ج24. البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر
بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
قَالَتْ
إِحْدَاهُنَّ: لَيْتَ الْأَمِيرَ اطَّلَعَ عَلَيْنَا; فَأَغْنَانَا عَنِ
الْغَزْلِ. فَنَهَضَ فَجَعَلَ يَدُورُ فِي قَصْرِهِ، وَيَجْمَعُ مِنْ حُلِيِّ نِسَائِهِ
مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا مَلَأَ بِهِ مِنْدِيلًا، ثُمَّ
دَلَّاهُ إِلَيْهِنَّ، وَنَثَرَهُ عَلَيْهِنَّ، فَمَاتَتْ إِحْدَاهُنَّ مِنْ
شِدَّةِ الْفَرَحِ.
وَقَدْ وَلِيَ الْحَجَّ أَيَّامَ السَّفَّاحِ، وَوَلِيَ الْبَصْرَةَ لِلْمَنْصُورِ،
وَكَانَ مِنْ خِيَارِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَهُوَ أَخُو إِسْمَاعِيلَ، وَدَاوُدَ،
وَصَالِحٍ، وَعَبْدِ الصَّمَدِ، وَعَبْدِ اللَّهِ وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ
عَمُّ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، وَعَاصِمٌ الْأَحْوَلُ،
وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ الْقَدَرِيُّ، فِي قَوْلٍ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدِ
بْنِ بَابٍ - وَيُقَالُ: ابْنُ كَيْسَانَ - التَّمِيمِيُّ مَوْلَاهُمْ، أَبُو
عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ، مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ، شَيْخُ الْقَدَرِيَّةِ
وَالْمُعْتَزِلَةِ. رَوَى الْحَدِيثَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَعَنْهُ
الْحَمَّادَانِ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَالْأَعْمَشُ - وَكَانَ مِنْ
أَقْرَانِهِ - وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، وَهَارُونُ بْنُ مُوسَى،
وَيَحْيَى الْقَطَّانُ، وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُحَدَّثَ عَنْهُ. وَقَالَ عَلِيٌّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَزَادَ ابْنُ مَعِينٍ: وَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ، كَانَ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّمَا النَّاسُ مِثْلُ الزَّرْعِ. وَقَالَ الْفَلَّاسُ: مَتْرُوكٌ، صَاحِبُ بِدْعَةٍ، كَانَ يَحْيَى الْقَطَّانُ يُحَدِّثُنَا عَنْهُ ثُمَّ تَرَكَهُ، وَكَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ لَا يُحَدِّثُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَتْرُوكٌ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ. وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ: كَانَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ يَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: قَالَ لِي حُمَيْدٌ: لَا تَأْخُذْ عَنْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْذِبُ عَلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَكَذَا قَالَ أَيُّوبُ وَعَوْفٌ وَابْنُ عَوْنٍ. وَقَالَ أَيُّوبُ: مَا كُنْتُ أَعُدُّ لَهُ عَقْلًا. وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ: وَاللَّهِ لَا أُصَدِّقُهُ فِي شَيْءٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إِنَّمَا تَرَكُوا حَدِيثَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَدْعُو إِلَى الْقَدَرِ. وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ آخَرُونَ فِي عِبَادَتِهِ، وَزُهْدِهِ وَتَقَشُّفِهِ; قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَذَا سَيِّدُ شَبَابِ الْقُرَى مَا لَمْ يُحْدِثْ. قَالُوا:
فَأَحْدَثَ
وَاللَّهِ أَشَدَّ الْحَدَثِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ مِنْ أَهْلِ
الْوَرَعِ وَالْعِبَادَةِ إِلَى أَنْ أَحْدَثَ مَا أَحْدَثَ، وَاعْتَزَلَ مَجْلِسَ
الْحَسَنِ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ فَسُمُّوا الْمُعْتَزِلَةَ، وَكَانَ يَشْتُمُ
الصَّحَابَةَ، وَيَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ وَهْمًا لَا تَعَمُّدًا. وَقَدْ رُوِيَ
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَتْ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ. فِي اللَّوْحِ
الْمَحْفُوظِ فَمَا لِلَّهِ عَلَى ابْنِ آدَمَ حُجَّةٌ.
وَرُوِيَ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ:
" إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا
". حَتَّى قَالَ: " فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ; رِزْقُهُ
وَأَجَلُهُ وَعَمَلُهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ". إِلَى آخِرِهِ، فَقَالَ:
لَوْ سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَرْوِيهِ لَكَذَّبْتُهُ، وَلَوْ سَمِعْتُهُ مِنْ
زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ لَمَا أَحْبَبْتُهُ، وَلَوْ سَمِعْتُهُ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ
لَمَا قَبِلْتُهُ، وَلَوْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَدَدْتُهُ، وَلَوْ سَمِعَتُ اللَّهَ يَقُولُ هَذَا
لَقُلْتُ: مَا عَلَى هَذَا أَخَذْتَ عَلَيْنَا الْمِيثَاقَ. وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ
الْكُفْرِ، لَعَنَهُ اللَّهُ، إِنْ كَانَ قَالَ هَذَا.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، رَحِمَهُ اللَّهُ:
أَيُّهَا الطَّالِبُ عِلْمًا ايتِ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ
فُخُذِ
الْعِلْمَ بِحِلْمٍ
ثُمَّ قَيِّدْهُ بِقَيْدٍ وَذَرِ الْبِدْعَةَ مِنْ آ
ثَارِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: كَانَ يَغُرُّ النَّاسَ بِتَقَشُّفِهِ، وَهُوَ مَذْمُومٌ
ضَعِيفُ الْحَدِيثِ جِدًّا، مُعْلِنٌ بِالْبِدَعِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ:
ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: جَالَسَ الْحَسَنَ
وَاشْتُهِرَ بِصُحْبَتِهِ، ثُمَّ أَزَالَهُ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ مَذْهَبِ
أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَالَ بِالْقَدَرِ وَدَعَا إِلَيْهِ، وَاعْتَزَلَ أَصْحَابَ
الْحَسَنِ، وَكَانَ لَهُ سَمْتٌ وَإِظْهَارُ زُهْدٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ
وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ وُلِدَا سَنَةَ ثَمَانِينَ. وَحَكَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ
مَاتَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، بِطَرِيقِ
مَكَّةَ. وَكَانَ حَظِيًّا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ; لِأَنَّهُ كَانَ
يَفِدُ مَعَ الْقُرَّاءِ، فَيُعْطِيهِمُ الْمَنْصُورُ فَيَأْخُذُونَ، وَلَا
يَقْبَلُ عَمْرٌو مِنْهُ شَيْئًا، فَكَانَ ذَلِكَ يُعْجِبُ الْمَنْصُورَ; لِأَنَّ
الْمَنْصُورَ كَانَ بَخِيلًا، وَكَانَ يَقُولُ:
كُلُّكُمْ يَمْشِي رُوَيْدْ كُلُّكُمْ يَطْلُبُ صَيْدْ
غَيْرَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدْ
وَلَوْ تَبَصَّرَ الْمَنْصُورُ لَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ
الْقُرَّاءِ خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ
مِثْلِ
عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَالزُّهْدُ لَا يَدُلُّ عَلَى صَلَاحٍ، فَإِنَّ بَعْضَ
الرَّهَابِينَ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ مِنَ الزُّهْدِ مَا لَا يُطِيقُهُ كَثِيرٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِهِ.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيِّ قَالَ:
رَأَيْتُ الْحَسَنَ ابْنَ أَبِي جَعْفَرٍ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَا مَاتَ
بَعَبَّادَانَ، فَقَالَ لِي: أَيُّوبُ وَيُونُسُ وَابْنُ عَوْنٍ فِي الْجَنَّةِ.
قُلْتُ: فَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ؟ قَالَ: فِي النَّارِ. ثُمَّ رَآهُ مَرَّةً
ثَانِيَةً، وَيُرْوَى ثَالِثَةً، وَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ هَذَا.
وَقَدْ رُئِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ قَبِيحَةٌ، وَقَدْ طَوَّلَ شَيْخُنَا فِي "
تَهْذِيبِهِ " تَرْجَمَتَهُ، وَلَخَّصْنَا حَاصِلَهَا فِي كِتَابِ "
التَّكْمِيلِ "، وَإِنَّمَا أَشَرْنَا هَاهُنَا إِلَى نُبَذٍ مِنْ حَالِهِ;
لِيُعْرَفَ فَلَا يُغْتَرُّ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا نَدَبَ الْمَنْصُورُ النَّاسَ إِلَى غَزْوِ الدَّيْلَمِ; لِأَنَّهُمْ
قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقًا، وَأَمَرَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ
مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَقْدِرُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ فَصَاعِدًا، أَنْ يَذْهَبَ
مَعَ الْجَيْشِ إِلَى الدَّيْلَمِ، فَانْتَدَبَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ
لِذَلِكَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عِيسَى بْنُ مُوسَى نَائِبُ الْكُوفَةِ
وَأَعْمَالِهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَجَّاجٌ الصَّوَّافُ، وَحُمَيْدُ بْنُ تِيرَوَيْهِ
الطَّوِيلُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ
فِي قَوْلٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَيْثٌ ابْنُ أَبِي
سُلَيْمٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا سَارَ مُحَمَّدٌ ابْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ عَنْ أَمْرِ عَمِّهِ
الْمَنْصُورِ إِلَى بِلَادِ الدَّيْلَمِ، وَمَعَهُ الْجُيُوشُ مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَوَاسِطَ وَالْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ.
وَفِيهَا قَدِمَ مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَلَى
أَبِيهِ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ، وَدَخَلَ بِابْنَةِ عَمِّهِ رَيْطَةَ بِنْتِ
السَّفَّاحِ بِالْحِيرَةِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
الْمِيرَةِ وَالْعَسْكَرِ خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ، وَوَلَّى رِيَاحَ بْنَ
عُثْمَانَ الْمَرِّيَّ الْمَدِينَةَ، وَعَزَلَ عَنْهَا مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ.
وَتَلَقَّى النَّاسُ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ فِي أَثْنَاءِ طَرِيقِ مَكَّةَ
فِي حَجِّهِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ تَلَقَّاهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَجْلَسَهُ
الْمَنْصُورُ مَعَهُ عَلَى السِّمَاطِ، ثُمَّ جَعَلَ يُحَادِثُهُ، وَأَقْبَلَ
عَلَيْهِ إِقْبَالًا زَائِدًا بِحَيْثُ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ عَنْ عَامَّةِ
غَدَائِهِ، وَسَأَلَهُ عَنِ ابْنَيْهِ; إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ: لِمَ لَا
جَاءَانِي مَعَ النَّاسِ؟ فَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ أَنَّهُ لَا
يَدْرِي أَيْنَ صَارَا مِنْ أَرْضِ
اللَّهِ. وَصَدَقَ فِي ذَلِكَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ كَانَ قَدْ بَايَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي أَوَاخِرِ دَوْلَةِ مَرْوَانَ الْحِمَارِ بِالْخِلَافَةِ، وَخَلَعَ مَرْوَانَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ بَايَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْوِيلِ الدَّوْلَةِ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ، فَلَمَّا صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ خَافَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْهُ خَوْفًا شَدِيدًا; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ مِنْهُمَا أَنْ يَخْرُجَا عَلَيْهِ، وَالَّذِي خَافَ مِنْهُ وَقَعَ فِيهِ، وَلَمَّا خَافَاهُ ذَهَبَا مِنْهُ هَرَبًا فِي الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ، فَصَارَا إِلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ سَارَا إِلَى الْهِنْدِ، ثُمَّ تَحَوَّلَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَاخْتَفَيَا بِهَا، فَدَلَّ عَلَى مَكَانِهِمَا الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ، فَهَرَبَا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، فَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ، فَدَلَّ عَلَيْهِمَا ثُمَّ كَذَلِكَ، وَانْتَصَبَ أَلْبًا عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْمَنْصُورِ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُ مِنْ أَتْبَاعِهِمَا، وَاجْتَهَدَ الْمَنْصُورُ بِكُلِّ طَرِيقٍ عَلَى تَحْصِيلِهِمَا، فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ ذَلِكَ إِلَى الْآنِ، فَلَمَّا سَأَلَ أَبَاهُمَا عَنْهُمَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ صَارَا إِلَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ ثُمَّ أَلَحَّ الْمَنْصُورُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فِي طَلَبِ وَلَدَيْهِ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَا تَحْتَ قَدَمَيَّ مَا دَلَلْتُكَ عَلَيْهِمَا. فَغَضِبَ الْمَنْصُورُ، وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ وَأَمَرَ بِبَيْعِ رَقِيقِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَلَبِثَ فِي السِّجْنِ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَأَشَارُوا عَلَى الْمَنْصُورِ بِحَبْسِ بَنِي حَسَنٍ عَنْ آخِرِهِمْ فَحَبَسَهُمْ، وَجَدَّ فِي طَلَبِ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ جَدًّا، هَذَا وَهُمَا يَحْضُرَانِ الْحَجَّ فِي غَالِبِ السِّنِينَ، وَيَكْمُنَانِ فِي الْمَدِينَةِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ، وَلَا يَشْعُرُ بِهِمَا مَنْ يَنِمُّ عَلَيْهِمَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَالْمَنْصُورُ يَعْزِلُ نَائِبًا عَنِ الْمَدِينَةِ وَيُوَلِّي عَلَيْهَا غَيْرَهُ، وَيُحَرِّضُهُ عَلَى إِمْسَاكِهِمَا وَالْفَحْصِ عَنْهُمَا، وَبِذْلِ الْأَمْوَالِ فِي طَلَبِهِمَا، وَتُعْجِزُهُ الْمَقَادِيرُ فِي ذَلِكَ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ
وَاطَأَهُمَا عَلَى أَمْرِهِمَا أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْمَنْصُورِ يُقَالُ
لَهُ: أَبُو الْعَسَاكِرِ خَالِدُ بْنُ حَسَّانَ. فَعَزَمُوا فِي بَعْضِ
الْحَجَّاتِ عَلَى الْفَتْكِ بِأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ بَيْنَ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ، فَنَهَاهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ لِشَرَفِ الْبُقْعَةِ.
وَقَدِ اطَّلَعَ الْمَنْصُورُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلِمَ بِمَا مَالَأَهُمَا ذَلِكَ
الْأَمِيرُ، فَعَذَّبَهُ حَتَّى أَقَرَّ بِمَا كَانُوا تَمَالَئُوا عَلَيْهِ مِنَ
الْفَتْكِ بِهِ. فَقَالَ: وَمَا الَّذِي صَرَفَكُمْ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ. فَأَمَرَ بِهِ الْخَلِيفَةُ فَغُيِّبَ
فِي الْأَرْضِ، فَلَمْ يَظْهَرْ حَتَّى الْآنَ.
وَقَدِ اسْتَشَارَ الْمَنْصُورُ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ أُمَرَائِهِ وَوُزَرَائِهِ
مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ فِي أَمْرِ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، وَبَعَثَ
الْجَوَاسِيسَ وَالْقُصَّادَ إِلَيْهِمَا، فَلَمْ يَقَعْ لَهُمَا عَلَى خَبَرٍ،
وَلَا ظَهَرَ لَهُمَا عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى
أَمْرِهِ.
وَقَدْ جَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَ:
يَا أُمَّهْ، إِنِّي قَدْ شَقَقْتُ عَلَى أَبِي وَعُمُومَتِي، وَلَقَدْ هَمَمْتُ
أَنْ أَضَعَ يَدِي فِي أَيْدِي هَؤُلَاءِ لِأُرِيحَ أَهْلِي. فَذَهَبَتْ أُمُّهُ
إِلَيْهِمْ إِلَى السِّجْنِ، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِمْ مَا قَالَ ابْنُهَا،
فَقَالُوا: لَا، بَلْ نَصْبِرُ عَلَى أَمْرِهِ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَ
عَلَى يَدَيْهِ خَيْرًا، وَنَحْنُ نَصْبِرُ، وَفَرَجُنَا بِيَدِ اللَّهِ.
وَتَمَالَئُوا كُلُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ نُقِلُوا مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى حَبْسٍ بِالْعِرَاقِ
وَفِي أَرْجُلِهِمُ الْقُيُودُ، وَفِي أَعْنَاقِهِمُ الْأَغْلَالُ. وَكَانَ
ابْتِدَاءُ تَقْيِيدِهِمْ مِنَ الرَّبَذَةِ بِأَمْرِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ،
وَقَدْ أَشْخَصَ مَعَهُمْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْعُثْمَانِيَّ، وَكَانَ
أَخَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَتِ ابْنَتُهُ تَحْتَ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ حَمَلَتْ قَرِيبًا، فَاسْتَحْضَرَهُ
الْخَلِيفَةُ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ حَلَفْتَ بِالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ إِنَّكَ
لَمْ تَغُشَّنِي، وَهَذِهِ
ابْنَتُكَ
حَامِلٌ! فَإِنْ كَانَ مِنْ زَوْجِهَا فَقَدْ حَنِثْتَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ
غَيْرِهِ فَأَنْتَ دَيُّوثٌ. فَأَجَابَهُ الْعُثْمَانِيُّ بِجَوَابٍ أَحْفَظَهُ
بِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُرِّدَتْ عَنْهُ ثِيَابُهُ، فَإِذَا جِسْمُهُ كَأَنَّهُ
الْفِضَّةُ النَّقِيَّةُ، ثُمَّ ضُرِبَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ مِائَةً
وَخَمْسِينَ سَوْطًا، مِنْهَا ثَلَاثُونَ فَوْقَ رَأْسِهِ، أَصَابَ أَحَدُّهَا
عَيْنَهُ فَسَالَتْ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى السِّجْنِ وَقَدْ بَقِيَ كَأَنَّهُ
عَبْدٌ أَسْوَدُ مِنْ زُرْقَةِ الضَّرْبِ، وَتَرَاكُمِ الدِّمَاءِ فَوْقَ
جِلْدِهِ، فَأُجْلِسَ إِلَى جَانِبِ أَخِيهِ لِأُمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَسَنٍ، فَاسْتَسْقَى فَمَا جَسَرَ أَحَدٌ أَنْ يَسْقِيَهُ حَتَّى سَقَاهُ
خُرَاسَانِيٌّ مِنْ جُمْلَةِ الْجَلَاوِزَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِهِمْ، ثُمَّ رَكِبَ
الْخَلِيفَةُ فِي هَوْدَجِهِ، وَأَرْكَبُوا أُولَئِكَ فِي مُحَامِلَ ضَيِّقَةٍ،
وَعَلَيْهِمُ الْقُيُودُ وَالْأَغْلَالُ فَاجْتَازَ بِهِمُ الْمَنْصُورُ وَهُوَ
فِي هَوْدَجِهِ، فَنَادَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ: وَاللَّهِ يَا أَبَا
جَعْفَرٍ مَا هَكَذَا صَنَعْنَا بِأَسْرَاكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. فَأَخْسَأَهُ
الْمَنْصُورُ، وَتَفَلَ عَلَيْهِ، وَنَفَرَ عَنْهُمْ. وَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى
الْعِرَاقِ حُبِسُوا بِالْهَاشِمِيَّةِ، وَكَانَ فِيهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ حَسَنٍ، وَكَانَ جَمِيلًا يَذْهَبُ النَّاسُ لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِ مِنْ
حُسْنِهِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: الدِّيبَاجُ الْأَصْفَرُ. فَأَحْضَرَهُ
الْمَنْصُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَمَا وَاللَّهِ لِأَقْتُلُنَّكَ
قِتْلَةً مَا قُتِلَهَا أَحَدٌ. ثُمَّ أَلْقَاهُ بَيْنَ أُسْطُوَانَتَيْنِ،
وَسَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ. وَقَدْ هَلَكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي السِّجْنِ
حَتَّى فُرِجَ عَنْهُمْ فِيمَا بَعْدُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
فَكَانَ فِيمَنْ هَلَكَ فِي السِّجْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ، وَقَدْ قِيلَ
وَهُوَ الْأَظْهَرُ: إِنَّهُ قُتِلَ صَبْرًا. وَأَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَسَنٍ،
وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مِنَ الْحَبْسِ، وَقَدْ كَانُوا فِي سِجْنٍ لَا
يَسْمَعُونَ فِيهِ التَّأْذِينَ، وَلَا يَعْرِفُونَ وَقْتَ الصَّلَاةِ إِلَّا
بِالتِّلَاوَةِ، ثُمَّ
بَعَثَ
أَهْلُ خُرَاسَانَ يَشْفَعُونَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْعُثْمَانِيِّ، فَأَمَرَ بِهِ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَأَرْسَلَ بِرَأْسِهِ
إِلَى أَهْلِ خُرَاسَانَ.
وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
الْأُمَوِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالدِّيبَاجِ،
لِحُسْنِ وَجْهِهِ، وَأُمُّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، رَوَى
الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ وَطَاوُسٍ وَأَبِي
الزِّنَادِ وَالزُّهْرِيِّ وَنَافِعٍ وَغَيْرِهِمْ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ،
وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَكَانَ أَخَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَتِ ابْنَتُهُ رُقَيَّةُ زَوْجَةَ ابْنِ
أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَبِسَبَبِهَا قَتَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: أَنْشَدَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَيَّاشٍ
السَّعْدِيُّ لِأَبِي وَجْزَةَ السَّعْدِيِّ يَمْدَحُهُ:
وَجَدْنَا الْمَحْضَ الَابْيَضَ مِنْ قُرَيْشٍ فَتًى بَيْنَ الْخَلِيفَةِ
وَالرَّسُولِ أَتَاكَ الْمَجْدُ مِنْ هَنَّا وَهَنَّا
وَكُنْتَ لَهُ بِمُعْتَلَجِ السُّيُولِ
فَمَا
لِلْمَجْدِ دُونَكَ مِنْ مَبِيتٍ
وَمَا لِلْمَجْدِ دُونَكَ مِنْ مَقِيلِ وَلَا مُمْضًى وَرَاءَكَ تَبْتَغِيهِ
وَمَا هُوَ قَابِلٌ بِكَ مِنْ بَدِيلِ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فَمِمَّا كَانَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ مَخْرَجُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ حَسَنٍ بِالْمَدِينَةِ وَأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ بِالْبَصْرَةِ، عَلَى مَا
سَنُبَيِّنُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَّا مُحَمَّدٌ فَإِنَّهُ خَرَجَ عَلَى إِثْرِ ذَهَابِ أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورِ بِبَنِي حَسَنٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْعِرَاقِ عَلَى الصِّفَةِ
وَالنَّعْتِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَسَجَنَهُمْ فِي مَكَانٍ سَاءَ
مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، لَا يَسْمَعُونَ فِيهِ التَّأْذِينَ وَلَا يَعْرِفُونَ
دُخُولَ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ إِلَّا بِالْأَذْكَارِ وَالتِّلَاوَاتِ. وَقَدْ
مَاتَ أَكْثَرُ أَكَابِرِهِمْ هُنَالِكَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ. هَذَا
كُلُّهُوَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ مُخْتَفٍ بِالْمَدِينَةِ،
حَتَّى إِنَّهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ اخْتَفَى فِي بِئْرٍ; نَزَلَ فِيهَا
فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ سِوَى رَأْسِهِ، وَبَاقِيهِ مَغْمُورٌ بِالْمَاءِ، وَقَدْ
تَوَاعَدَ هُوَ وَأَخُوهُ وَقْتًا مُعَيَّنًا يَظْهَرَانِ فِيهِ، هَذَا بِالْمَدِينَةِ
وَإِبْرَاهِيمُ بِالْبَصْرَةِ، وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
يُؤَنِّبُونَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي اخْتِفَائِهِ وَعَدَمِ ظُهُورِهِ
حَتَّى عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ، وَذَلِكَ لَمَّا أَضَرَّ بِهِ شِدَّةُ
الِاخْتِفَاءِ مِنْ كَثْرَةِ إِلْحَاحِ رِيَاحٍ نَائِبِ الْمَدِينَةِ فِي طَلَبِهِ
لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ وَضَاقَ الْحَالُ، وَاعَدَ
مُحَمَّدٌ أَصْحَابَهُ عَلَى الظُّهُورِ فِي اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ،
فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ جَاءَ بَعْضُ الْوُشَاةِ إِلَى مُتَوَلِّي
الْمَدِينَةِ فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ فَضَاقَ ذَرْعًا بِذَلِكَ وَانْزَعَجَ
انْزِعَاجًا شَدِيدًا، وَرَكِبَ فِي جَحَافِلَ، فَطَافَ الْمَدِينَةَ وَحَوْلَهَا
لِيَسْتَعْلِمَ مَكَانَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ
فَأَعْيَاهُ
ذَلِكَ، وَقَدْ مَرَّ فِي رُجُوعِهِ عَلَى دَارِ مَرْوَانَ وَهُمْ بِهَا
مُجْتَمِعُونَ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ بَعَثَ
إِلَى بَنِي حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَجَمَعَهُمْ وَمَعَهُمْ رُءُوسٌ مِنْ
سَادَاتِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، فَوَعَظَهُمْ وَأَنَّبَهُمْ، وَقَالَ: يَا
مَعْشَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَتَطَلَّبُ هَذَا
الرَّجُلَ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، ثُمَّ
مَا كَفَاكُمْ كِتْمَانُهُ حَتَّى بَايَعْتُمُوهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ؟
وَاللَّهِ لَا يَبْلُغُنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَهُ إِلَّا
ضَرَبْتُ عُنُقَهُ. فَأَنْكَرَ الَّذِينَ هُمْ هُنَالِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ
عِلْمٌ أَوْ شُعُورٌ بِشَيْءٍ مِمَّا وَقَعَ مِمَّا يَقُولُهُ، وَقَالُوا: نَحْنُ
نَأْتِيكَ بِرِجَالٍ مُتَسَلِّحِينَ يُقَاتِلُونَ دُونَكَ إِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ
ذَلِكَ. وَنَهَضُوا فَجَاءُوهُ بِجَمَاعَةٍ مُتَسَلِّحِينَ، فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي
دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا إِذَنْ لَهُمْ، إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ
ذَلِكَ خَدِيعَةً. فَجَلَسَ أُولَئِكَ عَلَى الْبَابِ، وَمَكَثَ النَّاسُ جُلُوسًا
حَوْلَ الْأَمِيرِ وَهُوَ وَاجِمٌ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا قَلِيلًا، حَتَّى
ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ مَا فُجِئَ النَّاسُ إِلَّا وَأَصْحَابُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ ظَهَرُوا وَأَعْلَنُوا بِالتَّكْبِيرِ،
فَانْزَعَجَ النَّاسُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَشَارَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ عَلَى
الْأَمِيرِ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ بَنِي الْحُسَيْنِ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: عَلَامَ
وَنَحْنُ مُقِرُّونَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ؟ وَاشْتَغَلَ الْأَمِيرُ عَنْهُمْ
بِمَا فَجَأَهُ مِنَ الْأَمْرِ، فَاغْتَنَمُوا الْغَفْلَةَ، وَنَهَضُوا سِرَاعًا
فَتَسَوَّرُوا جِدَارَ الدَّارِ، وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ عَلَى كُنَاسَةٍ
هُنَالِكَ.
وَأَقْبَلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ فِي مِائَتَيْنِ
وَخَمْسِينَ فَارِسًا، فَأَقْبَلَ بِمَنْ مَعَهُ، فَمَرَّ بِالسِّجْنِ فَأَخْرَجَ
مَنْ فِيهِ، وَجَاءَ دَارَ الْإِمَارَةِ، فَحَاصَرَهَا فَافْتَتَحَهَا، وَأَمْسَكَ
عَلَى رِيَاحِ بْنِ عُثْمَانَ نَائِبِ الْمَدِينَةِ فَسَجَنَهُ فِي دَارِ
مَرْوَانَ، وَسَجَنَ مَعَهُ
ابْنَ
مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ بِقَتْلِ بَنِي حُسَيْنٍ فِي
أَوَّلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، فَنَجَوْا وَأُحِيطَ بِهِ، فَأَصْبَحَ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ وَقَدِ اسْتَظْهَرَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَدَانَ لَهُ
أَهْلُهَا، فَصَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ، وَقَرَأَ فِيهَا: إِنَّا فَتَحْنَا
لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [ الْفَتْحِ: 1 ]. وَأَسْفَرَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ عَنْ
مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ خَطَبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَتَكَلَّمَ فِي بَنِي
الْعَبَّاسِ، وَذَكَرَ عَنْهُمْ أَشْيَاءَ ذَمَّهُمْ بِهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ
لَمْ يَنْزِلْ بَلَدًا مِنَ الْبُلْدَانِ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَهَا، وَأَنَّهُمْ
قَدْ بَايَعُوهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَبَايَعَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
كُلُّهُمْ إِلَّا الْقَلِيلَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ أَفْتَى
بِمُبَايَعَتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فِي أَعْنَاقِنَا بَيْعَةَ الْمَنْصُورِ.
فَقَالَ: إِنَّمَا كُنْتُمْ مُكْرَهِينَ وَلَيْسَ لِمُكْرَهٍ بَيْعَةٌ.
فَبَايَعَهُ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَلَزِمَ مَالِكٌ
بَيْتَهُ.
وَقَدْ قَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ حِينَ دَعَاهُ
إِلَى بَيْعَتِهِ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّكَ مَقْتُولٌ. فَارْتَدَعَ بَعْضُ
النَّاسِ عَنْهُ، وَاسْتَمَرَّ جُمْهُورُهُمْ مَعَهُ، فَاسْتَنَابَ عَلَيْهِمْ
عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَلَى قَضَائِهَا
عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيَّ،
وَعَلَى شُرْطَتِهَا عُثْمَانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، وَعَلَى دِيوَانِ الْعَطَاءِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ.
وَتَلَقَّبَ بِالْمَهْدِيِّ; طَمَعًا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي
الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَنُورِدُهَا
فِي
الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ، فَلَمْ يَكُنْ إِيَّاهُ، وَلَا تَمَّ لَهُ مَا
تَمَنَّاهُ.
وَقَدِ ارْتَحَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَيْلَةَ دَخَلَهَا ابْنُ حَسَنٍ،
فَطَوَى الْمَرَاحِلَ الْبَعِيدَةَ إِلَى الْمَنْصُورِ فِي سَبْعِ لَيَالٍ،
فَوَرَدَ عَلَيْهِ، فَوَجَدَهُ نَائِمًا فِي اللَّيْلِ، فَقَالَ لِلرَّبِيعِ
الْحَاجِبِ: اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى الْخَلِيفَةِ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُوقَظُ
فِي هَذِهِ السَّاعَةِ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ. فَأَخْبَرَ
الْخَلِيفَةَ، فَخَرَجَ فَقَالَ: وَيْحَكَ! مَا وَرَاءَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ
خَرَجَ ابْنُ حَسَنٍ بِالْمَدِينَةِ. فَلَمْ يُظْهِرْ لِذَلِكَ اكْتِرَاثًا وَلَا
انْزِعَاجًا، بَلْ قَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: هَلَكَ
وَاللَّهِ، وَأَهْلَكَ مَنِ اتَّبَعَهُ. ثُمَّ أَمَرَ بِالرَّجُلِ فَسُجِنَ، ثُمَّ
جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ وَتَوَاتَرَتْ، فَأَطْلَقَهُ الْمَنْصُورُ،
وَأَطْلَقَ لَهُ عَنْ كُلِّ لَيْلَةٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهُ سَبْعَةَ
آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَلَمَّا تَحَقَّقَ الْمَنْصُورُ الْأَمْرَ مِنْ خُرُوجِهِ ضَاقَ ذَرْعًا
بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْمُنَجِّمِينَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا
عَلَيْكَ مِنْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ مَلَكَ الْأَرْضَ بِحَذَافِيرِهَا فَإِنَّهُ
لَا يُقِيمُ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ يَوْمًا.
ثُمَّ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ جَمِيعَ رُءُوسِ الْأُمَرَاءِ أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى
السِّجْنِ، فَيَجْتَمِعُوا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، فَيُخْبِرُوهُ بِمَا
وَقَعَ وَبِخُرُوجِ مُحَمَّدٍ، وَيَسْمَعُوا مَا يَقُولُ لَهُمْ، فَلَمَّا
دَخَلُوا عَلَيْهِ أَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ ابْنَ سَلَامَةَ
فَاعِلًا؟ - يَعْنِي الْمَنْصُورَ - قَالُوا: لَا نَدْرِي. فَقَالَ: وَاللَّهِ
لَقَدْ قَتَلَ صَاحِبَكُمُ الْبُخْلُ، يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُنْفِقَ الْأَمْوَالَ،
وَيَسْتَخْدِمَ الرِّجَالَ، فَإِنْ ظَهَرَ فَاسْتِرْجَاعُ مَا أَنْفَقَ مِنَ
الْأَمْوَالِ عَلَيْهِ سَهْلٌ،
وَإِلَّا
لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِكُمْ شَيْءٌ فِي الْخَزَائِنِ، فَرَجَعُوا إِلَى
الْخَلِيفَةِ، فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ.
وَأَشَارَ النَّاسُ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِمُنَاجَزَتِهِ، وَاسْتَدْعَى عِيسَى بْنَ
مُوسَى، فَنَدَبَهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي سَأَكْتُبُ إِلَيْهِ
كِتَابًا أُنْذِرُهُ بِهِ قَبْلَ قِتَالِهِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ
خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [
الْمَائِدَةِ: 33، 34 ]. ثُمَّ قَالَ: فَلَكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ
وَذِمَّتُهُ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، لَئِنْ أَقْلَعْتَ وَرَجَعْتَ إِلَى الطَّاعَةِ
لَأُؤَمِّنَنَّكَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ، وَلَأُعْطِيَنَّكَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ
وَلَأَدَعَنَّكَ تُقِيمُ فِي أَحَبِّ الْبِلَادِ إِلَيْكَ، وَلَأَقْضِيَنَّ
جَمِيعَ حَوَائِجِكَ. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ:
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ: طسم تِلْكَ
آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ
بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ
أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ
وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [ الْقِصَصِ: 1 - 5 ]. ثُمَّ قَالَ: وَإِنِّي
أَعْرِضُ عَلَيْكَ مِنَ الْأَمَانِ مِثْلَ مَا عَرَضْتَ عَلَيَّ، فَأَنَا أَحَقُّ
بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكُمْ، وَأَنْتُمْ إِنَّمَا وَصَلْتُمْ إِلَيْهِ بِنَا،
فَإِنَّ عَلِيًّا كَانَ الْوَصِيَّ، وَكَانَ الْإِمَامَ، فَكَيْفَ وَرَثْتُمْ
وِلَايَتَهُ وَوَلَدُهُ أَحْيَاءٌ؟ وَنَحْنُ أَشْرَفُ أَهْلِ الْأَرْضِ نَسَبًا،
فَرَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ النَّاسِ، وَهُوَ جَدُّنَا، وَجَدَّتُنَا
خَدِيجَةُ، وَهِيَ أَفْضَلُ زَوْجَاتِهِ، وَفَاطِمَةُ أُمُّنَا، وَهِيَ أَكْرَمُ
بَنَاتِهِ، وَإِنَّ هَاشِمًا وَلَدَ عَلِيًّا مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّ حَسَنًا
وَلَدَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ وَأَخُوهُ سَيِّدَا شَبَابِ
أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَدَنِي مَرَّتَيْنِ، فَإِنِّي أَوْسَطُ بَنِي هَاشِمٍ نَسَبًا، وَأَصْرَحُهُمْ
نَسَبًا، فَأَنَا ابْنُ أَرْفَعِ النَّاسِ دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ، وَأَخَفِّهِمْ
عَذَابًا فِي النَّارِ، فَأَنَا أَوْلَى بِالْأَمْرِ مِنْكَ، وَأَوْفَى
بِالْعَهْدِ، فَإِنَّكَ أَعْطَيْتَ ابْنَ هُبَيْرَةَ الْعَهْدَ وَنَكَثْتَهُ،
وَكَذَلِكَ بِعَمِّكَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، وَبِأَبِي مُسْلِمٍ
الْخُرَاسَانِيِّ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ جَوَابَ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ طَوِيلٍ، حَاصِلُهُ:
أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي كَلَامُكَ، وَقَرَأْتُ كِتَابَكَ، فَإِذَا جَلَّ
فَخْرُكَ بِقَرَابَةِ النِّسَاءِ لِتُضِلَّ بِهِ الْجُفَاةَ وَالْغَوْغَاءَ،
وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ النِّسَاءَ كَالْعُمُومَةِ وَالْآبَاءِ، وَلَا
كَالْعَصْبَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ الشُّعَرَاءِ: 214 ]. وَكَانَ لَهُ حِينَئِذٍ
أَرْبَعَةُ أَعْمَامٍ، فَاسْتَجَابَ لَهُ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا أَبِي وَكَفَرَ
اثْنَانِ أَحَدُهُمَا أَبُوكَ فَقَطَعَ اللَّهُ وِلَايَتَهُمَا مِنْهُ، وَلَمْ
يَجْعَلْ بَيْنَهُمَا إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ
وَجَلَّ، فِي عَدَمِ إِسْلَامِ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ [ سُورَةِ الْقَصَصِ: 56 ]. وَقَدْ فَخَرْتَ بِهِ; لِأَنَّهُ أَخَفُّ
أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا، وَلَيْسَ فِي الشَّرِّ خِيَارٌ، وَلَا يَنْبَغِي
لِمُؤْمِنٍ الْفَخْرُ بِأَهْلِ النَّارِ، وَفَخَرْتَ بِأَنَّ عَلِيًّا وَلَدَهُ
هَاشِمٌ مَرَّتَيْنِ، وَأَنَّ حَسَنًا وَلَدَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مَرَّتَيْنِ،
فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخَرِينَ، إِنَّمَا
وَلَدَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَهَاشِمٌ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَوْلُكَ: إِنَّكَ لَمْ تَلِدْكَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ. فَهَذَا إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَارِيَةَ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَكَذَلِكَ ابْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَدَّتُهُمَا أُمُّ وَلَدٍ، وَهُمَا خَيْرٌ مِنْكَ، وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّكُمْ بَنُو رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [ سُورَةِ الْأَحْزَابِ: 40 ]. وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ الَّتِي لَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْجَدَّ أَبَا الْأُمِّ وَالْخَالَ وَالْخَالَةَ لَا يُوَرَّثُونَ، وَلَمْ يَكُنْ لِفَاطِمَةَ مِيرَاثٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَصِّ الْحَدِيثِ، وَقَدْ مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُوكَ حَاضِرٌ، فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالصَّلَاةِ بِالنَّاسِ، بَلْ أَمَرَ غَيْرَهُ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْدِلِ النَّاسُ بِأَبِي بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ; ثُمَّ قَدَّمُوا عَلَيْهِ عُثْمَانَ فِي الشُّورَى; ثُمَّ وَلَّوْهُ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، وَاتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ بِهِ، وَقَاتَلَهُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، وَامْتَنَعَ سَعْدٌ مِنْ مُبَايَعَتِهِ، ثُمَّ بَايَعَ بَعْدَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ طَلَبَهَا أَبُوكَ، وَقَاتَلَ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، ثُمَّ اتَّفَقَ عَلَى التَّحْكِيمِ، فَلَمْ يَفِ بِهِ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى الْحَسَنِ فَبَاعَهَا بِخِرَقٍ وَدَرَاهِمَ، وَأَقَامَ بِالْحِجَازِ يَأْخُذُ مَالًا مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَسَلَّمَ الْأَمْرَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَتَرَكَ شِيعَتَهُ فِي أَيْدِي مُعَاوِيَةَ، فَإِنْ كَانَتْ لَكُمْ فَقَدْ تَرَكْتُمُوهَا وَبِعْتُمُوهَا بِثَمَنِهَا، ثُمَّ خَرَجَ عَمُّكَ حُسَيْنٌ عَلَى ابْنِ مَرْجَانَةَ، فَكَانَ النَّاسُ مَعَهُ عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَتَوْا بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجْتُمْ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ، فَقَتَّلُوكُمْ وَصَلَّبُوكُمْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَحَرَّقُوكُمْ بِالنِّيرَانِ وَحَمَلُوا نِسَاءَكُمْ عَلَى الْإِبِلِ كَالسَّبَايَا إِلَى الشَّامِ، حَتَّى خَرَجْنَا عَلَيْهِمْ، فَأَخَذْنَا بِثَأْرِكُمْ، وَأَدْرَكْنَا بِدِمَائِكُمْ، وَأَوْرَثْنَاكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَذَكَرْنَا فَضْلَ سَلَفِكُمْ، فَجَعَلْتَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْنَا، وَظَنَنْتَ أَنَّا إِنَّمَا ذَكَرْنَا فَضْلَهُ تَقْدِمَةً مِنَّا لَهُ عَلَى حَمْزَةَ وَالْعَبَّاسِ وَجَعْفَرٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ
كَمَا
زَعَمْتَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَضَوْا وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي الْفِتَنِ، وَسَلِمُوا
مِنَ الدُّنْيَا، وَابْتُلِيَ بِذَلِكَ أَبُوكَ، وَكَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ
تَلْعَنُهُ كَمَا تَلْعَنُ الْكَفَرَةَ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ،
فَذَكَرْنَا فَضْلَهُ وَعَنَّفْنَاهُمْ بِمَا نَالُوا مِنْهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ
أَنَّ مَكْرَمَتَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِقَايَةُ الْحَجِيجِ الْأَعْظَمِ،
وَخِدْمَةُ زَمْزَمَ، وَحَكَمَ لَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ. وَلَمَّا قَحَطَ النَّاسُ زَمَنَ عُمَرَ
اسْتَسْقَى بِأَبِينَا الْعَبَّاسِ، وَتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى رَبِّهِ وَأَبُوكَ
حَاضِرٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا
الْعَبَّاسُ فَالسِّقَايَةُ سِقَايَتُهُ، وَالْوِرَاثَةُ وِرَاثَتُهُ،
وَالْخِلَافَةُ فِي وَلَدِهِ، فَلَمْ يَبْقَ شَرَفٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
وَالْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا وَالْعَبَّاسُ وَارِثُهُ
وَمُوَرِّثُهُ.
فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ فِيهِ بَحْثٌ وَمُنَاظَرَةٌ وَفَصَاحَةٌ وَبَلَاغَةٌ. وَقَدِ
اسْتَقْصَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِطُولِهِ.
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مَقْتَلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ
بَعَثَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ فِي غُبُونِ ذَلِكَ رُسُلًا
إِلَى أَهْلِ الشَّامِ يَدْعُونَهُمْ إِلَى بَيْعَتِهِ وَخِلَافَتِهِ، فَأَبَوْا
قَبُولَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَقَالُوا: قَدْ ضَجِرْنَا مِنَ الْحُرُوبِ، وَمَلِلْنَا
مِنَ الْقِتَالِ. وَلَمْ يَكْتَرِثُوا بِأَصْحَابِهِ، فَرَجَعُوا إِلَيْهِ بَعْدَ
مَا خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَجَعَلَ يَسْتَمِيلُ رُءُوسَ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَهُ، وَمِنْهُمْ مَنِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ،
وَقَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ أُبَايِعُكَ وَقَدْ ظَهَرْتَ فِي بَلَدٍ
لَيْسَ فِيهِ مَالٌ
تَسْتَعِينُ
بِهِ عَلَى اسْتِخْدَامِ الرِّجَالِ؟ وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى
قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ. وَبَعَثَ مُحَمَّدٌ الْحَسَنَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا وَنَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ فَوَارِسَ
وَاسْتَنَابَهُ عَلَى مَكَّةَ إِنْ هُوَ دَخَلَهَا، فَسَارُوا إِلَيْهَا، فَلَمَّا
بَلَغَ أَهْلَهَا قُدُومُهُمْ خَرَجُوا إِلَيْهِمْ فِي أُلُوفٍ مِنَ
الْمُقَاتِلَةِ، فَقَالَ لَهُمُ الْحَسَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: عَلَامَ تُقَاتِلُونَ
وَقَدْ مَاتَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ؟ فَقَالَ السَّرِيُّ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ زَعِيمُ أَهْلِ مَكَّةَ: إِنَّ بُرُدَهُ جَاءَتْنَا مِنْ أَرْبَعِ
لَيَالٍ، وَقَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ، فَأَنَا أَنْتَظِرُ جَوَابَهُ إِلَى
أَرْبَعٍ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَ حَقًّا سَلَّمْتُكُمُ الْبَلَدَ، وَعَلَيَّ
مُؤْنَةُ رِجَالِكُمْ وَخَيْلِكُمْ. فَامْتَنَعَ الْحَسَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنَ
الِانْتِظَارِ وَأَبَى إِلَّا الْمُنَاجَزَةَ، وَحَلَفَ لَا يَبِيتُ اللَّيْلَةَ
إِلَّا بِمَكَّةَ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ. وَأَرْسَلَ إِلَى السَّرِيِّ أَنِ ابْرُزْ
مِنَ الْحَرَمِ إِلَى الْحِلِّ حَتَّى لَا تُرَاقَ الدِّمَاءُ فِي الْحَرَمِ.
