Translate

مشاري راشد {سورة الطلاق}

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

ج17. البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

ج17. البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

رُسْتُمَ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: هِلَالُ بْنُ عُلَّفَةَ التَّيْمِيُّ. رَمَاهُ رُسْتُمُ بِنُشَّابَةٍ، فَأَصَابَ قَدَمَهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ هِلَالٌ فَقَتَلَهُ وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَوَلَّتِ الْفُرْسُ، فَأَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يُقَتِّلُونَهُمْ، فَأَدْرَكُوهُمْ فِي مَكَانٍ قَدْ نَزَلُوا فِيهِ وَاطْمَأَنُّوا، فَبَيْنَمَا هُمْ سُكَارَى قَدْ شَرِبُوا وَلَعِبُوا إِذْ هَجَمَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَقُتِلَ هُنَالِكَ الْجَالِنُوسُ، قَتَلَهُ زُهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ التَّمِيمِيُّ، ثُمَّ سَارُوا خَلْفَهُمْ فَكُلَّمَا تَوَاجَهَ الْفَرِيقَانِ نَصَرَ اللَّهُ حِزْبَ الرَّحْمَنِ، وَخَذَلَ حِزْبَ الشَّيْطَانِ وَعَبَدَةَ النِّيرَانِ، وَاحْتَازَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا يَعْجَزُ عَنْ حَصْرِهِ مِيزَانٌ وَقَبَّانٌ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَنْ يُقَايِضُ بَيْضَاءَ بِصَفْرَاءَ. لِكَثْرَةِ مَا غَنِمُوا مِنَ الْفُرْسَانِ. وَلَمْ يَزَالُوا يَتْبَعُونَهُمْ حَتَّى جَازُوا الْفُرَاتَ وَرَاءَهُمْ، وَفَتَحُوا الْمَدَائِنَ وَجَلُولَاءَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ أُمِّ كَثِيرٍ امْرَأَةِ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ النَّخَعِيِّ قَالَتْ: شَهِدْنَا الْقَادِسِيَّةَ مَعَ سَعْدٍ مَعَ أَزْوَاجِنَا، فَلَمَّا أَتَانَا أَنْ قَدْ فُرِغَ مِنَ النَّاسِ، شَدَدْنَا عَلَيْنَا ثِيَابَنَا وَأَخَذْنَا الْهَرَاوَى، ثُمَّ أَتَيْنَا الْقَتْلَى، فَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَقَيْنَاهُ وَرَفَعْنَاهُ، وَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَجْهَزْنَا عَلَيْهِ، وَمَعَنَا الصِّبْيَانُ فَنُوَلِّيهِمْ ذَلِكَ. تَعْنِي اسْتِلَابَهُمْ ; لِئَلَّا يَكْشِفْنَ عَنْ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ.
وَقَالَ سَيْفٌ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ شُيُوخِهِ قَالُوا: وَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ يُخْبِرُهُ بِالْفَتْحِ

وَبِعِدَّةِ مَنْ قَتَلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَبِعِدَّةِ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَعَثَ بِالْكِتَابِ مَعَ سَعْدِ بْنِ عُمَيْلَةَ الْفَزَّارِيِّ، وَصُورَتُهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ نَصَرَنَا عَلَى أَهْلِ فَارِسَ، وَمَنَحَهُمْ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ بَعْدَ قِتَالٍ طَوِيلٍ، وَزِلْزَالٍ شَدِيدٍ، وَقَدْ لَقُوا الْمُسْلِمِينَ بِعِدَّةٍ لَمْ يَرَ الرَّاءُونَ مِثْلَ زُهَائِهَا، فَلَمْ يَنْفَعْهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ بَلْ سُلِبُوهُ، وَنَقَلَهُ عَنْهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْأَنْهَارِ، وَصُفُوفِ الْآجَامِ، وَفِي الْفِجَاحِ، وَأُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدِ الْقَارِّيُّ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَرِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، فَإِنَّهُ بِهِمْ عَالِمٌ، كَانُوا يُدَوُّونَ بِالْقُرْآنِ إِذَا جَنَّ عَلَيْهِمُ اللَّيْلُ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، وَهُمْ آسَادٌ فِي النَّهَارِ لَا تُشْبِهُهُمُ الْأُسُودُ، وَلَمْ يُفَضُلْ مَنْ مَضَى مِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ إِلَّا بِفَضْلِ الشَّهَادَةِ إِذَا لَمْ تُكْتَبُ لَهُمْ. فَيُقَالُ: إِنَّ عُمَرَ قَرَأَ هَذِهِ الْبِشَارَةَ عَلَى النَّاسِ فَوْقَ الْمِنْبَرِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ لِلنَّاسِ: إِنِّي حَرِيصٌ عَلَى أَنْ لَا أَرَى حَاجَةً إِلَّا سَدَدْتُهَا مَا اتَّسَعَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ، فَإِذَا عَجَزَ ذَلِكَ عَنَّا تَأَسَّيْنَا فِي عَيْشِنَا حَتَّى نَسْتَوِيَ فِي الْكَفَافِ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّكُمْ عَلِمْتُمْ مِنْ نَفْسِي مِثْلَ الَّذِي وَقَعَ فِيهَا لَكُمْ، وَلَسْتُ مُعْلِمَكُمْ إِلَّا بِالْعَمَلِ، إِنِّي وَاللَّهِ لَسْتُ بِمَلِكٍ فَأَسْتَعْبِدَكُمْ، وَلَكِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، عَرَضَ عَلَيَّ الْأَمَانَةَ، فَإِنْ أَبَيْتُهَا وَرَدَدْتُهَا عَلَيْكُمْ وَاتَّبَعْتُكُمْ حَتَّى تَشْبَعُوا فِي بُيُوتِكُمْ وَتَرْوَوْا سَعِدْتُ بِكُمْ، وَإِنْ أَنَا حَمَلْتُهَا وَاسْتَتْبَعْتُهَا إِلَى بَيْتِي شَقِيتُ بِكُمْ، فَفَرِحْتُ

قَلِيلًا وَحَزِنَتْ طَوِيلًا، فَبَقِيتُ لَا أُقَالُ وَلَا أُرَدُّ فَأُسْتَعْتَبَ.
وَقَالَ سَيْفٌ عَنْ شُيُوخِهِ قَالُوا: وَكَانَتِ الْعَرَبُ مِنَ الْعُذَيْبِ إِلَى عَدَنِ أَبْيَنَ يَتَرَبَّصُونَ وَقْعَةَ الْقَادِسِيَّةَ هَذِهِ، يَرَوْنَ أَنَّ ثَبَاتَ مُلْكِهِمْ وَزَوَالَهُ بِهَا، وَقَدْ بَعَثَ أَهْلُ كُلِّ بَلْدَةٍ قَاصِدًا يَكْشِفُ مَا يَكُونُ مِنْ خَبِرِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ مَا كَانَ مِنَ الْفَتْحِ سَبَقَتِ الْجِنُّ بِالْبِشَارَةِ إِلَى أَقْصَى الْبِلَادِ قَبْلَ رُسُلِ الْإِنْسِ، فَسُمِعَتِ امْرَأَةٌ لَيْلًا بِصَنْعَاءَ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَهِيَ تَقُولُ:
فَحُيِّيتِ عَنَّا عِكْرِمَ ابْنَةَ خَالِدٍ وَمَا خَيْرُ زَادٍ بِالْقَلِيلِ الْمُصَرِّدِ
وَحَيَّتْكِ عَنِّي الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَحَيَّاكِ عَنِّي كُلُّ نَاجٍ مُفَرَّدِ
وَحَيَّتْكِ عَنِّي عُصْبَةٌ نَخَعِيَّةٌ حِسَانُ الْوُجُوهِ آمَنُوا بِمُحَمَّدِ
أَقَامُوا لِكِسْرَى يَضْرِبُونَ جُنُودَهُ بِكُلِّ رَقِيقِ الشَّفْرَتَيْنِ مُهَنَّدِ
إِذَا ثَوَّبَ الدَّاعِي أَنَاخُوا بِكَلْكَلٍ مِنَ الْمَوْتِ مُسْوَدِّ الْغَيَاطِلِ أَجْرَدِ
قَالُوا: وَسَمِعَ أَهْلُ الْيَمَامَةِ مُجْتَازًا يُغَنِّي بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
وَجَدْنَا الْأَكْثَرِينَ بَنِي تَمِيمٍ غَدَاةَ الرَّوْعِ أَكْثَرَهُمْ رِجَالَا
هُمُ سَارُوا بِأَرْعَنَ مُكْفَهِرٍّ إِلَى لَجَبٍ فَزَرَّتْهُمْ رِعَالَا
بُحُورٌ لِلْأَكَاسِرِ مِنْ رِجَالٍ كَأُسْدِ الْغَابِ تَحْسَبُهُمْ جِبَالَا

تَرَكْنَ لَهُمْ بِقَادِسَ عِزَّ فَخْرٍ
وَبِالْخَيْفَيْنِ أَيَّامًا طِوَالَا مُقَطَّعَةً أَكُفُّهُمُ وَسُوقٌ
بِمُرْدٍ حَيْثُ قَابَلَتِ الرَّجَّالَا
قَالُوا: وَسُمِعَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ بِلَادِ الْعَرَبِ.
وَقَدْ كَانَتْ بِلَادُ الْعِرَاقِ بِكَامِلِهَا الَّتِي فَتَحَهَا خَالِدٌ نَقَضَتِ الْعُهُودَ وَالذِّمَمَ وَالْمَوَاثِيقَ الَّتِي كَانُوا أَعْطَوْهَا خَالِدًا سِوَى أَهْلِ بَانِقْيَا وَبَارُوسْمَا وَأَهْلِ أُلَّيْسٍ الْآخِرَةِ، ثُمَّ عَادَ الْجَمِيعُ بَعْدَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا، وَادَّعَوْا أَنَّ الْفُرْسَ أَجْبَرُوهُمْ عَلَى نَقْضِ الْعُهُودِ، وَأَخَذُوا مِنْهُمُ الْخَرَاجَ وَغَيْرَ ذَلِكَ. فَصَدَّقُوهُمْ فِي ذَلِكَ ; تَأَلُّفًا لِقُلُوبِهِمْ، وَسَنَذْكُرُ حُكْمَ أَهْلِ السَّوَادِ فِي كِتَابِنَا " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَهَبَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّ وَقْعَةَ الْقَادِسِيَّةِ كَانَتْ فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ. وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ. وَأَمَّا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ وَجَمَاعَةٌ فَذَكَرُوهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَفِيهَا ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْوَاقِدِيُّ: وَفِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ جَمَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي التَّرَاوِيحِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْهَا، وَكَتَبَ إِلَى سَائِرِ الْأَمْصَارِ يَأْمُرُهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَنْزِلَ بِهَا بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَطْعِ مَادَّةِ أَهْلِ فَارِسَ عَنِ الَّذِينَ بِالْمَدَائِنِ وَنَوَاحِيهَا مِنْهُمْ، فِي قَوْلِ الْمَدَائِنِيِّ. وَرِوَايَتُهُ قَالَ: وَزَعَمَ سَيْفٌ أَنَّ الْبَصْرَةَ إِنَّمَا مُصِّرَتْ فِي رَبِيعٍ مِنْ سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَأَنَّ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ إِنَّمَا خَرَجَ إِلَى الْبَصْرَةِ مِنَ الْمَدَائِنِ بَعْدَ فَرَاغِ سَعْدٍ مِنْ جَلُولَاءَ وَتَكْرِيتَ، وَجَّهَهُ إِلَيْهَا سَعْدٌ بِأَمْرِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ مَجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: إِنَّ عُمَرَ بَعَثَ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ إِلَى أَرْضِ الْبَصْرَةِ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَسَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَعْرَابِ مَا كَمَّلَ مَعَهُ خَمْسَمِائَةٍ، فَنَزَلَهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَالْبَصْرَةُ يَوْمَئِذٍ تُدْعَى أَرْضَ الْهِنْدِ، فِيهَا حِجَارَةٌ بِيضُ خَشِنَةٌ، وَجَعَلَ يَرْتَادُ لَهُمْ مَنْزِلًا حَتَّى جَاءُوا حِيَالَ الْجِسْرِ الصَّغِيرِ، فَإِذَا فِيهِ حَلَفٌ وَقَصَبٌ نَابِتٌ فَنَزَلُوا، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ صَاحِبُ الْفُرَاتِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ أُسْوَارٍ، فَالْتَقَاهُ عُتْبَةُ بَعْدَمَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا الْفُرْسَ عَنْ آخِرِهِمْ، وَأَسَرُوا صَاحِبَ الْفُرَاتِ، وَقَامَ عُتْبَةُ خَطِيبًا فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصُرْمٍ، وَوَلَّتْ حَذَّاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارِ الْقَرَارِ، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا

بِحَضْرَتِكُمْ، فَقَدْ ذُكِرَ لِي لَوْ أَنَّ صَخْرَةً أُلْقِيَتْ مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ هَوَتْ سَبْعِينَ خَرِيفًا وَلَتَمْلَأْنَّهُ، أَوَعَجِبْتُمْ ؟ ! وَلَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَيَأْتِينَ عَلَيْهِ يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا سَابِعُ سَبْعَةٍ، وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ السَّمُرِ، حَتَّى تَقَرَّحَتْ أَشْدَاقُنَا، وَالْتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدٍ فَمَا مِنَّا مِنْ أُولَئِكَ السَّبْعَةِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا هُوَ أَمِيرٌ عَلَى مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ، وَسَتُجَرِّبُونَ النَّاسَ بَعْدَنَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ.
وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ، أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ حِينَ وَجَّهَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ: يَا عُتْبَةُ إِنِّي اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَى أَرْضِ الْهِنْدِ، وَهِيَ حَوْمَةٌ مِنْ حَوْمَةِ الْعَدُوِّ، وَأَرْجُو أَنْ يَكْفِيَكَ اللَّهُ مَا حَوْلَهَا، وَأَنْ يُعِينَكَ عَلَيْهَا، وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ يُمِدُّكَ بِعَرْفَجَةَ بْنِ هَرْثَمَةَ، فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ فَاسْتَشِرْهُ وَقَرِّبْهُ، وَادْعُ إِلَى اللَّهِ، فَمَنْ أَجَابَكَ فَاقْبَلْ مِنْهُ وَمَنْ أَبَى فَالْجِزْيَةُ عَنْ صِغَارٍ وَذِلَّةٍ، وَإِلَّا فَالسَّيْفُ فِي غَيْرِ هَوَادَةٍ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا وُلِّيتَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُنَازِعَكَ نَفْسُكَ إِلَى كِبْرٍ فَتُفْسِدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكِ، وَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَزَزْتَ بِهِ بَعْدَ الذِّلَّةِ، وَقَوِيتَ بِهِ بَعْدَ الضَّعْفِ، حَتَّى صِرْتَ أَمِيرًا مُسَلَّطًا، وَمَلِكًا مُطَاعًا، تَقُولُ فَيُسْمَعُ مِنْكَ، وَتَأْمُرُ فَيُطَاعُ أَمْرُكَ، فَيَا لَهَا نِعْمَةٍ إِنْ لَمْ تَرْقَ فَوْقَ قَدْرِكَ وَتَبْطَرْ عَلَى مَنْ دُونَكَ، احْتَفِظْ مِنَ النِّعْمَةِ احْتِفَاظَكَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَهِيَ أَخْوَفُهُمَا عِنْدِي عَلَيْكَ أَنْ تَسْتَدْرِجَكَ وَتَخْدَعَكَ فَتَسْقُطَ سَقْطَةً فَتَصِيرَ بِهَا إِلَى جَهَنَّمَ،

أُعِيذُكَ بِاللَّهِ وَنَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، إِنَّ النَّاسَ أَسْرَعُوا إِلَى اللَّهِ حَتَّى رُفِعَتْ لَهُمُ الدُّنْيَا فَأَرَادُوهَا، فَأَرِدِ اللَّهَ وَلَا تُرِدِ الدُّنْيَا، وَاتَّقِ مَصَارِعَ الظَّالِمِينَ.
وَقَدْ فَتَحَ عُتْبَةُ الْأُبُلَّةَ فِي رَجَبٍ أَوْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَمَّا مَاتَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْمَلَ عُمَرُ عَلَى الْبَصْرَةِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ سَنَتَيْنِ، فَلَمَّا رُمِيَ بِمَا رُمِيَ بِهِ عَزَلَهُ وَوَلَّى عَلَيْهَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ابْنَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ فِي الشَّرَابِ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ، وَفِيهَا ضَرَبَ أَبَا مِحْجَنٍ الثَّقَفِيَّ فِي الشَّرَابِ أَيْضًا سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَضَرَبَ مَعَهُ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ. وَفِيهَا نَزَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِ الْكُوفَةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. قَالَ: وَكَانَ بِمَكَّةَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ، وَبِالشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَبِالْبَحْرَيْنِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَقِيلَ: الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ. وَعَلَى الْعِرَاقِ سَعْدٌ، وَعَلَى عُمَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ.
فَفِيهَا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فِي قَوْلٍ، وَالصَّحِيحُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرِ بْنِ وُهَيْبٍ الْمَازِنِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، صَحَابِيٌّ بَدْرِيٌّ، وَأَسْلَمَ قَدِيمًا بَعْدَ سَنَةٍ، وَهَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اخْتَطَّ الْبَصْرَةَ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ، وَإِمْرَتُهُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَهُ فَضَائِلُ

وَمَآثِرُ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: سَنَةَ عِشْرِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَاوَزَ الْخَمْسِينَ. وَقِيلَ: بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، وَيُقَالُ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ. صَحَابِيٌّ مُهَاجِرٌ، هَاجَرَ بَعْدَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ الْقُرْآنَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَيُقَالُ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرَّةً. وَشَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ مَعَ سَعْدٍ زَمَنَ عُمَرَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ قُتِلَ بِهَا شَهِيدًا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتُوفِي بِهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ ضَمْضَمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ الشَّيْبَانِيُّ، نَائِبُ خَالِدٍ عَلَى الْعِرَاقِ، وَهُوَ الَّذِي صَارَتْ إِلَيْهِ الْإِمْرَةُ بَعْدَ أَبِي عُبَيْدٍ يَوْمَ الْجِسْرِ، فَدَارَى بِالْمُسْلِمِينَ حَتَّى خَلَّصَهُمْ مِنَ الْفُرْسِ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ أَحَدَ الْفُرْسَانِ الْأَبْطَالِ، وَهُوَ الَّذِي رَكِبَ إِلَى الصِّدِّيقِ فَحَرَّضَهُ عَلَى غَزْوِ الْعِرَاقِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ تَزَوَّجَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِامْرَأَتِهِ سَلْمَى بِنْتِ حَفْصٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِهِ " الْغَابَةِ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ ".
أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ، أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ حَفِظُوا الْقُرْآنَ مَنِ الْأَنْصَارِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُمْ: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ. قَالَ أَنَسٌ:

أَحَدُ عُمُومَتِي. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَاسْمُ أَبِي زَيْدٍ هَذَا قَيْسُ بْنُ السَّكَنِ بْنِ قَيْسِ بْنِ زَعُورَاءَ بْنِ حَرَامِ بْنِ جُنْدُبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، شَهِدَ بَدْرًا. قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ. وَهِيَ عِنْدَهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: أَبُو زَيْدٍ الَّذِي جَمَعَ الْقُرْآنَ سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ. وَرَدُّوا هَذَا بِرِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: افْتَخَرَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ. فَقَالَتِ الْأَوْسُ: مِنَّا غَسِيلُ الْمَلَائِكَةِ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ، وَمِنَّا الَّذِي حَمَتْهُ الدَّبْرُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، وَمِنَّا الَّذِي اهْتَزَّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَمِنَّا الَّذِي جُعِلَتْ شَهَادَتُهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ. فَقَالَتِ الْخَزْرَجُ: مِنَّا أَرْبَعَةٌ جَمَعُوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أُبَيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمُعَاذٌ، وَأَبُو زَيْدٍ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
أَبُو عُبَيْدِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرٍو الثَّقَفِيُّ، وَالِدُ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ أَمِيرِ الْعِرَاقِ، وَوَالِدُ صَفِيَّةَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَسْلَمَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الصَّحَابَةِ.
قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لَهُ رِوَايَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

أَبُو قُحَافَةَ وَالِدُ الصِّدِّيقِ، وَاسْمُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَخْرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، أَسْلَمَ أَبُو قُحَافَةَ عَامَ الْفَتْحِ، فَجَاءَ بِهِ الصِّدِّيقُ يَقُودُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلَّا أَقْرَرْتُمُ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى كُنَّا نَحْنُ نَأْتِيهِ. تَكْرِمَةً لِأَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: بَلْ هُوَ أَحَقُّ بِالسَّعْيِ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَأْسُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، وَدَعَا لَهُ، وَقَالَ: غَيِّرُوا هَذَا الشَّيْبَ بِشَيْءٍ، وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى الصِّدِّيقِ، أَخْبَرَهُ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ وَهُوَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: وَأَقَرَّتْ بِذَلِكَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو مَخْزُومٍ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. ثُمَّ أُصِيبَ بِابْنِهِ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو قُحَافَةَ فِي مُحَرَّمٍ، وَقِيلَ: فِي رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ بِمَكَّةَ. عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَمِمَّنْ ذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ مِنَ الْمُسْتَشْهَدِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُرَتَّبِينَ عَلَى الْحُرُوفِ:
أَوْسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكٍ. قُتِلَ يَوْمَ الْجِسْرِ. بَشِيرُ بْنُ عَنْبَسِ بْنِ يَزِيدَ الظُّفَرِيُّ أُحُدِيٌّ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، وَيُعْرَفُ بِفَارِسِ الْحَوَّاءِ ; اسْمِ فَرَسِهِ. ثَابِتُ بْنُ عَتِيكٍ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ، صَحَابِيٌّ، قُتِلَ يَوْمَ الْجِسْرِ. ثَعْلَبَةُ بْنُ عَمْرِو

بْنِ مِحْصَنٍ النَّجَّارِيُّ بَدْرِيٌّ، قَتِلَ يَوْمَئِذٍ. الْحَارِثُ بْنُ عَتِيكِ بْنِ النُّعْمَانِ النَّجَّارِيُّ، شَهِدَ أُحُدًا، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ. الْحَارِثُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ عَبْدَةَ، صَحَابِيٌّ أَنْصَارِيٌّ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ. الْحَارِثُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ مَالِكٍ، أَنْصَارِيُّ أُحُدِيُّ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ. خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، قِيلَ: إِنَّهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ مَرْجِ الصُّفَّرِ، وَكَانَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فِي قَوْلٍ. خُزَيْمَةُ بْنُ أَوْسٍ الْأَشْهَلِيُّ، قُتِلَ يَوْمَ الْجِسْرِ. رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَرَّخَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ابْنُ قَانِعٍ. زَيْدُ بْنُ سُرَاقَةَ، يَوْمَ الْجِسْرِ. سَعْدُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ الْأَشْهَلِيُّ. سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فِي قَوْلٍ. سَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ، يَوْمَ الْجِسْرِ. سَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ، يَوْمَ مَرْجِ الصُّفَّرِ وَقَدْ كَانَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فِي قَوْلٍ. سَلِيطُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ، يَوْمَ الْجِسْرِ. ضَمْرَةُ بْنُ غَزِيَّةَ، يَوْمَ الْجِسْرِ. عَبَّادٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بَنُو مِرْبَعِ بْنِ قَيْظِيِّ، قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَعْصَعَةَ بْنِ وَهْبٍ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْغَابَةِ ": وَقُتِلَ يَوْمَ الْجِسْرِ. عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، تَقَدَّمَ. عُقْبَةُ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ، حَضَرَا الْجِسْرَ مَعَ أَبِيهِمَا قِيظِيِّ بْنِ قَيْسٍ، وَقُتِلَا يَوْمَئِذٍ. الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي قَوْلٍ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا. وَسَيَأْتِي. عُمَرُ بْنُ أَبِي الْيَسَرِ، قُتِلَ يَوْمَ الْجِسْرِ. قَيْسُ بْنُ السَّكَنِ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، تَقَدَّمَ. الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ الشَّيْبَانِيُّ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،

رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. نَافِعُ بْنُ غَيْلَانَ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ. نَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ، قِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَالْمَشْهُورُ قَبْلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ. وَاقَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قُتِلَ يَوْمَ... يَزِيدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ الْأَنْصَارِيُّ الظُّفَرِيُّ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، قُتِلَ يَوْمَ الْجِسْرِ. وَقَدْ أَصَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ جِرَاحَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ أَبُوهُ شَاعِرًا مَشْهُورًا. أَبُو عُبَيْدِ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، أَمِيرُ يَوْمِ الْجِسْرِ، وَبِهِ عُرِفَ ; لِقَتْلِهِ عِنْدَهُ، تَخَبَّطَهُ الْفِيلُ حَتَّى قَتَلَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَعْدَمَا قَطَعَ بِسَيْفِهِ خُرْطُومَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. أَبُو قُحَافَةَ التَّيْمِيُّ وَالِدُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ أُمَيَّةَ الْأُمَوِيَّةُ، وَالِدَةُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ مِنْ سَيِّدَاتِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، ذَاتَ رَأْيٍ وَدَهَاءٍ وَرِيَاسَةٍ فِي قَوْمِهَا، وَقَدْ شَهِدَتْ يَوْمَ أُحُدٍ مَعَ زَوْجِهَا، وَكَانَ لَهَا تَحْرِيضٌ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ، وَلَمَّا قُتِلَ حَمْزَةُ مَثَّلَتْ بِهِ، وَأَخَذَتْ مِنْ كَبِدِهِ فَلَاكَتْهَا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ إِسَاغَتَهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ قَتَلَ أَبَاهَا وَأَخَاهَا يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ أَسَلَمَتْ - وَحَسُنَ إِسْلَامُهَا - عَامَ الْفَتْحِ بَعْدَ زَوْجِهَا بِلَيْلَةٍ، وَلَمَّا أَرَادَتِ الذَّهَابَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتُبَايِعَهُ اسْتَأْذَنَتْ أَبَا سُفْيَانَ، فَقَالَ لَهَا: قَدْ كُنْتِ بِالْأَمْسِ مُكَذِّبَةً بِهَذَا الْأَمْرِ. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ اللَّهَ عُبِدَ حَقَّ عِبَادَتِهِ بِهَذَا الْمَسْجِدِ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَاللَّهِ لَقَدْ بَاتُوا لَيْلَهُمْ كُلُّهُمْ يُصَلُّونَ فِيهِ. فَقَالَ لَهَا: إِنَّكِ قَدْ فَعَلْتِ مَا فَعَلْتِ فَلَا تَذْهَبِي وَحْدَكِ. فَذَهَبَتْ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - وَيُقَالُ:

إِلَى أَخِيهَا أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ - فَذَهَبَ مَعَهَا، فَدَخَلَتْ وَهِيَ مُتَنَقِّبَةً، فَلَمَّا بَايَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ قَالَ: " عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقْنَ وَلَا تَزْنِينَ " فَقَالَتْ: أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ ؟ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ قَالَتْ: قَدْ رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا فَقَتَلْتَهُمْ كِبَارًا. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فَبَادَرَتْ وَقَالَتْ: فِي مَعْرُوفٍ. فَقَالَ: فِي مَعْرُوفٍ. وَهَذَا مِنْ فَصَاحَتِهَا وَحَزْمِهَا، وَقَدْ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَاءِكَ، فَقَدْ وَاللَّهِ أَصْبَحَ الْيَوْمَ وَمَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَاءِكَ. فَقَالَ: وَكَذَلِكَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ. وَشَكَتْ مِنْ شُحِّ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ مَا يَكْفِيهَا وَيَكْفِي بَنِيهَا بِالْمَعْرُوفِ. وَقِصَّتُهَا مَعَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ شَهِدَتِ الْيَرْمُوكَ مَعَ زَوْجِهَا، وَمَاتَتْ يَوْمَ مَاتَ أَبُو قُحَافَةَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهَا مَصَّرَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ الْكُوفَةَ، دَلَّهُمْ عَلَيْهَا ابْنُ بُقَيْلَةَ، قَالَ لِسَعْدٍ: أَدُلُّكَ عَلَى أَرْضٍ ارْتَفَعَتْ عَنِ الْبَقِّ، وَانْحَدَرَتْ عَنِ الْفَلَاةِ ؟ فَدَلَّهُمْ عَلَى مَوْضِعِ الْكُوفَةِ الْيَوْمَ. قَالَ: وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ مَرْجِ الرُّومِ ; وَذَلِكَ لَمَّا انْصَرَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَخَالِدٌ مِنْ وَقْعَةِ فِحْلٍ قَاصِدِينَ إِلَى حِمْصَ، حَسَبَ مَا أَمَرَ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، فَسَارَا حَتَّى نَزَلَا عَلَى ذِي الْكَلَاعِ، فَبَعَثَ هِرَقْلُ بِطْرِيقًا يُقَالُ لَهُ: تُوذَرَا. فِي جَيْشٍ مَعَهُ. فَنَزَلَ بِمَرْجِ دِمَشْقَ وَغَرْبِيِّهَا، وَقَدْ هَجَمَ الشِّتَاءُ، فَبَدَأَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَرْجِ الرُّومِ، وَجَاءَ أَمِيرٌ آخَرُ مِنَ الرُّومِ يُقَالُ لَهُ: شَنَسُ. وَعَسْكَرٌ مَعَهُ كَثِيفٌ، فَنَازَلَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فَاشْتَغَلُوا بِهِ عَنْ تُوذَرَا، فَسَارَ تُوذَرَا نَحْوَ دِمَشْقَ لِيُنَازِلَهَا وَيَنْتَزِعَهَا مِنْ يَدِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَأَتْبَعُهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَبَرَزَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ دِمَشْقَ، فَاقْتَتَلُوا، وَجَاءَ خَالِدٌ وَهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ فَجَعَلَ يُقَتِّلُهُمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَيَزِيدُ يُقَصِّلُ فِيهِمْ مِنْ أَمَامِهِمْ، حَتَّى أَنَامُوهُمْ وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّارِدُ، وَقَتَلَ خَالِدٌ تُوذَرَا، وَأَخَذُوا مِنَ الرُّومِ أَمْوَالًا عَظِيمَةً فَاقْتَسَمَاهَا، وَرَجَعَ يَزِيدُ إِلَى دِمَشْقَ وَانْصَرَفَ خَالِدٌ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَجَدَهُ قَدْ وَاقَعَ شَنَسَ بِمَرْجِ الرُّومِ، فَقَتَلَهُمْ فِيهِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً حَتَّى أَنْتَنَتِ الْأَرْضُ مِنْ زَهَمِهِمْ، وَقَتَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ شَنَسَ، وَرَكِبُوا أَكْتَافَهُمْ إِلَى حِمْصَ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا يُحَاصِرُهَا.

وَقْعَةُ حِمْصَ الْأُولَى.
لَمَّا وَصَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي اتِّبَاعِهِ الرُّومَ الْمُنْهَزِمِينَ إِلَى حِمْصَ، نَزَلَ حَوْلَهَا يُحَاصِرُهَا، وَلَحِقَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَحَاصَرُوهَا حِصَارًا شَدِيدًا، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ الْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَصَابَرَ أَهْلُ الْبَلَدِ ; رَجَاءَ أَنْ يَصْرِفَهُمْ عَنْهُمْ شِدَّةُ الْبَرْدِ، وَصَبَرَ الصَّحَابَةُ صَبْرًا عَظِيمًا، بِحَيْثُ إِنَّهُ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ مِنَ الرُّومِ مَنْ كَانَ يَرْجِعُ وَقَدْ سَقَطَتْ رِجْلُهُ وَهِيَ فِي الْخُفِّ، وَالصَّحَابَةُ لَيْسَ فِي أَرْجُلِهِمْ شَيْءٌ سِوَى النِّعَالِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُصَبْ مِنْهُمْ قَدَمٌ وَلَا أُصْبُعٌ أَيْضًا، وَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى انْسَلَخَ فَصْلُ الشِّتَاءِ فَاشْتَدَّ الْحِصَارُ، وَأَشَارَ بَعْضُ كِبَارِ أَهْلِ حِمْصَ عَلَيْهِمْ بِالْمُصَالَحَةِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ وَقَالُوا: أَنُصَالِحُ وَالْمَلِكُ مِنَّا قَرِيبٌ ؟ فَيُقَالُ: إِنَّ الصَّحَابَةَ كَبَّرُوا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ تَكْبِيرَةً ارْتَجَّتْ مِنْهَا الْمَدِينَةُ حَتَّى تَفَطَّرَتْ مِنْهَا بَعْضُ الْجُدْرَانِ، ثُمَّ تَكْبِيرَةً أُخْرَى فَسَقَطَتْ بَعْضُ الدُّورِ، فَجَاءَتْ عَامَّتُهُمْ إِلَى خَاصَّتِهِمْ فَقَالُوا: أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى مَا نَزَلْ بِنَا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ ؟ أَلَا تُصَالِحُونَ الْقَوْمَ عَنَّا ؟ قَالَ: فَصَالَحُوهُمْ عَلَى مَا صَالَحُوا عَلَيْهِ أَهْلَ دِمَشْقَ ; عَلَى نِصْفِ الْمَنَازِلِ، وَضَرْبِ الْخَرَاجِ عَلَى الْأَرَاضِي، وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ عَلَى الرِّقَابِ بِحَسَبِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَبَعَثَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِالْأَخْمَاسِ وَالْبِشَارَةِ إِلَى عُمَرَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. وَأَنْزَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِحِمْصَ جَيْشًا كَثِيفًا يَكُونُ بِهَا، مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْهُمْ بِلَالٌ وَالْمِقْدَادُ، وَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى عُمَرَ يُخْبِرُهُ بِأَنَّ هِرَقْلَ قَدْ قَطَعَ الْمَاءَ إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَأَنَّهُ يَظْهَرُ تَارَةً وَيَخْفَى أُخْرَى. فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُمَرُ يَأْمُرُهُ بِالْمُقَامِ بِبَلَدِهِ.

وَقْعَةُ قِنَّسْرِينَ.
لَمَّا فَتَحَ أَبُو عُبَيْدَةَ حِمْصَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى قِنَّسْرِينَ، فَلَمَّا جَاءَهَا ثَارَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا وَمَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَقَاتَلَهُمْ خَالِدٌ فِيهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، فَأَمَّا مَنْ هُنَاكَ مِنَ الرُّومِ فَأَبَادَهُمْ، وَقَتَلَ أَمِيرَهُمْ مِينَاسَ، وَأَمَّا الْأَعْرَابُ فَإِنَّهُمُ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا الْقِتَالَ لَمْ يَكُنْ عَنْ رَأْيِنَا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ خَالِدٌ وَكَفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ خَلَصَ إِلَى الْبَلَدِ فَتَحَصَّنُوا فِيهِ، فَقَالَ لَهُمْ خَالِدٌ: إِنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ فِي السَّحَابِ لَحَمَلَنَا اللَّهُ إِلَيْكُمْ أَوْ لَأَنْزَلَكُمْ إِلَيْنَا. وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى فَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ مَا صَنَعَهُ خَالِدٌ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ كَانَ أَعْلَمَ بِالرِّجَالِ مِنِّي، وَاللَّهِ إِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ رِيبَةٍ، وَلَكِنْ خَشِيتُ أَنْ يُوكَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَقَهْقَرَ هِرَقْلُ بِجُنُودِهِ، وَارْتَحَلَ عَنْ بِلَادِ الشَّامِ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. قَالَ: وَقَالَ سَيْفٌ: كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ قَالُوا: وَكَانَ هِرَقْلُ كُلَّمَا حَجَّ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَخَرَجَ مِنْهَا يَقُولُ: عَلَيْكِ السَّلَامُ يَا سُورِيَّةُ تَسْلِيمَ مُوَدِّعٍ لَمْ يَقْضِ مِنْكِ وَطَرَهُ وَهُوَ عَائِدٌ. فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ مِنَ الشَّامِ وَبَلَغَ الرُّهَاءَ، طَلَبَ مِنْ أَهْلِهَا أَنْ يَصْحَبُوهُ إِلَى الرُّومِ، فَقَالُوا: إِنَّ بَقَاءَنَا هَا هُنَا أَنْفَعُ لَكَ مِنْ رَحِيلِنَا مَعَكَ. فَتَرَكَهُمْ، فَلَمَّا وَصَلَ

إِلَى شَمْشَاطَ وَعَلَا عَلَى شَرَفٍ هُنَالِكَ، الْتَفَتَ إِلَى نَحْوِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ: عَلَيْكِ السَّلَامُ يَا سُورِيَّةُ سَلَامًا لَا اجْتِمَاعَ بَعْدَهُ، إِلَّا أَنْ أُسَلِّمَ عَلَيْكِ تَسْلِيمَ الْمُفَارِقِ، وَلَا يَعُودُ إِلَيْكِ رُومِيٌّ أَبَدًا إِلَّا خَائِفًا حَتَّى يُولَدَ الْمَوْلُودُ الْمَشْئُومُ، وَيَا لَيْتَهُ لَمْ يُولَدْ، مَا أَحْلَى فِعْلَهُ، وَأَمَرَّ عَاقِبَتَهُ عَلَى الرُّومِ ! ثُمَّ سَارَ هِرَقْلُ حَتَّى نَزَلَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَاسْتَقَرَّ بِهَا مُلْكُهُ، وَقَدْ سَأَلَ رَجُلًا مِمَّنِ اتَّبَعَهُ كَانَ قَدْ أُسِرَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ. فَقَالَ: أُخْبِرُكَ كَأَنَّكَ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ; هُمْ فُرْسَانٌ بِالنَّهَارِ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ، لَا يَأْكُلُونَ فِي ذِمَّتِهِمْ إِلَّا بِثَمَنٍ، وَلَا يَدْخُلُونَ إِلَّا بِسَلَامٍ، يَقِفُونَ عَلَى مَنْ حَارَبُوهُ حَتَّى يَأْتُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ صَدَقْتَنِي لَيَمْلِكُنَّ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ.
قُلْتُ: وَقَدْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ فِي زَمَانِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَلَمْ يَمْلِكُوهَا وَلَكِنْ سَيَمْلِكُهَا الْمُسْلِمُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ الْمَلَاحِمِ، وَذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ بِقَلِيلٍ عَلَى مَا صِحَّتِ بِهِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى الرُّومِ أَنْ يَمْلِكُوا بِلَادَ الشَّامِ بِرُمَّتِهَا إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، كَمَا ثَبَتَ بِهِ الْحَدِيثُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ وَقَعَ مَا

أَخْبَرَ بِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، كَمَا رَأَيْتَ، وَسَيَكُونُ مَا أَخْبَرَ بِهِ جَزْمًا، لَا يَعُودُ مُلْكُ الْقَيَاصِرَةِ إِلَى الشَّامِ أَبَدًا ; لِأَنَّ قَيْصَرَ عَلَمُ جِنْسٍ عِنْدَ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَنْ مَلَكَ الشَّامَ مَعَ بِلَادِ الرُّومِ. فَهَذَا لَا يَعُودُ لَهُمْ أَبَدًا.

وَقْعَةُ قَيْسَارِيَّةَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ عُمَرُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى قَيْسَارِيَّةَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ وَلَّيْتُكَ قَيْسَارِيَّةَ، فَسِرْ إِلَيْهَا وَاسْتَنْصِرِ اللَّهَ عَلَيْهِمْ، وَأَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، اللَّهُ رَبُّنَا وَثِقَتُنَا، وَرَجَاؤُنَا وَمَوْلَانَا، فَنِعَمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. فَسَارَ إِلَيْهَا فَحَاصَرَهَا، وَزَاحَفَهُ أَهْلُهَا مَرَّاتٍ عَدِيدَةً، وَكَانَ آخِرَهَا وَقْعَةً أَنْ قَاتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا، وَصَمَّمَ عَلَيْهِمْ مُعَاوِيَةُ، وَاجْتَهَدَ فِي الْقِتَالِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَمَا انْفَصَلَ الْحَالُ حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِينَ أَلْفًا، وَكَمَّلَ الْمِائَةَ الْأَلْفِ مِنَ الَّذِينَ انْهَزَمُوا عَنِ الْمَعْرَكَةِ، وَبَعَثَ بِالْفَتْحِ وَالْأَخْمَاسِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِالْمَسِيرِ إِلَى إِيلِيَاءَ، وَمُنَاجَزَةِ صَاحِبِهَا، فَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ عِنْدَ الرَّمْلَةِ بِطَائِفَةٍ مِنَ الرُّومِ، فَكَانَتْ:

وَقْعَةُ أَجْنَادِينَ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ سَارَ بِجَيْشِهِ وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ جُنَادَةُ بْنُ تَمِيمٍ الْمَالِكِيُّ ; مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ، وَمَعَهُ شُرَحْبِيلُ ابْنُ حَسَنَةَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْأُرْدُنِّ أَبَا الْأَعْوَرِ السَّلَمِيَّ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الرَّمْلَةِ وَجَدَ عِنْدَهَا جَمْعًا مِنَ الرُّومِ عَلَيْهِمُ الْأَرْطَبُونُ، وَكَانَ أَدْهَى الرُّومِ وَأَبْعَدَهَا غَوْرًا، وَأَنْكَاهَا فِعْلًا، وَقَدْ كَانَ وَضَعَ بِالرَّمْلَةِ جُنْدًا عَظِيمًا وَبِإِيلِيَاءَ جُنْدًا عَظِيمًا، فَكَتَبَ عَمْرٌو إِلَى عُمَرَ بِالْخَبَرِ، فَلَمَّا جَاءَهُ كِتَابُ عَمْرٍو قَالَ: قَدْ رَمَيْنَا أَرْطَبُونَ الرُّومِ بِأَرْطَبُونِ الْعَرَبِ، فَانْظُرُوا عَمَّا تَنْفَرِجُ. وَبَعَثَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلْقَمَةَ بْنَ حَكِيمٍ الْفَرَّاسِيَّ، وَمَسْرُوقَ بْنَ فُلَانٍ الْعَكِّيَّ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ إِيلِيَاءَ، وَأَبَا أَيُّوبٍ الْمَالِكِيَّ إِلَى الرَّمْلَةِ وَعَلَيْهَا التَّذَارِقُ، فَكَانُوا بِإِزَائِهِمْ ; لِيَشْغَلُوهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَجَيْشِهِ، وَجَعَلَ عَمْرٌو كُلَّمَا قَدِمَ عَلَيْهِ أَمْدَادٌ مِنْ جِهَةِ عُمَرَ يَبْعَثُ مِنْهُمْ طَائِفَةً إِلَى هَؤُلَاءِ وَطَائِفَةً إِلَى هَؤُلَاءِ، وَأَقَامَ عَمْرٌو عَلَى أَجْنَادِينَ لَا يَقْدِرُ مِنَ الْأَرْطَبُونِ عَلَى سَقْطَةٍ وَلَا تَشْفِيهِ الرُّسُلُ، فَوَلِيَهُ بِنَفْسِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ رَسُولٌ، فَأَبْلَغَهُ مَا يُرِيدُ وَسَمِعَ كَلَامَهُ وَتَأَمَّلَ حُصُونَهُ حَتَّى عَرَفَ مَا أَرَادَ، وَقَالَ الْأَرْطَبُونُ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَعَمْرٌو، أَوْ إِنَّهُ الَّذِي يَأْخُذُ عَمْرٌو بِرَأْيِهِ، وَمَا كُنْتُ لِأُصِيبَ الْقَوْمَ بِأَمْرٍ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِهِ. فَدَعَا حَرَسِيًّا فَسَارَّهُ فَأَمَرَهُ بِقَتْلِهِ. فَقَالَ: اذْهَبْ فَقُمْ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا مَرَّ بِكَ فَاقْتُلْهُ. فَفَطِنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَقَالَ لِلْأَرْطَبُونِ: أَيُّهَا

الْأَمِيرُ، إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكَ وَسَمِعْتَ كَلَامِي، وَإِنِّي وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ بَعَثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ; لِنَكُونَ مَعَ هَذَا الْوَالِي؛ لِنَشْهَدَ أُمُورَهُ، وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ آتِيَكَ بِهِمْ ; لِيَسْمَعُوا كَلَامَكَ، وَيَرَوْا مَا رَأَيْتُ. فَقَالَ الْأَرْطَبُونُ: نَعَمْ، فَاذْهَبْ فَائْتِنِي بِهِمْ. وَدَعَا رَجُلًا فَسَارَّهُ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ فَرُدَّهُ. وَقَامَ عَمْرٌو فَذَهَبَ إِلَى جَيْشِهِ، ثُمَّ تَحَقَّقَ الْأَرْطَبُونُ أَنَّهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. فَقَالَ: خَدَعَنِي الرَّجُلُ، هَذَا وَاللَّهِ أَدْهَى الْعَرَبِ. وَبَلَغَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ: غَلَبَهُ عَمْرٌو، لِلَّهِ دَرُّ عَمْرٍو. ثُمَّ نَاهَضَهُ عَمْرٌو، فَاقْتَتَلُوا بِأَجْنَادِينَ قِتَالًا عَظِيمًا كَقِتَالِ الْيَرْمُوكِ حَتَّى كَثُرَتِ الْقَتْلَى بَيْنَهُمْ، ثُمَّ اجْتَمَعَتْ بَقِيَّةُ الْجُيُوشِ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَذَلِكَ حِينَ أَعْيَاهُمْ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَتَحَصَّنَ مِنْهُمْ بِالْبَلَدِ، وَكَثُرَ جَيْشُهُ، فَكَتَبَ أَرْطَبُونُ إِلَى عَمْرٍو بِأَنَّكَ صَدِيقِي وَنَظِيرِي، أَنْتَ فِي قَوْمِكَ مِثْلِي فِي قَوْمِي، وَاللَّهِ لَا تَفْتَحُ مِنْ فِلَسْطِينَ شَيْئًا بَعْدَ أَجْنَادِينَ، فَارْجِعْ وَلَا تُغَرَّ ; فَتَلْقَى مِثْلَ مَا لَقِيَ الَّذِي قَبْلَكَ مِنَ الْهَزِيمَةِ. فَدَعَا عَمْرٌو رَجُلًا يَتَكَلَّمُ بِالرُّومِيَّةِ فَبَعَثَهُ إِلَى أَرْطَبُونَ وَقَالَ: اسْمَعْ مَا يَقُولُ لَكَ، ثُمَّ ارْجِعْ فَأَخْبِرْنِي. وَكَتَبَ إِلَيْهِ مَعَهُ: جَاءَنِي كِتَابُكَ وَأَنْتَ نَظِيرِي وَمِثْلِي فِي قَوْمِكَ، لَوْ أَخْطَأَتْكَ خَصْلَةٌ تَجَاهَلْتَ فَضِيلَتِي، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنِّي صَاحِبُ فَتْحِ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَاقْرَأْ كِتَابِي هَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ أَصْحَابِكَ وَوُزَرَائِكَ. فَلَمَّا وَصَلَهُ الْكِتَابُ جَمَعَ وُزَرَاءَهُ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ، فَقَالُوا لِلْأَرْطَبُونِ: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَاحِبِ فَتْحِ هَذِهِ الْبِلَادِ ؟ فَقَالَ: صَاحِبُهَا رَجُلٌ اسْمُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ. فَرَجَعَ الرَّسُولُ إِلَى عَمْرٍو فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ، فَكَتَبَ

عَمْرٌو إِلَى عُمَرَ يَسْتَمِدُّهُ وَيَقُولُ لَهُ: إِنِّي أُعَالِجُ حَرْبًا كَئُودًا صَدُومًا، وَبِلَادًا ادُّخِرَتْ لَكَ، فَرَأْيَكَ. فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى عُمَرَ عِلْمَ أَنَّ عَمْرًا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِلَّا لِأَمْرٍ عَلِمَهُ، فَعَزَمَ عُمَرُ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الشَّامِ لِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَمَا سَنَذْكُرُ تَفْصِيلَهُ.
قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ شُيُوخِهِ: وَقَدْ دَخَلَ عُمَرُ الشَّامَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ; الْأُولَى كَانَ رَاكِبًا فَرَسًا حِينَ فَتَحَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَالثَّانِيَةَ عَلَى بَعِيرٍ، وَالثَّالِثَةَ وَصَلَ إِلَى سَرْعٍ، ثُمَّ رَجَعَ لِأَجْلِ مَا وَقَعَ بِالشَّامِ مِنَ الْوَبَاءِ، وَالرَّابِعَةَ دَخَلَهَا عَلَى حِمَارٍ. هَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ.

فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ رِوَايَةِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، وَمُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ، هُوَ وَغَيْرُهُ، أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ دِمَشْقَ، كَتَبَ إِلَى أَهْلِ إِيلِيَاءَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ يَبْذُلُونَ الْجِزْيَةَ أَوْ يُؤْذَنُونَ بِحَرْبٍ. فَأَبَوْا أَنْ يُجِيبُوا إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ. فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ فِي جُنُودِهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى دِمَشْقَ سَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ، ثُمَّ حَاصَرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَجَابُوا إِلَى الصُّلْحِ بِشَرْطِ أَنْ يَقْدَمَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ بِذَلِكَ فَاسْتَشَارَ عُمَرُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِأَنْ لَا يَرْكَبَ إِلَيْهِمْ ; لِيَكُونَ أَحْقَرَ

لَهُمْ وَأَرْغَمَ لِأُنُوفِهِمْ، وَأَشَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ ; لِيَكُونَ أَخَفَّ وَطْأَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي حِصَارِهِمْ بَيْنَهُمْ، فَهَوِيَ مَا قَالَ عَلِيٌّ وَلَمْ يَهْوَ مَا قَالَ عُثْمَانُ. وَسَارَ بِالْجُيُوشِ نَحْوَهُمْ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَسَارَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الشَّامِ تَلَقَّاهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَرُءُوسُ الْأُمَرَاءِ كَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَتَرَجَّلَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَتَرَجَّلَ عُمَرُ، فَأَشَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِيُقَبِّلَ يَدَ عُمَرَ، فَهَمَّ عُمَرُ بِتَقْبِيلِ رِجْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَكَفَّ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَكَفَّ عُمَرُ. ثُمَّ سَارَ حَتَّى صَالَحَ نَصَارَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ إِجْلَاءَ الرُّومِ إِلَى ثَلَاثٍ، ثُمَّ دَخَلَهَا إِذْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي دَخَلَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَبَّى حِينَ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَصَلَّى فِيهِ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ بِمِحْرَابِ دَاوُدَ، وَصَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ فِيهِ صَلَاةَ الْغَدَاةِ مِنَ الْغَدِ، فَقَرَأَ فِي الْأَوْلَى بِسُورَةِ " ص " وَسَجَدَ فِيهَا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةِ " بَنِي إِسْرَائِيلَ " ثُمَّ جَاءَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَاسْتَدَلَّ عَلَى مَكَانِهَا مِنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ كَعْبٌ أَنْ يَجْعَلَ الْمَسْجِدَ مِنْ وَرَائِهِ، فَقَالَ: ضَاهَيْتَ الْيَهُودِيَّةَ. ثُمَّ جَعَلَ الْمَسْجِدَ فِي قِبْلِيِّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ الْعُمَرِيُّ الْيَوْمَ، ثُمَّ نَقَلَ التُّرَابَ عَنِ الصَّخْرَةِ فِي طَرَفِ رِدَائِهِ وَقَبَائِهِ، وَنَقَلَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ. وَسَخَّرَ أَهْلَ الْأُرْدُنِّ فِي نَقْلِ بَقِيَّتِهَا، وَقَدْ كَانَتِ الرُّومُ جَعَلُوا الصَّخْرَةَ مَزْبَلَةً ; لِأَنَّهَا قِبْلَةَ الْيَهُودِ، حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تُرْسِلُ خِرْقَةَ حَيْضَتِهَا مِنْ دَاخِلِ الْحَوْزِ لِتُلْقَى فِي الصَّخْرَةِ، وَذَلِكَ مُكَافَأَةً لِمَا كَانَتِ الْيَهُودُ عَامَلَتْ بِهِ الْقُمَامَةَ، وَهِيَ الْمَكَانُ الَّذِي كَانَتِ الْيَهُودُ صَلَبُوا فِيهِ الْمَصْلُوبَ، فَجَعَلُوا يُلْقُونَ عَلَى قَبْرِهِ الْقُمَامَةَ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ الْقُمَامَةَ، وَانْسَحَبَ الِاسْمُ عَلَى الْكَنِيسَةِ الَّتِي بَنَاهَا

النَّصَارَى هُنَالِكَ. وَقَدْ كَانَ هِرَقْلُ حِينَ جَاءَهُ الْكِتَابُ النَّبَوِيُّ وَهُوَ بِإِيلِيَاءَ، وَعَظَ النَّصَارَى فِيمَا كَانُوا قَدْ بَالَغُوا فِي إِلْقَاءِ الْكُنَاسَةِ عَلَى الصَّخْرَةِ حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى مِحْرَابِ دَاوُدَ، قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ لَخَلِيقٌ أَنْ تُقْتَلُوا عَلَى هَذِهِ الْكُنَاسَةِ مِمَّا امْتَهَنْتُمْ هَذَا الْمَسْجِدَ، كَمَا قُتِلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا. ثُمَّ أُمِرُوا بِإِزَالَتِهَا، فَشَرَعُوا فِي ذَلِكَ، فَمَا أَزَالُوا ثُلُثَهَا حَتَّى فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ فَأَزَالَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَقَدِ اسْتَقْصَى هَذَا كُلَّهُ بِأَسَانِيدِهِ وَمُتُونِهِ الْحَافِظُ بَهَاءُ الدِّينِ ابْنُ الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ " الْمُسْتَقْصَى فِي فَضَائِلِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ".
وَذَكَرَ سَيْفٌ فِي سِيَاقِهِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَكِبَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى فَرَسٍ ; لِيُسْرِعَ السَّيْرَ بَعْدَمَا اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَسَارَ حَتَّى قَدِمَ الْجَابِيَةَ، فَنَزَلَ بِهَا وَخَطَبَ بِالْجَابِيَةِ خُطْبَةً طَوِيلَةً بَلِيغَةً، مِنْهَا: أَيُّهَا النَّاسُ، أَصْلِحُوا سَرَائِرَكُمْ تَصْلُحْ عَلَانِيَتُكُمْ، وَاعْمَلُوا لِآخِرَتِكُمْ تُكْفَوْا أَمْرَ دُنْيَاكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ رَجُلًا لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ أَبٌ حَيٌّ وَلَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ هَوَادَةٌ، فَمَنْ أَرَادَ لَحْبَ وَجْهِ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ ; فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مَعَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، وَلَا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بِامْرَأَةٍ ; فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا، وَمَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَهِيَ خُطْبَةٌ طَوِيلَةٌ اخْتَصَرْنَاهَا. ثُمَّ صَالَحَ عُمَرُ أَهْلَ الْجَابِيَةِ وَرَحَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

وَقَدْ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ يُوَافُوهُ فِي الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ إِلَى الْجَابِيَةِ، فَتَوَافَوْا أَجْمَعُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى الْجَابِيَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَلَقَّاهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ، ثُمَّ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خُيُولِ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ يَلَامِقُ الدِّيبَاجِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ عُمَرُ لِيَحْصِبَهُمْ، فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ عَلَيْهِمُ السِّلَاحَ، وَأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي حُرُوبِهِمْ، فَسَكَتَ عَنْهُمْ وَاجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ كُلُّهُمْ بَعْدَمَا اسْتَخْلَفُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ سِوَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَشُرَحْبِيلَ فَإِنَّهُمَا مُوَافِقَانِ الْأَرْطَبُونَ بِأَجْنَادِينَ، فَبَيْنَمَا عُمَرُ فِي الْجَابِيَةِ إِذَا بِكُرْدُوسٍ مِنَ الرُّومِ بِأَيْدِيهِمْ سُيُوفٌ مُسَلَّلَةٌ، فَسَارَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ بِالسِّلَاحِ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ يَسْتَأْمِنُونَ. فَسَارُوا نَحْوَهُمْ، فَإِذَا هُمْ جُنْدٌ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَطْلُبُونَ الْأَمَانَ وَالصُّلْحَ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ سَمِعُوا بِقُدُومِهِ، فَأَجَابَهُمْ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى مَا سَأَلُوا، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابَ أَمَانٍ وَمُصَالَحَةٍ، وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَشَهِدَ فِي الْكِتَابِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ كَاتِبُ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ.
ثُمَّ كَتَبَ لِأَهْلِ لُدٍّ وَمَنْ هُنَالِكَ مِنَ النَّاسِ كِتَابًا آخَرَ، وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَدَخَلُوا فِيمَا صَالَحَ عَلَيْهِ أَهْلَ إِيلِيَاءَ. وَفَرَّ الْأَرْطَبُونُ إِلَى بِلَادِ مِصْرَ، فَكَانَ بِهَا حَتَّى فَتَحَهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، ثُمَّ فَرَّ إِلَى الْبَحْرِ، فَكَانَ يَلِي بَعْضَ السَّرَايَا الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَظَفِرَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ، فَقَطَعَ يَدَ الْقَيْسِيِّ، وَقَتَلَهُ الْقَيْسِيُّ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
فَإِنْ يَكُنْ أَرْطَبُونُ الرُّومِ أَفْسَدَهَا فَإِنَّ فِيهَا بِحَمْدِ اللَّهِ مُنْتَفَعَا

وَإِنْ يَكُنْ أَرْطَبُونُ الرُّومِ قَطَّعَهَا
فَقَدْ تَرَكْتُ بِهَا أَوْصَالَهُ قِطَعَا.
وَلَمَّا صَالَحَ أَهْلَ الرَّمْلَةِ وَتِلْكَ الْبِلَادَ، أَقْبَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَشُرَحْبِيلُ ابْنُ حَسَنَةَ حَتَّى قَدِمَا الْجَابِيَةَ، فَوَجَدَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَاكِبًا، فَلَمَّا اقْتَرَبَا مِنْهُ أَكَبَّا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَبَّلَاهَا وَاعْتَنَقَهُمَا عُمَرُ مَعًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ سَيْفٌ: ثُمَّ سَارَ عُمَرُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنَ الْجَابِيَةِ، وَقَدْ تَوَجَّى فَرَسُهُ، فَأَتَوْهُ بِبِرْذَوْنٍ، فَرَكِبَهُ فَجَعَلَ يُهَمْلِجُ بِهِ، فَنَزَلَ عَنْهُ وَضَرَبَ وَجْهَهُ، وَقَالَ: لَا عَلَّمَ اللَّهُ مَنْ عَلَّمَكَ، هَذَا مِنَ الْخُيَلَاءِ. ثُمَّ لَمْ يَرْكَبْ بِرْذَوْنًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، فَفُتِحَتْ إِيلِيَاءُ وَأَرْضُهَا عَلَى يَدَيْهِ مَا خَلَا أَجْنَادِينَ فَعَلَى يَدَيْ عَمْرٍو، وَقَيْسَارِيَّةَ فَعَلَى يَدَيْ مُعَاوِيَةَ. هَذَا سِيَاقُ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السِّيَرِ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ فَتْحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حِصْنِ بْنِ عَلَّاقٍ قَالَ: قَالَ يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدَةَ: فُتِحَتْ بَيْتُ الْمَقْدِسِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَفِيهَا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجَابِيَةَ..
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ دُحَيْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: ثُمَّ عَادَ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَرَجَعَ مِنْ سَرْعٍ، ثُمَّ قَدِمَ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ

الْأُمَرَاءُ، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِ مَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ فَقَسَمَهَا وَجَنَّدَ الْأَجْنَادَ وَمَصَّرَ الْأَمْصَارَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثُمَّ كَانَ فَتْحُ الْجَابِيَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ. وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: ثُمَّ كَانَ عَمَوَاسُ وَالْجَابِيَةُ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ ثُمَّ كَانَتْ سَرْعٌ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، ثُمَّ كَانَ عَامُ الرَّمَادَةِ فِي سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ. قَالَ: وَكَانَ فِيهَا طَاعُونُ عَمَوَاسَ. يَعْنِي فَتْحَ الْبَلْدَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِعَمَوَاسَ، فَأَمَّا الطَّاعُونُ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهَا، فَكَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ. كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الشَّامَ فَرَأَى غُوطَةَ دِمَشْقَ، وَنَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَالْقُصُورِ وَالْبَسَاتِينِ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [ الدُّخَانِ: 25 - 28 ]. ثُمَّ أَنْشَدَ قَوْلَ النَّابِغَةِ:.
هُمَا فَتَيَا دَهْرٍ يَكُرُّ عَلَيْهِمَا نَهَارٌ وَلَيْلٌ يَلْحَقَانِ التَّوَالِيَا
إِذَا مَا هُمَا مَرَّا بِحَيٍّ بِغِبْطَةٍ أَنَاخَا بِهِمْ حَتَّى يُلَاقُوا الدَّوَاهِيَا
وَهَذَا يَقْتَضِي بَادِيَ الرَّأْيِ أَنَّهُ دَخَلَ دِمَشْقَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ دَخَلَهَا فِي شَيْءٍ مِنْ قَدَمَاتِهِ الثَّلَاثِ إِلَى الشَّامِ ; أَمَّا الْأُولَى، وَهِيَ هَذِهِ، فَإِنَّهُ

سَارَ مِنَ الْجَابِيَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَمَا ذَكَرَ سَيْفٌ وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَمَّا رِوَايَةُ أَهْلِ الشَّامِ أَنَّ عُمَرَ دَخَلَ الشَّامَ مَرَّتَيْنِ، وَرَجَعَ الثَّالِثَةَ مِنْ سَرْعٍ، فَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَإِنَّمَا قَدِمَ مَرَّةً وَاحِدَةً عَامَ الْجَابِيَةِ حِينَ صَالَحَ أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَرَجَعَ مِنْ سَرْعٍ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَهُمْ يَقُولُونَ: دَخَلَ فِي الثَّالِثَةِ دِمَشْقَ وَحِمْصَ، وَأَنْكَرَ الْوَاقِدِيُّ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ دَخَلَ دِمَشْقَ إِلَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي " سِيرَتِهِ ".
وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ عُمَرَ حِينَ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ، عَنْ مَكَانِ الصَّخْرَةِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَذْرِعْ مِنَ الْحَائِطِ الَّذِي يَلِي وَادِي جَهَنَّمَ، كَذَا وَكَذَا ذِرَاعًا فَهِيَ ثَمَّ. فَذَرَعُوا فَوَجَدُوهَا وَقَدِ اتَّخَذَهَا النَّصَارَى مَزْبَلَةً كَمَا فَعَلَتِ الْيَهُودُ بِمَكَانِ الْقُمَامَةِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ الْمَصْلُوبُ الَّذِي شُبِّهَ بِعِيسَى، فَاعْتَقَدَتِ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ أَنَّهُ الْمَسِيحُ، وَقَدْ كَذَبُوا فِي اعْتِقَادِهِمْ هَذَا كَمَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى خَطَإِهِمْ فِي ذَلِكَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّصَارَى لَمَّا حَكَمُوا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ الْبِعْثَةِ بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، طَهَّرُوا مَكَانَ الْقُمَامَةِ، وَاتَّخَذُوهُ كَنِيسَةً هَائِلَةً بَنَتْهَا أَمُّ الْمَلِكِ

قُسْطَنْطِينَ بَانِي الْمَدِينَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ، وَاسْمُ أُمِّهِ هَيْلَانَةُ الْحَرَّانِيَّةُ الْفُنْدُقَانِيَّةُ، وَأَمَرَتِ ابْنَهَا فَبَنَى لِلنَّصَارَى بَيْتَ لَحْمٍ عَلَى مَوْضِعِ الْمِيلَادِ، وَبَنَتْ هِيَ عَلَى مَوْضِعِ الْقَبْرِ، فِيمَا يَزْعُمُونَ. وَالْغَرَضُ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مَكَانَ قِبْلَةِ الْيَهُودِ مَزْبَلَةً أَيْضًا، فِي مُقَابَلَةِ مَا صَنَعُوا فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ، فَلَمَّا فَتَحَ عُمَرُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَتَحَقَّقَ مَوْضِعَ الصَّخْرَةِ، أَمَرَ بِإِزَالَةِ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْكُنَاسَةِ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ كَنَسَهَا بِرِدَائِهِ ثُمَّ اسْتَشَارَ كَعْبًا أَيْنَ يَضَعُ الْمَسْجِدَ ؟ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ وَرَاءِ الصَّخْرَةِ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ: يَا ابْنَ أُمِّ كَعْبٍ، ضَارَعْتَ الْيَهُودِيَّةَ، وَأَمَرَ بِبِنَائِهِ فِي مُقَدَّمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ آدَمَ وَأَبِي مَرْيَمَ وَأَبِي شُعَيْبٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ بِالْجَابِيَةِ، فَذَكَرَ فَتَحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: قَالَ ابْنُ سَلَمَةَ: فَحَدَّثَنِي أَبُو سِنَانٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ آدَمَ، سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لِكَعْبٍ: أَيْنَ تُرَى أَنْ أَصَلِّيَ ؟ قَالَ: إِنْ أَخَذْتَ عَنِّي صَلَّيْتَ خَلْفَ الصَّخْرَةِ، فَكَانَتِ الْقُدْسُ كُلُّهَا بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ عُمَرُ: ضَاهَيْتَ الْيَهُودِيَّةَ، لَا وَلَكِنْ أُصَلِّي حَيْثُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَتَقَدَّمَ إِلَى الْقِبْلَةِ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَبَسَطَ رِدَاءَهُ وَكَنَسَ الْكُنَاسَةَ فِي رِدَائِهِ وَكَنَسَ النَّاسُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ اخْتَارَهُ الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْمُسْتَخْرَجِ ". وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى رِجَالِهِ فِي كِتَابِنَا الَّذِي أَفْرَدْنَاهُ فِي مُسْنَدِ عُمَرَ، مَا

رَوَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ مُبَوَّبًا عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ رَوَى سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ شُيُوخِهِ، عَنْ سَالِمٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ عُمَرُ الشَّامَ تَلَقَّاهُ رَجُلٌ مِنْ يَهُودِ دِمَشْقَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا فَارُوقُ، أَنْتَ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ، لَا هَا اللَّهِ لَا تَرْجِعْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ إِيلِيَاءَ.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ الدِّينَوَرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَدِمَ دِمَشْقَ فِي تُجَّارٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَلَمَّا خَرَجُوا تَخَلَّفَ عُمَرُ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الْبَلَدِ إِذَا هُوَ بِبِطْرِيقٍ يَأْخُذُ بِعُنُقِهِ، فَذَهَبَ يُنَازِعُهُ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَأَدْخَلَهُ دَارًا فِيهَا تُرَابٌ وَفَأْسٌ وَمِجْرَفَةٌ وَزِنْبِيلٌ، وَقَالَ لَهُ: حَوِّلْ هَذَا مِنْ هَا هُنَا إِلَى هَا هُنَا. وَغَلَّقَ عَلَيْهِ الْبَابَ وَانْصَرَفَ، فَلَمْ يَجِئْ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ. قَالَ: وَجَلَسْتُ مُفَكِّرًا، وَلَمْ أَفْعَلْ مِمَّا قَالَ لِي شَيْئًا. فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: مَا لَكَ لَمْ تَفْعَلْ ؟ وَلَكَمَنِي فِي رَأْسِي بِيَدِهِ، قَالَ: فَأَخَذْتُ الْفَأْسَ فَضَرَبْتُهُ بِهَا فَقَتَلْتُهُ، وَخَرَجْتُ عَلَى وَجْهِي فَجِئْتُ دَيْرًا لِرَاهِبٍ، فَجَلَسْتُ عِنْدَهُ مِنَ الْعَشِيِّ، فَأَشْرَفَ عَلَيَّ، فَنَزَلَ وَأَدْخَلَنِي الدَّيْرَ فَأَطْعَمَنِي وَسَقَانِي، وَأَتْحَفَنِي، وَجَعَلَ يُحَقِّقُ النَّظَرَ فِيَّ، وَسَأَلَنِي عَنْ أَمْرِي، فَقُلْتُ: إِنِّي أَضْلَلْتُ عَنْ أَصْحَابِي. فَقَالَ: إِنَّكَ

لَتَنْظُرُ بِعَيْنِ خَائِفٍ. وَجَعَلَ يَتَوَسَّمُنِي، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ عَلِمَ أَهْلُ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ أَنِّي أَعْلَمُهُمْ بِكِتَابِهِمْ، وَإِنِّي لَأُرَاكَ الَّذِي تُخْرِجُنَا مِنْ بِلَادِنَا هَذِهِ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمَانٍ عَلَى دَيْرِي هَذَا ؟ فَقُلْتُ: يَا هَذَا، لَقَدْ ذَهَبْتَ غَيْرَ مَذْهَبٍ. فَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى كَتَبْتُ لَهُ صَحِيفَةً بِمَا طَلَبَ مِنِّي، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الِانْصِرَافِ أَعْطَانِي أَتَانًا، فَقَالَ لِيَ: ارْكَبْهَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَى أَصْحَابِكَ فَابْعَثْ إِلَيَّ بِهَا وَحْدَهَا فَإِنَّهَا لَا تَمُرُّ بِدَيْرٍ إِلَّا أَكْرَمُوهَا. فَفَعَلْتُ مَا أَمَرَنِي بِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ لِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَتَاهُ ذَلِكَ الرَّاهِبُ وَهُوَ بِالْجَابِيَةِ بِتِلْكَ الصَّحِيفَةِ، فَأَمْضَاهَا لَهُ عُمَرُ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُرْشِدَهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ سَاقَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى فِي تَرْجَمَةِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ الْقُرَشِيِّ الْبَلْقَاوِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلًا عَجِيبًا، هَذَا بَعْضُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الشُّرُوطَ الْعُمَرِيَّةَ عَلَى نَصَارَى الشَّامِ مُطَوَّلًا فِي كِتَابِنَا " الْأَحْكَامِ " وَأَفْرَدْنَا لَهُ مُصَنَّفًا عَلَى حِدَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا خُطْبَتَهُ فِي الْجَابِيَةِ بِأَلْفَاظِهَا وَأَسَانِيدِهَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَفْرَدْنَاهُ لِمُسْنَدِ عُمَرَ، وَذَكَرْنَا تَوَاضُعَهُ فِي دُخُولِهِ الشَّامَ فِي السِّيرَةِ الَّتِي أَفْرَدْنَاهَا لَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي الرَّبِيعُ بْنُ ثَعْلَبٍ، نَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْمُؤَدِّبُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الشَّامِيِّ قَالَ:

قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْجَابِيَةَ عَلَى طَرِيقِ إِيلِيَاءَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ تَلُوحُ صَلْعَتُهُ لِلشَّمْسِ، لَيْسَ عَلَيْهِ قَلَنْسُوَةٌ وَلَا عِمَامَةٌ، تَصْطَفِقُ رِجْلَاهُ بَيْنَ شُعْبَتِي الرَّحْلِ بِلَا رِكَابٍ، وِطَاؤُهُ كِسَاءٌ أَنْبِجَانِيٌّ ذُو صُوفٍ، هُوَ وِطَاؤُهُ إِذَا رَكِبَ، وَفِرَاشُهُ إِذَا نَزَلَ، حَقِيبَتُهُ نَمِرَةٌ أَوْ شَمْلَةٌ مَحْشُوَّةٌ لِيفًا، هِيَ حَقِيبَتُهُ إِذَا رَكِبَ، وَوِسَادَتُهُ إِذَا نَزَلَ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ مِنْ كَرَابِيسَ قَدْ دَسِمَ وَتَخَرَّقَ جَيْبُهُ. فَقَالَ: ادْعُوا لِي رَأْسَ الْقَوْمِ. فَدَعَوْا لَهُ الْجَلَوْمَسَ، فَقَالَ: اغْسِلُوا قَمِيصِي وَخَيِّطُوهُ، وَأَعِيرُونِي قَمِيصًا أَوْ ثَوْبًا، فَأُتِيَ بِقَمِيصِ كَتَّانٍ فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: كَتَّانٌ. قَالَ: وَمَا الْكَتَّانُ ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَنَزَعَ قَمِيصَهُ فَغُسِلَ وَرُقِّعَ، وَأُتِيَ بِهِ، فَنَزْعَ قَمِيصَهُمْ وَلَبِسَ قَمِيصَهُ. فَقَالَ لَهُ الْجَلَوْمَسُ: أَنْتَ مِلْكُ الْعَرَبِ، وَهَذِهِ بِلَادٌ لَا تَصْلُحُ بِهَا الْإِبِلُ. فَأُتِيَ بِبِرْذَوْنٍ فَطُرِحَ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ بِلَا سَرْجٍ وَلَا رَحْلٍ، فَرَكِبَهُ فَقَالَ: احْبِسُوا احْبِسُوا، مَا كُنْتُ أَظُنُّ النَّاسَ يَرْكَبُونَ الشَّيْطَانَ قَبْلَ هَذَا، هَاتُوا جَمَلِي. فَأُتِيَ بِجَمَلِهِ فَرَكِبَهُ.

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ: حَدَّثَنَا سَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ الطَّائِيِّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الشَّامَ عَرَضَتْ لَهُ مَخَاضَةٌ، فَنَزَلَ عَنْ بَعِيرِهِ وَنَزَعَ مُوقَيْهِ، فَأَمْسَكَهُمَا بِيَدِهِ وَخَاضَ الْمَاءَ وَمَعَهُ بَعِيرُهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ: قَدْ صَنَعْتَ الْيَوْمَ صَنِيعًا عَظِيمًا عِنْدَ أَهْلِ الْأَرْضِ ; صَنَعْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَصَكَّ فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ: أَوْهِ، لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ! إِنَّكُمْ كُنْتُمْ أَذَلَّ النَّاسِ وَأَحْقَرَ النَّاسِ وَأَقَلَّ النَّاسِ، فَأَعَزَّكُمُ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَمَهْمَا تَطْلُبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِهِ يُذِلَّكُمُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ - كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفَارِسَ وَقَعَاتٌ فِي قَوْلِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَعَاتٍ كَثِيرَةً كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ حِينَ بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَأَنْ يُخَلِّفَ النِّسَاءَ وَالْعِيَالَ بِالْعَقِيقِ فِي خَيْلٍ كَثِيرَةٍ كَثِيفَةٍ، فَلَمَّا تَفَرَّغَ سَعْدٌ مِنْ أَمْرِ الْقَادِسِيَّةِ بَعَثَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ زُهْرَةَ بْنَ حَوِيَّةَ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالْأُمَرَاءِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، ثُمَّ سَارَ فِي الْجُيُوشِ، وَقَدْ جَعَلَ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى خِلَافَتِهِ مَكَانَ خَالِدِ بْنِ عُرْفُطَةَ، وَجَعَلَ خَالِدًا هَذَا عَلَى السَّاقَةِ، فَسَارُوا فِي خُيُولٍ عَظِيمَةٍ، وَسِلَاحٍ كَثِيرٍ، وَذَلِكَ

لِأَيَّامٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَنَزَلُوا الْكُوفَةَ، وَارْتَحَلَ زُهْرَةُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ نَحْوَ الْمَدَائِنِ، فَلَقِيَهُ بِهَا بُصْبُهْرَى فِي جَيْشٍ مِنْ فَارِسَ، فَهَزَمَهُمْ زُهْرَةُ، وَذَهَبَتِ الْفُرْسُ فِي هَزِيمَتِهِمْ إِلَى بَابِلَ، وَبِهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِمَّنِ انْهَزَمَ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، قَدْ جَعَلُوا عَلَيْهِمُ الْفَيْرُزَانَ، فَبَعَثَ زُهْرَةُ إِلَى سَعْدٍ، فَأَعْلَمَهُ بِاجْتِمَاعِ الْمُنْهَزِمِينَ بِبَابِلَ، فَسَارَ سَعْدٌ بِالْجُيُوشِ إِلَى بَابِلَ، فَتَقَابَلَ هُوَ وَالْفَيْرُزَانُ عِنْدَ بَابِلَ فَهَزَمَهُمْ كَأَسْرَعِ مِنْ لَفَّةِ الرِّدَاءِ، وَانْهَزَمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ فِرْقَتَيْنِ، فَفِرْقَةٌ ذَهَبَتْ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَأُخْرَى سَارَتْ إِلَى نَهَاوَنْدَ، وَأَقَامَ سَعْدٌ بِبَابِلَ أَيَّامًا، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا نَحْوَ الْمَدَائِنِ فَلَقُوا جَمْعًا آخَرَ مِنَ الْفُرْسِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَبَارَزُوا أَمِيرَ الْفُرْسِ، وَهُوَ شَهْرِيَارُ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ: نَايِلٌ الْأَعْرَجِيُّ أَبُو نُبَاتَةَ مِنْ شُجْعَانِ بَنِي تَمِيمٍ فَتَجَاوَلَا سَاعَةً بِالرِّمَاحِ، ثُمَّ أَلْقَيَاهَا فَانْتَضَيَا سَيْفَيْهِمَا وَتَصَاوَلَا بِهِمَا، ثُمَّ تَعَانَقَا وَسَقَطَا عَنْ فَرَسَيْهِمَا إِلَى الْأَرْضِ، فَوَقَعَ شَهْرِيَارُ عَلَى صَدْرِ أَبِي نُبَاتَةَ، وَأَخْرَجَ خِنْجَرًا لِيَذْبَحَهُ بِهَا، فَوَقَعَتْ أُصْبُعُهُ فِي فَمِ أَبِي نُبَاتَةَ فَقَضَمَهَا حَتَّى شَغَلَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَخَذَ الْخِنْجَرَ فَذَبَحَ شَهْرِيَارَ بِهَا وَأَخَذَ فَرَسَهُ وَسِوَارَيْهِ وَسَلَبَهُ، وَانْكَشَفَ أَصْحَابُهُ فَهُزِمُوا، فَأَقْسَمَ سَعْدٌ عَلَى نَايِلٍ لَيَلْبَسُ سِوَارَيْ شَهْرِيَارَ وَسِلَاحَهُ، وَلَيَرْكَبَنَّ فَرَسَهُ إِذَا كَانَ حَرْبٌ، فَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، قَالُوا: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَسَوَّرَ بِالْعِرَاقِ. وَذَلِكَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ كُوثَى. وَزَارَ الْمَكَانَ الَّذِي حُبِسَ فِيهِ الْخَلِيلُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَرَأَ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ: 140 ].

وَقْعَةُ بَهُرَسِيرَ.
قَالُوا: ثُمَّ قَدَّمَ سَعْدٌ زُهْرَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ كُوثَى إِلَى بَهُرَسِيرَ، فَمَضَى إِلَى

الْمُقَدِّمَةِ، وَقَدْ تَلَقَّاهُ شِيرْزَاذُ إِلَى سَابَاطَ بِالصُّلْحِ وَالْجِزْيَةِ، فَبَعَثَهُ إِلَى سَعْدٍ فَأَمْضَاهُ، وَوَصَلَ سَعْدٌ بِالْجُنُودِ إِلَى مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: مُظْلِمُ سَابَاطَ، فَوَجَدُوا هُنَالِكَ كَتَائِبَ كَثِيرَةً لِكِسْرَى يُسَمُّونَهَا بُورَانَ، وَهُمْ يُقْسِمُونَ كُلَّ يَوْمٍ: لَا يَزُولُ مُلْكُ فَارِسَ مَا عِشْنَا. وَمَعَهُمْ أَسَدٌ كَبِيرٌ لِكِسْرَى يُقَالُ لَهُ: الْمُقَرَّطُ. قَدْ أَرْصَدُوهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ ابْنُ أَخِي سَعْدٍ، وَهُوَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، فَقَتَلَ الْأَسَدَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، وَسُمِّيَ يَوْمَئِذٍ سَيْفُهُ الْمَتِينَ، وَقَبَّلَ سَعْدٌ يَوْمَئِذٍ رَأَسَ هَاشِمٍ، وَقَبَّلَ هَاشِمٌ قَدَمَ سَعْدٍ، وَحَمَلَ هَاشِمٌ عَلَى الْفُرْسِ، فَأَزَالَهُمْ عَنْ أَمَاكِنِهِمْ وَهَزَمَهُمْ وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [ إِبْرَاهِيمَ: 44 ]. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ارْتَحَلَ الْمُسْلِمُونَ وَنَزَلُوا بَهُرَسِيرَ، فَجَعَلُوا كُلَّمَا وَقَفُوا كَبَّرُوا، وَكَذَلِكَ حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ مَعَ سَعْدٍ، فَأَقَامُوا بِهَا شَهْرَيْنِ، وَدَخَلُوا فِي الثَّالِثِ وَفَرَغَتِ السَّنَةُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ، وَكَانَ عَامِلَهُ فِيهَا عَلَى مَكَّةَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ، وَعَلَى الشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَعَلَى الْكُوفَةِ وَالْعِرَاقِ سَعْدٌ، وَعَلَى الطَّائِفِ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، وَعَلَى الْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَامَةِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَعَلَى عُمَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ.
قُلْتُ: وَكَانَتْ وَقْعَةُ الْيَرْمُوكِ فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا، عِنْدَ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِ لَهِيعَةَ وَأَبِي مَعْشَرٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَيَزِيدَ بْنِ عُبَيْدَةَ وَخَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ وَابْنِ الْكَلْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَائِذٍ وَابْنِ عَسَاكِرَ وَشَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ

الذَّهَبِيِّ الْحَافِظِ. وَأَمَّا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، فَذَكَرُوا وَقْعَةَ الْيَرْمُوكِ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا هُنَالِكَ تَبَعًا لِابْنِ جَرِيرٍ. وَهَكَذَا وَقْعَةُ الْقَادِسِيَّةِ عِنْدَ بَعْضِ الْحُفَّاظِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَتَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ ذَكَرَ شَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ مَنْ تُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ مُرَتَّبِينَ عَلَى الْحُرُوفِ.
سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، وَهُوَ أَحَدُ أَقْوَالِ الْمُؤَرِّخِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
سَعْدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ النُّعْمَانِ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، قُتِلَ بِالْقَادِسِيَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَبُو زَيْدٍ الْقَارِيُّ. أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْكَرَ آخَرُونَ ذَلِكَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ وَالِدُ عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ الزَّاهِدِ أَمِيرِ حِمْصَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَفَاتَهُ بِالْقَادِسِيَّةِ وَقَالَ: كَانَتْ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سُهَيْلُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَبُو يَزِيدَ الْعَامِرِيُّ، أَحَدُ خُطَبَاءِ قُرَيْشٍ وَأَشْرَافِهِمْ، أَسْلَمَ

يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ سَمْحًا جَوَّادًا فَصِيحًا، كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْبُكَاءِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَامَ وَصَامَ حَتَّى شَحَبَ لَوْنُهُ. وَلَهُ سَعْيٌ مَشْكُورٌ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ بِمَكَّةَ خُطْبَةً عَظِيمَةً تُثَبِّتُ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ خُطْبَتُهُ بِمَكَّةَ قَرِيبًا مِنْ خُطْبَةِ الصِّدِّيقِ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي جَمَاعَةٍ إِلَى الشَّامِ مُجَاهِدًا، فَحَضَرَ الْيَرْمُوكَ وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى بَعْضِ الْكَرَادِيسِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذٍ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: تُوفِّيَ بِطَاعُونِ عَمَوَاسَ.
عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أُهَيْبٍ الزُّهْرِيُّ، أَخُو سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَدِمَ بِكِتَابِ عُمَرَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بِوِلَايَتِهِ عَلَى الشَّامِ وَعَزْلِ خَالِدٍ عَنْهَا، اسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ، صَحَابِيٌّ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ مَعَ عَمِّهِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ. رَوَى عَنْهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ مُنْقَطِعًا ; لِأَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَوَّامِ، أَخُو الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، حَضَرَ بَدْرًا مُشْرِكًا ثُمَّ أَسْلَمَ وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فِي قَوْلٍ.
عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، تُوُفِّيَ فِيهَا فِي قَوْلٍ.
عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، اسْتُشْهِدَ بِالْيَرْمُوكِ فِي قَوْلٍ.

عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، اسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَيُقَالُ: بَلْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
عَمْرُو بْنُ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، تَقَدَّمَ.
عَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، تَقَدَّمَ.
فِرَاسُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، يُقَالُ: اسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ.
قَيْسُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ، مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ، قُتِلَ بِالْيَرْمُوكِ.
قَيْسُ بْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيُّ الْمَازِنِيُّ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا، وَكَانَ أَحَدَ أُمَرَاءِ الْكَرَادِيسِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ، وَلَهُ حَدِيثٌ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي كَمْ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قَالَ: " فِي خَمْسَ عَشْرَةَ. الْحَدِيثَ. قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ: فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِمَّنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
نُضَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ الْقُرَشِيُّ الْعَبْدَرِيُّ، أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ قُرَيْشٍ، وَأَعْطَاهُ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، فَتَوَقَّفَ فِي أَخْذِهَا وَقَالَ: لَا أَرْتَشِي عَلَى الْإِسْلَامِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا طَلَبْتُهَا وَلَا سَأَلْتُهَا، وَهِيَ عَطِيَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَخَذَهَا وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ.
نَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ أَسَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ مِمَّنْ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَفَدَاهُ الْعَبَّاسُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ هَاجَرَ أَيَّامَ الْخَنْدَقِ، وَشَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَالْفَتْحَ، وَأَعَانَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ بِثَلَاثَةِ آلَافِ رُمْحٍ، وَثَبَتَ يَوْمَئِذٍ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: سَنَةَ عِشْرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. تُوفِي بِالْمَدِينَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ، وَمَشَى فِي جِنَازَتِهِ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَخَلَّفَ عِدَّةَ أَوْلَادٍ فُضَلَاءَ وَأَكَابِرَ.
هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ، أَخُو عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،، تَقَدَّمَ، وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: قُتِلَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مُنَازِلٌ مَدِينَةَ بَهُرَسِيرَ، وَهِيَ إِحْدَى مَدِينَتَيْ كِسْرَى مِمَّا يَلِي دِجْلَةَ مِنَ الْغَرْبِ، وَكَانَ قُدُومُ سَعْدٍ إِلَيْهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَاسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُوَ نَازِلٌ عِنْدَهَا، وَقَدْ بَعَثَ السَّرَايَا وَالْخُيُولَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَلَمْ يَجِدُوا وَاحِدًا مِنَ الْجُنْدِ، بَلْ جَمَعُوا مِنَ الْفَلَّاحِينَ مِائَةَ الْفٍ، فَحُبِسُوا حَتَّى كَتَبَ إِلَى عُمَرَ مَا يَفْعَلُ بِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْفَلَّاحِينَ لَمْ يُعِنْ عَلَيْكُمْ، وَهُوَ مُقِيمٌ بِبَلَدِهِ، فَهُوَ أَمَانُهُ، وَمَنْ هَرَبَ فَأَدْرَكْتُمُوهُ فَشَأْنُكُمْ بِهِ. فَأَطْلَقَهُمْ سَعْدٌ بَعْدَ مَا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَبَوْا إِلَّا الْجِزْيَةَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ غَرْبِيِّ دِجْلَةَ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ أَحَدٌ مِنَ الْفَلَّاحِينَ إِلَّا تَحْتَ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ.
وَامْتَنَعَتْ بَهُرَسِيرَ مِنْ سَعْدٍ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ سَعْدٌ سَلْمَانَ

الْفَارِسِيَّ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَوِ الْجِزْيَةِ أَوِ الْمُقَاتَلَةِ، فَأَبَوْا إِلَّا الْمُقَاتَلَةَ وَالْعِصْيَانَ، وَنَصَبُوا الْمَجَانِيقَ وَالدَّبَّابَاتِ، وَأَمَرَ سَعْدٌ بِعَمَلِ الْمَجَانِيقِ، فَعُمِلَتْ عِشْرُونَ مَنْجَنِيقًا، وَنُصِبَتْ عَلَى بَهُرَسِيرَ، وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ وَكَانَ أَهْلُ بَهُرَسِيرَ يَخْرُجُونَ فَيُقَاتِلُونَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَيَحْلِفُونَ أَنْ لَا يَفِرُّوا أَبَدًا، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ، وَهَزَمَهُمْ زُهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ بَعْدَ مَا أَصَابَهُ سَهْمٌ، وَقَتَلَ بَعْدَ مُصَابِهِ بِهِ كَثِيرًا مِنَ الْفُرْسِ، وَفَرُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلَجَئُوا إِلَى بَلَدِهِمْ، فَكَانُوا يُحَاصَرُونَ فِيهِ أَشَدَّ الْحِصَارِ، وَقَدِ انْحَصَرَ أَهْلُ الْبَلَدِ حَتَّى أَكَلُوا الْكِلَابَ وَالسَّنَانِيرَ. وَقَدْ أَشْرَفَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَقُولُ لَكُمُ الْمَلِكُ: هَلْ لَكَمَ إِلَى الْمُصَالَحَةِ عَلَى أَنَّ لَنَا مَا يَلِينَا مَنْ دِجْلَةَ إِلَى جَبَلِنَا وَلَكُمْ مَا يَلِيكُمْ مِنْ دِجْلَةَ إِلَى جَبَلِكُمْ، أَمَا شَبِعْتُمْ ! لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بُطُونَكُمْ. قَالَ: فَبَدَرَ النَّاسَ رَجُلٌ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو مُفَزِّرٍ الْأَسْوَدُ بْنُ قُطْبَةَ، فَأَنْطَقَهُ اللَّهُ بِكَلَامٍ لَمْ يَدْرِ مَا قَالَ لَهُمْ، قَالَ: فَرَجَعَ الرَّجُلُ وَرَأَيْنَاهُمْ يَقْطَعُونَ مِنْ بَهُرَسِيرَ إِلَى الْمَدَائِنِ. فَقَالَ النَّاسُ لِأَبِي مُفَزِّرٍ: مَا قُلْتَ لَهُمْ ؟ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ مَا أَدْرِي مَا قُلْتُ لَهُمْ، إِلَّا أَنَّ عَلَيَّ سَكِينَةً، وَأَنَا

أَرْجُو أَنْ أَكُونَ قَدْ أُنْطِقْتُ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَجَعَلَ النَّاسُ يَنْتَابُونَهُ، يَسْأَلُونَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ فِي مَنْ سَأَلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَجَاءَهُ سَعْدٌ إِلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ: يَا أَبَا مُفَرِّزٍ مَا قُلْتَ ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّهُمْ هُرَّابٌ. فَحَلَفَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا قَالَ.
فَنَادَى سَعْدٌ فِي النَّاسِ وَنَهَدَ بِهِمْ إِلَى الْبَلَدِ، وَالْمَجَانِيقُ تَضْرِبُ فِي الْبَلَدِ، فَنَادَى رَجُلٌ مِنَ الْبَلَدِ بِالْأَمَانِ فَآمَنَّاهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا بِالْبَلَدِ أَحَدٌ. فَتَسَوَّرَ النَّاسُ السُّورَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا أَحَدًا إِلَّا قَدْ هَرَبُوا إِلَى الْمَدَائِنِ. وَذَلِكَ فِي شَهْرِ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فَسَأَلْنَا ذَلِكَ الرَّجُلَ وَأُنَاسًا مَنَ الْأُسَارَى فِيهَا لِأَيِّ شَيْءٍ هَرَبُوا ؟ قَالُوا: بَعَثَ الْمَلِكُ إِلَيْكُمْ يَعْرِضُ عَلَيْكُمُ الصُّلْحَ، فَأَجَابَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ صُلْحٌ أَبَدًا، حَتَّى نَأْكُلَ عَسَلَ أَفَرَنْدِينَ بِأُتْرُجِّ كُوثَى. فَقَالَ الْمَلِكُ: يَا وَيْلَاهُ، إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَتَكَلَّمُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، تَرُدُّ عَلَيْنَا وَتُجِيبُنَا عَنِ الْعَرَبِ. ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ بِالرَّحِيلِ مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْمَدَائِنِ فَجَازُوا فِي السُّفُنِ مِنْهَا إِلَيْهَا، وَبَيْنَهُمَا دِجْلَةُ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْهَا جِدًّا.

وَلَمَّا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ بَهُرَسِيرَ فِي اللَّيْلِ، لَاحَ لَهُمُ الْقَصْرُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْمَدَائِنِ وَهُوَ قَصْرُ الْمَلِكِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ سَيَفْتَحُهُ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَذَلِكَ قُرَيْبَ الصَّبَاحِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ رَآهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَبْيَضُ كِسْرَى، هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَنَظَرَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَتَابَعُوا التَّكْبِيرَ إِلَى الصُّبْحِ.

ذِكْرُ فَتْحِ الْمَدَائِنِ الَّتِي هِيَ مُسْتَقَرُّ مُلْكِ كِسْرَى
لَمَّا فَتَحَ سَعْدٌ بَهُرَسِيرَ وَاسْتَقَرَّ بِهَا، وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ، لَمْ يَجِدْ فِيهَا أَحَدًا وَلَا شَيْئًا مِمَّا يُغْنَمُ، بَلْ قَدْ تَحَوَّلُوا بِكَمَالِهِمْ إِلَى الْمَدَائِنِ وَرَكِبُوا السُّفُنَ، وَضَمُّوا السُّفُنَ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَجِدْ سَعْدٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، شَيْئًا مِنَ السُّفُنِ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ شَيْءٍ مِنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً، وَاسْوَدَّ مَاؤُهَا، وَرَمَتْ بِالزَّبَدِ مِنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ بِهَا، وَأُخْبِرَ سَعْدٌ، بِأَنَّ كِسْرَى يَزْدَجِرْدَ عَازِمٌ

عَلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى حُلْوَانَ وَأَنَّكَ إِنْ لَمْ تُدْرِكْهُ قَبْلَ ثَلَاثٍ، فَاتَ عَلَيْكَ وَتَفَارَطَ الْأَمْرُ، فَخَطَبَ سَعْدٌ الْمُسْلِمِينَ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ عَدُوَّكُمْ قَدِ اعْتَصَمَ مِنْكُمْ بِهَذَا الْبَحْرِ ; فَلَا تَخْلُصُونَ إِلَيْهِ مَعَهُ، وَهُمْ يَخْلُصُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا شَاءُوا فَيُنَاوِشُونَكُمْ فِي سُفُنِهِمْ، وَلَيْسَ وَرَاءَكُمْ شَيْءٌ تَخَافُونَ أَنْ تُؤْتَوْا مِنْهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْ تُبَادِرُوا جِهَادَ الْعَدُوِّ بِنِيَّاتِكُمْ قَبْلَ أَنْ تَحْصُرَكُمُ الدُّنْيَا، أَلَا إِنِّي قَدْ عَزَمْتُ عَلَى قَطْعِ هَذَا الْبَحْرِ إِلَيْهِمْ. فَقَالُوا جَمِيعًا: عَزَمَ اللَّهُ لَنَا وَلَكَ عَلَى الرُّشْدِ، فَافْعَلْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ نَدَبَ سَعْدٌ النَّاسَ إِلَى الْعُبُورِ، وَيَقُولُ: مَنْ يَبْدَأُ فَيَحْمِي لَنَا الْفِرَاضَ - يَعْنِي ثُغْرَةَ الْمَخَاضَةِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى - لِيَجُوزَ النَّاسُ إِلَيْهِمْ آمِنِينَ. فَانْتَدَبَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو وَذَوُو الْبَأْسِ مِنَ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنْ سِتِّمِائَةٍ، فَأَمَّرَ سَعْدٌ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ عَمْرٍو، فَوَقَفُوا عَلَى حَافَّةِ دِجْلَةَ، فَقَالَ عَاصِمٌ: مَنْ يُنْتَدَبُ مَعِي لِنَكُونَ قَبْلَ النَّاسِ دُخُولًا فِي هَذَا الْبَحْرِ، فَنَحْمِيَ الْفِرَاضَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ ؟ فَانْتَدَبَ لَهُ سِتُّونَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ ; وَالْأَعَاجِمُ وُقُوفٌ صُفُوفًا مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ ؟ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَحْجَمَ النَّاسُ عَنِ الْخَوْضِ فِي دِجْلَةَ، فَقَالَ: أَتَخَافُونَ مِنْ هَذِهِ

النُّطْفَةِ ؟ ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [ آلِ عِمْرَانَ 145 ]. ثُمَّ أَقْحَمَ فَرَسَهُ فِيهَا وَاقْتَحَمَ النَّاسُ، وَقَدِ افْتَرَقَ السِّتُّونَ فِرْقَتَيْنِ: أَصْحَابُ الْخَيْلِ الذُّكُورِ، وَأَصْحَابُ الْخَيْلِ الْإِنَاثِ، فَلَمَّا رَآهُمُ الْفُرْسُ يَطْفُونَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ قَالُوا: دِيوَانَا دِيوَانَا. يَقُولُونَ: مَجَانِينُ مَجَانِينُ. ثُمَّ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا تُقَاتِلُونَ إِنْسًا بَلْ تُقَاتِلُونَ جِنًّا. ثُمَّ أَرْسَلُوا فُرْسَانًا مِنْهُمْ فِي الْمَاءِ يَلْتَقُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ لِيَمْنَعُوهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ الْمَاءِ، فَأَمَرَ عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو أَصْحَابَهُ أَنْ يَشْرَعُوا لَهُمُ الرِّمَاحَ وَيَتَوَخَّوُا الْأَعْيُنَ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِالْفُرْسِ فَقَلَعُوا عُيُونَ خُيُولِهِمْ، فَرَجَعُوا أَمَامَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْلِكُونَ كَفَّ خُيُولِهِمْ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الْمَاءِ، وَاتَّبَعَهُمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ فَسَاقُوا وَرَاءَهُمْ حَتَّى طَرَدُوهُمْ عَنِ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَوَقَفُوا عَلَى حَافَّةِ الدِّجْلَةِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَنَزَلَ بَقِيَّةُ أَصْحَابِ عَاصِمٍ مِنِ السِّتِّمِائَةِ فِي دِجْلَةَ، فَخَاضُوهَا، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقَاتَلُوا مَعَ أَصْحَابِهِمْ حَتَّى نَفَوُا الْفُرْسَ عَنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ. وَكَانُوا يُسَمُّونَ الْكَتِيبَةَ الْأُولَى كَتِيبَةَ الْأَهْوَالِ، وَأَمِيرُهَا عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْكَتِيبَةَ الثَّانِيَةَ الْكَتِيبَةَ الْخَرْسَاءَ، وَأَمِيرُهَا الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو. وَهَذَا كُلُّهُ وَسَعْدٌ

وَالْمُسْلِمُونَ يَنْظُرُونَ إِلَى مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ الْفُرْسَانُ بِالْفُرْسِ، وَسَعْدٌ وَاقِفٌ عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ. ثُمَّ نَزَلَ سَعْدٌ بِبَقِيَّةِ الْجَيْشِ، وَذَلِكَ حِينَ نَظَرُوا إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ وَقَدْ تَحَصَّنَ بِمَنْ حَصَلَ فِيهِ مِنَ الْفُرْسَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَمَرَ سَعْدٌ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَاءِ أَنْ يَقُولُوا: نَسْتَعِينُ بِاللَّهِ، وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. ثُمَّ اقْتَحَمَ بِفَرَسِهِ دِجْلَةَ، وَاقْتَحَمَ النَّاسُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ فَسَارُوا فِيهَا كَأَنَّمَا يَسِيرُونَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، حَتَّى مَلَأُوا مَا بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ، فَلَا يُرَى وَجْهُ الْمَاءِ مِنَ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ كَمَا يَتَحَدَّثُونَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ; وَذَلِكَ لِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ وَالْأَمْنِ، وَالْوُثُوقِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَوَعْدِهِ وَنَصْرِهِ، وَتَأْيِيدِهِ، وَلِأَنَّ أَمِيرَهُمْ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَدَعَا لَهُ، فَقَالَ:اللَّهُمَّ أَجِبْ دَعْوَتَهُ وَسَدِّدْ رَمْيَتَهُ
وَالْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ سَعْدًا دَعَا لِجَيْشِهِ هَذَا فِي هَذَا الْيَوْمِ بِالسَّلَامَةِ وَالنَّصْرِ، وَقَدْ رَمَى بِهِمْ فِي هَذَا الْيَمِّ، فَسَدَّدَهُمُ اللَّهُ وَسَلَّمَهُمْ، فَلَمْ يُفْقَدْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ وَاحِدٌ، غَيْرَ أَنَّ رَجُلًا وَاحِدًا يُقَالُ لَهُ: غَرْقَدَةُ الْبَارِقِيُّ، ذَلَّ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ، فَأَخَذَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو بِلِجَامِهَا، وَأَخْذَ بِيَدِ الرَّجُلِ حَتَّى عَدَلَهُ عَلَى فَرَسِهِ، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ، فَقَالَ: عَجَزَ النِّسَاءُ أَنْ يَلِدْنَ مِثْلَ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو. وَلَمْ يُعْدَمْ

لِلْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ غَيْرَ قَدَحٍ مِنْ خَشَبٍ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ عَامِرٍ. كَانَتْ عَلَاقَتُهُ رَثَّةً، فَأَخَذَهُ الْمَوْجُ، فَدَعَا صَاحِبُهُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِنْ بَيْنِهِمْ يَذْهَبُ مَتَاعِي. فَرَدَّهُ الْمَوْجُ إِلَى الْجَانِبِ الَّذِي يَقْصِدُونَهُ، فَأَخَذَهُ النَّاسُ ثُمَّ رَدُّوهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِعَيْنِهِ. وَكَانَ الْفَرَسُ إِذَا أَعْيَا وَهُوَ فِي الْمَاءِ، يُقَيِّضُ اللَّهُ لَهُ مِثْلَ النَّشْزِ الْمُرْتَفِعِ، فَيَقِفُ عَلَيْهِ فَيَسْتَرِيحُ، وَحَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْخَيْلِ لَيَسِيرُ وَمَا يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى حِزَامِهَا، وَكَانَ يَوْمًا عَظِيمًا، وَأَمْرًا هَائِلًا، وَخَطْبًا جَلِيلًا، وَخَارِقًا بَاهِرًا، وَمُعْجِزَةً لِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَلَقَهَا اللَّهُ لِأَصْحَابِهِ، لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، وَلَا فِي بُقْعَةٍ مِنَ الْبِقَاعِ سِوَى قَضِيَّةِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ الْمُتَقَدِّمَةِ، بَلْ هَذَا أَجَلُّ وَأَعْظَمُ ; فَإِنَّ هَذَا الْجَيْشَ كَانَ أَضْعَافَ ذَلِكَ. قَالُوا: وَكَانَ الَّذِي يُسَايِرُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْمَاءِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ فَجَعَلَ سَعْدٌ يَقُولُ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَاللَّهِ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ وَلِيَّهُ، وَلَيُظْهِرَنَّ اللَّهُ دِينَهُ، وَلَيَهْزِمَنَ اللَّهُ عَدُوَّهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجَيْشِ بَغْيٌ أَوْ ذُنُوبٌ تَغْلِبُ الْحَسَنَاتِ. فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ جَدِيدٌ، ذُلِّلَتْ لَهُمْ وَاللَّهِ الْبُحُورُ، كَمَا ذُلِّلَ لَهُمُ الْبَرُّ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ لَيَخْرُجُنَّ مِنْهُ أَفْوَاجًا كَمَا دَخَلُوا أَفْوَاجًا. فَخَرَجُوا مِنْهُ كَمَا قَالَ سَلْمَانُ، لَمْ يَغْرَقْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَمْ يَفْقِدُوا شَيْئًا.
وَلَمَّا اسْتَقَلَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، خَرَجَتِ الْخُيُولُ تَنْفُضُ أَعْرَافَهَا صَاهِلَةً، فَسَاقُوا وَرَاءَ الْأَعَاجِمِ حَتَّى دَخَلُوا الْمَدَائِنَ فَلَمْ يَجِدُوا بِهَا أَحَدًا، بَلْ قَدْ أَخَذَ كِسْرَى أَهْلَهُ وَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْحَوَاصِلِ، وَتَرَكُوا مَا

عَجَزُوا عَنْهُ مِنَ الْأَنْعَا مِ، وَالثِّيَابِ، وَالْمَتَاعِ، وَالْآنِيَةِ، وَالْأَلْطَافِ، وَالْأَدْهَانِ، مَا لَا يُدْرَى قِيمَتُهُ. وَكَانَ فِي خِزَانَةِ كِسْرَى ثَلَاثَةُ آلَافِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَخَذُوا مِنْ ذَلِكَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَتَرَكُوا مَا عَجَزُوا عَنْهُ، وَهُوَ مِقْدَارُ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ.
فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ الْمَدَائِنَ كَتِيبَةُ الْأَهْوَالِ، ثُمَّ الْكَتِيبَةُ الْخَرْسَاءُ، فَأَخَذُوا فِي سِكَكِهَا لَا يَلْقَوْنَ أَحَدًا وَلَا يَخْشَوْنَهُ، غَيْرَ الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ، فَفِيهِ مُقَاتِلَةٌ، وَهُوَ مُحَصَّنٌ. فَلَمَّا جَاءَ سَعْدٌ بِالْجَيْشِ، دَعَا أَهْلَ الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، عَلَى لِسَانِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ نَزَلُوا مِنْهُ، وَسَكَنَهُ سَعْدٌ وَاتَّخَذَ الْإِيوَانَ مُصَلَّى، وَحِينَ دَخَلَهُ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [ الدُّخَانِ 25 - 28 ]. ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى صَدْرِهِ فَصَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ صَلَاةَ الْفَتْحِ، وَذَكَرَ سَيْفٌ فِي رِوَايَتِهِ أَنَّهُ صَلَّاهَا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنَّهُ جَمَعَ بِالْإِيوَانِ، فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ بِالْعِرَاقِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ سَعْدًا نَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا، وَبَعَثَ إِلَى الْعِيَالَاتِ فَأَنْزَلَهُمُ دُورَ الْمَدَائِنِ وَاسْتَوْطَنُوهَا، حَتَّى فَتَحُوا جَلُولَاءَ وَتَكْرِيتَ وَالْمَوْصِلَ، ثُمَّ تَحَوَّلُوا إِلَى الْكُوفَةِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.

ثُمَّ أَرْسَلَ السَّرَايَا فِي إِثْرِ كِسْرَى يَزْدَجِرْدَ، فَلَحِقَ بِهِمْ طَائِفَةٌ فَقَتَلُوهُمْ وَشَرَّدُوهُمْ، وَاسْتَلَبُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا عَظِيمَةً، أَكْثَرُهَا مِنْ مَلَابِسِ كِسْرَى وَتَاجِهِ وَحُلِيِّهِ. وَشَرَعَ سَعْدٌ فِي تَحْصِيلٍ مَا هُنَالِكَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ وَالتُّحَفِ، مِمَّا لَا يُقَوَّمُ وَلَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ ; كَثْرَةً وَعَظَمَةً.
وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّهُ كَانَ هُنَاكَ تَمَاثِيلُ مِنْ جِصٍّ، فَنَظَرَ سَعْدٌ إِلَى أَحَدِهَا وَإِذَا هُوَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِلَى مَكَانٍ، فَقَالَ سَعْدٌ: إِنَّ هَذَا لَمْ يُوضَعْ هَكَذَا سُدًى. فَأَخَذُوا مَا يُسَامِتُ أُصْبُعَهُ، فَوَجَدُوا قُبَالَتَهَا كَنْزًا عَظِيمًا مِنْ كُنُوزِ الْأَكَاسِرَةِ الْأَوَائِلِ، فَأَخْرَجُوا مِنْهُ أَمْوَالًا عَظِيمَةً جَزِيلَةً، وَحَوَاصِلَ بَاهِرَةً، وَتُحَفًا فَاخِرَةً. وَاسْتَحْوَذَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا هُنَالِكَ أَجْمَعَ، مِمَّا لَمْ يَرَ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا أَعْجَبَ مِنْهُ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ تَاجُ كِسْرَى وَهُوَ مُكَلَّلٌ بِالْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ الَّتِي تُحَيِّرُ الْأَبْصَارَ، وَمِنْطَقَتُهُ كَذَلِكَ، وَسَيْفُهُ وَسِوَارَاهُ وَقَبَاؤُهُ، وَبِسَاطُ إِيوَانِهِ، وَكَانَ مُرَبَّعًا، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي مِثْلِهَا، مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَالْبِسَاطُ مِثْلُهُ سَوَاءٌ، وَهُوَ مَنْسُوجٌ بِالذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ الثَّمِينَةِ، وَفِيهِ مُصَوَّرُ جَمِيعِ مَمَالِكِ كِسْرَى ; بِلَادُهُ بِأَنْهَارِهَا وَقِلَاعِهَا وَأَقَالِيمِهَا وَكُوَرِهَا، وَصِفَةُ الزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ الَّتِي فِي بِلَادِهِ. فَكَانَ إِذَا جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ مَمْلَكَتِهِ، وَدَخَلَ تَحْتَ تَاجِهِ، وَتَاجُهُ مُعَلَّقٌ بِسَلَاسِلِ

الذَّهَبِ ; لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُقِلَّهُ عَلَى رَأْسِهِ لِثِقَلِهِ، بَلْ كَانَ يَجِيءُ فَيَجْلِسُ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُدْخِلُ رَأْسَهُ تَحْتَ التَّاجِ، وَالسَّلَاسِلُ الذَّهَبُ تَحْمِلُهُ عَنْهُ، وَهُوَ يَسْتُرُهُ حَالَ لُبْسِهِ، فَإِذَا رُفِعَ الْحِجَابُ عَنْهُ، خَرَّتْ لَهُ الْأُمَرَاءُ سُجُودًا، وَعَلَيْهِ الْمِنْطَقَةُ وَالسِّوَارَانِ وَالسَّيْفُ وَالْقَبَاءُ الْمُرَصَّعُ بِالْجَوَاهِرِ، فَيَنْظُرُ فِي الْبُلْدَانِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَيَسْأَلُ عَنْهَا، وَمَنْ فِيهَا مِنَ النُّوَّابِ، وَهَلْ حَدَثَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَحْدَاثِ ؟ فَيُخْبِرُهُ بِذَلِكَ وُلَاةُ الْأُمُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْأُخْرَى، وَهَكَذَا حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ أَحْوَالِ بِلَادِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، لَا يُهْمِلُ أَمْرَ الْمَمْلَكَةِ، وَقَدْ وَضَعُوا هَذَا الْبِسَاطَ بَيْنَ يَدَيْهِ، تَذْكَارًا لَهُ بِشَأْنِ الْمَمَالِكِ، وَهُوَ اصْطِلَاحٌ جَيِّدٌ مِنْهُمْ فِي أَمْرِ السِّيَاسَةِ. فَلَمَّا جَاءَ قَدَرُ اللَّهِ، زَالَتْ تِلْكَ الْأَيْدِي عَنْ تِلْكَ الْمَمَالِكِ وَالْأَرَاضِي، وَتَسَلَّمَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِيهِمْ قَسْرًا، وَكَسَرُوا شَوْكَتَهُمْ عَنْهَا، وَأَخَذُوهَا بِأَمْرِ اللَّهِ صَافِيَةً ضَافِيَةً، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ جَعَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى الْأَقْبَاضِ عَمْرَو بْنَ عَمْرِو بْنِ مُقَرِّنٍ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا حَصَّلَ مَا كَانَ فِي الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ، وَمَنَازِلِ كِسْرَى، وَسَائِرِ دُورِ الْمَدَائِنِ وَمَا كَانَ بِالْإِيوَانِ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَمَا يَفِدُ مِنَ السَّرَايَا الَّذِينَ فِي صُحْبَةِ زُهْرَةَ بْنِ حَوِيَّةَ، وَكَانَ فِيمَا رَدَّ زُهْرَةُ بَغْلٌ كَانَ قَدْ أَدْرَكَهُ وَغَصَبَهُ مِنَ الْفُرْسِ،

وَكَانَتْ تَحُوطُهُ بِالسُّيُوفِ، فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْهُمْ، وَقَالَ: إِنَّ لِهَذَا لَشَأْنًا. فَرَدَّهُ إِلَى الْأَقْبَاضِ، وَإِذَا عَلَيْهِ سَفَطَانِ فِيهِمَا ثِيَابُ كِسْرَى وَحُلِيُّهُ، وَلُبْسُهُ الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهُ عَلَى السَّرِيرِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبَغْلٌ آخَرُ عَلَيْهِ تَاجُهُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي سَفَطَيْنِ أَيْضًا، رُدَّا مِنَ الطَّرِيقِ مِمَّا اسْتَلَبَهُ أَصْحَابُ السَّرَايَا.
وَكَانَ فِيمَا رَدَّتِ السَّرَايَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ وَفِيهَا أَكْثَرُ أَثَاثِ كِسْرَى، وَأَمْتِعَتُهُ وَالْأَشْيَاءُ النَّفِيسَةُ الَّتِي اسْتَصْحَبُوهَا مَعَهُمْ، فَلَحِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَاسْتَلَبُوهَا مِنْهُمْ. وَلَمْ تَقْدِرِ الْفُرْسُ عَلَى حَمْلِ الْبِسَاطِ لِثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا حَمْلِ الْأَمْوَالِ لِكَثْرَتِهَا ; فَإِنَّهُ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَجِيئُونَ بَعْضَ تِلْكَ الدُّورِ فَيَجِدُونَ الْبَيْتَ مَلَآنًا إِلَى أَعْلَاهُ مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيَجِدُونَ مِنَ الْكَافُورِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَيَحْسَبُونَهُ مِلْحًا، وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْعَجِينِ فَوَجَدُوهُ مُرًّا، حَتَّى تَبَيَّنُوا أَمْرَهُ.
فَتَحَصَّلَ الْفَيْءُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَشَرَعَ سَعْدٌ فَخَمَّسَهُ، وَأَمَرَ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ فَقَسَمَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَحَصَلَ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْفُرْسَانِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، وَكَانُوا كُلُّهُمْ فُرْسَانًا، وَمَعَ بَعْضِهِمْ جَنَائِبُ. وَاسْتَوْهَبَ سَعْدٌ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْبِسَاطِ وَلُبْسَ كِسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِيَبْعَثَهُ إِلَى عُمَرَ وَالْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِ، وَيَتَعَجَّبُوا مِنْهُ، فَطَيَّبُوا لَهُ ذَلِكَ وَأَذِنُوا فِيهِ، فَبَعَثَهُ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ مَعَ الْخُمْسِ مَعَ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ، وَكَانَ

الَّذِي بَشَّرَ بِالْفَتْحِ قَبْلَهُ حُلَيْسُ بْنُ فُلَانٍ الْأَسَدِيُّ، فَرُوِّينَا أَنَّ عُمَرَ لَمَّا نَظَرَ إِلَى ذَلِكَ قَالَ: إِنَّ قَوْمًا أَدَّوْا هَذَا لَأُمَنَاءُ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّكَ عَفَفْتَ فَعَفَّتْ رَعِيَّتُكَ، وَلَوْ رَتَعْتَ لَرَتَعَتْ. ثُمَّ قَسَّمَ عُمَرُ ذَلِكَ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَأَصَابَ عَلِيًّا قِطْعَةٌ مِنَ الْبِسَاطِ فَبَاعَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفًا.
وَقَدْ ذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَلْبَسَ ثِيَابَ كِسْرَى لِخَشَبَةٍ، وَنَصَبَهَا أَمَامَهُ، لِيُرِيَ النَّاسَ مَا فِي هَذِهِ الزِّينَةِ مِنَ الْعَجَبِ، وَمَا عَلَيْهَا مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ عُمَرَ أَلْبَسَ ثِيَابَ كِسْرَى لِسُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، أَمِيرِ بَنِي مُدْلِجٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ": أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ الْأَصْبَهَانِيُّ ثَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِي بِخَطِّ يَدِي عَنْ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، ثَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أُتِيَ بِفَرْوَةِ كِسْرَى فَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَفِي الْقَوْمِ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، قَالَ: فَأَلْقَى إِلَيْهِ سِوَارَيْ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ فَجَعَلَهُمَا فِي يَدَيْهِ، فَبَلَغَا مَنْكِبَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُمَا فِي يَدَيْ سُرَاقَةَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، سِوَارَيْ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ فِي يَدَيْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، أَعْرَابِيٍّ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. هَكَذَا سَاقَهُ الْبَيْهَقِيُّ. ثُمَّ حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ:

وَإِنَّمَا أَلْبَسَهُمَا سُرَاقَةَ ; لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِسُرَاقَةَ وَنَظَرَ إِلَى ذِرَاعَيْهِ:كَأَنِّي بِكَ وَقَدْ لَبِسْتَ سِوَارَيْ كِسْرَى قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لِسُرَاقَةَ حِينَ أَلْبَسَهُ سِوَارَيْ كِسْرَى: قُلِ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قَالَ: قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَلَبَهُمَا كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ وَأَلْبَسَهُمَا سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ أَعْرَابِيًّا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ أَخْبَرَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ، ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: بَعَثَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَيَّامَ الْقَادِسِيَّةِ إِلَى عُمَرَ بِقَبَاءِ كِسْرَى وَسَيْفِهِ وَمِنْطَقَتِهِ وَسِوَارَيْهِ وَسَرَاوِيلِهِ وَقَمِيصِهِ وَتَاجِهِ وَخُفَّيْهِ، قَالَ: فَنَظَرَ عُمَرُ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، فَكَانَ أَجْسَمَهُمْ وَأَبَدْنَهُمْ قَامَةً سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ: يَا سُرَاقُ قُمْ فَالْبَسْ. قَالَ سُرَاقَةُ: فَطَمِعْتُ فِيهِ فَقُمْتُ فَلَبِسْتُ. فَقَالَ: أُدَبِرْ. فَأَدْبَرْتُ، ثُمَّ قَالَ: أَقْبِلْ. فَأَقْبَلْتُ، ثُمَّ قَالَ: بَخٍ بَخٍ، أُعَيْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ عَلَيْهِ قَبَاءُ كِسْرَى وَسَرَاوِيلُهُ وَسَيْفُهُ وَمِنْطَقَتُهُ وَتَاجُهُ وَخُفَّاهُ، رُبَّ يَوْمٍ يَا سُرَاقُ بْنَ مَالِكٍ، لَوْ كَانَ عَلَيْكَ فِيهِ هَذَا مِنْ مَتَاعِ كِسْرَى وَآلِ كِسْرَى، كَانَ شَرَفًا لَكَ وَلِقَوْمِكَ، انْزِعْ. فَنَزَعْتُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ مَنَعْتَ هَذَا رَسُولَكَ وَنَبِيَّكَ، وَكَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنِّي، وَأَكْرَمَ عَلَيْكَ مِنِّي، وَمَنَعْتَهُ أَبَا بَكْرٍ، وَكَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنِّي،

وَأَكْرَمَ عَلَيْكَ مِنِّي، وَأَعْطَيْتَنِيهِ، فَأَعُوذُ بِكَ أَنْ تَكُونَ أَعْطَيْتَنِيهِ لِتَمْكُرَ بِي. ثُمَّ بَكَى حَتَّى رَحِمَهُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ. ثُمَّ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا بِعْتَهُ ثُمَّ قَسَّمْتَهُ قَبْلَ أَنْ تُمْسِيَ.
وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيُّ أَنَّ عُمَرَ حِينَ مَلَكَ تِلْكَ الْمَلَابِسَ وَالْجَوَاهِرَ، جِيءَ بِسَيْفِ كِسْرَى وَمَعَهُ عِدَّةُ سُيُوفٍ ; مِنْهَا سَيْفُ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ نَائِبِ كِسْرَى عَلَى الْحِيرَةِ وَأَنَّ عُمَرَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ سَيْفَ كِسْرَى فِيمَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ قَوْمًا أَدَّوْا هَذَا لَذَوُوا أَمَانَةٍ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ كِسْرَى لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ تَشَاغَلَ بِمَا أَوُتِيَ عَنْ آخِرَتِهِ، فَجَمَعَ لِزَوْجِ امْرَأَتِهِ أَوْ زَوْجِ ابْنَتِهِ، وَلَمْ يُقَدِّمْ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ قَدَّمَ لِنَفْسِهِ وَوَضَعَ الْفُضُولَ مَوَاضِعَهَا لَحَصَلَ لَهُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ أَبُو بُجَيْدٍ نَافِعُ بْنُ الْأَسْوَدِ، فِي ذَلِكَ:
وَأَمَلْنَا عَلَى الْمَدَائِنِ خَيْلًا بَحْرُهَا مِثْلُ بَرِّهِنَّ أَرِيضَا فَانْتَثَلْنَا خَزَائِنَ الْمَرْءِ كِسْرَى
يَوْمَ وَلَّوْا وَحَاصَ مِنَّا جَرِيضَا

وَقْعَةُ جَلُولَاءَ
لَمَّا سَارَ كِسْرَى وَهُوَ يَزْدَجِرْدُ بْنُ شَهْرِيَارَ مِنَ الْمَدَائِنِ هَارِبًا إِلَى حُلْوَانَ شَرَعَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فِي جَمْعِ رِجَالٍ وَأَعْوَانٍ وَجُنُودٍ، مِنَ الْبُلْدَانِ الَّتِي هُنَاكَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ مِنَ الْفُرْسِ، وَأَمَّرَ عَلَى الْجَمِيعِ مِهْرَانَ، وَسَارَ كِسْرَى إِلَى حُلْوَانَ، وَأَقَامَ الْجَمْعُ الَّذِي جَمَعَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي جَلُولَاءَ، وَاحْتَفَرُوا خَنْدَقًا عَظِيمًا حَوْلَهَا، وَأَقَامُوا بِهَا فِي الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ وَآلَاتِ الْحِصَارِ، فَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ، أَنْ يُقِيمَ هُوَ بِالْمَدَائِنِ، وَيَبْعَثَ ابْنَ أَخِيهِ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ الَّذِي يَبْعَثُهُ إِلَى كِسْرَى، وَيَكُونَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى الْمَيْمَنَةِ سِعْرُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ أَخُوهُ عُمَرُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَلَى السَّاقَةِ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ الْجُهَنِيُّ. فَفَعَلَ سَعْدٌ ذَلِكَ، وَبَعَثَ مَعَ ابْنِ أَخِيهِ جَيْشًا كَثِيفًا يُقَارِبُ اثْنَيْ عَشَرَ الْفًا، مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَوُجُوهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَرُءُوسِ الْعَرَبِ. وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ أَمْرِ الْمَدَائِنِ فَسَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْمَجُوسِ وَهُمْ بِجَلُولَاءَ قَدْ خَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ، فَحَاصَرَهُمْ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ، وَكَانُوا يَخْرُجُونَ مِنْ بَلَدِهِمْ لِلْقِتَالِ فِي كُلِّ

وَقْتٍ، فَيُقَاتِلُونَ قِتَالًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ. وَجَعَلَ كِسْرَى يَبْعَثُ إِلَيْهِمُ الْأَمْدَادَ، وَكَذَلِكَ سَعْدٌ يَبْعَثُ الْمَدَدَ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ، مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَحَمِيَ الْقِتَالُ، وَاشْتَدَّ النِّزَالُ، وَاضْطَرَمَتْ نَارُ الْحَرْبِ، وَقَامَ فِي النَّاسِ هَاشِمٌ فَخَطَبَهُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَحَرَّضَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ. وَقَدْ تَعَاقَدَتِ الْفُرْسُ وَتَعَاهَدَتْ، وَحَلَفُوا بِالنَّارِ أَنْ لَا يَفِرُّوا أَبَدًا حَتَّى يُفْنُوا الْعَرَبَ. فَلَمَّا كَانَ الْمَوْقِفُ الْأَخِيرُ، وَهُوَ يَوْمُ الْفَيْصَلِ وَالْفُرْقَانِ، تَوَاقَفُوا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ، حَتَّى فَنِيَ النُّشَّابُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَتَقَصَّفَتِ الرِّمَاحُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ، وَصَارُوا إِلَى السُّيُوفِ وَالطَّبَرْزِينَاتِ، وَحَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ فَصَلَّى الْمُسْلِمُونَ إِيمَاءً، وَذَهَبَتْ فِرْقَةُ الْمَجُوسِ وَجَاءَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى، فَقَامَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فِي الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: أَهَالَكُمْ مَا رَأَيْتُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ ؟ قَالُوا: نَعَمْ إِنَّا كَالُّونَ وَهُمْ مُرِيحُونَ. فَقَالَ: بَلْ إِنَّا حَامِلُونَ عَلَيْهِمْ، وَمُجِدُّونَ فِي طَلَبِهِمْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا، فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ حَتَّى نُخَالِطَهُمْ. فَحَمَلَ وَحَمَلَ النَّاسُ، فَأَمَّا الْقَعْقَاعُ فَإِنَّهُ صَمَّمَ الْحَمَلَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُرْسَانِ وَالْأَبْطَالِ وَالشُّجْعَانِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَابِ الْخَنْدَقِ، وَأَقْبَلَ اللَّيْلُ بِظَلَامِهِ، وَجَالَتْ بَقِيَّةُ الْأَبْطَالِ بِمَنْ مَعَهُمْ فِي النَّاسِ، وَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ فِي التَّحَاجُزِ مِنْ أَجْلِ إِقْبَالِ اللَّيْلِ، وَفِي الْأَبْطَالِ يَوْمَئِذٍ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ، وَقَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ، وَحُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِمَا صَنَعَهُ الْقَعْقَاعُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَلَمْ

يَشْعُرُوا بِذَلِكَ، لَوْلَا مُنَادِيهِ يُنَادِي: أَيْنَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ ! هَذَا أَمِيرُكُمْ عَلَى بَابِ خَنْدَقِهِمْ. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْمَجُوسُ فَرُّوا، وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ نَحْوَ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِذَا هُوَ عَلَى بَابِ الْخَنْدَقِ قَدْ مَلَكَهُ عَلَيْهِمْ، وَهَرَبَتِ الْفُرْسُ كُلَّ مَهْرَبٍ، وَأَخَذَهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَعَدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ مِائَةُ أَلْفٍ، حَتَّى جَلَّلُوا وَجْهَ الْأَرْضِ بِالْقَتْلَى، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ جَلُولَاءَ. وَغَنِمُوا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَرِيبًا مِمَّا غَنِمُوا مِنَ الْمَدَائِنِ قَبْلَهَا
وَبَعَثَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو فِي إِثْرِ مَنِ انْهَزَمَ مِنْهُمْ وَرَاءَ كِسْرَى، فَسَاقَ خَلْفَهُمْ حَتَّى أَدْرَكَ مِهْرَانَ مُنْهَزِمًا، فَقَتَلَهُ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَفْلَتَهُمُ الْفَيْرُزَانُ فَاسْتَمَرَّ مُنْهَزِمًا، وَأَسَرَ سَبَايَا كَثِيرَةً بَعَثَ بِهَا إِلَى هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ، وَغَنِمُوا دَوَابَّ كَثِيرَةً جِدًّا. ثُمَّ بَعَثَ هَاشِمٌ بِالْغَنَائِمِ وَالْأَمْوَالِ إِلَى عَمِّهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَنَفَلَ سَعْدٌ ذَوِي النَّجْدَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِقَسْمِ ذَلِكَ عَلَى الْغَانِمِينَ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ الْمَالُ الْمُتَحَصَّلُ مِنْ وَقْعَةِ جَلُولَاءَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَكَانَ خُمُسُهُ سِتَّةَ آلَافِ أَلْفٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ الَّذِي أَصَابَ كُلُّ فَارِسٍ يَوْمَ جَلُولَاءَ نَظِيرَ مَا حَصَلَ لَهُ يَوْمَ الْمَدَائِنِ. يَعْنِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا لِكُلِّ فَارِسٍ. وَقِيلَ: أَصَابَ كُلُّ فَارِسٍ تِسْعَةَ آلَافٍ وَتِسْعَ دَوَابٍّ.

وَكَانَ الَّذِي وَلِيَ قَسْمَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْصِيلَهُ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ثُمَّ بَعَثَ سَعْدٌ بِالْأَخْمَاسِ مِنَ الْمَالِ وَالرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ مَعَ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَقُضَاعِيِّ بْنِ عَمْرٍو، وَأَبِي مُفَزِّرٍ الْأَسْوَدِ. فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ سَأَلَ عُمَرُ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الْوَقْعَةِ، فَذَكَرَهَا لَهُ، وَكَانَ زِيَادٌ فَصِيحًا، فَأَعْجَبَ إِيرَادُهُ لَهَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْطُبَ النَّاسَ بِمَا أَخْبَرْتَنِي بِهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهِيبَ عِنْدِي مِنْكَ، فَكَيْفَ لَا أَقْوَى عَلَى هَذَا مَعَ غَيْرِكَ ؟ فَقَامَ فِي النَّاسِ فَقَصَّ عَلَيْهِمْ خَبَرَ الْوَقْعَةِ، وَكَمْ قَتَلُوا، وَكَمْ غَنِمُوا، بِعِبَارَةٍ عَظِيمَةٍ بَلِيغَةٍ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْخَطِيبُ الْمِصْقَعُ. يَعْنِي الْفَصِيحَ. فَقَالَ زِيَادٌ: إِنَّ جُنْدَنَا أَطْلَقُوا بِالْفِعَالِ لِسَانَنَا. ثُمَّ حَلَفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ لَا يُجِنَّ هَذَا الْمَالَ الَّذِي جَاءُوا بِهِ سَقْفٌ حَتَّى يَقْسِمَهُ، فَبَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَمَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَحْرُسَانِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ عُمَرُ فِي النَّاسِ، بَعْدَ مَا صَلَّى الْغَدَاةَ وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَأَمَرَ فَكَشَفَ عَنْهُ جَلَابِيبَهُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى يَاقُوتِهِ وَزَبَرْجَدِهِ وَذَهَبِهِ الْأَصْفَرِ وَفِضَّتِهِ الْبَيْضَاءِ بَكَى عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لِمَوْطِنُ شُكْرٍ. فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا ذَاكَ يُبْكِينِي، وَتَاللَّهَ مَا أَعْطَى اللَّهُ هَذَا قَوْمًا إِلَّا تَحَاسَدُوا وَتَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا إِلَّا أُلْقِيَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ قَسَمَهُ كَمَا قَسَمَ أَمْوَالَ الْقَادِسِيَّةِ.

وَرَوَى سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ شُيُوخِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَكَانَ فَتْحُ جَلُولَاءَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَتْحِ الْمَدَائِنِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ. وَقَدْ تَكَلَّمَ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا فِيمَا رَوَاهُ عَنْ سَيْفٍ، عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِأَرْضِ السَّوَادِ وَخَرَاجِهَا، وَمَوْضِعُ تَحْرِيرِ ذَلِكَ كِتَابُ " الْأَحْكَامِ ".
وَقَدْ قَالَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ فِي يَوْمِ جَلُولَاءَ:
يَوْمُ جَلُولَاءَ وَيَوْمُ رُسْتُمْ وَيَوْمُ زَحْفِ الْكُوفَةِ الْمُقَدَّمْ وَيَوْمُ عَرْضِ النَّهْرِ الْمُحَرَّمْ
وَأَيَّامٌ خَلَتْ مِنْ شَهْرٍ صُرَّمْ شَيَّبْنَ أَصْدُغِي فَهُنَّ هُرَّمْ
مِثْلُ ثُغَامِ الْبَلَدِ الْمُحَرَّمْ
وَقَالَ أَبُو بُجَيْدٍ فِي ذَلِكَ:

وَيَوْمُ جَلُولَاءَ الْوَقِيعَةِ أَصْبَحَتْ كَتَائِبُنَا تَرْدِي بِأُسْدٍ عَوَابِسِ
فَضَضْتُ جُمُوعَ الْفُرْسِ ثُمَّ أَنَمْتُهُمْ فَتَبًّا لِأَجْسَادِ الْمَجُوسِ النَّجَائِسِ
وَأَفْلَتَهُنَّ الْفَيْرُزَانُ بِجَرْعَةٍ وَمِهْرَانُ أَرْدَتْ يَوْمَ حَزِّ الْقَوَانِسِ
أَقَامُوا بِدَارٍ لِلْمَنِيَّةِ مَوْعِدُ وَلِلتُّرْبِ تَحْثُوهَا خَجُوجُ الرَّوَامِسِ

ذِكْرُ فَتْحِ حُلْوَانَ
وَلَمَّا انْقَضَتِ الْوَقْعَةُ، أَقَامَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ بِجَلُولَاءَ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - فِي كِتَابِهِ إِلَى سَعْدٍ - وَتَقَدَّمَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى حُلْوَانَ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ أَيْضًا ; لِيَكُونَ رِدْءًا لِلْمُسْلِمِينَ هُنَالِكَ، وَمُرَابِطًا لِكِسْرَى حَيْثُ هَرَبَ. فَسَارَ كَمَا قَدَّمْنَا وَأَدْرَكَ أَمِيرَ الْوَقْعَةِ، وَهُوَ مِهْرَانُ الرَّازِيُّ، فَقَتَلَهُ وَهَرَبَ مِنْهُ الْفَيْرُزَانُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى كِسْرَى وَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ جَلُولَاءَ وَمَا جَرَى عَلَى الْفُرْسِ بَعْدَهُ، وَكَيْفَ قُتِلَ مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ، وَأُدْرِكَ مِهْرَانُ فَقُتِلَ، هَرَبَ عِنْدَ ذَلِكَ كِسْرَى مِنْ حُلْوَانَ إِلَى الرَّيِّ وَاسْتَنَابَ عَلَى حُلْوَانَ أَمِيرًا يُقَالُ لَهُ:

خُسْرَوْ شُنُومُ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَبَرَزَ إِلَيْهِ خُسْرَوْ شُنُومُ إِلَى مَكَانٍ خَارِجٍ مِنْ حُلْوَانَ فَاقْتَتَلُوا هُنَاكَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ فَتَحَ اللَّهُ وَنَصَرَ الْمُسْلِمِينَ وَانْهَزَمَ خُسْرَوْ شُنُومُ، وَسَاقَ الْقَعْقَاعُ إِلَى حُلْوَانَ فَتَسَلَّمَهَا، وَدَخَلَهَا الْمُسْلِمُونَ فَغَنِمُوا وَسَبَوْا، وَأَقَامُوا بِهَا، وَضَرَبُوا الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْكُوَرِ وَالْأَقَالِيمِ، بَعْدَمَا دُعُوا إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، فَأَبَوْا إِلَّا الْجِزْيَةَ. فَلَمْ يَزَلِ الْقَعْقَاعُ بِهَا حَتَّى تَحَوَّلَ سَعْدٌ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى الْكُوفَةِ فَسَارَ إِلَيْهِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

فَتْحُ تَكْرِيتَ وَالْمَوْصِلِ
لَمَّا افْتَتَحَ سَعْدٌ الْمَدَائِنَ بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ الْمَوْصِلِ قَدِ اجْتَمَعُوا بِتَكْرِيتَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْكَفَرَةِ، يُقَالُ لَهُ: الْأَنْطَاقُ. فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِأَمْرِ جَلُولَاءَ وَاجْتِمَاعِ الْفُرْسِ بِهَا، وَبِأَمْرِ أَهْلِ الْمَوْصِلِ فَتَقَدَّمَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كِتَابِ عُمَرَ فِي أَهْلِ جَلُولَاءَ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا. وَكَتَبَ عُمَرُ فِي قَضِيَّةِ أَهْلِ الْمَوْصِلِ الَّذِينَ قَدِ اجْتَمَعُوا بِتَكْرِيتَ عَلَى الْأَنْطَاقِ أَنْ يُعَيِّنَ جَيْشًا لِحَرْبِهِمْ، وَيُؤَمِّرَ عَلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُعْتَمِّ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَلَى

مُقَدِّمَتِهِ رِبْعِيَّ بْنَ الْأَفْكَلِ الْعَنَزِيَّ، وَعَلَى الْمَيْمَنَةِ الْحَارِثَ بْنَ حَسَّانَ الذُّهْلِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ فُرَاتَ بْنَ حَيَّانَ الْعِجْلِيَّ، وَعَلَى السَّاقَةِ هَانِئَ بْنَ قَيْسٍ، وَعَلَى الْخَيْلِ عَرْفَجَةَ بْنَ هَرْثَمَةَ. فَفَصَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَدَائِنِ فَسَارَ فِي أَرْبَعٍ حَتَّى نَزَلَ بِتَكْرِيتَ عَلَى الْأَنْطَاقِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّومِ، وَمِنَ الشَّهَارِجَةِ، وَمِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، مِنْ إِيَادٍ وَتَغْلِبَ وَالنَّمِرِ، وَقَدْ خَنْدَقُوا بِتَكْرِيتَ، فَحَاصَرَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَزَاحَفُوهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً، مَا مِنْ مَرَّةٍ إِلَّا وَيَنْتَصِرُ عَلَيْهِمْ، وَيَفُلُّ جُمُوعَهُمْ، فَضَعُفَ جَأْشُهُمْ، وَعَزَمَتِ الرُّومُ عَلَى الذَّهَابِ فِي السُّفُنِ بِأَمْوَالِهِمْ، وَرَاسَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ مَنْ هُنَالِكَ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُ فِي النُّصْرَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، فَجَاءَتِ الْقُصَّادُ إِلَيْهِ عَنْهُمْ بِالْإِجَابَةِ إِلَى ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِيمَا قُلْتُمْ، فَاشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَقِرُّوا بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَرَجَعَتِ الْقُصَّادُ إِلَيْهِ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِذَا كَبَّرْنَا وَحَمَلْنَا عَلَى الْبَلَدِ اللَّيْلَةَ، فَأَمْسِكُوا عَلَيْنَا أَبْوَابَ السُّفُنِ، وَامْنَعُوهُمْ أَنْ يَرْكَبُوا فِيهَا، وَاقْتُلُوا مِنْهُمْ مَنْ قَدَرْتُمْ عَلَى قَتْلِهِ. ثُمَّ شَدَّ عَبْدُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ، وَكَبَّرُوا تَكْبِيرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَحَمَلُوا عَلَى الْبَلَدِ، فَكَبَّرَتِ الْأَعْرَابُ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، فَحَارَ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَأَخَذُوا فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْأَبْوَابِ الَّتِي تَلِي

دِجْلَةَ، فَتَلَقَّتْهُمْ إِيَادٌ وَالنَّمِرُ وَتَغْلِبُ، فَقَتَلُوهُمْ قَتْلًا ذَرِيعًا، وَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِّ بِأَصْحَابِهِ مِنَ الْأَبْوَابِ الْأُخَرِ، فَقَتَلَ جَمِيعَ أَهْلِ الْبَلَدِ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، وَلَمْ يَسْلَمْ إِلَّا مَنْ أَسْلَمِ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ إِيَادٍ وَتَغْلِبَ وَالنَّمِرِ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ عَهِدَ فِي كِتَابِهِ أَنْ إِذَا نُصِرُوا عَلَى أَهْلِ تَكْرِيتَ أَنْ يَبْعَثُوا رِبْعِيَّ بْنَ الْأَفْكَلِ إِلَى الْحِصْنَيْنِ، وَهِيَ الْمَوْصِلُ سَرِيعًا فَسَارَ إِلَيْهَا - كَمَا أَمَرَ عُمَرُ - وَمَعَهُ سَرِيَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَبْطَالِ، فَسَارَ إِلَيْهَا حَتَّى فَجَأَهَا قَبْلَ وُصُولِ الْأَخْبَارِ إِلَيْهَا، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ وَاقَفَهَا حَتَّى أَجَابُوا إِلَى الْمُصَالَحَةِ، فَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّمَّةُ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ.
ثُمَّ اقْتُسِمَتِ الْأَمْوَالُ الَّتِي تَحَصَّلَتْ مِنْ تَكْرِيتَ فَبَلَغَ سَهْمُ الْفَارِسِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَسَهْمُ الرَّاجِلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَبَعَثُوا بِالْأَخْمَاسِ مَعَ فُرَاتِ بْنِ حَيَّانَ، وَبِالْفَتْحِ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ حَسَّانَ وَوَلِيَ إِمْرَةَ حَرْبِ الْمَوْصِلِ رِبْعِيُّ بْنُ الْأَفْكَلِ، وَوَلِيَ الْخَرَاجَ بِهَا عَرْفَجَةُ بْنُ هَرْثَمَةَ.

فَتْحُ مَاسَبَذَانَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ
لَمَّا رَجَعَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ مِنْ جَلُولَاءَ إِلَى الْمَدَائِنِ بَلَغَ سَعْدًا أَنَّ آذِينَ بْنَ

الْهُرْمُزَانِ قَدْ حَمَلَ طَائِفَةً مِنَ الْفُرْسِ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ ابْعَثْ جَيْشًا، وَأَمِّرْ عَلَيْهِمْ ضِرَارَ بْنَ الْخَطَّابِ فَخَرَجَ ضِرَارٌ فِي جَيْشٍ مَنَ الْمَدَائِنِ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ ابْنُ الْهُذَيْلِ الْأَسَدِيُّ، فَتَقَدَّمَ ابْنُ الْهُذَيْلِ بَيْنَ يَدَيِ الْجَيْشِ، فَالْتَقَى مَعَ آذِينَ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ وُصُولِ ضِرَارٍ إِلَيْهِ، فَكَسَرَ ابْنُ الْهُذَيْلِ طَائِفَةَ الْفُرْسِ، وَأُسِرَ آذينُ بْنُ الْهُرْمُزَانِ، وَفَرَّ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَأَمَرَ ابْنُ الْهُذَيْلِ فَضُرِبَ عُنُقُ آذِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَاقَ وَرَاءَ الْمُنْهَزِمِينَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَاسَبَذَانَ - وَهِيَ مَدِينَةٌ كَبِيرَةٌ - فَأَخَذَهَا عَنْوَةً، وَهَرَبَ أَهْلُهَا فِي رُءُوسِ الشِّعَابِ وَالْجِبَالِ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَضَرَبَ عَلَى مَنْ لَمْ يُسْلِمِ الْجِزْيَةَ، وَأَقَامَ نَائِبًا عَلَيْهَا حَتَّى تَحَوَّلَ سَعْدٌ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى الْكُوفَةِ كَمَا سَيَأْتِي.

فَتْحُ قِرْقِيسِيَاءَ وَهِيتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: لَمَّا رَجَعَ هَاشِمٌ مِنْ جَلُولَاءَ إِلَى الْمَدَائِنِ وَكَانَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ قَدْ أَمَدُّوا أَهْلَ حِمْصَ عَلَى قِتَالِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَخَالِدٍ - لَمَّا كَانَ هِرَقْلُ بِقِنَّسْرِينَ - وَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ فِي مَدِينَةِ هِيتَ كَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، وَأَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ عُمَرَ بْنَ مَالِكِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، فَسَارَ فِي مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى هِيتَ فَوَجَدَهُمْ قَدْ خَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ، فَحَاصَرَهُمْ حِينًا فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِمْ، فَسَارَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ،

وَاسْتَخْلَفَ عَلَى مُحَاصَرَةِ هِيتَ الْحَارِثَ بْنَ يَزِيدَ، فَرَاغَ عُمَرُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى قِرْقِيسِيَاءَ، فَأَخَذَهَا عَنْوَةً، وَأَنَابُوا إِلَى بَذْلِ الْجِزْيَةِ، وَكَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ عَلَى هِيتَ إِنْ لَمْ يُصَالِحُوا، أَنْ يَحْفِرَ مِنْ وَرَاءِ خَنْدَقِهِمْ خَنْدَقًا، وَيَجْعَلَ لَهُ أَبْوَابًا مِنْ نَاحِيَتِهِ. فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ أَنَابُوا إِلَى الْمُصَالَحَةِ.
قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْيَرْمُوكِ إِلَى قِنَّسْرِينَ فَصَالَحَ أَهْلَ حَلَبَ وَمَنْبِجَ، وَأَنْطَاكِيَةَ، عَلَى الْجِزْيَةِ، وَفَتَحَ سَائِرَ بِلَادِ قِنَّسْرِينَ عَنْوَةً. قَالَ: وَفِيهَا افْتُتِحَتْ سَرُوجُ وَالرُّهَا عَلَى يَدَيْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: وَفِيهَا فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ سَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَحَاصَرَ إِيلِيَاءَ فَسَأَلُوا الصُّلْحَ عَلَى أَنْ يَقْدَمَ عُمَرُ فَيُصَالِحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى عُمَرَ، فَقَدِمَ حَتَّى صَالَحَهُمْ، وَأَقَامَ أَيَّامًا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَمَى عُمَرُ الرَّبَذَةَ لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهَا غَرَّبَ عُمَرُ أَبَا مِحْجَنٍ الثَّقَفِيَّ إِلَى بَاضِعٍ، وَفِيهَا تَزَوَّجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ صَفِيَّةَ

بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ. قُلْتُ: الَّذِي قُتِلَ يَوْمَ الْجِسْرِ، وَكَانَ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ، وَهِيَ أُخْتُ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، أَمِيرِ الْعِرَاقِ فِيمَا بَعْدُ، وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً، وَكَانَ أَخُوهَا فَاجِرًا، وَكَافِرًا أَيْضًا. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا حَجَّ عُمَرُ بِالنَّاسِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ. قَالَ: وَكَانَ نَائِبَهُ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابٌ، وَعَلَى الشَّامِ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَعَلَى الْعِرَاقِ سَعْدٌ، وَعَلَى الطَّائِفِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَعَلَى الْيَمَنِ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ، وَعَلَى الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، وَعَلَى عُمَانَ حُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَعَلَى الْمَوْصِلِ رِبْعِيُّ بْنُ الْأَفْكَلِ، وَعَلَى الْجَزِيرَةِ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ - كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ التَّأْرِيخَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ كَتَبَهُ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرْنَا سَبَبَهُ فِي " سِيرَةِ عُمَرَ "، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى عُمَرَ صَكٌّ مَكْتُوبٌ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ بِدَيْنٍ يَحِلُّ عَلَيْهِ فِي شَعْبَانَ، فَقَالَ: أَيُّ شَعْبَانَ ؟ أَمِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَمِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَمِ الَّتِي بَعْدَهَا ؟ ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: ضَعُوا لِلنَّاسِ شَيْئًا يَعْرِفُونَ بِهِ حُلُولَ دُيُونِهِمْ. فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُؤَرِّخُوا كَمَا تُؤَرِّخُ الْفُرْسُ بِمُلُوكِهِمْ، كُلَّمَا هَلَكَ مَلِكٌ أَرَّخُوا مِنْ تَارِيخِ وِلَايَةِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَكَرِهُوا ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَرِّخُوا

بِتَارِيخِ الرُّومِ مِنْ زَمَانِ إِسْكَنْدَرَ. فَكَرِهُوا ذَلِكَ، وَلِطُولِهِ أَيْضًا. وَقَالَ قَائِلُونَ: أَرِّخُوا مِنْ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: مِنْ مَبْعَثِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَشَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَآخَرُونَ أَنْ يُؤَرَّخَ مِنْ هِجْرَتِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ ; لِظُهُورِهِ لِكُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ أَظْهَرُ مِنَ الْمَوْلِدِ وَالْمَبْعَثِ. فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ، فَأَمَرَ عُمَرُ أَنْ يُؤَرَّخَ مِنْ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَرَّخُوا مِنْ أَوَّلِ تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ مُحَرَّمِهَا. وَعِنْدَ مَالِكٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَوَّلَ السَّنَةِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لِقُدُومِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْمَدِينَةَ فِيهِ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ السَّنَةِ مِنَ الْمُحَرَّمِ ; لِأَنَّهُ أَضْبَطُ، لِئَلَّا تَخْتَلِفَ الشُّهُورُ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ أَوَّلُ السَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ - تُوُفِّيَتْ مَارِيَةُ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، فِيمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَصَلَّى عَلَيْهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَ يَجْمَعُ النَّاسَ لِشُهُودِ جِنَازَتِهَا، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا. وَهِيَ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةُ، أَهْدَاهَا صَاحِبُ إِسْكَنْدَرِيَّةَ - وَهُوَ جُرَيْجُ بْنُ مِينَا - فِي جُمْلَةِ تُحَفٍ وَهَدَايَا لِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَكَانَ مَعَهَا أُخْتُهَا سِيرِينُ الَّتِي وَهَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَسَّانَ. وَيُقَالُ: أَهْدَى الْمُقَوْقِسُ مَعَهُمَا جَارِيَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ. فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا كَانَتَا خَادِمَتَيْنِ لِمَارِيَةَ وَسِيرِينَ. وَأَهْدَى

مَعَهُنَّ غُلَامًا خَصِيًّا اسْمُهُ مَأْبُورٌ، وَأَهْدَى مَعَ ذَلِكَ بَغْلَةً شَهْبَاءَ اسْمُهَا الدُّلْدُلُ، وَأَهْدَى حُلَّةَ حَرِيرٍ مِنْ عَمَلِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ. وَكَانَ قُدُومُ هَذِهِ الْهَدِيَّةِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ. فَحَمَلَتْ مَارِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِإِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَعَاشَ عِشْرِينَ شَهْرًا، وَمَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِسَنَةٍ سَوَاءٍ، وَقَدْ حَزِنَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَكَى عَلَيْهِ وَقَالَ:تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ. وَكَانَتْ مَارِيَةُ هَذِهِ مِنَ الصَّالِحَاتِ الْخَيِّرَاتِ الْحِسَانِ، وَقَدْ حَظِيَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُعْجِبَ بِهَا، وَكَانَتْ جَمِيلَةً مُلَّاحَةً، أَيْ حُلْوَةً وَهِيَ تُشَابِهُ هَاجَرَ سُرِّيَّةَ الْخَلِيلِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ دِيَارِ مِصْرَ وَتَسَرَّاهَا نَبِيٌّ كَرِيمٌ، وَخَلِيلٌ جَلِيلٌ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا انْتَقَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى الْكُوفَةِ ; وَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَوْخَمُوا الْمَدَائِنَ، وَتَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمْ، وَضَعُفَتْ أَبْدَانُهُمْ ; لِكَثْرَةِ ذُبَابِهَا وَغُبَارِهَا، فَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ عُمَرُ: إِنَّ الْعَرَبَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا حَيْثُ يُوَافِقُ إِبِلَهَا. فَبَعَثَ سَعْدٌ حُذَيْفَةَ وَسَلْمَانَ يَرْتَادَانِ لِلْمُسْلِمِينَ مَنْزِلًا مُنَاسِبًا يَصْلُحُ لِإِقَامَتِهِمْ، فَمَرَّا عَلَى أَرْضِ الْكُوفَةِ وَهِيَ حَصْبَاءُ فِي رَمْلَةٍ حَمْرَاءَ، فَأَعْجَبَتْهُمَا، وَوَجَدَا هُنَالِكَ ثَلَاثَ دَيْرَاتٍ: دَيْرُ حُرَقَةَ بِنْتِ النُّعْمَانِ، وَدَيْرُ أُمِّ عَمْرٍو، وَدَيْرُ سِلْسِلَةَ. وَبَيْنَ ذَلِكَ خِصَاصٌ خِلَالَ هَذِهِ الْكُوفَةِ. فَنَزَلًا فَصَلَّيَا هُنَالِكَ، وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاءِ وَمَا أَظَلَّتْ، وَرَبَّ الْأَرْضِ وَمَا أَقَلَّتْ، وَالرِّيحِ وَمَا ذَرَتْ، وَالنُّجُومِ وَمَا هَوَتْ، وَالْبِحَارِ وَمَا جَرَتْ، وَالشَّيَاطِينِ وَمَا أَضَلَّتْ، وَالْخِصَاصِ وَمَا أَجَنَّتْ، بَارِكْ لَنَا فِي هَذِهِ الْكُوفَةِ وَاجْعَلْهَا مَنْزِلَ ثَبَاتٍ. ثُمَّ كَتَبَا إِلَى سَعْدٍ بِالْخَبَرِ، فَأَمَرَ سَعْدٌ بِاخْتِطَاطِ الْكُوفَةِ وَسَارَ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ فِي مُحَرَّمِهَا، فَكَانَ أَوَّلَ بِنَاءٍ وُضِعَ فِيهَا الْمَسْجِدُ. وَأَمَرَ سَعْدٌ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ الرَّمْيِ، فَرَمَى مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَى الْأَرْبَعِ جِهَاتٍ، فَحَيْثُ سَقَطَ سَهْمُهُ بَنَى النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ، وَعَمَّرَ قَصْرًا تِلْقَاءَ مِحْرَابِ الْمَسْجِدِ لِلْإِمَارَةِ وَبَيْتَ

الْمَالِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا بَنَوُا الْمَنَازِلُ بِالْقَصَبِ فَاحْتَرَقَتْ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ، فَبَنَوْهَا بِاللَّبِنِ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يُسْرِفُوا وَلَا يُجَاوِزُوا الْحَدَّ. وَبَعَثَ سَعْدٌ إِلَى الْأُمَرَاءِ وَالْقَبَائِلِ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَهُمُ الْكُوفَةَ وَأَمَرَ سَعْدٌ أَبَا هَيَّاجٍ الْمُوَكَّلَ بِإِنْزَالِ النَّاسِ فِيهَا بِأَنْ يُعَمِّرُوا وَيَدَعُوا لِلطَّرِيقِ الْمُنْهَجِ وُسْعَ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَلِمَا دُونَ ذَلِكَ ثَلَاثِينَ أَوْ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، وَلِلْأَزِقَّةِ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ. وَبُنِيَ لِسَعْدٍ قَصْرٌ قَرِيبٌ مِنَ السُّوقِ، فَكَانَتْ غَوْغَاءُ النَّاسِ تَمْنَعُ سَعْدًا مِنَ الْحَدِيثِ، فَكَانَ يُغْلِقُ بَابَهُ، وَيَقُولُ: سَكِّنِ الصُّوَيْتَ. فَلَمَّا بَلَغَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ مُسَلَّمَةَ، فَأَمَرَهُ إِذَا انْتَهَى إِلَى الْكُوفَةِ أَنْ يَقْدَحَ زِنَادَهُ وَيَجْمَعَ حَطَبًا وَيَحْرِقَ بَابَ الْقَصْرِ، ثُمَّ يَرْجِعَ مِنْ فَوْرِهِ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْكُوفَةِ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ عُمَرُ، وَأَمَرَ سَعْدًا أَنْ لَا يُغْلِقَ بَابَهُ عَنِ النَّاسِ، وَلَا يَجْعَلَ عَلَى بَابِهِ أَحَدًا يَمْنَعُ النَّاسَ عَنْهُ، فَامْتَثَلَ ذَلِكَ سَعْدٌ، وَعَرَضَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مُسَلَّمَةَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهِ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَاسْتَمَرَّ سَعْدٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْكُوفَةِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَنِصْفًا، حَتَّى عَزَلَهُ عَنْهَا عُمَرُ، مِنْ غَيْرِ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ.

قِصَّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَحَصْرِ الرُّومِ لَهُ بِحِمْصَ وَقُدُومِ عُمَرَ إِلَى الشَّامِ أَيْضًا لِيَنْصُرَهُ
وَذَلِكَ أَنَّ جَمْعًا مِنَ الرُّومِ عَزَمُوا عَلَى حِصَارِ أَبِي عُبَيْدَةَ بِحِمْصَ، وَاسْتَجَاشُوا بِأَهْلِ الْجَزِيرَةِ وَخَلْقٍ مِمَّنْ هُنَالِكَ، وَقَصَدُوا أَبَا عُبَيْدَةَ، فَبَعَثَ أَبُو

عُبَيْدَةَ إِلَى خَالِدٍ ; فَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ قِنَّسْرِينَ وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِذَلِكَ، وَاسْتَشَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْ يُنَاجِزَ الرُّومَ، أَوْ يَتَحَصَّنَ بِالْبَلَدِ حَتَّى يَجِيءَ أَمْرُ عُمَرَ ؟ فَكُلُّهُمْ أَشَارَ بِالتَّحَصُّنِ إِلَّا خَالِدًا فَإِنَّهُ أَشَارَ بِمُنَاجَزَتِهِمْ، فَعَصَاهُ وَأَطَاعَهُمْ. وَتَحَصَّنَ بِحِمْصَ وَأَحَاطَ بِهِ الرُّومُ، وَكُلُّ بَلَدٍ مِنْ بُلْدَانِ الشَّامِ مَشْغُولٌ أَهْلُهُ عَنْهُ بِأَمْرِهِمْ، وَلَوْ تَرَكُوا مَا هُمْ فِيهِ وَأَقْبَلُوا إِلَى حِمْصَ لَانَخْرَمَ النِّظَامُ فِي الشَّامِ كُلِّهِ. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ أَنْ يَنْدُبَ النَّاسَ مَعَ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو، وَيُسَيِّرَهُمْ إِلَى حِمْصَ مِنْ يَوْمِ يَقْدَمُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ نَجْدَةً لِأَبِي عُبَيْدَةَ فَإِنَّهُ مَحْصُورٌ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا إِلَى أَهْلِ الْجَزِيرَةِ الَّذِينَ مَالَئُوا الرُّومَ عَلَى حِصَارِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَيَكُونَ أَمِيرَ الْجَيْشِ إِلَى الْجَزِيرَةِ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ فَخَرَجَ الْجَيْشَانِ مَعًا مِنَ الْكُوفَةِ ; الْقَعْقَاعُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ نَحْوَ حِمْصَ لِنَجْدَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَخَرَجَ عُمَرُ بِنَفْسِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ لِيَنْصُرَ أَبَا عُبَيْدَةَ، فَبَلَغَ الْجَابِيَةَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا بَلَغَ سَرْغَ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ أَشْبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ الْجَزِيرَةِ الَّذِينَ مَعَ الرُّومِ عَلَى حِمْصَ أَنَّ الْجَيْشَ قَدْ طَرَقَ بِلَادَهُمْ، انْشَمَرُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَفَارَقُوا الرُّومَ، وَسَمِعَتِ الرُّومُ بِقُدُومِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ لِنُصْرَةِ نَائِبِهِ عَلَيْهِمْ، فَضَعُفَ جَانِبُهُمْ جِدًّا. وَأَشَارَ خَالِدٌ عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بِأَنْ يَبْرُزَ إِلَيْهِمْ لِيُقَاتِلَهُمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَنَصَرَهُ، وَهُزِمَتِ الرُّومُ هَزِيمَةً فَظِيعَةً، وَذَلِكَ قَبْلَ وُرُودِ عُمَرَ عَلَيْهِمْ، وَقَبْلَ وُصُولِ الْأَمْدَادِ إِلَيْهِمْ بِثَلَاثِ لَيَالٍ. فَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى عُمَرَ وَهُوَ بِالْجَابِيَةِ يُخْبِرُهُ بِالْفَتْحِ، وَأَنَّ الْمَدَدَ وَصَلَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَسَأَلَهُ هَلْ يُدْخِلُهُمْ فِي الْقَسْمِ مَعَهُمْ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ؟ فَجَاءَ الْجَوَابُ بِأَنْ يُدْخِلَهُمْ مَعَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ إِنَّمَا ضَعُفَ وَإِنَّمَا انْشَمَرَ عَنْهُ الْمَدَدُ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنْهُمْ، فَأَشْرَكَهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْغَنِيمَةِ. وَقَالَ عُمَرُ:

جَزَى اللَّهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ خَيْرًا، يَحْمُونَ حَوْزَتَهُمْ وَيَمُدُّونَ أَهْلَ الْأَمْصَارِ.

فَتْحُ الْجَزِيرَةِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتِ الْجَزِيرَةُ، فِيمَا قَالَهُ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ. فَوَافَقَ سَيْفَ بْنَ عُمَرَ فِي كَوْنِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ. سَارَ إِلَيْهَا عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ، وَفِي صُحْبَتِهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرُ السِّنِّ لَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، فَنَزَلَ الرُّهَا فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى الْجِزْيَةِ، وَصَالَحَتْ حَرَّانُ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ بَعَثَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إِلَى نَصِيبِينَ وَعُمَرَ بْنَ سَعْدٍ إِلَى رَأْسِ الْعَيْنِ وَسَارَ بِنَفْسِهِ إِلَى دَارَا، فَافْتُتِحَتْ هَذِهِ الْبُلْدَانُ، وَبَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ إِلَى إِرْمِينِيَةَ، فَكَانَ عِنْدَهَا شَيْءٌ مِنْ قِتَالٍ، قُتِلَ فِيهِ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ شَهِيدًا. ثُمَّ صَالَحَهُمْ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى الْجِزْيَةِ، عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ دِينَارٌ.
وَقَالَ سَيْفٌ فِي رِوَايَتِهِ: جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ، فَسَلَكَ عَلَى دَجْلَةَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَوْصِلِ فَعَبَرَ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى نَصِيبِينَ، فَلَقُوهُ

بِالصُّلْحِ وَصَنَعُوا كَمَا صَنَعَ أَهْلُ الرَّقَّةِ. وَبَعَثَ إِلَى عُمَرَ بِرُءُوسِ النَّصَارَى مِنْ عَرَبِ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أَدُّوا الْجِزْيَةَ. فَقَالُوا: أَبْلِغْنَا مَأْمَنَنَا، فَوَاللَّهِ لَئِنْ وَضَعْتَ عَلَيْنَا الْجِزْيَةَ لَنَدْخُلَنَّ أَرْضَ الرُّومِ، وَاللَّهِ لَتَفْضَحُنَا مِنْ بَيْنِ الْعَرَبِ. فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ فَضَحْتُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَخَالَفْتُمْ أُمَّتَكُمْ، وَوَاللَّهِ لَتُؤَدُّنَّ الْجِزْيَةَ وَأَنْتُمْ صَغَرَةٌ قَمَأَةٌ، وَلَئِنْ هَرَبْتُمْ إِلَى الرُّومِ لَأَكْتُبَنَّ فِيكُمْ، ثُمَّ لَأَسْبِيَنَّكُمْ. قَالُوا: فَخُذْ مِنَّا شَيْئًا وَلَا تُسَمِّيهِ جِزْيَةً. فَقَالَ: أَمَّا نَحْنُ فَنُسَمِّيهِ جِزْيَةً، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَمُّوْهُ مَا شِئْتُمْ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَلَمْ يُضْعِفُ عَلَيْهِمْ سَعْدٌ الصَّدَقَةَ ؟ قَالَ: بَلَى. وَأَصْغَى إِلَيْهِ وَرَضِيَ بِهِ مِنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى الشَّامِ فَوَصَلَ إِلَى سَرْغَ، فِي قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. وَقَالَ سَيْفٌ: وَصَلَ إِلَى الْجَابِيَةِ. قُلْتُ: وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ وَصَلَ سَرْغَ. وَقَدْ تَلَقَّاهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ: أَبُو عُبَيْدَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، إِلَى سَرْغَ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاسْتَشَارَ عُمَرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: أَنْتَ قَدْ جِئْتَ لِأَمْرٍ فَلَا تَرْجِعْ عَنْهُ. وَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: لَا نَرَى أَنْ تَقْدَمَ بِوُجُوهِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ. فَيُقَالُ: إِنَّ عُمَرَ أَمَرَ النَّاسِ بِالرُّجُوعِ مِنَ الْغَدِ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مَنْ قَدَرِ اللَّهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ، نَفِرُّ مَنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ،

أَرَأَيْتَ لَوْ هَبَطْتَ وَادِيًا ذَا عُدْوَتَيْنِ ; إِحْدَاهُمَا مُخْصِبَةٌ وَالْأُخْرَى مُجْدِبَةٌ، فَإِنْ رَعَيْتَ الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ أَنْتَ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ - وَهُوَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ": وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ شَأْنِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ فِيهَا لَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ - يَعْنِي لِكَوْنِهِ وَافَقَ رَأْيَهُ - وَرَجَعَ بِالنَّاسِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الطَّاعُونَ رِجْزٌ وَبَقِيَّةُ عَذَابٍ عُذِّبَ بِهِ قَوْمٌ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ أَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ بِهِ.

قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ: كَانَ الْوَبَاءُ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَصَفَرٍ ثُمَّ ارْتَفَعَ. وَكَأَنَّ سَيْفًا يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الْوَبَاءَ هُوَ طَاعُونُ عَمَوَاسَ الَّذِي هَلَكَ فِيهِ خَلْقٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَوُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ، بَلْ طَاعُونُ عَمَوَاسَ مِنَ السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ بَعْدَ هَذِهِ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَطُوفَ الْبُلْدَانَ، وَيَزُورَ الْأُمَرَاءَ، وَيَنْظُرَ فِيمَا اعْتَمَدُوهُ وَمَا آثَرُوا مِنَ الْخَيْرِ، فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ ; فَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: ابْدَأْ بِالْعِرَاقِ. وَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: بِالشَّامِ. فَعَزَمَ عُمَرُ عَلَى قُدُومِ الشَّامِ لِأَجْلِ قَسْمِ مَوَارِيثِ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ فَإِنَّهُ أَشْكَلَ قَسْمُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِ، فَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عُمَرَ عَزَمَ عَلَى قُدُومِ الشَّامِ بَعْدَ طَاعُونِ عَمَوَاسَ وَقَدْ كَانَ الطَّاعُونُ فِي سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ كَمَا سَيَأْتِي، فَهُوَ قُدُومٌ آخَرُ غَيْرُ قُدُومِ سَرْغَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ سَيْفٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ النُّعْمَانِ، قَالُوا: قَالَ عُمَرُ: ضَاعَتْ مَوَارِيثُ النَّاسِ بِالشَّامِ، أَبْدَأُ بِهَا فَأُقَسِّمُ الْمَوَارِيثَ، وَأُقِيمُ لَهُمْ مَا فِي نَفْسِي، ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَتَقَلَّبُ فِي الْبِلَادِ وَأَنْبِذُ إِلَيْهِمْ أَمْرِي. قَالُوا: فَأَتَى عُمَرُ الشَّامَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ; مَرَّتَيْنِ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَمَرَّتَيْنِ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَلَمْ يَدْخُلْهَا فِي الْأُولَى مِنَ الْأُخْرَيَيْنِ. وَهَذَا يَقْتَضِي مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ سَيْفٍ، أَنَّهُ يَقُولُ بِكَوْنِ طَاعُونِ عَمَوَاسَ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَقَدْ خَالَفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَأَبُو

مَعْشَرٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ.
وَفِيهِ تُوُفِّيَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٌ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأَعْيَانِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ طَاعُونَ عَمَوَاسَ
الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٌ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَشْرَافِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ. أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْمُخَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ الْبَجَلِيِّ قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا مُوسَى وَهُوَ فِي دَارِهِ بِالْكُوفَةِ لِنَتَحَدَّثَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا جَلَسْنَا قَالَ: لَا تَحِفُّوا، فَقَدْ أُصِيبَ فِي الدَّارِ إِنْسَانٌ بِهَذَا السَّقَمِ، وَلَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَزَّهُوا عَنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، فَتَخْرُجُوا فِي فَسِيحِ بِلَادِكُمْ وَنُزَهِهَا حَتَّى يَرْتَفِعَ هَذَا الْبَلَاءُ، فَإِنِّي سَأُخْبِرُكُمْ بِمَا يُكْرَهُ مِمَّا يُتَّقَى، مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَظُنَّ مَنْ خَرَجَ أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ مَاتَ، وَيَظُنُّ مَنْ أَقَامَ فَأَصَابَهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَمْ يُصِبْهُ، فَإِذَا لَمْ يَظُنَّ ذَلِكَ هَذَا الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ، فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ وَأَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ بِالشَّامِ عَامَ طَاعُونِ عَمَوَاسَ فَلَمَّا اشْتَعَلَ الْوَجَعُ وَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، كَتَبَ

إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ لِيَسْتَخْرِجَهُ مِنْهُ. أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَتْ لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ أُرِيدُ أَنْ أَشَافِهَكَ بِهَا، فَعَزَمْتُ عَلَيْكَ إِذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا أَنْ لَا تَضَعَهُ مِنْ يَدِكَ حَتَّى تُقْبِلَ إِلَيَّ. قَالَ: فَعَرَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْرِجَهُ مِنَ الْوَبَاءِ. فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ! ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ حَاجَتَكَ إِلَيَّ، وَإِنِّي فِي جُنْدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَا أَجِدُ بِنَفْسَيْ رَغْبَةً عَنْهُمْ، فَلَسْتُ أُرِيدُ فِرَاقَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيَّ وَفِيهِمْ أَمْرَهُ وَقَضَاءَهُ، فَخَلِّنِي مِنْ عَزِيمَتِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَدَعْنِي فِي جُنْدِي. فَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ الْكِتَابَ بَكَى، فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ ؟ قَالَ: لَا، وَكَأَنْ قَدْ. قَالَ: ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ أَنْزَلْتَ النَّاسَ أَرْضًا غَمِقَةً، فَارْفَعْهُمْ إِلَى أَرْضٍ مُرْتَفِعَةٍ نَزِهَةٍ. قَالَ أَبُو مُوسَى: فَلَمَّا أَتَاهُ كِتَابُهُ دَعَانِي فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، إِنَّ كِتَابَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ جَاءَنِي بِمَا تَرَى، فَاخْرُجْ فَارْتَدْ لِلنَّاسِ مَنْزِلًا حَتَّى أَتْبَعَكَ بِهِمْ، فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي لِأَرْتَحِلَ، فَوَجَدْتُ صَاحِبَتِي قَدْ أُصِيبَتْ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ فِي أَهْلِي حَدَثٌ. فَقَالَ لَعَلَّ صَاحِبَتَكَ قَدْ أُصِيبَتْ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَأَمَرَ بِبَعِيرِهِ فَرُحِّلَ لَهُ، فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي غَرْزِهِ طُعِنَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أُصِبْتُ. ثُمَّ سَارَ بِالنَّاسِ حَتَّى نَزَلَ الْجَابِيَةَ، وَرُفِعَ عَنِ النَّاسِ الْوَبَاءُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ

رَابَةَ - رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانَ قَدْ خَلَفَ عَلَى أُمِّهِ بَعْدَ أَبِيهِ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ طَاعُونَ عَمَوَاسَ - قَالَ: لَمَّا اشْتَغَلَ الْوَجَعُ، قَامَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةٌ بِكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ حَظَّهُ. فَطُعِنَ فَمَاتَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى النَّاسِ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، فَقَامَ خَطِيبًا بَعْدَهُ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ رَحْمَةٌ بِكُمْ، وَدَعْوَةُ نَبِيِّكُمْ، وَمَوْتُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ مُعَاذًا يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَقْسِمَ لِآلِ مُعَاذٍ حَقَّهُمْ. فَطُعِنَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَمَاتَ، ثُمَّ قَامَ فَدَعَا لِنَفْسِهِ، فَطُعِنَ فِي رَاحَتِهِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ثُمَّ يَقْلِبُ ظَهْرَ كَفِّهِ ثُمَّ يَقُولُ: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِمَا فِيكِ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا. فَلَمَّا مَاتَ اسْتُخْلِفَ عَلَى النَّاسِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ إِذَا وَقَعَ فَإِنَّمَا يَشْتَعِلُ اشْتِعَالَ النَّارِ، فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي الْجِبَالِ. فَقَالَ أَبُو وَائِلَةَ الْهُذَلِيُّ: كَذَبْتَ، وَاللَّهِ لَقَدْ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ شَرٌّ مِنْ حِمَارِي هَذَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرُدُّ عَلَيْكَ مَا تَقُولُ، وَايْمُ اللَّهِ لَا نُقِيمُ عَلَيْهِ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ وَخَرَجَ النَّاسُ فَتَفَرَّقُوا وَدَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْ رَأَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَوَاللَّهِ مَا كَرِهَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى عُمَرَ مُصَابُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، أَمَّرَ مُعَاوِيَةَ عَلَى جُنْدِ دِمَشْقَ وَخَرَاجِهَا، وَأَمَّرَ شُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ عَلَى

جُنْدِ الْأُرْدُنِّ وَخَرَاجِهَا.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ شُيُوخِهِ قَالُوا: لَمَّا كَانَ طَاعُونُ عَمَوَاسَ وَوَقَعَ مَرَّتَيْنِ لَمْ يُرَ مِثْلُهُمَا، وَطَالَ مُكْثُهُ، وَفَنِيَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى طَمِعَ الْعَدُوُّ، وَتَخَوَّفَتْ قُلُوبُ الْمُسْلِمِينَ لِذَلِكَ.
قُلْتُ: وَلِهَذَا قَدِمَ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الشَّامِ فَقَسَّمَ مَوَارِيثَ الَّذِينَ مَاتُوا لَمَّا أَشْكَلَ أَمْرُهَا عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَطَابَتْ قُلُوبُ النَّاسِ بِقُدُومِهِ، وَانْقَمَعَتِ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِمَجِيئِهِ إِلَى الشَّامِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ: سَيْفٌ وَأَصَابَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ تِلْكَ السَّنَةِ طَاعُونٌ أَيْضًا، فَمَاتَ بَشَرٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. قَالُوا: وَخَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِهِ إِلَى الشَّامِ فَلَمْ يَرْجِعُ مِنْهُمْ إِلَّا أَرْبَعَةٌ، فَقَالَ الْمُهَاجِرُ بْنُ خَالِدٍ فِي ذَلِكَ:
مَنْ يَسْكُنِ الشَّامَ يُعَرَّسْ بِهِ وَالشَّامُ إِنْ لَمْ يُفْنِنَا كَارِبُ
أَفْنَى بَنِي رَيْطَةَ فُرْسَانُهُمْ عِشْرُونَ لَمْ يُقْصَصْ لَهُمْ شَارِبُ
وَمِنْ بَنِي أَعْمَامِهِمْ مِثْلَهُمْ لِمِثْلِ هَذَا يَعْجَبُ الْعَاجِبُ
طَعْنًا وَطَاعُونًا مَنَايَاهُمُ ذَلِكَ مَا خَطَّ لَنَا الْكَاتِبُ
وَقَالَ سَيْفٌ - بَعْدَ ذِكْرِهِ قُدُومَ عُمَرَ بَعْدَ طَاعُونِ عَمَوَاسَ فِي آخِرِ سَنَةِ سَبْعَ

عَشْرَةَ - قَالَ: فَلَمَّا أَرَادَ الْقُفُولَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، خَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَقَضَيْتُ الَّذِي عَلَيَّ فِي الَّذِي وَلَّانِي اللَّهُ مِنْ أَمْرِكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَبَسَطْنَا بَيْنَكُمْ فَيْأَكُمْ وَمَنَازِلَكُمْ وَمَغَازِيكُمْ، وَأَبْلَغْنَاكُمْ مَا لَدَيْنَا، فَجَنَّدْنَا لَكُمُ الْجُنُودَ، وَهَيَّأْنَا لَكُمُ الْفُرُوجَ، وَبَوَّأْنَا لَكُمْ، وَوَسَّعْنَا عَلَيْكُمْ مَا بَلَغَ فَيْئُكُمْ وَمَا قَاتَلْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ شَامِكُمْ، وَسَمَّيْنَا لَكُمْ أَطَعِمَاتِكُمْ، وَأَمَرْنَا لَكُمْ بِأُعْطِيَّاتِكُمْ وَأَرْزَاقِكُمْ وَمَغَانِمِكُمْ، فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا يَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهِ فَلْيُعْلِمْنَا نَعْمَلْ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. قَالَ: وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقَالَ النَّاسُ: لَوْ أَمَرْتَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ! فَأَمَرَهُ فَأَذَّنَ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ كَانَ أَدْرَكَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِلَالٌ يُؤَذِّنُ إِلَّا بَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، وَعُمَرُ أَشَدُّهُمْ بُكَاءً، وَبَكَى مَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ لِبُكَائِهِمْ وَلِذِكْرِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، مِنْ طَرِيقِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي الْمُجَالِدِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَعَثَ يُنْكِرُ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي دُخُولِهِ إِلَى الْحَمَّامِ، وَتَدُلِّكِهِ بَعْدَ النُّورَةِ بِعُصْفُرٍ مَعْجُونٍ بِخَمْرٍ، فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ ظَاهِرَ الْخَمْرِ وَبَاطِنَهُ، كَمَا حَرَّمَ ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ، وَقَدْ حَرَّمَ مَسَّ الْخَمْرِ فَلَا تُمِسُّوهَا أَجْسَادَكُمْ فَإِنَّهَا نَجَسٌ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَلَا تَعُودُوا. فَكَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدٌ: إِنَّا قَتَلْنَاهَا فَعَادَتْ غَسُولًا غَيْرَ خَمْرٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنِّي أَظُنُّ أَنَّ آلَ الْمُغِيرَةِ قَدِ ابْتُلُوا بِالْجَفَاءِ، فَلَا أَمَاتَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَانْتَهَى لِذَلِكَ.

كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ فِيهَا عُزِلَ خَالِدٌ عَنْ قِنَّسْرِينَ أَيْضًا
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَدْرَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ، أَيْ سَلَكَا دَرْبَ الرُّومِ وَأَغَارَا عَلَيْهِمْ، فَغَنِمُوا أَمْوَالًا عَظِيمَةً وَسَبَيَا كَثِيرًا. ثُمَّ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ سَيْفٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ وَالرَّبِيعِ وَأَبِي الْمُجَالِدِ، قَالُوا: لَمَّا رَجَعَ خَالِدٌ وَمَعَهُ أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ مِنَ الصَّائِفَةِ، انْتَجَعَهُ النَّاسُ يَبْتَغُونَ رِفْدَهُ وَنَائِلَهُ، فَكَانَ مِمَّنْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، فَأَجَازَهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُقِيمَ خَالِدًا، وَيَكْشِفَ عِمَامَتَهُ، وَيَنْزِعَ عَنْهُ قَلَنْسُوَتَهُ، وَيُقَيِّدَهُ بِعِمَامَتِهِ، وَيَسْأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْعَشْرَةِ آلَافٍ، إِنْ كَانَ أَجَازَهَا الْأَشْعَثَ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ سَرَفٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ الصَّائِفَةِ فَهِيَ خِيَانَةٌ، ثُمَّ اعْزِلْهُ عَنْ عَمَلِهِ. فَطَلَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ خَالِدًا، وَصَعِدَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْمِنْبَرَ، وَأُقِيمَ خَالِدٌ بَيْنَ يَدَيِ الْمِنْبَرِ، وَقَامَ إِلَيْهِ بِلَالٌ فَفَعَلَ بِهِ مَا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هُوَ وَالْبَرِيدِيُّ الَّذِي قَدِمَ بِالْكِتَابِ. هَذَا وَأَبُو عُبَيْدَةَ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، ثُمَّ نَزَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَاعْتَذَرَ إِلَى خَالِدٍ مِمَّا كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ ; فَعَذَرَهُ خَالِدٌ، وَعَرَفَ أَنَّهُ لَا قَصْدَ لَهُ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ سَارَ خَالِدٌ إِلَى قِنَّسْرِينَ فَخَطَبَ أَهْلَ الْبَلَدِ وَوَدَّعَهُمْ، وَسَارَ بِأَهْلِهِ إِلَى حِمْصَ فَخَطَبَهُمْ أَيْضًا وَوَدَّعَهُمْ وَسَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا دَخَلَ خَالِدٌ عَلَى عُمَرَ أَنْشَدَ عُمَرُ قَوْلَ الشَّاعِرِ

صَنَعْتَ فَلَمْ يَصْنَعْ كَصُنْعِكَ صَانِعُ وَمَا يَصْنَعُ الْأَقْوَامُ فَاللَّهُ صَانِعُ
ثُمَّ سَأَلَهُ: مَنْ أَيْنَ هَذَا الْيَسَارُ الَّذِي تُجِيزُ مِنْهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ ؟ فَقَالَ: مِنَ الْأَنْفَالِ وَالسُّهْمَانِ. قَالَ: فَمَا زَادَ عَلَى السِّتِّينَ أَلْفًا فَلَكَ. ثُمَّ قَوَّمَ أَمْوَالَهُ وَعُرُوضَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ عِشْرِينَ أَلْفًا، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ عَلَيَّ لَكَرِيمٌ، وَإِنَّكَ إِلَيَّ لَحَبِيبٌ، وَلَنْ تَعْمَلَ لِي بَعْدَ الْيَوْمِ عَلَى شَيْءٍ.
وَقَالَ سَيْفٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ سَهْلٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى الْأَمْصَارِ: إِنِّي لَمْ أَعْزِلْ خَالِدًا عَنْ سُخْطَةٍ وَلَا خِيَانَةٍ، وَلَكِنَّ النَّاسَ فُتِنُوا بِهِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الصَّانِعُ. ثُمَّ رَوَاهُ سَيْفٌ عَنْ مُبَشِّرٍ، عَنْ سَالِمٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ خَالِدٌ عَلَى عُمَرَ. فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اعْتَمَرَ عُمَرُ فِي رَجَبٍ مِنْهَا، وَعَمَّرَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ أَنْصَابِ الْحَرَمِ، أَمَرَ بِذَلِكَ لِمَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، وَأَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ، وَحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَسَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَدِمْنَا مَعَ عُمَرَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةٍ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَمَرَّ بِالطَّرِيقِ فَكَلَّمَهُ

أَهْلُ الْمِيَاهِ أَنْ يَبْنُوا مَنَازِلَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ - وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ بِنَاءٌ - فَأَذِنَ لَهُمْ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ أَحَقُّ بِالظِّلِّ وَالْمَاءِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُمَرُ بِأُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، مِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ بِهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " سِيرَةِ عُمَرَ " وَ " مُسْنَدِهِ " صِفَةَ تَزْوِيجِهِ بِهَا، وَأَنَّهُ أَمْهَرَهَا أَرْبَعِينَ الْفًا، وَقَالَ: إِنَّمَا تَزَوَّجْتُهَا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي
قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى عُمَرُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ الْبَصْرَةَ وَأَمَرَهُ أَنْ يُشْخِصَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ - فِيمَا حَدَّثَنِي مَعْمَرٌ، عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ - أَبُو بَكْرَةَ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ الْبَجَلِيُّ، وَنَافِعُ بْنُ كَلَدَةَ، وَزِيَادٌ. ثُمَّ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ وَسَيْفٌ هَذِهِ الْقِصَّةَ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ امْرَأَةً كَانَ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ الْأَفْقَمِ، مِنْ نِسَاءِ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَيُقَالُ: مِنْ نِسَاءِ بَنِي هِلَالٍ. وَكَانَ زَوْجُهَا مِنْ ثَقِيفٍ قَدْ تُوُفِّيَ عَنْهَا، وَكَانَتْ تَغْشَى نِسَاءَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَشْرَافِ، وَكَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى بَيْتِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ وَكَانَتْ دَارُ الْمُغِيرَةِ تُجَاهَ دَارِ أَبِي بَكْرَةَ وَكَانَ بَيْنَهُمَا الطَّرِيقُ، وَفِي

دَارِ أَبِي بَكْرَةَ كُوَّةٌ تُشْرِفُ عَلَى كُوَّةٍ فِي دَارِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ لَا يَزَالُ بَيْنَ الْمُغِيرَةِ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرَةَ شَنَآنٌ، فَبَيْنَمَا أَبُو بَكْرَةَ فِي دَارِهِ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْعُلِّيَّةِ، إِذْ فَتَحَتِ الرِّيحُ بَابَ الْكُوَّةِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرَةَ لِيُغْلِقَهَا، فَإِذَا كُوَّةُ الْمُغِيرَةِ مَفْتُوحَةٌ، وَإِذَا هُوَ عَلَى صَدْرِ امْرَأَةٍ وَبَيْنَ رِجْلَيْهَا، وَهُوَ يُجَامِعُهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ لِأَصْحَابِهِ: تَعَالَوْا فَانْظُرُوا إِلَى أَمِيرِكُمْ يَزْنِي بِأُمِّ جَمِيلٍ. فَقَامُوا فَنَظَرُوا إِلَيْهِ وَهُوَ يُجَامِعُ تِلْكَ الْمَرْأَةَ، فَقَالُوا لِأَبِي بَكْرَةَ: وَمَنْ أَيْنَ قُلْتَ إِنَّهَا أُمُّ جَمِيلٍ ؟ وَكَانَ رَأْسَاهُمَا مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقَالَ: انْتَظِرُوا. فَلَمَّا فَرَغَا قَامَتِ الْمَرْأَةُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: هَذِهِ أُمُّ جَمِيلٍ. فَعَرَفُوهَا فِيمَا يَظُنُّونَ، فَلَمَّا خَرَجَ الْمُغِيرَةُ - وَقَدِ اغْتَسَلَ - لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ مَنَعَهُ أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يَتَقَدَّمَ. وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَوَلَّى عُمَرُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ أَمِيرًا عَلَى الْبَصْرَةِ وَعَزَلَ الْمُغِيرَةَ، فَسَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَنَزَلَ بِالْمِرْبَدِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: وَاللَّهِ مَا جَاءَ أَبُو مُوسَى تَاجِرًا وَلَا زَائِرًا وَلَا جَاءَ إِلَّا أَمِيرًا. ثُمَّ قَدِمَ أَبُو مُوسَى عَلَى النَّاسِ، وَنَاوَلَ الْمُغِيرَةَ كِتَابًا مِنْ عُمَرَ، هُوَ أَوْجَزُ كِتَابٍ، فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي نَبَأٌ عَظِيمٌ، فَبَعَثْتُ أَبَا مُوسَى أَمِيرًا، فَسَلِّمْ مَا فِي يَدَيْكَ، وَالْعَجَلَ. وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِنِّي قَدْ وَلَّيْتُ عَلَيْكُمْ أَبَا مُوسَى لِيَأْخُذَ مِنْ قَوِيِّكُمْ لِضَعِيفِكُمْ، وَلِيُقَاتِلَ بِكُمْ عَدُوَّكُمْ، وَلِيَدْفَعَ عَنْ دِينِكُمْ، وَلِيَجْبِيَ لَكُمْ فَيْئَكُمْ، ثُمَّ يَقْسِمَهُ فِيكُمْ. وَأَهْدَى الْمُغِيرَةُ لِأَبِي مُوسَى جَارِيَةً مِنْ مُوَلَّدَاتِ الطَّائِفِ تُسَمَّى عَقِيلَةَ، وَقَالَ: إِنِّي رَضِيتُهَا لَكَ. وَكَانَتْ فَارِهَةً. وَارْتَحَلَ الْمُغِيرَةُ

وَالَّذِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ إِلَى عُمَرَ، وَهُمْ أَبُو بَكْرَةَ، وَنَافِعُ بْنُ كَلَدَةَ، وَزِيَادُ بْنُ أَبِيهِ، وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ الْبَجَلِيُّ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ جَمَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: سَلْ هَؤُلَاءِ الْأَعْبُدَ كَيْفَ رَأَوْنِي ; مُسْتَقْبِلَهُمْ أَوْ مُسْتَدْبِرَهُمْ ؟ وَكَيْفَ رَأَوُا الْمَرْأَةَ أَوْ عَرَفُوهَا ؟ فَإِنْ كَانُوا مُسْتَقْبِلِيَّ، فَكَيْفَ لَمْ يَسْتَتِرُوا ! أَوْ مُسْتَدْبِرِيَّ، فَكَيْفَ اسْتَحَلُّوا النَّظَرَ فِي مَنْزِلِي عَلَى امْرَأَتِي ! وَاللَّهِ مَا أَتَيْتُ إِلَّا امْرَأَتِي. وَكَانَتْ شَبَهَهَا. فَبَدَأَ عُمَرُ بِأَبِي بَكْرَةَ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَآهُ بَيْنَ رِجْلَيْ أُمِّ جَمِيلٍ، وَهُوَ يُدْخِلُهُ وَيُخْرِجُهُ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ. قَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَهُمَا ؟ قَالَ: مُسْتَدْبِرَهُمَا. قَالَ: فَكَيْفَ اسْتَثْبَتَّ رَأْسَهَا ؟ قَالَ: تَحَامَلْتُ. ثُمَّ دَعَا شِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ فَشَهِدَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ: اسْتَقْبَلْتَهُمَا أَمِ اسْتَدْبَرْتَهُمَا ؟ قَالَ: اسْتَقْبَلْتُهُمَا. وَشَهِدَ نَافِعٌ بِمِثْلِ شَهَادَةِ أَبِي بَكْرَةَ، وَلَمْ يَشْهَدْ زِيَادٌ بِمِثْلِ شَهَادَتِهِمْ، قَالَ: رَأَيْتُهُ جَالِسًا بَيْنَ رِجْلَيِ امْرَأَةٍ، فَرَأَيْتُ قَدَمَيْنِ مَخْضُوبَتَيْنِ يَخْفِقَانِ، وَاسْتَيْنِ مَكْشُوفَتَيْنِ، وَسَمِعْتُ حَفَزَانًا شَدِيدًا. قَالَ: هَلْ رَأَيْتَ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ الْمَرْأَةَ ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أُشَبِّهُهَا. قَالَ: فَتَنَحَّ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَبَّرَ عِنْدَ ذَلِكَ ثُمَّ أَمَرَ بِالثَّلَاثَةِ فَجُلِدُوا الْحَدَّ، وَهُوَ يَقْرَأُ قَوْلَهُ تَعَالَى:

فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [ النُّورِ: 13 ]. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: اشْفِنِي مِنَ الْأَعْبُدِ. قَالَ: اسْكُتْ أَسْكَتَ اللَّهُ نَأْمَتَكَ، وَاللَّهِ لَوْ تَمَّتِ الشَّهَادَةُ لَرَجَمْتُكَ بِأَحْجَارِكَ.

فَتْحُ الْأَهْوَازِ وَمَنَاذِرَ وَنَهْرِ تِيرَى
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ. ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ سَيْفٍ عَنْ شُيُوخِهِ أَنَّ الْهُرْمُزَانَ كَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى هَذِهِ الْأَقَالِيمِ. وَكَانَ مِمَّنْ فَرَّ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ مِنَ الْفُرْسِ، فَجَهَّزَ أَبُو مُوسَى مِنَ الْبَصْرَةِ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ مِنَ الْكُوفَةِ جَيْشَيْنِ لِقِتَالِهِ، فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا مِنْهُ مَا بَيْنَ دِجْلَةَ إِلَى دُجَيْلٍ وَغَنِمُوا مِنْ جَيْشِهِ مَا أَرَادُوا، وَقَتَلُوا مَنْ أَرَادُوا، ثُمَّ صَانَعَهُمْ وَطَلَبَ مُصَالَحَتَهُمْ عَنْ بَقِيَّةِ بِلَادِهِ، فَشَاوَرَا فِي ذَلِكَ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ فَصَالَحَهُ، وَبَعَثَ بِالْأَخْمَاسِ وَالْبِشَارَةِ إِلَى عُمَرَ، وَبَعَثَ وَفْدًا فِيهِمُ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَأُعْجِبَ عُمَرُ بِهِ، وَحَظِيَ عِنْدَهُ، وَكَتَبَ إِلَى عُتْبَةَ يُوصِيهِ بِهِ، وَيَأْمُرُهُ بِمُشَاوَرَتِهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِرَأْيِهِ. ثُمَّ نَقَضَ الْهُرْمُزَانُ الْعَهْدَ وَالصُّلْحَ، وَاسْتَعَانَ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَكْرَادِ، وَغَرَّتْهُ نَفْسُهُ، وَحَسَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ عَمَلَهُ فِي ذَلِكَ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَنُصِرُوا عَلَيْهِ، وَقَتَلُوا مِنْ جَيْشِهِ جَمًّا غَفِيرًا، وَخَلْقًا كَثِيرًا، وَاسْتَلَبُوا مِنْهُ مَا بِيَدِهِ

مِنَ الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ إِلَى تُسْتَرَ فَتَحَصَّنَ بِهَا، وَبَعَثُوا إِلَى عُمَرَ بِذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ الْأُسُودُ بْنُ سَرِيعٍ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ صَحَابِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
لَعَمْرُكَ مَا أَضَاعَ بَنُو أَبِينَا وَلَكِنْ حَافَظُوا فِي مَنْ يُطِيعُ أَطَاعُوا رَبَّهُمْ وَعَصَاهُ قَوْمٌ أَضَاعُوا
أَمْرَهُ فِي مَنْ يُضِيعُ مَجُوسٌ لَا يُنَهْنِهُهَا كِتَابٌ فَلَاقَوْا
كَبَّةً فِيهَا قُبُوعُ وَوَلَّى الْهُرْمُزَانُ عَلَى جَوَادٍ
سَرِيعِ الشَّدِّ يَثْفِنُهُ الْجَمِيعُ وَخَلَّى سُرَّةَ الْأَهْوَازِ كَرْهًا
غَدَاةَ الْجِسْرِ إِذْ نَجَمَ الرَّبِيعُ
وَقَالَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ السَّعْدِيُّ، وَكَانَ صَحَابِيًّا أَيْضًا:
غَلَبْنَا الْهُرْمُزَانَ عَلَى بِلَادٍ لَهَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ ذَخَائِرْ
سَوَاءٌ بَرُّهُمْ وَالْبَحْرُ فِيهَا إِذَا صَارَتْ نَوَاحِيهَا بَوَاكِرْ
لَهَا بَحْرٌ يَعُجُّ بِجَانِبَيْهِ جَعَافِرُ لَا يَزَالُ لَهَا زَوَاخِرْ

فَتْحُ تُسْتَرَ، الْمَرَّةُ الْأُولَى صُلْحًا
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ كَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي قَوْلِ سَيْفٍ وَرِوَايَتِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ ذِكْرُ الْخَبَرِ عَنْ فَتْحِهَا. ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو، قَالُوا: لَمَّا افْتَتَحَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ سُوقَ الْأَهْوَازِ وَفَرَّ الْهُرْمُزَانُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَبَعَثَ فِي إِثْرِهِ جَزْءَ بْنَ مُعَاوِيَةَ - وَذَلِكَ عَنْ كِتَابِ عُمَرَ بِذَلِكَ - فَمَا زَالَ جَزْءٌ يَتْبَعُهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى رَامَهُرْمُزَ فَتَحَصَّنَ الْهُرْمُزَانُ فِي بِلَادِهَا، وَأَعْجَزَ جَزْءًا تَطَلُّبُهُ، وَاسْتَحْوَذَ جَزْءٌ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ وَالْأَرَاضِي، فَضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِهَا، وَعَمَّرَ عَامِرَهَا، وَشَقَّ الْأَنْهَارَ إِلَى خَرَابِهَا وَمَوَاتِهَا، فَصَارَتْ فِي غَايَةِ الْعِمَارَةِ وَالْجَوْدَةِ. وَلَمَّا رَأَى الْهُرْمُزَانُ ضِيقَ بِلَادِهِ عَلَيْهِ بِمُجَاوَرَةِ الْمُسْلِمِينَ، طَلَبَ مِنْ جَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْمُصَالَحَةَ، فَكَتَبَ إِلَى حُرْقُوصٍ، فَكَتَبَ حُرْقُوصٌ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، وَكَتَبَ عُتْبَةُ إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ. فَجَاءَ الْكِتَابُ الْعُمَرِيُّ بِالْمُصَالَحَةِ عَلَى رَامَهُرْمُزَ وَتُسْتَرَ وَجُنْدَيْسَابُورَ، وَمَدَائِنَ أُخَرَ مَعَ ذَلِكَ. فَوَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا أَمَرَ بِهِ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

ذِكْرُ غَزْوِ بِلَادِ فَارِسَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَحْرَيْنِ وَذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَيْفٍ
وَذَلِكَ أَنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ كَانَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ فِي أَيَّامِ الصِّدِّيقِ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ عَزَلَهُ عَنْهَا وَوَلَّاهَا لِقُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ، ثُمَّ أَعَادَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ إِلَيْهَا، وَكَانَ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ يُبَارِي سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، فَلَمَّا افْتَتَحَ سَعْدٌ الْقَادِسِيَّةَ وَأَزَاحَ كِسْرَى عَنْ دَارِهِ، وَأَخَذَ حُدُودَ مَا يَلِي السَّوَادَ وَاسْتَعْلَى، وَجَاءَ بِأَعْظَمَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْعَلَاءُ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَحْرَيْنِ فَأَحَبَّ الْعَلَاءُ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا فِي فَارِسَ نَظِيرَ مَا فَعَلَهُ سَعْدٌ فِيهِمْ، فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى حَرْبِهِمْ؛ فَاسْتَجَابَ لَهُ أَهْلُ بِلَادِهِ، فَجَزَّأَهُمْ أَجْزَاءً، فَعَلَى فِرْقَةٍ الْجَارُودُ بْنُ الْمُعَلَّى، وَعَلَى الْأُخْرَى السَّوَّارُ بْنُ هَمَّامٍ، وَعَلَى الْأُخْرَى خُلَيْدُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى، وَخُلَيْدٌ هُوَ أَمِيرُ الْجَمَاعَةِ. فَحَمَلَهُمْ فِي الْبَحْرِ إِلَى فَارِسَ وَذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِ عُمَرَ لَهُ فِي ذَلِكَ - وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَبَا بَكْرٍ أَغْزَيَا فِيهِ الْمُسْلِمِينَ - فَعَبَرَتْ

تِلْكَ الْجُنُودُ مِنَ الْبَحْرَيْنِ إِلَى فَارِسَ فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِ إِصْطَخْرَ، فَحَالَتْ فَارِسُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سُفُنِهِمْ، فَقَامَ فِي النَّاسِ خُلَيْدُ بْنُ الْمُنْذِرِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ بِصَنِيعِهِمْ هَذَا مُحَارَبَتَكُمْ، وَأَنْتُمْ إِنَّمَا جِئْتُمْ لِمُحَارَبَتِهِمْ، فَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَقَاتِلُوهُمْ، فَإِنَّمَا الْأَرْضُ وَالسُّفُنُ لِمَنْ غَلَبَ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [ الْبَقَرَةِ: 45 ]. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ فَصَلُّوا الظُّهْرَ ثُمَّ نَاهَدُوهُمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فِي مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ يُدْعَى طَاوُسَ، ثُمَّ أَمَرَ خُلَيْدٌ الْمُسْلِمِينَ فَتَرَجَّلُوا، وَقَاتَلُوا فَصَبَرُوا، ثُمَّ ظَفِرُوا، فَقَتَلُوا فَارِسَ مَقْتَلَةً لَمْ يُقْتَلُوا قَبْلَهَا مِثْلَهَا، ثُمَّ خَرَجُوا يُرِيدُونَ الْبَصْرَةَ فَغَرِقَتْ بِهِمْ سُفُنُهُمْ، وَلَمْ يَجِدُوا إِلَى الرُّجُوعِ فِي الْبَحْرِ سَبِيلًا، وَوَجَدُوا شَهْرَكَ فِي أَهْلِ إِصْطَخْرَ قَدْ أَخَذُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالطُّرُقِ، فَعَسْكَرُوا وَامْتَنَعُوا مِنَ الْعَدُوِّ. وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ صُنْعُ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، اشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَعَزَلَهُ وَتَوَعَّدَهُ، وَأَمَرَهُ بِأَثْقَلِ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ، وَأَبْغَضِ الْوُجُوهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: الْحَقْ بِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي مَنْ قِبَلَكَ، فَخَرَجَ الْعَلَاءُ إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مُضَافًا إِلَيْهِ، وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ: إِنَّ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ خَرَجَ بِجَيْشٍ فَأَقْطَعَهُمْ أَهْلُ فَارِسَ، وَعَصَانِي، وَأَظُنُّهُ لَمْ يُرِدِ اللَّهَ بِذَلِكَ، فَخَشِيتُ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُنْصَرُوا، أَنْ يُغْلَبُوا وَيُنْشَبُوا، فَانْدُبْ إِلَيْهِمُ النَّاسَ، وَاضْمُمْهُمْ إِلَيْكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجْتَاحُوا. فَنَدَبَ عُتْبَةُ الْمُسْلِمِينَ

وَأَخْبَرَهُمْ بِكِتَابِ عُمَرَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَانْتَدَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْأَبْطَالِ، مِنْهُمْ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَرْفَجَةُ بْنُ هَرْثَمَةُ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَغَيْرُهُمْ، فِي اثْنَيْ عَشَرَ الْفًا، وَعَلَى الْجَمِيعِ أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ. فَخَرَجُوا عَلَى الْبِغَالِ يَجْنُبُونَ الْخَيْلَ سِرَاعًا، فَسَارُوا عَلَى السَّاحِلِ لَا يَلْقَوْنَ أَحَدًا، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَلَاءِ وَبَيْنَ أَهْلِ فَارِسَ بِالْمَكَانِ الْمُسَمَّى بِطَاوُسَ، وَإِذَا خُلَيْدُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَحْصُورُونَ، قَدْ أَحَاطَ بِهِمُ الْعَدُوُّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَدْ تَدَاعَتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَدْ تَكَامَلَتْ أَمْدَادُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقِتَالُ، فَقَدِمَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِمْ فِي أَحْوَجِ مَا هُمْ فِيهِ إِلَيْهِمْ، فَالْتَقَوْا مَعَ الْمُشْرِكِينَ رَأْسًا، فَكَسَرَ أَبُو سَبْرَةَ الْمُشْرِكِينَ كَسْرَةً عَظِيمَةً، وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَأَخَذَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً بَاهِرَةً، وَاسْتَنْقَذَ خُلَيْدًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَأَعَزَّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَدَمَغَ الشِّرْكَ وَذَلَّهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ إِلَى الْبَصْرَةِ.
وَلَمَّا اسْتَكْمَلَ عُتْبَةُ فَتْحَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، اسْتَأْذَنَ عُمَرَ فِي الْحَجِّ فَأَذِنَ لَهُ، فَسَارَ

إِلَى الْحَجِّ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَصْرَةِ أَبَا سَبْرَةَ بْنَ أَبِي رُهْمٍ، وَاجْتَمَعَ بِعُمَرَ فِي الْمَوْسِمِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُقِيلَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ عُمَرُ لَيَرْجِعَنَّ إِلَى عَمَلِهِ. فَدَعَا عُتْبَةُ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ فَمَاتَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، وَهُوَ مُنْصَرِفٌ مِنَ الْحَجِّ، فَتَأَسَّفَ عَلَيْهِ عُمَرُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا، وَوَلَّى بَعْدَهُ بِالْبَصْرَةِ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، فَوَلِيَهَا بَقِيَّةَ تِلْكَ السَّنَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا، لَمْ يَقَعْ فِي زَمَانِهِ حَدَثٌ، وَكَانَ مَرْزُوقَ السَّلَامَةِ فِي عَمَلِهِ. ثُمَّ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي تِلْكَ الْمَرْأَةِ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ، فَكَانَ أَمْرُهُ مَا قَدَّمْنَا. ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ وَالِيًا عَلَيْهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.

ذِكْرُ فَتْحِ تُسْتَرَ ثَانِيَةً عَنْوَةً وَالسُّوسِ وَرَامَهُرْمُزَ وَأَسْرِ الْهُرْمُزَانِ وَبَعْثِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ كَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رِوَايَةِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ التَّمِيمِيِّ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ يَزْدَجِرْدَ كَانَ يُحَرِّضُ أَهْلَ فَارِسَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَيُؤَنِّبُهُمْ بِمَلْكِ الْعَرَبِ بِلَادَهُمْ وَقَصْدِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْأَهْوَازِ وَأَهْلِ فَارِسَ ; فَتَحَرَّكُوا وَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَقْصِدُوا الْبَصْرَةَ. وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى عُمَرَ؛ فَكَتَبَ إِلَى سَعْدٍ وَهُوَ بِالْكُوفَةِ: أَنِ ابْعَثْ جُنْدًا كَثِيفًا إِلَى

الْأَهْوَازِ مَعَ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، وَعَجِّلْ، وَلْيَكُونُوا بِإِزَاءِ الْهُرْمُزَانِ وَسَمَّى رِجَالًا مِنَ الشُّجْعَانِ الْأَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ، يَكُونُونَ فِي هَذَا الْجَيْشِ؛ مِنْهُمْ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيُّ، وَسُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذِي السَّهْمَيْنِ. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ: أَنِ ابْعَثْ إِلَى الْأَهْوَازِ جُنْدًا كَثِيفًا، وَأَمِّرْ عَلَيْهِمْ سُهَيْلَ بْنَ عَدِيٍّ، وَلْيَكُنْ مَعَهُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَجْزَأَةُ بْنُ ثَوْرٍ، وَكَعْبُ بْنُ سُورٍ، وَعَرْفَجَةُ بْنُ هَرْثَمَةَ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَلْيَكُنْ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ جَمِيعًا أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ، وَعَلَى كُلِّ مَنْ أَتَاهُ مِنَ الْمَدَدِ.
قَالُوا: فَسَارَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ بِجَيْشِ الْكُوفَةِ فَسَبَقَ الْبَصْرِيِّينَ، فَانْتَهَى إِلَى رَامَهُرْمُزَ وَبِهَا الْهُرْمُزَانُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْهُرْمُزَانُ فِي جُنْدِهِ، وَنَقَضَ الْعَهْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَادَرَهُ طَمَعًا أَنْ يَقْتَطِعَهُ قَبْلَ مَجِيءِ أَصْحَابِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ رَجَاءَ أَنْ يَنْصُرَ أَهْلَ فَارِسَ فَالْتَقَى مَعَهُ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ بِأَرْبُكَ، فَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا، فَهُزِمَ الْهُرْمُزَانُ وَفَرَّ إِلَى تَسْتُرَ وَتَرَكَ رَامَهُرْمُزَ فَتَسَلَّمَهَا النُّعْمَانُ عَنْوَةً وَأَخَذَ مَا فِيهَا

مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالذَّخَائِرِ وَالسِّلَاحِ وَالْعُدَدِ.
وَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِمَا صَنَعَ الْكُوفِيُّونَ بِالْهُرْمُزَانِ، وَأَنَّهُ قَدْ فَرَّ فَلَجَأَ إِلَى تَسْتُرَ سَارُوا إِلَيْهَا، وَلَحِقَهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ حَتَّى أَحَاطُوا بِهَا فَحَاصَرُوهَا جَمِيعًا، وَعَلَى الْجَمِيعِ أَبُو سَبْرَةَ، فَوَجَدُوا الْهُرْمُزَانَ قَدْ حَشَدَ بِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَجَمًّا غَفِيرًا. وَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يُمِدَّهُمْ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِمْ؛ فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ أَمِيرَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَاسْتَمَرَّ أَبُو سَبْرَةَ عَلَى الْإِمْرَةِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، فَحَاصَرَهُمْ أَشْهُرًا، وَكَثُرَ الْقَتْلُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَقَتَلَ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ أَخُو أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَوْمَئِذٍ مِائَةً مُبَارَزَةً سِوَى مَنْ قَتَلَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ كَعْبُ بْنُ سُورٍ، وَمَجْزَأَةُ بْنُ ثَوْرٍ، وَأَبُو تَمِيمَةَ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ قَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِائَةً مُبَارَزَةً، كَحَبِيبِ بْنِ قُرَّةَ، وَرِبْعِيِّ بْنِ عَامِرٍ، وَعَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْأَسْوَدِ، وَقَدْ تَزَاحَفُوا أَيَّامًا مُتَعَدِّدَةً، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ زَحْفٍ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ لِلْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ - وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ -: يَا بَرَاءُ، أَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ لَيَهْزِمَنَّهُمْ لَنَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ لَنَا، وَاسْتَشْهِدْنِي. قَالَ: فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ خَنَادِقَهُمْ وَاقْتَحَمُوهَا عَلَيْهِمْ، وَلَجَأَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى الْبَلَدِ فَتَحَصَّنُوا بِهِ، وَقَدْ ضَاقَتْ

بِهِمُ الْبَلَدُ، وَطَلَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ الْأَمَانَ مِنْ أَبِي مُوسَى فَأَمَّنَهُ، فَبَعَثَ يَدُلُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَكَانٍ يَدْخُلُونَ مِنْهُ إِلَى الْبَلَدِ، وَهُوَ مِنْ مَدْخَلِ الْمَاءِ إِلَيْهَا، فَنَدَبَ الْأُمَرَاءُ النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ رِجَالٌ مِنَ الشُّجْعَانِ وَالْأَبْطَالِ، وَجَاءُوا فَدَخَلُوا مَعَ الْمَاءِ - كَالْبَطِّ - إِلَى الْبَلَدِ، وَذَلِكَ فِي اللَّيْلِ، فَيُقَالُ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيُّ، وَجَاءُوا إِلَى الْبَوَّابِينَ فَأَنَامُوهُمْ وَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ فَدَخَلُوا الْبَلَدَ، وَذَلِكَ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ إِلَى أَنْ تَعَالَى النَّهَارُ، وَلَمْ يُصَلُّوا الصُّبْحَ يَوْمَئِذٍ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، كَمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: شَهِدْتُ فَتْحَ تُسْتَرَ وَذَلِكَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، فَاشْتَغَلَ النَّاسُ بِالْفَتْحِ، فَمَا صَلَّوُا الصُّبْحَ إِلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ حُمْرَ النَّعَمِ. احْتَجَّ بِذَلِكَ الْبُخَارِيُّ لِمَكْحُولٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ فِي ذَهَابِهِمَا إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ لِعُذْرِ الْقِتَالِ. وَجَنَحَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ، وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ الْخَنْدَقِ فِي قَوْلِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا وَبِقَوْلِهِ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي

قُرَيْظَةَ فَأَخَّرَهَا فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى بَعْدِ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْهُرْمُزَانَ لَمَّا فُتِحَ الْبَلَدُ لَجَأَ إِلَى الْقَلْعَةِ فَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَبْطَالِ مِمَّنْ ذَكَرْنَا وَغَيْرُهُمْ، فَلَمَّا حَصَرُوهُ فِي مَكَانٍ مِنَ الْقَلْعَةِ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا تَلَفُهُ أَوْ تَلَفُهُمْ، قَالَ لَهُمْ بَعْدَ مَا قَتَلَ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ وَمَجْزَأَةَ بْنَ ثَوْرٍ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ: إِنَّ مَعِيَ جَعْبَةً فِيهَا مِائَةُ سَهْمٍ، وَإِنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا رَمَيْتُهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلْتُهُ، وَلَا يَسْقُطُ لِي سَهْمٌ إِلَّا فِي رَجُلٍ مِنْكُمْ، فَمَاذَا يَنْفَعُكُمْ إِنْ أَسَرْتُمُونِي بَعْدَمَا قَتَلْتُ مِنْكُمْ مِائَةَ رَجُلٍ ؟ قَالُوا: فَمَاذَا تُرِيدُ ؟ قَالَ: تُؤَمِّنُونِي حَتَّى أُسَلِّمَكُمْ يَدِي فَتَذْهَبُوا بِي إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَيَحْكُمَ فِيَّ بِمَا يَشَاءُ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَلْقَى قَوْسَهُ وَنُشَّابَهُ وَأَسَرُوهُ، فَشُدُّوهُ وِثَاقًا وَأَرْصَدُوهُ لِيَبْعَثُوهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ، ثُمَّ تَسَلَّمُوا مَا فِي الْبَلَدِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ، فَاقْتَسَمُوا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهِ، فَنَالَ كُلُّ فَارِسٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَكُلُّ رَاجِلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ.

فَتْحُ السُّوسِ
ثُمَّ رَكِبَ أَبُو سَبْرَةَ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ وَمَعَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَالنُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَاسْتَصْحَبُوا مَعَهُمُ الْهُرْمُزَانَ، وَسَارُوا فِي طَلَبِ الْمُنْهَزِمِينَ مِنَ الْفُرْسِ

حَتَّى نَزَلُوا عَلَى السُّوسِ فَأَحَاطُوا بِهَا. وَكَتَبَ أَبُو سَبْرَةَ إِلَى عُمَرَ فَجَاءَ الْكِتَابُ بِأَنْ يَرْجِعَ أَبُو مُوسَى إِلَى الْبَصْرَةِ وَأَمَّرَ عُمَرُ زِرَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كُلَيْبٍ الْفُقَيْمِيَّ - وَهُوَ صَحَابِيٌّ - أَنْ يَسِيرَ إِلَى جُنْدَيْسَابُورَ، فَسَارَ، ثُمَّ بَعَثَ أَبُو سَبْرَةَ بِالْخُمْسِ وَبِالْهُرْمُزَانِ مَعَ وَفْدٍ فِيهِمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنَ الْمَدِينَةِ هَيَّئُوا الْهُرْمُزَانَ بِلُبْسِهِ الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهُ مِنَ الدِّيبَاجِ وَالذَّهَبِ الْمُكَلَّلِ بِالْيَاقُوتِ وَاللَّآلِئِ، ثُمَّ دَخَلُوا الْمَدِينَةَ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَيَمَّمُوا بِهِ مَنْزِلَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَسَأَلُوا عَنْهُ فَقَالُوا: إِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْمَسْجِدِ بِسَبَبِ وَفْدٍ مِنَ الْكُوفَةِ. فَجَاءُوا الْمَسْجِدَ فَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا فَرَجَعُوا، فَإِذَا غِلْمَانٌ يَلْعَبُونَ فَسَأَلُوهُمْ عَنْهُ، فَقَالُوا: إِنَّهُ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ مُتَوَسِّدًا بُرْنُسًا لَهُ. فَرَجَعُوا إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا هُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْنُسًا لَهُ كَانَ قَدْ لَبِسَهُ لِلْوَفْدِ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا عَنْهُ تَوَسَّدَ الْبُرْنُسَ وَنَامَ وَلَيْسَ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرُهُ، وَالدِّرَّةُ مُعَلَّقَةٌ فِي يَدِهِ. فَقَالَ الْهُرْمُزَانُ أَيْنَ عُمَرُ ؟ فَقَالُوا: هُوَ ذَا. وَجَعَلَ النَّاسُ يَخْفِضُونَ أَصْوَاتَهُمْ لِئَلَّا يُنَبِّهُوهُ، وَجَعَلَ الْهُرْمُزَانُ يَقُولُ: وَأَيْنَ حُجَّابُهُ، أَيْنَ حَرَسُهُ ؟ فَقَالُوا: لَيْسَ لَهُ حُجَّابٌ وَلَا حَرَسٌ، وَلَا كَاتِبٌ وَلَا دِيوَانٌ. فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا. فَقَالُوا: بَلْ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَنْبِيَاءِ. وَكَبَّرَ النَّاسُ، فَاسْتَيْقَظَ عُمَرُ بِالْجَلَبَةِ فَاسْتَوَى جَالِسًا، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْهُرْمُزَانِ، فَقَالَ: الْهُرْمُزَانُ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَتَأَمَّلَهُ وَتَأَمَّلَ مَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، وَأَسْتَعِينُ بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذَلَّ بِالْإِسْلَامِ هَذَا وَأَشْيَاعَهُ، يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ تَمَسَّكُوا بِهَذَا الدِّينِ، وَاهْتَدَوْا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ، وَلَا تُبْطِرَنَّكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَرَّارَةٌ. فَقَالَ لَهُ الْوَفْدُ:

هَذَا مَلِكُ الْأَهْوَازِ فَكَلِّمْهُ. فَقَالَ: لَا؛ حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَيْهِ مِنْ حِلْيَتِهِ شَيْءٌ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَأَلْبَسُوهُ ثَوْبًا صَفِيقًا، فَقَالَ عُمَرُ: هَيَّ يَا هُرْمُزَانُ ! كَيْفَ رَأَيْتَ وَبَالَ الْغَدْرِ وَعَاقِبَةَ أَمْرِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ: يَا عُمَرُ، إِنَّا وَإِيَّاكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ اللَّهُ قَدْ خَلَّى بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَغَلَبْنَاكُمْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا وَلَا مَعَكُمْ، فَلَمَّا كَانَ مَعَكُمْ غَلَبْتُمُونَا. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّمَا غَلَبْتُمُونَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِاجْتِمَاعِكُمْ وَتَفَرُّقِنَا. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: مَا عُذْرُكَ وَمَا حُجَّتُكَ فِي انْتِقَاضِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ؟ فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ تَقْتُلَنِي قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَكَ. قَالَ: لَا تَخَفْ ذَلِكَ. وَاسْتَسْقَى الْهُرْمُزَانُ مَاءً، فَأُتِيَ بِهِ فِي قَدَحٍ غَلِيظٍ، فَقَالَ: لَوْ مُتُّ عَطَشًا لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَشْرَبَ فِي هَذَا. فَأُتِيَ بِهِ فِي قَدَحٍ آخَرَ يَرْضَاهُ، فَلَمَّا أَخَذَهُ جَعَلَتْ يَدُهُ تَرْعَدُ، وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أُقْتَلَ وَأَنَا أَشْرَبُ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ حَتَّى تَشْرَبَهُ. فَأَكْفَأَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَعِيدُوهُ عَلَيْهِ، وَلَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِ الْقَتْلَ وَالْعَطَشَ. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي الْمَاءِ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَأْنِسَ بِهِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنِّي قَاتِلُكَ. فَقَالَ: إِنَّكَ أَمَّنْتَنِي. قَالَ: كَذَبْتَ. فَقَالَ أَنَسٌ: صَدَقَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عُمَرُ: وَيْحَكَ يَا أَنَسُ، أَنَا أُؤَمِّنُ قَاتِلَ مَجْزَأَةَ وَالْبَرَاءِ لَتَأْتِيَنِّي بِمَخْرَجٍ أَوْ لَأُعَاقِبَنَّكَ. قَالَ: قُلْتَ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ حَتَّى تُخْبِرَنِي. وَقُلْتَ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ حَتَّى تَشْرَبَهُ. وَقَالَ لَهُ مَنْ حَوْلَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ عَلَى الْهُرْمُزَانِ،

فَقَالَ: خَدَعْتَنِي، وَاللَّهِ لَا أَنْخَدِعُ إِلَّا أَنْ تُسْلِمَ، فَأَسْلَمَ، فَفَرَضَ لَهُ فِي أَلْفَيْنِ وَأَنْزَلَهُ الْمَدِينَةَ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ التَّرْجُمَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَبَيْنَ الْهُرْمُزَانِ كَانَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: قُلْ لَهُ: مِنْ أَيِّ أَرْضٍ أَنْتَ ؟ فَقَالَ: مِهْرِجَانِيٌّ. قَالَ: تَكَلَّمْ بِحُجَّتِكَ. فَقَالَ: أَكَلَامُ حَيٍّ أَمْ مَيِّتٍ ؟ قَالَ: بَلْ كَلَامُ حَيٍّ. فَقَالَ: قَدْ أَمَّنْتَنِي. فَقَالَ: خَدَعْتَنِي وَلَا أَقْبَلُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ تُسْلِمَ. فَأَسْلَمَ فَفَرَضَ لَهُ أَلْفَيْنِ وَأَنْزَلَهُ الْمَدِينَةَ. ثُمَّ جَاءَ زَيْدٌ فَتَرْجَمَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا.
قُلْتُ: وَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُ الْهُرْمُزَانِ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ عُمَرَ حَتَّى قُتِلَ عُمَرُ، فَاتَّهَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ بِمُمَالَأَةِ أَبِي لُؤْلُؤَةَ هُوَ وَجُفَيْنَةُ، فَقَتَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْهُرْمُزَانَ وَجُفَيْنَةَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ الْهُرْمُزَانَ لَمَّا عَلَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بِالسَّيْفِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَمَّا جُفَيْنَةُ فَصَلَّبَ عَلَى وَجْهِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَحْجُرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَسَّعُوا فِي بِلَادِ الْعَجَمِ؛ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَجَمِ، حَتَّى أَشَارَ عَلَيْهِ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي تَوَسُّعَهُمْ فِي الْفُتُوحَاتِ، فَإِنَّ الْمَلِكَ يَزْدَجِرْدَ لَا يَزَالُ يَسْتَحِثُّهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يُسْتَأْصَلْ سَاقُ الْعَجَمِ وَإِلَّا طَمِعُوا فِي الْإِسْلَامِ

وَأَهْلِهِ، فَاسْتَحْسَنَ عُمَرُ ذَلِكَ مِنْهُ وَصَوَّبَهُ، وَأَذِنَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي التَّوَسُّعِ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ، فَفَتَحُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَأَكْثَرُ ذَلِكَ وَقَعَ فِي سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِيهَا.
ثُمَّ نَعُودُ إِلَى فَتْحِ السُّوسِ وَجُنْدَيْسَابُورَ وَفَتْحِ نَهَاوَنْدَ فِي قَوْلِ سَيْفٍ، كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَبَا سَبْرَةَ سَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ عِلْيَةِ الْأُمَرَاءِ مِنْ تُسْتَرَ إِلَى السُّوسِ فَنَازَلَهَا حِينًا، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ أَهْلِهَا فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، لَا تَتْعَبُوا فِي حِصَارِ هَذَا الْبَلَدِ فَإِنَّا نَأْثُرُ فِيمَا نَرْوِيهِ عَنْ قُدَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ أَنَّهُ لَا يَفْتَحُهُ إِلَّا الدَّجَّالُ أَوْ قَوْمٌ مَعَهُمُ الدَّجَّالُ. وَاتَّفَقَ أَنَّهُ كَانَ فِي جَيْشِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ صَافُ بْنُ صَيَّادٍ، فَأَرْسَلَهُ أَبُو مُوسَى فِي مَنْ يُحَاصِرُ، فَجَاءَ إِلَى الْبَابِ فَدَقَّهُ بِرِجْلِهِ، فَتَقَطَّعَتِ السَّلَاسِلُ، وَتَكَسَّرَتِ الْأَغْلَاقُ، وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ الْبَلَدَ فَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوا حَتَّى نَادَوْا بِالْأَمَانِ وَدَعَوْا إِلَى الصُّلْحِ، فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ عَلَى السُّوسِ شَهْرِيَارُ أَخُو الْهُرْمُزَانِ، فَاسْتَحْوَذَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى السُّوسِ، وَهُوَ بَلَدٌ قَدِيمُ الْعِمَارَةِ فِي الْأَرْضِ، يُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ بَلَدٍ وُضِعَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُمْ وَجَدُوا قَبْرَ دَانْيَالَ بِالسُّوسِ، وَأَنَّ أَبَا مُوسَى لَمَّا أَقَامَ

بِهَا بَعْدَ مُضِيِّ أَبِي سَبْرَةَ إِلَى جُنْدَيْسَابُورَ، كَتَبَ إِلَى عُمَرَ فِي أَمْرِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَدْفِنَهُ وَأَنْ يُغَيِّبَ عَنِ النَّاسِ مَوْضِعَ قَبْرِهِ، فَفَعَلَ. وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي " سِيرَةِ عُمَرَ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ فَتْحَ السُّوسِ وَرَامَهُرْمُزَ وَتَسْيِيرَ الْهُرْمُزَانِ مِنْ تُسْتَرَ إِلَى عُمَرَ، فِي سَنَةِ عِشْرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ الْكِتَابُ الْعُمَرِيُّ قَدْ وَرَدَ بِأَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ يَذْهَبُ إِلَى أَهْلِ نَهَاوَنْدَ فَسَارَ إِلَيْهَا فَمَرَّ بِمَاةَ - بَلْدَةٍ كَبِيرَةٍ قَبْلَهَا - فَافْتَتَحَهَا ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى نَهَاوَنْدَ فَفَتَحَهَا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
قُلْتُ: الْمَشْهُورُ أَنَّ فَتْحَ نَهَاوَنْدَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، كَمَا سَيَأْتِي فِيهَا بَيَانُ ذَلِكَ، وَهِيَ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفَتْحٌ كَبِيرٌ، وَخَبَرٌ غَرِيبٌ، وَنَبَأٌ عَجِيبٌ. وَفَتَحَ زِرُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفُقَيْمِيُّ مَدِينَةَ جُنْدَيْسَابُورَ، فَاسْتَوْسَقَتْ تِلْكَ الْبِلَادُ لِلْمُسْلِمِينَ. هَذَا وَقَدْ تَحَوَّلَ يَزْدَجِرْدُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، حَتَّى انْتَهَى أَمْرُهُ إِلَى الْإِقَامَةِ بِأَصْبَهَانَ، وَقَدْ كَانَ صَرَفَ طَائِفَةً مِنْ أَشْرَافِ أَصْحَابِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْعُظَمَاءِ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: سِيَاهُ. فَكَانُوا يَفِرُّونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، حَتَّى فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ تُسْتَرَ وَإِصْطَخْرَ، فَقَالَ سِيَاهُ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ بَعْدَ الشَّقَاءِ وَالذِّلَّةِ مَلَكُوا أَمَاكِنَ الْمُلُوكِ الْأَقْدَمِينَ، وَلَا يَلْقَوْنَ جُنْدًا إِلَّا كَسَرُوهُ، وَاللَّهِ مَا هَذَا عَنْ بَاطِلٍ. وَدَخَلَ فِي قَلْبِهِ الْإِسْلَامُ وَعَظَمَتُهُ، فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ تَبَعٌ لَكَ. وَبَعَثَ عَمَّارُ بْنُ

يَاسِرٍ فِي غُبُونِ ذَلِكَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ بِإِسْلَامِهِمْ، وَكَتَبَ فِيهِمْ إِلَى عُمَرَ فِي ذَلِكَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَفْرِضَ لَهُمْ فِي أَلْفَيْنِ أَلْفَيْنِ، وَفَرَضَ لِسِتَّةٍ مِنْهُمْ فِي أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ. وَكَانَ لَهُمْ نِكَايَةٌ عَظِيمَةٌ فِي قِتَالِ قَوْمِهِمْ، حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ حَاصَرُوا حِصْنًا فَامْتَنَعَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ أَحَدُهُمْ فَرَمَى بِنَفْسِهِ فِي اللَّيْلِ عَلَى بَابِ الْحِصْنِ وَضَمَّخَ ثِيَابَهُ بِدَمٍ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ حَسِبُوا أَنَّهُ مِنْهُمْ، فَفَتَحُوا لَهُ بَابَ الْحِصْنِ لِيُؤْوُوهُ، فَثَارَ إِلَى الْبَوَّابِ فَقَتَلَهُ، وَجَاءَ بَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ فَفَتَحُوا ذَلِكَ الْحِصْنَ، وَقَتَلُوا مَنْ فِيهِ مِنَ الْمَجُوسِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَقَدَ الْأَلْوِيَةِ وَالرَّايَاتِ الْكَثِيرَةَ فِي بِلَادِ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ لِغَزْوِ الْفُرْسِ وَالتَّوَسُّعِ فِي بِلَادِهِمْ، كَمَا أَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَحَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ فُتُوحَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ بَعْدَهَا، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثُمَّ ذَكَرَ نُوَّابَهُ عَلَى الْبِلَادِ، وَهُمْ مَنْ ذَكَرَ فِي السَّنَةِ قَبْلَهَا غَيْرَ الْمُغِيرَةِ، فَإِنَّ عَلَى الْبَصْرَةِ بَدَلَهُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ
قُلْتُ: وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَقْوَامٌ، قِيلَ: إِنَّهُمْ تُوُفُّوا قَبْلَهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمْ. وَقِيلَ: فِيمَا بَعْدَهَا. وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُمْ فِي أَمَاكِنِهِمْ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ
الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ طَاعُونَ عَمَوَاسَ كَانَ بِهَا، وَقَدْ تَبِعْنَا قَوْلَ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، وَ ابْنِ جَرِيرٍ فِي إِيرَادِهِ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبِلَهَا، لَكِنَّا نَذْكُرُ وَفَاةَ مَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَأَبُو مَعْشَرٍ: كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ طَاعُونُ عَمَوَاسَ وَعَامُ الرَّمَادَةِ، فَتَفَانَى فِيهَا النَّاسُ.
قُلْتُ: كَانَ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ جَدْبٌ عَمَّ أَرْضَ الْحِجَازِ، وَجَاعَ النَّاسُ جُوعًا شَدِيدًا، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي " سِيرَةِ عُمَرَ ". وَسُمِّيَتْ عَامَ الرَّمَادَةِ لِأَنَّ الْأَرْضَ اسْوَدَّتْ مِنْ قِلَّةِ الْمَطَرِ، حَتَّى عَادَ لَوْنُهَا شَبِيهًا بِالرَّمَادِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا كَانَتْ تَسْفِي الرِّيحُ تُرَابًا كَالرَّمَادِ. وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ سُمِّيَتْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَجْدَبَ النَّاسُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، وَجَفَلَتِ الْأَحْيَاءُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ زَادٌ، فَلَجَئُوا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْفَقَ فِيهِمْ مِنْ حَوَاصِلِ بَيْتِ الْمَالِ مِمَّا فِيهِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَمْوَالِ حَتَّى أَنْفَدَهُ، وَأَلْزَمَ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ سَمْنًا وَلَا

سَمِينًا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِالنَّاسِ، فَكَانَ فِي زَمَنِ الْخِصْبِ يُبَسُّ لَهُ الْخُبْزُ بِاللَّبَنِ وَالسَّمْنِ، ثُمَّ كَانَ عَامَ الرَّمَادَةِ يُبَسُّ لَهُ بِالزَّيْتِ وَالْخَلِّ، وَكَانَ يَسْتَمْرِئُ الزَّيْتَ، وَكَانَ لَا يَشْبَعُ مَعَ ذَلِكَ، فَاسْوَدَّ لَوْنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَتَغَيَّرَ جِسْمُهُ حَتَّى كَادَ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ. وَاسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ فِي النَّاسِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تَحَوَّلَ الْحَالُ إِلَى الْخِصْبِ وَالدَّعَةِ، وَانْشَمَرَ النَّاسُ عَنِ الْمَدِينَةِ إِلَى أَمَاكِنِهِمْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ قَالَ لِعُمَرَ حِينَ تَرَحَّلَ الْأَحْيَاءُ عَنِ الْمَدِينَةِ: لَقَدِ انْجَلَتْ عَنْكَ وَإِنَّكَ لَابْنُ حُرَّةٍ. أَيْ: وَاسَيْتَ النَّاسَ وَأَنْصَفْتَهُمْ وَأَحْسَنْتَ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ عُمَرَ عَسَّ الْمَدِينَةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَضْحَكُ، وَلَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ فِي مَنَازِلِهِمْ عَلَى الْعَادَةِ، وَلَمْ يَجِدْ سَائِلًا يَسْأَلُ، فَسَأَلَ عَنْ سَبَبٍ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ السُّؤَّالَ سَأَلُوا فَلَمْ يُعْطَوْا فَقَطَعُوا السُّؤَالَ، وَالنَّاسُ فِي هَمٍّ وَضِيقٍ، فَهُمْ لَا يَتَحَدَّثُونَ وَلَا يَضْحَكُونَ. فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى بِالْبَصْرَةِ: أَنْ يَا غَوْثَاهُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ. وَكَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِمِصْرَ: أَنْ يَا غَوْثَاهُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَافِلَةٍ عَظِيمَةٍ تَحْمِلُ الْبُرَّ وَسَائِرَ الْأَطْعِمَاتِ، وَوَصَلَتْ مِيرَةُ عَمْرٍو فِي الْبَحْرِ إِلَى جُدَّةَ وَمِنْ جُدَّةَ إِلَى مَكَّةَ. وَهَذَا الْأَثَرُ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ، لَكِنَّ ذِكْرَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ مُشْكِلٌ؛ فَإِنَّ مِصْرَ لَمْ تَكُنْ فُتِحَتْ فِي سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامُ الرَّمَادَةِ بَعْدَ سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، أَوْ يَكُونَ ذِكْرُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ وَهْمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَذَكَرَ سَيْفٌ عَنْ شُيُوخِهِ، أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَمَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ رَاحِلَةٍ تَحْمِلُ طَعَامًا، فَأَمَرَهُ عُمَرُ بِتَفْرِقَتِهَا فِي الْأَحْيَاءِ حَوْلَ الْمَدِينَةِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ أَمَرَ لَهُ عُمَرُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ عُمَرُ حَتَّى قَبِلَهَا.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ طَرِيقِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي الْمُجَالِدِ، وَالرَّبِيعِ، وَأَبِي عُثْمَانَ وَأَبِي حَارِثَةَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُبْرُمَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالُوا: كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إِنَّ نَفَرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَصَابُوا الشَّرَابَ - مِنْهُمْ ضِرَارٌ وَأَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ - فَسَأَلْنَاهُمْ فَقَالُوا: خُيِّرْنَا فَاخْتَرْنَا؛ قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [ الْمَائِدَةِ: 91 ]. وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْنَا. فَجَمَعَ عُمَرُ النَّاسَ فَأَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِمْ، وَأَنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ أَيِ: انْتَهُوا. وَأَجْمَعُوا عَلَى جَلْدِهِمْ ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ، وَأَنَّ مَنْ تَأَوَّلَ هَذَا التَّأْوِيلَ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ يُقْتَلُ. فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ؛ أَنِ ادْعُهُمْ فَسَلْهُمْ عَنِ الْخَمْرِ؛ فَإِنْ قَالُوا: هِيَ حَلَالٌ. فَاقْتُلْهُمْ، وَإِنْ قَالُوا: هِيَ حَرَامٌ. فَاجْلِدْهُمْ. فَاعْتَرَفَ الْقَوْمُ بِتَحْرِيمِهَا، فَجُلِدُوا الْحَدَّ وَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ اللَّجَاجَةِ فِيمَا تَأَوَّلُوهُ، حَتَّى وُسْوِسَ أَبُو جَنْدَلٍ فِي نَفْسِهِ، فَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ إِلَى عُمَرَ فِي

ذَلِكَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى أَبِي جَنْدَلٍ وَيُذَكِّرَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ: مِنْ عُمَرَ إِلَى أَبِي جَنْدَلٍ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [ النِّسَاءِ: 48 ]. فَتُبْ وَارْفَعْ رَأْسَكَ وَابْرُزْ وَلَا تَقْنَطْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [ الزُّمَرِ: 53 ]. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى النَّاسِ أَنْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، وَمَنْ غَيَّرَ فَغَيِّرُوا عَلَيْهِ، وَلَا تُعَيِّرُوا أَحَدًا فَيَفْشُوَ فِيكُمُ الْبَلَاءُ. وَقَدْ قَالَ أَبُو الزَّهْرَاءِ الْقُشَيْرِيُّ فِي ذَلِكَ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الدَّهْرَ يَعْثُرُ بِالْفَتَى وَلَيْسَ عَلَى صَرْفِ الْمَنُونِ بِقَادِرِ صَبَرْتُ وَلَمْ أَجْزَعْ وَقَدْ مَاتَ إِخْوَتِي
وَلَسْتُ عَنِ الصَّهْبَاءِ يَوْمًا بِصَابِرِ رَمَاهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِحَتْفِهَا
فَخُلَّانُهَا يَبْكُونَ حَوْلَ الْمَعَاصِرِ
قَالَ سَيْفُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ عَامُ الرَّمَادَةِ فِي آخِرِ سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَأَوَّلِ سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، أَصَابَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا جُوعٌ فَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى جَعَلَتِ الْوَحْشُ تَأْوِي إِلَى الْإِنْسِ. فَكَانَ النَّاسُ كَذَلِكَ وَعُمَرُ كَالْمَحْصُورِ عَنْ

أَهْلِ الْأَمْصَارِ، حَتَّى أَقْبَلَ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيُّ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكَ، يَقُولُ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: " لَقَدْ عَهِدْتُكَ كَيِّسًا، وَمَا زِلْتَ عَلَى ذَلِكَ، فَمَا شَأْنُكَ ؟ ". قَالَ: مَتَى رَأَيْتَ هَذَا ؟ قَالَ: الْبَارِحَةَ. فَخَرَجَ فَنَادَى فِي النَّاسِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُونَ مِنِّي أَمْرًا غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ لَا. فَقَالَ: إِنَّ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ يَزْعُمُ ذَيْتَ وَذَيْتَ. فَقَالُوا: صَدَقَ بِلَالٌ، فَاسْتَغِثْ بِاللَّهِ ثُمَّ بِالْمُسْلِمِينَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ - وَكَانَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ مَحْصُورًا - فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، بَلَغَ الْبَلَاءُ مُدَّتَهُ فَانْكَشَفَ، مَا أُذِنَ لِقَوْمٍ فِي الطَّلَبِ إِلَّا وَقَدْ رُفِعَ عَنْهُمُ الْبَلَاءُ. وَكَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ أَنْ أَعِينُوا أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَ جَهْدُهُمْ. وَأَخْرَجَ النَّاسَ إِلَى الِاسْتِسْقَاءِ، فَخَرَجَ وَخَرَجَ مَعَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَاشِيًا، فَخَطَبَ وَأَوْجَزَ وَصَلَّى، ثُمَّ جَثَى لِرُكْبَتَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَارْضَ عَنَّا. ثُمَّ انْصَرَفَ فَمَا بَلَغُوا الْمَنَازِلَ رَاجِعِينَ حَتَّى خَاضُوا الْغُدْرَانَ.
ثُمَّ رَوَى سَيْفٌ، عَنْ مُبَشِّرِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ صَخْرٍ، عَنْ

عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ عَامَ الرَّمَادَةِ سَأَلَهُ أَهْلُهُ أَنْ يَذْبَحَ لَهُمْ شَاةً، فَقَالَ: لَيْسَ فِيهِنَّ شَيْءٌ. فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَذَبَحَ شَاةً، فَإِذَا عِظَامُهَا حُمْرٌ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدَاهُ. فَلَمَّا أَمْسَى أُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ لَهُ: " أَبْشِرْ بِالْحَيَا، ائْتِ عُمَرَ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ: إِنَّ عَهْدِي بِكَ وَفِيَّ الْعَهْدِ، شَدِيدَ الْعَقْدِ، فَالْكَيْسَ الْكَيْسَ يَا عُمَرُ ". فَجَاءَ حَتَّى أَتَى بَابَ عُمَرَ فَقَالَ لِغُلَامِهِ: اسْتَأْذِنْ لِرَسُولِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،. فَأَتَى عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ فَفَزِعَ، ثُمَّ صَعِدَ عُمَرُ الْمِنْبَرَ فَقَالَ لِلنَّاسِ: أَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي هَدَاكُمْ لِلْإِسْلَامِ، هَلْ رَأَيْتُمْ مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ ؟ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ لَا، وَعَمَّ ذَاكَ ؟ فَأَخْبَرَهُمْ بِقَوْلِ الْمُزَنِيِّ - وَهُوَ بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ - فَفَطِنُوا وَلَمْ يَفْطَنْ. فَقَالُوا: إِنَّمَا اسْتَبْطَأَكَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ فَاسْتَسْقِ بِنَا. فَنَادَى فِي النَّاسِ، فَخَطَبَ فَأَوْجَزَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَأَوْجَزَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ عَجَزَتْ عَنَّا أَنْصَارُنَا، وَعَجَزَ عَنَّا حَوْلُنَا وَقُوَّتُنَا، وَعَجَزَتْ عَنَّا أَنْفُسُنَا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، اللَّهُمَّ فَاسْقِنَا وَأَحْيِ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ قَتَادَةَ وَأَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ: أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ

، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَسْقِ اللَّهَ لِأُمَّتِكَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا. فَأَتَاهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ: " ائْتِ عُمَرَ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُ أَنَّكُمْ مُسْقَوْنَ، وَقُلْ لَهُ عَلَيْكَ الْكَيْسَ الْكَيْسَ ". فَأَتَى الرَّجُلُ فَأَخْبَرَ عُمَرَ فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا آلُو إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَشِّيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، ثَنَا أَبِي، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، خَرَجَ يَسْتَسْقِي وَخَرَجَ بِالْعَبَّاسِ مَعَهُ يَسْتَسْقِي، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا قَحَطْنَا عَلَى عَهْدِ نَبِيِّنَا تَوَسَّلْنَا إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،. وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، بِهِ، وَلَفْظُهُ: عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا قَحَطُوا يَسْتَسْقِي بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا. قَالَ: فَيُسْقَوْنَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي " كِتَابِ الْمَطَرِ "، وَفِي كِتَابِ " مُجَابِي الدَّعْوَةِ ": حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الشَّيْبَانِيُّ، ثَنَا عَطَاءُ بْنُ

مُسْلِمٍ عَنِ الْعُمَرِيِّ، عَنْ خَوَّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ يَسْتَسْقِي بِهِمْ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَغْفِرُكُ وَنَسْتَسْقِيكَ. فَمَا بَرِحَ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى مُطِرُوا، فَقَدِمَ أَعْرَابٌ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَا نَحْنُ بِوَادِينَا فِي سَاعَةِ كَذَا إِذْ أَظَلَّتْنَا غَمَامَةٌ فَسَمِعْنَا مِنْهَا صَوْتًا: أَتَاكَ الْغَوْثُ أَبَا حَفْصٍ، أَتَاكَ الْغَوْثُ أَبَا حَفْصٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ يَسْتَسْقِي بِالنَّاسِ فَمَا زَادَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ حَتَّى رَجَعَ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا نَرَاكَ اسْتَسْقَيْتَ. فَقَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ الْمَطَرَ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي يُسْتَنْزَلُ بِهَا الْمَطَرُ، ثُمَّ قَرَأَ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ثُمَّ قَرَأَ: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [ هُودٍ: 3 ].
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَغَيْرُهُ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا حَوَّلَ عُمَرُ الْمَقَامَ، وَكَانَ مُلْصَقًا بِجِدَارِ الْكَعْبَةِ، فَأَخَّرَهُ إِلَى حَيْثُ هُوَ الْآنَ؛ لِئَلَّا يُشَوِّشَ الْمُصَلُّونَ عِنْدَهُ عَلَى الطَّائِفِينَ. قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرْتُ أَسَانِيدَ ذَلِكَ فِي " سِيرَةِ عُمَرَ ". وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. قَالَ: وَفِيهَا اسْتَقْضَى عُمَرُ شُرَيْحًا عَلَى الْكُوفَةِ وَكَعْبَ بْنَ

سُورٍ عَلَى الْبَصْرَةِ. قَالَ: وَفِيهَا حَجَّ عُمَرُ بِالنَّاسِ، وَكَانَتْ نُوَّابُهُ فِيهَا الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ. قَالَ: وَفِيهَا فُتِحَتِ الرَّقَّةُ وَالرُّهَا وَحَرَّانُ عَلَى يَدَيْ عِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: وَفُتِحَتْ رَأْسُ عَيْنِ الْوَرْدَةِ عَلَى يَدَيْ عُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَالَ غَيْرُهُ خِلَافَ ذَلِكَ.
وَقَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ فِي تَارِيخِهِ: وَفِيهَا - يَعْنِي هَذِهِ السَّنَةَ - افْتَتَحَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ الرُّهَا وَسُمَيْسَاطَ عَنْوَةً، وَفِي أَوَائِلِهَا وَجَّهَ أَبُو عُبَيْدَةَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ إِلَى الْجَزِيرَةِ فَوَافَقَ أَبَا مُوسَى، فَافْتَتَحَا حَرَّانَ وَنَصِيبِينَ وَطَائِفَةً مِنَ الْجَزِيرَةِ عَنْوَةً، وَقِيلَ: صُلْحًا. وَفِيهَا سَارَ عِيَاضٌ إِلَى الْمَوْصِلِ فَافْتَتَحَهَا وَمَا حَوْلَهَا عَنْوَةً. وَفِيهَا بَنَى سَعْدٌ جَامِعَ الْكُوفَةِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا كَانَ طَاعُونُ عَمَوَاسَ فَمَاتَ فِيهِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. قُلْتُ: هَذَا الطَّاعُونُ مَنْسُوبٌ إِلَى بُلَيْدَةٍ صَغِيرَةٍ يُقَالُ لَهَا: عَمَوَاسُ. وَهِيَ بَيْنَ الْقُدْسِ وَالرَّمْلَةِ، لِأَنَّهَا كَانَ أَوَّلَ مَا نَجَمَ هَذَا الدَّاءُ بِهَا، ثُمَّ انْتَشَرَ فِي الشَّامِ مِنْهَا فَنُسِبَ إِلَيْهَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَ فِي عَامِ طَاعُونِ عَمَوَاسَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: ثَلَاثُونَ أَلْفًا.

وَهَذَا ذِكْرُ طَائِفَةٍ مِنْ أَعْيَانِهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، أَخُو أَبِي جَهْلٍ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَكَانَ سَيِّدًا شَرِيفًا فِي الْإِسْلَامِ كَمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، اسْتُشْهِدَ بِالشَّامِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي قَوْلٍ، وَتَزَوَّجَ عُمَرُ بَعْدَهُ بِامْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ.
شُرَحْبِيلُ ابْنُ حَسَنَةَ، أَحَدُ أُمَرَاءِ الْأَرْبَاعِ، وَهُوَ أَمِيرُ فِلَسْطِينَ، وَهُوَ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُطَاعِ بْنِ قَطَنٍ الْكِنْدِيُّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ. وَحَسَنَةُ أُمُّهُ، نُسِبَ إِلَيْهَا وَغَلَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَجَهَّزَهُ الصِّدِّيقُ إِلَى الشَّامِ فَكَانَ أَمِيرًا عَلَى رُبُعِ الْجَيْشِ، وَكَذَلِكَ فِي الدَّوْلَةِ الْعُمَرِيَّةِ، وَطُعِنَ هُوَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَأَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ. لَهُ حَدِيثَانِ؛ رَوَى لَهُ ابْنُ مَاجَهْ أَحَدَهُمَا فِي الْوُضُوءِ، وَغَيْرُهُ.
عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ
ابْنُ هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ الْقُرَشِيُّ، أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، الْفِهْرِيُّ، أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَحَدُ

الْخَمْسَةِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَهُمْ ; عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ. أَسْلَمُوا عَلَى يَدَيِ الصِّدِّيقِ. وَلَمَّا هَاجَرُوا آخَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَقِيلَ: بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ. وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ". وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَيْضًا أَنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ يَوْمَ السَّقِيفَةِ: وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَبَايِعُوهُ. يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَأَبَا عُبَيْدَةَ. وَبَعَثَهُ الصِّدِّيقُ أَمِيرًا عَلَى رُبُعِ الْجَيْشِ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ لَمَّا انْتَدَبَ خَالِدًا مِنَ الْعِرَاقِ كَانَ أَمِيرًا عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِ، لِعِلْمِهِ بِالْحُرُوبِ. فَلَمَّا انْتَهَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى عُمَرَ عَزَلَ خَالِدًا وَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَشِيرَ خَالِدًا، فَجَمَعَ لِلْأُمَّةِ بَيْنَ أَمَانَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَشَجَاعَةِ خَالِدٍ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ بِالشَّامِ.
قَالُوا: وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ طِوَالًا نَحِيفًا، أَجْنَأَ مَعْرُوقَ الْوَجْهِ، خَفِيفَ اللِّحْيَةِ، أَهْتَمَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَزَعَ الْحَلْقَتَيْنِ مِنْ وَجْنَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ أُحُدٍ خَافَ أَنْ يُؤْلِمَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،، فَتَحَامَلَ عَلَى ثَنَيَّتَيْهِ فَسَقَطَتَا، فَمَا رُئِيَ أَحْسَنُ هَتْمًا مِنْهُ.

تُوُفِّيَ بِالطَّاعُونِ عَامَ عَمَوَاسَ، كَمَا تَقَدَّمَ سِيَاقُهُ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ - وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَمَوَاسَ كَانَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ - بِقَرْيَةِ فِحْلَ. وَقِيلَ: بِالْجَابِيَةِ.
وَقَدِ اشْتُهِرَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ قَبْرٌ بِالْقُرْبِ مِنْ عَقَبَةِ عُمَيَّاءَ بِالْغُورِ يُنْسَبُ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعُمُرُهُ يَوْمَ مَاتَ ثَمَانٍ وَخَمْسُونَ سَنَةً.
الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كَانَ حَسَنًا وَسِيمًا جَمِيلًا، أَرْدَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَاءَهُ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَهُوَ شَابٌّ حَسَنٌ. وَقَدْ شَهِدَ فَتْحَ الشَّامِ وَاسْتُشْهِدَ بِطَاعُونِ عَمَوَاسَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، وَأَبِي حَاتِمٍ، وَابْنِ الْبَرْقِيِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: يَوْمَ مَرْجِ الصُّفَّرِ. وَقِيلَ: بِأَجْنَادِينَ. وَيُقَالُ: بِالْيَرْمُوكِ. وَيُقَالُ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ

مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ
ابْنِ عَمْرِو بْنِ أَوْسِ بْنِ عَائِذِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُدَيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدَنِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ طِوَالًا حَسَنَ الشَّعْرِ وَالثَّغْرِ بَرَّاقَ الثَّنَايَا، لَمْ يُولَدْ لَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. شَهِدَ مَعَهُ الْيَرْمُوكَ. وَقَدْ شَهِدَ مُعَاذٌ الْعَقَبَةَ. وَلَمَّا هَاجَرَ النَّاسُ آخَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَحَكَى الْوَاقِدِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا. وَكَانَ أَحَدَ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْخَزْرَجِ، الَّذِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَبُو زَيْدٍ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ حَيْوَةَ بْنِ

شُرَيْحٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ مُعَاذٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ: يَا مُعَاذُ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَلَا تَدَعَنَّ أَنْ تَقُولَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ وَفِي الْمُسْنَدِ وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ".
وَقَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْيَمَنِ، وَقَالَ لَهُ: " بِمَ تَحْكُمُ ؟ ". فَقَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. الْحَدِيثَ. وَكَذَلِكَ أَقَرَّهُ الصِّدِّيقُ عَلَى ذَلِكَ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ بِالْيَمَنِ. ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الشَّامِ فَكَانَ بِهَا حَتَّى مَاتَ بَعْدَ مَا اسْتَخْلَفَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ حِينَ طُعِنَ، ثُمَّ طُعِنَ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّ مُعَاذًا يُبْعَثُ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ بِرَبْوَةٍ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، مُرْسَلًا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا نُشَبِّهُهُ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ مُعَاذًا كَانَ

أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ شَرْقِيَّ غَوْرِ بَيْسَانَ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: سَبْعَ عَشْرَةَ، عَنْ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، أَبُو خَالِدٍ، صَخْرُ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، أَخُو مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ يَزِيدُ أَكْبَرَ وَأَفْضَلَ. وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ الْخَيْرِ. أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَحَضَرَ حُنَيْنًا، وَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ وَأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً، وَاسْتَعْمَلَهُ الصِّدِّيقُ عَلَى رُبُعِ الْجَيْشِ إِلَى الشَّامِ وَهُوَ أَوَّلُ أَمِيرٍ وَصَلَ إِلَيْهَا، وَمَشَى الصِّدِّيقُ فِي رِكَابِهِ يُوصِيهِ، وَبَعَثَ مَعَهُ أَبَا عُبَيْدَةَ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ حَسَنَةَ؛ فَهَؤُلَاءِ أُمَرَاءُ الْأَرْبَاعِ. وَلَمَّا افْتَتَحُوا دِمَشْقَ دَخَلَ هُوَ مِنْ بَابِ الْجَابِيَةِ الصَّغِيرِ عَنْوَةً كَخَالِدٍ فِي دُخُولِهِ مِنَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ عَنْوَةً، وَكَانَ الصِّدِّيقُ قَدْ وَعَدَهُ بِإِمْرَتِهَا، فَوَلِيَهَا عَنْ أَمْرِ عُمَرَ وَأَنْفَذَ لَهُ مَا وَعَدَهُ الصِّدِّيقُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ وَلِيَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
الْمَشْهُورُ أَنَّهُ مَاتَ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَزَعَمَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ بَعْدَمَا فَتَحَ قَيْسَارِيَّةَ. وَلَمَّا مَاتَ كَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ أَخَاهُ مُعَاوِيَةَ

عَلَى دِمَشْقَ فَأَمْضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَهُ ذَلِكَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَلَيْسَ فِي الْكُتُبِ شَيْءٌ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَلَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ، مَثَلُ الْجَائِعِ الَّذِي لَا يَأْكُلُ إِلَّا التَّمْرَةَ وَالتَّمْرَتَيْنِ، لَا يُغْنِيَانِ عَنْهُ شَيْئًا
أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَقِيلَ: اسْمُهُ الْعَاصُ. أَسْلَمُ قَدِيمًا، وَقَدْ جَاءَ يَوْمَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ مُسْلِمًا يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ اسْتُضْعِفَ فَرَدَّهُ أَبَوْهُ، وَأَبَى أَنْ يُصَالِحَ حَتَّى يُرَدَّ، ثُمَّ لَحِقَ أَبُو جَنْدَلٍ بِأَبِي بَصِيرٍ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَشَهِدَ فَتْحَ الشَّامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَأَوَّلَ آيَةَ الْخَمْرِ ثُمَّ رَجَعَ. وَمَاتَ بِطَاعُونِ عَمَوَاسَ. رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ.
أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، هُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ تَقَدَّمَ.

أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، قِيلَ: اسْمُهُ كَعْبُ بْنُ عَاصِمٍ. قَدِمَ مُهَاجِرًا سَنَةَ خَيْبَرَ مَعَ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ، وَشَهِدَ مَا بَعْدَهَا. وَاسْتُشْهِدَ بِالطَّاعُونِ عَامَ عَمَوَاسَ هُوَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ فَتْحُ الْمَدَائِنِ وَجَلُولَاءَ فِيهَا. وَالْمَشْهُورُ خِلَافُ مَا قَالَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ فَتْحُ الْجَزِيرَةِ وَالرُّهَا وَحَرَّانَ وَرَأْسِ الْعَيْنِ وَنَصِيبِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ، وَخَلِيفَةُ، وَابْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَ فَتْحُ قَيْسَارِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَأَمِيرُهَا مُعَاوِيَةُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ افْتَتَحَهَا قَبْلَ هَذَا بِسِنِينَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ فَتْحُ قَيْسَارِيَّةَ مِنْ فِلَسْطِينَ، وَهَرَبُ هِرَقْلَ وَفَتْحُ مِصْرَ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ. وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ: كَانَ فَتْحُ قَيْسَارِيَّةَ وَفَتْحُ مِصْرَ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فَأَمَّا فَتْحُ قَيْسَارِيَّةَ فَقَدْ تَقَدَّمَ، وَأَمَّا فَتْحُ مِصْرَ فَإِنِّي سَأَذْكُرُهُ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَتْ نَارٌ مِنْ حَرَّةِ لَيْلَى، فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ

يَخْرُجُ بِالرِّجَالِ إِلَيْهَا، ثُمَّ أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّدَقَةِ فَطَفِئَتْ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَيُقَالُ: كَانَ فِيهَا وَقْعَةُ أَرْمِينِيَّةَ، وَأَمِيرُهَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَقَدْ أُصِيبَ فِيهَا صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ بْنِ رَحْضَةَ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ، وَكَانَ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ يَوْمَئِذٍ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُنَافِقُونَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ فَبَرَّأَ اللَّهُ سَاحَتَهُ، وَجَنَابَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ زَوْجَةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّا قَالُوا. وَقَدْ كَانَ إِلَى حِينِ قَالُوا لَمْ يَتَزَوَّجْ. وَلِهَذَا قَالَ: وَاللَّهُ مَا كَشَفْتُ كَنَفَ أُنْثَى قَطُّ. ثُمَّ تَزَوَّجَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ كَثِيرَ النَّوْمِ، رُبَّمَا غَلَبَ عَلَيْهِ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي وَقْتِهَا، كَمَا جَاءَ فِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ "، وَغَيْرِهِ. وَكَانَ شَاعِرًا ثُمَّ حَصَلَتْ لَهُ شَهَادَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: بِهَذَا الْبَلَدِ. وَقِيلَ:

بِالْجَزِيرَةِ. وَقِيلَ: بِسُمَيْسَاطَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا فِيمَا سَلَفَ.
وَفِيهَا فُتِحَتْ تَكْرِيتُ فِي قَوْلٍ، وَالصَّحِيحُ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا فِيمَا ذَكَرْنَا أَسَرَتِ الرُّومُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ.
وَفِيهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ قُتِلَ فِيهَا أَمِيرُ الْمَجُوسِ شَهْرَكُ، وَكَانَ أَمِيرَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ، وَنُوَّابُهُ عَلَى الْبِلَادِ وَقُضَاتُهُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ قَبْلَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، سَيِّدُ الْقُرَّاءِ، وَهُوَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، أَبُو الْمُنْذِرِ وَأَبُو الطُّفَيْلِ، الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ، سَيِّدُ الْقُرَّاءِ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَمَا بَعْدَهُمَا، وَكَانَ سَيِّدًا جَلِيلَ الْقَدْرِ. وَهُوَ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْأَرْبَعَةِ الْخَزْرَجِيِّينَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْقُرْآنَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،، وَقَدْ قَالَ لِعُمَرَ يَوْمًا: إِنِّي تَلَقَّيْتُ الْقُرْآنَ مِمَّنْ تَلَقَّاهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَهُوَ رَطْبٌ. وَفِي

" الْمُسْنَدِ "، وَ " النَّسَائِيِّ "، وَ " ابْنِ مَاجَهْ "، مِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:أَقْرَأُ أُمَّتِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ: " إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ". قَالَ: وَسَمَّانِي لَكَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ " فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ سُورَةِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [ الْبَيِّنَةِ: 1 ]. قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ تُوُفِّيَ أُبَيٌّ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ عِشْرِينَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ. وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ الْفَلَّاسُ، وَخَلِيفَةُ: تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِيهَا مَاتَ خَبَّابٌ مَوْلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ صَحَابِيٌّ مِنَ السَّابِقِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ.
وَمَاتَ فِيهَا صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ فِي قَوْلٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

سَنَةُ عِشْرِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَفِيهَا كَانَ فَتْحُ مِصْرَ. وَكَذَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّهَا فُتِحَتْ هِيَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: فُتِحَتْ مِصْرُ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَإِسْكَنْدَرِيَّةُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ. وَقَالَ سَيْفٌ: فُتِحَتْ مِصْرُ وَإِسْكَنْدَرِيَّةُ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا. وَرَجَّحَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْكَامِلِ "؛ لِقِصَّةِ بَعْثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمِيرَةَ مِنْ مِصْرَ عَامَ الرَّمَادَةِ، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِيمَا رَجَّحَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا كَانَ فَتْحُ تُسْتَرَ فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ السِّيَرِ بَعْدَ مُحَاصَرَةِ سَنَتَيْنِ. وَقِيلَ سَنَةٍ وَنِصْفٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

صِفَةُ فَتْحِ مِصْرَ مَجْمُوعًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَسَيْفٍ وَغَيْرِهِمَا
قَالُوا: لَمَّا اسْتَكْمَلَ عُمَرُ وَالْمُسْلِمُونَ فَتْحَ الشَّامَ بَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى

مِصْرَ - وَزَعَمَ سَيْفٌ أَنَّهُ بَعَثَهُ بَعْدَ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ - وَأَرْدَفَهُ بِالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَفِي صُحْبَتِهِ بُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَخَارِجَةُ بْنُ حُذَافَةَ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ، فَاجْتَمَعَا عَلَى بَابِ مِصْرَ، فَلَقِيَهُمْ أَبُو مَرْيَمَ جَاثَلِيقُ مِصْرَ، وَمَعَهُ الْأُسْقُفُ أَبُو مَرْيَامَ فِي أَهْلِ الثَّبَاتِ، بَعَثَهُ الْمُقَوْقِسُ صَاحِبُ إِسْكَنْدَرِيَّةَ لِمَنْعِ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا تَصَافُّوا قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لَا تَعْجَلُوا حَتَّى نُعْذِرَ إِلَيْكُمْ، لِيَبْرُزْ إِلَيَّ أَبُو مَرْيَمَ وَأَبُو مَرْيَامَ رَاهِبَا هَذِهِ الْبِلَادِ. فَبَرَزَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنْتُمَا رَاهِبَا هَذِهِ الْبِلَادِ فَاسْمَعَا: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْحَقِّ، وَأَمَرَهُ بِهِ، وَأَمَرَنَا بِهِ مُحَمَّدٌ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَدَّى إِلَيْنَا كُلَّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، ثُمَّ مَضَى وَتَرَكَنَا عَلَى الْوَاضِحَةِ، وَكَانَ مِمَّا أَمَرَنَا بِهِ الْإِعْذَارُ إِلَى النَّاسِ، فَنَحْنُ نَدْعُوكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَمَنْ أَجَابَنَا إِلَيْهِ فَمِثْلُنَا، وَمَنْ لَمْ يُجِبْنَا عَرَضْنَا عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ وَبَذَلْنَا لَهُ الْمَنَعَةَ، وَقَدْ أَعْلَمَنَا أَنَّا مُفْتَتِحُوكُمْ، وَأَوْصَانَا بِكُمْ؛ حِفْظًا لِرَحِمِنَا مِنْكُمْ، وَأَنَّ لَكُمْ إِنْ أَجَبْتُمُونَا بِذَلِكَ ذِمَّةً إِلَى ذِمَّةٍ، وَمِمَّا عَهِدَ إِلَيْنَا أَمِيرُنَا: اسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِيِّينَ خَيْرًا؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْصَانَا بِالْقِبْطِيِّينَ خَيْرًا؛ لِأَنَّ لَهُمْ رَحِمًا وَذِمَّةً. فَقَالُوا: قَرَابَةٌ بَعِيدَةٌ لَا يَصِلُ مِثْلَهَا إِلَّا الْأَنْبِيَاءُ، مَعْرُوفَةٌ شَرِيفَةٌ، كَانَتِ ابْنَةَ مَلِكِنَا، وَكَانَتْ مَنْ أَهْلِ مَنْفَ وَالْمُلْكُ

فِيهِمْ، فَأُدِيلَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ عَيْنِ شَمْسٍ فَقَتَلُوهُمْ وَسَلَبُوهُمْ مُلْكَهُمْ وَاغْتَرَبُوا، فَلِذَلِكَ صَارَتْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا، أَمِّنَّا حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكَ. فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّ مِثْلِي لَا يُخْدَعُ، وَلَكِنِّي أُؤَجِّلُكُمَا ثَلَاثًا لِتَنْظُرُوا وَلِتُنَاظِرَا قَوْمَكُمَا، وَإِلَّا نَاجَزْتُكُمْ. قَالَا: زِدْنَا. فَزَادَهُمْ يَوْمًا، فَقَالَا: زِدْنَا. فَزَادَهُمْ يَوْمًا، فَرَجَعَا إِلَى الْمُقَوْقِسِ فَأَبَى أَرْطَبُونُ أَنْ يُجِيبَهُمَا وَأَمَرَ بِمُنَاهَدَتِهِمْ، وَقَالَ لِأَهْلِ مِصْرَ: أَمَّا نَحْنُ فَسَنَجْتَهِدُ أَنْ نَدْفَعَ عَنْكُمْ وَلَا نَرْجِعَ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ بَقِيَتْ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ. وَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُبَيِّتُوا الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ: مَا تُقَاتِلُونَ مِنْ قَوْمٍ قَتَلُوا كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَغَلَبُوهُمْ عَلَى بِلَادِهِمْ ؟ ! فَأَلَحَّ الْأَرْطَبُونُ فِي أَنْ يُبَيِّتُوا الْمُسْلِمِينَ، فَفَعَلُوا فَلَمْ يَظْفَرُوا بِشَيْءٍ بَلْ قُتِلَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْأَرْطَبُونُ. وَحَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ عَيْنَ شَمْسٍ مِنْ مِصْرَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَارْتَقَى الزُّبَيْرُ عَلَيْهِمْ سُورَ الْبَلَدِ، فَلَمَّا أَحَسُّوا بِذَلِكَ خَرَجُوا إِلَى عَمْرٍو مِنَ الْبَابِ الْآخَرِ فَصَالَحُوهُ، وَاخْتَرَقَ الزُّبَيْرُ الْبَلَدَ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي عَلَيْهِ عَمْرٌو، فَأَمْضَوُا الصُّلْحَ.
وَكَتَبَ لَهُمْ عَمْرٌو كِتَابَ أَمَانٍ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَعْطَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَهْلَ مِصْرَ مِنَ الْأَمَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ

وَصُلُبِهِمْ، وَبَرِّهِمْ وَبَحْرِهِمْ، لَا يُدْخَلُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُنْتَقَصُ، وَلَا يُسَاكِنُهُمُ النُّوبَةُ وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ أَنْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى هَذَا الصُّلْحِ، وَانْتَهَتْ زِيَادَةُ نَهْرِهِمْ، خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَعَلَيْهِمْ مَا جَنَى لُصُوتُهُمْ، فَإِنْ أَبَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُجِيبَ، رُفِعَ عَنْهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ بِقَدْرِهِمْ، وَذِمَّتُنَا مِمَّنْ أَبَى بَرِيئَةٌ، وَإِنْ نَقَصَ نَهْرُهُمْ مِنْ غَايَتِهِ إِذَا انْتَهَى، رُفِعَ عَنْهُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَمَنْ دَخَلَ فِي صُلْحِهِمْ مِنَ الرُّومِ وَالنُّوبَةِ، فَلَهُ مِثْلُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أَبَى وَاخْتَارَ الذَّهَابَ، فَهُوَ آمِنٌ حَتَّى يَبْلُغَ مَأْمَنَهُ أَوْ يَخْرُجَ مِنْ سُلْطَانِنَا، عَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا، فِي كُلِّ ثُلُثِ جِبَايَةُ ثُلُثِ مَا عَلَيْهِمْ، عَلَى مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ عَهْدُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ وَذِمَّةُ الْخَلِيفَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذِمَمُ الْمُؤْمِنِينَ. وَعَلَى النُّوبَةِ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا أَنْ يُعِينُوا بِكَذَا وَكَذَا رَأْسًا، وَكَذَا وَكَذَا فَرَسًا، عَلَى أَنْ لَا يَغْزُوا، وَلَا يَمْنَعُوا مِنْ تِجَارَةٍ صَادِرَةٍ وَلَا وَارِدَةٍ. شَهِدَ الزُّبَيْرُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ ابْنَاهُ، وَكَتَبَ وَرْدَانُ وَحَضَرَ.
فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ مِصْرَ كُلُّهُمْ، وَقَبِلُوا الصُّلْحَ، وَاجْتَمَعَتِ الْخُيُولُ بِمِصْرَ، وَعَمَّرُوا الْفُسْطَاطَ، وَظَهَرَ أَبُو مَرْيَمَ وَأَبُو مَرْيَامَ فَكَلَّمَا عَمْرًا فِي السَّبَايَا الَّتِي أُصِيبَتْ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ، فَأَبَى عَمْرٌو أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِمَا، وَأَمَرَ بِطَرْدِهِمَا وَإِخْرَاجِهِمَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ أَنَّ كُلَّ

سَبْيٍ أُخِذَ فِي الْخَمْسَةِ أَيَّامٍ الَّتِي أَمَّنُوهُمْ فِيهَا أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ، وَكُلَّ سَبْيٍ أُخِذَ مِمَّنْ لَمْ يُقَاتِلْ وَكَذَلِكَ مَنْ قَاتَلَ، فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ سَبَايَاهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُخَيِّرُوا مَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ السَّبْيِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَمَنِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ فَلَا يَرُدُّوهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنِ اخْتَارَهُمْ رَدُّوهُ عَلَيْهِمْ وَأَخَذُوا مِنْهُ الْجِزْيَةَ، وَأَمَّا مَا تَفَرَّقَ مِنْ سَبْيِهِمْ فِي الْبِلَادِ وَوَصَلَ إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِمْ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى مَا يَتَعَذَّرُ الْوَفَاءُ بِهِ. فَفَعَلَ عَمْرٌو مَا أَمَرَ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَمَعَ السَّبَايَا وَعَرَضُوهُمْ وَخَيَّرُوهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَادَ إِلَى دِينِهِ، وَانْعَقَدَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ.
ثُمَّ أَرْسَلَ عَمْرٌو جَيْشًا إِلَى إِسْكَنْدَرِيَّةَ - وَكَانَ الْمُقَوْقِسُ صَاحِبُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ يُؤَدِّي خَرَاجَ بَلَدِهِ وَبَلَدِ مِصْرَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ - فَلَمَّا حَاصَرَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ جَمَعَ أَسَاقِفَتَهُ وَأَكَابِرَ دَوْلَتِهِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْعَرَبَ غَلَبُوا كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَأَزَالُوهُمْ عَنْ مُلْكِهِمْ، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ، وَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ نُؤَدِّيَ الْجِزْيَةَ

إِلَيْهِمْ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: إِنِّي كُنْتُ أُؤَدِّي الْخَرَاجَ إِلَى مَنْ هُوَ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْكُمْ؛ فَارِسَ وَالرُّومِ. ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَبَعَثَ عَمْرٌو بِالْفَتْحِ وَالْأَخْمَاسِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ سَيْفٌ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ لَمَّا الْتَقَى مَعَ الْمُقَوْقِسِ جَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَفِرُّ مِنَ الزَّحْفِ، فَجَعَلَ عَمْرٌو يُذَمِّرُهُمْ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الثَّبَاتِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ مِنْ حِجَارَةٍ وَلَا حَدِيدٍ. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: اسْكُتْ فَإِنَّمَا أَنْتَ كَلْبٌ. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: فَأَنْتَ إِذًا أَمِيرُ الْكِلَابِ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ عَمْرٌو وَنَادَى يَطْلُبُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ هُنَاكَ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: تَقَدَّمُوا فَبِكُمْ يَنْصُرُ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ. فَنَهَدُوا إِلَى الْقَوْمِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَظَفِرُوا أَتَمَّ الظَّفَرِ.
قَالَ سَيْفٌ: فَفُتِحَتْ مِصْرُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ، وَقَامَ فِيهَا مُلْكُ الْإِسْلَامِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: فُتِحَتْ مِصْرُ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ، وَفُتِحَتْ إِسْكَنْدَرِيَّةُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، بَعْدَ مُحَاصَرَةِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ عَنْوَةً. وَقِيلَ: صُلْحًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْمُقَوْقِسَ سَأَلَ مِنْ عَمْرٍو أَنْ يُهَادِنَهُ أَوَّلًا، فَلَمْ يَقْبَلْ عَمْرٌو، وَقَالَ لَهُ: قَدْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْنَا بِمَلِكِكُمُ الْأَكْبَرِ هِرَقْلَ. فَقَالَ الْمُقَوْقِسُ لِأَصْحَابِهِ:

صَدَقَ، فَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْإِذْعَانِ. ثُمَّ صَالَحَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ عَمْرًا وَالزُّبَيْرَ سَارَا إِلَى عَيْنِ شَمْسٍ فَحَاصَرَاهَا، وَأَنَّ عَمْرًا بَعَثَ إِلَى الْفَرَمَا أَبَرْهَةَ بْنَ الصَّبَّاحِ، وَبَعَثَ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِأَهْلِ بَلَدِهِ: إِنْ نَزَلْتُمْ فَلَكُمُ الْأَمَانُ. فَتَرَبَّصُوا مَاذَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ عَيْنِ شَمْسٍ، فَلَمَّا صَالَحُوا، صَالَحَ الْبَاقُونَ. وَقَدْ قَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ لِأَهْلِ إِسْكَنْدَرِيَّةَ: مَا أَحْسَنَ بَلَدَكُمْ ! فَقَالُوا: إِنَّ إِسْكَنْدَرَ لَمَّا بَنَاهَا قَالَ: لَأَبْنِيَنَّ مَدِينَةً فَقِيرَةً إِلَى اللَّهِ غَنِيَّةً عَنِ النَّاسِ. فَبَقِيَتْ بَهْجَتُهَا. وَقَالَ أَبَرْهَةُ لِأَهْلِ الْفَرَمَا: مَا أَقْبَحَ مَدِينَتَكُمْ ! فَقَالُوا: إِنَّ الْفَرَمَا - وَهُوَ أَخُو الْإِسْكَنْدَرِ - لَمَّا بَنَاهَا قَالَ: لَأَبْنِيَنَّ مَدِينَةً غَنِيَّةً عَنِ اللَّهِ فَقِيرَةً إِلَى النَّاسِ. فَهِيَ لَا يَزَالُ سَاقِطًا بِنَاؤُهَا، فَشُوِّهَتْ بِذَلِكَ.
وَذَكَرَ سَيْفٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ لَمَّا وَلِيَ مِصْرَ بَعْدَ ذَلِكَ زَادَ فِي الْخَرَاجِ عَلَيْهِمْ رُءُوسًا مِنَ الرَّقِيقِ يُهْدُونَهَا إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَيُعَوِّضُهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِطَعَامٍ مُسَمًّى وَكُسْوَةٍ. وَأَقَرَّ ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَوُلَاةُ الْأُمُورِ بَعْدَهُ، حَتَّى كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَأَمْضَاهُ أَيْضًا؛ نَظَرًا لَهُمْ، وَإِبْقَاءً لِعَهْدِهِمْ.
قُلْتُ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ دِيَارُ مِصْرَ بِالْفُسْطَاطِ نِسْبَةً إِلَى فُسْطَاطِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نَصَبَ خَيْمَتَهُ - وَهِيَ الْفُسْطَاطُ - مَوْضِعَ مِصْرَ الْيَوْمَ، وَبَنَى

النَّاسُ حَوْلَهُ، وَتُرِكَتْ مِصْرُ الْقَدِيمَةُ مِنْ زَمَانِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَإِلَى الْيَوْمِ، ثُمَّ رَفَعَ الْفُسْطَاطَ وَبَنَى مَوْضِعَهُ جَامِعًا وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ الْيَوْمَ.
وَقَدْ غَزَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ فَتْحِ مِصْرَ النُّوبَةَ؛ فَنَالَهُمْ جِرَاحَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَأُصِيبَتْ أَعْيُنٌ كَثِيرَةٌ؛ لِجَوْدَةِ رَمْيِ النُّوبَةِ، فَسَمَّوْهُمْ جُنْدَ الْحِدَقِ. ثُمَّ فَتَحَهَا اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي بِلَادِ مِصْرَ، فَقِيلَ: فُتِحَتْ صُلْحًا إِلَّا الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ. وَهُوَ قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ. وَقِيلَ: كُلُّهَا عَنْوَةٌ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: مَا قَعَدْتُ مَقْعَدِي هَذَا وَلِأَحَدٍ مِنَ الْقِبْطِ عِنْدِي عَهْدٌ؛ إِنْ شِئْتُ قَتَلْتُ، وَإِنْ شِئْتُ بِعْتُ، وَإِنْ شِئْتُ خَمَّسْتُ، إِلَّا لِأَهْلِ أَنْطَابُلُسَ، فَإِنَّ لَهُمْ عَهْدًا نَفِي بِهِ.

قِصَّةُ نِيلِ مِصْرَ
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ قَالَ: لَمَّا افْتُتِحَتْ مِصْرُ أَتَى أَهْلُهَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ - حِينَ دَخَلَ بُؤْنَةُ مِنْ أَشْهُرِ

الْعَجَمِ - فَقَالُوا: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، لِنِيلِنَا هَذَا سُنَّةٌ لَا يَجْرِي إِلَّا بِهَا. قَالَ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالُوا: إِذَا كَانَتِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ، عَمَدْنَا إِلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ مِنْ أَبَوَيْهَا، فَأَرْضَيْنَا أَبَوَيْهَا، وَجَعَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ أَفْضَلَ مَا يَكُونُ، ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي هَذَا النِّيلِ. فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: إِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ، إِنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ. قَالَ: فَأَقَامُوا بُؤْنَةَ وَأَبِيبَ وَمِسْرَى وَالنِّيلُ لَا يَجْرِي قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، حَتَّى هَمُّوا بِالْجَلَاءِ، فَكَتَبَ عَمْرٌو إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّكَ قَدْ أَصَبْتَ بِالَّذِي فَعَلْتَ، وَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِبِطَاقَةٍ دَاخِلَ كِتَابِي، فَأَلْقِهَا فِي النِّيلِ. فَلَمَّا قَدِمَ كِتَابُهُ أَخَذَ عَمْرٌو الْبِطَاقَةَ فَإِذَا فِيهَا: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نِيلِ أَهْلِ مِصْرَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تَجْرِي مِنْ قِبَلِكَ فَلَا تَجْرِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ هُوَ الَّذِي يُجْرِيكَ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُجْرِيَكَ. قَالَ: فَأَلْقَى الْبِطَاقَةَ فِي النِّيلِ فَأَصْبَحُوا يَوْمَ السَّبْتِ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ النِّيلَ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَطَعَ اللَّهُ

تِلْكَ السُّنَّةَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى الْيَوْمِ.
قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ: وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - وَهِيَ عِنْدَهُ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ - جَعَلَ عُمَرُ الْمَسَالِحَ عَلَى أَرْجَاءِ مِصْرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هِرَقْلَ أَغَزَا الشَّامَ وَمِصْرَ فِي الْبَحْرِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا أَرْضَ الرُّومِ أَبُو بَحْرِيَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ - وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَهَا فِيمَا قِيلَ - فَسَلِمَ وَغَنِمَ، وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ دَخَلَهَا مَيْسَرَةُ بْنُ مَسْرُوقٍ الْعَبْسِيُّ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا عَزَلَ عُمَرُ قَدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ عَنِ الْبَحْرَيْنِ وَحَدَّهُ فِي الشَّرَابِ، وَوَلَّى عَلَى الْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَامَةِ أَبَا هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيَّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ: وَفِيهَا شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى قَالُوا: لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي. فَعَزَلَهُ عَنْهَا وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ، وَكَانَ نَائِبَ سَعْدٍ. وَقِيلَ: بَلْ وَلَّاهَا عَمْرَو بْنَ يَاسِرٍ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، سَمِعَهُ مِنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي. قَالَ: الْأَعَارِيبُ ! وَاللَّهِ مَا آلُو بِهِمْ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، أَرْكُدُ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ. فَسَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَذَلِكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ.
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، فَأَثْنَوْا خَيْرًا إِلَّا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: أَبُو سَعْدَةَ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ. قَامَ فَقَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّ سَعْدًا لَا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ، وَلَا يَخْرُجُ فِي السَّرِيَّةِ. فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ، فَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَأَدِمْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ. فَأَصَابَتْهُ دَعْوَةُ سَعْدٍ، فَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا يَرْفَعُ حَاجِبَيْهِ عَنْ عَيْنَيْهِ، وَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ فَيَغْمِزُهُنَّ، فَيُقَالُ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ فَيَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْهُ دَعْوَةُ سَعْدٍ.

وَقَدْ قَالَ عُمَرُ فِي وَصِيَّتِهِ - وَذَكَرَهُ فِي السِّتَّةِ -: فَإِنْ أَصَابَتِ الْإِمْرَةُ سَعْدًا فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ وَلِيَ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ.
قَالَ: وَفِيهَا أَجْلَى عُمَرُ يَهُودَ خَيْبَرَ عَنْهَا إِلَى أَذْرِعَاتٍ وَغَيْرِهَا، وَفِيهَا أَجْلَى عُمَرُ يَهُودَ نَجْرَانَ مِنْهَا أَيْضًا إِلَى الْكُوفَةِ، وَقَسَّمَ خَيْبَرَ، وَوَادِي الْقُرَى، وَنَجْرَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: وَفِيهَا دَوَّنَ عُمَرُ الدَّوَاوِينَ. وَزَعَمَ غَيْرُهُ أَنَّهُ دَوَّنَهَا قَبْلَ ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَفِيهَا بَعَثَ عُمَرُ عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيَّ إِلَى الْحَبَشَةِ فِي الْبَحْرِ فَأُصِيبُوا، فَآلَى عُمَرُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَبْعَثَ جَيْشًا فِي الْبَحْرِ بَعْدَهَا. وَقَدْ خَالَفَ الْوَاقِدِيَّ فِي هَذَا أَبُو مَعْشَرٍ، فَزَعَمَ أَنَّ غَزْوَةَ الْحَبَشَةِ إِنَّمَا كَانَتْ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ. يَعْنِي فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا تَزَوَّجَ عُمَرُ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ - الَّتِي مَاتَ عَنْهَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فِي الطَّاعُونِ - وَهِيَ أُخْتُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
قَالَ: وَفِيهَا مَاتَ بِلَالٌ بِدِمَشْقَ، وَأُسِيدُ بْنُ الْحُضَيْرِ فِي شَعْبَانَ،

وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
قَالَ: وَفِيهَا مَاتَ هِرَقْلُ، وَقَامَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ قُسْطَنْطِينُ.
قَالَ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ. وَنُوَّابُهُ وَقُضَاتُهُ، وَمَنْ تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى مِنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَزَلَهُ وَوَلَّى غَيْرَهُ.

ذِكْرُ الْمُتَوَفَّيْنَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ بْنِ سِمَاكٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَشْهَلِيُّ، مِنَ الْأَوْسِ، أَبُو يَحْيَى، أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَكَانَ أَبُوهُ رَئِيسَ الْأَوْسِ يَوْمَ بُعَاثٍ، وَكَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسِتِّ سِنِينَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: حُضَيْرُ الْكَتَائِبِ. يُقَالُ: إِنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَلَمَّا هَاجَرَ النَّاسُ آخَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا.
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ، نِعْمَ الرَّجُلُ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ وَذَكَرَ جَمَاعَةً.

وَقَدِمَ الشَّامَ مَعَ عُمَرَ. وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ، وَعَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَعَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَذَكَرَ ابْنُ بُكَيْرٍ أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَأَنَّ عُمَرَ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْهِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدَفَنَهُ بِالْبَقِيعِ. وَكَذَا أَرَّخَ وَفَاتَهُ سَنَةَ عِشْرِينَ الْوَاقِدِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَجَمَاعَةٌ.
أُنَيْسُ بْنُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ، هُوَ وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ صَحَابَةٌ، وَكَانَ أُنَيْسٌ هَذَا عَيْنًا لِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ الَّذِي قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ: فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ. فَقِيلَ: أَنَّهُ أُنَيْسُ بْنُ الضَّحَّاكِ الْأَسْلَمِيُّ. وَقَدْ مَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ إِلَى تَرْجِيحِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. لَهُ حَدِيثٌ فِي الْفِتْنَةِ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ: تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ عِشْرِينَ.
بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ الْحَبَشِيُّ الْمُؤَذِّنُ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَيُقَالُ لَهُ: بِلَالُ ابْنُ

حَمَامَةَ. وَهِيَ أُمُّهُ. أَسْلَمَ قَدِيمًا فَعُذِّبَ فِي اللَّهِ فَصَبَرَ، فَاشْتَرَاهُ الصِّدِّيقُ فَأَعْتَقَهُ. شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا. وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَلَمَّا شُرِعَ الْأَذَانُ بِالْمَدِينَةِ كَانَ هُوَ الَّذِي يُؤَذِّنُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، يَتَنَاوَبَانِ، تَارَةً هَذَا وَتَارَةً هَذَا. وَكَانَ بِلَالٌ نَدِيَّ الصَّوْتِ، حَسَنَهُ، فَصِيحًا، وَمَا يُرْوَى: " إِنَّ سِينَ بِلَالٍ عِنْدَ اللَّهِ شِينٌ ". فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ. وَقَدْ أَذَّنَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَرَكَ الْأَذَانَ، وَيُقَالُ: أَذَّنَ لِلصِّدِّيقِ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ. وَلَا يَصِحُّ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ مُجَاهِدًا، وَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ إِلَى الْجَابِيَةِ أَذَّنَ بَيْنَ يَدَيْهِ بَعْدَ الْخُطْبَةِ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَانْتَحَبَ النَّاسُ بِالْبُكَاءِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ زَارَ الْمَدِينَةَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ فَأَذَّنَ، فَبَكَى النَّاسُ بُكَاءً شَدِيدًا. وَيَحِقُّ لَهُمْ ذَلِكَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِبِلَالٍ: إِنِّي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشْفَ نَعْلَيْكَ أَمَامِي، فَأَخْبِرْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ، فَقَالَ: مَا تَوَضَّأْتُ إِلَّا وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ " بِذَاكَ ". وَفِي رِوَايَةٍ:مَا أَحْدَثْتُ إِلَّا تَوَضَّأْتُ وَمَا تَوَضَّأْتُ، إِلَّا رَأَيْتُ أَنَّ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ.

قَالُوا: وَكَانَ بِلَالٌ آدَمَ شَدِيدَ الْأُدْمَةِ، طَوِيلًا، نَحِيفًا، أَجْنَأَ، كَثِيرَ الشَّعْرِ، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ.
قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ: تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ فِي طَاعُونِ عَمَوَاسَ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ عِشْرِينَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَلَهُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَاتَ بِدَارَيَّا، وَدُفِنَ بِبَابِ كَيْسَانَ. وَقِيلَ: دُفِنَ بِدَارَيَّا. وَقِيلَ إِنَّهُ مَاتَ بِحَلَبَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سَعِيدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حِذْيَمٍ، مِنْ أَشْرَافِ بَنِي جُمَحَ، شَهِدَ خَيْبَرَ، وَكَانَ مِنَ الزُّهَّادِ الْعُبَّادِ، وَكَانَ أَمِيرًا لِعُمَرَ عَلَى حِمْصَ بَعْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ. بَلَغَ عُمَرَ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَتْهُ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَتَصَدَّقَ بِهَا جَمِيعًا، وَقَالَ

لِزَوْجَتِهِ: أَعْطَيْنَاهَا لِمَنْ يَتَّجِرُ لَنَا فِيهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ خَلِيفَةُ: فَتَحَ هُوَ وَمُعَاوِيَةُ قَيْسَارِيَّةَ، كُلٌّ مِنْهُمَا أَمِيرٌ عَلَى مَنْ مَعَهُ.
عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ أَبُو سَعْدٍ الْفِهْرِيُّ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَكَانَ سَمْحًا جَوَادًا، شُجَاعًا، وَهُوَ الَّذِي افْتَتَحَ الْجَزِيرَةَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَازَ دَرْبَ الرُّومَ غَازِيًا، وَاسْتَنَابَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بَعْدَهُ عَلَى الشَّامِ فَأَقَرَّهُ عُمَرُ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ عَنْ سِتِّينَ سَنَةً.
أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قِيلَ: اسْمُهُ الْمُغِيرَةُ. أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ جِدًّا، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى دِينِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَكَانَ شَاعِرًا مُطْبَقًا، يَهْجُو الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَهُوَ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي مُغَلْغَلَةً فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ هَجَوْتَ مُحَمَّدًا وَأَجَبْتُ عَنْهُ
وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ
فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
وَلَمَّا جَاءَ هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ لِيُسْلِمَا، لَمْ يَأْذَنْ لَهُمَا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى شَفَعَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لِأَخِيهَا فَأَذِنَ لَهُ، وَبَلَغَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ هَذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَأْذَنْ لِي لَآخُذَنَّ بِيَدِ بُنَيَّ هَذَا - لِوَلَدٍ مَعَهُ صَغِيرٍ - فَلَأَذْهَبَنَّ، فَلَا يُدْرَى أَيْنَ

أَذْهَبُ. فَرَقَّ حِينَئِذٍ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَذِنَ لَهُ، وَلَزِمَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَكَانَ آخِذًا بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ يَوْمَئِذٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحَبَّهُ، وَشَهِدَ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونَ خَلَفًا مِنْ حَمْزَةَ. وَقَدْ رَثَى رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ تُوُفِّيَ بِقَصِيدَةٍ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا سَلَفَ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
أَرِقْتُ فَبَاتَ لَيْلِي لَا يَزُولُ وَلَيْلُ أَخِي الْمُصِيبَةِ فِيهِ طُولُ
وَأَسْعَدَنِي الْبُكَاءُ وَذَاكَ فِيمَا أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ قَلِيلُ
فَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُنَا وَجَلَّتْ عَشِيَّةَ قِيلَ قَدْ قُبِضَ الرَّسُولُ
فَقَدْنَا الْوَحْيَ وَالتَّنْزِيلَ فِينَا يَرُوحُ بِهِ وَيَغْدُو جِبْرَئِيلُ
ذَكَرُوا أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ حَجَّ، فَلَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ قَطَعَ الْحَالِقُ ثُؤْلُولًا فِي رَأْسِهِ، فَتَمَرَّضَ مِنْهُ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ بَعْدَ مَرْجِعِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَخَاهُ نَوْفَلًا تُوُفِّيَ قَبْلَهُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، هُوَ مَالِكُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَمِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زَعُورَاءَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ

مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ نَقِيبًا، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَمَاتَ سَنَةَ عِشْرِينَ. وَقِيلَ: إِحْدَى وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَهُوَ الْأَكْثَرُ. وَقَدْ ذَكَرَهُ شَيْخُنَا هُنَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشِ بْنِ رِيَابٍ الْأَسَدِيَّةُ
مِنْ أَسَدِ خُزَيْمَةَ. أَوَّلُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَفَاةً، أُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ، فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زَيْنَبَ، وَتُكَنَّى أُمَّ الْحَكَمِ، وَهِيَ الَّتِي زَوَّجَهُ اللَّهُ بِهَا، وَكَانَتْ تَفْتَخِرُ بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهْلُوكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا الْآيَةَ [ الْأَحْزَابِ: 37 ]. وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ مَوْلَاهُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فَلَمَّا طَلَّقَهَا تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعٍ. وَهُوَ الْأَشْهَرُ. وَقِيلَ: سَنَةِ خَمْسٍ. وَفِي دُخُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَا نَزَلَ الْحِجَابُ كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ. وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِي عَائِشَةَ بِنْتَ الصِّدِّيقِ فِي الْجَمَالِ وَالْحُظْوَةِ، وَكَانَتْ دَيِّنَةً وَرِعَةً عَابِدَةً كَثِيرَةَ

الصَّدَقَةِ. وَذَاكَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَوْلِهِ:أَسْرَعُكُنَّ لَحَاقًا بِي أَطْوَلُكُنَّ يَدًا - أَيْ بِالصَّدَقَةِ - وَكَانَتِ امْرَأَةً صَنَاعًا تَعْمَلُ بِيَدَيْهَا وَتَتَصَدَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ، وَأَتْقَى لِلَّهِ، وَأَصْدَقَ حَدِيثًا، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ، وَأَعْظَمَ أَمَانَةً وَصَدَقَةً، مِنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ.
وَلَمْ تَحُجَّ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَا هِيَ وَلَا سَوْدَةُ ; لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَزْوَاجِهِ: هَذِهِ ثُمَّ ظُهُورُ الْحُصْرِ. وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنَّ يَخْرُجْنَ إِلَى الْحَجِّ، وَقَالَتْ زَيْنَبُ وَسَوْدَةُ: وَاللَّهِ لَا تُحَرِّكُنَا بَعْدَهُ دَابَّةٌ.
قَالُوا: وَبَعَثَ عُمَرُ إِلَيْهَا فَرْضَهَا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فَتَصَدَّقَتْ بِهِ فِي أَقَارِبِهَا، ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا يُدْرِكُنِي عَطَاءُ عُمَرَ بَعْدَ هَذَا. فَمَاتَتْ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهَا عُمَرُ، وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ صُنِعَ لَهَا النَّعْشُ، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ.
صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَمَّةُ الرَّسُولِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ أُمُّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَهِيَ شَقِيقَةُ حَمْزَةَ وَالْمُقَوَّمِ وَحَجْلَ، أُمُّهُمْ هَالَةُ بِنْتُ وُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ. لَا خِلَافَ فِي إِسْلَامِهَا، وَقَدْ حَضَرَتْ يَوْمَ أُحُدٍ وَوَجَدَتْ عَلَى أَخِيهَا

حَمْزَةَ وَجْدًا كَثِيرًا، وَقَتَلَتْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ جَاءَ فَجَعَلَ يُطِيفُ بِالْحِصْنِ الَّتِي هِيَ فِيهِ، وَهُوَ فَارِعٌ؛ حِصْنِ حَسَّانَ، فَقَالَتْ لِحَسَّانَ: انْزِلْ فَاقْتُلْهُ. فَأَبَى، فَنَزَلَتْ إِلَيْهِ فَقَتَلَتْهُ، ثُمَّ قَالَتْ: انْزِلْ فَاسْلُبْهُ فَلَوْلَا أَنَّهُ رَجُلٌ لَاسْتَلَبْتُهُ. فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ قَتَلَتْ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِسْلَامِ مَنْ عَدَاهَا مِنْ عَمَّاتِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقِيلَ: أَسْلَمَتْ أَرَوَى وَعَاتِكَةُ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ وَشَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ الْحَافِظُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُنَّ غَيْرُهَا.
وَقَدْ تَزَوَّجَتْ أَوَّلًا بِالْحَارِثِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا الْعَوَّامَ بْنَ خُوَيْلِدٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ الزُّبَيْرَ وَعَبْدَ الْكَعْبَةِ. وَقِيلَ: تَزَوَّجَهَا الْعَوَّامُ بِكْرًا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. تُوُفِّيَتْ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ عِشْرِينَ، عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَنْ تُوُفِّيَ غَيْرَ هَؤُلَاءِ:
عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ الْعَقَبَتَيْنِ وَالْمُشَاهِدَ كُلَّهَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. [ التَّوْبَةِ: 108 ] وَلَهُ رِوَايَاتٌ. تُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ بِالْمَدِينَةِ.

بِشْرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَنَشٍ، يُلَقَّبُ بِالْجَارُودِ، أَسْلَمَ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَكَانَ شَرِيفًا مُطَاعًا فِي عَبْدِ الْقَيْسِ، وَهُوَ الَّذِي شَهِدَ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَعَزَلَهُ عُمَرُ عَنِ الْيَمَنِ وَحَدَّهُ. قُتِلَ الْجَارُودُ شَهِيدًا.
أَبُو خِرَاشٍ خُوَيْلِدُ بْنُ مُرَّةَ الْهُذَلِيُّ، كَانَ شَاعِرًا مُجِيدًا مُخَضْرَمًا، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْإِسْلَامَ، وَكَانَ إِذَا جَرَى سَبَقَ الْخَيْلَ. نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ
فَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ نَهَاوَنْدَ وَفَتْحُهَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهِيَ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا لَهَا شَأْنٌ رَفِيعٌ وَنَبَأٌ عَجِيبٌ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَهَا فَتْحَ الْفُتُوحِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيُّ: كَانَتْ وَقْعَةُ نَهَاوَنْدَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ. وَقَالَ سَيْفٌ: كَانَتْ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنَّمَا سَاقَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ قِصَّتَهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَبِعْنَاهُ فِي ذَلِكَ، وَجَمَعْنَا كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ سِيَاقًا وَاحِدًا، حَتَّى دَخَلَ سِيَاقُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ. قَالَ سَيْفٌ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ الَّذِي هَاجَ هَذِهِ الْوَقْعَةَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا افْتَتَحُوا الْأَهْوَازَ، وَمَنَعُوا جَيْشَ الْعَلَاءِ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى دَارِ الْمَلِكِ الْقَدِيمِ مِنْ إِصْطَخْرَ مَعَ مَا حَازُوا مِنْ دَارِ مَمْلَكَتِهِمْ حَدِيثًا، وَهِيَ الْمَدَائِنُ وَأَخَذُوا تِلْكَ الْمَدَائِنَ وَالْأَقَالِيمَ وَالْكُوَرَ وَالْبُلْدَانَ الْكَثِيرَةَ، فَحَمُوا عِنْدَ ذَلِكَ، وَاسْتَجَاشَهُمْ يَزْدَجِرْدُ الَّذِي تَقَهْقَرَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، حَتَّى صَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ مُبْعَدًا طَرِيدًا، لَكِنَّهُ فِي أُسْرَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَكَتَبَ إِلَى نَاحِيَةِ نَهَاوَنْدَ وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْجِبَالِ وَالْبُلْدَانِ، فَتَجَمَّعُوا وَتَرَاسَلُوا حَتَّى كَمُلَ لَهُمْ مِنَ الْجُنُودِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لَهُمْ قَبْلَ

ذَلِكَ. فَبَعَثَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَثَارَ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَلَى سَعْدٍ فِي غُبُونِ هَذَا الْحَالِ. فَشَكَوْهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى قَالُوا: لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي. وَكَانَ الَّذِي نَهَضَ بِهَذِهِ الشَّكْوَى رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْجَرَّاحُ بْنُ سِنَانٍ الْأَسَدِيُّ. فِي نَفَرٍ مَعَهُ، فَلَمَّا ذَهَبُوا إِلَى عُمَرَ فَشَكَوْهُ إِلَيْهِ. قَالَ لَهُمْ عُمَرُ: مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى شَرِّكُمْ نُهُوضُكُمْ فِي هَذَا الْحَالِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُسْتَعِدٌّ لِقِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا لَكُمْ، وَمَعَ هَذَا لَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَنْظُرَ فِي أَمْرِكُمْ. ثُمَّ بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ - وَكَانَ رَسُولَ الْعُمَّالِ - فَلَمَّا قَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْكُوفَةَ طَافَ عَلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ وَالْمَسَاجِدِ بِالْكُوفَةِ، فَكُلٌّ يُثْنِي عَلَى سَعْدٍ خَيْرًا إِلَّا نَاحِيَةَ الْجَرَّاحِ بْنِ سِنَانَ، فَإِنَّهُمْ سَكَتُوا، فَلَمْ يَذُمُّوا وَلَمْ يَشْكُرُوا، حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو سَعْدَةَ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ. فَقَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا، فَإِنَّ سَعْدًا لَا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا يَعْدِلُ فِي الرَّعِيَّةِ، وَلَا يَغْزُو فِي السَّرِيَّةِ. فَدَعَا عَلَيْهِ سَعْدٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ قَالَهَا كَذِبًا وَرِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَعْمِ بَصَرَهُ، وَأَكْثِرْ عِيَالَهُ، وَعَرِّضْهُ لِمُضِلَّاتِ الْفِتَنِ. فَعَمِيَ وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ عَشْرُ بَنَاتٍ، وَكَانَ يَسْمَعُ بِالْمَرْأَةِ فَلَا يَزَالُ حَتَّى يَأْتِيَهَا فَيَجُسَّهَا، فَإِذَا عُثِرَ عَلَيْهِ قَالَ: دَعْوَةُ سَعْدٍ الرَّجُلِ الْمُبَارَكِ. ثُمَّ دَعَا سَعْدٌ عَلَى الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابِهِ، فَكُلٌّ أَصَابَتْهُ قَارِعَةٌ فِي جَسَدِهِ، وَمُصِيبَةٌ فِي مَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَاسْتَنْفَرَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَهْلَ الْكُوفَةِ لِغَزْوِ أَهْلِ نَهَاوَنْدَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. ثُمَّ سَارَ سَعْدٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَالْجَرَّاحُ وَأَصْحَابُهُ

حَتَّى جَاءُوا عُمَرَ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ: كَيْفَ يُصَلِّي ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَطُولُ فِي الْأُولَيَيْنِ وَيُخَفِّفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَمَا آلُو مَا اقْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ. وَقَالَ سَعْدٌ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ: لَقَدْ أَسْلَمْتُ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَلَقَدْ كُنَّا وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الْحُبْلَةِ حَتَّى تَقَرَّحَتْ أَشْدَاقُنَا، وَإِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَقَدْ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ أُحُدٍ أَبَوَيْهِ وَمَا جَمَعَهُمَا لِأَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ يَقُولُونَ: لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي. وَفِي رِوَايَةٍ: تُعَزِّرُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ، لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ لِسَعْدٍ: مَنِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى الْكُوفَةِ ؟ فَقَالَ: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ. فَأَقَرَّهُ عُمَرُ عَلَى نِيَابَتِهِ الْكُوفَةَ - وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا مِنْ أَشْرَافِ الصَّحَابَةِ، حَلِيفًا لِبَنِي الْحُبْلَى مِنَ الْأَنْصَارِ - وَاسْتَمَرَّ سَعْدٌ مَعْزُولًا مِنْ غَيْرِ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ، وَتَهَدَّدَ أُولَئِكَ النَّفَرَ، وَكَادَ يُوقِعُ بِهِمْ بَأْسًا، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ أَنْ لَا يَشْكُوَ أَحَدٌ أَمِيرًا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ اجْتَمَعُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ بِأَرْضِ نَهَاوَنْدَ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَعَلَيْهِمُ الْفَيْرُزَانُ، وَيُقَالُ: بُنْدَارٌ. وَيُقَالُ: ذُو الْحَاجِبِ. وَتَذَامَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا الَّذِي جَاءَ الْعَرَبَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِبِلَادِنَا، وَلَا أَبُو بَكْرٍ الَّذِي قَامَ بَعْدَهُ تَعَرَّضُ لَنَا فِي دَارِ مُلْكِنَا، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ هَذَا لَمَّا طَالَ مُلْكُهُ انْتَهَكَ حُرْمَتَنَا وَأَخَذَ بِلَادَنَا، وَلَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ حَتَّى أَغْزَانَا فِي عُقْرِ دَارِنَا، وَأَخَذَ بَيْتَ الْمَمْلَكَةِ، وَلَيْسَ بِمُنْتَهٍ حَتَّى يُخْرِجَكُمْ مِنْ

بِلَادِكُمْ. فَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى أَنْ يَقْصِدُوا الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ ثُمَّ يَشْغَلُوا عُمَرَ عَنْ بِلَادِهِ، وَتَوَاثَقُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَكَتَبُوا بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا. فَلَمَّا كَتَبَ سَعْدٌ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ - وَكَانَ عَزَلَ سَعْدًا فِي غُبُونِ ذَلِكَ - شَافَهَ سَعْدٌ عُمَرَ بِمَا تَمَالَئُوا عَلَيْهِ وَقَصَدُوا إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ مِنْهُمْ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفًا. وَجَاءَ كِتَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى عُمَرَ مَعَ قَرِيبِ بْنِ ظَفَرٍ الْعَبْدِيِّ، بِأَنَّهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا، وَهُمْ مُتَحَرِّقُونَ مُتَذَامِرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَأَنَّ الْمَصْلَحَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ نَقْصِدَهُمْ فَنُعَالِجَهُمْ عَمَّا هَمُّوا بِهِ وَعَزَمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَسِيرِ إِلَى بِلَادِنَا. فَقَالَ عُمَرُ لِحَامِلِ الْكِتَابِ: مَا اسْمُكَ ؟ قَالَ: قَرِيبٌ. قَالَ: ابْنُ مَنْ ؟ قَالَ: ابْنُ ظَفَرٍ. فَتَفَاءَلَ عُمَرُ بِذَلِكَ، وَقَالَ: ظَفَرٌ قَرِيبٌ. ثُمَّ أَمَرَ فَنُودِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ لِذَلِكَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَتَفَاءَلَ عُمَرُ أَيْضًا بِسَعْدٍ، فَصَعِدَ عُمَرُ الْمِنْبَرَ حَتَّى اجْتَمَعَ النَّاسُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَوْمٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَيَّامِ، أَلَا وَإِنِّي قَدْ هَمَمْتُ بِأَمْرٍ فَاسْمَعُوا وَأَجِيبُوا وَأَوْجِزُوا، وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَسِيرَ بِمَنْ قِبَلِي حَتَّى أَنْزِلَ مَنْزِلًا وَسَطًا بَيْنَ هَذَيْنَ الْمِصْرَيْنِ فَأَسْتَنْفِرَ النَّاسَ، ثُمَّ أَكُونَ لَهُمْ رِدْءًا حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَقَامَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ، فَتَكَلَّمَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِانْفِرَادِهِ فَأَحْسَنَ وَأَجَادَ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَسِيرَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَلَكِنْ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ

وَيَحْضُرُهُمْ بِرَأْيِهِ وَدُعَائِهِ. وَكَانَ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنْ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ وَلَا خِذْلَانُهُ بِكَثْرَةٍ وَلَا قِلَّةٍ، هُوَ دِينُهُ الَّذِي أَظْهَرَ، وَجُنْدُهُ الَّذِي أَعَزَّ، وَأَمَدَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ، حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ، فَنَحْنُ عَلَى مَوْعُودٍ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهِ، وَنَاصِرٌ جُنْدَهُ، وَمَكَانُكَ مِنْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَكَانُ النِّظَامِ مِنَ الْخَرَزِ يَجْمَعُهُ وَيُمْسِكُهُ، فَإِذَا انْحَلَّ تَفَرَّقَ مَا فِيهِ وَذَهَبَ، ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِهِ أَبَدًا، وَالْعَرَبُ الْيَوْمَ وَإِنْ كَانُوا قَلِيلًا فَهُمْ كَثِيرٌ عَزِيزٌ بِالْإِسْلَامِ، فَأَقِمْ مَكَانَكَ وَاكْتُبْ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ فَهُمْ أَعْلَامُ الْعَرَبِ وَرُؤَسَاؤُهُمْ، فَلْيَذْهَبْ مِنْهُمُ الثُّلُثَانِ وَيُقِيمُ الثُّلُثُ، وَاكْتُبْ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَمُدُّونَهُمْ أَيْضًا. وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ أَشَارَ فِي كَلَامِهِ بِأَنْ يَمُدَّهُمْ فِي جُيُوشٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَالشَّامِ. وَوَافَقَ عُمَرُ عَلَى الذَّهَابِ بِنَفْسِهِ إِلَى مَا بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ. فَرَدَّ عَلِيٌّ عَلَى عُثْمَانَ فِي مُوَافَقَتِهِ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى مَا بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَرَدَّ رَأْيَ عُثْمَانَ فِيمَا أَشَارَ بِهِ مِنِ اسْتِمْدَادِ أَهْلِ الشَّامِ خَوْفًا عَلَى بِلَادِهِمْ - إِذَا قَلَّ جُيُوشُهَا - مِنَ الرُّومِ، وَمِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ خَوْفًا عَلَى بِلَادِهِمْ مِنَ الْحَبَشَةِ. فَأَعْجَبَ عُمَرَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَسُرَّ بِهِ - وَكَانَ عُمَرُ إِذَا اسْتَشَارَ أَحَدًا لَا يُبْرِمُ أَمْرًا حَتَّى يُشَاوِرَ الْعَبَّاسَ - فَلَمَّا أَعْجَبَهُ كَلَامُ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، عَرَضَهُ عَلَى الْعَبَّاسِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خَفِّضْ عَلَيْكَ، فَإِنَّمَا اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ الْفُرْسُ لِنِقْمَةٍ. يَعْنِي: تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ:

أَشِيرُوا عَلَيَّ بِمَنْ أُوَلِّيهِ أَمْرَ الْحَرْبِ، وَلْيَكُنْ عِرَاقِيًّا. فَقَالُوا: أَنْتَ أَبْصَرُ بِجُنْدِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَأُوَلِّيَنَّ رَجُلًا يَكُونُ أَوَّلَ الْأَسِنَّةِ إِذَا لَقِيَهَا غَدًا. قَالُوا: مَنْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ. فَقَالُوا: هُوَ لَهَا. وَكَانَ النُّعْمَانُ قَدْ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ وَهُوَ نَائِبٌ عَلَى كَسْكَرَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنْهَا وَيُوَلِّيَهُ قِتَالَ أَهْلِ نَهَاوَنْدَ، فَلِهَذَا أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَعَيَّنَهُ لَهُ. ثُمَّ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى حُذَيْفَةَ أَنْ يَسِيرَ مِنَ الْكُوفَةِ بِجُنُودٍ مِنْهَا، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى أَنْ يَسِيرَ بِجُنُودِ الْبَصْرَةِ، وَكَتَبَ إِلَى النُّعْمَانِ - وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ - أَنْ يَسِيرَ بِمَنْ هُنَاكَ مِنَ الْجُنُودِ إِلَى نَهَاوَنْدَ، وَإِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ فَكُلُّ أَمِيرٍ عَلَى جَيْشِهِ، وَالْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ، فَإِذَا قُتِلَ فَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، فَإِذَا قُتِلَ فَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَإِذَا قُتِلَ فَقَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ، فَإِنْ قُتِلَ قَيْسٌ فَفُلَانٌ ثُمَّ فُلَانٌ. حَتَّى عَدَّ سَبْعَةً، أَحَدُهُمُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. وَقِيلَ: لَمْ يُسَمَّ فِيهِمْ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَصُورَةُ الْكِتَابِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ جُمُوعًا مِنَ الْأَعَاجِمِ كَثِيرَةً قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ بِمَدِينَةِ نَهَاوَنْدَ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَسِرْ بِأَمْرِ اللَّهِ وَبِعَوْنِ اللَّهِ وَبِنَصْرِ اللَّهِ، وَبِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُوطِئْهُمْ وَعْرًا فَتُؤْذِيَهُمْ، وَلَا تَمْنَعْهُمْ حَقَّهُمْ فَتُكَفِّرَهُمْ، وَلَا تُدْخِلْهُمْ غَيْضَةً، فَإِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مِائَةِ

أَلْفِ دِينَارٍ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ، فَسِرْ فِي وَجْهِكَ ذَلِكَ حَتَّى تَأْتِيَ مَاهَ، فَإِنِّي قَدْ كَتَبْتُ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنْ يُوَافُوكَ بِهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَ إِلَيْكَ جُنُودُكَ فَسِرْ إِلَى الْفَيْرُزَانِ وَمَنْ يَجْتَمِعُ مَعَهُ مِنَ الْأَعَاجِمِ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَنْصِرُوا اللَّهَ، وَأَكْثِرُوا مِنْ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى نَائِبِ الْكُوفَةِ - عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - أَنْ يُعَيِّنَ جَيْشًا وَيَبْعَثَهُمْ إِلَى نَهَاوَنْدَ، وَلْيَكُنِ الْأَمِيرَ عَلَيْهِمْ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، فَإِنْ قُتِلَ النُّعْمَانُ فَحُذَيْفَةُ، فَإِنْ قُتِلَ فَنُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَوَلِّ السَّائِبَ بْنَ الْأَقْرَعِ قَسْمَ الْغَنَائِمِ. فَسَارَ حُذَيْفَةُ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ نَحْوَ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ لِيُوَافُوهُ بِمَاهَ، وَسَارَ مَعَ حُذَيْفَةَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْعِرَاقِ، وَقَدْ أَرْصَدَ فِي كُلِّ كُورَةٍ مَا يَكْفِيهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَجَعَلَ الْحَرَسَ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَاحْتَاطُوا احْتِيَاطًا عَظِيمًا، ثُمَّ انْتَهَوْا إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ حَيْثُ اتَّعَدُوا، فَدَفَعَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ إِلَى النُّعْمَانِ كِتَابَ عُمَرَ، وَفِيهِ الْأَمْرُ لَهُ بِمَا يَعْتَمِدُهُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ. فَكَمُلَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ. فِيمَا رَوَاهُ سَيْفٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، فِيهِمْ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ وَرُءُوسِ الْعَرَبِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ؛ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ الزُّبَيْدِيُّ، وَطُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْأَسَدِيُّ، وَقَيْسُ بْنُ

مَكْشُوحٍ الْمُرَادِيُّ. فَسَارَ النَّاسُ نَحْوَ نَهَاوَنْدَ، وَبَعَثَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ الْأَمِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ طَلِيعَةً ثَلَاثَةً؛ وَهُمْ: طُلَيْحَةُ، وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ الزُّبَيْدِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سَلْمَى، وَيُقَالُ لَهُ: عَمْرُو بْنُ ثُبَيٍّ أَيْضًا، لِيَكْشِفُوا لَهُ خَبَرَ الْقَوْمِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ. فَسَارَتِ الطَّلِيعَةُ يَوْمًا وَلَيْلَةً فَرَجَعَ عَمْرُو بْنُ ثُبَيٍّ، فَقِيلَ لَهُ: مَا رَجَعَكَ ؟ فَقَالَ: كُنْتُ فِي أَرْضِ الْعَجَمِ، وَقَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلَهَا، وَقَتَلَ أَرْضًا عَالِمُهَا. ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَهُ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ، وَقَالَ: لَمْ نَرَ أَحَدًا، وَخِفْتُ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَيْنَا بِالطَّرِيقِ. وَنَفَذَ طُلَيْحَةُ وَلَمْ يَحْفِلْ بِرُجُوعِهِمَا، فَسَارَ بَعْدَ ذَلِكَ نَحْوًا مِنْ بِضْعَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى نَهَاوَنْدَ وَدَخَلَ فِي الْعَجَمِ وَعَلِمَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ مَا أَحَبَّ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النُّعْمَانِ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَهَاوَنْدَ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ.
فَسَارَ النُّعْمَانُ عَلَى تَعْبِئَتِهِ وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَعَلَى الْمُجَنَّبَتَيْنِ حُذَيْفَةُ وَسُوَيْدُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَعَلَى الْمُجَرَّدَةِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى السَّاقَةِ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْفُرْسِ وَعَلَيْهِمُ الْفَيْرُزَانُ، وَمَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ كُلُّ مَنْ غَابَ عَنِ الْقَادِسِيَّةِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهُوَ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا. فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ كَبَّرَ النُّعْمَانُ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، فَزُلْزِلَتِ الْأَعَاجِمُ وَرُعِبُوا مِنْ ذَلِكَ رُعْبًا شَدِيدًا، ثُمَّ أَمَرَ النُّعْمَانُ بِحَطِّ الْأَثْقَالِ وَهُوَ وَاقِفٌ، فَحَطَّ النَّاسُ أَثْقَالَهُمْ، وَتَرَكُوا رِحَالَهُمْ، وَضَرَبُوا خِيَامَهُمْ وَقُبَابَهُمْ، وَضُرِبَتْ خَيْمَةٌ

لِلنُّعْمَانِ عَظِيمَةٌ، وَكَانَ الَّذِينَ ضَرَبُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ أَشْرَافِ الْجَيْشِ؛ وَهُمْ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، وَعُتْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَبَشِيرُ بْنُ الْخَصَاصِيَةِ، وَحَنْظَلَةُ الْكَاتِبُ، وَابْنُ الْهَوْبَرِ، وَرِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ، وَعَامِرُ بْنُ مَطَرٍ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيُّ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيُّ، وَالْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، فَلَمْ يُرَ بِالْعِرَاقِ خَيْمَةٌ عَظِيمَةٌ أَعْظَمَ مِنْ بِنَاءِ هَذِهِ الْخَيْمَةِ. وَحِينَ حَطُّوا الْأَثْقَالَ أَمَرَ النُّعْمَانُ بِالْقِتَالِ، وَكَانَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءَ، فَاقْتَتَلُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالَّذِي بَعْدَهُ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ انْحَجَزُوا فِي حِصْنِهِمْ، وَحَاصَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَأَقَامُوا عَلَيْهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَالْأَعَاجِمُ يَخْرُجُونَ إِذَا أَرَادُوا وَيَرْجِعُونَ إِلَى حُصُونِهِمْ إِذَا أَرَادُوا. وَقَدْ بَعَثَ أَمِيرُ الْفُرْسِ يَطْلُبُ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيُكَلِّمَهُ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَذَكَرَ مِنْ عَظَمَةِ مَا رَآهُ عَلَيْهِ مِنْ لُبْسِهِ وَمَجْلِسِهِ، وَفِيمَا خَاطَبَهُ بِهِ مِنَ الْكَلَامِ فِي احْتِقَارِ الْعَرَبِ وَاسْتِهَانَتِهِ بِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا أَطْوَلَ النَّاسِ جُوعًا، وَأَقَلَّهُمْ دَارًا وَقَدْرًا، وَقَالَ: مَا يَمْنَعُ هَؤُلَاءِ الْأَسَاوِرَةِ حَوْلِي أَنْ يَنْتَظِمُوكُمْ بِالنُّشَّابِ إِلَّا تَنَجُّسًا مِنْ جِيَفِكُمْ، فَإِنْ تَذْهَبُوا نُخَلِّ عَنْكُمْ، وَإِنْ تَأْبَوْا نُزِرْكُمْ مُصَارِعَكُمْ. قَالَ: فَتَشَهَّدْتُ وَحَمِدْتُ اللَّهَ، وَقُلْتُ: لَقَدْ كُنَّا أَسْوَأَ حَالًا مِمَّا ذَكَرْتَ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ فَوَعَدَنَا النَّصْرَ فِي

الدُّنْيَا، وَالْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا زِلْنَا نَتَعَرَّفُ مِنْ رَبِّنَا النَّصْرَ مُنْذُ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ إِلَيْنَا، وَقَدْ جِئْنَاكُمْ فِي بِلَادِكُمْ، وَإِنَّا لَنْ نَرْجِعَ إِلَى ذَلِكَ الشَّقَاءِ أَبَدًا حَتَّى نَغْلِبَكُمْ عَلَى بِلَادِكُمْ وَمَا فِي أَيْدِيكُمْ، أَوْ نُقْتَلَ بِأَرْضِكُمْ. فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ، إِنَّ الْأَعْوَرَ لَقَدْ صَدَقَكُمْ مَا فِي نَفْسِهِ.
فَلَمَّا طَالَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ هَذَا الْحَالُ وَاسْتَمَرَّ، جَمَعَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ أَهْلَ الرَّأْيِ مِنَ الْجَيْشِ، وَاشْتَوَرُوا فِي ذَلِكَ، وَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ حَتَّى يَتَوَاجَهُوا هُمْ وَالْمُشْرِكُونَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ. فَتَكَلَّمَ عَمْرُو بْنُ أَبِي سُلْمَى أَوَّلًا - وَهُوَ أَسُنُّ مَنْ كَانَ هُنَاكَ - فَقَالَ: إِنَّ بَقَاءَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ أَضَرُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الَّذِي يَطْلُبُهُ مِنْهُمْ وَأَبْقَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَرَدَّ الْجَمِيعُ عَلَيْهِ وَقَالُوا: إِنَّا لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ إِظْهَارِ دِينِنَا، وَإِنْجَازِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَنَا. وَتَكَلَّمَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ فَقَالَ: نَاهِدْهُمْ وَكَاثِرْهُمْ وَلَا تَخَفْهُمْ. فَرَدُّوا جَمِيعًا عَلَيْهِ وَقَالُوا: إِنَّمَا يُنَاطِحُ بِنَا الْجُدْرَانَ، وَالْجُدْرَانُ أَعْوَانٌ لَهُمْ عَلَيْنَا. وَتَكَلَّمَ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَمْ يُصِيبَا، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَبْعَثَ سَرِيَّةً فَتَحْدِقَ بِهِمْ وَيُنَاوِشُوهُمْ بِالْقِتَالِ وَيُحْمِشُوهُمْ، فَإِذَا بَرَزُوا إِلَيْهِمْ فَلْيَفِرُّوا إِلَيْنَا هِرَابًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَإِذَا اسْتَطْرَدُوا وَرَاءَهُمْ وَانْتَهَوْا إِلَيْنَا، عَزَمْنَا أَيْضًا عَلَى الْفِرَارِ كُلُّنَا، فَإِنَّهُمْ حِينَئِذٍ لَا يَشُكُّونَ فِي الْهَزِيمَةِ فَيَخْرُجُونَ مِنْ حُصُونِهِمْ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، فَإِذَا تَكَامَلَ خُرُوجُهُمْ رَجَعْنَا إِلَيْهِمْ فَجَالَدْنَاهُمْ

حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَنَا. فَاسْتَجَادَ النَّاسُ هَذَا الرَّأْيَ.
وَأَمَّرَ النُّعْمَانُ عَلَى الْمُجَرَّدَةِ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْبَلَدِ فَيُحَاصِرُوهُمْ وَحْدَهُمْ وَيَهْرُبُوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِذَا بَرَزُوا إِلَيْهِمْ. فَفَعَلَ الْقَعْقَاعُ ذَلِكَ، فَلَمَّا بَرَزُوا مِنْ حُصُونِهِمْ نَكَصَ الْقَعْقَاعُ بِمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ نَكَصَ، ثُمَّ نَكَصَ، فَاغْتَنَمَهَا الْأَعَاجِمُ، فَفَعَلُوا مَا ظَنَّ طُلَيْحَةُ، وَقَالُوا: هِيَ هِيَ. فَخَرَجُوا بِأَجْمَعِهِمْ وَلَمْ يَبْقَ بِالْبَلَدِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ إِلَّا مَنْ يَحْفَظُ لَهُمُ الْأَبْوَابَ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْجَيْشِ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ عَلَى تَعْبِئَتِهِ، وَذَلِكَ فِي صَدْرِ نَهَارِ جُمُعَةٍ، فَعَزَمَ النَّاسُ عَلَى مُصَادَمَتِهِمْ، فَنَهَاهُمُ النُّعْمَانُ وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَتَهُبَّ الْأَرْوَاحُ، وَيَنْزِلَ النَّصْرُ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَفْعَلُ. وَأَلَحَّ النَّاسُ عَلَى النُّعْمَانِ فِي الْحَمْلَةِ، فَلَمْ يَفْعَلْ - وَكَانَ رَجُلًا ثَابِتًا - فَلَمَّا كَانَ الزَّوَالُ، صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ رَكِبَ بِرْذَوْنًا لَهُ أَحَوَى قَرِيبًا مِنَ الْأَرْضِ، فَجَعَلَ يَقِفُ عَلَى كُلِّ رَايَةٍ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالثَّبَاتِ، وَيُقَدِّمُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ الْأُولَى فَيَتَأَهَّبُ النَّاسُ لِلْحَمْلَةِ، وَيُكَبِّرُ الثَّانِيَةَ فَلَا يَبْقَى لِأَحَدٍ أُهْبَةٌ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ وَمَعَهَا الْحَمْلَةُ الصَّادِقَةُ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَوْقِفِهِ، وَتَعَبَّتِ الْفُرْسُ تَعْبِئَةً عَظِيمَةً، وَاصْطَفُّوا صُفُوفًا هَائِلَةً، فِي عَدَدٍ وَعُدَدٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، وَقَدْ تَغَلْغَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، وَأَلْقَوْا حَسَكَ الْحَدِيدِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ حَتَّى لَا يُمْكِنَهُمُ الْهَرَبُ وَلَا الْفِرَارُ وَلَا التَّحَيُّزُ. ثُمَّ إِنَّ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَبَّرَ الْأُولَى وَهَزَّ الرَّايَةَ فَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِلْحَمْلَةِ، ثُمَّ كَبَّرَ الثَّانِيَةَ وَهَزَّ الرَّايَةَ فَتَأَهَّبُوا أَيْضًا، ثُمَّ كَبَّرَ الثَّالِثَةَ وَحَمَلَ وَحَمَلَ النَّاسُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَجَعَلَتْ رَايَةُ النُّعْمَانِ تَنْقَضُّ نَحْوَ الْفُرْسِ كَانْقِضَاضِ الْعُقَابِ عَلَى

الْفَرِيسَةِ حَتَّى تُصَافَحُوا بِالسُّيُوفِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ فِي مَوْقِفٍ مِنَ الْمَوَاقِفِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا سَمِعَ السَّامِعُونَ بِوَقْعَةٍ مِثْلِهَا، قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَا بَيْنَ الزَّوَالِ إِلَى الظَّلَامِ مِنَ الْقَتْلَى مَا طَبَّقَ وَجْهَ الْأَرْضِ دَمًا، بِحَيْثُ إِنَّ الدَّوَابَّ كَانَتْ تَطْبَعُ فِيهِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ الْأَمِيرَ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ زَلَقَ بِهِ حِصَانُهُ فِي ذَلِكَ الدَّمِ، فَوَقَعَ وَجَاءَهُ سَهْمٌ فِي خَاصِرَتِهِ فَقَتَلَهُ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَحَدٌ سِوَى أَخِيهِ سُوَيْدٍ، وَقِيلَ: نُعَيْمٍ. وَقِيلَ: غَطَّاهُ بِثَوْبِهِ، وَأَخْفَى مَوْتَهُ، وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ. فَأَقَامَ حُذَيْفَةُ أَخَاهُ نُعَيْمًا مَكَانَهُ، وَأَمَرَ بِكَتْمِ مَوْتِهِ حَتَّى يَنْفَصِلَ الْحَالُ، لِئَلَّا يَنْهَزِمَ النَّاسُ. فَلَمَّا أَظْلَمَ اللَّيْلُ انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ مُدْبِرِينَ وَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ - وَكَانَ الْكُفَّارُ قَدْ قَرَنُوا مِنْهُمْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا بِالسَّلَاسِلِ وَحَفَرُوا حَوْلَهُمْ خَنْدَقًا، فَلَمَّا انْهَزَمُوا وَقَعُوا فِي الْخَنْدَقِ وَفِي تِلْكَ الْأَوْدِيَةِ نَحْوَ مِائَةِ أَلْفٍ - وَجَعَلُوا يَتَسَاقَطُونَ فِي أَوْدِيَةِ بِلَادِهِمْ، فَهَلَكَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ نَحْوَ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، سِوَى مَنْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ. وَكَانَ الْفَيْرُزَانُ أَمِيرُهُمْ قَدْ صُرِعَ فِي الْمَعْرَكَةِ فَانْفَلَتَ وَانْهَزَمَ، وَاتَّبَعَهُ نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَقَدَّمَ الْقَعْقَاعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَصَدَ الْفَيْرُزَانُ هَمَذَانَ، فَلَحِقَهُ الْقَعْقَاعُ وَأَدْرَكَهُ عِنْدَ ثَنِيَّةِ هَمَذَانَ، وَقَدْ أَقْبَلُ مِنْهَا بِغَالٌ كَثِيرٌ وَحُمُرٌ تَحْمِلُ عَسَلًا، فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْفَيْرُزَانُ صُعُودَهَا مِنْهُمْ، وَذَلِكَ لِحِينِهِ فَتَرَجَّلَ وَتَوَقَّلَ فِي الْجَبَلِ فَأَتْبَعَهُ الْقَعْقَاعُ حَتَّى قَتَلَهُ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ: إِنَّ لِلَّهِ جُنُودًا مِنْ عَسَلٍ. ثُمَّ غَنِمُوا ذَلِكَ الْعَسَلَ وَمَا خَالَطَهُ مِنَ الْأَحْمَالِ. وَسُمِّيَتْ تِلْكَ الثَّنِيَّةُ ثَنِيَّةَ الْعَسَلِ.

ثُمَّ لَحِقَ الْقَعْقَاعُ بَقِيَّةَ الْمُنْهَزِمِينَ مِنْهُمْ إِلَى هَمَذَانَ، وَحَاصَرَهَا وَحَوَى مَا حَوْلَهَا، فَنَزَلَ إِلَيْهِ صَاحِبُهَا - وَهُوَ خُسْرَوْ شُنُومُ - فَصَالَحَهُ عَلَيْهَا. ثُمَّ رَجَعَ الْقَعْقَاعُ إِلَى حُذَيْفَةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ دَخَلُوا بَعْدَ الْوَقْعَةِ نَهَاوَنْدَ عَنْوَةً، وَقَدْ جَمَعُوا الْأَسْلَابَ وَالْمَغَانِمَ إِلَى صَاحِبِ الْأَقْبَاضِ وَهُوَ السَّائِبُ بْنُ الْأَقْرَعِ. وَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ مَاهَ بِخَبَرِ أَهْلِ هَمَذَانَ، بَعَثُوا إِلَى حُذَيْفَةَ وَأَخَذُوا لَهُمْ مِنْهُ الْأَمَانَ. وَجَاءَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْهِرْبَذُ - وَهُوَ صَاحِبُ نَارِهِمْ - فَسَأَلَ مِنْ حُذَيْفَةَ الْأَمَانَ وَيَدْفَعُ إِلَيْهِمْ وَدِيعَةً عِنْدَهُ لِكِسْرَى ادَّخَرَهَا لِنَوَائِبِ الزَّمَانِ، فَأَمَّنَهُ حُذَيْفَةُ، وَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِسَفَطَيْنِ مَمْلُوءَتَيْنِ جَوْهَرًا ثَمِينًا لَا يُقَوَّمُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْبَئُوا بِهِ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى بَعْثِهِ لِعُمَرَ خَاصَّةً، وَأَرْسَلُوهُ صُحْبَةَ الْأَخْمَاسِ وَالسَّبْيِ، صُحْبَةَ السَّائِبِ بْنِ الْأَقْرَعِ، وَأَرْسَلَ قَبْلَهُ بِالْفَتْحِ مَعَ طَرِيفِ بْنِ سَهْمٍ، ثُمَّ قَسَمَ حُذَيْفَةُ بَقِيَّةَ الْغَنِيمَةِ فِي الْغَانِمِينَ، وَرَضَخَ وَنَفَلَ لِذَوِي النَّجَدَاتِ، وَقَسَمَ لِمَنْ كَانَ قَدْ أَرْصَدَ مِنَ الْجُيُوشِ لِحِفْظِ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَمَنْ كَانَ رِدْءًا لَهُمْ، وَمَنْسُوبًا إِلَيْهِمْ.
وَأَمَّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ كَانَ يَدْعُو اللَّهَ لَيْلًا وَنَهَارًا لَهُمْ، دُعَاءَ الْحَوَامِلِ الْمُقْرِبَاتِ، وَابْتِهَالَ ذَوِي الضَّرُورَاتِ، وَقَدِ اسْتَبْطَأَ الْخَبَرَ عَنْهُمْ، فَبَيْنَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرَ الْمَدِينَةِ إِذَا هُوَ بِرَاكِبٍ، فَسَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَ ؟ فَقَالَ: مِنْ نَهَاوَنْدَ. فَقَالَ: مَا فَعَلَ النَّاسُ ؟ قَالَ: فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقُتِلَ الْأَمِيرُ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً

عَظِيمَةً، أَصَابَ الْفَارِسُ سِتَّةَ آلَافٍ، وَالرَّاجِلُ أَلْفَانِ. ثُمَّ فَاتَهُ وَقَدِمَ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمَدِينَةَ، فَأَخْبَرَهُ النَّاسُ وَشَاعَ الْخَبَرُ حَتَّى بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَطَلَبَهُ فَسَأَلَهُ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ، فَقَالَ: رَاكِبٌ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَجِئْنِي، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ، وَهُوَ بَرِيدُهُمْ، وَاسْمُهُ عُثَيْمٌ.
ثُمَّ قَدِمَ طَرِيفٌ بِالْفَتْحِ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، وَلَيْسَ مَعَهُ سِوَى الْفَتْحِ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَمَّنْ قَتَلَ النُّعْمَانَ فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ عِلْمٌ، حَتَّى قَدِمَ الَّذِينَ مَعَهُمُ الْأَخْمَاسُ فَأَخْبَرُوا بِالْأَمْرِ عَلَى جَلِيَّتِهِ، فَإِذَا ذَلِكَ الْجِنِّيُّ قَدْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَرَجَعَ سَرِيعًا إِلَى قَوْمِهِ نَذِيرًا. وَلَمَّا أُخْبِرَ عُمَرَ بِمَقْتَلِ النُّعْمَانِ بَكَى وَسَأَلَ السَّائِبَ عَمَّنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ. لِأَعْيَانِ النَّاسِ وَأَشْرَافِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: وَآخَرُونَ مِنْ أَفْنَادِ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَجَعَلَ عُمَرُ يَبْكِي وَيَقُولُ: وَمَا ضَرَّهُمْ أَنْ لَا يَعْرِفَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ! لَكِنَّ اللَّهَ يَعْرِفُهُمْ وَقَدْ أَكْرَمَهُمْ بِالشَّهَادَةِ، وَمَا يَصْنَعُونَ بِمَعْرِفَةِ عُمَرَ. ثُمَّ أَمَرَ بِقِسْمَةِ الْخُمْسِ عَلَى عَادَتِهِ، وَحُمِلَتْ ذَانِكَ السَّفَطَانِ إِلَى مَنْزِلِ عُمَرَ، وَرَجَعَتِ الرُّسُلُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ عُمَرُ طَلَبَهُمْ فَلَمْ يَجِدْهُمْ، فَأَرْسَلَ فِي إِثْرِهِمُ الْبُرُدَ فَمَا لَحِقَهُمُ الْبَرِيدُ إِلَّا بِالْكُوفَةِ.
قَالَ السَّائِبُ بْنُ الْأَقْرَعِ: فَلَمَّا أَنَخْتُ بَعِيرِي بِالْكُوفَةِ، أَنَاخَ الْبَرِيدُ بَعِيرَهُ عَلَى عُرْقُوبِ بَعِيرِي، وَقَالَ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقُلْتُ: لِمَاذَا ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَرَجَعْنَا عَلَى إِثْرِنَا حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ. قَالَ: مَالِي وَلَكَ يَا ابْنَ أُمِّ السَّائِبِ، بَلْ مَا لِابْنِ أُمِّ السَّائِبِ وَمَالِي. قَالَ: فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ:

وَيْحَكَ، وَاللَّهِ إِنْ هُوَ إِلَّا أَنْ نِمْتُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي خَرَجْتَ فِيهَا، فَبَاتَتْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ تَسْحَبُنِي إِلَى ذَيْنِكَ السَّفَطَيْنِ وَهُمَا يَشْتَعِلَانِ نَارًا، يَقُولُونَ: لَنَكْوِيَنَّكَ بِهِمَا. فَأَقُولُ: إِنِّي سَأَقْسِمُهُمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. فَاذْهَبْ بِهِمَا لَا أَبَا لَكَ فَبِعْهُمَا فَاقْسِمْهُمَا فِي أُعْطِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَرْزَاقِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا وُهِبُوا وَلَمْ تَدْرِ أَنْتَ مَعَهُمْ. قَالَ السَّائِبُ: فَأَخَذَتْهُمَا حَتَّى جِئْتُ بِهِمَا مَسْجِدَ الْكُوفَةِ وَغَشِيَتْنِي التُّجَّارُ، فَابْتَاعَهُمَا مِنِّي عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيُّ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمَا إِلَى أَرْضِ الْأَعَاجِمِ فَبَاعَهُمَا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ أَلْفٍ، فَمَا زَالَ أَكْثَرَ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَالًا بَعْدَ ذَلِكَ.
قَالَ سَيْفٌ: ثُمَّ قَسَمَ ثَمَنَهُمَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، فَنَالَ كُلُّ فَارِسٍ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ السَّفَطَيْنِ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَحَصَلَ لِلْفَارِسِ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ سِتَّةُ آلَافٍ، وَلِلرَّاجِلِ أَلْفَانِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثِينَ أَلْفًا
قَالَ: وَافْتُتِحَتْ نَهَاوَنْدُ فِي أَوَّلِ سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ لِسَبْعِ سِنِينَ مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ. رَوَاهُ سَيْفٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْهُ.
وَبِهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا قُدِمَ بِسَبْيِ نَهَاوَنْدَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَعَلَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ - فَيْرُوزُ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - لَا يَلْقَى مِنْهُمْ صَغِيرًا إِلَّا مَسَحَ رَأَسَهُ وَبَكَى، وَقَالَ: أَكَلَ عُمَرُ كَبِدِي. وَكَانَ أَصْلُ أَبِي لُؤْلُؤَةَ مِنْ نَهَاوَنْدَ فَأَسَرَتْهُ الرُّومُ أَيَّامَ فَارِسَ،

وَأَسَرَتْهُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدُ، فَنُسِبَ إِلَى حَيْثُ سُبِيَ.
قَالُوا: وَلَمْ تَقُمْ لِلْأَعَاجِمِ بَعْدَ هَذِهِ الْوَقْعَةِ قَائِمَةٌ. وَأَلْحَقَ عُمَرُ الَّذِينَ أَبْلَوْا فِيهَا فِي أَلْفَيْنِ تَشْرِيفًا لَهُمْ وَإِظْهَارًا لِشَأْنِهِمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ أَيْضًا بَعْدَ نَهَاوَنْدَ مَدِينَةَ جَيٍّ - وَهِيَ مَدِينَةُ أَصْبَهَانَ - بَعْدَ قِتَالٍ كَثِيرٍ وَأُمُورٍ طَوِيلَةٍ، فَصَالَحُوا الْمُسْلِمِينَ، وَكَتَبَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ كِتَابَ أَمَانٍ وَصُلْحٍ، وَفَرَّ مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ نَفَرًا إِلَى كِرْمَانَ لَمْ يُصَالِحُوا الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي فَتَحَ أَصْبَهَانَ هُوَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ وَأَنَّهُ قُتِلَ بِهَا، وَوَقَعَ أَمِيرُ الْمَجُوسِ وَهُوَ ذُو الْحَاجِبَيْنِ عَنْ فَرَسِهِ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ وَمَاتَ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الَّذِي فَتَحَ أَصْبَهَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ، الَّذِي كَانَ نَائِبَ الْكُوفَةِ.
وَفِيهَا افْتَتَحَ أَبُو مُوسَى قُمَّ وَقَاشَانَ، وَافْتَتَحَ سُهَيْلُ بْنُ عَدِيٍّ مَدِينَةَ كِرْمَانَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ سَارَ فِي جَيْشٍ مَعَهُ إِلَى أَنْطَابُلُسَ - قَالَ: وَهِيَ بَرْقَةُ - فَافْتَتَحَهَا صُلْحًا عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفِ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ.
قَالَ: وَفِيهَا بَعَثَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عُقْبَةَ بْنَ نَافِعٍ الْفِهْرِيَّ إِلَى زَوِيلَةَ فَفَتَحَهَا

بِصُلْحٍ، وَصَارَ مَا بَيْنَ بَرْقَةَ إِلَى زَوِيلَةَ سِلْمًا لِلْمُسْلِمِينَ.
قَالَ: وَفِيهَا وَلَّى عُمَرُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ عَلَى الْكُوفَةِ بَدَلَ زِيَادِ بْنِ حَنْظَلَةَ الَّذِي وَلَّاهُ بَعْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ، وَجَعَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَاشْتَكَى أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ عَمَّارٍ، فَاسْتَعْفَى عَمَّارٌ مِنْ عُمَرَ، فَعَزَلَهُ وَوَلَّى جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُعْلِمَ أَحَدًا. وَبَعَثَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ امْرَأَتَهُ إِلَى امْرَأَةِ جُبَيْرٍ يَعْرِضُ عَلَيْهَا طَعَامًا لِلسَّفَرِ، فَقَالَتْ: اذْهَبِي فَائْتِينِي بِهِ. فَذَهَبَ الْمُغِيرَةُ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَنْ وَلَّيْتَ عَلَى الْكُوفَةِ. فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ ؟ وَبَعَثَ إِلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، فَعَزَلَهُ وَوَلَّى الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ ثَانِيَةً، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ: وَفِيهَا حَجَّ عُمَرُ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَكَانَ عُمَّالَهُ عَلَى الْبُلْدَانِ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبِلَهَا سِوَى الْكُوفَةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحِمْصَ، وَأَوْصَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَالَ غَيْرُهُ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ. وَقِيلَ: بِالْمَدِينَةِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ فَوَلَّى عُمَرُ مَكَانَهُ أَبَا هُرَيْرَةَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْعَلَاءَ تُوُفِّيَ قَبْلَ هَذَا. كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِيمَا حَكَاهُ عَنِ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ أَمِيرَ دِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَيْرُ بْنُ سَعِيدٍ، وَهُوَ أَيْضًا عَلَى حِمْصَ وَحَوْرَانَ وَقِنَّسْرِينَ وَالْجَزِيرَةِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ عَلَى الْبَلْقَاءِ وَالْأُرْدُنِّ، وَفِلَسْطِينَ، وَالسَّوَاحِلِ وَأَنْطَاكِيَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
ابْنُ الْمُغِيرَةِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ الْقُرَشِيُّ، أَبُو سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ، سَيْفُ اللَّهِ، أَحَدُ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، لَمْ يُقْهَرْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ. وَأُمُّهُ عَصْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ، أُخْتُ لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، وَأُخْتُ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَسْلَمَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَشَهِدَ مُؤْتَةَ وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ الْإِمَارَةُ يَوْمَئِذٍ عَنْ غَيْرِ إِمْرَةٍ، فَقَاتَلَ يَوْمَئِذٍ قِتَالًا شَدِيدًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، انْدَقَّتْ فِي

يَدِهِ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، وَلَمْ تَثْبُتْ فِي يَدِهِ إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ خَالِدًا سَقَطَتْ قَلَنْسُوَتُهُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ وَهُوَ فِي الْحَرْبِ، فَجَعَلَ يَسْتَحِثُّ فِي طَلَبِهَا، فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ فِيهَا شَيْئًا مِنْ شَعْرِ نَاصِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّهَا مَا كَانَتْ مَعِيَ فِي مَوْقِفٍ إِلَّا نُصِرْتُ بِهَا.
وَقَدْ رُوِّينَا فِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ وَحْشِيِّ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، أَنَّهُ لَمَّا أَمَّرَ خَالِدًا عَلَى حَرْبِ أَهْلِ الرِّدَّةِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: فَنِعْمَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو الْعَشِيرَةِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الشَّامِ وَعَزَلَ خَالِدَ بْنَ

الْوَلِيدِ، فَقَالَ خَالِدٌ: بَعَثَ عَلَيْكُمْ أَمِينَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ( خَالِدٌ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ، نِعْمَ فَتَى الْعَشِيرَةِ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَمِنْ طُرُقٍ مُرْسَلَةٍ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَفِي الصَّحِيحِ: " وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا، وَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ".
وَشَهِدَ الْفَتْحَ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا، وَغَزَا بَنِي جَذِيمَةَ أَمِيرًا فِي حَيَاتِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاخْتُلِفَ فِي شُهُودِهِ خَيْبَرَ. وَقَدْ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرًا عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ قُرَيْشٍ، كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي مَوْضِعِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْعُزَّى - وَكَانَتْ لِهَوَازِنَ - فَكَسَرَ أَنْفَهَا أَوَّلًا، ثُمَّ دَعْثَرَهَا وَجَعَلَ يَقُولُ:
يَا عُزَّ كُفْرَانَكِ لَا سُبْحَانَكِ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكِ
ثُمَّ حَرَّقَهَا.

وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الصِّدِّيقُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ، فَشَفَى وَاشْتَفَى. ثُمَّ وَجَّهَهُ إِلَى الْعِرَاقِ ثُمَّ إِلَى الشَّامِ، فَكَانَتْ لَهُ مِنَ الْمَقَامَاتِ مَا ذَكَرْنَاهَا مِمَّا تَقَرُّ بِهَا الْقُلُوبُ وَالْعُيُونُ، وَتَتَشَنَّفُ بِهَا الْأَسْمَاعُ. ثُمَّ عَزَلَهُ عُمَرُ عَنْهَا وَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبْقَاهُ مُسْتَشَارًا فِي الْحَرْبِ، وَلَمْ يَزَلْ بِالشَّامِ حَتَّى مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ خَالِدًا الْوَفَاةُ بَكَى، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ حَضَرْتُ كَذَا وَكَذَا زَحْفًا، وَمَا فِي جَسَدِي شِبْرٌ إِلَّا وَفِيهِ ضَرْبَةٌ بِسَيْفٍ، أَوْ طَعْنَةٌ بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةٌ بِسَهْمٍ، وَهَا أَنَا أَمُوتُ عَلَى فِرَاشِي حَتْفَ أَنْفِي كَمَا يَمُوتُ الْبَعِيرُ، فَلَا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا شُرَيْحُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: مَا لَيْلَةٌ تُهْدَى إِلَيَّ فِيهَا عَرُوسٌ، أَوْ أُبَشَّرُ فِيهَا بِغُلَامٍ، بِأَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ لَيْلَةٍ شَدِيدَةِ الْجَلِيدِ فِي سَرِيَّةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أُصَبِّحُ بِهِمُ الْعَدُوَّ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: أُتِيَ خَالِدٌ بِرَجُلٍ مَعَهُ زِقُّ خَمْرٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ عَسَلًا. فَصَارَ عَسَلًا. وَلَهُ طُرُقٌ، وَفِي بَعْضِهَا: مَرَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ مَعَهُ زِقُّ خَمْرٍ، فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: مَا هَذَا ؟ قَالَ: خَلٌّ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ خَلًّا. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: جِئْتُكُمْ بِخَمْرٍ لَمْ تَشْرَبِ الْعَرَبُ مِثْلَهُ. ثُمَّ فَتَحَهُ فَإِذَا هُوَ خَلٌّ، فَقَالَ: أَصَابَتْهُ وَاللَّهِ دَعْوَةُ خَالِدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: الْتَقَى خَالِدٌ عَدُوًّا لَهُ، فَوَلَّى عَنْهُ الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ وَثَبَتَ هُوَ وَأَخِي الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ، وَكُنْتُ بَيْنَهُمَا وَاقِفًا، قَالَ: فَنَكَسَ خَالِدٌ رَأْسَهُ سَاعَةً إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ سَاعَةً - قَالَ: وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ إِذَا أَصَابَهُ مِثْلُ هَذَا - ثُمَّ قَالَ لِأَخِي الْبَرَاءِ: قُمْ. فَرَكِبَا، وَاخْتَطَبَ خَالِدٌ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا الْجَنَّةُ، وَمَا إِلَى الْمَدِينَةِ سَبِيلٌ. ثُمَّ حَمَلَ بِهِمْ فَهَزَمَ الْمُشْرِكِينَ.
وَقَدْ حَكَى مَالِكٌ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: اكْتُبْ إِلَى

خَالِدٍ أَنْ لَا يُعْطِيَ شَاةً وَلَا بَعِيرًا إِلَّا بِأَمْرِكَ. فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى خَالِدٍ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدٌ: إِمَّا أَنْ تَدَعَنِي وَعَمَلِي، وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِعَمَلِكَ. فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ بِعَزْلِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ يُجْزِي عَنِّي جَزَاةَ خَالِدٍ ؟ قَالَ عُمَرُ: أَنَا. قَالَ: فَأَنْتَ. فَتَجَهَّزَ عُمَرُ حَتَّى أُنِيخَتِ الظَّهْرُ فِي الدَّارِ، ثُمَّ جَاءَ الصَّحَابَةُ فَأَشَارُوا عَلَى الصِّدِّيقِ بِإِبْقَاءِ عُمَرَ بِالْمَدِينَةِ وَإِبْقَاءِ خَالِدٍ بِالشَّامِ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ كَتَبَ إِلَى خَالِدٍ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ خَالِدٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَعَزَلَهُ، وَقَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَرَانِيَ آمُرُ أَبَا بَكْرٍ بِشَيْءٍ لَا أُنْفِذُهُ أَنَا.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ "، وَغَيْرِهِ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ نَاشِرَةَ بْنِ سُمَيٍّ الْيَزَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَعْتَذِرُ إِلَى النَّاسِ بِالْجَابِيَةِ مِنْ عَزْلِ خَالِدٍ، فَقَالَ: أَمَرْتُهُ أَنْ يَحْبِسَ هَذَا الْمَالَ عَلَى ضَعَفَةِ الْمُهَاجِرِينَ، فَأَعْطَاهُ ذَا الْبَأْسِ، وَذَا الشَّرَفِ وَاللِّسَانِ، وَأَمَّرْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ. فَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ حَفْصِ بْنِ

الْمُغِيرَةِ: مَا اعْتَذَرْتَ يَا عُمَرُ، لَقَدْ نَزَعْتَ عَامِلًا اسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَضَعْتَ لِوَاءً رَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَغْمَدْتَ سَيْفًا سَلَّهُ اللَّهُ، وَلَقَدْ قَطَعْتَ الرَّحِمَ، وَحَسَدْتَ ابْنَ الْعَمِّ. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّكَ قَرِيبُ الْقَرَابَةِ، حَدِيثُ السِّنِّ، مُغْضَبٌ فِي ابْنِ عَمِّكَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ بَقَرْيَةٍ عَلَى مِيلٍ مِنْ حِمْصَ، وَأَوْصَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَالَ دُحَيْمٌ وَغَيْرُهُ: مَاتَ بِالْمَدِينَةِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.

