمَا مَسَحَ: " اللَّهُمَّ
اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي وَلَدِهِ قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ: مَا فَعَلَ
قُثَمُ ؟ قَالَ: اسْتُشْهِدَ. قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ
بِالْخَيْرِ. قَالَ: أَجَلْ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي " الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، بِهِ
.
وَهَذَا كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ، فَإِنَّ الْعَبَّاسَ إِنَّمَا قَدِمَ
الْمَدِينَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، ثَنَا حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ:قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ لِابْنِ
الزُّبَيْرِ: أَتَذْكُرُ إِذْ تَلَقَّيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَحَمَلَنَا
وَتَرَكَكَ.
هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَكَأَنَّهُ غَلَطٌ فِي النُّسْخَةِ،
فَإِنَّهُ مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، فَصَوَابُهُ:قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ: أَتَذْكُرُ إِذْ
تَلَقَّيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَنْتَ
وَابْنُ عَبَّاسٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَمَلَنَا وَتَرَكَكَ. وَبِهَذَا اللَّفْظِ
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ،
وَهَذَا يُعَدُّ مِنَ الْأَجْوِبَةِ الْمُسْكِتَةِ، وَيُرْوَى أَنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَجَابَ بِهِ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَيْضًا، وَهَذِهِ
الْقِصَّةُ قِصَّةٌ أُخْرَى كَانَتْ بَعْدَ الْفَتْحِ، كَمَا قَدَّمْنَا
بَيَانَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
فِي فَضْلِ هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءِ الثَّلَاثَةِ زَيْدٍ وَجَعْفَرٍ وَعَبْدِ
اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَمَّا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى
بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ
وُدِّ بْنِ عَوْفِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ
زَيْدِ اللَّاتِ بْنِ رُفَيْدَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ كَلْبِ بْنِ وَبَرَةَ بْنِ
تَغْلِبَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ
الْكَلْبِيُّ الْقُضَاعِيُّ، مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّهُ ذَهَبَتْ تَزُورُ أَهْلَهَا، فَأَغَارَتْ عَلَيْهِمْ
خَيْلُ بَلْقَيْنِ فَأَخَذُوهُ، فَاشْتَرَاهُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ لِعَمَّتِهِ
خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ. وَقِيلَ: اشْتَرَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا، فَوَهَبَتْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، فَوَجَدَهُ أَبُوهُ، فَاخْتَارَ
الْمُقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَعْتَقَهُ وَتَبَنَّاهُ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَكَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا،
وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمَوَالِي، وَنَزَلَ فِيهِ آيَاتٍ مِنَ
الْقُرْآنِ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ
أَبْنَاءَكُمْ ( الْأَحْزَابِ: 4 ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ
هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ( الْأَحْزَابِ: 5 ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ
مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ( الْأَحْزَابِ: 40 ) وَقَوْلُهُ: وَإِذْ
تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ
عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ
وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ
مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا
الْآيَةَ
( الْأَحْزَابِ: 37 ). أَجْمَعُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ أُنْزِلَتْ فِيهِ،
وَمَعْنَى أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَيْ بِالْإِسْلَامِ، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ
أَيْ بِالْعِتْقِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي " التَّفْسِيرِ ".
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُسَمِّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ
فِي الْقُرْآنِ غَيْرَهُ، وَهَدَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَعْتَقَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَوَّجَهُ مَوْلَاتَهُ أُمَّ
أَيْمَنَ، وَاسْمُهَا بَرَكَةُ، فَوَلَدَتْ لَهُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَكَانَ
يُقَالُ لَهُ: الْحِبُّ بْنُ الْحِبِّ، ثُمَّ زَوَّجَهُ بِابْنَةِ عَمَّتِهِ
زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَآخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمِّهِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، وَقَدَّمَهُ فِي الْإِمْرَةِ عَلَى ابْنِ عَمِّهِ جَعْفَرِ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ مُؤْتَةَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَبِي شَيْبَةَ - وَهَذَا لَفْظُهُ -: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ
وَائِلِ بْنِ دَاوُدَ، سَمِعْتُ الْبَهِيَّ يُحَدِّثُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ
تَقُولُ:مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ
بْنَ حَارِثَةَ فِي سَرِيَّةٍ إِلَّا أَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ بَقِيَ
بَعْدَهُ لَاسْتَخْلَفَهُ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيِّ، بِهِ. وَهَذَا
إِسْنَادٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا سُلَيْمَانُ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنِي
ابْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ
أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمْرَتِهِ، فَقَامَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " إِنْ تَطْعَنُوا فِي
إِمْرَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ،
وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ
أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ
بَعْدَهُ.
وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ - هُوَ ابْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْمَدَنِيُّ - عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ.
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ اسْتَغْرَبَهُ
مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: ثَنَا عُمَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ مُجَالِدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:لَمَّا أُصِيبَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، جِيءَ
بِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَأُخِّرَ، ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَقَالَ: " أُلَاقِي مِنْكَ الْيَوْمَ مَا لَقِيتُ مِنْكَ أَمْسِ وَهَذَا
الْحَدِيثُ فِيهِ غَرَابَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ
مُصَابَهُمْ وَهُوَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَوْقَ الْمِنْبَرِ،
جَعَلَ يَقُولُ: " أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا
جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ
أَخَذَهَا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ".
قَالَ: وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَذْرِفَانِ. وَقَالَ: " وَمَا يَسُرُّهُمْ
أَنَّهُمْ عِنْدَنَا وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَنَّهُ شَهِدَ لَهُمْ
بِالشَّهَادَةِ، فَهُمْ مِمَنْ يُقْطَعُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ.
وَقَدْ قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَرْثِي زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَابْنَ
رَوَاحَةَ:
عَيْنُ جُودِي بِدَمْعِكِ الْمَنْزُورِ وَاذْكُرِي فِي الرَّخَاءِ أَهَلَ
الْقُبُورِ وَاذْكُرِي مُؤْتَةَ وَمَا كَانَ فِيهَا
يَوْمَ رَاحُوا فِي وَقَعْةِ التَّغْوِيرِ حِينَ رَاحُوا وَغَادَرُوا ثَمَّ
زَيْدًا
نِعْمَ مَأْوَى الضَّرِيكِ وَالْمَأْسُورِ حِبَّ خَيْرِ الْأَنَامِ طُرًّا
جَمِيعًا
سَيِّدِ النَّاسِ حُبُّهُ فِي الصُّدُورِ ذَاكُمُ أَحْمَدُ الَّذِي لَا سِوَاهُ
ذَاكَ حُزْنِي لَهُ مَعًا وَسُرُورِي
إِنَّ
زَيْدًا قَدْ كَانَ مِنَّا بِأَمْرٍ
لَيْسَ أَمْرَ الْمُكَذَّبِ الْمَغْرُورِ ثُمَّ جُودِي لِلْخَزْرَجِيِّ بِدَمْعٍ
سَيِّدًا كَانَ ثَمَّ غَيْرَ نَزُورِ قَدْ أَتَانَا مِنْ قَتْلِهِمْ مَا كَفَانَا
فَبِحُزْنٍ نَبِيتُ غَيْرَ سُرُورِ
وَأَمَّا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ،
فَهُوَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ
أَكْبَرُ مِنْ أَخِيهِ عَلِيٍّ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ عَقِيلٌ أَسَنَّ مِنْ
جَعْفَرٍ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ طَالِبٌ أَسَنَّ مِنْ عَقِيلٍ بِعَشْرِ
سِنِينَ، أَسْلَمَ جَعْفَرٌ قَدِيمًا، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَكَانَتْ
لَهُ هُنَالِكَ مَوَاقِفُ مَشْهُورَةٌ، وَمَقَامَاتٌ مَحْمُودَةٌ، وَأَجْوِبَةٌ
سَدِيدَةٌ، وَأَحْوَالٌ رَشِيدَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي هِجْرَةِ
الْحَبَشَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدْ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ:مَا أَدْرِي بِأَيِّهِمَا أَنَا أُسَرُّ، أَبِقُدُومِ جَعْفَرٍ، أَمْ
بِفَتْحِ خَيْبَرَ ؟ وَقَامَ إِلَيْهِ وَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَ بَيْنِ عَيْنَيْهِ،
وَقَالَ لَهُ يَوْمَ خَرَجُوا مِنْ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ: أَشْبَهْتَ خَلْقِي
وَخُلُقِي فَيُقَالُ: إِنَّهُ حَجَلَ عِنْدَ ذَلِكَ فَرَحًا. كَمَا تَقَدَّمَ
ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَلَمَّا بَعَثَهُ إِلَى
مُؤْتَةَ جَعَلَهُ فِي الْإِمْرَةِ مُصَلِّيًا - أَيْ ثَانِيًا - لِزَيْدِ بْنِ
حَارِثَةَ، وَلَمَّا قُتِلَ وَجَدُوا فِيهِ بِضْعًا وَتِسْعِينَ مَا بَيْنَ
ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ، وَطَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ
كُلِّهِ مُقْبِلٌ غَيْرَ مُدْبِرٍ، وَكَانَتْ قَدْ
قُطِعَتْ
يَدُهُ الْيُمْنَى ثُمَّ الْيُسْرَى وَهُوَ مُمْسِكٌ اللِّوَاءَ، فَلَمَّا
فَقَدَهُمَا احْتَضَنَهُ حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ كَذَلِكَ. فَيُقَالُ: إِنْ رَجُلًا
مِنَ الرُّومِ ضَرَبَهُ بِسَيْفٍ فَقَطَعَهُ بِاثْنَتَيْنِ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْ
جَعْفَرٍ وَلَعَنَ قَاتِلَهُ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ شَهِيدٌ، فَهُوَ مِمَّنْ يُقْطَعُ لَهُ
بِالْجَنَّةِ. وَجَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ تَسْمِيَتُهُ بِذِي الْجَنَاحَيْنِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى
ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ ذِي
الْجَنَاحَيْنِ. وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ نَفْسِهِ،
وَالصَّحِيحُ مَا فِي " الصَّحِيحِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالُوا:
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَوَّضَهُ عَنْ يَدَيْهِ بِجَنَاحَيْنِ فِي الْجَنَّةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ،
ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ جَعْفَرًا يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ مَعَ
الْمَلَائِكَةِ وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُتِلَ
وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي "
الْغَابَةِ ": كَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ قُتِلَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَالَ: وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَعَلَى مَا قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ أَسَنَّ مِنْ عَلِيٍّ بِعَشْرِ سِنِينَ
يَقْتَضِي أَنَّ
عُمْرَهُ
يَوْمَ قُتِلَ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، لِأَنَّ عَلِيًّا أَسْلَمَ وَهُوَ
ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
سَنَةً، وَهَاجَرَ وَعُمْرُهُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَيَوْمُ مُؤْتَةَ
كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ كَانَ
يُقَالُ لِجَعْفَرٍ بَعْدَ قَتْلِهِ: الطَّيَّارُ. لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ
كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، وَكَانَ لِكَرَمِهِ يُقَالُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ:
أَبُو الْمَسَاكِينِ لِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا خَالِدٌ،
عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا احْتَذَى النِّعَالَ وَلَا
انْتَعَلَ، وَلَا رَكِبَ الْمَطَايَا، وَلَا لَبِسَ الثِّيَابَ مِنْ رَجُلٍ بَعْدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ مِنْ جَعْفَرِ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَأَنَّهُ
إِنَّمَا يُفَضِّلُهُ فِي الْكَرَمِ، فَأَمَّا فِي الْفَضِيلَةِ الدِّينِيَّةِ
فَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّدِّيقَ وَالْفَارُوقَ بَلْ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ
أَفْضَلُ مِنْهُ، وَأَمَّا أَخُوهُ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مُتَكَافِئَانِ، أَوْ عَلِيٌّ أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَبُو هُرَيْرَةَ تَفْضِيلَهُ فِي الْكَرَمِ، بِدَلِيلِ مَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي
ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّاسَ
كَانُوا يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِنِّي كُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِبَعِ بَطْنِي حِينَ لَا آكُلُ
الْخَمِيرَ، وَلَا أَلْبَسُ الْحَرِيرَ، وَلَا يَخْدُمُنِي فُلَانٌ وَفُلَانَةُ،
وَكُنْتُ أُلْصِقُ بَطْنِي بِالْحَصْبَاءِ مِنَ
الْجُوعِ،
وَإِنِّي كُنْتُ لَأَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الْآيَةَ هِيَ مَعِي، كَيْ يَنْقَلِبَ
بِي فَيُطْعِمَنِي، وَكَانَ خَيْرَ النَّاسِ لِلْمَسَاكِينِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ، وَكَانَ يَنْقَلِبُ بِنَا فَيُطْعِمُنَا مَا كَانَ فِي بَيْتِهِ، حَتَّى
إِنْ كَانَ لَيُخْرِجُ إِلَيْنَا الْعُكَّةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ
فَنَشُقُّهَا فَنَلْعَقُ مَا فِيهَا. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَرْثِي جَعْفَرًا:
وَلَقَدْ بَكَيْتُ وَعَزَّ مَهْلِكُ جَعْفَرٍ حِبِّ النَّبِيِّ عَلَى الْبَرِيَّةِ
كُلِّهَا
وَلَقَدْ جَزِعْتُ وَقُلْتُ حِينَ نُعِيتَ لِي مَنْ لِلْجِلَادِ لَدَى الْعُقَابِ
وَظِلِّهَا
بِالْبِيضِ حِينَ تُسَلُّ مِنْ أَغْمَادِهَا ضَرْبًا وَإِنْهَالِ الرِّمَاحِ
وَعَلِّهَا
بَعْدَ ابْنِ فَاطِمَةَ الْمُبَارَكِ جَعْفَرٍ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا
وَأَجَلِّهَا
رُزْءًا وَأَكْرَمِهَا جَمَيْعًا مَحْتِدًا وَأَعَزِّهَا مُتَظَلِّمًا
وَأَذَلِّهَا
لِلْحَقِّ حِينَ يَنُوبُ غَيْرَ تَنَحُّلٍ كَذِبًا وَأَنْدَاهَا يَدًا
وَأَقَلِّهَا
فُحْشًا وَأَكْثَرِهَا إِذَا مَا يُجْتَدَى فَضْلًا وَأَبْذَلِهَا نَدًى
وَأَبَلِّهَا
بِالْعُرْفِ
غَيْرَ مُحَمَّدٍ لَا مِثْلُهُ حَيٌّ مِنَ احْيَاءِ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا
وَأَمَّا ابْنُ رَوَاحَةَ، فَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ
بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ الْأَكْبَرِ بْنِ مَالِكِ
بْنِ الْأَغَرِّ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ
بْنِ الْخَزْرَجِ أَبُو مُحَمَّدٍ - وَيُقَالُ: أَبُو رَوَاحَةَ. وَيُقَالُ: أَبُو
عَمْرٍو - الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، وَهُوَ خَالُ النُّعْمَانِ بْنِ
بَشِيرٍ، أُخْتُهُ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ، أَسْلَمَ قَدِيمًا وَشَهِدَ
الْعَقَبَةَ، وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ لَيْلَتَئِذٍ لِبَنِي الْحَارِثِ بْنِ
الْخَزْرَجِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْحُدَيْبِيَةَ
وَخَيْبَرَ، وَكَانَ يَبْعَثُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
خَرْصِهَا كَمَا قَدَّمْنَا، وَشَهِدَ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَدَخَلَ يَوْمَئِذٍ
وَهُوَ مُمْسِكٌ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَقِيلَ: بِغَرْزِهَا. يَعْنِي الرِّكَابَ - وَهُوَ يَقُولُ:
خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ
الْأَبْيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَانَ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ
مُؤْتَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ شَجَّعَ الْمُسْلِمِينَ لِلِقَاءِ الرُّومِ
حِينَ اشْتَوَرُوا فِي ذَلِكَ، وَشَجَّعَ نَفْسَهُ أَيْضًا حَتَّى نَزَلَ بَعْدَمَا
قُتِلَ صَاحِبَاهُ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالشَّهَادَةِ، فَهُوَ مِمَّنْ يُقْطَعُ لَهُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا أَنْشَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شِعْرَهُ، حِينَ وَدَّعَهُ، الَّذِي يَقُولُ فِيهِ:
فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي
نُصِرُوا
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:وَأَنْتَ
فَثَبَّتَكَ اللَّهُ قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: فَثَبَّتَهُ اللَّهُ حَتَّى
قُتِلَ شَهِيدًا وَدَخَلَ الْجَنَّةَ
.
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ فَسَمِعَهُ يَقُولُ: " اجْلِسُوا
". فَجَلَسَ مَكَانَهُ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ، حَتَّى فَرَغَ النَّبِيُّ
مِنْ خُطْبَتِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: " زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا عَلَى طَوَاعِيَةِ اللَّهِ وَطَوَاعِيَةِ
رَسُولِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ": وَقَالَ مُعَاذٌ: اجْلِسْ
بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً.
وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فِي ذَلِكَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
رَوَاحَةَ بِنَحْوِ ذَلِكَ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
الصَّمَدِ، عَنْ عِمَارَةَ، عَنْ زِيَادٍ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِذَا لَقِيَ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ
يَقُولُ: تَعَالَ نُؤْمِنْ بِرَبِّنَا سَاعَةً. فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِرَجُلٍ،
فَغَضِبَ الرَّجُلُ فَجَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَرَى ابْنَ
رَوَاحَةَ يَرْغَبُ عَنْ إِيمَانِكَ إِلَى إِيمَانِ سَاعَةٍ ! فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ رَوَاحَةَ،
إِنَّهُ يُحِبُّ الْمَجَالِسَ الَّتِي تَتَبَاهَى بِهَا الْمَلَائِكَةُ وَهَذَا
حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: ثَنَا الْحَاكِمُ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ أَيُّوبَ، ثَنَا أَحْمَدُ
بْنُ
يُونُسَ، ثَنَا شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ،
عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَالَ لِصَاحِبٍ
لَهُ: تَعَالَ حَتَّى نُؤْمِنَ سَاعَةً. قَالَ: أَوَلَسْنَا بِمُؤْمِنِينَ ؟
قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّا نَذْكُرُ اللَّهَ فَنَزْدَادُ إِيمَانًا.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالَكَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي
الْيَمَانِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ كَانَ يَأْخُذُ بِيَدِ الرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ
فَيَقُولُ: قُمْ بِنَا نُؤَمِّنْ سَاعَةً فَنَجْلِسُ فِي مَجْلِسِ ذِكْرٍ. وَهَذَا
مُرْسَلٌ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى
ذَلِكَ فِي أَوَّلِ " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ ". وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ،
وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ كَانَ مِنْ
شُعَرَاءِ الصَّحَابَةِ الْمَشْهُورِينَ، وَمِمَّا نَقَلَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ
شِعْرِهِ قَوْلُهُ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ
الْفَجْرِ سَاطِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ
الْمَضَاجِعُ
أَتَى بِالْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ
وَاقِعُ
وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
فُضَيْلٍ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ:
أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ، فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ
تَبْكِي: وَاجَبَلَاهُ، وَاكَذَا، وَاكَذَا. تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ
أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلَّا قِيلَ لِي: أَنْتَ كَذَلِكَ ؟ !
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا عَبْثَرٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ
النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ،
بِهَذَا، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا رَثَاهُ بِهِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ مَعَ غَيْرِهِ.
وَقَالَ شَاعِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ رَجَعَ مِنْ مُؤْتَةَ مَعَ مَنْ
رَجَعَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ:
كَفَى حَزَنًا أَنِّي رَجَعْتُ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي رَمْسِ
أَقْبُرِ
قَضَوْا نَحْبَهُمْ لَمَّا مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ وَخُلِّفْتُ لِلْبَلْوَى مَعَ
الْمُتَغَبِّرِ
وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَقِيَّةُ مَا رُثِيَ بِهِ هَؤُلَاءِ
الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ مِنْ شِعْرِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، وَكَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا.
فَصْلٌ
فِي مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ مُؤْتَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ، جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَمَوْلَاهُمْ زَيْدُ بْنُ
حَارِثَةَ الْكَلْبِيُّ، وَمَسْعُودُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ
نَضْلَةَ الْعَدَوِيُّ، وَوَهْبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، فَهَؤُلَاءِ
أَرْبَعَةُ نَفَرٍ. وَمِنَ الْأَنْصَارِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
وَعَبَّادُ بْنُ قَيْسٍ الْخَزْرَجِيَّانِ، وَالْحَارِثُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ
إِسَافِ بْنِ نَضْلَةَ النَّجَّارِيُّ، وَسُرَاقَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطِيَّةَ
بْنِ خَنْسَاءَ الْمَازِنِيُّ، أَرْبَعَةُ نَفَرٍ. فَمَجْمُوعُ مَنْ قُتِلَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ هَؤُلَاءِ الثَّمَانِيَةُ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ
إِسْحَاقَ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَمِمَّنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ مُؤْتَةَ،
فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، أَبُو كُلَيْبٍ وَجَابِرٌ ابْنَا
عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولٍ الْمَازِنِيَّانِ، وَهُمَا
شَقِيقَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَعَمْرٌو وَعَامِرٌ ابْنَا سَعْدِ بْنِ الْحَارِثِ
بْنِ عَبَّادِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ
أَفْصَى. فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَيْضًا، فَالْمَجْمُوعُ عَلَى
الْقَوْلَيْنِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا أَنْ يَتَقَاتَلَ
جَيْشَانِ مُتَعَادِيَانِ فِي الدِّينِ، أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الْفِئَةُ الَّتِي
تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، عِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَأُخْرَى
كَافِرَةٌ عِدَّتُهَا
مِائَتَا أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مِنَ الرُّومِ مِائَةُ أَلْفٍ، وَمِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ مِائَةُ أَلْفٍ، يَتَبَارَزُونَ وَيَتَصَاوَلُونَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَا يُقْتَلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ. هَذَا خَالِدٌ وَحَدَهُ يَقُولُ: لَقَدِ انْدَقَّتْ فِي يَدِي يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، وَمَا صَبَرَتْ فِي يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ. فَمَاذَا تُرَى قَدْ قُتِلَ بِهَذِهِ الْأَسْيَافِ كُلِّهَا ؟! دَعْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَبْطَالِ وَالشُّجْعَانِ، مِنْ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَحَكَّمُوا فِي عَبَدَةِ الصُّلْبَانِ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ الرَّحْمَنِ، فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَفِي كُلِّ أَوَانٍ. وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ( آلِ عِمْرَانَ: 13 ).
حَدِيثٌ
فِيهِ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ لِأُمَرَاءِ هَذِهِ السَّرِيَّةِ
وَهُمْ، زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ رَوَاحَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْحَافِظُ أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبْدِ الْكَرِيمِ الرَّازِيُّ، نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ، فِي كِتَابِهِ "
دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ " - وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ -: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ
بْنُ صَالِحٍ الدِّمَشْقِيُّ، ثَنَا الْوَلِيدُ، ثَنَا ابْنُ جَابِرٍ، ( ح ) وَحَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ، ثَنَا الْوَلِيدُ وَعَمْرٌو
- يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ - قَالَا: ثَنَا ابْنُ جَابِرٍ، سَمِعْتُ
سُلَيْمَ بْنَ عَامِرٍ الْخَبَائِرِيَّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ
الْبَاهِلِيُّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ:بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلَانِ، فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ
فَأَتَيَا بِي جَبَلًا وَعْرًا فَقَالَا: اصْعَدْ. فَقُلْتُ: لَا أُطِيقُهُ.
فَقَالَا: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ. قَالَ: فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي
سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا أَنَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ، فَقُلْتُ: مَا هَؤُلَاءِ
الْأَصْوَاتُ ؟ فَقَالَا: عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ. ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا
بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا، فَقُلْتُ: مَا هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَا: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ ". فَقَالَ: خَابَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. قَالَ سُلَيْمٌ: لَا أَدْرِي أَسَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ مِنْ رَأْيِهِ " ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا قَوْمٌ أَشَدُّ شَيْءٍ انْتِفَاخًا، وَأَنْتَنُ شَيْءٍ رِيحًا، كَأَنَّ رِيحَهُمُ الْمَرَاحِيضُ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَا: هَؤُلَاءِ قَتْلَى الْكُفَّارِ. ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا بِقَوْمٍ أَشَدِّ شَيْءٍ انْتِفَاخًا، وَأَنْتَنِ شَيْءٍ رِيحًا، كَأَنَّ رِيحَهُمُ الْمَرَاحِيضُ. قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الزَّانُونَ وَالزَّوَانِي. ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا بِنِسَاءٍ تَنْهَشُ ثُدِيَّهُنَّ الْحَيَّاتُ، فَقُلْتُ: مَا بَالُ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَا: هَؤُلَاءِ اللَّاتِي يَمْنَعْنَ أَوْلَادَهُنَّ أَلْبَانَهُنَّ. ثُمَّ انْطَلَقَا بِي، فَإِذَا بِغِلْمَانٍ يَلْعَبُونَ بَيْنَ بَحْرَيْنِ، قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَا: هَؤُلَاءِ ذَرَارِيُّ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ أَشْرَفَا بِي شَرَفًا، فَإِذَا بِنَفَرٍ ثَلَاثَةٍ يَشْرَبُونَ مِنْ خَمْرٍ لَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَا: هَؤُلَاءِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ. ثُمَّ أَشْرَفَا بِي شَرَفًا آخَرَ، فَإِذَا أَنَا بِنَفَرٍ ثَلَاثَةٍ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَا: هَؤُلَاءِ إِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ.
فَصْلٌ
فِيمَا قِيلَ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّا بُكِيَ بِهِ أَصْحَابُ مُؤْتَةَ قَوْلُ
حَسَّانَ:
تَأَوَّبَنِي لَيْلٌ بِيَثْرِبَ أَعْسَرُ وَهَمٌّ إِذَا مَا نَوَّمَ النَّاسُ
مُسْهِرُ لِذِكْرَى حَبِيبٍ هَيَّجَتْ لِيَ عَبْرَةً
سَفُوحًا وَأَسْبَابُ الْبُكَاءِ التَّذَكُّرُ بَلَى إِنَّ فُقْدَانَ الْحَبِيبِ
بَلِيَّةٌ
وَكَمْ مِنْ كَرِيمٍ يُبْتَلَى ثُمَّ يَصْبِرُ رَأَيْتُ خِيَارَ الْمُسْلِمِينَ
تَوَارَدُوا
شُعُوبًا وَخَلْفًا بَعْدَهُمْ يَتَأَخَّرُ فَلَا يُبْعِدَنَّ اللَّهُ قَتْلَى
تَتَابَعُوا
بِمُؤْتَةَ مِنْهُمْ ذُو الْجَنَاحَيْنِ جَعْفَرُ وَزَيْدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ حِينَ
تَتَابَعُوا
جَمِيعًا وَأَسْبَابُ الْمَنِيَّةِ تَخْطِرُ غَدَاةَ مَضَوْا بِالْمُؤْمِنِينَ
يَقُودُهُمْ
إِلَى الْمَوْتِ مَيْمُونُ النَّقِيبَةِ أَزْهَرُ
أَغَرُّ
كَضَوْءِ الْبَدْرِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ
أَبِيٌّ إِذَا سِيمَ الظُّلَامَةَ مِجْسَرُ فَطَاعَنَ حَتَّى مَالَ غَيْرَ
مُوَسَّدٍ
بِمُعْتَرَكٍ فِيهِ الْقَنَا مُتَكَسِّرُ فَصَارَ مَعِ الْمُسْتَشْهِدِينَ
ثَوَابُهُ
جِنَانٌ وَمُلْتَفُّ الْحَدَائِقِ أَخْضَرُ وَكُنَّا نَرَى فِي جَعْفَرٍ مِنْ
مُحَمَّدٍ
وَفَاءً وَأَمْرًا حَازِمًا حِينَ يَأْمُرُ وَمَا زَالَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ آلِ
هَاشِمٍ
دَعَائِمُ عِزٍّ لَا يَزُلْنَ وَمَفْخَرُ هُمُ جَبَلُ الْإِسْلَامِ وَالنَّاسُ
حَوْلَهُمْ
رِضَامٌ إِلَى طَوْدٍ يَرُوقُ وَيَقْهَرُ بِهَالِيلُ مِنْهُمْ جَعْفَرٌ وَابْنُ
أُمِّهِ
عَلِيٌّ وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ الْمُتَخَيَّرُ وَحَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ مِنْهُمْ
وَمِنْهُمُ
عَقِيلٌ وَمَاءُ الْعُودِ مِنْ حَيْثُ يُعْصَرُ بِهِمْ تُفْرَجُ اللَّأْوَاءُ فِي
كُلِّ مَأْزِقٍ
عَمَاسٍ إِذَا مَا ضَاقَ بِالنَّاسِ مَصْدَرُ هُمُ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ أَنْزَلَ
حُكْمَهُ
عَلَيْهِمْ وَفِيهِمْ ذَا الْكِتَابُ الْمُطَهَّرُ
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
:
نَامَ الْعُيُونُ وَدَمْعُ عَيْنِكَ يَهْمُلُ سَحًّا كَمَا وَكَفَ الطِّبَابُ
الْمُخْضِلُ
فِي لَيْلَةٍ وَرَدَتْ عَلَيَّ هُمُومُهَا طَوْرًا أَحِنُّ وَتَارَةً أَتَمَلْمَلُ
وَاعَتَادَنِي حُزْنٌ فَبِتُّ كَأَنَّنِي بِبَنَاتِ نَعْشٍ وَالسِّمَاكِ مُوَكَّلُ
وَكَأَنَّمَا بَيْنَ الْجَوَانِحِ وَالْحَشَا مِمَّا تَأَوَّبَنِي شِهَابٌ
مُدْخَلُ
وَجْدًا عَلَى النَّفَرِ الَّذِينَ تَتَابَعُوا يَوْمًا بِمُؤْتَةَ أُسْنِدُوا
لَمْ يُنْقَلُوا
صَلَّى الْإِلَهُ عَلَيْهُمُ مِنْ فِتْيَةٍ وَسَقَى عِظَامَهُمُ الْغَمَامُ
الْمُسْبِلُ
صَبَرُوا بِمُؤْتَةَ لِلْإِلَهِ نُفُوسَهُمْ حَذَرَ الرَّدَى وَمَخَافَةً أَنْ
يَنْكُلُوا
فَمَضَوْا أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ كَأَنَّهُمْ فُنُقٌ عَلَيْهِنَّ الْحَدِيدُ
الْمُرْفَلُ
إِذْ يَهْتَدُونَ بِجَعْفَرٍ وَلِوَائِهِ قُدَّامَ أَوَّلِهِمْ فَنِعْمَ الْأَوَّلُ
حَتَّى تَفَرَّجَتِ الصُّفُوفُ وَجَعْفَرٌ حَيْثُ الْتَقَى وَعْثُ الصُّفُوفِ
مُجَدَّلُ
فَتَغَيَّرَ
الْقَمَرُ الْمُنِيرُ لِفَقْدِهِ وَالشَّمْسُ قَدْ كَسَفَتْ وَكَادَتْ تَأْفِلُ
قَرْمٌ عَلَا بُنْيَانُهُ مِنْ هَاشِمٍ فَرْعًا أَشَمَّ وَسُؤْدَدًا مَا يُنْقَلُ
قَوْمٌ بِهِمْ عَصَمَ الِإِلَهُ عِبَادَهُ وَعَلَيْهِمُ نَزَلَ الْكِتَابُ
الْمُنْزَلُ
فَضَلُوا الْمَعَاشِرَ عِزَّةً وَتَكُرُّمَا وَتَغَمَّدَتْ أَحْلَامَهُمْ مَنْ
يَجْهَلُ
لَا يُطْلِقُونَ إِلَى السَّفَاهِ حُبَاهُمُ وَيُرَى خَطِيبُهُمُ بِحَقٍّ يَفْصِلُ
بِيضُ الْوُجُوهِ تَرَى بُطُونَ أَكُفِّهِمْ تَنْدَى إِذَا اعْتَذَرَ الزَّمَانُ
الْمُمْحِلُ
وَبِهَدْيِهِمْ رَضِيَ الْإِلَهُ لِخَلْقِهِ وَبِجِدِّهِمْ نُصِرَ النَّبِيُّ
الْمُرْسَلُ
بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كِتَابُ بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُلُوكِ
الْآفَاقِ وَكَتْبِهِ إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ، إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَإِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ ذَلِكَ فِي آخِرِ سَنَةِ سِتٍّ فِي ذِي الْحِجَّةِ،
بَعْدَ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْفَصْلَ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ، بَعْدَ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا خِلَافَ
بَيْنَهُمْ أَنَّ بَدْءَ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَبَعْدَ
الْحُدَيْبِيَةِ، لِقَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ لِهِرَقْلَ حِينَ سَأَلَهُ: هَلْ
يَغْدِرُ ؟ فَقَالَ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ
صَانِعٌ فِيهَا. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: وَذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي
مَادَّ فِيهَا أَبُو سُفْيَانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ ذَلِكَ مَا بَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ
وَوَفَاتِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَنَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ
هَاهُنَا، وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ مُحْتَمَلًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ حَمَّادٍ الْمَعْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ
الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ قَبْلَ مَوْتِهِ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَإِلَى
النَّجَاشِيِّ، وَإِلَى كُلِّ جَبَّارٍ، يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ
وَجَلَّ، وَلَيْسَ بِالنَّجَاشِيِّ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي
الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ، مِنْ فِيهِ إِلَى
فِيَّ، قَالَ: كُنَّا قَوْمًا تُجَّارًا، وَكَانَتِ الْحَرْبُ قَدْ حَصَرَتْنَا
حَتَّى نَهَكَتْ أَمْوَالَنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ - هُدْنَةُ
الْحُدَيْبِيَةِ - بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ نَأْمَنْ أَنْ وَجَدْنَا أَمْنًا، فَخَرَجْتُ تَاجِرًا إِلَى
الشَّامِ مَعَ رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ بِمَكَّةَ
امْرَأَةً وَلَا رَجُلًا إِلَّا وَقَدْ حَمَّلَنِي بِضَاعَةً، وَكَانَ وَجْهُ
مَتْجَرِنَا مِنَ الشَّامِ غَزَّةَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، فَخَرَجْنَا حَتَّى
قَدِمْنَاهَا، وَذَلِكَ حِينَ ظَهَرَ قَيْصَرُ صَاحِبُ الرُّومِ عَلَى مَنْ كَانَ
فِي بِلَادِهِ مِنَ الْفُرْسِ، فَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ صَلِيبَهُ
الْأَعْظَمَ، وَقَدْ كَانَ اسْتَلَبُوهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا أَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ،
وَقَدْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِحِمْصَ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ، فَخَرَجَ مِنْهَا يَمْشِي
مُتَشَكِّرًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
لِيُصَلِّيَ فِيهِ، تُبْسَطُ لَهُ الْبُسُطُ، وَتُطْرَحُ لَهُ عَلَيْهَا الرَّيَاحِينُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى إِيلِيَاءَ فَصَلَّى بِهَا، فَأَصْبَحَ ذَاتَ غَدَاةٍ وَهُوَ مَهْمُومٌ، يُقَلِّبُ طَرَفَهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَتْ بِطَارِقَتُهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَقَدْ أَصْبَحْتَ مَهْمُومًا. فَقَالَ: أَجَلْ. فَقَالُوا: وَمَا ذَاكَ ؟ فَقَالَ: أُرِيتُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَنَّ مَلِكَ الْخِتَانِ ظَاهِرٌ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ تَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودَ، وَهُمْ تَحْتَ يَدَيْكَ وَفِي سُلْطَانِكَ، فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ هَذَا فِي نَفْسِكَ مِنْهُمْ، فَابْعَثْ فِي مَمْلَكَتِكَ كُلِّهَا، فَلَا يَبْقَى يَهُودِيٌّ إِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، فَتَسْتَرِيحُ مِنْ هَذَا الْهَمِّ، فَإِنَّهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِمْ يُدَبِّرُونَهُ، إِذْ أَتَاهُمْ رَسُولُ صَاحِبِ بُصْرَى بِرَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ وَقَعَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ أَهْلِ الشَّاءِ وَالْإِبِلِ، يُحَدِّثُكَ عَنْ حَدَثٍ كَانَ بِبِلَادِهِ، فَاسْأَلْهُ عَنْهُ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ، قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: سَلْهُ مَا هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي كَانَ فِي بِلَادِهِ ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ قُرَيْشٍ، خَرَجَ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَدِ اتَّبَعَهُ أَقْوَامٌ وَخَالَفَهُ آخَرُونَ، وَقَدْ كَانَتْ بَيْنَهُمْ مَلَاحِمُ فِي مَوَاطِنَ، فَخَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. فَلَمَّا أَخْبَرَهُ الْخَبَرَ قَالَ: جَرِّدُوهُ. فَإِذَا هُوَ مَخْتُونٌ، فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي قَدْ أُرِيتُ، لَا مَا تَقُولُونَ، أَعْطِهِ ثَوْبَهُ، انْطَلِقْ لِشَأْنِكَ. ثُمَّ إِنَّهُ دَعَا صَاحِبَ شُرْطَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: قَلِّبْ لِيَ الشَّامَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، حَتَّى تَأْتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ قَوْمِ هَذَا أَسْأَلُهُ عَنْ شَأْنِهِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَاللَّهِ إِنِّي وَأَصْحَابِي لَبِغَزَّةَ، إِذْ هَجَمَ عَلَيْنَا، فَسَأَلَنَا: مِمَّنْ أَنْتُمْ ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَسَاقَنَا إِلَيْهِ جَمِيعًا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِنْ رَجُلٍ قَطُّ أَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ أَدْهَى مِنْ ذَلِكَ الْأَغْلَفِ - يُرِيدُ هِرَقْلَ - قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ قَالَ:
أَيُّكُمْ أَمَسُّ بِهِ رَحِمًا ؟ فَقُلْتُ: أَنَا. قَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي. قَالَ: فَأَجْلَسَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ أَمَرَ بِأَصْحَابِي، فَأَجْلَسَهُمْ خَلَفِي، وَقَالَ: إِنْ كَذَبَ فَرُدُّوا عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَقَدْ عَرَفْتُ أَنِّي لَوْ كَذِبْتُ مَا رَدُّوا عَلَيَّ، وَلَكِنِّي كُنْتُ امْرَأً سَيِّدًا، أَتَكَرَّمُ وَأَسْتَحِي مِنَ الْكَذِبِ، وَعَرَفْتُ أَنَّ أَدْنَى مَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَرْوُوهُ عَنِّي، ثُمَّ يَتَحَدَّثُوا بِهِ عَنِّي بِمَكَّةَ، فَلَمْ أَكْذِبْهُ. فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي خَرَجَ فِيكُمْ. فَزَهَّدْتُ لَهُ شَأْنَهُ، وَصَغَّرْتُ لَهُ أَمْرَهُ، فَوَاللَّهِ مَا الْتَفَتَ إِلَى ذَلِكَ مِنِّي، وَقَالَ لِي: أَخْبِرْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ مِنْ أَمْرِهِ. فَقُلْتُ: سَلْنِي عَمَّا بَدَا لَكَ ؟ فَقَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ فَقُلْتُ: مَحْضًا، مِنْ أَوْسَطِنَا نَسَبًا. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي هَلْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَحَدٌ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِ، فَهُوَ يَتَشَبَّهُ بِهِ ؟ فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي هَلْ كَانَ لَهُ مُلْكٌ فَاسْتَلَبْتُمُوهُ إِيَّاهُ، فَجَاءَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِتَرُدُّوهُ عَلَيْهِ ؟ فَقُلْتُ: لَا. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَتْبَاعِهِ مَنْ هُمْ ؟ فَقُلْتُ: الْأَحْدَاثُ وَالضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَأَمَّا أَشْرَافُهُمْ وَذَوُو الْأَسْنَانِ فَلَا. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَمَّنْ يَصْحَبُهُ، أَيُحِبُّهُ وَيَلْزَمُهُ، أَمْ يَقْلِيهِ وَيُفَارِقُهُ ؟ قُلْتُ: قَلَّ مَا صَحِبَهُ رَجُلٌ فَفَارَقَهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ ؟ فَقُلْتُ:
سِجَالٌ، يُدَالُ عَلَيْنَا وَنُدَالُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي هَلْ يَغْدِرُ ؟ فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَغُرُّهُ بِهِ إِلَّا هِيَ، قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ، وَلَا نَأْمَنُ غَدْرَهُ فِيهَا. فَوَاللَّهِ مَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا مِنِّي. قَالَ: فَأَعَادَ عَلَيَّ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: زَعَمْتَ أَنَّهُ مِنْ أَمْحَضِكُمْ نَسَبًا، وَكَذَلِكَ يَأْخُذُ اللَّهُ النَّبِيَّ إِذَا أَخَذَهُ، لَا يَأْخُذُهُ إِلَّا مِنْ أَوْسَطِ قَوْمِهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ أَحَدٌ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِ فَهُوَ يَتَشَبَّهُ بِهِ، فَقُلْتَ: لَا. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ لَهُ مُلْكٌ فَاسْتَلَبْتُمُوهُ إِيَّاهُ، فَجَاءَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِتَرُدُّوا عَلَيْهِ مُلْكَهُ، فَقُلْتَ: لَا. وَسَأَلْتُكُ عَنْ أَتْبَاعِهِ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُمُ الْأَحْدَاثُ وَالْمَسَاكِينُ وَالضُّعَفَاءُ، وَكَذَلِكَ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَسَأَلْتُكَ عَمَّنْ يَتَّبِعُهُ، أَيُحِبُّهُ وَيَلْزَمُهُ، أَمْ يَقْلِيهِ وَيُفَارِقُهُ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ قَلَّ مَنْ يَصْحَبُهُ فَيُفَارِقُهُ، وَكَذَلِكَ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ، لَا تَدْخُلُ قَلْبًا فَتَخْرُجُ مِنْهُ، وَسَأَلْتُكَ كَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، فَزَعَمْتَ أَنَّهَا سِجَالٌ، يُدَالُ عَلَيْكُمْ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ تَكُونُ حَرْبُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَهُمْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لَا يَغْدِرُ، فَلَئِنْ كُنْتَ صَدَقْتَنِي، لَيَغْلِبَنَّ عَلَى مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي عِنْدَهُ فَأَغْسِلُ عَنْ قَدَمَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: الْحَقْ بِشَأْنِكَ، قَالَ: فَقُمْتُ وَأَنَا أَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيَّ عَلَى الْأُخْرَى، وَأَقُولُ: يَا عِبَادَ اللَّهِ، لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ
أَبِي
كَبْشَةَ ! أَصْبَحَ مُلُوكُ بَنِي الْأَصْفَرِ يَخَافُونَهُ فِي سُلْطَانِهِمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أُسْقُفٌّ
مِنَ النَّصَارَى، قَدْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ قَالَ: قَدِمَ دِحْيَةُ بْنُ
خَلِيفَةَ عَلَى هِرَقْلَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ
اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى،
أَمَّا بَعْدُ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ
مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الْأَكَّارِينَ عَلَيْكَ قَالَ:
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ كِتَابُهُ وَقَرَأَهُ، أَخَذَهُ فَجَعَلَهُ بَيْنَ
فَخِذِهِ وَخَاصِرَتِهِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ رُومِيَّةَ، كَانَ
يَقْرَأُ مِنَ الْعِبْرَانِيَّةِ مَا يَقْرَأُ، يُخْبِرُهُ عَمَّا جَاءَهُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّهُ
النَّبِيُّ الَّذِي يُنْتَظَرُ لَا شَكَّ فِيهِ، فَاتَّبِعْهُ. فَأَمَرَ بِعُظَمَاءِ
الرُّومِ، فَجُمِعُوا لَهُ فِي دَسْكَرَةِ مُلْكِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا
فَأُشْرِجَتْ عَلَيْهِمْ، وَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ عِلِّيَّةٍ لَهُ وَهُوَ
مِنْهُمْ خَائِفٌ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، إِنَّهُ قَدْ جَاءَنِي كِتَابُ
أَحْمَدَ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ النَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ وَنَجِدُ
ذِكْرَهُ فِي كِتَابِنَا، نَعْرِفُهُ بِعَلَامَاتِهِ وَزَمَانِهِ، فَأَسْلِمُوا
وَاتَّبِعُوهُ تَسْلَمْ لَكُمْ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتُكُمْ. فَنَخَرُوا
نَخْرَةَ
رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَابْتَدَرُوا أَبْوَابَ الدَّسْكَرَةِ فَوَجَدُوهَا مُغْلَقَةً
دُونَهُمْ، فَخَافَهُمْ وَقَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ. فَرَدُّوهُمْ عَلَيْهِ،
فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، إِنِّي إِنَّمَا قُلْتُ لَكُمْ هَذِهِ
الْمَقَالَةَ أَخْتَبِرُكُمْ بِهَا، لِأَنْظُرَ كَيْفَ صَلَابَتُكُمْ فِي دِينِكُمْ،
فَلَقَدْ رَأَيْتُ مِنْكُمْ مَا سَرَّنِي. فَوَقَعُوا لَهُ سُجَّدًا، ثُمَّ
فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ الدَّسْكَرَةِ فَخَرَجُوا.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ قِصَّةَ أَبِي سُفْيَانَ مَعَ هِرَقْلَ بِزِيَادَاتٍ
أُخَرَ، أَحْبَبْنَا أَنْ نُورِدَهَا بِسَنَدِهَا وَحُرُوفِهَا مِنَ "
الصَّحِيحِ " لِيُعْلَمَ مَا بَيْنَ السِّيَاقَيْنِ مِنَ التَّبَايُنِ، وَمَا
فِيهِمَا مِنَ الْفَوَائِدِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ قَبْلَ الْإِيمَانِ مِنْ " صَحِيحِهِ ": حَدَّثَنَا
أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ
بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا
سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مَنْ قُرَيْشٍ،
وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّامِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ
قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ
عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِالتُّرْجُمَانِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ
أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ قَالَ
أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. قَالَ: أَدْنَوْهُ
مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ. ثُمَّ قَالَ
لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ
كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنْ يَأْثِرُوا عَنِّي كَذِبًا
لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ
نَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا
الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ
قَبْلَهُ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟ قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتُّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَتَأَسَّى بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فَذَكَرْتُ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ
. وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ، لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ، لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ. ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ مَعَ دِحْيَةَ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمُ الْأَرِيسِيِّينَ، وَ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( آلِ عِمْرَانَ: 64 ) قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ ! إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ ! فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ، حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ النَّاطُورِ -
صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ - سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّامِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ، قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ. قَالَ ابْنُ النَّاطُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودُ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَائِنِ مُلْكِكَ فَلْيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ، أَتَى هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا ؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ. وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ، فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَّةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ، يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ لَكُمْ مُلْكُكُمْ، فَتُبَايِعُوا لِهَذَا النَّبِيِّ. فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمْرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الْإِيمَانِ قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ. وَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا
أَخْتَبِرُ
بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا
عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَرَوَاهُ
صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فِي " صَحِيحِهِ
" بِأَلْفَاظٍ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا. وَأَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ
الْجَمَاعَةِ، إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَدْ
تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مُطَوَّلًا فِي أَوَّلِ شَرْحِنَا لِصَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَذَكَرْنَا فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ
وَالنُّكَتِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: خَرَجَ أَبُو
سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ،
وَبَلَغَ هِرَقْلَ شَأْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ مَا يُعْلَمُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ الْعَرَبِ الَّذِي بِالشَّامِ فِي
مُلْكِهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ بِرِجَالٍ مِنَ الْعَرَبِ
يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا، مِنْهُمْ أَبُو
سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فِي كَنِيسَةِ إِيلِيَاءَ الَّتِي فِي
جَوْفِهَا، فَقَالَ هِرَقْلُ: أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ لِتُخْبِرُونِي عَنْ هَذَا
الَّذِي بِمَكَّةَ مَا أَمْرُهُ ؟ قَالُوا: سَاحِرٌ كَذَّابٌ، وَلَيْسَ بِنَبِيٍّ.