فَلَمْ يَخْرُجْ، فَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِمْ فَصَافُّوهُمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ
الْحَسَنُ وَأَصْحَابُهُ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا
مِنْهُمْ نَحْوَ سَبْعَةٍ، وَدَخَلُوا مَكَّةَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا خَطَبَ
الْحَسَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّاسَ، وَعَزَّاهُمْ فِي أَبِي جَعْفَرٍ، وَدَعَا
لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ الْمُلَقَّبِ بِالْمَهْدِيِّ.
خُرُوجُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ
وَظَهَرَ بِالْبَصْرَةِ أَيْضًا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ،
وَجَاءَ الْبَرِيدُ إِلَى أَخِيهِ
مُحَمَّدٍ
بِذَلِكَ، فَانْتَهَى إِلَيْهِ لَيْلًا، فَاسْتُؤْذِنَ لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ
بِدَارِ مَرْوَانَ، فَطَرَقَ بَابَهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ
مِنْ شَرِّ طَوَارِقِ اللَّيْلِ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ. ثُمَّ خَرَجَ
فَأَخْبَرَهُ عَنْ أَخِيهِ بِذَلِكَ، فَاسْتَبْشَرَ جِدًّا، وَفَرِحَ كَثِيرًا،
وَكَانَ يَقُولُ لِلنَّاسِ بَعْدَ صَلَاتَيِ الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ: ادْعُوا
اللَّهَ لِإِخْوَانِكُمْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَلِلْحَسَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ
بِمَكَّةَ، وَاسْتَنْصِرُوهُ عَلَى أَعْدَائِكُمْ.
وَأَمَّا أَبُو جَعْفَرٍ، فَإِنَّهُ جَهَّزَ الْجُيُوشَ إِلَى مُحَمَّدٍ صُحْبَةَ
عِيسَى بْنِ مُوسَى أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ مِنَ الشُّجْعَانِ
الْمُنْتَخَبِينَ، مِنْهُمْ; مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ،
وَحُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَجَعْفَرُ بْنُ حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيُّ، وَكَانَ
الْمَنْصُورُ قَدِ اسْتَشَارَهُ فِيهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ادْعُ
مَنْ شِئْتَ مِمَّنْ تَثِقُ بِهِ مِنْ مَوَالِيكَ، فَيَنْزِلُ وَادِيَ الْقُرَى
فَيَمْنَعُهُ مِيرَةَ الشَّامِ، فَيَمُوتُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ جُوعًا، فَإِنَّهُ
بِبَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ مَالٌ وَلَا رِجَالٌ وَلَا كُرَاعٌ وَلَا سِلَاحٌ.
وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ كُثَيِّرَ بْنَ الْحُصَيْنِ الْعَبْدِيَّ، وَقَدْ قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى حِينَ وَدَّعَهُ: يَا عِيسَى،
إِنِّي أَبْعَثُكَ إِلَى مَا بَيْنَ جَنْبَيَّ هَذَيْنِ، فَإِنْ ظَفِرْتَ
بِالرَّجُلِ، فَشِمْ سَيْفَكَ، وَنَادِ فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ، وَإِنْ
تَغَيَّبَ فَضَمِّنْهُمْ إِيَّاهُ حَتَّى يَأْتُوكَ بِهِ، فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ
بِمَذَاهِبِهِ. وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ
مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَدْفَعُهَا إِلَيْهِمْ خُفْيَةً، يَدْعُوهُمْ إِلَى
الرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ
عِيسَى
بْنُ مُوسَى مِنَ الْمَدِينَةِ بَعَثَهَا مَعَ رَجُلٍ، فَأَخَذَهُ حَرَسُ
مُحَمَّدٍ فَوَجَدُوا مَعَهُ تِلْكَ الْكُتُبَ، فَدَفَعُوهَا إِلَى مُحَمَّدٍ
فَاسْتَحْضَرَ جَمَاعَةً مِنْ أُولَئِكَ، فَعَاقَبَهُمْ ضَرْبًا شَدِيدًا،
وَقُيُودًا ثِقَالًا، وَأَوْدَعَهُمُ السِّجْنَ، ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدًا
اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي الْمُقَامِ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى يَأْتِيَ عِيسَى
بْنُ مُوسَى، فَيُحَاصِرَهُمْ بِهَا، أَوْ أَنْ يَخْرُجَ بِمَنْ مَعَهُ
فَيُقَاتِلَ أَهْلَ الْعِرَاقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَشَارَ بِهَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ
أَشَارَ بِذَاكَ، ثُمَّ اتَّفَقَ الرَّأْيُ عَلَى الْمُقَامِ بِالْمَدِينَةِ -
لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأَسَّفَ يَوْمَ
أُحُدٍ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا - وَعَلَى حَفْرِ خَنْدَقٍ حَوْلَ الْمَدِينَةِ،
كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
الْأَحْزَابِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَحَفَرَ مَعَ النَّاسِ فِي
الْخَنْدَقِ بِيَدِهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ لَبِنَةٌ مِنَ الْخَنْدَقِ الَّذِي كَانَ
حَفَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ
وَاسْتَبْشَرُوا وَكَبَّرُوا وَبَشَّرُوهُ بِالنَّصْرِ. وَكَانَ مُحَمَّدٌ
حَاضِرًا عَلَيْهِ قَبَاءٌ أَبْيَضُ، وَفِي وَسَطِهِ مِنْطَقَةٌ، وَكَانَ شَكِلًا
ضَخْمًا، أَسْمَرَ عَظِيمَ الْهَامَةِ.
وَلَمَّا نَزَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى الْأَعْوَصُ، وَاقْتَرَبَ مِنَ الْمَدِينَةِ،
صَعِدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَ
النَّاسَ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَنَدَبَهُمْ إِلَيْهِ - وَكَانُوا
قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ - فَقَالَ لَهُمْ فِي جُمْلَةِ مَا قَالَ: إِنِّي
جَعَلْتُكُمْ فِي حِلٍّ مِنْ بَيْعَتِي، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا
فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتْرُكَهَا فَلْيَفْعَلْ. فَتَسَلَّلَ كَثِيرٌ
مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا شِرْذِمَةٌ مِنَ النَّاسِ،
وَخَرَجَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
بِأَهْلِيهِمْ
مِنْهَا لِئَلَّا يَشْهَدُوا الْقِتَالَ بِهَا، فَنَزَلُوا الْأَعْرَاضَ وَرُءُوسَ
الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَ مُحَمَّدٌ أَبَا الْقَلَمَّسِ لِيَرُدَّهُمْ عَنِ
الْخُرُوجِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِهِمْ، وَاسْتَمَرُّوا
ذَاهِبِينَ. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ لِرَجُلٍ: أَتَأْخُذُ سَيْفًا وَرُمْحًا
وَتَرُدُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنْ
أَعْطَيْتَنِي رُمْحًا أَطْعَنُهُمْ بِهِ وَهُمْ بِالْأَعْرَاضِ، وَسَيْفًا
أَضْرِبُهُمْ بِهِ وَهُمْ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ فَعَلْتُ. فَسَكَتَ مُحَمَّدٌ،
ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ! إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ قَدْ
بَيَّضُوا - يَعْنِي لَبِسُوا الْبَيَاضَ - مُوَافَقَةً لِي وَخَلَعُوا
السَّوَادَ. فَقَالَ: وَمَا يَنْفَعُنِي أَنْ لَوْ بَقِيَتِ الدُّنْيَا زُبْدَةً
بَيْضَاءَ وَأَنَا فِي مِثْلِ صُوفَةِ الدَّوَاةِ، وَهَذَا عِيسَى بْنُ مُوسَى
نَازِلٌ بِالْأَعْوَصِ؟ ! ثُمَّ جَاءَ عِيسَى بْنُ مُوسَى، فَنَزَلَ بِجَيْشِهِ
قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ، عَلَى مِيلٍ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ دَلِيلُهُ ابْنُ
الْأَصَمِّ: إِنِّي أَخْشَى إِذَا كَشَفْتُمُوهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى
مُعَسْكَرِهِمْ سَرِيعًا قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَهُمُ الْخَيْلُ. ثُمَّ ارْتَحَلَ
بِهِ فَأَنْزَلَهُ الْجَرْفَ عَلَى سِقَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ
لِصُبْحِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَالَ: إِنَّ الرَّاجِلَ إِذَا هَرَبَ لَا يَقْدِرُ عَلَى
الْهَرْوَلَةِ أَكْثَرَ مِنْ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَتُدْرِكُهُ الْخَيْلُ.
وَأَرْسَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ فَنَزَلُوا عِنْدَ
الشَّجَرَةِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ إِنْ
هَرَبَ فَلَيْسَ لَهُ مَلْجَأٌ إِلَّا مَكَّةَ فَاقْتُلُوهُ وَحُولُوا
بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا. ثُمَّ أَرْسَلَ عِيسَى إِلَى مُحَمَّدٍ يَدْعُوهُ إِلَى السَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْمُبَايَعَةِ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ;
فَإِنَّهُ قَدْ أَعْطَاهُ الْأَمَانَ لَهُ وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ إِنْ هُوَ أَجَابَ
إِلَى ذَلِكَ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ لِلرَّسُولِ: لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا
تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكَ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى يَقُولُ لَهُ:
إِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاحْذَرْ أَنْ تَمْتَنِعَ فَأَقْتُلَكَ فَتَكُونَ شَرَّ
قَتِيلٍ، أَوْ تَقْتُلَنِي فَتَكُونَ قَدْ قَتَلْتَ مَنْ دَعَاكَ إِلَى كِتَابِ
اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ جَعَلَتِ
الرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يَدْعُوهُ فِيهَا عِيسَى
بْنُ مُوسَى إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْجَمَاعَةِ،
وَجَعَلَ عِيسَى يَقِفُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ
عَلَى الثَّنِيَّةِ عِنْدَ سَلْعٍ فَيُنَادِي: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنَّ
دِمَاءَنَا عَلَيْنَا حَرَامٌ، فَمَنْ جَاءَ فَوَقَفَ تَحْتَ رَايَتِنَا فَهُوَ
آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ خَرَجَ مِنَ
الْمَدِينَةِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَلَيْسَ
لَنَا فِي قِتَالِكُمْ أَرَبٌ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ مُحَمَّدًا وَحْدَهُ لِنَذْهَبَ
بِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ. فَجَعَلُوا يَسُبُّونَهُ وَيَنَالُونَ مِنْ أُمِّهِ،
وَيَتَكَلَّمُونَ مَعَهُ بِكَلَامٍ شَنِيعٍ، وَيُخَاطِبُونَهُ مُخَاطَبَةً
فَظِيعَةً، وَقَالُوا: هَذَا ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَنَا وَنَحْنُ مَعَهُ، وَنُقَاتِلُ دُونَهُ.
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ أَتَاهُمْ فِي خَيْلٍ وَرِجَالٍ وَسِلَاحٍ
وَرِمَاحٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، فَنَادَاهُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَنِي أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ حَتَّى أَدْعُوَكَ إِلَى السَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ، فَإِنْ فَعَلْتَ أَمَّنَكَ، وَقَضَى دَيْنَكَ، وَأَعْطَاكَ
أَمْوَالًا وَأَرَاضِيَ، وَإِنْ أَبَيْتَ قَاتَلْتُكَ، فَقَدْ دَعَوْتُكَ غَيْرَ
مَرَّةٍ. فَنَادَاهُ مُحَمَّدٌ: إِنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي إِلَّا الْقِتَالُ.
فَنَشِبَتِ
الْحَرْبُ حِينَئِذٍ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ جَيْشُ عِيسَى بْنِ مُوسَى فَوْقَ
الْأَرْبَعَةِ آلَافٍ، عَلَى الْمُقَدِّمَةِ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَعَلَى
مَيْمَنَتِهِ مُحَمَّدٌ ابْنُ السَّفَّاحِ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ دَاوُدُ بْنُ
كَرَّازٍ، وَعَلَى السَّاقَةِ الْهَيْثَمُ بْنُ شُعْبَةَ، وَمَعَهُمْ عُدَدٌ لَمْ
يُرَ مِثْلُهَا، وَفَرَّقَ عِيسَى أَصْحَابَهُ، فِي كُلِّ قُطْرٍ طَائِفَةً،
وَكَانَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى عِدَّةِ أَهْلِ بَدْرِ وَاقْتَتَلَ
الْفَرِيقَانِ قِتَالًا شَدِيدًا جِدًّا، وَتَرَجَّلَ مُحَمَّدٌ إِلَى الْأَرْضِ
فَيُقَالُ: إِنَّهُ قَتَلَ بِيَدِهِ مِنْ أُولَئِكَ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَأَحَاطَ
بِهِمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ، فَقَتَلُوا طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، وَاقْتَحَمُوا عَلَيْهِمُ الْخَنْدَقَ الَّذِي
كَانُوا حَفَرُوهُ، وَعَمِلُوا أَبْوَابًا عَلَى قَدْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ
رَدَمُوهُ بِحَدَائِجِ الْإِبِلِ حَتَّى أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَجُوزُوهُ، وَقَدْ
يَكُونُ هَذَا فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ، وَهَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَلَمْ يَزَلِ الْقِتَالُ نَاشِبًا بَيْنَهُمْ مِنْ بُكْرَةِ النَّهَارِ حَتَّى
صُلِّيَتِ الْعَصْرُ، فَلَمَّا صَلَّى مُحَمَّدٌ الْعَصْرَ نَزَلَ إِلَى مَسِيلِ
الْوَادِي بِسَلْعٍ، فَكَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، وَعَقَرَ فَرَسَهُ، وَفَعَلَ
أَصْحَابُهُ مِثْلَهُ، وَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْقِتَالِ وَحَمِيَتِ الْحَرْبُ
حِينَئِذٍ جِدًّا، فَاسْتَظْهَرَ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَرَفَعُوا رَايَةً سَوْدَاءَ
فَوْقَ سَلْعٍ، ثُمَّ دَنَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَخَلُوهَا وَنَصَبُوا رَايَةً
سَوْدَاءَ فَوْقَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ تَنَادَوْا: دُخِلَتِ الْمَدِينَةُ.
وَهَرَبُوا وَبَقِيَ مُحَمَّدٌ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ جِدًّا. ثُمَّ بَقِيَ
وَحْدَهُ وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ صَلْتٌ يَضْرِبُ بِهِ مَنْ تَقَدَّمَ
إِلَيْهِ،
فَلَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ يَوْمَئِذٍ ذُو
الْفَقَارِ. ثُمَّ تَكَاثَرَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ،
فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ تَحْتَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ الْيُمْنَى فَسَقَطَ مُحَمَّدٌ
لِرُكْبَتَيْهِ، وَجَعَلَ يَحْمِي نَفْسَهُ، وَيَقُولُ: وَيْحَكُمُ ابْنُ
نَبِيِّكُمْ مَجْرُوحٌ مَظْلُومٌ. وَجَعَلَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ يَقُولُ:
وَيْحَكُمْ دَعُوهُ لَا تَقْتُلُوهُ. فَأَحْجَمَ عَنْهُ النَّاسُ، وَتَقَدَّمَ
إِلَيْهِ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَذَهَبَ بِهِ إِلَى
عِيسَى بْنِ مُوسَى، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ حُمَيْدٌ قَدْ حَلَفَ
أَنْ يَقْتُلَهُ مَتَى رَآهُ، فَمَا أَدْرَكَهُ إِلَّا كَذَلِكَ.
وَكَانَ مَقْتَلُ مُحَمَّدٍ عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ
بَعْدَ الْعَصْرِ، لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ
خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَقَدْ قَالَ عِيسَى بْنُ مُوسَى لِأَصْحَابِهِ
حِينَ وُضِعَ رَأْسُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ: مَا تَقُولُونَ فِيهِ؟ فَنَالَ مِنْهُ
أَقْوَامٌ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: كَذَبْتُمْ وَاللَّهِ،
لَقَدْ كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا، وَلَكِنَّهُ خَالَفَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَشَقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ. فَسَكَتُوا حِينَئِذٍ.
وَأَمَّا سَيْفُهُ ذُو الْفَقَارِ فَإِنَّهُ صَارَ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ
يَتَوَارَثُونَهُ بَيْنَهُمْ حَتَّى جَرَّبَهُ بَعْضُهُمْ، فَضَرَبَ بِهِ كَلْبًا،
فَانْقَطَعَ السَّيْفُ. ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.
وَقَدْ بَلَغَ الْمَنْصُورَ فِي غُبُونِ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّ مُحَمَّدًا فَرَّ
مِنَ الْحَرْبِ، فَقَالَ: لَا، إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَفِرُّ.
وَقَالَ
ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنِي أَبُو
الْحَجَّاجِ قَالَ: إِنِّي لَقَائِمٌ عَلَى رَأْسِ الْمَنْصُورِ، وَهُوَ
مُسَائِلِي عَنْ مَخْرَجِ مُحَمَّدٍ، إِذْ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى قَدْ هُزِمَ -
وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ - فَضَرَبَ بِقَضِيبٍ مَعَهُ مُصَلَّاهُ وَقَالَ:
كَلَّا، فَأَيْنَ لَعِبُ صِبْيَانِنَا بِهَا عَلَى الْمَنَابِرِ وَمَشُورَةُ
النِّسَاءِ؟ مَا أَنَى لِذَلِكَ بَعْدُ!
وَبَعَثَ عِيسَى بِالْبِشَارَةِ إِلَى الْمَنْصُورِ مَعَ الْقَاسِمِ بْنِ
الْحَسَنِ، وَبِالرَّأْسِ مَعَ ابْنِ أَبِي الْكِرَامِ، ثُمَّ أَذِنَ فِي دَفْنِ
جُثَّةِ مُحَمَّدٍ فَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَأَمَرَ بِأَصْحَابِهِ الَّذِينَ
قُتِلُوا مَعَهُ فَصُلِبُوا صَفَّيْنِ ظَاهِرَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ،
ثُمَّ طُرِحُوا عَلَى مَقْبَرَةِ الْيَهُودِ عِنْدَ سَلْعٍ، ثُمَّ نُقِلُوا إِلَى
خَنْدَقٍ هُنَاكَ، وَأَخَذَ أَمْوَالَ بَنِي حَسَنٍ كُلَّهَا، فَسَوَّغَهَا لَهُ
الْمَنْصُورُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَدَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ. حَكَاهُ
ابْنُ جَرِيرٍ.
وَنُودِيَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْأَمَانِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ،
وَتَرَفَّعَ عِيسَى بْنُ مُوسَى إِلَى الْجَرْفِ مِنْ مَطَرٍ أَصَابَ النَّاسَ
يَوْمَ قَتْلِ مُحَمَّدٍ، وَجَعَلَ يَنْتَابُ الْمَسْجِدَ مِنَ الْجَرْفِ،
وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ إِلَى الْيَوْمِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ،
ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا قَاصِدًا مَكَّةَ، وَكَانَ بِهَا الْحَسَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ
مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ لِيَقْدَمَ عَلَيْهِ،
فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَكَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، تَلَقَّتْهُ
الْأَخْبَارُ بِقَتْلِ مُحَمَّدٍ، فَاسْتَمَرَّ فَارًّا إِلَى الْبَصْرَةِ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، الَّذِي كَانَ قَدْ خَرَجَ بِهَا، ثُمَّ قُتِلَ
بَعْدَ أَخِيهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَلَمَّا
جِيءَ الْمَنْصُورُ بِرَأْسِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ فَوُضِعَ
بَيْنَ يَدَيْهِ، أَمَرَ فَطِيفَ بِهِ فِي طَبَقٍ أَبْيَضَ، ثُمَّ طِيفَ بِهِ فِي
الْأَقَالِيمِ بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ شَرَعَ الْمَنْصُورُ فِي اسْتِدْعَاءِ مَنْ
خَرَجَ مَعَ مُحَمَّدٍ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ
قَتَلَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَضْرِبُهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَعْفُو عَنْهُ.
وَلَمَّا تَوَجَّهَ عِيسَى بْنُ مُوسَى إِلَى مَكَّةَ اسْتَنَابَ عَلَى
الْمَدِينَةِ كُثَيِّرَ بْنَ حُصَيْنٍ، فَاسْتَمَرَّ شَهْرًا حَتَّى بَعَثَ
الْمَنْصُورُ عَلَى نِيَابَتِهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الرَّبِيعِ فَعَاثَ جُنْدُهُ
فِي الْمَدِينَةِ فَسَادًا، وَاشْتَرَوْا مِنَ النَّاسِ أَشْيَاءَ لَا
يُعْطُونَهُمْ ثَمَنَهَا، وَإِنْ طُولِبُوا بِذَلِكَ ضَرَبُوا الْمُطَالِبَ،
وَخَوَّفُوهُ بِالْقَتْلِ، فَثَارَ عَلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنَ السُّودَانِ;
وَاجْتَمَعُوا وَنَفَخُوا فِي بُوقٍ لَهُمْ، فَاجْتَمَعَ عَلَى صَوْتِهِ كُلُّ
أَسْوَدٍ فِي الْمَدِينَةِ وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةً وَاحِدَةً وَهُمْ
ذَاهِبُونَ إِلَى الْجُمْعَةِ، لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ - وَقِيلَ: لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْهَا - فَقَتَلُوا
مِنْهُمْ طَائِفَةً كَثِيرَةً وَهَرَبَ نَائِبُ الْمَدِينَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الرَّبِيعِ، وَتَرَكَ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ، وَكَانَ رُؤَسَاءُ السُّودَانِ;
وَثِيقٌ، وَيَعْقِلُ، وَرُمْقَةُ، وَحَدْيَا، وَعُنْقُودٌ، وَمِسْعَرٌ وَأَبُو
قَيْسٍ، وَأَبُو النَّارِ، فَرَكِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ فِي جُنُودِهِ
وَالْتَقَى مَعَ السُّودَانِ فَهَزَمُوهُ، وَمَضَى فَلَحِقُوهُ بِالْبَقِيعِ،
فَأَلْقَى لَهُمْ دَرَاهِمَ شَغَلَهُمْ بِهَا، حَتَّى نَجَا بِنَفْسِهِ وَمَنِ
اتَّبَعَهُ، فَلَحِقَ بِبَطْنِ نَخْلٍ عَلَى لَيْلَتَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ،
وَوَقَعَ السُّودَانُ عَلَى طَعَامٍ لِلْمَنْصُورِ كَانَ
مَخْزُونًا
فِي دَارِ مَرْوَانَ قَدْ قُدِمَ بِهِ فِي الْبَحْرِ لِأَجْلِ الْجُنْدِ الَّذِينَ
بِالْمَدِينَةِ; مِنْ دَقِيقٍ وَسَوِيقٍ وَزَيْتٍ وَقَسْبٍ، فَانْتَهَبُوهُ،
وَبَاعُوهُ بِأَرْخَصِ ثَمَنٍ، وَذَهَبَ الْخَبَرُ إِلَى الْمَنْصُورِ بِمَا كَانَ
مِنْ أَمْرِ السُّودَانِ، وَخَافَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ مَعَرَّةِ ذَلِكَ،
فَاجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ وَخَطَبَهُمُ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ - وَكَانَ
مَسْجُونًا - فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَفِي رِجْلَيْهِ الْقُيُودُ، فَحَثَّهُمْ
عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُورِ،
وَخَوَّفَهُمْ شَرَّ مَا صَنَعَهُ مَوَالِيهِمْ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ
يَكُفُّوا مَوَالِيَهُمْ وَيُفَرِّقُوهُمْ وَأَنْ يَذْهَبُوا إِلَى أَمِيرِهِمْ،
فَيَرُدُّوهُ إِلَى عَمَلِهِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَسَكَنَ الْأَمْرُ، وَهَدَأَ
النَّاسُ، وَانْطَفَأَتِ الشُّرُورُ، وَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ
إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَطَعَ يَدَ وَثِيقٍ وَأَبِي النَّارِ وَيَعْقِلَ
وَمِسْعَرٍ.
ذِكْرُ خُرُوجِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ بِالْبَصْرَةِ
وَكَيْفِيَّةِ مَقْتَلِهِ
كَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ نَزَلَ فِي بَنِي ضُبَيْعَةَ مِنَ الْبَصْرَةِ، فِي دَارِ
الْحَارِثِ بْنِ عِيسَى، وَكَانَ لَا يُرَى بِالنَّهَارِ، وَكَانَ قُدُومُهُ
إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ طَافَ بِلَادًا كَثِيرَةً جِدًّا، وَجَرَتْ عَلَيْهِ
وَعَلَى أَخِيهِ خُطُوبٌ شَدِيدَةٌ هَائِلَةٌ، وَانْعَقَدَ أَسْبَابُ هَلَاكِهِمَا
فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، ثُمَّ كَانَ آخِرَ مَا اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ
بِالْبَصْرَةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ
وَأَرْبَعِينَ
وَمِائَةٍ، بَعْدَ مُنْصَرَفِ الْحَجِيجِ.
وَقِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ قُدُومِهِ إِلَيْهَا كَانَ فِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ،
سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، بَعَثَهُ أَخُوهُ إِلَيْهَا بَعْدَ
ظُهُورِهِ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ. قَالَ: وَكَانَ
يَدْعُو فِي السِّرِّ إِلَى أَخِيهِ، فَلَمَّا قُتِلَ أَخُوهُ أَظْهَرَ
الدَّعْوَةَ إِلَى نَفْسِهِ وَمُخَالَفَةَ الْمَنْصُورِ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ قَدِمَهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ أَظْهَرَ
الدَّعْوَةَ فِي حَيَاةِ أَخِيهِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا دَخَلَ الْبَصْرَةَ أَوَّلَ قُدُومِهِ إِلَيْهَا نَزَلَ عِنْدَ يَحْيَى
بْنِ زِيَادِ بْنِ حَسَّانَ النَّبَطِيِّ، وَكَانَ مُخْتَفِيًا عِنْدَهُ هَذِهِ
الْمُدَّةَ كُلَّهَا، حَتَّى ظَهَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ أَوَّلُ
ظُهُورِهِ فِي دَارِ أَبِي فَرْوَةَ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ بَايَعَهُ نُمَيْلَةَ
بْنَ مُرَّةَ، وَعَفْوَ اللَّهِ بْنَ سُفْيَانَ، وَعَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ
زِيَادٍ، وَعَمْرَو بْنَ سَلَمَةَ الْهُجَيْمِيَّ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
يَحْيَى بْنِ حُضَيْنٍ الرَّقَاشِيَّ، وَنَدَبُوا النَّاسَ إِلَيْهِ، فَاسْتَجَابَ
لَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَتَحَوَّلَ إِلَى دَارِ أَبِي مَرْوَانَ فِي وَسَطِ
الْبَصْرَةِ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ، وَبَايَعَهُ فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ،
وَتَفَاقَمَ الْخَطْبُ بِهِ، وَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورِ، فَازْدَادَ غَمًّا إِلَى غَمِّهِ بِأَخِيهِ مُحَمَّدٍ; وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ ظَهَرَ قَبْلَ مَقْتَلِ أَخِيهِ، كَمَا ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا كَانَ
السَّبَبُ فِي تَعْجِيلِهِ الظُّهُورَ بِالْبَصْرَةِ كِتَابَ أَخِيهِ إِلَيْهِ
بِذَلِكَ، فَامْتَثَلَ أَمْرَهُ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَانْتَظَمَ أَمْرُهُ
بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ نَائِبُهَا لِلْمَنْصُورِ سُفْيَانَ بْنَ مُعَاوِيَةَ،
وَكَانَ مُمَالِئًا لِإِبْرَاهِيمَ فِي الْبَاطِنِ وَيُبْلِغُهُ أَخْبَارَهُ، فَلَا
يَكْتَرِثُ لَهَا، وَيُكَذِّبُ
بِمَا يُخْبَرُ بِهِ مِنْهَا وَيَوَدُّ أَنْ لَوْ صَحَّ أَمْرُ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ أَمَدَّهُ الْمَنْصُورُ بِأَمِيرَيْنِ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ مَعَهُمَا أَلْفَا فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَأَنْزَلَهُمَا عِنْدَهُ لِيَتَقَوَّى بِهِمَا عَلَى مُحَارَبَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَتَحَوَّلَ الْمَنْصُورُ مِنْ بَغْدَادَ - وَكَانَ قَدْ شَرَعَ فِي عِمَارَتِهَا - إِلَى الْكُوفَةِ وَجَعَلَ كُلَّمَا اتَّهَمَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي أَمْرِ إِبْرَاهِيمَ، بَعَثَ إِلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُهُ فِي اللَّيْلِ فِي مَنْزِلِهِ، وَكَانَ الْفُرَافِصَةُ الْعِجْلِيُّ قَدْ هَمَّ بِالْوُثُوبِ بِالْكُوفَةِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ لِمَكَانِ الْمَنْصُورِ بِهَا، وَجَعَلَ النَّاسُ يَقْصِدُونَ الْبَصْرَةَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِمُبَايَعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَفِدُونَ إِلَيْهَا جَمَاعَاتٍ وَفُرَادًى، وَجَعَلَ الْمَنْصُورُ يَرْصُدُ لَهُمُ الْمَسَالِحَ، فَيَقْتُلُونَهُمْ فِي الطُّرُقَاتِ، وَيَأْتُونَهُ بِرُءُوسِهِمْ فَيَصْلُبُهَا بِالْكُوفَةِ لِيَتَّعِظَ بِهَا النَّاسُ، وَأَرْسَلَ الْمَنْصُورُ إِلَى حَرْبٍ الرَّاوَنْدِيِّ - وَكَانَ مُرَابِطًا بِالْجَزِيرَةِ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ لِقِتَالِ الْخَوَارِجِ - يَسْتَدْعِيهِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَأَقْبَلَ بِمَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِبَلْدَةٍ بِهَا أَنْصَارٌ لِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالُوا لَهُ: لَا نَدَعُكَ تَجْتَازُ; لِأَنَّكَ إِنَّمَا طَلَبَكَ لِيُحَارِبَ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ: وَيْحَكُمْ! دَعُونِي. فَأَبَوْا فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةٍ، وَأَرْسَلَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَقَالَ: هَذَا أَوَّلُ الْفَتْحِ. وَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْاِثْنَيْنِ مُسْتَهَلَّ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ فِي اللَّيْلِ إِلَى مَقْبَرَةِ بَنِي يَشْكُرَ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ فَارِسًا، وَقَدِمَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَبُو حَمَّادٍ الْأَبْرَصُ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ مِدَادًا لِسُفْيَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَأَنْزَلَهُمُ الْأَمِيرُ
فِي
الْقَصْرِ، وَمَالَ إِبْرَاهِيمُ وَأَصْحَابُهُ وَمَنِ الْتَفَّ عَلَيْهِ وَصَارَ
إِلَيْهِ إِلَى دَوَابِّ أُولَئِكَ الْعَسْكَرِ وَأَسْلِحَتِهِمْ، فَأَخَذُوهَا
جَمِيعًا، فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ مَا أَصَابَ، وَمَا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ إِلَّا
وَقَدِ اسْتَظْهَرَ جِدًّا، فَصَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي
الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَالْتَفَّتِ الْخَلَائِقُ عَلَيْهِ مَا بَيْنَ نَاظِرٍ
وَنَاصِرٍ، وَتَحَصَّنَ سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نَائِبُ الْخَلِيفَةِ بِقَصْرِ
الْإِمَارَةِ، وَجَلَسَ عِنْدَهُ الْجُنُودُ، فَحَاصَرَهُمْ إِبْرَاهِيمُ بِمَنْ
مَعَهُ، فَطَلَبَ سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْأَمَانَ، فَأَعْطَاهُ الْأَمَانَ،
وَدَخَلَ إِبْرَاهِيمُ قَصْرَ الْإِمَارَةِ، فَبُسِطَتْ لَهُ حَصِيرٌ لِيَجْلِسَ
عَلَيْهَا فِي مُقَدَّمِ إِيوَانِ الْقَصْرِ، فَهَبَّتِ الرِّيحُ، فَقَلَبَتِ
الْحَصِيرَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، فَتَطَيَّرَ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّا لَا
نَتَطَيَّرُ. وَجَلَسَ عَلَى ظَهْرِ الْحَصِيرِ، وَأَمَرَ بِحَبْسِ سُفْيَانَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ مُقَيَّدًا، وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يُبَرِّئَ سَاحَتَهُ عِنْدَ
أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ،
فَإِذَا فِيهِ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ، وَقِيلَ: أَلْفَا أَلْفٍ. فَقَوِيَ بِذَلِكَ
جِدًّا.
وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ جَعْفَرٌ وَمُحَمَّدٌ ابْنَا سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُمَا
ابْنَا عَمِّ الْخَلِيفَةِ الْمَنْصُورِ، فَرَكِبَا فِي سِتِّمِائَةِ فَارِسٍ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا إِبْرَاهِيمُ الْمَضَّاءَ بْنَ الْقَاسِمِ فِي ثَمَانِيَةَ
عَشَرَ فَارِسًا وَثَلَاثِينَ رَاجِلًا، فَهَزَمَ بِهَؤُلَاءِ سِتَّمِائَةِ
فَارِسٍ، وَأَمَّنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَبَعَثَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِ
الْأَهْوَازِ، فَبَايَعُوا لَهُ وَأَطَاعُوهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى نَائِبِهَا
مِائَتَيْ فَارِسٍ عَلَيْهِمُ الْمُغِيرَةُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحُصَيْنِ نَائِبُ الْبِلَادِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَهَزَمَهُ الْمُغِيرَةُ،
وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْبِلَادِ، وَبَعَثَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى بِلَادِ فَارِسَ
فَأَخَذَهَا، وَكَذَلِكَ وَاسِطُ وَالْمَدَائِنُ وَالسَّوَادُ، وَاسْتَفْحَلَ
أَمْرُهُ جِدًّا، وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَهُ نَعْيُ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ انْكَسَرَ جِدًّا،
وَصَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَ الْعِيدِ وَهُوَ مَكْسُورٌ،
فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الْمَوْتَ فِي وَجْهِهِ وَهُوَ يَخْطُبُ
النَّاسَ، فَنَعَى إِلَى النَّاسِ أَخَاهُ مُحَمَّدًا، فَازْدَادَ النَّاسُ
حَنَقًا عَلَى الْمَنْصُورِ، وَأَصْبَحَ فَعَسْكَرَ بِالنَّاسِ، وَاسْتَنَابَ
عَلَى الْبَصْرَةِ نُمَيْلَةَ، وَخَلَّفَ ابْنَهُ حَسَنًا مَعَهُ.
وَلَمَّا بَلَغَ الْمَنْصُورَ خَبَرُهُ تَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ، وَجَعَلَ
يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا فَرَّقَ مِنْ جُنْدِهِ فِي الْمَمَالِكِ، وَكَانَ قَدْ
بَعَثَ مَعَ ابْنِهِ الْمَهْدِيِّ ثَلَاثِينَ أَلْفًا إِلَى الرَّيِّ، وَبَعَثَ
مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا،
وَالْبَاقُونَ مَعَ عِيسَى بْنِ مُوسَى بِالْحِجَازِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ فِي
مُعَسْكَرِهِ سِوَى أَلْفَيْ فَارِسٍ فَكَانَ يَأْمُرُ بِالنِّيرَانِ
الْكَثِيرَةِ، فَتُوقَدُ لَيْلًا، فَيَحْسَبُ النَّاظِرُ أَنَّ هُنَاكَ جُنُودًا
كَثِيرَةً، ثُمَّ كَتَبَ الْمَنْصُورُ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى وَهُوَ
بِالْحِجَازِ بَعْدَ قَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ: إِذَا قَرَأْتَ
كِتَابِي هَذَا، فَأَقْبِلْ مِنْ فَوْرِكَ، وَدَعْ كُلَّ مَا أَنْتَ فِيهِ. فَلَمْ
يَنْشَبْ أَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
بِالْبَصْرَةِ وَلَا يَهُولَنَّكَ كَثْرَةُ مَنْ مَعَهُ، فَإِنَّهُمَا جَمَلَا
بَنِي هَاشِمٍ الْمَقْتُولَانِ جَمِيعًا، فَابْسُطْ يَدَكَ، وَثِقْ بِمَا
عِنْدَكَ، وَسَتَذْكُرُ مَا أَقُولُ لَكَ، فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ
الْمَنْصُورُ.
وَكَتَبَ الْمَنْصُورُ إِلَى ابْنِهِ الْمَهْدِيِّ أَنْ يُوَجِّهَ خَازِمَ بْنَ
خُزَيْمَةَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَذَهَبَ إِلَيْهَا،
فَأَخْرَجَ مِنْهَا نَائِبَ إِبْرَاهِيمَ - وَهُوَ الْمُغِيرَةُ - وَأَبَاحَهَا
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَرَجَعَ الْمُغِيرَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَكَذَلِكَ بَعَثَ
إِلَى كُلِّ كُورَةٍ مِنْ هَذِهِ الْكُوَرِ الَّتِي خَلَعَتْ يَرُدُّونَهُمْ إِلَى
الطَّاعَةِ. قَالُوا: وَلَزِمَ الْمَنْصُورُ مَوْضِعَ مُصَلَّاهُ، فَلَا يَبْرَحُ
فِيهِ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا فِي بِذْلَةِ ثِيَابٍ عَلَيْهِ قَدِ اتَّسَخَتْ،
فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا هُنَاكَ
بِضْعًا
وَخَمْسِينَ يَوْمًا، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ فِي
غُبُونِ ذَلِكَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ نِسَاءَكَ قَدْ خَبُثَتْ
أَنْفُسُهُنَّ لِغَيْبَتِكَ عَنْهُنَّ. فَانْتَهَرَ الْقَائِلَ، وَقَالَ:
وَيْحَكَ! لَيْسَتْ هَذِهِ أَيَّامَ نِسَاءٍ حَتَّى أَرَى رَأْسَ إِبْرَاهِيمَ
بَيْنَ يَدَيَّ أَوْ يُحْمَلَ رَأْسِي إِلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْتُ
عَلَى الْمَنْصُورِ وَهُوَ مَهْمُومٌ مِنْ كَثْرَةِ مَا وَقَعَ مِنَ الشُّرُورِ
وَالْفُتُوقِ وَالْخُرُوقِ وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُتَابِعَ الْكَلَامَ مِنْ
شِدَّةِ كَرْبِهِ وَهَمِّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَدْ أَعَدَّ لِكُلِّ أَمْرٍ مَا
يَسُدُّ خَلَلَهُ، وَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ يَدِهِ الْبَصْرَةُ وَالْأَهْوَازُ
وَأَرْضُ فَارِسَ وَوَاسِطُ وَالْمَدَائِنُ وَأَرْضُ السَّوَادِ، وَفِي الْكُوفَةِ
عِنْدَهُ مِائَةُ أَلْفِ سَيْفٍ مُغْمِدَةٌ، تَنْتَظِرُ بِهِ صَيْحَةً وَاحِدَةً،
فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعْرُكُ
النَّوَائِبَ وَيَمْرُسُهَا، وَلَمْ تَقْعُدْ بِهِ نَفْسُهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ
الشَّاعِرُ:
نَفْسُ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَامَا وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ وَالْإِقْدَامَا فَصَيَّرَتْهُ
مَلِكًا هُمَامَا
وَأَقْبَلَ إِبْرَاهِيمُ قَاصِدًا مَنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ فِي مِائَةِ
أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ عِيسَى بْنَ مُوسَى فِي
خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ فِي ثَلَاثَةِ
آلَافٍ، وَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ فَنَزَلَ فِي بَاخَمْرَا فِي جَحَافِلَ عَظِيمَةٍ،
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ: إِنَّكَ قَدِ اقْتَرَبْتَ مِنَ الْمَنْصُورِ،
فَلَوْ أَنَّكَ سِرْتَ إِلَيْهِ بِطَائِفَةٍ مِنْ جَيْشِكَ هَذَا لَأَخَذْتَ
بِقَفَاهُ; فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الْجُيُوشِ أَحَدٌ يَرُدُّونَ عَنْهُ.
فَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: إِنَّ الْأَوْلَى أَنْ نُنَاجِزَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
بِإِزَائِنَا، ثُمَّ هُوَ فِي قَبْضَتِنَا. فَثَنَاهُمْ
ذَلِكَ
عَنِ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ، وَلَوْ فَعَلُوهُ لَتَمَّ لَهُمُ الْأَمْرُ، ثُمَّ
قَالَ بَعْضُهُمْ: خَنْدِقْ حَوْلَ الْجَيْشِ. فَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ هَذَا
الْجَيْشَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى خَنْدَقٍ حَوْلَهُ. فَتَرَكَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَشَارَ
بَعْضُهُمْ بِأَنْ يُبَيِّتَ جَيْشَ عِيسَى بْنِ مُوسَى، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّى
لَا أَرَى ذَلِكَ. فَتَرَكَهُ، ثُمَّ أَشَارَ آخَرُونَ بِأَنْ يَجْعَلَ جَيْشَهُ
كَرَادِيسَ، فَإِنْ غُلِبَ كُرْدُوسٌ ثَبَتَ الْآخَرُ، فَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ
الْأَوْلَى أَنْ نُقَاتِلَ صُفُوفًا; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [
الصَّفِّ: 4 ].
وَأَقْبَلَ الْجَيْشَانِ، فَتَصَافُّوا فِي بَاخَمْرَا، وَهِيَ عَلَى سِتَّةَ
عَشَرَ فَرْسَخًا مِنَ الْكُوفَةِ فَاقْتَتَلُوا بِهَا قِتَالًا شَدِيدًا،
فَانْهَزَمَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ،
فَجَعَلَ عِيسَى يُنَاشِدُهُمُ اللَّهَ فِي الرُّجُوعِ وَالْكَرَّةِ، فَلَا
يَلْوِي عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَثَبَتَ عِيسَى بْنُ مُوسَى فِي مِائَةِ رَجُلٍ مِنْ
أَهْلِهِ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ تَنَحَّيْتَ مِنْ مَكَانِكَ هَذَا لِئَلَّا
يَحْطِمَكَ جَيْشُ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَزُولُ عَنْهُ حَتَّى
يَفْتَحَ اللَّهُ لِي أَوْ أُقْتَلَ هَاهُنَا. وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ
تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ بَعْضُ الْمُنَجِّمِينَ; أَنَّ النَّاسَ
يَكُونُ لَهُمْ جَوْلَةٌ مَعَ عِيسَى بْنِ مُوسَى، ثُمَّ يَقُومُونَ إِلَيْهِ
وَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لَهُ، فَاسْتَمَرَّ الْمُنْهَزِمُونَ ذَاهِبِينَ
فَانْتَهَوْا إِلَى نَهْرٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ خَوْضُهُ
فَكَّرُوا رَاجِعِينَ بِأَجْمَعِهِمْ، فَكَانَ أَوَّلَ رَاجِعٍ حُمَيْدُ بْنُ
قَحْطَبَةَ الَّذِي كَانَ أَوَّلَ مَنِ انْهَزَمَ، ثُمَّ اجْتَلَدُوا هُمْ
وَأَصْحَابُ إِبْرَاهِيمَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَقُتِلَ مِنْ كِلَا
الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ إِبْرَاهِيمَ، وَثَبَتَ
هُوَ فِي خَمْسِمِائَةٍ، وَقِيلَ: فِي أَرْبَعِمِائَةٍ. وَقِيلَ: فِي سَبْعِينَ
رَجُلًا. وَاسْتَظْهَرَ عِيسَى بْنُ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ، وَقُتِلَ إِبْرَاهِيمُ
فِي جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ، وَاخْتَلَطَ رَأْسُهُ مَعَ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ،
فَجَعَلَ حُمَيْدٌ
يَأْتِي
بِالرُّءُوسِ فَيَعْرِضُهَا عَلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى حَتَّى عَرَفُوا رَأْسَ
إِبْرَاهِيمَ، فَبَعَثُوهُ مَعَ الْبَشِيرِ إِلَى الْمَنْصُورِ، وَكَانَ نِيبُخْتُ
الْمُنَجِّمُ قَدْ دَخَلَ قَبْلَ مَجِيءِ الْبَشِيرِ عَلَى الْمَنْصُورِ فَقَالَ
لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَبْشِرْ فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ مَقْتُولٌ.