وَقَدَّمْنَا فِيمَا سَلَفَ تَعْزِيرَ عُمَرَ لَهُ حِينَ أَعْطَى الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَأَخْذَهُ مِنْ مَالِهِ عِشْرِينَ أَلْفًا أَيْضًا. وَقَدَّمْنَا عَتْبَهُ عَلَيْهِ لِدُخُولِهِ الْحَمَّامَ وَتَدَلُّكِهُ بَعْدَ النُّورَةِ بِدَقِيقِ عُصْفُرٍ مَعْجُونٍ بِخَمْرٍ، وَاعْتِذَارَ خَالِدٍ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ صَارَ غَسُولًا.
وَرُوِّينَا عَنْ خَالِدٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أُطَلِّقْهَا عَنْ رِيبَةٍ، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَمْرَضْ عِنْدِي وَلَمْ يُصِبْهَا شَيْءٌ فِي بَدَنِهَا وَلَا رَأْسِهَا، وَلَا فِي شَيْءٍ

مِنْ جَسَدِهَا.
وَرَوَى سَيْفٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ قَالَ حِينَ عَزَلَ خَالِدًا عَنِ الشَّامِ، وَالْمُثَنَّى بْنَ حَارِثَةَ عَنِ الْعِرَاقِ. إِنَّمَا عَزَلْتُهُمَا لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ اللَّهَ نَصَرَ الدِّينَ لَا يَنْصُرُهُمَا، وَأَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا.
وَرَوَى سَيْفٌ أَيْضًا أَنَّ عُمَرَ قَالَ حِينَ عَزَلَ خَالِدًا عَنْ قِنَّسْرِينَ وَأَخَذَ مِنْهُ مَا أَخَذَ: إِنَّكَ عَلَيَّ لِكَرِيمٌ، وَإِنَّكَ عِنْدِي لِعَزِيزٌ، وَلَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ مِنِّي أَمْرٌ تَكْرَهُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ عَنْ بِلَالٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: اصْطَرَعَ عُمَرُ وَخَالِدٌ وَهُمَا غُلَامَانِ - وَكَانَ خَالِدٌ ابْنَ خَالِ عُمَرَ - فَكَسَرَ خَالِدٌ سَاقَ عُمَرَ، فَعُولِجَتْ وَجُبِرَتْ، وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: دَخَلَ خَالِدٌ عَلَى عُمَرَ وَعَلَيْهِ قَمِيصُ حَرِيرٍ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا يَا خَالِدُ ؟ فَقَالَ:

وَمَا بَأْسُهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَيْسَ قَدْ لَبِسَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ؟ فَقَالَ: وَأَنْتَ مِثْلُ ابْنِ عَوْفٍ ! وَلَكَ مِثْلُ مَا لِابْنِ عَوْفٍ ! عَزَمْتُ عَلَى مَنْ بِالْبَيْتِ إِلَّا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِطَائِفَةٍ مِمَّا يَلِيهِ. قَالَ: فَمَزَّقُوهُ حَتَّى لَمَّ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ - ثُمَّ شَكَّ حَمَّادٌ فِي أَبِي وَائِلٍ - قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ الْوَفَاةُ قَالَ: لَقَدْ طَلَبْتُ الْقَتْلَ فِي مَظَانِّهِ فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي إِلَّا أَنْ أَمُوتَ عَلَى فِرَاشِي، وَمَا مِنْ عَمَلِي شَيْءٌ أَرْجَى عِنْدِي بَعْدَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مِنْ لَيْلَةٍ بِتُّهَا وَأَنَا مُتَتَرِّسٌ وَالسَّمَاءُ تَهُلُّنِي نَنْتَظِرُ الصُّبْحَ، حَتَّى نُغِيرَ عَلَى الْكُفَّارِ. ثُمَّ قَالَ: إِذَا أَنَا مِتُّ فَانْظُرُوا إِلَى سِلَاحِي وَفَرَسِي فَاجْعَلُوهُ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ خَرَجَ عُمَرُ عَلَى جِنَازَتِهِ، فَذَكَرَ قَوْلَهُ: مَا عَلَى نِسَاءِ آلِ الْوَلِيدِ أَنْ يَسْفَحْنَ عَلَى خَالِدٍ مِنْ دُمُوعِهِنَّ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعًا أَوْ لَقْلَقَةً. قَالَ ابْنُ الْمُخْتَارِ: النَّقْعُ: التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ، وَاللَّقْلَقَةُ: الصَّوْتُ. وَقَدْ عَلَّقَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " بَعْضَ هَذَا فَقَالَ: وَقَالَ عُمَرُ: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ أَوْ لَقْلَقَةٌ. وَالنَّقْعُ: التُّرَابُ عَلَى الرَّأْسِ، وَاللَّقْلَقَةُ: الصَّوْتُ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا وَكِيعٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: لَمَّا مَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ اجْتَمَعَ نِسْوَةُ بَنِي الْمُغِيرَةِ فِي دَارِ خَالِدٍ يَبْكِينَ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لِعُمَرَ: إِنَّهُنَّ قَدِ اجْتَمَعْنَ فِي دَارِ خَالِدٍ، وَهُنَّ خُلَقَاءُ أَنْ يُسْمِعْنَكَ بَعْضَ مَا تَكْرَهُ، فَأَرْسِلْ إِلَيْهِنَّ فَانْهَهُنَّ. فَقَالَ عُمَرُ: وَمَا عَلَيْهِنَّ أَنْ يُرِقْنَ مِنْ دُمُوعِهِنَّ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعًا أَوْ لَقْلَقَةً. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ " مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: وَقَالَ مُحَمَّدٌ: مَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِالْمَدِينَةِ فَخَرَجَ عُمَرُ فِي جِنَازَتِهِ وَإِذَا أُمُّهُ تَنْدُبُهُ وَتَقُولُ:
أَنْتَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ أَلْفٍ مِنَ الْقَوْ مِ إِذَا مَا كَبَتْ وُجُوهُ الرِّجَالِ
فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقْتِ، إِنْ كَانَ لَكَذَلِكَ.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ مُبَشِّرٍ، عَنْ سَالِمٍ قَالَ: فَأَقَامَ خَالِدٌ فِي

الْمَدِينَةِ حَتَّى إِذَا ظَنَّ عُمَرُ أَنْ قَدْ سَبَكَهُ وَبَصَّرَ النَّاسَ، حَجَّ وَقَدْ عَزَمَ عَلَى تَوْلِيَتِهِ، وَاشْتَكَى خَالِدٌ بَعْدُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَدِينَةِ زَائِرًا لِأُمِّهِ، فَقَالَ لَهَا: أَحْدِرُونِي إِلَى مُهَاجِرِي. فَقَدِمَتْ بِهِ الْمَدِينَةَ وَمَرَّضَتْهُ، فَلَمَّا ثَقُلَ وَأَظَلَّ قُدُومُ عُمَرَ، لَقِيَهُ لَاقٍ عَلَى مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ صَادِرًا عَنْ حَجِّهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَهْيَمْ ؟ فَقَالَ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ثَقِيلٌ لِمَا بِهِ. فَطَوَى ثَلَاثًا فِي لَيْلَةٍ، فَأَدْرَكَهُ حِينَ قَضَى، فَرَقَّ عَلَيْهِ وَاسْتَرْجَعَ، وَجَلَسَ بِبَابِهِ حَتَّى جُهِّزَ، وَبَكَتْهُ الْبَوَاكِي، فَقِيلَ لِعُمَرَ: أَلَا تَسْمَعُ، أَلَا تَنْهَاهُنَّ ؟ فَقَالَ: وَمَا عَلَى نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَنْ يَبْكِينَ أَبَا سُلَيْمَانَ، مَا لَمْ يَكُنْ نَقْعٌ وَلَا لَقْلَقَةٌ. فَلَمَّا خَرَجَ لِجِنَازَتِهِ رَأَى عُمَرَ امْرَأَةً مُحْتَزِمَةً تَبْكِيهِ وَتَقُولُ:
أَنْتَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ أَلْفٍ مِنَ النَّا سِ إِذَا مَا كَبَتْ وُجُوهُ الرِّجَالِ
أَشُجَاعٌ فَأَنْتَ أَشْجَعُ مِنْ لَيْ ثِ عَرِينٍ جَهْمٍ أَبِي أَشْبَالِ

أَجَوَادٌ فَأَنْتَ أَجْوَدُ مِنْ سَيْ لِ دِيَاسٍ يَسِيلُ بَيْنَ الْجِبَالِ
فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ هَذِهِ ؟ فَقِيلَ: أُمُّهُ. فَقَالَ: أُمُّهُ، وَالْإِلَهِ - ثَلَاثًا - هَلْ قَامَتِ النِّسَاءُ عَنْ مِثْلِ خَالِدٍ ! قَالَ: فَكَانَ عُمَرُ يَتَمَثَّلُ فِي طَيِّهِ تِلْكَ الثَّلَاثَ فِي لَيْلَةٍ وَفِي قُدُومِهِ:
تُبَكِّي مَا وَصَلْتَ بِهِ النَّدَامَى وَلَا تَبْكِي فَوَارِسَ كَالْجِبَالِ
أُولَئِكَ إِنْ بَكَيْتَ أَشَدُّ فَقْدًا مِنَ الْأَذْهَابِ وَالْعَكَرِ الْجَلَالِ
تَمَنَّى بَعْدَهُمْ قَوْمٌ مَدَاهُمْ فَلَمْ يَدْنُوا لَأَسْبَابِ الْكَمَالِ
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأُمِّ خَالِدٍ: أَخَالِدًا وَأَجْرَهُ تَرْزَئِينَ ! عَزَمْتُ عَلَيْكِ أَنْ لَا تَبِيتِي حَتَّى تَسْوَدَّ يَدَاكِ مِنَ الْخِضَابِ.

وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَقْتَضِي مَوْتَهُ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دُحَيْمٌ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ، وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنِ الْجُمْهُورِ؛ وَهُمُ الْوَاقِدِيُّ، وَكَاتِبُهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو الْعُصْفُرِيُّ، وَمُوسَى بْنُ أَيُّوبَ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَغَيْرُهُمْ، أَنَّهُ مَاتَ بِحِمْصَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ. زَادَ الْوَاقِدِيُّ: وَأَوْصَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ وَغَيْرِهِ، قَالُوا: قَدِمَ خَالِدٌ الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَا عَزَلَهُ عُمَرُ، فَاعْتَمَرَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الشَّامِ فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ عُمَرَ رَأَى حُجَّاجًا يُصَلُّونَ بِمَسْجِدِ قُبَاءَ. فَقَالَ: أَيْنَ نَزَلْتُمْ بِالشَّامِ ؟ قَالُوا: بِحِمْصَ. قَالَ: فَهَلْ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: فَاسْتَرْجَعَ عُمَرُ وَقَالَ: كَانَ وَاللَّهِ سَدَّادًا لِنُحُورِ الْعَدُوِّ، مَيْمُونَ النَّقِيبَةِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: فَلِمَ عَزَلْتَهُ ؟ قَالَ: لِبَذْلِهِ الْمَالَ لِذَوِي الشَّرَفِ وَاللِّسَانِ. وَفِي رِوَايَةٍ

أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِعَلِيٍّ: نَدِمْتُ عَلَى مَا كَانَ مِنِّي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ أَبِي حَازِمٍ يَقُولُ: لَمَّا مَاتَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ عُمَرُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا سُلَيْمَانَ، لَقَدْ كُنَّا نَظُنُّ بِهِ أُمُورًا مَا كَانَتْ. وَقَالَ جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ خَالِدٌ لَمْ يُوجَدْ لَهُ إِلَّا فَرَسُهُ وَغُلَامُهُ وَسِلَاحُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا سُلَيْمَانَ، إِنْ كُنَّا لَنَظُنُّهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا.
وَقَالَ الْقَاضِي الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْعَسْكَرِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَعْدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْزَةَ اللَّخْمِيُّ، ثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحِرْمَازِيُّ قَالَ: دَخَلَ هِشَامُ بْنُ الْبَخْتَرِيِّ فِي نَاسٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ: يَا هِشَامُ، أَنْشِدْنِي شِعْرَكَ فِي خَالِدٍ. فَأَنْشَدُهُ، فَقَالَ: قَصَّرْتَ فِي الثَّنَاءِ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، إِنَّهُ كَانَ لِيُحِبُّ أَنْ يُذِلَّ

الشِّرْكَ وَأَهْلَهُ، وَإِنْ كَانَ الشَّامِتُ بِهِ لَمُتَعَرِّضًا لِمَقْتِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: قَاتَلَ اللَّهُ أَخَا بَنِي تَمِيمٍ مَا أَشْعَرَهُ:
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْقَى خِلَافَ الَّذِي مَضَى
تَهَيَّأْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَدِ فَمَا عَيْشُ مَنْ قَدْ عَاشَ بَعْدِي بِنَافِعِي
وَلَا مَوْتُ مَنْ قَدْ مَاتَ يَوْمًا بِمُخْلِدِي ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا سُلَيْمَانَ، مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَلَقَدْ مَاتَ فَقِيدًا، وَعَاشَ حَمِيدًا، وَلَكِنْ رَأَيْتُ الدَّهْرَ لَيْسَ بِقَابِلٍ.
طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ
ابْنُ نَوْفَلِ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ الْأَشْتَرِ بْنِ حَجْوَانَ بْنِ فَقْعَسِ بْنِ طَرِيفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قُعَيْنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ

خُزَيْمَةَ، الْأَسَدِيُّ الْفَقْعَسِيُّ، كَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْخَنْدَقَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ أَسْلَمَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَوَفَدَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ ارْتَدَّ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي أَيَّامِ الصِّدِّيقِ، وَادَّعَى النُّبُوَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ ادَّعَى النُّبُوَّةَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ ابْنَهُ حِبَالًا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ: " مَا اسْمُ الَّذِي يَأْتِي إِلَى أَبِيكَ ؟ ". فَقَالَ: ذُو النُّونِ الَّذِي لَا يَكْذِبُ وَلَا يَخُونُ، وَلَا يَكُونُ كَمَا يَكُونُ. فَقَالَ: " لَقَدْ سَمَّى مَلَكًا عَظِيمَ الشَّأْنِ ". ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ: " قَتَلَكَ اللَّهُ وَحَرَمَكَ الشَّهَادَةَ ". وَرَدَّهُ كَمَا جَاءَ، فَقُتِلَ حِبَالٌ فِي الرِّدَّةِ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ، قَتَلَهُ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ ثُمَّ قَتَلَ طُلَيْحَةُ عُكَّاشَةَ، وَلَهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَقَائِعُ. ثُمَّ خَذَلَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَتَفَرَّقَ جُنْدُهُ، فَهَرَبَ حَتَّى دَخَلَ الشَّامَ، فَنَزَلَ عَلَى آلِ جَفْنَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ حَتَّى مَاتَ الصِّدِّيقُ - حَيَاءً مِنْهُ - ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاعْتَمَرَ، ثُمَّ جَاءَ يُسَلِّمُ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ لَهُ: اغْرُبْ عَنِّي فَإِنَّكَ قَاتِلُ الرَّجُلَيْنِ الصَّالِحَيْنِ؛ عُكَّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ وَثَابِتِ بْنِ أَقْرَمَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هُمَا رَجُلَانِ أَكْرَمَهُمَا اللَّهُ عَلَى يَدَيَّ وَلَمْ يُهِنِّي بِأَيْدِيهِمَا. فَأَعْجَبَ عُمَرَ كَلَامُهُ وَرَضِيَ عَنْهُ، وَكَتَبَ لَهُ بِالْوَصَاةِ إِلَى الْأُمَرَاءِ أَنْ يُشَاوَرَ وَلَا يُوَلَّى شَيْئًا مِنَ الْأَمْرِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الشَّامِ مُجَاهِدًا، فَشَهِدَ الْيَرْمُوكَ وَبَعْضَ حُرُوبٍ، كَالْقَادِسِيَّةِ

وَنَهَاوَنْدَ الْفُرْسِ، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ، وَالْأَبْطَالِ الْمَشْهُورِينَ، وَقَدْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ.
وَذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقَالَ: كَانَ يُعَدُّ بِأَلْفِ فَارِسٍ؛ لِشِدَّتِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَبَصَرِهِ بِالْحَرْبِ. وَقَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا: أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ يُعْدَلُ بِأَلْفِ فَارِسٍ.
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيَّامَ رِدَّتِهِ وَادِّعَائِهِ النُّبُوَّةَ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ أَصْحَابُهُ:
فَمَا ظَنُّكُمْ بِالْقَوْمِ إِذْ تَقْتُلُونَهُمْ
أَلَيْسُوا وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا بِرِجَالِ فَإِنْ تَكُ أَذْوَادٌ أُصِبْنَ وَنِسْوَةٌ
فَلَمْ يَذْهَبُوا فِرْغًا بِقَتْلِ حِبَالِ نَصَبْتُ لَهُمْ صَدْرَ الْحِمَالَةِ إِنَّهَا
مُعَاوِدَةٌ قَتْلَ الْكُمَاةِ نَزَالِ فَيَوْمًا تَرَاهَا فِي الْجَلَالِ مَصُونَةً
وَيَوْمًا تَرَاهَا غَيْرَ ذَاتِ جَلَالِ

وَيَوْمًا تُضِيءُ الْمَشْرِفِيَّةُ نَحْوَهَا
وَيَوْمًا تَرَاهَا فِي ظِلَالِ عَوَالِي عَشِيَّةَ غَادَرْتُ ابْنَ أَقْرَمَ ثَاوِيًا
وَعُكَّاشَةَ الْغُنْمِيَّ عِنْدَ مَجَالِ
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ مُبَشِّرِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مَا اطَّلَعْنَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ يُرِيدُ الدُّنْيَا مَعَ الْآخِرَةِ، وَلَقَدِ اتَّهَمْنَا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ، فَمَا رَأَيْنَا كَمَا هَجَمْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَمَانَتِهِمْ وَزُهْدِهِمْ؛ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ، وَقَيْسُ بْنُ الْمَكْشُوحِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْقَوَّاسِ الْوَرَّاقُ، أَنَّ طُلَيْحَةَ اسْتُشْهِدَ بِنَهَاوَنْدَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مَعَ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُصْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ

زُبَيْدٍ الْأَصْغَرِ - وَهُوَ مُنَبِّهُ - بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مَازِنَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مُنَبِّهِ بْنِ زُبَيْدٍ الْأَكْبَرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مُذْحِجٍ، الزُّبَيْدِيُّ الْمُذْحِجِيُّ، أَبُو ثَوْرٍ، أَحَدُ الْفُرْسَانِ الْمَشَاهِيرِ الْأَبْطَالِ، وَالشُّجْعَانِ الْمَذَاكِيرِ، قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَنَةَ تِسْعٍ، وَقِيلَ: عَشْرٍ. مَعَ وَفْدِ مُرَادٍ، وَقِيلَ: فِي وَفْدِ مُرَادٍ، وَقِيلَ: فِي وَفْدِ زُبَيْدٍ قَوْمِهِ. وَقَدِ ارْتَدَّ مَعَ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ، فَسَارَ إِلَيْهِ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَقَاتَلَهُ فَضَرَبَهُ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ بِالسَّيْفِ عَلَى عَاتِقِهِ فَهَرَبَ وَقَوْمُهُ، وَقَدِ اسْتَلَبَ خَالِدٌ سَيْفَهُ الصَّمْصَامَةَ، ثُمَّ أُسِرَ وَدُفِعَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَأَنَّبَهُ وَعَاتَبَهُ وَاسْتَتَابَهُ، فَتَابَ وَأَنَابَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَسَيَّرَهُ إِلَى الشَّامِ، فَشَهِدَ الْيَرْمُوكَ، ثُمَّ أَمَرَهُ عُمَرُ بِالْمَسِيرِ إِلَى سَعْدٍ، وَكَتَبَ بِالْوَصَاةِ بِهِ، وَأَنْ يُشَاوَرَ وَلَا يُوَلَّى شَيْئًا، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَأَبْلَى بَلَاءً حَسَنًا يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ قُتِلَ بِهَا. وَقِيلَ: بِنَهَاوَنْدَ. وَقِيلَ: مَاتَ عَطَشًا فِي بَعْضِ الْقُرَى، يُقَالُ لَهَا: رَوْذَةُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَلِكَ كُلُّهُ سَنَةَ إِحْدَى

وَعِشْرِينَ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ رَثَاهُ مَنْ قَوْمِهِ:
لَقَدْ غَادَرَ الرُّكْبَانُ يَوْمَ تَحَمَّلُوا بِرَوْذَةَ شَخْصًا لَا جَبَانًا وَلَا غَمْرَا
فَقُلْ لِزُبَيْدٍ بَلْ لِمُذْحِجَ كُلِّهَا رُزِئْتُمْ أَبَا ثَوْرٍ قَرِيعَكُمُ عَمْرَا
وَكَانَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمُجِيدِينَ، فَمِنْ شِعْرِهِ:
أَعَاذِلَ عُدَّتِي بَدَنِي وَرُمْحِي وَكُلُّ مُقَلَّصٍ سَلِسِ الْقِيَادِ
أَعَاذِلَ إِنَّمَا أَفْنَى شَبَابِي إِجَابَتِيَ الصَّرِيخَ إِلَى الْمُنَادِي
مَعَ الْأَبْطَالِ حَتَّى سَلَّ جِسْمِي وَأَقْرَحَ عَاتِقِي حَمْلُ النِّجَادِ
وَيَبْقَى بَعْدَ حِلْمِ الْقَوْمِ حِلْمِي وَيَفْنَى قَبْلَ زَادِ الْقَوْمِ زَادِي

تَمَنَّى أَنْ يُلَاقِينِي قُيَيْسٌ وَدِدْتُ وَأَيْنَمَا مِنِّي وِدَادِي
فَمَنْ ذَا عَاذِرِي مِنْ ذِي سَفَاهٍ يَرُودُ بِنَفْسِهِ شَرَّ الْمَرَادِ
أُرِيدُ حَيَاتَهُ وَيُرِيدُ قَتْلِي عَذِيرَكَ مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرَادِ
لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي التَّلْبِيَةِ رَوَاهُ شَرَاحِيلُ بْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا نَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا لَبَّيْنَا:
لَبَّيْكَ تَعْظِيمًا إِلَيْكَ عُذْرَا هَذِي زُبَيْدٌ قَدْ أَتَتْكَ قَسْرَا
تَعْدُو بِهَا مُضَمَّرَاتٌ شَزْرَا يَقْطَعْنَ خَبْتًا وَجِبَالًا وَعْرًا
قَدْ تَرَكُوا الْأَوْثَانَ خِلْوًا صِفْرَا
قَالَ عَمْرٌو: فَنَحْنُ نَقُولُ الْآنَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَمَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ.

الْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، أَمِيرُ الْبَحْرَيْنِ لِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ. تَقَدَّمَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَأَخَّرَ إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ. وَعَزَلَهُ عُمَرُ عَنِ الْبَحْرَيْنِ وَوَلَّى مَكَانَهُ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَمَّرَهُ عُمَرُ عَلَى الْكُوفَةِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا مُنْصَرَفَهُ مِنَ الْحَجِّ. كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ قَصَّتْهُ فِي سَيْرِهِ بِجَيْشِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَمَا جَرَى لَهُ مِنْ خَرْقِ الْعَادَاتِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنِ بْنِ عَائِذٍ الْمُزَنِيُّ، أَمِيرُ وَقْعَةِ نَهَاوَنْدَ، صَحَابِيٌّ جَلِيلُ الْقَدْرِ، قَدِمَ مَعَ قَوْمِهِ مِنْ مُزَيْنَةَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ رَاكِبٍ، ثُمَّ سَكَنَ الْبَصْرَةَ، وَبَعَثَهُ الْفَارُوقُ أَمِيرًا عَلَى الْجُنُودِ إِلَى نَهَاوَنْدَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ فَتْحًا عَظِيمًا، وَمَكَّنَ اللَّهُ لَهُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، وَمَكَّنَهُ مِنْ رِقَابِ أُولَئِكَ الْعِبَادِ، وَمَكَّنَ بِهِ لِلْمُسْلِمِينَ هُنَالِكَ إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ، وَمَنَحَهُ النَّصْرَ فِي الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، وَأَتَاحَ لَهُ بَعْدَمَا أَرَاهُ مَا أَحَبَّ شَهَادَةً عَظِيمَةً، وَذَلِكَ غَايَةُ الْمُرَادِ، فَكَانَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ وَهُوَ صِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. [ التَّوْبَةِ: 111 ]

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ
وَفِيهَا كَانَتْ فُتُوحَاتٌ كَثِيرَةٌ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ مِنْهَا: فَتْحُ هَمَذَانَ ثَانِيَةً، ثُمَّ الرَّيِّ وَمَا بَعْدَهَا، ثُمَّ أَذْرَبِيجَانَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو مَعْشَرٍ: كَانَتْ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ. وَقَالَ سَيْفٌ: كَانَتْ فِي سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ بَعْدَ فَتْحِ هَمَذَانَ وَالرَّيِّ وَجُرْجَانَ. وَأَبُو مَعْشَرٍ يَقُولُ بِأَنَّ أَذْرَبِيجَانَ كَانَتْ بَعْدَ هَذِهِ الْبُلْدَانِ، وَلَكِنْ عِنْدَهُ أَنَّ الْجَمِيعَ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَعِنْدَ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ فَتْحَ هَمَذَانَ وَالرَّيِّ كَانَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ؛ فَهَمَذَانُ افْتَتَحَهَا الْمُغِيرَةُ بَعْدَ مَقْتَلِ عُمَرَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، قَالَ: وَيُقَالُ: كَانَ فَتْحُ الرَّيِّ قَبْلَ وَفَاةِ عُمَرَ بِسَنَتَيْنِ. إِلَّا أَنَّ الْوَاقِدِيَّ وَأَبَا مَعْشَرٍ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ أَذْرَبِيجَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَتَبِعَهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.
وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا فَرَغُوا مِنْ نَهَاوَنْدَ وَمَا وَقَعَ مِنَ الْحَرْبِ الْمُتَقَدَّمِ، فَتَحُوا حُلْوَانَ وَهَمَذَانَ بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ هَمَذَانَ نَقَضُوا عَهْدَهُمُ الَّذِي صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى نُعَيْمِ بْنِ مُقَرِّنٍ أَنْ يَسِيرَ

إِلَى هَمَذَانَ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَخَاهُ سُوَيْدَ بْنَ مُقَرِّنٍ، وَعَلَى مُجَنَّبَتَيْهِ رِبْعِيَّ بْنَ عَامِرٍ الطَّائِيَّ، وَمُهَلْهَلَ بْنَ زَيْدٍ الْيَمَنِيَّ. فَسَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى ثَنِيَّةِ الْعَسَلِ، ثُمَّ تَحَدَّرَ عَلَى هَمَذَانَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِهَا، وَحَاصَرَهَا فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ فَصَالَحَهُمْ وَدَخَلَهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ فِيهَا وَمَعَهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذْ تَكَاتَبَ الدَّيْلَمُ وَأَهْلُ الرَّيِّ وَأَهْلُ أَذْرَبِيجَانَ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِ نُعَيْمِ بْنِ مُقَرِّنٍ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَعَلَى الدَّيْلَمِ مَلِكُهُمْ وَاسْمُهُ مُوتَا، وَعَلَى أَهْلِ الرَّيِّ أَبُو الْفَرُّخَانِ، وَعَلَى أَهْلِ أَذْرَبِيجَانَ إِسْفَنْدِيَاذُ أَخُو رُسْتُمَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى الْتَقَوْا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: وَاجِ رُوذَ. فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَكَانَتْ وَقْعَةُ عَظِيمَةً تَعْدِلُ نَهَاوَنْدَ وَلَمْ تَكُ دُونَهَا، فَقَتَلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ جَمْعًا كَثِيرًا، وَجَمًّا غَفِيرًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَقُتِلَ مَلِكُ الدَّيْلَمِ مُوتَا وَتَمَزَّقَ شَمْلُهُمْ، وَانْهَزَمُوا بِأَجْمَعِهِمْ، بَعْدَ مَنْ قُتِلَ بِالْمَعْرَكَةِ مِنْهُمْ، فَكَانَ نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ أَوَّلَ مَنْ قَاتَلَ الدَّيْلَمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ كَانَ نُعَيْمٌ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ يُعْلِمُهُ بِاجْتِمَاعِهِمْ فَهَمَّهُ ذَلِكَ وَاغْتَمَّ لَهُ. فَلَمْ يَفْجَأْهُ إِلَّا الْبَرِيدُ بِالْبِشَارَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَأَمَرَ بِالْكِتَابِ فَقُرِئَ عَلَى النَّاسِ، فَفَرِحُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ بِالْأَخْمَاسِ ثَلَاثَةٌ مِنَ

الْأُمَرَاءِ؛ وَهُمْ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ - وَلَيْسَ بِأَبِي دُجَانَةَ - وَسِمَاكُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَسِمَاكُ بْنُ مَخْرَمَةَ. فَلَمَّا اسْتَسْمَاهُمْ عُمَرُ، قَالَ: " اللَّهُمَّ اسْمُكْ بِهِمُ الْإِسْلَامَ، وَأَمِدَّ بِهِمُ الْإِسْلَامَ. ثُمَّ كَتَبَ إِلَى نُعَيْمِ بْنِ مُقَرِّنٍ بِأَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَى هَمَذَانَ وَيَسِيرَ إِلَى الرَّيِّ. فَامْتَثَلَ نُعَيْمٌ. وَقَدْ قَالَ نُعَيْمٌ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ:
وَلَمَّا أَتَانِي أَنَّ مُوتَا وَرَهْطَهُ بَنِي بَاسِلٍ جَرُّوا جُنُودَ الْأَعَاجِمِ نَهَضْتُ إِلَيْهِمْ بِالْجُنُودِ مُسَامِيًا
لِأَمْنَعَ مِنْهُمْ ذِمَّتِي بِالْقَوَاصِمِ فَجِئْنَا إِلَيْهِمْ بِالْحَدِيدِ كَأَنَّنَا
جِبَالٌ تَرَاءَى مِنْ فُرُوعِ الْقَلَاسِمِ فَلَمَّا لَقِينَاهُمْ بِهَا مُسْتَفِيضَةً
وَقَدْ جَعَلُوا يَسْمَوْنَ فِعْلَ الْمُسَاهِمِ صَدَمْنَاهُمُ فِي وَاجِ رَوْذَ بِجَمْعِنَا
غَدَاةَ رَمَيْنَاهُمْ بِإِحْدَى الْعَظَائِمِ فَمَا صَبَرُوا فِي حَوْمَةِ الْمَوْتِ سَاعَةً
لِحَدِّ الرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ الصَّوَارِمِ كَأَنَّهُمْ عِنْدَ انْبِثَاثِ جُمُوعِهِمْ
جِدَارٌ تَشَظَّى لَبِنُهُ لِلْهَوَادِمِ أَصَبْنَا بِهَا مُوتَا وَمَنْ لَفَّ جَمْعَهُ
وَفِيهَا نِهَابٌ قَسْمُهُ غَيْرُ عَاتِمِ تَبِعْنَاهُمُ حَتَّى أَوَوْا فِي شِعَابِهِمْ
فَنَقْتُلُهُمْ قَتْلَ الْكِلَابِ الْجَوَاحِمِ كَأَنَّهُمْ فِي وَاجِ رَوْذَ وَجَوِّهِ
ضَئِينٌ أَصَابَتْهَا فُرُوجُ الْمَخَارِمِ

فَتْحُ الرَّيِّ
اسْتَخْلَفَ نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ عَلَى هَمَذَانَ يَزِيدَ بْنَ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيَّ، وَسَارَ بِالْجُيُوشِ حَتَّى لَحِقَ بِالرَّيِّ فَلَقِيَ هُنَاكَ جَمْعًا كَثِيرًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَظِيمًا، فَاقْتَتَلُوا عِنْدَ سَفْحِ جَبَلِ الرَّيِّ، فَصَبَرُوا صَبْرًا عَظِيمًا، ثُمَّ انْهَزَمُوا فَقَتَلَ مِنْهُمْ نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً بِحَيْثُ عُدُّوا بِالْقَصَبِ فِيهَا، وَغَنِمُوا مِنْهُمْ غَنِيمَةً عَظِيمَةً قَرِيبًا مِمَّا غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمَدَائِنِ. وَصَالَحَهُ أَبُو الْفَرُّخَانِ عَلَى الرَّيِّ، وَكَتَبَ لَهُ أَمَانًا بِذَلِكَ، ثُمَّ كَتَبَ نُعَيْمٌ إِلَى عُمَرَ بِالْفَتْحِ ثُمَّ بِالْأَخْمَاسِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

فَتْحُ قَوْمِسَ
وَلَمَّا وَرَدَ الْبَشِيرُ بِفَتْحِ الرَّيِّ وَأَخْمَاسِهَا، كَتَبَ عُمَرُ إِلَى نُعَيْمِ بْنِ مُقَرِّنٍ أَنْ يَبْعَثَ أَخَاهُ سُوَيْدَ بْنَ مُقَرِّنٍ إِلَى قَوْمِسَ، فَسَارَ إِلَيْهَا سُوَيْدٌ، فَلَمْ يَقُمْ لَهُ شَيْءٌ حَتَّى أَخَذَهَا سِلْمًا، وَعَسْكَرَ بِهَا وَكَتَبَ لِأَهْلِهَا كِتَابَ أَمَانٍ وَصُلْحٍ.

فَتْحُ جُرْجَانَ
لَمَّا عَسْكَرَ سُوَيْدٌ بِقُومِسَ بَعَثَ إِلَيْهِ أَهْلُ بُلْدَانٍ شَتَّى؛ مِنْهَا جُرْجَانُ وَطَبَرِسْتَانُ

وَغَيْرُهَا يَسْأَلُونَهُ الصُّلْحَ عَلَى الْجِزْيَةِ، فَصَالَحَ الْجَمِيعَ وَكَتَبَ لِأَهْلِ كُلِّ بَلْدَةٍ كِتَابَ أَمَانٍ وَصُلْحٍ. وَحَكَى الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ جُرْجَانَ فُتِحَتْ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ، أَيَّامَ عُثْمَانَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَهَذَا فَتْحُ أَذْرَبِيجَانَ
لَمَّا افْتَتَحَ نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ هَمَذَانَ ثُمَّ الرَّيَّ، وَكَانَ قَدْ بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ بُكَيْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ هَمَذَانَ إِلَى أَذْرَبِيجَانَ، وَأَرْدَفَهُ بِسِمَاكِ بْنِ خَرَشَةَ، فَلَقِيَ إِسْفَنْدِيَاذُ بْنُ الْفَرُّخْزَاذِ بُكَيْرًا وَأَصْحَابَهُ، قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِمْ سِمَاكٌ، فَاقْتَتَلُوا فَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَسَرَ بُكَيْرٌ إِسْفَنْدِيَاذَ، فَقَالَ لَهُ إِسْفَنْدِيَاذُ: الصُّلْحُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ الْحَرْبُ ؟ فَقَالَ: بَلِ الصُّلْحُ. قَالَ: فَأَمْسِكْنِي عِنْدَكَ. فَأَمْسَكَهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَفْتَحُ بَلَدًا بَلَدًا، وَعُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدٍ أَيْضًا يَفْتَحُ مَعَهُ بَلَدًا بَلَدًا فِي مُقَابَلَتِهِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ. ثُمَّ جَاءَ كِتَابُ عُمَرَ، بِأَنْ يَتَقَدَّمَ بُكَيْرٌ إِلَى الْبَابِ، وَجَعْلِ سِمَاكٍ مَوْضِعَهُ نَائِبًا لِعُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ. وَجَمَعَ عُمَرُ أَذْرَبِيجَانَ كُلَّهَا لِعُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ بُكَيْرٌ إِسْفَنْدِيَاذَ، وَصَارَ كَمَا أَمَرَهُ عُمَرُ إِلَى الْبَابِ. قَالُوا: وَقَدْ كَانَ اعْتَرَضَ بَهْرَامُ بْنُ فَرُّخْزَاذَ لِعُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ، فَهَزَمَهُ عُتْبَةُ وَهَرَبَ بَهْرَامُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ إِسْفَنْدِيَاذَ وَهُوَ فِي الْأَسْرِ عِنْدَ بُكَيْرٍ قَالَ: الْآنَ تَمَّ الصُّلْحُ وَطَفِئَتِ الْحَرْبُ. فَصَالَحَهُ فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ كُلُّهُمْ، وَعَادَتْ أَذْرَبِيجَانُ سِلْمًا، وَكَتَبَ بِذَلِكَ عُتْبَةُ وَبُكَيْرٌ إِلَى عُمَرَ، وَبَعَثُوا بِالْأَخْمَاسِ

إِلَيْهِ، وَكَتَبَ عُتْبَةُ - حِينَ انْتَهَتْ إِلَيْهِ إِمْرَةُ أَذْرَبِيجَانَ - لِأَهْلِهَا كِتَابَ أَمَانٍ وَصُلْحٍ.

فَتْحُ الْبَابِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَزَعَمَ سَيْفٌ أَنَّهُ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ؛ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كِتَابًا بِالْإِمْرَةِ عَلَى هَذِهِ الْغَزْوَةِ لِسُرَاقَةَ بْنِ عَمْرٍو - الْمُلَقَّبِ بِذِي النُّورِ - وَجَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيُقَالُ لَهُ: ذُو النُّورِ أَيْضًا. وَجَعَلَ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنَّبَتَيْنِ حُذَيْفَةَ بْنَ أُسَيْدٍ، وَعَلَى الْأُخْرَى بُكَيْرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ اللِّيثِيَّ - وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَهُمْ إِلَى الْبَابِ - وَعَلَى الْمَقَاسِمِ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ. فَسَارُوا كَمَا أَمَرَهُمْ عُمَرُ، وَعَلَى تَعْبِئَتِهِ، فَلَمَّا انْتَهَى مُقَدَّمُ الْعَسَاكِرِ - وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ - إِلَى الْمَلِكِ الَّذِي هُنَاكَ عِنْدَ الْبَابِ وَهُوَ شَهْرَبْرَازُ مَلِكُ أَرْمِينِيَّةَ وَهُوَ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ الَّذِي قَتَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَزَا الشَّامَ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ، فَكَتَبَ شَهْرَبْرَازُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَاسْتَأْمَنَهُ، فَأَمَّنَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ الْمَلِكُ، فَأَنْهَى إِلَيْهِ أَنَّ صَغْوَهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ مُنَاصِحٌ لِلْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ لَهُ: إِنَّ فَوْقِيَ رَجُلًا

فَاذْهَبْ إِلَيْهِ. فَبَعَثَهُ إِلَى سُرَاقَةَ بْنِ عَمْرٍو أَمِيرِ الْجَيْشِ، فَسَأَلَ مِنْ سُرَاقَةَ الْأَمَانَ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ، فَأَجَازَ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْأَمَانِ، وَاسْتَحْسَنَهُ، فَكَتَبَ لَهُ سُرَاقَةُ كِتَابًا بِذَلِكَ. ثُمَّ بَعَثَ سُرَاقَةُ بُكَيْرًا، وَحَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَحُذَيْفَةَ بْنَ أُسَيْدٍ، وَسَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ، إِلَى أَهْلِ تِلْكَ الْجِبَالِ الْمُحِيطَةِ بِأَرْمِينِيَةَ جِبَالِ اللَّانِ وَتَفْلِيسَ وَمُوقَانَ، فَافْتَتَحَ بُكَيْرٌ مُوقَانَ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابَ أَمَانٍ، وَمَاتَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ هُنَالِكَ، وَهُوَ سُرَاقَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَاسْتَخْلَفَ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ رَبِيعَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ ذَلِكَ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَمَرَهُ بِغَزْوِ التُّرْكِ.

أَوَّلُ غَزْوِ التُّرْكِ
وَهُوَ تَصْدِيقُ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمُ الثَّابِتِ فِي " الصَّحِيحِ "، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعُمَرَ بْنِ تَغْلِبَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا عِرَاضَ الْوُجُوهِ، ذُلْفَ الْأُنُوفِ، حُمْرَ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ وَفِي رِوَايَةٍ يَنْتَعِلُونَ الشَّعْرَ.
لَمَّا جَاءَ كِتَابُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَبِيعَةَ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَغْزُوَ التُّرْكَ، سَارَ حَتَّى قَطَعَ الْبَابَ قَاصِدًا لِمَا أَمَرَهُ عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ شَهْرَبْرَازُ: أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ: أُرِيدُ مَلِكَ التُّرْكِ بَلَنْجَرَ. فَقَالَ لَهُ شَهْرَبْرَازُ: إِنَّا لَنَرْضَى مِنْهُمْ بِالْمُوَادَعَةِ، وَنَحْنُ مِنْ وَرَاءِ

الْبَابِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولًا، وَوَعَدَنَا عَلَى لِسَانِهِ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَنَحْنُ لَا نَزَالُ مَنْصُورِينَ. فَقَاتَلَ التُّرْكَ وَسَارَ فِي بِلَادِ بَلَنْجَرَ مِائَتَيْ فَرْسَخٍ، وَغَزَا مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً. ثُمَّ كَانَتْ لَهُ وَقَائِعُ هَائِلَةٌ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، كَمَا سَنُورِدُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنِ الْغُصْنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ بِلَادَهُمْ حَالَ اللَّهُ بَيْنَ التُّرْكِ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَقَالُوا: مَا اجْتَرَأَ عَلَيْنَا هَذَا الرَّجُلُ إِلَّا وَمَعَهُمُ الْمَلَائِكَةُ تَمْنَعُهُمْ مِنَ الْمَوْتِ. فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ وَهَرَبُوا بِالْغُنْمِ وَالظَّفَرِ. ثُمَّ إِنَّهُ غَزَاهُمْ غَزَوَاتٍ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ فَظَفِرَ بِهِمْ، كَمَا كَانَ يَظْفَرُ بِغَيْرِهِمْ. فَلَمَّا وَلَّى عُثْمَانُ عَلَى الْكُوفَةِ بَعْضَ مَنْ كَانَ ارْتَدَّ، غَزَاهُمْ فَتَذَامَرَتِ التُّرْكُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ. وَقَالَ: انْظُرُوا. وَفَعَلُوا فَاخْتَفَوْا لَهُمْ فِي الْغِيَاضِ، فَرَمَى رَجُلٌ مِنْهُمْ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى غِرَّةٍ، فَقَتَلَهُ وَهَرَبَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، فَخَرَجُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى عَرَفُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَمُوتُونَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَنَادَى

مُنَادٍ مِنَ الْجَوِّ: صَبْرًا آلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَوْعِدُكُمُ الْجَنَّةُ. فَقَاتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَتَّى قُتِلَ وَانْكَشَفَ النَّاسُ، وَأَخَذَ الرَّايَةَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ فَقَاتَلَ بِهَا، وَنَادَى الْمُنَادِي مِنَ الْجَوِّ: صَبْرًا آلَ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ. فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ تَحَيَّزَ سَلْمَانُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَفَرُّوا مِنْ كَثْرَةِ التُّرْكِ وَرَمْيِهِمُ الشَّدِيدِ السَّدِيدِ عَلَى جِيلَانَ فَقَطَعُوهَا إِلَى جُرْجَانَ وَاجْتَرَأَتِ التُّرْكُ بَعْدَهَا، وَمَعَ هَذَا أَخَذَتِ التُّرْكُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ رَبِيعَةَ فَدَفَنُوهُ فِي بِلَادِهِمْ، فَهُمْ يَسْتَسْقُونَ بِقَبْرِهِ إِلَى الْيَوْمِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ.

قِصَّةُ السَّدِّ
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ أَنَّ شَهْرَبْرَازَ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَبِيعَةَ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ حِينَ وَصَلَ إِلَى الْبَابِ، وَأَرَاهُ رَجُلًا فَقَالَ شَهْرَبْرَازُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ كُنْتُ بَعَثْتُهُ نَحْوَ السَّدِّ، وَزَوَّدْتُهُ مَالًا جَزِيلًا، وَكَتَبْتُ لَهُ إِلَى الْمُلُوكِ الَّذِينَ يَلُونِي، وَبَعَثْتُ لَهُمْ هَدَايَا، وَسَأَلْتُ مِنْهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا لَهُ إِلَى مَنْ يَلِيهِمْ مِنَ الْمُلُوكِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى سَدِّ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَيَنْظُرَ إِلَيْهِ وَيَأْتِيَنَا بِخَبَرِهِ. فَسَارَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمَلِكِ الَّذِي السَّدُّ فِي أَرْضِهِ، فَبَعَثَهُ إِلَى عَامِلِهِ مِمَّا يَلِي السَّدَّ، فَبَعَثَ مَعَهُ بَازْيَارِهْ وَمَعَهُ عُقَابُهُ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى السَّدِّ إِذَا جَبَلَانِ بَيْنَهُمَا سَدٌّ مَسْدُودٌ، حَتَّى ارْتَفَعَ عَلَى الْجَبَلَيْنِ، وَإِذَا دُونَ السَّدِّ خَنْدَقٌ أَشَدُّ سَوَادًا مِنَ اللَّيْلِ لِبُعْدِهِ، فَنَظَرَ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ وَتَفَرَّسَ فِيهِ، ثُمَّ

لَمَّا هَمَّ بِالِانْصِرَافِ قَالَ لَهُ الْبَازْيَارِ: عَلَى رِسْلِكَ. ثُمَّ شَرَحَ بَضْعَةَ لَحْمٍ مَعَهُ فَأَلْقَاهَا فِي ذَلِكَ الْوَادِي، وَانْقَضَّ عَلَيْهَا الْعُقَابُ. فَقَالَ: إِنْ أَدْرَكَهَا فِي الْهَوَاءِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فَلَا شَيْءَ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهَا حَتَّى تَقَعَ، فَذَلِكَ شَيْءٌ. قَالَ: فَلَمْ يُدْرِكْهَا حَتَّى وَقَعَتْ فِي أَسْفَلِهِ وَأَتْبَعَهَا الْعُقَابُ فَأَخْرَجَهَا، فَإِذَا فِيهَا يَاقُوتَةٌ، وَهِيَ هَذِهِ. ثُمَّ نَاوَلَهَا الْمَلِكُ شَهْرَبْرَازُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ رَدَّهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَدَّهَا إِلَيْهِ فَرِحَ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَهَذِهِ خَيْرٌ مِنْ مَمْلَكَةِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ - يَعْنِي مَدِينَةَ بَابِ الْأَبْوَابِ الَّتِي هُوَ فِيهَا - وَوَاللَّهِ لَأَنْتُمْ أَحَبُّ إِلَيَّ مِلْكَةً مِنْ آلِ كِسْرَى، وَلَوْ كُنْتُ فِي سُلْطَانِهِمْ ثُمَّ بَلَغَهُمْ خَبَرُهَا لَانْتَزَعُوهَا مِنِّي، وَايْمُ اللَّهِ لَا يَقُومُ لَكُمْ شَيْءٌ مَا وَفَّيْتُمْ وَوَفَّى مَلِكُكُمُ الْأَكْبَرُ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ عَلَى الرَّسُولِ الَّذِي ذَهَبَ عَلَى السَّدِّ فَقَالَ: مَا حَالُ هَذَا الرَّدْمِ ؟ يَعْنِي: مَا صِفَتُهُ ؟ - فَأَشَارَ إِلَى ثَوْبٍ فِي زُرْقَةٍ وَحُمْرَةٍ؛ فَقَالَ: مِثْلُ هَذَا. فَقَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: صَدَقَ وَاللَّهِ؛ لَقَدْ نَفَذَ وَرَأَى. فَقَالَ: أَجَلْ، وَصَفَ صِفَةَ الْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا. [ الْكَهْفِ: 96 ] وَقَدْ ذَكَرْتُ صِفَةَ السَّدِّ فِي " التَّفْسِيرِ "، وَفِي

أَوَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " تَعْلِيقًا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَأَيْتُ السَّدَّ. فَقَالَ: " كَيْفَ رَأَيْتَهُ ؟ " قَالَ: مِثْلَ الْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ. فَقَالَ: " رَأَيْتَهُ ".
قَالُوا: ثُمَّ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ لِشَهْرَبْرَازَ: كَمْ كَانَتْ هَدِيَّتُكَ ؟ قَالَ: قِيمَةَ مِائَةِ أَلْفٍ فِي بِلَادِي، وَثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفٍ فِي تِلْكَ الْبُلْدَانِ.

بَقِيَّةٌ مِنْ خَبَرِ السَّدِّ
أَوْرَدَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ الْحَافِظُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ كِتَابِ " مَسَالِكِ الْمَمَالِكِ "، عَمَّا أَمْلَاهُ عَلَيْهِ سَلَّامٌ التُّرْجُمَانُ، حِينَ بَعَثَهُ الْوَاثِقُ بِأَمْرِ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَصِمِ - وَكَانَ قَدْ رَأَى فِي النَّوْمِ كَأَنَّ السَّدَّ قَدْ فُتِحَ - فَأَرْسَلَ سَلَّامًا هَذَا وَكَتَبَ لَهُ إِلَى الْمُلُوكِ بِالْوَصَاةِ بِهِ، وَبَعَثَ مَعَهُ أَلْفَيْ بَغْلٍ تَحْمِلُ طَعَامًا، فَسَارُوا مِنْ سَامَرَّاءَ إِلَى إِسْحَاقَ بِتَفْلِيسَ، فَكَتَبَ لَهُمْ إِلَى صَاحِبِ السَّرِيرِ، وَكَتَبَ لَهُمْ صَاحِبُ السَّرِيرِ إِلَى مَلِكِ اللَّانِ، فَكَتَبَ لَهُمْ إِلَى

فِيلَانْشَاهْ، فَكَتَبَ لَهُمْ إِلَى مَلِكِ الْخَزَرِ، فَوَجَّهَ مَعَهُ خَمْسَةَ أَدِلَّاءَ فَسَارُوا سِتَّةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، فَانْتَهَوْا إِلَى أَرْضٍ سَوْدَاءَ مُنْتِنَةٍ حَتَّى جَعَلُوا يَشُمُّونَ الْخَلَّ، فَسَارُوا فِيهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَانْتَهَوْا إِلَى مَدَائِنَ خَرَابٍ مُدَّةَ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ تَطْرُقُهَا فَخَرِبَتْ مِنْ ذَلِكَ الْحِينِ وَإِلَى الْآنِ، ثُمَّ انْتَهَوْا إِلَى حِصْنٍ قَرِيبٍ مِنَ السَّدِّ فَوَجَدُوا قَوْمًا يَعْرِفُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَبِالْفَارِسِيَّةِ وَيَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ، وَلَهُمْ مَكَاتِبُ وَمَسَاجِدُ، فَجَعَلُوا يَعْجَبُونَ مِنْهُمْ وَيَسْأَلُونَهُمْ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلُوا ؟ فَذَكَرُوا لَهُمْ أَنَّهُمْ مِنْ جِهَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمْ يَعْرِفُوهُ بِالْكُلِّيَّةِ. ثُمَّ انْتَهَوْا إِلَى جَبَلٍ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْهِ خَضْرَاءُ وَإِذَا السَّدُّ هُنَالِكَ مِنْ لَبِنٍ حَدِيدٍ مُغَيَّبٍ فِي نُحَاسٍ، وَهُوَ مُرْتَفِعٌ جِدًّا لَا يَكَادُ الْبَصَرُ يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَلَهُ شُرُفَاتٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَفِي وَسَطِهِ بَابٌ عَظِيمٌ بِمِصْرَاعَيْنِ مُغْلَقَيْنِ، عَرْضُهُمَا مِائَةُ ذِرَاعٍ، فِي طُولِ مِائَةِ ذِرَاعٍ، فِي ثَخَانَةِ خَمْسَةِ أَذْرُعٍ، وَعَلَيْهِ قُفْلٌ طُولُهُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ فِي غِلَظِ بَاعٍ - وَذَكَرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً - وَعِنْدَ ذَلِكَ الْمَكَانِ حَرَسٌ يَضْرِبُونَ عِنْدَ الْقُفْلِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَيَسْمَعُونَ بَعْدَ ذَلِكَ صَوْتًا عَظِيمًا مُزْعِجًا؛ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ وَرَاءَ هَذَا الْبَابِ حَرَسًا وَحَفَظَةً، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ حِصْنَانِ عَظِيمَانِ بَيْنَهُمَا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبَةٍ، وَفِي

إِحْدَاهُمَا بَقَايَا الْعِمَارَةِ مِنْ مَغَارِفَ وَلَبِنٍ وَحَدِيدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِذَا طُولُ اللَّبِنَةِ ذِرَاعٌ وَنِصْفٌ فِي مِثْلِهِ، فِي سُمْكِ شِبْرٍ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ سَأَلُوا أَهْلَ تِلْكَ الْبِلَادِ هَلْ رَأَوْا أَحَدًا مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ؟ فَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهُمْ رَأَوْا مِنْهُمْ يَوْمًا أَشْخَاصًا فَوْقَ الشُّرُفَاتِ، فَهَبَّتِ الرِّيحُ فَأَلْقَتْهُمْ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا طُولُ الرَّجُلِ مِنْهُمْ شِبْرٌ وَنِصْفُ شِبْرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُعَاوِيَةُ الصَّائِفَةَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَارَ وَغَنِمَ وَرَجَعَ سَالِمًا.
وَفِيهَا وُلِدَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ. وَفِيهَا حَجٌّ بِالنَّاسِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَكَانَ عُمَّالُهُ فِيهَا عَلَى الْبِلَادِ، هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي السَّنَةِ قَبْلَهَا.
وَذُكِرَ أَنَّ عُمَرَ عَزَلَ عَمَّارًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنِ الْكُوفَةِ؛ اشْتَكَاهُ أَهْلُهَا وَقَالُوا: لَا يُحْسِنُ السِّيَاسَةَ. فَعَزَلَهُ وَوَلَّى أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، فَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ لَا نُرِيدُهُ. وَشَكَوْا مِنْ غُلَامِهِ. فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِي. وَذَهَبَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ لِيُفَكِّرَ مَنْ يُوَلِّي. فَنَامَ مِنَ الْهَمِّ فَجَاءَهُ الْمُغِيرَةُ فَجَعَلَ يَحْرُسُهُ حَتَّى اسْتَيْقَظَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ عَظِيمٌ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِي بَلَغَ بِكَ هَذَا. قَالَ: وَكَيْفَ لَا وَأَهْلُ الْكُوفَةِ مِائَةُ أَلْفٍ لَا يَرْضَوْنَ عَنْ أَمِيرٍ، وَلَا يَرْضَى عَنْهُمْ أَمِيرٌ. ثُمَّ جَمَعَ الصَّحَابَةَ وَاسْتَشَارَهُمْ ; هَلْ يُوَلِّي عَلَيْهِمْ قَوِيًّا مُشَدِّدًا أَوْ ضَعِيفًا مُسْلِمًا ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْقَوِيَّ قُوَّتُهُ لَكَ وَلِلْمُسْلِمِينَ،

وَتَشْدِيدُهُ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا الضَّعِيفُ الْمُسْلِمُ فَضَعْفُهُ عَلَيْكَ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِسْلَامُهُ لِنَفْسِهِ. فَقَالَ عُمَرُ لِلْمُغِيرَةِ - وَاسْتَحْسَنَ مَا قَالَ لَهُ -: اذْهَبْ فَقَدْ وَلَّيْتُكَ الْكُوفَةَ. فَرَدَّهُ إِلَيْهَا بَعْدَ مَا كَانَ عَزَلَهُ عَنْهَا بِسَبَبِ مَا كَانَ شَهِدَ عَلَيْهِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ حَدُّهُمْ بِسَبَبِ قَذْفِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. وَبَعَثَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَقِيلَ لِعَمَّارٍ: أَسَاءَكَ الْعَزْلُ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَرَّتْنِي الْوِلَايَةُ، وَلَقَدْ سَاءَنِي الْعَزْلُ. وَفِي رِوَايَةٍ، أَنَّ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ثُمَّ أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَبْعَثَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى الْكُوفَةِ بَدَلَ الْمُغِيرَةِ فَعَالَجَتْهُ الْمَنِيَّةُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَلِهَذَا أَوْصَى لِسَعْدٍ بِهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ بِلَادَ خُرَاسَانَ وَقَصَدَ الْبَلَدَ الَّذِي فِيهِ يَزْدَجِرْدُ مَلِكُ الْفُرْسِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَزَعَمَ سَيْفٌ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ. قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قِصَّةُ يَزْدَجِرْدَ بْنِ شَهْرِيَارَ بْنِ كِسْرَى
الَّذِي كَانَ مَلِكَ الْفُرْسِ لَمَّا اسْتَلَبَ سَعْدٌ مِنْ يَدَيْهِ مَدِينَةَ مُلْكِهِ، وَدَارَ

مَقَرِّهِ، وَإِيوَانَ سُلْطَانِهِ، وَبِسَاطَ مَشُورَتِهِ وَحَوَاصِلِهِ، تَحَوَّلَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى حُلْوَانَ ثُمَّ جَاءَ الْمُسْلِمُونَ لِيُحَاصِرُوا حُلْوَانَ فَتَحَوَّلَ إِلَى الرَّيِّ وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ حُلْوَانَ، ثُمَّ أُخِذَتِ الرَّيُّ، فَتَحَوَّلَ مِنْهَا إِلَى أَصْبَهَانَ، فَأُخِذَتْ أَصْبَهَانُ، فَسَارَ إِلَى كِرْمَانَ، فَقَصَدَ الْمُسْلِمُونَ كِرْمَانَ فَافْتَتَحُوهَا، فَانْتَقَلَ إِلَى خُرَاسَانَ فَنَزَلَهَا. هَذَا كُلُّهُ، وَالنَّارُ الَّتِي يَعْبُدُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ يَسِيرُ بِهَا مَعَهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَيُبْنَى لَهَا فِي كُلِّ بَلَدٍ بَيْتٌ تُوقَدُ فِيهِ عَلَى عَادَتِهِمْ، وَهُوَ يُحْمَلُ فِي اللَّيْلِ فِي مَسِيرِهِ إِلَى هَذِهِ الْبُلْدَانُ عَلَى بَعِيرٍ عَلَيْهِ هَوْدَجٌ يَنَامُ فِيهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي هَوْدَجِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِيهِ، إِذْ مَرُّوا بِهِ عَلَى مَخَاضَةٍ فَأَرَادُوا أَنْ يُنَبِّهُوهُ قَبْلَهَا؛ لِئَلَّا يَنْزَعِجُ إِذَا اسْتَيْقَظَ فِي الْمَخَاضَةِ، فَلَمَّا أَيْقَظُوهُ تَغَضَّبَ عَلَيْهِمْ شَدِيدًا وَشَتَمَهُمْ، وَقَالَ: حَرَمْتُمُونِي أَنْ أَعْلَمَ مُدَّةَ بَقَاءِ هَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَغَيْرِهَا، إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي هَذَا أَنِّي وَمُحَمَّدًا تَنَاجَيْنَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: مُلْكُكُمْ مِائَةُ سَنَةٍ. فَقَالَ: زِدْنِي. فَقَالَ: عَشْرًا وَمِائَةً. فَقَالَ: زِدْنِي. فَقَالَ: عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ. فَقَالَ: زِدْنِي. فَقَالَ: لَكَ. وَأَنْبَهْتُمُونِي، فَلَوْ تَرَكْتُمُونِي لَعَلِمْتُ مُدَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

غَزْوُ الْمُسْلِمِينَ بِلَادَ خُرَاسَانَ مَعَ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ
وَذَلِكَ أَنَّ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى عُمَرَ بِأَنْ يَتَوَسَّعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْفُتُوحَاتِ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ، وَيُضَيِّقُوا عَلَى كِسْرَى يَزْدَجِرْدَ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِثُّ الْفُرْسَ وَالْجُنُودَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَذِنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَأْيِهِ، وَأَمَّرَ الْأَحْنَفَ، وَأَمَرَهُ بِغَزْوِ بِلَادِ خُرَاسَانَ. فَرَكِبَ الْأَحْنَفُ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى خُرَاسَانَ قَاصِدًا حَرْبَ يَزْدَجِرْدَ، فَدَخَلَ خُرَاسَانَ فَافْتَتَحَ هَرَاةَ عَنْوَةً وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا صُحَارَ بْنَ فُلَانٍ الْعَبْدِيَّ. ثُمَّ سَارَ إِلَى مَرْوِ الشَّاهِجَانِ وَفِيهَا يَزْدَجِرْدُ، وَبَعَثَ الْأَحْنَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ إِلَى نَيْسَابُورَ، وَالْحَارِثَ بْنَ حَسَّانَ إِلَى سَرْخَسَ، وَلَمَّا اقْتَرَبَ الْأَحْنَفُ مِنْ مَرْوِ الشَّاهِجَانِ، تَرَحَّلَ مِنْهَا يَزْدَجِرْدُ إِلَى مَرْوِ الرُّوذِ، فَافْتَتَحَ الْأَحْنَفُ مَرْوَ الشَّاهِجَانِ فَنَزَلَهَا، وَكَتَبَ يَزْدَجِرْدُ حِينَ نَزَلَ مَرْوَ الرُّوذِ إِلَى خَاقَانَ مَلِكِ التُّرْكِ يَسْتَمِدُّهُ، وَكَتَبَ إِلَى مَلِكِ الصُّغْدِ يَسْتَمِدُّهُ، وَكَتَبَ إِلَى مَلِكِ الصِّينِ يَسْتَعِينُهُ. وَقَصَدَهُ الْأَحْنَفُ بْنُ

قَيْسٍ إِلَى مَرْوِ الرُّوذِ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى مَرْوِ الشَّاهِجَانِ حَارِثَةَ بْنَ النُّعْمَانِ، وَقَدْ وَفَدَتْ إِلَى الْأَحْنَفِ أَمْدَادٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَعَ أَرْبَعَةِ أُمَرَاءَ. فَلَمَّا بَلَغَ مَسِيرَهُ إِلَى يَزْدَجِرْدَ، تَرَحَّلَ إِلَى بَلْخَ وَجَاءَ الْأَحْنَفُ، فَافْتَتَحَ مَرْوَ الرُّوذِ، ثُمَّ سَارَ وَرَاءَ يَزْدَجِرْدَ إِلَى بَلْخَ فَالْتَقَى مَعَهُ بِبَلْخَ يَزْدَجِرْدُ، فَهَزَمَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَهَرَبَ هُوَ وَمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْ جَيْشِهِ، فَعَبَرَ النَّهْرَ.
وَاسْتَوْثَقَ مُلْكُ خُرَاسَانَ عَلَى يَدَيِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، وَاسْتَخْلَفَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ أَمِيرًا، وَرَجَعَ الْأَحْنَفُ فَنَزَلَ مَرْوَ الرُّوذِ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ بِكَمَالِهَا، فَقَالَ عُمَرُ: وَدِدْتُ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خُرَاسَانَ بَحْرٌ مِنْ نَارٍ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَلِمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَهْلَهَا سَيَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَيَجْتَاحُونَ فِي الثَّالِثَةِ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَأَنْ يَكُونُ ذَلِكَ بِأَهْلِهَا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ.
وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى الْأَحْنَفِ يَنْهَاهُ عَنِ الْعُبُورِ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَقَالَ: احْفَظْ مَا بِيَدِكَ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ. وَلَمَّا وَصَلَ رَسُولَا يَزْدَجِرْدَ إِلَى اللَّذَيْنِ اسْتَنْجَدَ بِهِمَا لَمْ يَحْتَفِلَا بِأَمْرِهِ، فَلَمَّا عَبَرَ يَزْدَجِرْدُ النَّهْرَ، وَدَخَلَ فِي بِلَادِهِمَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِمَا إِنْجَادُهُ

فِي شَرْعِ الْمُلُوكِ، فَسَارَ مَعَهُ خَاقَانُ الْأَعْظَمُ مَلِكُ التُّرْكِ، وَرَجَعَ يَزْدَجِرْدُ بِجُنُودٍ عَظِيمَةٍ فِيهِمْ مَلِكُ التَّتَارِ خَاقَانُ، فَوَصَلَ إِلَى بَلْخَ وَاسْتَرْجَعَهَا، وَفَرَّ عُمَّالُ الْأَحْنَفِ إِلَيْهِ إِلَى مَرْوِ الرُّوذِ، وَخَرَجَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ بَلْخَ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْأَحْنَفِ بِمَرْوِ الرُّوذِ، فَبَرَزَ الْأَحْنَفُ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأَهْلِ الْكُوفَةِ، وَالْجَمِيعُ عِشْرُونَ أَلْفًا، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِآخَرَ: إِنْ كَانَ الْأَمِيرُ ذَا رَأْيٍ، فَإِنَّهُ يَقِفُ دُونَ هَذَا الْجَبَلِ، فَيَجْعَلُهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَيُبْقِي هَذَا النَّهْرَ خَنْدَقًا حَوْلَهُ ; فَلَا يَأْتِيهِ الْعَدُوُّ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَحْنَفُ، أَمَرَ الْمُسْلِمِينَ فَوَقَفُوا فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ بِعَيْنِهِ، وَكَانَ أَمَارَةَ النَّصْرِ وَالرُّشْدِ، وَجَاءَتِ الْأَتْرَاكُ وَالْفُرْسُ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ هَائِلٍ مُزْعِجٍ، فَقَامَ الْأَحْنَفُ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّكُمْ قَلِيلٌ وَعَدُّوكُمْ كَثِيرٌ، فَلَا يَهُولَنَّكُمْ، فَ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [ الْبَقَرَةِ: 249 ]. فَكَانَتِ التُّرْكُ يُقَاتِلُونَ بِالنَّهَارِ، وَلَا يَدْرِي الْأَحْنَفُ أَيْنَ يَذْهَبُونَ فِي اللَّيْلِ. فَسَارَ لَيْلَةً مَعَ طَلِيعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوَ جَيْشِ خَاقَانَ، فَلَمَّا كَانَ قَرِيبَ الصُّبْحِ، خَرَجَ فَارِسٌ مِنَ التُّرْكِ طَلِيعَةً، وَعَلَيْهِ طَوْقٌ، وَضَرَبَ بِطَبْلِهِ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْأَحْنَفُ فَاخْتَلَفَا طَعْنَتَيْنِ فَطَعَنَهُ الْأَحْنَفُ فَقَتَلَهُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ:
إِنَّ عَلَى كُلِّ رَئِيسٍ حَقًّا أَنْ يَخْضِبَ الصَّعْدَةَ أَوْ يَنْدَقَّا إِنَّ لَنَا شَيْخًا بِهَا مُلَقَّى
سَيْفَ أَبِي حَفْصِ الَّذِي تَبَقَّى
قَالَ: ثُمَّ اسْتَلَبَ التُّرْكِيَّ طَوْقَهُ وَوَقَفَ مَوْضِعَهُ، فَخَرَجَ آخَرُ عَلَيْهِ طَوْقٌ وَمَعَهُ

طَبْلٌ، فَجَعَلَ يَضْرِبُ بِطَبْلِهِ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْأَحْنَفُ فَقَتَلَهُ أَيْضًا، وَاسْتَلَبَهُ طَوْقَهُ وَوَقَفَ مَوْضِعَهُ، فَخَرَجَ ثَالِثٌ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ طَوْقَهُ ثُمَّ أَسْرَعَ الْأَحْنَفُ الرُّجُوعَ إِلَى جَيْشِهِ وَلَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ التُّرْكِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ مَبِيتِهِمْ، حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثَةٌ مِنْ كَهَوْلِهِمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؛ يَضْرِبُ الْأَوَّلُ بِطَبْلِهِ، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ بَعْدَ الثَّالِثِ، فَلَمَّا خَرَجَتِ التُّرْكُ لَيْلَتَئِذٍ بَعْدَ الثَّالِثِ، فَأَتَوْا عَلَى فُرْسَانِهِمْ مُقَتَّلِينَ، تَشَاءَمَ بِذَلِكَ الْمَلِكُ خَاقَانُ وَتَطَيَّرَ، وَقَالَ لِعَسْكَرِهِ: قَدْ طَالَ مَقَامُنَا، وَقَدْ أُصِيبَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ بِمَكَانٍ لَمْ نُصَبْ بِمِثْلِهِ، مَا لَنَا فِي قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنْ خَيْرٍ، فَانْصَرِفُوا بِنَا. فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَانْتَظَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ؛ لِيَخْرُجُوا إِلَيْهِمْ مِنْ شِعْبِهِمْ، فَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا مِنْهُمْ، ثُمَّ بَلَغَهُمُ انْصِرَافُهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ رَاجِعِينَ عَنْهُمْ. وَقَدْ كَانَ يَزْدَجِرْدُ - وَخَاقَانُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ وَمُقَاتِلَتِهِ - ذَهَبَ إِلَى مَرْوِ الشَّاهِجَانِ فَحَاصَرَ حَارِثَةَ بْنَ النُّعْمَانِ بِهَا وَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا خِزَانَتَهُ الَّتِي كَانَ دَفَنَهَا بِهَا، ثُمَّ رَجَعَ وَانْتَظَرَهُ خَاقَانُ بِبَلْخَ حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ الْمُسْلِمُونَ لِلْأَحْنَفِ: مَا تَرَى فِي اتِّبَاعِهِمْ ؟ فَقَالَ: أَقِيمُوا بِمَكَانِكُمْ وَدَعُوهُمْ. وَقَدْ أَصَابَ الْأَحْنَفُ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:اتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [ الْأَحْزَابِ: 25 ]. وَرَجَعَ كِسْرَى خَاسِرًا الصَّفْقَةَ لَمْ يُشْفَ لَهُ غَلِيلٌ، وَلَا حَصَلَ عَلَى خَيْرٍ، وَلَا انْتَصَرَ كَمَا كَانَ فِي

زَعْمِهِ، بَلْ تَخَلَّى عَنْهُ مَنْ كَانَ يَرْجُو النَّصْرَ مِنْهُ، وَتَنَحَّى عَنْهُ وَتَبَرَّأَ مِنْهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ، وَبَقِيَ مُذَبْذَبًا لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا. وَتَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ مَاذَا يَصْنَعُ ؟ وَإِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ ؟ وَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أُولِي النُّهَى مِنْ قَوْمِهِ حِينَ قَالَ: قَدْ عَزَمْتُ أَنْ أَذْهَبَ إِلَى بِلَادِ الصِّينِ أَوْ أَكُونَ مَعَ خَاقَانَ فِي بِلَادِهِ. فَقَالُوا: إِنَّا نَرَى أَنْ نُصَانِعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَدِينًا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، فَنَكُونَ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْبِلَادِ وَهُمْ مُجَاوَرِينَا، فَهُمْ خَيْرٌ لَنَا مِنْ غَيْرِهِمْ. فَأَبَى عَلَيْهِمْ كِسْرَى ذَلِكَ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى مَلِكِ الصِّينِ يَسْتَغِيثُ بِهِ وَيَسْتَنْجِدُهُ، فَجَعَلَ مَلِكُ الصِّينِ يَسْأَلُ عَنْ صِفَةِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ قَدْ فَتَحُوا الْبِلَادَ وَقَهَرُوا رِقَابَ الْعِبَادِ، فَجَعَلَ يُخْبِرُهُ عَنْ صِفَتِهِمْ، وَكَيْفَ يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، وَمَاذَا يَصْنَعُونَ، وَكَيْفَ يُصَلُّونَ. فَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى يَزْدَجِرْدَ، إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَبْعَثَ إِلَيْكَ بِجَيْشٍ أَوَّلُهُ بِمَرْوَ وَآخِرُهُ بِالصِّينِ الْجَهَالَةُ بِمَا يَحِقُّ عَلَيَّ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ وَصَفَ لِي رَسُولُكَ صِفَتَهُمْ ; لَوْ يُحَاوِلُونَ الْجِبَالَ لَهَدُّوهَا، وَلَوْ جِئْتُ لِنَصْرِكَ، أَزَالُونِي مَا دَامُوا عَلَى مَا وَصَفَ لِي رَسُولُكَ، فَسَالِمْهُمْ وَارْضَ مِنْهُمْ بِالْمُسَالَمَةِ. فَأَقَامَ كِسْرَى وَآلُ كِسْرَى فِي بَعْضِ الْبِلَادِ مَقْهُورِينَ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهُ حَتَّى قُتِلَ بَعْدَ سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَةِ عُثْمَانَ، كَمَا سَنُورِدُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَلَمَّا بَعَثَ الْأَحْنَفُ بِكِتَابِ الْفَتْحِ، وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِ التُّرْكِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ، وَأَنَّهُمْ قَتَلُوا مِنْهُمْ مَعَ ذَلِكَ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، ثُمَّ رَدَّهُمُ اللَّهُ بِغَيْظِهِمْ لَمْ

يَنَالُوا خَيْرًا. فَقَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقُرِئَ الْكِتَابُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى، وَوَعَدَ عَلَى اتِّبَاعِهِ مَنْ عَاجِلِ الثَّوَابِ وَآجِلِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [ التَّوْبَةِ: 33 ]. فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ جُنْدَهُ، أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مَلِكَ الْمَجُوسِيَّةِ وَفَرَّقَ شَمْلَهُمْ، فَلَيْسُوا يَمْلِكُونَ مِنْ بِلَادِهِمْ شِبْرًا يَضُرُّ بِمُسْلِمٍ، أَلَا وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ؛ لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَقُومُوا فِي أَمْرِهِ عَلَى وَجَلٍ، يُوفِ لَكُمْ بِعَهْدِهِ، وَيُؤْتِكُمْ وَعْدَهُ، وَلَا تُغِيرُوا فَيَسْتَبْدِلَ قَوْمًا غَيْرَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْ تُؤْتَى إِلَّا مِنْ قِبَلِكُمْ.
وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ الْحَافِظُ فِي تَارِيخِ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ -: وَفِيهَا فُتِحَتْ أَذْرَبِيجَانُ عَلَى يَدَيِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. فَيُقَالُ: إِنَّهُ صَالَحَهُمْ عَلَى ثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَتَحَهَا حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ بِأَهْلِ الشَّامِ عَنْوَةً، وَمَعَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ؛ فِيهِمْ حُذَيْفَةُ فَافْتَتَحَهَا بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا افْتَتَحَ حُذَيْفَةُ الدِّينَوَرَ عَنْوَةً، بَعْدَ مَا كَانَ سَعْدٌ افْتَتَحَهَا فَانْتَقَضُوا عَهْدَهُمْ.
وَفِيهَا افْتَتَحَ حُذَيْفَةُ مَاسَبَذَانَ عَنْوَةً - وَكَانُوا نَقَضُوا أَيْضًا عَهْدَ سَعْدٍ -

وَكَانَ مَعَ حُذَيْفَةَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَلَحِقَهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ فَاخْتَصَمُوا فِي الْغَنِيمَةِ، فَكَتَبَ عُمَرُ: إِنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: ثُمَّ غَزَا حُذَيْفَةُ هَمَذَانَ فَافْتَتَحَهَا عَنْوَةً، وَلَمْ تَكُنْ فُتِحَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِلَيْهَا انْتَهَى فُتُوحُ حُذَيْفَةَ. قَالَ: وَيُقَالُ: افْتَتَحَهَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِأَمْرِ الْمُغِيرَةِ. وَيُقَالُ: افْتَتَحَهَا الْمُغِيرَةُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. وَفِيهَا افْتُتِحَتْ جُرْجَانُ.
قَالَ خَلِيفَةُ: وَفِيهَا افْتَتَحَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَطْرَابُلُسَ الْمَغْرِبِ. وَيُقَالُ: فِي السَّنَةِ الَّتِي بَعْدَهَا. قُلْتُ: وَفِي هَذَا كُلِّهِ غَرَابَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سَلَفَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شَيْخُنَا وَفِيهَا تُوُفِّيَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ، وَابْنِ نُمَيْرٍ، وَالذُّهْلِيِّ، وَالتِّرْمِذِيِّ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ.
مِعْضَدُ بْنُ يَزِيدَ الشَّيْبَانِيُّ، اسْتُشْهِدَ بِأَذْرَبِيجَانَ وَلَا صُحْبَةَ لَهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَفِيهَا وَفَاةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو مَعْشَرٍ: فِيهَا كَانَ فَتْحُ إِصْطِخْرَ وَهَمَذَانَ. وَقَالَ سَيْفٌ: كَانَ فَتْحُهَا بَعْدَ فَتْحِ تَوَّجَ الْآخِرَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الَّذِي افْتَتَحَ تَوَّجَ مُجَاشِعُ بْنُ مَسْعُودٍ، بَعْدَ مَا قَتَلَ مِنَ الْفُرْسِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَغَنِمَ مِنْهُمْ غَنَائِمَ جَمَّةً، ثُمَّ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِهَا، وَعَقَدَ لَهُمُ الذِّمَّةَ، ثُمَّ بَعَثَ بِالْفَتْحِ وَخُمْسِ الْغَنَائِمِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ افْتَتَحَ جُورَ بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ كَانَ عِنْدَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ إِصْطَخْرَ، وَهَذِهِ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ، وَكَانَ أَهْلُهَا قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ بَعْدَ مَا كَانَ جُنْدُ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ افْتَتَحُوهَا حِينَ جَازَ فِي الْبَحْرِ مِنْ أَرْضِ الْبَحْرَيْنِ وَالْتَقَوْا هُمْ وَالْفُرْسُ فِي مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: طَاوُسٌ. كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. ثُمَّ صَالَحَهُ الْهِرْبِذُ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَأَنْ يَضْرِبَ لَهُمُ الذِّمَّةَ. ثُمَّ بَعَثَ بِالْأَخْمَاسِ وَالْبِشَارَةِ إِلَى عُمَرَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَكَانَتِ الرُّسُلُ لَهَا جَوَائِزُ، وَتُقْضَى لَهُمْ حَوَائِجُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعَامِلُهُمْ بِذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ شَهْرَكَ خَلَعَ الْعَهْدَ، وَنَقَضَ الذِّمَّةَ، وَنَشِطَ الْفُرْسُ، فَنَقَضُوا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ ابْنَهُ وَأَخَاهُ الْحَكَمَ، فَاقْتَتَلُوا

مَعَ الْفُرْسِ، فَهَزَمَ اللَّهُ جُيُوشَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَتَلَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ شَهْرَكَ، وَقَتَلَ ابْنَهُ مَعَهُ أَيْضًا.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: كَانَتْ فَارِسُ الْأُولَى وَإِصْطَخْرُ الْآخِرَةُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ فِي إِمَارَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَتْ فَارِسُ الْآخِرَةَ وَوَقْعَةُ جَوْرَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ.

فَتْحُ فَسَا وَدَارَابْجِرْدَ وَقِصَّةُ سَارِيَةَ بْنِ زُنَيْمٍ
ذَكَرَ سَيْفٌ عَنْ مَشَايِخِهِ أَنَّ سَارِيَةَ بْنَ زُنَيْمٍ قَصَدَ فَسَا وَدَارَابْجِرْدَ، فَاجْتَمَعَ لَهُ جُمُوعٌ مِنَ الْفُرْسِ وَالْأَكْرَادِ عَظِيمَةٌ، وَدَهَمَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ، فَرَأَى عُمَرُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ مَعْرَكَتَهُمْ وَعَدَدَهُمْ فِي وَقْتٍ مِنَ النَّهَارِ، وَأَنَّهُمْ فِي صَحْرَاءَ، وَهُنَاكَ جَبَلٌ إِنِ اسْتَنَدُوا إِلَيْهِ لَمْ يُؤْتَوْا إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَنَادَى مِنَ الْغَدِ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. حَتَّى إِذَا كَانَتِ السَّاعَةُ الَّتِي رَأَى أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِيهَا، خَرَجَ إِلَى النَّاسِ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ النَّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ بِصِفَةِ مَا رَأَى، ثُمَّ قَالَ: يَا سَارِيَةُ، الْجَبَلَ الْجَبَلَ ! ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ جُنُودًا، وَلَعَلَّ بَعْضَهَا أَنْ يُبَلِّغَهُمْ. قَالَ: فَفَعَلُوا مَا قَالَ عُمَرُ، فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَفَتَحُوا الْبَلَدَ.
وَذَكَرَ سَيْفٌ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ شُيُوخِهِ، أَنَّ عُمَرَ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ

الْجُمُعَةِ إِذْ قَالَ: يَا سَارِيَةُ بْنَ زُنَيْمٍ، الْجَبَلَ الْجَبَلَ ! فَلَجَأَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى جَبَلٍ هُنَاكَ، فَلَمْ يَقْدِرِ الْعَدُوُّ عَلَيْهِمْ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَظْفَرَهُمُ اللَّهُ بِهِمْ، وَفَتَحُوا الْبَلَدَ، وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ سَفَطٌ مِنْ جَوْهَرٍ، فَاسْتَوْهَبَهُ سَارِيَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِعُمَرَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ مَعَ الْأَخْمَاسِ، قَدِمَ الرَّسُولُ بِالْخُمْسِ فَوَجَدَ عُمَرَ قَائِمًا فِي يَدِهِ عَصَا، وَهُوَ يُطْعِمُ الْمُسْلِمِينَ سِمَاطَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ قَالَ لَهُ: اجْلِسْ. وَلَمْ يَعْرِفْهُ. فَجَلَسَ الرَّجُلُ فَأَكَلَ مَعَ النَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغُوا انْطَلَقَ عُمَرُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَأَتْبَعَهُ الرَّجُلُ، فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ، وَإِذَا هُوَ قَدْ وُضِعَ لَهُ خُبْزٌ وَزَيْتٌ وَمِلْحٌ، فَقَالَ: ادْنُ فَكُلْ. قَالَ: فَجَلَسْتُ، فَجَعَلَ يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ: أَلَا تَخْرُجِينَ يَا هَذِهِ فَتَأْكُلِينَ ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي أَسْمَعُ حِسَّ رَجُلٍ عِنْدَكَ. فَقَالَ: أَوَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ يُقَالَ: أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيٍّ وَامْرَأَةُ عُمَرَ ! فَقَالَتْ: مَا أَقَلَّ غَنَاءَ ذَلِكَ عَنِّي. ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: ادْنُ فَكُلْ، فَلَوْ كَانَتْ رَاضِيَةً لَكَانَ أَطْيَبَ مِمَّا تَرَى. فَأَكَلَا، فَلَمَّا فَرَغَا، قَالَ: أَنَا رَسُولُ سَارِيَةَ بْنِ زُنَيْمٍ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا. ثُمَّ أَدْنَاهُ حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتُهُ رُكْبَتَهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ سَارِيَةَ بْنِ زُنَيْمٍ، فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ شَأْنَ السَّفَطِ مِنَ الْجَوْهَرِ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ وَأَمَرَ بِرَدِّهِ إِلَى الْجُنْدِ. وَقَدْ سَأَلَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ رَسُولَ سَارِيَةَ عَنِ الْفَتْحِ فَأَخْبَرَهُمْ، فَسَأَلُوهُ: هَلْ سَمِعُوا صَوْتًا يَوْمَ الْوَقْعَةِ ؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْنَا قَائِلًا يَقُولُ: يَا سَارِيَةُ، الْجَبَلَ ! وَقَدْ كِدْنَا نَهْلِكُ فَلَجَأْنَا إِلَيْهِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا.