قَالَ: فَأَخْبِرُونِي بِأَعْلَمِكُمْ بِهِ وَأَقْرَبِكُمْ مِنْهُ رَحِمًا ؟
قَالُوا: هَذَا أَبُو سُفْيَانَ ابْنُ عَمِّهِ،
وَقَدْ
قَاتَلَهُ. فَلَمَّا أَخْبَرُوهُ ذَلِكَ، أَمَرَ بِهِمْ فَأُخْرِجُوا عَنْهُ،
ثُمَّ أَجْلَسَ أَبَا سُفْيَانَ فَاسْتَخْبَرَهُ، قَالَ: أَخْبِرْنِي يَا أَبَا
سُفْيَانَ، فَقَالَ: هُوَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَقَالَ هِرَقْلُ: إِنِّي لَا أُرِيدُ
شَتْمَهُ، وَلَكِنْ كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ مِنْ بَيْتِ
قُرَيْشٍ. قَالَ: كَيْفَ عَقْلُهُ وَرَأْيُهُ ؟ قَالَ: لَمْ نَعِبْ لَهُ عَقْلًا
وَلَا رَأْيًا قَطُّ. قَالَ هِرَقْلُ: هَلْ كَانَ حَلَّافًا كَذَّابًا مُخَادِعًا
فِي أَمْرِهِ ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ كَذَلِكَ. قَالَ: لَعَلَّهُ
يَطْلُبُ مُلْكًا أَوْ شَرَفًا كَانَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ قَبْلَهُ ؟
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَتَّبِعُهُ مِنْكُمْ هَلْ
يَرْجِعُ إِلَيْكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ هِرَقْلُ: هَلْ يَغْدِرُ
إِذَا عَاهَدَ ؟ قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ يَغْدِرَ مُدَّتَهُ هَذِهِ. فَقَالَ
هِرَقْلُ: وَمَا تَخَافُ مِنْ مُدَّتِهِ هَذِهِ ؟ قَالَ: إِنَّ قَوْمِي أَمَدُّوا
حُلَفَاءَهُمْ عَلَى حُلَفَائِهِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ هِرَقْلُ: إِنْ
كُنْتُمْ أَنْتُمْ بَدَأْتُمْ فَأَنْتُمْ أَغْدَرُ. فَغَضِبَ أَبُو سُفْيَانَ
وَقَالَ: لَمْ يَغْلِبْنَا إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غَائِبٌ -
وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ - ثُمَّ غَزَوْتُهُ مَرَّتَيْنِ فِي بُيُوتِهِمْ، نَبْقُرُ
الْبُطُونَ، وَنُجَدِّعُ الْآذَانَ وَالْفُرُوجَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: أَكَاذِبًا
تَرَاهُ أَمْ صَادِقًا ؟ فَقَالَ: بَلْ هُوَ كَاذِبٌ. فَقَالَ: إِنْ كَانَ فِيكُمْ
نَبِيٌّ، فَلَا تَقْتُلُوهُ، فَإِنَّ أَفْعَلَ النَّاسِ لِذَلِكَ الْيَهُودُ.
ثُمَّ رَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ.
فَفِي هَذَا السِّيَاقِ غَرَابَةٌ، وَفِيهِ فَوَائِدُ لَيْسَتْ عِنْدَ ابْنِ
إِسْحَاقَ، وَلَا الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ أَوْرَدَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي "
مَغَازِيهِ " قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ ": حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ،
ثَنَا سَلَمَةُ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ
إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لِدِحْيَةَ بْنِ
خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَكَ نَبِيٌّ
مُرْسَلٌ، وَأَنَّهُ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ وَنَجِدُهُ فِي كِتَابِنَا،
وَلَكِنِّي أَخَافُ الرُّومَ عَلَى نَفْسِي، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاتَّبَعْتُهُ،
فَاذْهَبْ إِلَى ضَغَاطِرَ الْأُسْقُفِّ، فَاذْكُرْ لَهُ أَمْرَ صَاحِبِكُمْ،
فَهُوَ وَاللَّهِ فِي الرُّومِ أَعْظَمُ مِنِّي، وَأَجْوَزُ قَوْلًا عِنْدَهُمْ
مِنِّي، فَانْظُرْ مَاذَا يَقُولُ لَكَ ؟ قَالَ: فَجَاءَهُ دِحْيَةُ، فَأَخْبَرَهُ
بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
هِرَقْلَ، وَبِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، فَقَالَ ضَغَاطِرُ: صَاحِبُكَ وَاللَّهِ
نَبِيٌّ مُرْسَلٌ نَعْرِفُهُ بِصِفَتِهِ، وَنَجِدُهُ فِي كِتَابِنَا بِاسْمِهِ
ثُمَّ دَخَلَ وَأَلْقَى ثِيَابًا كَانَتْ عَلَيْهِ سُودًا، وَلَبِسَ ثِيَابًا
بَيَاضًا، ثُمَّ أَخَذَ عَصَاهُ فَخَرَجَ عَلَى الرُّومِ فِي الْكَنِيسَةِ
فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، إِنَّهُ قَدْ جَاءَنَا كِتَابٌ مِنْ أَحْمَدَ،
يَدْعُونَا فِيهِ إِلَى اللَّهِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَأَنَّ أَحْمَدَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَوَثَبُوا إِلَيْهِ
وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَضَرَبُوهُ حَتَّى قَتَلُوهُ. قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ
دِحْيَةُ إِلَى هِرَقْلَ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، قَالَ: قَدْ قُلْتُ لَكَ:
إِنَّا نَخَافُهُمْ عَلَى أَنْفُسِنَا، فَضَغَاطِرُ وَاللَّهِ كَانَ أَعْظَمَ
عِنْدَهُمْ، وَأَجْوَزَ قَوْلًا مِنِّي.
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ
قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
قَيْصَرَ
صَاحِبِ الرُّومِ بِكِتَابٍ، فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنُوا لِرَسُولِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأُتِيَ قَيْصَرُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَلَى
الْبَابِ رَجُلًا يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ. فَفَزِعُوا لِذَلِكَ،
وَقَالَ: أَدْخِلْهُ. فَأَدْخَلَنِي عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ بَطَارِقَتُهُ،
فَأَعْطَيْتُهُ الْكِتَابَ فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،
مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى قَيْصَرَ صَاحِبِ الرُّومِ فَنَخَرَ ابْنُ
أَخٍ لَهُ أَحْمَرُ أَزْرَقُ سَبِطٌ، فَقَالَ: لَا تَقْرَأِ الْكِتَابَ الْيَوْمَ،
فَإِنَّهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، وَكَتَبَ صَاحِبَ الرُّومِ، وَلَمْ يَكْتُبْ مَلِكَ
الرُّومِ، قَالَ: فَقُرِئَ الْكِتَابُ حَتَّى فُرِغَ مِنْهُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ
فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ،
فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ، فَبَعَثَ إِلَى الْأُسْقُفِّ فَدَخَلَ عَلَيْهِ،
وَكَانَ صَاحِبَ أَمْرِهِمْ، يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِ وَعَنْ قَوْلِهِ، فَلَمَّا
قَرَأَ الْكِتَابَ قَالَ الْأُسْقُفُّ: هُوَ وَاللَّهِ الَّذِي بَشَّرَنَا بِهِ
مُوسَى وَعِيسَى، الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ. قَالَ قَيْصَرُ: فَمَا تَأْمُرُنِي ؟
قَالَ الْأُسْقُفُّ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي مُصَدِّقُهُ وَمُتَّبِعُهُ. فَقَالَ
قَيْصَرُ: أَعْرِفُ أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْعَلَ،
إِنْ فَعَلْتُ ذَهَبَ مُلْكِي وَقَتَلَنِي الرُّومُ.
وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَجُلٍ
مِنْ قُدَمَاءِ أَهْلِ الشَّامِ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ هِرَقْلُ الْخُرُوجَ مِنْ
أَرْضِ الشَّامِ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، لِمَا بَلَغَهُ مِنْ أَمْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ الرُّومَ فَقَالَ: يَا
مَعْشَرَ الرُّومِ، إِنِّي عَارِضٌ عَلَيْكُمْ أُمُورًا، فَانْظُرُوا فِيمَا
أَرَدْتُ بِهَا. قَالُوا: مَا هِيَ ؟ قَالَ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ أَنَّ هَذَا
الرَّجُلَ لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ، نَجِدُهُ فِي كِتَابِنَا، نَعْرِفُهُ بِصِفَتِهِ
الَّتِي وُصِفَ
لَنَا، فَهَلُمَّ فَلْنَتَّبِعْهُ، فَتَسْلَمَ لَنَا دُنْيَانَا وَآخِرَتُنَا. فَقَالُوا: نَحْنُ نَكُونُ تَحْتَ أَيْدِي الْعَرَبِ، وَنَحْنُ أَعْظَمُ النَّاسِ مُلْكًا، وَأَكْثَرُهُمْ رِجَالًا، وَأَقْصَاهُمْ بَلَدًا ؟! قَالَ: فَهَلُمَّ أُعْطِيهِ الْجِزْيَةَ كُلَّ سَنَةٍ، أَكْسِرُ عَنِّي شَوْكَتَهُ، وَأَسْتَرِيحُ مِنْ حَرْبِهِ بِمَا أُعْطِيهِ إِيَّاهُ. قَالُوا: نَحْنُ نُعْطِي الْعَرَبَ الذُّلَّ وَالصَّغَارَ بِخَرْجٍ يَأْخُذُونَهُ مِنَّا، وَنَحْنُ أَكْثَرُ النَّاسِ عَدَدًا، وَأَعْظَمُهُمْ مُلْكًا، وَأَمْنَعُهُمْ بَلَدًا ؟! لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ هَذَا أَبَدًا. قَالَ: فَهَلُمَّ فَلْأُصَالِحْهُ عَلَى أَنْ أُعْطِيَهُ أَرْضَ سُورِيَةَ، وَيَدَعَنِي وَأَرْضَ الشَّامِ - قَالَ: وَكَانَتْ أَرْضُ سُورِيَةَ، فِلَسْطِينَ، وَالْأُرْدُنَّ، وَدِمَشْقَ، وَحِمْصَ، وَمَا دُونَ الدَّرْبِ مِنْ أَرْضِ سُورِيَةَ، وَمَا كَانَ وَرَاءَ الدَّرْبِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ الشَّامُ - فَقَالُوا: نَحْنُ نُعْطِيهِ أَرْضَ سُورِيَةَ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهَا سُرَّةُ الشَّامِ ؟ ! لَا نَفْعَلُ هَذَا أَبَدًا. فَلَمَّا أَبَوْا عَلَيْهِ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَتَوَدُّنَّ أَنَّكُمْ قَدْ ظَفِرْتُمْ، إِذَا امْتَنَعْتُمْ مِنْهُ فِي مَدِينَتِكُمْ. قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ عَلَى بَغْلٍ لَهُ فَانْطَلَقَ، حَتَّى إِذَا أَشْرَفَ عَلَى الدَّرْبِ، اسْتَقْبَلَ أَرْضَ الشَّامِ، ثُمَّ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا أَرْضَ سُورِيَةَ تَسْلِيمَ الْوَدَاعِ. ثُمَّ رَكَضَ حَتَّى دَخَلَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ
إِرْسَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَلِكِ الْعَرَبِ مِنَ
النَّصَارَى بِالشَّامِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ، أَخَا بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، إِلَى
الْمُنْذِرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شَمِرٍ الْغَسَّانِيِّ، صَاحِبِ دِمَشْقَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَتَبَ مَعَهُ: سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى وَآمَنَ
بِهِ، وَأَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ،
يَبْقَى لَكَ مُلْكُكَ فَقَدِمَ شُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ:
وَمَنْ يَنْتَزِعُ مُلْكِي ؟ إِنِّي سَأَسِيرُ إِلَيْهِ.
ذِكْرُ بَعْثِهِ إِلَى كِسْرَى مِلْكِ الْفُرْسِ
رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ
بِكِتَابِهِ مَعَ رَجُلٍ إِلَى كِسْرَى، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ
الْبَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ
كِسْرَى مَزَّقَهُ. قَالَ: فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: فَدَعَا
عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقُوا
كُلَّ مُمَزَّقٍ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي
عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ عَبْدٍ الْقَارِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْضَكُمْ إِلَى مُلُوكِ الْأَعَاجِمِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيَّ كَمَا اخْتَلَفَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ". فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَخْتَلِفُ عَلَيْكَ فِي شَيْءٍ أَبَدًا فَمُرْنَا وَابْعَثْنَا. فَبَعَثَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ إِلَى كِسْرَى، فَأَمَرَ كِسْرَى بِإِيوَانِهِ أَنْ يُزَيَّنَ، ثُمَّ أَذِنَ لِعُظَمَاءِ فَارِسَ ثُمَّ أَذِنَ لِشُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ أَمَرَ كِسْرَى بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْبَضَ مِنْهُ، فَقَالَ شُجَاعُ بْنُ وَهْبٍ: لَا، حَتَّى أَدْفَعَهُ أَنَا إِلَيْكَ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كِسْرَى: ادْنُهْ. فَدَنَا فَنَاوَلَهُ الْكِتَابَ، ثُمَّ دَعَا كَاتِبًا لَهُ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ: " مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ " قَالَ: فَأَغْضَبَهُ حِينَ بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ، وَصَاحَ وَغَضِبَ وَمَزَّقَ الْكِتَابَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ بِشُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ فَأُخْرِجَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَعَدَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، ثُمَّ سَارَ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أُبَالِي عَلَى أَيِّ الطَّرِيقَيْنِ أَكُونُ إِذْ أَدَّيْتُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ كِسْرَى سَوْرَةُ غَضَبِهِ بَعَثَ إِلَى شُجَاعٍ، لِيَدْخُلَ عَلَيْهِ، فَالْتُمِسَ فَلَمْ يُوجَدْ، فَطُلِبَ إِلَى الْحِيرَةِ فَسَبَقَ، فَلَمَّا قَدِمَ شُجَاعٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ كِسْرَى وَتَمْزِيقِهِ لِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَزَّقَ كِسْرَى مُلْكَهُ
.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ بِكِتَابِهِ إِلَى
كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَزَّقَ مُلْكَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حُمَيْدٍ، ثَنَا سَلَمَةُ، ثَنَا
ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ: وَبَعَثَ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ إِلَى
كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ مَلِكِ فَارِسَ وَكَتَبَ مَعَهُ: " بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى،
وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَدْعُوكَ
بِدُعَاءِ اللَّهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً،
لِأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ، فَإِنْ
تُسْلِمْ تَسْلَمْ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الْمَجُوسِ عَلَيْكَ ".
قَالَ: فَلَمَّا قَرَأَهُ شَقَّهُ، وَقَالَ: يَكْتُبُ إِلَيَّ بِهَذَا وَهُوَ
عَبْدِي ؟! قَالَ: ثُمَّ كَتَبَ كِسْرَى إِلَى بَاذَامَ، وَهُوَ نَائِبُهُ عَلَى
الْيَمَنِ، أَنِ ابْعَثْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ بِالْحِجَازِ رَجُلَيْنِ مِنْ
عِنْدِكَ جَلْدَيْنِ فَلْيَأْتِيَانِي بِهِ. فَبَعَثَ بَاذَامُ قَهْرَمَانَهُ،
وَكَانَ كَاتِبًا حَاسِبًا بِكِتَابِ فَارِسَ، وَبَعَثَ
مَعَهُ رَجُلًا مِنَ الْفُرْسِ يُقَالُ لَهُ: خُرْخَرَةُ. وَكَتَبَ مَعَهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَنْصَرِفَ مَعَهُمَا إِلَى كِسْرَى، وَقَالَ لِأَبَاذَوَيْهِ: ائْتِ بِلَادَ هَذَا الرَّجُلِ وَكَلِّمْهُ وَأْتِنِي بِخَبَرِهِ. فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا الطَّائِفَ، فَوَجَدَا رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَرْضِ الطَّائِفِ، فَسَأَلُوهُ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ بِالْمَدِينَةِ. وَاسْتَبْشَرَ أَهْلُ الطَّائِفِ - يَعْنِي وَقُرَيْشٌ بِهِمَا - وَفَرِحُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَبْشِرُوا، فَقَدْ نَصَبَ لَهُ كِسْرَى مَلِكُ الْمُلُوكِ، كُفِيتُمُ الرَّجُلَ. فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أَبَاذَوَيْهِ فَقَالَ: شَاهِنْشَاهُ مَلِكُ الْمُلُوكِ كِسْرَى، قَدْ كَتَبَ إِلَى الْمَلِكِ بَاذَامَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْكَ مَنْ يَأْتِيهِ بِكَ، وَقَدْ بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِتَنْطَلِقَ مَعِي، فَإِنْ فَعَلْتَ كَتَبَ لَكَ إِلَى مَلِكِ الْمُلُوكِ يَنْفَعُكَ وَيَكُفُّهُ عَنْكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَهُوَ مَنْ قَدْ عَلِمْتَ، فَهُوَ مُهْلِكُكَ وَمُهْلِكُ قَوْمِكَ وَمُخَرِّبُ بِلَادِكَ. وَدَخَلَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَلَقَا لِحَاهُمَا وَأَعْفَيَا شَوَارِبَهُمَا، فَكَرِهَ النَّظَرَ إِلَيْهِمَا، وَقَالَ: وَيْلَكُمَا! مَنْ أَمَرَكُمَا بِهَذَا ؟! " قَالَا: أَمَرَنَا رَبُّنَا. يَعْنِيَانِ كِسْرَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَلَكِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي بِإِعْفَاءِ لِحْيَتِي وَقَصِّ شَارِبِي ". ثُمَّ قَالَ: " ارْجِعَا حَتَّى تَأْتِيَانِي غَدًا ". قَالَ: وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ سَلَّطَ عَلَى كِسْرَى ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ، فَقَتَلَهُ فِي شَهْرِ كَذَا وَكَذَا، فِي لَيْلَةِ كَذَا وَكَذَا، مِنَ اللَّيْلِ، سُلِّطَ عَلَيْهِ ابْنُهُ شِيرَوَيْهِ فَقَتَلَهُ. قَالَ: فَدَعَاهُمَا
فَأَخْبَرَهُمَا
فَقَالَا: هَلْ تَدْرِي مَا تَقُولُ ؟! إِنَّا قَدْ نَقَمْنَا عَلَيْكَ مَا هُوَ
أَيْسَرُ مِنْ هَذَا، فَنَكْتُبُ عَنْكَ بِهَذَا وَنُخْبِرُ الْمَلِكَ بَاذَامَ ؟
قَالَ: " نَعَمْ أَخْبِرَاهُ ذَلِكَ عَنِّي، وَقُولَا لَهُ: إِنَّ دِينِي
وَسُلْطَانِي سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ مُلْكُ كِسْرَى، وَيَنْتَهِي إِلَى مُنْتَهَى
الْخُفِّ وَالْحَافِرِ، وَقُولَا لَهُ: إِنْ أَسْلَمْتَ أَعْطَيْتُكَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ،
وَمَلَّكْتُكَ عَلَى قَوْمِكَ مِنَ الْأَبْنَاءِ ". ثُمَّ أَعْطَى خُرْخَرَةَ
مِنْطَقَةً فِيهَا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ كَانَ أَهْدَاهَا لَهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ،
فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى قَدِمَا عَلَى بَاذَامَ فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ،
فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هَذَا بِكَلَامِ مَلِكٍ، وَإِنِّي لَأَرَى الرَّجُلَ
نَبِيًّا كَمَا يَقُولُ، وَلَيَكُونَنَّ مَا قَدْ قَالَ، فَلَئِنْ كَانَ هَذَا
حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَسَنَرَى فِيهِ
رَأْيَنَا. فَلَمْ يَنْشَبْ بَاذَامُ أَنْ قِدِمَ عَلَيْهِ كِتَابُ شِيرَوَيْهِ:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ كِسْرَى، وَلَمْ أَقْتُلْهُ إِلَّا غَضَبًا
لِفَارِسَ، لِمَا كَانَ اسْتَحَلَّ مِنْ قَتْلِ أَشْرَافِهِمْ وَنَحْرِهِمْ فِي
ثُغُورِهِمْ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَخُذْ لِيَ الطَّاعَةَ مِمَنْ
قِبَلَكَ، وَانْطَلِقْ إِلَى الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ كِسْرَى قَدْ كَتَبَ فِيهِ،
فَلَا تُهِجْهُ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي فِيهِ. فَلَمَّا انْتَهَى كِتَابُ
شِيرَوَيْهِ إِلَى بَاذَامَ قَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَرَسُولٌ. فَأَسْلَمَ
وَأَسْلَمَتِ الْأَبْنَاءُ مِنْ فَارِسَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ. قَالَ:
وَقَدْ قَالَ بَاذَوَيْهِ لِبَاذَامَ: مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا أَهْيَبَ عِنْدِي
مِنْهُ. فَقَالَ لَهُ بَاذَامُ: هَلْ مَعَهُ شُرَطٌ ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَانَ قَتْلُ كِسْرَى عَلَى يَدَيِ
ابْنِهِ شِيرَوَيْهِ لَيْلَةَ
الثُّلَاثَاءِ،
لِعَشْرِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ
الْهِجْرَةِ، لِسِتِّ سَاعَاتٍ مَضَتْ مِنْهَا.
قُلْتُ: وَفِي شِعْرِ بَعْضِهِمْ مَا يُرْشِدُ أَنَّ قَتْلَهُ كَانَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ،
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ:
قَتَلُوا كِسْرَى بِلَيْلٍ مُحْرِمًا فَتَوَلَّى لَمْ يُمَتَّعْ بِكَفَنْ
وَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْعَرَبِ:
وَكِسْرَى إِذْ تَقَاسَمُهُ بَنُوهُ بِأَسْيَافٍ كَمَا اقْتُسِمَ اللِّحَامُ
تَمَخَّضَتِ الْمَنُونُ لَهُ بِيَوْمٍ أَنَى وَلِكُلِّ حَامِلَةٍ تَمَامُ
وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ
حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ
فَارِسَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ رَبِّي قَدْ
قَتَلَ اللَّيْلَةَ رَبَّكَ ". قَالَ: وَقِيلَ لَهُ - يَعْنِي النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّهُ قَدِ اسْتَخْلَفَ ابْنَتَهُ.
فَقَالَ: لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ تَمْلِكُهُمُ امْرَأَةٌ ". قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ فِي حَدِيثِ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ، أَنَّهُ لَمَّا
رَجَعَ مِنْ عِنْدِ قَيْصَرَ وَجَدَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُسُلَ عَامِلِ كِسْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ كِسْرَى بَعَثَ، يَتَوَعَّدُ
صَاحِبَ صَنْعَاءَ، وَيَقُولُ لَهُ: أَلَا تَكْفِينِي أَمْرَ رَجُلٍ قَدْ ظَهَرَ
بِأَرْضِكَ
يَدْعُونِي
إِلَى دِينِهِ ؟ لَتَكْفِيَنَّهُ أَوْ لَأَفْعَلَنَّ بِكَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ،
فَقَالَ لِرُسُلِهِ: أَخْبِرُوهُ أَنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ رَبَّهُ اللَّيْلَةَ
". فَوَجَدُوهُ كَمَا قَالَ. قَالَ: وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ
عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ نَحْوَ هَذَا.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ
دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَقْبَلَ
سَعْدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "
إِنَّ فِي وَجْهِ سَعْدٍ خَبَرًا " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ
كِسْرَى، فَقَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ كِسْرَى، أَوَّلُ النَّاسِ هَلَاكًا
فَارِسُ ثُمَّ الْعَرَبُ.
قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَلَاكِ كِسْرَى لِذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ، يَعْنِي
الْأَمِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدِمَا مِنْ نَائِبِ الْيَمَنِ بَاذَامَ، فَلَمَّا
جَاءَ الْخَبَرُ بِوَفْقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
وَشَاعَ فِي الْبِلَادِ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَوَّلَ مَنْ سَمِعَ،
جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ
بِوَفْقِ إِخْبَارِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَكَذَا بِنَحْوِ هَذَا
التَّقْدِيرِ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي
أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ كِسْرَى
بَيْنَمَا هُوَ فِي دَسْكَرَةِ مُلْكِهِ بُعِثَ لَهُ - أَوْ قُيِّضَ لَهُ -
عَارِضٌ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْحَقَّ فَلَمْ يَفْجَأْ كِسْرَى إِلَّا بِرَجُلٍ
يَمْشِي وَفِي يَدِهِ عَصًا، فَقَالَ: يَا كِسْرَى، هَلْ لَكَ فِي الْإِسْلَامِ
قَبْلَ أَنْ أَكْسِرَ هَذِهِ الْعَصَا ؟ فَقَالَ كِسْرَى: نَعَمْ، لَا تَكْسِرْهَا،
فَوَلَّى الرَّجُلُ، فَلَمَّا ذَهَبَ، أَرْسَلَ كِسْرَى إِلَى
حُجَّابِهِ
فَقَالَ: مَنْ أَذِنَ لِهَذَا الرَّجُلِ عَلَيَّ ؟ فَقَالُوا: مَا دَخَلَ عَلَيْكَ
أَحَدٌ. فَقَالَ: كَذَبْتُمْ. قَالَ: فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَتَهَدَّدَهُمْ، ثُمَّ
تَرَكَهُمْ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ رَأْسُ الْحَوْلِ، أَتَى ذَلِكَ الرَّجُلُ
وَمَعَهُ الْعَصَا، قَالَ: يَا كِسْرَى، هَلْ لَكَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ
أَكْسِرَ هَذِهِ الْعَصَا ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَا تَكْسِرْهَا. فَلَمَّا انْصَرَفَ
عَنْهُ دَعَا حُجَّابَهُ، قَالَ لَهُمْ كَالْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ
الْعَامُ الْمُسْتَقْبَلُ أَتَاهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ، مَعَهُ الْعَصَا، فَقَالَ
لَهُ: هَلْ لَكَ يَا كِسْرَى فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ أَكْسِرَ هَذِهِ
الْعَصَا ؟ فَقَالَ: لَا تَكْسِرْهَا. فَكَسَرَهَا، فَأَهْلَكَ اللَّهُ كِسْرَى عِنْدَ
ذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ: أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا هَلَكَ كِسْرَى
فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ،
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَأَخْرَجَاهُ مِنْ
حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ:وَلَمَّا أُتِيَ كِسْرَى بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَزَّقَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَمَزَّقَ مُلْكُهُ ". وَحَفِظْنَا أَنَّ
قَيْصَرَ أَكْرَمَ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَضَعَهُ فِي مِسْكٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَبَتَ مُلْكُهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: وَلَمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ
تَأْتِي الشَّامَ وَالْعِرَاقَ لِلتِّجَارَةِ، فَأَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ،
شَكَوْا خَوْفَهُمْ مِنْ مَلِكَيِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا
كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ قَالَ:
فَبَادَ مُلْكُ الْأَكَاسِرَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَزَالَ مُلْكُ قَيْصَرَ عَنِ
الشَّامِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهُمْ مُلْكٌ فِي الْجُمْلَةِ
بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ
حِينَ عَظَّمُوا كِتَابَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا بِشَارَةٌ عَظِيمَةٌ بِأَنَّ مُلْكَ الرُّومِ لَا يَعُودُ
أَبَدًا إِلَى أَرْضِ الشَّامِ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي قَيْصَرَ لِمَنْ
مَلَكَ الشَّامَ مَعَ الْجَزِيرَةِ مِنَ الرُّومِ، وَكِسْرَى لِمَنْ مَلَكَ
الْفُرْسَ، وَالنَّجَاشِيَّ لِمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ، وَالْمُقَوْقِسَ لِمَنْ
مَلَكَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ وَفِرْعَوْنَ لِمَنْ مَلَكَ مِصْرَ كَافِرًا،
وَبَطْلَيْمُوسَ لِمَنْ مَلَكَ الْهِنْدَ، وَلَهُمْ أَعْلَامُ أَجْنَاسٍ غَيْرُ
ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ
سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَتَفْتَحَنَّ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كُنُوزَ
كِسْرَى فِي الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ وَرَوَى أَسْبَاطٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ
بْنِ سَمُرَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَزَادَ: وَكُنْتُ أَنَا وَأَبِي فِيهِمْ،
فَأَصَبْنَا مِنْ ذَلِكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
بَعْثُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ مَدِينَةِ
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَاسْمُهُ جُرُيْجُ بْنُ مِينَا الْقِبْطِيُّ
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى
الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَمَضَى بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، فَقَبِلَ الْكِتَابَ، وَأَكْرَمَ
حَاطِبًا وَأَحْسَنَ نُزُلَهُ، وَسَرَّحَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَهْدَى لَهُ مَعَ حَاطِبٍ كُسْوَةً، وَبَغْلَةً بِسَرْجِهَا،
وَجَارِيَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا أَمُّ إِبْرَاهِيمَ، وَأَمَّا الْأُخْرَى
فَوَهَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُحَمَّدِ بْنِ
قَيْسٍ الْعَبْدِيِّ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
ثُمَّ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ
أَبِيهِ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ مَلِكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ.
قَالَ: فَجِئْتُهُ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَنْزَلَنِي فِي مَنْزِلِهِ وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ وَقَدْ
جَمَعَ بِطَارِقَتَهُ، وَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ كَلَامٍ، فَأُحِبُّ أَنْ
تَفْهَمَ عَنِّي، قَالَ: قُلْتُ: هَلُمَّ. قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ صَاحِبِكَ،
أَلَيْسَ هُوَ نَبِيًّا ؟ قُلْتُ: بَلَى، هُوَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: فَمَا لَهُ
حَيْثُ
كَانَ هَكَذَا، لَمْ يَدْعُ عَلَى قَوْمِهِ حَيْثُ أَخْرَجُوهُ مِنْ بَلَدِهِ
إِلَى غَيْرِهَا ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، أَلَيْسَ تَشَهَدُ
أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَمَا لَهُ حَيْثُ أَخَذَهُ
قَوْمُهُ، فَأَرَادُوا أَنْ يَصْلُبُوهُ، أَلَّا يَكُونَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِأَنْ
يُهْلِكَهُمُ اللَّهُ حَتَّى رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ؟
فَقَالَ لِي: أَنْتَ حَكِيمٌ، قَدْ جَاءَ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ، هَذِهِ هَدَايَا
أَبْعَثُ بِهَا مَعَكَ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَأُرْسِلُ مَعَكَ بِبَذْرَقَةٍ
يُبَذْرِقُونَكَ إِلَى مَأْمَنِكَ. قَالَ: فَأَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ جَوَارٍ، مِنْهُنَّ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَاحِدَةٌ وَهَبَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي جَهْمِ بْنِ
حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيِّ، وَوَاحِدَةٌ وَهَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
بِطُرْفٍ مِنْ طُرَفِهِمْ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ جَوَارٍ،
إِحْدَاهُنَّ مَارِيَةُ أَمُّ إِبْرَاهِيمَ، وَالْأُخْرَى سِيرِينُ الَّتِي
وَهَبَهَا لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
حَسَّانَ.