فَلَمْ يُصَدِّقْهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ لَمْ تُصَدِّقْنِي
فَاحْبِسْنِي، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُ لَكَ فَاقْتُلْنِي.
فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَهُ إِذْ جَاءَ الْبَشِيرُ بِهَزِيمَةِ إِبْرَاهِيمَ،
وَلَمَّا جِيءَ بِالرَّأْسِ تَمَثَّلَ الْمَنْصُورُ بِبَيْتِ مُعَقِّرِ بْنِ
حِمَارٍ الْبَارِقِيِّ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى كَمَا قَرَّ عَيْنًا
بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ
وَيُقَالُ: إِنَّ الْمَنْصُورَ لَمَّا نَظَرَ إِلَى الرَّأْسِ بَكَى حَتَّى
جَعَلَتْ دُمُوعُهُ تَسْقُطُ عَلَى الرَّأْسِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ
لِهَذَا كَارِهًا، وَلَكِنَّكَ ابْتُلِيتَ بِي وَابْتُلِيتُ بِكَ. ثُمَّ أَمَرَ
بِالرَّأْسِ، فَنُصِبَ لِلنَّاسِ بِالسُّوقِ. وَأَقْطَعُ نِيبُخْتَ الْمُنَجِّمَ أَلْفَيْ
جَرِيبٍ.
وَذَكَرَ صَالِحٌ مَوْلَى الْمَنْصُورِ قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ إِبْرَاهِيمَ
جَلَسَ الْمَنْصُورُ مَجْلِسًا عَامًّا، وَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ
فَيُهَنِّئُونَهُ، وَيَنَالُونَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ،
وَيُقَبِّحُونَ
الْكَلَامَ فِيهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الْمَنْصُورِ، وَالْمَنْصُورُ وَاجِمٌ
مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ لَا يَتَكَلَّمُ، حَتَّى دَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ حَنْظَلَةَ
الْبَهْرَانِيُّ، فَوَقَفَ فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي ابْنِ عَمِّكَ، وَغَفَرَ لَهُ مَا فَرَّطَ مِنْ
حَقِّكَ. قَالَ: فَاصْفَرَّ لَوْنُ الْمَنْصُورِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَقَالَ:
أَبَا خَالِدٍ، مَرْحَبًا وَأَهْلًا، هَاهُنَا؟! فَعَلِمَ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ
قَدْ وَقَعَ مِنْهُ فَجَعَلَ كُلُّ مَنْ جَاءَ يَقُولُ كَمَا قَالَ جَعْفَرُ بْنُ
حَنْظَلَةَ.
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ: كَانَ ذَلِكَ فِي لَيْلَةِ
الثُّلَاثَاءِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
يَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَقَدْ قُتِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِ الْبَيْتِ،
مِنْهُمْ; عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ وَابْنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ،
وَأَخُوهُ حَسَنُ بْنُ حَسَنٍ، وَأَخُوهُ لِأُمِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْمُلَقَّبُ بِالدِّيبَاجِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي آخِرِ الْجُزْءِ الَّذِي قَبْلَهُ.
فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ
فَتَابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ - وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ; سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ، وَمَالِكٌ. وَكَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مُبَجَّلًا، وَكَانَ عَابِدًا كَبِيرَ الْقَدْرِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا. وَفَدَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَكْرَمَهُ، وَوَفَدَ عَلَى السَّفَّاحِ فَعَظَّمَهُ وَأَعْطَاهُ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا وَلِيَ الْمَنْصُورُ عَكَسَ هَذَا الْإِكْرَامَ، وَأَخَذَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ مُقَيَّدِينَ مَغْلُولِينَ مُهَانِينَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْهَاشِمِيَّةِ، فَأَوْدَعَهُمُ السِّجْنَ الضَّيِّقَ كَمَا قَدَّمْنَا، فَمَاتَ أَكْثَرُهُمْ فِيهِ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ هَذَا أَوَّلَ مَنْ مَاتَ فِيهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِ وَلَدِهِ مُحَمَّدٍ بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ قُتِلَ عَمْدًا. وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ.
ثُمَّ
مَاتَ بَعْدَهُ أَخُوهُ حَسَنٌ، فَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَهُ،
وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى خُرَاسَانَ، كَمَا قَدَّمْنَا.
وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَرَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَنَافِعٍ، وَعَنْ أَبِي الزِّنَادِ،
عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كَيْفِيَّةِ الْهُوِيِّ إِلَى
السُّجُودِ، وَحَدَثَّ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ
حِبَّانَ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ. وَقَدْ ذُكِرَ
أَنَّ أُمَّهُ حَمَلَتْ بِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ. وَكَانَ طَوِيلًا سَمِينًا
أَسْمَرَ ضَخْمًا، مُفَخَّمًا ذَا هِمَّةٍ سَامِيَّةٍ، وَسَطْوَةٍ عَالِيَةٍ،
وَكَانَ مَقْتَلُهُ بِالْمَدِينَةِ فِي مُنْتَصَفِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَلَهُ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَدْ حُمِلَ
رَأْسُهُ إِلَى الْمَنْصُورِ، وَطَيْفَ بِهِ فِي الْأَقَالِيمِ.
وَأَمَّا أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ ظُهُورُهُ بِالْبَصْرَةِ بَعْدَ ظُهُورِ
أَخِيهِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي ذِي
الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ فِي الْكُتُبِ
السِّتَّةِ، وَقَدْ حَكَى أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ
أَنَّهُ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ
وَأَخُوهُ
مُحَمَّدٌ خَارِجِيِّينَ. ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَبِئْسَمَا قَالَ، هَذَا
رَأْيُ الزَّيْدِيَّةِ. قُلْتُ: وَقَدْ حُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ
أَنَّهُمْ مَالُوا إِلَى ظُهُورِهِمَا وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا أَيْضًا مِنَ الْمَشَاهِيرِ:
الْأَجْلَحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَإِسْمَاعِيلُ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ فِي قَوْلٍ،
وَحَبِيبٌ ابْنُ الشَّهِيدِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ،
وَعُمَرُ مَوْلَى عَفْرَةَ، وَيَحْيَى
بْنُ
الْحَارِثِ الذِّمَّارِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ،
وَرُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ - وَالْعَجَّاجُ لَقَبٌ، وَاسْمُهُ أَبُو
الشَّعْثَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُؤْبَةَ - أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ
الْبَصْرِيُّ، الرَّاجِزُ ابْنُ الرَّاجِزِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا دِيوَانُ رَجَزٍ،
وَكُلٌّ مِنْهُمَا بَارِعٌ فِي فَنِّهِ، لَا يُجَارَى وَلَا يُمَارَى، عَالِمٌ
بِاللُّغَةِ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُقَفَّعِ الْكَاتِبُ الْمُفَوَّهُ،
أَسْلَمَ عَلَى يَدِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ عَمِّ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ،
وَكَتَبَ لَهُ، وَلَهُ رَسَائِلُ وَأَلْفَاظٌ فَصِيحَةٌ، وَكَانَ يُتَّهَمُ
بِالزَّنْدَقَةِ، وَهُوَ الَّذِي صَنَّفَ كِتَابَ " كَلَيْلَةَ وَدِمْنَةَ
"، وَيُقَالُ: بَلْ هُوَ الَّذِي عَرَّبَهَا مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ إِلَى
الْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ الْمَهْدِيُّ ابْنُ الْمَنْصُورِ: مَا وَجَدْتُ كِتَابَ زَنْدَقَةٍ إِلَّا
وَأَصْلُهُ مِنِ ابْنِ الْمُقَفَّعِ. قَالَ الْجَاحِظُ: الزَّنَادِقَةُ ثَلَاثَةٌ;
ابْنُ الْمُقَفَّعِ، وَمُطِيعُ بْنُ إِيَاسٍ، وَيَحْيَى بْنُ زِيَادٍ. قَالُوا:
وَنَسِيَ الْجَاحِظُ نَفْسَهُ، وَهُوَ رَابِعُهُمْ. وَكَانَ مَعَ هَذَا فَاضِلًا
بَارِعًا فَصِيحًا.
قَالَ
الْأَصْمَعِيُّ: قِيلَ لِابْنِ الْمُقَفَّعِ: مَنْ أَدَّبَكَ؟ قَالَ: نَفْسِي;
إِذَا رَأَيْتُ مِنْ غَيْرِي قَبِيحًا أَبَيْتُهُ، وَإِذَا رَأَيْتُ حَسَنًا
أَتَيْتُهُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ: شَرِبْتُ مِنَ الْخُطَبِ رَيًّا، وَلَمْ أَضْبُطْ لَهَا
رَوِيًّا، فَغَاضَتْ ثُمَّ فَاضَتْ، فَلَا هِيَ هِيَ نِظَامًا، وَلَيْسَتْ
غَيْرَهَا كَلَامًا.
وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَى يَدِ سُفْيَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
الْمُهَلَّبِ ابْنِ أَبِي صُفْرَةَ نَائِبِ الْبَصْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ
يَعْبَثُ بِهِ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يُسَمِّيهِ ابْنَ
الْمُغْتَلِمَةِ، وَكَانَ كَبِيرَ الْأَنْفِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ
يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمَا. عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ. وَقَالَ سُفْيَانُ
مَرَّةً: مَا نَدِمْتُ عَلَى سُكُوتٍ قَطُّ. فَقَالَ: صَدَقْتَ، الْخَرَسُ خَيْرٌ
لَكَ. فَاتَّفَقَ أَنَّ الْمَنْصُورَ تَغَضَّبَ عَلَى ابْنِ الْمُقَفَّعِ،
فَكَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ سُفْيَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ هَذَا أَنْ يَقْتُلَهُ،
فَأَخَذَهُ فَأَحْمَى لَهُ تَنُّورًا، وَجَعَلَ يُقَطِّعُهُ إِرَبًا إِرَبًا،
وَيُلْقِيهِ فِي ذَلِكَ التَّنُّورِ حَتَّى أَحْرَقَهُ كُلَّهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ
إِلَى أَطْرَافِهِ كَيْفَ تُقْطَعُ، ثُمَّ تُحْرَقُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي
صِفَةِ قَتْلِهِ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ابْنُ الْمُقَفَّعِ نِسْبَةً
إِلَى بَيْعِ الْقِفَاعِ،
وَهِيَ
مِنَ الْجَرِيدِ كَالزِّنْبِيلِ بِلَا آذَانٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ ابْنُ
الْمُقَفَّعِ، وَهُوَ أَبُوهُ دَاذَوَيْهِ، كَانَ الْحَجَّاجُ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ
عَلَى الْخَرَاجِ، فَخَانَ فَعَاقَبَهُ حَتَّى تَقَفَّعَتْ يَدَاهُ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَفِيهَا خَرَجَتِ التُّرْكُ وَالْخَزَرُ بِبَابِ الْأَبْوَابِ، فَقَتَلُوا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ بِأَرْمِينِيَّةَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ السَّرِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ نَائِبُ مَكَّةَ، وَكَانَ
نَائِبَ الْمَدِينَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَارِثِيُّ، وَعَلَى
الْكُوفَةِ عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَلَى الْبَصْرَةِ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ،
وَعَلَى مِصْرَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا تَكَامَلَ بِنَاءُ مَدِينَةِ السَّلَامِ بَغْدَادَ، وَسَكَنَهَا
الْمَنْصُورُ بَانِيهَا فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مُقِيمًا قَبْلَ
ذَلِكَ بِالْهَاشِمِيَّةِ الْمُتَاخِمَةِ لِلْكُوفَةِ، وَكَانَ قَدْ شَرَعَ فِي
بِنَائِهَا فِي السَّنَةِ الْخَارِجَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ السَّبَبَ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى بِنَائِهَا أَنَّ الرَّاوِنْدِيَّةَ
لَمَّا وَثَبُوا عَلَيْهِ بِالْكُوفَةِ، وَوَقَى اللَّهُ شَرَّهُمْ، فَقَهَرَهُمْ
وَقَتَلَهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ، بَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ، فَخَشِيَ عَلَى
جُنْدِهِ مِنْهُمْ، فَخَرَجَ مِنَ الْكُوفَةِ يَرْتَادُ لَهُمْ مَوْضِعًا
لِبِنَاءِ مَدِينَةٍ، فَسَارَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَ الْجَزِيرَةَ، فَلَمْ
يَرَ مَوْضِعًا أَحْسَنَ لِوَضْعِ الْمَدِينَةِ مِنْ مَوْضِعِ بَغْدَادَ الَّذِي
هِيَ فِيهِ الْآنَ، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يُغْدَى إِلَيْهِ وَيُرَاحُ
بِخَيِّرَاتِ مَا حَوْلَهُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَهُوَ مُحَصَّنٌ بِدِجْلَةَ
وَالْفُرَاتِ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى مَوْضِعِ الْخَلِيفَةِ
إِلَّا عَلَى جِسْرٍ، وَقَدْ بَاتَ بِهِ الْمَنْصُورُ قَبْلَ بِنَائِهِ، فَرَأَى
الرِّيَاحَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَطِيبَ الْهَوَاءِ فِي تِلْكَ الْمَحَلَّةِ،
وَقَدْ كَانَ مَوْضِعُهَا قُرًى وَدُيُورَةً لِعُبَّادِ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ
- ذَكَرَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا بِأَسْمَائِهِ وَتَعْدَادِهِ أَبُو جَعْفَرٍ ابْنُ
جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ - فَحِينَئِذٍ أَمَرَ الْمَنْصُورُ بِاخْتِطَاطِهَا،
فَرَسَمُوهَا لَهُ بِالرَّمَادِ، فَمَشَى فِي طُرُقِهَا وَمَسَالِكِهَا،
فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ سَلَّمَ كُلَّ رُبْعٍ مِنْهَا لِأَمِيرٍ يَقُومُ
عَلَى
بِنَائِهِ، وَأَحْضَرَ مِنْ كُلِّ الْبِلَادِ فُعَّالًا وَصُنَّاعًا
وَمُهَنْدِسِينَ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ أُلُوفٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانَ هُوَ
أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ لَبِنَةً فِيهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ،
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْأَرْضُ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. ثُمَّ قَالَ: ابْنُوا عَلَى بَرَكَةِ
اللَّهِ. وَأَمَرَ بِبِنَائِهَا مُدَوَّرَةً، سُمْكُ سُورِهَا مِنْ أَسْفَلِهِ
خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَمِنْ أَعْلَاهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَجَعَلَ لَهَا
ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ فِي السُّورِ الْبَرَانِيِّ، وَمِثْلَهَا فِي
الْجَوَّانِيِّ، وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ تُجَاهَ الْآخَرِ، وَلَكِنِ أَزْوَرُ عَنِ
الَّذِي يُقَابِلُهُ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ بَغْدَادُ الزَّوْرَاءَ، وَقِيلَ:
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِازْوِرَارِهَا بِسَبَبِ انْحِرَافِ دِجْلَةَ عِنْدَهَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَبَنَى قَصْرَ الْإِمَارَةِ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ لِيَكُونَ النَّاسُ مِنْهُ
عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، وَاخْتَطَّ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ إِلَى جَانِبِ الْقَصْرِ،
وَكَانَ الَّذِي وَضَعَ قِبْلَتَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ. وَقَالَ ابْنُ
جَرِيرٍ: وَيُقَالُ: إِنَّ فِي قِبْلَتِهِ انْحِرَافًا يَحْتَاجُ الْمُصَلِّي
فِيهِ أَنْ يَنْحَرِفَ إِلَى نَاحِيَةِ بَابِ الْبَصْرَةِ. وَذَكَرَ أَنَّ
مَسْجِدَ الرُّصَافَةِ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِنْهُ; لِأَنَّهُ بُنِيَ قَبْلَ
الْقَصْرِ، وَجَامِعُ الْمَدِينَةِ بُنِيَ عَلَى الْقَصْرِ. فَاخْتَلَّتْ
قُبْلَتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مَجَالِدٍ، أَنَّ الْمَنْصُورَ
أَرَادَ أَبَا حَنِيفَةَ النُّعْمَانَ بْنَ ثَابِتٍ عَلَى الْقَضَاءِ فَامْتَنَعَ،
فَحَلَفَ الْمَنْصُورُ أَنْ يَتَوَلَّى لَهُ، وَحَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ لَا
يَفْعَلَ، فَوَلَّاهُ الْقِيَامَ بِأَمْرِ الْمَدِينَةِ وَضَرْبِ اللَّبِنَ
وَعَدِّهِ، وَأَخْذِ الرِّجَالِ بِالْعَمَلِ، فَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ
الْمُتَوَلِّيَ لِذَلِكَ، حَتَّى فَرَغَ مِنَ اسْتِتْمَامِ حَائِطِ الْمَدِينَةِ
مِمَّا
يَلِي
الْخَنْدَقَ، وَكَانَ اسْتِتْمَامُهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذُكِرَ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ الْمَنْصُورَ
عَرَضَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ الْقَضَاءَ وَالْمَظَالِمَ فَامْتَنَعَ، فَحَلَفَ
أَنْ لَا يُقْلِعَ عَنْهُ حَتَّى يَعْمَلَ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ،
فَدَعَا بِقَصَبَةٍ، فَعَدَّ اللَّبِنَ لِيُبِرَّ بِذَلِكَ يَمِينَ أَبِي
جَعْفَرٍ، وَمَاتَ أَبُو حَنِيفَةَ بِبَغْدَادَ.
وَذَكَرَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ بَرْمَكَ هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى الْمَنْصُورِ
بِبِنَائِهَا، وَأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِثًّا فِيهَا، وَقَدْ شَاوَرَ الْمَنْصُورُ
الْأُمَرَاءَ فِي نَقْلِ الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى بَغْدَادَ
لِأَجْلِ قَصْرِ الْإِمَارَةِ بِهَا، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّهُ آيَةٌ فِي
الْعَالَمِ، وَفِيهِ مُصَلَّى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
فَخَالَفَهُ وَنَقَلَ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا، فَلَمْ يَفِ مَا تَحَصَّلَ مِنْهُ
بِأُجْرَةِ مَا يُصْرَفُ فِي حَمْلِهِ، فَتَرَكَهُ، وَنَقَلَ أَبْوَابَ وَاسِطَ
إِلَى أَبْوَابِ بَغْدَادَ، وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ نَقَلَهَا مِنْ مَدِينَةٍ
هُنَاكَ كَانَتْ مِنْ بِنَاءِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَكَانَتِ الْجِنُّ قَدْ
عَمِلَتْ تِلْكَ الْأَبْوَابَ.
وَقَدْ كَانَتِ الْأَسْوَاقُ قَرِيبًا مِنْ قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَكَانَتْ
أَصْوَاتُ الْبَاعَةِ وَهَوْشَاتُ الْأَسْوَاقِ تُسْمَعُ مِنْهُ، فَعَابَ ذَلِكَ
بَعْضُ بَطَارِقَةِ النَّصَارَى مِمَّنْ قَدِمَ فِي بَعْضِ الرَّسَائِلِ مِنَ
الرُّومِ، فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ بِنَقْلِ الْأَسْوَاقِ مِنْ هُنَاكَ إِلَى
مَوْضِعٍ آخَرَ، وَأَمَرَ
بِتَوْسِعَةِ
الطُّرُقَاتِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَمَنْ بَنَى فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هُدِمَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذُكِرَ عَنْ عِيسَى ابْنِ الْمَنْصُورِ أَنَّهُ قَالَ:
وَجَدْتُ فِي خَزَائِنِ الْمَنْصُورِ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى
مَدِينَةِ السَّلَامِ وَمَسْجِدِهَا الْجَامِعِ وَقَصْرِ الذَّهَبِ بِهَا
وَالْأَسْوَاقِ وَالْفُصْلَانِ وَالْخَنَادِقِ وَقِبَابِهَا وَأَبْوَابِهَا
أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا،
وَكَانَ أُجْرَةُ الْأُسْتَاذِ مِنَ الْبَنَّائِينَ فِيهَا كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَ
فِضَّةٍ، وَأُجْرَةُ الصَّانِعِ مِنَ الْحَبَّتَيْنِ إِلَى الثَّلَاثِ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ.
وَحَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: أَنْفَقَ عَلَيْهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ
أَلْفَ أَلْفٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمَنْصُورَ نَاقَصَ أَحَدَ الْمُهَنْدِسِينَ
الَّذِي بَنَى لَهُ بَيْتًا حَسَنًا فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَنَقَصَهُ
دِرْهَمًا عَمَّا سَاوَمَهُ، وَأَنَّهُ حَاسَبَ بَعْضَ الْمُسْتَحَثِّينَ عَلَى
الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَفَضَلَ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَحَبَسَهُ
حَتَّى أَحْضَرَهَا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي " تَارِيخِ بَغْدَادَ
": وَبَنَاهَا مُدَوَّرَةً،
وَلَا
يُعْرَفُ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا كُلِّهَا مَدِينَةٌ مُدَوَّرَةٌ سِوَاهَا،
وَوَضَعَ أَسَاسَهَا فِي وَقْتٍ اخْتَارَهُ لَهُ نُوبَخْتُ الْمُنَجِّمُ. ثُمَّ
رَوَى عَنْ بَعْضِ الْمُنَجِّمِينَ قَالَ: قَالَ لِي الْمَنْصُورُ لَمَّا فَرَغَ
مِنْ بِنَاءِ بَغْدَادَ: خُذِ الطَّالِعَ. فَنَظَرْتُ فِي طَالِعِهَا، وَكَانَ
الْمُشْتَرِي فِي الْقَوْسِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّجُومُ
مِنْ طُولِ زَمَانِهَا، وَكَثْرَةِ عِمَارَتِهَا وَانْصِبَابِ الدُّنْيَا
إِلَيْهَا، وَفَقْرِ النَّاسِ إِلَى مَا فِيهَا. قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُ:
وَأُبَشِّرُكُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبِشَارَةٍ أُخْرَى; وَهِيَ أَنَّهُ
لَا يَمُوتُ فِيهَا أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ أَبَدًا. قَالَ: فَرَأَيْتُهُ
يَبْتَسِمُ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
وَذَكَرَ عَنْ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ أَنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا مِنْهُ:
قَضَى رَبُّهَا أَنْ لَا يَمُوتَ خَلِيفَةٌ بِهَا إِنَّهُ مَا شَاءَ فِي خَلْقِهِ
يَقْضِي
وَقَدْ قَرَّرَهُ عَلَى هَذَا الْخَطَأِ الْخَطِيبُ، وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَلَمْ
يَنْقُضْهُ بِشَيْءٍ، مَعَ اطِّلَاعِهِ وَمَعْرِفَتِهِ.
قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْأَمِينَ قُتِلَ بِدَرْبِ الْأَنْبَارِ
مِنْهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْقَاضِي أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ الْمُحْسِنِ
التَّنُوخِيِّ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ أَيْضًا لَمْ يُقْتَلْ
بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا قَدْ نَزَلَ فِي سَفِينَةٍ إِلَى دِجْلَةَ
لِيَتَنَزَّهَ، فَقُبِضَ عَلَيْهِ فِي وَسَطِ
دِجْلَةَ،
وَقُتِلَ هُنَاكَ، وَذَكَرَ ذَلِكَ الصُّولِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَذَكَرَ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِ بَغْدَادَ أَنَّهُ قَالَ: اتِّسَاعُ بَغْدَادَ
مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ جَرِيبًا، وَذَلِكَ يَعْدِلُ مِيلَيْنِ فِي مِيلَيْنِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: بَغْدَادُ مِنَ الصَّرَاةِ إِلَى بَابِ التِّبْنِ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ بَيْنَ كُلِّ بَابَيْنِ مِنْ
أَبْوَابِهَا الثَّمَانِيَةِ مِيلًا، وَقِيلَ: أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. وَذَكَرَ
الْخَطِيبُ صِفَةَ قَصْرِ الْإِمَارَةِ، وَأَنَّ فِيهِ الْقُبَّةَ الْخَضْرَاءَ
طُولُهَا ثَمَانُونَ ذِرَاعًا، عَلَى رَأْسِهَا تِمْثَالُ فَرَسٍ عَلَيْهِ فَارِسٌ
فِي يَدِهِ رُمْحٌ يَدُورُ بِهِ، فَإِلَى أَيِّ جِهَةٍ اسْتَقْبَلَهَا
وَاسْتَمَرَّ مُسْتَقْبِلَهَا، عُلِمَ أَنَّ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ قَدْ وَقَعَ
حَدَثٌ، فَيَنْظُرُ فِي أَمْرِهِ الْخَلِيفَةُ. وَهَذِهِ الْقُبَّةُ عَلَى
مَجْلِسٍ فِي صَدْرِ إِيوَانِ الْمَحْكَمَةِ، وَطُولُهُ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا،
وَعَرْضُهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَقَدْ سَقَطَتْ هَذِهِ الْقُبَّةُ فِي لَيْلَةِ
بَرْدٍ وَمَطَرٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ، لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ
مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّهُ كَانَ يُبَاعُ فِي أَيَّامِ
الْمَنْصُورِ بِبَغْدَادَ الْكَبْشُ بِدِرْهَمْ، وَالْحَمَلُ بِأَرْبَعَةِ
دَوَانِقَ، وَيُنَادَى عَلَى لَحْمِ الْغَنَمِ كُلُّ سِتِّينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ،
وَلَحْمُ الْبَقَرِ كُلُّ تِسْعِينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ، وَالتَّمْرُ كُلُّ
سِتِّينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ، وَالزَّيْتُ كُلُّ
سِتَّةَ
عَشَرَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ، وَالسَّمْنُ كُلُّ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ،
وَالْعَسَلُ كُلُّ عَشَرَةِ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ.
وَلِهَذَا الْأَمْنِ وَالرُّخْصِ كَثُرَ سَاكِنُوهَا، وَعَظُمَ أَهْلُوهَا، حَتَّى
كَانَ الْمَارُّ فِيهَا لَا يَكَادُ يَجْتَازُ فِي الْأَسْوَاقِ; لِكَثْرَةِ
أَهْلِهَا. قَالَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ وَقَدْ رَجَعَ مِنَ السُّوقِ: طَالَمَا
طَرَدْتُ خَلْفَ الْأَرَانِبِ فِي هَذَا الْمَكَانِ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، أَنَّ الْمَنْصُورَ جَلَسَ يَوْمًا فِي
قَصْرِ الْإِمَارَةِ وَعِنْدَهُ بَعْضُ رُسُلِ الرُّومِ، فَسَمِعَ ضَجَّةً
عَظِيمَةً، ثُمَّ أُخْرَى، ثُمَّ أُخْرَى، فَقَالَ لِلرَّبِيعِ الْحَاجِبِ: مَا
هَذَا؟ فَكَشَفَ فَإِذَا بَقَرَةٌ قَدْ نَفَرَتْ مِنْ جَازِرِهَا هَارِبَةً فِي
الْأَسْوَاقِ، فَقَالَ الرُّومِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ بَنَيْتَ
بِنَاءً لَمْ يَبْنِهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ عُيُوبِ; بُعْدُهُ مِنَ
الْمَاءِ، وَقُرْبُ الْأَسْوَاقِ مِنْهُ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ خُضْرَةٌ،
وَالْعَيْنُ خَضِرَةٌ تُحِبُّ الْخُضْرَةَ. فَلَمْ يَرْفَعْ بِهَا الْمَنْصُورُ
رَأْسًا، ثُمَّ أَمَرَ بِتَغْيِيرِ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَسَاقَ إِلَيْهِ
الْمَاءَ، وَبَنَى عِنْدَهُ الْبَسَاتِينَ، وَحَوَّلَ الْأَسْوَاقَ مِنْ ثَمَّ
إِلَى الْكَرْخِ.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: كَمُلَ بِنَاءُ بَغْدَادَ فِي سَنَةِ سِتِّ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَفِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ حَوْلَ الْأَسْوَاقِ
إِلَى بَابِ الْكَرْخِ وَبَابِ الشَّعِيرِ وَبَابِ الْمُحَوَّلِ،
وَأَمَرَ
بِتَوْسِعَةِ الْأَسْوَاقِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا. وَبَعْدَ شَهْرٍ مِنْ ذَلِكَ
شَرَعَ فِي بِنَاءِ قَصْرِهِ الْمُسَمَّى بِالْخُلْدِ، فَكَمُلَ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي، وَجَعَلَ أَمْرَ ذَلِكَ إِلَى رَجُلٍ
يُقَالُ لَهُ: الْوَضَّاحُ، فَبَنَى قَصْرَ الْوَضَّاحِ، وَبَنِي لِلْعَامَّةِ
جَامِعًا لِصَلَاةِ الْجُمْعَةِ; لَا يَدْخُلُونَ إِلَى جَامِعِ مَدِينَةِ
الْمَنْصُورِ.
فَأَمَّا دَارُ الْخِلَافَةِ الَّتِي كَانَتْ بِبَغْدَادَ فَإِنَّهَا كَانَتْ
أَوَّلًا لِلْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، فَانْتَقَلَتْ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى ابْنَتِهِ
بَوَرَانَ الَّتِي كَانَ تَزَوَّجَهَا الْمَأْمُونُ، فَطَلَبَهَا مِنْهَا
الْمُعْتَضِدُ - وَقِيلَ: الْمُعْتَمِدُ - فَأَنْعَمَتْ لَهُ بِهَا،
وَاسْتَنْظَرَتْهُ أَيَّامًا حَتَّى تَنْتَقِلَ مِنْهَا، ثُمَّ شَرَعَتْ فِي
تَرْمِيمِهَا وَتَبْيِيضِهَا وَتَحْسِينِهَا، ثُمَّ فَرَشَتْهَا بِأَنْوَاعِ
الْفُرُشِ، وَعَلَّقَتْ فِيهَا أَنْوَاعَ السُّتُورِ، وَأَرْصَدَتْ فِيهَا مَا
يَنْبَغِي لِلْخَلِيفَةِ مِنَ الْجَوَارِي وَالْخَدَمِ، بِأَنْوَاعِ الْمَلَابِسِ،
وَجَعَلَتْ فِي الْخَزَائِنِ مَا يَنْبَغِي مِنْ أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ
وَالْمَآكِلِ، ثُمَّ بَعَثَتْ بِمَفَاتِيحِهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَهَا
وَجَدَ فِيهَا مَا أَرْصَدَتْهُ بِهَا، فَهَالَهُ ذَلِكَ وَاسْتَعْظَمَهُ جِدًّا،
فَكَانَ أَوَّلَ خَلِيفَةٍ سَكَنَهَا، وَبَنَى عَلَيْهَا سُورًا. ذَكَرَهُ
الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ.
وَأَمَّا التَّاجُ فَبَنَاهُ الْمُكْتَفِي عَلَى دِجْلَةَ، وَحَوْلَهُ الْقِبَابُ
وَالْمَجَالِسُ وَالْمَيْدَانُ وَالثُّرَيَّا وَحَيْرُ الْوُحُوشِ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ صِفَةَ دَارِ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي زَمَنِ
الْمُقْتَدِرِ
بِاللَّهِ،
وَمَا فِيهَا مِنَ الْفُرُشِ وَالسُّتُورِ وَالْخَدَمِ وَالْمَمَالِيكِ،
وَالْحِشْمَةِ الْبَاذِخَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ بِهَا أَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ
طَوَاشِيٍّ، وَسَبْعُمِائَةِ حَاجِبٍ، وَأَمَّا الْمَمَالِيكُ فَأُلُوفٌ لَا
يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي مَوْضِعِهِ بَعْدَ
سَنَةِ ثَلَاثِمِائَةٍ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ دَارَ الْمُلْكِ الَّتِي بِالْمُخَرَّمِ، وَذَكَرَ
الْجَوَامِعَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَاتُ، وَذَكَرَ الْأَنْهَارَ وَالْجُسُورَ
الَّتِي بِهَا، وَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ فِي زَمَنِ الْمَنْصُورِ، وَمَا أُحْدِثَ
بَعْدَهُ إِلَى زَمَانِهِ. وَأَنْشَدَ لِبَعْضِ الشُّعَرَاءِ فِي جُسُورِ
بَغْدَادَ الَّتِي عَلَى دِجْلَةَ:
يَوْمٌ سَرَقْنَا الْعَيْشَ فِيهِ خِلْسَةً فِي مَجْلِسٍ بِفِنَاءِ دِجْلَةَ
مُفْرَدِ
رَقَّ الْهَوَاءُ بِرِقَّةٍ قُدَّامَهُ فَغَدَوْتُ رِقًّا لِلزَّمَانِ الْمُسْعِدِ
فَكَأَنَّ دِجْلَةَ طَيْلَسَانٌ أَبْيَضُ وَالْجِسْرُ فِيهَا كَالطِّرَازِ
الْأَسْوَدِ
وَقَالَ آخَرُ:
أَيَا حَبَّذَا جِسْرٌ عَلَى مَتْنِ دِجْلَةٍ بِإِتْقَانِ تَأْسِيسٍ وَحُسْنٍ
وَرَوْنَقِ
جَمَالٌ وَحَسَنٌ لِلْعِرَاقِ وَنُزْهَةٌ وَسَلْوَةُ مَنْ أَضْنَاهُ فَرْطُ
التَّشَوُّقِ
تَرَاهُ
إِذَا مَا جِئْتَهُ مُتَأَمِّلًا كَسَطْرِ عَبِيرٍ خُطَّ فِي وَسْطِ مُهْرَقِ
أَوِ الْعَاجُ فِيهِ الْآبِنُوسُ مُرَقَّشٌ مِثَالُ فَيُولٍ تَحْتَهَا أَرْضُ
زِئْبَقِ
وَذَكَرَ الصُّولِيُّ قَالَ: ذَكَرَ أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي طَاهِرٍ فِي كِتَابِ
" بَغْدَادَ " أَنَّ ذَرْعَ بَغْدَادَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ ثَلَاثَةٌ
وَخَمْسُونَ أَلْفَ جَرِيبٍ وَسَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ جَرِيبًا، وَأَنَّ
الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ جَرِيبٍ وَسَبْعُمِائَةٍ
وَخَمْسُونَ جَرِيبًا، وَأَنَّ عَدَدَ حَمَّامَاتِهَا سِتُّونَ أَلْفَ حَمَّامٍ،
وَأَقَلُّ مَا فِي كُلِّ حَمَّامٍ مِنْهَا خَمْسَةُ نَفَرٍ حَمَّامِيٌّ وَقَيِّمٌ
وَزَبَّالٌ وَوَقَّادٌ وَسَقَّاءٌ، وَأَنَّ بِإِزَاءِ كُلِّ حَمَّامٍ خَمْسَةَ
مَسَاجِدَ، فَذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ مَسْجِدٍ، وَأَقَلُّ مَا يَكُونُ فِي
كُلِّ مَسْجِدٍ خَمْسَةُ أَنْفُسٍ. يَعْنِي إِمَامًا وَقِيَمًا وَمُؤَذِّنًا
وَمَأْمُومَيْنِ. ثُمَّ تَنَاقَصَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ دُثِرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ
حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا خَرِبَةٌ; صُورَةً وَمَعْنًى. عَلَى مَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: لَمْ يَكُنْ
لِبَغْدَادَ فِي الدُّنْيَا نَظِيرٌ فِي جَلَالَةِ قَدْرِهَا، وَفَخَامَةِ
أَمْرِهَا، وَكَثْرَةِ عُلَمَائِهَا وَأَعْلَامِهَا، وَتَمَيُّزِ خَوَاصِّهَا
وَعَوَامِّهَا، وَعِظَمِ أَقْطَارِهَا، وَسِعَةِ أَطْرَارِهَا، وَكَثْرَةِ
دُورِهَا وَمَنَازِلِهَا، وَدُرُوبِهَا وَشَوَارِعِهَا، وَمَحَالِّهَا
وَأَسْوَاقِهَا، وَسِكَكِهَا وَأَزِقَّتِهَا، وَمَسَاجِدِهَا، وَحَمَّامَاتِهَا،
وَخَانَاتِهَا، وَطِيبِ هَوَائِهَا، وَعُذُوبَةِ مَائِهَا، وَبَرْدِ ظِلَالِهَا
وَأَفْيَائِهَا،
وَاعْتِدَالِ
صَيْفِهَا وَشِتَائِهَا، وَصِحَّةِ رَبِيعِهَا وَخَرِيفِهَا، وَأَكْثَرُ مَا
كَانَتْ عِمَارَةً وَأَهْلًا فِي أَيَّامِ الرَّشِيدِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَنَاقُصَ
أَحْوَالِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَلُمَّ جَرَّا إِلَى زَمَانِهِ.
قُلْتُ: وَكَذَا مِنْ بَعْدِهِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، وَلَا سِيَّمَا فِي
أَيَّامِ هُولَاكُو بْنُ تَوْلَى بْنِ جِنْكِزْ خَانَ التُّرْكِيِّ الَّذِي وَضَعَ
مَعَالِمَهَا، وَقَتَلَ خَلِيفَتَهَا وَعَالِمَهَا، وَخَرَّبَ دُورَهَا، وَهَدَمَ
قُصُورَهَا، وَأَبَادَ الْخَوَاصَّ وَالْعَوَامَّ مِنْ أَهْلِهَا فِي ذَلِكَ
الْعَامِ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ وَالْحَوَاصِلَ، وَنَهَبَ الذَّرَارِيَّ
وَالْأَصَائِلَ، وَأَوْرَثَ بِهَا حُزْنًا يُعَدَّدُ بِهِ فِي الْبَكَرَاتِ
وَالْأَصَائِلِ، وَصَيَّرَهَا مُثْلَةً فِي الْأَقَالِيمِ، وَعِبْرَةً لِكُلِّ
مُعْتَبِرٍ عَلِيمٍ، وَتَذْكِرَةً لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ مُسْتَقِيمٍ، وَبُدِّلَتْ
بَعْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، بِالنَّغَمَاتِ وَالْأَلْحَانِ، وَإِنْشَادِ
الْأَشْعَارِ وَكَانَ وَكَانَ، وَبَعْدَ سَمَاعِ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ،
بِدَرْسِ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ، وَالْمَنَاهِجِ الْكَلَامِيَّةِ،
وَالتَّأْوِيلَاتِ الْقُرْمَطِيَّةِ، وَبَعْدَ الْعُلَمَاءِ بِالْحُكَمَاءِ،
وَبَعْدَ الْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ، بَشَرِّ الْوُلَاةِ مِنَ الْأَنَاسِيِّ،
وَبَعْدَ الرِّيَاسَةِ وَالنَّبَاهَةِ، بِالْخَسَاسَةِ وَالسَّفَاهَةِ، وَبَعْدَ
الْعُبَّادِ بِالْأَنْكَادِ، وَبَعْدَ الطَّلَبَةِ الْمُشْتَغِلِينَ،
بِالظَّلَمَةِ وَالْعَيَّارِينَ، وَبَعْدَ الِاشْتِغَالِ بِفُنُونِ الْعِلْمِ مِنَ
التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، بِالزَّجَلِ
وَالْمُوَشَّحِ وَدُوبِيتَ وَمَوَالِيَا، وَمَا أَصَابَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا
بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
وَالتَّحَوُّلُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ - لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ
الْمُنْكَرَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ - وَالِانْتِقَالُ عَنْهَا إِلَى
بِلَادِ الشَّامِ الَّذِي تَكَفَّلَ اللَّهُ بِأَهْلِهِ، أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ
وَأَجْمَلُ.
وَقَدْ
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مَسْنَدِهِ " عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
الْبَاهِلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَحَوَّلَ خِيَارُ
أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ، وَشِرَارُ أَهْلِ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ.
ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي ذِكْرِ مَدِينَةِ بَغْدَادَ مِنَ الْآثَارِ، وَالتَّنْبِيهُ
عَلَى ضَعْفِ مَا رُوِيَ فِيهَا مِنَ الْأَخْبَارِ
فِيهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ، بَغْدَادُ وَبَغْدَاذُ بِإِهْمَالِ الذَّالِ
الثَّانِيَةِ وَإِعْجَامِهَا، وَبَغْدَانُ بِالنُّونِ آخِرَهُ، وَبِالْمِيمِ مَعَ
ذَلِكَ أَوَّلًا مَغْدَانُ، وَهِيَ كَلِمَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ، قِيلَ: إِنَّهَا
مُرَكَّبَةٌ مِنْ بَغْ وَدَاذَ، فَقِيلَ: بَغْ بُسْتَانٌ، وَدَاذُ اسْمُ رَجُلٍ.
وَقِيلَ: بَغِ اسْمُ صَنَمٍ - وَقِيلَ: شَيْطَانٌ - وَدَاذُ: عَطِيَّةٌ. أَيْ
عَطِيَّةُ الصَّنَمِ، وَلِهَذَا كَرِهَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَالْأَصْمَعِيُّ
وَغَيْرُهُمَا تَسْمِيَتَهَا بَغْدَاذَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهَا: مَدِينَةُ
السَّلَامِ. وَكَذَا سَمَّاهَا بَانِيهَا أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ; لِأَنَّ
دِجْلَةَ كَانَ يُقَالُ لَهَا: وَادِي السَّلَامِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهَا
الزَّوْرَاءَ، وَهُوَ لَقَبٌ لَهَا.
فَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمَّارِ بْنِ سَيْفٍ - وَهُوَ
مُتَّهَمٌ - قَالَ:
سَمِعْتُ
عَاصِمًا الْأَحْوَلَ يُحَدِّثُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي
عُثْمَانَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تُبْنَى مَدِينَةٌ بَيْنَ دِجْلَةَ وَدُجَيْلٍ
وَقُطْرَبُّلَ وَالصَّرَاةِ; تُجْبَى إِلَيْهَا خَزَائِنُ الْأَرْضِ
وَجَبَابِرَتُهَا، لَهِيَ أَسْرَعُ ذَهَابًا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْوَتِدِ
الْحَدِيدِ فِي الْأَرْضِ الرَّخْوَةِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ سَيْفُ بْنُ مُحَمَّدٍ
ابْنُ أُخْتِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَهُوَ أَخُو عَمَّارِ بْنِ مُحَمَّدٍ -
قُلْتُ: وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ مُتَّهَمٌ يُرْمَى بِالْكَذِبِ - وَمُحَمَّدُ بْنُ
جَابِرٍ الْيَمَامِيُّ - وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا - وَأَبُو شِهَابٍ الْحِنَّاطُ،
وَرَوَى عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَاصِمٍ. ثُمَّ أَسْنَدَ ذَلِكَ
كُلَّهُ.
وَأَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، عَنْ يَحْيَى ابْنِ أَبِي
بُكَيْرٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَيْفٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَاصِمٍ،
عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ جَرِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ
لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مَا حَدَّثَ بِهِ إِنْسَانٌ ثِقَةٌ.
وَقَدْ عَلَّلَهُ الْخَطِيبُ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ، وَسَاقَهُ أَيْضًا مِنْ
طَرِيقِ
عَمَّارِ بْنِ سَيْفٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ حُمَيْدٍ
الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا. وَمِنْ طَرِيقِ عُمَرَ
بْنِ يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ
حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ، وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا. وَمِنْ غَيْرِ وَجْهٍ
عَنْ عَلِيِّ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَثَوْبَانَ وَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَفِي بَعْضِهَا ذِكْرُ السُّفْيَانِيِّ وَأَنَّهُ يُخَرِّبُهَا، وَلَا
يَصِحُّ إِسْنَادُ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ أَوْرَدَهَا
الْخَطِيبُ بِأَسَانِيدِهَا وَأَلْفَاظِهَا، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا نَكَارَةٌ،
وَأَقْرَبُ مَا فِي ذَلِكَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَقَدْ جَاءَ فِي آثَارٍ
عَنْ كُتُبٍ مُتَقَدِّمَةٍ أَنَّ بَانِيَهَا يُقَالُ لَهُ: مِقْلَاصٌ وَذُو
الدَّوَانِيقِ. وَقَدْ كَانَ الْمَنْصُورُ يُلَقَّبُ بِمِقْلَاصٍ فِي صِغَرِهِ،
وَلَمَّا وَلِيَ لُقِّبَ بِذِي الدَّوَانِيقِ; لِبُخْلِهِ.