ثُمَّ رَوَاهُ سَيْفٌ عَنْ مَجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ بِنَحْوِ هَذَا.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ وَجَّهَ جَيْشًا وَرَأَّسَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: سَارِيَةُ. قَالَ: فَبَيْنَمَا عُمَرُ يَخْطُبُ فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا سَارِيَ الْجَبَلَ ! ثَلَاثًا. ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ الْجَيْشِ فَسَأَلَهُ عُمَرُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هُزِمْنَا فَبَيْنَمَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعْنَا مُنَادِيًا: يَا سَارِيَةُ الْجَبَلَ ! ثَلَاثًا. فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا بِالْجَبَلِ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ. قَالَ: فَقِيلَ لِعُمَرَ: إِنَّكَ كُنْتَ تَصِيحُ بِذَلِكَ وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا سَارِيَةُ بْنَ زُنَيْمٍ الْجَبَلَ ! فَلَمْ يَدْرِ النَّاسُ مَا يَقُولُ حَتَّى قَدِمَ سَارِيَةُ بْنُ زُنَيْمٍ الْمَدِينَةَ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كُنَّا مُحَاصِرِي الْعَدُوِّ، فَكُنَّا نُقِيمُ الْأَيَّامَ لَا يَخْرُجُ عَلَيْنَا مِنْهُمْ أَحَدٌ نَحْنُ فِي خَفْضٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهُمْ فِي حِصْنٍ عَالٍ، فَسَمِعْتُ صَائِحًا يُنَادِي بِكَذَا وَكَذَا: يَا سَارِيَةُ بْنَ زُنَيْمٍ الْجَبَلَ ! فَعَلَوْتُ بِأَصْحَابِي الْجَبَلَ، فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَةً حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالِكَائِيُّ، مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِنَحْوِهِ، وَفِي صِحَّتِهِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ نَظَرٌ.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَا: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى الصَّلَاةِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ ثُمَّ صَاحَ: يَا سَارِيَةُ بْنَ زُنَيْمٍ الْجَبَلَ ! يَا سَارِيَةُ بْنَ زُنَيْمٍ الْجَبَلَ ! ظَلَمَ مَنِ اسْتَرْعَى الذِّئْبَ الْغَنَمَ. ثُمَّ خَطَبَ حَتَّى فَرَغَ، فَجَاءَ كِتَابُ سَارِيَةَ إِلَى عُمَرَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ فَتَحَ عَلَيْنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَاعَةَ كَذَا وَكَذَا - لِتِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا عُمَرُ فَتَكَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ - قَالَ سَارِيَةُ: فَسَمِعْتُ صَوْتًا: يَا سَارِيَةُ بْنَ زُنَيْمٍ، الْجَبَلَ ! يَا سَارِيَةُ بْنَ زُنَيْمٍ الْجَبَلَ ! ظَلَمَ مَنِ اسْتَرْعَى الذِّئْبَ الْغَنَمَ. فَعَلَوْتُ بِأَصْحَابِيَ الْجَبَلَ، وَنَحْنُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي بَطْنِ وَادٍ وَنَحْنُ مُحَاصِرُو الْعَدُوِّ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا. فَقِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: مَا ذَلِكَ الْكَلَامُ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَلْقَيْتُ لَهُ بَالًا؛ شَيْءٌ أُلْقِيَ عَلَى لِسَانِي. فَهَذِهِ طُرُقٌ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ سَيْفٍ، عَنْ شُيُوخِهِ، فَتْحَ كِرْمَانَ عَلَى يَدَيْ سُهَيْلِ بْنِ عَدِيٍّ، وَأَمَدَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِتْبَانَ. وَقِيلَ: عَلَى يَدَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيِّ.
وَذَكَرَ فَتْحَ سِجِسْتَانَ عَلَى يَدَيْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرٍو، بَعْدَ قِتَالٍ شَدِيدٍ

وَكَانَتْ ثُغُورُهَا مُتَّسِعَةً وَبِلَادُهَا مُتَبَايِنَةً مَا بَيْنَ السِّنْدِ إِلَى نَهْرِ بَلْخَ، وَكَانُوا يُقَاتِلُونَ الْقَنْدَهَارَ وَالتُّرْكَ مِنْ ثُغُورِهَا وَفُرُوجِهَا.
وَذَكَرَ فَتْحَ مُكْرَانَ عَلَى يَدَيِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَمَدَّهُ شِهَابُ بْنُ الْمُخَارِقِ بْنِ شِهَابٍ وَسُهَيْلُ بْنُ عَدِيٍّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَاقْتَتَلُوا مَعَ مَلِكِ السِّنْدِ، فَهَزَمَ اللَّهُ جُمُوعَ السِّنْدَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ غَنِيمَةً عَظِيمَةً، وَكَتَبَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو بِالْفَتْحِ، وَبَعَثَ بِالْأَخْمَاسِ مَعَ صُحَارٍ الْعَبْدِيِّ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ سَأَلَهُ عَنْ أَرْضِ مُكْرَانَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرْضٌ سَهْلُهَا جَبَلٌ، وَمَاؤُهَا وَشَلٌ، وَثَمَرُهَا دَقَلٌ، وَعَدُوُّهَا بَطَلٌ، وَخَيْرُهَا قَلِيلٌ، وَشَرُّهَا طَوِيلٌ، وَالْكَثِيرُ بِهَا قَلِيلٌ، وَالْقَلِيلُ بِهَا ضَائِعٌ، وَمَا وَرَاءَهَا شَرٌّ مِنْهَا. فَقَالَ عُمَرُ: أَسَجَّاعٌ أَنْتَ أَمْ مُخْبِرٌ ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ مُخْبِرٌ. فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو أَنْ لَا يَغْزُوَ بَعْدَ ذَلِكَ مُكْرَانَ، وَلْيَقْتَصِرُوا عَلَى مَا دُونَ النَّهْرِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو فِي ذَلِكَ
لَقَدْ شَبِعَ الْأَرَامِلُ غَيْرَ فَخْرٍ بِفَيْءٍ جَاءَهُمُ مِنْ مُكَّرَانِ

أَتَاهُمْ بَعْدَ مَسْغَبَةٍ وَجَهْدٍ
وَقَدْ صَفِرَ الشِّتَاءُ مِنَ الدُّخَانِ فَإِنِّي لَا يَذُمُّ الْجَيْشُ فِعْلِي
وَلَا سَيْفِي يُذَمُّ وَلَا سِنَانِي غَدَاةَ أُدَفِّعُ الْأَوْبَاشَ دَفْعَا
إِلَى السِّنْدِ الْعَرِيضَةِ وَالْمَدَانِي وَمِهْرَانٌ لَنَا فِيمَا أَرَدْنَا
مُطِيعٌ غَيْرَ مُسْتَرْخِي الْعِنَانِ فَلَوْلَا مَا نَهَى عَنْهُ أَمِيرِي
قَطَعْنَاهُ إِلَى الْبُدُدِ الزَّوَانِي

غَزْوَةُ الْأَكْرَادِ
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ سَيْفٍ، عَنْ شُيُوخِهِ، أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْأَكْرَادِ وَالْتَفَّ إِلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُرْسِ اجْتَمَعُوا، فَلَقِيَهُمْ أَبُو مُوسَى بِمَكَانٍ مِنْ أَرْضٍ بَيْرُوذَ قَرِيبٍ مِنْ نَهْرِ تِيرَى، ثُمَّ سَارَ عَنْهُمْ أَبُو مُوسَى إِلَى أَصْبَهَانَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى حَرْبِهِمُ الرَّبِيعَ بْنَ زِيَادٍ بَعْدَ مَقْتَلِ أَخِيهِ الْمُهَاجِرِ بْنِ زِيَادٍ، فَتَسَلَّمَ الْحَرْبَ وَهُوَ حَنِقٌ عَلَيْهِمْ، فَهَزَمَ اللَّهُ الْعَدُوَّ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، كَمَا هِيَ عَادَتُهُ الْمُسْتَمِرَّةُ وَسُنَّتُهُ الْمُسْتَقِرَّةُ، فِي عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ مِنْ أَتْبَاعِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ. ثُمَّ خُمِّسَتِ الْغَنِيمَةُ وَبُعِثَ بِالْفَتْحِ وَالْأَخْمَاسِ إِلَى عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وَقَدْ سَارَ ضَبَّةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْعَنَزِيُّ، فَاشْتَكَى أَبَا مُوسَى إِلَى عُمَرَ، وَذَكَرَ عَنْهُ أُمُورًا لَا يُنْقَمُ عَلَيْهِ بِسَبَبِهَا، فَاسْتَدْعَاهُ عُمَرُ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَاعْتَذَرَ مِنْهَا بِوُجُوهٍ مَقْبُولَةٍ فَسَمِعَهَا عُمَرُ وَقَبِلَهَا، وَرَدَّهُ إِلَى عَمَلِهِ وَعَذَرَ ضَبَّةَ فِيمَا تَأَوَّلَهُ. وَمَاتَ عُمَرُ وَأَبُو مُوسَى عَلَى صَلَاةِ الْبَصْرَةِ.

خَبَرُ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْجَعِيِّ وَالْأَكْرَادِ
بَعَثَهُ عُمَرُ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَوَصَّاهُ بِوَصَايَا كَثِيرَةٍ بِمَضْمُونِ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ ": اغْزُوا بِسْمِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ". الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ. فَسَارُوا فَلَقَوْا جَمْعًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَدَعَوْهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلَاثِ خِلَالٍ، فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا وَاحِدَةً مِنْهَا، فَقَاتَلُوهُمْ فَقَتَلُوا مُقَاتَلَتَهُمْ، وَسَبَوْا ذَرَارِيَّهُمْ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ. ثُمَّ بَعَثَ سَلَمَةُ بْنُ قَيْسٍ رَسُولًا إِلَى عُمَرَ بِالْفَتْحِ وَبِالْغَنَائِمِ، فَذَكَرُوا وُرُودَهُ عَلَى عُمَرَ وَهُوَ يُطْعِمُ النَّاسَ، وَذَهَابَهُ مَعَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ؛ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيٍّ، وَطَلَبِهَا الْكُسْوَةَ كَمَا يَكْسُو طَلْحَةُ وَغَيْرُهُ أَزْوَاجَهُمْ، فَقَالَ: أَلَا يَكْفِيَكِ أَنْ يُقَالَ: بِنْتُ عَلِيٍّ وَامْرَأَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ! ثُمَّ ذَكَرَ طَعَامَهُ الْخَشِنَ وَشَرَابَهُ مِنْ سُلْتٍ، ثُمَّ شَرَعَ يَسْتَعْلِمُهُ عَنْ أَخْبَارِ الْمُهَاجِرِينَ،

وَكَيْفَ طَعَامُهُمْ وَأَشْعَارُهُمْ ؟ وَهَلْ يَأْكُلُونَ اللَّحْمَ الَّذِي هُوَ شَجَرَتُهُمْ - وَلَا بَقَاءَ لِلْعَرَبِ دُونَ شَجَرَتِهِمْ ؟ وَذَكَرَ عَرْضَهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ السَّفَطَ مِنَ الْجَوْهَرِ، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهُ وَأَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَرُدَّهُ فَيُقَسَّمَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ. وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مُطَوَّلًا جِدًّا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ عُمَرُ بِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاتُهُ. ثُمَّ ذَكَرَ صِفَةَ مَقْتَلِهِ مُطَوَّلًا أَيْضًا، وَقَدْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي آخِرِ " سِيرَةِ عُمَرَ "، فَلْيُكْتَبْ مِنْ هُنَاكَ إِلَى هُنَا.
وَهُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ رِيَاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رُزَاحَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضِرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعْدِّ بْنِ عَدْنَانَ، الْقُرَشِيُّ، أَبُو حَفْصٍ الْعَدَوِيُّ، الْمُلَقَّبُ بِالْفَارُوقِ، قِيلَ: لَقَّبَهُ بِذَلِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَأُمُّهُ حَنْتَمَةُ بِنْتُ هِشَامٍ أُخْتُ أَبِي جَهْلِ

ابْنِ هِشَامٍ. أَسْلَمَ عُمَرُ وَعُمُرُهُ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ فِي عِدَّةِ سَرَايَا وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى بَعْضِهَا.
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دُعِيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَوَّلُ مَنْ كَتَبَ التَّارِيخَ، وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى التَّرَاوِيحِ، وَأَوَّلُ مَنْ عَسَّ بِالْمَدِينَةِ، وَحَمَلَ الدِّرَّةَ وَأَدَّبَ بِهَا، وَجَلَدَ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ، وَفَتَحَ الْفُتُوحَ، وَمَصَّرَ الْأَمْصَارَ، وَجَنَّدَ الْأَجْنَادَ، وَوَضَعَ الْخَرَاجَ، وَدَوَّنَ الدَّوَاوِينَ، وَعَرَضَ الْأَعْطِيَةَ، وَاسْتَقْضَى الْقُضَاةَ، وَكَوَّرَ الْكُوَرَ؛ مِثْلَ السَّوَادِ، وَالْأَهْوَازِ، وَالْجِبَالِ، وَفَارِسَ وَغَيْرِهَا، وَفَتَحَ الشَّامَ كُلَّهُ، وَالْجَزِيرَةَ وَالْمَوْصِلَ وَمَيَّافَارِقِينَ، وَآمِدَ، وَأَرْمِينِيَةَ، وَمِصْرَ، وَإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَمَاتَ وَعَسَاكِرُهُ عَلَى بِلَادِ الرَّيِّ. فَتَحَ مِنَ الشَّامِ الْيَرْمُوكَ، وَبُصْرَى، وَدِمَشْقَ، وَالْأُرْدُنَّ، وَبَيْسَانَ، وَطَبَرِيَّةَ، وَالْجَابِيَةَ، وَفِلَسْطِينَ، وَالرَّمْلَةَ، وَعَسْقَلَانَ، وَغَزَّةَ، وَالسَّوَاحِلَ وَالْقُدْسَ. وَفَتَحَ مِصْرَ، وَإِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَطَرَابُلُسَ الْغَرْبِ، وَبَرْقَةَ وَمِنْ مُدُنِ الشَّامِ بَعْلَبَكَّ، وَحِمْصَ، وَقِنَّسْرِينَ، وَحَلَبَ وَأَنْطَاكِيَةَ، وَفَتَحَ الْجَزِيرَةَ، وَحَرَّانَ، وَالرُّهَا، وَالرَّقَّةَ، وَنَصِيبِينَ، وَرَأْسَ عَيْنٍ، وَشِمْشَاطَ وَعَيْنَ وَرْدَةَ، وَدِيَارَ بَكْرٍ، وَدِيَارَ رَبِيعَةَ، وَبِلَادَ الْمَوْصِلِ، وَأَرْمِينِيَةَ جَمِيعَهَا. وَبِالْعِرَاقِ الْقَادِسِيَّةَ، وَالْحِيرَةَ، وَبَهُرَسِيرَ، وَسَابَاطَ، وَمَدَائِنَ كِسْرَى. وَكُورَةَ الْفُرَاتِ، وَدِجْلَةَ، وَالْأَبُلَّةَ، وَالْبَصْرَةَ، وَالْأَهْوَازَ، وَفَارِسَ وَنَهَاوَنْدَ، وَهَمَذَانَ، وَالرَّيَّ، وَقُومِسَ، وَخُرَاسَانَ، وَإِصْطَخْرَ، وَأَصْبَهَانَ، وَالسُّوسَ، وَمَرْوَ، وَنَيْسَابُورَ، وَجُرْجَانَ، وَأَذْرَبِيجَانَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَقَطَعَتْ جُيُوشُهُ النَّهْرَ مِرَارًا.

وَكَانَ مُتَوَاضِعًا فِي اللَّهِ، خَشِنَ الْعَيْشِ، خَشِنَ الْمَطْعَمِ، شَدِيدًا فِي ذَاتِ اللَّهِ، يُرَقِّعُ الثَّوْبَ بِالْأَدِيمِ، وَيَحْمِلُ الْقِرْبَةَ عَلَى كَتِفَيْهِ، مَعَ عِظَمِ هَيْبَتِهِ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ عُرْيًا، وَالْبَعِيرَ مَخْطُومًا بِاللِّيفِ، وَكَانَ قَلِيلَ الضَّحِكِ لَا يُمَازِحُ أَحَدًا، وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا يَا عُمَرُ.
وَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشَدُّ أُمَّتِي فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:إِنَّ لِي وَزِيرَيْنِ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَوَزِيرَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَوَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَوَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَإِنَّهُمَا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ. وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:إِنَّ الشَّيْطَانَ يَفْرَقُ مِنْ عُمَرَ. وَقَالَ:أَرْحَمُ أُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ وَأَشُدُّهَا فِي دِينِ اللَّهِ عُمَرُ.
وَقِيلَ لِعُمَرَ: إِنَّكَ فَظٌّ. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَلَأَ قَلْبِي لَهُمْ رُحْمًا، وَمَلَأَ قُلُوبَهُمْ لِي رُعْبًا. وَقَالَ عُمَرُ: لَا يَحِلُّ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ إِلَّا حُلَّتَانِ؛ حُلَّةٌ لِلشِّتَاءِ وَحُلَّةٌ لِلصَّيْفِ، وَقُوتُ أَهْلِي كَرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ لَيْسَ بِأَغْنَاهُمْ، ثُمَّ أَنَا

رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ عُمَرُ إِذَا اسْتَعْمَلَ عَامِلًا كَتَبَ لَهُ عَهْدًا، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ رَهْطًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَرْكَبَ بِرْذَوْنًا، وَلَا يَأْكُلَ نَقِيًّا، وَلَا يَلْبَسَ رَقِيقًا، وَلَا يُغْلِقَ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَاتِ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ إِذَا حَدَّثَهُ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ فَيَكْذِبُ فِيهِ الْكَلِمَةَ وَالْكَلِمَتَيْنِ، فَيَقُولُ عُمَرُ: احْبِسْ هَذِهِ احْبِسْ هَذِهِ. فَيَقُولُ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ كُلُّ مَا حَدَّثْتُكُ بِهِ حَقٌّ غَيْرَ مَا أَرَدْتَنِي أَنْ أَحْبِسَهُ.
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ: أَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا وَلَمْ تُرِدْهُ، وَأَمَّا عُمَرُ فَأَرَادَتْهُ فَلَمْ يُرِدْهَا، وَأَمَّا نَحْنُ فَتَمَرَّغْنَا فِيهَا ظَهْرًا لِبَطْنٍ.
وَعُوتِبَ عُمَرُ فَقِيلَ لَهُ: لَوْ أَكَلْتَ طَعَامًا طَيِّبًا، كَانَ أَقْوَى لَكَ عَلَى الْحَقِّ ؟ فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ صَاحِبَيَّ عَلَى جَادَّةٍ فَإِنْ تَرَكْتُ جَادَّتَهُمَا لَمْ أُدْرِكْهُمَا فِي الْمَنْزِلِ. وَكَانَ يَلْبَسُ وَهُوَ خَلِيفَةٌ جُبَّةَ صُوفٍ مَرْقُوعَةً بَعْضُهَا بِأَدَمٍ، وَيَطُوفُ بِالْأَسْوَاقِ عَلَى عَاتِقِهِ الدِّرَّةُ يُؤَدِّبُ بِهَا النَّاسَ، وَإِذَا مَرَّ بِالنَّوَى وَغَيْرِهِ يَلْتَقِطُهُ وَيَرْمِي بِهِ فِي مَنَازِلِ النَّاسِ يَنْتَفِعُونَ بِهِ.
وَقَالَ أَنَسٌ: كَانَ بَيْنَ كَتِفَيْ عُمَرَ أَرْبَعُ رِقَاعٍ، وَإِزَارُهُ مَرْقُوعٌ بِأَدَمٍ. وَخَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَعَلَيْهِ إِزَارٌ فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ رُقْعَةً، وَأَنْفَقَ فِي حَجَّتِهِ سِتَّةَ عَشَرَ دِينَارًا، وَقَالَ

لِابْنِهِ: قَدْ أَسْرَفْنَا. وَكَانَ لَا يَسْتَظِلُّ بِشَيْءٍ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُلْقِي كِسَاءَهُ عَلَى الشَّجَرِ وَيَسْتَظِلُّ تَحْتَهُ، وَلَيْسَ لَهُ خَيْمَةٌ وَلَا فُسْطَاطٌ.
وَلَمَّا قَدِمَ الشَّامَ لِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَانَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ تَلُوحُ صَلْعَتُهُ لِلشَّمْسِ لَيْسَ عَلَيْهِ قَلَنْسُوَةٌ وَلَا عِمَامَةٌ، قَدْ طَبَّقَ رِجْلَيْهِ بَيْنَ شُعْبَتِيِ الرَّحْلِ بِلَا رِكَابٍ، وَوِطَاؤُهُ كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ، وَهُوَ فِرَاشُهُ إِذَا نَزَلَ وَحَقِيبَتُهُ مَحْشُوَّةٌ لِيفًا، وَهِيَ وِسَادَتُهُ إِذَا نَامَ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ مِنْ كَرَابِيسَ قَدْ دَسِمَ وَتَخَرَّقَ جَيْبُهُ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: ادْعُوا لِي رَأَسَ الْقَرْيَةِ. فَدَعَوْهُ فَقَالَ: اغْسِلُوا قَمِيصِي وَخَيِّطُوهُ وَأَعِيرُونِي قَمِيصًا. فَأُتِيَ بِقَمِيصِ كَتَّانٍ فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ فَقِيلَ: كَتَّانٌ. فَقَالَ: فَمَا الْكَتَّانُ ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَنَزَعَ قَمِيصَهُ فَغَسَلُوهُ وَخَاطُوهُ ثُمَّ لَبِسَهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ مَلِكُ الْعَرَبِ، وَهَذِهِ بِلَادٌ لَا يَصْلُحُ فِيهَا رُكُوبُ الْإِبِلِ. فَأُتِيَ بِبِرْذَوْنٍ فَطَرَحَ عَلَيْهِ قَطِيفَةً بِلَا سَرْجٍ وَلَا رَحْلٍ، فَلَمَّا سَارَ جَعَلَ الْبِرْذَوْنُ يُهَمْلِجُ بِهِ، فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: احْبِسُوا، مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ يَرْكَبُونَ الشَّيَاطِينَ، هَاتُوا جَمَلِي. ثُمَّ نَزَلَ وَرَكِبَ الْجَمَلَ.
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عُمَرَ فَدَخَلَ حَائِطًا لِحَاجَتِهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ - بَيْنِي وَبَيْنَهُ جِدَارُ الْحَائِطِ -: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ! بَخٍ بَخٍ، وَاللَّهِ لِتَتَّقِيَنَّ اللَّهَ بُنَيَّ الْخَطَّابِ أَوْ لِيُعَذِّبَنَّكَ. وَقِيلَ إِنَّهُ حَمَلَ قِرْبَةً عَلَى عَاتِقِهِ، فَقِيلَ لَهُ

فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ نَفْسِي أَعْجَبَتْنِي فَأَرَدْتُ أَنْ أُذِلَّهَا.
وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ، ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ فَلَا يَزَالُ يُصَلِّي إِلَى الْفَجْرِ. وَمَا مَاتَ حَتَّى سَرَدَ الصَّوْمَ، وَكَانَ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ لَا يَأْكُلُ إِلَّا الْخُبْزَ وَالزَّيْتَ، حَتَّى اسْوَدَّ جِلْدُهُ وَيَقُولُ: بِئْسَ الْوَالِي أَنَا إِنْ شَبِعْتُ وَالنَّاسُ جِيَاعٌ. وَكَانَ فِي وَجْهِهِ خَطَّانِ أَسْوَدَانِ مِنَ الْبُكَاءِ، وَكَانَ يَسْمَعُ الْآيَةَ مِنَ الْقُرْآنِ فَيُغْشَى عَلَيْهِ، فَيُحْمَلُ صَرِيعًا إِلَى مَنْزِلِهِ، فَيُعَادُ أَيَّامًا لَيْسَ بِهِ مَرَضٌ إِلَّا الْخَوْفُ.
وَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: خَرَجَ عُمَرُ لَيْلَةً فِي سَوَادِ اللَّيْلِ، فَدَخَلَ بَيْتًا، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ ذَهَبْتُ إِلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ، فَإِذَا عَجُوزٌ عَمْيَاءُ مُقْعَدَةٌ فَقُلْتُ لَهَا: مَا بَالُ هَذَا الرَّجُلِ يَأْتِيكِ ؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ يَتَعَاهَدُنِي مُدَّةَ كَذَا وَكَذَا؛ يَأْتِينِي بِمَا يُصْلِحُنِي وَيُخْرِجُ عَنِّي الْأَذَى. فَقُلْتُ لِنَفْسِي: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا طَلْحَةُ أَعَثَرَاتِ عُمَرَ تَتَّبِعُ !
وَقَالَ أَسْلَمُ مَوْلَى عُمَرَ: قَدِمَ الْمَدِينَةَ رُفْقَةٌ مِنْ تُجَّارٍ، فَنَزَلُوا الْمُصَلَّى، فَقَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: هَلْ لَكَ أَنْ نَحْرُسَهُمُ اللَّيْلَةَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَبَاتَا يَحْرُسَانِهِمْ وَيُصَلِّيَانِ، فَسَمِعَ عُمَرُ بُكَاءَ صَبِيٍّ فَتَوَجَّهَ نَحْوَهُ، فَقَالَ لِأُمِّهِ: اتَّقِ اللَّهَ تَعَالَى وَأَحْسِنِي إِلَى صَبِيِّكِ. ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَانِهِ فَسَمِعَ بُكَاءَهُ، فَعَادَ إِلَى أُمِّهِ، فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَادَ مَكَانَهُ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ سَمِعَ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَى إِلَى أُمِّهِ، فَقَالَ لَهَا: وَيْحَكِ ! إِنَّكِ أُمُّ سُوءٍ، مَالِي أَرَى ابْنَكِ لَا يَقَرُّ مُنْذُ اللَّيْلَةِ مِنَ الْبُكَاءِ ؟ فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي أَشْغَلُهُ عَنِ الطَّعَامِ فَيَأْبَى ذَلِكَ. قَالَ: وَلِمَ ؟

قَالَتْ: لِأَنَّ عُمَرَ لَا يَفْرِضُ إِلَّا لِلْمَفْطُومِ. قَالَ: وَكَمْ عُمُرُ ابْنِكِ ؟ قَالَتْ: كَذَا وَكَذَا شَهْرًا. فَقَالَ: وَيْحَكِ ! لَا تُعْجِلِيهِ عَنِ الْفِطَامِ. فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ وَهُوَ لَا يَسْتَبِينُ لِلنَّاسِ قِرَاءَتُهُ مِنَ الْبُكَاءِ. قَالَ: بُؤْسًا لِعُمَرَ، كَمْ قَتَلَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ أَمَرَ مُنَادِيهِ، فَنَادَى: لَا تُعْجِلُوا صِبْيَانَكُمْ عَنِ الْفِطَامِ، فَإِنَّا نَفْرِضُ لِكُلِّ مَوْلُودٍ فِي الْإِسْلَامِ. وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْآفَاقِ.
وَقَالَ أَسْلَمُ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مَعَ عُمَرَ إِلَى ظَاهِرِ الْمَدِينَةِ، فَلَاحَ لَنَا بَيْتُ شَعْرٍ فَقَصَدْنَاهُ، فَإِذَا فِيهِ امْرَأَةٌ تَمْخَضُ وَتَبْكِي، فَسَأَلَهَا عُمَرُ عَنْ حَالِهَا فَقَالَتْ: أَنَا امْرَأَةٌ عَرَبِيَّةٌ وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ. فَبَكَى عُمَرُ وَعَادَ يُهَرْوِلُ إِلَى بَيْتِهِ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ لَكِ فِي أَجْرٍ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكِ ؟ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَحَمَلَ عَلَى ظَهْرِهِ دَقِيقًا وَشَحْمًا، وَحَمَلَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ مَا يَصْلُحُ لِلْوِلَادَةِ وَجَاءَا، فَدَخَلَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ عَلَى الْمَرْأَةِ، وَجَلَسَ عُمَرُ مَعَ زَوْجِهَا - وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ - يَتَحَدَّثُ، فَوَضَعَتِ الْمَرْأَةُ غُلَامًا، فَقَالَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَشِّرْ صَاحِبَكَ بِغُلَامٍ. فَلَمَّا سَمِعَ الرَّجُلُ قَوْلَهَا اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَأَخَذَ يَعْتَذِرُ إِلَى عُمَرَ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكِ. ثُمَّ أَوْصَلَهُمْ بِنَفَقَةٍ وَمَا يُصْلِحُهُمْ وَانْصَرَفَ.
وَقَالَ أَسْلَمُ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مَعَ عُمَرَ إِلَى حَرَّةِ وَاقِمٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِصِرَارٍ إِذَا بِنَارٍ فَقَالَ: يَا أَسْلَمُ هَاهُنَا رَكْبٌ قَدْ قَصَّرَ بِهِمُ اللَّيْلُ، انْطَلِقْ بِنَا

إِلَيْهِمْ. فَأَتَيْنَاهُمْ فَإِذَا امْرَأَةٌ مَعَهَا صِبْيَانُ لَهَا، وَقِدْرٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى النَّارِ، وَصِبْيَانُهَا يَتَضَاغَوْنَ فَقَالَ عُمَرُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَصْحَابَ الضَّوْءِ. قَالَتْ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ. قَالَ: أَدْنُو ؟ قَالَتْ: ادْنُ أَوْ دَعْ. فَدَنَا فَقَالَ: مَا بَالُكُمْ ؟ قَالَتْ: قَصَّرَ بِنَا اللَّيْلُ وَالْبَرْدُ. قَالَ: فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَةِ يَتَضَاغَوْنَ ؟ قَالَتْ: مِنَ الْجُوعِ. فَقَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ عَلَى النَّارِ ؟ قَالَتْ: مَاءٌ أُعَلِّلُهُمْ بِهِ حَتَّى يَنَامُوا، اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عُمَرَ ! فَبَكَى عُمَرُ وَرَجَعَ يُهَرْوِلُ إِلَى دَارِ الدَّقِيقِ، فَأَخْرَجَ عِدْلًا مِنْ دَقِيقٍ وَجِرَابَ شَحْمٍ، وَقَالَ: يَا أَسْلَمُ احْمِلْهُ عَلَى ظَهْرِي. فَقُلْتُ: أَنَا أَحْمِلُهُ عَنْكَ. فَقَالَ: أَنْتَ تَحْمِلُ وِزْرِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ! فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ وَانْطَلَقْنَا إِلَى الْمَرْأَةِ، فَأَلْقَى عَنْ ظَهْرِهِ وَأَخْرَجَ مِنَ الدَّقِيقِ فِي الْقِدْرِ، وَأَلْقَى عَلَيْهِ مِنَ الشَّحْمِ، وَجَعَلَ يَنْفُخُ تَحْتَ الْقِدْرِ وَالدُّخَّانُ يَتَخَلَّلُ لِحْيَتَهُ سَاعَةً، ثُمَّ أَنْزَلَهَا عَنِ النَّارِ وَقَالَ: آتِنِي بِصَحْفَةٍ. فَأُتِيَ بِهَا، فَغَرَفَ فِيهَا، ثُمَّ جَعَلَهَا بَيْنَ يَدَيِ الصِّبْيَانِ، وَقَالَ: كُلُوا. فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا - وَالْمَرْأَةُ تَدْعُو لَهُ وَهِيَ لَا تَعْرِفُهُ - فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُمْ حَتَّى نَامَ الصِّغَارُ، ثُمَّ أَوْصَلَهُمْ بِنَفَقَةٍ وَانْصَرَفَ فَقَالَ: يَا أَسْلَمُ، الْجُوعُ الَّذِي أَسْهَرَهُمْ وَأَبْكَاهُمْ.
وَقِيلَ إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَأَى عُمَرَ وَهُوَ يَعْدُو إِلَى ظَاهِرِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ: إِلَى أَيْنَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: قَدْ نَدَّ بَعِيرٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَنَا

أَطْلُبُهُ. فَقَالَ: قَدْ أَتْعَبْتَ الْخُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِكَ ! وَقِيلَ: إِنَّهُ رَأَى جَارِيَةً تَتَمَايَلُ مِنَ الْجُوعِ فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ ؟ فَقَالَتِ ابْنَةُ عَبْدِ اللَّهِ: هَذِهِ ابْنَتِي. قَالَ: فَمَا بَالُهَا ؟ فَقَالَتْ: إِنَّكَ تَحْبِسُ عَنَّا مَا فِي يَدِكَ فَيُصِيبُنَا مَا تَرَى. فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا أُعْطِيكُمْ إِلَّا مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ، أَتُرِيدُونَ مِنِّي أَنْ أُعْطِيَكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ فَأَعُودَ خَائِنًا !
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو حَرْزَةَ يَعْقُوبُ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو قَالَ:قُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَنْ سَمَّى عُمَرَ الْفَارُوقَ ؟ قَالَتِ: النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَوَّلُ مَنْ حَيَّاهُ بِهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَقِيلَ: غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَتْنِي أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ حَسَّانَ الْكُوفِيَّةُ - وَكَانَ قَدْ أَتَى عَلَيْهَا مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً - عَنْ أَبِيهَا، قَالَ: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قَالُوا: يَا خَلِيفَةَ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ. فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا أَمْرٌ يَطُولُ بَلْ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَنَا أَمِيرُكُمْ. فَسُمِّيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا فَرَغَ مِنَ الْحَجِّ سَنَةَ ثَلَاثٍ

وَعِشْرِينَ وَنَزَلَ بِالْأَبْطَحِ دَعَا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ وَشَكَا إِلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ كَبِرَتْ سِنُّهُ وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، وَانْتَشَرَتْ رَعِيَّتُهُ وَخَافَ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ بِالشَّهَادَةِ فِي بَلَدِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَمَوْتًا فِي بَلَدِ رَسُولِكَ. فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ هَذَا الدُّعَاءَ، وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ هَذَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ الشَّهَادَةِ فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ. وَهَذَا عَزِيزٌ جِدًّا، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى. فَاتَّفَقَ لَهُ أَنْ ضَرَبَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ فَيْرُوزُ الْمَجُوسِيُّ الْأَصْلِ، الرُّومِيُّ الدَّارِ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ صَلَاةَ الصُّبْحِ مِنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِخِنْجَرٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ، فَضَرَبَهُ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ، وَقِيلَ: سِتَّ ضَرَبَاتٍ. إِحْدَاهُنَّ تَحْتَ سُرَّتِهِ قَطَعَتِ الصِّفَاقَ فَخَرَّ مِنْ قَامَتِهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَرَجَعَ الْعِلْجُ بِخِنْجَرِهِ لَا يَمُرُّ بِأَحَدٍ إِلَّا ضَرَبَهُ، حَتَّى ضَرَبَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مَاتَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْفٍ بُرْنُسًا فَانْتَحَرَ نَفْسَهُ، لَعَنَهُ اللَّهُ، وَحُمِلَ عُمَرُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَالدَّمُ يَسِيلُ مَنْ جُرْحِهِ - وَذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ - فَجَعَلَ يُفِيقُ ثُمَّ يُغْمَى عَلَيْهِ، ثُمَّ يُذَكِّرُونَهُ بِالصَّلَاةِ فَيُفِيقُ وَيَقُولُ: نَعَمْ، وَلَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لِمَنْ تَرَكَهَا. ثُمَّ صَلَّى فِي الْوَقْتِ، ثُمَّ سَأَلَ عَمَّنْ قَتَلَهُ مَنْ هُوَ ؟ فَقَالُوا لَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مَنِيَّتِي عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ يَدَّعِي الْإِيمَانَ، وَلَمْ يَسْجُدْ لِلَّهِ سَجْدَةً. ثُمَّ قَالَ: قَبَّحَهُ اللَّهُ، لَقَدْ كُنَّا

أَمَرْنَا بِهِ مَعْرُوفًا.
وَكَانَ الْمُغِيرَةُ قَدْ ضَرَبَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ، ثُمَّ سَأَلَ مِنْ عُمَرَ أَنْ يَزِيدَ فِي خَرَاجِهِ فَإِنَّهُ نَجَّارٌ نَقَّاشٌ حَدَّادٌ، فَزَادَ فِي خَرَاجِهِ إِلَى مِائَةٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ، وَقَالَ لَهُ: لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحْسِنُ أَنْ تَعْمَلَ رَحًا تَدُورُ بِالْهَوَاءِ. فَقَالَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ أَمَا وَاللَّهِ لَأَعْمَلَنَّ لَكَ رَحًا يَتَحَدَّثُ بِهَا النَّاسُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ - وَكَانَ هَذَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ عَشِيَّةً - وَطَعَنَهُ صَبِيحَةَ الْأَرْبِعَاءَ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَأَوْصَى عُمَرُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ شُورَى بَعْدَهُ فِي سِتَّةٍ مِمَّنْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ؛ وَهُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيَّ فِيهِمْ ; لِكَوْنِهِ مِنْ قَبِيلَتِهِ، خَشْيَةَ أَنْ يُرَاعَى فِي الْإِمَارَةِ بِسَبَبِهِ، وَأَوْصَى مَنْ يُسْتَخْلَفُ بَعْدَهُ بِالنَّاسِ خَيْرًا عَلَى طَبَقَاتِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ.
وَمَاتَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَدُفِنَ يَوْمَ الْأَحَدِ مُسْتَهَلَّ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ بِالْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ إِلَى جَانِبِ الصِّدِّيقِ، عَنْ إِذْنِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فِي ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَكَمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: طُعِنَ عُمَرُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَدُفِنَ يَوْمَ الْأَحَدِ صَبَاحَ هِلَالِ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ

وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَأَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَبُويِعَ لِعُثْمَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثَلَاثٍ مَضَيْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُثْمَانَ الْأَخْنَسِيِّ، فَقَالَ: مَا أُرَاكَ إِلَّا وَهِلْتَ، تُوُفِّيَ عُمَرُ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَبُويِعَ لِعُثْمَانَ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَاسْتَقْبَلَ بِخِلَافَتِهِ الْمُحَرَّمَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: قُتِلَ عُمَرُ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ تَمَامَ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَبُويِعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حُدِّثْتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قُتِلَ عُمَرُ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، فَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ.
وَقَالَ سَيْفٌ، عَنْ خُلَيْدِ بْنِ ذَفَرَةَ وَمُجَالِدٍ قَالَا: اسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ لِثَلَاثٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَخَرَجَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْعَصْرِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ - أَوْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ - عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ وَعَامِرِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ

قَوْمِهِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالُوا: طُعِنَ عُمَرُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. قَالَ: وَقَالَ غَيْرُهُمْ: لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَشْهَرُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

صِفَتُهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
كَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا طِوَالًا أَصْلَعَ، أَعْسَرَ أَيْسَرَ، أَحْوَرَ الْعَيْنَيْنِ، آدَمَ اللَّوْنِ، وَقِيلَ: كَانَ أَبْيَضَ شَدِيدَ الْبَيَاضِ تَعْلُوهُ حُمْرَةٌ، أَشْنَبَ الْأَسْنَانِ، وَكَانَ يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ، وَيُرَجِّلُ رَأْسَهُ بِالْحِنَّاءِ.
وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ سِنِّهِ يَوْمَ مَاتَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى أَقْوَالٍ عِدَّتُهَا عَشْرَةٌ فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ، ثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قُتِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَرَوَاهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ،

عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
وَعَنْ نَافِعٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: سِتٌّ وَخَمْسُونَ سَنَةً. وَثَالِثَةٌ: تِسْعٌ وَخَمْسُونَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ عُمُرُهُ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، حُدِّثْتُ بِذَلِكَ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ. ثُمَّ رُوِيَ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً. قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي عُمُرِ الصِّدِّيقِ مِثْلُهُ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: تُوُفِّيَ عُمَرُ وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالزُّهْرِيِّ: خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سِتٌّ وَسِتُّونَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهَذَا أَثْبَتُ الْأَقَاوِيلِ عِنْدَنَا.

وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: تُوُفِّيَ عُمَرُ وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً.

ذِكْرُ زَوْجَاتِهِ وَأَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ الْكَلْبِيِّ وَغَيْرُهُمَا: تَزَوَّجَ عُمَرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ زَيْنَبَ بِنْتَ مَظْعُونٍ أُخْتَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ الْأَكْبَرَ وَحَفْصَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَتَزَوَّجَ مُلَيْكَةَ بِنْتَ جَرْوَلٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ، فَطَلَّقَهَا فِي الْهُدْنَةِ، فَخَلَفَ عَلَيْهَا أَبُو الْجَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ. قَالَهُ الْمَدَائِنِيُّ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: هِيَ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ جَرْوَلٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ وَزَيْدًا الْأَصْغَرَ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَتَزَوَّجَ قُرَيْبَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ فَفَارَقَهَا فِي الْهُدْنَةِ، فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ.
قَالُوا: وَتَزَوَّجَ أُمَّ حَكِيمِ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ بَعْدَ زَوْجِهَا - حِينَ قُتِلَ فِي الشَّامِ - فَوَلَدَتْ لَهُ فَاطِمَةَ ثُمَّ طَلَّقَهَا. قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَقِيلَ: لَمْ يُطَلِّقْهَا.
قَالُوا: تَزَوَّجَ جَمِيلَةَ أُخْتَ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ أَبِي

الْأَفْلَحِ مِنَ الْأَوْسِ.
وَتَزَوَّجَ عَاتِكَةَ بِنْتَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَلَمَّا قُتِلَ عُمَرُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَيُقَالُ: هِيَ أُمُّ ابْنِهِ عِيَاضٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَكَانَ قَدْ خَطَبَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَهِيَ صَغِيرَةٌ وَرَاسَلٌ فِيهَا عَائِشَةَ، فَقَالَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَتَرْغَبِينَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ إِنَّهُ خَشِنُ الْعَيْشِ. فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَصَدَّهُ عَنْهَا، وَدَلَّهُ عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمِنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: تَعْلَقُ مِنْهَا بِسَبَبٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَخَطَبَهَا مِنْ عَلِيٍّ فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا، فَأَصْدَقَهَا عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَوَلَدَتْ لَهُ زَيْدًا وَرُقَيَّةَ.
قَالُوا: وَتَزَوَّجَ لُهَيَّةَ - امْرَأَةً مِنَ الْيَمَنِ - فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْأَصْغَرَ. وَقِيلَ: الْأَوْسَطَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: هِيَ أُمُّ وَلَدٍ وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ. قَالُوا وَكَانَتْ عِنْدَهُ فُكَيْهَةُ أُمُّ وَلَدٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ زَيْنَبَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهِيَ أَصْغَرُ وَلَدِهِ.

قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَخَطَبَ أُمَّ أَبَانَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَكَرِهَتْهُ، وَقَالَتْ: يُغْلِقُ بَابَهُ، وَيَمْنَعُ خَيْرَهُ، وَيَدْخُلُ عَابِسًا، وَيَخْرُجُ عَابِسًا.
قُلْتُ: فَجُمْلَةُ أَوْلَادِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَلَدًا ; وَهُمْ زَيْدٌ الْأَكْبَرُ وَزَيْدٌ الْأَصْغَرُ، وَعَاصِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَكْبَرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَوْسَطُ - قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: وَهُوَ أَبُو شَحْمَةَ - وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَصْغَرُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَعِيَاضٌ، وَحَفْصَةُ، وَرُقَيَّةُ، وَزَيْنَبُ، وَفَاطِمَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمَجْمُوعُ نِسَائِهِ اللَّاتِي تَزَوَّجَهُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ مِمَّنْ طَلَّقَهُنَّ أَوْ مَاتَ عَنْهُنَّ سَبْعٌ، وَهُنَّ جَمِيلَةُ أُخْتُ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْأَفْلَحِ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ مَظْعُونٍ، وَعَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَقُرَيْبَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَمُلَيْكَةُ بِنْتُ جَرْوَلٍ، وَأُمُّ حَكِيمِ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ أُخْرَى وَهِيَ مُلَيْكَةُ بِنْتُ جَرْوَلٍ.
وَكَانَتْ لَهُ أَمَتَانِ لَهُ مِنْهُمَا أَوْلَادٌ؛ وَهُمَا فُكَيْهَةُ وَلُهَيَّةُ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي لُهَيَّةَ هَذِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ أَصْلُهَا مِنَ الْيَمَنِ وَتَزَوَّجَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرُ بَعْضِ مَا رُثِيَ بِهِ
قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ، عَنِ ابْنِ دَابٍ وَسَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: لَمَّا مَاتَ عُمَرُ بَكَتْهُ ابْنَةُ أَبِي حَثْمَةَ فَقَالَتْ: وَاعُمَرَاهُ ! أَقَامَ الْأَوْدَ، وَأَبْرَأَ الْعَمَدَ، أَمَاتَ الْفِتَنَ، وَأَحْيَا السُّنَنَ، خَرَجَ نَقِيَّ الثَّوْبِ، بَرِيئًا مِنَ الْعَيْبِ. قَالَ: فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقَتْ، ذَهَبَ بِخَيْرِهَا، وَنَجَا مِنْ شَرِّهَا، أَمَا وَاللَّهِ مَا قَالَتْ وَلَكِنْ قُوِّلَتْ. قَالَ: وَقَالَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي زَوْجِهَا عُمَرَ:
فَجَعَنِي فَيْرُوزُ لَا دَرَّ دَرُّهُ بِأَبْيَضَ تَالٍ لِلْكِتَابِ مُنِيبِ رَءُوفٍ عَلَى الْأَدْنَى غَلِيظٍ عَلَى الْعِدَى
أَخِي ثِقَةٍ فِي النَّائِبَاتِ مُجِيبِ مَتَى مَا يَقُلْ لَا يُكْذِبِ الْقَوْلَ فِعْلُهُ
سَرِيعٍ إِلَى الْخَيْرَاتِ غَيْرِ قَطُوبِ
وَقَالَتْ أَيْضًا:

عَيْنُ جُودِي بِعَبْرَةٍ وَنَحِيبِ لَا تَمَلِّي عَلَى الْإِمَامِ النَّجِيبِ
فَجَعَتْنَا الْمَنُونُ بِالْفَارِسِ الْمُعْ لِمِ يَوْمَ الْهِيَاجِ وَالتَّلْبِيبِ
عِصْمَةِ النَّاسِ وَالْمُعِينِ عَلَى الدَّهْ رِ وَغَيْثِ الْمُنْتَابِ وَالْمَحْرُوبِ
قُلْ لِأَهْلِ السَّرَّاءِ وَالْبُؤْسِ مُوتُوا قَدْ سَقَتْهُ الْمَنُونُ كَأْسَ شَعُوبِ
وَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَبْكِيهِ:
سَيَبْكِيكَ نِسَاءُ الْحَ يِّ يَبْكِينَ شَجِيَّاتِ
وَيَخْمِشْنَ وُجُوهًا كَالدَّنَا نِيرِ نَقِيَّاتِ
وَيَلْبَسْنَ ثِيَابَ الْحُزْ نِ بَعْدَ الْقَصَبِيَّاتِ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ تَرْجَمَةً طَوِيلَةً لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَذَلِكَ أَطَالَ ابْنُ

الْجَوْزِيِّ فِي " سِيرَتِهِ "، وَشَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَقَدْ جَمَعْنَا مُتَفَرِّقَاتِ كَلَامِ النَّاسِ فِي مُجَلَّدٍ مُفْرَدٍ، وَأَفْرَدْنَا لِمَا أَسْنَدَهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ مُجَلَّدٌ آخَرُ كَبِيرٌ مُرَتَّبًا عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ الصَّائِفَةَ حَتَّى بَلَغَ عَمُّورِيَّةَ وَمَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو أَيُّوبَ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَشَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ، وَفِيهَا فَتَحَ مُعَاوِيَةُ عَسْقَلَانَ صُلْحًا. قَالَ: وَفِيهَا كَانَ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحٌ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ كَعْبُ بْنُ سُورٍ. قَالَ: وَأَمَّا مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ مَالِكًا رَوَى عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا قَاضٍ.
وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ فِي " تَارِيخِهِ " فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ: فِيهَا كَانَتْ قِصَّةُ سَارِيَةَ بْنِ زُنَيْمٍ، وَفِيهَا كَانَ فَتْحُ كِرْمَانَ وَأَمِيرُهَا سُهَيْلُ بْنُ عَدِيٍّ، وَفِيهَا فُتِحَتْ سِجِسْتَانُ وَأَمِيرُهَا عَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو. وَفِيهَا فُتِحَتْ مَكْرَانُ وَأَمِيرُهَا الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ - أَخُو عُثْمَانَ - وَهِيَ مِنْ بِلَادِ الْجَبَلِ، وَفِيهَا

رَجَعَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ مِنْ بِلَادِ أَصْبَهَانَ وَقَدِ افْتَتَحَ بِلَادَهَا، وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ الصَّائِفَةَ حَتَّى بَلَغَ عَمُّورِيَّةَ.
ثُمَّ ذَكَرَ وَفَاةَ مَنْ مَاتَ فِيهَا، فَمِنْهُمْ:
قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ الظَّفَرِيُّ، أَخُو أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لِأُمِّهِ، وَقَتَادَةُ أَكْبَرُ مِنْهُ، شَهِدَ بَدْرًا، وَأُصِيبَتْ عَيْنُهُ فِي يَوْمِ أُحُدٍ حَتَّى وَقَعَتْ عَلَى خَدِّهِ، فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَارَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ. وَكَانَ مِنَ الرُّمَاةِ الْمَذْكُورِينَ، وَكَانَ عَلَى مُقَدِّمَةِ عُمَرَ حِينَ قَدِمَ إِلَى الشَّامِ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَنَزَلَ عُمَرُ فِي قَبْرِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ تَرْجَمَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَطَالَ فِيهَا وَأَكْثَرَ وَأَطْنَبَ وَأَطْيَبَ، وَأَتَى بِمَقَاصِدَ كَثِيرَةٍ مُهِمَّةٍ، وَفَوَائِدَ جَمَّةٍ، وَأَشْيَاءَ حَسَنَةٍ، فَأَثَابَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. ثُمَّ قَالَ

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسِ بْنِ عِقَالِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعِ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ التَّمِيمِيُّ الْمُجَاشِعِيُّ. قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: وَاسْمُهُ فِرَاسُ بْنُ حَابِسٍ، وَلُقِّبَ بِالْأَقْرَعِ لِقَرْعٍ فِي رَأْسِهِ. وَكَانَ أَحَدَ

الرُّؤَسَاءِ، قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ، وَهُوَ الَّذِي نَادَى مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ مَدْحِي زَيْنٌ، وَذَمِّي شَيْنٌ. وَهُوَ الْقَائِلُ - وَقَدْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُقَبِّلُ الْحَسَنَ - أَتُقَبِّلُهُ ؟ ! وَاللَّهِ إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ. فَقَالَ: مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَا أَمْلِكُ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِنْ قَلْبِكَ. وَكَانَ مِمَّنْ تَأَلَّفَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَعْطَاهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَكَذَلِكَ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ خَمْسِينَ مِنَ الْإِبِلِ فَقَالَ:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْ دِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ
يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا
وَمَنْ تَخْفِضِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " أَنْتَ الْقَائِلُ:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْ دِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ

رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: إِنَّمَا قَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذِكْرَ الْأَقْرَعِ قَبْلَ عُيَيْنَةَ؛ لِأَنَّ الْأَقْرَعَ كَانَ خَيْرًا مِنْ عُيَيْنَةَ، وَلِهَذَا لَمْ يَرْتَدَّ بَعْدَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ارْتَدَّ عُيَيْنَةُ، فَبَايَعَ طُلَيْحَةَ وَصَدَّقَهُ، ثُمَّ عَادَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَقْرَعَ كَانَ سَيِّدًا مُطَاعًا، وَشَهِدَ مَعَ خَالِدٍ وَقَائِعَهُ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، وَكَانَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ يَوْمَ الْأَنْبَارِ. ذَكَرَهُ شَيْخُنَا فِي مَنْ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَالَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْغَابَةِ " أَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ وَسَيَّرَهُ إِلَى الْجُوزَجَانِ فَقُتِلَ وَقُتِلُوا جَمِيعًا، وَذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ. أَبُو عُمَرَ، وَيُقَالُ أَبُو عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ السُّلَمِيُّ. وَيُقَالُ لَهُ: ذُو الرَّأْيِ. لِأَنَّهُ أَشَارَ يَوْمَ بَدْرٍ أَنْ يَنْزِلَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَدْنَى مَاءٍ يَكُونُ إِلَى الْقَوْمِ، وَأَنْ يُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُمْ مِنَ الْقُلُبِ، فَأَصَابَ فِي هَذَا الرَّأْيِ، وَنَزَلَ

الْمَلَكُ بِتَصْدِيقِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ أَنَا جَذِيلُهَا الْمُحَكَّكُ، وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. فَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ.
رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطِّلِبِ الْهَاشِمِيُّ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
عُتْبَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الْهُذَلِيُّ، هَاجَرَ مَعَ أَخِيهِ لِأَبَوَيْهِ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَشَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا. قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بِأَفْقَهَ مِنْهُ، وَلَكِنْ مَاتَ عُتْبَةُ قَبْلَهُ. وَتُوُفِّيَ زَمَنَ عُمَرَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَيُقَالُ: فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ.
عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ الْعَامِرِيُّ الْكِلَابِيُّ، أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا، وَأُعْطِيَ يَوْمَئِذٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ تَأْلِيفًا لِقَلْبِهِ، وَكَانَ يَكُونُ بِتِهَامَةَ، وَكَانَ شَرِيفًا مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ، وَقَدِ ارْتَدَّ أَيَّامَ الصِّدِّيقِ؛ فَبَعَثَ إِلَيْهِ سَرِيَّةً؛ فَانْهَزَمَ ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَوَفَدَ عَلَى عُمَرَ فِي خِلَافَتِهِ وَقَدِمَ دِمَشْقَ فِي طَلَبِ مِيرَاثٍ لَهُ، وَيُقَالُ: اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ عَلَى حَوْرَانَ فَمَاتَ بِهَا. وَقَدْ كَانَ الْحُطَيْئَةُ قَصَدَهُ لِيَمْتَدِحَهُ فَمَاتَ قَبْلَ مَقْدَمِهِ بِلَيَالٍ فَقَالَ:

فَمَا كَانَ بَيْنِي لَوْ لَقِيتُكَ سَالِمًا وَبَيْنَ الْغِنَى إِلَّا لَيَالٍ قَلَائِلُ
عَلْقَمَةُ بْنُ مُجَزِّزِ بْنِ الْأَعْوَرِ بْنِ جَعْدَةَ بْنِ مُعَاذِ بْنِ عُتْوَارَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُدْلِجٍ الْكِنَانِيُّ الْمُدْلِجِيُّ، أَحَدُ أُمَرَاءِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى بَعْضِ السَّرَايَا، فَأَجَّجَ نَارًا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَدْخُلُوا فِيهَا فَامْتَنَعُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ دَخَلُوا فِيهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا. وَقَالَ: إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ. وَقَدْ كَانَ عَلْقَمَةُ جَوَادًا مُمَدَّحًا، رَثَاهُ جَوَّاسٌ الْعُذْرِيُّ فَقَالَ:
إِنَّ السَّلَامَ وَحُسْنَ كُلِّ تَحِيَّةٍ تَغْدُو عَلَى ابْنِ مُجَزِّزٍ وَتَرُوحُ
عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ بْنِ عَائِشٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، لَهُ حَدِيثٌ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: تُوُفِّيَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

وَقِيلَ: فِي خِلَافَةِ عُمَرَ. وَقَالَ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى قَبْرِهِ: لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، مَا نُصِبَتْ رَايَةٌ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا وَهُوَ وَاقِفٌ تَحْتَهَا. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْأَثَرَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، كَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ مِنْ طَرِيقِهِ.
غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ الثَّقَفِيُّ، أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا. وَقَدْ وَفَدَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى كِسْرَى فَأَمَرَهُ أَنْ يَبْنِيَ لَهُ قَصْرًا بِالطَّائِفِ. وَقَدْ سَأَلَهُ كِسْرَى: أَيُّ وَلَدِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: الصَّغِيرُ حَتَّى يَكْبُرَ، وَالْمَرِيضُ حَتَّى يَبْرَأَ، وَالْغَائِبُ حَتَّى يَقْدَمَ. فَقَالَ لَهُ كِسْرَى: أَنَّى لَكَ هَذَا ! هَذَا كَلَامُ الْحُكَمَاءِ ! قَالَ: فَمَا غِذَاؤُكَ ؟ قَالَ: الْبُرُّ. قَالَ: نَعَمْ هَذَا مِنَ الْبُرِّ لَا مِنَ التَّمْرِ وَاللَّبَنِ.
مَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ الْقُرَشِيُّ الْجُمَحِيُّ، أَخُو حَاطِبٍ وَحَطَّابٍ، أُمُّهُمْ قُتَيْلَةُ بِنْتُ مَظْعُونٍ، أُخْتُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ. أَسْلَمَ مَعْمَرٌ قَبْلَ دُخُولِ دَارِ الْأَرْقَمِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ.

مَيْسَرَةُ بْنُ مَسْرُوقٍ الْعَبْسِيُّ
شَيْخٌ صَالِحٌ، قِيلَ: إِنَّهُ صَحَابِيٌّ. شَهِدَ الْيَرْمُوكَ وَدَخَلَ الرُّومَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ سِتَّةِ آلَافٍ، وَكَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ، فَقَتَلَ وَسَبَى وَغَنِمَ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ عِشْرِينَ. وَرَوَى عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَعَنْهُ أَسْلَمُ مَوْلَى عُمَرَ. لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْغَابَةِ ".
وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَرِينٍ الْحَنْظَلِيُّ الْيَرْبُوعِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَسْلَمَ قَبْلَ دَارِ الْأَرْقَمِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، بِبَطْنِ نَخْلَةَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ حِينَ قَتَلَ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ. تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيُّ الشَّاعِرُ وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ مُرَّةَ، كَانَ يَسْبِقُ الْخَيْلَ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَكَانَ فَتَّاكًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَتُوُفِّيَ فِي زَمَنِ عُمَرَ. أَتَاهُ حُجَّاجٌ، فَذَهَبَ يَأْتِيهِمْ بِمَاءٍ فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ بِالْمَاءِ، وَأَعْطَاهُمْ شَاةً وَقِدَرًا وَلَمْ يُعْلِمْهُمْ بِمَا جَرَى لَهُ، فَأَصْبَحَ فَمَاتَ فَدَفَنُوهُ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ وِفَادَةٌ، وَإِنَّمَا أَسْلَمُ فِي حَيَاةِ

النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ مُخَضْرَمٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو لَيْلَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا إِلَّا تَبُوكَ فَإِنَّهُ تَخَلَّفَ لِعُذْرِ الْفَقْرِ، وَهُوَ أَحَدُ الْبَكَّائِينَ الْمَذْكُورِينَ.
سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ الْقُرَشِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ خَدِيجَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَكَانَتْ صَوَّامَةً قَوَّامَةً. وَيُقَالُ: كَانَ فِي خُلُقِهَا حِدَّةٌ. وَقَدْ كَبِرَتْ فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يُفَارِقَهَا - وَيُقَالُ: بَلْ فَارَقَهَا - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تُفَارِقُنِي وَأَنَا أَجْعَلُ يَوْمِي لِعَائِشَةَ. فَتَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَالَحَهَا عَلَى ذَلِكَ. وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ الْآيَةَ [ النِّسَاءِ: 128 ]. قَالَتْ عَائِشَةُ: نَزَلَتْ فِي سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ. تُوُفِّيَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
هِنْدُ بْنُ عُتْبَةَ، يُقَالُ: مَاتَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ. وَقِيلَ: تُوُفِّيَتْ قَبْلَ ذَلِكَ. كَمَا تَقَدَّمَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ اسْتَهَلَّتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ
فَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهَا دُفِنَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ فِي قَوْلٍ. وَبَعْدَ ثَلَاثِ أَيَّامٍ بُويِعَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

خِلَافَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَدْ جَعَلَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ شُورَى بَيْنَ سِتَّةِ نَفَرٍ، وَهُمْ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَتَحَرَّجَ أَنْ يَجْعَلَهَا إِلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَقَالَ: لَا أَتَحَمَّلُ أَمْرَكُمْ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَإِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِكُمْ خَيْرًا يَجْمَعْكُمْ عَلَى خَيْرِ هَؤُلَاءِ، كَمَا جَمَعَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْ تَمَامِ وَرَعِهِ لَمْ يَذْكُرْ فِي أَهْلِ الشُّورَى سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ عَمِّهِ خَشِيَ أَنْ يُرَاعَى فَيُوَلَّى لِكَوْنِهِ ابْنَ عَمِّهِ، فَلِذَلِكَ تَرَكَهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ بَلْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ الْمَدَائِنِيِّ، عَنْ شُيُوخِهِ أَنَّهُ اسْتَثْنَاهُ مِنْ بَيْنِهِمْ وَقَالَ: لَسْتُ مُدْخِلَهُ فِيهِمْ. وَقَالَ لِأَهْلِ الشُّورَى: يَحْضُرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَهُ - وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ؛ بَلْ يَحْضُرُ الشُّورَى وَيُشِيرُ بِالنُّصْحِ

وَلَا يُوَلَّى شَيْئًا.
وَأَوْصَى أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ الرُّومِيُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ الشُّورَى، وَأَنْ يَجْتَمِعَ أَهْلُ الشُّورَى وَيُوَكَّلَ بِهِمْ أُنَاسٌ حَتَّى يَنْبَرِمَ الْأَمْرُ وَوَكَّلَ بِهِمْ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ مُسْتَحِثًّا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأُسُودِ الْكِنْدِيَّ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا أَظُنُّ النَّاسَ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَحَدًا؛ إِنَّهُمَا كَانَا يَكْتُبَانِ الْوَحْيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّا يَنْزِلُ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ.
قَالُوا: فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأُحْضِرَتْ جِنَازَتُهُ تَبَادَرَ إِلَيْهَا عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ أَيُّهُمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لَسْتُمَا مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ، إِنَّمَا هَذَا إِلَى صُهَيْبٍ الَّذِي أَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ. فَتَقَدَّمَ صُهَيْبٌ وَصَلَّى عَلَيْهِ. وَنَزَلَ فِي قَبْرِهِ مَعَ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ أَهْلُ الشُّورَى سِوَى طَلْحَةَ فَإِنَّهُ كَانَ غَائِبًا.
فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ شَأْنِ عُمَرَ جَمَعَهُمُ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ فِي بَيْتِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَقِيلَ: فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ. وَقِيلَ: فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَقِيلَ: فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أُخْتِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ. وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَجَلَسُوا فِي الْبَيْتِ، وَقَامَ أَبُو طَلْحَةَ يَحْجُبُهُمْ، وَجَاءَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ فَجَلَسَا مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، فَحَصَبَهُمَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَطَرَدَهُمَا، وَقَالَ: جِئْتُمَا لِتَقُولَا: حَضَرْنَا أَمْرَ الشُّورَى ! رَوَاهُ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مَشَايِخِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْقَوْمَ خَلَصُوا مِنَ النَّاسِ فِي بَيْتٍ يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرِهِمْ فَكَثُرَ

الْقَوْلُ، وَعَلَتِ الْأَصْوَاتُ، وَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: إِنِّي كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ تَدَافَعُوهَا، وَلَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنْ تَنَافَسُوهَا. ثُمَّ صَارَ الْأَمْرُ بَعْدَ حُضُورِ طَلْحَةَ إِلَى أَنْ فَوَّضَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ مَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ إِلَى ثَلَاثَةٍ؛ فَفَوَّضَ الزُّبَيْرُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْإِمَارَةِ إِلَى عَلِيٍّ، وَفَوَّضَ سَعْدٌ مَا لَهُ فِي ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَتَرَكَ طَلْحَةُ حَقَّهُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِعَلِيٍّ وَعُثْمَانَ: أَيُّكُمَا يَبْرَأُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَنُفَوِّضَ الْأَمْرَ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ عَلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ، لَيُوَلِّيَنَّ أَفْضَلَ الرَّجُلَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ. فَأُسْكِتَ الشَّيْخَانِ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَإِنِّي أَتْرُكُ حَقِّي مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ عَلَيَّ وَالْإِسْلَامُ أَنْ أَجْتَهِدَ فَأُوَلِّيَ أَوْلَاكُمَا بِالْحَقِّ. فَقَالَا: نَعَمْ. ثُمَّ خَاطَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْفَضْلِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ لَئِنْ وَلَّاهُ لَيَعْدِلَنَّ وَلَئِنْ وُلِّيَ عَلَيْهِ لَيَسْمَعَنَّ وَلَيُطِيعَنَّ، فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: نَعَمَ. ثُمَّ تَفَرَّقُوا.
وَيُرْوَى أَنَّ أَهْلَ الشُّورَى جَعَلُوا الْأَمْرَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ؛ لِيَجْتَهِدَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَفْضَلِهِمْ فَيُوَلِّيَهُ. فَيُذْكَرُ أَنَّهُ سَأَلَ كُلَّ مَنْ يُمْكِنُهُ سُؤَالُهُ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى وَغَيْرِهِمْ، فَلَا يُشِيرُ إِلَّا بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ حَتَّى أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أُوَلِّكَ، فَمَنْ تُشِيرُ بِهِ ؟ قَالَ: بِعُثْمَانَ. وَقَالَ لِعُثْمَانَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أُوَلِّكَ، فَمَنْ تُشِيرُ بِهِ ؟ قَالَ: بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَصِرَ الْأَمْرُ فِي ثَلَاثَةٍ، وَيَنْخَلِعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْهَا لِيَنْظُرَ الْأَفْضَلَ، وَاللَّهُ عَلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ لَيَجْتَهِدَنَّ فِي أَفْضَلِ الرَّجُلَيْنِ فَيُوَلِّيهِ.

ثُمَّ نَهَضَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَسْتَشِيرُ النَّاسَ فِيهِمَا وَيَجْتَمِعُ بِرُءُوسِ النَّاسِ وَأَجْنَادِهِمْ؛ جَمِيعًا وَأَشْتَاتًا، مَثْنَى وَفُرَادَى وَمُجْتَمِعِينَ، سِرًّا وَجَهْرًا، حَتَّى خَلَصَ إِلَى النِّسَاءِ الْمُخَدَّرَاتِ فِي حِجَابِهِنَّ، وَحَتَّى سَأَلَ الْوِلْدَانَ فِي الْمَكَاتِبِ، وَحَتَّى سَأَلَ مَنْ يَرِدُ مِنَ الرُّكْبَانِ وَالْأَعْرَابِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فِي مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، فَلَمْ يَجِدِ اثْنَيْنِ يَخْتَلِفَانِ فِي تَقْدِيمِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ؛ إِلَّا مَا يُنْقَلُ عَنْ عَمَّارٍ وَالْمِقْدَادِ أَنَّهُمَا أَشَارَا بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ بَايَعَا مَعَ النَّاسِ عَلَى مَا سَيُذْكَرُ. فَسَعَى فِي ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا لَا يَغْتَمِضُ بِكَثِيرِ نَوْمٍ إِلَّا صَلَاةً وَدُعَاءً وَاسْتِخَارَةً، وَسُؤَالًا مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَعْدِلُ بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُسْفِرُ صَبَاحُهَا عَنِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ مَوْتِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، جَاءَ إِلَى مَنْزِلِ ابْنِ أُخْتِهِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، فَقَالَ: أَنَائِمٌ يَا مِسْوَرُ ! وَاللَّهِ لَمْ أَغْتَمِضْ بِكَثِيرِ نَوْمٍ مُنْذُ ثَلَاثٍ، اذْهَبْ فَادْعُ لِي عَلِيًّا وَعُثْمَانَ. قَالَ الْمِسْوَرُ: فَقُلْتُ: بِأَيِّهِمَا أَبْدَأُ ؟ فَقَالَ: بِأَيِّهِمَا شِئْتَ. قَالَ: فَذَهَبْتُ إِلَى عَلِيٍّ، فَقُلْتُ: أَجِبْ خَالِي. فَقَالَ: أَمَرَكَ أَنْ تَدْعُوَ مَعِيَ أَحَدًا ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: مَنْ ؟ قُلْتُ: عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ. قَالَ: بِأَيِّنَا بَدَأَ ؟ قُلْتُ: لَمْ يَأْمُرْنِي بِذَلِكَ، بَلْ قَالَ: ادْعُ أَيَّهُمَا شِئْتَ أَوَّلًا. فَجِئْتُ إِلَيْكَ. قَالَ: فَخَرَجَ مَعِي، فَلَمَّا مَرَرْنَا بِدَارِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،

جَلَسَ عَلِيٌّ حَتَّى دَخَلْتُ فَوَجَدْتُهُ يُوتِرُ مَعَ الْفَجْرِ، فَدَعَوْتُهُ، فَقَالَ لِي كَمَا قَالَ لِي عَلِيٌّ سَوَاءً، ثُمَّ خَرَجَ، فَدَخَلْتُ بِهِمَا عَلَى خَالِي وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ سَأَلْتُ النَّاسَ عَنْكُمَا، فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَعْدِلُ بِكُمَا أَحَدًا. ثُمَّ أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَيْضًا لَئِنْ وَلَّاهُ لَيَعْدِلَنَّ، وَلَئِنْ وَلَّى عَلَيْهِ لَيَسْمَعَنَّ وَلِيُطِيعَنَّ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَقَدْ لَبِسَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْعِمَامَةَ الَّتِي عَمَّمَهُ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَلَّدَ سَيْفًا، وَبَعَثَ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَنُودِيَ فِي النَّاسِ عَامَّةً: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. فَامْتَلَأَ الْمَسْجِدُ حَتَّى غَصَّ بِالنَّاسِ، وَتَرَاصَّ النَّاسُ، وَتَرَاصُّوا حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِعُثْمَانَ مَوْضِعٌ يَجْلِسُ فِيهِ إِلَّا فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسُ - وَكَانَ رَجُلًا حَيِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ صَعِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مِنْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَقَفَ وُقُوفًا طَوِيلًا، وَدَعَا دُعَاءً طَوِيلًا، لَمْ يَسْمَعْهُ النَّاسُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ سَأَلْتُكُمْ سِرًّا وَجَهْرًا، مَثْنَى وَفُرَادَى، فَلَمْ أَجِدْكُمْ تَعْدِلُونَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ؛ إِمَّا عَلِيٌّ وَإِمَّا عُثْمَانُ، فَقُمْ إِلَيَّ يَا عَلِيُّ، فَقَامَ إِلَيْهِ فَوَقَفَ تَحْتَ الْمِنْبَرِ، فَأَخَذَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِيَدِهِ فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ مُبَايِعِي عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا، وَلَكِنْ عَلَى جُهْدِي مِنْ ذَلِكَ وَطَاقَتِي. قَالَ: فَأَرْسَلَ يَدَهُ وَقَالَ:

قُمْ يَا عُثْمَانُ. فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ مُبَايِعِي عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى سَقْفِ الْمَسْجِدِ وَيَدَهُ فِي يَدِ عُثْمَانَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اسْمَعْ وَاشْهَدْ، اللَّهُمَّ اسْمَعْ وَاشْهَدْ، اللَّهُمَّ اسْمَعْ وَاشْهَدْ، اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ مَا فِي رَقَبَتِي مِنْ ذَاكَ فِي رَقَبَةِ عُثْمَانَ. قَالَ: وَازْدَحَمَ النَّاسُ يُبَايِعُونَ عُثْمَانَ حَتَّى غَشَوْهُ تَحْتَ الْمِنْبَرِ قَالَ: فَقَعَدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَقْعَدَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَجْلَسَ عُثْمَانَ تَحْتَهُ عَلَى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ، وَجَاءَ إِلَيْهِ النَّاسُ يُبَايِعُونَهُ، وَبَايَعَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَوَّلًا، وَيُقَالُ آخِرًا.
وَمَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ - كَابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ - عَنْ رِجَالٍ لَا يُعْرَفُونَ مِنْ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: خَدَعْتَنِي، وَإِنَّكَ إِنَّمَا وَلَّيْتَهُ؛ لِأَنَّهُ صِهْرُكَ وَلِيُشَاوِرَكَ كُلَّ يَوْمٍ فِي شَأْنٍ. وَأَنَّهُ تَلَكَّأَ حَتَّى قَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [ سُورَةُ الْفَتْحِ: 10 ]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ، فَهِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَى قَائِلِيهَا وَنَاقِلِيهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَظْنُونُ بِالصَّحَابَةِ خِلَافُ مَا يَتَوَهَّمُ كَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ الرَّافِضَةِ وَأَغْبِيَاءِ الْقُصَّاصِ الَّذِينَ لَا تَمْيِيزَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ صَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَضَعِيفِهَا، وَمُسْتَقِيمِهَا وَسَقِيمِهَا، وَشَاذِّهَا وَقَوِيمِهَا،

وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي بُويِعَ فِيهِ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ فَرَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ شُيُوخِهِ أَنَّهُ بُويِعَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَاسْتَقْبَلَ بِخِلَافَتِهِ الْمُحَرَّمَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: بُويِعَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ مَقْتَلِ عُمَرَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ. وَهَذَا أَغْرَبُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَقَالَ سَيْفٌ، عَنْ خُلَيْدِ بْنِ ذَفَرَةَ، وَمُجَالِدٍ قَالَا: اسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ. وَكَذَا رَوَى سَيْفٌ عَنْ عُمَرَ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: اجْتَمَعَ أَهْلُ الشُّورَى عَلَى عُثْمَانَ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ وَقَدْ أَذَّنَ مُؤَذِّنُ صُهَيْبٍ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، فَخَرَجَ فَصَلَّى بِهِمُ الْعَصْرَ وَزَادَ النَّاسَ - يَعْنِي فِي أُعْطِيَّاتِهِمْ - مِائَةً، وَوَفَّدَ أَهْلَ الْأَمْصَارِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ.

قُلْتُ: ظَاهِرُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ سِيَاقِ بَيْعَتِهِ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ، لَكِنَّهُ لَمَّا بَايَعَهُ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ، ذُهِبَ بِهِ إِلَى دَارِ الشُّورَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيهَا مِنَ الْخِلَافِ، فَبَايَعَهُ بَقِيَّةُ النَّاسِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ الْبَيْعَةَ إِلَّا بَعْدَ الظُّهْرِ.
وَصَلَّى صُهَيْبٌ يَوْمَئِذٍ الظَّهْرَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَكَانَ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا الْخَلِيفَةُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِالْمُسْلِمِينَ صَلَاةُ الْعَصْرِ، كَمَا ذَكَرَهُ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا بِالْمُسْلِمِينَ فَرَوَى سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ بَدْرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَمِّهِ قَالَ: لَمَّا بَايَعَ أَهْلُ الشُّورَى عُثْمَانَ، خَرَجَ وَهُوَ أَشَدُّهُمْ كَآبَةً فَأَتَى مِنْبَرَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَطَبَ النَّاسَ؛ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: إِنَّكُمْ فِي دَارِ قَلْعَةٍ، وَفِي بَقِيَّةِ أَعْمَارٍ، فَبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِخَيْرِ مَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، فَلَقَدْ أُتِيتُمْ؛ صُبِّحْتُمْ أَوْ مُسِّيتُمْ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا طُوِيَتْ عَلَى الْغُرُورِ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [ لُقْمَانَ: 33 ]. وَاعْتَبِرُوا بِمَنْ مَضَى ثُمَّ جِدُّوا وَلَا تَغْفُلُوا؛ أَيْنَ أَبْنَاءُ الدُّنْيَا وَإِخْوَانُهَا الَّذِينَ أَثَارُوهَا وَعَمَرُوهَا وَمُتِّعُوا بِهَا طَوِيلًا؛ أَلَمْ تَلْفِظْهُمْ ! ارْمُوا بِالدُّنْيَا حَيْثُ رَمَى اللَّهُ بِهَا، وَاطْلُبُوا الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ ضَرَبَ لَهَا مَثَلًا، وَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، فَقَالَ تَعَالَى وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا

[ سُورَةُ الْكَهْفِ: 45، 46 ]. قَالَ: وَأَقْبَلَ النَّاسُ يُبَايِعُونَهُ.
قُلْتُ: وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ إِمَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ يَوْمَئِذٍ، أَوْ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ جَالِسٌ فِي رَأْسِ الْمِنْبَرِ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ عُثْمَانَ لَمَّا خَطَبَ أَوَّلَ خُطْبَةٍ أُرْتِجَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ حَتَّى قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَوَّلَ مَرْكَبٍ صَعْبٌ، وَإِنْ أَعِشْ فَسَتَأْتِكُمُ الْخُطْبَةُ عَلَى وَجْهِهَا. فَهُوَ شَيْءٌ يَذْكُرُهُ صَاحِبُ الْعِقْدِ وَغَيْرُهُ، مِمَّنْ يَذْكُرُ طَرَفَ الْفَوَائِدِ، وَلَكِنْ لَمْ أَرَ هَذَا بِإِسْنَادٍ تَسْكُنُ النَّفْسُ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ زَادَ النَّاسَ مِائَةً، يَعْنِي فِي عَطَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ؛ زَادَهُ عَلَى مَا فَرَضَ لَهُ عُمَرُ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ دِرْهَمًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يُفْطِرُ عَلَيْهِ، وَلِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ، أَقَرَّ ذَلِكَ وَزَادَهُ، وَاتَّخَذَ سِمَاطًا فِي الْمَسْجِدِ أَيْضًا لِلْمُتَعَبِّدِينَ، وَالْمُعْتَكِفِينَ، وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَالْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا خَطَبَ يَقُومُ عَلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي تَحْتَ الدَّرَجَةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقِفُ عَلَيْهَا فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ نَزَلَ دَرَجَةً أُخْرَى عَنْ دَرَجَةِ أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ قَالَ: إِنَّ هَذَا يَطُولُ: فَصَعِدَ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَزَادَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةَ قَبْلَ الْأَذَانِ الَّذِي كَانَ يُؤُذَّنُ بِهِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ.
وَأَمَّا أَوَّلُ حُكُومَةٍ حَكَمَ فِيهَا فَقَضِيَّةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ غَدَا عَلَى ابْنَةِ أَبِي لُؤْلُؤَةَ قَاتِلِ عُمَرَ فَقَتَلَهَا، وَضَرَبَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا يُقَالُ لَهُ: جُفَيْنَةُ. بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، وَضَرَبَ الْهُرْمُزَانَ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ تَسْتُرَ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُمَا مَالَئَا أَبَا لُؤْلُؤَةَ عَلَى قَتْلِ عُمَرَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ قَدْ أَمَرَ بِسَجْنِهِ لِيَحْكُمَ فِيهِ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ، وَجَلَسَ لِلنَّاسِ، كَانَ أَوَّلَ مَا تُحُوكِمَ إِلَيْهِ فِي شَأْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا مِنَ الْعَدْلِ تَرْكُهُ. وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ: أَيُقْتَلُ أَبُوهُ بِالْأَمْسِ وَيُقْتَلُ هُوَ الْيَوْمَ ! فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ بَرَّأَكَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ؛ قَضِيَّةٌ لَمْ تَكُنْ فِي أَيَّامِكَ فَدَعْهَا عَنْكَ. فَوَدَى عُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أُولَئِكَ الْقَتْلَى مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُمْ إِلَيْهِ، إِذْ لَا وَارِثَ لَهُمْ إِلَّا بَيْتُ الْمَالِ، وَالْإِمَامُ يَرَى الْأَصْلَحَ فِي ذَلِكَ، وَخَلَّى سَبِيلَ عُبَيْدِ اللَّهِ. قَالُوا: فَكَانَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْبَيَاضِيُّ إِذَا رَأَى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ:
أَلَا يَا عُبَيْدَ اللَّهِ مَالَكَ مَهْرَبٌ وَلَا مَلْجَأٌ مِنِ ابْنِ أَرْوَى وَلَا خَفَرْ أَصَبْتَ دَمًا وَاللَّهِ فِي غَيْرِ حِلِّهِ
حَرَامًا وَقَتْلُ الْهُرْمُزَانِ لَهُ خَطَرْ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ غَيْرَ أَنْ قَالَ قَائِلٌ
أَتَتَّهِمُونَ الْهُرْمُزَانَ عَلَى عُمَرَ

فَقَالَ سَفِيهٌ وَالْحَوَادِثُ جَمَّةٌ
نَعَمْ أَتَّهِمْهُ قَدْ أَشَارَ وَقَدْ أَمَرَ وَكَانَ سِلَاحُ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ
يُقَلِّبُهَا وَالْأَمْرُ بِالْأَمْرِ يُعْتَبَرْ
قَالَ: فَشَكَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ زِيَادًا إِلَى عُثْمَانَ، فَاسْتَدْعَى عُثْمَانُ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ، فَأَنْشَأَ زِيَادٌ يَقُولُ فِي عُثْمَانَ:
أَبَا عَمْرٍو عُبَيْدُ اللَّهِ رَهْنٌ فَلَا تَشْكُكْ بِقَتْلِ الْهُرْمُزَانِ
فَإِنَّكَ إِنْ غَفَرْتَ الْجُرْمَ عَنْهُ وَأَسْبَابُ الْخُطَا فَرَسَا رِهَانِ
أَتَعْفُو إِذْ عَفَوْتَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَمَا لَكَ بِالَّذِي يُخْلَى يَدَانِ
قَالَ: فَنَهَاهُ عُثْمَانُ عَنْ ذَلِكَ، وَزَبَرَهُ، فَسَكَتَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ عَمَّا يَقُولُ.
ثُمَّ كَتَبَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى عُمَّالِهِ عَلَى الْأَمْصَارِ؛ أُمَرَاءِ الْحَرْبِ وَالْأَئِمَّةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَالْأُمَنَاءِ عَلَى بُيُوتِ الْمَالِ؛ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى الِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عُثْمَانُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ عَنِ الْكُوفَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، فَكَانَ أَوَّلَ عَامِلٍ وَلَّاهُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَ: فَإِنْ أَصَابَتِ الْإِمْرَةُ سَعْدًا فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ وَلِيَ، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ. فَاسْتَعْمَلَ سَعْدًا عَلَيْهَا سَنَةً وَبَعْضَ أُخْرَى. ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ

طَرِيقِ سَيْفٍ، عَنْ مَجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِيمَا ذَكَرَهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ أَوْصَى أَنْ تُقَرَّ عُمَّالُهُ سَنَةً، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ أَقَرَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ عَلَى الْكُوفَةِ سَنَةً، ثُمَّ عَزَلَهُ، وَاسْتَعْمَلَ سَعْدًا، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ تَكُونُ وِلَايَةُ سَعْدٍ عَلَى الْكُوفَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ - غَزَا الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ أَذْرَبِيجَانَ، وَأَرْمِينِيَّةَ حِينَ مَنَعَ أَهْلُهَا مَا كَانُوا صَالَحُوا عَلَيْهِ فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي مِخْنَفٍ. وَأَمَّا فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا هَذِهِ الْوَقْعَةَ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ سَارَ بِجَيْشِ الْكُوفَةِ نَحْوَ أَذْرَبِيجَانَ وَأَرْمِينِيَةَ حِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ فَوَطِئَ بِلَادَهُمْ، وَأَغَارَ بِأَرَاضِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَغَنِمَ وَسَبَى، وَأَخَذَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، فَلَمَّا أَيْقَنُوا بِالْهِلْكَةِ صَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى مَا كَانُوا صَالَحُوا عَلَيْهِ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ؛ ثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَقَبَضَ مِنْهُمْ جِزْيَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ سَالِمًا غَانِمًا إِلَى الْكُوفَةِ، فَمَرَّ بِالْمَوْصِلِ، وَجَاءَهُ كِتَابُ عُثْمَانَ وَهُوَ بِهَا يَأْمُرُهُ أَنْ يُمِدَّ أَهْلَ الشَّامِ عَلَى حَرْبِ أَهْلِ الرُّومِ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَاشَتِ الرُّومُ حَتَّى خَافَ أَهْلُ الشَّامِ وَبَعَثُوا إِلَى عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَسْتَمِدُّونَهُ، فَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ؛ أَنْ إِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا، فَابْعَثْ رَجُلًا أَمِينًا كَرِيمًا شُجَاعًا قِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ أَوْ تِسْعَةِ آلَافٍ أَوْ عَشَرَةِ آلَافٍ إِلَى إِخْوَانِكُمْ بِالشَّامِ. فَقَامَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا حِينَ وَصَلَ إِلَيْهِ كِتَابُ عُثْمَانَ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَدَبَ النَّاسَ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَمُعَاوَنَةِ مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ، وَأَمَّرَ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ إِلَى الشَّامِ، فَانْتَدَبَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ، فَبَعَثَهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَعَلَى جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ حَبِيبُ بْنُ مُسْلِمٍ الْفِهْرِيُّ. فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْجَيْشَانِ شَنُّوا الْغَارَاتِ عَلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَغَنِمُوا وَسَبَوْا سَبْيًا كَثِيرًا، وَفَتَحُوا حُصُونًا كَثِيرَةً. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الَّذِي أَمَدَّ أَهْلَ الشَّامِ بِسَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ إِنَّمَا هُوَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ؛ عَنْ كِتَابِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَبَعَثَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ بِسِتَّةِ آلَافِ فَارِسٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَقَدْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ الْمَوْرِيَانُ الرُّومِيُّ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا مِنَ الرُّومِ وَالتُّرْكِ، وَكَانَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ شُجَاعًا شَهْمًا، فَعَزَمَ عَلَى أَنْ يُبَيِّتَ جَيْشَ الرُّومِ، فَسَمِعَتْهُ امْرَأَتُهُ يَقُولُ لِلْأُمَرَاءِ ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ: فَأَيْنَ مَوْعِدِي مَعَكَ. تَعْنِي أَيْنَ أَجْتَمِعُ بِكَ غَدًا ؟ فَقَالَ لَهَا: مَوْعِدُكِ سُرَادِقُ مَوْرِيَانَ أَوِ الْجَنَّةُ. ثُمَّ نَهَضَ إِلَيْهِمْ فِي اللَّيْلِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،

فَقَتَلَ مَنْ أَشْرَفَ لَهُ، وَسَبَقَتْهُ امْرَأَتُهُ إِلَى سُرَادِقِ مَوْرِيَانَ، فَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنَ الْعَرَبِ ضُرِبَ عَلَيْهَا سُرَادِقُ، وَقَدْ مَاتَ عَنْهَا حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَخَلَفَ عَلَيْهَا بَعْدَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ؛ فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَاخْتُلِفَ فِي مَنْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ؛ فَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو مَعْشَرٍ: حَجَّ بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَمْرِ عُثْمَانَ. وَقَالَ آخَرُونَ: حَجَّ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَشْهَرُ؛ فَإِنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لِأَجْلِ رُعَافٍ أَصَابَهُ مَعَ النَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَتَّى خُشِيَ عَلَيْهِ. وَكَانَ يُقَالُ لِهَذِهِ السَّنَةِ: سَنَةُ الرُّعَافِ.
وَفِيهَا افْتَتَحَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ الرَّيَّ بَعْدَ مَا نَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ وَاثَقَهُمْ عَلَيْهِ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ
بْنُ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ، وَيُكَنَّى بِأَبِي سُفْيَانَ، كَانَ يَنْزِلُ قُدَيْدًا، وَهُوَ الَّذِي اتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُرَيْقِطٍ الدِّيَلِيَّ، حِينَ خَرَجُوا مِنْ غَارِ ثَوْرٍ قَاصِدِينَ الْمَدِينَةَ، فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُمْ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ لَمَّا جَعَلُوا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، فَطَمِعَ أَنْ يَفُوزَ بِهَذَا الْجُعْلِ، فَلَمْ يُسَلِّطْهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، بَلْ لَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُمْ وَسَمِعَ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَاخَتْ قَوَائِمُ فَرَسِهِ فِي الْأَرْضِ حَتَّى نَادَاهُمْ

بِالْأَمَانِ، فَأَعْطَوْهُ الْأَمَانَ، وَكَتَبَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ كِتَابَ أَمَانٍ عَنْ إِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قُدِمَ بِهِ بَعْدَ غَزْوَةِ الطَّائِفِ، فَأَسْلَمَ وَأَكْرَمَهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْقَائِلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ ؟ فَقَالَ لَهُ: بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ، دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ
وَفِيهَا نَقَضَ أَهْلُ إِسْكَنْدَرِيَّةَ الْعَهْدَ، وَذَلِكَ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ بَعَثَ إِلَيْهِمْ مَنَوِيلَ الْخَصِيَّ فِي مَرَاكِبَ مِنَ الْبَحْرِ، فَطَمِعُوا فِي النُّصْرَةِ وَنَقَضُوا ذِمَّتَهُمْ، فَغَزَاهُمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، فَافْتَتَحَ الْأَرْضَ عَنْوَةً، وَافْتَتَحَ الْمَدِينَةَ صُلْحًا.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِيهَا فِي قَوْلِ سَيْفٍ عَزَلَ عُثْمَانُ سَعْدًا عَنِ الْكُوفَةِ وَوَلَّى الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مَكَانَهُ. فَكَانَ هَذَا مِمَّا نُقِمَ عَلَى عُثْمَانَ.
وَفِيهَا وَجَّهَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ لِغَزْوِ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَاسْتَأْذَنَهُ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فِي غَزْوِ إِفْرِيقِيَّةَ فَأَذِنَ لَهُ. وَيُقَالُ: فِيهَا أَيْضًا عَزَلَ عُثْمَانُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَنْ مِصْرَ وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ هَذَا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ. كَمَا سَيَأْتِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا فَتَحَ مُعَاوِيَةُ الْحُصُونَ. وَفِيهَا وُلِدَ ابْنُهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِيهَا أَمَرَ عُثْمَانُ بِتَجْدِيدِ أَنْصَابِ الْحَرَمِ، وَفِيهَا وَسَّعَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَفِيهَا عَزَلَ سَعْدًا عَنِ الْكُوفَةِ وَوَلَّى الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِ سَعْدٍ أَنَّهُ اقْتَرَضَ مِنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَالًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَمَّا تَقَاضَاهُ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَلَمْ يَتَيَسَّرْ قَضَاؤُهُ تَقَاوَلَا وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ شَدِيدَةٌ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمَا عُثْمَانُ فَعَزَلَ سَعْدًا وَاسْتَعْمَلَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ - وَكَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ عَلَى عَرَبِ الْجَزِيرَةِ - فَلَمَّا قَدِمَهَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا، فَأَقَامَ بِهَا خَمْسَ سِنِينَ وَلَيْسَ عَلَى دَارِهِ بَابٌ وَكَانَ فِيهِ رِفْقٌ بِرَعِيَّتِهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَفِيهَا افْتَتَحَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ سَابُورَ صُلْحًا عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو مَعْشَرٍ: وَفِيهَا عَزَلَ عُثْمَانُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَنْ مِصْرَ وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ - وَكَانَ أَخَا عُثْمَانَ لِأُمِّهِ - وَهُوَ الَّذِي شَفَعَ لَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ حِينَ كَانَ أَهْدَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَمَهُ. وَكَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَأَبَاحَ دَمَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ. وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا نُقِمَ عَلَى عُثْمَانَ.