قُلْتُ: وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْهَدِيَّةِ غُلَامٌ أَسْوَدُ خَصِيٌّ، اسْمُهُ
مَأْبُورُ، وَخُفَّانِ سَاذَجَانِ أَسْوَدَانِ، وَبَغْلَةٌ بَيْضَاءُ اسْمُهَا
الدُّلْدُلُ، وَكَانَ مَأْبُورُ هَذَا خَصِيًّا، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِأَمْرِهِ
بَادِيَ الْأَمْرِ، فَصَارَ يَدْخُلُ عَلَى مَارِيَةَ، كَمَا كَانَ
مِنْ
عَادَاتِهِمْ بِبِلَادِ مِصْرَ، فَجَعَلَ بَعْضُ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ فِيهِمَا
بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَا يَعْلَمُونَ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ، وَأَنَّهُ خَصِيٌّ،
حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ الَّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِقَتْلِهِ، فَوَجَدَهُ خَصِيًّا
فَتَرَكَهُ، وَالْحَدِيثُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَلِيطَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ، أَخَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ،
إِلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيٍّ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ وَبَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ
الْحَضْرَمِيِّ، إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى، أَخِي بَنِي عَبْدِ الْقَيْسِ،
صَاحِبِ الْبَحْرَيْنِ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرِ بْنِ الْجُلُنْدَى
وَعَمَّارِ بْنِ الْجُلُنْدَى الْأَزْدِيَّيْنِ صَاحِبَيْ عُمَانَ.
غَزْوَةُ
ذَاتِ السَّلَاسِلِ
ذَكَرَهَا الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا قَبْلَ غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَسَاقَ
مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَا: بَعَثَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى
ذَاتِ السَّلَاسِلِ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ فِي بَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ وَمَنْ
يَلِيهِمْ مِنْ قُضَاعَةَ - قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: بَنُو بَلِيٍّ
أَخْوَالُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ - فَلَمَّا صَارَ إِلَى هُنَاكَ خَافَ مِنْ
كَثْرَةِ عَدُوِّهِ، فَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَسْتَمِدُّهُ، فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، فَانْتَدَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي جَمَاعَةٍ
مِنْ سَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَأَمَّرَ
عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ
بْنَ الْجَرَّاحِ. قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عَمْرٍو
قَالَ: أَنَا أَمِيرُكُمْ، وَأَنَا أَرْسَلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَمِدُّهُ بِكُمْ. فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: بَلْ
أَنْتَ أَمِيرُ أَصْحَابِكَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَمِيرُ الْمُهَاجِرِينَ. فَقَالَ
عَمْرٌو: إِنَّمَا أَنْتُمْ مَدَدٌ أُمْدِدْتُهُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو
عُبَيْدَةَ، وَكَانَ رَجُلًا حَسَنَ الْخُلُقِ لَيِّنَ الشِّيمَةِ، قَالَ:
تَعَلَّمْ يَا عَمْرُو أَنَّ آخِرَ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَالَ: إِذَا قَدِمْتَ عَلَى صَاحِبِكَ فَتَطَاوَعَا
وَإِنَّكَ إِنْ عَصَيْتَنِي لَأُطِيعَنَّكَ.
فَسَلَّمَ
أَبُو عُبَيْدَةَ الْإِمَارَةَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ التَّمِيمِيُّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ يَسْتَنْفِرُ
الْعَرَبَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ
كَانَتْ مِنْ بَنِي بَلِيٍّ، فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ يَسْتَأْلِفُهُمْ بِذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ عَلَى مَاءٍ
بِأَرْضِ جُذَامَ يُقَالُ لَهُ: السَّلَاسِلُ. وَبِهِ سُمِّيَتْ تِلْكَ
الْغَزْوَةُ ذَاتَ السَّلَاسِلِ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَخَافَ، بَعَثَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِدُّهُ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ فِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ،
فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَقَالَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ حِينَ وَجَّهَهُ:
" لَا تَخْتَلِفَا ". فَخَرَجَ أَبُو عُبَيْدَةَ، حَتَّى إِذَا قَدِمَ
عَلَيْهِ قَالَ لَهُ عَمْرٌو: إِنَّمَا جِئْتَ مَدَدًا إِلَيَّ. فَقَالَ لَهُ
أَبُو عُبَيْدَةَ: لَا، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ، وَأَنْتَ عَلَى مَا
أَنْتَ عَلَيْهِ. وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ رَجُلًا لَيِّنًا سَهْلًا، هَيِّنًا
عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَنْتَ مَدَدِي. فَقَالَ لَهُ
أَبُو عُبَيْدَةَ: يَا عَمْرُو، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ لِي: " لَا تَخْتَلِفَا ". وَإِنَّكَ إِنْ
عَصَيْتَنِي أَطَعْتُكَ. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: فَإِنِّي أَمِيرٌ عَلَيْكَ،
وَإِنَّمَا أَنْتَ مَدَدٌ لِي قَالَ: فَدُونَكَ. فَصَلَّى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ
بِالنَّاسِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
رُومَانَ، أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمَّا آبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،
فَصَارُوا خَمْسَمِائَةٍ، فَسَارُوا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
حَتَّى
وَطِئَ بِلَادَ بَلِيٍّ وَدَوَّخَهَا، وَكُلَّمَا انْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ
بَلَغَهُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ جَمْعٌ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِكَ
تَفَرَّقُوا، حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَقْصَى بِلَادِ بَلِيٍّ وَعُذْرَةَ
وَبِلْقَيْنَ، وَلَقِيَ فِي آخِرِ ذَلِكَ جَمْعًا لَيْسَ بِالْكَثِيرِ،
فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً، وَتَرَامُوا بِالنَّبْلِ، وَرُمِيَ يَوْمَئِذٍ عَامِرُ
بْنُ رَبِيعَةَ وَأُصِيبَ ذِرَاعُهُ، وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَهَرَبُوا،
وَأَعْجَزُوا هَرَبًا فِي الْبِلَادِ وَتَفَرَّقُوا، وَدَوَّخَ عَمْرٌو مَا
هُنَاكَ، وَأَقَامَ أَيَّامًا لَا يَسْمَعُ لَهُمْ بِجَمْعٍ وَلَا مَكَانٍ صَارُوا
فِيهِ، وَكَانَ يَبْعَثُ أَصْحَابَ الْخَيْلِ فَيَأْتُونَ بِالشَّاءِ وَالنَّعَمِ،
فَكَانُوا يَنْحَرُونَ وَيَذْبَحُونَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ
ذَلِكَ، وَلَمْ تَكُنْ غَنَائِمُ تُقْسَمُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، ثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ،
ثَنَا أَبِي، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ يُحَدِّثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
حَبِيبٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ
فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ.
قَالَ: فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا
عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ ؟ " قَالَ: فَأَخْبَرْتُهُ
بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ
يَقُولُ: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا
(
النِّسَاءِ: 29 ) فَضَحِكَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ
وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
أَبِي أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ كَانَ عَلَى سَرِيَّةٍ.
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ، قَالَ: فَغَسَلَ مَغَابِنَهُ وَتَوَضَّأَ
وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرِ
التَّيَمُّمَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَرَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنِ
الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، وَقَالَ فِيهِ: فَتَيَمَّمَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ رُقَيْشٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ قَالَ:كَانَ عَمْرُو
بْنُ الْعَاصِ حِينَ قَفَلُوا، احْتَلَمَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ كَأَشَدَّ مَا
يَكُونُ مِنَ الْبَرْدِ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَرَوْنَ ؟ قَدْ وَاللَّهِ
احْتَلَمْتُ، فَإِنِ اغْتَسَلْتُ مُتُّ. فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، وَغَسَلَ
فَرْجَهُ وَتَيَمَّمَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى بِهِمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَعَثَ
عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ بَرِيدًا، قَالَ عَوْفٌ: فَقَدِمْتُ
عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّحَرِ وَهُوَ يُصَلِّي
فِي بَيْتِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ ؟ " فَقُلْتُ: عَوْفُ بْنُ
مَالِكٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " صَاحِبُ الْجَزُورِ ؟ " قُلْتُ:
نَعَمْ. وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: "
أَخْبِرْنِي ". فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا كَانَ مِنْ مَسِيرِنَا، وَمَا كَانَ
مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَعَمْرٍو، وَمُطَاوَعَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرْحَمُ اللَّهُ
أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ ". قَالَ: ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ أَنَّ
عَمْرًا صَلَّى بِالنَّاسِ وَهُوَ جُنُبٌ وَمَعَهُ مَاءٌ، لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ
غَسَلَ فَرْجَهُ وَتَوَضَّأَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرٌو عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ عَنْ صَلَاتِهِ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: وَالَّذِي
بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، إِنِّي لَوِ اغْتَسَلْتُ لَمِتُّ، وَلَمْ أَجِدْ بَرْدًا
قَطُّ مِثْلَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ قَالَ شَيْئًا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ،عَنْ عَوْفِ بْنِ
مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: كُنْتُ فِي الْغَزْوَةِ الَّتِي بَعَثَ فِيهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهِيَ
غَزْوَةُ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَمَرَرْتُ
بِقَوْمٍ وَهُمْ عَلَى جَزُورٍ قَدْ نَحَرُوهَا، وَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى
أَنْ يُعَضُّوهَا، وَكُنْتُ امْرَأً جَازِرًا، فَقُلْتُ
لَهُمْ:
تُعْطُونِي مِنْهَا عَشِيرًا عَلَى أَنْ أُقَسِّمَهَا بَيْنَكُمْ ؟ قَالُوا: نَعَمْ.
فَأَخَذْتُ الشَّفْرَةَ، فَجَزَّأْتُهَا مَكَانِي، وَأَخَذْتُ مِنْهَا جُزْءًا
فَحَمَلْتُهُ إِلَى أَصْحَابِي، فَاطَّبَخْنَاهُ وَأَكَلْنَاهُ، فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ وَعُمَرُ: أَنَّى لَكَ هَذَا اللَّحْمُ يَا عَوْفُ ؟ فَأَخْبَرْتُهُمَا
فَقَالَا: لَا وَاللَّهِ مَا أَحْسَنْتَ حِينَ أَطْعَمْتَنَا هَذَا. ثُمَّ قَامَا
يَتَقَيَّآنِ مَا فِي بُطُونِهِمَا مِنْهُ، فَلَمَّا أَنْ قَفَلَ النَّاسُ مِنْ
ذَلِكَ السَّفَرِ، كُنْتُ أَوَّلَ قَادِمٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجِئْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ فَقُلْتُ:
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
فَقَالَ: " أَعَوْفُ بْنُ مَالِكٍ ؟ " فَقُلْتُ: نَعَمْ، بِأَبِي أَنْتَ
وَأُمِّي. فَقَالَ: " صَاحِبُ الْجَزُورِ ؟ " وَلَمْ يَزِدْنِي عَلَى
ذَلِكَ شَيْئًا هَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ بَلْ مُعْضَلٌ.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ وَسَعِيدُ بْنُ
أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ لَقِيطٍ،
عَنْ مَالِكِ بْنِ هِدْمٍ، أَظُنُّهُ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، فَذَكَرَ
نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: فَعَرَضْتُهُ عَلَى عُمَرَ فَسَأَلَنِي عَنْهُ،
فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: قَدْ تَعَجَّلْتَ أَجْرَكَ. وَلَمْ يَأْكُلْهُ. ثُمَّ
حَكَى عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَبَا بَكْرٍ،
وَتَمَامُهُ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ
.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ
وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، ثَنَا
عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، ثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ
النَّهْدِيِّ،سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، وَفِي
الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَحَدَّثْتُ نَفْسِي أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْنِي
عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِلَّا لِمَنْزِلَةٍ لِي عِنْدَهُ. قَالَ:
فَأَتَيْتُهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: " عَائِشَةُ ". قُلْتُ: إِنِّي
لَسْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ أَهْلِكِ. قَالَ: " فَأَبُوهَا " قُلْتُ: ثُمَّ
مَنْ ؟ قَالَ: " عُمَرُ " قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ ؟ حَتَّى عَدَّدَ رَهْطًا،
قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: لَا أَعُودُ أَسْأَلُ عَنْ هَذَا.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ
خَالِدِ بْنِ مِهْرَانَ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ،
وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَلٍّ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ
السَّلَاسِلِ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ:
" عَائِشَةُ " قُلْتُ: فَمِنَ الرِّجَالِ ؟ قَالَ: " أَبُوهَا
" قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: " ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ "
فَعَدَّ رِجَالًا. وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ عَمْرٌو:
فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ.
سَرِيَّةُ
أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ
قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:بَعَثَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثًا قِبَلَ السَّاحِلِ،
وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ.
قَالَ جَابِرٌ: وَأَنَا فِيهِمْ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ
الطَّرِيقِ فَنِيَ الزَّادُ، فَأَتَوْا أَبَا عُبَيْدَةَ بِأَزْوَادِ ذَلِكَ
الْجَيْشِ، فَجُمِعَ كُلُّهُ، فَكَانَ مِزْوَدَيْ تَمْرٍ، فَكَانَ يَقُوتُنَا
كُلَّ يَوْمٍ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى فَنِي، فَلَمْ يَكُنْ يُصِيبُنَا إِلَّا
تَمْرَةٌ تَمْرَةٌ. قَالَ: فَقُلْتُ: وَمَا تُغْنِي تَمْرَةٌ ؟ فَقَالَ: لَقَدْ
وَجَدْنَا فَقْدَهَا حِينَ فَنِيَتْ. قَالَ: ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى الْبَحْرِ،
فَإِذَا حُوتٌ مِثْلَ الظَّرِبِ. قَالَ: فَأَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْجَيْشُ
ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَمَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِضِلْعَيْنِ مِنْ
أَضْلَاعِهِ فَنُصِبَا، ثُمَّ أَمَرَ بِرَاحِلَةٍ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ مَرَّتْ
تَحْتَهُمَا فَلَمْ تُصِبْهُمَا. أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "
مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، بِنَحْوِهِ.
وَهُوَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ،
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ، وَأَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ،
نَرْصُدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ، حَتَّى أَكَلْنَا
الْخَبْطَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْجَيْشُ جَيْشُ الْخَبْطِ. قَالَ: وَنَحَرَ رَجُلٌ
ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ ثَلَاثًا، فَنَهَاهُ
أَبُو عُبَيْدَةَ. قَالَ: وَأَلْقَى الْبَحْرُ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا: الْعَنْبَرُ.
فَأَكَلْنَا مِنْهَا نِصْفَ شَهْرٍ وَادَّهَنَّا، حَتَّى ثَابَتْ إِلَيْنَا
أَجْسَامُنَا وَصَلَحَتْ. ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ الضِّلَعِ. فَقَوْلُهُ فِي
الْحَدِيثِ: نَرْصُدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ. دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السَرِيَّةِ
كَانَتْ قَبْلَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالرَّجُلُ الَّذِي
نَحَرَ لَهُمُ الْجَزَائِرَ هُوَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ،
أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ قُتَيْبَةَ،
ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، ثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، وَهُوَ زُهَيْرُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:بَعَثَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا
عُبَيْدَةَ، نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ،
لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً
تَمْرَةً. قَالَ: فَقُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ بِهَا ؟ قَالَ: كُنَّا
نَمُصُّهَا كَمَا يَمُصُّ الصَّبِيُّ، ثُمَّ نَشْرَبُ عَلَيْهَا الْمَاءَ،
فَتَكْفِينَا يَوْمَنَا إِلَى اللَّيْلِ، وَكُنَّا
نَضْرِبُ
بِعِصِيِّنَا الْخَبْطَ، ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ. قَالَ:
فَانْطَلَقْنَا إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَرُفِعَ لَنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ
كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ الضَّخْمِ، فَأَتَيْنَاهُ فَإِذَا بِهِ دَابَّةٌ تُدْعَى
الْعَنْبَرَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ. ثُمَّ قَالَ: لَا، بَلْ نَحْنُ
رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ،
وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ، فَكُلُوا. قَالَ: فَأَقَمْنَا عَلَيْهِ شَهْرًا وَنَحْنُ
ثَلَاثُمِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا، وَلَقَدْ كُنَّا نَغْرِفُ مِنْ وَقْبِ عَيْنِهِ
بِالْقِلَالِ الدُّهْنَ، وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفَدْرَ كَالثَّوْرِ، أَوْ
كَقَدْرِ الثَّوْرِ، وَلَقَدْ أَخَذَ مِنَّا أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ
رَجُلًا، فَأَقْعَدَهُمْ فِي عَيْنِهِ، وَأَخَذَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ،
فَأَقَامَهَا ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمَ بِعِيرٍ مِنْهَا، فَمَرَّ تَحْتَهَا،
وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهَا وَشَائِقَ، فَلَمَّا قَدِّمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ،
فَقَالَ: " هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ، فَهَلْ مَعَكُمْ شَيْءٌ
مِنْ لَحْمِهِ تُطْعِمُونَا ؟ " قَالَ: فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ مِنْهُ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَأَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنِ
النُّفَيْلِيِّ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ
الْجُعْفِيِّ الْكُوفِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ
تَدْرُسَ الْمَكِّيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، بِهِ.
قُلْتُ: وَمُقْتَضَى أَكْثَرِ هَذِهِ السِّيَاقَاتِ، أَنَّ هَذِهِ السَرِيَّةِ
كَانَتْ قَبْلَ صُلْحِ
الْحُدَيْبِيَةِ،
وَلَكِنْ أَوْرَدْنَاهَا هَاهُنَا تَبَعًا لِلْحَافِظِ الْبَيْهَقِيِّ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَهَا بَعْدَ مُؤْتَةَ وَقَبْلَ غَزْوَةِ الْفَتْحِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ غَزْوَةِ مُؤْتَةَ سَرِيَّةَ أُسَامَةَ بْنِ
زَيْدٍ إِلَى الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ
مُحَمَّدٍ، ثَنَا هُشَيْمٌ، أَنْبَأَنَا حُصَيْنُ بْنُ جُنْدُبٍ، ثَنَا أَبُو
ظَبْيَانِ، قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ
فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ،
فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ،
فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ
بَعْدَمَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ " قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا،
فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ
قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ وَالْكَلَامُ
عَلَيْهِ فِيمَا سَلَفَ.
ثُمَّ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ
سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ:غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ، وَخَرَجْتُ فِيمَا يَبْعَثُ مِنَ الْبُعُوثِ
تِسْعَ غَزَوَاتٍ، عَلَيْنَا مَرَّةً أَبُو بَكْرٍ، وَمَرَّةً أُسَامَةُ بْنُ
زَيْدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
ثُمَّ ذَكَرَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ هَاهُنَا مَوْتَ النَّجَاشِيِّ - صَاحِبِ
الْحَبَشَةِ - عَلَى الْإِسْلَامِ، وَنَعْيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَصَلَاتَهُ عَلَيْهِ، فَرَوَى
مِنْ
طَرِيقِ
مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى إِلَى
النَّاسِ النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى
الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ. أَخْرَجَاهُ مِنْ
حَدِيثِ مَالِكٍ، وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
بِنَحْوِهِ.
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَاتَ الْيَوْمَ
رَجُلٌ صَالِحٌ ". فَصَلَّوْا عَلَى أَصْحَمَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ
الْأَحَادِيثُ أَيْضًا وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَوْتَ النَّجَاشِيِّ كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ
بِكَثِيرٍ، فَإِنَّ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنَّهُ لَمَّا كَتَبَ
إِلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ، كَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ، وَلَيْسَ هُوَ
بِالْمُسْلِمِ. وَزَعَمَ آخَرُونَ كَالْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ هُوَ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ
الزِّنْجِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ
قَالَتْ:لَمَّا تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ
سَلَمَةَ قَالَ: " قَدْ أَهْدَيْتُ إِلَى النَّجَاشِيِّ أَوَاقِيَ مِنْ
مِسْكٍ وَحُلَّةً، وَإِنِّي لَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ مَاتَ،
وَلَا أَرَى الْهَدِيَّةَ إِلَّا سَتُرَدُّ عَلَيَّ، فَإِنْ رُدَّتْ عَلَيَّ - أَظُنُّهُ قَالَ - قَسَمْتُهَا بَيْنَكُنَّ " أَوْ " فَهِيَ لَكِ ". قَالَ: فَكَانَ كَمَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَاتَ النَّجَاشِيُّ وَرُدَّتِ الْهَدِيَّةُ، فَلَمَّا رُدَّتْ عَلَيْهِ، أَعْطَى كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أَوُقِيَّةً مِنْ ذَلِكَ الْمِسْكِ، وَأَعْطَى سَائِرَهُ أُمَّ سَلَمَةَ، وَأَعْطَاهَا الْحُلَّةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ غَزْوَةُ الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ وَكَانَتْ فِي
رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَقَدْ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَقَالَ
تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ
أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا
وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى الْآيَةَ ( الْحَدِيدِ: 10 ). وَقَالَ تَعَالَى: إِذَا
جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ
اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ
تَوَّابًا ( النَّصْرِ )
وَكَانَ سَبَبُ الْفَتْحِ بَعْدَ هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ
الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ
جَمِيعًا قَالَا: كَانَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ مَنْ شَاءَ أَنْ
يَدْخُلَ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ فِي
عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ، فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ وَقَالُوا: نَحْنُ
نَدْخُلُ فِي عَقْدِ مُحَمَّدٍ وَعَهْدِهِ. وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ وَقَالُوا:
نَحْنُ نَدْخُلُ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ. فَمَكَثُوا فِي تِلْكَ
الْهُدْنَةِ نَحْوَ السَّبْعَةَ أَوِ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ إِنَّ
بَنِي بَكْرٍ وَثَبُوا عَلَى خُزَاعَةَ لَيْلًا، بِمَاءٍ يُقَالُ
لَهُ:
الْوَتِيرُ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ، وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: مَا يَعْلَمُ بِنَا
مُحَمَّدٌ، وَهَذَا اللَّيْلُ وَمَا يَرَانَا أَحَدٌ. فَأَعَانُوهُمْ عَلَيْهِمْ
بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَقَاتَلُوهُمْ مَعَهُمْ، لِلضَّغْنِ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ عَمْرَو بْنَ سَالِمٍ رَكِبَ
عِنْدَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ خُزَاعَةَ وَبَنِي بَكْرٍ بِالْوَتِيرِ، حَتَّى
قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ
الْخَبَرَ، وَقَدْ قَالَ أَبْيَاتَ شِعْرٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْشَدَهُ إِيَّاهَا:
لَاهُمَّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا حِلْفَ أَبِيهِ وَأَبِينَا الْأَتْلَدَا قَدْ
كُنْتُمُ وُلْدًا وَكُنَّا وَالِدَا
ثُمَّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا فَانْصُرْ رَسُولَ اللَّهِ نَصْرًا
أَعْتَدَا
وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا مَدَدَا فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ
تَجَرَّدَا
إِنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبَّدَا فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي
مُزْبِدَا
إِنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا
وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصَّدَا وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا
فَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدًا هُمْ بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدًا
وَقَتَّلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدَا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نُصِرْتَ يَا عَمْرَو
بْنَ سَالِمٍ. فَمَا بَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَرَّتْ بِنَا عَنَانَةٌ فِي السَّمَاءِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّ هَذِهِ
السَّحَابَةَ لَتَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ. وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِالْجِهَازِ، وَكَتَمَهُمْ
مَخْرَجَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُعَمِّيَ عَلَى قُرَيْشٍ خَبَرَهُ، حَتَّى
يَبْغَتَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ السَّبَبُ الَّذِي هَاجَهُمْ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ
بَنِي الْحَضْرَمِيِّ، اسْمُهُ مَالِكُ بْنُ عَبَّادٍ، مِنْ حُلَفَاءِ الْأَسْوَدِ
بْنِ رَزْنٍ خَرَجَ تَاجِرًا، فَلَمَّا تَوَسَّطَ أَرْضَ خُزَاعَةَ، عَدَوْا
عَلَيْهِ، فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا مَالَهُ، فَعَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ
مِنْ بَنِي خُزَاعَةَ فَقَتَلُوهُ، فَعَدَتْ خُزَاعَةُ قُبَيْلِ الْإِسْلَامِ
عَلَى بَنِي الْأَسْوَدِ بْنِ رَزْنٍ الدُّئَلِيِّ - وَهُمْ مَنْخَرُ بَنِي
كِنَانَةَ وَأَشْرَافُهُمْ، سَلْمَى وَكُلْثُومٌ وَذُؤَيْبٌ - فَقَتَلُوهُمْ
بِعَرَفَةَ عِنْدَ أَنْصَابِ الْحَرَمِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي
رَجُلٌ مِنَ الدُّئِلِ قَالَ: كَانَ بَنُو الْأَسْوَدِ بْنِ رَزْنٍ يُودَوْنَ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ دِيَتَيْنِ دِيَتَيْنِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَيْنَا بَنُو بَكْرٍ وَخُزَاعَةُ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ
حَجَزَ بَيْنَهُمُ الْإِسْلَامُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَدَخَلَ
بَنُو بَكْرٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ، وَدَخَلَتْ
خُزَاعَةُ
فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتِ
الْهُدْنَةُ، اغْتَنَمَهَا بَنُو الدُّئِلِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ، وَأَرَادُوا أَنْ
يُصِيبُوا مِنْ خُزَاعَةَ ثَأْرًا بِأُولَئِكَ النَّفَرِ، فَخَرَجَ نَوْفَلُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ الدُّئِلِيُّ فِي قَوْمِهِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُهُمْ
وَقَائِدُهُمْ، وَلَيْسَ كُلُّ بَنِي بَكْرٍ تَابَعَهُ، فَبَيَّتَ خُزَاعَةَ
وَهُمْ عَلَى الْوَتِيرِ - مَاءٍ لَهُمْ - فَأَصَابُوا رَجُلًا مِنْهُمْ،
وَتَحَاوَزُوا، وَاقْتَتَلُوا، وَرَفَدَتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ بِالسِّلَاحِ،
وَقَاتَلَ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ مَنْ قَاتَلَ بِاللَّيْلِ مُسْتَخْفِيًا، حَتَّى
حَازُوا خُزَاعَةَ إِلَى الْحَرَمِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ، قَالَتْ بَنُو
بَكْرٍ: يَا نَوْفَلُ، إِنَّا قَدْ دَخَلْنَا الْحَرَمَ ! إِلَهَكَ إِلَهَكَ.
فَقَالَ كَلِمَةً عَظِيمَةً: لَا إِلَهَ الْيَوْمَ، يَا بَنِي بَكْرٍ أَصِيبُوا
ثَأْرَكُمْ، فَلَعَمْرِي إِنَّكُمْ لَتَسْرِقُونِ فِي الْحَرَمِ، أَفَلَا
تُصِيبُونَ ثَأْرَكُمْ فِيهِ ؟! وَلَجَأَتْ خُزَاعَةُ إِلَى دَارِ بُدَيْلِ بْنِ
وَرْقَاءَ بِمَكَّةَ، وَإِلَى دَارِ مَوْلًى لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: رَافِعٌ.
وَقَدْ قَالَ الْأَخْزَرُ بْنُ لُعْطٍ الدُّئِلِيُّ فِي ذَلِكَ:
أَلَا هَلْ أَتَى قُصْوَى الْأَحَابِيشِ أَنَّنَا رَدَدْنَا بَنِي كَعْبٍ
بَأَفْوَقَ نَاصِلِ
حَبَسْنَاهُمُ
فِي دَارَةِ الْعَبْدِ رَافِعٍ وَعِنْدَ بُدَيْلٍ مَحْبِسًا غَيْرَ طَائِلِ
بِدَارِ الذَّلِيلِ الْآخِذِ الضَّيْمَ بَعْدَمَا شَفَيْنَا النُّفُوسَ مِنْهُمُ
بِالْمَنَاصِلِ
حَبَسْنَاهُمُ حَتَى إِذَا طَالَ يَوْمُهُمْ نَفَحْنَا لَهُمْ مِنْ كُلِّ شِعْبٍ
بِوَابِلِ
نُذَبِّحُهُمْ ذَبْحَ التُّيُوسِ كَأَنَّنَا أُسُودٌ تَبَارَى فِيهِمُ
بِالْقَوَاصِلِ
هُمُ ظَلَمُونَا وَاعْتَدَوْا فِي مَسِيرِهِمْ وَكَانُوا لَدَى الْأَنْصَابِ
أَوَّلَ قَاتِلِ
كَأَنَّهُمُ بِالْجِزْعِ إِذْ يَطْرُدُونَهُمْ قَفَا ثَوْرَ حَفَّانُ النَّعَامِ
الْجَوَافِلِ
قَالَ: فَأَجَابَهُ بُدَيْلُ بْنُ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْأَجَبِّ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: بُدَيْلُ بْنُ أُمِّ أَصْرَمَ، فَقَالَ:
تَعَاقَدَ قَوْمٌ يَفْخَرُونَ وَلَمْ نَدَعْ لَهُمْ سَيِّدًا يَنْدُوهُمُ غَيْرَ
نَافِلِ
أَمِنْ خِيفَةِ الْقَوْمِ الْأُلَى تَزْدَرِيهِمُ تُجِيزُ الْوَتِيرَ خَائِفًا
غَيْرَ آيِلِ
وَفِي كُلِّ يَوْمٍ نَحْنُ نَحْبُو حِبَاءَنَا لِعَقْلٍ وَلَا يُحْبَى لَنَا فِي
الْمَعَاقِلِ
وَنَحْنُ
صَبَحْنَا بِالتَّلَاعَةِ دَارَكُمْ بِأَسْيَافِنَا يَسْبِقْنَ لَوْمَ
الْعَوَاذِلِ
وَنَحْنُ مَنَعْنَا بَيْنَ بِيضٍ وَعَتْوَدٍ إِلَى خِيفِ رَضْوَى مِنْ مَجَرِّ
الْقَنَابِلِ
وَيَوْمَ الْغَمِيمِ قَدْ تَكَفَّتَ سَاعِيًا عُبَيْسٌ فَجَعْنَاهُ بِجَلْدٍ
حُلَاحِلِ
أَأَنْ أَجْمَرَتْ فِي بَيْتِهَا أُمُّ بَعْضِكُمْ بِجُعْمُوسِهَا تَنْزُونَ إِنْ
لَمْ نُقَاتِلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللَّهِ مَا إِنْ قَتَلْتُمُ وَلَكِنْ تَرَكْنَا أَمْرَكُمْ
فِي بَلَابِلِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَأَنَّكُمْ بِأَبِي
سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ يَشُدُّ فِي الْعَقْدِ وَيَزِيدُ فِي الْمُدَّةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ
خُزَاعَةَ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا أُصِيبَ مِنْهُمْ، وَمُظَاهَرَةِ قُرَيْشٍ بَنِي
بَكْرٍ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ، حَتَّى لَقُوا أَبَا سُفْيَانَ
بِعُسْفَانَ، قَدْ بَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشُدُّ الْعَقْدَ، وَيَزِيدُ فِي الْمُدَّةِ، وَقَدْ رَهِبُوا
لِلَّذِي صَنَعُوا، فَلَمَّا لَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بُدَيْلًا قَالَ: مِنْ أَيْنَ
أَقْبَلْتَ يَا بُدَيْلُ ؟ وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ
أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: سِرْتُ فِي خُزَاعَةَ فِي هَذَا السَّاحِلِ وَفِي بَطْنِ هَذَا الْوَادِي. قَالَ: فَعَمَدَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَبْرَكِ رَاحِلَتِهِ فَأَخَذَ مِنْ بَعْرِهَا فَفَتَّهُ، فَرَأَى فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ بُدَيْلٌ مُحَمَّدًا. ثُمَّ خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَتْهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، مَا أَدْرِي أَرَغِبْتِ بِي عَنْ هَذَا الْفِرَاشِ أَوْ رَغِبْتِ بِهِ عَنِّي ؟ فَقَالَتْ: هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ مُشْرِكٌ نَجِسٌ، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ تَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَكِ بَعْدِي شَرٌّ. ثُمَّ خَرَجَ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَكَلَّمَهُ أَنْ يُكَلِّمَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. ثُمَّ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟! فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ لَكُمْ إِلَّا الذَّرَّ لَجَاهَدْتُكُمْ بِهِ. ثُمَّ خَرَجَ فَدَخَلَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهَا حَسَنٌ، غُلَامٌ يَدِبُّ بَيْنَ يَدَيْهِمَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، إِنَّكَ أَمَسَّ الْقَوْمِ بِي رَحِمًا، وَأَقْرَبَهُمْ مِنِّي قَرَابَةً، وَقَدْ جِئْتُ فِي حَاجَةٍ، فَلَا أَرْجِعَنَّ كَمَا جِئْتُ خَائِبًا، فَاشْفَعْ لِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: وَيْحَكَ أَبَا سُفْيَانَ ! وَاللَّهِ لَقَدْ عَزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَمْرٍ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلِّمَهُ فِيهِ. فَالْتَفَتَ إِلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ: يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ، هَلْ لَكِ أَنْ تَأْمُرِي بُنَيَّكِ هَذَا فَيُجِيرُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَكُونُ سَيِّدَ الْعَرَبِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ ؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا بَلَغَ بُنَيَّ ذَلِكَ أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ
النَّاسِ،
وَمَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ إِنِّي أَرَى الْأُمُورَ قَدِ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ،
فَانْصَحْنِي ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُغْنِي عَنْكَ،
وَلَكِنَّكَ سَيِّدُ بَنِي كِنَانَةَ، فَقُمْ فَأَجِرْ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ
الْحَقْ بِأَرْضِكَ. فَقَالَ: أَوَ تَرَى ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنِّي شَيْئًا ؟
قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ لَكَ غَيْرَ ذَلِكَ،
فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ
أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ. ثُمَّ رَكِبَ بَعِيرَهُ فَانْطَلَقَ، فَلَمَّا أَنْ
قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ ؟ قَالَ: جِئْتُ مُحَمَّدًا
فَكَلَّمْتُهُ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ جِئْتُ ابْنَ أَبِي
قُحَافَةَ، فَوَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ فِيهِ خَيْرًا، ثُمَّ جِئْتُ عُمَرَ
فَوَجَدْتُهُ أَعْدَى الْعَدُوِّ، ثُمَّ جِئْتُ عَلِيًّا فَوَجَدْتُهُ أَلْيَنَ
الْقَوْمِ، وَقَدْ أَشَارَ عَلَيَّ بِأَمْرٍ صَنَعْتُهُ، فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي
هَلْ يُغْنِي عَنَّا شَيْئًا أَمْ لَا ؟ قَالُوا: بِمَاذَا أَمَرَكَ ؟ قَالَ:
أَمَرَنِي أَنْ أُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ فَفَعَلْتُ. قَالُوا: هَلْ أَجَازَ ذَلِكَ
مُحَمَّدٌ ؟ قَالَ: لَا. قَالُوا: وَيْحَكَ! مَا زَادَكَ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ
لَعِبِ بِكَ، فَمَا يُغْنِي عَنَّا مَا قُلْتَ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا
وَجَدْتُ غَيْرَ ذَلِكَ.