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مَحَاسِنِ بَغْدَادَ وَمَا رُوِيَ فِيهَا عَنِ الْأَئِمَّةِ
النُّقَّادِ
قَالَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ الْمِصْرِيُّ: قَالَ لِي
الشَّافِعِيُّ: هَلْ رَأَيْتَ بَغْدَادَ؟ قُلْتُ: لَا. فَقَالَ: لَمْ تَرَ
الدُّنْيَا.
وَعَنِ
الشَّافِعِيِّ قَالَ: مَا دَخَلْتُ بَلَدًا قَطُّ إِلَّا عَدَدْتُهُ سَفَرًا،
إِلَّا بَغْدَادَ فَإِنِّي حِينَ دَخَلْتُهَا عَدَدْتُهَا وَطَنًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الدُّنْيَا بَادِيَةٌ، وَبَغْدَادُ حَاضِرَتُهَا.
وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ مِنْ أَهْلِ
بَغْدَادَ وَلَا أَحْسَنَ رَغْبَةً.
وَقَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: رَأَيْتُ أَبَا عَمْرٍو ابْنَ الْعَلَاءِ فِي النَّوْمِ
فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ لِي: دَعْنِي مِنْ هَذَا، مَنْ
أَقَامَ بِبَغْدَادَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَمَاتَ، نُقِلَ مِنْ
جَنَّةٍ إِلَى جَنَّةٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: الْإِسْلَامُ بِبَغْدَادَ، وَإِنَّهَا
لَصَيَّادَةٌ تَصِيدُ الرِّجَالَ، وَمَنْ لَمْ يَرَهَا لَمْ يَرَ الدُّنْيَا.
وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: بَغْدَادُ دَارُ دُنْيَا وَآخِرَةٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ يَوْمُ الْجُمْعَةِ بِبَغْدَادَ،
وَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ بِمَكَّةَ، وَيَوْمُ الْعِيدِ بِطَرَسُوسَ.
قَالَ
الْخَطِيبُ: مَنْ شَهِدَ الْجُمْعَةَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ عَظَّمَ اللَّهُ فِي
قَلْبِهِ مَحَلَّ الْإِسْلَامِ; لِأَنَّ مَشَايِخَنَا كَانُوا يَقُولُونَ: يَوْمُ
الْجُمْعَةِ بِبَغْدَادَ كَيَوْمِ الْعِيدِ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُنْتُ أُوَاظِبُ عَلَى الْجُمْعَةِ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ،
فَعَرَضَ لِي شُغْلٌ فَصَلَّيْتُ فِي غَيْرِهِ، فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ
قَائِلًا يَقُولُ لِي: تَرَكْتَ الصَّلَاةَ بِالْجَامِعِ وَإِنَّهُ لَيُصَلِّي
بِالْجَامِعِ كُلَّ جُمْعَةٍ سَبْعُونَ وَلِيًّا؟!
وَقَالَ آخَرُ: أَرَدْتُ الِانْتِقَالَ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى غَيْرِهَا،
فَرَأَيْتُ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لِي فِي الْمَنَامِ: أَتَنْتَقِلُ مِنْ
بَلَدٍ فِيهِ عَشَرَةُ آلَافِ وَلِيٍّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟!
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَتَيَا بَغْدَادَ فَقَالَ
أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اقْلِبْ بِهَا فَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَيْهَا.
فَقَالَ الْآخَرُ: كَيْفَ أَقْلِبُ بِبَلَدٍ خُتِمَ فِيهِ الْقُرْآنُ اللَّيْلَةَ
خَمْسَةَ آلَافِ خَتْمَةٍ؟!
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ مُوسَى قَالَ: إِذَا كَانَ عِلْمُ الرَّجُلِ حِجَازِيًّا، وَخُلُقُهُ
عِرَاقِيًّا، وَطَاعَتُهُ شَامِيَّةً فَقَدْ كَمُلَ.
وَقَالَتْ
زُبَيْدَةُ لِمَنْصُورٍ النَّمَرِيِّ: قُلْ شِعْرًا تُحَبِّبُ فِيهِ بَغْدَادَ
إِلَى الرَّشِيدِ، فَقَدِ اخْتَارَ سُكْنَى الرَّافِقَةِ. فَقَالَ:
مَاذَا بِبَغْدَادَ مِنْ طِيبِ الْأَفَانِينِ وَمِنْ مَنَازِلَ لِلدُّنْيَا وَلِلدِّينِ
تُحْيِي الرِّيَاحُ بِهَا الْمَرْضَى إِذَا نَسَمَتْ
وَجَوَّشَتْ بَيْنَ أَغْصَانِ الرَّيَاحِينِ
قَالَ: فَأَعْطَتْهُ أَلْفَيْ دِينَارٍ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: وَقَرَأْتُ فِي كِتَابِ طَاهِرِ بْنِ مُظَفَّرِ بْنِ طَاهِرٍ
الْخَازِنِ بِخَطِّهِ مِنْ شِعْرِهِ:
سَقَى اللَّهُ صَوْبَ الْغَادِيَاتِ مَحَلَّةً بِبَغْدَادَ بَيْنَ الْكَرْخِ
فَالْخُلْدِ فَالْجِسْرِ
هِيَ الْبَلْدَةُ الْحَسْنَاءُ خُصَّتْ لِأَهْلِهَا بِأَشْيَاءَ لَمْ يُجْمَعْنَ
مُذْ كُنَّ فِي مِصْرِ
هَوَاءٌ رَقِيقٌ فِي اعْتِدَالٍ وَصِحَّةٍ وَمَاءٌ لَهُ طَعْمٌ أَلَذُّ مِنَ
الْخَمْرِ
وَدِجْلَتُهَا شَطَّانِ قَدْ نُظِمَا لَنَا بِتَاجٍ إِلَى تَاجٍ وَقَصْرٍ إِلَى
قَصْرِ
ثَرَاهَا كَمِسْكٍ وَالْمِيَاهُ كَفِضَّةٍ وَحَصْبَاؤُهَا مِثْلُ الْيَوَاقِيتِ
وَالدُّرِّ
وَقَدْ أَوْرَدَ الْخَطِيبُ فِي هَذَا أَشْعَارًا كَثِيرَةً، وَفِيمَا ذَكَرْنَا
كِفَايَةٌ.
وَقَدْ كَانَ الْفَرَاغُ مِنْ بِنَاءِ بَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي
سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ
وَمِائَةٍ
- وَقِيلَ: فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ سُورَهَا
وَخَنْدَقَهَا كَمُلَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَلَمْ يَزَلِ
الْمَنْصُورُ يَزِيدُ فِيهَا، وَيَتَأَنَّقُ فِي بِنَائِهَا حَتَّى كَانَ آخَرَ
مَا بَنَى فِيهَا قَصْرُ الْخُلْدِ، فَعِنْدَ كَمَالِهِ تُوُفِّيَ، كَمَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْمَنْصُورُ سَلْمَ بْنَ
قُتَيْبَةَ عَنِ الْبَصْرَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ
عَلِيٍّ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَتَبَ إِلَى سَلْمٍ يَأْمُرُهُ بِهَدْمِ بُيُوتِ
الَّذِينَ بَايَعُوا إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، فَتَوَانَى
فِي ذَلِكَ فَعَزَلَهُ، وَبَعَثَ ابْنَ عَمِّهِ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ
عَلِيٍّ فَعَاثَ فِيهَا فَسَادًا، وَهَدَمَ دُورًا كَثِيرَةً، وَعَزَلَ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ الرَّبِيعِ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا جَعْفَرَ
بْنَ سُلَيْمَانَ، وَعَزَلَ عَنْ مَكَّةَ السَّرِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
وَوَلَّاهَا عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ.
قَالَ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَالَ: وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ جَعْفَرُ بْنُ
حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ: أَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ
الْكَلْبِيُّ، وَهُشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَيَزِيدُ ابْنُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي قَوْلٍ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا أَغَارَ إِسْتَرْخَانَ الْخَوَارِزْمِيُّ فِي جَيْشٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ
عَلَى نَاحِيَةِ أَرْمِينِيَّةَ، فَدَخَلُوا تَفْلِيسَ، وَقَتَلُوا خَلْقًا،
وَأَسَرُوا كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَمِمَّنْ قُتِلَ
يَوْمَئِذٍ حَرْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّاوَنْدِيُّ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ
الْحَرْبِيَّةُ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مُقِيمًا بِالْمَوْصِلِ فِي أَلْفَيْنِ
لِمُقَابَلَةِ الْخَوَارِجِ، فَسَيَّرَهُ الْمَنْصُورُ لِمُسَاعِدَةِ الْمُسْلِمِينَ
بِبِلَادِ أَرْمِينِيَّةَ، فَكَانَ فِي جَيْشِ جَبْرَئِيلَ بْنِ يَحْيَى، فَهُزِمَ
جَبْرَئِيلُ، وَقُتِلَ حَرْبٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ مَهْلِكُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ عَمِّ
الْمَنْصُورِ، الَّذِي أَخَذَ الشَّامَ، مِنْ أَيْدِي بَنِي أُمَيَّةَ، ثُمَّ
كَانَ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ السَّفَّاحُ، فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ أَبَا مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيَّ، فَهَزَمَهُ، وَهَرَبَ
عَبْدُ اللَّهِ إِلَى عِنْدِ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ بِالْبَصْرَةِ، فَاخْتَفَى
عِنْدَهُ مُدَّةً، ثُمَّ ظَهَرَ الْمَنْصُورُ عَلَى أَمْرِهِ، فَاسْتَدْعَاهُ
وَسَجَنَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَمَ الْمَنْصُورُ عَلَى
الْحَجِّ، فَطَلَبَ ابْنَ عَمِّهِ عِيسَى بْنَ مُوسَى - وَكَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ
مِنْ بَعْدِ الْمَنْصُورِ عَنْ وَصِيَّةِ السَّفَّاحِ - وَسَلَّمَ إِلَيْهِ
عَمَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا عَدُوِّي
وَعَدُوُّكَ، فَاقْتُلْهُ فِي غَيْبَتِي عَنْكَ وَلَا تَتَوَانَ. وَسَارَ
الْمَنْصُورُ إِلَى الْحَجِّ، وَجَعَلَ يَكْتُبُ إِلَيْهِ مِنَ الطَّرِيقِ
يَسْتَحِثُّهُ فِي ذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُ: مَاذَا صَنَعْتَ فِيمَا أَوْعَزْتُ
إِلَيْكَ فِيهِ؟ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.
وَأَمَّا عِيسَى بْنُ مُوسَى فَإِنَّهُ لَمَّا تَسَلَّمَ عَمَّهُ حَارَ فِي أَمْرِهِ، وَشَاوَرَ بَعْضَ أَهْلِهِ، فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ مِمَّنْ لَهُ رَأْيٌ أَنَّ الْمُصْلِحَةَ تَقْتَضِي أَنْ لَا تَقْتُلَهُ وَأَخْفِهِ عِنْدَكَ، وَأَظْهِرْ قَتْلَهُ; فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يُطَالِبَكَ بِهِ جَهْرَةً، فَتَقُولَ: قَتَلْتُهُ. فَيَأْمُرُ بِالْقَوْدِ، فَتَدَّعِي أَنَّهُ أَمَرَكَ بِقَتْلِهِ فِي السِّرِّ، فَتَعْجِزُ عَنْ إِثْبَاتِ ذَلِكَ فَيَقْتُلُكَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْمَنْصُورُ قَتْلَهُ وَقَتْلَكَ لِيَسْتَرِيحَ مِنْكُمَا مَعًا. فَتَبَصَّرَ عِيسَى بْنُ مُوسَى عِنْدَ ذَلِكَ، وَأَخْفَى عَمَّهُ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ الْمَنْصُورُ مِنَ الْحَجِّ أَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وَيَشْفَعُوا فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، فَجَاءُوا كُلُّهُمْ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَشَفَعُوا فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَلَحُّوا فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ، وَاسْتَدْعَى عِيسَى بْنَ مُوسَى وَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ شَفَعُوا عَلَيَّ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، وَقَدْ أَجَبْتُهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا، فَسَلِّمْهُ إِلَيْهِمْ. فَقَالَ عِيسَى: وَأَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ؟ ذَاكَ قَتَلْتُهُ مُنْذُ أَمَرْتَنِي. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: لَمْ آمُرْكَ بِذَلِكَ. وَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ مِنْهُ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ، فَأَحْضَرَ عِيسَى الْكُتُبَ بِاسْتِحْثَاثِهِ فِي ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ ذَلِكَ، وَصَمَّمَ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَصَمَّمَ عِيسَى بْنُ مُوسَى أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ، فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ عِنْدَ ذَلِكَ بِقَتْلِهِ قِصَاصًا بِعَبْدِ اللَّهِ، فَخَرَجَ بِهِ بَنُو هَاشِمٍ لِيَقْتُلُوهُ، فَلَمَّا جَاءُوا بِالسَّيْفِ قَالَ: رَدُّونِي إِلَى الْخَلِيفَةِ. فَرَدُّوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَمَّكَ حَاضِرٌ، وَلَمْ أَقْتُلْهُ. فَقَالَ: هَلُمَّ بِهِ. فَأَحْضُرُهُ، فَسُقِطَ فِي يَدِ الْخَلِيفَةِ، وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ فِي دَارٍ جُدْرَانُهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى مِلْحٍ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ أُرْسِلَ عَلَى جُدْرَانِهَا الْمَاءُ، فَسَقَطَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ، فَهَلَكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
إِنَّ الْمَنْصُورَ خَلَعَ عِيسَى بْنَ مُوسَى عَنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ،
وَقَدَّمَ عَلَيْهِ ابْنَهُ الْمَهْدِيَّ، فَكَانَ يُجْلِسُهُ فَوْقَ عِيسَى عَنْ
يَمِينِهِ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى،
وَيُهِينُهُ فِي الْإِذْنِ وَالْمَشُورَةِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِ وَالْخُرُوجِ
مِنْ عِنْدِهِ، بَعْدَ مَا كَانَ حَظِيًّا عِنْدَهُ قَبْلَ ذَلِكَ جِدًّا، ثُمَّ
مَا زَالَ يُقْصِيهِ وَيُبْعِدُهُ وَيَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ، حَتَّى خَلَعَ
نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ وَبَايَعَ لِمُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَنْصُورِ، وَأَعْطَاهُ
الْمَنْصُورُ عَلَى ذَلِكَ نَحْوًا مِنَ اثَّنَى عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ،
وَانْصَلَحَ أَمْرُ عِيسَى بْنِ مُوسَى وَبَنِيهِ عِنْدَ الْمَنْصُورِ، وَأَقْبَلَ
عَلَيْهِ بَعْدَمَا كَانَ قَدْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَكَانَ قَدْ جَرَتْ بَيْنَهُمَا
مُكَاتَبَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمُرَاوِضَاتٌ فِي تَمْهِيدِ الْبَيْعَةِ
لِابْنِهِ الْمَهْدِيِّ وَخَلْعِ عِيسَى نَفْسَهُ، وَأَنَّ الْعَامَّةَ لَا
يَعْدِلُونَ بِالْمَهْدِيِّ أَحَدًا، وَكَذَلِكَ الْأُمَرَاءُ وَالْخَوَاصُّ،
وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَجَابَ إِلَى ذَلِكَ مُكْرَهًا، فَعَوَّضَهُ عَنْ
ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا، وَسَارَتْ بَيْعَةُ الْمَهْدِيِّ فِي الْآفَاقِ شَرْقًا
وَغَرْبًا، وَبُعْدًا وَقُرْبًا، وَفَرِحَ الْمَنْصُورُ بِذَلِكَ فَرَحًا
شَدِيدًا، وَاسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ فِي ذُرِّيَّتِهِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا،
فَلَمْ يَكُنْ خَلِيفَةٌ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ إِلَّا مِنْ سُلَالَتِهِ، ذَلِكَ
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَهَاشِمُ بْنُ
هَاشِمٍ، وَهِشَامُ بْنُ حَسَّانَ صَاحِبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا بَعَثَ الْمَنْصُورُ حُمَيْدَ بْنَ قَحْطَبَةَ لِغَزْوِ التُّرْكِ
الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَاثُوا بِبِلَادِ تَفْلِيسَ، فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُمْ
أَحَدًا; لِأَنَّهُمُ انْشَمَرُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا
جَعْفَرٌ ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ. وَنُوَّابُ الْبِلَادِ فِيهَا هُمُ
الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَعْيَانِ، مِنْهُمْ; جَعْفَرُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ، الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ كِتَابُ " اخْتِلَاجِ
الْأَعْضَاءِ " وَهُوَ مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ
الْأَعْمَشُ أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا،
وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَالْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، وَالزُّبَيْدِيُّ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى،
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا فُرِغَ مِنْ بِنَاءِ سُورِ بَغْدَادَ وَخَنْدَقِهَا. وَفِيهَا غَزَا
الصَّائِفَةَ الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَدَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ وَمَعَهُ
الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ، وَمَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْأَشْعَثِ فِي الطَّرِيقِ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَوَلَّاهُ الْمَنْصُورُ عَلَى مَكَّةَ وَالْحِجَازِ
عِوَضًا عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَعُمَّالُ الْأَمْصَارِ
فِيهَا هُمُ الَّذِينَ فِيمَا قَبْلَهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَكَهَمْسُ بْنُ الْحَسَنِ،
وَالْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ أَبُو عُمَرَ الثَّقَفِيُّ
الْبَصْرِيُّ النَّحْوِيُّ شَيْخُ سِيبَوَيْهِ، يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ مَوَالِي
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَإِنَّمَا نَزَلَ فِي ثَقِيفٍ، فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ. كَانَ
إِمَامًا
كَبِيرًا جَلِيلًا فِي اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالْقِرَاءَاتِ، أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
إِسْحَاقَ، وَسَمِعَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ وَغَيْرُهُمْ، وَعَنْهُ الْخَلِيلُ
بْنُ أَحْمَدَ، وَالْأَصْمَعِيُّ، وَسِيبَوَيْهِ، وَلَزِمَهُ وَعُرِفَ بِهِ
وَانْتَفَعَ بِهِ، وَأَخَذَ كِتَابَهُ الَّذِي صَنَّفَهُ وَسَمَّاهُ "
الْجَامِعَ " فَزَادَ عَلَيْهِ وَبَسَطَهَ، فَهُوَ " كِتَابُ
سِيبَوَيْهِ " الْيَوْمَ، وَكَانَ يَسْأَلُ عَمَّا أَشْكَلَ فِيهِ عَلَيْهِ
شَيْخَهُ الْخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدَ، وَقَدْ سَأَلَ الْخَلِيلُ يَوْمًا سِيبَوَيْهِ
عَمَّا صَنَّفَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ فَقَالَ: جَمَعَ بِضْعًا وَسَبْعِينَ كِتَابًا،
ذَهَبَتْ كُلُّهَا إِلَّا كِتَابَهُ " الْإِكْمَالَ "، وَهُوَ بِأَرْضِ
فَارِسَ وَكِتَابَهُ " الْجَامِعَ "، وَهُوَ الَّذِي أَشْتَغِلُ فِيهِ
وَأَسْأَلُكَ عَنْ غَوَامِضِهِ. فَأَطْرَقَ الْخَلِيلُ سَاعَةً ثُمَّ أَنْشَدَ:
ذَهَبَ النَّحْوُ جَمِيعًا كُلُّهُ غَيْرَ مَا أَحْدَثَ عِيسَى بْنُ عُمَرْ ذَاكَ
إِكْمَالٌ وَهَذَا جَامِعٌ
وَهُمَا لِلنَّاسِ شَمْسٌ وَقَمَرْ
وَقَدْ كَانَ عِيسَى يُغْرِبُ وَيَتَقَعَّرُ فِي عِبَارَتِهِ جِدًّا، وَقَدْ حَكَى
الْجَوْهَرِيُّ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ سَقَطَ يَوْمًا عَنْ حِمَارِهِ،
فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ: مَا لَكُمْ تَكَأْكَأْتُمْ عَلَيَّ
تَكَأْكُؤَكُمْ عَلَى ذِي جِنَّةٍ؟! افْرَنْقِعُوا عَنِّي. مَعْنَاهُ: مَا لَكُمْ
تَجَمَّعْتُمْ عَلَيَّ تَجَمُّعَكُمْ عَلَى مَجْنُونٍ؟! انْكَشِفُوا عَنِّي.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ بِهِ ضِيقُ النَّفَسِ، فَسَقَطَ بِسَبَبِهِ، فَاعْتَقَدَ
النَّاسُ أَنَّهُ مَصْرُوعٌ، فَجَعَلُوا يُعَوِّذُونَهُ وَيَقْرَءُونَ عَلَيْهِ،
فَلَمَّا أَفَاقَ مِنْ غَشِيَتِهِ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ:
إِنَّ جِنِّيَّتَهُ تَتَكَلَّمُ بِالْفَارِسِيَّةِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّهُ كَانَ صَاحِبًا لِأَبِي عَمْرِو بْنِ
الْعَلَاءِ، وَأَنَّ عِيسَى بْنَ عُمَرَ قَالَ يَوْمًا لِأَبِي عَمْرِو بْنِ
الْعَلَاءِ: أَنَا أَفْصَحُ مِنْ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو
عَمْرٍو: كَيْفَ تُنْشِدُ هَذَا الْبَيْتَ:
قَدْ كُنْ يَخْبَأْنَ الْوُجُوهَ تَسَتُّرًا فَالْيَوْمَ حِينَ بَدَأْنَ
لِلنُّظَّارِ
أَوْ " بَدَيْنَ " ؟ فَقَالَ: بَدَيْنَ. فَقَالَ أَبُو عَمْرٍو:
أَخْطَأْتَ. وَلَوْ قَالَ: بَدَأْنَ. لَأَخْطَأَ أَيْضًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ
أَبُو عَمْرٍو تَغْلِيطَهُ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ: بَدَوْنَ، مِنْ بَدَا يَبْدُو
إِذَا ظَهَرَ. وَبَدَأَ يَبْدَأُ إِذَا شَرَعَ فِي الشَّيْءِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الْكَفَرَةِ يُقَالُ لَهُ: أُسْتَاذِسِيسُ. فِي بِلَادِ
خُرَاسَانَ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى أَكْثَرِهَا، وَالْتَفَّ مَعَهُ نَحْوُ
ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ، وَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُنَالِكَ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَهَزَمُوا الْجُيُوشَ الَّتِي فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، وَسَبَوْا
خَلْقًا، وَاسْتَحْكَمَ الْفَسَادُ بِسَبَبِهِمْ، وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُمْ،
فَوَجَّهَ الْمَنْصُورُ خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ إِلَى ابْنِهِ الْمَهْدِيِّ
لِيُوَلِّيَهُ حَرْبَ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَيَضُمَّ إِلَيْهِ مِنَ الْأَجْنَادِ
مَا يُقَاوِمُ أُولَئِكَ، فَنَهَضَ الْمَهْدِيُّ فِي ذَلِكَ نَهْضَةَ رَجُلٍ
هَاشِمِيٍّ، وَجَمَعَ لِخَازِمِ بْنِ خُزَيْمَةَ الْإِمْرَةَ عَلَى تِلْكَ
الْجُيُوشِ، وَبَعَثَهُ فِي نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ،
وَمَا زَالَ يُرَاوِغُهُمْ وَيُمَاكِرُهُمْ، وَيَعْمَلُ الْخَدِيعَةَ حَتَّى
فَاجَأَهُمْ بِالْحَرْبِ، وَوَاجَهَهُمْ بِالضَّرْبِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا
مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَأَسَرَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَهَرَبَ مَلِكُهُمْ
أُسَتَاذْسِيسُ، فَتَحَرَّزَ فِي جَبَلٍ، فَجَاءَ خَازِمٌ إِلَى تَحْتِ الْجَبَلِ،
وَقَتَلَ أُولَئِكَ الْأَسَارَى كُلَّهُمْ; ضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ
يُحَاصِرُهُ حَتَّى نَزَلَ عَلَى حُكْمِ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ، فَحَكَمَ أَنْ
يُقَيَّدَ بِالْحَدِيدِ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَأَنْ يُعْتَقَ مَنْ مَعَهُ مِنَ
الْأَجْنَادِ; وَكَانُوا ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَفَعَلَ خَازِمٌ ذَلِكَ كُلَّهُ،
وَأَطْلَقَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَ أُسْتَاذِسِيسَ ثَوْبَيْنِ،
وَكَتَبَ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْفَتْحِ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَكَتَبَ الْمَهْدِيُّ
بِذَلِكَ إِلَى أَبِيهِ الْمَنْصُورِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ جَعْفَرَ بْنَ
سُلَيْمَانَ، وَوَلَّاهَا الْحَسَنَ بْنَ
زَيْدِ
بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ عَمُّ الْخَلِيفَةِ.
وَتُوُفِّيَ فِيهَا جَعْفَرٌ ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورِ، وَدُفِنَ لَيْلًا بِمَقَابِرِ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ بَغْدَادَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ أَحَدُ
أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ السُّنَنَ.
وَعُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ.
ذِكْرُ تَرْجَمَتِهِ
هُوَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَاسْمُهُ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ
التَّيْمِيُّ، مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ،
فَقِيهُ
الْعِرَاقِ، وَأَحَدُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالسَّادَةِ الْأَعْلَامِ،
وَأَحَدُ أَرْكَانِ الْعُلَمَاءِ، وَأَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَصْحَابِ
الْمَذَاهِبِ الْمُتَّبَعَةِ، وَهُوَ أَقْدَمُهُمْ وَفَاةً; لِأَنَّهُ أَدْرَكَ
عَصْرَ الصَّحَابَةِ، وَرَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قِيلَ: وَغَيْرَهُ. وَذَكَرَ
بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رَوَى عَنْ سَبْعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أُنَيْسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيُّ، وَمَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، وَوَاثِلَةُ
بْنُ الْأَسْقَعِ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ عَجْرَدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَدْ
رُوِّينَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هَؤُلَاءِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، فِي
صِحَّتِهَا إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ نَظَرٌ; فَإِنَّ فِي الْإِسْنَادِ إِلَيْهِ مَنْ
لَا يُعْرَفُ، وَفِي مَتْنِ بَعْضِهَا نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَخْبَرَنَا شَيْخُنَا الرُّحْلَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْحَجَّارُ، عَنِ
الزُّبَيْدِيِّ، وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْمُبَارَكِ الْبَغْدَادِيُّ، عَنْ
وَالِدِهِ، عَنْ أَبِي الْمَكَارِمِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ
الشِّعْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْخَطِيبِ أَبِي الْحَسَنِ
عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، عَنِ الْقَاضِي أَبِي سَعِيدٍ صَاعِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ،
عَنْ أَبِي مَالِكٍ نَصْرَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ الْبَلْخِيِّ، عَنِ الْحُسَيْنِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْعِيَانِيِّ، عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ عَلِيٍّ بْنِ
الْخَطِيبِ، عَنْ أَبِي الْحَصِرِ عَلِيِّ بْنِ بَدْرٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ
الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ
قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. خَالِصًا مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ
الْجَنَّةَ، وَلَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ
كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ; تَغْدُو خِمَاصًا وَتَعُودُ بِطَانًا.
وَعَنْ جَابِرٍ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ
وَمُسْلِمَةٍ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ مَرْفُوعًا: رَأَيْتُ فِي عَارِضَتَيِ
الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا ثَلَاثَةُ أَسْطُرٍ بِالذَّهَبِ الْأَحْمَرِ، لَا بِمَاءِ
الذَّهَبِ; السَّطْرُ الْأَوَّلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ. الثَّانِي: الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، فَأَرْشَدَ
اللَّهُ الْأَئِمَّةَ وَغَفَرَ لِلْمُؤَذِّنِينَ. الثَّالِثُ: وَجَدْنَا مَا
عَمِلْنَا، رَبِحْنَا مَا قَدَّمْنَا، خَسِرْنَا مَا خَلَّفْنَا، قَدِمْنَا عَلَى
رَبٍّ غَفُورٍ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: حُبُّكَ لِلشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ،
وَالدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِغَاثَةَ
الْمَلْهُوفِ. وَفِي لَفْظٍ: " اللَّهْفَانِ ".
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ مَرْفُوعًا: إِغَاثَةُ
الْمَلْهُوفِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَمَنْ تَفَقَّهَ فِي دِينِ اللَّهِ
كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّهُ، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ.
وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ مَرْفُوعًا: عَلَامَةُ الْمُؤْمِنِ ثَلَاثٌ; إِذَا
قَالَ صَدَقَ، وَإِذَا وَعَدَ وَفَى، وَإِذَا حَدَّثَ لَمْ يَخُنْ.
وَعَنْ وَاثِلَةَ مَرْفُوعًا: لَا يَظْنُنَّ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إِلَى
اللَّهِ بِأَقْرَبَ مِنْ هَذِهِ الرَّكَعَاتِ. يَعْنِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ.
وَعَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ عَجْرَدٍ مَرْفُوعًا: الْجَرَادُ أَكْثَرُ جُنُودِ
اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، لَا آكُلُهُ.
وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ; الْحَكَمُ، وَحَمَّادُ بْنُ
أَبِي سُلَيْمَانَ،
وَسَلَمَةُ
بْنُ كُهَيْلٍ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ،
وَالزُّهْرِيُّ، وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ.
وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ; ابْنُهُ حَمَّادٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ
طَهْمَانَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ، وَأَسَدُ بْنُ عَمْرٍو
الْقَاضِي، وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ، وَحَمْزَةُ الزَّيَّاتُ،
وَدَاوُدُ الطَّائِيُّ، وَزُفَرُ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، وَهُشَيْمٌ، وَوَكِيعٌ، وَأَبُو
يُوسُفَ الْقَاضِي.
قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَانَ ثِقَةً، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ، وَلَمْ
يُتَّهَمْ بِالْكَذِبِ، وَلَقَدْ ضَرَبَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ عَلَى الْقَضَاءِ
فَأَبَى أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا. قَالَ: وَقَدْ كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يَخْتَارُ
قَوْلَهُ فِي الْفَتْوَى، وَكَانَ يَحْيَى يَقُولُ: لَا نَكْذِبُ اللَّهَ، مَا
سَمِعْنَا أَحْسَنَ مِنْ رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ أَخَذَ بِأَكْثَرِ
أَقْوَالِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَغَاثَنِي
بِأَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ لَكُنْتُ كَسَائِرِ النَّاسِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ: رَأَيْتُ رَجُلًا لَوْ كَلَّمَكَ فِي هَذِهِ
السَّارِيَةِ أَنْ يَجْعَلَهَا ذَهَبًا لَقَامَ بِحُجَّتِهِ.
وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ: مَنْ أَرَادَ الْفِقْهَ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ،
وَمَنْ أَرَادَ السِّيرَةَ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَمَنْ
أَرَادَ الْحَدِيثَ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مَالِكٍ، وَمَنْ أَرَادَ التَّفْسِيرَ
فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيُّ: يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ
يَدْعُوا فِي صَلَاتِهِمْ لِأَبِي حَنِيفَةَ; لِحِفْظِهِ الْفِقْهَ وَالسُّنَنَ
عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: كَانَ أَبُو
حَنِيفَةَ أَفْقَهَ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي زَمَانِهِ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: كَانَ صَاحِبَ غَوْصٍ فِي الْمَسَائِلِ.
وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: كَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ الْأَرْضِ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ
أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يُصَلِّي فِي اللَّيْلِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ
لَيْلَةٍ، وَيَبْكِي حَتَّى يَرْحَمَهُ جِيرَانُهُ، وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً
يُصَلِّي الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ، وَأَنَّهُ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي
الْمَوْضِعِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ سَبْعَةَ آلَافِ مَرَّةٍ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ
خَمْسِينَ
وَمِائَةٍ - وَعَنِ ابْنِ مَعِينَ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ، فَتَمَّ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ سَبْعُونَ
سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِبَغْدَادَ سِتَّ مَرَّاتٍ; لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ،
وَقَبْرُهُ هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ الْمَنْصُورُ عُمَرَ بْنَ حَفْصٍ عَنِ السِّنْدِ،
وَوَلَّى عَلَيْهَا هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو التَّغْلِبِيَّ، وَكَانَ سَبَبَ عَزْلِهِ
عُمَرَ بْنَ حَفْصٍ عَنْ السِّنْدِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَسَنٍ لَمَّا ظَهَرَ كَانَ بَعَثَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ الْمُلَقَّبَ
بِالْأَشْتَرِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ بِهَدِيَّةٍ; خُيُولٍ عِتَاقٍ إِلَى عُمَرَ بْنِ
حَفْصٍ بِالسِّنْدِ، فَقَبِلَهَا، فَدَعَوْهُ إِلَى دَعْوَةِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ فِي السِّرِّ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَبَايَعَ
لَهُ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنَ الْأُمَرَاءِ سِرًّا، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ
أَيْضًا، وَلَبِسُوا الْبَيَاضَ. فَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ بِمَقْتَلِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ بِالْمَدِينَةِ أُسْقِطَ فِي يَدِ عُمَرَ بْنِ
حَفْصٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَخَذَ فِي الِاعْتِذَارِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: إِنِّي أَخْشَى عَلَى نَفْسِي. فَقَالَ:
إِنِّي سَأَبْعَثُكَ إِلَى مَلِكٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي جِوَارِ أَرْضِنَا،
وَإِنَّهُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّهُ مَتَى عَرَفَكَ أَنَّكَ مِنْ سُلَالَتِهِ
أَحَبَّكَ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَصَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ، فَكَانَ عِنْدَهُ آمِنًا، وَصَارَ عَبْدُ اللَّهِ
يَرْكَبُ فِي مَوْكِبٍ مِنَ النَّاسِ، وَيَتَصَيَّدُ فِي جَحْفَلٍ مِنَ
الْجُنُودِ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ وَوَفَدَ عَلَيْهِ طَوَائِفُ مِنَ
الزَّيْدِيَّةِ.
وَأَمَّا الْمَنْصُورُ فَإِنَّهُ بَعَثَ يَعْتِبُ عَلَى عُمَرَ بْنِ حَفْصِ
نَائِبِ السِّنْدِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ: ابْعَثْنِي إِلَيْهِ،
وَاجْعَلِ الْقَضِيَّةَ مُسْنَدَةً إِلَيَّ، فَإِنِّي سَأَعْتَذِرُ إِلَيْهِ مِنْ
ذَلِكَ،
فَإِنْ
سَلِمْتُ وَإِلَّا كُنْتُ فِدَاءَكَ وَفِدَاءَ مَنْ عِنْدَكَ مِنَ الْأُمَرَاءِ.
فَأَرْسَلَهُ سَفِيرًا فِي الْقَضِيَّةِ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ
أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ بِعَزْلِهِ عَنِ
السَّنَدِ، وَوَلَّاهُ بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ عِوَضًا عَنْ أَمِيرِهَا. وَلَمَّا
وَجَّهَ الْمَنْصُورُ هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو إِلَى السِّنْدِ أَمَرَهُ أَنْ
يَجْتَهِدَ فِي تَحْصِيلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَجَعَلَ يَتَوَانَى فِي
ذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ يَسْتَحِثُّهُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ اتَّفَقَ
أَنَّ سَفَنَّجًا أَخَا هِشَامِ بْنِ عَمْرٍو لَقِيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
مُحَمَّدٍ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ، فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ
وَأَصْحَابُهُ جَمِيعًا، وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَكَانُهُ فِي الْقَتْلَى، فَلَمْ
يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. فَكَتَبَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى الْمَنْصُورِ
يُعْلِمُهُ بِقَتْلِهِ، فَبَعَثَ يَشْكُرُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَأْمُرُهُ بِقِتَالِ الْمَلِكِ
الَّذِي آوَاهُ، وَيُعْلِمُهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ قَدْ تَسَرَّى
بِجَارِيَةٍ هُنَالِكَ، وَأَوْلَدَهَا وَلَدًا أَسْمَاهُ مُحَمَّدًا، فَإِذَا
ظَفِرْتَ بِالْمَلِكِ فَاحْتَفِظْ بِالْغُلَامِ. فَنَهَضَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو
إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ، فَقَاتَلَهُ فَغَلَبَهُ وَقَهَرَهُ عَلَى بِلَادِهِ
وَأَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَبَعَثَ بِالْفَتْحِ وَالْأَخْمَاسِ وَبِذَلِكَ
الْغُلَامِ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَفَرِحَ الْمَنْصُورُ بِذَلِكَ، وَبَعَثَ
بِذَلِكَ الْغُلَامِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَتَبَ إِلَى نَائِبِهَا يُعْلِمُهُ
بِصِحَّةِ نَسَبِهِ، وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يُلْحِقَهُ بِأَهْلِهِ يَكُونُ
عِنْدَهُمْ لِئَلَّا يَضِيعَ نَسَبُهُ، فَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أَبُو
الْحَسَنِ ابْنُ الْأَشْتَرِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ الْمَهْدِيُّ عَلَى أَبِيهِ مِنْ بِلَادِ
خُرَاسَانَ، فَتَلَقَّاهُ أَبُوهُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْأَكَابِرُ إِلَى أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ، وَقَدِمَ نُوَّابُ الْبِلَادِ مِنَ الشَّامِ وَغَيْرِهَا لِلسَّلَامِ
عَلَيْهِ وَتَهْنِئَتِهِ بِالسَّلَامَةِ وَالنَّصْرِ.
بِنَاءُ
الرُّصَافَةِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمُبَارَكَةِ شَرَعَ الْمَنْصُورُ
فِي بِنَاءِ الرُّصَافَةِ لِابْنِهِ الْمَهْدِيِّ بَعْدَ مَقْدِمِهِ مِنْ
خُرَاسَانَ، وَالرُّصَافَةُ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ، وَجَعَلَ
لَهَا سُورًا وَخَنْدَقًا، وَعَمِلَ عِنْدَهَا مَيْدَانًا وَبُسْتَانًا، وَأَجْرَى
إِلَيْهَا الْمَاءَ مِنْ نَهْرِ الْمَهْدِيِّ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا جَدَّدَ الْمَنْصُورُ لِنَفْسِهِ الْبَيْعَةَ،
وَلِوَلَدِهِ الْمَهْدِيِّ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِعِيسَى بْنِ مُوسَى مِنْ
بَعْدِهِمَا، وَجَاءَ الْأُمَرَاءُ وَالْخَوَاصُّ فَبَايَعُوا وَجَعَلُوا
يُقَبِّلُونَ يَدَ الْمَنْصُورِ وَيَدَ ابْنِهِ الْمَهْدِيِّ، وَيَلْمَسُونَ يَدَ
عِيسَى بْنِ مُوسَى، وَيُشِيرُونَ بِالتَّقْبِيلِ إِلَيْهَا وَلَا
يُقَبِّلُونَهَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَوَلَّى الْمَنْصُورُ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ سِجِسْتَانَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ، وَهُوَ نَائِبُ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ الْحَسَنُ
بْنُ زَيْدٍ، وَعَلَى الْكُوفَةِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ
جَابِرُ بْنُ تَوْبَةَ الْكِلَابِيُّ، وَعَلَى مِصْرَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ.
وَنَائِبُ خُرَاسَانَ
حُمَيْدُ
بْنُ قَحْطَبَةَ، وَنَائِبُ سِجْسْتَانَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ مُحَمَّدٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، صَاحِبُ
" السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ " الَّتِي جَمَعَهَا فَجَعَلَهَا عِلْمًا
يُهْتَدَى بِهِ، وَفَجْرًا يُسْتَجْلَى بِهِ، وَالنَّاسَ كُلُّهُمْ عِيَالٌ
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ
وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ عَنْ إِمْرَةِ مِصْرَ يَزِيدَ بْنَ حَاتِمٍ،
وَوَلَّاهَا مُحَمَّدَ بْنَ سَعِيدٍ، وَبَعَثَ إِلَى نَائِبِ إِفْرِيقِيَّةَ،
وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّهُ عَصَى وَخَالَفَ، فَلَمَّا جِيءَ بِهِ أَمَرَ
بِضَرْبِ عُنُقِهِ. وَعَزَلَ عَنِ الْبَصْرَةِ جَابِرَ بْنَ تَوْبَةَ
الْكِلَابِيَّ، وَوَلَّاهَا يَزِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ.
وَفِيهَا قَتَلَتِ الْخَوَارِجُ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ بِسِجِسْتَانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ
الْأَيْلِيُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَضِبَ الْمَنْصُورُ عَلَى كَاتِبِهِ أَبِي أَيُّوبَ الْمُورِيَانِيِّ
وَسَجَنَهُ، وَسَجَنَ أَخَاهُ خَالِدًا وَبَنِي أَخِيهِ الْأَرْبَعَةَ; سَعِيدًا
وَمَسْعُودًا وَمَخْلَدًا وَمُحَمَّدًا، وَطَالَبَهُمْ بِالْأَمْوَالِ
الْكَثِيرَةِ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي
تَرْجَمَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ
شَبِيبَتِهِ قَدْ وَرَدَ الْمَوْصِلَ وَهُوَ فَقِيرٌ لَا شَيْءَ لَهُ، وَلَا
مَعَهُ، فَأَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ بَعْضِ الْمَلَّاحِينَ حَتَّى اكْتَسَبَ شَيْئًا
تَزَوَّجَ بِهِ امْرَأَةً، ثُمَّ جَعَلَ يَعِدُهَا وَيُمَنِّيهَا أَنَّهُ مِنْ
بَيْتٍ سَيَصِيرُ إِلَيْهِمُ الْمْلُكُ سَرِيعًا، فَاتَّفَقَ حَبَلُهَا مِنْهُ،
ثُمَّ تَطَلَّبَهُ بَنُو أُمَيَّةَ، فَهَرَبَ عَنْهَا، وَتَرَكَهَا حَامِلًا،
وَوَضَعَ عِنْدَهَا رُقْعَةً فِيهَا نَسَبُهُ; أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَرَهَا إِذَا
بَلَغَهَا أَمْرُهُ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَإِذَا وَلَدَتْ غُلَامًا أَنْ تُسَمِّيَهُ
جَعْفَرًا، فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَسَمَّتْهُ جَعْفَرًا، وَنَشَأَ الْغُلَامُ
فَتَعَلَّمَ الْكِتَابَةَ، وَغَوَى الْعَرَبِيَّةَ وَالْأَدَبَ، وَأَتْقَنَ ذَلِكَ
إِتْقَانًا جَيِّدًا، ثُمَّ آلَ الْأَمْرُ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ، فَسَأَلَتْ
عَنِ السِّفَاحِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ صَاحِبَهَا، ثُمَّ قَامَ الْمَنْصُورُ،
وَسَافَرَ الْوَلَدُ إِلَى بَغْدَادَ فَاخْتَلَطَ بِكُتَّابِ الرَّسَائِلِ،
فَأُعْجِبَ بِهِ أَبُو أَيُّوبَ الْمُورِيَانِيِّ صَاحِبُ دِيوَانِ الْإِنْشَاءِ
لِلْمَنْصُورِ، وَحَظِيَ عِنْدَهُ وَقَدَّمَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَاتَّفَقَ
حُضُورُهُ مَعَهُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، فَجَعَلَ الْخَلِيفَةُ يُلَاحِظُهُ،
ثُمَّ بَعَثَ يَوْمًا الْخَادِمَ لِيَأْتِيَهُ
بِكَاتِبٍ،
فَدَخَلَ وَمَعَهُ ذَلِكَ الْغُلَامُ، فَكَتَبَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ
كِتَابًا، وَجَعَلَ الْخَلِيفَةُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَتَأَمَّلُهُ، ثُمَّ
سَأَلَهُ عَنِ اسْمِهِ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ جَعْفَرٌ، فَقَالَ: ابْنُ مَنْ؟
فَسَكَتَ الْغُلَامُ، فَقَالَ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مِنْ خَبَرِي كَيْتَ وَكَيْتَ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ
الْخَلِيفَةِ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ أُمِّهِ فَأَخْبَرَهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ
أَحْوَالِ بَلَدِ الْمَوْصِلِ، فَجَعَلَ يُخْبِرُهُ وَالْغُلَامُ يَتَعَجَّبُ،
ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ، فَاحْتَضَنَهُ وَقَالَ: أَنْتَ ابْنِي. ثُمَّ
بَعَثَهُ بِعِقْدٍ ثَمِينٍ وَمَالٍ جَزِيلٍ وَكِتَابٍ إِلَى أُمِّهِ يُعْلِمُهَا
بِحَقِيقَةِ حَالِ الزَّوْجِ.