غَزْوَةُ إِفْرِيقِيَّةَ
أَمَرَ عُثْمَانُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَنْ يَغْزُوَ بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ، فَإِذَا فَتَحَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَهُ خُمْسُ الْخُمْسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ نَفْلًا. فَسَارَ إِلَيْهَا فِي عَشَرَةِ آلَافٍ فَافْتَتَحَهَا؛ سَهْلَهَا وَجَبَلَهَا، وَقَتَلَ خَلْقَا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ اجْتَمَعُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَالْإِسْلَامِ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُمْ، وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ خُمْسَ الْخُمْسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ، وَبَعَثَ بِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ إِلَى عُثْمَانَ، وَقَسَمَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ بَيْنَ الْجَيْشِ فَأَصَابَ الْفَارِسُ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ وَالرَّاجِلُ أَلْفَ دِينَارٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَصَالَحَهُ بِطْرِيقُهَا عَلَى أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ دِينَارٍ فَأَطْلَقَهَا كُلَّهَا عُثْمَانُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لِآلِ الْحَكَمِ.

وَيُقَالُ: لِآلِ مَرْوَانَ.

غَزْوَةُ الْأَنْدَلُسِ
لَمَّا افْتُتِحَتْ إِفْرِيقِيَّةُ بَعَثَ عُثْمَانُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ الْحُصَيْنِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ قَيْسٍ مِنْ فَوْرِهِمَا إِلَى الْأَنْدَلُسِ، فَأَتَيَاهَا مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ، وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَيْهَا يَقُولُ: إِنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ إِنَّمَا تُفْتَحُ مِنْ قِبَلِ الْبَحْرِ، وَأَنْتُمْ إِذَا فَتَحْتُمُ الْأَنْدَلُسَ فَأَنْتُمْ شُرَكَاءُ لِمَنْ يَفْتَتِحُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ فِي الْأَجْرِ آخِرَ الزَّمَانِ، وَالسَّلَامُ. قَالَ: فَسَارُوا إِلَيْهَا فَافْتَتَحُوهَا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَقْعَةُ جُرْجِيرَ وَالْبَرْبَرِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ
لَمَّا قَصَدَ الْمُسْلِمُونَ - وَهُمْ عِشْرُونَ أَلْفًا - إِفْرِيقِيَّةَ وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَفِي جَيْشِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، صَمَدَ إِلَيْهِمْ مَلِكُ الْبَرْبَرِ جُرْجِيرُ فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ. وَقِيلَ: فِي مِائَتَيْ أَلْفٍ. فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ أَمَرَ جَيْشَهُ فَأَحَاطُوا بِالْمُسْلِمِينَ هَالَةً، فَوَقَفَ الْمُسْلِمُونَ فِي مَوْقِفٍ لَمْ يُرَ أَشْنَعَ مِنْهُ وَلَا أَخْوَفَ عَلَيْهِمْ

مِنْهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: فَنَظَرْتُ إِلَى الْمَلِكِ جُرْجِيرَ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوفِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بِرْذَوْنٍ وَجَارِيَتَانِ تُظِلَّانِهِ بِرِيشِ الطَّوَاوِيسِ، فَذَهَبْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَبْعَثَ مَعِيَ مَنْ يَحْمِي ظَهْرِي وَأَقْصِدُ الْمَلِكَ، فَجَهَّزَ مَعِي جَمَاعَةً مِنَ الشُّجْعَانِ. قَالَ: فَأَمَرَ بِهِمْ فَحَمَوْا ظَهْرِي، وَذَهَبْتُ حَتَّى اخْتَرَقْتُ الصُّفُوفَ إِلَيْهِ - وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنِّي فِي رِسَالَةٍ إِلَى الْمَلِكِ - فَلَمَّا اقْتَرَبْتُ مِنْهُ أَحَسَّ مِنِّي الشَّرَّ فَفَرَّ عَلَى بِرْذَوْنِهِ، فَلَحِقْتُهُ فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي، وَذَفَفْتُ عَلَيْهِ بِسَيْفِي، وَأَخَذْتُ رَأْسَهُ فَنَصَبْتُهُ عَلَى رَأْسِ الرُّمْحِ، وَكَبَّرْتُ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْبَرْبَرُ فَرِقُوا وَفَرُّوا كَفِرَارِ الْقَطَا، وَأَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، فَغَنِمُوا غَنَائِمَ جَمَّةً، وَأَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَسَبْيًا عَظِيمًا، وَذَلِكَ بِبَلَدٍ يُقَالُ لَهُ: سُبَيْطِلَةُ. عَلَى يَوْمَيْنِ مِنَ الْقَيْرَوَانِ. فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ مَوْقِفٍ اشْتَهَرَ فِيهِ أَمْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ وَأَصْحَابِهِمَا أَجْمَعِينَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ افْتُتِحَتْ إِصْطَخْرُ ثَانِيَةً عَلَى يَدَيْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ قِنَّسْرِينَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مُعَاوِيَةُ قُبْرُسَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ. وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: غَزَاهَا مُعَاوِيَةُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ فَتْحُ قُبْرُسَ
فَفِيهَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فَتْحَ قُبْرُسَ تَبَعًا لِلْوَاقِدِيِّ وَهِيَ جَزِيرَةٌ غَرْبِيُّ بِلَادِ الشَّامِ فِي الْبَحْرِ مُخْلَصَةٌ وَحْدَهَا، وَلَهَا ذَنَبٌ مُسْتَطِيلٌ إِلَى نَحْوِ السَّاحِلِ مِمَّا يَلِي دِمَشْقَ، وَغَرْبِيُّهَا أَعْرَضُهَا، وَفِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمَعَادِنُ، وَهِيَ بَلَدٌ جَيِّدٌ، وَكَانَ فَتْحُهَا عَلَى يَدَيْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، رَكِبَ إِلَيْهَا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَزَوْجَتُهُ أُمُّ حَرَامٍ بِنْتُ مِلْحَانَ الَّتِي تَقَدَّمَ حَدِيثُهَا فِي ذَلِكَ حِينَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي بَيْتِهَا ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ فَقَالَتْ: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ: " أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ ". فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: " أَنْتِ مِنْهُمْ ". ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: " أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ ". فَكَانَتْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَمَاتَتْ بِهَا، وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ عِبَارَةً عَنْ غَزْوَةِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ بَعْدَ هَذَا، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ رَكِبَ الْبَحْرَ فِي مَرَاكِبَ فَقَصَدَ الْجَزِيرَةَ الْمَعْرُوفَةَ بِقُبْرُسَ، وَمَعَهُ جَيْشٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ بِأَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَهُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ سُؤَالِهِ إِيَّاهُ. وَقَدْ كَانَ سَأَلَ فِي ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَأَبَى أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ حَمْلِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا الْخَلْقِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَوِ اضْطَرَبَ

لَهَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ أَلَحَّ مُعَاوِيَةُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، فَأَذِنَ لَهُ، فَرَكِبَ فِي الْمَرَاكِبِ فَانْتَهَى إِلَيْهَا، وَوَافَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ إِلَيْهَا مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَالْتَقَيَا عَلَى أَهْلِهَا فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَبَوْا سَبَايَا كَثِيرَةً، وَغَنِمُوا مَالًا جَزِيلًا جَيِّدًا. وَلَمَّا جِيءَ بِالْأُسَارَى جَعَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ: أَتَبْكِي وَهَذَا يَوْمٌ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنَّ هَذِهِ كَانَتْ أُمَّةً قَاهِرَةً لَهُمْ مُلْكٌ فَلَمَّا ضَيَّعُوا أَمْرَ اللَّهِ صَيَّرَهُمْ إِلَى مَا تَرَى سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السِّبَاءَ، وَإِذَا سُلِّطَ عَلَى قَوْمٍ السِّبَاءُ فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ. وَقَالَ: مَا أَهْوَنَ الْعِبَادَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذَا تَرَكُوا أَمْرَهُ ! ثُمَّ صَالَحَهُمْ مُعَاوِيَةُ عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَهَادَنَهُمْ.
فَلَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنْهَا قُدِّمَتْ لِأُمِّ حَرَامٍ بَغْلَةٌ لِتَرْكَبَهَا، فَسَقَطَتْ عَنْهَا فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا فَمَاتَتْ هُنَاكَ. فَقَبْرُهَا هُنَالِكَ يُعَظِّمُونَهُ وَيَسْتَسْقُونَ بِهِ، وَيَقُولُونَ: قَبْرُ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ سُورِيَةَ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ. وَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةَ، وَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً فَأَسْلَمَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَفِيهَا بَنَى عُثْمَانُ دَارَهُ - بِالْمَدِينَةِ الزَّوْرَاءَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ
فِيهَا عَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ عَنِ الْبَصْرَةِ، بَعْدَ عِمَالَةِ سِتِّ سِنِينَ. وَقِيلَ: ثَلَاثٍ. وَأَمَّرَ عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَهُوَ ابْنُ خَالِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ جُنْدِ أَبِي مُوسَى وَجُنْدِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِهَا سِتَّ سِنِينَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ افْتَتَحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ فَارِسَ، فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ وَأَبِي مَعْشَرٍ. زَعَمَ سَيْفٌ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا وَسَّعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَنَاهُ بِالْقَصَّةِ - وَهِيَ الْكِلْسُ، كَانَ يُؤْتَى بِهِ مِنْ بَطْنِ نَخْلٍ - وَالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ حِجَارَةً مُرَصَّصَةً، وَسُقُفَهُ بِالسَّاجِ، وَجَعَلَ طُولَهُ سِتِّينَ وَمِائَةَ ذِرَاعٍ، وَعَرْضَهُ خَمْسِينَ وَمِائَةَ ذِرَاعٍ، وَجَعَلَ أَبْوَابَهُ سِتَّةً؛ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. ابْتَدَأَ بِنَاءَهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا. وَفِيهِ حَجَّ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَضُرِبَ لَهُ بِمِنًى فُسْطَاطًا، فَكَانَ أَوَّلَ فُسْطَاطٍ ضَرَبَهُ عُثْمَانُ بِمِنًى، وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ عَامَهُ هَذَا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ كَعَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، حَتَّى قَالَ ابْنُ

مَسْعُودٍ: لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ. وَقَدْ نَاظَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِيمَا فَعَلَهُ، فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَالَ: تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ. فَقَالَ لَهُ: وَلَكَ أَهْلٌ بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّكَ تَقُومُ حَيْثُ أَهْلُكَ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: وَإِنَّ لِي مَالًا بِالطَّائِفِ أُرِيدُ أَنْ أَطَّلِعَهُ بَعْدَ الصَّدَرِ. قَالَ: إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الطَّائِفِ مَسِيرَةَ ثَلَاثٍ. فَقَالَ: وَإِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالُوا: إِنَّ الصَّلَاةَ بِالْحَضَرِ رَكْعَتَانِ. فَرُبَّمَا رَأَوْنِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَيَحْتَجُّونَ بِي. فَقَالَ لَهُ: قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَالنَّاسُ يَوْمَئِذٍ الْإِسْلَامُ فِيهِمْ قَلِيلٌ، وَكَانَ يُصَلِّي هَاهُنَا رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي هَاهُنَا رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَصَلَّيْتَ أَنْتَ رَكْعَتَيْنِ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِكَ: قَالَ: فَسَكَتَ عُثْمَانُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ.

سَنَةُ ثَلَاثِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا افْتَتَحَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ طَبَرِسْتَانَ فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ وَأَبِي مَعْشَرٍ وَالْمَدَائِنِيِّ، وَقَالَ: هُوَ أَوَّلُ مَنْ غَزَاهَا. وَزَعَمَ سَيْفٌ أَنَّهُمْ كَانُوا صَالَحُوا سُوَيْدَ بْنَ مُقَرِّنٍ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا يَغْزُوَهَا عَلَى مَالٍ بَذَلَهُ لَهُ إِصْبَهْبَذُهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ رَكِبَ فِي جَيْشٍ فِيهِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَالْعَبَادِلَةُ الْأَرْبَعَةُ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، فِي خَلْقٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَسَارَ بِهِمْ فَمَرَّ عَلَى بُلْدَانٍ شَتَّى، فَصَالَحُوهُ عَلَى أَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَلَدٍ بِمُعَامَلَةِ جُرْجَانَ تُسَمَّى طَمِيسَةَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَقَاتَلُوهُ حَتَّى احْتَاجُوا إِلَى صَلَاةِ الْخَوْفِ، فَسَأَلَ حُذَيْفَةَ: كَيْفَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَأَخْبَرَهُ، فَصَلَّى كَمَا أَخْبَرَهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَهْلُ ذَلِكَ الْحِصْنِ الْأَمَانَ، فَأَعْطَاهُمْ عَلَى أَنْ لَا يَقْتُلَ مِنْهُمْ رَجُلًا وَاحِدًا، فَفَتَحُوا الْحِصْنَ فَقَتَلَهُمْ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا، وَاحْتَوَى عَلَى مَا كَانَ فِي الْحِصْنِ، فَأَصَابَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي نَهْدٍ سَفَطًا مَقْفُولًا فَاسْتَدْعَى بِهِ سَعِيدٌ، فَفَتَحُوهُ فَإِذَا فِيهِ خِرْقَةٌ سَوْدَاءُ مُدْرَجَةٌ، فَنَشَرُوهَا فَإِذَا فِيهَا خِرْقَةٌ حَمْرَاءُ، فَنَشَرُوهَا، وَإِذَا دَاخَلَهَا خِرْقَةٌ صَفْرَاءُ، وَفِيهَا أَيْرَانِ كُمَيْتٍ وَوَرْدٌ. فَقَالَ شَاعِرٌ يَهْجُو بِهِمَا بَنِي نَهْدٍ:

آبَ الْكِرَامُ بِالسَّبَايَا غَنِيمَةً وَفَازَ بَنُو نَهْدٍ بِأَيْرَيْنِ فِي سَفَطْ كُمَيْتٍ وَوَرْدٍ وَافِرَيْنِ كِلَاهُمَا
فَظَنُّوهُمَا غُنْمًا فَنَاهِيكَ مِنْ غَلَطْ
قَالُوا: ثُمَّ نَقَضَ أَهْلُ جُرْجَانَ مَا كَانَ صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَامْتَنَعُوا عَنْ أَدَاءِ الْمَالِ الَّذِي ضَرَبَهُ عَلَيْهِمْ - وَكَانَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ. وَقِيلَ: مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقِيلَ: ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ - ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ عَنِ الْكُوفَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَكَانَ سَبَبُ عَزْلِهِ أَنَّهُ صَلَّى بِأَهْلِ الْكُوفَةِ الصُّبْحَ أَرْبَعًا، ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: أَزِيدُكُمْ ؟ فَقَالَ قَائِلٌ: مَا زِلْنَا مِنْكَ مُنْذُ الْيَوْمِ فِي زِيَادَةٍ. ثُمَّ إِنَّهُ تَصَدَّى لَهُ جَمَاعَةٌ يُقَالُ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ شَنَآنٌ، فَشَكَوْهُ إِلَى عُثْمَانَ، وَشَهِدَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّؤُهَا، فَأَمَرَ عُثْمَانُ بِإِحْضَارِهِ وَأَمَرَ بِجَلْدِهِ - فَيُقَالُ: إِنَّ عَلِيًّا نَزَعَ عَنْهُ حُلَّتَهُ، وَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصَ جَلَدَهُ بَيْنَ يَدَيْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - وَعَزَلَهُ وَأَمَّرَ مَكَانَهُ عَلَى الْكُوفَةِ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَقَطَ خَاتَمُ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ يَدِ عُثْمَانَ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ، وَهِيَ عَلَى مِيلَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَهِيَ مِنْ أَقَلِّ الْآبَارِ مَاءً، فَلَمْ يُدْرَكْ خَبَرُهُ بَعْدَ بَذْلِ مَالٍ جَزِيلٍ، وَالِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهِ، حَتَّى السَّاعَةَ، فَاسْتَخْلَفَ عُثْمَانُ بَعْدَهُ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، وَنَقَشَ عَلَيْهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ ذَهَبَ الْخَاتَمُ فَلَا يُدْرَى مَنْ أَخَذَهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا حَدِيثًا طَوِيلًا فِي اتِّخَاذِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَاتَمًا مَنْ

ذَهَبٍ، ثُمَّ مِنْ فِضَّةٍ، وَبَعَثِهِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ إِلَى كِسْرَى، ثُمَّ دِحْيَةَ إِلَى قَيْصَرَ، وَأَنَّ الْخَاتَمَ كَانَ فِي يَدِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ فِي يَدِ عُمَرَ، ثُمَّ فِي يَدِ عُثْمَانَ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ وَقَعَ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا فِي " الصَّحِيحِ ".
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَأَبِي ذَرٍّ بِالشَّامِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ أَنْكَرَ عَلَى مُعَاوِيَةَ بَعْضَ الْأُمُورِ، وَكَانَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقْتَنِي مَالًا مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَيَمْنَعُ أَنْ يَدَّخِرَ فَوْقَ الْقُوتِ، وَيُوجِبُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ، وَيَتَأَوَّلُ قَوْلَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [ التَّوْبَةِ: 34 ]. فَيَنْهَاهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ إِشَاعَةِ ذَلِكَ فَلَا يَمْتَنِعُ، فَبَعَثَ يَشْكُوهُ إِلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى أَبِي ذَرٍّ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فَقَدِمَهَا، فَلَامَهُ عُثْمَانُ عَلَى بَعْضِ مَا صَدَرَ مِنْهُ، وَاسْتَرْجَعَهُ فَلَمْ يَرْجِعْ، فَأَمَرَهُ بِالْمَقَامِ بِالرَّبَذَةِ - وَهِيَ شَرْقِيُّ الْمَدِينَةِ - وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ أَنْ يُقِيمَ بِهَا، وَقَالَ:إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِي: إِذَا بَلَغَ الْبِنَاءُ سَلْعًا فَاخْرُجْ مِنْهَا. وَقَدْ بَلَغَ الْبِنَاءُ سَلْعًا، فَأَذِنَ لَهُ عُثْمَانُ بِالْمَقَامِ بِالرَّبَذَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَاهَدَ الْمَدِينَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ حَتَّى لَا يَرْتَدَّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ، فَفَعَلَ فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِهَا حَتَّى مَاتَ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ زَادَ عُثْمَانُ النِّدَاءَ الثَّالِثَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الزَّوْرَاءِ.

فَصْلٌ ( فِيمَنْ تُوَفِّي فِي هَذِهِ السَّنَةِ )
وَمِمَّنْ ذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ -

أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثِينَ - أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فِيمَا صَحَّحَهُ الْوَاقِدِيُّ.
جَبَّارُ بْنُ صَخْرِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَنْسَاءَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، عَقَبِيٌّ بَدْرِيٌّ، وَقَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى خَيْبَرَ خَارِصًا، وَقَدْ تُوُفِّيَ عَنْ سِتِّينَ سَنَةً.
حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ اللَّخْمِيُّ، حَلِيفُ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ الَّذِي كَانَ كَتَبَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ يُعْلِمُهُمْ بِعَزْمِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ، فَعَذَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ، ثُمَّ بَعَثَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِرِسَالَةٍ إِلَى الْمُقَوْقِسِ مَلِكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ.
الطُّفَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطِّلِبِ، أَخُو عُبَيْدَةَ وَحُصَيْنٍ، شَهِدَ بَدْرًا. قَالَ: سَعِيدُ بْنُ عُمَيْرٍ: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ عُمَرَ الْمَازِنِيُّ، أَبُو الْحَارِثِ - وَقِيلَ: أَبُو يَحْيَى - الْأَنْصَارِيُّ. شَهِدَ بَدْرًا وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ يَوْمَئِذٍ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَظْعُونٍ، أَخُو عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَشَهِدَ بَدْرًا.

عِيَاضُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدَّادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالٍ، أَبُو سَعْدٍ الْقُرَشِيُّ الْفِهْرِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا.
مَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ وَقِيلَ: ابْنُ الرَّبِيعِ. أَبُو عَمْرٍو الْقَارِي، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، تُوُفِّيَ عَنْ نَيِّفٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
مَعْمَرُ بْنُ أَبِي سَرْحِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالٍ الْقُرَشِيُّ، أَبُو سَعْدٍ الْفِهْرِيُّ. وَقِيلَ: اسْمُهُ عَمْرٌو. بَدْرِيٌّ قَدِيمُ الصُّحْبَةِ.
أَبُو أُسَيْدٍ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ، قَالَ الْفَلَّاسُ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتِّينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ
فَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ الصَّوَارِي، وَغَزْوَةُ الْأَسَاوِدَةِ فِي الْبَحْرِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ. وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: كَانَتْ غَزْوَةُ الصَّوَارِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ. وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَسَيْفٌ وَغَيْرُهُمَا، أَنَّ الشَّامَ كَانَ قَدْ جُمِعَ نِيَابَتُهُ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ لِسَنَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ أَحْرَزَهُ غَايَةَ الْحِفْظِ وَحَمَى حَوْزَتَهُ، وَمَعَ هَذَا لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ غَزْوَةٌ فِي بِلَادِ الرُّومِ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ - وَلِهَذَا يُسَمُّونَ هَذِهِ الْغَزْوَةَ الصَّائِفَةَ - فَيَقْتُلُونَ خَلْقًا وَيَأْسِرُونَ آخَرِينَ، وَيَفْتَحُونَ حُصُونًا، وَيَغْنَمُونَ أَمْوَالًا، وَيُرْعِبُونَ الْأَعْدَاءَ، فَلَمَّا أَصَابَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ مَنْ أَصَابَ مِنَ الْفِرِنْجِ وَالْبَرْبَرِ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ وَالْأَنْدَلُسِ، حَمِيَتِ الرُّومُ وَاجْتَمَعَتْ عَلَى قُسْطَنْطِينَ بْنِ هِرَقْلَ، وَسَارُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي جَمْعٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ مُنْذُ كَانَ الْإِسْلَامُ خَرَجُوا فِي خَمْسِمِائَةِ مَرْكَبٍ، وَقَصَدُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ فِي أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ. فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ بَاتَ الرُّومُ يُقَسْقِسُونَ وَيُصَلِّبُونَ، وَبَاتَ الْمُسْلِمُونَ يَقْرَءُونَ وَيُصَلُّونَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا صَفَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ أَصْحَابَهُ صُفُوفًا فِي الْمَرَاكِبِ، وَأَمَرَهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ. قَالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ: فَأَقْبَلُوا إِلَيْنَا فِي أَمْرٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَرَاكِبِ، وَتَعْدَادِ صَوَارِيهَا، وَكَانَتِ الرِّيحُ لَهُمْ وَعَلَيْنَا فَأَرْسَيْنَا ثُمَّ سَكَنَتِ الرِّيحُ عَنَّا، فَقُلْنَا لَهُمْ:

إِنْ شِئْتُمْ خَرَجْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمَاتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا وَمِنْكُمْ. قَالَ: فَنَخِرُوا نَخِرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَقَالُوا: الْمَاءَ الْمَاءَ. قَالَ: فَدَنَوْنَا مِنْهُمْ وَرَبَطْنَا سُفُنَنَا بِسُفُنِهِمْ. ثُمَّ اجْتَلَدْنَا وَإِيَّاهُمْ بِالسُّيُوفِ يَثِبُ الرِّجَالُ عَلَى الرِّجَالِ بِالسُّيُوفِ وَالْخَنَاجِرِ، وَضَرَبَتِ الْأَمْوَاجُ فِي عُيُونِ تِلْكَ السُّفُنِ حَتَّى أَلْجَأَتْهَا إِلَى السَّاحِلِ، وَأَلْقَتِ الْأَمْوَاجُ جُثَثَ الرِّجَالِ إِلَى السَّاحِلِ حَتَّى صَارَتْ مِثْلَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ، وَغَلَبَ الدَّمُ عَلَى لَوْنِ الْمَاءِ، وَصَبَرَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ صَبْرًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ قَطُّ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ وَمِنَ الرُّومِ أَضْعَافُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهَرَبَ قُسْطَنْطِينُ وَجَيْشُهُ - وَقَدْ قَلُّوا جِدًّا - وَبِهِ جِرَاحَاتٌ شَدِيدَةٌ كَثِيرَةٌ مَكَثَ حِينًا يُدَاوَى مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ بِذَاتِ الصَّوَارِي أَيَّامًا، ثُمَّ رَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مُظَفَّرًا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَحَدَّثَنِي مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، فَأَظْهَرَا عَيْبَ عُثْمَانَ، وَمَا غَيَّرَ وَمَا خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَيَقُولَانِ: دَمُهُ حَلَالٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ سَعْدٍ - وَكَانَ قَدِ ارْتَدَّ وَكَفَرَ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَأَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَمَهُ - وَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقْوَامًا وَاسْتَعْمَلَهُمْ عُثْمَانُ وَنَزَعَ الصَّحَابَةَ وَاسْتَعْمَلَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدٍ فَقَالَ: لَا تَرْكَبَا مَعَنَا. فَرَكِبَا فِي مَرْكَبٍ مَا فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَقُوُا الْعَدُوَّ فَكَانَا أَنْكَلَ الْمُسْلِمِينَ قِتَالًا، فَقِيلَ

لَهُمَا فِي ذَلِكَ فَقَالَا: كَيْفَ نُقَاتِلُ مَعَ رَجُلٍ لَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُحَكِّمَهُ ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ فَنَهَاهُمَا أَشَدَّ النَّهْيِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي لَا أَدْرِي مَا يُوَافِقُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِعَاقَبْتُكُمَا وَحَبَسْتُكُمَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتْ أَرْمِينِيَةُ عَلَى يَدَيْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ كِسْرَى مَلِكُ الْفُرْسِ.

كَيْفِيَّةُ قَتْلِ كِسْرَى مِلِكِ الْفُرْسِ وَهُوَ يَزْدَجِرْدُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هَرَبَ يَزْدَجِرْدُ مِنْ كِرْمَانَ فِي جَمَاعَةٍ يَسِيرَةٍ إِلَى مَرْوَ، فَسَأَلَ مِنْ بَعْضِ أَهْلِهَا مَالًا فَمَنَعُوهُ وَخَافُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَبَعَثُوا إِلَى التُّرْكِ يَسْتَنْصِرُونَهُمْ عَلَيْهِ، فَأَتَوْهُ فَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ وَهَرَبَ هُوَ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَ رَجُلٍ يَنْقُرُ الْأَرْحِيَةَ عَلَى شَطٍّ، فَأَوَى إِلَيْهِ لَيْلًا فَلَمَّا نَامَ قَتَلَهُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: لَمَّا هَرَبَ بَعْدَ قَتْلِ أَصْحَابِهِ انْطَلَقَ مَاشِيًا وَعَلَيْهِ تَاجُهُ وَمِنْطَقَتُهُ وَسَيْفُهُ، فَانْتَهَى إِلَى مَنْزِلِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَنْقُرُ الْأَرْحِيَةَ فَجَلَسَ عِنْدَهُ، فَاسْتَغْفَلَهُ وَقَتَلَهُ وَأَخَذَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَجَاءَتِ التُّرْكُ فِي طَلَبِهِ فَوَجَدُوهُ قَدْ قَتَلَهُ وَأَخَذَ حَاصِلَهُ، فَقَتَلُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَ كِسْرَى، وَوَضَعُوا

كِسْرَى فِي تَابُوتٍ وَحَمَلُوهُ إِلَى إِصْطَخْرَ، وَقَدْ كَانَ يَزْدَجِرْدُ وَطِئَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ مَرْوَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ، فَحَمَلَتْ مِنْهُ، وَوَضَعَتْ بَعْدَ قَتْلِهِ غُلَامًا ذَاهِبَ الشِّقِّ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْغُلَامُ الْمُخَدَّجُ، وَكَانَ لَهُ نَسْلٌ وَعَقِبٌ فِي خُرَاسَانَ، وَقَدْ سَبَى قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ جَارِيَتَيْنِ مَنْ نَسْلِهِ، فَبَعَثَ بِإِحْدَاهُمَا إِلَى الْحَجَّاجِ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَهُ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، الْمُلَقَّبَ بِالنَّاقِصِ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ: إِنَّ يَزْدَجِرْدَ لَمَّا انْهَزَمَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ عَقَرَ جَوَادَهُ، وَذَهَبَ مَاشِيًا حَتَّى دَخَلَ رَحًى عَلَى شَطِّ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: الْمَرْغَابُ، فَمَكَثَ فِيهِ لَيْلَتَيْنِ وَالْعَدُوُّ فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ هُوَ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُ الرَّحَى فَرَأَى كِسْرَى وَعَلَيْهِ أُبَّهَتُهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَنْتَ ؟ إِنْسِيٌّ أَمْ جِنِّيٌّ ؟ قَالَ: إِنْسِيٌّ، فَهَلْ عِنْدَكَ طَعَامٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَتَاهُ بِطَعَامٍ فَقَالَ: إِنِّي مُزَمْزِمٌ فَأْتِنِي بِمَا أُزَمْزِمُ بِهِ. قَالَ: فَذَهَبَ الطَّحَّانُ إِلَى أُسْوَارٍ مِنَ الْأَسَاوِرَةِ فَطَلَبَ مِنْهُ مَا يُزَمْزِمُ بِهِ. قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ: عِنْدِي رَجُلٌ لَمْ أَرَ مَثَلَهُ قَطُّ وَقَدْ طَلَبَ مِنِّي هَذَا. فَذَهَبَ بِهِ الْأُسْوَارُ إِلَى مَلِكِ الْبَلَدِ - مَرْوَ - وَاسْمُهُ مَاهَوَيْهِ بْنُ بَابَاهُ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، فَقَالَ: هُوَ يَزْدَجِرْدُ، اذْهَبُوا فَجِيئُونِي بِرَأْسِهِ. فَذَهَبُوا مَعَ الطَّحَّانِ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ دَارِ الرَّحَى هَابُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ وَتَدَافَعُوا، وَقَالُوا لِلطَّحَّانِ: ادْخُلْ أَنْتَ فَاقْتُلْهُ، فَدَخَلَ فَوَجَدَهُ نَائِمًا، فَأَخَذَ حَجَرًا فَشَدَخَ بِهِ رَأْسَهُ، ثُمَّ احْتَزَّهُ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِمْ، وَأَلْقَى جَسَدَهُ فِي النَّهْرِ،

فَخَرَجَتِ الْعَامَّةُ إِلَى الطَّحَّانِ فَقَتَلُوهُ، وَخَرَجَ أُسْقُفٌ فَأَخَذَ جَسَدَهُ مِنَ النَّهْرِ وَجَعَلَهُ فِي تَابُوتٍ وَحَمَلَهُ إِلَى إِصْطَخْرَ فَوَضَعَهُ فِي نَاوُوسٍ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ مَكَثَ فِي مَنْزِلِ ذَلِكَ الطَّحَّانِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَأْكُلُ حَتَّى رَقَّ لَهُ وَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا مِسْكِينُ أَلَا تَأْكُلُ ؟ وَأَتَاهُ بِطَعَامٍ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آكُلَ إِلَّا بِزَمْزَمَةٍ. فَقَالَ لَهُ: كُلْ وَأَنَا أُزَمْزِمُ لَكَ. فَسَأَلَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِمُزَمْزِمٍ، فَلَمَّا ذَهَبَ يَطْلُبُ لَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَسَاوِرَةِ شَمُّوا رَائِحَةَ الْمِسْكِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَأَنْكَرُوا رَائِحَةَ الْمِسْكِ مِنْهُ، فَسَأَلُوهُ، فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي رَجُلًا مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ. فَعَرَفُوهُ وَقَصَدُوهُ مَعَ الطَّحَّانِ، وَتَقَدَّمَ الطَّحَّانُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، وَهَمَّ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَعَرَفَ يَزْدَجِرْدُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ خُذْ خَاتَمِي وَسِوَارِي وَمِنْطَقَتِي وَدَعْنِي أَذْهَبُ مِنْ هَاهُنَا. فَقَالَ: لَا، أَعْطِنِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَأَنَا أُطْلِقُكَ. فَزَادَهُ إِحْدَى قُرْطَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ حَتَّى يُعْطِيَهُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ دَهَمَهُمُ الْجُنْدُ، فَلَمَّا أَحَاطُوا بِهِ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ قَالَ: وَيْحَكُمْ لَا تَقْتُلُونِي فَإِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى قَتْلِ الْمُلُوكِ عَاقَبَهُ اللَّهُ بِالْحَرِيقِ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا هُوَ قَادِمٌ عَلَيْهِ، فَلَا تَقْتُلُونِي وَاذْهَبُوا بِي إِلَى الْمَلِكِ أَوْ إِلَى الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحْيُونَ مِنْ قَتْلِ الْمُلُوكِ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَسَلَبُوهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُلِيِّ، فَجَعَلُوهُ فِي جِرَابٍ وَخَنَقُوهُ بِوَتَرٍ وَأَلْقَوْهُ فِي النَّهْرِ، فَتَعَلَّقَ بِعُودٍ فَأَخَذَهُ أُسْقُفٌ - وَاسْمُهُ إِيلِيَا - فَحَنَّ عَلَيْهِ؛ لِمَا كَانَ مِنْ أَسْلَافِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَى النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا بِبِلَادِهِمْ، فَوَضَعَهُ فِي تَابُوتٍ وَدَفَنَهُ

فِي نَاوُوسٍ. ثُمَّ حَمَلَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُلِيِّ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَفُقِدَ قُرْطٌ مِنْ حُلِيِّهِ، فَبَعَثَ إِلَى دِهْقَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ فَأَغْرَمَهُ ذَلِكَ.
وَكَانَ مُلْكُ يَزْدَجِرْدَ عِشْرِينَ سَنَةً؛ مِنْهَا أَرْبَعُ سِنِينَ فِي دَعَةٍ وَبَاقِي ذَلِكَ هَارِبًا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ خَوْفًا مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِ الْفُرْسِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ كِتَابُ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَزَّقَهُ فَدَعَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يُمَزَّقَ كُلَّ مُمَزَّقٍ فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ ابْنُ عَامِرٍ فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً كَانَ قَدْ نَقَضَ أَهْلُهَا مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الصُّلْحِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا فَتَحَ عَنْوَةً، وَمِنْ ذَلِكَ مَا فَتَحَ صُلْحًا، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمَدَائِنِ - وَهِيَ مَرْوُ - عَلَى أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ، وَقِيلَ: عَلَى سِتَّةِ آلَافِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بِلَادَ الرُّومِ حَتَّى بَلَغَ الْمَضِيقَ مَضِيقَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ عَاتِكَةُ - وَيُقَالُ: فَاطِمَةُ - بِنْتُ قَرَظَةَ بْنِ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ.
وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ عَلَى جَيْشٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَغْزُوَ الْبَابَ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَبِيعَةَ نَائِبِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ بِمُسَاعَدَتِهِ، فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ بَلَنْجَرَ، فَحَصَرُوهَا وَنُصِبَتْ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقُ وَالْعَرَّادَاتُ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ بَلَنْجَرَ خَرَجُوا إِلَيْهِمْ وَعَاوَنَهُمُ التُّرْكُ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا - وَكَانَتِ التُّرْكُ تَهَابُ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ حَتَّى اجْتَرَءُوا عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ - فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ الْتَقَوْا مَعَهُمْ، فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ - وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: ذُو النُّورِ - وَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ فَافْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ؛ فَفِرْقَةٌ ذَهَبَتْ عَلَى بِلَادِ الْخَزَرِ، وَفِرْقَةٌ سَلَكُوا نَاحِيَةَ جِيلَانَ وَجُرْجَانَ، وَفِي هَؤُلَاءِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ. وَأَخَذَتِ التُّرْكُ جَسَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَبِيعَةَ - وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَشُجْعَانِهِمْ - فَدَفَنُوهُ فِي بِلَادِهِمْ فَهُمْ يَسْتَسْقُونَ عِنْدَهُ إِلَى الْيَوْمِ، وَلَمَّا

قُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَبِيعَةَ، اسْتَعْمَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ عَلَى ذَلِكَ الْجَيْشِ سَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأَمَدَّهُمْ عُثْمَانُ بِأَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَتَنَازَعَ حَبِيبُ وَسَلْمَانُ فِي الْإِمْرَةِ حَتَّى اخْتَلَفَا، فَكَانَ أَوَّلَ اخْتِلَافٍ وَقَعَ بَيْنَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ، حَتَّى قَالَ فِي ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَهُوَ أَوْسٌ:
فَإِنْ تَضْرِبُوا سَلْمَانَ نَضْرِبْ حَبِيبَكُمْ وَإِنْ تَرْحَلُوا نَحْوَ ابْنِ عَفَّانَ نَرْحَلِ وَإِنْ تُقْسِطُوا فَالثَّغْرُ ثَغْرُ أَمِيرِنَا
وَهَذَا أَمِيرٌ فِي الْكَتَائِبِ مُقْبِلُ وَنَحْنُ وُلَاةُ الثَّغْرِ كُنَّا حُمَاتَهُ
لَيَالِيَ نَرْمِي كُلَّ ثَغْرِ وَنُنْكِلِ
وَفِيهَا فَتَحَ ابْنُ عَامِرٍ مَرْوَ الرُّوذِ وَالطَّالِقَانَ وَالْفَارِيَابَ وَالْجُوزَجَانَ وَطَخَارِسْتَانَ. فَأَمَّا مَرْوُ الرُّوذِ فَبَعَثَ إِلَيْهَا ابْنُ عَامِرٍ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ فَحَصَرَهَا، فَخَرَجُوا إِلَيْهِ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى كَسَرَهُمْ فَاضْطَرَّهُمْ إِلَى حِصْنِهِمْ، ثُمَّ صَالَحُوهُ عَلَى مَالٍ جَزِيلٍ، وَعَلَى أَنْ يَضْرِبَ عَلَى أَرَاضِي الرَّعِيَّةِ الْخَرَاجَ، وَيَدَعَ الْأَرْضَ الَّتِي كَانَ أَقْطَعُهَا كِسْرَى لِوَالِدِ الْمَرْزُبَانِ، صَاحِبِ مَرْوَ، حِينَ قَتَلَ الْحَيَّةَ الَّتِي كَانَتْ تَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ وَتَأْكُلُهُمْ، فَصَالَحَهُمُ الْأَحْنَفُ عَلَى

ذَلِكَ، وَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابَ صُلْحٍ بِذَلِكَ، ثُمَّ بَعَثَ الْأَحْنَفُ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ إِلَى الْجُوزَجَانِ فَفَتَحَهَا بَعْدَ قِتَالٍ وَقَعَ بَيْنَهُمْ، قُتِلَ فِيهِ خَلْقٌ مِنْ شُجْعَانِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نُصِرُوا، فَقَالَ فِي ذَلِكَ كُثَيِّرٌ النَّهْشَلِيُّ قَصِيدَةً طَوِيلَةً فِيهَا:
سَقَى مُزْنَ السَّحَابِ إِذَا اسْتَهَلَّتْ مَصَارِعَ فِتْيَةٍ بِالْجُوزَجَانِ
إِلَى الْقَصْرَيْنِ مِنْ رُسْتَاقِ خُوطٍ أَبَادَهُمُ هُنَاكَ الْأَقْرَعَانِ
ثُمَّ سَارَ الْأَحْنَفُ مِنْ مَرْوِ الرُّوذِ إِلَى بَلْخَ فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى صَالَحُوهُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ، وَاسْتَنَابَ ابْنَ عَمِّهِ أُسَيْدَ بْنَ الْمُتَشَمِّسِ عَلَى قَبْضِ الْمَالِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ يُرِيدُ الْجِهَادَ، وَدَهَمَهُ الشِّتَاءُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا تَشَاءُونَ ؟ فَقَالُوا: قَدْ قَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ:
إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ
فَأَمَرَ الْأَحْنَفُ بِالرَّحِيلِ إِلَى بَلْخَ، فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةَ الشِّتَاءِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى ابْنِ

عَامِرٍ، فَقِيلَ لِابْنِ عَامِرٍ: مَا فُتِحَ عَلَى أَحَدٍ مَا فُتِحَ عَلَيْكَ؛ فَارِسُ وَكِرْمَانُ وَسِجِسْتَانُ وَعَامَّةُ خُرَاسَانَ. فَقَالَ: لَا جَرَمَ، لَأَجْعَلَنَّ شُكْرِي لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ أَنْ أُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ مَوْقِفِي هَذَا مُشَمِّرًا. فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ نَيْسَابُورَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ لَامَهُ عَلَى إِحْرَامِهِ مِنْ خُرَاسَانَ.
وَفِيهَا أَقْبَلَ قَارِنُ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا فَالْتَقَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَجَعَلَ لَهُمْ مُقَدِّمَةً سِتَّمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَمَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى رَأْسِ رُمْحِهِ نَارًا، وَأَقْبَلُوا إِلَيْهِمْ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ فَبَيَّتُوهُمْ فَثَارُوا إِلَيْهِمْ فَنَاوَشَتْهُمُ الْمُقَدِّمَةُ فَاشْتَغَلُوا بِهِمْ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَاتَّقَعُوا هُمْ وَإِيَّاهُمْ، فَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ مُدْبِرِينَ، وَأَتْبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ مَنْ شَاءُوا كَيْفَ شَاءُوا، وَغَنِمُوا سَبْيًا كَثِيرًا، وَأَمْوَالًا جَزِيلَةً، ثُمَّ بَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ بِالْفَتْحِ إِلَى ابْنِ عَامِرٍ، فَرَضِيَ عَنْهُ وَأَقَرَّهُ عَلَى خُرَاسَانَ - وَكَانَ قَدْ عَزَلَهُ عَنْهَا - فَاسْتَمَرَّ بِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ إِلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ.

ذِكْرُ مِنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
ابْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ أَبُو الْفَضْلِ الْمَكِّيُّ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَالِدُ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِسَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَافْتَدَى نَفْسَهُ بِمَالٍ، وَافْتَدَى ابْنَيْ أَخَوَيْهِ؛ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا أُسِرَ وَشُدَّ فِي الْوَثَاقِ وَأَمْسَى النَّاسُ أُرِّقَ رَسُولُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالَكَ ؟ فَقَالَ:إِنِّي أَسْمَعُ أَنِينَ الْعَبَّاسِ فِي وَثَاقِهِ فَلَا أَنَامُ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَحَلَّ مِنْ وَثَاقِ الْعَبَّاسِ حَتَّى سَكَنَ أَنِينُهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ وَتَلَقَّى رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْجُحْفَةِ، فَرَجَعَ مَعَهُ، وَشَهِدَ الْفَتْحَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ بِإِذْنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَهُ فِي ذَلِكَ، كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُجِلُّهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ الْوَالِدِ مِنَ الْوَلَدِ، وَيَقُولُ: هَذَا بَقِيَّةُ آبَائِي. وَكَانَ مِنْ أَوْصَلِ النَّاسِ لِقُرَيْشٍ وَأَشْفَقِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ ذَا

رَأْيٍ وَعَقْلٍ تَامٍّ وَافٍ، وَكَانَ طَوِيلًا جَمِيلًا أَبْيَضَ بَضًّا ذَا ضَفِيرَتَيْنِ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ عَشَرَةُ ذُكُورٍ سِوَى الْإِنَاثِ، وَهُمْ تَمَّامٌ - وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ - وَالْحَارِثُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعَوْنٌ، وَالْفَضْلُ، وَقُثَمُ، وَكَثِيرٌ، وَمَعْبَدٌ. وَأَعْتَقَ سَبْعِينَ مَمْلُوكًا مِنْ غِلْمَانِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ التَّمِيمِيُّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، حَدَّثَنِي أَبُو سُهَيْلٍ نَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِلْعَبَّاسِ: هَذَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَجْوَدُ قُرَيْشٍ كَفًّا وَأَوْصَلُهَا. تَفَرَّدَ بِهِ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعُمَرَ حِينَ بَعَثَهُ عَلَى الصَّدَقَةِ فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلَّا أَنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا؛ وَقَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا. ثُمَّ قَالَ يَا عُمَرُ أَمَا شَعُرْتَ أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ ؟

وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي وَخَرَجَ بِالْعَبَّاسِ مَعَهُ يَسْتَسْقِي بِهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا قَحَطْنَا تَوَسَّلْنَا إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا. قَالَ: فَيُسْقَوْنَ.
وَيُقَالُ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَانَا إِذَا مَرَّا بِالْعَبَّاسِ وَهُمَا رَاكِبَانِ تَرَجَّلَا إِكْرَامًا لَهُ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ الْعَبَّاسُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ - وَقِيلَ: مِنْ رَمَضَانَ - سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ. وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ. وَفَضَائِلُهُ وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
ابْنُ غَافِلِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ شَمْخِ بْنِ فَارِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ بْنِ كَاهِلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ

مُضَرَ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْهُذَلِيُّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، أَسْلَمَ قَدِيمًا قَبْلَ عُمَرَ، وَكَانَ سَبَبُ إِسْلَامِهِ حِينَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ يَرْعَى غَنَمًا فَسَأَلَاهُ لَبَنًا، فَقَالَ: إِنِّي مُؤْتَمَنٌ. قَالَ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنَاقًا لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ فَاعْتَقَلَهَا ثُمَّ حَلَبَ وَشَرِبَ وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: " اقْلِصْ ". فَقَلَصَ، فَقُلْتُ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ. فَقَالَ: " إِنَّكَ غُلَيْمٌ مُعَلَّمٌ " الْحَدِيثَ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بِمَكَّةَ بَعْدَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عِنْدَ الْبَيْتِ وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا؛ قَرَأَ سُورَةَ: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [ الرَّحْمَنِ: 1، 2 ]. فَقَامُوا إِلَيْهِ فَضَرَبُوهُ.
وَلَزِمَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَسْلَمَ، وَكَانَ يَحْمِلُ نَعْلَيْهِ وَسِوَاكَهُ، وَقَالَ لَهُ: " إِذْنُكَ عَلَيَّ أَنْ تَسْمَعَ سِوَادِي ". وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ لَهُ: صَاحِبُ السِّوَاكِ وَالسِّوَادِ.
وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَشَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ

الَّذِي قَتَلَ أَبَا جَهْلٍ بَعْدَ مَا أَثْبَتَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ وَشَهِدَ بَقِيَّةَ الْمَشَاهِدِ.
وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمًا: " اقْرَأْ عَلَيَّ ". فَقُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟ فَقَالَ: " إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي ". فَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِلَى قَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [ النِّسَاءِ: 41 ]. فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: " حَسْبُكَ "
وَقَالَ أَبُو مُوسَى: قَدِمْتُ أَنَا وَأَخِي مِنَ الْيَمَنِ وَمَا كُنَّا نَظُنُّ إِلَّا أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَأُمَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِكَثْرَةِ دُخُولِهِمْ بَيْتَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ حُذَيْفَةُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي هَدْيِهِ وَدَلِّهِ وَسَمْتِهِ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَقَدْ عَلِمَ الْمَحْفُوظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ أَقْرَبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. وَفِي الْحَدِيثِ:وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أُمِّ مُوسَى، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَعِدَ شَجَرَةً يَجْتَنِي الْكَبَاثَ، فَجَعَلَ

النَّاسُ يَعْجَبُونَ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ أُحُدٍ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ نَظَرَ إِلَى قِصَرِهِ وَكَانَ يُوَازِي بِقَامَتِهِ الْجُلُوسَ - فَجَعَلَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ ثُمَّ قَالَ: هُوَ كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلْمًا.
وَقَدْ شَهِدَ ابْنُ مَسْعُودٍ بَعْدَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَوَاقِفَ كَثِيرَةً؛ مِنْهَا الْيَرْمُوكُ وَغَيْرُهَا، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مِنَ الْعِرَاقِ حَاجًّا فَمَرَّ بِالرَّبَذَةِ فَشَهِدَ وَفَاةَ أَبِي ذَرٍّ وَدَفَنَهُ، ثُمَّ قَدِمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَرِضَ بِهَا، فَجَاءَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَائِدًا، فَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: مَا تَشْتَكِي ؟ قَالَ: ذُنُوبِي. قَالَ: فَمَا تَشْتَهِي ؟ قَالَ: رَحْمَةَ رَبِّي. قَالَ: أَلَا آمُرُ لَكَ بِطَبِيبٍ ؟ فَقَالَ: الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي. قَالَ: أَلَا آمُرُ لَكَ بِعَطَائِكَ - وَكَانَ قَدْ تَرَكَهُ سَنَتَيْنِ ؟ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. فَقَالَ: يَكُونُ لِبَنَاتِكَ مِنْ بَعْدِكَ. فَقَالَ: أَتَخْشَى عَلَى بَنَاتِي الْفَقْرَ ؟ إِنِّي أَمَرْتُ بَنَاتِي أَنْ يَقْرَأْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: مَنْ قَرَأَ الْوَاقِعَةَ كُلَّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا.
وَأَوْصَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ إِلَى الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ لَيْلًا ثُمَّ عَاتَبَ عُثْمَانُ الزُّبَيْرَ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: بَلْ صَلَّى عَلَيْهِ عُثْمَانُ. وَقِيلَ: عَمَّارٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ عَنْ بِضْعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.

عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ
ابْنُ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ، أَسْلَمَ قَدِيمًا عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَإِلَى الْمَدِينَةِ، وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ بَعَثَهُ إِلَى بَنِي كَلْبٍ، وَأَرْخَى لَهُ عَذَبَةً بَيْنَ كَتِفَيْهِ؛ لِتَكُونَ أَمَارَةً عَلَيْهِ لِلْإِمَارَةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَحَدُ الثَّمَانِيَةِ السَّابِقَيْنَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَحَدُ السِّتَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى، ثُمَّ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ انْتَهَتْ إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ، كَمَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ كَانَ هُوَ الَّذِي اجْتَهَدَ فِي تَقْدِيمِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ تَقَاوَلَ هُوَ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ فَأَغْلَظَ لَهُ خَالِدٌ فِي الْمَقَالِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ. وَهُوَ فِي " الصَّحِيحِ ". وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ: تَصَدَّقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِشَطْرِ مَالِهِ؛ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى خَمْسِمِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ حَمَلَ

عَلَى خَمْسِمِائَةِ رَاحِلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ عَامَّةُ مَالِهِ مِنَ التِّجَارَةِ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي " مُسْنَدِهِ ": ثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا عُمَارَةُ بْنُ زَاذَانَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ لَمَّا هَاجَرَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي حَائِطَيْنِ فَاخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ. فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي حَائِطَيْكَ، مَا لِهَذَا أَسْلَمْتُ دَلَّنِي عَلَى السُّوقِ. قَالَ: فَدَلَّهُ، فَكَانَ يَشْتَرِي السُّمَيْنَةَ وَالْأُقَيْطَةَ وَالْإِهَابَ، فَجَمَعَ فَتَزَوَّجَ، فَأَتَى النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ. أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ. قَالَ فَكَثُرَ مَالُهُ حَتَّى قَدِمَتْ لَهُ سَبْعُمِائَةُ رَاحِلَةٍ تَحْمِلُ الْبُرَّ وَتَحْمِلُ الدَّقِيقَ وَالطَّعَامَ. قَالَ: فَلَمَّا دَخَلَتِ الْمَدِينَةَ سُمِعَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ رَجَّةٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا هَذِهِ الرَّجَّةُ ؟ فَقِيلَ لَهَا: عِيرٌ قَدِمَتْ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ سَبْعُمِائَةٍ تَحْمِلُ الْبُرَّ وَالدَّقِيقَ وَالطَّعَامَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: يَدْخُلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْجَنَّةَ حَبْوًا. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ: أُشْهِدُكِ يَا أُمَّهْ أَنَّهَا بِأَحْمَالِهَا وَأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَسَّانَ، ثَنَا عُمَارَةُ - هُوَ ابْنُ زَاذَانَ - عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَيْنَمَا عَائِشَةُ فِي بَيْتِهَا إِذْ سَمِعَتْ صَوْتًا فِي الْمَدِينَةِ فَقَالَتْ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: عِيرٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَدِمَتْ مِنَ الشَّامِ تَحْمِلُ

كُلَّ شَيْءٍ - قَالَ: وَكَانَتْ سَبْعَمِائَةِ بَعِيرٍ - قَالَ: فَارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ مِنَ الصَّوْتِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: قَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَبْوًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَالَ: لَئِنِ اسْتَطَعْتُ لَأَدْخُلَنَّهَا قَائِمًا. فَجَعَلَهَا بِأَقْتَابِهَا وَأَحْمَالِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَدْ تَفَرَّدَ بِهِ عُمَارَةُ بْنُ زَاذَانَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَوْلُهُ فِي سِيَاقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ: إِنَّهُ آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. فَغَلَطٌ مَحْضٌ مُخَالِفٌ لِمَا فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ أَنَّ الَّذِي آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إِنَّمَا هُوَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَلَّى وَرَاءَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ. وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لَا تُبَارَى.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى لِكُلِّ رَجُلٍ مِمَّنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ بِدْرٍ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ - وَكَانُوا مِائَةً - فَأَخَذُوهَا حَتَّى عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ. وَقَالَ عَلِيٌّ: اذْهَبْ يَا ابْنَ عَوْفٍ فَقَدْ أَدْرَكْتَ صَفْوَهَا، وَسَبَقْتَ رَنْقَهَا. وَأَوْصَى لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَبْلَغٍ كَثِيرٍ حَتَّى كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ: سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ السَّلْسَبِيلِ. وَأَعْتَقَ خَلْقًا مِنْ مَمَالِيكِهِ، ثُمَّ تَرَكَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ مَالًا جَزِيلًا؛ مِنْ ذَلِكَ ذَهَبٌ قُطِعَ

بِالْفُئُوسِ حَتَّى مَجَلَتْ أَيْدِي الرِّجَالِ، وَتَرَكَ أَلْفَ بَعِيرٍ وَمِائَةَ فَرَسٍ، وَثَلَاثَةَ آلَافِ شَاةٍ تَرْعَى بِالْبَقِيعِ، وَكَانَ نِسَاؤُهُ أَرْبَعًا، فَصُولِحَتْ إِحْدَاهُنَّ مِنْ رُبْعِ الثَّمَنِ بِثَمَانِينَ أَلْفًا.
وَلَمَّا مَاتَ صَلَّى عَلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَحَمَلَ فِي جِنَازَتِهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
وَكَانَ أَبْيَضَ مُشْرَبًا حُمْرَةً، حَسَنَ الْوَجْهِ، رَقِيقَ الْبَشَرَةِ، أَعْيَنَ، أَهْدَبَ الْأَشْفَارِ، أَقْنَى، لَهُ جَمَّةٌ، ضَخْمَ الْكَفَّيْنِ، غَلِيظَ الْأَصَابِعِ، لَا يُغَيِّرُ شَيْبَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ وَاسْمُهُ جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ، عَلَى الْمَشْهُورِ. أَسْلَمَ قَدِيمًا بِمَكَّةَ فَكَانَ رَابِعَ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَامِسَ خَمْسَةٍ، وَقِصَّةُ إِسْلَامِهِ تَقَدَّمَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حَيَّا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ وَقَوْمِهِ، فَكَانَ هُنَاكَ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْمَدِينَةِ، فَهَاجَرَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، ثُمَّ لَزِمَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَضَرًا وَسَفَرًا، وَرَوَى عَنْهُ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً. وَجَاءَ فِي فَضْلِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ؛ مِنْ أَشْهَرِهَا مَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ

أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ( مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ، وَلَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ. وَفِيهِ ضَعْفٌ. ثُمَّ لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ فَكَانَ فِيهِ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ فَاسْتَقْدَمَهُ عُثْمَانُ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ نَزَلَ بِالرَّبَذَةِ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ سِوَى امْرَأَتِهِ وَأَوْلَادِهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْنِهِ إِذْ قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْ الْعِرَاقَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَحَضَرُوا مَوْتَهُ وَأَوْصَاهُمْ كَيْفَ يَفْعَلُونَ بِهِ. وَقِيلَ: قَدِمُوا بَعْدَ مَوْتِهِ، فَوَلُوا غُسْلَهُ وَدَفْنَهُ. وَكَانَ قَدْ أَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَطْبُخُوا لَهُمْ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ لِيَأْكُلُوهَا بَعْدَ الْمَوْتِ. قَدْ أَرْسَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى أَهْلِهِ فَضَمَّهُمْ إِلَى أَهْلِهِ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ
فِيهَا كَانَ فَتْحُ قُبْرُسَ فِي قَوْلِ أَبِي مَعْشَرٍ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فَذَكَرُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِيهَا غَزَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ إِفْرِيقِيَّةَ ثَانِيَةً حِينَ نَقَضَ أَهْلُهَا الْعَهْدَ.
وَفِيهَا سَيَّرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ جَمَاعَةً مِنْ قُرَّاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِكَلَامٍ قَبِيحٍ فِي مَجْلِسِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، فَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ فِي أَمْرِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ أَنْ يُجْلِيَهُمْ عَنْ بَلَدِهِ إِلَى الشَّامِ، وَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَمِيرِ الشَّامِ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ إِلَيْكَ قُرَّاءُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَأَنْزِلْهُمْ وَأَكْرِمْهُمْ وَتَأْلَفْهُمْ. فَلَمَّا قَدِمُوا أَنْزَلَهُمْ مُعَاوِيَةُ وَأَكْرَمَهُمْ وَاجْتَمَعَ بِهِمْ وَوَعَظَهُمْ وَنَصَحَهُمْ فِيمَا يَعْتَمِدُونَهُ مِنِ اتِّبَاعِ الْجَمَاعَةِ وَتَرْكِ الِانْفِرَادِ وَالِابْتِعَادِ، فَأَجَابَهُ مُتَكَلِّمُهُمْ وَالْمُتَرْجِمُ عَنْهُمْ بِكَلَامٍ فِيهِ بَشَاعَةٌ وَشَنَاعَةٌ، فَاحْتَمَلَهُمْ مُعَاوِيَةُ لِحِلْمِهِ، وَأَخَذَ فِي مَدْحِ قُرَيْشٍ - وَكَانُوا قَدْ نَالُوا مِنْهُمْ - وَأَخَذَ فِي الْمَدْحِ لِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ، وَافْتَخَرَ مُعَاوِيَةُ بِوَالِدِهِ وَشَرَفِهِ فِي قَوْمِهِ، وَقَالَ فِيمَا قَالَ: وَأَظُنُّ أَبَا سُفْيَانَ لَوْ وَلَدَ النَّاسَ كُلَّهُمْ لَمْ يَلِدْ إِلَّا حَازِمًا. فَقَالَ لَهُ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ: كَذَبْتَ، قَدْ وَلَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ لَمَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ؛ مَنْ خَلَقَهُ اللَّهُ

بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَهُ فَكَانَ فِيهِمُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْأَحْمَقُ وَالْكَيِّسُ. ثُمَّ بَذَلَ لَهُمُ النُّصْحَ مَرَّةً أُخْرَى، فَإِذَا هُمْ يَتَمَادَوْنَ فِي غَيِّهِمْ، وَيَسْتَمِرُّونَ عَلَى جَهَالَتِهِمْ وَحَمَاقَتِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ بَلَدِهِ وَنَفَاهُمْ عَنِ الشَّامِ؛ لِئَلَّا يُشَوِّشُوا عُقُولَ الطَّغَامِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَمِلُ مَطَاوِي كَلَامِهِمْ عَلَى الْقَدْحِ فِي قُرَيْشٍ، كَوْنَهُمْ فَرَّطُوا وَضَيَّعُوا مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقِيَامِ فِيهِ؛ مِنْ نُصْرَةِ الدِّينِ، وَقَمْعِ الْمُفْسِدِينَ. وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهَذَا التَّنْقِيصَ وَالْعَيْبَ وَرَجْمَ الْغَيْبِ، وَكَانُوا يَشْتُمُونَ عُثْمَانَ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَكَانُوا عَشْرَةً، وَقِيلَ: تِسْعَةً، وَهُوَ الْأَشْبَهُ، مِنْهُمْ كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ، وَالْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ - وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ، وَصَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ، وَأَخُوهُ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، وَمَالِكُ بْنُ كَعْبٍ الْأَرْحَبِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ النَّخَعِيَّانِ، وَثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ النَّخْعِيُّ، وَجُنْدُبُ بْنُ زُهَيْرٍ الْعَامِرِيُّ، وَجُنْدُبُ بْنُ كَعْبٍ الْأَزْدِيُّ، وَعُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ الْخُزَاعِيُّ. فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ دِمَشْقَ أَوَوْا إِلَى الْجَزِيرَةِ، فَاجْتَمَعَ بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ - وَكَانَ نَائِبًا عَلَى الْجَزِيرَةِ، ثُمَّ وَلِيَ حِمْصَ بَعْدَ ذَلِكَ - فَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ؛ فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَأَنَابُوا إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، فَدَعَا لَهُمْ وَسَيَّرَ مَالِكًا الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ؛ لِيَعْتَذِرَ

إِلَيْهِ عَنْ أَصْحَابِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَكَفَّ عَنْهُمْ، وَخَيَّرَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا حَيْثُ أَحَبُّوا، فَاخْتَارُوا أَنْ يَكُونُوا فِي مُعَامَلَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ حِمْصَ، فَأَمَرَهُمْ بِالْمَقَامِ بِالسَّاحِلِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ. وَيُقَالُ: بَلْ لَمَّا مَقَتَهُمْ مُعَاوِيَةُ، كَتَبَ فِيهِمْ إِلَى عُثْمَانَ، فَجَاءَهُ كِتَابُ عُثْمَانَ أَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْكُوفَةِ، فَرَدَّهُمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَجَعُوا كَانُوا أَزَلَقَ أَلْسِنَةً، وَأَكْثَرَ شَرًّا، فَضَجَّ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بِحِمْصَ، وَأَنْ يَلْزَمُوا الدُّرُوبَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَيَّرَ عُثْمَانُ بَعْضَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْهَا إِلَى الشَّامِ، وَإِلَى مِصْرَ بِأَسْبَابٍ مُسَوِّغَةٍ لِمَا فَعَلَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَانَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يُؤَلِّبُ عَلَيْهِ وَيُمَالِئُ الْأَعْدَاءَ فِي الْحَطِّ وَالْكَلَامِ فِيهِ، وَهُمُ الظَّالِمُونَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْبَارُّ الرَّاشِدُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَتَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: فِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ الصَّوَارِي. وَالصَّحِيحُ فِي قَوْلِ غَيْرِهِ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَكَاتَبَ الْمُنْحَرِفُونَ عَنْ طَاعَةِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ جُمْهُورُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ - وَهُمْ فِي مُعَامَلَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بِحِمْصَ مَنْفِيُّونَ عَنِ الْكُوفَةِ - وَثَارُوا عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَمِيرِ الْكُوفَةِ، وَتَأَلَّبُوا عَلَيْهِ وَنَالُوا مِنْهُ وَمِنْ عُثْمَانَ، وَبَعَثُوا إِلَى عُثْمَانَ مَنْ يُنَاظِرُهُ فِيمَا فَعَلَ، وَفِيمَا اعْتَمَدَ مَنْ عَزْلِ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَتَوْلِيَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ، وَأَغْلَظُوا لَهُ فِي الْقَوْلِ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَعْزِلَ عُمَّالَهُ وَيَسْتَبْدِلَ بِهِمْ غَيْرَهُمْ مِنَ السَّابِقَيْنَ وَمِنَ الصَّحَابَةِ، حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ جِدًّا وَبَعَثَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، فَأَحْضَرَهُمْ عِنْدَهُ لِيَسْتَشِيرَهُمْ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَمِيرُ الشَّامِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَمِيرُ مِصْرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَمِيرُ الْمَغْرِبِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ أَمِيرُ الْكُوفَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ، فَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا حَدَثَ مِنَ الْأَمْرِ وَافْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ، فَأَشَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ أَنْ يَشْغَلَهُمْ بِالْغَزْوِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشَّرِّ فَلَا يَكُونَ هَمُّ أَحَدِهِمْ إِلَّا نَفْسَهُ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ دَبَرَةِ دَابَّتِهِ، وَقَمْلِ

فَرْوَتِهِ، فَإِنَّ غَوْغَاءَ النَّاسِ إِذَا تَفَرَّغُوا وَبَطِلُوا، اشْتَغَلُوا بِمَا لَا يُغْنِي، وَتَكَلَّمُوا فِيمَا لَا يُرْضِي، وَإِذَا تَفَرَّقُوا نَفَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَغَيْرَهُمْ. وَأَشَارَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بِأَنْ يَسْتَأْصِلَ شَأْفَةَ الْمُفْسِدِينَ، وَيَقْطَعَ دَابِرَهُمْ. وَأَشَارَ مُعَاوِيَةُ بِأَنْ يَرُدَّ عُمَّالَهُ إِلَى أَقَالِيمِهِمْ، وَأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَا تَأَلَّبُوا عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهُمْ أَقَلُّ وَأَضْعَفُ جُنْدًا. وَأَشَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ بِأَنْ يَتَأَلَّفَهُمْ بِالْمَالِ فَيُعْطِيَهِمْ مِنْهُ مَا يَكُفُّ بِهِ شَرَّهُمْ، وَيَأْمَنُ غَائِلَتَهُمْ، وَيَعْطِفُ بِهِ قُلُوبَهُمْ إِلَيْهِ. وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَامَ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّكَ قَدْ رَكَّبْتَ النَّاسَ مَا يَكْرَهُونَ، فَإِمَّا أَنْ تَعْزِلَ عَنْهُمْ مَا يَكْرَهُونَ، وَإِمَّا أَنْ تَقَدَّمَ فَتُنْزِلَ عُمَّالَكَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ لَهُ كَلَامًا فِيهِ غِلْظَةٌ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فِي السِّرِّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيُبَلِّغَ عَنْهُ مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنَ النَّاسِ إِلَيْهِمْ لِيَرْضَوْا مِنْ عُثْمَانَ بِهَذَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَرَّرَ عُثْمَانُ عُمَّالَهُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَتَأَلَّفَ قُلُوبَ أُولَئِكَ بِالْمَالِ، وَأَمَرَ بِأَنْ يُبْعَثُوا فِي الْغَزْوِ إِلَى الثُّغُورِ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَصَالِحِ كُلِّهَا، وَلَمَّا رَجَعَتِ الْعُمَّالُ إِلَى أَقَالِيمِهَا امْتَنَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَلَبِسُوا السِّلَاحَ وَحَلَفُوا أَنْ لَا يُمَكِّنُوهُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَعْزِلَهُ عُثْمَانُ وَيُوَلِّيَ عَلَيْهِمْ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْجَرَعَةُ. وَقَدْ قَالَ يَوْمَئِذٍ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ وَاللَّهِ لَا يُدْخِلُهَا عَلَيْنَا مَا حَمَلْنَا سُيُوفَنَا. وَتَوَاقَفَ النَّاسُ بِالْجَرَعَةِ، وَأَحْجَمَ سَعِيدٌ عَنْ قِتَالِهِمْ وَصَمَّمُوا

عَلَى مَنْعِهِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ حُذَيْفَةُ، وَأَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، فَجَعَلَ أَبُو مَسْعُودٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا يَرْجِعُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ حَتَّى يَكُونَ دِمَاءٌ. فَجَعَلَ حُذَيْفَةُ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَيَرْجِعَنَّ وَلَا يَكُونُ فِيهَا مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ، وَمَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ عَلِمْتُهُ وَمُحَمَّدٌ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيٌّ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَسَرَ الْفِتْنَةَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَكَتَبُوا إِلَى عُثْمَانَ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْهِمْ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، فَأَجَابَهُمْ عُثْمَانُ إِلَى مَا سَأَلُوا؛ إِزَاحَةً لِعُذْرِهِمْ، وَإِزَالَةً لِشُبَهِهِمْ، وَقَطْعًا لِعِلَلِهِمْ.
وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ سَبَبَ تَأَلُّبِ الْأَحْزَابِ عَلَى عُثْمَانَ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ. كَانَ يَهُودِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَصَارَ إِلَى مِصْرَ، فَأَوْحَى إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ كَلَامًا اخْتَرَعَهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ مَضْمُونُهُ أَنَّهُ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: أَلَيْسَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ سَيَعُودُ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا ؟ فَيَقُولُ الرَّجُلُ: بَلَى ! فَيَقُولُ لَهُ: فَرَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَفْضَلُ مِنْهُ فَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَعُودَ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا وَهُوَ أَشْرَفُ مِنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ! ثُمَّ يَقُولُ: وَقَدْ كَانَ أَوْصَى إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ فَمُحَمَّدٌ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَلِيٌّ خَاتَمُ الْأَوْصِيَاءِ. ثُمَّ يَقُولُ: فَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِمْرَةِ مِنْ عُثْمَانَ، وَعُثْمَانُ مُعْتَدٍ فِي وِلَايَتِهِ مَا لَيْسَ لَهُ. فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ وَأَظْهَرُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ. فَافْتُتِنَ بِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَكَتَبُوا إِلَى جَمَاعَاتٍ مِنْ عَوَامِّ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ؛ فَتَمَالَئُوا عَلَى ذَلِكَ، وَتَكَاتَبُوا فِيهِ، وَتَوَاعَدُوا أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى عُثْمَانَ، وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ مَنْ يُنَاظِرُهُ وَيَذْكُرُ لَهُ

مَا يَنْقِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ تَوْلِيَتِهِ أَقْرِبَاءَهُ وَذَوِي رَحِمِهِ وَعَزْلِهِ كِبَارَ الصَّحَابَةِ. فَدَخَلَ هَذَا فِي قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَجَمَعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ نُوَّابَهُ مِنَ الْأَمْصَارِ، فَاسْتَشَارَهُمْ فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ كَثُرَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ، وَنَالُوا مِنْهُ أَقْبَحَ مَا نِيلَ مِنْ أَحَدٍ، فَكَلَّمَ النَّاسُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ وَرَائِي وَقَدْ كَلَّمُونِي فِيكَ، وَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ وَمَا أَعْرِفُ شَيْئًا تَجْهَلُهُ وَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لَا تَعْرِفُهُ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْءٍ فَنُخْبِرُكَ عَنْهُ، وَلَا خَلَوْنَا بِشَيْءٍ فَنُبَلِّغُكَهُ، وَمَا خُصِصْنَا بِأُمُورٍ عَنْكَ، وَقَدْ رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنِلْتَ صِهْرَهُ وَمَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ بِأَوْلَى بِعَمَلِ أَلْحَقِّ مِنْكَ، وَلَا ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَى بِشَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ مِنْكَ، وَإِنَّكَ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَحِمًا، وَلَقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا لَمْ يَنَالَا، وَلَا سَبَقَاكَ إِلَى شَيْءٍ، فَاللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، فَإِنَّكَ وَاللَّهِ مَا تُبْصِرُ مِنْ عَمَى، وَلَا تَعْلَمُ مِنْ جَهْلٍ، وَإِنَّ الطَّرِيقَ لِوَاضِحٌ بَيِّنٌ، وَإِنَّ أَعْلَامَ الدِّينِ لِقَائِمَةٌ، تَعْلَمُ يَا عُثْمَانُ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ، هُدِيَ وَهَدَى، فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً، وَأَمَاتَ بِدْعَةً مَعْلُومَةً، فَوَاللَّهِ إِنَّ كُلًّا لَبَيِّنٌ، وَإِنَّ السُّنَنَ لَقَائِمَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ، وَإِنَّ الْبِدَعَ

لَقَائِمَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ، وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ، ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ، فَأَمَاتَ سُنَّةً مَعْلُومَةً، وَأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْإِمَامِ الْجَائِرِ وَلَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَلَا عَاذِرٌ، فَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَا ثُمَّ يَرْتَطِمُ فِي غَمْرَةِ جَهَنَّمَ. وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ اللَّهَ وَأُحَذِّرُكَ سَطْوَتَهُ وَنِقْمَتَهُ، فَإِنَّ عَذَابَهُ شَدِيدٌ أَلِيمٌ، وَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ إِمَامَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَقْتُولَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ: يُقْتَلُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ إِمَامٌ فَيُفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتُلَبَّسُ أُمُورُهَا عَلَيْهَا، وَيُتْرَكُونَ شِيَعًا لَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجًا، وَيَمْرَجُونَ فِيهَا مَرَجًا. فَقَالَ عُثْمَانُ: قَدْ وَاللَّهِ عَلِمْتُ لَتَقُولَنَّ الَّذِي قُلْتَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ مَكَانِي مَا عَنَّفْتُكَ وَلَا أَسْلَمْتُكَ، وَلَا عِبْتُ عَلَيْكَ، وَلَا جِئْتُ مُنْكِرًا أَنْ وَصَلْتُ رَحِمًا، وَسَدَدْتُ خَلَّةً، وَأَوَيْتُ ضَائِعًا، وَوَلَّيْتُ شَبِيهًا بِمَنْ كَانَ عُمَرُ يُوَلِّي، أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عَلِيُّ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لَيْسَ هُنَاكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَتَعْلَمُ أَنَّ عُمَرَ وَلَّاهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَلِمَ تَلُومُنِي أَنْ وَلَّيْتُ ابْنَ عَامِرٍ فِي رَحِمِهِ وَقَرَابَتِهِ ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: سَأُخْبِرُكَ، إِنَّ عُمَرَ كَانَ كُلُّ مَنْ وَلَّى فَإِنَّمَا يَطَأُ عَلَى صِمَاخَيْهِ، وَإِنْ بَلَغَهُ عَنْهُ حَرْفٌ، جَاءَ بِهِ، ثُمَّ بَلَغَ بِهِ أَقْصَى الْغَايَةِ فِي الْعُقُوبَةِ،

وَأَنْتَ لَا تَفْعَلُ، ضَعُفْتَ وَرَفُقْتَ عَلَى أَقْرِبَائِكَ. فَقَالَ عُثْمَانُ: هُمْ أَقْرِبَاؤُكَ أَيْضًا. فَقَالَ عَلِيٌّ: لَعَمْرِي إِنَّ رَحِمَهُمْ مِنِّي لِقَرِيبَةٌ، وَلَكِنَّ الْفَضْلَ فِي غَيْرِهِمْ. قَالَ عُثْمَانُ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُمَرَ وَلَّى مُعَاوِيَةَ خِلَافَتَهُ كُلَّهَا ؟ فَقَدَ وَلَّيْتُهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ أَخْوَفَ مِنْ عُمَرَ مِنْ يَرْفَأَ غُلَامِ عُمَرَ مِنْهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ يَقْطَعُ الْأُمُورَ دُونَكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُهَا، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ: هَذَا أَمْرُ عُثْمَانَ. فَيَبْلُغُكَ وَلَا تُغَيِّرُ عَلَى مُعَاوِيَةَ. ثُمَّ خَرَجَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ، وَخَرَجَ عُثْمَانُ عَلَى إِثْرِهِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَ النَّاسَ فَوَعَظَ، وَحَذَّرَ وَأَنْذَرَ، وَتَهَدَّدَ وَتَوَعَّدَ، وَأَبْرَقَ وَأَرْعَدَ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ: أَلَا فَقَدَ وَاللَّهِ عِبْتُمْ عَلَيَّ بِمَا أَقْرَرْتُمْ بِهِ لِابْنِ الْخَطَّابِ، وَلَكِنَّهُ وَطِئَكُمْ بِرِجْلِهِ، وَضَرَبَكُمْ بِيَدِهِ، وَقَمَعَكُمْ بِلِسَانِهِ، فَدِنْتُمْ لَهُ عَلَى مَا أَحْبَبْتُمْ أَوْ كَرِهْتُمْ، وَلِنْتُ لَكُمْ وَأَوْطَأْتُ لَكُمْ كَتِفِي، وَكَفَفْتُ يَدِي وَلِسَانِي عَنْكُمْ، فَاجْتَرَأْتُمْ عَلَيَّ، أَمَا وَاللَّهِ لَأَنَا أَعَزُّ نَفَرًا، وَأَقْرَبُ نَاصِرًا، وَأَكْثَرُ عَدَدًا، وَأَقْمَنُ إِنْ قُلْتُ: هَلُمَّ. أُتِيَ إِلَيَّ، وَلَقَدْ أَعْدَدْتُ لَكُمْ أَقْرَانَكُمْ، وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكُمْ فُضُولًا، وَكَشَرْتُ لَكُمْ عَنْ نَابِي، فَأَخْرَجْتُمْ مِنِّي خُلُقًا لَمْ أَكُنْ أُحْسِنُهُ، وَمَنْطِقًا لَمْ أَنْطِقْ بِهِ، فَكُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ وَطَعْنَكُمْ وَعَيْبَكُمْ عَلَى وُلَاتِكُمْ، فَإِنِّي قَدْ كَفَفْتُ عَنْكُمْ مِنْ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَلِيكُمْ لَرَضِيتُمْ مِنْهُ بِدُونِ مَنْطِقِي هَذَا، أَلَا فَمَا تَفْقِدُونَ مِنْ حَقِّكُمْ ؟ فَوَاللَّهِ مَا

قَصَّرْتُ فِي بُلُوغِ مَا كَانَ يَبْلُغُ مَنْ كَانَ قَبْلِي. ثُمَّ اعْتَذَرَ عَمَّا كَانَ يُعْطِي أَقَارِبَهُ بِأَنَّهُ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ. فَقَامَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمْ وَاللَّهِ حَكَّمْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ السَّيْفَ، نَحْنُ وَاللَّهَ وَأَنْتُمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَرَشْنَا لَكُمْ أَعْرَاضَنَا فَنَبَتْ بِكُمْ مَعَارِسُكُمْ تَبْنُونَ فِي دِمَنِ الثَّرَى
فَقَالَ عُثْمَانُ: اسْكُتْ لَا سَكَتَّ، دَعْنِي وَأَصْحَابِي، مَا مَنْطِقُكَ فِي هَذَا ! أَلَمْ أَتَقَدَّمْ إِلَيْكَ أَنْ لَا تَنْطِقَ ! فَسَكَتَ مَرْوَانُ وَنَزَلَ عُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا وَدَّعَ عُثْمَانَ حِينَ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الشَّامِ، عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْحَلَ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ كَثِيرَةٌ طَاعَتُهُمْ لِلْأُمَرَاءِ. فَقَالَ: لَا أَخْتَارُ بِجِوَارِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سِوَاهُ. فَقَالَ: أُجَهِّزُ لَكَ جَيْشًا مِنَ الشَّامِ يَكُونُونَ عِنْدَكَ يَنْصُرُونَكَ ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ أُضَيِّقَ بِهِمْ بَلَدَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَوَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَتُغْتَالَنَّ - أَوْ قَالَ: لَتُغْزَيَنَّ - فَقَالَ عُثْمَانُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. ثُمَّ خَرَجَ مُعَاوِيَةُ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ، وَقَوْسُهُ فِي يَدِهِ، فَمَرَّ عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ؛ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ وَاتَّكَأَ عَلَى قَوْسِهِ، وَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ يَشْتَمِلُ عَلَى الْوَصَاةِ بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ إِسْلَامِهِ إِلَى أَعْدَائِهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ ذَاهِبًا. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: مَا

رَأَيْتُهُ أَهْيَبَ فِي عَيْنِي مِنْ يَوْمِهِ هَذَا.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَشْعَرَ الْأَمْرَ لِنَفْسِهِ مَنْ قَدْمَتِهِ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَمِعَ حَادِيًا يَرْتَجِزُ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فِي هَذَا الْعَامِ وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ ضَوَامِرُ الْمَطِيِّ وَضُمَّرَاتُ عُوَّجِ الْقِسِيِّ
أَنَّ الْأَمِيرَ بَعْدَهُ عَلِيُّ وَفِي الزُّبَيْرِ خَلَفٌ رَضِيُّ
وَطَلْحَةُ الْحَامِي لَهَا وَلِيُّ
فَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ - وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَ عُثْمَانَ: وَاللَّهِ إِنَّ الْأَمِيرَ بَعْدَهُ صَاحِبُ الْبَغْلَةِ الشَّهْبَاءِ. وَأَشَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ.
فَلَمَّا سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ لَمْ يَزَلْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ حَتَّى كَانَ مَا كَانَ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ أَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ.