فَائِدَةٌ ذَكَرَهَا السُّهَيْلِيُّ، تَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِ فَاطِمَةَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ: وَمَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: وَيُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
أَدْنَاهُمْ قَالَ: وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، بِأَنَّ الْمُرَادَ
بِالْحَدِيثِ مَنْ يُجِيرُ وَاحِدًا أَوْ نَفَرًا يَسِيرًا، وَقَوْلُ فَاطِمَةَ
فِيمَنْ يُجِيرُ عَدُوًّا مِنْ غَزْوِ الْإِمَامِ
إِيَّاهُمْ،
فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. قَالَ: كَانَ سُحْنُونُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ يَقُولَانِ:
إِنَّ أَمَانَ الْمَرْأَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْإِمَامِ، لِقَوْلِهِ
لِأُمِّ هَانِئٍ: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ. قَالَ:
وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَمَانُ الْعَبْدِ. وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ مَا يَقْتَضِي دُخُولَ
الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَتْ بَنُو
كَعْبٍ:
لَاهُمَّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللَّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا وَادْعُ عِبَادَ اللَّهِ يَأْتُوا
مَدَدَا
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ: ثُمَّ إِنَّ بَنِي نُفَاثَةَ
مِنْ بَنِي الدُّئِلِ أَغَارُوا عَلَى بَنِي كَعْبٍ، وَهُمْ فِي الْمُدَّةِ
الَّتِي بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ
قُرَيْشٍ، وَكَانَتْ بَنُو كَعْبٍ فِي صُلْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ بَنُو نُفَاثَةَ فِي صُلْحِ قُرَيْشٍ، فَأَعَانَتْ
بَنُو بَكْرٍ بَنِي نُفَاثَةَ، وَأَعَانَتْهُمْ قُرَيْشٌ بِالسِّلَاحِ
وَالرَّقِيقِ، وَاعْتَزَلَتْهُمْ بَنُو مُدْلِجٍ، وَوَفَوْا بِالْعَهْدِ الَّذِي
كَانُوا عَاهَدُوا عَلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَفِي بَنِي الدُّئِلِ رَجُلَانِ هُمَا سَيِّدَاهُمْ، سَلْمُ بْنُ الْأَسْوَدِ،
وَكُلْثُومُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّ مِمَّنْ أَعَانَهُمْ صَفْوَانَ
بْنَ أُمَيَّةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ، وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، فَأَغَارَتْ
بَنُو الدُّئِلِ عَلَى بَنِي عَمْرٍو، وَعَامَّتُهُمْ - زَعَمُوا - نِسَاءٌ
وَصِبْيَانٌ وَضُعَفَاءُ
الرِّجَالِ فَأَلْجَئُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ إِلَى دَارِ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ بِمَكَّةَ، فَخَرَجَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ حَتَّى أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرُوا لَهُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَمَا كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْجِعُوا فَتَفَرَّقُوا فِي الْبُلْدَانِ ". وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَخَوَّفَ الَّذِي كَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اشْدُدِ الْعَقْدَ، وَزِدْنَا فِي الْمُدَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَلِذَلِكَ قَدِمْتَ ؟ هَلْ كَانَ مِنْ حَدَثٍ قِبَلَكُمْ ؟ " فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ، نَحْنُ عَلَى عَهْدِنَا وَصُلِحِنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، لَا نُغَيِّرُ وَلَا نُبَدِّلُ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: جَدِّدِ الْعَقْدَ، وَزِدْنَا فِي الْمُدَّةِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: جِوَارِي فِي جِوَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُ الذَّرَّ تُقَاتِلُكُمْ لَأَعَنْتُهَا عَلَيْكُمْ. ثُمَّ خَرَجَ فَأَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا كَانَ مِنْ حِلْفِنَا جَدِيدًا فَأَخْلَقَهُ اللَّهُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مَتِينًا فَقَطَعَهُ اللَّهُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مَقْطُوعًا فَلَا وَصَلَهُ اللَّهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: جُزِيتَ مِنْ ذِي رَحِمٍ شَرًّا. ثُمَّ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: جِوَارِي فِي جِوَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ اتَّبَعَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ يُكَلِّمُهُمْ، فَكُلُّهُمْ يَقُولُ: عَقْدُنَا فِي عَقْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا يَئِسَ مِمَّا عِنْدَهُمْ، دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّمَا أَنَا امْرَأَةٌ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لَهَا: فَأْمُرِي أَحَدَ ابْنَيْكِ. فَقَالَتْ: إِنَّهُمَا صَبِيَّانِ، وَلَيْسَ مِثْلُهُمَا يُجِيرُ. قَالَ: فَكَلِّمِي عَلِيًّا
. فَقَالَتْ: أَنْتَ فَكَلِّمْهُ، فَكَلَّمَ عَلِيًّا، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَاتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِوَارٍ، وَأَنْتَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ وَأَكْبَرُهَا وَأَمْنَعُهَا، فَأَجِرْ بَيْنَ عَشِيرَتِكَ. قَالَ: صَدَقْتَ، وَأَنَا كَذَلِكَ. فَخَرَجَ فَصَاحَ: أَلَا إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ أَنْ يُخْفِرَنِي أَحَدٌ. ثُمَّ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا وَاللَّهِ مَا أَظُنُّ أَنْ يُخْفِرَنِي أَحَدٌ وَلَا يَرُدَّ جِوَارِي. فَقَالَ: " أَنْتَ تَقُولُ يَا أَبَا حَنْظَلَةَ ؟ ! " فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى ذَلِكَ، فَزَعَمُوا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ أَدْبَرَ أَبُو سُفْيَانَ: " اللَّهُمَّ خُذْ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ، فَلَا يَرَوْنَا إِلَّا بَغْتَةً، وَلَا يَسْمَعُوا بِنَا إِلَّا فَجْأَةً ". وَقَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ مَكَّةَ، فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: مَا وَرَاءَكَ ؟ هَلْ جِئْتَ بِكِتَابٍ مِنْ مُحَمَّدٍ أَوْ عَهْدٍ ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَقَدْ أَبَى عَلَيَّ، وَقَدْ تَتَبَّعْتُ أَصْحَابَهُ، فَمَا رَأَيْتُ قَوْمًا لِمَلِكٍ عَلَيْهِمْ أَطَوَعَ مِنْهُمْ لَهُ، غَيْرَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَدْ قَالَ لِي: لِمَ تَلْتَمِسُ جِوَارَ النَّاسِ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَلَا تُجِيرُ أَنْتَ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْمِكَ، وَأَنْتَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ وَأَكْبَرُهَا وَأَحَقُّهَا أَنْ لَا يُخْفَرَ جِوَارُهُ ؟ فَقُمْتُ بِالْجِوَارِ، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَذَكَرْتُ لَهُ أَنِّي قَدْ أَجَرْتَ بَيْنَ النَّاسِ، وَقُلْتُ: مَا أَظُنُّ أَنْ تُخْفِرَنِي. فَقَالَ: " أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا أَبَا حَنْظَلَةَ ؟ ! " فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ: رَضِيتَ بِغَيْرِ رِضًا، وَجِئْتَنَا بِمَا لَا يُغْنِي عَنَّا وَلَا عَنْكَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا لَعِبَ بِكَ عَلِيٌّ، لَعَمْرُ اللَّهِ مَا جِوَارُكَ بِجَائِزٍ، وَإِنَّ إِخْفَارَكَ عَلَيْهِمْ لَهَيِّنٌ. ثُمَّ دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَحَدَّثَهَا الْحَدِيثَ فَقَالَتْ: قَبَّحَكَ اللَّهُ مِنْ وَافِدِ قَوْمٍ، فَمَا جِئْتَ بِخَيْرٍ. قَالَ: وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَحَابًا فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ السَّحَابَ لَتَبِضُّ
بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ " فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ بَعْدَمَا خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ،
ثُمَّ أَخَذَ فِي الْجِهَازِ، وَأَمَرَ عَائِشَةَ أَنْ تُجَهِّزَهُ وَتُخْفِيَ ذَلِكَ،
ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْمَسْجِدِ أَوْ إِلَى بَعْضِ حَاجَاتِهِ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى
عَائِشَةَ، فَوَجَدَ عِنْدَهَا حِنْطَةً تُنْسَفُ وَتُنَقَّى، فَقَالَ لَهَا: يَا
بُنَيَّةُ، لِمَاذَا تَصْنَعِينَ هَذَا الطَّعَامَ ؟ فَسَكَتَتْ، فَقَالَ:
أَيُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْزُوَ ؟
فَصَمَتَتْ، فَقَالَ: يُرِيدُ بَنِي الْأَصْفَرِ ؟ - وَهُمُ الرُّومُ - فَصَمَتَتْ
قَالَ: فَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أَهْلَ نَجْدٍ ؟ فَصَمَتَتْ قَالَ: فَلَعَلَّهُ
يُرِيدُ قُرَيْشًا ؟ فَصَمَتَتْ قَالَ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ
مَخْرَجًا ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: فَلَعَلَّكَ تُرِيدُ بَنِي
الْأَصْفَرِ ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ: أَتُرِيدُ أَهْلَ نَجْدٍ ؟ قَالَ:
" لَا ". قَالَ: فَلَعَلَّكَ تُرِيدُ قُرَيْشًا ؟ قَالَ: " نَعَمْ
". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ
مُدَّةٌ ؟ قَالَ: " أَلَمْ يَبْلُغْكَ مَا صَنَعُوا بِبَنِي كَعْبٍ ؟ قَالَ:
وَأَذَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ
بِالْغَزْوِ، وَكَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى قُرَيْشٍ، وَأَطْلَعَ
اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْكِتَابِ، وَذَكَرَ
الْقِصَّةَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ
عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، وَهِيَ
تُغَرْبِلُ حِنْطَةً، فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ أَمَرَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِهَازِ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَتَجَهَّزْ، قَالَ:
وَإِلَى أَيْنَ ؟ قَالَتْ: مَا سَمَّى لَنَا شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ
أَمَرَنَا بِالْجِهَازِ
.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَ بِالْجِدِّ
وَالتَّهَيُّؤِ، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالْأَخْبَارَ، عَنْ
قُرَيْشٍ، حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلَادِهَا فَتَجَهَّزَ النَّاسُ، فَقَالَ
حَسَّانُ يُحَرِّضُ النَّاسَ، وَيَذْكُرُ مُصَابَ خُزَاعَةَ:
عَنَانِي وَلَمْ أَشْهَدْ بِبَطْحَاءِ مَكَّةَ رِجَالُ بَنِي كَعْبٍ تُحَزُّ
رِقَابُهَا
بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَسُلُّوا سُيُوفَهُمْ وَقَتْلَى كَثِيرٌ لَمْ تُجَنَّ
ثِيَابُهَا
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَنَالَنَّ نُصْرَتِي سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو حَرُّهَا
وَعِقَابُهَا
وَصَفْوَانُ عَوْدٌ حُزَّ مِنْ شُفْرِ اسْتِهِ فَهَذَا أَوَانُ الْحَرْبِ شُدَّ
عِصَابُهَا
فَلَا تَأْمَنَنَّا يَا بْنَ أُمِّ مُجَالِدٍ إِذَا احْتُلِبَتْ صِرْفًا
وَأَعْصَلَ نَابُهَا
وَلَا تَجْزَعُوا مِنْهَا فَإِنَّ سُيُوفَنَا لَهَا وَقْعَةٌ بِالْمَوْتِ يُفْتَحُ
بَابُهَا
قِصَّةُ
حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ
عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا قَالُوا: لَمَّا أَجْمَعَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ،
كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا إِلَى قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهُمْ
بِالَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنَ الْأَمْرِ فِي السَّيْرِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً - زَعَمَ
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَّهَا مِنْ مُزَيْنَةَ، وَزَعَمَ لِي غَيْرُهُ
أَنَّهَا سَارَةُ، مَوْلَاةٌ لِبَعْضِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - وَجَعَلَ لَهَا
جُعْلًا عَلَى أَنْ تُبَلِّغَهُ قُرَيْشًا، فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا، ثُمَّ
فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ، وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا صَنَعَ
حَاطِبٌ، فَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ
فَقَالَ: " أَدْرِكَا امْرَأَةً قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي
بَلْتَعَةَ بِكِتَابٍ إِلَى قُرَيْشٍ، يُحَذِّرُهُمْ مَا قَدْ أَجْمَعْنَا لَهُ
مِنْ أَمْرِهِمْ " فَخَرَجَا حَتَّى أَدْرَكَاهَا بِالْخَلِيقَةِ خَلِيقَةِ
بَنِي أَبِي أَحْمَدَ، فَاسْتَنْزَلَاهَا، فَالْتَمَسَاهُ فِي رَحْلِهَا فَلَمْ
يَجِدَا فِيهِ شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ: إِنِّي أَحِلِفُ بِاللَّهِ مَا
كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا كُذِبْنَا،
وَلَتُخْرِجِنَّ لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنَّكِ. فَلَمَّا رَأَتِ
الْجِدَّ مِنْهُ قَالَتْ: أَعْرِضْ. فَأَعْرَضَ، فَحَلَّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا،
فَاسْتَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْهَا فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ، فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاطِبًا فَقَالَ: " يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، مَا غَيَّرْتُ وَلَا بَدَّلْتُ، وَلَكِنَّنِي كُنْتُ امْرَأً لَيْسَ لِي فِي الْقَوْمِ مِنْ أَصْلٍ وَلَا عَشِيرَةٍ، وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَلَدٌ وَأَهْلٌ فَصَانَعْتُهُمْ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ نَافَقَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ، لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ إِلَى أَصْحَابِ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَاطِبٍ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ ( الْمُمْتَحِنَةِ: 1 - 9 ). هَكَذَا أَوْرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُرْسَلَةً، وَقَدْ ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ كَانَ فِي كِتَابِ حَاطِبٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْكُمْ بِجَيْشٍ كَاللَّيْلِ يَسِيرُ كَالسَّيْلِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَوْ سَارَ إِلَيْكُمْ وَحْدَهُ لَنَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّهُ مُنْجِزٌ لَهُ مَا وَعَدَهُ. قَالَ: وَفِي " تَفْسِيرِ ابْنِ سَلَّامٍ " أَنَّ حَاطِبًا كَتَبَ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ نَفَرَ، فَإِمَّا إِلَيْكُمْ وَإِمَّا إِلَى غَيْرِكُمْ، فَعَلَيْكُمُ الْحَذَرَ.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ، سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرُ وَالْمِقْدَادُ فَقَالَ: " انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا ". فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ. فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ. فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ. قَالَ: فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ. إِلَى نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ - يَقُولُ: كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا - وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ ". فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ
إِلَى
قَوْلِهِ: فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ.
وَأَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ، إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا حُجَيْنٌ وَيُونُسُ قَالَا: حَدَّثَنَا لَيْثُ
بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ
حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَذْكُرُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ غَزْوَهُمْ، فَدُلَّ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي
مَعَهَا الْكِتَابُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَأَخَذَ كِتَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا،
وَقَالَ: " يَا حَاطِبُ أَفَعَلْتَ ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا
إِنِّي لَمْ أَفْعَلْهُ غِشًّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا نِفَاقًا، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ رَسُولَهُ،
وَمُتِمٌّ لَهُ أَمْرَهُ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ عَرِيرًا بَيْنَ ظَهْرَيْهِمْ،
وَكَانَتْ وَالِدَتِي مَعَهُمْ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَّخِذَ هَذَا عِنْدَهُمْ.
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَلَا أَضْرِبُ رَأْسَ هَذَا ؟ فَقَالَ: " أَتَقْتُلُ
رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى
أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ. تَفَرَّدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ
مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
فَصْلٌ
مِيقَاتُ خُرُوجِ النَّبِيِّ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ
الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِسَفَرِهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ
بْنَ حُصَيْنِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ خَلَفٍ الْغِفَارِيَّ، وَخَرَجَ لِعَشْرٍ
مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَصَامَ وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا
كَانَ بِالْكَدِيدِ، بَيْنَ عُسْفَانَ وَأَمَجَ أَفْطَرَ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى
نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - وَقَالَ
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَ مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا. وَكَذَا قَالَ
الزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ - فَسَبَّعَتْ سُلَيْمٌ، وَبَعْضُهُمْ
يَقُولُ: أَلَّفَتْ سُلَيْمٌ - وَأَلَّفَتْ مُزَيْنَةُ، وَفِي كُلِّ الْقَبَائِلِ
عَدَدٌ وَإِسْلَامٌ، وَأَوْعَبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ مِنْهُمْ
أَحَدٌ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ مَحْمُودٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ اللَّيْثِ
بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ
رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا غَزْوَةَ الْفَتْحِ فِي
رَمَضَانَ. قَالَ: وَسَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ،
لَا أَدْرِي أَخَرَجَ فِي لَيَالٍ مِنْ شَعْبَانَ فَاسْتَقْبَلَ رَمَضَانَ، أَوْ
خَرَجَ فِي رَمَضَانَ بَعْدَمَا دَخَلَ ؟ غَيْرَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ:صَامَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ - الْمَاءَ الَّذِي
بَيْنَ قُدَيْدٍ وَعُسْفَانَ - أَفْطَرَ، فَلَمْ يَزَلْ يُفْطِرُ حَتَّى انْصَرَمَ
الشَّهْرُ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ
اللَّيْثِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ التَّرْدِيدَ بَيْنَ شَعْبَانَ
وَرَمَضَانَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَافَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى
بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ فَشَرِبَ نَهَارًا لِيَرَاهُ النَّاسُ،
فَأَفْطَرُ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ:صَامَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ، وَأَفْطَرَ،
فَمَنْ شَاءَ صَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ.
وَقَالَ يُونُسُ: عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَفْرَةِ الْفَتْحِ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى
الْمَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ الْحُصَيْنِ الْغِفَارِيَّ، وَخَرَجَ
لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، فَصَامَ وَصَامَ النَّاسُ مَعَهُ، حَتَّى أَتَى
الْكَدِيدَ - مَاءً بَيْنَ عُسْفَانَ وَأَمَجَ - فَأَفْطَرَ، وَدَخَلَ مَكَّةَ
مُفْطِرًا، فَكَانَ النَّاسُ يَرَوْنَ أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِطْرُ، وَأَنَّهُ
نَسَخَ
مَا كَانَ قَبْلَهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَقَوْلُهُ: خَرَجَ لِعَشْرٍ مِنْ رَمَضَانَ. مُدْرَجٌ فِي
الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ. ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ حَامِدِ بْنِ
يَحْيَى، عَنْ صَدَقَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ
سَنَةَ ثَمَانٍ.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْفَتْحُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ
خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا الْإِدْرَاجُ وَهْمٌ.
إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ.
ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
قَالَ:غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ
الْفَتْحِ - فَتْحِ مَكَّةَ - فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي رَمَضَانَ وَمَعَهُ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِي سِنِينَ
وَنِصْفِ سَنَةٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، وَافْتَتَحَ مَكَّةَ لِثَلَاثَ
عَشْرَةَ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي رَمَضَانَ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ ثُمَّ أَفْطَرَ، فَقَالَ
الزُّهْرِيُّ: وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ قَالَ
الزُّهْرِيُّ: فَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَكَّةَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ. ثُمَّ عَزَاهُ إِلَى
" الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
التَّنُوخِيِّ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ قَزَعَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:آذَنَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّحِيلِ عَامَ الْفَتْحِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ
رَمَضَانَ، فَخَرَجْنَا صُوَّامًا حَتَّى بَلَغْنَا الْكَدِيدَ، فَأَمَرَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفِطْرِ، فَأَصْبَحَ
النَّاسُ شَرْجَيْنِ، مِنْهُمُ الصَّائِمُ وَمِنْهُمُ الْمُفْطِرُ، حَتَّى إِذَا
بَلَغْنَا الْمَنْزِلَ الَّذِي نَلْقَى الْعَدُوَّ فِيهِ، أَمَرَنَا بِالْفِطْرِ
فَأَفْطَرْنَا أَجْمَعُونَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنِي عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: آذَنَنَا
رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّحِيلِ عَامَ الْفَتْحِ
لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَمَضَانَ، فَخَرَجْنَا صُوَّامًا حَتَّى بَلَغْنَا
الْكَدِيدَ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْفِطْرِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ مِنْهُمُ الصَّائِمُ وَمِنْهُمُ الْمُفْطِرُ،
حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَدْنَى مَنْزِلٍ تِلْقَاءَ الْعَدُوِّ، أَمَرَنَا
بِالْفِطْرِ، فَأَفْطَرْنَا أَجْمَعُونَ.
قُلْتُ: فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ مِنْ أَنَّ الْفَتْحَ كَانَ يَوْمَ
الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو سَعِيدٍ مِنْ أَنَّهُمْ
خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ فِي ثَانِي شَهْرِ رَمَضَانَ، يَقْتَضِي أَنَّ
مَسِيرَهُمْ كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي إِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً.
وَلَكِنْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنِ الْحَسَنِ
بْنِ الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ
بْنِ قَتَادَةَ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فِي عَشْرٍ بَقِيَتْ مِنْ شَهْرِ
رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: ثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:خَرَجَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ صَائِمًا حَتَّى أَتَى
كُرَاعَ الْغَمِيمِ، وَالنَّاسُ مَعَهُ مُشَاةً وَرُكْبَانًا، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ
رَمَضَانَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ النَّاسَ قَدِ اشْتَدَّ
عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ
كَيْفَ
فَعَلْتَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدَحٍ
فِيهِ مَاءٌ فَرَفَعَهُ، فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، فَصَامَ بَعْضُ
النَّاسِ وَأَفْطَرَ الْبَعْضُ، حَتَّى أُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُولَئِكَ الْعُصَاةُ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ
حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ وَالدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي
بَشِيرُ بْنُ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ وَصَامَ
الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْكَدِيدِ دَعَا بِمَاءٍ فِي قَعْبٍ
وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، يُعْلِمُهُمْ أَنَّهُ
قَدْ أَفْطَرَ، فَأَفْطَرَ الْمُسْلِمُونَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
فَصْلٌ
فِي إِسْلَامِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةَ الْمَخْزُومِيِّ أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِجْرَتِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدُوهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى
فَتْحِ مَكَّةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَقِيَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ. قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ: لَقِيَهُ بِالْجَحْفَةِ مُهَاجِرًا بِعِيَالِهِ، وَقَدْ كَانَ
قَبْلَ ذَلِكَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ عَلَى سِقَايَتِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ رَاضٍ، فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ شِهَابٍ
الزُّهْرِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ قَدْ لَقِيَا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا بِنِيقِ الْعُقَابِ فِيمَا بَيْنَ
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَالْتَمَسَا الدُّخُولَ عَلَيْهِ، فَكَلَّمَتْهُ أُمُّ
سَلَمَةَ فِيهِمَا، فَقَالَتْ:
يَا
رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ عَمِّكَ، وَابْنُ عَمَّتِكَ، وَصِهْرُكَ. قَالَ: لَا
حَاجَةَ لِي بِهِمَا، أَمَّا ابْنُ عَمِّي فَهَتَكَ عِرْضِي، وَأَمَّا ابْنُ
عَمَّتِي فَهُوَ الَّذِي قَالَ لِي بِمَكَّةَ مَا قَالَ. قَالَ: فَلَمَّا خَرَجَ
إِلَيْهِمَا الْخَبَرُ بِذَلِكَ وَمَعَ أَبِي سُفْيَانَ بُنَيٌّ لَهُ، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لَيَأْذَنَنَّ لِي أَوْ لَآخُذَنَّ بِيَدِ بُنَيَّ هَذَا، ثُمَّ
لَنَذْهَبَنَّ فِي الْأَرْضِ حَتَّى نَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا. فَلَمَّا بَلَغَ
ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَّ لَهُمَا، ثُمَّ أَذِنَ
لَهُمَا فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَأَسْلَمَا، وَأَنْشَدَ أَبُو سُفْيَانَ قَوْلَهُ فِي
إِسْلَامِهِ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ مِمَّا كَانَ مَضَى مِنْهُ:
لَعَمْرُكَ إِنِّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللَّاتِ خَيْلَ
مُحَمَّدِ لَكَالْمُدْلِجِ الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ
فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدَى وَأَهْتَدِي هَدَانِيَ هَادٍ غَيْرُ نَفْسِي
وَنَالَنِي
مَعَ اللَّهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ أَصُدُّ وَأَنْأَى جَاهِدًا عَنْ
مُحَمَّدٍ
وَأُدْعَى وَإِنْ لَمْ أَنْتَسِبْ مِنْ مُحَمَّدِ هُمُ مَا هُمُ مَنْ لَمْ يَقُلْ
بِهَوَاهُمُ
وَإِنْ كَانَ ذَا رَأْيٍ يُلَمْ وَيُفَنَّدِ أُرِيدُ لِأُرْضِيهِمْ وَلَسْتُ
بِلَائِطٍ
مَعَ الْقَوْمِ مَا لَمْ أُهْدَ فِي كُلِّ مَقْعَدِ
فَقُلْ
لِثَقِيفٍ لَا أُرِيدُ قِتَالَهَا
وَقُلْ لِثَقِيفٍ تِلَكَ غَيْرِيَ أَوْعِدِي فَمَا كُنْتُ فِي الْجَيْشِ الَّذِي
نَالَ عَامِرًا
وَمَا كَانَ عَنْ جَرَّا لِسَانِي وَلَا يَدِي قَبَائِلُ جَاءَتْ مِنْ بِلَادٍ
بَعِيدَةٍ
نَزَائِعُ جَاءَتْ مِنْ سِهَامٍ وَسَرْدُدِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَزَعَمُوا أَنَّهُ حِينَ أَنْشَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
.................. وَنَالَنِي مَعَ اللَّهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ
ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ
وَقَالَ: أَنْتَ طَرَّدْتَنِي كُلَّ مُطَرَّدِ!.
فَصْلٌ نُزُولُ النَّبِيِّ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ
وَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَرِّ
الظَّهْرَانِ، نَزَلَ فِيهِ فَأَقَامَ، كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى
بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، وَمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ
وَهْبٍ كِلَاهُمَا، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ
جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمَرِّ الظَّهْرَانِ نَجْتَنِي الْكَبَاثَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ مِنْهُ
فَإِنَّهُ أَطْيَبُ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكُنْتَ تَرْعَى
الْغَنَمَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ، وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَاهَا ؟
.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ سِنَانَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ،
عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ سَعِيدِ بْنِ مِينَا قَالَ:لَمَّا فَرَغَ أَهْلُ مُؤْتَةَ
وَرَجَعُوا، أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْمَسِيرِ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَرِّ الظَّهْرَانِ نَزَلَ
بِالْعُقْبَةِ، فَأَرْسَلَ الْجُنَاةَ يَجْتَنُونَ الْكَبَاثَ، فَقُلْتُ
لِسَعِيدٍ: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: ثَمَرُ الْأَرَاكِ. قَالَ: فَانْطَلَقَ ابْنُ
مَسْعُودٍ فِيمَنْ يَجْتَنِي. قَالَ: فَجَعَلَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَصَابَ حَبَّةً
طَيِّبَةً قَذَفَهَا فِي فِيهِ، وَكَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَى دِقَّةِ سَاقَيِ
ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَرْقَى فِي الشَّجَرَةِ فَيَضْحَكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَعْجَبُونَ مِنْ دِقَّةِ
سَاقَيْهِ ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ
أُحُدٍ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَا اجْتَنَى مِنْ شَيْءٍ، جَاءَ بِهِ وَخِيَارُهُ
فِيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ فِي
ذَلِكَ:
هَذَا جَنَايَ وَخِيَارَهُ فِيهْ إِذْ كُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهْ
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ قَالَ:أَنَفَجْنَا أَرْنَبًا
وَنَحْنُ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَسَعَى الْقَوْمُ فَلَغِبُوا، فَأَدْرَكْتُهَا
فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ فَذَبَحَهَا، وَبَعَثَ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَرِكِهَا أَوْ فَخِذَيْهَا
فَقَبِلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَرَّ الظَّهْرَانِ، وَقَدْ عُمِّيَتِ
الْأَخْبَارُ
عَنْ قُرَيْشٍ، فَلَا يَأْتِيهِمْ خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَدْرُونَ مَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَاعِلٌ، وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ،
وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ، يَتَحَسَّسُونَ الْأَخْبَارَ،
وَيَنْظُرُونَ هَلْ يَجِدُونَ خَبَرًا أَوْ يَسْمَعُونَ بِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ عُيُونًا
خَيْلًا يَقْتَصُّونَ الْعُيُونَ، وَخُزَاعَةُ لَا تَدَعُ أَحَدًا يَمْضِي
وَرَاءَهَا، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ أَخَذَتْهُمْ خَيْلُ
الْمُسْلِمِينَ، وَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ يَجَأُ فِي عُنُقِهِ، حَتَّى أَجَارَهُ
الْعَبَّاسُ بْنُ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ صَاحِبًا لِأَبِي سُفْيَانَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ الْعَبَّاسُ حِينَ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ الظَّهْرَانِ: قُلْتُ: وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ،
وَاللَّهِ لَئِنْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَكَّةَ عَنْوَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوهُ فَيَسْتَأْمِنُوهُ، إِنَّهُ لَهَلَاكُ
قُرَيْشٍ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ. قَالَ: فَجَلَسْتُ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْضَاءِ، فَخَرَجْتُ عَلَيْهَا
حَتَّى جِئْتُ الْأَرَاكَ، فَقُلْتُ: لَعَلِّي أَجِدُ بَعْضَ الْحَطَّابَةِ، أَوْ
صَاحِبَ لَبَنِ، أَوْ ذَا حَاجَةٍ يَأْتِي مَكَّةَ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَكَانِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَخْرُجُوا إِلَيْهِ
فَيَسْتَأْمِنُوهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ عَنْوَةً. قَالَ: فَوَاللَّهِ
إِنِّي لَأَسِيرُ عَلَيْهَا وَأَلْتَمِسَ مَا خَرَجْتُ لَهُ، إِذْ سَمِعْتُ
كَلَامَ أَبِي سُفْيَانَ وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ،
وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ نِيرَانًا قَطُّ وَلَا
عَسْكَرًا!
قَالَ: يَقُولُ بُدَيْلٌ: هَذِهِ وَاللَّهِ خُزَاعَةُ حَمَشَتْهَا الْحَرْبُ.
قَالَ: يَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: خُزَاعَةُ أَذَلُّ وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ
هَذِهِ نِيرَانُهَا وَعَسْكَرُهَا. قَالَ: فَعَرَفْتُ صَوْتَهُ فَقُلْتُ: يَا
أَبَا حَنْظَلَةَ. فَعَرِفَ صَوْتِي، فَقَالَ: أَبُو الْفَضْلِ ؟ قَالَ: قُلْتُ:
نَعَمْ. قَالَ: مَا لَكَ، فَدَى لَكَ أَبِي وَأُمِّي ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَيْحَكَ
يَا أَبَا سُفْيَانَ ! هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي النَّاسِ، وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ. قَالَ: فَمَا الْحِيلَةُ، فِدَاكَ
أَبِي وَأُمِّي ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَئِنْ ظَفِرَ بِكَ لَيَضْرِبَنَّ
عُنُقَكَ، فَارْكَبْ فِي عَجُزِ هَذِهِ الْبَغْلَةِ حَتَّى آتِيَ بِكَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْتَأْمِنُهُ لَكَ. قَالَ:
فَرَكِبَ خَلْفِي وَرَجَعَ صَاحَبَاهُ - وَقَالَ عُرْوَةُ: بَلْ ذَهَبَا إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَا، وَجَعَلَ
يَسْتَخْبِرُهُمَا عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ
عُقْبَةَ: بَلْ دَخَلُوا مَعَ الْعَبَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ كُلَّمَا
مَرَرْتُ بِنَارٍ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: مَنْ هَذَا ؟ فَإِذَا
رَأَوْا بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا
عَلَيْهَا قَالُوا: عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَتَّى
مَرَرْتُ بِنَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ وَقَامَ إِلَيَّ،
فَلَمَّا رَأَى أَبَا سُفْيَانَ عَلَى عَجُزِ الدَّابَّةِ قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ
عَدُوُّ اللَّهِ! الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمْكَنَ مِنْكَ بِغَيْرِ عَقْدٍ
وَلَا عَهْدٍ. وَزَعَمَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عُمَرَ وَجَأَ فِي
رَقَبَةِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَرَادَ قَتْلَهُ فَمَنَعَهُ مِنْهُ الْعَبَّاسُ.
وَهَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُيُونَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَخَذُوهُمْ
بِأَزِمَّةِ جِمَالِهِمْ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا: وَفْدُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَقِيَهُمُ الْعَبَّاسُ، فَدَخَلَ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَادَثَهُمْ عَامَّةَ
اللَّيْلِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
فَشَهِدُوا، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَشَهِدَ حَكِيمٌ وَبُدَيْلٌ،
وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا أَعْلَمُ ذَلِكَ. ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ الصُّبْحِ،
ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يُؤَمِّنَ قُرَيْشًا، فَقَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي
سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ - وَكَانَتْ بِأَعْلَى مَكَّةَ -وَمَنْ دَخَلَ دَارَ
حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَهُوَ آمِنٌ - وَكَانَتْ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ -وَمَنْ
أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ.
قَالَ الْعَبَّاسُ: ثُمَّ خَرَجَ عُمَرُ يَشْتَدُّ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكَضَتِ الْبَغْلَةُ، فَسَبَقَتْهُ بِمَا تَسْبِقُ
الدَّابَّةُ الْبَطِيئَةُ الرَّجُلَ الْبَطِيءَ قَالَ: فَاقْتَحَمْتُ عَنِ
الْبَغْلَةِ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ
قَدْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ، فَدَعْنِي
فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ إِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ. ثُمَّ
جَلَسْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذْتُ
بِرَأْسِهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا يُنَاجِيهِ اللَّيْلَةَ دُونِي رَجُلٌ.
فَلَمَّا أَكْثَرَ عُمَرُ فِي شَأْنِهِ. قَالَ: قُلْتُ: مَهْلًا يَا عُمَرُ،
فَوَاللَّهِ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ رِجَالِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ مَا قُلْتَ
هَذَا، وَلَكِنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ مِنْ رِجَالِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ.
فَقَالَ: مَهْلًا يَا عَبَّاسُ، فَوَاللَّهِ لَإِسْلَامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ
كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ، وَمَا بِي
إِلَّا أَنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ إِسْلَامَكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِسْلَامِ الْخَطَّابِ لَوْ
أَسْلَمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
اذْهَبْ بِهِ يَا عَبَّاسُ إِلَى
رَحْلِكَ
فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَأْتِنِي بِهِ ". قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ إِلَى رَحْلِي،
فَبَاتَ عِنْدِي، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَوْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ ! أَلَمْ يَأْنِ لَكَ
أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ " فَقَالَ: بِأَبِي
أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَحَلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ، وَاللَّهِ لَقَدْ
ظَنَنْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا
بَعْدُ. قَالَ: " وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ ! أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ
تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ " قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا
أَحَلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ، أَمَّا هَذِهِ وَاللَّهِ فَإِنَّ فِي
النَّفْسِ مِنْهَا حَتَّى الْآنَ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: وَيْحَكَ!
أَسْلِمْ وَاشْهَدْ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللَّهِ، قَبْلَ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُكَ. قَالَ: فَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ
فَأَسْلَمَ. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا
سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هَذَا الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا. قَالَ: "
نَعَمْ،مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ - زَادَ عُرْوَةُ: وَمَنْ
دَخَلَ دَارَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَهُوَ آمِنٌ ". وَهَكَذَا قَالَ مُوسَى
بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ - وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ
آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ ". فَلَمَّا ذَهَبَ
لِيَنْصَرِفَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
يَا عَبَّاسُ، احْبِسْهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ، حَتَّى
تَمُرَّ بِهِ جُنُودُ اللَّهِ فَيَرَاهَا.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ
وَبُدَيْلًا وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ كَانُوا وُقُوفًا مَعَ الْعَبَّاسِ عِنْدَ
خَطْمِ الْجَبَلِ، وَذَكَرَ أَنَّ سَعْدًا لَمَّا قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ:
الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ. فَشَكَّى
أَبُو سُفْيَانَ إِلَى
رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَزَلَهُ عَنْ رَايَةِ الْأَنْصَارِ،
وَأَعْطَاهَا الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، فَدَخَلَ بِهَا مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ
وَغَرَزَهَا بِالْحَجُونِ، وَدَخَلَ خَالِدٌ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ فَلَقِيَهُ
بَنُو بَكْرٍ وَهُذَيْلٌ، فَقُتِلَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ عِشْرِينَ وَمِنْ هُذَيْلٍ
ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً، وَانْهَزَمُوا فَقُتِلُوا بِالْحَزْوَرَةِ حَتَّى
بَلَغَ قَتْلُهُمْ بَابَ الْمَسْجِدِ.
قَالَ الْعَبَّاسُ: فَخَرَجْتُ بِأَبِي سُفْيَانَ حَتَّى حَبَسْتُهُ بِمَضِيقِ
الْوَادِي حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ أَحْبِسَهُ. قَالَ: وَمَرَّتِ الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا، كُلَّمَا
مَرَّتْ قَبِيلَةٌ قَالَ: يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ فَأَقُولُ: سُلَيْمٌ.
فَيَقُولُ: مَا لِي وَلِسُلَيْمٍ. ثُمَّ تَمُرُّ بِهِ الْقَبِيلَةُ فَيَقُولُ: يَا
عَبَّاسُ، مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ فَأَقُولُ: مُزَيْنَةُ. فَيَقُولُ: مَا لِي
وَلِمُزَيْنَةَ. حَتَّى نَفِدَتِ الْقَبَائِلُ، مَا تَمُرُّ بِهِ قَبِيلَةٌ إِلَّا
سَأَلَنِي عَنْهَا، فَإِذَا أَخْبَرْتُهُ قَالَ: مَا لِي وَلِبَنِي فُلَانٍ.
حَتَّى مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ
الْخَضْرَاءِ وَفِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، لَا يُرَى مِنْهُمْ إِلَّا
الْحَدَقُ مِنَ الْحَدِيدِ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! يَا عَبَّاسُ، مَنْ
هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ: قُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. قَالَ: مَا لِأَحَدٍ بِهَؤُلَاءِ
مِنْ قِبَلٍ وَلَا طَاقَةٍ، وَاللَّهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ
ابْنِ أَخِيكَ الْغَدَاةَ عَظِيمًا. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا سُفْيَانَ،
إِنَّهَا
النُّبُوَّةُ، قَالَ: فَنِعْمَ إِذَنْ. قَالَ: قُلْتُ: النَّجَاءَ إِلَى قَوْمِكَ.
حَتَّى إِذَا جَاءَهُمْ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا
مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ فِيمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، فَمَنْ دَخَلَ دَارَ
أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ. فَقَامْتُ إِلَيْهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ،
فَأَخَذَتْ بِشَارِبِهِ فَقَالَتْ: اقْتُلُوا الْحَمِيتَ الدَّسِمَ الْأَحْمَسَ،
قُبِّحَ مِنْ طَلِيعَةِ قَوْمٍ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَيْلَكُمْ لَا
تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَكُمْ مَا لَا
قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ. قَالُوا:
قَاتَلَكَ اللَّهُ، وَمَا تُغْنِي عَنَّا دَارُكَ ؟ قَالَ: وَمَنْ أَغْلَقَ
عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ.
فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلَى دَوْرِهِمْ وَإِلَى الْمَسْجِدِ.
وَذَكَرَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا مَرَّ بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ لَهُ: إِنِّي لَأَرَى وُجُوهًا
كَثِيرَةً لَا أَعْرِفُهَا، لَقَدْ كَثُرَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَيَّ. فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْتَ فَعَلْتَ
هَذَا وَقَوْمُكَ، إِنَّ هَؤُلَاءِ صَدَّقُونِي إِذْ كَذَّبْتُمُونِي،
وَنَصَرُونِي إِذْ أَخْرَجْتُمُونِي ". ثُمَّ شَكَى إِلَيْهِ قَوْلَ سَعْدِ
بْنِ عُبَادَةَ حِينَ مَرَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، الْيَوْمُ
يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَذِبَ سَعْدٌ، بَلْ هَذَا
يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ.
وَذَكَرَ عُرْوَةُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا أَصْبَحَ صَبِيحَةَ تِلْكَ
اللَّيْلَةِ الَّتِي كَانَ عِنْدَ
الْعَبَّاسِ،
وَرَأَى النَّاسَ يُحَشْحِشُونَ لِلصَّلَاةِ، وَيَنْتَشِرُونَ فِي اسْتِعْمَالِ
الطَّهَارَةِ خَافَ وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: مَا بَالُهُمْ ؟ قَالَ: إِنَّهُمْ
سَمِعُوا النِّدَاءَ، فَهُمْ يَنْتَشِرُونَ لِلصَّلَاةِ. فَلَمَّا حَضَرَتِ
الصَّلَاةُ وَرَآهُمْ يَرْكَعُونَ بِرُكُوعِهِ، وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ قَالَ:
يَا عَبَّاسُ، مَا يَأْمُرُهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا فَعَلُوهُ! قَالَ: نَعَمْ،
وَاللَّهِ لَوْ أَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَأَطَاعُوهُ.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ لَمَّا تَوَضَّأَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلُوا يَتَكَفَّفُونَ،
فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ، مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ وَلَا مُلْكَ كِسْرَى
وَقَيْصَرَ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ، عَنِ
الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ هَذِهِ
الْقِصَّةَ بِتَمَامِهَا كَمَا أَوْرَدَهَا زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ
إِسْحَاقَ مُنْقَطِعَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَوَى
الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بِلَالٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنْ زِيَادٍ
الْبَكَّائِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ:
جَاءَ الْعَبَّاسُ بِأَبِي سُفْيَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ
أَسْلَمَ مِنْ لَيْلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ
فَهُوَ آمِنٌ ". قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَمَا تَسَعُ دَارِي ؟ فَقَالَ:
" وَمَنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَهُوَ آمِنٌ ". قَالَ: وَمَا تَسَعُ
الْكَعْبَةُ ؟ فَقَالَ: " وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ ".
قَالَ: وَمَا يَسَعُ الْمَسْجِدُ ؟ فَقَالَ: " وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ
بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ". فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هَذِهِ وَاسِعَةٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا،
خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَبُدَيْلُ بْنُ
وَرْقَاءَ، يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلُوا يَسِيرُونَ حَتَّى أَتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ، فَإِذَا
هُمْ بِنِيرَانٍ كَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا
هَذِهِ ؟ كَأَنَّهَا نِيرَانُ عَرَفَةَ ! فَقَالَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ:
نِيرَانُ بَنِي عَمْرٍو. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: عَمْرٌو أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ.
فَرَآهُمْ نَاسٌ مِنْ حَرَسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَدْرَكُوهُمْ فَأَخَذُوهُمْ، فَأَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ، فَلَمَّا سَارَ، قَالَ
لِلْعَبَّاسِ: " احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ حَتَّى
يَنْظُرَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ". فَحَبَسَهُ الْعَبَّاسُ، فَجَعَلَتِ
الْقَبَائِلُ تَمُرُّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
تَمُرُّ كَتِيبَةً كَتِيبَةً عَلَى أَبِي سُفْيَانَ، فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ فَقَالَ:
يَا عَبَّاسُ مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَ: هَذِهِ غِفَارٌ. قَالَ: مَا لِي وَلِغِفَارٍ.
ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ فَقَالَ
مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَرَّتْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَرَّتْ سُلَيْمٌ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ، عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَهُ الرَّايَةُ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا عَبَّاسُ، حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ. ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ، وَهِيَ أَقَلُّ الْكَتَائِبِ، فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَرَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ؟ فَقَالَ: " مَا قَالَ ؟ " قَالَ: كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: " كَذِبَ سَعْدٌ، وَلَكِنَّ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ " وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُرْكَزَ رَايَتُهُ بِالْحَجُونِ قَالَ عُرْوَةُ: وَأَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: هَاهُنَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرْكِزَ الرَّايَةَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُدًى فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ يَوْمَئِذٍ رَجُلَانِ، حُبَيْشُ بْنُ الْأَشْعَرِ، وَكُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ
.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ
آدَمَ، ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ جَاءَهُ
الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، فَأَسْلَمَ
بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ
أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هَذَا الْفَخْرَ، فَلَوْ جَعَلْتَ لَهُ شَيْئًا ؟
قَالَ: " نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ
أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ.