وَخَرَجَ الْغُلَامُ وَمَعَهُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ سِرِّ الْخَلِيفَةِ، فَأَحْرَزَ
ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ، فَقَالَ: مَا أَبْطَأَ بِكَ عِنْدَ
الْخَلِيفَةِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ اسْتَكْتَبَنِي فِي رَسَائِلَ كَثِيرَةٍ. ثُمَّ تَقَاوَلَا،
ثُمَّ فَارَقَهُ الْغُلَامُ مُغْضَبًا، وَنَهَضَ مِنْ فَوْرِهِ، فَاسْتَأْجَرَ
إِلَى الْمَوْصِلِ لِيُعْلِمَ أُمَّهُ، وَيَحْمِلَهَا وَأَهْلَهَا إِلَى بَغْدَادَ
إِلَى مَكَانٍ مِنْهَا أَمَرَ بِهِ الْخَلِيفَةُ. فَسَارَ مَرَاحِلَ، ثُمَّ سَأَلَ
عَنْهُ أَبُو أَيُّوبَ، فَقِيلَ: سَافَرَ. فَظَنَّ أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ هَذَا
قَدْ أَفْشَى شَيْئًا مِنْ أَسْرَارِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَفَرَّ مِنْهُ،
فَبَعَثَ فِي طَلَبِهِ رَسُولًا وَقَالَ: حَيْثُ وَجَدْتَهُ فَرُدَّهُ عَلَيَّ.
فَسَارَ الرَّسُولُ فِي طَلَبِهِ، فَوَجَدَهُ فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ، فَخَنَقَهُ
وَأَلْقَاهُ فِي بِئْرٍ، وَأَخَذَ مَا كَانَ مَعَهُ، فَرَجَعَ بِهِ إِلَى أَبِي
أَيُّوبَ، فَلَمَّا وَقَفَ أَبُو أَيُّوبَ عَلَى الْكِتَابِ أُسْقِطَ فِي يَدِهِ،
وَنَدِمَ عَلَى بَعْثِهِ خَلْفَهُ، وَانْتَظَرَ الْخَلِيفَةُ عَوْدَ وَلَدِهِ
إِلَيْهِ وَاسْتَبْطَأَهُ، فَبَعَثَ مَنْ كَشَفَ خَبَرَهُ، فَإِذَا رَسُولُ أَبِي
أَيُّوبَ قَدْ لَحِقَهُ وَقَتَلَهُ، فَحِينَئِذٍ اسْتَحْضَرَ أَبَا أَيُّوبَ،
وَأَلْزَمَهُ بِأَمْوَالٍ عَظِيمَةٍ، وَمَا زَالَ تَحْتَ الْعُقُوبَةِ حَتَّى
اسْتَصْفَى جَمِيعَ أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، ثُمَّ قَتَلَهُ، وَقَالَ: هَذَا
قَتَلَ حَبِيبِي. وَكَانَ الْمَنْصُورُ كُلَّمَا ذَكَرَ وَلَدَهُ حَزِنَ عَلَيْهِ
حُزْنًا شَدِيدًا.
وَفِيهَا
خَرَجَتِ الْخَوَارِجُ مِنَ الصُّفْرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ بِبِلَادِ
إِفْرِيقِيَّةَ، فَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفًا،
مَا بَيْنَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، وَعَلَيْهِمْ أَبُو حَاتِمٍ الْإِبَاضِيُّ، وَأَبُو
عَادٍ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِمْ أَبُو قُرَّةَ الصُّفْرِيُّ فِي أَرْبَعِينَ
أَلْفًا، فَقَاتَلُوا نَائِبَ إِفْرِيقِيَّةَ، فَهَزَمُوا جَيْشَهُ وَقَتَلُوهُ،
وَهُوَ عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عُثْمَانَ ابْنِ أَبِي صُفْرَةَ الَّذِي كَانَ
نَائِبَ السِّنْدِ فَعَزَلَهُ الْمَنْصُورُ عَنْهَا بِسَبَبِ مُبَايَعَتِهِ
مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، وَوَلَّاهُ هَذِهِ الْبِلَادَ فَقَتَلَتْهُ
الْخَوَارِجُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَكْثَرَتِ الْخَوَارِجُ الْفَسَادَ فِي
الْبِلَادِ، وَقَتَلُوا الْحَرِيمَ وَالْأَوْلَادَ، وَآذَوْا عَامَّةَ الْعِبَادِ.
وَفِيهَا أَلْزَمَ الْمَنْصُورُ النَّاسَ بِلَبْسِ قَلَانِسَ سُودٍ طِوَالٍ
جِدًّا، حَتَّى كَانُوا يَسْتَعِينُونَ عَلَى رَفْعِهَا مِنْ دَاخِلِهَا
بِالْقَصَبِ، فَقَالَ أَبُو دُلَامَةَ الشَّاعِرُ فِي ذَلِكَ:
وَكُنَّا نُرَجِّي مِنْ إِمَامٍ زِيَادَةً فَزَادَ الْإِمَامُ الْمُصْطَفَى فِي
الْقَلَانِسِ تَرَاهَا عَلَى هَامِ الرِّجَالِ كَأَنَّهَا
دِنَانُ يَهُودٍ جُلِّلَتْ بِالْبَرَانِسِ
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مَعْيُوفُ بْنُ يَحْيَى الْحُجُورِيُّ، فَأَسَرَ
خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الرُّومِ مَا يُنَيِّفُ عَلَى سِتَّةِ آلَافِ أَسِيرٍ،
وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْمَهْدِيُّ ابْنُ الْمَنْصُورِ. وَكَانَ عَلَى نِيَابَةِ
مَكَّةَ وَالطَّائِفِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ
الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ،، وَعَلَى الْكُوفَةِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَلَى
الْبَصْرَةِ يَزِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَلَى مِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ.
وَذَكَرَ
الْوَاقِدِيُّ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ كَانَ وَلَّاهُ الْمَنْصُورُ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ الْيَمَنَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبَانُ بْنُ صَمْعَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ،
وَثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ الْحِمْصِيُّ، وَالْحُسْنُ بْنُ عُمَارَةَ، وَفِطْرُ بْنُ
خَلِيفَةَ، وَمَعْمَرٌ، وَهِشَامُ بْنُ الْغَازِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ الْمَنْصُورُ بِلَادَ الشَّامِ، وَزَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ،
وَجَهَّزَ يَزِيدَ بْنَ حَاتِمٍ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا، وَوَلَّاهُ بِلَادَ
إِفْرِيقِيَّةَ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَأَنْفَقَ عَلَى هَذَا
الْجَيْشِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ زُفَرُ بْنُ عَاصِمٍ الْهِلَالِيُّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ.
وَنُوَّابُ الْأَقَالِيمِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى
الْبَصْرَةِ فَعَلَيْهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ ظَبْيَانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو أَيُّوبَ الْمُورِيَانِيُّ الْكَاتِبُ وَأَخُوهُ
خَالِدٌ، فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ فِي بَنِي أَخِيهِ أَنْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ، ثُمَّ تُضْرَبَ بَعْدَ ذَلِكَ أَعْنَاقُهُمْ، فَفُعِلَ ذَلِكَ.
أَشْعَبُ الطَّامِعُ
، هُوَ ابْنُ جُبَيْرٍ أَبُو الْعَلَاءِ، وَيُقَالُ: أَبُو إِسْحَاقَ الْمَدَنِيُّ.
وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ أُمِّ حُمَيْدَةَ. وَكَانَ أَبُوهُ مَوْلًى لِابْنِ
الزُّبَيْرِ، قَتَلَهُ الْمُخْتَارُ، وَهُوَ خَالُ الْوَاقِدِيِّ.
رَوَى
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي الْيَمِينِ. وَرَوَى عَنْ أَبَانِ بْنِ
عُثْمَانِ، وَسَالِمٍ، وَعِكْرِمَةَ.
وَكَانَ ظَرِيفًا مَاجِنًا يُحِبُّهُ أَهْلُ زَمَانِهِ لِخَلَاعَتِهِ وَطَمَعِهِ،
وَكَانَ يُجِيدُ الْغِنَاءَ.
وَقَدْ وَفَدَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ دِمَشْقَ. فَتَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ
بِتَرْجَمَةٍ فِيهَا أَشْيَاءُ مُضْحِكَةٌ، وَأَسْنَدَ عَنْهُ حَدِيثِينَ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ يَوْمًا أَنْ يُحَدِّثَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي
عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: خَصْلَتَانِ مَنْ عَمِلَ بِهِمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ثُمَّ
سَكَتَ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا هُمَا؟ فَقَالَ: نَسِيَ عِكْرِمَةُ الْوَاحِدَةَ،
وَنَسِيتُ أَنَا الْأُخْرَى.
وَكَانَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَسْتَخِفُّهُ وَيَسْتَخْلِيهِ،
وَيَضْحَكُ مِنْهُ، وَيَأْخُذُهُ مَعَهُ إِلَى الْغَابَةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ
غَيْرُهُ مِنْ أَكَابِرِ النَّاسِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَبَثَ الْوُلْدَانُ يَوْمًا بِأَشْعَبَ، فَقَالَ: إِنَّ
هَاهُنَا أُنَاسًا يُفَرِّقُونَ الْجَوْزَ. فَتَسَارَعُوا إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا
رَآهُمْ مُسْرِعِينَ قَالَ: لَعَلَّهُ حَقٌّ. فَتَبِعَهُمْ.
وَقَالَ
لَهُ بَعْضُهُمْ: مَا بَلَغَ مِنْ طَمَعِكَ؟ فَقَالَ. مَا زُفَّتْ عَرُوسٌ
بِالْمَدِينَةِ إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ تُزَفَّ إِلَيَّ فَكَسَحْتُ دَارِي
وَنَظَّفَتْ ثِيَابِي.
وَاجْتَازَ يَوْمًا بِرَجُلٍ يَصْنَعُ طَبَقًا مِنْ قَشٍّ، فَقَالَ: زِدْ فِيهِ
طَوْرًا أَوْ طَوْرَيْنِ لَعَلَّهُ يُهْدَى لَنَا فِيهِ يَوْمًا هَدِيَّةٌ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ أَشْعَبَ غَنَّى يَوْمًا لِسَالِمِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَوْلَ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ:
مُغِيرِيَّةٌ كَالْبَدْرِ سُنَّةُ وَجْهِهَا مُطَهَّرَةُ الْأَثْوَابِ وَالدِّينُ
وَافِرُ لَهَا حَسَبٌ زَاكٍ وَعِرْضٌ مُهَذَّبٌ
وَعَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ مِنَ الْأَمْرِ زَاجِرُ مِنَ الْخَفِرَاتِ الْبِيضِ لَمْ
تَلْقَ رِيبَةً
وَلَمْ يَسْتَمِلْهَا عَنْ تُقَى اللَّهِ شَاعِرُ
فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: أَحْسَنْتَ، زِدْنَا. فَغَنَّاهُ:
أَلَمَّتْ بِنَا وَاللَّيْلُ دَاجٍ كَأَنَّهُ جَنَاحُ غُرَابٍ عَنْهُ قَدْ نَفَضَ
الْقَطْرَا
فَقُلْتُ أَعَطَّارٌ ثَوَى فِي رِحَالِنَا وَمَا حَمَلَتْ لَيْلَى سِوَى رِيحِهَا
عِطْرًا
فَقَالَ لَهُ: أَحْسَنْتَ، وَلَوْلَا أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ لَأَجْزَلْتُ لَكَ
الْجَائِزَةَ، وَإِنَّكَ مِنَ الْأَمْرِ بِمَكَانٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، وَالْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ
يَزِيدَ
بْنِ جَابِرٍ، وَقُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، أَحَدُ
أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ، وَاسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَقِيلَ: اسْمُهُ زَبَّانُ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
وَهُوَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ الْعُرْيَانِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ التَّمِيمِيُّ الْمَازِنِيُّ الْبَصَرِيُّ،
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ، كَانَ عَلَّامَةَ زَمَانِهِ فِي اللُّغَةِ
وَالنَّحْوِ وَعِلْمِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ،
يُقَالُ: إِنَّهُ كَتَبَ مِلْءَ بَيْتٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَزَهَّدَ،
فَأَحْرَقَهُ ثُمَّ رَاجَعَ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ سِوَى
مَا كَانَ يَحْفَظُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَكَانَ قَدْ لَقِيَ خَلْقًا مِنْ
أَعْرَابِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ مُقَدَّمًا أَيَّامَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
وَبَعْدَهُ.
وَمِنِ اخْتِيَارَاتِهِ الْغَرِيبَةِ قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْغُرَّةِ فِي
الْجَنِينِ: إِنَّهَا لَا يُقْبَلُ فِيهَا إِلَّا أَبْيَضُ غُلَامًا كَانَ أَوْ
جَارِيَةً. وَفَهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ قَالَ: وَلَوْ أُرِيدَ أَيُّ عَبْدٍ كَانَ أَوْ
جَارِيَةٍ لَمَا قَيَّدَهُ بِالْغُرَّةِ، وَإِنَّمَا الْغُرَّةُ الْبَيَاضُ. قَالَ
الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَهَذَا غَرِيبٌ، وَلَا أَعْلَمُ هَلْ يُوَافِقُ
قَوْلَ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ أَمْ لَا.
وَذَكَرُوا
أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ لَا يُنْشِدُ فِيهِ بَيْتًا مِنَ
الشِّعْرِ حَتَّى يَنْسَلِخَ، وَأَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي لَهُ كُلَّ يَوْمٍ كُوزًا
جَدِيدًا وَرَيْحَانًا طَرِيًّا، وَقَدْ صَحِبَهُ الْأَصْمَعِيُّ نَحْوًا مِنْ
عَشْرِ سِنِينَ.
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ.
وَقِيلَ: سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَبْرُهُ
بِالشَّامِ. وَقِيلَ: بِالْكُوفَةِ. وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ جَاوَزَهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ صَالِحِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ، مَرْفُوعًا:لَأَنْ يُرَبِّي أَحَدُكُمْ بَعْدَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ
وَمِائَةٍ جِرْوَ كَلْبٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُرَبِّيَ وَلَدًا لِصُلْبِهِ.
وَهَذَا مُنْكَرٌ جِدًّا، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. ذَكَرَهُ مِنْ فَوَائِدِ
تَمَّامٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَوْفٍ
الْحِمْصِيِّ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السِّمْطِ، عَنْ
صَالِحٍ، بِهِ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ السِّمْطِ هَذَا لَا أَعْرِفُهُ، وَقَدْ
ذَكَرَهُ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْمِيزَانِ
"، وَقَالَ: رَوَى عَنْ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ حَدِيثًا مَوْضُوعًا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ، فَافْتَتَحَهَا
عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، وَقَتَلَ مَنْ كَانَ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا مِنَ
الْخَوَارِجِ، وَقَتَلَ أُمَرَاءَهُمْ، وَأَصْغَرَ كُبَرَاءَهُمْ، وَأَذَلَّ
أَشْرَافَهُمْ، وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ، وَبَدَّدَ آلَافَهُمْ، وَاسْتَبْدَلَ
أَهْلُ الْبِلَادِ هُنَاكَ بِالْخَوْفِ سَلَامَةً، وَبِالْإِهَانَةِ كَرَامَةً،
وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَتَلَ مِنْ أُمَرَائِهِمْ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو
عَبَّادٍ الْخَارِجِيَّانِ. ثُمَّ لَمَّا اسْتَقَامَتْ لَهُ وَبِهِ الْأُمُورُ فِي
الْبُلْدَانِ دَخَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِلَادَ الْقَيْرَوَانِ، فَمَهَّدَهَا
وَأَطَّدَهَا، وَأَقَرَّ أَهْلَهَا، وَقَرَّرَ أُمُورَهَا، وَأَزَالَ
مَحْذُورَهَا.
بِنَاءُ الرَّافِقَةِ الْمَدِينَةِ الْمَشْهُورَةِ
وَفِيهَا أَمَرَ الْمَنْصُورُ وَلَدَهُ الْمَهْدِيَّ بِبِنَاءِ الرَّافِقَةِ عَلَى
مِنْوَالِ بِنَاءِ بَغْدَادَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ هَذِهِ السَّنَةَ الْمُبَارَكَةَ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْمَنْصُورُ بِبِنَاءِ سُورٍ، وَعَمَلِ خَنْدَقٍ حَوْلَ
الْكُوفَةِ، وَأَخَذَ مَا غَرِمَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِهَا; مِنْ
كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ ذَوِي الْيَسَارِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. وَكَانَ قَدْ
فَرَضَهَا أَوَّلًا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَجُبِيَتْ أَرْبَعِينَ أَرْبَعِينَ،
فَقَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُهُمْ:
يَا
لَقَوْمِي مَا لَقِينَا مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَا قَسَمَ الْخَمْسَةَ فِينَا
وَجَبَانَا الْأَرْبَعِينَا
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ يَزِيدُ بْنُ أَسَدٍ السُّلَمِيُّ.
وَفِيهَا طَلَبَ مَلِكُ الرُّومِ الصُّلْحَ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ
عَلَى أَنْ يَحْمِلَ إِلَى الْمَنْصُورِ الْجِزْيَةَ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ أَخَاهُ الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ
الْجَزِيرَةِ، وَغَرَّمَهُ أَمْوَالًا كَثِيرَةً.
وَفِيهَا عَزَلَ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ إِمْرَةِ
الْكُوفَةِ، فَقِيلَ: لِأُمُورٍ بَلَغَتْهُ عَنْهُ فِي تَعَاطِي مُنْكِرَاتٍ
وَأُمُورٍ لَا تَلِيقُ بِالْعُمَّالِ. وَقِيلَ: لِقَتْلِهِ عَبْدَ الْكَرِيمِ بْنَ
أَبِي الْعَوْجَاءِ. وَقَدْ كَانَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ هَذَا زِنْدِيقًا،
يُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ
بِوَضْعِ أَرْبَعَةِ آلَافِ حَدِيثٍ يُحِلُّ فِيهَا الْحَرَامَ، وَيُحَرِّمُ
فِيهَا الْحَلَالَ، وَيُصَوِّمُ النَّاسَ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيُفَطِّرُهُمْ
فِي أَيَّامِ الصِّيَامِ، فَأَرَادَ الْمَنْصُورُ أَنْ يَجْعَلَ قَتْلَهُ لَهُ
ذَنْبًا، فَعَزَلَهُ بِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُقِيدَهُ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى
بْنُ عَلِيٍّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَعْزِلْهُ بِهَذَا، فَإِنَّهُ
إِنَّمَا قَتَلَهُ عَلَى الزَّنْدَقَةِ، وَمَتَّى عَزَلْتَهُ بِهَذَا شَكَرَتْهُ
الْعَامَّةُ وَذَمُّوكَ. فَتَرَكَهُ حِينًا، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنِ الْكُوفَةِ
بَعْدَ ذَلِكَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا عَمْرَو بْنَ زُهَيْرٍ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ عَنِ الْمَدِينَةِ الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ، وَوَلَّى
عَلَيْهَا عَمَّهُ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ، وَجَعَلَ مَعَهُ فُلَيْحَ بْنَ
سُلَيْمَانَ مُشْرِفًا عَلَيْهِ.
وَعَلَى
إِمْرَةِ مَكَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى الْكُوفَةِ
عَمْرُو بْنُ زُهَيْرٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ الْهَيْثَمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ،
وَعَلَى مِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلَى إِفْرِيقِيَّةَ يَزِيدُ بْنُ
حَاتِمٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ
الدِّمَشْقِيَّانِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ، وَمِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ.
وَحَمَّادٌ الرَّاوِيَةُ
، وَهُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى مَيْسَرَةُ - وَيُقَالُ: سَابُورُ - بْنِ
الْمُبَارَكِ بْنِ عُبَيْدٍ الدَّيْلِمِيُّ الْكُوفِيُّ، مَوْلَى مُكْنِفِ بْنِ
زَيْدِ الْخَيْلِ الطَّائِيِّ، كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ
وَأَخْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَلُغَاتِهَا، وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ السَّبْعَ
الْمُعَلَّقَاتِ الطِّوَالَ، وَإِنَّمَا سُمِّي الرَّاوِيَةَ; لِكَثْرَةِ
رِوَايَتِهِ الشِّعْرَ عَنِ الْعَرَبِ، اخْتَبَرَهُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْشَدَهُمْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ
قَصِيدَةً عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، كُلُّ قَصِيدَةٍ نَحْوٌ مَنْ مِائَةِ
بَيْتٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى شَاعِرٌ مِنْ شُعَرَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا
أَنْشَدَ لَهُ مَا لَا
يَحْفَظُهُ
غَيْرُهُ، فَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَرِيرِيُّ فِي كِتَابِهِ " دُرَّةِ الْغَوَّاصِ
"، أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ اسْتَدْعَاهُ مِنَ الْعِرَاقِ مِنْ
نَائِبِهِ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ إِذَا هُوَ فِي دَارٍ
قَوْرَاءَ مُرَخَّمَةٍ بِالرُّخَامِ وَالذَّهَبِ، وَإِذَا عِنْدَهُ جَارِيَتَانِ
حَسْنَاوَانِ جِدًّا، فَاسْتَنْشَدَهُ شَيْئًا فَأَنْشَدَهُ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ
حَاجَتَكَ. فَقَالَ: كَائِنَةً مَا كَانَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ:
وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تُطْلِقُ لِي إِحْدَى هَاتَيْنِ الْجَارِيَتَيْنِ. فَقَالَ:
هُمَا لَكَ وَمَا عَلَيْهِمَا. وَأَخْلَاهُ فِي بَعْضِ دَارِهِ، وَأَطْلَقَ لَهُ
أَلْفَ دِرْهَمٍ. هَذَا مُلَخَّصُ الْحِكَايَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا
الْخَلِيفَةَ إِنَّمَا هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ، فَإِنَّهُ ذُكِرَ أَنَّهُ
شَرِبَ مَعَهُ، وَهِشَامٌ لَمْ يَكُنْ يَشْرَبُ، وَلَمْ يَكُنْ نَائِبَهُ عَلَى
الْعِرَاقِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، وَإِنَّمَا كَانَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
الْقَسْرِيَّ، وَبَعْدَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ. وَكَانَتْ وَفَاةُ حَمَّادٍ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتِّينَ سَنَةً.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ وَقِيلَ: إِنَّهُ أَدْرَكَ أَوَّلَ خِلَافَةِ الْمَهْدِيِّ
فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا قُتِلَ حَمَّادُ عَجْرَدٍ عَلَى الزَّنْدَقَةِ، وَهُوَ حَمَّادُ بْنُ
عُمَرَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ كُلَيْبٍ الْكُوفِيُّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ وَاسِطِيٌّ.
مَوْلَى بَنِي سُوَاءَةَ، وَكَانَ شَاعِرًا مَاجِنًا ظَرِيفًا خَلِيعًا، لَكِنَّهُ
كَانَ مُتَّهَمًا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَدْرَكَ الدَّوْلَتَيْنِ
الْأُمَوِيَّةَ
وَالْعَبَّاسِيَّةَ، وَلَكِنَّهُ مَا اشْتُهِرَ إِلَّا فِي أَيَّامِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَشَّارِ بْنِ بُرْدٍ مُهَاجَاةٌ كَثِيرَةٌ، وَلَمَّا قُتِلَ بِشَّارٌ عَلَى الزَّنْدَقَةِ أَيْضًا، دُفِنَ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ حَمَّادَ عَجْرَدٍ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا ظَفِرَ الْهَيْثَمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نَائِبُ الْمَنْصُورِ بِعَمْرِو بْنِ
شَدَّادٍ الَّذِي كَانَ عَامِلًا لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى
فَارِسَ، فَقُتِلَ بِالْبَصْرَةِ; قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، وَضُرِبَتْ
عُنُقُهُ، ثُمَّ صُلِبَ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ الْهَيْثَمَ بْنَ مُعَاوِيَةَ عَنِ الْبَصْرَةِ،
وَوَلَّى عَلَيْهَا قَاضِيَهَا سَوَّارَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَجَمَعَ لَهُ
بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالصَّلَاةِ، وَجَعَلَ عَلَى شُرْطَتِهَا وَأَحْدَاثِهَا
سَعِيدَ بْنَ دَعْلَجٍ، وَرَجَعَ الْهَيْثَمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى بَغْدَادَ،
فَمَاتَ فِيهَا فَجْأَةً فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ عَلَى بَطْنِ جَارِيَةٍ
لَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ الْمَنْصُورُ، وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ بَنِي هَاشِمٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخُو
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَنُوَّابُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا. وَعَلَى فَارِسَ وَالْأَهْوَازِ وَكُوَرِ دِجْلَةَ عُمَارَةُ بْنُ
حَمْزَةَ، وَعَلَى كَرْمَانَ وَالسِّنْدِ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْقُرَّاءِ
الْمَشْهُورِينَ وَالْعُبَّادِ
الْمَذْكُورِينَ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْمُدُودُ الطَّوِيلَةُ فِي الْقِرَاءَةِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بِسَبَبِهَا بَعْضُ الْأَئِمَّةِ. وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ السُّنَنَ، فِي قَوْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَوْذَبٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ الْإِفْرِيقِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ ذَرٍّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا بَنَى الْمَنْصُورُ قَصْرَهُ الْمُسَمَّى بِالْخُلْدِ فِي بَغْدَادَ،
وَكَانَ الْمُسْتَحِثَّ فِي عِمَارَتِهِ أَبَانُ بْنُ صَدَقَةَ، وَالرَّبِيعُ
مَوْلَى الْمَنْصُورِ.
وَفِيهَا حَوَّلَ الْمَنْصُورُ الْأَسْوَاقَ مِنْ قُرْبِ دَارِ الْإِمَارَةِ إِلَى
بَابِ الْكَرْخِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ سَبَبَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا أَمَرَ بِتَوْسِعَةِ الطُّرُقَاتِ.
وَفِيهَا أَمَرَ بِعَمَلِ جِسْرٍ عِنْدَ بَابِ الشَّعِيرِ.
وَفِيهَا اسْتَعْرَضَ الْمَنْصُورُ جُنْدَهُ وَهُمْ مُلْبَسُونَ السِّلَاحَ،
وَهُوَ أَيْضًا لَابِسٌ سِلَاحًا عَظِيمًا، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ دِجْلَةَ.
وَفِيهَا عَزَلَ عَنِ السِّنْدِ هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو، وَوَلَّى عَلَيْهَا
مَعْبَدَ بْنَ الْخَلِيلِ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ يَزِيدُ بْنُ أَسِيدٍ السُّلَمِيُّ، فَأَوْغَلَ فِي
بِلَادِ الرُّومِ، وَبَعَثَ سِنَانًا مَوْلَى الْبَطَّالِ بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَفَتَحَ بَعْضَ الْحُصُونِ وَسَبَى وَغَنِمَ.
وَفِيهَا
حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ.
وَنُوَّابُ الْبِلَادِ فِيهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، وَالْإِمَامُ أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ، فَقِيهُ أَهْلِ الشَّامِ، وَقَدْ
بَقِيَ أَهْلُ الشَّامِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْبِلَادِ عَلَى مَذْهَبِهِ نَحْوًا
مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ.
وَهَذَا ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ تَرْجَمَةِ الْأَوْزَاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرِو بْنِ يَحْمَدَ أَبُو عَمْرٍو
الْأَوْزَاعِيُّ. وَالْأَوْزَاعُ بَطْنٌ مِنْ حِمْيَرَ، وَهُوَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ،
قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ،
وَإِنَّمَا نَزَلَ فِي مَحَلَّةِ الْأَوْزَاعِ، وَكَانَتْ قَرْيَةً خَارِجَ بَابِ
الْفَرَادِيسِ
مِنْ دِمَشْقَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو السَّيْبَانِيِّ.
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ: وَأَصْلُهُ مِنْ سِبَاءِ السِّنْدِ فَنَزَلَ الْأَوْزَاعَ،
فَغَلَبَ عَلَيْهِ النِّسْبَةُ إِلَيْهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: وُلِدَ
بِبَعْلَبَكَّ، وَنَشَأَ بِالْبِقَاعِ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أُمِّهِ، وَكَانَتْ
تَنْتَقِلُ بِهِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَتَأَدَّبَ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ
فِي أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ وَالْوُزَرَاءِ أَعْقَلُ مِنْهُ، وَلَا أَوْرَعُ، وَلَا
أَعْلَمُ، وَلَا أَفْصَحُ، وَلَا أَوْقَرُ، وَلَا أَحْلُمُ، وَلَا أَكْثَرُ
صَمْتًا مِنْهُ، وَمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ إِلَّا كَانَ الْمُتَعَيَّنَ عَلَى
مَنْ يُجَالِسُهُ أَنْ يَكْتُبَهَا; مِنْ حُسْنِهَا، وَكَانَ يُعَانِي
الرَّسَائِلَ وَالْكِتَابَةَ.
وَقَدِ اكْتُتِبَ فِي بَعْثٍ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ
يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَانْقَطَعَ إِلَيْهِ، فَأَرْشَدَهُ إِلَى
الرِّحْلَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ لِيَسْمَعَ مِنَ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ،
فَسَارَ إِلَيْهَا فَوَجَدَ الْحَسَنَ قَدْ تُوُفِّيَ مِنْ شَهْرَيْنِ، وَوَجَدَ
ابْنَ سِيرِينَ مَرِيضًا، فَجَعَلَ يَتَرَدَّدُ لِعِيَادَتِهِ، فَقَوِيَ الْمَرَضُ
بِهِ، وَمَاتَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ الْأَوْزَاعِيُّ شَيْئًا، وَجَاءَ فَنَزَلَ
دِمَشْقَ بِمَحَلَّةِ الْأَوْزَاعِ خَارِجَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَسَادَ
أَهْلَهَا فِي زَمَانِهِ وَسَائِرَ الْبِلَادِ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ
وَالْمَغَازِي وَعُلُومِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ أَدْرَكَ خَلْقًا مِنَ
التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ سَادَاتِ
الْمُسْلِمِينَ، كَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَهُوَ
مِنْ شُيُوخِهِ.
وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ
عَلَى عَدَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ; قَالَ
مَالِكٌ:
كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ: كَانَ إِمَامَ أَهْلِ زَمَانِهِ.
وَقَدْ حَجَّ مَرَّةً، فَدَخَلَ مَكَّةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ آخِذٌ بِزِمَامِ
جَمَلِهِ، وَمَالِكٌ يَسُوقُ بِهِ، وَالثَّوْرِيُّ يَقُولُ: افْسَحُوا لِلشَّيْخِ.
وَقَدْ تَذَاكَرَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الظُّهْرِ حَتَّى
صَلَّيَا الْعَصْرَ، وَمِنَ الْعَصْرِ حَتَّى صَلَّيَا الْمَغْرِبَ، فَغَمَرَهُ
الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْمَغَازِي، وَغَمَرَهُ مَالِكٌ فِي الْفِقْهِ.
وَتَنَاظَرَ هُوَ وَالثَّوْرِيُّ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ فِي مَسْأَلَةِ رَفْعِ
الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، فَاحْتَجَّ الْأَوْزَاعِيُّ بِمَا
رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الرُّكُوعِ
وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَاحْتَجَّ الثَّوْرِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ
أَبِي زِيَادٍ، فَغَضِبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ: أَتُعَارِضُ حَدِيثَ
الزُّهْرِيِّ بِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَهُوَ رَجُلٌ ضَعِيفٌ؟!
فَاحْمَارَّ وَجْهُ الثَّوْرِيِّ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَعَلَّكَ كَرِهْتَ
مَا قُلْتُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَقُمْ بِنَا حَتَّى نَلْتَعِنَ عِنْدَ
الرُّكْنِ أَيُّنَا عَلَى الْحَقِّ. فَسَكَتَ الثَّوْرِيُّ.
وَقَالَ
هِقْلُ بْنُ زِيَادٍ: أَفْتَى الْأَوْزَاعِيُّ فِي سَبْعِينَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: رُوِيَ عَنْهُ سِتُّونَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ.
وَقَالَ غَيْرُهُمَا: أَفْتَى فِي سَنَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَعُمْرُهُ
إِذْ ذَاكَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُفْتِي حَتَّى مَاتَ.
وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ عَنْ مَالِكٍ: اجْتَمَعَ عِنْدِي الْأَوْزَاعِيُّ،
وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. فَقُلْتُ: أَيُّهُمْ أَرْجَحُ؟ قَالَ:
الْأَوْزَاعِيُّ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَنْصَحَ لِلْمُسْلِمِينَ
مِنَ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا رُئِيَ الْأَوْزَاعِيُّ ضَاحِكًا مُقَهْقِهًا قَطُّ،
وَلَقَدْ كَانَ يَعِظُ النَّاسَ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي مَجْلِسِهِ إِلَّا بَكَى
بِعَيْنِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ، وَمَا رَأَيْنَاهُ يَبْكِي فِي مَجْلِسِهِ قَطُّ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: الْعُلَمَاءُ أَرْبَعَةٌ; الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو
حَنِيفَةَ، وَمَالُكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ.
وَالْأَوْزَاعِيُّ
ثِقَةٌ، وَلَيْسَ هُوَ فِي الزُّهْرِيِّ بِذَاكَ. أَخَذَ كِتَابَ الزُّبَيْدِيِّ
عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَمَا أَقَلَّ مَا رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانَ ثِقَةً مُتَّبِعًا لِمَا سَمِعَ. قَالُوا: وَكَانَ
الْأَوْزَاعِيُّ لَا يَلْحَنُ فِي كَلَامِهِ، وَكَانَتْ كُتُبُهُ تَرِدُ عَلَى
الْمَنْصُورِ، فَيَنْظُرُ فِيهَا وَيَتَأَمَّلُهَا، وَيَتَعَجَّبُ مِنْ
فَصَاحَتِهَا وَحَلَاوَتِهَا، فَقَالَ يَوْمًا لِأَحْظَى كُتَّابِهِ عِنْدَهُ وَهُوَ
سُلَيْمَانُ بْنُ مُجَالِدٍ: يَنْبَغِي أَنْ تُجِيبَ الْأَوْزَاعِيَّ عَنْ
كُتُبِهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّا لَنَسْتَعِينُ بِكَلَامِهِ فِيمَا
نُكَاتِبُ بِهِ أَهْلَ الْآفَاقِ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ كَلَامَ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ
جَلَسَ يَذْكُرُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ،
وَيَأْثُرُ عَنِ السَّلَفِ ذَلِكَ. قَالَ: ثُمَّ يَقُومُونَ فَيَتَذَاكَرُونَ فِي
الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ.
وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ،
فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟
فَقُلْتُ: بِفَضْلِكَ يَا رَبِّ. قُلْتُ: يَا رَبِّ أَمِتْنِي عَلَى الْإِسْلَامِ.
فَقَالَ: وَعَلَى السُّنَّةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ شَابُورَ: قَالَ لِي شَيْخٌ بِجَامِعِ
دِمَشْقَ: أَنَا مَيِّتٌ
فِي
يَوْمِ كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ رَأَيْتُهُ فِي صَحْنِ
الْجَامِعِ يَتَفَلَّى، فَقَالَ لِي: اذْهَبْ إِلَى سَرِيرِ الْمَوْتَى
فَأَحْرِزْهُ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ أَنْ تُسْبَقَ إِلَيْهِ. فَقُلْتُ: مَا
تَقُولُ؟! فَقَالَ: هُوَ مَا أَقُولُ لَكَ; إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ قَائِلًا
يَقُولُ: فَلَانٌ قَدَرِيٌّ، وَفُلَانٌ كَذَا، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي
الْعَاتِكَةِ نِعْمَ الرَّجُلُ، وَأَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ خَيْرُ مِنْ
يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَنْتَ مَيِّتٌ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ: فَمَا جَاءَ الظُّهْرُ حَتَّى مَاتَ، وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ بَعْدَهَا، وَأُخْرِجَتْ جِنَازَتُهُ. رَوَاهَا ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، حَسَنَ
الصَّلَاةِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ أَطَالَ الْقِيَامَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ
هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ طُولَ الْقِيَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَأَنَّهُ
أَخَذَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ
فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ
الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [ الْإِنْسَانِ: 26، 27 ].
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنَ
الْأَوْزَاعِيِّ فِي الْعِبَادَةِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: حَجَّ فَمَا نَامَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، إِنَّمَا هُوَ فِي
صَلَاةٍ، فَإِذَا نَعَسَ اسْتَنَدَ إِلَى الْقَتْبِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ مِنْ
شِدَّةِ الْخُشُوعِ كَأَنَّهُ أَعْمَى.
وَدَخَلَتِ امْرَأَةٌ عَلَى امْرَأَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، فَرَأَتِ الْحَصِيرَ
الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ مَبْلُولًا،
فَقَالَتْ
لَهَا: لَعَلَّ الصَّبِيَّ بَالَ هَاهُنَا. فَقَالَتْ: لَا، هَذَا مِنْ أَثَرِ
دُمُوعِ الشَّيْخِ فِي سُجُودِهِ، وَهَكَذَا يُصْبِحُ كُلَّ يَوْمٍ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَلَيْكَ بِآثَارِ مَنْ سَلَفَ وَإِنْ رَفَضَكَ
النَّاسُ، وَإِيَّاكَ وَرَأْيَ الرِّجَالِ وَإِنْ زَخْرَفُوهُ بِالْقَوْلِ;
فَإِنَّ الْأَمْرَ يَنْجَلِي وَأَنْتَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: اصْبِرْ عَلَى السُّنَّةِ، وَقِفْ حَيْثُ وَقَفَ الْقَوْمُ،
وَقُلْ مَا قَالُوا، وَكُفَّ عَمَّا كَفُّوا، وَلْيَسَعْكَ مَا وَسِعَهُمْ.
وَكَانَ يَقُولُ: الْعِلْمُ مَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، وَمَا لَمْ
يَجِئْ عَنْهُمْ فَلَيْسَ بِعِلْمٍ.
وَكَانَ يَقُولُ: لَا يَجْتَمِعُ حُبُّ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ إِلَّا فِي قَلْبٍ
مُؤْمِنٍ. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ شَرًّا فَتَحَ عَلَيْهِمْ بَابَ
الْجَدَلِ وَسَدَّ عَنْهُمْ بَابَ الْعَمَلِ.
قَالُوا: وَقَدْ كَانَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ وَأَسْخَاهُمْ، وَكَانَ لَهُ فِي
بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْخُلَفَاءِ إِقْطَاعٌ، فَصَارَ إِلَيْهِ مِنْ بَنِي
أُمَيَّةَ، وَبَنِي الْعَبَّاسِ نَحْوٌ مَنْ سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمْ
يَقْتَنِ مِنْهَا شَيْئًا، وَلَا تَرَكَ يَوْمَ مَاتَ سِوَى سَبْعَةِ دَنَانِيرَ،
كَانَ يُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الْفُقَرَاءِ.
وَلَمَّا دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ دِمَشْقَ، وَسُلِبَ الْمُلْكُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ تَطَلَّبَ الْأَوْزَاعِيَّ، فَتَغَيَّبَ عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ وَفِي يَدِهِ خَيْزُرَانَةٌ، وَالْمُسَوِّدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، مَعَهُمُ السُّيُوفُ مُصْلَتَةٌ وَالْعُمُدُ الْحَدِيدُ، فَسَلَّمْتُ فَلَمْ يَرُدَّ، وَنَكَتَ بِتِلْكَ الْخَيْزُرَانَةِ الَّتِي فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَوْزَاعِيُّ، مَا تَرَى فِيمَا صَنَعْنَا مِنْ إِزَالَةِ أَيْدِي أُولَئِكَ الظَّلَمَةِ أَرِبَاطٌ هُوَ ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ. قَالَ: فَنَكَتَ بِالْخَيْزُرَانَةِ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ يَنْكُتُ، وَجَعَلَ مَنْ حَوْلَهُ يَعَضُّونَ أَيْدِيَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَوِزَاعِيُّ، مَا تَقُولُ فِي دِمَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ؟ فَقُلْتُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ; النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ. فَنَكَتَ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: مَا تَقُولُ فِي أَمْوَالِهِمْ؟ فَقُلْتُ: إِنْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ حَرَامًا فَهِيَ حَرَامٌ عَلَيْكَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ حَلَالًا فَلَا تَحِلُّ لَكَ إِلَّا بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ. فَنَكَتَ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ يَنْكُتُ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا نُوَلِّيكَ الْقَضَاءَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ أَسْلَافَكَ لَمْ يَكُونُوا
يَشُقُّونَ
عَلَيَّ فِي ذَلِكَ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَتِمَّ مَا ابْتَدَءُونِي بِهِ مِنَ
الْإِحْسَانِ. فَقَالَ: كَأَنَّكَ تُحِبُّ الِانْصِرَافَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ
وَرَائِي حُرَمًا، وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ وَسَتْرِهِمْ.
قَالَ: وَانْتَظَرْتُ رَأْسِي أَنْ يَسْقُطَ بَيْنَ يَدَيَّ، فَأَمَرَنِي
بِالِانْصِرَافِ، فَلَمَّا خَرَجْتُ إِذَا رَسُولُهُ مِنْ وَرَائِي، وَإِذَا
مَعَهُ مِائَتَا دِينَارٍ، فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ الْأَمِيرُ: أَنْفِقْ هَذِهِ.
قَالَ: فَتَصَدَّقْتُ بِهَا.
وَكَانَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ صَائِمًا طَاوِيًا، فَيُقَالُ: إِنَّ
الْأَمِيرَ لَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِفْطَارَ عِنْدَهُ،
فَأَبَى أَنْ يُفْطِرَ عِنْدَهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالُوا: ثُمَّ رَحَلَ الْأَوْزَاعِيُّ مِنْ دِمَشْقَ، فَنَزَلَ بَيْرُوتَ
مُرَابِطًا بِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ. قَالَ: وَأَعْجَبَنِي فِيهَا أَنِّي
مَرَرْتُ بِقُبُورِهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقُلْتُ لَهَا: أَيْنَ
الْعِمَارَةُ يَا هَنْتَاهُ ؟ فَقَالَتْ: إِنْ أَرَدْتَ الْعِمَارَةَ فَهِيَ
هَذِهِ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْخَرَابَ فَأَمَامَكَ. وَأَشَارَتْ إِلَى
الْبَلَدِ، فَعَزَمْتُ عَلَى الْإِقَامَةِ بِهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ: سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ: خَرَجْتُ
يَوْمًا إِلَى الصَّحْرَاءِ، فَإِذَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا
شَخْصٌ رَاكِبٌ عَلَى جَرَادَةٍ مِنْهَا وَعَلَيْهِ سِلَاحُ الْحَدِيدِ، وَكُلَّمَا
قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا مَالَ الْجَرَادُ مَعَ يَدِهِ وَهُوَ
يَقُولُ:
الدُّنْيَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ مَا فِيهَا، الدُّنْيَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ
بَاطِلٌ مَا فِيهَا، الدُّنْيَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ مَا فِيهَا.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يَخْرُجُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ
إِلَى الصَّيْدِ وَلَا يَنْتَظِرُ الْجُمْعَةَ، فَخُسِفَ بِبَغْلَتِهِ، فَلَمْ
يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا أُذُنُهَا.
وَخَرَجَ الْأَوْزَاعِيُّ يَوْمًا مِنْ بَابِ مَسْجِدِ بَيْرُوتَ، وَهُنَاكَ
دُكَّانٌ فِيهِ نَاطِفٌ، وَإِلَى جَانِبِهِ رَجُلٌ يَبِيعُ الْبَصَلَ وَهُوَ
يَقُولُ: يَا أَحْلَى مِنَ النَّاطِفِ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا يَرَى
هَذَا بِالْكَذِبِ بَأْسًا ؟.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كُنَّا قَبْلَ الْيَوْمِ نَضْحَكُ
وَنَلْعَبُ، أَمَّا إِذْ صِرْنَا أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِنَا فَيَنْبَغِي أَنْ
نَتَحَفَّطَ.