وَمَاتَ أَيْضًا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَعَاقِلُ بْنُ الْبُكَيْرِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ
فَفِيهَا مَقْتَلُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ حِينَ عَزَلَهُ عُثْمَانُ عَنْ مِصْرَ وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَوَارِجَ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ كَانُوا مَحْصُورِينَ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، مَقْهُورِينَ مَعَهُ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِسُوءٍ فِي خَلِيفَةٍ وَلَا أَمِيرٍ، فَمَا زَالُوا يَعْمَلُونَ عَلَيْهِ حَتَّى شَكَوْهُ إِلَى عُثْمَانَ؛ لِيَنْزِعَهُ عَنْهُمْ وَيُوَلِّيَ عَلَيْهِمْ مَنْ هُوَ أَلْيَنُ مِنْهُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ حَتَّى عَزَلَ عَمْرًا عَنِ الْحَرْبِ وَتَرَكَهُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَوَلَّى عَلَى الْحَرْبِ وَالْخَرَاجِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، ثُمَّ سَعَوْا فِيمَا بَيْنَهُمَا بِالنَّمِيمَةِ فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا، حَتَّى كَانَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ قَبِيحٌ، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ فَجَمَعَ لِابْنِ أَبِي سَرْحٍ جَمِيعَ عِمَالَةِ مِصْرَ؛ خَرَاجَهَا وَحَرْبَهَا وَصَلَاتَهَا، وَبَعَثَ إِلَى عَمْرٍو يَقُولُ لَهُ: لَا خَيْرَ لَكَ فِي الْمَقَامِ عِنْدَ مَنْ يَكْرَهُكَ، فَاقْدُمْ إِلَيَّ. فَانْتَقَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَفِي نَفْسِهِ مِنْ عُثْمَانَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَشَرٌّ كَبِيرٌ، فَكَلَّمَهُ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ بِنَفْسٍ، وَتَقَاوَلَا فِي ذَلِكَ، وَافْتَخَرَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِأَبِيهِ عَلَى أَبِي عُثْمَانَ، وَأَنَّهُ كَانَ أَعَزَّ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: دَعْ هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَجَعَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يُؤَلِّبُ النَّاسَ عَلَى

عُثْمَانَ. وَكَانَ بِمِصْرَ جَمَاعَةٌ يُبْغِضُونَ عُثْمَانَ وَيَتَكَلَّمُونَ فِيهِ بِكَلَامٍ قَبِيحٍ - عَلَى مَا قَدَّمْنَا - وَيَنْقِمُونَ عَلَيْهِ فِي عَزْلِهِ جَمَاعَةً مِنْ عِلْيَةِ الصَّحَابَةِ، وَتَوْلِيَتِهِ مَنْ دُونِهِمْ أَوْ مَنْ لَا يَصْلُحُ عِنْدَهُمْ لِلْوِلَايَةِ. وَكَرِهَ أَهْلُ مِصْرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ بَعْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَاشْتَغَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ عَنْهُمْ بِقِتَالِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ وَفَتْحِهِ بِلَادَ الْبَرْبَرِ وَالْأَنْدَلُسِ وَإِفْرِيقِيَّةَ.
وَنَشَأَ بِمِصْرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ يُؤَلِّبُونَ النَّاسَ عَلَى حَرْبِهِ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، وَكَانَ عُظْمُ ذَلِكَ مُسْنَدًا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُذَيْفَةَ، حَتَّى اسْتَنْفَرَا نَحْوًا مِنْ سِتِّمِائَةِ رَاكِبٍ يَذْهَبُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي صِفَةِ مُعْتَمِرِينَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ؛ لِيُنْكِرُوا عَلَى عُثْمَانَ، فَسَارُوا إِلَيْهَا تَحْتَ أَرْبَعِ رِفَاقٍ، وَأَمْرُ الْجَمِيعِ إِلَى أَبِي عَمْرِو بْنِ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُدَيْسٍ الْبَلَوِيِّ، وَكِنَانَةَ بْنِ بِشْرٍ التُّجِيبِيِّ، وَسَوْدَانَ بْنِ حُمْرَانَ السَّكُونِيِّ، وَأَقْبَلَ مَعَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَقَامَ بِمِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ يُؤَلِّبُ النَّاسَ وَيُدَافِعُ عَنْ هَؤُلَاءِ، وَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ إِلَى عُثْمَانَ يُعْلِمُهُ بِقُدُومِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ إِلَى الْمَدِينَةِ مُنْكِرِينَ عَلَيْهِ فِي صِفَةِ مُعْتَمِرِينَ، فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنَ الْمَدِينَةِ أَمَرَ عُثْمَانُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ؛ لِيَرُدَّهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا الْمَدِينَةَ. وَيُقَالُ: بَلْ نَدَبَ النَّاسَ إِلَيْهِمْ فَانْتَدَبَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،

لِذَلِكَ فَبَعَثَهُ وَخَرَجَ مَعَهُ جَمَاعَةُ الْأَشْرَافِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِعَمَّارٍ فَأَبَى عَمَّارٌ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ، فَبَعَثَ عُثْمَانُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى عَمَّارٍ لِيُحَرِّضَهُ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَ عَلِيٍّ إِلَيْهِمْ، فَأَبَى عَمَّارٌ كُلَّ الْإِبَاءِ، وَامْتَنَعَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَكَانَ مُتَغَضِّبًا عَلَى عُثْمَانَ بِسَبَبِ تَأْدِيبِهِ لَهُ عَلَى أَمْرٍ، وَضَرْبِهِ إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ شَتْمِهِ عَبَّاسَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ، فَأَدَّبَهُمَا عُثْمَانُ، فَتَآمَرَ عَمَّارٌ عَلَيْهِ لِذَلِكَ، وَجَعَلَ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَيْهِ، فَنَهَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ ذَلِكَ وَلَامَهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُقْلِعْ عَنْهُ وَلَمْ يَرْجِعْ وَلَمْ يَنْزِعْ، فَانْطَلَقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَيْهِمْ وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهُ وَيُبَالِغُونَ فِي أَمْرِهِ، فَرَدَّهُمْ وَأَنَّبَهُمْ وَشَتَمَهُمْ، فَرَجَعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ، وَقَالُوا: هَذَا الَّذِي تُحَارِبُونَ الْأَمِيرَ بِسَبَبِهِ، وَتَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِهِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ نَاظَرَهُمْ فِي عُثْمَانَ، وَسَأَلَهُمْ مَاذَا يَنْقِمُونَ عَلَيْهِ ؟ فَذَكَرُوا أَشْيَاءَ؛ مِنْهَا أَنَّهُ حَمَى الْحِمَى، وَأَنَّهُ حَرَقَ الْمَصَاحِفَ، وَأَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ، وَأَنَّهُ وَلَّى الْأَحْدَاثَ الْوِلَايَاتِ، وَتَرَكَ الصَّحَابَةَ الْأَكَابِرَ، وَأَعْطَى بَنِي أُمَيَّةَ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ، فَأَجَابَ عَلِيٌّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: أَمَّا الْحِمَى فَإِنَّمَا حَمَاهُ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ لِتَسْمَنَ، وَلَمْ يَحْمِهِ لِإِبِلِهِ وَلَا لِغَنَمِهِ، وَقَدْ حَمَاهُ عُمَرُ مِنْ قَبْلِهِ، وَأَمَّا الْمَصَاحِفُ فَإِنَّمَا حَرَقَ مَا وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَأَبْقَى لَهُمُ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْعَرْضَةِ الْأَخِيرَةِ، وَأَمَّا إِتْمَامُهُ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ تَأَهَّلَ بِهَا وَنَوَى الْإِقَامَةَ

فَأَتَمَّهَا، وَأَمَّا تَوْلِيَتُهُ الْأَحْدَاثَ فَلَمْ يُوَلِّ إِلَّا رَجُلًا سَوِيًّا عَدْلًا، وَقَدْ وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَتَّابَ بْنَ أُسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَوَلَّى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَطَعَنَ النَّاسِ فِي إِمَارَتِهِ فَقَالَ: إِنَّهُ لَخَلِيقٌ لِلْإِمَارَةِ. وَأَمَّا إِيثَارُهُ قَوْمَهُ بَنِي أُمَيَّةَ فَقَدْكَانَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُؤْثِرُ قُرَيْشًا عَلَى النَّاسِ، وَوَاللَّهِ لَوْ أَنَّ مِفْتَاحَ الْجَنَّةِ بِيَدِي لَأَدْخَلْتُ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَيْهَا.
وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فِي عَمَّارٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ. فَذَكَرَ عُثْمَانُ عُذْرَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ أَقَامَ فِيهِمَا مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا. وَعَتَبُوا عَلَيْهِ فِي إِيوَائِهِ الْحَكَمَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَقَدْ نَفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الطَّائِفِ فَذَكَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ قَدْ نَفَاهُ إِلَى الطَّائِفِ ثُمَّ رَدَّهُ، ثُمَّ نَفَاهُ إِلَيْهَا، قَالَ: فَقَدْ نَفَاهُ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَدَّهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ خَطَبَ النَّاسَ بِهَذَا كُلِّهِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَجَعَلَ يَسْتَشْهِدُ بِهِمْ فَيَشْهَدُونَ لَهُ فِيمَا فِيهِ شَهَادَةٌ لَهُ. وَيُرْوَى أَنَّهُمْ بَعَثُوا طَائِفَةً مِنْهُمْ فَشَهِدُوا خُطْبَةَ عُثْمَانَ هَذِهِ، فَلَمَّا تَمَهَّدَتِ الْأَعْذَارُ وَانْزَاحَتْ عِلَلُهُمْ وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ شُبْهَةٌ أَشَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى عُثْمَانَ بِتَأْدِيبِهِمْ، فَصَفَحَ عَنْهُمْ وَتَرَكَهُمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَدَّهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ، فَرَجَعُوا خَائِبِينَ مِنْ حَيْثُ أَتَوْا وَلَمْ يَنَالُوا شَيْئًا مِمَّا كَانُوا أَمَّلُوا وَرَامُوا، وَرَجَعَ عَلِيٌّ إِلَى عُثْمَانَ فَأَخْبَرَهُ بِرُجُوعِهِمْ عَنْهُ وَسَمَاعِهِمْ مِنْهُ، وَأَشَارَ عَلَى عُثْمَانَ أَنْ يَخْطُبَ النَّاسَ خُطْبَةً يَعْتَذِرُ إِلَيْهِمْ فِيهَا مِمَّا كَانَ وَقَعَ مِنَ الْأَثَرَةِ لِبَعْضِ أَقَارِبِهِ، وَيُشْهِدُهُمْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ تَابَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَابَ إِلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ سِيرَةِ الشَّيْخَيْنِ

قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَحِيدُ عَنْهَا كَمَا كَانَ الْأَمْرُ أَوَّلًا فِي مُدَّةِ سِتِّ سِنِينَ الْأُوَلِ، فَاسْتَمَعَ عُثْمَانُ هَذِهِ النَّصِيحَةَ، وَقَابَلَهَا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَخَطَبَ النَّاسَ، رَفَعَ يَدَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ تَائِبٍ مِمَّا كَانَ مِنِّي. وَأَرْسَلَ عَيْنَيْهِ بِالْبُكَاءِ فَبَكَى الْمُسْلِمُونَ أَجْمَعُونَ وَحَصَلَ لِلنَّاسِ رِقَّةٌ شَدِيدَةٌ عَلَى إِمَامِهِمْ، وَأَشْهَدَ عُثْمَانُ النَّاسَ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ قَدْ لَزِمَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَأَنَّهُ قَدْ سَبَّلَ بَابَهُ لِمَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ عَلَيْهِ، لَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ، وَنَزَلَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَجَعَلَ مَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لِحَاجَةٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ أَوْ سُؤَالٍ، لَا يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ مُدَّةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا جَاءَ عُثْمَانَ بَعْدَ انْصِرَافِ الْمِصْرِيِّينَ فَقَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ كَلَامًا يَسْمَعُهُ النَّاسُ مِنْكَ وَيَشْهَدُونَ عَلَيْكَ، وَيَشْهَدُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي قَلْبِكَ مِنَ النُّزُوعِ وَالْإِنَابَةِ، فَإِنَّ الْبِلَادَ قَدْ تَمَخَّضَتْ عَلَيْكَ، وَلَا آمَنُ رَكْبًا آخَرِينَ يَقْدَمُونَ مِنْ قِبَلِ الْكُوفَةِ فَتَقُولُ: يَا عَلِيُّ ارْكَبْ إِلَيْهِمْ. وَيَقْدَمُ آخَرُونَ مِنَ الْبَصْرَةِ فَتَقُولُ: يَا عَلِيُّ ارْكَبْ إِلَيْهِمْ. فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ قَطَعْتُ رَحِمَكَ وَاسْتَخْفَفْتُ بِحَقِّكَ ؟! قَالَ: فَخَرَجَ عُثْمَانُ فَخَطَبَ الْخُطْبَةَ الَّتِي نَزَعَ فِيهَا، وَأَعْلَمَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ التَّوْبَةَ فَقَامَ ; فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَوَاللَّهِ مَا عَابَ مَنْ عَابَ شَيْئًا أَجْهَلُهُ، وَمَا جِئْتُ شَيْئًا إِلَّا وَأَنَا أَعْرِفُهُ، وَلَكِنْ ضَلَّ رُشْدِي، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: مَنْ زَلَّ فَلْيَتُبْ، وَمَنْ أَخْطَأَ فَلْيَتُبْ، وَلَا يَتَمَادَى فِي الْهَلَكَةِ، إِنَّ مَنْ

تَمَادَى فِي الْجَوْرِ كَانَ أَبْعَدَ عَنِ الطَّرِيقِ. فَأَنَا أَوَّلُ مَنِ اتَّعَظَ، أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا فَعَلْتُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَمِثْلِي نَزَعَ وَتَابَ، فَإِذَا نَزَلْتُ فَلْيَأْتِنِي أَشْرَافُكُمْ، فَوَاللَّهِ لَأَكُونَنَّ كَالْمَرْقُوقِ، إِنْ مَلَكَ صَبَرَ، وَإِنْ عُتِقَ شَكَرَ، وَمَا عَنِ اللَّهِ مَذْهَبٌ إِلَّا إِلَيْهِ. قَالَ: فَرَقَّ النَّاسُ لَهُ وَبَكَى مَنْ بَكَى، وَقَامَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ ! فَأَتْمِمْ عَلَى مَا قُلْتَ. فَلَمَّا انْصَرَفَ عُثْمَانُ إِلَى مَنْزِلِهِ وَجَدَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَكَابِرِ النَّاسِ، وَجَاءَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَقَالَ: أَتَكَلَّمُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْ أَصْمُتُ ؟ فَقَالَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ - نَائِلَةُ بِنْتُ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةُ - مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: بَلِ اصْمُتْ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُمْ لَقَاتِلُوهُ، وَلَقَدْ قَالَ مَقَالَةً لَا يَنْبَغِي لَهُ النُّزُوعُ عَنْهَا. فَقَالَ لَهَا: وَمَا أَنْتِ وَذَاكَ ! فَوَاللَّهِ لَقَدْ مَاتَ أَبُوكِ وَمَا يُحْسِنُ يَتَوَضَّأُ. فَقَالَتْ لَهُ: دَعْ ذِكْرَ الْآبَاءِ. وَنَالَتْ مِنْ أَبِيهِ الْحَكَمَ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا مَرْوَانُ، وَقَالَ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَكَلَّمُ أَمْ أَصْمُتُ ؟ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: بَلْ تَكَلَّمْ. فَقَالَ مَرْوَانُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لَوَدِدْتُ أَنَّ مَقَالَتَكَ هَذِهِ كَانَتْ وَأَنْتَ مُمْتَنِعٌ مَنِيعٌ، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ رَضِيَ بِهَا وَأَعَانَ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّكَ قُلْتَ مَا قُلْتَ حِينَ بَلَغَ الْحِزَامُ الطُّبْيَيْنِ، وَخَلَفَ السَّيْلُ الزُّبَى، وَحِينَ أَعْطَى الْخُطَّةَ الذَّلِيلَةَ الذَّلِيلُ، وَاللَّهِ لَإِقَامَةٌ عَلَى خَطِيئَةٍ يُسْتَغْفَرُ مِنْهَا، خَيْرٌ مِنْ تَوْبَةٍ تُخَوَّفُ عَلَيْهَا، وَإِنَّكَ لَوْ شِئْتَ

لَعَزَمْتَ التَّوْبَةَ وَلَمْ تُقَرِّرْ لَنَا بِالْخَطِيئَةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْكَ عَلَى الْبَابِ مِثْلُ الْجِبَالِ مِنَ النَّاسِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: فَاخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَكَلِّمْهُمْ، فَإِنِّي أَسْتَحِي أَنْ أُكَلِّمَهُمْ. قَالَ: فَخَرَجَ مَرْوَانُ إِلَى الْبَابِ وَالنَّاسِ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ ؟ كَأَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ لِنَهْبٍ، شَاهَتِ الْوُجُوهُ ! كُلُّ إِنْسَانٍ آخِذٍ بِأُذُنِ صَاحِبِهِ، أَلَا مَنْ أُرِيدُ ؟ جِئْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْزِعُوا مُلْكَنَا مِنْ أَيْدِينَا، اخْرُجُوا عَنَّا، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رُمْتُمُونَا لِيُمُرَّنَّ عَلَيْكُمْ أَمْرٌ يَسُوءُكُمْ وَلَا تَحْمَدُوا غِبَّهُ، ارْجِعُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا نَحْنُ مَغْلُوبِينَ عَلَى مَا بِأَيْدِينَا. قَالَ: فَرَجَعَ النَّاسُ، وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ حَتَّى أَتَى عَلِيًّا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَجَاءَ عَلِيٌّ مُغْضَبًا حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: أَمَا رَضِيتَ مِنْ مَرْوَانَ وَلَا رَضِيَ مِنْكَ إِلَّا بِتَحْوِيلِكَ عَنْ دِينِكَ وَعَقْلِكَ، وَإِنَّ مَثَلَكَ مِثْلُ جَمَلِ الظَّعِينَةِ سَارَ حَيْثُ يَسَارُ بِهِ، وَاللَّهِ مَا مَرْوَانُ بِذِي رَأْيٍ فِي دِينِهِ وَلَا نَفْسِهِ، وَايْمُ اللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ سَيُورِدُكَ ثُمَّ لَا يُصْدِرُكَ، وَمَا أَنَا بِعَائِدٍ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا لِمُعَاتَبَتِكَ، أَذْهَبْتَ شَرَفَكَ، وَغُلِبْتَ عَلَى أَمْرِكَ. فَلَمَّا خَرَجَ عَلِيٌّ دَخَلَتْ نَائِلَةُ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَتْ: أَتَكَلَّمُ أَوْ أَسْكُتُ ؟ فَقَالَ: تَكَلَّمِي. فَقَالَتْ: سَمِعْتُ قَوْلَ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَيْسَ يُعَاوِدُكَ، وَقَدْ أَطَعْتَ مَرْوَانَ حَيْثُ شَاءَ. قَالَ: فَمَا أَصْنَعُ ؟ قَالَتْ: تَتَّقِي اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَتَّبِعُ سُنَّةَ صَاحِبَيْكَ مِنْ قَبْلِكَ، فَإِنَّكَ مَتَى أَطَعْتَ مَرْوَانَ قَتَلَكَ، وَمَرْوَانُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرٌ وَلَا هَيْبَةٌ وَلَا مَحَبَّةٌ، فَأَرْسِلْ إِلَى عَلِيٍّ فَاسْتَصْلِحْهُ، فَإِنَّ لَهُ قَرَابَةً مِنْكَ وَهُوَ لَا يُعْصَى. قَالَ: فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى عَلِيٍّ فَأَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ، وَقَالَ: لَقَدْ أَعْلَمْتُهُ أَنِّي لَسْتُ بِعَائِدٍ. قَالَ: وَبَلَغَ مَرْوَانَ قَوْلُ نَائِلَةَ فِيهِ،

فَجَاءَ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: أَتَكَلَّمُ أَوْ أَسْكُتُ ؟ فَقَالَ: تَكَلَّمْ. فَقَالَ: إِنَّ نَائِلَةَ بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا تَذْكُرْهَا بِحَرْفٍ فَأَسُوءَ لَكَ وَجْهَكَ، فَهِيَ وَاللَّهِ أَنْصَحُ لِي مِنْكَ. قَالَ: فَكَفَّ مَرْوَانُ.

ذِكْرُ مَجِيءِ الْأَحْزَابِ إِلَى عُثْمَانَ لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مِصْرَ وَغَيْرِهَا فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ لَمَّا بَلَغَهُمْ خَبَرُ مَرْوَانَ وَغَضَبُ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ بِسَبَبِهِ، وَوَجَدُوا الْأَمْرَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَتَكَاتَبَ أَهْلُ مِصْرَ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَتَرَاسَلُوا، وَزُوِّرَتْ كُتُبٌ عَلَى لِسَانِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ وَعَلَى لِسَانِ عَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى قِتَالِ عُثْمَانَ وَنَصْرِ الدِّينِ، وَأَنَّهُ أَكْبَرُ الْجِهَادِ الْيَوْمَ.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَأَبِي حَارِثَةَ وَأَبِي عُثْمَانَ - وَقَالَهُ غَيْرُهُمْ أَيْضًا - قَالُوا: لَمَّا كَانَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، خَرَجَ أَهْلُ مِصْرَ فِي أَرْبَعِ رِفَاقٍ عَلَى أَرْبَعَةِ أُمَرَاءَ؛ الْمُقَلِّلُ لَهُمْ يَقُولُ: سِتُّمِائَةٍ. وَالْمُكَثِّرُ يَقُولُ: أَلْفٌ. عَلَى الرِّفَاقِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُدَيْسٍ الْبَلَوِيُّ، وَكِنَانَةُ بْنُ

بِشْرٍ التُّجِيبِيُّ، وَعُرْوَةُ بْنُ شُيَيْمٍ اللِّيثِيُّ، وَسَوْدَانُ بْنُ حُمْرَانَ السُّكُونِيُّ، وَقُتَيْرَةُ السُّكُونِيُّ، وَعَلَى الْقَوْمِ جَمِيعًا الْغَافِقِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْعَكِّيُّ، وَخَرَجُوا فِيمَا يُظْهِرُونَ لِلنَّاسِ حُجَّاجًا، وَمَعَهُمُ ابْنُ السَّوْدَاءِ، وَكَانَ أَصْلُهُ ذِمِّيًّا، فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَحْدَثَ بِدَعًا قَوْلِيَّةً وَفِعْلِيَّةً - قَبَّحَهُ اللَّهُ - وَخَرَجَ أَهْلُ الْكُوفَةِ فِي أَرْبَعِ رِفَاقٍ، وَأُمَرَاؤُهُمْ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ، وَالْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ، وَزِيَادُ بْنُ النَّضْرِ الْحَارِثِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَصَمِّ، وَعَلَى الْجَمِيعِ عَمْرُو بْنُ الْأَصَمِّ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَيْضًا فِي أَرْبَعِ رَايَاتٍ مَعَ حَكِيمِ بْنِ جَبَلَةَ الْعَبْدِيِّ، وَبِشْرِ بْنِ شُرَيْحِ بْنِ ضُبَيْعَةَ الْقَيْسِيِّ، وَذُرَيْحِ بْنِ عَبَّادٍ الْعَبْدِيِّ، وَابْنِ مُحَرِّشٍ الْحَنَفِيِّ، وَعَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ السَّعْدِيُّ. وَأَهْلُ مِصْرَ مُصِرُّونَ عَلَى وِلَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ عَازِمُونَ عَلَى تَأْمِيرِ الزُّبَيْرِ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ

مُصَمِّمُونَ عَلَى تَوْلِيَةِ طَلْحَةَ. لَا تَشُكُّ كُلُّ فِرْقَةٍ أَنَّ أَمْرَهَا سَيَتِمُّ، فَسَارَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ بَلَدِهِمْ حَتَّى تَوَافَوْا حَوْلَ الْمَدِينَةِ - كَمَا تَوَاعَدُوا فِي كُتُبِهِمْ - فِي شَهْرِ شَوَّالٍ فَنَزَلَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِذِي خُشُبٍ، وَطَائِفَةٌ بِالْأَعْوَصِ، وَالْجُمْهُورُ بِذِي الْمَرْوَةِ، وَهُمْ عَلَى وَجَلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَبَعَثُوا قُصَّادًا وَعُيُونًا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؛ لِيَخْتَبِرُوا النَّاسَ وَيُخْبِرُوهُمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا جَاءُوا لِلْحَجِّ لَا لِغَيْرِهِ، وَلِيَسْتَعْفُوا هَذَا الْوَالِي مِنْ بَعْضِ عُمَّالِهِ، مَا جِئْنَا إِلَّا لِذَلِكَ، وَاسْتَأْذَنُوا فِي الدُّخُولِ، فَكُلُّ النَّاسِ أَبَى دُخُولَهُمْ، وَنَهَى عَنْهُ، فَتَجَاسَرُوا وَاقْتَرَبُوا مِنَ الْمَدِينَةِ. وَجَاءَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ إِلَى عَلِيٍّ وَهُوَ فِي عَسْكَرٍ عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ، عَلَيْهِ حُلَّةُ أَفْوَافٍ، مُعْتَمٌّ بِشَقِيقَةٍ حَمْرَاءَ يَمَانِيَةٍ، مُتَقَلِّدًا السَّيْفَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ، وَقَدْ سَرَّحَ ابْنَهُ الْحَسَنَ إِلَى عُثْمَانَ فِي مَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْمِصْرِيُّونَ فَصَاحَ بِهِمْ وَأَطْرَدَهُمْ وَقَالَ: لَقَدْ عَلِمَ الصَّالِحُونَ أَنَّ جَيْشَ ذِي الْمَرْوَةِ وَذِي خُشُبٍ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَارْجِعُوا لَا صَبَّحَكُمُ اللَّهُ. قَالُوا: نَعَمْ. وَانْصَرَفُوا مِنْ عِنْدِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَتَى الْبَصْرِيُّونَ طَلْحَةَ وَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى إِلَى جَنْبِ عَلِيٍّ - وَقَدْ أَرْسَلَ ابْنَيْهِ إِلَى عُثْمَانَ - فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، فَصَاحَ بِهِمْ وَأَطْرَدَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ لِأَهْلِ مِصْرَ، وَكَذَلِكَ كَانَ رَدُّ الزُّبَيْرِ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ. فَرَجَعَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ وَأَظْهَرُوا لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِلَى بُلْدَانِهِمْ، وَسَارُوا أَيَّامًا رَاجِعِينَ، ثُمَّ

كَرُّوا عَائِدِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَا كَانَ غَيْرَ قَلِيلٍ حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ التَّكْبِيرَ، وَإِذَا الْقَوْمُ قَدْ زَحَفُوا عَلَى الْمَدِينَةِ وَأَحَاطُوا بِهَا، وَجُمْهُورُهُمْ عِنْدَ دَارِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَقَالُوا لِلنَّاسِ: مَنْ كَفَّ يَدَهُ فَهُوَ آمِنٌ. فَكَفَّ النَّاسُ وَلَزِمُوا بُيُوتَهُمْ، وَأَقَامَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا. هَذَا كُلُّهُ وَلَا يَدْرِي النَّاسُ مَا الْقَوْمُ صَانِعُونَ وَلَا عَلَى مَا هُمْ عَازِمُونَ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَيُصَلِّي وَرَاءَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأُولَئِكَ الْآخَرُونَ، وَذَهَبَ الصَّحَابَةُ إِلَى هَؤُلَاءِ يُؤَنِّبُونَهُمْ وَيَعْذِلُونَهُمْ عَلَى رُجُوعِهِمْ، حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ لِأَهْلِ مِصْرَ: مَا رَدُّكُمْ بَعْدَ ذَهَابِكُمْ وَرُجُوعِكُمْ عَنْ رَأْيِكُمْ ؟ فَقَالُوا: وَجَدْنَا مَعَ بَرِيدٍ كِتَابًا بِقَتْلِنَا. وَكَذَلِكَ قَالَ الْبَصْرِيُّونَ لِطَلْحَةَ، وَالْكُوفِيُّونَ لِلزُّبَيْرِ. وَقَالَ أَهْلُ كُلِّ مِصْرَ: إِنَّمَا جِئْنَا لِنَنْصُرَ أَصْحَابَنَا. فَقَالَ لَهُمُ الصَّحَابَةُ: كَيْفَ عَلِمْتُمْ بِذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِكُمْ وَقَدِ افْتَرَقْتُمْ وَصَارَ بَيْنَكُمْ مَرَاحِلُ ؟ إِنَّمَا هَذَا أَمْرٌ اتَّفَقْتُمْ عَلَيْهِ. فَقَالُوا: ضَعُوهُ عَلَى مَا أَرَدْتُمْ، لَا حَاجَةَ لَنَا فِي هَذَا الرَّجُلِ، لِيَعْتَزِلْنَا وَنَحْنُ نَعْتَزِلُهُ. يَعْنُونَ أَنَّهُ إِنْ نَزَلَ عَنِ الْخِلَافَةِ تَرَكُوهُ آمِنًا.
وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ - فِيمَا ذُكِرَ - لَمَّا رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَجَدُوا فِي الطَّرِيقِ بَرِيدًا يَسِيرُ، فَأَخَذُوهُ، فَفَتَّشُوهُ، فَإِذَا مَعَهُ فِي إِدَوَاةٍ كِتَابٌ عَلَى لِسَانِ عُثْمَانَ فِيهِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ، وَبِصَلْبِ آخَرِينَ، وَبِقَطْعِ أَيْدِي آخَرِينَ مِنْهُمْ وَأَرْجُلِهِمْ. وَكَانَ عَلَى الْكِتَابِ طَابَعٌ بِخَاتَمِ عُثْمَانَ وَالْبَرِيدُ أَحَدُ غِلْمَانِ عُثْمَانَ، وَعَلَى جَمَلِ عُثْمَانَ، فَلَمَّا رَجَعُوا جَاءُوا بِالْكِتَابِ وَدَارُوا بِهِ عَلَى النَّاسِ، فَكَلَّمَ النَّاسُ أَمِيرَ

الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: بَيِّنَةٌ عَلَيَّ بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَوَاللَّهِ لَا كَتَبْتُ وَلَا أَمْلَيْتُ، وَلَا دَرَيْتُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْخَاتَمُ قَدْ يُزَوَّرُ عَلَى الْخَاتَمِ. فَصَدَّقَهُ الصَّادِقُونَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَّبَهُ الْكَاذِبُونَ. وَيُقَالُ: إِنَّ أَهْلَ مِصْرَ كَانُوا قَدْ سَأَلُوا مِنْ عُثْمَانَ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهُمُ ابْنَ أَبِي سَرْحٍ وَيُوَلِّيَ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ فَلَمَّا رَجَعُوا وَجَدُوا ذَلِكَ الْبَرِيدَ وَمَعَهُ الْكِتَابُ بِقَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَآخَرِينَ مَعَهُ، فَرَجَعُوا وَقَدْ حَنِقُوا عَلَيْهِ حَنَقًا شَدِيدًا، وَطَافُوا بِالْكِتَابِ عَلَى النَّاسِ فَدَخَلَ ذَلِكَ فِي أَذْهَانِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ الَّذِي كَانَ مَعَهُ هَذِهِ الرِّسَالَةُ مِنْ جِهَةِ عُثْمَانَ إِلَى مِصْرَ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ عَلَى جَمَلٍ لِعُثْمَانَ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَتَبُوا إِلَى الْآفَاقِ مِنَ الْمَدِينَةِ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْقُدُومِ عَلَى عُثْمَانَ لِيُقَاتِلُوهُ. وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا كُتِبَتْ كُتُبٌ مُزَوَّرَةٌ عَلَيْهِمْ، كَمَا كَتَبُوا مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ إِلَى الْخَوَارِجِ كُتُبًا مُزَوَّرَةً عَلَيْهِمْ أَنْكَرُوهَا، وَهَكَذَا زُوِّرَ هَذَا الْكُتَّابُ عَلَى عُثْمَانَ أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَيْضًا.
وَاسْتَمَرَّ عُثْمَانُ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كُلِّهَا، وَهُمْ أَحْقَرُ فِي عَيْنِهِ مِنَ التُّرَابِ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْجُمُعَاتِ وَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَفِي يَدِهِ الْعَصَا الَّتِي كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي خُطْبَتِهِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، مِنْ بَعْدِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أُولَئِكَ فَسَبَّهُ وَنَالَ مِنْهُ، وَأَنْزَلَهُ عَنِ الْمِنْبَرِ،

فَطَمِعَ النَّاسِ فِيهِ مِنْ يَوْمَئِذٍ، كَمَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَنْظُرُ إِلَى عُثْمَانَ يَخْطُبُ عَلَى عَصَا النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّتِي كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَقَالَ لَهُ جَهْجَاهُ: قُمْ يَا نَعْثَلُ فَانْزِلْ عَنْ هَذَا الْمِنْبَرِ. وَأَخَذَ الْعَصَا فَكَسَرَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى فَدَخَلَتْ شَظِيَّةٌ مِنْهَا فِيهَا، فَبَقِيَ الْجُرْحُ حَتَّى أَصَابَتْهُ الْأَكِلَةُ فَرَأَيْتُهَا تُدَوِّدُ، فَنَزَلَ عُثْمَانُ وَحَمَلُوهُ وَأَمَرَ بِالْعَصَا فَشَدُّوهَا، فَكَانَتْ مُضَبَّبَةً، فَمَا خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَّا خَرْجَةً أَوْ خَرْجَتَيْنِ، حَتَّى حُصِرَ فَقُتِلَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ جَهْجَاهًا الْغِفَارِيَّ أَخَذَ عَصَا كَانَتْ فِي يَدِ عُثْمَانَ فَكَسَرَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ، فَرُمِيَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِأَكِلَةٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ قَالَ: خَطَبَ عُثْمَانُ النَّاسَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ قَدْ رَكِبْتَ نَهَابِيرَ وَرَكِبْنَاهَا مَعَكَ، فَتُبْ نَتُبْ. فَاسْتَقْبَلَ عُثْمَانُ

الْقِبْلَةَ وَشَهَرَ يَدَيْهِ قَالَ أَبُو حَبِيبَةَ: فَلَمْ أَرَ يَوْمًا أَكْثَرَ بَاكِيًا وَلَا بَاكِيَةً مِنْ يَوْمِئِذٍ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَامَ إِلَيْهِ جَهْجَاهُ الْغِفَارِيُّ فَصَاحَ: يَا عُثْمَانُ أَلَا إِنَّ هَذِهِ شَارِفٌ قَدْ جِئْنَا بِهَا عَلَيْهَا عَبَاءَةٌ وَجَامِعَةٌ، فَانْزِلْ فَلْنُدْرِجْكَ فِي الْعَبَاءَةِ، وَلْنَطْرَحْكَ فِي الْجَامِعَةِ، وَلْنَحْمِلْكَ عَلَى الشَّارِفِ، ثُمَّ نَطْرَحْكَ فِي جَبَلِ الدُّخَانِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: قَبَّحَكَ اللَّهُ وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ. ثُمَّ نَزَلَ عُثْمَانُ. قَالَ أَبُو حَبِيبَةَ: وَكَانَ آخِرَ يَوْمٍ رَأَيْتُهُ فِيهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى عُثْمَانَ بِالْمَنْطِقِ السَّيِّئِ جَبَلَةُ بْنُ عَمْرٍو السَّاعِدِيُّ، مَرَّ بِهِ عُثْمَانُ وَهُوَ فِي نَادِي قَوْمِهِ، وَفِي يَدِ جَبَلَةَ جَامِعَةٌ، فَلَمَّا مَرَّ عُثْمَانُ سَلَّمَ فَرَدَّ الْقَوْمُ، فَقَالَ جَبَلَةُ لِمَ تَرُدُّونَ عَلَيْهِ ؟ رَجُلٌ قَالَ كَذَا وَكَذَا. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَطْرَحَنَّ هَذِهِ الْجَامِعَةَ فِي عُنُقِكَ أَوْ لَتَتْرُكَنَّ بِطَانَتَكَ هَذِهِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: أَيُّ بِطَانَةٍ ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لِأَتَخَيَّرُ النَّاسُ. فَقَالَ: مَرْوَانَ تَخَيَّرْتَهُ ؟! وَمُعَاوِيَةَ تَخَيَّرْتَهُ ؟! وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ تَخَيَّرْتَهُ ؟! وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ

بْنِ أَبِي سَرْحٍ تَخَيَّرْتَهُ ؟! مِنْهُمْ مَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِدَمِهِ، وَأَبَاحَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَمَهُ. قَالَ: فَانْصَرَفَ عُثْمَانُ فَمَا زَالَ النَّاسُ مُجْتَرِئِينَ عَلَيْهِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعِ بْنِ نُقَاخَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الشَّرِيدِ قَالَ: مَرَّ عُثْمَانُ عَلَى جَبَلَةَ بْنِ عَمْرٍو السَّاعِدِيِّ وَهُوَ بِفَنَاءِ دَارِهِ، وَمَعَهُ جَامِعَةٌ فَقَالَ: يَا نَعْثَلُ، وَاللَّهِ لِأَقْتُلُنَّكَ وَلَأَحْمِلَنَّكَ عَلَى قَلُوصٍ جَرْبَاءَ، وَلِأُخْرِجُنَّكَ إِلَى حَرَّةِ النَّارِ. ثُمَّ جَاءَهُ مَرَّةً أُخْرَى وَعُثْمَانُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَأَنْزَلَهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ عُثْمَانَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَهُمْ أَيْضًا، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: يَا هَؤُلَاءِ الْعِدَا اللَّهَ اللَّهَ ! فَوَاللَّهِ إِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَيَعْلَمُونِ أَنَّكُمْ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَامْحُوَا الْخَطَأَ بِالصَّوَابِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ إِلَّا بِالْحَسَنِ. فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: أَنَا أَشْهَدُ بِذَلِكَ. فَأَخَذَهُ حَكِيمُ بْنُ جَبَلَةَ فَأَقْعَدَهُ، فَقَامَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالَ: إِنَّهُ فِي الْكِتَابِ. فَثَارَ إِلَيْهِ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي قُتَيْرَةَ فَأَقْعَدَهُ وَقَالَ فَأَفْظَعَ، وَثَارَ الْقَوْمُ

بِأَجْمَعِهِمْ فَحَصَبُوا النَّاسَ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَحَصَبُوا عُثْمَانَ حَتَّى صُرِعَ مِنَ الْمِنْبَرِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَاحْتُمِلَ وَأُدْخِلَ دَارَهُ، وَكَانَ الْمِصْرِيُّونَ لَا يَطْمَعُونَ فِي أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُسَاعِدَهُمْ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ، وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ. وَأَقْبَلَ عَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ إِلَى عُثْمَانَ فِي أُنَاسٍ يَعُودُونَهُ وَيَشْكُونَ إِلَيْهِ بَثَّهُمْ وَمَا حَلَّ بِالنَّاسِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَاسْتَقْتَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فِي الْمُحَارَبَةِ عَنْ عُثْمَانَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ يُقْسِمُ عَلَيْهِمْ لَمَا كَفُّوا أَيْدِيَهُمْ وَسَكَنُوا حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ مَا يَشَاءُ.

صِفَةُ حَصْرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَشُجَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ وَهُوَ فِي رَأْسِ الْمِنْبَرِ، وَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، وَاحْتُمِلَ إِلَى دَارِهِ، تَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَطَمِعَ فِيهِ أُولَئِكَ الْأَجْلَافُ الْأَخْلَاطُ مِنَ النَّاسِ وَأَلْجَئُوهُ إِلَى دَارِهِ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ، وَأَحَاطُوا بِهَا مُحَاصِرِينَ لَهُ،

وَلَزِمَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بُيُوتَهُمْ، وَسَارَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ عَنْ أَمْرِ آبَائِهِمْ ; مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ - وَكَانَ أَمِيرَ الدَّارِ - وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَصَارُوا يُجَاحِفُونَ عَنْهُ، وَيُنَاضِلُونَ دُونَهُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَأَسْلَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ رَجَاءَ أَنْ يُجِيبَ أُولَئِكَ إِلَى وَاحِدَةٍ مِمَّا سَأَلُوا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ طَلَبُوا مِنْهُ إِمَّا أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ أَوْ يُسْلِمَ إِلَيْهِمْ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي خَلَدِ أَحَدٍ أَنَّهُ يُقْتَلُ، إِلَّا مَا كَانَ فِي نَفْسِ أُولَئِكَ الْخَارِجِينَ عَلَيْهِ. وَانْقَطَعَ عُثْمَانُ عَنِ الْمَسْجِدِ، فَكَانِ لَا يَخْرُجُ إِلَيْهِ إِلَّا قَلِيلًا فِي أَوَائِلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ انْقَطَعَ بِالْكُلِّيَّةِ فِي آخِرِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْغَافِقِيُّ بْنُ حَرْبٍ. وَقَدِ اسْتَمَرَّ الْحَصْرُ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا. حَتَّى كَانَ آخِرَ ذَلِكَ أَنْ قُتِلَ شَهِيدًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ عَلِيًّا صَلَّى أَيْضًا، وَصَلَّى

أَبُو أَيُّوبَ وَصَلَّى بِهِمْ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَكَانَ يَجْمَعُ بِهِمْ عَلِيٌّ، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى بِهِمْ بَعْدُ. وَقَدْ خَاطَبَ النَّاسَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ، وَجَرَتْ أُمُورٌ سَنُورِدُ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ. وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، ثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ جَاوَانَ قَالَ: قَالَ الْأَحْنَفُ: انْطَلَقْنَا حُجَّاجًا فَمَرَرْنَا بِالْمَدِينَةِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي مَنْزِلِنَا إِذْ جَاءَنَا آتٍ فَقَالَ: النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَصَاحِبِي فَإِذَا النَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَى نَفَرٍ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: فَتَخَلَّلْتُهُمْ حَتَّى قُمْتُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ جَاءَ عُثْمَانُ يَمْشِي، فَقَالَ: هَاهُنَا عَلِيٌّ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَهَاهُنَا الزُّبَيْرُ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَهَاهُنَا سَعْدٌ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَنْ يَبْتَاعُ مِرْبَدَ بَنِي فُلَانٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ فَابْتَعْتُهُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُهُ. فَقَالَ: " اجْعَلْهُ فِي مَسْجِدِنَا وَأَجْرُهُ لَكَ " ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ ؟.

فَابْتَعْتُهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُهَا - يَعْنِي بِئْرَ رُومَةَ - فَقَالَ: اجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَلَكَ أَجْرُهَا " ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ يَوْمَ جَيْشِ الْعُسْرَةِ فَقَالَ: مَنْ يُجَهِّزْ هَؤُلَاءِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ فَجَهَّزْتُهُمْ حَتَّى مَا يَفْقِدُونَ خِطَامًا وَلَا عِقَالًا ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ. ثُمَّ انْصَرَفَ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُصَيْنٍ، وَعِنْدَهُ: إِذْ جَاءَ عُثْمَانُ وَعَلَيْهِ مُلَاءَةٌ صَفْرَاءُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو عُبَادَةَ الزُّرَقِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ يَوْمَ حُصِرَ فِي مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ، وَلَوْ أُلْقِيَ حَجَرٌ لَمْ يَقَعْ إِلَّا عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ، فَرَأَيْتُ عُثْمَانَ أَشْرَفَ مِنَ الْخَوْخَةِ الَّتِي تَلِي مَقَامَ جِبْرِيلَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَفِيكُمْ طَلْحَةُ ؟ فَسَكَتُوا. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَفِيكُمْ طَلْحَةُ ؟ فَسَكَتُوا. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَفِيكُمْ طَلْحَةُ ؟ فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَلَا

أَرَاكَ هَاهُنَا ؟ مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّكَ تَكُونُ فِي جَمَاعَةِ قَوْمٍ تَسْمَعُ نِدَائِي آخِرَ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ ثُمَّ لَا تُجِيبُنِي، أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا طَلْحَةُ، تَذْكُرُ يَوْمَ كُنْتُ أَنَا وَأَنْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ غَيْرِي وَغَيْرُكَ - فَقَالَ: نَعَمْ - فَقَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا طَلْحَةُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَمَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ رَفِيقٌ مِنْ أُمَّتِهِ مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ هَذَا - يَعْنِينِي - رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ ؟. فَقَالَ طَلْحَةُ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. ثُمَّ انْصَرَفَ. لَمْ يُخْرِجُوهُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، ثَنَا هِلَالُ بْنُ حَقٍّ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ حَزْنٍ الْقُشَيْرِيِّ، قَالَ: شَهِدْتُ الدَّارَ يَوْمَ أُصِيبَ عُثْمَانُ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِمُ اطِّلَاعَةً، فَقَالَ: ادْعُوا لِي صَاحِبَيْكُمُ اللَّذَيْنِ أَلَّبَاكُمْ عَلَيَّ، فَدُعِيَا لَهُ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ، أَتَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا

قَدِمَ الْمَدِينَةَ ضَاقَ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِهِ، فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذِهِ الْبُقْعَةَ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ فَيَكُونَ فِيهَا كَالْمُسْلِمِينَ وَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ ؟. فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ خَالِصِ مَالِي فَجَعَلْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونِي أَنْ أُصَلِّيَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ! ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بِئْرٌ يُسْتَعْذَبُ مِنْهُ إِلَّا بِئْرَ رُومَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَشْتَرِيهَا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ فَيَكُونَ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ ؟ فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ خَالِصِ مَالِي وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونِي أَنْ أَشْرَبَ مِنْهَا ! ثُمَّ قَالَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنِّي صَاحِبُ جَيْشِ الْعُسْرَةِ ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيِّ وَعَبَّاسٍ الدُّورِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ. وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ. كُلُّهُمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِنْقَرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، ثَنَا الْقَاسِمُ - يَعْنِي ابْنَ الْفَضْلِ - ثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ

قَالَ: دَعَا عُثْمَانُ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكُمْ وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تُصْدُقُونِي، نَشَدْتُكُمُ اللَّهَ، أَتَعْلَمُونَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يُؤْثِرُ قُرَيْشًا عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَيُؤْثِرُ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى سَائِرِ قُرَيْشٍ ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: لَوْ أَنَّ بِيَدِي مَفَاتِيحَ الْجَنَّةِ لَأَعْطَيْتُهَا بَنِي أُمَيَّةَ حَتَّى يَدْخُلُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ. فَبَعَثَ إِلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: أَلَا أُحَدِّثُكُمَا عَنْهُ - يَعْنِي عَمَّارًا - أَقْبَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آخِذًا بِيَدِي نَتَمَشَّى فِي الْبَطْحَاءِ حَتَّى أَتَى عَلَى أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَعَلَيْهِ يُعَذَّبُونَ، فَقَالَ أَبُو عَمَّارٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الدَّهْرَ هَكَذَا ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اصْبِرْ ". ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِآلِ يَاسِرٍ وَقَدْ فَعَلْتَ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ مُغِيرَةَ بْنَ مُسْلِمٍ أَبَا سَلَمَةَ يَذْكُرُ عَنْ مَطَرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُثْمَانَ أَشْرَفَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ: عَلَامَ تَقْتُلُونِي ؟ فَإِنِّي سَمِعْتُ

رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ؛ رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ، أَوْ قَتَلَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ، أَوِ ارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ. فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَلَا قَتَلْتُ أَحَدًا فَأُقِيدَ نَفْسِي مِنْهُ، وَلَا ارْتَدَدْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ؛ إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْأَزْهَرِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ بِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عُثْمَانَ فِي الدَّارِ وَهُوَ مَحْصُورٌ، قَالَ: وَكُنَّا نَدْخُلُ مُدْخَلًا إِذَا دَخَلْنَاهُ سَمِعْنَا كَلَامَ مَنْ عَلَى الْبَلَاطِ، قَالَ: فَدَخَلَ عُثْمَانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا مُنْتَقِعًا لَوْنُهُ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيَتَوَعَّدُونِي بِالْقَتْلِ آنِفًا. قَالَ: قُلْنَا: يَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَقَالَ: وَبِمَ يَقْتُلُونِي ؟ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ؛ رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ. فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ قَطُّ، وَلَا تَمَنَّيْتُ بَدَلًا بِدِينِي مُذْ هَدَانِي اللَّهُ لَهُ، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا، فَبِمَ يَقْتُلُونِي ؟. وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ

" السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ " مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - زَادَ النَّسَائِيُّ: وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ - قَالَا: كُنَّا مَعَ عُثْمَانَ. فَذَكَرَهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَقَدْ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فَرَفَعَهُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قَطَنٌ، حَدَّثَنَا يُونُسُ - يَعْنِي ابْنَ أَبِي إِسْحَاقَ - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَشْرَفَ عُثْمَانُ مِنَ الْقَصْرِ وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَقَالَ: أَنْشُدُ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ حِرَاءَ، إِذِ اهْتَزَّ الْجَبَلُ فَرَكَلَهُ بِقَدَمِهِ، ثُمَّ قَالَ: اسْكُنْ حِرَاءُ لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ، وَأَنَا مَعَهُ. فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. قَالَ: أَنْشُدُ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، إِذْ بَعَثَنِي إِلَى الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالَ: " هَذِهِ يَدِي وَهَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ " فَبَايَعَ لِي ؟ فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. قَالَ: أَنْشُدُ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ مَنْ يُوَسِّعُ لَنَا بِهَذَا الْبَيْتِ فِي الْمَسْجِدِ بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ ؟ فَابْتَعْتُهُ مِنْ مَالِي فَوَسَّعْتُ بِهِ الْمَسْجِدَ ؟ فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. قَالَ: وَأَنْشُدُ بِاللَّهِ مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ يَوْمَ جَيْشِ الْعُسْرَةِ قَالَ: مَنْ يُنْفِقُ الْيَوْمَ نَفَقَةً مُتَقَبَّلَةً ؟. فَجَهَّزْتُ نِصْفَ الْجَيْشِ مِنْ مَالِي ؟ فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. وَأَنْشُدُ بِاللَّهِ مَنْ

شَهِدَ رُومَةَ يُبَاعُ مَاؤُهَا ابْنَ السَّبِيلِ، فَابْتَعْتُهَا مِنْ مَالِي فَأَبَحْتُهَا ابْنَ السَّبِيلِ ؟ قَالَ: فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ بَكَّارٍ، عَنْ خَطَّابِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ بِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا رَأَى مَا فَعَلَهُ هَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، مِنْ مُحَاصَرَتِهِ فِي دَارِهِ، وَمَنْعِهِ الْخُرُوجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، وَإِلَى ابْنِ عَامِرٍ بِالْبَصْرَةِ، وَإِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، يَسْتَنْجِدُهُمْ فِي بَعْثِ جَيْشٍ يَطْرُدُونَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ حَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَانْتَدَبَ يَزِيدُ بْنُ أَسَدٍ الْقَسْرِيُّ فِي جَيْشٍ، وَبَعَثَ أَهْلُ الْكُوفَةِ جَيْشًا، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ جَيْشًا، فَلَمَّا سَمِعَ أُولَئِكَ بِخُرُوجِ الْجُيُوشِ إِلَيْهِمْ صَمَّمُوا فِي الْحِصَارِ، فَمَا اقْتَرَبَ الْجُيُوشُ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى جَاءَهُمْ قَتْلُ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عُثْمَانَ اسْتَدْعَى الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ، وَوُضِعَتْ لِعُثْمَانَ وِسَادَةٌ فِي كُوَّةٍ مِنْ دَارِهِ، فَأَشْرَفَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: يَا أَشْتَرُ مَاذَا يُرِيدُونَ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مِنْكَ إِمَّا أَنْ تَعْزِلَ نَفْسَكَ عَنِ الْإِمْرَةِ، وَإِمَّا أَنْ تُقِيدَ مِنْ نَفْسِكَ مَنْ قَدْ ضَرَبْتَهُ، أَوْ جَلَدْتَهُ، أَوْ حَبَسْتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلُوكَ.

وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَعْزِلَ نُوَّابَهُ عَنِ الْأَمْصَارِ وَيُوَلِّيَ عَلَيْهَا مَنْ يُرِيدُونَ هُمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْزِلْ نَفْسَهُ، أَنْ يُسْلِمَ لَهُمْ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فَيُعَاقِبُوهُ كَمَا زَوَّرَ عَلَى عُثْمَانَ كِتَابَهُ إِلَى مِصْرَ. فَخَشِيَ عُثْمَانُ إِنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَيَكُونَ سَبَبًا فِي قَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَمَا فَعَلَ مِنَ الْأَمْرِ مَا يَسْتَحِقُّ بِسَبَبِهِ الْقَتْلَ، وَاعْتَذَرَ عَنِ الِاقْتِصَاصِ مِمَّا قَالُوا بِأَنَّهُ رَجُلٌ ضَعِيفُ الْبَدَنِ كَبِيرُ السِّنِّ. وَأَمَّا مَا سَأَلُوهُ مِنْ خَلْعِهِ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ وَلَا يَنْزِعُ قَمِيصًا قَمَّصَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَيَتْرُكُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ يَعْدُو بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ إِنْ كُنْتُ كُلَّمَا كَرِهْتُمْ أَمِيرًا عَزَلْتُهُ، وَكُلَّمَا رَضِيتُمْ عَنْهُ وَلَّيْتُهُ ؟ وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُونِي لَا تَتَحَابُّوا بَعْدِي أَبَدًا، وَلَا تُصَلُّوا جَمِيعًا أَبَدًا، وَلَا تُقَاتِلُوا بَعْدِي عَدُوًّا جَمِيعًا أَبَدًا. وَقَدْ صَدَقَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا قَالَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، ثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ، حَدَّثَنِي النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ: كَتَبَ مَعِي مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ كِتَابًا فَدَفَعَتْ إِلَيْهَا كِتَابَهُ، فَحَدَّثَتْنِي أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ لِعُثْمَانَ: إِنَّ اللَّهَ لَعَلَّهُ يُقَمِّصُكَ قَمِيصًا فَإِنْ أَرَادَكَ أَحَدٌ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ النُّعْمَانُ: فَقُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَيْنَ كُنْتِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، وَاللَّهِ أُنْسِيتُهُ. وَقَدْ رَوَاهُ

التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النُّعْمَانِ، عَنْ عَائِشَةَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْفَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ النُّعْمَانِ فَأَسْقَطَ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عَامِرٍ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا قَيْسٌ، عَنْ أَبِي سَهْلَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادْعُوا لِي بَعْضَ أَصْحَابِي ". قُلْتُ: أَبُو بَكْرٍ ؟ قَالَ: " لَا ". قُلْتُ: عُمَرُ ؟ قَالَ: " لَا ". قُلْتُ: ابْنُ عَمِّكَ عَلِيٌّ ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَتْ: قُلْتُ: عُثْمَانُ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: تَنَحَّيْ. فَجَعَلَ يُسَارُّهُ وَلَوْنُ عُثْمَانَ يَتَغَيَّرُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الدَّارِ وَحُصِرَ فِيهَا قُلْنَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَا تُقَاتِلُ ؟ قَالَ: لَا؛ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا وَإِنِّي صَابِرٌ نَفْسِي عَلَيْهِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ الدِّمَشْقِيُّ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا ثَوْرٍ الْفَهْمِيَّ يَقُولُ: قَدِمْتُ عَلَى

عُثْمَانَ فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ فَخَرَجْتُ فَإِذَا بِوَفْدِ أَهْلِ مِصْرَ قَدْ رَجَعُوا فَدَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ فَأَعْلَمْتُهُ، فَقَالَ: وَكَيْفَ رَأَيْتَهُمْ ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْتُ فِي وُجُوهِهِمُ الشَّرَّ، وَعَلَيْهِمُ ابْنُ عُدَيْسٍ الْبَلَوِيُّ، فَصَعِدَ ابْنُ عُدَيْسٍ مِنْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى بِهِمُ الْجُمُعَةَ وَتَنَقَّصَ عُثْمَانَ فِي خُطْبَتِهِ، فَدَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَامَ فِيهِمْ، فَقَالَ: كَذَبَ وَاللَّهِ ابْنُ عُدَيْسٍ، وَلَوْلَا مَا ذَكَرَ مَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ، إِنِّي لَرَابِعُ أَرْبَعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَقَدْ أَنْكَحَنِي رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ابْنَتَهُ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ، فَأَنْكَحَنِي ابْنَتَهُ الْأُخْرَى، وَاللَّهِ وَلَا زَنَيْتُ وَلَا سَرَقْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَلَا تَعَتَّيْتُ وَلَا تَمَنَّيْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَلَا مَسَسْتُ فَرْجِي بِيَمِينِي مُنْذُ بَايَعْتُ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَقَدْ جَمَعْتُ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَتَتْ عَلَيَّ جُمُعَةٌ إِلَّا وَأَنَا أُعْتِقُ فِيهَا رَقَبَةً مُنْذُ أَسْلَمْتُ، إِلَّا أَنْ لَا أَجِدَهَا فِي تِلْكَ الْجُمُعَةِ فَأَجْمَعَهَا فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ. وَرَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ قَالَ: لَقَدِ اخْتَبَأْتُ عِنْدَ رَبِّي عَشْرًا فَذَكَرَهُنَّ.

فَصْلٌ
كَانَ الْحِصَارُ مُسْتَمِرًّا مِنْ أَوَاخِرَ ذِي الْقِعْدَةِ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةَ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ، قَالَ عُثْمَانُ لِلَّذِينِ عِنْدَهُ فِي الدَّارِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ سَبْعِمِائَةٍ؛ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ، وَمَرْوَانُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَخَلْقٌ مِنْ مَوَالِيهِ، وَلَوْ تَرَكَهُمْ لَمَنَعُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ: أُقْسِمَ عَلَى مَنْ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ أَنْ يَكُفَّ يَدَهُ، وَأَنْ يَنْطَلِقَ إِلَى مَنْزِلِهِ. وَعِنْدَهُ مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ وَأَبْنَائِهِمْ جَمٌّ غَفِيرٌ. وَقَالَ لِرَقِيقِهِ: مَنْ أَغْمَدَ سَيْفَهُ فَهُوَ حُرٌّ. فَبَرُدَ الْقِتَالُ مِنْ دَاخِلِ الدَّارِ، وَحَمِيَ مِنْ خَارِجٍ، وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عُثْمَانَ رَأَى فِي الْمَنَامِ رُؤْيَا دَلَّتْ عَلَى اقْتِرَابِ أَجَلِهِ، فَاسْتَسْلَمَ لِأَمْرِ اللَّهِ رَجَاءَ مَوْعُودِهِ، وَشَوْقًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِيَكُونَ خَيْرَ ابْنَيْ آدَمَ حَيْثُ قَالَ حِينَ أَرَادَ أَخُوهُ قَتْلَهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [ الْمَائِدَةِ: 29 ]. وَرُوِيَ أَنَّ آخِرَ مَنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ عُثْمَانَ مِنَ الدَّارِ بَعْدَ أَنْ عَزَمَ عَلَيْهِمْ فِي الْخُرُوجِ، الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَدْ جُرِحَ، وَكَانَ أَمِيرَ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الدَّارِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ أَوْ نَافِعٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَلْبَسْ سِلَاحَهُ

بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا يَوْمَ الدَّارِ، وَيَوْمَ نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَصْبَحَ يُحَدِّثُ النَّاسَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: " يَا عُثْمَانُ أَفْطِرْ عِنْدَنَا ". فَأَصْبَحَ صَائِمًا وَقُتِلَ مِنْ يَوْمِهِ.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ، عَنْ رَجُلٍ قَالَ: دَخَلَ عَلَيْهِ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اخْرُجْ فَاجْلِسْ بِالْفَنَاءِ، فَيُرَى وَجْهُكَ، فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ارْتَدَعُوا. فَضَحِكَ، وَقَالَ: يَا كَثِيرُ رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ وَكَأَنِّي دَخَلْتُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَقَالَ: " ارْجِعْ فَإِنَّكَ مُفْطِرٌ عِنْدِي غَدًا ". ثُمَّ قَالَ عُثْمَانُ: وَلَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ وَاللَّهِ غَدًا - أَوْ كَذَا وَكَذَا - إِلَّا وَأَنَا مِنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ. قَالَ: فَوَضَعَ سَعْدٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ السِّلَاحَ، وَأَقْبَلَا حَتَّى دَخَلَا عَلَى عُثْمَانَ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَلْقَمَةَ - مَوْلًى لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - حَدَّثَنِي ابْنُ الصَّلْتِ، قَالَ: أَغْفَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قُتِلَ

فِيهِ فَاسْتَيْقَظَ فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: تَمَنَّى عُثْمَانُ أُمْنِيَةً لَحَدَّثْتُكُمْ. قَالَ: قُلْنَا أَصْلَحَكَ اللَّهُ، حَدِّثْنَا فَلَسْنَا نَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ. فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مَنَامِي هَذَا فَقَالَ: " إِنَّكَ شَاهِدٌ مَعَنَا الْجُمُعَةَ ".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ، ثَنَا خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ الْبَجَلِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ لِي: يَا كَثِيرُ، مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا يَوْمِي هَذَا. قَالَ: قُلْتُ: يَنْصُرُكَ اللَّهُ عَلَى عَدُوِّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: ثُمَّ أَعَادَ عَلَيَّ فَقُلْتُ: وُقِّتَ لَكَ فِي هَذَا الْيَوْمِ شَيْءٌ، أَوْ قِيلَ لَكَ شَيْءٌ ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي سَهِرْتُ فِي لَيْلَتِي هَذِهِ الْمَاضِيَةِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ السَّحَرِ أَغْفَيْتُ إِغْفَاءَةً، فَرَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَرَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ لِي: يَا " عُثْمَانُ الْحَقْنَا لَا تَحْبِسْنَا، فَإِنَّا نَنْتَظِرُكَ ". قَالَ: فَقُتِلَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ لِأَسْلَمِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأَخِي، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللَّيْلَةَ فِي هَذِهِ الْخَوْخَةِ - قَالَ: وَخَوْخَةٌ فِي الْبَيْتِ - فَقَالَ: " يَا عُثْمَانُ حَصَرُوكَ ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " عَطَّشُوكَ ؟ ". قُلْتُ: نَعَمْ. فَأَدْلَى دَلْوًا فِيهِ مَاءٌ فَشَرِبْتُ حَتَّى رَوَيْتُ، حَتَّى إِنِّي لَأَجِدُ بَرْدَهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ بَيْنَ كَتِفَيَّ، وَقَالَ

لِي: " إِنْ شِئْتَ نُصِرْتَ عَلَيْهِمْ وَإِنْ شِئْتَ أَفْطَرْتَ عِنْدَنَا ". فَاخْتَرْتُ أَنْ أُفْطِرَ عِنْدَهُ. فَقُتِلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، أَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا وُهَيْبٌ، ثَنَا دَاوُدُ عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أُمِّ هِلَالٍ بِنْتِ وَكِيعٍ، عَنِ امْرَأَةِ عُثْمَانَ - قَالَ: وَأَحْسَبُهَا بِنْتَ الْفَرَافِصَةِ - قَالَتْ: أَغْفَى عُثْمَانُ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ يَقْتُلُونَنِي. قُلْتُ: كَلَّا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالُوا: " أَفْطِرْ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ ". أَوْ: " إِنَّكَ تُفْطِرُ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ ".
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ أَحْمَدَ الْعَسْقَلَانِيُّ، ثَنَا شَبَابَةُ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي رَاشِدٍ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ حُرَيْثٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُرَشِيِّ، وَعُقْبَةَ بْنِ أُسَيْدٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ نَائِلَةَ بِنْتِ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةِ - امْرَأَةِ عُثْمَانَ - قَالَتْ: لَمَّا حُصِرَ عُثْمَانُ ظَلَّ الْيَوْمَ الَّذِي كَانَ قَبْلَ قَتْلِهِ صَائِمًا، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ إِفْطَارِهِ سَأَلَهُمُ الْمَاءَ الْعَذْبَ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَقَالُوا:

دُونَكَ ذَلِكَ الرَّكِيَّ - وَرَكِيٌّ فِي الدَّارِ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ النَّتِنُ - قَالَتْ: فَلَمْ يُفْطِرْ، فَأَتَيْتُ جَارَاتٍ لَنَا عَلَى أَجَاجِيرَ مُتَوَاصِلَةٍ - وَذَلِكَ فِي السَّحَرِ - فَسَأَلْتُهُمُ الْمَاءَ الْعَذْبَ فَأَعْطَوْنِي كُوزًا مِنْ مَاءٍ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: هَذَا مَاءٌ عَذْبٌ أَتَيْتُكَ بِهِ. قَالَتْ: فَنَظَرَ فَإِذَا الْفَجْرُ قَدْ طَلَعَ فَقَالَ: إِنِّي أَصْبَحْتُ صَائِمًا. قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَمِنْ أَيْنَ وَلَمْ أَرَ أَحَدًا أَتَاكَ بِطَعَامٍ وَلَا شَرَابٍ ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اطَّلَعَ عَلَيَّ مِنْ هَذَا السَّقْفِ وَمَعَهُ دَلْوٌ مِنْ مَاءٍ فَقَالَ: " اشْرَبْ يَا عُثْمَانُ ". فَشَرِبْتُ حَتَّى رَوِيتُ ثُمَّ قَالَ: " ازْدَدْ ". فَشَرِبْتُ حَتَّى نَهِلْتُ ثُمَّ قَالَ: " أَمَا إِنَّ الْقَوْمَ سَيَبْكُرُونَ عَلَيْكَ، فَإِنْ قَاتَلْتَهُمْ ظَفِرْتَ، وَإِنْ تَرَكْتَهُمْ أَفْطَرْتَ عِنْدَنَا ". قَالَتْ: فَدَخَلُوا عَلَيْهِ مِنْ يَوْمِهِ فَقَتَلُوهُ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ

بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي يَعْفُورٍ الْعَبْدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُسْلِمٍ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَنَّ عُثْمَانَ أَعْتَقَ عِشْرِينَ مَمْلُوكًا، وَدَعَا بِسَرَاوِيلَ فَشَدَّهَا وَلَمْ يَلْبَسْهَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْمَنَامِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَإِنَّهُمْ قَالُوا لِي: " اصْبِرْ فَإِنَّكَ تُفْطِرُ عِنْدَنَا الْقَابِلَةَ ". ثُمَّ دَعَا بِمُصْحَفٍ فَنَشَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُتِلَ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ. قُلْتُ: إِنَّمَا لَبِسَ السَّرَاوِيلَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي هَذَا الْيَوْمِ لِئَلَّا تَبْدُوَ عَوْرَتَهُ إِذَا قُتِلَ ; فَإِنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الْحَيَاءِ، كَانَتْ تَسْتَحْيِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُصْحَفَ يَتْلُو فِيهِ، وَاسْتَسْلَمَ لِقَضَاءِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَكَفَّ يَدَهُ عَنِ الْقِتَالِ، وَأَمَرَ النَّاسَ وَعَزَمَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا دُونَهُ، وَلَوْلَا عَزِيمَتُهُ عَلَيْهِمْ لَنَصَرُوهُ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَلَكِنْ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: إِنَّ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَوْصَى إِلَى الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ فَتَّشُوا خَزَائِنَهُ فَوَجَدُوا فِيهَا صُنْدُوقًا مُقْفَلًا، فَفَتَحُوهُ فَوَجَدُوا فِيهِ حُقَّةً فِيهَا وَرَقَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا: هَذِهِ وَصِيَّةُ عُثْمَانَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، عَلَيْهَا يَحْيَا وَعَلَيْهَا يَمُوتُ، وَعَلَيْهَا يُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ يَوْمَ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ:
أَرَى الْمَوْتَ لَا يُبْقِي عَزِيزًا وَلَمْ يَدَعْ لِعَادٍ مَلَاذًا فِي الْبِلَادِ وَمُرْتَقَى
وَقَالَ أَيْضًا:
يُبَيِّتُ أَهْلَ الْحِصْنِ وَالْحِصْنُ مُغْلَقٌ وَيَأْتِي الْجِبَالَ فِي شَمَارِيخِهَا الْعُلَا

صِفَةُ قَتْلِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، ثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَنْبَأَنِي وَثَّابٌ قَالَ: بَعَثَنِي عُثْمَانُ فَدَعَوْتُ لَهُ الْأَشْتَرَ فَقَالَ: مَا يُرِيدُ النَّاسُ ؟ قَالَ: ثَلَاثٌ لَيْسَ مِنْ إِحْدَاهُنَّ بُدٌّ. قَالَ: مَا هُنَّ ؟ قَالَ: يُخَيِّرُونَكَ بَيْنَ أَنْ تَخْلَعَ لَهُمْ أَمْرَهُمْ فَتَقُولَ: هَذَا أَمْرُكُمْ فَاخْتَارُوا مَنْ شِئْتُمْ، وَبَيْنَ أَنْ تُقِصَّ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ الْقَوْمَ قَاتِلُوكَ. فَقَالَ: أَمَّا أَنْ أَخْلَعَ لَهُمْ أَمْرَهُمْ فَمَا كُنْتُ لِأَخْلَعَ سِرْبَالًا سَرْبَلَنِيهِ اللَّهُ، وَأَمَّا أَنْ أُقِصَّ لَهُمْ مِنْ نَفْسِي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ صَاحِبَيَّ بَيْنَ يَدَيَّ قَدْ كَانَا يُعَاقِبَانِ، وَمَا يَقُومُ بَدَنِي بِالْقِصَاصِ، وَأَمَّا أَنْ يَقْتُلُونِي، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُونِي لَا تَحَابُّونَ بَعْدِي أَبَدًا، وَلَا تُصَلُّونَ بَعْدِي جَمِيعًا أَبَدًا،

وَلَا تُقَاتِلُونَ بَعْدِي عَدُوًّا جَمِيعًا أَبَدًا. قَالَ: وَجَاءَ رُوَيْجِلٌ كَأَنَّهُ ذِئْبٌ فَاطَّلَعَ مِنْ بَابٍ وَرَجَعَ، وَجَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فَقَالَ بِهَا حَتَّى سَمِعْتُ وَقْعَ أَضْرَاسِهِ، فَقَالَ: مَا أَغْنَى عَنْكَ مُعَاوِيَةُ، وَمَا أَغْنَى عَنْكَ ابْنُ عَامِرٍ، وَمَا أَغْنَتْ عَنْكَ كُتُبُكَ. قَالَ: أَرْسِلْ لِحْيَتِي يَا ابْنَ أَخِي. قَالَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ اسْتَعْدَى رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ بِعَيْنِهِ - يَعْنِي أَشَارَ إِلَيْهِ - فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ فَوَجَأَ بِهِ رَأْسَهُ. قُلْتُ: ثُمَّ مَهْ ؟ قَالَ: ثُمَّ تَعَاوَرُوا عَلَيْهِ وَاللَّهِ حَتَّى قَتَلُوهُ.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَنِ الْغُصْنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ خَنْسَاءَ مَوْلَاةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - وَكَانَتْ تَكُونُ مَعَ نَائِلَةَ بِنْتِ الْفَرَافِصَةِ امْرَأَةِ عُثْمَانَ - أَنَّهَا كَانَتْ فِي الدَّارِ، وَدَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَأَهْوَى بِمَشَاقِصَ مَعَهُ لِيَجَأَ بِهَا فِي حَلْقِهِ، فَقَالَ: مَهْلًا يَا ابْنَ أَخِي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتَ مَأْخَذًا مَا كَانَ أَبُوكَ لِيَأْخُذَ بِهِ. فَتَرَكَهُ وَانْصَرَفَ مُسْتَحْيِيًا نَادِمًا، فَاسْتَقْبَلَهُ الْقَوْمُ عَلَى بَابِ الصُّفَّةِ، فَرَدَّهُمْ طَوِيلًا حَتَّى غَلَبُوهُ فَدَخَلُوا، وَخَرَجَ مُحَمَّدٌ رَاجِعًا، فَأَتَاهُ رَجُلٌ بِيَدِهِ جَرِيدَةٌ يُقَدِّمُهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَى عُثْمَانَ، فَضَرَبَ بِهَا رَأْسَهُ فَشَجَّهُ،

فَقَطَرَ دَمُهُ عَلَى الْمُصْحَفِ حَتَّى لَطَّخَهُ، ثُمَّ تَغَاوَوْا عَلَيْهِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَضَرَبَهُ عَلَى الثَّدْيِ بِالسَّيْفِ، وَوَثَبَتْ نَائِلَةُ بِنْتُ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةُ فَصَاحَتْ وَأَلْقَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: يَا بِنْتَ شَيْبَةَ أَيُقْتَلُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ! وَأَخَذَتِ السَّيْفَ فَقَطَعَ الرَّجُلُ يَدَهَا، وَانْتَهَبُوا مَتَاعَ الدَّارِ، وَمَرَّ رَجُلٌ عَلَى عُثْمَانَ وَرَأْسُهُ مَعَ الْمُصْحَفِ، فَضَرَبَ رَأَسَهُ بِرِجْلِهِ وَنَحَّاهُ عَنِ الْمُصْحَفِ وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَجْهَ كَافِرٍ أَحْسَنَ، وَلَا مَضْجَعَ كَافِرٍ أَكْرَمَ. فَلَا وَاللَّهِ مَا تَرَكُوا فِي دَارِهِ شَيْئًا حَتَّى الْأَقْدَاحَ إِلَّا ذَهَبُوا بِهِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ عُثْمَانَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى أَهْلِ الدَّارِ فِي الِانْصِرَافِ، وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ سِوَى أَهْلِهِ تَسَوَّرُوا عَلَيْهِ الدَّارَ، وَأَحْرَقُوا الْبَابَ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا أَبْنَائِهِمْ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَسَبَقَهُ بَعْضُهُمْ فَضَرَبُوهُ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ وَصَاحَ النِّسْوَةُ فَانْذَعَرُوا وَخَرَجُوا، وَدَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ قُتِلَ، فَلَمَّا رَآهُ قَدْ أَفَاقَ قَالَ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ يَا نَعْثَلُ ؟ قَالَ: عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَسْتُ بِنَعْثَلٍ، وَلَكِنِّي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: غَيَّرْتَ كِتَابَ اللَّهِ. فَقَالَ: كِتَابُ اللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَقَالَ: إِنَّا لَا يُقْبَلُ مِنَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ نَقُولَ:

رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [ الْأَحْزَابِ: 67 ]. وَشَحَطَهُ بِيَدِهِ مِنَ الْبَيْتِ إِلَى بَابِ الدَّارِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا ابْنَ أَخِي مَا كَانَ أَبُوكَ لِيَأْخُذَ بِلِحْيَتِي. وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ - يُلَقَّبُ حِمَارًا وَيُكَنَّى، بِأَبِي رُومَانَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْمُهُ رُومَانُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ أَزْرَقَ أَشْقَرَ. وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهُ سُودَانَ بْنَ رُومَانَ الْمُرَادِيَّ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ اسْمُ الَّذِي قَتَلَ عُثْمَانَ أَسْوَدُ بْنُ حُمْرَانَ ضَرَبَهُ بِحَرْبَةٍ - وَبِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا فَقَالَ: أَفْرِجُوا. ثُمَّ جَاءَ فَضَرَبَهُ بِهِ فِي صَدْرِهِ حَتَّى أَقْعَصَهُ، ثُمَّ وَضَعَ ذُبَابَ السَّيْفِ فِي بَطْنِهِ وَاتَّكَأَ عَلَيْهِ وَتَحَامَلَ حَتَّى قَتَلَهُ، وَقَامَتْ نَائِلَةُ دُونَهُ فَقَطَعَ السَّيْفُ أَصَابِعَهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَيُرْوَى أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ طَعْنَهُ بِمَشَاقِصَ فِي أُذُنِهِ حَتَّى دَخَلَتْ حَلْقَهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ اسْتَحْيَى وَرَجَعَ حِينَ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ: لَقَدْ أَخَذْتَ بِلِحْيَةٍ كَانَ أَبُوكَ يُكْرِمُهَا. فَتَذَمَّمَ مِنْ ذَلِكَ وَغَطَّى وَجْهَهُ وَرَجَعَ وَجَاحَفَ دُونَهُ فَلَمْ يُفِدْ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا.

وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، أَنَّ كِنَانَةَ بْنَ بِشْرٍ ضَرَبَ جَبِينَهُ وَمُقَدَّمَ رَأْسِهِ بِعَمُودٍ حَدِيدٍ، فَخَرَّ لِجَنْبِهِ، وَضَرَبَهُ سُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ الْمُرَادِيُّ بَعْدَ مَا خَرَّ لِجَنْبِهِ فَقَتَلَهُ، وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ فَوَثَبَ عَلَى عُثْمَانَ فَجَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ وَبِهِ رَمَقٌ، فَطَعَنَهُ تِسْعَ طَعَنَاتٍ وَقَالَ: أَمَّا ثَلَاثٌ مِنْهُنَّ فَلِلَّهِ، وَسِتٌّ لِمَا كَانَ فِي صَدْرِي عَلَيْهِ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَدَقَةَ الْبَغْدَادِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ دَاوُدَ الصَّوَّافُ التُّسْتَرِيُّ، قَالَا: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ، ثَنَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، ثَنَا مُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي سَيَّافُ عُثْمَانَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: ارْجِعْ يَا ابْنَ أَخِي فَلَسْتَ بِقَاتِلِي. قَالَ: وَكَيْفَ عَلِمْتَ ذَاكَ ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ أُتِيَ بِكَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ سَابِعِكَ فَحَنَّكَكَ وَدَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ. ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ سَوَاءً. ثُمَّ دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَنْتَ قَاتِلِي. قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ يَا نَعْثَلُ ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ أُتِيَ بِكَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ سَابِعِكَ لِيُحَنِّكَكَ وَيَدْعُوَ لَكَ بِالْبَرَكَةِ، فَخَرِيتَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَوَثَبَ عَلَى صَدْرِهِ وَقَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، وَوَجَأَهُ بِمَشَاقِصَ كَانَتْ فِي يَدِهِ. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَفِيهِ نَكَارَةٌ.

وَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ أَوَّلَ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ سَقَطَتْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [ الْبَقَرَةِ: 137 ]. وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهَا فِي التِّلَاوَةِ أَيْضًا حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ. وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ وَضَعَ الْمُصْحَفَ يَقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنَ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ فَلَمَّا قَطَرَ الدَّمُ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ " بِأَسَانِيدِهِ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ لَمَّا وَجَدُوا ذَلِكَ الْكِتَابَ مَعَ الْبَرِيدِ إِلَى أَمِيرِ مِصْرَ، فِيهِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ، وَصَلْبِ بَعْضِهِمْ، وَبِقَطْعِ أَيْدِي بَعْضِهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ، وَكَانَ قَدْ كَتَبَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ عَلَى لِسَانِ عُثْمَانَ مُتَأَوِّلًا قَوْلَهُ تَعَالَى إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ الْمَائِدَةِ: 33 ]. وَعِنْدَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنْ جُمْلَةِ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْتَاتَ عَلَى عُثْمَانَ وَيَكْتُبَ عَلَى لِسَانِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَيُزَوِّرَ عَلَى خَطِّهِ وَخَاتَمِهِ، وَيَبْعَثَ غُلَامَهُ عَلَى بَعِيرِهِ بَعْدَ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَ عُثْمَانَ وَبَيْنَ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى تَأْمِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى مِصْرَ، بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِهَذَا لَمَّا

وَجَدُوا هَذَا الْكِتَابَ عَلَى خِلَافِ مَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ، وَظَنُّوا أَنَّهُ مِنْ عُثْمَانَ، أَعْظَمُوا ذَلِكَ، مَعَ مَا هُمْ مُشْتَمَلُونَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، فَرَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَطَافُوا بِهِ عَلَى رُءُوسِ الصَّحَابَةِ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْمٌ آخَرُونَ، حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنَّ هَذَا عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا قِيلَ لِعُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي أَمْرِ هَذَا الْكِتَابِ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْمِصْرِيِّينَ، حَلَفَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ الرَّاشِدُ - أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ هَذَا الْكِتَابَ وَلَا أَمَلَاهُ عَلَى مَنْ كَتَبَهُ، وَلَا عِلْمَ بِهِ فَقَالُوا لَهُ: فَإِنَّ عَلَيْهِ خَاتَمَكَ. فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُزَوَّرُ عَلَى خَطِّهِ وَخَاتَمِهِ. قَالُوا: فَإِنَّهُ مَعَ غُلَامِكَ وَعَلَى جَمَلِكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالُوا لَهُ بَعْدَ كُلِّ مَقَالِهِ: إِنْ كُنْتَ قَدْ كَتَبْتَهُ فَقَدْ خُنْتَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ كَتَبْتَهُ بَلْ كُتِبَ عَلَى لِسَانِكَ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ فَقَدْ عَجَزْتَ، وَمِثْلُكَ لَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ ; إِمَّا لِخِيَانَتِكَ، وَإِمَّا لِعَجْزِكَ.
وَهَذَا الَّذِي قَالُوا بَاطِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَإِنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ كَتَبَ الْكِتَابَ - وَهُوَ لَمْ يَكْتُبْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ - لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ رَأَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْأُمَّةِ فِي إِزَالَةِ شَوْكَةِ هَؤُلَاءِ الْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْإِمَامِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ بِهِ فَأَيُّ عَجْزٍ يُنْسَبُ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَزُوِّرَ عَلَى لِسَانِهِ ؟ ! وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْصُومٍ بَلِ الْخَطَأُ وَالْغَفْلَةُ جَائِزَانِ عَلَيْهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ الْبُغَاةُ مُتَعَنِّتُونَ خَوَنَةٌ ظَلَمَةٌ مُفْتَرُونَ، وَلِهَذَا صَمَّمُوا بَعْدَ هَذَا عَلَى حَصْرِهِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ حَتَّى مَنَعُوهُ الْمِيرَةَ وَالْمَاءَ وَالْخُرُوجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَتَهَدَّدُوهُ بِالْقَتْلِ، وَلِهَذَا خَاطَبَهُمْ بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ مِنْ تَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مُنِعَ مِنْهُ، وَمِنْ وَقْفِهِ بِئْرَ رُومَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مُنِعَ مَاءَهَا، وَمِنْ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ; النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ

الزَّانِي، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ نَفَسًا، وَلَا ارْتَدَّ بَعْدَ إِيمَانِهِ، وَلَا زَنَى فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، بَلْ وَلَا مَسَّ فَرْجَهُ بِيَمِينِهِ بَعْدَ أَنْ بَايَعَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي رِوَايَةٍ بَعْدَ أَنْ كَتَبَ بِهَا الْمُفَصَّلَ. ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ مِنْ فَضَائِلِهِ وَمَنَاقِبِهِ مَا لَعَلَّهُ يَنْجَعُ فِيهِمْ بِالْكَفِّ عَنْهُ وَالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، فَأَبَوْا إِلَّا الِاسْتِمْرَارَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ. وَمَنَعُوا النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِ وَالْخُرُوجِ مِنْ عِنْدِهِ، حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَالُ، وَضَاقَ الْمَجَالُ، وَنَفَدَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَاءِ، فَاسْتَغَاثَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَرَكِبَ عَلِيٌّ بِنَفْسِهِ وَحَمَلَ مَعَهُ قِرَبًا مِنَ الْمَاءِ فَبِالْجَهْدِ حَتَّى أَوْصَلَهَا إِلَيْهِ بَعْدَ مَا نَالَهُ مِنْ جَهَلَةِ أُولَئِكَ كَلَامٌ غَلِيظٌ، وَتَنْفِيرٌ لِدَابَّتِهِ، وَإِخْرَاقٌ عَظِيمٌ بَلِيغٌ، وَكَانَ قَدْ زَجَرَهُمْ أَتَمَّ الزَّجْرِ، حَتَّى قَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ لَا يَفْعَلُونَ كَفِعْلِكُمْ هَذَا بِهَذَا الرَّجُلِ، وَاللَّهِ إِنَّهُمْ لِيَأْسِرُونِ فَيُطْعِمُونَ وَيَسْقُونَ. فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ حَتَّى رَمَى بِعِمَامَتِهِ فِي وَسَطِ الدَّارِ، وَجَاءَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَاكِبَةً بَغْلَةً وَحَوْلَهَا حَشَمُهَا وَخَدَمُهَا، فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِكِ ؟ فَقَالَتْ: إِنْ عِنْدَهُ وَصَايَا بَنِي أُمَيَّةَ لِأَيْتَامٍ وَأَرَامِلَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُذَكِّرَهُ بِهَا. فَكَذَّبُوهَا فِي ذَلِكَ، وَنَالَهَا مِنْهُمْ شِدَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَقَطَعُوا حِزَامَ الْبَغْلَةِ وَنَدَّتْ بِهَا، وَكَادَتْ أَوْ سَقَطَتْ عَنْهَا، وَكَادَتْ تُقْتَلُ لَوْلَا تَلَاحَقَ بِهَا النَّاسُ فَأَمْسَكُوا بِدَابَّتِهَا، وَوَقَعَ أَمْرٌ كَبِيرٌ جِدًّا، وَلَمْ يَبْقَ يَحْصُلُ لِعُثْمَانَ وَأَهْلِهِ مِنَ الْمَاءِ إِلَّا مَا يُوصِلُهُ إِلَيْهِمْ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الْخُفْيَةِ لَيْلًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا أَعْظَمَهُ النَّاسُ جِدًّا، وَلَزِمَ أَكْثَرُ النَّاسِ بُيُوتَهُمْ، وَجَاءَ وَقْتُ الْحَجِّ فَخَرَجَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّكِ لَوْ أَقَمْتِ كَانَ أَصْلَحَ، لَعَلَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَهَابُونَكِ. فَقَالَتْ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ أُشِيرَ عَلَيْهِمْ بِرَأْيٍ فَيَنَالَنِي مِنْهُمْ مِنَ الْأَذِيَّةِ مَا نَالَ أُمَّ حَبِيبَةَ. فَعَزَمَتْ عَلَى الْخُرُوجِ.
وَاسْتَخْلَفَ عُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْحَجِّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ مُقَامِي عَلَى بَابِكَ أُجَاحِفُ عَنْكَ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ. فَعَزَمَ عَلَيْهِ فَخَرَجَ بِالنَّاسِ إِلَى الْحَجِّ، وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ بِالدَّارِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَرَجَعَ الْبَشِيرُ مِنَ الْحَجِّ، فَأَخْبَرَ بِسَلَامَةِ النَّاسِ، وَأَخْبَرَ أُولَئِكَ بِأَنَّ أَهْلَ الْمَوْسِمِ عَازِمُونَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَكُفُّوكُمْ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَبَلَغَهُمْ أَيْضًا أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدْ بَعَثَ جَيْشًا مَعَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ قَدْ نَفَّذَ آخَرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدْ بَعَثُوا الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو فِي جَيْشٍ، وَأَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ بَعَثُوا مُجَاشِعًا فِي جَيْشٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ صَمَّمُوا عَلَى أَمْرِهِمْ وَبَالَغُوا فِيهِ وَانْتَهَزُوا الْفُرْصَةَ بِقِلَّةِ النَّاسِ وَغَيْبَتِهِمْ فِي الْحَجِّ، وَأَحَاطُوا بِالدَّارِ، وَجَدُّوا فِي الْحِصَارِ، وَأَحْرَقُوا الْبَابَ، وَتَسَوَّرُوا مِنَ الدَّارِ الْمُتَاخِمَةِ لِلدَّارِ ; كَدَارِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهَا، وَجَاحَفَ النَّاسُ عَنْ عُثْمَانَ أَشَدَّ الْمُجَاحَفَةِ، وَاقْتَتَلُوا عَلَى الْبَابِ قِتَالًا شَدِيدًا، وَتَبَارَزُوا وَتَرَاجَزُوا بِالشِّعْرِ فِي مُبَارَزَتِهِمْ، وَجَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: هَذَا يَوْمٌ طَابَ امْضِرَابُ. وَقُتِلَ طَائِفَةٌ مِنْ

 

ج1.صحيح مسلم مقدمة محمد فؤاد عبد الباقي ومقدمة الإمام مسلم رحمه الله

    مقدمة محمد فؤاد عبد الباقي     مقدمة الإمام مسلم رحمه الله كِتَابُ الْإِيمَانَ كِتَابِ الطَّهَارَةِ كِتَابُ الْحَيْضِ كِتَابُ الص...