صِفَةُ
دُخُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ
ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ،
جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ.
فَقَالَ: " اقْتُلُوهُ قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نَرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مُحْرِمًا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا حَمَّادٌ، أَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ
جَابِرٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ يَوْمَ
فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ. وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ
الْأَرْبَعَةِ، مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:
حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ مُعَاوِيَةَ
بْنِ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ،أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ
سَوْدَاءُ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ مُسَاوِرٍ الْوَرَّاقِ،عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ
وَعَلَيْهِ
عِمَامَةٌ حَرَقَانِيَّةٌ سَوْدَاءُ قَدْ أَرْخَى طَرَفَيْهَا بَيْنَ كَتِفَيْهِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ،أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ
عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ.
وَرَوَى أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَنْ
شَرِيكٍ الْقَاضِي، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ
جَابِرٍ قَالَ:كَانَ لِوَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَ دَخَلَ مَكَّةَ أَبْيَضَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ
قَالَ: كَانَ لِوَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
الْفَتْحِ أَبْيَضَ، وَرَايَتُهُ سَوْدَاءَ تُسَمَّى الْعُقَابَ، وَكَانَتْ
قِطْعَةً مِنْ مِرْطٍ مُرَحَّلٍ
.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ
بْنِ قُرَّةَ قَالَ:سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ يَقُولُ: رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى
نَاقَتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ " الْفَتْحِ " يُرَجِّعُ. وَقَالَ:
لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ حَوْلِي لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْتَهَى إِلَى
ذِي طُوًى، وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُعْتَجِرًا بِشُقَّةِ بُرْدٍ حِبَرَةٍ
حَمْرَاءَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَضَعُ
رَأْسَهُ تَوَاضُعًا لِلَّهِ، حِينَ رَأَى مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ
الْفَتْحِ، حَتَّى إِنَّ عُثْنُونَهُ لَيَكَادُ يَمَسُّ وَاسِطَةَ الرَّحْلِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ،
أَنْبَأَنَا دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَبَّارُ،
ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَذَقْنُهُ
عَلَى
رَحْلِهِ مُتَخَشِّعًا.
وَقَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ
بَالَوَيْهِ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَاعِدٍ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي
الْحَارِثِ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ،
عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا كَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَأَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ، فَقَالَ:
" هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ
تَأْكُلُ الْقَدِيدَ. قَالَ: وَهَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ
فَارِسٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي
الْحَارِثِ، مَوْصُولًا. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي زَكَرِيَّا الْمُزَكِّي، عَنْ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الْوَهَّابِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ قَيْسٍ،
مُرْسَلًا. قَالَ: وَهُوَ الْمَحْفُوظُ.
وَهَذَا التَّوَاضُعُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ عِنْدَ دُخُولِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، فِي مِثْلِ هَذَا الْجَيْشِ الْكَثِيفِ
الْعَرَمْرَمِ، بِخِلَافِ مَا اعْتَمَدَهُ سُفَهَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حِينَ
أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا بَابَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهُمْ سُجُودٌ، أَيْ رُكَّعٌ،
يَقُولُونَ: حِطَّةٌ
.
فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: حِنْطَةٌ فِي
شَعِيرَةٍ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:، ثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ، ثَنَا حَفْصُ بْنُ
مَيْسَرَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنْ عَائِشَةَ
أَخْبَرَتْهُأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ
عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ. وَتَابَعَهُ أَبُو
أُسَامَةَ وَوُهَيْبٌ: فِي كَدَاءٍ.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ،
عَنْ أَبِيهِ:دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ
الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ. وَهُوَ أَصَحُّ.
إِنْ أَرَادَ أَنَّ الْمُرْسَلَ أَصَحُّ مِنَ الْمُسْنَدِ الْمُتَقَدِّمِ
انْتَظَمَ الْكَلَامُ، وَإِلَّا فَكَدَاءٌ بِالْمَدِّ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي
الرِّوَايَتَيْنِ، وَهِيَ فِي أَعْلَى مَكَّةَ، وَكُدًى مَقْصُورًا فِي أَسْفَلِ
مَكَّةَ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَالْأَنْسَبُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ،
وَدَخَلَ هُوَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ أَسْفَلِهَا مِنْ كُدًى. وَهُوَ فِي
" صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ". فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدَانَ،
أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الصَّقْرِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيِّ، ثَنَا
مَعْنٌ،
ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ:لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ
الْفَتْحِ رَأَى النِّسَاءَ يُلَطِّمْنَ وُجُوهَ الْخَيْلِ، فَتَبَسَّمَ إِلَى
أَبِي بَكْرٍ وَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ قَالَ حَسَّانُ ؟ فَأَنْشَدَهُ
أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا تُثِيرُ النَّقْعَ مِنْ كَتِفَيْ كَدَاءِ
يُنَازِعْنَ الْأَعِنَّةَ مُسْرَجَاتٍ
يُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْخُلُوهَا مِنْ
حَيْثُ قَالَ حَسَّانُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدَّتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي
بَكْرٍ، قَالَتْ: لَمَّا وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِذِي طُوًى، قَالَ أَبُو قُحَافَةَ لِابْنَةٍ لَهُ مِنْ أَصْغَرِ
وَلَدِهِ: أَيْ بُنَيَّةُ، اظْهَرِي بِي عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ. قَالَتْ: وَقَدْ
كُفَّ بَصَرُهُ. قَالَتْ: فَأَشْرَفَتْ بِهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ،
مَاذَا تَرَيْنَ ؟ قَالَتْ: أَرَى سَوَادًا مُجْتَمِعًا. قَالَ: تِلْكَ الْخَيْلُ.
قَالَتْ: وَأَرَى رَجُلًا يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ السَّوَادِ مُقْبِلًا
وَمُدْبِرًا. قَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ ذَلِكَ الْوَازِعُ. يَعْنِي الَّذِي يَأْمُرُ
الْخَيْلَ وَيَتَقَدَّمُ إِلَيْهَا. ثُمَّ قَالَتْ: قَدْ وَاللَّهِ انْتَشَرَ
السَّوَادُ
.
فَقَالَ قَدْ وَاللَّهِ إِذَنْ دَفَعَتِ الْخَيْلُ، فَأَسْرِعِي بِي إِلَى
بَيْتِي. فَانْحَطَّتْ بِهِ، وَتَلَقَّاهُ الْخَيْلُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ بَيْتَهُ.
قَالَتْ: وَفِي عُنُقِ الْجَارِيَةِ طَوْقٌ مِنْ وَرَقٍ، فَتَلَقَّاهَا رَجُلٌ
فَيَقْتَطِعُهُ مِنْ عُنُقِهَا. قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، أَتَى أَبُو بَكْرٍ
بِأَبِيهِ يَقُودُهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " هَلَّا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَكُونَ
أَنَا آتِيهِ فِيهِ ؟ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ
أَحَقُّ أَنْ يَمْشِي إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ أَنْتَ إِلَيْهِ. قَالَ:
فَقَالَتْ: فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ، ثُمَّ قَالَ:
" أَسْلِمْ ". فَأَسْلَمَ. قَالَتْ: وَدَخَلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ،
وَكَانَ رَأْسُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " غَيِّرُوا هَذَا مِنْ شَعْرِهِ ". ثُمَّ
قَامَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ بِيَدِ أُخْتِهِ، وَقَالَ: أَنْشُدُ اللَّهَ
وَالْإِسْلَامَ طَوْقَ أُخْتِي. فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، قَالَتْ فَقَالَ: أَيْ
أُخَيَّةُ، احْتَسِبِي طَوْقَكِ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الْأَمَانَةَ فِي النَّاسِ
الْيَوْمَ لَقَلِيلٌ. يَعْنِي الصِّدِّيقُ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَى التَّعْيِينِ،
لِأَنَّ الْجَيْشَ فِيهِ كَثْرَةٌ، وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَلْوِي عَلَى أَحَدٍ
مَعَ انْتِشَارِ النَّاسِ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَخَذَهُ تَأَوَّلَ أَنَّهُ مِنْ
حَرْبِيٍّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا
أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، ثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، ثَنَا ابْنُ وَهْبٍ،
أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍأَنَّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ أَخَذَ بِيَدِ أَبِي قُحَافَةَ، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا وَقَفَ بِهِ عَلَى
رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " غَيِّرُوهُ وَلَا
تُقَرِّبُوهُ سَوَادًا " قَالَ: ابْنُ بوَهْبٍ وَأَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَنَّأَ أَبَا بَكْرٍ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَّقَ جَيْشَهُ مِنْ
ذِي طُوًى، أَمَرَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ
النَّاسِ مِنْ كُدًى، وَكَانَ الزُّبَيْرُ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى،
وَأَمَرَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ النَّاسِ مِنْ كَدَاءٍ،
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِأَنَّ سَعْدًا حِينَ
وَجَّهَ دَاخِلًا قَالَ: الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ
الْحُرْمَةُ. فَسَمِعَهَا رَجُلٌ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ: إِنَّهُ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَسْمَعُ مَا يَقُولُ سَعْدُ
بْنُ عُبَادَةَ ؟ ! مَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: أَدْرِكْهُ فَخُذِ
الرَّايَةَ مِنْهُ، فَكُنْ أَنْتَ تَدْخُلُ بِهَا.
قُلْتُ: وَذَكَرَ غَيْرُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا شَكَى إِلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ قَوْلَ سَعْدِ
بْنِ عُبَادَةَ حِينَ مَرَّ بِهِ. وَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، الْيَوْمُ يَوْمُ
الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمُ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ - يَعْنِي الْكَعْبَةَ -
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ هَذَا يَوْمٌ
تُعَظَّمُ فِيهِ الْكَعْبَةُ. وَأَمَرَ بِالرَّايَةِ - رَايَةِ الْأَنْصَارِ -
أَنْ تُؤْخَذَ مِنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ
كَالتَّأْدِيبِ
لَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا دُفِعَتْ إِلَى ابْنِهِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: دَفَعَهَا إِلَى الزُّبَيْرِ بْنِ
الْعَوَّامِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ
بْنِ دِينَارٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّرِيِّ الْأَنْطَاكِيُّ، ثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ،
عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: دَفَعَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّايَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ
إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَجَعَلَ يَهُزُّهَا وَيَقُولُ: الْيَوْمُ يَوْمُ
الْمَلْحَمَةِ، يَوْمٌ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ. قَالَ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى
قُرَيْشٍ وَكَبُرَ فِي نُفُوسِهِمْ. قَالَ: فَعَارَضَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرِهِ وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:
يَا نَبِيَّ الْهُدَى إِلَيْكَ لَجَا حَ يُّ قُرَيْشٍ وَلَاتَ حِينَ لَجَاءِ
حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ سَعَةُ الْأَرْ ضِ وَعَادَاهُمْ إِلَهُ السَّمَاءِ
وَالْتَقَتْ حَلْقَتَا الْبِطَانِ عَلَى الْقَوْ مِ وَنُودُوا بِالصَّيْلَمِ
الصَّلْعَاءِ
إِنَّ
سَعْدًا يُرِيدُ قَاصِمَةَ الظَّهْرِ بِأَهْلِ الْحَجُونِ وَالْبَطْحَاءِ
خَزْرَجِيٌّ لَوْ يَسْتَطِيعُ مِنَ الْغَيْ ظِ رَمَانَا بِالنَّسْرِ وَالْعَوَّاءِ
فَانْهَيَنْهُ فَإِنَّهُ الْأَسَدُ الْأَسْ وَدُ وَاللَّيْثُ وَالِغٌ فِي
الدِّمَاءِ
فَلَئِنْ أَقْحَمَ اللِّوَاءَ وَنَادَى يَا حُمَاةَ اللِّوَاءِ أَهْلَ اللِّوَاءِ
لَتَكُونَنَّ بِالْبِطَاحِ قُرَيْشٌ بُقْعَةَ الْقَاعِ فِي أَكُفِّ الْإِمَاءِ
إِنَّهُ مُصْلَتٌ يُرِيدُ لَهَا الرَّأْ يَ صُمُوتٌ كَالْحَيَّةِ الصَّمَّاءِ
قَالَ: فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا
الشِّعْرَ دَخَلَهُ رَحْمَةٌ لَهُمْ وَرَأْفَةٌ بِهِمْ، وَأَمَرَ بِالرَّايَةِ
فَأُخِذَتْ مِنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَدُفِعَتْ إِلَى ابْنِهِ قَيْسِ بْنِ
سَعْدٍ، قَالَ: فَيُرْوَى، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَحَبَّ
أَنْ لَا يُخَيِّبَهَا إِذْ رَغِبَتْ إِلَيْهِ وَاسْتَغَاثَتْ بِهِ، وَأَحَبَّ
أَنْ لَا يَغْضَبَ سَعْدٌ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ مِنْهُ فَدَفَعَهَا إِلَى ابْنِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ فِي حَدِيثِهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ،
فَدَخَلَ مِنَ اللِّيطِ أَسْفَلَ مَكَّةَ فِي بَعْضِ النَّاسِ، وَكَانَ خَالِدٌ
عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُمْنَى، وَفِيهَا: أَسْلَمُ، وَسُلَيْمٌ، وَغِفَارٌ،
وَمُزَيْنَةُ، وَجُهَيْنَةُ، وَقَبَائِلُ مِنْ
قَبَائِلِ
الْعَرَبِ، وَأَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ بِالصَّفِّ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، يَنْصَبُّ لِمَكَّةَ بَيِّنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ، أَذَاخِرَ حَتَّى نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَضُرِبَتْ لَهُ
هُنَالِكَ قُبَّتُهُ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ
قَالَ زَمَنَ الْفَتْحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا ؟ فَقَالَ:
" وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رُبَاعٍ ؟ ". ثُمَّ قَالَ: "
لَا يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، ثَنَا شُعَيْبٌ، ثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْزِلُنَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ،
إِذَا فَتَحَ اللَّهُ - الْخَيْفَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يُونُسُ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ، يَعْنِي ابْنَ
سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْزِلُنَا غَدًا،
إِنْ شَاءَ اللَّهُ، بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى
الْكُفْرِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، بِهِ
نَحْوَهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
بَكْرٍ،
أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَعِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ، وَسُهَيْلَ بْنَ
عَمْرٍو كَانُوا قَدْ جَمَعُوا نَاسًا بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا، وَكَانَ
حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ، أَخُو بَنِي بَكْرٍ يُعِدُّ سِلَاحًا قَبْلَ
قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُصْلِحُ مِنْهُ،
فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لِمَاذَا تُعِدُّ مَا أَرَى ؟ قَالَ: لِمُحَمَّدٍ
وَأَصْحَابِهِ. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَرَى يَقُومُ لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ
شَيْءٌ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أُخْدِمَكِ بَعْضَهُمْ. ثُمَّ
قَالَ:
إِنْ يُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَا لِي عِلَّهْ هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلَّهْ
وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السَّلَّهْ
قَالَ: ثُمَّ شَهِدَ الْخَنْدَمَةَ مَعَ صَفْوَانَ وَعِكْرِمَةَ وَسُهَيْلٍ،
فَلَمَّا لَقِيَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ خَالِدٍ، نَاوَشُوهُمْ شَيْئًا
مِنْ قِتَالِ، فَقُتِلَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ، أَحَدُ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ،
وَخُنَيْسُ بْنُ خَالِدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ، حَلِيفُ بَنِي مُنْقِذٍ،
وَكَانَا فِي جَيْشِ خَالِدٍ فَشَذَّا عَنْهُ، فَسَلَكَا غَيْرَ طَرِيقِهِ،
فَقُتِلَا جَمِيعًا، وَكَانَ قَبْلَ كُرْزٍ قُتِلَ خُنَيْسٌ. قَالَا: وَقُتِلَ
مِنْ خَيْلِ خَالِدٍ أَيْضًا
سَلَمَةُ
بْنُ الْمَيْلَاءِ الْجُهَنِيُّ، وَأُصِيبَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَرِيبٌ مِنَ
اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، ثُمَّ انْهَزَمُوا، فَخَرَجَ حِمَاسٌ
مُنْهَزِمًا حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَغْلِقِي
عَلَيَّ بَابِي. قَالَتْ: فَأَيْنَ مَا كُنْتَ تَقُولُ ؟ فَقَالَ:
إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ
عِكْرِمَهْ
وَأَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُوتَمَهْ وَاسْتَقْبَلَتْهُمْ بِالسُّيُوفِ
الْمُسْلِمَهْ
يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ ضَرْبًا فَلَا يُسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَهْ
لَهُمْ نَهِيتٌ خَلَفَنَا وَهَمْهَمَهْ لَمْ تَنْطِقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى
كَلِمَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتُرْوَى هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِلرَّعَّاشِ الْهُذَلِيِّ.
قَالَ: وَكَانَ شِعَارُ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ
وَالطَّائِفِ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَشِعَارُ الْخَزْرَجِ: يَا بَنِي
عَبْدِ اللَّهِ. وَشِعَارُ الْأَوْسِ: يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الرَّازِيُّ، ثَنَا أَبُو حَسَّانَ
الزِّيَادِيُّ، ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ،
عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا الْبَلَدَ يَوْمَ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَصَاغَهُ
يَوْمَ صَاغَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَمَا حِيَالُهُ مِنَ السَّمَاءِ حَرَامٌ،
وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَإِنَّمَا حَلَّ لِي سَاعَةً مِنْ
نَهَارٍ، ثُمَّ عَادَ كَمَا كَانَ ". فَقِيلَ لَهُ: هَذَا خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ يَقْتُلُ. فَقَالَ: " قُمْ يَا فُلَانُ فَأْتِ خَالِدَ بْنَ
الْوَلِيدِ، فَقُلْ لَهُ فَلْيَرْفَعْ يَدَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ ". فَأَتَاهُ
الرَّجُلُ فَقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
اقْتُلْ مَنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ. فَقَتَلَ سَبْعِينَ إِنْسَانًا، فَأَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَأَرْسَلَ
إِلَى خَالِدٍ فَقَالَ: " أَلَمْ أَنْهَكَ عَنِ الْقَتْلِ ؟ " فَقَالَ:
جَاءَنِي فُلَانٌ فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْتُلَ مَنْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ. فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ: " أَلَمْ آمُرْكَ ؟ " قَالَ: أَرَدْتَ أَمْرًا، وَأَرَادَ
اللَّهُ أَمْرًا، فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ فَوْقَ أَمْرِكَ، وَمَا اسْتَطَعْتُ
إِلَّا الَّذِي كَانَ. فَسَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَمَا رَدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَهِدَ إِلَى أُمَرَائِهِ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا إِلَّا مَنْ
قَاتَلَهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ أَهْدَرَ دَمَ نَفَرٍ سَمَّاهُمْ، وَإِنْ وُجِدُوا
تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي
سَرْحٍ، كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَكَتَبَ الْوَحْيَ ثُمَّ ارْتَدَّ، فَلَمَّا دَخَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَقَدْ أَهْدَرَ
دَمَهُ فَرَّ إِلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمَّا جَاءَ
بِهِ لِيَسْتَأْمِنَ لَهُ، صَمَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: " نَعَمْ ". فَلَمَّا انْصَرَفَ مَعَ
عُثْمَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ
حَوْلَهُ: " أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حِينَ
رَآنِي قَدْ صَمَتُّ فَيَقْتُلَهُ ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَّا
أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا ؟ " فَقَالَ: " إِنَّ النَّبِيَّ لَا يَقْتُلُ
بِالْإِشَارَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ
الْأَعْيُنِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَلَّاهُ عُمَرُ
بَعْضَ أَعْمَالِهِ، ثُمَّ وَلَّاهُ عُثْمَانُ.
قُلْتُ: وَمَاتَ وَهُوَ سَاجِدٌ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، أَوْ بَعْدَ انْقِضَاءِ
صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ
بْنِ غَالِبٍ - قُلْتُ: وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ خَطَلٍ.
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمَ سُمِّيَ عَبْدَ
اللَّهِ - وَلَمَّا أَسْلَمَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مُصَدِّقًا وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانَ مَعَهُ
مَوْلًى لَهُ فَغَضِبَ عَلَيْهِ غَضْبَةً فَقَتَلَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا
وَكَانَ لَهُ قَيْنَتَانِ، فَرْتَنَى وَصَاحِبَتُهَا، فَكَانَتَا تُغَنِّيَانِ
بِهِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ،
فَلِهَذَا أَهْدَرَ دَمَهُ وَدَمَ قَيْنَتَيْهِ، فَقُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ
بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، اشْتَرَكَ فِي قَتْلِهِ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ
وَسَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ، وَقُتِلَتْ إِحْدَى قَيْنَتَيْهِ
وَاسْتُؤْمِنَ لِلْأُخْرَى. قَالَ: وَالْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذِ بْنِ وَهْبِ
بْنِ عَبْدِ بْنِ
قَصَيٍّ،
وَكَانَ مِمَنْ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمَكَّةَ، وَلَمَّا تَحَمَّلَ الْعَبَّاسُ بِفَاطِمَةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ
لِيَذْهَبَ بِهِمَا إِلَى الْمَدِينَةِ يُلْحِقُهُمَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ الْهِجْرَةِ، نَخَسَ بِهِمَا الْحُوَيْرِثُ
هَذَا، الْجَمَلَ الَّذِي هُمَا عَلَيْهِ، فَسَقَطَتَا إِلَى الْأَرْضِ، فَلَمَّا
أُهْدِرَ دَمُهُ قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: وَمِقْيَسُ بْنُ
صُبَابَةَ، لِأَنَّهُ قَتَلَ قَاتِلَ أَخِيهِ خَطَأً بَعْدَمَا أَخَذَ الدِّيَةَ،
ثُمَّ ارْتَدَّ مُشْرِكًا، قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهُ:
نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: وَسَارَةُ مَوْلَاةٌ لِبَنِي عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ وَلِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، لِأَنَّهَا كَانَتْ تُؤْذِي
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بِمَكَّةَ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا الَّتِي تَحَمَّلَتِ
الْكِتَابَ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَكَأَنَّهَا عُفِيَ عَنْهَا أَوْ
هَرَبَتْ ثُمَّ أُهْدِرَ دَمُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَرَبَتْ حَتَّى
اسْتُؤْمِنَ لَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَمَّنَهَا، فَعَاشَتْ إِلَى زَمَنِ عُمَرَ فَأَوْطَأَهَا رَجُلٌ فَرَسًا
فَمَاتَتْ. وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ فَرْتَنَى أَسْلَمَتْ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، فَهَرَبَ إِلَى
الْيَمَنِ، وَأَسْلَمَتِ امْرَأَتُهُ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ
هِشَامٍ، وَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَمَّنَهُ، فَذَهَبَتْ فِي طَلَبِهِ، حَتَّى أَتَتْ بِهِ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
مَحْمِشٍ الْفَقِيهُ،
أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، ثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: زَعَمَ السُّدِّيُّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:لَمَّا كَانَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ آمَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ: " اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ". وَهُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ. فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ فَأُدْرِكَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَاسْتَبَقَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَسَبَقَ سَعِيدٌ عَمَّارًا، وَكَانَ أَشَبَّ الرَّجُلَيْنِ، فَقَتَلَهُ، وَأَمَّا مِقْيَسٌ فَأَدْرَكَهُ النَّاسُ فِي السُّوقِ فَقَتَلُوهُ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ قَاصِفٌ، فَقَالَ أَهْلُ السَّفِينَةِ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ: أَخْلِصُوا فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا هَاهُنَا. فَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يُنْجِ فِي الْبَحْرِ إِلَّا الْإِخْلَاصُ فَإِنَّهُ لَا يُنْجِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا حَتَّى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ فَلَأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا. فَجَاءَ فَأَسْلَمَ، وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ فَإِنَّهُ اخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ. بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ. فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى، فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى
أَصْحَابِهِ
فَقَالَ: " أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حِينَ
رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ ؟ " فَقَالُوا: مَا
يُدْرِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فِي نَفْسِكَ، هَلَّا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا
بِعَيْنِكَ ؟ فَقَالَ: " إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ
خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ ". وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ
حَدِيثِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُفَضَّلِ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ،
أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو زُرْعَةَ
الدِّمَشْقِيُّ، ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ الْكُوفِيُّ، ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:أَمَّنَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ
مَكَّةَ إِلَّا أَرْبَعَةً، عَبْدَ الْعُزَّى بْنَ خَطَلٍ، وَمَقْيَسَ بْنَ
صُبَابَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَأُمَّ سَارَةَ،
فَأَمَّا عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ خَطَلٍ فَإِنَّهُ قُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ
بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. قَالَ:وَنَذَرَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَقْتُلَ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ إِذَا رَآهُ، وَكَانَ أَخَا
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَشْفَعَ لَهُ، فَلَمَّا بَصُرَ بِهِ الْأَنْصَارِيُّ
اشْتَمَلَ عَلَى السَّيْفِ، ثُمَّ أَتَاهُ فَوَجَدَهُ فِي حَلْقَةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَتَرَدَّدُ وَيَكْرَهُ أَنْ
يُقَدِمَ عَلَيْهِ، فَبَسَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ
فَبَايَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْأَنْصَارِيِّ: " قَدِ انْتَظَرْتُكَ أَنْ
تُوفِيَ بِنَذْرِكَ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هِبْتُكَ، أَفَلَا
أَوْمَضْتَ إِلَيَّ ؟ قَالَ: " إِنَّهُ لَيْسَ لِلنَّبِيِّ
أَنْ
يُومِضَ ". وَأَمَّا مِقْيَسُ بْنُ صَبَابَةَ فَذَكَرَ قِصَّتَهُ فِي
قَتْلِهِ رَجُلًا مُسْلِمًا بَعْدَ إِسْلَامِهِ، ثُمَّ ارْتِدَادِهِ بَعْدَ
ذَلِكَ. قَالَ: وَأَمَّا أُمُّ سَارَةَ فَكَانَتْ مَوْلَاةً، لِقُرَيْشٍ، فَأَتَتِ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةَ،
فَأَعْطَاهَا شَيْئًا، ثُمَّ بَعَثَ مَعَهَا رَجُلٌ بِكِتَابٍ إِلَى
أَهْلِمَكَّةَ. فَذَكَرَ قِصَّةَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ مِقْيَسَ بْنَ صُبَابَةَ قُتِلَ
أَخُوهُ هِشَامٌ يَوْمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَهُوَ يَظُنُّهُ مُشْرِكًا، فَقَدِمَ مِقْيَسٌ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ
لِيَطْلُبَ دِيَةَ أَخِيهِ، فَلَمَّا أَخَذَهَا عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ
فَقَتَلَهُ، وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ مُشْرِكًا، فَلَمَّا أَهْدَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمَهُ قُتِلَ وَهُوَ بَيْنَ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْبَيْهَقِيُّ شِعْرَهُ حِينَ قَتَلَ قَاتِلَ
أَخِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
شَفَى النَّفْسَ مَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا يَضَرِّجُ ثَوْبَيْهِ
دِمَاءُ الْأَخَادِعِ
وَكَانَتْ هُمُومُ النَّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ تُلِمُّ وَتُنْسِينِي وِطَاءَ
الْمَضَاجِعِ
قَتَلْتُ
بِهِ فِهْرًا وَغَرَّمْتُ عَقْلَهُ سَرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابَ فَارِعِ
حَلَلْتُ بِهِ نَذْرِي وَأَدْرَكْتُ ثُؤْرَتِي وَكُنْتُ إِلَى الْأَوْثَانِ
أَوَّلَ رَاجِعِ
قُلْتُ: وَقِيلَ: إِنَّ الْقَيْنَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أُهْدِرَ دَمُهُمَا كَانَتَا
لِمِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ هَذَا، وَإِنَّ ابْنَ عَمِّهِ قَتَلَهُ بَيْنَ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَتَلَ ابْنَ خَطَلٍ الزُّبَيْرُ بْنُ
الْعَوَّامِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي مُرَّةَ
مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍأَنَّ أُمَّ هَانِئٍ ابْنَةَ أَبِي طَالِبٍ
قَالَتْ: لَمَّا نَزَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِأَعْلَى مَكَّةَ فَرَّ إِلَيَّ رَجُلَانِ مِنْ أَحْمَائِي مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُمَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي
أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ عِنْدَ هُبَيْرَةَ
بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيِّ، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ أَخِي عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلُهُمَا. فَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِمَا
بَابَ بَيْتِي، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ مِنْ جَفْنَةٍ، إِنَّ فِيهَا
لَأَثَرَ
الْعَجِينِ،
وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا اغْتَسَلَ أَخَذَ ثَوْبَهُ
فَتَوَشَّحَ بِهِ، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مِنَ الضُّحَى، ثُمَّ
انْصَرَفَ إِلَيَّ، فَقَالَ: " مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِأُمِّ هَانِئٍ، مَا
جَاءَ بِكِ ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرَ الرَّجُلَيْنِ وَخَبَرَ عَلِيٍّ
فَقَالَ: " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ وَأَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْتِ فَلَا
يَقْتُلُهُمَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ مُرَّةَ،عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: مَا أَخْبَرَنَا أَحَدٌ أَنَّهُ
رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الضُّحَى غَيْرَ
أُمِّ هَانِئٍ، فَإِنَّهَا ذَكَرَتْ أَنَّهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اغْتَسَلَ فِي
بَيْتِهَا، ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ. قَالَتْ: وَلَمْ أَرَهُ صَلَّى
صَلَاةً أَخَفَّ مِنْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ.
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى
عَقِيلٍ حَدَّثَهُأَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ حَدَّثَتْهُ أَنَّهُ
لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ، فَرَّ إِلَيْهَا رَجُلَانِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ
فَأَجَارَتْهُمَا، قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَقْتُلُهُمَا.
فَلَمَّا سَمِعْتُهُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا رَآنِي رَحَّبَ، وَقَالَ: " مَا جَاءَ
بِكِ ؟ " قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كُنْتُ أَمَّنْتُ رَجُلَيْنِ مِنْ
أَحْمَائِي، فَأَرَادَ عَلِيٌّ قَتْلَهُمَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ
هَانِئٍ ". ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى
غُسْلِهِ
فَسَتَرَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ، ثُمَّ أَخَذَ ثَوْبًا فَالْتَحَفَ بِهِ، ثُمَّ
صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ سُبْحَةَ الضُّحَى.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهَادَخَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ
ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ، فَقَالَ: " مَنْ هَذِهِ ؟ " قَالَتْ:
أُمُّ هَانِئٍ. قَالَ: " مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ ". قَالَتْ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَاتِلُ
رَجُلَيْنِ قَدْ أَجَرْتُهُمَا. فَقَالَ: " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا
أُمَّ هَانِئٍ ". قَالَتْ: ثُمَّ صَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، وَذَلِكَ ضُحًى
فَظَنَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ صَلَاةَ الضُّحَى.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَتْ هَذِهِ صَلَاةُ الْفَتْحِ. وَجَاءَ التَّصْرِيحُ
بِأَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى السُّهَيْلِيِّ
وَغَيْرِهِ مِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ صَلَاةَ الْفَتْحِ تَكُونُ ثَمَانِيًا
بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ صَلَّى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ فَتْحِ
الْمَدَائِنِ فِي إِيوَانِ كِسْرَى، ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ
رَكْعَتَيْنِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ،
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ،عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَاطْمَأَنَّ
النَّاسُ، خَرَجَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ فَطَافَ بِهِ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ،
يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ فِي يَدِهِ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ دَعَا
عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَفُتِحَتْ لَهُ
فَدَخَلَهَا فَوَجَدَ فِيهَا حَمَامَةً مِنْ عِيدَانٍ، فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ ثُمَّ
طَرَحَهَا، ثُمَّ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَقَدِ اسْتَكَفَّ لَهُ النَّاسُ
فِي الْمَسْجِدِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى
زَمْزَمَ فَاطَّلَعَ فِيهَا وَدَعَا بِمَاءٍ فَشَرِبَ مِنْهَا وَتَوَضَّأَ،
وَالنَّاسُ يَبْتَدِرُونَ وَضُوءَهُ، وَالْمُشْرِكُونَ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ
ذَلِكَ، وَيَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا مَلِكًا قَطُّ وَلَا سَمِعْنَا بِهِ -
يَعْنِي مِثْلَ هَذَا -. وَأَخَّرَ الْمَقَامَ إِلَى مَقَامِهِ الْيَوْمَ وَكَانَ
مُلْصَقًا بِالْبَيْتِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ
فَقَالَ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ
وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا كُلُّ
مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدَّعَى فَهُوَ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ
هَاتَيْنِ، إِلَّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجِّ، أَلَا وَقَتِيلُ الْخَطَأِ
شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا فَفِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً، مِائَةٌ
مِنَ الْإِبِلِ، أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي
بُطُونِهَا
أَوْلَادُهَا، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ
نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَظُّمَهَا بِالْآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ
وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ " ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى الْآيَةَ كُلَّهَا ( الْحُجُرَاتِ: 13
). ثُمَّ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ
؟ " قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ. قَالَ: "
اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ ". ثُمَّ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السِّقَايَةِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ
طَلْحَةَ ؟ " فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ: " هَاكَ مِفْتَاحُكَ يَا
عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاءٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ، عَنِ
الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهُوَ عَلَى دَرَجِ
الْكَعْبَةِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ،
وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلَا إِنَّ قَتِيلَ الْعَمْدِ الْخَطَأِ
بِالسَّوْطِ أَوِ الْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى:
مُغَلَّظَةً فِيهَا، أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا، أَلَا
إِنَّ كُلَّ مَأْثُرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَدَمٍ وَدَعْوَى - وَقَالَ
مَرَّةً: وَمَالٍ - تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سِقَايَةِ
الْحَاجِّ وَسِدَانَةِ الْبَيْتِ، فَإِنِّي أَمْضَيْتُهُمَا لِأَهْلِهِمَا عَلَى
مَا كَانَتْ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ
مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ
جُدْعَانَ،
عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ جَوْشَنٍ الْغَطْفَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
بِهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَرَأَى
فِيهِ صُوَرَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، مُصَوَّرًا فِي يَدِهِ الْأَزْلَامُ يَسْتَقْسِمُ بِهَا، فَقَالَ:
قَاتَلَهُمُ اللَّهُ جَعَلُوا شَيْخَنَا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ، مَا شَأْنُ
إِبْرَاهِيمَ وَالْأَزْلَامِ ؟! مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا
نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
( آلِ عِمْرَانَ: 67 ). ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ الصُّوَرِ كُلِّهَا فَطُمِسَتْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ
قَالَ:كَانَ فِي الْكَعْبَةِ صُوَرٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنْ يَمْحُوَهَا، فَبَلَّ عُمَرُ
ثَوْبًا وَمَحَاهَا بِهِ، فَدَخَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَا فِيهَا مِنْهَا شَيْءٌ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا
صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ -
قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ
الْفَتْحِ، وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ
وَثَلَاثُمِائَةِ
نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ: " جَاءَ
الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا
يُعِيدُ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ:دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ
مَكَّةَ، وَعَلَى الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةِ صَنَمٍ، فَأَخَذَ قَضِيبَهُ فَجَعَلَ
يَهْوِي بِهِ إِلَى الصَّنَمِ، وَهُوَ يَهْوِي، حَتَّى مَرَّ عَلَيْهَا كُلَّهَا.
ثُمَّ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ وَجَدَ بِهَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ
صَنَمًا، فَأَشَارَ إِلَى كُلِّ صَنَمٍ بِعَصَا وَقَالَ: " جَاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا فَكَانَ لَا يُشِيرُ إِلَى
صَنَمٍ إِلَّا وَيَسْقُطُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ بِعَصَاهُ. ثُمَّ قَالَ:
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا، فَالَّذِي قَبْلَهُ يُؤَكِّدُهُ.
وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنْبَأَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، عَنْ يَعْقُوبَ
الْقُمِّيِّ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى قَالَ:
لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ،
جَاءَتْ عَجُوزٌ شَمْطَاءُ حَبَشِيَّةٌ تَخْمِشُ وَجْهَهَا، وَتَدْعُو
بِالْوَيْلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تِلْكَ
نَائِلَةُ، أَيِسَتْ أَنْ تُعْبَدَ بِبَلَدِكُمْ هَذَا أَبَدًا.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ فِي
إِسْنَادٍ لَهُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَطَافَ
عَلَيْهَا، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ أَصْنَامٌ مَشْدُودَةٌ بِالرَّصَاصِ، فَجَعَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ إِلَى
الْأَصْنَامِ وَيَقُولُ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ
الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا " فَمَا أَشَارَ إِلَى صَنَمٍ فِي وَجْهِهِ إِلَّا
وَقَعَ لِقَفَاهُ، وَلَا أَشَارَ إِلَى قَفَاهُ إِلَّا وَقَعَ لِوَجْهِهِ، حَتَّى
مَا بَقِيَ مِنْهَا صَنَمٌ إِلَّا وَقَعَ، فَقَالَ تَمِيمُ بْنُ أَسَدٍ
الْخُزَاعِيُّ:
وَفِي الْأَصْنَامِ مُعْتَبَرٌ وَعِلْمٌ لِمَنْ يَرْجُو الثَّوَابَ أَوِ
الْعِقَابَا
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي حَدِيثِ فَتْحِ مَكَّةَ قَالَ:، وَأَقْبَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقْبَلَ إِلَى الْحَجَرِ
فَاسْتَلَمَهُ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَأَتَى إِلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ
كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، وَفِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَوْسٌ، وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَتِهَا، فَلَمَّا أَتَى عَلَى الصَّنَمِ،
جَعَلَ يَطْعُنُ
فِي
عَيْنِهِ وَيَقُولُ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنَّ الْبَاطِلَ
كَانَ زَهُوقًا " فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الصَّفَا، فَعَلَا
عَلَيْهِ، حَتَّى نَظَرَ إِلَى الْبَيْتِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَجَعَلَ يَحْمَدُ
اللَّهَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ،
ثَنَا أَبِي، ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، أَبَى
أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ،
فَأَخْرَجَ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَفِي
أَيْدِيهِمَا مِنَ الْأَزْلَامِ، فَقَالَ: " قَاتَلَهُمُ اللَّهُ لَقَدْ
عَلِمُوا مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ ". ثُمَّ دَخَلَ الْبَيْتَ، فَكَبَّرَ
فِي نَوَاحِي الْبَيْتِ، وَخَرَجَ وَلَمْ يُصَلِّ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ
دُونَ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، ثَنَا هَمَّامٌ، ثَنَا
عَطَاءٌ،عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَفِيهَا سِتُّ سَوَارٍ، فَقَامَ إِلَى كُلِّ
سَارِيَةٍ، وَدَعَا وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ شَيْبَانَ
بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى الْعُوذِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، ثَنَا ابْنُ
وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ عَنْ
كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَجَدَ فِيهِ صُورَةَ
إِبْرَاهِيمَ وَصُورَةَ مَرْيَمَ، فَقَالَ: " أَمَّا هُمْ فَقَدَ سَمِعُوا
أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ، هَذَا إِبْرَاهِيمُ
مُصَوَّرًا، فَمَا بَالُهُ يَسْتَقْسِمُ ؟!. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ،
أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ مِقْسَمًا يُحَدِّثُ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْبَيْتَ فَدَعَا فِي نَوَاحِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. تَفَرَّدَ
بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنَا لَيْثٌ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ اللَّيْثُ: ثَنَا يُونُسُ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَقْبَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ،
مُرْدِفًا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَمَعَهُ بِلَالٌ، وَمَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ
طَلْحَةَ، مِنَ الْحَجَبَةِ، حَتَّى أَنَاخَ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَمَرَهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِمِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، فَدَخَلَ وَمَعَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ
وَبِلَالٌ
وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَمَكَثَ فِيهِ نَهَارًا طَوِيلًا، ثُمَّ خَرَجَ
فَاسْتَبَقَ النَّاسُ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ،
فَوَجَدَ بِلَالًا وَرَاءَ الْبَابِ قَائِمًا، فَسَأَلَهُ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَأَشَارَ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ
الَّذِي صَلَّى فِيهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ
صَلَّى مِنْ سَجْدَةٍ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ هُشَيْمٍ، ثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ وَابْنُ
عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ،عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ وَمَعَهُ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ
زَيْدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، وَبِلَالٌ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَجَافَ
عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَمَكَثَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ خَرَجَ. قَالَ
ابْنُ عُمَرَ: فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيتُ مِنْهُمْ بِلَالًا، فَقُلْتُ: أَيْنَ
صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ: هَاهُنَا
بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ.
قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "
وَغَيْرِهِ،أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ
تِلْقَاءَ وِجْهَةِ بَابِهَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، فَجَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ
يَمِينِهِ، وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ
الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْحَائِطِ الْغَرْبِيِّ مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ
الْكَعْبَةَ
عَامَ الْفَتْحِ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ، وَأَبُو سُفْيَانَ
بْنُ حَرْبٍ وَعَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ جُلُوسٌ بِفِنَاءِ
الْكَعْبَةِ، فَقَالَ عَتَّابٌ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أَسِيدًا أَنْ لَا
يَكُونَ سَمِعَ هَذَا، فَيَسْمَعُ مِنْهُ مَا يَغِيظُهُ. فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ
هِشَامٍ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مُحِقٌّ لَاتَّبَعْتُهُ. فَقَالَ
أَبُو سُفْيَانَ: لَا أَقُولُ شَيْئًا، لَوْ تَكَلَّمْتُ لَأَخْبَرَتْ عَنِّي
هَذِهِ الْحَصَا. فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: " قَدْ عَلِمْتُ الَّذِي قُلْتُمْ ". ثُمَّ ذَكَرَ
ذَلِكَ لَهُمْ. فَقَالَ الْحَارِثُ وَعَتَّابٌ: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ،
مَا اطَّلَعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا فَنَقُولَ: أَخْبَرَكَ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي وَالِدِي،
حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ أَمَرَ بِلَالًا، فَعَلَا عَلَى
الْكَعْبَةِ عَلَى ظَهْرِهَا، فَأَذَّنَ عَلَيْهَا بِالصَّلَاةِ، فَقَالَ بَعْضُ
بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ سَعِيدًا إِذْ قَبَضَهُ
قَبْلَ أَنْ يَرَى هَذَا الْأَسْوَدَ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ ابْنُ
أَبِي مُلَيْكَةَ:أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِلَالًا فَأَذَّنَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَوْقَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ
قُرَيْشٍ لِلْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ: أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الْعَبْدِ أَيْنَ
صَعِدَ ؟! فَقَالَ: دَعْهُ، فَإِنْ يَكُنِ اللَّهُ يَكْرَهُهُ، فَسَيُغَيِّرُهُ
.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ
بِلَالًا عَامَ الْفَتْحِ فَأَذَّنَ عَلَى الْكَعْبَةِ لِيَغِيظَ بِهِ
الْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ
بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ كَانَ جَالِسًا، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْ جَمَعْتُ
لِمُحَمَّدٍ جَمْعًا. فَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، إِذْ ضَرَبَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَقَالَ:
" إِذًا يُخْزِيكَ اللَّهُ ". قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ،
فَقَالَ: مَا أَيْقَنْتُ أَنَّكَ نَبِيٌّ حَتَّى السَّاعَةَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ
إِجَازَةً، أَنْبَأَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ
الْمُقْرِئُ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي
السَّفَرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَى أَبُو سُفْيَانَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي وَالنَّاسُ يَطَئُونَ عَقِبَهُ،
فَقَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ: لَوْ عَاوَدْتُ هَذَا الرَّجُلَ الْقِتَالَ.
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ضَرَبَ
بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ: " إِذًا يُخْزِيكَ اللَّهُ ". فَقَالَ:
أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا تَفَوَّهْتُ بِهِ
.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي
حَامِدٍ ابْنِ الشَّرْقِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ، ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ الْجَزَرِيُّ، ثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْحَاقَ
بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَمَّا
كَانَ لَيْلَةُ دَخَلَ النَّاسُ مَكَّةَ لَيْلَةَ الْفَتْحِ، لَمْ يَزَالُوا فِي
تَكْبِيرٍ وَتَهْلِيلٍ وَطَوَافٍ بِالْبَيْتِ حَتَّى أَصْبَحُوا، فَقَالَ أَبُو
سُفْيَانَ لِهِنْدٍ: أَتَرَيْنَ هَذَا مِنَ اللَّهِ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هَذَا مِنَ
اللَّهِ. قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحَ أَبُو سُفْيَانَ فَغَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُلْتَ لِهِنْدٍ: أَتَرَيْنَ هَذَا مِنَ اللَّهِ ؟
قَالَتْ: نَعَمْ، هَذَا مِنَ اللَّهِ ". فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَشْهَدُ
أَنَّكَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ مَا سَمِعَ قَوْلِي
هَذَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرُ هِنْدٍ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا إِسْحَاقُ، ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي حَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ
مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحَرَامِ
اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ
لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنَ الدَّهْرِ، لَا
يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا
تَحِلُّ لُقَطَتُهَا، إِلَّا لِمُنْشِدٍ " فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ: إِلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ
مِنْهُ
لَلَقَيْنِ
وَالْبُيُوتِ. فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: " إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ
حَلَالٌ.
وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ - هُوَ ابْنُ مَالِكٍ
الْجَزَرِيُّ - عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِ هَذَا أَوْ نَحْوَ
هَذَا. وَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ
مُرْسَلٌ، وَمِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي أَيْضًا.
وَبِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ اسْتَدَلَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَكَّةَ
فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَلِلْوَقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْخَنْدَمَةِ، كَمَا
تَقَدَّمَ وَقَدْ قُتِلَ فِيهَا قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ نَفْسًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُشْرِكِينَ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ
الْعُلَمَاءِ. وَالْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا،
لِأَنَّهَا لَمْ تُقْسَمْ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَيْلَةَ الْفَتْحِ: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ
دَخَلَ الْحَرَمَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَوْضِعُ
تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ
" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ، ثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ
الْمُقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ
سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ ائْذَنْ
لِي
أَيُّهَا الْأَمِيرُ، أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ
وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، إِنَّهُ حَمِدَ
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ
يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يُعَضِّدَ بِهَا شَجَرًا، فَإِنْ
أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنَ لَكُمْ. وَإِنَّمَا
أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ
كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ. فَقِيلَ لِأَبِي
شُرَيْحٍ: مَاذَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو ؟ قَالَ: قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ
مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا
بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ،
عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ نَحْوَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْأَثْوَعِ. قَتَلَ
رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ خُزَاعَةَ يُقَالُ لَهُ: أَحْمَرُ بَأْسًا.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ قَتَلَتْ خُزَاعَةُ ابْنَ الْأَثْوَعِ وَهُوَ
بِمَكَّةَ، قَتَلَهُ خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ
الْقَتْلِ، لَقَدْ كَثُرَ الْقَتْلُ إِنْ نَفَعَ، لَقَدْ قَتَلْتُمْ رَجُلًا
لَأَدِيَنَّهُ
.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ
الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَنَعَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ
قَالَ: " إِنَّ خِرَاشًا لَقَتَّالٌ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ
الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ الْعَدَوِيِّ قَالَ:لَمَّا
قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ مَكَّةَ لِقِتَالِ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، جِئْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: يَا هَذَا، إِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ، فَلَمَّا
كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، عَدَتْ خُزَاعَةُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ
هُذَيْلٍ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا خَطِيبًا فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ
اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهِيَ
حَرَامٌ مِنْ حَرَامِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا، وَلَا
يَعْضِدَ فِيهَا شَجَرًا، لَمْ تَحْلِلْ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَلَا تَحِلُّ
لِأَحَدٍ يَكُونُ بَعْدِي، وَلَمْ تُحْلِلْ لِي إِلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ، غَضَبًا
عَلَى أَهْلِهَا، أَلَا ثُمَّ قَدْ رَجَعَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ،
فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ، فَمَنْ قَالَ لَكُمْ: إِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَاتَلَ فِيهَا.
فَقُولُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّهَا لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يُحِلَّهَا لَكُمْ.
يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ الْقَتْلِ فَلَقَدْ كَثُرَ
إِنْ نَفَعَ، لَقَدْ قَتَلْتُمْ قَتِيلًا لَأَدِيَنَّهُ، فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ
مَقَامِي هَذَا فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِنْ شَاءُوا فَدَمُ
قَاتِلِهِ، وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُهُ ". ثُمَّ وَدَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي قَتَلَتْهُ خُزَاعَةُ،
فَقَالَ عَمْرٌو لِأَبِي شُرَيْحٍ:
انْصَرِفْ
أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْكَ، إِنَّهَا لَا
تَمْنَعُ سَافِكَ دَمٍ، وَلَا خَالِعَ طَاعَةٍ، وَلَا مَانِعَ جِزْيَةٍ. فَقَالَ
أَبُو شُرَيْحٍ: إِنِّي كُنْتُ شَاهِدًا، وَكُنْتَ غَائِبًا، وَقَدْ أَمَرَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَلِّغَ شَاهِدُنَا
غَائِبَنَا، وَقَدْ أَبْلَغْتُكَ، فَأَنْتَ وَشَأْنُكَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي أَنَّ أَوَّلَ قَتِيلٍ وَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ جُنَيْدِبُ بْنُ الْأَكْوَعِ،
قَتَلَتْهُ بَنُو كَعْبٍ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمِائَةِ نَاقَةٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كُفُّوا
السِّلَاحَ، إِلَّا خُزَاعَةَ عَنْ بَنِي بَكْرٍ ". فَأَذِنَ لَهُمْ حَتَّى
صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ قَالَ: " كُفُّوا السِّلَاحَ ". فَلَقِيَ
رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ مِنْ غَدٍ بِالْمُزْدَلِفَةِ
فَقَتَلَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ - فَرَأَيْتُهُ وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى
الْكَعْبَةِ قَالَ -: " إِنَّ أَعْدَى النَّاسِ عَلَى اللَّهِ مَنْ قَتَلَ
فِي الْحَرَمِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أَوْ قَتَلَ بِذُحُولِ
الْجَاهِلِيَّةِ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ
رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، فَأَمَّا مَا فِيهِ مِنْ أَنَّهُ
رَخَّصَ لِخُزَاعَةَ أَنْ تَأْخُذَ بِثَأْرِهَا مَنْ بَنِي بَكْرٍ إِلَى الْعَصْرِ
مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، فَلَمْ أَرَهُ
إِلَّا
فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَكَأَنَّهُ - إِنْ صَحَّ - مِنْ بَابِ الِاخْتِصَاصِ لَهُمْ
مِمَّا كَانُوا أَصَابُوا مِنْهُمْ لَيْلَةَ الْوَتِيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ
زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ
بْنِ مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ الْخُزَاعِيِّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: لَا تُغْزَى هَذِهِ
بَعْدَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ
بُنْدَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ نَهْيًا، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ نَفْيًا، فَقَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: مَعْنَاهُ عَلَى كُفْرِ أَهْلِهَا.
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي
زَائِدَةَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ، عَنْ
أَبِيهِ مُطِيعِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْعَدَوِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ
صَبْرًا بَعْدَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ
كَالْأَوَّلِ سَوَاءً.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكَّةَ وَدَخَلَهَا،
قَامَ
عَلَى الصَّفَا يَدْعُو وَقَدْ أَحْدَقَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ، فَقَالُوا فِيمَا
بَيْنَهُمْ: أَتُرَوْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ
فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ يُقِيمُ بِهَا ؟ فَلَمَّا فَرَغَ
مِنْ دُعَائِهِ قَالَ: " مَاذَا قُلْتُمْ ؟ " قَالُوا: لَا شَيْءَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ. فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى أَخْبَرُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَعَاذَ اللَّهِ، الْمَحْيَا
مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ.
وَهَذَا الَّذِي عَلَّقَهُ ابْنُ هِشَامٍ قَدْ أَسْنَدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
بْنُ حَنْبَلٍ فِي " مُسْنَدِهِ " فَقَالَ: ثَنَا بَهْزٌ وَهَاشِمٌ،
قَالَا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، وَقَالَ
هَاشِمٌ: حَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ،
قَالَ: وَفَدَتْ وُفُودٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنَا فِيهِمْ وَأَبُو هُرَيْرَةَ،
وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَجَعَلَ بَعْضُنَا يَصْنَعُ لِبَعْضٍ الطَّعَامَ. قَالَ:
وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ مَا يَدْعُونَا - قَالَ هَاشِمٌ: يُكْثِرُ أَنْ
يَدْعُوَنَا - إِلَى رَحْلِهِ. قَالَ: فَقُلْتُ: أَلَا أَصْنَعُ طَعَامًا
فَأَدْعُوهُمْ إِلَى رَحْلِي ؟ قَالَ: فَأَمَرْتُ بِطَعَامٍ يُصْنَعُ، وَلَقِيتُ
أَبَا هُرَيْرَةَ مِنَ الْعِشَاءِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ،
الدَّعْوَةُ عِنْدِي اللَّيْلَةَ. قَالَ: أَسَبَقْتَنِي ؟! - قَالَ هَاشِمٌ:
قُلْتُ: نَعَمْ - قَالَ: فَدَعَوْتُهُمْ فَهُمْ عِنْدِي. قَالَ: فَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ أَلَّا أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ يَا مَعْشَرَ
الْأَنْصَارِ ؟ قَالَ: فَذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ. قَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ مَكَّةَ. قَالَ: فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ
عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ، وَبَعَثَ خَالِدًا عَلَى الْمُجَنِّبَةِ
الْأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ، وَأَخَذُوا بَطْنَ
الْوَادِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ.
قَالَ: وَقَدْ وَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشَهَا
. قَالَ: قَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلَاءِ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَاهُ الَّذِي سُئِلْنَا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَنَظَرَ فَرَآنِي فَقَالَ: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ". فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: " اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ، وَلَا يَأْتِينِي إِلَّا أَنْصَارِيٌّ ". فَهَتَفْتُ بِهِمْ، فَجَاءُوا فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ ؟ " ثُمَّ قَالَ بِيَدَيْهِ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى: " احْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا ". قَالَ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَانْطَلَقْنَا، فَمَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ مِنْهُمْ مَا شَاءَ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجِّهُ إِلَيْنَا مِنْهُمْ شَيْئًا. قَالَ: فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ". قَالَ: فَغَلَّقَ النَّاسُ أَبْوَابَهُمْ. قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ. قَالَ: وَفِي يَدِهِ قَوْسٌ، آخِذٌ بِسِيَةِ الْقَوْسِ. قَالَ: فَأَتَى فِي طَوَافِهِ عَلَى صَنَمٍ إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ يَعْبُدُونَهُ. قَالَ: فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِهَا فِي عَيْنِهِ وَيَقُولُ: جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ. قَالَ: ثُمَّ أَتَى الصَّفَا فَعَلَاهُ حَيْثُ يَنْظُرُ إِلَى الْبَيْتِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَذْكُرُ اللَّهَ بِمَا شَاءَ أَنْ يَذْكُرَهُ وَيَدْعُوَهُ. قَالَ: وَالْأَنْصَارُ تَحْتَهُ. قَالَ: يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَاءَ الْوَحْيُ، وَكَانَ إِذَا جَاءَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْنَا، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
يَقْضِيَ.
قَالَ هَاشِمٌ: فَلَمَّا قَضَى الْوَحْيُ رَفْعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ قَالَ: "
يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَقُلْتُمْ: أَمَا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ
فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ ؟ " قَالُوا: قُلْنَا ذَلِكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " فَمَا اسْمِي إِذًا ؟! كَلَّا، إِنِّي عَبْدُ
اللَّهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ، فَالْمَحْيَا
مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ ". قَالَ: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ
يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا قُلْنَا الَّذِي قُلْنَا إِلَّا الضِّنَّ
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ، زَادَ النَّسَائِيُّ: وَسَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، وَرَوَاهُ
مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ
ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ الْأَنْصَارِيِّ نَزِيلِ الْبَصْرَةِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي - يَعْنِي بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ - أَنَّ
فَضَالَةَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ الْمُلَوَّحِ، يَعْنِي اللَّيْثِيَّ، أَرَادَ قَتْلَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَامَ
الْفَتْحِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " أَفَضَالَةُ ؟ " قَالَ: نَعَمْ، فَضَالَةُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ. قَالَ: " مَاذَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ ؟ " قَالَ:
لَا شَيْءَ، كُنْتُ أَذْكُرُ اللَّهَ.
قَالَ:
فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: "
اسْتَغْفِرِ اللَّهَ ". ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، فَسَكَنَ
قَلْبُهُ، فَكَانَ فَضَالَةُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي
حَتَّى مَا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ. قَالَ فَضَالَةُ:
فَرَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي، فَمَرَرْتُ بِامْرَأَةٍ كُنْتُ أَتَحَدَّثُ إِلَيْهَا
فَقَالَتْ: هَلُمَّ إِلَى الْحَدِيثِ. فَقَالَ: لَا. وَانْبَعَثَ فَضَالَةُ
يَقُولُ:
قَالَتْ هَلُمَّ إِلَى الْحَدِيثِ فَقُلْتُ لَا يَأْبَى عَلَيْكِ اللَّهُ
وَالْإِسْلَامُ
أَوَمَا رَأَيْتِ مُحَمَّدًا وَقَبِيلَهُ بِالْفَتْحِ يَوْمَ تَكَسَّرُ
الْأَصْنَامُ
لَرَأَيْتِ دِينَ اللَّهِ أَضْحَى بَيِّنًا وَالشِّرْكَ يَغْشَى وَجْهَهُ
الْإِظْلَامُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ،
عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: خَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ يُرِيدُ جُدَّةَ
لِيَرْكَبَ مِنْهَا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ: يَا نَبِيَّ
اللَّهِ، إِنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَقَدْ خَرَجَ
هَارِبًا مِنْكَ لِيَقْذِفَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، فَأَمِّنْهُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ: " هُوَ آمِنٌ ". فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطِنِي آيَةً يَعْرِفُ بِهَا أَمَانَكَ. فَأَعْطَاهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِمَامَتَهُ الَّتِي دَخَلَ
فِيهَا مَكَّةَ، فَخَرَجَ بِهَا عُمَيْرُ حَتَّى أَدْرَكَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ
يَرْكَبَ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ: يَا صَفْوَانُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، اللَّهَ
اللَّهَ فِي نَفْسِكَ أَنْ تُهْلِكَهَا، هَذَا أَمَانٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جِئْتُكَ بِهِ، قَالَ: وَيْلَكَ!
اعْزُبْ عَنِّي فَلَا تُكَلِّمْنِي. قَالَ: أَيْ صَفْوَانُ، فِدَاكَ أَبِي
وَأُمِّي،
أَفْضَلُ
النَّاسِ وَأَبَرُّ النَّاسِ وَأَحْلَمُ النَّاسِ وَخَيْرُ النَّاسِ ابْنُ
عَمِّكَ، عِزُّهُ عِزُّكَ وَشَرَفُهُ شَرَفُكَ وَمُلْكُهُ مُلْكُكَ. قَالَ: إِنِّي
أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي. قَالَ: هُوَ أَحْلَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْرَمُ. فَرَجَعَ
مَعَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ صَفْوَانُ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّكَ قَدْ أَمَّنْتَنِي. قَالَ:
" صَدَقَ " قَالَ: فَاجْعَلْنِي بِالْخِيَارِ فِيهِ شَهْرَيْنِ. قَالَ:
" أَنْتَ بِالْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
ثُمَّ حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّأَنْ فَاخِتَةَ بَنَتَ الْوَلِيدِ
امْرَأَةَ صَفْوَانَ، وَأُمَّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ امْرَأَةَ
عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ [ أَسْلَمَتَا ] وَقَدْ ذَهَبَتْ وَرَاءَهُ إِلَى
الْيَمَنِ، فَاسْتَرْجَعَتْهُ فَأَسْلَمَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا أَقَرَّهُمَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَهُمَا بِالنِّكَاحِ
الْأَوَّلِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: رَمَى حَسَّانُ ابْنَ الزِّبَعْرَى وَهُوَ
بِنَجْرَانَ بِبَيْتٍ وَاحِدٍ مَا زَادَ عَلَيْهِ:
لَا تَعْدَمَنْ رَجُلًا أَحَلَّكَ بُغْضُهُ نَجْرَانَ فِي عَيْشٍ أَحَذَّ لَئِيمِ
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الزِّبَعْرَى، خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ، وَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ:
يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إِنَّ لِسَانِي رَاتِقٌ مَا فَتَقْتُ إِذْ أَنَا بُورُ
إِذْ
أُبَارِي الشَّيْطَانَ فِي سَنَنِ الْ غَيِّ وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ
آمَنَ اللَّحْمُ وَالْعِظَامُ لِرَبِّي ثُمَّ قَلْبِي الشَّهِيدُ أَنْتَ
النَّذِيرُ
إِنَّنِي عَنْكَ زَاجِرٌ ثَمَّ حَيًّا مِنْ لُؤَيٍّ وَكُلُّهُمْ مَغْرُورُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى أَيْضًا حِينَ
أَسْلَمَ:
مَنَعَ الرُّقَادَ بَلَابِلٌ وَهُمُومُ وَاللَّيْلُ مُعْتَلِجُ الرِّوَاقِ بَهِيمُ
مِمَّا أَتَانِي أَنَّ أَحْمَدَ لَامَنِي فِيهِ فَبِتُّ كَأَنَّنِي مَحْمُومُ
يَا خَيْرَ مَنْ حَمَلَتْ عَلَى أَوْصَالِهَا عَيْرَانَةٌ سُرُحُ الْيَدَيْنِ
غَشُومُ
إِنِّي لَمُعْتَذِرٌ إِلَيْكَ مِنَ الَّذِي أَسْدَيْتُ إِذْ أَنَا فِي الضَّلَالِ
أَهِيمُ
أَيَّامَ تَأْمُرُنِي بِأَغْوَى خُطَّةٍ سَهْمٌ وَتَأْمُرَنِي بِهَا مَخْزُومُ
وَأَمُدُّ أَسْبَابَ الرَّدَى وَيَقُودُنِي أَمْرُ الْغُوَاةِ وَأَمْرُهُمْ
مَشْئُومُ
فَالْيَوْمَ آمَنَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ قَلْبِي وَمُخْطِئُ هَذِهِ مَحْرُومُ
مَضَتِ الْعَدَاوَةُ وَانْقَضَتْ أَسْبَابُهَا وَدَعَتْ أَوَاصِرُ بَيْنَنَا
وَحُلُومُ
فَاغْفِرْ
فِدًى لَكَ وَالِدَايَ كِلَاهُمَا زَلَلِي فَإِنَّكَ رَاحِمٌ مَرْحُومُ
وَعَلَيْكَ مِنْ عِلْمِ الْمَلِيكِ عَلَامَةٌ نُورٌ أَغَرُّ وَخَاتَمٌ مَخْتُومُ
أَعْطَاكَ بَعْدَ مَحَبَّةٍ بُرْهَانَهُ شَرَفًا وَبُرْهَانُ الْإِلَهِ عَظِيمُ
وَلَقَدْ شَهِدْتُ بِأَنَّ دِينَكَ صَادِقٌ حَقٌّ وَأَنَّكَ فِي الْعِبَادِ
جَسِيمُ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ أَنَّ أَحْمَدَ مُصْطَفًى مُسْتَقْبَلٌ فِي الصَّالِحِينَ
كَرِيمُ
قَرْمٌ عَلَا بُنْيَانُهُ مِنْ هَاشِمٍ فَرْعٌ تَمَكَّنَ فِي الذُّرَا وَأُرُومُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا لَهُ.
قُلْتُ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ مِنْ أَكْبَرِ
أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَمِنَ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ اسْتَعْمَلُوا قُوَاهُمْ
فِي هِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ
وَالْإِنَابَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْقِيَامِ بِنَصْرِهِ
وَالذَّبِّ عَنْهُ.
فَصْلٌ
مَا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ يَوْمَ الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ فَتْحَ مَكَّةَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ عَشْرَةَ آلَافٍ، مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ سَبْعُمِائَةٍ، وَيَقُولُ
بَعْضُهُمْ: أَلْفٌ. وَمِنْ بَنِي غِفَارٍ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَمِنْ أَسْلَمَ
أَرْبَعُمِائَةٍ، وَمِنْ مُزَيْنَةَ أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ، وَسَائِرُهُمْ
مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ وَحُلَفَائِهِمْ وَطَوَائِفِ الْعَرَبِ مِنْ تَمِيمٍ
وَقَيْسٍ وَأَسَدٍ. وَقَالَ عُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ:
كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ الْفَتْحِ الَّذِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ
قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ
عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ إِلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خَلَاءُ
دِيَارٌ
مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَفْرٌ
تُعَفِّيهَا الرَّوَامِسُ وَالسَّمَاءُ وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ
خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ لِطَيْفٍ
يُؤَرِّقُنِي إِذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ لِشَعْثَاءَ الَّتِي قَدْ تَيَّمَتْهُ
فَلَيْسَ لِقَلْبِهِ مِنْهَا شِفَاءُ كَأَنَّ خَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ
يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ إِذَا مَا الْأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْمًا
فَهُنَّ لَطَيِّبِ الرَّاحِ الْفِدَاءُ نُوَلِّيهَا الْمَلَامَةَ إِنْ أَلَمْنَا
إِذَا مَا كَانَ مَغْثٌ أَوْ لِحَاءُ وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا
وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ
عَدِمْنَا
خَيْلَنَا إِنْ لَمْ تَرَوْهَا
تُثِيرُ النَّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ يُنَازِعْنَ الْأَعِنَّةَ مُصْغِيَاتٍ
عَلَى أَكْتَافِهَا الْأَسَلُ الظِّمَاءُ تَظَلُّ جِيَادُنَا مُتَمَطِّرَاتٍ
يُلَطِّمُهُنَّ بِالْخُمُرِ النِّسَاءُ فَإِمَّا تُعْرِضُوا عَنَّا اعْتَمَرْنَا
وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ وَإِلَّا فَاصْبِرُوا لِجَلَادِ يَوْمٍ
يُعِزُّ اللَّهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَجِبْرِيلٌ رَسُولُ اللَّهِ فِينَا
وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ وَقَالَ اللَّهُ قَدْ أَرْسَلْتُ عَبْدًا
يَقُولُ الْحَقَ إِنْ نَفَعَ الْبَلَاءُ شَهِدْتُ بِهِ فَقُومُوا صَدِّقُوهُ
فَقُلْتُمْ لَا نَقُومُ وَلَا نَشَاءُ وَقَالَ اللَّهُ قَدْ سَيَّرْتُ جُنْدًا
هُمُ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ لَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدٍّ
سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ فَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا
وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدِّمَاءُ أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي
مُغَلْغَلَةً. فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ بِأَنَّ سُيُوفَنَا تَرَكَتْكَ عَبْدًا
وَعَبْدَ الدَّارِ سَادَتُهَا الْإِمَاءُ هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ
وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
أَتَهْجُوهُ
وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ
فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ هَجَوْتَ مُبَارَكًا بَرًّا حَنِيفًا
أَمِينَ اللَّهِ شَيْمَتُهُ الْوَفَاءُ أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ
وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ فِإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي
لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَيْبَ فِيهِ
وَبَحْرِي لَا تُكَدِّرُهُ الدِّلَاءُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَالَهَا حَسَّانُ قَبْلَ الْفَتْحِ.
قُلْتُ: وَالَّذِي قَالَهُ مُتَوَجِّهٌ، لِمَا فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ
مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَبُو سُفْيَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْبَيْتِ هُوَ
أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ:لَمَّا رَأَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ يُلَطِّمْنَ
الْخَيْلَ بِالْخُمُرِ، تَبَسَّمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ أَنَسُ بْنُ زُنَيْمٍ الدُّئِلِيُّ، يَعْتَذِرُ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا كَانَ قَالَ
فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيُّ - يَعْنِي لَمَّا جَاءَ يَسْتَنْصِرُ
عَلَيْهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ -:
أَأَنْتَ الَّذِي تُهْدَى مَعَدٌّ بِأَمْرِهِ بَلِ اللَّهُ يَهْدِيهِمْ وَقَالَ
لَكَ اشْهَدِ
وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ
مُحَمَّدِ
أَحَثَّ
عَلَى خَيْرٍ وَأَسْبَغَ نَائِلًا إِذَا رَاحَ كَالسَّيْفِ الصَّقِيلِ
الْمُهَنَّدِ
وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ قَبْلَ ابْتِذَالِهِ وَأَعْطَى لِرَأْسِ السَّابِقِ
الْمُتَجَرِّدِ
تَعَلَّمْ رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ مُدْرِكِي وَأَنْ وَعِيدًا مِنْكَ كَالْأَخْذِ
بِالْيَدِ
تَعَلَّمْ رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ صِرْمٍ مُتْهِمِينَ
وَمُنْجِدِ
تَعَلَّمْ بِأَنَّ الرَّكْبَ رَكْبَ عُوَيْمِرٍ هُمُ الْكَاذِبُونَ الْمُخْلِفُو
كُلِّ مَوْعِدِ
وَنَبَّوْا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي هَجَوْتُهُ فَلَا حَمَلَتْ سَوْطِي إِلَيَّ إِذَنْ
يَدِي
سِوَى أَنَّنِي قَدْ قُلْتُ وَيْلُ امِّ فِتْيَةٍ أُصِيبُوا بِنَحْسٍ لَا بِطَلْقٍ
وَأَسْعُدِ
أَصَابَهُمُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِدِمَائِهِمْ كِفَاءً فَعَزَّتْ عَبْرَتِي
وَتَبَلُّدِي
وَإِنَّكَ قَدْ أَخْفَرْتَ إِنْ كُنْتَ سَاعِيًا بِعَبْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
وَابْنَةِ مَهْوَدِ
ذُؤَيْبٌ
وَكُلْثُومٌ وَسَلْمَى تَتَابَعُوا جَمِيعًا فَإِنْ لَا تَدْمَعِ الْعَيْنُ
أَكْمَدِ
وَسَلْمَى وَسَلْمَى لَيْسَ حَيٌّ كَمِثْلِهِ وَإِخْوَتُهُ وَهَلْ مُلُوكٌ
كَأَعْبُدِ
فَإِنِّيَ لَا دِينًا فَتَقْتُ وَلَا دَمًا هَرَقْتُ تَبَيَّنْ عَالِمَ الْحَقِّ
وَاقْصِدِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي
يَوْمِ الْفَتْحِ:
نَفَى أَهْلَ الْحَبَلَّقِ كُلَّ فَجٍّ مُزَيْنَةُ غُدْوَةً وَبَنُو خُفَافِ
ضَرَبْنَاهُمْ بِمَكَةَ يَوْمَ فَتْحِ النَّ بِيِّ الْخَيْرِ بِالْبِيضِ
الْخِفَافِ
صَبَحْنَاهُمْ بِسَبْعٍ مِنْ سُلَيْمٍ وَأَلْفٍ مِنْ بَنِي عُثْمَانَ وَافِ
نَطَأْ أَكْتَافَهُمْ ضَرْبًا وَطَعْنًا وَرَشْقًا بِالْمُرَيَّشَةِ اللِّطَافِ
تَرَى بَيْنَ الْصُفُوفِ لَهَا حَفَيْفًا كَمَا انْصَاعَ الْفُوَاقُ مِنَ
الرِّصَافِ
فَرُحْنَا وَالْجِيَادُ تَجُولُ فِيهِمْ بِأَرْمَاحٍ مُقَوَّمَةِ الثِّقَافِ
فَأُبْنَا غَانِمِينَ بِمَا اشْتَهَيْنَا وَآبُوا نَادِمِينَ عَلَى الْخِلَافِ
وَأَعْطَيْنَا
رَسُولَ اللَّهِ مِنَّا مَوَاثِقَنَا عَلَى حُسْنِ التَّصَافِي
وَقَدْ سَمِعُوا مَقَالَتَنَا فَهَمُّوا غَدَاةَ الرَّوْعِ مِنَّا بِانْصِرَافِ
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ فِي فَتْحِ
مَكَّةَ:
مِنَّا بِمَكْةَ يَوْمَ فَتْحِ مُحَمَّدٍ أَلْفٌ تَسِيلُ بِهِ الْبِطَاحُ
مُسَوَّمُ
نَصَرُوا الرَّسُولَ وَشَاهَدُوا آيَاتِهِ وَشِعَارُهُمْ يَوْمَ اللِّقَاءِ
مُقَدَّمُ
فِي مَنْزِلٍ ثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ ضَنْكٍ كَأَنَّ الْهَامَ فِيهِ
الْحَنْتَمُ
جَرَّتْ سَنَابِكَهَا بِنَجْدٍ قَبْلَهَا حَتَّى اسْتَقَامَ لَهَا الْحِجَازُ
الْأَدْهَمُ
اللَّهُ مَكَّنَهُ لَهُ وَأَذَلَّهُ حُكْمُ السُّيُوفِ لَنَا وَجَدٌّ مِزْحَمُ
عَوْدُ الرِّيَاسَةِ شَامِخٌ عِرْنِينُهُ مُتَطَلِّعٌ ثُغَرَ الْمَكَارِمِ
خِضْرِمُ
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي سَبَبِ إِسْلَامِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ، أَنَّ
أَبَاهُ كَانَ يَعْبُدُ صَنَمًا مِنْ حِجَارَةٍ يُقَالُ لَهُ: ضِمَارٌ. فَلَمَّا
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَاهُ بِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ
يَوْمًا
يَخْدِمُهُ إِذْ سَمِعَ صَوْتًا مِنْ جَوْفِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
قُلْ لِلْقَبَائِلِ مِنْ سُلَيْمٍ كُلِّهَا أَوْدَى ضِمَارُ وَعَاشَ أَهْلُ
الْمَسْجِدِ
إِنَّ الَّذِي وَرِثَ النُّبُوَّةَ وَالْهُدَى بَعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ
قُرَيْشٍ مُهْتَدِي
أَوْدَى ضِمَارُ وَكَانَ يُعْبَدُ مَرَّةً قَبْلَ الْكِتَابِ إِلَى النَّبِيِّ
مُحَمَّدِ
قَالَ: فَحَرَّقَ عَبَّاسٌ ضِمَارًا، ثُمَّ لَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ
بِكَمَالِهَا فِي بَابِ هَوَاتِفِ الْجَانِّ، مَعَ أَمْثَالِهَا وَأَشْكَالِهَا،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
بَعْثُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بَعْدَ الْفَتْحِ
إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ مِنْ كِنَانَةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ
حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ حِينَ
افْتَتَحَ مَكَّةَ دَاعِيًا، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا، وَمَعَهُ قَبَائِلُ
مِنَ الْعَرَبِ، سُلَيْمُ بْنُ مَنْصُورِ وَمُدْلِجُ بْنُ مُرَّةَ، فَوَطِئُوا
بَنِي جَذِيمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، فَلَمَّا رَآهُ
الْقَوْمُ أَخَذُوا السِّلَاحَ، فَقَالَ خَالِدٌ: ضَعُوا السِّلَاحَ، فَإِنَّ
النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
مَنْ بَنِي جَذِيمَةَ قَالَ: لَمَّا أَمَرَنَا خَالِدٌ أَنْ نَضَعَ السِّلَاحَ،
قَالَ رَجُلٌ مِنَّا - يُقَالُ لَهُ: جَحْدَمٌ -: وَيَلَكُمُ يَا بَنِي جَذِيمَةَ،
إِنَّهُ خَالِدٌ، وَاللَّهِ مَا بَعْدَ وَضْعِ السِّلَاحِ إِلَّا الْإِسَارُ،
وَمَا بَعْدَ الْإِسَارِ إِلَّا ضَرْبُ الْأَعْنَاقِ، وَاللَّهِ لَا أَضَعُ
سِلَاحِي أَبَدًا. قَالَ: فَأَخَذَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالُوا: يَا
جَحْدَمٌ، أَتُرِيدُ أَنْ تَسْفِكَ دِمَاءَنَا ؟ إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا
وَوُضِعَتِ
الْحَرْبُ، وَأَمِنَ النَّاسُ. فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى نَزَعُوا سِلَاحَهُ،
وَوَضَعَ الْقَوْمُ سِلَاحَهُمْ لِقَوْلِ خَالِدٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ
قَالَ: فَلَمَّا وَضَعُوا السِّلَاحَ أَمَرَ بِهِمْ خَالِدٌ عِنْدَ ذَلِكَ،
فَكُتِفُوا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى السَّيْفِ، فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ،
فَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ
إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ انْفَلَتَ
رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ؟ " فَقَالَ:
نَعَمْ، قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَبْيَضُ رَبْعَةٌ، فَنَهَمَهُ خَالِدٌ،
فَسَكَتَ عَنْهُ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ طَوِيلٌ مُضْطَرِبٌ،
فَرَاجَعَهُ فَاشْتَدَّتْ مُرَاجَعَتُهُمَا، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
أَمَّا الْأَوَّلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَابْنِي عَبْدُ اللَّهِ، وَأَمَّا
الْآخَرُ
فَسَالِمٌ
مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ،
قَالَ: ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ
بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: " يَا عَلِيُّ، اخْرُجْ إِلَى هَؤُلَاءِ
الْقَوْمِ، فَانْظُرْ فِي أَمْرِهِمْ، وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ
قَدَمَيْكَ ". فَخَرَجَ عَلِيٌّ حَتَّى جَاءَهُمْ وَمَعَهُ مَالٌ قَدْ بَعَثَ
بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَدَى لَهُمُ
الدِّمَاءَ وَمَا أُصِيبَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَدِي
مِيلَغَةَ الْكَلْبِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ
إِلَّا وَدَاهُ، بَقِيَتْ مَعَهُ بَقِيَّةٌ مِنَ الْمَالِ، فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ
حِينَ فَرَغَ مِنْهُمْ: هَلْ بَقِيَ لَكُمْ دَمٌ أَوْ مَالٌ لَمْ يُودَ لَكُمْ؟
قَالُوا: لَا. قَالَ: فَإِنِّي أُعْطِيكُمْ هَذِهِ الْبَقِيَّةَ مِنْ هَذَا
الْمَالِ احْتِيَاطًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا
لَا نَعْلَمُ وَلَا تَعْلَمُونَ. فَفَعَلَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: "
أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ ". ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا شَاهِرًا يَدَيْهِ، حَتَّى
إِنَّهُ لَيُرَى مَا تَحْتَ مَنْكِبَيْهِ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ
إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ " ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ يَعْذُرُ خَالِدًا: إِنَّهُ
قَالَ: مَا قَاتَلْتُ حَتَّى أَمَرَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ
السَّهْمِيُّ وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ
أَمَرَكَ
أَنْ تُقَاتِلَهُمْ لِامْتِنَاعِهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ:
قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدِينِيُّ: لَمَّا أَتَاهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
قَالُوا: صَبَأْنَا صَبَأْنَا. وَهَذِهِ مُرْسَلَاتٌ وَمُنْقَطِعَاتٌ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثَنَا
مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي - أَحْسَبُهُ قَالَ - جَذِيمَةَ. فَدَعَاهُمْ
إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا. فَجَعَلُوا
يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا. وَجَعَلَ خَالِدٌ بِهِمْ أَسْرًا وَقَتْلًا.