وَكَتَبَ إِلَى أَخٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أُحِيطَ بِكَ مِنْ كُلِّ
جَانِبٍ، وَإِنَّهُ يُسَارُ بِكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَاحْذَرِ اللَّهَ
وَالْقِيَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِكَ بِهِ، وَالسَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، سَمِعْتُ
أَبَا صَالِحٍ كَاتِبَ
اللَّيْثِ يَذْكُرُ عَنِ الْهِقْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، أَنَّهُ وَعَظَ فَقَالَ فِي مَوْعِظَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، تَقَوَّوْا بِهَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي أَصْبَحْتُمْ فِيهَا عَلَى الْهَرَبِ مِنْ نَارِ اللَّهِ الْمُوقَدَةِ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، فَإِنَّكُمْ فِي دَارٍ الثَّوَاءُ فِيهَا قَلِيلٌ، وَأَنْتُمْ فِيهَا مُرَحَّلُونَ، خَلَائِفُ بَعْدَ الْقُرُونِ الَّتِي اسْتَقْبَلُوا مِنَ الدُّنْيَا أُنُفَهَا وَزَهْرَتَهَا، فَهُمْ كَانُوا أَطْوَلَ مِنْكُمْ أَعْمَارًا وَأَمَدَّ أَجْسَامًا، وَأَعْظَمَ آثَارًا، فَخَدَّدُوا الْجِبَالَ وَجَابُوا الصُّخُورَ، وَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ، مُؤَيَّدِينَ بِبَطْشٍ شَدِيدٍ، وَأَجْسَادٍ كَالْعِمَادِ، فَمَا لَبِثَتِ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي أَنْ طَوَتْ مُدَّتَهُمْ وَعَفَتْ آثَارَهُمْ، وَأَخْرَبَتْ مَنَازِلَهُمْ، وَأَنْسَتْ ذِكْرَهُمْ، فَمَا تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ وَلَا تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا، كَانُوا بِلَهْوِ الْأَمَلِ آمِنِينَ، وَلِمِيقَاتِ يَوْمٍ غَافِلِينَ، أَوْ لِصَبَاحِ قَوْمٍ نَادِمِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِي نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ بَيَانًا مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ، فَأَصْبَحَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، وَأَصْبَحَ الْبَاقُونَ يَنْظُرُونَ فِي آثَارِ نِقَمِهِ، وَزَوَالِ نِعَمِهِ، وَمَسَاكِنَ خَاوِيَةٍ، وَفِيهَا آيَةٌ لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَعِبْرَةٌ لِمَنْ يَخْشَى، وَأَصْبَحْتُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ فِي أَجَلٍ مَنْقُوصٍ، وَدُنْيَا مَقْبُوضَةٍ، فِي زَمَانٍ قَدْ وَلَّى عَفْوُهُ، وَذَهَبَ رَخَاؤُهُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا حُمَةُ شَرٍّ، وَصُبَابَةُ كَدَرٍ، وَأَهَاوِيلُ غِيَرٍ، وَعُقُوبَاتُ عِبَرٍ، وَإِرْسَالُ فِتَنٍ، وَتَتَابُعُ زَلَازِلَ، وَرُذَالَةُ خَلْفٍ، بِهِمْ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَلَا تَكُونُوا أَشْبَاهًا لِمَنْ
خَدَعَهُ
الْأَمَلُ، وَغَرَّهُ طُولُ الْأَجَلِ، وَتَبَلَّغَ بِالْأَمَانِي، نَسْأَلُ
اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ وَعَى نُذُرَهُ وَانْتَهَى،
وَعَقَلَ مَثْوَاهُ فَمَهَدَ لِنَفْسِهِ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ الْأَوْزَاعِيُّ بِالْمَنْصُورِ حِينَ دَخَلَ الشَّامَ
وَوَعَظَهُ، وَأَحَبَّهُ الْمَنْصُورُ وَعَظَّمَهُ، وَلَمَّا أَرَادَ
الِانْصِرَافَ اسْتَأْذَنَهُ فِي أَنْ لَا يَلْبَسَ السَّوَادَ فَأَذِنَ لَهُ،
فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ الْمَنْصُورُ لِلرَّبِيعِ الْحَاجِبِ: الْحَقْهُ فَسَلْهُ
لِمَ كَرِهَ لُبْسَ السَّوَادِ؟ وَلَا تُخْبِرْهُ أَنِّي قُلْتُ لَكَ. فَسَأَلَهُ
الرَّبِيعُ فَقَالَ: لِأَنِّي لَمْ أَرَ مُحْرِمًا أَحْرَمَ فِيهِ، وَلَا مَيِّتًا
كُفِّنَ فِيهِ، وَلَا عَرُوسًا جُلِيَتْ فِيهِ، فَلِهَذَا أَكْرَهُهُ.
وَقَدْ كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الشَّامِ مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا، أَمْرُهُ
أَعَزُّ عِنْدَهُمْ مِنْ أَمْرِ السُّلْطَانِ، وَهَمَّ بِهِ بَعْضُ الْوُلَاةِ،
فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: دَعْهُ عَنْكَ فَوَاللَّهِ لَوْ أَمَرَ الشَّامِيِّينَ
أَنْ يَقْتُلُوكَ لَقَتَلُوكَ.
وَلَمَّا مَاتَ جَلَسَ عِنْدَ قَبْرِهِ بَعْضُ الْوُلَاةِ فَقَالَ: رَحِمَكَ
اللَّهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُ مِنْكَ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَافُ مِنَ
الَّذِي وَلَّانِي. وَقَدْ قَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: مَا مَاتَ الْأَوْزَاعِيُّ
حَتَّى جَلَسَ وَحْدَهُ، وَسَمِعَ شَتْمَهُ بِأُذُنِهِ.
وَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ
قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا
عِنْدَ
الثَّوْرِيِّ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: رَأَيْتُ كَأَنَّ رَيْحَانَةً مِنَ
الْمَغْرِبِ قُلِعَتْ. قَالَ: إِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكَ فَقَدْ مَاتَ الْأَوْزَاعِيُّ.
فَكَتَبُوا ذَلِكَ، فَجَاءَ مَوْتُ الْأَوْزَاعِيِّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ فِي
تِلْكَ اللَّيْلَةِ.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: بَلَغَنَا أَنَّ سَبَبَ مَوْتِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ
امْرَأَتَهُ أَغْلَقَتْ عَلَيْهِ بَابَ حَمَّامٍ، فَمَاتَ فِيهِ، وَلَمْ تَكُنْ
عَامِدَةً لِذَلِكَ، فَأَمَرَهَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِعِتْقِ
رَقَبَةٍ. قَالَ: وَمَا خَلَّفَ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً وَلَا عَقَارًا وَلَا
مَتَاعًا، إِلَّا سِتَّةَ دَنَانِيرَ فَضَلَتْ مِنْ عَطَائِهِ. وَكَانَ قَدِ
اكْتُتِبَ فِي دِيوَانِ السَّاحِلِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ الَّذِي أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ الْحَمَّامِ صَاحِبُ
الْحَمَّامِ، وَذَهَبَ إِلَى حَاجَةٍ، ثُمَّ جَاءَ فَفَتَحَ الْحَمَّامَ،
فَوَجَدَهُ مَيِّتًا قَدْ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ وَهُوَ
مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قُلْتُ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ مَاتَ بِبَيْرُوتَ مُرَابِطًا، وَاخْتَلَفُوا فِي
سَنَةِ وَفَاتِهِ; فَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ
أَحْمَدُ: قَالَ يَحْيَى: رَأَيْتُ الْأَوْزَاعِيَّ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسِينَ
وَمِائَةٍ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ.
وَقَالَ
الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الْبَيْرُوتِيُّ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: تُوُفِّيَ
يَوْمَ الْأَحَدِ، أَوَّلَ النَّهَارِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ صَفَرٍ،
سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ،
وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْهِرٍ، وَهِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ،
وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ - فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ - وَيَحْيَى بْنِ
مَعِينٍ، وَدُحَيْمٍ، وَخَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَسَعِيدِ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ.
قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ: وَلَمْ يَبْلُغْ سَبْعِينَ سَنَةً.
قُلْتُ: وَقَالَ غَيْرُهُ: جَاوَزَ السَّبْعِينَ. وَالصَّحِيحُ تِسْعٌ وَسِتُّونَ
سَنَةً; لِأَنَّهُ كَانَ مِيلَادُهُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ عَلَى
الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَهَذَا
ضَعِيفٌ.
وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ
يُقَرِّبُنِي إِلَى اللَّهِ. فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ فِي الْجَنَّةِ دَرَجَةً
أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ الْمَحْزُونِينَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا تَكَامَلَ بِنَاءُ قَصْرِ الْمَنْصُورِ الْمُسَمَّى بِالْخُلْدِ،
وَسَكَنَهُ أَيَّامًا يَسِيرَةً، ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَهُ.
وَفِيهَا مَاتَ طَاغِيَةُ الرُّومِ.
وَفِيهَا وَجَّهَ الْمَنْصُورُ ابْنَهُ الْمَهْدِيَّ إِلَى الرَّقَّةِ، وَأَمَرَهُ
بِعَزْلِ مُوسَى بْنِ كَعْبٍ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَأَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْهَا
خَالِدَ بْنَ بَرْمَكَ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ نُكْتَةٍ غَرِيبَةٍ اتَّفَقَتْ لِيَحْيَى
بْنِ خَالِدٍ; وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْصُورَ كَانَ قَدْ تَغَضَّبَ عَلَى خَالِدِ
بْنِ بَرْمَكَ، وَأَلْزَمَهُ بِحَمْلِ ثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفٍ، فَضَاقَ ذَرْعًا
بِذَلِكَ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ وَلَا حَالٌ، وَعَجَزَ عَنْ أَكْثَرِ مَا
طُلِبَ مِنْهُ، وَقَدْ أَجَّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ ذَلِكَ
فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَدَمُهُ هَدْرٌ، فَجَعَلَ يُرْسِلُ ابْنَهُ يَحْيَى إِلَى
أَصْحَابِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ يَسْتَقْرِضُ مِنْهُمْ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ
أَعْطَاهُ الْمِائَةَ أَلْفٍ، وَمِنْهُمْ أَقَلَّ وَأَكْثَرَ.
قَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ: فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ تِلْكَ
الْأَيَّامِ عَلَى جِسْرِ بَغْدَادَ، وَأَنَا مَهْمُومٌ فِي تَحْصِيلِ مَا طُلِبَ
مَنَّا وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، إِذْ وَثَبَ إِلَيَّ زَاجِرٌ - يَعْنِي مِنْ
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَكُونُونَ عِنْدَ الْجِسْرِ مِنَ الطُّرُقِيَّةِ - فَقَالَ
لِي: أَبْشِرْ. فَلَمْ أَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَتَقَدَّمَ حَتَّى أَخَذَ بِلِجَامِ
فَرَسِي، ثُمَّ قَالَ لِي: أَنْتَ مَهْمُومٌ، وَاللَّهِ لَيُفَرِّجَنَّ اللَّهُ
هَمَّكَ،
وَلَتَمُرَّنَّ غَدًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَاللِّوَاءُ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَإِنْ
كَانَ مَا قُلْتُ حَقًّا فَلِي عَلَيْكَ خَمْسَةُ آلَافٍ. فَقُلْتُ: نَعَمْ.
وَلَوْ قَالَ: خَمْسُونَ أَلْفًا. لَقُلْتُ: نَعَمْ. لِبُعْدِ ذَلِكَ عِنْدِي.
قَالَ: وَذَهَبْتُ لِشَأْنِي، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْنَا مِنَ الْحِمْلِ
ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ، فَوَرَدَ الْخَبَرُ إِلَى الْمَنْصُورِ بِانْتِقَاضِ
الْمَوْصِلِ وَانْتِشَارِ الْأَكْرَادِ بِهَا، فَاسْتَشَارَ الْأُمَرَاءَ مَنْ
يَصْلُحُ لِلْمَوْصِلِ؟ فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِخَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، فَقَالَ
لَهُ الْمَنْصُورُ: وَيْحَكَ! أَوَيُصْلِحُ لِذَلِكَ بَعْدَمَا فَعَلْنَا بِهِ مَا
فَعَلْنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَأَنَا الضَّامِنُ أَنَّهُ يَصْلُحُ لَهَا. فَأَمَرَ
بِإِحْضَارِهِ، فَوَلَّاهُ إِيَّاهَا، وَوَضَعَ عَنْهُ بَقِيَّةَ مَا كَانَ
عَلَيْهِ، وَعَقَدَ لَهُ اللِّوَاءَ، وَوَلَّى ابْنَهُ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ
أَذْرَبِيجَانَ، وَخَرَجَ النَّاسُ فِي خِدْمَتِهِمَا. قَالَ يَحْيَى: فَمَرَرْنَا
بِالْجِسْرِ، فَثَارَ إِلَيَّ ذَلِكَ الزَّاجِرُ فَطَالَبَنِي بِمَا وَعَدْتُهُ
بِهِ فَأَمَرْتُ لَهُ بِهِ، فَقَبَضَ خَمْسَةَ آلَافٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْمَنْصُورُ إِلَى الْحَجِّ، فَسَاقَ الْهَدْيَ
مَعَهُ، فَلَمَّا جَاوَزَ الْكُوفَةَ بِمَرَاحِلَ أَخَذَهُ وَجَعُهُ الَّذِي مَاتَ
فِيهِ، وَكَانَ عِنْدَهُ سُوءُ مِزَاجٍ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ
الْحَرِّ وَرُكُوبِهِ فِي الْهَوَاجِرِ، وَأَخَذَهُ إِسْهَالٌ وَأَفْرَطَ بِهِ،
فَقَوِيَ مَرَضُهُ، وَدَخَلَ مَكَّةَ، فَتُوُفِّيَ بِهَا لَيْلَةَ السَّبْتِ
لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ بِكَدَاءٍ
عِنْدَ ثَنِيَّةِ الْمُعَلَّى الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَكَانَ عُمْرُهُ
يَوْمَئِذٍ ثَلَاثًا - وَقِيلَ: أَرْبَعًا. وَقِيلَ: خَمْسًا - وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَقِيلَ: إِنَّهُ بَلَغَ ثَمَانِيًا وَسِتِّينَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَتَمَ الرَّبِيعُ مَوْتَهُ حَتَّى أَخَذَ الْبَيْعَةَ لِلْمَهْدِيِّ، مِنَ
الْقُوَّادِ وَرُءُوسِ بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ دُفِنَ. وَكَانَ الَّذِي صَلَّى
عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُوَ الَّذِي
أَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَهَذِهِ
تَرْجَمَةُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ.
وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ أَخِيهِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ، وَأُمُّهُ أُمُّ
وَلَدٍ، اسْمُهَا سَلَّامَةُ.
رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ. أَوْرَدَهُ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
السُّلَمِيِّ عَنِ الْمَأْمُونِ، عَنِ الرَّشِيدِ، عَنِ الْمَهْدِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ الْمَنْصُورِ بِهِ.
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، سَنَةَ سِتٍّ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَعُمُرُهُ يَوْمَئِذٍ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سَنَةً;
لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي صَفَرٍ
مِنْهَا بِالْحُمَيْمَةِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً
إِلَّا أَيَّامًا.
وَكَانَ أَسْمَرَ اللَّوْنِ، مَوْفُورَ اللِّمَّةِ، خَفِيفَ اللِّحْيَةِ، رَحْبَ
الْجَبْهَةِ، أَقْنَى الْأَنْفِ بَيِّنَ الْقَنَا، أَعْيَنَ كَأَنَّ عَيْنَيْهِ
لِسَانَانِ نَاطِقَانِ، تُخَالِطُهُ أُبَّهَةُ الْمُلْكِ، وَتَقْبَلُهُ الْقُلُوبُ
وَتَتْبَعُهُ الْعُيُونُ يُعْرَفُ الشَّرَفُ فِي تَوَاضُعِهِ، وَالْعِتْقُ فِي
صُورَتِهِ، وَاللُّبُّ فِي مِشْيَتِهِ. هَكَذَا وَصَفَهُ بَعْضُ مَنْ رَآهُ.
وَقَدْ
صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مِنَّا السَّفَّاحُ وَالْمَنْصُورُ
وَالْمَهْدِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى يُسَلِّمَهَا إِلَى عِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَلَا يَصِحُّ
رَفْعُهُ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ أُمَّهُ سَلَّامَةَ قَالَتْ: رَأَيْتُ
حِينَ حَمَلْتُ بِهِ كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنِّي أَسَدٌ، فَزَأَرَ وَأَقْعَى عَلَى
يَدَيْهِ، فَمَا بَقِيَ أَسَدٌ حَتَّى جَاءَ فَسَجَدَ لَهُ.
وَقَدْ رَأَى الْمَنْصُورُ فِي صِغَرِهِ مَنَامًا غَرِيبًا، فَكَانَ يَقُولُ:
يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ فِي أَلْوَاحِ الذَّهَبِ، وَيُعَلَّقَ فِي أَعْنَاقِ
الصِّبْيَانِ. قَالَ: رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِذَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَعْبَةِ، وَالنَّاسُ
مُجْتَمِعُونَ حَوْلَهَا، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ مُنَادٍ فَنَادَى: أَيْنَ عَبْدُ
اللَّهِ؟ فَقَامَ أَخِي السَّفَّاحُ يَتَخَطَّى الرِّجَالَ حَتَّى جَاءَ بَابَ
الْكَعْبَةِ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَأَدْخَلَهُ إِيَّاهَا، فَمَا لَبِثَ أَنْ
خَرَجَ وَمَعَهُ لِوَاءٌ أَسْوَدُ. ثُمَّ نُودِيَ: أَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ؟
فَقُمْتُ أَنَا وَعَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ نَسْتَبِقُ، فَسَبَقْتُهُ
إِلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، فَدَخَلْتُهَا، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَبِلَالٌ، فَعَقَدَ لِي لِوَاءً، وَأَوْصَانِي
بِأُمَّتِهِ، وَعَمَّمَنِي عِمَامَةً كَوَّرَهَا ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ كَوْرًا،
وَقَالَ: خُذْهَا إِلَيْكَ أَبَا الْخُلَفَاءِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ سِجْنُ الْمَنْصُورِ فِي أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَاجْتَمَعَ
بِهِ فِي السِّجْنِ نُوبَخْتُ
الْمُنَجِّمُ،
وَتَوَسَّمَ فِيهِ الرِّيَاسَةَ، فَقَالَ لَهُ: مِمَّنْ تَكُونُ؟ فَلَمَّا عَرَفَ
نَسَبَهُ وَكُنْيَتَهُ قَالَ: أَنْتَ الْخَلِيفَةُ الَّذِي يَلِي الْأَرْضَ.
فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ! مَاذَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: هُوَ مَا أَقُولُ لَكَ، فَضَعْ
لِي خَطَّكَ فِي هَذِهِ الرُّقْعَةِ أَنْ تُعْطِيَنِي شَيْئًا إِذَا وَلِيتَ.
فَكَتَبَ لَهُ، فَلَمَّا وَلِيَ أَكْرَمَهُ الْمَنْصُورُ، وَأَعْطَاهُ وَأَسْلَمَ
نُوبَخْتُ عَلَى يَدَيْهِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَجُوسِيًّا، ثُمَّ كَانَ مِنْ
أَخَصِّ أَصْحَابِ الْمَنْصُورِ عِنْدَهُ.
وَقَدْ حَجَّ الْمَنْصُورُ بِالنَّاسِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، أَحْرَمَ
مِنَ الْحِيرَةِ، وَفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَفِي سَنَةِ سَبْعٍ
وَأَرْبَعِينَ، وَفِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
الَّتِي كَانَتْ فِيهَا وَفَاتُهُ. وَبَنَى مَدِينَةَ السَّلَامِ بَغْدَادَ،
وَالرَّافِقَةَ، وَقَصْرَ الْخُلْدِ.
قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ يُونُسَ الْحَاجِبُ: سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ يَقُولُ:
الْخُلَفَاءُ أَرْبَعَةٌ; أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ،
وَالْمُلُوكُ أَرْبَعَةٌ; مُعَاوِيَةُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ،
وَهِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: قَالَ لِي الْمَنْصُورُ: مَنْ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقُلْتُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ.
فَقَالَ: أَصَبْتَ، وَذَلِكَ رَأْيُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ الْفِهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ عَلَى مِنْبَرِ
عَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا سُلْطَانُ
اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، أَسُوسُكُمْ بِتَوْفِيقِهِ وَرُشْدِهِ، وَخَازِنُهُ عَلَى
مَالِهِ، أُقَسِّمُهُ بِإِرَادَتِهِ، وَأُعْطِيهِ بِإِذْنِهِ، وَقَدْ جَعَلَنِي
اللَّهُ عَلَيْهِ
قُفْلًا،
إِذَا شَاءَ أَنْ يَفْتَحَنِي لِإِعْطَائِكُمْ وَقَسْمِ أَرْزَاقِكُمْ فَتَحَنِي،
وَإِذَا شَاءَ أَنْ يُقْفِلَنِي عَلَيْهِ أَقْفَلَنِي، فَارْغُبُوا إِلَى اللَّهِ
أَيُّهَا النَّاسُ، وَسَلُوهُ - فِي هَذَا الْيَوْمِ الشَّرِيفِ الَّذِي وَهَبَ
لَكُمْ فِيهِ مِنْ فَضْلِهِ مَا أَعْلَمَكُمْ بِهِ فِي كِتَابِهِ، إِذْ يَقُولُ:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [ الْمَائِدَةِ: 3 ]. أَنْ يُوَفِّقَنِي
لِلصَّوَابِ، وَيُسَدِّدَنِي لِلرَّشَادِ، وَيُلْهِمَنِي الرَّأْفَةَ بِكُمْ،
وَالْإِحْسَانَ إِلَيْكُمْ، وَيَفْتَحَنِي لِإِعْطَائِكُمْ، وَقَسْمِ
أَرْزَاقِكُمْ بِالْعَدْلِ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَقَدْ خَطَبَ يَوْمًا، فَاعْتَرَضَهُ رَجُلٌ وَهُوَ يُثْنِي عَلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اذْكُرْ مَنْ أَنْتَ ذَاكِرُهُ،
وَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا تَأْتِيهِ وَتَذَرُهُ. فَسَكَتَ الْمَنْصُورُ حَتَّى
انْتَهَى كَلَامُ الرَّجُلِ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِمَّنْ
قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فِيهِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [ الْبَقَرَةِ: 206 ]. أَوْ أَنْ أَكُونَ
جَبَّارًا عَصِيًّا، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الْمَوْعِظَةَ عَلَيْنَا نَزَلَتْ،
وَمِنْ عِنْدِنَا بُيِّنَتْ. ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: مَا أَظُنُّكَ فِي
مَقَالَتِكَ هَذِهِ تُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ:
وَعَظَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا
فَتَفْعَلُوا كَفِعْلِهِ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَاحْتُفِظَ بِهِ، وَعَادَ إِلَى
خُطْبَتِهِ فَأَكْمَلَهَا، ثُمَّ قَالَ لِمَنْ هُوَ عِنْدَهُ: اعْرِضْ عَلَيْهِ
الدُّنْيَا فَإِنْ قَبِلَهَا فَأَعْلِمْنِي، وَإِنْ رَدَّهَا فَأَعْلِمْنِي. فَمَا
زَالَ بِهِ الرَّجُلُ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ حَتَّى أَخَذَ الْمَالَ
وَالْجَوَارِيَ، وَوَلَّاهُ الْحِسْبَةَ وَالْمَظَالِمَ، وَأَدْخَلَهُ عَلَى
الْخَلِيفَةِ فِي بِزَّةٍ حَسَنَةٍ، وَثِيَابٍ وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَ لَهُ
الْخَلِيفَةُ: وَيْحَكَ! إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ مُحِقًّا لَمَا قَبِلْتَ شَيْئًا
مِمَّا أَرَى، وَلَكِنْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ عَنْكَ: إِنَّكَ وَعَظْتَ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَخَرَجْتَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ
أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
وَقَدْ قَالَ الْمَنْصُورُ لِابْنِهِ الْمَهْدِيِّ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ لَا
يُصْلِحُهُ إِلَّا التَّقْوَى، وَالسُّلْطَانَ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الطَّاعَةُ،
وَالرَّعِيَّةَ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا الْعَدْلُ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْعَفْوِ
أَقْدَرُهُمْ عَلَى الْعُقُوبَةِ، وَأَنْقَصُ النَّاسِ عَقْلًا مَنْ ظَلَمَ مَنْ هُوَ
دُونَهُ.
وَقَالَ أَيْضًا: يَا بُنَيَّ، اسْتَدِمِ النِّعْمَةَ بِالشُّكْرِ، وَالْقُدْرَةَ
بِالْعَفْوِ، وَالطَّاعَةَ بِالتَّأْلِيفِ، وَالنَّصْرَ بِالتَّوَاضُعِ
وَالرَّحْمَةِ لِلنَّاسِ، وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَنَصِيبَكَ
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَحَضَرَ عِنْدَهُ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ يَوْمًا، وَقَدْ أَمَرَ بِرَجُلٍ أَنْ
تُضْرَبَ عُنُقُهُ، وَأَحْضَرَ النِّطْعَ وَالسَّيْفَ، فَقَالَ لَهُ مُبَارَكٌ:
سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: لِيَقُمْ مَنْ
أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا. فَأَمَرَ بِالْعَفْوِ
عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ. ثُمَّ أَخَذَ يُعَدِّدُ عَلَى جُلَسَائِهِ عَظِيمَ
جَرَائِمِهِ وَمَا كَانَ صَنَعَهُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أُتِيَ الْمَنْصُورُ بِرَجُلٍ لِيُعَاقِبَهُ فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الِانْتِقَامُ عَدْلٌ، وَالْعَفْوُ فَضْلٌ، وَنُعِيذُ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ أَنْ يَرْضَى لِنَفْسِهِ بِأَوْكَسِ
النَّصِيبَيْنِ، دُونَ أَنْ يَبْلُغَ أَرْفَعَ الدَّرَجَتَيْنِ. قَالَ: فَعَفَا
عَنْهُ.
قَالَ
الْأَصْمَعِيُّ: قَالَ الْمَنْصُورُ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: احْمَدِ
اللَّهَ يَا أَعْرَابِيُّ الَّذِي رَفَعَ عَنْكُمُ الطَّاعُونَ بِوِلَايَتِنَا.
فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَجْمَعُ عَلَيْنَا حَشَفًا وَسُوءَ كَيْلٍ ;
وِلَايَتَكُمْ وَالطَّاعُونَ. وَالْحِكَايَاتُ فِي ذِكْرِ حِلْمِهِ وَعَفْوِهِ
كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَدَخَلَ بَعْضُ الزُّهَّادِ عَلَى الْمَنْصُورِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ
أَعْطَاكَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا، فَاشْتَرِ نَفْسَكَ بِبَعْضِهَا، وَاذْكُرْ
لَيْلَةً تَبِيتُ فِي الْقَبْرِ لَمْ تَبِتْ قَبْلَهَا لَيْلَةً، وَاذْكُرْ
لَيْلَةً تَمَخَّضُ عَنْ يَوْمٍ لَا لَيْلَةَ بَعْدَهُ. قَالَ: فَأَفْحَمَ
الْمَنْصُورَ قَوْلُهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ فَقَالَ: لَوِ احْتَجْتُ إِلَى
مَالِكَ لَمَا وَعَظْتُكَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ الْقَدَرِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى
الْمَنْصُورِ، فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَأَدْنَاهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ أَهْلِهِ
وَعِيَالِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ، عِظْنِي. فَقَرَأَ عَلَيْهِ أَوَّلَ سُورَةِ
" الْفَجْرِ " إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ
[ الْفَجْرِ: 14 ]. قَالَ: فَبَكَى الْمَنْصُورُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى
كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ قَبْلَ تِلْكَ السَّاعَةِ ثُمَّ
قَالَ: زِدْنِي. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاكَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا،
فَاشْتَرِ نَفْسَكَ بِبَعْضِهَا، وَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ كَانَ لِمَنْ قَبْلَكَ.
ثُمَّ صَارَ إِلَيْكَ، ثُمَّ هُوَ صَائِرٌ لِمَنْ بَعْدَكَ، وَاذْكُرْ لَيْلَةً
تُسْفِرُ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَبَكَى الْمَنْصُورُ أَشَدَّ مِنْ بُكَائِهِ
الْأَوَّلِ حَتَّى اخْتَلَفَ جَفْنَاهُ. فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مُجَالِدٍ:
رِفْقًا بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عَمْرٌو: وَمَاذَا عَلَى أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْ
يَبْكِيَ
مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ أَمَرَ لَهُ الْمَنْصُورُ بِعَشَرَةِ
آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا. فَقَالَ الْمَنْصُورُ:
وَاللَّهِ لَتَأْخُذَنَّهَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا آخُذَنَّهَا. فَقَالَ لَهُ
الْمَهْدِيُّ وَهُوَ جَالِسٌ فِي سَوَادِهِ وَسَيْفِهِ، إِلَى جَنْبِ أَبِيهِ:
أَيَحْلِفُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَتَحْلِفُ أَنْتَ؟! فَالْتَفَتَ إِلَى
الْمَنْصُورِ، فَقَالَ: وَمَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا ابْنِي مُحَمَّدٌ
الْمَهْدِيُّ وَلِيُّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِي. فَقَالَ: أَسْمَيْتَهُ اسْمًا لَمْ
يَسْتَحِقَّهُ بِعَمَلِهِ هَذَا، وَأَلْبَسْتَهُ لَبُوسًا مَا هُوَ لَبُوسُ
الْأَبْرَارِ، وَلَقَدْ مَهَّدْتَ لَهُ أَمْرًا أَمْتَعَ مَا يَكُونُ بِهِ،
أَشْغَلَ مَا تَكُونُ عَنْهُ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْمَهْدِيِّ فَقَالَ:
يَابْنَ أَخِي، إِذَا حَلَفَ أَبُوكَ حَلَفَ عَمُّكَ; لِأَنَّ أَبَاكَ أَقْدَرُ
عَلَى الْكَفَّارَةِ مِنْ عَمِّكَ. ثُمَّ قَالَ الْمَنْصُورُ: يَا أَبَا
عُثْمَانَ، هَلْ مِنْ حَاجَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: لَا
تَبْعَثْ إِلَيَّ حَتَّى آتِيَكَ. فَقَالَ: إِذًا وَاللَّهِ لَا نَلْتَقِي.
فَقَالَ: عَنْ حَاجَتِي سَأَلْتَنِي. فَوَدَّعَهُ وَانْصَرَفَ، فَلَمَّا وَلَّى
أَبَدَّهُ بَصَرَهُ وَهُوَ يَقُولُ:
كُلُّكُمْ يَمْشِي رُوَيْدْ كُلُّكُمْ يَطْلُبُ صَيْدْ غَيْرَ عَمْرِو بْنِ
عُبَيْدْ
وَيُقَالُ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ أَنْشَدَ الْمَنْصُورَ قَصِيدَةً فِي
مَوْعِظَتِهِ إِيَّاهُ، وَهِيَ قَوْلُهُ:
يَا أَيُّهَذَا الَّذِي قَدْ غَرَّهُ الْأَمَلُ وَدُونَ مَا يَأْمَلُ التَّنْغِيصُ
وَالْأَجَلْ
أَلَا تَرَى أَنَّمَا الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا كَمَنْزِلِ الرَّكْبِ حَلُّوا
ثُمَّتَ ارْتَحَلُوا
حُتُوفُهَا رَصَدٌ وَعَيْشُهَا نَكَدٌ وَصَفْوُهَا كَدَرٌ وَمُلْكُهَا دُوَلٌ
تَظَلُّ تَقْرَعُ بِالرَّوْعَاتِ سَاكِنَهَا فَمَا يَسُوغُ لَهُ لِينٌ وَلَا
جَدَلُ
كَأَنَّهُ
لِلْمَنَايَا وَالرَّدَى غَرَضٌ تَظَلُّ فِيهِ بَنَاتُ الدَّهْرِ تَنْتَضِلُ
تُدِيرُهُ مَا أَدَارَتْهُ دَوَائِرُهَا مِنْهَا الْمُصِيبُ وَمِنْهَا الْمُخْطِئُ
الزَّلِلُ
وَالنَّفْسُ هَارِبَةٌ وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهَا وَكُلُّ عَثْرَةِ رَجُلٍ عِنْدَهَا
جَلَلُ
وَالْمَرْءُ يَسْعَى بِمَا يَسْعَى لِوَارِثِهِ وَالْقَبْرُ وَارِثُ مَا يَسْعَى
لَهُ الرَّجُلُ
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ، عَنِ الرِّيَاشِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ:
رَأَتْ جَارِيَةٌ لِلْمَنْصُورِ ثَوْبَهُ مَرْقُوعًا فَقَالَتْ: خَلِيفَةٌ
وَقَمِيصُهُ مَرْقُوعٌ؟! فَقَالَ: وَيْحَكِ! أَمَا سَمِعْتِ مَا قَالَ ابْنُ
هَرْمَةَ:
قَدْ يُدْرِكُ الشَّرَفَ الْفَتَى وَرِدَاؤُهُ خَلَقٌ وَجَيْبُ قَمِيصِهِ
مَرْقُوعُ
وَمِنْ شَعْرِهِ لَمَّا عَزَمَ عَلَى قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ:
إِذَا كُنْتَ ذَا رَأْيٍ فَكُنْ ذَا عَزِيمَةٍ فَإِنَّ فَسَادَ الرَّأْيِ أَنْ
تَتَرَدَّدَا
وَلَا تُمْهِلِ الْأَعْدَاءَ يَوْمًا بِقُدْرَةٍ وَبَادِرْهُمْ أَنْ يَمْلِكُوا
مِثْلَهَا غَدَا
وَلَمَّا قَتَلَهُ وَرَآهُ طَرِيحًا بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ:
قَدِ اكْتَنَفَتْكَ خَلَّاتٌ ثَلَاثٌ جَلَبْنَ عَلَيْكَ مَحْتُومَ الْحِمَامِ
خِلَافُكَ وَامْتِنَاعُكَ مِنْ يَمِينِي وَقَوْدُكَ لِلْجَمَاهِيرِ الْعِظَامِ
وَمِنْ
شَعْرِهِ أَيْضًا:
الْمَرْءُ يَأْمُلُ أَنْ يَعِي شِ وَطُولُ عُمْرٍ قَدْ يَضُرُّهْ
تَبْلَى بَشَاشَتُهُ وَيَبْ قَى بَعْدَ حُلْوِ الْعَيْشِ مُرُّهْ
وَتَخُونُهُ الْأَيَّامُ حَتَّ ى لَا يَرَى شَيْئًا يَسُرُّهْ
كُمْ شَامِتٍ بِي إِنْ هَلَكْ تُ وَقَائِلٍ لِلَّهِ دَرُّهْ
قَالُوا: وَكَانَ الْمَنْصُورُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَتَصَدَّى لِلْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْوِلَايَاتِ وَالْعَزْلِ،
وَالنَّظَرِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَإِذَا صَلَّى الظُّهْرَ دَخَلَ
مَنْزِلَهُ، وَاسْتَرَاحَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ إِلَى الْعَصْرِ، فَإِذَا صَلَّاهَا
جَلَسَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ وَمَصَالِحِهِمُ الْخَاصَّةِ، فَإِذَا صَلَّى الْعَشَاءَ
نَظَرَ فِي الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ الْوَارِدَةِ مِنَ الْآفَاقِ، وَجَلَسَ
عِنْدَهُ مَنْ يُسَامِرُهُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى أَهْلِهِ،
فَيَنَامُ فِي فِرَاشِهِ إِلَى الثُّلُثِ الْآخِرِ، فَيَقُومُ إِلَى وَضُوئِهِ
وَصَلَاتِهِ حَتَّى يَتَفَجَّرَ الصَّبَاحُ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي
بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيَجْلِسُ فِي إِيوَانِهِ.
وَقَدْ وَلَّى بَعْضَ الْعُمَّالِ عَلَى بَلَدٍ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُ قَدْ تَصَدَّى
لِلصَّيْدِ، وَأَعَدَّ لِذَلِكَ الْكِلَابَ وَالْبُزَاةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
الْمَنْصُورُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَعَدِمَتْكَ عَشِيرَتُكَ، وَيْحَكَ! إِنَّا
إِنَّمَا اسْتَكْفَيْنَاكَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ نَسْتَكْفِكَ أُمُورَ
الْوُحُوشِ، فَسَلِّمْ مَا كُنْتَ تَلِي مِنْ عَمَلِنَا إِلَى فُلَانٍ، وَالْحَقْ
بِأَهْلِكَ مَلُومًا مَدْحُورًا.
وَأُتِيَ يَوْمًا بِخَارِجِيٍّ قَدْ هَزَمَ جُيُوشَ الْمَنْصُورِ غَيْرَ مَرَّةٍ،
فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ
قَالَ
لَهُ الْمَنْصُورُ: وَيْحَكَ! يَا ابْنَ الْفَاعِلَةِ، مِثْلُكُ يَهْزِمُ
الْجُيُوشَ؟ فَقَالَ الْخَارِجِيُّ: وَيْلَكَ، سَوْءَةٌ لَكَ! بَيْنِي وَبَيْنَكَ
أَمْسِ السَّيْفُ وَالْقَتْلُ، وَالْيَوْمَ الْقَذْفُ وَالسَّبُّ! وَمَا
يُؤَمِّنُكَ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ وَقَدْ يَئِسْتُ مِنَ الْحَيَاةِ، فَلَا
تَسْتَقِيلُهَا أَبَدًا؟! قَالَ: فَاسْتَحْيَا مِنْهُ الْمَنْصُورُ وَأَطْلَقَهُ.
فَمَا رَأَى لَهُ وَجْهًا إِلَى الْحَوْلِ.
وَقَالَ أَيْضًا: يَا بُنَيَّ، لَيْسَ الْعَاقِلُ مَنْ يَحْتَالُ لِلْأَمْرِ
الَّذِي وَقَعَ فِيهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَحْتَالُ
لِلْأَمْرِ الَّذِي غَشِيَهُ حَتَّى لَا يَقَعَ فِيهِ.
وَقَالَ الْمَنْصُورُ أَيْضًا يَوْمًا لِابْنِهِ الْمَهْدِيِّ: يَا بُنَيَّ، لَا
تَجْلِسْ مَجْلِسًا إِلَّا وَعِنْدَكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يُحَدِّثُكَ;
فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ قَالَ: عِلْمُ الْحَدِيثِ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا ذُكْرَانُ
الرِّجَالِ، وَلَا يَكْرَهُهُ إِلَّا مُؤَنَّثُوهُمْ، وَصَدَقَ أَخُو زُهْرَةَ.
وَقَدْ كَانَ الْمَنْصُورُ فِي شَبِيبَتِهِ يَطْلُبُ الْعِلْمَ مِنْ مَظَانِّهِ
وَالْحَدِيثَ وَالْفِقْهَ، فَنَالَ مِنْ ذَلِكَ جَانِبًا جَيِّدًا، وَطَرَفًا
صَالِحًا، وَقَدْ قِيلَ لَهُ يَوْمًا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ بَقِيَ
شَيْءٌ مِنَ اللَّذَّاتِ لَمْ تَنَلْهُ؟ قَالَ: لَا، سِوَى شَيْءٍ وَاحِدٍ.
قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: قَوْلُ الْمُحَدَّثِ لِلشَّيْخِ: مَنْ ذَكَرْتَ،
رَحِمَكَ اللَّهُ؟ فَاجْتَمَعَ وُزَرَاؤُهُ وَكُتَّابُهُ، وَجَلَسُوا حَوْلَهُ،
وَقَالُوا: لِيُمْلِ عَلَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ.
فَقَالَ: لَسْتُمْ بِهِمْ، إِنَّمَا هُمُ الدَّنِسَةُ ثِيَابُهُمْ، الْمُشَقَّقَةُ
أَرْجُلُهُمْ، الطَّوِيلَةُ شُعُورُهُمْ، بُرُدُ الْآفَاقِ، وَنَقْلَةُ
الْحَدِيثِ.
وَقَالَ
الْمَنْصُورُ يَوْمًا لِلْمَهْدِيِّ: كَمْ عِنْدَكَ رَايَةً؟ فَقَالَ: لَا
أَدْرِي. فَقَالَ: هَذَا هُوَ التَّقْصِيرُ، أَنْتَ لِأَمْرِ الْخِلَافَةِ أَشَدُّ
تَضْيِيعًا، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا بُنَيَّ.
وَقَالَتْ خَالِصَةُ إِحْدَى حَظِيَّاتِ الْمَهْدِيِّ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى
الْمَنْصُورِ وَهُوَ يَشْتَكِي ضِرْسَهُ، وَيَدَاهُ عَلَى صُدْغَيْهِ، فَقَالَ
لِي: كَمْ عِنْدَكِ مِنَ الْمَالِ يَا خَالِصَةُ؟ فَقُلْتُ: أَلْفُ دِرْهَمٍ.
فَقَالَ: ضَعِي يَدَكِ عَلَى رَأْسِي وَاحْلِفِي. فَقُلْتُ: عِنْدِي عَشَرَةُ
آلَافِ دِينَارٍ. قَالَ: اذْهَبِي فَاحْمِلِيهَا إِلَيَّ. قَالَتْ: فَذَهَبْتُ
حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى سَيِّدِي الْمَهْدِيِّ وَهُوَ مَعَ وَزَوْجَتِهِ
الْخَيْزُرَانِ، فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ مَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ،
فَرَكَلَنِي بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: وَيْحَكِ! إِنَّهُ لَيْسَ بِهِ وَجَعٌ،
وَلَكِنِّي سَأَلْتُهُ بِالْأَمْسِ مَالًا، فَتَمَارَضَ وَإِنَّهُ لَا يَسَعُكِ
إِلَّا مَا أَمَرَكِ بِهِ. فَذَهَبَتْ إِلَيْهِ خَالِصَةُ وَمَعَهَا عَشَرَةُ
آلَافِ دِينَارٍ، فَاسْتَدْعَى بِالْمَهْدِيِّ، فَقَالَ لَهُ: تَشْكُو الْحَاجَةَ
وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ خَالِصَةَ؟ !
وَقَالَ الْمَنْصُورُ لِخَازِنِهِ: إِذَا عَلِمْتَ بِمَجِيءِ الْمَهْدِيِّ
فَائْتِنِي بِخُلْقَانِ الثِّيَابِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ. فَجَاءَ بِهَا
فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَدَخَلَ الْمَهْدِيُّ وَالْمَنْصُورُ يُقَلِّبُهَا،
فَجَعَلَ الْمَهْدِيُّ يَضْحَكُ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، مَنْ لَيْسَ لَهُ
خَلَقٌ مَا لَهُ جَدِيدٌ، وَقَدْ حَضَرَ الشِّتَاءُ فَنَحْتَاجُ نُعِينُ
الْعِيَالِ وَالْوَلَدَ. فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: عَلَيَّ كُسْوَةُ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ وَعِيَالِهِ. فَقَالَ: دُونَكَ فَافْعَلْ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْهَيْثَمِ، أَنَّ الْمَنْصُورَ أَطْلَقَ فِي يَوْمٍ
وَاحِدٍ لِبَعْضِ أَعْمَامِهِ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ
فَرَّقَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَلَا يُعْلَمُ
خَلِيفَةٌ
فَرَّقَ مِثْلَ هَذَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.
وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ عِنْدَ الْمَنْصُورِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [ الْحَدِيدِ: 24 ]. فَقَالَ: وَاللَّهِ
لَوْلَا أَنَّ الْمَالَ حِصْنٌ لِلسُّلْطَانِ وَدِعَامَةٌ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا
وَعِزُّهُمَا وَزِينَتُهُمَا مَا بِتُّ لَيْلَةً وَاحِدَةً وَأَنَا أُحْرِزُ
مِنْهُ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا; لِمَا أَجِدُ لِبَذْلِ الْمَالِ مِنَ
اللَّذَاذَةِ، وَلِمَا أَعْلَمُ فِي إِعْطَائِهِ مِنْ جَزِيلِ الْمَثُوبَةِ.
وَقَرَأَ عِنْدَهُ قَارِئٌ آخَرُ: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى
عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [ الْإِسْرَاءِ: 29 ]. فَقَالَ: مَا
أَحْسَنَ مَا أَدَّبَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ!
وَقَالَ الْمَنْصُورُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي; عَلِيَّ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَادَةُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا الْأَسْخِيَاءُ، وَفِي
الْآخِرَةِ الْأَتْقِيَاءُ.