قَالَ: وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرًا، حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ
يَوْمًا أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ. قَالَ ابْنُ
عُمَرَ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلَا يَقْتُلُ أَحَدٌ مِنْ
أَصْحَابِي أَسِيرَهُ. قَالَ: فَقَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ صَنِيعَ خَالِدٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ
إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ " مَرَّتَيْنِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ نَحْوَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ قَالَ لَهُمْ جَحْدَمٌ لَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُ
بِهِمْ خَالِدٌ: يَا بَنِي جَذِيمَةَ، ضَاعَ الضَّرْبُ، قَدْ كُنْتُ حَذَّرْتُكُمْ
مَا وَقَعْتُمْ فِيهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ بَيْنَ خَالِدٍ
وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - فِيمَا بَلَغَنِي -
كَلَامٌ
فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: عَمِلْتَ بِأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ
فِي الْإِسْلَامِ ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا ثَأَرْتُ بِأَبِيكَ. فَقَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ: كَذَبْتَ، قَدْ قَتَلْتُ قَاتِلَ أَبِي، وَلَكِنَّكَ ثَأَرْتَ
بِعَمِّكَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. حَتَّى كَانَ بَيْنَهُمَا شَرٌّ،
فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
" مَهْلًا يَا خَالِدُ، دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِي، فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ لَكَ
أُحُدٌ ذَهَبًا ثُمَّ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَةَ
رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلَا رَوْحَتَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، عَمِّ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فِي
خُرُوجِهِ هُوَ وَعَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ
زُهْرَةَ، وَمَعَهُ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ
بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَمَعَهُ ابْنُهُ عُثْمَانُ فِي تِجَارَةٍ إِلَى
الْيَمَنِ، وَرُجُوعِهِمْ وَمَعَهُمْ مَالٌ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ كَانَ
هَلَكَ بِالْيَمَنِ، فَحَمَلُوهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، فَادَّعَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ
يُقَالُ لَهُ: خَالِدُ بْنُ هِشَامٍ. وَلَقِيَهُمْ بِأَرْضِ بَنِي جَذِيمَةَ
فَطَلَبَهُ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ، فَأَبَوْا
عَلَيْهِ، فَقَاتَلَهُمْ فَقَاتَلُوهُ، حَتَّى قُتِلَ عَوْفٌ وَالْفَاكِهُ
وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُمَا، وَقَتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَاتِلَ أَبِيهِ خَالِدَ
بْنَ هِشَامٍ، وَفَرَّ مِنْهُمْ عَفَّانُ وَمَعَهُ ابْنُهُ عُثْمَانُ إِلَى
مَكَّةَ، فَهَمَّتْ قُرَيْشٌ بِغَزْوِ بَنِي جَذِيمَةَ، فَبَعَثَتْ بَنُو
جَذِيمَةَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ مَلَأٍ مِنْهُمْ،
وَوَدَوْا لَهُمُ الْقَتِيلَيْنِ وَأَمْوَالَهُمَا، وَوَضَعُوا الْحَرْبَ
بَيْنَهُمْ.
يَعْنِي فَلِهَذَا قَالَ خَالِدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنَّمَا ثَأَرْتُ
بِأَبِيكَ. يَعْنِي حِينَ قَتَلَتْهُ بَنُو جَذِيمَةَ، فَأَجَابَهُ بِأَنَّهُ قَدْ
أَخَذَ ثَأْرَهُ وَقَتَلَ قَاتِلَهُ، وَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا ثَأَرَ
بِعَمِّهِ
الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ حِينَ قَتَلُوهُ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُ،
وَالْمَظْنُونُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ،
وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا فِي وَقْتِ الْمُخَاصَمَةِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ خَالِدُ
بْنُ الْوَلِيدِ نُصْرَةَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْطَأَ
فِي أَمْرٍ، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُمْ يَنْتَقِصُونَ الْإِسْلَامَ بِقَوْلِهِمْ:
صَبَأْنَا صَبَأْنَا. وَلَمْ يَفْهَمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا، فَقَتَلَ
طَائِفَةً كَثِيرَةً مِنْهُمْ وَأَسَرَ بَقِيَّتَهُمْ، وَقَتَلَ أَكْثَرَ الْأَسْرَى
أَيْضًا، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَعْزِلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَلِ اسْتَمَرَّ بِهِ أَمِيرًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَبَرَّأَ مِنْهُ فِي
صَنِيعِهِ ذَلِكَ، وَوَدَى مَا كَانَ جَنَاهُ خَطَأً فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ، فَفِيهِ
دَلِيلٌ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ خَطَأَ الْإِمَامِ
يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لَا فِي مَالِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا لَمْ
يَعْزِلْهُ الصِّدِّيقُ حِينَ قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ أَيَّامَ
الرِّدَّةِ، وَتَأَوَّلَ عَلَيْهِ مَا تَأَوَّلَ حِينَ ضَرَبَ عُنُقَهُ وَاصْطَفَى
امْرَأَتَهُ أُمَّ تَمِيمٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: اعْزِلْهُ،
فَإِنَّ فِي سَيْفِهِ رَهَقًا. فَقَالَ الصِّدِّيقُ: لَا أَغْمِدُ سَيْفًا سَلَّهُ
اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ
بْنِ الْأَخْنَسِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيِّ
قَالَ: كُنْتُ يَوْمَئِذٍ فِي خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَقَالَ فَتًى مِنْ
بَنِي جَذِيمَةَ، وَهُوَ فِي سِنِّي، وَقَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ
بِرُمَّةٍ، وَنِسْوَةٌ مُجْتَمِعَاتٌ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْهُ: يَا فَتَى، فَقُلْتُ:
مَا تَشَاءُ ؟ قَالَ: هَلْ
أَنْتَ
آخِذٌ بِهَذِهِ الرُّمَّةِ، فَقَائِدِي إِلَى هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ حَتَّى
أَقْضِيَ إِلَيْهِنَّ حَاجَةً، ثُمَّ تَرُدَّنِي بَعْدُ، فَتَصْنَعُوا بِي مَا
بَدَا لَكُمْ ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَيَسِيرٌ مَا طَلَبْتَ. فَأَخَذْتُ
بِرُمَّتِهِ فَقُدْتُهُ بِهَا، حَتَّى وَقَفْتُهُ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ: اسْلَمِي
حُبَيْشْ عَلَى نَفَدِ الْعَيْشْ:
أَرَيْتُكِ إِذْ طَالَبْتُكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ بِحَلْيَةَ أَوْ أَلْفَيْتُكُمْ
بِالْخَوَانِقِ أَلَمْ يَكُ أَهْلًا أَنْ يُنَوَّلَ عَاشِقٌ
تَكَلَّفَ إِدْلَاجَ السُّرَى وَالْوَدَائِقِ فَلَا ذَنْبَ لِي قَدْ قُلْتُ إِذْ
أَهْلُنَا مَعًا
أَثَيِبِي بِوُدٍّ قَبْلَ إِحْدَى الصَّفَائِقِ أَثِيبِي بِوُدٍّ قَبْلَ أَنْ
تَشْحَطَ النَّوَى
وَيَنْأَى الْأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ فَإِنِّيَ لَا ضَيَّعْتُ سِرَّ
أَمَانَةٍ
وَلَا رَاقَ عَيْنِي عَنْكِ بَعْدَكِ رَائِقُ سِوَى أَنَّ مَا نَالَ الْعَشِيرَةَ
شَاغِلٌ
عَنِ الْوُدِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ التَّوَامُقُ
قَالَتْ: وَأَنْتَ فَحُيِّيتَ عَشْرَا، وَتِسْعًا وَتْرَا، وَثَمَانِيًا تَتْرَى.
قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفْتُ بِهِ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
فَحَدَّثَنِي أَبُو فِرَاسِ
بْنُ
أَبِي سُنْبُلَةَ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْهُمْ، عَمَّنْ كَانَ حَضَرَهَا
مِنْهُمْ، قَالُوا: فَقَامَتْ إِلَيْهِ حِينَ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ فَأَكَبَّتْ
عَلَيْهِ، فَمَا زَالَتْ تُقَبِّلُهُ حَتَّى مَاتَتْ عِنْدَهُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ
بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ مُسَاحِقٍ، أَنَّهُ
سَمِعَ رَجُلًا مَنْ مُزَيْنَةَ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ عِصَامٍ. عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً
قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ مَسْجِدًا أَوْ سَمِعْتُمْ مُؤَذِّنًا فَلَا تَقْتُلُوا
أَحَدًا قَالَ: فَبَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي سَرِيَّةٍ وَأَمَرَنَا بِذَلِكَ، فَخَرَجْنَا قِبَلَ تِهَامَةَ، فَأَدْرَكْنَا
رَجُلًا يَسُوقُ بِظَعَائِنَ، فَقُلْنَا لَهُ: أَسْلِمْ. فَقَالَ: وَمَا الْإِسْلَامُ
؟ فَأَخْبَرْنَاهُ بِهِ، فَإِذَا هُوَ لَا يَعْرِفُهُ، قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ
لَمْ أَفْعَلْ، مَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ ؟ قَالَ: قُلْنَا: نَقْتُلُكَ. فَقَالَ:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْظَرِيَّ حَتَّى أُدْرِكَ الظَّعَائِنَ ؟ قَالَ: قُلْنَا:
نَعَمْ، وَنَحْنُ مُدْرِكُوكَ. قَالَ: فَأَدْرَكَ الظَّعَائِنَ فَقَالَ: اسْلَمِي
حُبَيْشْ قَبْلَ نَفَادِ الْعَيْشْ. فَقَالَتِ الْأُخْرَى: اسْلَمْ عَشْرَا،
وَتِسْعًا وَتْرَا، وَثَمَانِيًا تَتْرَى، ثُمَّ ذَكَرَ الشِّعْرَ الْمُتَقَدِّمَ
إِلَى قَوْلِهِ:
وَيَنْأَى الْأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ
. ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْنَا فَقَالَ: شَأْنُكُمْ. قَالَ: فَقَدَّمْنَاهُ،
فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ. قَالَ: فَانْحَدَرَتِ الْأُخْرَى مِنْ هَوْدَجِهَا،
فَحَنَّتْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَتْ.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ،
ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ حَرْبٍ الْمَرْوَزِيُّ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا، وَفِيهِمْ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَسْتُ مِنْهُمْ، إِنِّي عَشِقْتُ امْرَأَةً فَلَحِقْتُهَا، فَدَعُونِي أَنْظُرْ إِلَيْهَا نَظْرَةً، ثُمَّ اصْنَعُوا بِي مَا بَدَا لَكُمْ. قَالَ: فَإِذَا امْرَأَةٌ أَدْمَاءُ طَوِيلَةٌ، فَقَالَ لَهَا: اسْلَمِي حُبَيْشْ قَبْلَ نَفَادِ الْعَيْشْ. ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْتَيْنِ بِمَعْنَاهُمَا. قَالَ: فَقَالَتْ: نَعَمْ فَدَيْتُكَ. قَالَ: فَقَدَّمُوهُ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ، فَجَاءَتِ الْمَرْأَةُ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ، فَشَهِقَتْ شَهْقَةً أَوْ شَهْقَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَتْ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَحِيمٌ ؟.
بَعْثُ
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِهَدْمِ الْعُزَّى
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ هَدْمُهَا لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ
عَامَئِذٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْعُزَّى، وَكَانَتْ بَيْتًا بِنَخْلَةَ
يُعَظِّمُهُ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَمُضَرُ، وَكَانَ سَدَنَتُهَا وَحُجَّابُهَا
مِنْ بَنِي شَيْبَانَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ حُلَفَاءُ بَنِي هَاشِمٍ، فَلَمَّا
سَمِعَ حَاجِبُهَا السُّلَمِيُّ بِمَسِيرِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَيْهَا
عَلَّقَ سَيْفَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ اشْتَدَّ فِي الْجَبَلِ الَّذِي هِيَ فِيهِ
وَهُوَ يَقُولُ:
أَيَا عُزَّ شُدِّي شَدَّةً لَا شَوَى لَهَا عَلَى خَالِدٍ أَلْقِي الْقِنَاعَ
وَشَمِّرِي أَيَا عُزَّ إِنْ لَمْ تَقْتُلِي الْمَرْءَ خَالِدًا
فَبُوئِي بِإِثْمٍ عَاجِلٍ أَوْ تَنَصَّرِي
قَالَ: فَلَمَّا انْتَهَى خَالِدٌ إِلَيْهَا هَدَمَهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُأَنَّهُ لَمَّا قَدِمَهَا خَالِدٌ لِخَمْسٍ
بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَهَدَمَهَا، وَرَجَعَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتَ ؟ قَالَ: لَمْ أَرَ
شَيْئًا.
فَأَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ، فَلَمَّا رَجَعَ خَرَجَتْ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ
الْبَيْتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا تُوَلْوِلُ، فَعَلَاهَا
بِالسَّيْفِ وَجَعَلَ يَقُولُ:
يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لَا سُبْحَانَكِ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكِ
ثُمَّ خَرَّبَ ذَلِكَ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَأَخَذَ مَا كَانَ فِيهِ
مِنَ الْأَمْوَالِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَخْبَرَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: تِلْكَ الْعُزَّى وَلَا
تُعْبَدُ أَبَدًا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْفَقِيهُ،
أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ،
ثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي
الطُّفَيْلِ قَالَ:لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَكَّةَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى نَخْلَةَ، وَكَانَتْ
بِهَا الْعُزَّى، فَأَتَاهَا، وَكَانَتْ عَلَى ثَلَاثِ سَمُرَاتٍ، فَقَطَعَ
السَّمُرَاتِ وَهَدَمَ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ
فَإِنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا فَرَجَعَ خَالِدٌ، فَلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيْهِ
السَّدَنَةُ وَهُمْ حُجَّابُهَا، أَمْعَنُوا هَرَبًا فِي الْجَبَلِ وَهُمْ
يَقُولُونَ: يَا عُزَّى خَبِّلِيهِ، يَا عَزَّى عَوِّرِيهِ، وَإِلَّا فَمُوتِي
بِرُغْمٍ. قَالَ: فَأَتَاهَا خَالِدٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةٌ
شَعْرَهَا، تَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهَا وَوَجْهِهَا، فَعَمَّمَهَا
بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: تِلْكَ الْعُزَّى.
فَصْلٌ
فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِمَكَّةَ لَا خِلَافَ أَنَّهُ،
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَقَامَ بَقِيَّةَ شَهْرِ رَمَضَانَ يَقْصُرَ
الصَّلَاةَ وَيُفْطِرُ، وَهَذَا دَلِيلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ
الْمُسَافِرَ إِذَا لَمْ يُجْمِعِ الْإِقَامَةَ فَلَهُ أَنْ يَقْصُرَ وَيُفْطِرَ
إِلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الْقَوْلِ
الْآخَرِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا سُفْيَانُ ( ح ) وَحَدَّثَنَا
قَبِيصَةُ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْأَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ قَالَ: أَقَمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَشْرًا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ. وَقَدْ رَوَاهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ طُرُقٍ
مُتَعَدِّدَةٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيِّ الْبَصْرِيِّ،
عَنْ أَنَسٍ بِهِ نَحْوَهُ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا عَبْدَانُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا
عَاصِمٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ - زَادَ الْبُخَارِيُّ:
وَحُصَيْنٌ
كِلَاهُمَا
- وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ
سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهِ. وَفِي
لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُدَ: سَبْعَ عَشْرَةَ.
وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا أَبُو شِهَابٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:أَقَمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ تِسْعَ عَشْرَةَ نَقْصُرُ الصَّلَاةَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَحْنُ نَقْصُرُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ تِسْعَ
عَشْرَةَ، فَإِذَا زِدْنَا أَتْمَمْنَا.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ،
ثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ
قَالَ:غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَشَهِدْتُ مَعَهُ الْفَتْحَ، فَأَقَامَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي
إِلَّا رَكْعَتَيْنِ، يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْبَلَدِ صَلُّوا أَرْبَعًا فَإِنَّا
سَفْرٌ وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ
بْنِ
زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ:أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ
خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلَاةَ. ثُمَّ قَالَ: رَوَاهُ غَيْرُ
وَاحِدٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، لَمْ يَذْكُرُوا ابْنَ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
قَتَادَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ،
وَغَيْرِهِمْ قَالُوا:أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
فَصْلٌ
فِيمَا حَكَمَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ مِنَ
الْأَحْكَامِ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ،
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( ح ) وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ:
كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ أَنْ يَقْبِضَ
ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَقَالَ عُتْبَةُ: إِنَّهُ ابْنِي. فَلَمَّا قَدِمَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فِي الْفَتْحِ، أَخَذَ
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ مَعَهُ عَبْدُ
بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: هَذَا ابْنُ أَخِي عَهِدَ
إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ. قَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا
أَخِي، هَذَا ابْنُ زَمْعَةَ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ، فَإِذَا هُوَ
أَشْبَهُ النَّاسِ بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُوَ لَكَ، هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدَ
بْنَ زَمْعَةَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ " وَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْتَجِبِي مِنْهُ يَا
سَوْدَةُ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. قَالَ ابْنُ
شِهَابٍ: قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
الْوَلَدُ
لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ أَبُو
هُرَيْرَةَ يُصَرِّحُ بِذَلِكَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا،
وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، جَمِيعًا عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ
اللَّيْثِ بِهِ. وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِهِ، وَانْفَرَدَ الْبُخَارِيُّ
بِرِوَايَتِهِ لَهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ
اللَّهِ، أَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ، أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ، فَفَزِعَ قَوْمُهَا إِلَى أُسَامَةَ
بْنِ زَيْدٍ يَسْتَشْفِعُونَهُ. قَالَ عُرْوَةُ: فَلَمَّا كَلَّمَهُ أُسَامَةُ
فِيهَا، تَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ: " أَتُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ " فَقَالَ
أُسَامَةُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ قَامَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَأَثْنَى عَلَى
اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّمَا
أَهْلَكَ النَّاسَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ
تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ
فِيهِمُ
الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ
لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ". ثُمَّ
أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلْكَ الْمَرْأَةِ
فَقُطِعَتْ يَدُهَا، فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَتَزَوَّجَتْ، قَالَتْ
عَائِشَةُ: كَانَتْ تَأْتِينِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي
مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِهِ.
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ
الْجُهَنِيِّ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ حِينَ دَخَلَ مَكَّةَ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى
نَهَانَا عَنْهَا وَفِي رِوَايَةٍ فَقَالَ:أَلَا إِنَّهَا حَرَامٌ مِنْ يَوْمِكُمْ
هَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَفِي رِوَايَةٍ فِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ
" وَ " السُّنَنِ " أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي
الْعُمَيْسِ،عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ،
عَنْ
أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَامَ أَوَطَاسٍ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ ثَلَاثًا، ثُمَّ نَهَانَا
عَنْهَا.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَعَامُ أَوَطَاسٍ هُوَ عَامُ الْفَتْحِ، فَهُوَ وَحَدِيثُ
سَبْرَةَ سَوَاءٌ.
قُلْتُ: مَنْ أَثْبَتَ النَّهْيَ عَنْهَا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ قَالَ: إِنَّهَا
أُبِيحَتْ مَرَّتَيْنِ وَحُرِّمَتْ مَرَّتَيْنِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ
الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا أُبِيحَتْ وَحُرِّمَتْ أَكْثَرَ
مِنْ مَرَّتَيْنِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّهَا إِنَّمَا حُرِّمَتْ
مَرَّةً وَاحِدَةً، وَهِيَ هَذِهِ الْمَرَّةُ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ. وَقِيلَ:
إِنَّهَا إِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ. فَعَلَى هَذَا إِذَا وُجِدَتْ
ضَرُورَةً أُبِيحَتْ، وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقِيلَ: بَلْ
لَمْ تُحَرَّمْ مُطْلَقًا، وَهِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَوْضِعُ
تَحْرِيرِ ذَلِكَ فِي " الْأَحْكَامِ ".
فَصْلٌ
مُبَايَعَةُ النَّبِيِّ النَّاسَ يَوْمَ الْفَتْحِ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ
أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ
الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ الْأَسْوَدَ رَأَى رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النَّاسَ يَوْمَ الْفَتْحِ.
قَالَ: جَلَسَ عِنْدَ قَرْنِ مَسْقَلَةَ، فَبَايَعَ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ
وَالشَّهَادَةِ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الشَّهَادَةُ ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ أَنَّهُ بَايَعَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ
بِاللَّهِ، وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ:
فَجَاءَهُ النَّاسُ، الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ،
فَبَايَعَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالشَّهَادَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ ثُمَّ اجْتَمَعَ النَّاسُ بِمَكَّةَ لِبَيْعَةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَجَلَسَ لَهُمْ -
فِيمَا بَلَغَنِي - عَلَى الصَّفَا، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَسْفَلَ مِنْ
مَجْلِسِهِ، فَأَخَذَ عَلَى النَّاسِ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ
فِيمَا اسْتَطَاعُوا. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيْعَةِ الرِّجَالِ بَايَعَ
النِّسَاءَ، وَفِيهِنَّ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ
مُتَنَقِّبَةً مُتَنَكِّرَةً بِحَدِيثِهَا، لِمَا كَانَ مِنْ صَنِيعِهَا بِحَمْزَةَ، فَهِيَ تَخَافُ أَنْ يَأْخُذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدَثِهَا ذَلِكَ، فَلَمَّا دَنَيْنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَايِعَهُنَّ قَالَ: " بَايِعْنَنِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا " فَقَالَتْ هِنْدُ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَأْخُذُ عَلَيْنَا مَا لَا تَأْخُذُهُ عَلَى الرِّجَالِ. قَالَ: " وَلَا تَسْرِقْنَ ". فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَصَبْتُ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ الْهِنَةَ بَعْدَ الْهِنَةِ، وَمَا كُنْتُ أَدْرِي أَكَانَ ذَلِكَ عَلَيْنَا حَلَالًا لِي أَمْ لَا ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ، وَكَانَ شَاهِدًا لِمَا تَقُولُ: أَمَّا مَا أَصَبْتِ فِيمَا مَضَى فَأَنْتِ مِنْهُ فِي حَلٍّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَإِنَّكِ لَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ ؟ ! " قَالَتْ: نَعَمْ، فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ، عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. ثُمَّ قَالَ: " وَلَا تَزْنِينَ " فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ تَزْنِي الْحُرَّةُ ؟! ثُمَّ قَالَ: " وَلَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنَّ ". قَالَتْ: قَدْ رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا، وَقَتَلْتَهُمْ بِبَدْرٍ كِبَارًا، فَأَنْتَ وَهُمْ أَعْلَمُ. فَضَحِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى اسْتَغْرَبَ، ثُمَّ قَالَ: " وَلَا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ ". فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّ إِتْيَانَ الْبُهْتَانِ لَقَبِيحٌ، وَلَبَعْضُ
التَّجَاوُزِ
أَمْثَلُ. ثُمَّ قَالَ: " وَلَا تَعْصِينَنِي ". فَقَالَتْ: فِي
مَعْرُوفٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ:
" بَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ فَبَايَعَهُنَّ عُمَرُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَا يُصَافِحُ النِّسَاءَ، وَلَا يَمَسُّ إِلَّا امْرَأَةً أَحَلَّهَا
اللَّهُ لَهُ، أَوْ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ، رِضَى اللَّهِ
عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَا
كَانَ يُبَايِعُهُنَّ إِلَّا كَلَامًا وَيَقُولُ: إِنَّمَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ
وَاحِدَةٍ كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ
امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ،
لَا يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَيَكْفِي بَنِيَّ، فَهَلْ عَلَيَّ
مِنْ حَرَجٍ إِذَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ ؟ قَالَ: " خُذِي
مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ،
عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ هِنْدَ
بِنْتَ عُتْبَةَ قَالَتْ:
يَا
رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ مِمَّا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَخْبَاءٌ أَوْ أَهْلُ
خِبَاءٍ - الشَّكُّ مِنَ ابْنِ بُكَيْرٍ - أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَذِلُّوا
مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ - أَوْ خِبَائِكَ - ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى
ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ أَخْبَاءٍ - أَوْ خِبَاءٍ - أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ
يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ أَخْبَائِكَ - أَوْ خِبَائِكَ -. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ
بِيَدِهِ ". قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ
مَسِيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أَطْعَمَ مِنَ الَّذِي لَهُ ؟ قَالَ: "
لَا، إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ بِنَحْوِهِ،
وَتَقَدَّمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: لَا
هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُثْمَانِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَمُسْلِمٍ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ جَرِيرٍ.
وَقَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ هَاجَرَ. فَقُلْتُ لَهُ: لَا أَدْخُلُ مَنْزِلِي حَتَّى
آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْأَلُهُ.
فَأَتَيْتُهُ فَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ،
وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا تَفَرَّدَ بِهِ
أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، ثَنَا الْفُضَيْلُ
بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ، عَنْ
مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ بِأَبِي مَعْبَدٍ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ:
مَضَتِ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا، أُبَايِعُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ
فَلَقِيتُ أَبَا مَعْبَدٍ فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ مُجَاشِعٌ. وَقَالَ
خَالِدٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ مُجَاشِعٌ، أَنَّهُ جَاءَ بِأَخِيهِ
مُجَالِدٍ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا زُهَيْرٌ، ثَنَا
عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاشِعٌ قَالَ: أَتَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَخِي بَعْدَ يَوْمِ
الْفَتْحِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جِئْتُكَ بِأَخِي لِتُبَايِعَهُ عَلَى
الْهِجْرَةِ، قَالَ: " ذَهَبَ أَهْلُ
الْهِجْرَةِ
بِمَا فِيهَا " فَقُلْتُ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُبَايِعُهُ ؟ قَالَ: "
أُبَايِعُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ فَلَقِيتُ أَبَا
مَعْبَدٍ بَعْدُ، وَكَانَ أَكْبَرَهُمَا سِنًّا، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ: صَدَقَ مُجَاشِعٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، ثَنَا غُنْدَرٌ، ثَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ:
أُرِيدُ أَنْ أُهَاجِرَ إِلَى الشَّامِ. فَقَالَ: لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ،
انْطَلِقْ فَاعْرِضْ نَفْسَكَ، فَإِنْ وَجَدْتَ شَيْئًا وَإِلَّا رَجَعْتَ.
وَقَالَ أَبُو النَّضْرِ: أَنَا شُعْبَةُ، أَنَا أَبُو بِشْرٍ، سَمِعْتُ
مُجَاهِدًا قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: لَا هِجْرَةَ الْيَوْمَ - أَوْ
بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -... مِثْلَهُ.
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي
أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ
مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:لَا هِجْرَةَ
بَعْدَ الْفَتْحِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَزِيدَ، أَنَا يَحْيَى بْنُ
حَمْزَةَ، أَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: زُرْتُ
عَائِشَةَ مَعَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَسَأَلَهَا عَنِ الْهِجْرَةِ
فَقَالَتْ:
لَا هِجْرَةَ الْيَوْمَ، كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ
الْإِسْلَامَ، فَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ، وَلَكِنْ جِهَادٌ
وَنِيَّةٌ.
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ - إِمَّا
الْكَامِلَةَ أَوْ مُطْلَقًا - قَدِ انْقَطَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، لِأَنَّ
النَّاسَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَظَهَرَ الْإِسْلَامُ
وَثَبَتَتْ أَرْكَانُهُ وَدَعَائِمُهُ، فَلَمْ تَبْقَ هِجْرَةٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا
أَنْ يَعْرِضَ حَالٌ يَقْتَضِي الْهِجْرَةَ بِسَبَبِ مُجَاوَرَةِ أَهْلِ
الْحَرْبِ، وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ عِنْدَهُمْ، فَتَجِبُ
الْهِجْرَةُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْهِجْرَةَ لَيْسَتْ كَالْهِجْرَةِ قَبْلَ
الْفَتْحِ، كَمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْجِهَادِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ مَشْرُوعٌ وَمُرَغَّبٌ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ
كَالْإِنْفَاقِ وَلَا الْجِهَادِ قَبْلَ الْفَتْحِ، فَتْحِ مَكَّةَ. قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ
أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى الْآيَةَ ( الْحَدِيدِ: 10 ).
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيِّ،
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ إِذَا جَاءَ نَصْرُ
اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ
أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا
(
النَّصْرِ: 1 - 3 ). قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَتَّى خَتَمَهَا، وَقَالَ: النَّاسُ حَيِّزٌ وَأَنَا وَأَصْحَابِي حَيِّزٌ
وَقَالَ: لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ. فَقَالَ لَهُ
مَرْوَانُ: كَذَبْتَ. وَعِنْدَهُ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ
قَاعِدَانِ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: لَوْ شَاءَ هَذَانَ
لَحَدَّثَاكَ، وَلَكِنَّ هَذَا يَخَافُ أَنْ تَنْزِعَهُ عَنْ عِرَافَةِ قَوْمِهِ،
وَهَذَا يَخْشَى أَنْ تَنْزِعَهُ عَنِ الصَّدَقَةِ. فَرَفَعَ مَرْوَانُ عَلَيْهِ
الدِّرَّةَ لِيَضْرِبَهُ، فَلَمَّا رَأَيَا ذَلِكَ قَالَا: صَدَقَ. تَفَرَّدَ بِهِ
أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ،
عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ
عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي
نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ ؟
فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ. فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ
فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ. فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ أَدْخَلَنِي فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ
إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ
نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نَصَرَنَا وَفَتَحَ عَلَيْنَا. وَسَكَتَ
بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ
عَبَّاسٍ ؟ فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: مَا تَقُولُ ؟ فَقُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَعْلَمَهُ
لَهُ، قَالَ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَذَلِكَ عَلَامَةُ
أَجَلِكَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ.
تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَهَكَذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِنَعْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَجَلِهِ. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ
وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
فُضَيْلٍ، ثَنَا عَطَاءٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي. بِأَنَّهُ
مَقْبُوضٌ فِي تِلْكَ السَّنَةِ. تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَفِي
إِسْنَادِهِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، تَكَلَّمَ
فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَفِي لَفْظِهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ،
وَهُوَ قَوْلُهُ بِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَهَذَا بَاطِلٌ،
فَإِنَّ الْفَتْحَ كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا، كَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ
إِحْدَى عَشْرَةَ، بِلَا خِلَافٍ أَيْضًا.
وَهَكَذَا
الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ، رَحِمَهُ
اللَّهُ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ، ثَنَا
أَبِي، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ
بْنِ أَبِي الْجَهْمِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ جَمِيعًا:
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فِيهِ نَكَارَةٌ أَيْضًا، وَفِي
إِسْنَادِهِ نَظَرٌ أَيْضًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ
نَزَلَتْ جَمِيعُهَا كَمَا قَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى
تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ
زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ - قَالَ
لِي أَبُو قِلَابَةَ: أَلَا تَلْقَاهُ فَتَسْأَلَهُ فَلَقِيتُهُ فَسَأَلْتُهُ -
قَالَ: كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرَّ النَّاسِ، وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ
فَنَسْأَلُهُمْ مَا لِلنَّاسِ مَا لِلنَّاسِ ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ ؟ فَيَقُولُونَ:
يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ وَأَوْحَى إِلَيْهِ كَذَا. فَكُنْتُ أَحْفَظُ
ذَاكَ الْكَلَامَ، فَكَأَنَّمَا يُغْرِي فِي صَدْرِي، وَكَانَتِ الْعَرَبُ
تَلَوَّمُ بِإِسْلَامِهِمُ الْفَتْحَ، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ،
فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ. فَلَمَّا كَانَتْ
وَقْعَةُ أَهْلِ الْفَتْحِ بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلَامِهِمْ، وَبَدَرَ أَبِي
قَوْمِي بِإِسْلَامِهِمْ. فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ
عِنْدِ النَّبِيِّ حَقًّا، قَالَ: صَلُّوا
صَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلَاةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرُ قُرْآنًا مِنِّي، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي. فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَيِّ: أَلَا تُغَطُّونَ عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ ؟ فَاشْتَرَوْا، فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ الْقَمِيصِ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ.
غَزْوَةُ
هَوَازِنَ يَوْمَ حُنَيْنٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ
شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ
مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى
مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ التَّوْبَةِ: 25 - 27 ]. وَقَدْ ذَكَرَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي كِتَابِهِ أَنَّ خُرُوجَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَوَازِنَ بَعْدَ الْفَتْحِ فِي
خَامِسِ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَزَعَمَ أَنَّ الْفَتْحَ كَانَ لِعَشْرٍ
بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَيْهِمْ بِخَمْسَ عَشْرَةَ
لَيْلَةً. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ
فِي
" تَارِيخِهِ ".
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى هَوَازِنَ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ، فَانْتَهَى إِلَى حُنَيْنٍ فِي
عَاشِرِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ
قِلَّةٍ. فَانْهَزَمُوا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ انْهَزَمَ بَنُو سُلَيْمٍ، ثُمَّ
أَهْلُ مَكَّةَ ثُمَّ بَقِيَّةُ النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَمَّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ جَمَعَهَا
مَلِكُهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَعَ هَوَازِنَ
ثَقِيفٌ كُلُّهَا، وَاجْتَمَعَتْ نَصْرُ، وَجُشَمُ كُلُّهَا وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ
وَنَاسٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ وَهُمْ قَلِيلٌ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْ قَيْسِ
عَيْلَانَ إِلَّا هَؤُلَاءِ، وَغَابَ عَنْهَا وَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ
كَعْبٌ وَكِلَابٌ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ لَهُ اسْمٌ، وَفِي بَنِي
جُشَمَ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إِلَّا
التَّيَمُّنَ بِرَأْيِهِ وَمَعْرِفَتَهُ بِالْحَرْبِ، وَكَانَ شَيْخًا مُجَرَّبًا،
وَفِي ثَقِيفٍ سَيِّدَانِ لَهُمْ، وَفِي الْأَحْلَافِ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ
بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتِّبٍ وَفِي بَنِي مَالِكٍ ذُو الْخِمَارِ سُبَيْعُ بْنُ
الْحَارِثِ وَأَخُوهُ أَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ وَجِمَاعُ أَمْرِ النَّاسِ إِلَى
مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النَّصْرِيِّ فَلَمَّا أَجْمَعَ السَّيْرَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَطَّ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ
وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ، فَلَمَّا نَزَلَ بِأَوْطَاسٍ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ
النَّاسُ وَفِيهِمْ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ فِي شِجَارٍ لَهُ يُقَادُ بِهِ،
فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ بِأَيِّ وَادٍ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: بِأَوْطَاسٍ. قَالَ نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ، لَا حَزْنٌ ضَرِسٌ، وَلَا سَهْلٌ دَهِسٌ، مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيِرِ، وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ، وَيُعَارَ الشَّاءِ؟! قَالُوا: سَاقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ. قَالَ: أَيْنَ مَالِكٌ؟ قَالُوا: هَذَا مَالِكٌ. وَدُعِيَ لَهُ. قَالَ: يَا مَالِكُ إِنَّكَ قَدْ أَصْبَحْتَ رَئِيسَ قَوْمِكَ، وَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ كَائِنٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَيَّامِ، مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ، وَنُهَاقَ الْحَمِيِرِ، وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ، وَيُعَارَ الشَّاءِ؟ قَالَ: سُقْتُ مَعَ النَّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلِّ رَجُلٍ أَهْلَهُ وَمَالَهُ لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ. قَالَ: فَأَنْقَضَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: رَاعِي ضَأْنٍ وَاللَّهِ، هَلْ يَرُدُّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ؟ إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ لَكَ لَمْ يَنْفَعْكَ إِلَّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ فُضِحْتَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ. ثُمَّ قَالَ: مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ ؟ قَالَ: لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ. قَالَ: غَابَ الْحَدُّ وَالْجِدُّ، لَوْ كَانَ يَوْمَ عَلَاءٍ وَرِفْعَةٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَكِلَابٌ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ، فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ. قَالَ: ذَانِكَ الْجَذَعَانِ مِنْ عَامِرٍ لَا يَنْفَعَانِ وَلَا يَضُرَّانِ. ثُمَّ قَالَ: يَا مَالِكُ
إِنَّكَ
لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ الْبَيْضَةِ بَيْضَةِ هَوَازِنَ إِلَى نُحُورِ
الْخَيْلِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ دُرَيْدٌ لِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ: ارْفَعْهُمْ
إِلَى مُتَمَنَّعِ بِلَادِهِمْ وَعُلْيَا قَوْمِهِمْ، ثُمَّ أَلْقِ الصُّبَىَّ
عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ لَحِقَ بِكَ مَنْ وَرَاءَكَ، وَإِنْ
كَانَتْ عَلَيْكَ أَلْفَاكَ ذَلِكَ وَقَدْ أَحْرَزْتَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ. قَالَ
وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ، إِنَّكَ قَدْ كَبِرْتَ وَكَبِرَ عَقْلُكَ. ثُمَّ قَالَ
مَالِكٌ: وَاللَّهِ لَتُطِيعُنَّنِي يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ أَوْ لَأَتَّكِئَنَّ
عَلَى هَذَا السَّيْفِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي - وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ
لِدُرَيْدٍ فِيهَا ذِكْرٌ أَوْ رَأْيٌ - فَقَالُوا: أَطَعْنَاكَ. فَقَالَ
دُرَيْدٌ: هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ يَفُتْنِي:
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ أَقُودُ وَطْفَاءَ الزَّمَعْ
كَأَنَّهَا شَاةٌ صَدَعْ
ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ لِلنَّاسِ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونَ
سُيُوفِكُمْ، ثُمَّ شِدُّوا شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ
وَحَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَنَّهُ
حَدَّثَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ بَعَثَ عُيُونًا مِنْ رِجَالِهِ، فَأَتَوْهُ
وَقَدْ تَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُمْ، فَقَالَ: وَيْلَكُمْ، مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا:
رَأَيْنَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، فَوَاللَّهِ مَا تَمَاسَكْنَا
أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى. فَوَاللَّهِ مَا رَدَّهُ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ أَنْ
مَضَى عَلَى مَا يُرِيدُ.
قَالَ
ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْثَ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيَّ
وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي النَّاسِ فَيُقِيمَ فِيهِمْ حَتَّى يَعْلَمَ
عِلْمَهُمْ، ثُمَّ يَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ، فَانْطَلَقَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ
فَدَخَلَ فِيهِمْ فَأَقَامَ فِيهِمْ حَتَّى سَمِعَ وَعَلِمَ مَا قَدْ أَجْمَعُوا
لَهُ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَمِعَ
مِنْ مَالِكٍ وَأَمْرِ هَوَازِنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ
الْخَبَرَ.فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
السَّيْرَ إِلَى هَوَازِنَ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ
أَدْرَاعًا لَهُ وَسِلَاحًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ
فَقَالَ: " يَا أَبَا أُمَيَّةَ أَعِرْنَا سِلَاحَكَ هَذَا نَلْقَ فِيهِ
عَدُوَّنَا غَدًا ". فَقَالَ صَفْوَانُ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ:
" بَلْ عَارِيَةً مَضْمُونَةً حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إِلَيْكَ ". قَالَ:
لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ. فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنَ
السِّلَاحِ، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُمْ حَمْلَهَا فَفَعَلَ هَكَذَا أَوْرَدَ هَذَا ابْنُ
إِسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ.
وَقَدْ رَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
عَنْ أَبِيهِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَالزُّهْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِمْ - قِصَّةَ حُنَيْنٍ فَذَكَرَ
نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، وَقِصَّةَ الْأَدْرَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ أَنَّ
ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ لَمَّا رَجَعَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ هَوَازِنَ كَذَّبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ
لَهُ ابْنُ أَبِي
حَدْرَدٍ:
لَئِنْ كَذَّبْتَنِي يَا عُمَرُ فَرُبَّمَا كَذَّبْتَ بِالْحَقِّ. فَقَالَ عُمَرُ:
أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " قَدْ كُنْتَ
ضَالًّا فَهَدَاكَ اللَّهُ ".
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ،
عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ
أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اسْتَعَارَ مِنْهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَدْرَاعًا فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟
فَقَالَ: " بَلْ عَارِيَةً مَضْمُونَةً " قَالَ: فَضَاعَ بَعْضُهَا،
فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَضْمَنَهَا لَهُ، فَقَالَ: أَنَا الْيَوْمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْإِسْلَامِ
أَرْغَبُ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ
هَارُونَ بِهِ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ عَنْ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ دُرُوعًا، فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ
مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَطَاءٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ أَدْرَاعًا وَأَفْرَاسًا،
وَسَاقَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أُنَاسٍ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
صَفْوَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "
يَا صَفْوَانُ
هَلْ
عِنْدَكَ مِنْ سِلَاحٍ؟ " قَالَ: عَارِيَةً أَمْ غَصْبًا؟ قَالَ: " لَا،
بَلْ عَارِيَةً ". فَأَعَارَهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى
الْأَرْبَعِينَ دِرْعًا، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حُنَيْنًا، فَلَمَّا هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ جُمِعَتْ دُرُوعُ صَفْوَانَ
فَفَقَدَ مِنْهَا أَدْرَاعًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِصَفْوَانَ " قَدْ فَقَدْنَا مِنْ أَدْرَاعِكَ أَدْرَاعًا، فَهَلْ
نَغْرَمُ لَكَ؟ قَالَ لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فِي قَلْبِي الْيَوْمَ مَا
لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ وَهَذَا مُرْسَلٌ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ، فَفَتَحَ اللَّهُ بِهِمْ مَكَّةَ
فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا.
قُلْتُ: وَعَلَى قَوْلِ عُرْوَةَ وَالزُّهْرِيِّ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ يَكُونُ
مَجْمُوعُ الْجَيْشَيْنِ اللَّذَيْنِ سَارَ بِهِمَا إِلَى هَوَازِنَ أَرْبَعَةَ
عَشَرَ أَلْفًا; لَأَنَّهُ قَدِمَ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا إِلَى مَكَّةَ عَلَى قَوْلِهِمْ،
وَأُضِيفَ إِلَيْهِمْ أَلْفَانِ مِنِ الطُّلَقَاءِ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ
أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فِي خَامِسِ شَوَّالٍ، قَالَ: وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
أَهْلِ مَكَّةَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ
عَبْدِ شَمْسٍ الْأُمَوِيَّ.
قُلْتُ: وَكَانَ عُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ:
وَمَضَى رَسُولُ
اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ لِقَاءَ هَوَازِنَ. وَذَكَرَ قَصِيدَةَ
الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا قَوْلُهُ:
أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا مِنِّي رِسَالَةَ نُصْحٍ فِيهِ
تِبْيَانُ
إِنِّي أَظُنُّ رَسُولَ اللَّهِ صَابِحَكُمْ جَيْشًا لَهُ فِي فَضَاءِ الْأَرْضِ
أَرْكَانُ
فِيهِمْ سُلَيْمٌ أَخُوكُمْ غَيْرُ تَارِكِكُمْ وَالْمُسْلِمُونَ عِبَادُ اللَّهِ
غَسَّانُ
وَفِي عِضَادَتِهِ الْيُمْنَى بَنُو أَسَدٍ وَالْأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ
وَذُبْيَانُ
تَكَادُ تَرْجُفُ مِنْهُ الْأَرْضُ رَهْبَتَهُ وَفِي مُقَدَّمِهِ أَوْسٌ
وَعُثْمَانُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَوْسٌ وَعُثْمَانُ قَبِيلَا مُزَيْنَةَ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدُّئِلِيِّ
عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ:خَرَجْنَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ
حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: فَسِرْنَا مَعَهُ إِلَى حُنَيْنٍ.
قَالَ: وَكَانَتْ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْعَرَبِ شَجَرَةٌ
عَظِيمَةٌ خَضْرَاءُ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ. يَأْتُونَهَا كُلَّ سَنَةٍ
فَيُعَلِّقُونَ أَسْلِحَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا، وَيَعْكُفُونَ
عَلَيْهَا يَوْمًا. قَالَ: فَرَأَيْنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِدْرَةً خَضْرَاءَ عَظِيمَةً. قَالَ:
فَتَنَادَيْنَا مِنْ جَنَبَاتِ الطَّرِيقِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا
ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسُ
مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا
كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّهَا السَّنَنُ،
لِتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ
التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ سُفْيَانَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْهُ.
وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي "
تَفْسِيرِهِ " مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا أَبُو تَوْبَةَ ثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ
عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ عَنِ السَّلُولِيِّ
أَنَّهُ حَدَّثَهُ سَهْلُ بْنُ الْحَنْظَلِيَّةِأَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَأَطْنَبُوا
السَّيْرَ حَتَّى كَانَ عَشِيَّةٌ، فَحَضَرَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي انْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ
كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنَا بِهَوَازِنَ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ بِظُعُنِهِمْ
وَبِنَعَمِهِمْ وَشَّائِهِمْ، اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " تِلْكَ غَنِيمَةُ
الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". ثُمَّ قَالَ: " مَنْ
يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ ". قَالَ أَنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ: أَنَا يَا
رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " فَارْكَبْ ". فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ، وَجَاءَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اسْتَقْبِلْ هَذَا الشِّعْبَ
حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلَاهُ وَلَا نُغَرَّنَّ مِنْ قِبَلِكَ اللَّيْلَةَ ".
فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى مُصَلَّاهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ " هَلْ أَحْسَسْتُمْ
فَارِسَكُمْ؟ " قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَحْسَسْنَا. فَثُوِّبَ
بِالصَّلَاةِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُصَلِّي، وَيَلْتَفِتُ إِلَى
الشِّعْبِ،
حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: " أَبْشِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ
فَارِسُكُمْ ". فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إِلَى خِلَالِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ،
وَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَى هَذَا
الشِّعْبِ حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَلَمَّا أَصْبَحْتُ طَلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ
أَحَدًا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
هَلْ نَزَلْتَ اللَّيْلَةَ؟ " قَالَ: لَا، إِلَّا مُصَلِّيًا أَوْ قَاضِيَ
حَاجَةٍ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
قَدْ أَوْجَبَتْ فَلَا عَلَيْكَ أَلَّا تَعْمَلَ بَعْدَهَا " وَهَكَذَا
رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ
الْحَرَّانِيِّ عَنْ أَبِي تَوْبَةَ الرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ بِهِ.
فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْوَقْعَةِ وَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنَ
الْفِرَارِ ثُمَّ كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ:
حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:فَخَرَجَ مَالِكُ
بْنُ عَوْفٍ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى حُنَيْنٍ فَسَبَقَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا، فَأَعَدُّوا وَتَهَيَّئُوا فِي مَضَايِقِ الْوَادِي وَأَحْنَائِهِ، وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى انْحَطَّ بِهِمُ الْوَادِي فِي عَمَايَةِ الصُّبْحِ، فَلَمَّا انْحَطَّ النَّاسُ ثَارَتْ فِي وُجُوهِهِمُ الْخَيْلُ فَشَدَّتْ عَلَيْهِمْ، وَانْكَفَأَ النَّاسُ مُنْهَزِمِينَ لَا يُقْبِلُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَانْحَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ يَقُولُ: أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمُّوا إِلَيَّ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: فَلَا شَيْءَ، وَرَكِبَتِ الْإِبِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ النَّاسِ، وَمَعَهُ رَهْطٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَخُوهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ - وَقِيلَ الْفُضَيْلُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - وَأَيْمَنُ ابْنُ أَمِّ أَيْمَنَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَمِنِ النَّاسِ مَنْ يَزِيدُ فِيهِمْ قُثَمَ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَرَهْطٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَالْعَبَّاسُ آخِذٌ بِحَكَمَةِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَهُوَ عَلَيْهَا قَدْ شَجَرَهَا. قَالَ: وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ، بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ طَوِيلٍ أَمَامَ هَوَازِنَ، وَهَوَازِنُ خَلْفَهُ إِذَا أَدْرَكَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ، وَإِذَا فَاتَهُ النَّاسُ رَفَعَ رُمْحَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ فَاتَّبَعُوهُ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ
كَذَلِكَ
إِذْ هَوَى لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ
يُرِيدَانِهِ. قَالَ: فَيَأْتِي عَلِيٌّ مِنْ خَلْفِهِ فَضَرَبَ عُرْقُوبَيِ
الْجَمَلِ، فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ، وَوَثَبَ الْأَنْصَارِيُّ عَلَى الرَّجُلِ
فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَنَّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ، فَانْعَجَفَ عَنْ
رَحْلِهِ. قَالَ: وَاجْتَلَدَ النَّاسُ، فَوَاللَّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ
النَّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتَّى وَجَدُوا الْأُسَارَى مُكَتَّفِينَ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
وَكَانَ مِمَّنْ صَبَرَ يَوْمَئِذٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَكَانَ حَسَنَ الْإِسْلَامِ حِينَ أَسْلَمَ وَهُوَ آخِذٌ بِثَفَرِ
بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَنْ
هَذَا؟ " قَالَ: ابْنُ أُمِّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ تَكَلَّمَ رِجَالٌ مَنَّ
جُفَاةِ الْأَعْرَابِ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنِ الضِّغْنِ، فَقَالَ أَبُو
سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَكَانَ إِسْلَامُهُ بَعْدُ
مَدْخُولًا،
وَكَانَتِ الْأَزْلَامُ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ -: لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ
الْبَحْرِ، وَصَرَخَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ وَهُوَ مَعَ أَخِيهِ صَفْوَانَ
بْنِ أُمَيَّةَ - يَعْنِي لِأُمِّهِ - وَهُوَ مُشْرِكٌ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي
جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا بَطَلَ
السِّحْرُ الْيَوْمَ. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: اسْكُتْ، فَضَّ اللَّهُ فَاكَ،
فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ
يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا حَمَّادُ
بْنُ سَلَمَةَ أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ هَوَازِنَ جَاءَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ بِالنِّسَاءِ
وَالصِّبْيَانِ وَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، فَجَعَلُوهَا صُفُوفًا يُكَثِّرُونَ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا الْتَقَوْا
وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عِبَادَ اللَّهِ أَنَا
عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ". ثُمَّ قَالَ: " يَا مَعْشَرَ
الْأَنْصَارِ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ " قَالَ: فَهَزَمَ اللَّهُ
الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يُضْرَبْ بِسَيْفٍ وَلَمْ يُطْعَنْ بِرُمْحٍ. قَالَ:
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: "
مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ ". قَالَ: فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ
يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ. وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي ضَرَبْتُ رَجُلًا عَلَى حَبْلِ الْعَاتِقِ وَعَلَيْهِ
دِرْعٌ لَهُ، فَأُجْهِضَتْ عَنْهُ، فَانْظُرْ مَنْ أَخَذَهَا. قَالَ: فَقَامَ
رَجُلٌ فَقَالَ: أَنَا أَخَذْتُهَا، فَأَرْضِهِ مِنْهَا وَأَعْطِنِيهَا. قَالَ:
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُسْأَلُ شَيْئًا
إِلَّا أَعْطَاهُ أَوْ سَكَتَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لَا يُفِيئُهَا اللَّهُ عَلَى أَسَدٍ مِنْ
أُسُدِ اللَّهِ وَيُعْطِيكَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " صَدَقَ عُمَرُ ". قَالَ: وَلَقِيَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ
سُلَيْمٍ وَمَعَهَا خِنْجَرٌ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: إِنْ
دَنَا مِنِّي بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ أَنْ أَبْعَجَ بِهِ بَطْنَهُ. فَقَالَ أَبُو
طَلْحَةَ: أَمَا تَسْمَعُ مَا تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ؟ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْتُلْ مَنْ
بَعْدَنَا مِنَ الطُّلَقَاءِ؛ انْهَزَمُوا بِكَ. فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ
قَدْ كَفَى وَأَحْسَنَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ".
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْهُ قِصَّةَ خِنْجَرِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَأَبُو دَاوُدَ
قَوْلَهُ:مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ بِهِ. وَقَوْلُ عُمَرَ فِي هَذَا مُسْتَغْرَبٌ، وَالْمَشْهُورُ
أَنَّ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ
ثَنَا أَبِي، ثَنَا نَافِعٌ أَبُو غَالِبٍ شَهِدَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ
قَالَ:فَقَالَ الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ الْعَدَوِيُّ: يَا أَبَا حَمْزَةَ بِسِنِّ
أَيِّ الرِّجَالِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ
بُعِثَ؟ فَقَالَ: ابْنَ أَرْبَعِينَ
سَنَةً. قَالَ: ثُمَّ كَانَ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ كَانَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، فَتَمَّتْ لَهُ سِتُّونَ سَنَةً، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. قَالَ: بِسِنِّ أَيِّ الرِّجَالِ هُوَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: كَأَشَبِّ الرِّجَالِ وَأَحْسَنِهِ وَأَجْمَلِهِ وَأَلْحَمِهِ. قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ وَهَلْ غَزَوْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، غَزَوْتُ مَعَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَخَرَجَ الْمُشْرِكُونَ بَكْرَةً، فَحَمَلُوا عَلَيْنَا حَتَّى رَأَيْنَا خَيْلَنَا وَرَاءَ ظُهُورِنَا، وَفِي الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ يَحْمِلُ عَلَيْنَا فَيَدُقُّنَا وَيَحْطِمُنَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ فَوَلَّوْا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى الْفَتْحَ، فَجُعِلَ يُجَاءُ بِهِمْ أُسَارَى رَجُلًا رَجُلًا فَيُبَايِعُونَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ عَلَيَّ نَذْرًا، لَئِنْ جِيءَ بِالرَّجُلِ الَّذِي كَانَ مُنْذُ الْيَوْمِ يَحْطِمُنَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ. قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجِيءَ بِالرَّجُلِ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، تُبْتُ إِلَى اللَّهِ. قَالَ: وَأَمْسَكَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَايِعَهُ لِيُوفِيَ الْآخَرُ نَذَرَهُ. قَالَ: وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَأْمُرَهُ بِقَتْلِهِ، وَيَهَابُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَصْنَعُ شَيْئًا بَايَعَهُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، نَذْرِي؟! قَالَ: " لَمْ أُمْسِكْ عَنْهُ مُنْذُ الْيَوْمِ إِلَّا لِتُوفِيَ نَذْرَكَ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَوْمَأْتَ إِلَيَّ؟ قَالَ: " إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُومِيَ " تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ
أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ ثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ:كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَ حُنَيْنٍ: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدْ بَعْدَ
الْيَوْمِ " إِسْنَادُهُ ثُلَاثِيٌّ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ
يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ثَنَا غُنْدَرٌ ثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ - وَسَأَلَهُ
رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ - فَقَالَ: لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفِرَّ; كَانَتْ هَوَازِنُ رُمَاةً، وَإِنَّا لَمَّا
حَمَلَنَا عَلَيْهِمُ انْكَشَفُوا، فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ،
فَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسِّهَامِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا
سُفْيَانَ آخِذٌ بِزِمَامِهَا، وَهُوَ يَقُولُ: " أَنَا النَّبِيُّ لَا
كَذِبَ ". وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ
وَقَالَ:
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ إِسْرَائِيلُ وَزُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ
الْبَرَاءِ: ثُمَّ نَزَلَ عَنْ بَغْلَتِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ
عَنْ بُنْدَارٍ. زَادَ مُسْلِمٌ: وَأَبِي مُوسَى. كِلَاهُمَا عَنْ غُنْدَرٍ بِهِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ
قَالَ:
ثُمَّ نَزَلَ فَاسْتَنْصَرَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدُ الْمُطَّلِبْ
اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَكَ ". قَالَ الْبَرَاءُ: وَلَقَدْ كُنَّا إِذَا
حَمِيَ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَإِنَّ الشُّجَاعَ الَّذِي يُحَاذِي بِهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَئِذٍ:أَنَا
ابْنُ الْعَوَاتِكِ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَسْفَاطِيُّ ثَنَا
عَمْرُو بْنُ عَوْفٍ الْوَاسِطِيُّ ثَنَا هُشَيْمٌ أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَنْ سَيَابَةَ بْنِ عَاصِمٍ
السُّلَمِيِّأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
يَوْمَ حُنَيْنٍ: " أَنَا ابْنُ الْعَوَاتِكِ ".
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَنْبَأَنَا مَالِكٌ
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي
مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا
الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَضَرَبْتُهُ مِنْ
وَرَائِهِ
عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ بِالسَّيْفِ، فَقَطَعْتُ الدِّرْعَ، وَأَقْبَلَ عَلَيَّ
فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمَّ أَدْرَكَهُ
الْمَوْتُ، فَأَرْسَلَنِي فَلَحِقْتُ عُمَرَ فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟
فَقَالَ: أَمْرُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ رَجَعُوا، وَجَلَسَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا
لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ
لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِثْلَهُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ
جَلَسْتُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِثْلَهُ، فَقُمْتُ فَقَالَ: " مَا لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ "
فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: صَدَقَ، سَلَبُهُ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنِّي.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَاهَا اللَّهِ إِذًا لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ
أُسُدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيَكَ سَلَبَهُ؟!
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَدَقَ فَأَعْطِهِ
". فَأَعْطَانِيهِ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلَمَةَ، فَإِنَّهُ
لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَرَوَاهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ
إِلَّا النَّسَائِيَّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى
أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ:لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ
نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُ رَجُلًا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ، وَآخَرُ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَخْتِلُهُ مِنْ وَرَائِهِ لِيَقْتُلَهُ، فَأَسْرَعْتُ إِلَى الَّذِي يَخْتِلُهُ، فَرَفَعَ يَدَهُ لِيَضْرِبَنِي فَأَضْرِبُ يَدَهُ فَقَطَعْتُهَا، ثُمَّ أَخَذَنِي فَضَمَّنِي ضَمًّا شَدِيدًا حَتَّى تَخَوَّفْتُ، ثُمَّ تَرَكَ فَتَحَلَّلَ، فَدَفَعْتُهُ ثُمَّ قَتَلْتُهُ، وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَانْهَزَمْتُ مَعَهُمْ، فَإِذَا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ. ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلٍ فَلَهُ سَلَبُهُ " فَقُمْتُ لِأَلْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِي، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِي، فَجَلَسْتُ، ثُمَّ بَدَا لِي فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: سِلَاحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِي يَذْكُرُ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنِّي. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَلَّا لَا يُعْطِيهِ أُضَيْبِعًا مِنْ قُرَيْشٍ، وَيَدَعُ أَسَدًا مِنْ أُسُدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ، فَاشْتَرَيْتُ بِهِ خِرَافًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمُسْلِمٌ كِلَاهُمَا عَنْ قُتَيْبَةَ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ أَبِي غَالِبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الْقَائِلَ لِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَلَعَلَّهُ
قَالَهُ
مُتَابَعَةً لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَمُسَاعَدَةً وَمُوَافِقَةً لَهُ، أَوْ
قَدِ اشْتَبَهَ عَلَى الرَّاوِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا الْحَاكِمُ أَنْبَأَنَا
الْأَصَمُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ
بُكَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِأَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ
رَأَى مِنَ النَّاسِ مَا رَأَى: " يَا عَبَّاسُ، نَادِ: يَا مَعْشَرَ
الْأَنْصَارِ، يَا أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ ". فَأَجَابُوهُ: لَبَّيْكَ
لَبَّيْكَ. فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَذْهَبُ لِيَعْطِفَ بِعِيرَهُ، فَلَا يَقْدِرُ
عَلَى ذَلِكَ فَيَقْذِفُ دِرْعَهُ فِي عُنُقِهِ، وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَقَوْسَهُ،
ثُمَّ يَؤُمُّ الصَّوْتَ حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ مِائَةٌ، فَاسْتَعْرَضَ النَّاسَ فَاقْتَتَلُوا،
وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ أَوَّلَ مَا كَانَتْ بِالْأَنْصَارِ، ثُمَّ جُعِلَتْ آخِرًا
بِالْخَزْرَجِ، وَكَانُوا صُبُرًا عِنْدَ الْحَرْبِ، وَأَشْرَفَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَكَائِبِهِ فَنَظَرَ إِلَى مُجْتَلَدِ
الْقَوْمِ فَقَالَ: " الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ ". قَالَ: فَوَاللَّهِ
مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النَّاسِ إِلَّا وَالْأُسَارَى عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَتَّفُونَ، فَقَتَلَ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ
قَتَلَ،
وَانْهَزَمَ مِنْهُمْ مَنِ انْهَزَمَ، وَأَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ..
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ وَذَكَرَ مُوسَى
بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَلِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَكَّةَ وَأَقَرَّ بِهَا
عَيْنَهُ، خَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ، وَخَرَجَ مَعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ لَمْ يُغَادِرْ
مِنْهُمْ أَحَدًا رَكِبَانًا وَمُشَاةً حَتَّى خَرَجَ النِّسَاءُ يَمْشِينَ عَلَى
غَيْرِ دِينٍ نُظَّارًا يَنْظُرُونَ وَيَرْجُونَ الْغَنَائِمَ، وَلَا يَكْرَهُونَ
مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الصَّدْمَةُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، قَالُوا: وَكَانَ مَعَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ
وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً، وَهُوَ مُشْرِكٌ
لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا. قَالُوا: وَكَانَ رَئِيسَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ
مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّصْرِيُّ، وَمَعَهُ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ يَرْعَشُ
مِنَ الْكِبَرِ، وَمَعَهُ النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ وَالنَّعَمُ، فَبَعَثَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي
حَدْرَدٍ عَيْنًا، فَبَاتَ فِيهِمْ، فَسَمِعَ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ يَقُولُ
لِأَصْحَابِهِ: إِذَا أَصْبَحْتُمْ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ
وَاحِدٍ، وَاكْسِرُوا أَغْمَادَ سُيُوفِكُمْ، وَاجْعَلُوا مَوَاشِيَكُمْ صَفًّا
وَنِسَاءَكُمْ صَفًّا. فَلَمَّا أَصْبَحُوا اعْتَزَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَصَفْوَانُ
وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَرَاءَهُمْ يَنْظُرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الدَّائِرَةُ،
وَصَفَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغْلَةً لَهُ شَهْبَاءَ فَاسْتَقْبَلَ الصُّفُوفَ،
فَأَمَرَهُمْ وَحَضَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَبَشَّرَهُمْ بِالْفَتْحِ إِنْ
صَبَرُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ حَمَلَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَجَالَ الْمُسْلِمُونَ جَوْلَةً، ثُمَّ وَلَّوْا
مُدْبِرِينَ، فَقَالَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ: لَقَدْ حَزَرْتُ مَنْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَدْبَرَ النَّاسُ، فَقُلْتُ: مِائَةُ رَجُلٍ. قَالُوا: وَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَقَالَ: أَبْشِرْ بِهَزِيمَةِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَوَاللَّهِ لَا يَجْتَبِرُونَهَا أَبَدًا. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: تُبَشِّرُنِي بِظُهُورِ الْأَعْرَابِ! فَوَاللَّهِ لَرَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَبٍّ مِنَ الْأَعْرَابِ. وَغَضِبَ صَفْوَانُ لِذَلِكَ. قَالَ مُوسَى: وَبَعَثَ صَفْوَانُ غُلَامًا لَهُ فَقَالَ: اسْمَعْ لِمَنِ الشِّعَارُ؟ فَجَاءَهُ فَقَالَ: سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ. فَقَالَ: ظَهَرَ مُحَمَّدٌ. وَكَانَ ذَلِكَ شِعَارَهُمْ فِي الْحَرْبِ. قَالُوا: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا غَشِيَهُ الْقِتَالُ قَامَ فِي الرِّكَابَيْنِ وَهُوَ عَلَى الْبَغْلَةِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ يَدْعُوهُ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَيْنَا ". وَنَادَى أَصْحَابَهُ وَذَمَّرَهُمْ: " يَا أَصْحَابَ الْبَيْعَةِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ اللَّهَ اللَّهَ، الْكَرَّةَ عَلَى نَبِيِّكُمْ ". وَيُقَالُ: حَرَّضَهُمْ فَقَالَ: " يَا أَنْصَارَ اللَّهِ وَأَنْصَارَ رَسُولِهِ، يَا بَنِي الْخَزْرَجِ، يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ". وَأَمَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ يُنَادِي بِذَلِكَ. قَالُوا: وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ، فَحَصَبَ بِهَا وُجُوهَ الْمُشْرِكِينَ وَنَوَاحِيَهُمْ كُلَّهَا، وَقَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ ". وَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ إِلَيْهِ سِرَاعًا يَبْتَدِرُونَ، وَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ ". فَهَزَمَ اللَّهُ أَعْدَاءَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَصَبَهُمْ مِنْهَا، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ، وَغَنَّمَهُمُ اللَّهُ نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَفَرَّ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ حَتَّى دَخَلَ حِصْنَ الطَّائِفِ هُوَ وَأُنَاسٌ
مِنْ
أَشْرَافِ قَوْمِهِ، وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ
حِينَ رَأَوْا نَصْرَ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِعْزَازَهُ دِينَهُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي كَثِيرُ
بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ:شَهِدْتُ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ،
فَلَزِمْتُهُ أَنَا وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ لَا نُفَارِقُهُ، وَرَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ أَهْدَاهَا
لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ الْجُذَامِيُّ فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ وَلَّى
الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ. قَالَ الْعَبَّاسُ: وَأَنَا آخِذٌ
بِلِجَامِهَا أَكُفُّهَا إِرَادَةَ أَنْ لَا تُسْرِعَ وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ
بِرِكَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيْ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ
السَّمُرَةِ ". قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّمَا عَطَفْتُهُمْ حِينَ سَمِعُوا
صَوْتِي عَطْفَةَ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَاهُ يَا
لَبَّيْكَاهُ، قَالَ: فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالْكُفَّارُ، وَالدَّعْوَةُ فِي
الْأَنْصَارِ يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ.
ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا:
يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ، كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى
قِتَالِهِمْ فَقَالَ: " هَذَا حِينُ حَمِيَ الْوَطِيسُ ". ثُمَّ أَخَذَ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ،
ثُمَّ قَالَ: " انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ ". قَالَ: فَذَهَبْتُ
أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللَّهِ
مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا، وَأَمْرَهُمْ
مُدْبِرًا وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ
نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ أَيْضًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ إِيَاسِ بْنِ
سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا، فَلَمَّا وَاجَهْنَا الْعَدُوَّ
تَقَدَّمْتُ فَأَعْلُو ثَنِيَّةً فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْمِيهِ
بِسَهْمٍ، وَتَوَارَى عَنِّي، فَمَا دَرَيْتُ مَا صَنَعَ، ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى
الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ قَدْ طَلَعُوا مِنْ ثَنِيَّةٍ أُخْرَى، فَالْتَقَوْا هُمْ
وَصَحَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَلَّى
أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْجِعُ
مُنْهَزِمًا، وَعَلَيَّ بُرْدَتَانِ مُتَّزِرًا بِإِحْدَاهُمَا مُرْتَدِيًا
بِالْأُخْرَى، قَالَ: فَاسْتَطْلَقَ إِزَارِي فَجَمَعْتُهَا جَمْعًا وَمَرَرْتُ
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُنْهَزِمٌ، وَهُوَ
عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَقَدْ رَأَى ابْنُ الْأَكْوَعِ فَزَعًا ". فَلَمَّا غَشَوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ
قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، وَقَالَ:
" شَاهَتِ الْوُجُوهُ ". فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا
إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا مِنْ تِلْكَ الْقُبْضَةِ، فَوَلَّوْا
مُدْبِرِينَ،
فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ، وَقَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ..
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ ": ثَنَا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
يَسَارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيِّ قَالَ:كُنَّا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُنَيْنٍ، فَسِرْنَا فِي يَوْمٍ
قَائِظٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، فَنَزَلْنَا تَحْتَ ظِلَالِ السَّمُرِ، فَلَمَّا
زَالَتِ الشَّمْسُ لَبِسْتُ لَأْمَتِي، وَرَكِبْتُ فَرَسِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي فُسْطَاطِهِ، فَقُلْتُ:
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، قَدْ
حَانَ الرَّوَاحُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " أَجَلْ ". ثُمَّ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُمْ يَا بِلَالُ
". فَثَارَ مِنْ تَحْتِ سَمُرَةٍ كَأَنَّ ظِلَّهُ ظِلُّ طَائِرٍ فَقَالَ:
لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَأَنَا فِدَاؤُكَ. فَقَالَ: " أَسْرِجْ لِي فَرَسِي
". فَأَتَاهُ بِدَفَّتَيْنِ مِنْ لِيفٍ لَيْسَ فِيهِمَا أَشَرٌ وَلَا بَطَرٌ.
قَالَ: فَرَكِبَ فَرَسَهُ فَسِرْنَا يَوْمَنَا، فَلَقِينَا الْعَدُوَّ،
وَتَشَامَتَ الْخَيْلَانِ، فَقَاتَلْنَاهُمْ فَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَا عِبَادَ اللَّهِ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ
". وَاقْتَحَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
فَرَسِهِ، وَحَدَّثَنِي مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّي أَنَّهُ أَخَذَ
حَفْنَةً مِنَ التُّرَابِ، فَحَثَى بِهَا وَجُوهَ الْعَدُوِّ وَقَالَ: "
شَاهَتِ الْوُجُوهُ ". قَالَ يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ: فَحَدَّثَنَا
أَبْنَاؤُهُمْ عَنْ
آبَائِهِمْ
قَالُوا: مَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا امْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ وَفَمُهُ مِنِ
التُّرَابِ، وَسَمِعْنَا صَلْصَلَةً مِنَ السَّمَاءِ، كَمَرِّ الْحَدِيدِ عَلَى
الطَّسْتِ الْجَدِيدِ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ مُوسَى بْنِ
إِسْمَاعِيلَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ ثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
زِيَادٍ ثَنَا الْحَارِثُ بْنُ حَصِيرَةَ ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَوَلَّى عَنْهُ النَّاسُ، وَثَبَتَ مَعَهُ ثَمَانُونَ
رَجُلًا مَنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَنَكَصْنَا عَلَى أَقْدَامِنَا
نَحْوًا مِنْ ثَمَانِينَ قَدَمًا، وَلَمْ نُوَلِّهِمُ الدُّبُرَ، وَهُمُ الَّذِينَ
أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السِّكِّينَةَ. قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ يَمْضِي قُدُمًا، فَحَادَتْ بِهِ
بَغْلَتُهُ، فَمَالَ عَنِ السَّرْجِ، فَقُلْتُ لَهُ: ارْتَفِعْ رَفْعَكَ اللَّهُ.
فَقَالَ: " نَاوِلْنِي كَفًّا مِنْ تُرَابٍ ". فَضَرَبَ بِهِ وُجُوهَهُمْ
فَامْتَلَأَتْ أَعْيُنُهُمْ تُرَابًا قَالَ " أَيْنَ الْمُهَاجِرُونَ
وَالْأَنْصَارُ؟ " قُلْتُ هُمْ أُولَاءِ. قَالَ: " اهْتِفْ بِهِمْ
". فَهَتَفْتُ بِهِمْ فَجَاءُوا وَسُيُوفُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ كَأَنَّهَا
الشُّهُبُ، وَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ أَدْبَارَهُمْ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنِي
أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ تَمِيمٍ الْقَنْطَرِيُّ ثَنَا
أَبُو قِلَابَةَ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الطَّائِفِيُّ
أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَأَتَى هَوَازِنَ
فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ يَوْمَ حُنَيْنٍ
مِثْلُ مَنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ: وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّا مِنْ حَصًى، فَرَمَى بِهَا وُجُوهَنَا
فَانْهَزَمْنَا. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " تَارِيخِهِ " وَلَمْ
يَنْسِبْ عِيَاضًا.
وَقَالَ مُسَدَّدٌ: ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ثَنَا عَوْفٌ ثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ مَوْلَى أَمِّ بُرْثُنٍ عَمَّنْ شَهِدَ حُنَيْنًا كَافِرًا قَالَ:
لَمَّا الْتَقَيْنَا نَحْنُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُسْلِمُونَ، لَمْ يَقُومُوا لَنَا حَلْبَ شَاةٍ، فَجِئْنَا نَهُشُّ
سُيُوفَنَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
حَتَّى إِذَا غَشِينَاهُ، فَإِذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ رِجَالٌ حِسَانُ
الْوُجُوهِ فَقَالُوا: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَارْجِعُوا. فَهُزِمْنَا مِنْ ذَلِكَ
الْكَلَامِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الشُّعَيْثِيُّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بَدَلٍ النَّصْرِيِّ عَنْ رَجُلٍ
مِنْ قَوْمِهِ شَهِدَ ذَلِكَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَعَمْرِو بْنِ سُفْيَانَ
الثَّقَفِيِّ قَالَ: انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فِلَمْ يَبْقَ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا عَبَّاسٌ وَأَبُو
سُفْيَانَ
بْنُ الْحَارِثِ. قَالَ: فَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَبْضَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ، فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ. قَالَ:
فَانْهَزَمْنَا فَمَا خُيِّلَ إِلَيْنَا إِلَّا أَنَّ كُلَّ حَجَرٍ أَوْ شَجَرِ
فَارِسٌ يَطْلُبُنَا. قَالَ الثَّقَفِيُّ: فَأَعْجَزْتُ عَلَى فَرَسِي حَتَّى
دَخَلْتُ الطَّائِفَ..
وَرَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي " مَغَازِيهِ " عَنْ يُوسُفَ بْنِ
صُهَيْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ اسْمُهُ
زَيْدٌ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْكُدَيْمِيِّ ثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ
ثَنَا سَعِيدُ بْنُ السَّائِبِ بْنِ يَسَارٍ الطَّائِفِيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ
يَسَارٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَامِرٍ السُّوَائِيِّ أَنَّهُ قَالَ:عِنْدَ
انْكِشَافَةٍ انْكَشَفَهَا الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَتَبِعَهُمُ
الْكُفَّارُ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبْضَةً مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَرَمَى بِهَا
وُجُوهَهُمْ وَقَالَ: " ارْجِعُوا شَاهَتِ الْوُجُوهُ ". فَمَا أَحَدٌ
يَلْقَى أَخَاهُ إِلَّا وَهُوَ يَشْكُو قَذًى فِي عَيْنَيْهِ..
ثُمَّ
رَوَى مِنْ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ، عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ
السَّائِبِ بْنِ يَسَارٍ الطَّائِفِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي السَّائِبُ بْنُ يَسَارٍ
سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ عَامِرٍ السُّوَائِيَّ - وَكَانَ شَهِدَ حُنَيْنًا مَعَ
الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدُ - قَالَ: فَنَحْنُ نَسْأَلُهُ عَنِ
الرُّعْبِ الَّذِي أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ
كَيْفَ كَانَ؟ قَالَ: فَكَانَ يَأْخُذُ لَنَا بِحَصَاةٍ فَيَرْمِي بِهَا فِي
الطَّسْتِ فَيَطِنُّ. قَالَ: كُنَّا نَجِدُ فِي أَجْوَافِنَا مِثْلَ هَذَا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَمُحَمَّدُ
بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ
يَعْقُوبَ ثَنَا الْعَبَّاسُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ الْحَضْرَمِيِّ ثَنَا
أَيُّوبُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ
عَنْ أَبِيهِ قَالَ:خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنِي إِسْلَامٌ وَلَا مَعْرِفَةٌ
بِهِ، وَلَكِنْ أَبَيْتُ أَنْ تَظْهَرَ هَوَازِنُ عَلَى قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ
وَأَنَا وَاقِفٌ مَعَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرَى خَيْلًا بُلْقًا.
فَقَالَ: " يَا شَيْبَةُ إِنَّهُ لَا يَرَاهَا إِلَّا كَافِرٌ ". فَضَرَبَ
يَدَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ شَيْبَةَ ". ثُمَّ
ضَرَبَهَا الثَّانِيَةَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ شَيْبَةَ ". ثُمَّ
ضَرَبَهَا الثَّالِثَةَ، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ شَيْبَةَ ".
قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ حَتَّى مَا
كَانَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ
فِي الْتِقَاءِ النَّاسِ، وَانْهِزَامِ الْمُسْلِمِينَ، وَنِدَاءِ الْعَبَّاسِ
وَاسْتِنْصَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى هَزَمَ
اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ
الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا أَبُو
مُحَمَّدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ ثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى
ثَنَا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ
مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ:لَمَّا رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَدْ عُرِّيَ،
ذَكَرْتُ أَبِي وَعَمِّي، وَقَتْلَ عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ إِيَّاهُمَا، فَقُلْتُ:
الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. قَالَ: فَذَهَبْتُ لِأَجِيئَهُ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِذَا أَنَا
بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَائِمًا، عَلَيْهِ دِرْعٌ بَيْضَاءُ
كَأَنَّهَا فِضَّةٌ يَنْكَشِفُ عَنْهَا الْعَجَاجُ، فَقُلْتُ: عَمُّهُ وَلَنْ
يَخْذُلَهُ. قَالَ: ثُمَّ جِئْتُهُ عَنْ يَسَارِهِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي
سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقُلْتُ: ابْنُ عَمِّهِ
وَلَنْ يَخْذُلَهُ. قَالَ: ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ خَلْفِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا
أَنْ أَسَاوِرَهُ سَوْرَةً بِالسَّيْفِ إِذْ رُفِعَ شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ بَيْنِي
وَبَيْنَهُ، كَأَنَّهُ بَرْقٌ، فَخِفْتُ أَنْ يَمْحَشَنِي، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى
بَصَرِي وَمَشَيْتُ الْقَهْقَرَى، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " يَا شَيْبُ يَا شَيْبُ، ادْنُ مِنِّي،
اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الشَّيْطَانَ ". قَالَ فَرَفَعْتُ إِلَيْهِ
بَصَرِي وَلَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي. فَقَالَ: " يَا
شَيْبُ، قَاتِلِ الْكُفَّارَ ".
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ
أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ: قُلْتُ:الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي - وَكَانَ
أَبُوهُ قَدْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ - الْيَوْمَ أَقْتُلُ مُحَمَّدًا. قَالَ: فَأَدَرْتُ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَقْتُلَهُ، فَأَقْبَلَ
شَيْءٌ حَتَّى تَغَشَّى فُؤَادِي،