وَلَمَّا عَزَمَ الْمَنْصُورُ عَلَى الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي
سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ - دَعَا وَلَدَهُ الْمَهْدِيَّ وَلِيَّ
عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ فَأَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَفِي أَهْلِ بَيْتِهِ
وَبِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَفْعَلُ الْأَشْيَاءَ،
وَيَسُدُّ الثُّغُورَ بِوَصَايَا يَطُولُ بَسْطُهَا، وَحَرَّجَ عَلَيْهِ أَنْ لَا
يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ خَزَائِنِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ وَفَاتَهُ;
فَإِنَّ بِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ لَوْ لَمْ يُجْبَ
إِلَيْهِمْ مِنَ الْخَرَاجِ دِرْهَمٌ عَشْرَ سِنِينَ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ أَنْ
يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ،
فَإِنَّهُ
لَمْ يَرَ قَضَاءَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. فَامْتَثَلَ الْمَهْدِيُّ ذَلِكَ
كُلَّهُ، وَأَحْرَمَ الْمَنْصُورُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ مِنَ الرُّصَافَةِ، وَسَاقَ
بُدُنَهُ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي وُلِدْتُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَقَدْ
وَقَعَ لِي أَنِّي أَمُوتُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَدَانِي
عَلَى الْحَجِّ عَامِي هَذَا. وَوَدَّعَهُ وَسَارَ، وَاعْتَرَاهُ مَرَضُ الْمَوْتِ
فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَمَا دَخَلَ مَكَّةَ إِلَّا وَهُوَ مُثْقَلٌ جِدًّا،
فَلَمَّا كَانَ بِآخِرِ مَنْزِلٍ نَزَلَهُ دُونَ مَكَّةَ إِذَا فِي صَدْرِ
مَنْزِلِهِ مَكْتُوبٌ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
أَبَا جَعْفَرٍ حَانَتْ وَفَاتُكَ وَانْقَضَتْ سُنُوكَ وَأَمْرُ اللَّهِ لَا بُدَّ
وَاقِعُ
أَبَا جَعْفَرٍ هَلْ كَاهِنٌ أَوْ مُنَجِّمٌ لَكَ الْيَوْمَ مِنْ كَرْبِ الْمَنِيَّةِ
مَانِعُ
فَدَعَا بِالْحَجَبَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِقِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا،
فَعَرَفَ أَنَّ أَجْلَهُ قَدْ نُعِيَ إِلَيْهِ.
قَالُوا: وَرَأَى الْمَنْصُورُ فِي مَنَامِهِ، وَيُقَالُ: بَلْ هَتَفَ بِهِ
هَاتِفٌ، وَهُوَ يَقُولُ:
أَمَا وَرَبِّ السُّكُونِ وَالْحَرَكْ إِنَّ الْمَنَايَا كَثِيرَةُ الشَّرَكْ
عَلَيْكِ يَا نَفْسُ إِنْ أَسَأْتِ وَإِنْ أَحْسَنْتِ يَا نَفْسُ كَانَ ذَاكَ لَكْ
مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا دَارَتْ نُجُومُ السَّمَاءِ فِي
الْفَلَكْ
إِلَّا بِنَقْلِ السُّلْطَانِ عَنْ مَلِكٍ إِذَا انْقَضَى مُلْكُهُ إِلَى مَلِكْ
حَتَّى يَصِيرَا بِهِ إِلَى مَلِكٍ مَا عَزَّ سُلْطَانُهُ بِمُشْتَرَكِ
ذَاكَ
بَدِيعُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاَلْ مُرْسِي الْجِبَالَ الْمُسَخِّرُ الْفَلَكِ
فَقَالَ الْمَنْصُورُ: هَذَا وَاللَّهِ أَوَانُ حُضُورِ أَجَلِي وَانْقِضَاءِ
عُمْرِي.
وَكَانَ قَدْ رَأَى قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَصْرِهِ الْخُلْدِ الَّذِي بَنَاهُ
وَتَأَنَّقَ فِيهِ، مَنَامًا أَفْزَعَهُ، فَقَالَ لِلرَّبِيعِ: وَيْحَكَ يَا
رَبِيعُ! لَقَدْ رَأَيْتُ مَنَامًا هَالَنِي; رَأَيْتُ قَائِلًا وَقَفَ فِي بَابِ
هَذَا الْقَصْرِ، وَهُوَ يَقُولُ:
كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ آهِلُهُ وَعُرِّيَ مِنْهُ أَهْلُهُ
وَمَنَازِلُهُ
وَصَارَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مِنْ بَعْدِ بَهْجَةٍ إِلَى جَدَثٍ تُبْنَى عَلَيْهِ
جَنَادِلُهُ
فَمَا أَقَامَ فِي الْخُلْدِ إِلَّا أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ حَتَّى خَرَجَ إِلَى
الْحَجِّ عَامَهُ هَذَا، وَمَرِضَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَدَخَلَهَا مُدْنَفًا
ثَقِيلًا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ لِسِتٍّ - وَقِيلَ: لِسَبْعٍ -
مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَكَانَ آخَرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لِي فِي
لِقَائِكَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ، إِنْ كُنْتُ عَصَيْتُكَ فِي
أُمُورٍ كَثِيرَةٍ فَقَدْ أَطَعْتُكَ فِي أَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكَ;
شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا. ثُمَّ مَاتَ.
وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: اللَّهُ ثِقَةُ عَبْدِ اللَّهِ، وَبِهِ يُؤْمِنُ.
وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ وَفَاتِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً عَلَى
الْمَشْهُورِ; مِنْهَا ثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ
سَنَةً
فِي الْخِلَافَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الْمُعَلَّى، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمِمَّا رُثِيَ بِهِ أَبُو جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، قَوْلُ سَلْمٍ الْخَاسِرِ الشَّاعِرِ:
عَجَبًا لِلَّذِي نَعَى النَّاعِيَانِ كَيْفَ فَاهَتْ بِمَوْتِهِ الشَّفَتَانِ
مَلِكٌ إِنْ غَدَا عَلَى الدَّهْرِ يَوْمًا أَصْبَحَ الدَّهْرُ سَاقِطًا
لِلْجِرَانِ
لَيْتَ كَفًّا حَثَتْ عَلَيْهِ تُرَابًا لَمْ تَعُدْ فِي يَمِينِهَا بَبَنَانُ
حِينَ دَانَتْ لَهُ الْبِلَادُ عَلَى الْعَسْ فِ وَأَغْضَى مِنْ خَوْفِهِ
الثَّقَلَانِ
أَيْنَ رَبُّ الزَّوْرَاءِ قَدْ قَلَّدَتْهُ الْ مُلْكَ عِشْرُونَ حِجَّةً
وَاثْنَتَانِ
إِنَّمَا الْمَرْءُ كَالزِّنَادِ إِذَا مَا أَخَذَتْهُ قَوَادِحُ النِّيرَانِ
لَيْسَ يَثْنِي هَوَاهُ زَجْرٌ وَلَا يَقْ دَحُ فِي حَبْلِهِ ذَوُو الْأَذْهَانِ
قَلَّدَتْهُ أَعِنَّةَ الْمُلْكِ حَتَّى قَادَ أَعْدَاءَهُ بِغَيْرِ عَنَانٍ
يُكْسَرُ الطَّرْفُ دُونَهُ وَتُرَى الْأَيْ دِي مِنْ خَوْفِهِ إِلَى الْأَذْقَانِ
ضَمَّ أَطْرَافَ مُلْكِهِ ثُمَّ أَضْحَى خَلْفَ أَقْصَاهُمْ وَدُونَ الدَّانِي
هَاشِمِيُّ التَّشْمِيرِ لَا يَحْمِلُ الثِّقْ لَ عَلَى غَارِبِ الشَّرُودِ
الْهِدَانِ
ذُو أَنَاةٍ يَنْسَى لَهَا الْخَائِفُ الْخَوْ فَ وَعَزْمٍ يَلْوِي بِكُلِّ
جَنَانِ
ذَهَبَتْ دُونَهُ النُّفُوسُ حِذَارًا غَيْرَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ فِي الْأَبْدَانِ
وَقَدْ دُفِنَ الْمَنْصُورُ بِثَنِيَّةِ الْمُعَلَّى عِنْدَ بَابِ مَكَّةَ، وَلَا
يُعْرَفُ قَبْرُهُ; لِأَنَّهُ عُمِّيَ قَبْرُهُ; فَإِنَّ الرَّبِيعَ حَفَرَ
مِائَةَ قَبْرٍ، وَدَفَنَهُ فِي غَيْرِهَا لِئَلَّا يُعْرَفَ.
ذِكْرُ
أَوْلَادِ الْمَنْصُورِ
مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ، وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَجَعْفَرٌ
الْأَكْبَرُ، مَاتَ فِي حَيَاتِهِ، وَأُمُّهُمَا أَرْوَى بِنْتُ مَنْصُورٍ،
وَعِيسَى، وَيَعْقُوبُ، وَسُلَيْمَانُ، وَأُمُّهُمْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ،
مِنْ وَلَدِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَجَعْفَرٌ الْأَصْغَرُ مِنْ أُمِّ
وَلَدٍ كُرْدِيَّةٍ، وَصَالِحٌ الْمِسْكِينُ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ رُومِيَّةٍ يُقَالُ
لَهَا: قَالِي الْفَرَّاشَةُ. وَالْقَاسِمُ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ أَيْضًا.
وَالْعَالِيَةُ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ.
ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمَهْدِيِّ ابْنِ الْمَنْصُورِ
لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ الْمَنْصُورُ بِمَكَّةَ لِسِتٍّ - وَقِيلَ: لِسَبْعٍ -
مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ،
أُخِذَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ بِمَكَّةَ مِنْ رُءُوسِ بَنِي هَاشِمٍ وَالْقُوَّادِ
الَّذِينَ هُمْ مَعَ الْمَنْصُورِ فِي الْحَجِّ قَبْلَ دَفْنِهِ، وَبُعِثَ
بِالْبَيْعَةِ وَبِالْبُرْدَةِ وَالْقَضِيبِ مَعَ الْبَرِيدِ إِلَى الْمَهْدِيِّ
وَهُوَ بِبَغْدَادَ، فَوَصَلَهُ الْبَرِيدُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِلنِّصْفِ مِنْ
ذِي الْحِجَّةِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، وَأَعْطَاهُ الْكُتُبَ
بِالْبَيْعَةِ، وَبَايَعَهُ أَهْلُ مَدِينَةِ السَّلَامِ، وَنَفَذَتِ الْبَيْعَةُ
إِلَى سَائِرِ الْآفَاقِ وَالْأَقَالِيمِ، وَقَدْ كَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِ أَبِيهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمَنْصُورَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِيَوْمٍ تَحَامَلَ
وَتَسَانَدَ، وَاسْتَدْعَى
بِالْأُمَرَاءِ،
فَجَدَّدَ لَهُمُ الْبَيْعَةَ لِابْنِهِ الْمَهْدِيِّ، فَتَسَارَعُوا إِلَى ذَلِكَ
وَتَبَادَرُوا إِلَيْهِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ وَصِيَّةِ
عَمِّهِ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّ
الَّذِي صَلَّى عَلَى الْمَنْصُورِ عِيسَى بْنُ مُوسَى وَلِيُّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِ الْمَهْدِيِّ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ; لِأَنَّهُ كَانَ نَائِبَ مَكَّةَ
وَالطَّائِفِ.
وَعَلَى إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى الْكُوفَةِ
عَمْرُو بْنُ زُهَيْرٍ الضَّبِّيُّ، أَخُو الْمُسَيِّبِ بْنِ زُهَيْرٍ أَمِيرِ
الشُّرْطَةِ لِلْخَلِيفَةِ، وَعَلَى خُرَاسَانَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَعَلَى
خَرَاجِ الْبَصْرَةِ وَأَرْضِهَا عُمَارَةُ بْنُ حَمْزَةَ، وَعَلَى صَلَاتِهَا
وَقَضَائِهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ، وَعَلَى
أَحْدَاثِهَا سَعِيدُ بْنُ دَعْلَجٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَأَصَابَ النَّاسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَبَاءٌ شَدِيدٌ.
فَتُوُفِّيَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، مِنْهُمْ أَفْلَحُ بْنُ
حُمَيْدٍ، وَحَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ بِمَكَّةَ،
وَزُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ بْنِ قَيْسِ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مُكَمِّلِ
بْنِ ذُهْلِ بْنِ ذُؤَيْبِ بْنِ جُذَيْمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُنْجُودِ بْنِ
جُنْدَبِ بْنِ الْعَنْبَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمِ بْنِ
مُرِّ بْنِ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسِ بْنِ مُضَرِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ التَّمِيمِيُّ الْعَنْبَرِيُّ الْكُوفِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ. أَقْدَمُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفَاةً، وَأَكْثَرَهُمُ اسْتِعْمَالًا لِلْقِيَاسِ، وَكَانَ عَابِدًا اشْتَغِلْ أَوَّلًا بِعِلْمِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ الْفِقْهُ وَالْقِيَاسُ. وُلِدَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَتُوَفِّي سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَخَلِيفَةُ النَّاسِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْمَهْدِيُّ ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، فَبَعَثَ فِي أَوَّلِهَا
الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، وَرَكِبَ
مَعَهُمْ مُشَيِّعًا لَهُمْ، فَسَارُوا إِلَيْهَا، فَافْتَتَحُوا مَدِينَةً
عَظِيمَةً لِلرُّومِ وَمَطْمُورَةَ، وَغَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَرَجَعُوا
سَالِمِينَ، لَمْ يُفْقَدْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ نَائِبُ خُرَاسَانَ، فَوَلَّى
الْمَهْدِيُّ مَكَانَهُ أَبَا عَوْنٍ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَزِيدَ، وَوَلَّى
حَمْزَةَ بْنَ مَالِكٍ سِجِسْتَانَ، وَوَلَّى جَبْرَئِيلَ بْنَ يَحْيَى
سَمَرْقَنْدَ.
وَفِيهَا بَنَى الْمَهْدِيُّ مَسْجِدَ الرُّصَافَةِ وَخَنْدَقَهَا.
وَفِيهَا جَهَّزَ الْمَهْدِيُّ جَيْشًا كَثِيفًا إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ،
فَوَصَلُوا إِلَيْهَا فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا
سَنَذْكُرُهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ نَائِبُ السِّنْدِ مَعْبَدُ بْنُ الْخَلِيلِ، فَوَلَّى
الْمَهْدِيُّ مَكَانَهُ رَوْحَ بْنَ حَاتِمٍ بِمَشُورَةِ وَزِيرِهِ أَبِي عُبَيْدِ
اللَّهِ.
وَفِيهَا أَطْلَقَ الْمَهْدِيُّ مَنْ كَانَ فِي السُّجُونِ إِلَّا مَنْ كَانَ
مَحْبُوسًا عَلَى
دَمٍ،
أَوْ مِمَّنْ يَسْعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، أَوْ عِنْدَهُ حَقٌّ لِأَحَدٍ،
فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَخْرَجَ مِنَ الْمُطْبِقِ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ
مَوْلَى بَنِي سُلَيْمٍ، وَالْحُسْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَسَنٍ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِصَيْرُورَةِ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى
نُصَيْرٍ الْخَادِمِ لِيَحْتَرِزَ عَلَيْهِ.
وَكَانَ الْحَسَنُ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْهَرَبِ مِنَ السِّجْنِ قَبْلَ خُرُوجِهِ
مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ مِنَ السِّجْنِ، نَاصَحَ
الْخَلِيفَةَ بِمَا كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
فَنَقَلَهُ الْخَلِيفَةُ مِنَ السِّجْنِ، وَأَوْدَعَهُ عِنْدَ نُصَيْرٍ الْخَادِمِ
لِيَحْتَاطَ عَلَيْهِ، وَحَظِيَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ عِنْدَ الْمَهْدِيِّ
جَدًّا حَتَّى صَارَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي اللَّيْلِ بِلَا اسْتِئْذَانٍ،
وَجَعَلَهُ الْخَلِيفَةُ عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ فَوَّضَهَا إِلَيْهِ، وَأَطْلَقَ
لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَا زَالَ عِنْدَهُ كَذَلِكَ حَتَّى تَمَكَّنَ
الْمَهْدِيُّ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، فَسَقَطَتْ مَنْزِلَةُ يَعْقُوبَ
عِنْدَ الْمَهْدِيِّ. وَقَدْ عَزَلَ الْمَهْدِيُّ نُوَّابًا كَثِيرَةً عَنِ
الْبِلَادِ، وَوَلَّى بَدَلَهُمْ عَلَيْهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ الْمَهْدِيُّ بِابْنَةِ عَمِّهِ أُمِّ عَبْدِ
اللَّهِ بِنْتِ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَعْتَقَ جَارِيَتَهُ الْخَيْزُرَانَ،
وَتَزَوَّجَهَا أَيْضًا، وَهِيَ أُمُّ الرَّشِيدِ.
وَفِيهَا وَقَعُ حَرِيقٌ عَظِيمٌ فِي السُّفُنِ الَّتِي بِدِجْلَةَ بَغْدَادَ.
وَلَمَّا وَلِيَ الْمَهْدِيُّ سَأَلَ عِيسَى بْنَ مُوسَى - وَكَانَ وَلِيَّ
الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ الْمَهْدِيِّ - أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْأَمْرِ،
فَامْتَنَعَ عَلَى الْمَهْدِيِّ، وَسَأَلَ أَنْ يُقِيمَ بِأَرْضِ الْكُوفَةِ فِي
ضَيْعَةٍ لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَكَانَ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَى إِمْرَةِ الْكُوفَةِ
رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ، فَكَتَبَ إِلَى الْمَهْدِيِّ: إِنَّ عِيسَى بْنَ مُوسَى لَا
يَأْتِي الْجُمْعَةَ وَلَا الْجَمَاعَةَ مَعَ النَّاسِ إِلَّا
شَهْرَيْنِ
مِنَ السَّنَةِ، وَإِنَّهُ إِذَا جَاءَ يَدْخُلُ بِدَوَابِّهِ إِلَى دَاخِلِ بَابِ
الْمَسْجِدِ، فَتَرُوثُ دَوَابُّهُ حَيْثُ يُصَلِّي النَّاسُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ
الْمَهْدِيُّ أَنْ يَعْمَلَ خَشَبًا عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ; حَتَّى لَا يَصِلَ
النَّاسُ إِلَى الْجَامِعِ إِلَّا مُشَاةً، فَعَلِمَ بِذَلِكَ عِيسَى بْنُ مُوسَى،
فَاشْتَرَى قَبْلَ الْجُمْعَةِ دَارَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ مِنْ
وَرَثَتِهِ، وَكَانَتْ مُلَاصِقَةَ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ يَأْتِي إِلَيْهَا مِنْ
يَوْمِ الْخَمِيسِ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ الْجُمْعَةِ رَكِبَ حِمَارًا إِلَى بَابِ
الْمَسْجِدِ، فَنَزَلَ عَنْهُ، وَشَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَ النَّاسِ، وَأَقَامَ
بِالْكُلِّيَّةِ فِي الْكُوفَةِ بِأَهْلِهِ، ثُمَّ أَلَحَّ الْمَهْدِيُّ عَلَى
عِيسَى بْنِ مُوسَى فِي أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ،
وَتَوَعَّدَهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَوَعَدَهُ إِنْ فَعَلَ، فَأَجَابَهُ إِلَى
ذَلِكَ، فَأَعْطَاهُ أَقْطَاعًا عَظِيمَةً، وَجَعَلَ لَهُ مِنَ الْمَالِ عَشَرَةَ
آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ: عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ. وَبَايَعَ
الْمَهْدِيُّ لِوَلَدَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ; مُوسَى الْهَادِي، ثُمَّ لِهَارُونَ
الرَّشِيدِ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَزِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ خَالُ
الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ نَائِبًا عَلَى الْيَمَنِ، فَوَلَّاهُ الْمَوْسِمَ،
وَاسْتَقْدَمَهُ عَلَيْهِ شَوْقًا إِلَيْهِ.
وَغَالِبُ نُوَّابِ الْبِلَادِ قَدْ تَغَيَّرُوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، غَيْرَ
أَنَّ إِفْرِيقِيَّةَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ، وَعَلَى مِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ
سُلَيْمَانَ أَبُو ضَمْرَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ أَبُو عَوْنٍ، وَعَلَى السِّنْدِ
بِسِطَامُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى الْأَهْوَازِ وَفَارِسَ عُمَارَةُ بْنُ حَمْزَةَ،
وَعَلَى الْيَمَنِ رَجَاءُ بْنُ رَوْحٍ، وَعَلَى الْيَمَامَةِ بِشْرُ بْنُ
الْمُنْذِرِ، وَعَلَى الْجَزِيرَةِ الْفَضْلُ بْنُ صَالِحٍ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ الْجُمَحِيُّ، وَعَلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ
الْجُمَحِيُّ، وَعَلَى أَحْدَاثِ الْكُوفَةِ إِسْحَاقُ بْنُ الصَّبَّاحِ
الْكِنْدِيُّ، وَعَلَى خَرَاجِهَا ثَابِتُ بْنُ مُوسَى، وَعَلَى قَضَائِهَا شَرِيكُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيُّ، وَعَلَى أَحْدَاثِ الْبَصْرَةِ عُمَارَةُ بْنُ
حَمْزَةَ، وَعَلَى صَلَاتِهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
أَيُّوبَ
بْنِ ظَبْيَانَ النُّمَيْرِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الْعَزِيزِ ابْنُ أَبِي رَوَّادٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، وَمَالِكُ
بْنُ مِغْوَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ
الْمَدَنِيُّ، نَظِيرُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي الْفِقْهِ، وَرُبَّمَا أَنْكَرَ عَلَى
مَالِكٍ فِي تَرْكِهِ الْأَخْذَ بِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ; لِمَآخِذَ كَانَ يَرَاهَا
مَالِكٌ مِنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَالِكِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ بِخُرَاسَانَ عَلَى الْمَهْدِيِّ مُنْكِرًا عَلَيْهِ
أَحْوَالَهُ وَسِيرَتَهُ، يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ الْبَرْمُ. وَالْتَفَّ عَلَيْهِ
خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُ وَعَظُمَ الْخَطْبُ بِهِ، فَتَوَجَّهَ
إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ، فَلَقِيَهُ فَاقْتَتَلَا حَتَّى تَنَازَلَا
وَتَعَانَقَا، فَأَسَرَ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ يُوسُفَ هَذَا، وَأَسَرَ جَمَاعَةً
مِنْ أَصْحَابِهِ، فَبَعَثَهُ وَبَعَثَهُمْ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَأُدْخِلُوا
عَلَيْهِ وَقَدْ حُمِلُوا عَلَى جِمَالٍ، مُحَوَّلَةً وُجُوهُهُمْ إِلَى نَاحِيَةِ
أَذْنَابِ الْإِبِلِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ أَنْ
يَقْطَعَ يَدَيْ يُوسُفَ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ تُضْرَبَ عُنُقُهُ وَأَعْنَاقُ مَنْ
مَعَهُ، وَصَلَبَهُمْ عَلَى جِسْرِ دِجْلَةَ الْأَكْبَرِ مِمَّا يَلِي عَسْكَرَ
الْمَهْدِيَّ، وَأَطْفَأَ اللَّهُ نَائِرَتَهُمْ، وَكَفَى شَرَّهُمْ.
ذِكْرُ الْبَيْعَةِ لِمُوسَى الْهَادِي وَهَارُونَ الرَّشِيدِ
كَانَ الْخَلِيفَةُ الْمَهْدِيُّ قَدْ أَلَحَّ عَلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى فِي أَنْ
يَخْلَعَ نَفْسَهُ عَنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ
يَمْتَنِعُ، وَهُوَ مُقِيمٌ بِالْكُوفَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَهْدِيُّ
أَحَدَ
الْقُوَّادِ الْكِبَارِ، وَهُوَ أَبُو هُرَيْرَةَ مُحَمَّدُ بْنُ فَرُّوخَ فِي
أَلْفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لِإِحْضَارِهِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَسْتَصْحِبُوا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَبْلًا، فَإِذَا وَاجَهُوا
الْكُوفَةَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِطَبْلِهِ،
فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَارْتَجَّتِ الْكُوفَةُ، وَخَافَ عِيسَى بْنُ مُوسَى،
فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ دَعَوْهُ إِلَى حَضْرَةِ الْخَلِيفَةِ، فَأَظْهَرَ
التَّشَكِّي، فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَأَخَذُوهُ مَعَهُمْ، فَدَخَلُوا بَغْدَادَ فِي
يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ وُجُوهُ بَنِي هَاشِمٍ وَالْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ،
وَسَأَلُوهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ يَمْتَنِعُ، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ النَّاسُ بِهِ
بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ حَتَّى أَجَابَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ
بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَئِذٍ. وَبُويِعَ لِوَلَدَيْ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ; مُوسَى وَهَارُونَ الرَّشِيدِ صَبِيحَةَ يَوْمِ
الْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَجَلَسَ الْمَهْدِيُّ فِي
قُبَّةٍ عَظِيمَةٍ فِي إِيوَانِ الْخِلَافَةِ، وَدَخَلَ الْأُمَرَاءُ فَبَايَعُوا،
ثُمَّ نَهَضَ الْمَهْدِيُّ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَجَلَسَ ابْنُهُ مُوسَى
الْهَادِي تَحْتَهُ، وَقَامَ عِيسَى بْنُ مُوسَى عَلَى أَوَّلِ دَرَجَةٍ مِنْهُ،
وَخَطَبَ الْمَهْدِيُّ، فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا وَقَعَ مِنْ خَلْعِ عِيسَى بْنِ
مُوسَى نَفْسَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ حَلَّلَ النَّاسَ مِنَ الْأَيْمَانِ الَّتِي لَهُ
فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَجَعَلَ ذَلِكَ إِلَى مُوسَى الْهَادِي، فَصَدَّقَ عِيسَى
بْنُ مُوسَى ذَلِكَ، وَبَايَعَ الْمَهْدِيَّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ نَهَضَ النَّاسُ
فَبَايَعُوا الْخَلِيفَةَ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ وَأَسْنَانِهِمْ، وَكَتَبَ
عَلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى مَكْتُوبًا مُؤَكَّدًا بِالْأَيْمَانِ الْبَالِغَةِ مِنَ
الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ جَمَاعَةَ الْأُمَرَاءِ
وَالْوُزَرَاءِ وَأَعْيَانِ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِيهَا وَصَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شِهَابٍ الْمِسْمَعِيُّ مَدِينَةَ
بَارْبَدَ مِنَ الْهِنْدِ فِي جَحْفَلٍ
كَثِيرٍ
مَعَهُ، فَحَاصَرُوهَا وَنَصَبُوا عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَرَمَوْهَا
بِالنِّفْطِ، فَأَحْرَقُوا مِنْهَا طَائِفَةً، وَهَلَكَ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِهَا، وَفَتَحُوهَا عَنْوَةً وَأَرَادُوا الِانْصِرَافَ فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ
ذَلِكَ; لِاغْتِلَامِ الْبَحْرِ، فَأَقَامُوا هُنَالِكَ، فَأَصَابَهُمْ دَاءٌ فِي
أَفْوَاهِهِمْ يُقَالُ لَهُ: حُمَامُ قُرٍّ. فَمَاتَ مِنْهُمْ أَلْفُ نَفْسٍ،
مِنْهُمُ الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، فَلَمَّا أَمْكَنَهُمُ الْمَسِيرُ رَكِبُوا
فِي الْبَحْرِ، فَهَاجَتْ عَلَيْهِمْ رِيحٌ، فَغَرِقَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ أَيْضًا،
وَوَصَلَ بَقِيَّتُهُمْ إِلَى الْبَصْرَةِ وَمَعَهُمْ سَبْيٌّ كَثِيرٌ، فِيهِمْ
بِنْتُ مَلِكِهِمْ.
وَفِيهَا حَكَمَ الْمَهْدِيُّ بِإِلْحَاقِ نَسَبِ وَلَدِ أَبِي بَكْرَةَ
الثَّقَفِيِّ إِلَى وَلَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَقَطَعَ نَسَبَهُمْ مِنْ ثَقِيفٍ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ كِتَابًا إِلَى وَالِي
الْبَصْرَةِ، وَقَطَعَ نَسَبَهُ مِنْ زِيَادٍ وَمِنْ نَسَبِ نَافِعٍ، فَفِي ذَلِكَ
يَقُولُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، وَهُوَ خَالِدٌ النَّجَّارُ:
إِنَّ زِيَادًا وَنَافِعًا وَأَبَا بَكْرَةَ عِنْدِي مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ ذَا
قُرَشِيٌّ كَمَا يَقُولُ وَذَا
مَوْلًى وَهَذَا بِزَعْمِهِ عَرَبِيٌّ
فَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ نَائِبَ الْبَصْرَةِ لَمْ يُنَفِّذْ ذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيُّ،
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ ابْنَهُ مُوسَى الْهَادِي، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ
ابْنَهُ هَارُونَ الرَّشِيدَ وَخَلْقًا مِنَ الْأُمَرَاءِ، مِنْهُمْ يَعْقُوبُ
بْنُ دَاوُدَ عَلَى مَنْزِلَتِهِ وَمَكَانَتِهِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ قَدْ هَرَبَ مِنَ الْخَادِمِ، فَلَحِقَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ،
فَاسْتَأْمَنَ لَهُ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ، فَأَحْسَنَ الْمَهْدِيُّ
صِلَتَهُ،
وَأَجْزَلَ جَائِزَتَهُ، وَفَرَّقَ الْمَهْدِيُّ فِي أَهْلِ مَكَّةَ مَالًا
عَظِيمًا جِدًّا، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مَعَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ
وَمِائَةِ أَلْفِ ثَوْبٍ، وَجَاءَ مِنْ مِصْرَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَمِنَ الْيَمَنِ مِائَتَا أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَعْطَاهَا كُلَّهَا فِي أَهْلِ
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
وَشَكَتِ الْحَجَبَةُ إِلَى الْمَهْدِيِّ أَنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَى الْكَعْبَةِ
أَنْ تَنْهَدِمَ مِنْ كَثْرَةِ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْكَسَاوِي، فَأَمَرَ
بِتَجْرِيدِهَا مِنَ الْكُسْوَةِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى كَسَاوِي هِشَامِ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَجَدَهَا مِنْ دِيبَاجٍ ثَخِينٍ جِدًّا، وَبَقِيَّةُ
كَسَاوِي الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْيَمَنِ،
فَلَمَّا جَرَّدَهَا طَلَاهَا بِالْخَلُوقِ، وَكَسَاهَا كُسْوَةً حَسَنَةً جِدًّا،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْتَفْتَى مَالِكًا فِي إِعَادَةِ الْكَعْبَةِ إِلَى مَا
كَانَ بَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ مَوْضِعِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ
يَوَدُّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ مَالِكٌ:
دَعْهَا عَلَى حَالِهَا; فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّخِذَهَا الْمُلُوكُ
مَلْعَبَةً. فَتَرَكَهَا كَمَا كَانَتْ.
وَحَمَلَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ نَائِبُ الْبَصْرَةِ الثَّلْجَ إِلَى
مَكَّةَ، فَكَانَ أَوَّلَ خَلِيفَةٍ حُمِلَ لَهُ الثَّلْجُ إِلَيْهَا. وَلَمَّا
دَخَلَ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ وَسَّعَ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيِّ، وَكَانَ
فِيهِ مَقْصُورَةٌ، فَأَزَالَهَا. وَأَرَادَ أَنْ يَنْقُصَ مِنَ الْمِنْبَرِ مَا
كَانَ زَادَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: إِنَّهُ
يَخْشَى أَنْ يَنْكَسِرَ الْخَشَبُ الْعَتِيقُ إِذَا زُعْزِعَ. فَتَرَكَهُ فَلَمْ
يَتَعَرَّضْ لَهُ.
وَتَزَوَّجَ مِنَ الْمَدِينَةِ رُقَيَّةَ بِنْتَ عَمْرٍو الْعُثْمَانِيَّةَ،
وَانْتَخَبَ مِنْ أَهْلِهَا مِنَ الْأَنْصَارِ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ أَعْيَانِهَا
لِيَكُونُوا حَوْلَهُ حَرَسًا بِالْعِرَاقِ وَأَنْصَارًا لَهُ، وَأَجْرَى
عَلَيْهِمْ أَرْزَاقًا غَيْرَ أُعْطِيَاتِهِمْ، وَأَقْطَعَهُمْ أَقْطَاعًا
مَعْرُوفَةً بِهِمْ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، أَحَدُ أَصْحَابِ
الزُّهْرِيِّ، وَشُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ الْوَرْدِ الْعَتَكِيُّ
الْأَزْدِيُّ أَبُو بِسِطَامٍ الْوَاسِطِيُّ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ.
رَأَى شُعْبَةُ الْحَسَنَ، وَابْنَ سِيرِينَ، وَرَوَى عَنْ أُمَمٍ مِنَ
التَّابِعِينَ، وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنْ مَشَايِخِهِ وَأَقْرَانِهِ
وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ شَيْخُ الْمُحَدِّثِينَ الْمُلَقَّبُ فِيهِمْ
بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَهُ الثَّوْرِيُّ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ إِمَامُ الْمُتَّقِينَ. وَكَانَ فِي غَايَةِ
الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ وَالتَّقَشُّفِ وَالْحِفْظِ وَحُسْنِ الطَّرِيقَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْلَاهُ مَا عُرِفَ الْحَدِيثُ بِالْعِرَاقِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: كَانَ أُمَّةً وَحْدَهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَلَمْ
يَكُنْ فِي زَمَانِهِ مِثْلُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا حُجَّةً، صَاحِبَ
حَدِيثٍ.
وَقَالَ
وَكِيعٌ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ لِشُعْبَةَ فِي الْجَنَّةِ
دَرَجَاتٍ بِذَبِّهِ عَنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةُ: كَانَ شُعْبَةُ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ
فِي الرِّجَالِ، وَتَبِعَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ، ثُمَّ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ.
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنْ مَالِكٍ، وَلَا أَشَدَّ
تَقَشُّفًا مِنْ شُعْبَةَ، وَلَا أَنْصَحَ لِلْأُمَّةِ مِنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ،
وَلَا أَحْفَظَ لِلْحَدِيثِ مِنَ الثَّوْرِيِّ.
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: مَا دَخَلْتُ عَلَى شُعْبَةَ فِي وَقْتِ
صَلَاةٍ إِلَّا وَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي، وَكَانَ أَبَا الْفُقَرَاءِ وَأُمَّهُمْ.
وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: مَا رَأَيْتُ أَرْحَمَ بِمِسْكِينٍ مِنْهُ،
كَانَ إِذَا رَأَى مِسْكِينًا لَا يَزَالُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ حَتَّى يَغِيبَ
عَنْهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا رَأَيْتُ أَعْبَدَ مِنْهُ; لَقَدْ عَبَدَ اللَّهَ حَتَّى
لَصِقَ جِلْدُهُ بِعَظْمِهِ.
وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ: مَا رَأَيْتُ أَرَقَّ لِلْمِسْكِينِ مِنْهُ، كَانَ
يُدْخِلُ الْمِسْكِينَ مَنْزِلَهُ فَيُعْطِيهِ مَا أَمْكَنَهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ: مَاتَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَةٍ بِالْبَصْرَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ ثُمَامَةُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَنَزَلَ دَابِقَ،
وَجَاشَتِ الرُّومُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الدُّخُولِ
إِلَيْهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِحَفْرِ الرَّكَايَا وَعَمَلِ الْمَصَانِعِ
وَبِنَاءِ الْقُصُورِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، وَوَلَّى عَلَى ذَلِكَ يَقْطِينَ بْنَ
مُوسَى، فَلَمْ يَزَلْ يَعْمَلُ فِي ذَلِكَ إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ
وَمِائَةٍ، حَتَّى صَارَتْ طَرِيقُ الْحِجَازِ مِنْ أَرْفَقِ الطُّرُقَاتِ
وَآمَنِهَا وَأَطْيَبِهَا.
وَفِيهَا وَسَّعَ الْمَهْدِيُّ جَامِعَ الْبَصْرَةِ مِنْ قِبْلَتِهِ وَغَرْبِهِ.
وَفِيهَا كَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ أَنْ لَا تَبْقَى مَقْصُورَةٌ فِي مَسْجِدِ
جَمَاعَةٍ، وَأَنْ تُقَصَّرَ الْمَنَابِرُ إِلَى مِقْدَارِ مَا كَانَ مِنْبَرُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفُعِلَ ذَلِكَ فِي
الْمَدَائِنِ كُلِّهَا.
وَفِيهَا اتَّضَعَتْ مَنْزِلَةُ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ وَزِيرِ الْمَهْدِيِّ
عِنْدَهُ، وَظَهَرَتْ عِنْدَهُ خِيَانَتُهُ، فَضَمَّ إِلَيْهِ الْمَهْدِيُّ مَنْ
يُشْرِفُ عَلَيْهِ، فَكَانَ مِمَّنْ ضُمَّ إِلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ،
ثُمَّ أَبْعَدَهُ وَأَقْصَاهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ مُعَسْكَرِهِ.
وَفِيهَا وَلِيَ الْقَضَاءَ عَافِيَةُ بْنُ يَزِيدَ الْأَزْدِيُّ، فَكَانَ
يَحْكُمُ هُوَ وَابْنُ عُلَاثَةَ فِي عَسْكَرِ الْمَهْدِيِّ بِالرُّصَافَةِ.
وَفِيهَا
خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْمُقَنَّعُ. بِخُرَاسَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى
مَرْوَ، وَكَانَ يَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى ضَلَالَتِهِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، فَجَهَّزَ لَهُ الْمَهْدِيُّ عِدَّةً مِنْ أُمَرَائِهِ، وَأَنْفَذَ
إِلَيْهِ جُيُوشًا كَثِيرَةً، مِنْهُمْ مُعَاذُ بْنُ مُسْلِمٍ أَمِيرُ خُرَاسَانَ،
فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُوسَى الْهَادِي ابْنُ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ وَلِيُّ عَهْدِ أَبِيهِ، كَمَا قَدَّمْنَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيُّ، وَزَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ، وَسُفْيَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ
مَسْرُوقٍ الثَّوْرِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُبَّادِهِ
وَالْمُقْتَدَى بِهِمْ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ، رَوَى عَنْ غَيْرِ
وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ
وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَأَبُو عَاصِمٍ وَيَحْيَى بْنُ
مَعِينٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: كَتَبْتُ عَنْ أَلْفٍ وَمِائَةِ شَيْخٍ، هُوَ
أَفْضَلُهُمْ.
وَقَالَ
أَيُّوبُ: مَا رَأَيْتُ كُوفِيًّا أُفَضِّلُهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ: مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنَ الثَّوْرِيِّ.
وَقَالَ شُعْبَةُ: سَادَ فِي النَّاسِ بِالْوَرَعِ وَالْعِلْمِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَصْحَابُ الْحَدِيثِ ثَلَاثَةٌ; ابْنُ
عَبَّاسٍ فِي زَمَانِهِ، وَالشَّعْبِيُّ فِي زَمَانِهِ، وَالثَّوْرِيُّ فِي
زَمَانِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَتَقَدَّمُهُ فِي قَلْبِي أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ:
أَتَدْرِي مَنِ الْإِمَامُ؟ الْإِمَامُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: سَمِعْتُ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: مَا اسْتَوْدَعْتُ
قَلْبِي شَيْئًا قَطُّ فَخَانَنِي.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَأَنْ أَتْرُكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ يُحَاسِبُنِي
اللَّهُ عَلَيْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْتَاجَ إِلَى النَّاسِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَجْمَعُوا أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ، سَنَةَ
إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ.
وَكَانَ
عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ أَرْبَعًا وَسِتِّينَ سَنَةً. وَرَآهُ بَعْضُهُمْ فِي
الْمَنَامِ يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ مِنْ نَخْلَةٍ إِلَى نَخْلَةٍ، وَهُوَ
يَقْرَأُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ
نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [
الزُّمَرِ: 74 ].
أَبُو دُلَامَةَ
زَنْدُ بْنُ الْجَوْنِ، الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ، أَحَدُ الظُّرَفَاءِ، أَصْلُهُ
مِنَ الْكُوفَةِ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ، وَحَظِيَ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورِ; لِأَنَّهُ كَانَ يُضْحِكُهُ، وَيُنْشِدُهُ وَيَمْدَحُهُ; حَضَرَ
يَوْمًا جِنَازَةَ امْرَأَةِ الْمَنْصُورِ وَابْنَةِ عَمِّهِ حَمَّادَةَ بِنْتِ
عِيسَى، وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ وَجِدَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا شَهِدَ الْقَبْرَ
نَظَرَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ ثُمَّ قَالَ لِأَبِي دُلَامَةَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا
دُلَامَةَ ! مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا؟ فَقَالَ: ابْنَةَ عَمِّ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ. فَضَحِكَ الْمَنْصُورُ حَتَّى اسْتَلْقَى، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ!
فَضَحْتَنَا بَيْنَ النَّاسِ.
وَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى الْمَهْدِيِّ يُهَنِّئُهُ بِقُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ
وَأَنْشَدَهُ:
إِنِّي حَلَفْتُ لَئِنْ رَأَيْتُكُ سَالِمًا بِقُرَى الْعِرَاقِ وَأَنْتَ ذُو
وَفْرِ لَتُصَلِّيَنَّ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
وَلَتَمْلَأَنَّ دَرَاهِمًا حِجْرِي
فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَعَمْ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا.
فَقَالَ: هُمَا كَلِمَتَانِ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. فَمَلَأَ حِجْرَهُ
دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: قُمْ. فَقَالَ: إِذًا يَنْخَرِقُ قَمِيصِي.
فَأُفْرِغَتْ فِي أَكْيَاسِهَا، ثُمَّ قَامَ وَأَخَذَهَا.
وَذَكَرَ
عَنْهُ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ مَرِضَ ابْنُهُ فَدَاوَاهُ طَبِيبٌ، فَلَمَّا
عُوفِيَ قَالَ لَهُ: لَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ، وَلَكِنِ ادَّعِ عَلَى
فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ بِمَبْلَغِ مَا تَسْتَحِقُّهُ; حَتَّى أَشْهَدَ أَنَا
وَوَلَدِي عَلَيْهِ. فَادَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ قَاضِي الْكُوفَةِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - وَقِيلَ: ابْنُ شُبْرُمَةَ - فَأَنْكَرَ
الْيَهُودِيُّ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَبُو دُلَامَةَ وَابْنُهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعِ
الْقَاضِي أَنْ يَرُدَّ شَهَادَتَهُمَا، وَخَافَ مِنْ طَلَبِ التَّزْكِيَةِ،
فَأَعْطَى الْمُدَّعِي الْمَالَ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَطْلَقَ الْيَهُودِيَّ،
وَجَمَعَ الْقَاضِي بَيْنَ الْمَصَالِحِ.
تُوُفِّيَ أَبُو دُلَامَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَدْرَكَ
خِلَافَةَ الرَّشِيدِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ هَاشِمٍ الْيَشْكُرِيُّ بِأَرْضِ
قِنِّسْرِينَ، وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، فَقَاتَلَهُ
خَلْقٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَجَهَّزَ إِلَيْهِ الْمَهْدِيُّ جُيُوشًا، وَأَنْفَقَ
فِيهِمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَهَزَمَ الْخَارِجِيُّ الْجُيُوشَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ
إِنَّهُ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا
مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ سِوَى الْمُطَّوِّعَةِ، فَقَهَرَ الرُّومَ، وَحَرَقَ
بُلْدَانًا كَثِيرَةً وَخَرَّبَهَا، وَأَسَرَ خَلْقًا مِنَ الذَّرَارِي.
وَكَذَلِكَ غَزَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي أُسَيْدٍ السُّلَمِيُّ بِلَادَ الرُّومِ مِنْ
بَابِ قَالِيقَلَا، فَغَنَمَ وَسَلِمَ وَسَبَى خَلْقًا كَثِيرًا.
وَفِيهَا خَرَجَتْ طَائِفَةٌ بِجُرْجَانَ، فَلَبِسُوا الْحُمْرَةَ; وَلِهَذَا
يُقَالُ لَهُمُ: الْمُحَمِّرَةُ. مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الْقَهَّارِ.
فَغَزَاهُ عُمَرُ بْنُ الْعَلَاءِ مِنْ طَبَرِسْتَانَ، فَقَهَرَ عَبْدَ
الْقَهَّارِ، فَقَتَلَهُ وَأَصْحَابَهُ.
وَفِيهَا أَجْرَى الْمَهْدِيُّ الْأَرْزَاقَ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ
وَالْآفَاقِ عَلَى الْمُجَذَّمِينَ
وَالْمُحْبَسِينَ،
وَهَذِهِ مَثُوبَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَكْرُمُةٌ جَسِيمَةٌ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْمَنْصُورِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْعُبَّادِ، وَمِنْ أَكَابِرِ
مَنْ لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ مِنَ الْعُبَّادِ، وَدَاوُدُ الطَّائِيُّ، أَحَدُ
أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ، وَزُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَيَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
التُّسْتَرِيُّ.
فَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ،
أَبُو إِسْحَاقَ التَّمِيمِيُّ، وَيُقَالُ: الْعِجْلِيُّ. فَهُوَ أَحَدُ
الزُّهَّادِ، أَصْلُهُ مِنْ بَلْخَ. وَسَكَنَ الشَّامَ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ،
وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، وَالْأَعْمَشِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ
صَاحِبِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، وَخَلْقٍ.
وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنْهُمْ; بَقِيَّةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ
الْفَزَارِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرٍ، وَحَكَى عَنْهُ الْأَوْزَاعِيُّ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْجَزَرِيِّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
دَخَلْتُ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُصَلِّي
جَالِسًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تُصَلِّي جَالِسًا، فَمَا
أَصَابَكَ؟ قَالَ: " الْجُوعُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ". قَالَ:
فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: " لَا تَبْكِ; فَإِنَّ شِدَّةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا
تُصِيبُ الْجَائِعَ إِذَا احْتَسَبَ فِي دَارِ الدُّنْيَا ".
وَمِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، حَدَّثَنِي أَبُو
إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
الْفِتْنَةَ تَجِيءُ فَتَنْسِفُ الْعِبَادَ نَسْفًا، وَيَنْجُو الْعَالِمُ مِنْهَا
بِعِلْمِهِ.
قَالَ النَّسَائِيُّ: هُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ، أَحَدُ الزُّهَّادِ.
وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي " رِسَالَتِهِ
" أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ،
فَبَيْنَمَا هُوَ يَتَصَيَّدُ إِذْ أَتْبَعَ ثَعْلَبًا أَوْ أَرْنَبًا، فَهَتَفَ
بِهِ هَاتِفٌ مِنْ قَرَبُوسِ سَرْجِهِ: أَلِهَذَا خُلِقْتَ أَمْ بِهَذَا أُمِرْتَ؟
فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَجَاءَ إِلَى رَاعِي غَنَمٍ لِأَبِيهِ، فَأَخَذَ جُبَّةً
مِنْ صُوفٍ فَلَبِسَهَا، وَأَعْطَاهُ فَرَسَهُ وَلِبَاسَهُ وَمَا كَانَ مَعَهُ،
وَذَهَبَ فِي الْبَادِيَةِ، فَدَخَلَ مَكَّةَ، وَصَحِبَ الثَّوْرِيَّ،
وَالْفُضَيْلَ بْنَ
عِيَاضٍ،
وَدَخَلَ الشَّامَ وَمَاتَ بِهَا.
وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، مِثْلَ الْحَصَادِ، وَحِفْظِ الْبَسَاتِينِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَإِنَّهُ رَأَى فِي الْبَادِيَةِ رَجُلًا عَلَّمَهُ اسْمَ
اللَّهِ الْأَعْظَمَ، فَدَعَا بِهِ بَعْدَهُ، فَرَأَى الْخَضِرَ، فَقَالَ:
إِنَّمَا عَلَّمَكَ أَخِي دَاوُدُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ. ثُمَّ سَاقَهُ
الْقُشَيْرِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ لَا يَصِحُّ. وَرَوَاهَا ابْنُ عَسَاكِرَ
أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ إِلْيَاسَ هُوَ
عَلَّمَكَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ كَبِيرَ الشَّأْنِ فِي
بَابِ الْوَرِعِ، وَيُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَطِبْ مَطْعَمَكَ، وَلَا
عَلَيْكَ أَنْ لَا تَقُومَ اللَّيْلَ، وَتَصُومَ النَّهَارَ.
وَقِيلَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ انْقُلْنِي مِنْ ذُلِّ
مَعْصِيَتِكَ إِلَى عِزِّ طَاعَتِكَ.
وَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ: إِنَّ اللَّحْمَ قَدْ غَلَا. فَقَالَ:
أَرْخِصُوهُ. أَيْ لَا تَشْتَرُوهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَتَفَ بِهِ الْهَاتِفُ قَائِلًا لَهُ مِنْ فَوْقِهِ: يَا
إِبْرَاهِيمُ، مَا هَذَا
الْعَبَثُ؟
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا
تُرْجَعُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 115 ]. اتَّقِ اللَّهَ، وَعَلَيْكَ بِالزَّادِ
لِيَوْمِ الْفَاقَةِ. قَالَ: فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَرَفَضَ الدُّنْيَا،
وَأَخَذَ فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ - بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ - عَنِ ابْتِدَاءِ أَمْرِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي مَنْظَرَةٍ لِي
بِبَلْخَ، وَإِذَا بِشَيْخٍ حَسَنٍ قَدِ اسْتَظَلَّ بِفَيْئِهَا، فَأَخَذَ
بِمَجَامِعِ قَلْبِي، فَأَمَرْتُ غُلَامِي، فَطَلَبَهُ فَدَخَلَ، فَعَرَضْتُ
عَلَيْهِ الطَّعَامَ، فَأَبَى، فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ
وَرَاءِ النَّهْرِ. قُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْحَجَّ. قُلْتُ: فِي هَذَا
الْوَقْتِ؟ - وَكَانَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ ثَانِيَهُ -
فَقَالَ: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. فَقُلْتُ: الصُّحْبَةَ. قَالَ: إِنْ
أَحْبَبْتَ ذَلِكَ فَمَوْعِدُكَ اللَّيْلُ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَنِي
فَقَالَ: قُمْ بِسْمِ اللَّهِ. فَأَخَذْتُ ثِيَابَ سَفَرِي، وَسِرْنَا نَمْشِي
كَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُجْذَبُ مِنْ تَحْتِنَا، وَنَحْنُ نَمُرُّ عَلَى
الْبُلْدَانِ، وَنَقُولُ هَذِهِ فُلَانَةُ، هَذِهِ فُلَانَةُ. فَإِذَا كَانَ
الصَّبَاحُ فَارَقَنِي وَيَقُولُ: مَوْعِدُكَ اللَّيْلُ. فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ
جَاءَنِي، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَزُرْنَا قَبْرَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سِرْنَا إِلَى مَكَّةَ،
فَجِئْنَاهَا لَيْلًا، فَقَضَيْنَا الْحَجَّ مَعَ النَّاسِ، ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى
الشَّامِ، فَزُرْنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ: إِنِّي عَازِمٌ عَلَى
الْمُقَامِ بِالشَّامِ. وَرَجَعْتُ أَنَا إِلَى بَلَدِي بَلْخَ أَسِيرُ سَيْرَ
الضُّعَفَاءِ، حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهَا، وَلَمْ أَسْأَلْهُ عَنِ اسْمِهِ، وَكَانَ
ذَلِكَ أَوَّلَ أَمْرِي. وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِيهِ نَظَرٌ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ قَالَ: كَانَ
إِبْرَاهِيمُ
بْنُ أَدْهَمَ يُشْبِهُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ، وَلَوْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ
لَكَانَ رَجُلًا فَاضِلًا.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ رَجُلًا فَاضِلًا،
لَهُ سَرَائِرُ، وَمَا رَأَيْتُهُ يُظْهِرُ تَسْبِيحًا وَلَا شَيْئًا مِنْ
عَمَلِهِ، وَلَا أَكَلَ مَعَ أَحَدٍ طَعَامًا إِلَّا كَانَ آخِرَ مَنْ يَرْفَعُ يَدَهُ.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي: أَرْبَعَةٌ رَفَعَهُمُ اللَّهُ بِطِيبِ
الْمَطْعَمِ; إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، وَسُلَيْمَانُ الْخَوَّاصُ، وَوُهَيْبُ
بْنُ الْوَرْدِ، وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَفْصٍ قَالَ: إِنَّمَا
سَمِعَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ مِنْ مَنْصُورٍ حَدِيثًا، فَأَخَذَ بِهِ،
فَسَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ
حِرَاشٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُحِبُّنِي اللَّهُ عَلَيْهِ
وَيُحِبُّنِي النَّاسُ. قَالَ: " إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُحِبَّكَ اللَّهُ
فَأَبْغِضِ الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُحِبَّكَ النَّاسُ فَمَا كَانَ
عِنْدَكَ مِنْ فُضُولِهَا فَانْبِذْهُ إِلَيْهِمْ ".
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، عَنْ
إِدْرِيسَ قَالَ: جَلَسَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ إِلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ
فَجَعَلُوا يَتَذَاكَرُونَ الْحَدِيثَ وَإِبْرَاهِيمُ سَاكِتٌ، ثُمَّ قَالَ:
حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ. ثُمَّ سَكَتَ، فَلَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ حَتَّى قَامَ مِنْ
ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَعَاتَبَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي
لَأَخْشَى مَضَرَّةَ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ
فِي
قَلْبِي إِلَى هَذَا الْيَوْمِ.
وَقَالَ رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ: مَرَّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ
بِالْأَوْزَاعِيِّ، وَحَوْلَهُ حَلْقَةٌ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ هَذِهِ الْحَلْقَةَ
عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ لَعَجَزَ عَنْهُمْ. فَقَامَ الْأَوْزَاعِيُّ وَتَرَكَهُمْ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ: قِيلَ لِابْنِ أَدْهَمَ: لِمَ لَا تَكْتُبُ
الْحَدِيثَ؟ فَقَالَ: إِنِّي مَشْغُولٌ بِثَلَاثٍ; بِالشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ،
وَبِالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَبِالِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ. ثُمَّ
صَاحَ وَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَسَمِعُوا هَاتِفًا يَقُولُ: لَا تَدْخُلُوا بَيْنِي
وَبَيْنَ أَوْلِيَائِي.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَوْمًا لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ: قَدْ رُزِقْتَ
مِنَ الْعِبَادَةِ شَيْئًا صَالِحًا، فَلْيَكُنِ الْعِلْمُ مِنْ بَالِكَ;
فَإِنَّهُ رَأَسُ الْعِبَادَةِ وَقِوَامُ الدِّينِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: مَاذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ!
لَا يَسْأَلُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ زَكَاةٍ، وَلَا عَنْ حَجٍّ، وَلَا عَنْ
جِهَادٍ، وَلَا عَنْ صِلَةِ رَحِمٍ، إِنَّمَا يَسْأَلُ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينَ.
يَعْنِي الْأَغْنِيَاءَ.
وَقَالَ شَقِيقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: لَقِيتُ ابْنَ أَدْهَمَ بِالشَّامِ، وَقَدْ
كُنْتُ رَأَيْتُهُ بِالْعِرَاقِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ ثَلَاثُونَ شَاكِرِيًّا.
فَقُلْتُ لَهُ: تَرَكْتَ خُرَاسَانَ، وَخَرَجْتَ مِنْ
نِعْمَتِكَ؟
فَقَالَ: قَدْ تَهَنَّيْتُ بِالْعَيْشِ هَاهُنَا، أَفِرُّ بِدِينِي مِنْ شَاهِقٍ
إِلَى شَاهِقٍ، فَمَنْ يَرَانِي يَقُولُ: مُوَسْوَسٌ. أَوْ: حَمَّالٌ. أَوْ:
مَلَّاحٌ. ثُمَّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يُؤْتَى بِالْفَقِيرِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ لَهُ:
يَا عَبْدِي، مَا لَكَ لَمْ تَحُجَّ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَمْ تُعْطِنِي شَيْئًا
أَحُجُّ بِهِ. فَيَقُولُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقَ عَبْدِي، اذْهَبُوا بِهِ
إِلَى الْجَنَّةِ.
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قَالَ: أَقَمْتُ بِالشَّامِ أَرْبَعًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً لَمْ أَجِئْ لِجِهَادٍ وَلَا رِبَاطٍ، إِنَّمَا جِئْتُ
لِأَشْبَعَ مِنْ خُبْزِ الْحَلَالِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: الْحُزْنُ حُزْنَانِ; حُزْنٌ لَكَ وَحُزْنٌ
عَلَيْكَ; فَحُزْنُكَ عَلَى الْآخِرَةِ وَخَيْرِهَا لَكَ، وَحُزْنُكَ عَلَى
الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا عَلَيْكَ.
وَقَالَ: الزُّهْدُ ثَلَاثَةٌ، وَاجِبٌ، وَمُسْتَحَبٌّ، وَزُهْدُ سَلَامَةٍ،
فَالزُّهْدُ فِي الْحَرَامِ وَاجِبٌ، وَالزُّهْدُ عَنِ الشَّهَوَاتِ الْحَلَالِ
مُسْتَحَبٌّ، وَالزُّهْدُ عَنِ الشُّبَهَاتِ سَلَامَةٌ.
وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَمْنَعُونَ أَنْفُسَهُمُ الْحَمَّامَ وَالْمَاءَ
الْبَارِدَ وَالْحِذَاءَ، وَلَا يَجْعَلُونَ فِي مِلْحِهِمْ أَبْزَارًا.
وَكَانَ إِذَا جَلَسَ عَلَى سُفْرَةٍ فِيهَا طَعَامٌ طَيِّبٌ رَمَى بِطَيِّبِهَا
إِلَى أَصْحَابِهِ، وَأَكَلَ
هُوَ
الْخَبْزَ وَالزَّيْتُونَ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: قِلَّةُ الْحِرْصِ وَالطَّمَعُ تُوَرِّثُ
الصِّدْقَ وَالْوَرَعَ، وَكَثْرَةُ الْحِرْصِ وَالطَّمَعِ تُوَرِّثُ الْغَمَّ
وَالْجَزَعَ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: هَذِهِ جُبَّةٌ أُحِبُّ أَنْ تَقْبَلَهَا مِنِّي. فَقَالَ:
إِنْ كُنْتَ غَنِيًّا قَبِلْتُهَا، وَإِنْ كُنْتَ فَقِيرًا لَمْ أَقْبَلْهَا.
قَالَ: أَنَا غَنِيٌّ. قَالَ: كَمْ عِنْدَكَ؟ قَالَ: أَلْفَانِ. قَالَ: تَوَدُّ
أَنْ تَكُونَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْتَ فَقِيرٌ لَا
أَقْبَلُهَا.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: لَوْ تَزَوَّجْتَ؟! فَقَالَ: لَوْ أَمْكَنَنِي أَنْ
أُطَلِّقَ نَفْسِي لَطَلَّقْتُهَا.
وَمَكَثَ بِمَكَّةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا شَيْءَ مَعَهُ، فَلَمْ يَكُنْ
لَهُ زَادٌ سِوَى الرَّمْلِ بِالْمَاءِ.
وَصَلَّى بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ خَمْسَ عَشْرَةَ صَلَاةً.
وَأَكَلَ يَوْمًا عَلَى حَافَّةِ الشَّرِيعَةِ كُسَيْرَاتٍ مَبْلُولَةً، وَضَعَهَا
بَيْنَ يَدَيْهِ أَبُو يُوسُفَ الْغَسُولِيُّ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ مِنَ
الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ جَاءَ فَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ، وَقَالَ: يَا أَبَا
يُوسُفَ، لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ
لَجَالَدُونَا بِالسُّيُوفِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ
لَذِيذِ الْعَيْشِ. فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: طَلَبَ الْقَوْمُ الرَّاحَةَ
وَالنَّعِيمَ
فَأَخْطَئُوا الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ. فَتَبَسَّمَ إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ: مِنْ
أَيْنَ لَكَ هَذَا الْكَلَامُ؟
وَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا بِالْمِصِّيصَةِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ
جَاءَهُ رَاكِبٌ فَقَالَ: أَيُّكُمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ؟ فَأُرْشِدَ
إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، أَنَا غُلَامُكَ، وَإِنَّ أَبَاكَ قَدْ مَاتَ
وَتَرَكَ مَالًا هُوَ عِنْدَ الْقَاضِي، وَقَدْ جِئْتُكَ بِعَشَرَةِ آلَافِ
دِرْهَمٍ لِتُنْفِقَهَا عَلَيْكَ إِلَى بَلْخَ، وَفَرَسٍ وَبَغْلَةٍ. فَسَكَتَ
إِبْرَاهِيمُ طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا
فَالدَّرَاهِمُ وَالْفَرَسُ وَالْبَغْلَةُ لَكَ، وَلَا تُخْبِرْ بِهِ أَحَدًا.
وَيُقَالُ إِنَّهُ ذَهَبَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى بَلْخَ، وَأَخَذَ الْمَالَ مِنَ
الْحَاكِمِ، وَجَعَلَهُ كُلَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَكَانَ مَعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَمَكَثُوا شَهْرَيْنِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ
شَيْءٌ يَأْكُلُونَهُ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: ادْخُلْ إِلَى هَذِهِ
الْغَيْضَةِ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ. قَالَ: فَدَخَلْتُ فَوَجَدْتُ
شَجَرَةً عَلَيْهَا خَوْخٌ كَثِيرٌ، فَمَلَأْتُ مِنْهُ جِرَابِي، ثُمَّ خَرَجْتُ،
فَقَالَ: مَا مَعَكَ؟ فَقُلْتُ: خَوْخٌ. فَقَالَ: يَا ضَعِيفَ الْيَقِينِ، لَوْ
صَبَرْتَ لَوَجَدْتَ رُطَبًا جَنِيًّا، كَمَا رُزِقَتْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ.
وَشَكَا إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْجُوعَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا
حَوْلَهُ دَنَانِيرُ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: خُذْ مِنْهَا دِينَارًا.
فَأَخَذَهُ وَاشْتَرَى لَهُمْ بِهِ طَعَامًا.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ بِالْفَاعِلِ، ثُمَّ يَذْهَبُ فَيَشْتَرِي
الْخَبْزَ الْأَبْيَضَ وَالزُّبْدَ، وَتَارَةً الشِّوَاءَ وَالْجُوذَابَاتِ،
وَالْخَبِيصَ فَيُطْعِمُهُ أَصْحَابَهُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَإِذَا أَفْطَرَ
يَأْكُلُ
مِنْ رَدِيءِ الطَّعَامِ، وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ الْمَطْعَمَ الطَّيِّبَ لِيُؤْثِرَ
بِهِ النَّاسَ; تَأْلِيفًا لَهُمْ وَتَحَبُّبًا وَتَوَدُّدًا إِلَيْهِمْ.
وَأَضَافَ الْأَوْزَاعِيُّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ، فَقَصَّرَ إِبْرَاهِيمُ فِي
الْأَكْلِ، فَقَالَ: مَا لَكَ قَصَّرْتَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّكَ قَصَّرْتَ فِي
الطَّعَامِ. ثُمَّ عَمِلَ إِبْرَاهِيمُ طَعَامًا كَثِيرًا، وَدَعَا
الْأَوْزَاعِيَّ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَمَا تَخَافُ أَنْ يَكُونَ سَرَفًا؟
فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا السَّرَفُ مَا كَانَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَأَمَّا مَا
أَنْفَقَهُ الرَّجُلُ عَلَى إِخْوَانِهِ، فَهُوَ مِنَ الدِّينِ.
وَذُكِرَ أَنَّهُ حَصَدَ مَرَّةً بِعِشْرِينَ دِينَارًا، فَجَلَسَ مَرَّةً عِنْدَ
حَجَّامٍ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ لِيَحْلِقَ رُءُوسَهُمْ وَيَحْجِمَهُمْ، فَكَأَنَّهُ
تَبَرَّمَ بِهِمْ، وَاشْتَغَلَ عَنْهُمْ بِغَيْرِهِمْ، فَتَأَذَّى صَاحِبُهُ مِنْ
ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمُ الْحَجَّامُ فَقَالَ: مَاذَا تُرِيدُونَ؟ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ: أُرِيدُ أَنْ تَحْلِقَ رَأْسِي وَتَحْجِمَنِي. فَفَعَلَ ذَلِكَ،
فَأَعْطَاهُ إِبْرَاهِيمُ تِلْكَ الْعِشْرِينَ دِينَارًا، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ
لَا تُحَقِّرَ بَعْدَهَا فَقِيرًا أَبَدًا.
وَقَالَ مَضَاءُ بْنُ عِيسَى: مَا فَاقَ إِبْرَاهِيمُ أَصْحَابَهُ بِصَوْمٍ وَلَا
صَلَاةٍ، وَلَكِنْ بِالصَّدَقَةِ وَالسَّخَاءِ.
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ يَقُولُ: فِرُّوا مِنَ النَّاسِ كَفِرَارِكُمْ
مِنَ الْأَسَدِ الضَّارِي، وَلَا تَخَلَّفُوا عَنِ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَكَانَ
إِذَا سَافَرَ مَعَ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَخْدِمُهُ إِبْرَاهِيمُ، وَكَانَ
إِذَا حَضَرَ فِي مَجْلِسٍ فَكَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ; هَيْبَةً
لَهُ وَإِجْلَالًا.
وَرُبَّمَا تَسَامَرَ هُوَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي اللَّيْلَةِ التَّامَّةِ
إِلَى الصَّبَاحِ، وَكَانَ الثَّوْرِيُّ يَتَحَرَّزُ مَعَهُ فِي الْكَلَامِ.
وَرَأَى رَجُلًا، فَقِيلَ لَهُ: هَذَا قَاتِلُ خَالِكَ. فَذَهَبَ إِلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأَهْدَى لَهُ، وَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ لَا
يَبْلُغُ دَرَجَةَ الْيَقِينِ حَتَّى يَأْمَنَهُ عَدُوُّهُ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: طُوبَى لَكَ; أَفْنَيْتَ عُمْرَكَ فِي الْعِبَادَةِ،
وَتَرَكْتَ الدُّنْيَا وَالزَّوْجَاتِ. فَقَالَ: أَلَكَ عِيَالٌ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَقَالَ: لَرَوْعَةُ الرَّجُلِ بِعِيَالِهِ - يَعْنِي فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ
مِنَ الْفَاقَةِ - أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ كَذَا وَكَذَا سَنَةً.
وَرَآهُ الْأَوْزَاعِيُّ بِبَيْرُوتَ وَعَلَى عُنُقِهِ حِزْمَةُ حَطَبٍ فَقَالَ:
يَا أَبَا إِسْحَاقَ، إِنَّ إِخْوَانَكَ يَكْفُونَكَ هَذَا. فَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ
يَا أَبَا عَمْرٍو، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ إِذَا وَقَفَ الرَّجُلُ مَوْقِفَ
مَذَلَّةٍ فِي طَلَبِ الْحَلَالِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ.
وَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَمَرَّ
بِطَبَرِيَّةَ، فَأَخَذَتْهُ الْمَسْلَحَةُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالُوا: أَنْتَ
عَبْدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: آبِقٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَسَجَنُوهُ. فَبَلَغَ
أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَبَرُهُ، فَجَاءُوا بِرُمَّتِهِمْ إِلَى نَائِبِ
طَبَرِيَةَ فَقَالُوا: عَلَامَ
سَجَنْتَ
إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ؟ قَالَ: مَا سَجَنْتُهُ. قَالُوا: بَلَى، هُوَ فِي
سِجْنِكَ. فَاسْتَحْضَرَهُ، فَقَالَ: عَلَامَ حُبِسْتَ؟ فَقَالَ: سَلِ
الْمَسْلَحَةَ، قَالُوا: أَنْتَ عَبْدٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ.
قَالُوا: وَأَنْتَ آبِقٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَأَنَا عَبْدٌ آبِقٌ مِنْ ذُنُوبِي.
فَخَلَّى سَبِيلَهُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ مَرَّ مَعَ رُفْقَةٍ، فَإِذَا الْأَسَدُ عَلَى الطَّرِيقِ،
فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ فَقَالَ لَهُ: يَا قَسْوَرَةُ،
إِنْ كُنْتَ أُمِرْتَ فِينَا بِشَيْءٍ فَامْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ، وَإِلَّا
فَعَوْدَكَ عَلَى بَدْئِكَ. قَالُوا: فَوَلَّى السَّبُعُ ذَاهِبًا يَضْرِبُ
بِذَنَبِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ
احْرُسْنَا بِعَيْنِكَ الَّتِي لَا تَنَامُ، وَاكْنُفْنَا بِرُكْنِكَ الَّذِي لَا
يُرَامُ، وَارْحَمْنَا بِقُدْرَتِكَ عَلَيْنَا، وَلَا نَهْلِكُ وَأَنْتَ
رَجَاؤُنَا، يَا اللَّهُ، يَا اللَّهُ، يَا اللَّهُ. قَالَ خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ:
فَمَا زِلْتُ أَقُولُهَا مُنْذُ سَمِعْتُهَا فَمَا عَرَضَ لِي لِصٌّ وَلَا
غَيْرُهُ.
وَقَدْ رُوِيَ لِهَذَا شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَجَاءَهُ أُسْدٌ ثَلَاثَةٌ،
فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَحَدُهُمْ، فَشَمَّ ثِيَابَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ، فَرَبَضَ
قَرِيبًا مِنْهُ، وَجَاءَ الثَّانِي فَفَعَلَ مِثْلَ كَذَلِكَ، وَجَاءَ الثَّالِثُ
فَفَعَلَ كَذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ إِبْرَاهِيمُ فِي صِلَاتِهِ، فَلَمَّا كَانَ
وَقْتُ السَّحَرِ قَالَ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ أُمِرْتُمْ بِشَيْءٍ فَهَلُمَّ،
وَإِلَّا فَانْصَرِفُوا. فَانْصَرَفُوا.
وَصَعِدَ مَرَّةً جَبَلًا بِمَكَّةَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لَوْ
أَنَّ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ
قَالَ
لِجَبَلٍ: زُلْ. لَزَالَ. فَتَحَرَّكَ الْجَبَلُ تَحْتَهُ، فَرَكَلَهُ بِرِجْلِهِ
وَقَالَ: اسْكُنْ، فَإِنَّمَا ضَرَبْتُكَ مَثَلًا لِأَصْحَابِي. وَفِي رِوَايَةٍ:
وَكَانَ الْجَبَلُ أَبَا قُبَيْسٍ.
وَرَكِبَ مَرَّةً سَفِينَةً، فَأَخَذَهُمُ الْمَوْجُ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ كُلِّ
مَكَانٍ، فَلَفَّ إِبْرَاهِيمُ رَأْسَهُ بِكِسَائِهِ، وَاضْطَجَعَ، وَعَجَّ
أَصْحَابُ السَّفِينَةِ بِالضَّجِيجِ، وَأَيْقَظُوهُ، وَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا
نَحْنُ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ هَذِهِ شِدَّةً، إِنَّمَا
الشِّدَّةُ الْحَاجَةُ إِلَى النَّاسِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَرَيْتَنَا
قُدْرَتَكَ فَأَرِنَا عَفْوَكَ. فَصَارَ الْبَحْرُ كَأَنَّهُ قَدَحُ زَيْتٍ.
وَكَانَ قَدْ طَالَبَهُ صَاحِبُ السَّفِينَةِ بِأُجْرَةِ حَمْلِهِ دِينَارَيْنِ،
وَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ مَعَهُ مَرَّةً إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ،
فَقَالَ: أَيْنَ الدِّينَارَانِ. فَتَوَضَّأَ إِبْرَاهِيمُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ
وَدَعَا، فَإِذَا مَا حَوْلَهُ قَدْ مُلِئَ دَنَانِيرَ، فَقَالَ لَهُ خُذْ
حَقَّكَ، وَلَا تَزِدْ، وَلَا تَذْكُرْ هَذَا لِأَحَدٍ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ الْمَرْعَشِيِّ قَالَ: أَوَيْتُ أَنَا وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ
أَدْهَمَ إِلَى مَسْجِدٍ خَرَابٍ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ قَدْ مَضَى عَلَيْنَا
أَيَّامٌ لَمْ نَأْكُلْ فِيهَا شَيْئًا، فَقَالَ لِي: كَأَنَّكَ جَائِعٌ. قُلْتُ:
نَعَمْ. فَأَخَذَ رُقْعَةً فَكَتَبَ فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، أَنْتَ الْمَقْصُودُ إِلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ، الْمُشَارُ إِلَيْهِ
بِكُلِّ مَعْنًى:
أَنَا حَامِدٌ أَنَا شَاكِرٌ أَنَا ذَاكِرٌ أَنَا جَائِعٌ أَنَا نَائِعٌ أَنَا
عَارِي
هِيَ
سِتَّةٌ وَأَنَا الضَّمِينُ لِنِصْفِهَا
فَكُنِ الضَّمِينَ لِنِصْفِهَا يَا بَارِي مَدْحِي لِغَيْرِكَ وَهْجُ نَارٍ
خُضْتُهَا
فَأَجِرْ عُبَيْدَكَ مِنْ دُخُولِ النَّارِ
ثُمَّ قَالَ لِي: اخْرُجْ وَلَا تُعَلِّقْ قَلْبَكَ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَادْفَعْ
هَذِهِ الرُّقْعَةَ لِأَوَّلِ رَجُلٍ تَلْقَاهُ. فَخَرَجْتُ فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى
بَغْلَةٍ، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَرَأَهَا بَكَى، وَدَفَعَ إِلَيَّ
سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ وَانْصَرَفْتُ فَسَأَلْتُ رَجُلًا: مَنْ هَذَا الَّذِي
عَلَى الْبَغْلَةِ؟ فَقَالَ: هُوَ رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ. فَجِئْتُ إِبْرَاهِيمَ،
فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: الْآنَ يَجِيءُ فَيُسْلِمُ. فَمَا كَانَ غَيْرَ قَرِيبٍ
حَتَّى جَاءَ، فَأَكَبَّ عَلَى رَأْسِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَسْلَمَ.
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ: دَارُنَا أَمَامَنَا، وَحَيَاتُنَا بَعْدَ
وَفَاتِنَا، فَإِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ.
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ: مَثِّلْ لِبَصَرِ قَلْبِكَ حُضُورَ مَلَكِ
الْمَوْتِ وَأَعْوَانِهِ لَقَبْضِ رُوحِكَ، وَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ، وَمَثِّلْ
لَهُ هَوْلَ الْمَطْلَعِ وَمُسَاءَلَةَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَانْظُرْ كَيْفَ
تَكُونُ، وَمَثِّلْ لَهُ الْقِيَامَةَ وَأَهْوَالَهَا وَأَفْزَاعَهَا وَالْعَرْضَ
وَالْحِسَابَ، وَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ. ثُمَّ صَرَخَ صَرْخَةً خَرَّ مَغْشِيًّا
عَلَيْهِ.
وَنَظَرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَضْحَكُ فَقَالَ لَهُ: لَا تَطْمَعْ
فِيمَا لَا يَكُونُ، وَلَا تَيْأَسْ مِمَّا يَكُونُ. فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ هَذَا
يَا أَبَا إِسْحَاقَ؟ فَقَالَ: لَا تَطْمَعْ فِي الْبَقَاءِ وَالْمَوْتُ
يَطْلُبُكَ، فَكَيْفَ يَضْحَكُ مَنْ يَمُوتُ وَلَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ; إِلَى
جَنَّةٍ
أَمْ إِلَى نَارٍ؟! وَلَا تَيْأَسْ مِمَّا يَكُونُ، الْمَوْتُ يَأْتِيكَ صَبَاحًا
أَوْ مَسَاءً. ثُمَّ قَالَ: أَوَّهْ أَوَّهْ. ثُمَّ خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.
وَكَانَ يَقُولُ: مَا لَنَا نَشْكُو فَقْرَنَا إِلَى مِثْلِنَا، وَلَا نَسْأَلُ
كَشْفَهُ مِنْ رَبِّنَا. ثُمَّ يَقُولُ: ثَكِلَتْ عَبْدًا أَمُّهُ أَحَبَّ
الدُّنْيَا، وَنَسِيَ مَا فِي خَزَائِنِ مَوْلَاهُ.
وَقَالَ: إِذَا كُنْتَ بِاللَّيْلِ نَائِمًا، وَبِالنَّهَارِ هَائِمًا،
وَبِالْمَعَاصِي دَائِمًا، فَكَيْفَ يَرْضَى مَنْ هُوَ بِأَمْرِكَ قَائِمًا.
وَرَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِمَسْجِدِ بَيْرُوتَ وَهُوَ يَبْكِي، وَيَضْرِبُ
بِيَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ ذَكَرْتُ يَوْمًا
تَنْقَلِبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ.
وَقَالَ: إِنَّكَ كُلَّمَا أَمْعَنْتَ النَّظَرَ فِي مِرْآةِ التَّوْبَةِ بَانَ
لَكَ قُبْحُ شَيْنِ الْمَعْصِيَةِ.
وَكَتَبَ إِلَى الثَّوْرِيِّ: مَنْ عَرَفَ مَا يَطْلُبُ هَانَ عَلَيْهِ مَا
يَبْذُلُ، وَمَنْ أَطْلَقَ بَصَرَهُ طَالَ أَسَفُهُ، وَمَنْ أَطْلَقَ أَمَلَهُ
سَاءَ عَمَلُهُ، وَمَنْ أَطْلَقَ لِسَانَهُ قَتَلَ نَفْسَهُ.
وَسَأَلَهُ بَعْضُ الْوُلَاةِ: مِنْ أَيْنَ مَعِيشَتُكَ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
نُرَقِّعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيقِ دِينِنَا فَلَا دِينُنَا يَبْقَى وَلَا مَا
نُرَقِّعُ
وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
لِمَا
تُوعِدُ الدُّنْيَا بِهِ مِنْ شُرُورِهَا يَكُونُ بُكَاءُ الطِّفْلِ سَاعَةَ
يُوضَعُ
وَإِلَّا فَمَا يُبْكِيهِ مِنْهَا وَإِنَّهَا لَأَرْوَحُ مِمَّا كَانَ فِيهِ
وَأَوْسَعُ
إِذَا أَبْصَرَ الدُّنْيَا اسْتَهَلَّ كَأَنَّمَا يَرَى مَا سَيَلْقَى مِنْ
أَذَاهَا وَيَسْمَعُ
وَكَانَ يَتَمَثَّلُ أَيْضًا بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ وَيُتْبِعُهَا الذَّلَ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُو بِ وَالْخَيْرُ لِلنَّفْسِ عِصْيَانُهَا
وَمَا أَهْلَكَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا
وَبَاعُوا النُّفُوسَ فَلَمْ يَرْبَحُوا وَلَمْ يَغْلُ بِالْبَيْعِ أَثْمَانُهَا
لَقَدْ وَقَعَ الْقَوْمِ فِي جِيفَةٍ تَبِينُ لِذِي اللُّبِ أَنْتَانُهَا
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: إِنَّمَا يَتِمُّ الْوَرَعُ بِتَسْوِيَةِ كُلِّ
الْخَلْقِ فِي قَلْبِكَ، وَالِاشْتِغَالِ عَنْ عُيُوبِهِمْ بِذَنْبِكَ، وَعَلَيْكَ
بِاللَّفْظِ الْجَمِيلِ مِنْ قَلْبٍ ذَلِيلٍ لِرَبٍّ جَلِيلٍ، فَكِّرْ فِي
ذَنْبِكَ، وَتُبْ إِلَى رَبِّكَ يَثْبُتُ الْوَرَعُ فِي قَلْبِكَ، وَاقْطَعِ
الطَّمَعَ إِلَّا مِنْ رَبِّكَ.
وَقَالَ أَيْضًا: لَيْسَ مِنْ أَعْلَامِ الْحُبِّ أَنْ تُحِبَّ مَا يُبْغِضُهُ
حَبِيبُكَ، ذَمَّ مَوْلَانَا
الدُّنْيَا
فَمَدَحْنَاهَا، وَأَبْغَضَهَا فَأَحْبَبْنَاهَا، وَزَهَّدَنَا فِيهَا
فَآثَرْنَاهَا، وَرَغَّبَنَا فِي طَلَبِهَا، وَوَعَدَكُمْ خَرَابَ الدُّنْيَا
فَحَصَّنْتُمُوهَا، وَنَهَاكُمْ عَنْ طَلَبِهَا فَطَلَبْتُمُوهَا، وَأَنْذَرَكُمُ
الْكُنُوزَ فَكَنَزْتُمُوهَا، دَعَتْكُمْ إِلَى هَذِهِ الْغَرَّارَةِ دَوَاعِيهَا،
فَأَجَبْتُمْ مُسْرِعِينَ مُنَادِيَهَا، خَدَعَتْكُمْ بِغُرُورِهَا، وَمَنَّتْكُمْ
فَأَقْرَرْتُمْ خَاضِعِينَ لِأَمَانِيِّهَا، تَتَمَرَّغُونَ فِي زَهَرَاتِهَا،
وَتَتَنَعَّمُونَ فِي لَذَّاتِهَا، وَتَتَقَلَّبُونَ فِي شَهَوَاتِهَا،
وَتَتَلَوَّثُونَ بِتَبِعَاتِهَا، تَنْبُشُونَ بِمَخَالِبِ الْحِرْصِ عَنْ
خَزَائِنِهَا، وَتَحْفِرُونَ بِمَعَاوِلِ الطَّمَعِ فِي مَعَادِنِهَا.
وَشَكَى رَجُلٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ كَثْرَةَ الْعِيَالِ فَقَالَ:
ابْعَثْ إِلَيَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا رِزْقُهُ عَلَى اللَّهِ. فَسَكَتَ الرَّجُلُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: مَرَرْتُ فِي بَعْضِ جِبَالِ الشَّامِ
فَإِذَا بِحَجَرٍ مَكْتُوبٍ عَلَيْهِ بِالْعَرَبِيَّةِ:
كُلُّ حَيٍّ وَإِنْ بَقِيَ فَمِنَ الْعُمْرِ يَسْتَقِي
فَاعَمَلِ الْيَوْمَ وَاجْتَهِدْ وَاحْذَرِ الْمَوْتَ يَا شَقِي
فَبَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ أَقْرَأُ وَأَبْكِي، إِذَا بِرَجُلٍ أَشْعَثَ أَغْبَرَ
عَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ مِنْ شَعْرٍ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: مِمَّ تَبْكِي؟ فَقُلْتُ:
مِنْ هَذَا. فَأَخَذَ بِيَدِي وَمَضَى غَيْرَ بَعِيدٍ، فَإِذَا صَخْرَةٌ عَظِيمَةٌ
مِثْلُ الْمِحْرَابِ فَقَالَ: اقْرَأْ وَابْكِ، وَلَا تُقَصِّرْ. وَقَامَ هُوَ
يُصَلِّي فَإِذَا فِي أَعْلَاهُ نَقْشٌ بَيِّنٌ عَرَبِيٌّ:
لَا
تَبْتَغِي جَاهًا وَجَاهُكَ سَاقِطٌ عِنْدَ الْمَلِيكِ وَكُنْ لِجَاهِكَ مُصْلِحًا
وَفِي الْجَانِبِ الْآخَرِ نَقْشٌ بَيِّنٌ عَرَبِيٌّ:
مَنْ لَمْ يَثِقْ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ لَاقَى هُمُومًا كَثِيرَةَ الضَّرَرْ
وَفِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنْهُ نَقْشُ بَيِّنٌ عَرَبِيٌّ:
مَا أَزْيَنَ التُّقَى، وَمَا أَقْبَحَ الْخَنَا
، وَكُلٌّ مَأْخُوذٌ بِمَا جَنَى، وَعِنْدَ اللَّهِ الْجَزَا
.
وَفِي أَسْفَلِ الْمِحْرَابِ فَوْقَ الْأَرْضِ بِذِرَاعٍ أَوْ أَكْثَرَ:
إِنَّمَا الْفَوْزُ وَالْغِنَى فِي تُقَى اللَّهِ وَالْعَمَلْ
قَالَ: فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْتَفَتُّ فَإِذَا لَيْسَ الرَّجُلُ
هُنَاكَ، فَمَا أَدْرِي انْصَرَفَ أَوْ حُجِبَ عَنِّي؟
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: أَثْقَلُ الْأَعْمَالِ فِي الْمِيزَانِ
أَثْقَلُهَا عَلَى الْأَبْدَانِ، وَمَنْ وَفَّى الْعَمَلَ وُفِّيَ لَهُ الْأَجْرُ،
وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ رَحَلَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ بِلَا قَلِيلٍ
وَلَا كَثِيرٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: كُلُّ سُلْطَانٍ لَا يَكُونُ عَادِلًا فَهُوَ وَاللِّصُّ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّ عَالَمٍ لَا يَكُونُ وَرِعًا فَهُوَ وَالذِّئْبُ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّ مَنْ خَدَمَ سِوَى اللَّهِ فَهُوَ وَالْكَلْبُ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ
أَيْضًا: أَعْرَبْنَا فِي الْمَقَالِ حَتَّى لَمْ نَلْحَنْ، وَلَحَنَّا فِي
الْفِعَالِ حَتَّى لَمْ نُعْرِبُ.
وَقَالَ: كُنَّا إِذَا رَأَيْنَا الشَّابَّ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَجْلِسِ أَيِسْنَا
مِنْ خَيْرِهِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَصْحَابِهِ: جَانِبُوا النَّاسَ، وَلَا تَنْقَطِعُوا عَنْ
جُمْعَةٍ وَلَا جَمَاعَةٍ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو
مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ رَامِينَ
الْإِسْتَرَابَاذِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحُمَيْدِيُّ
الشِّيرَازِيُّ، أَنْبَأَنَا الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خُرَّزَادَ
الْأَهْوَازِيُّ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَصْرِيُّ، حَدَّثَنِي
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَلَبِيُّ، سَمِعْتُ سَرِيًّا السَّقَطِيَّ يَقُولُ:
سَمِعْتُ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ الْحَافِي يَقُولُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
أَدْهَمَ: وَقَفْتُ عَلَى رَاهِبٍ فِي جَبَلِ لُبْنَانَ، فَأَشْرَفَ عَلَيَّ
فَقُلْتُ لَهُ: عِظْنِي. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
خُذْ عَنِ النَّاسِ جَانِبًا كَيْ يَعُدُّوكَ رَاهِبًا
إِنَّ دَهْرًا أَظَلَّنِي قَدْ أَرَانِي الْعَجَائِبَا
قَلِّبِ
النَّاسَ كَيْفَ شِئْ تَ تَجِدْهُمْ عَقَارِبًا
قَالَ بِشْرٌ: فَقُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ الرَّاهِبِ لَكَ،
فَعِظْنِي أَنْتَ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
تَوَحَّشْ مِنَ الْإِخْوَانِ لَا تَبْغِ مُؤْنِسًا وَلَا تَتَّخِذْ خِلًّا وَلَا
تَبْغِ صَاحِبًا
وَكُنْ سَامِرِيَّ الْفِعْلِ مِنْ نَسْلِ آدَمِ وَكُنْ أَوْحَدِيًّا مَا قَدَرْتَ
مُجَانِبَا
فَقَدْ فَسَدَ الْإِخْوَانُ وَالْحُبُّ وْالْإِخَا فَلَسْتَ تَرَى إِلَّا مَذُوقًا
وَكَاذِبَا
فَقُلْتُ وَلَوْلَا أَنْ يُقَالَ مُدَهْدَهٌ وَتُنْكَرُ حَالَاتِي لَقَدْ صِرْتُ
رَاهِبًا
قَالَ سَرِيٌّ: فَقُلْتُ لِبِشْرٍ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ إِبْرَاهِيمَ لَكَ،
فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ: عَلَيْكَ بِلُزُومِ بَيْتِكِ. فَقُلْتُ: بَلَغَنِي
عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا اللَّيْلُ وَمُلَاقَاةُ الْإِخْوَانِ مَا
كُنْتُ أُبَالِي مَتَى مُتُّ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَا مَنْ يُسَرُّ بِرُؤْيَةِ الْإِخْوَانِ مَهْلًا أَمِنْتَ مَكَائِدَ
الشَّيْطَانِ
خَلَتِ الْقُلُوبُ مِنَ الْمَعَادِ وَذِكْرِهِ وَتَشَاغَلُوا بِالْحِرْصِ
وَالْخُسْرَانِ
صَارَتْ مَجَالِسُ مَنْ تَرَى وَحَدِيثُهُمْ فِي هَتْكِ مَسْتُورٍ وَخَلْقِ
قُرَانِ
قَالَ الْحَلَبِيُّ: فَقُلْتُ لِسَرِيٍّ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ بِشْرٍ لَكَ،
فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالْإِخْمَالِ. فَقُلْتُ: إِنِّي أُحِبُّ
ذَاكَ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَا مَنْ يُرِيدُ بِزَعْمِهِ إِخْمَالَا إِنْ كَانَ حَقًا فَاسْتَعِدَّ خِصَالَا
تَرْكُ الْمَجَالِسِ وَالتَّذَاكُرِ يَا أَخِي وَاجْعَلْ خُرُوجَكَ لِلصَّلَاةِ
خَيَالَا
بَلْ
كُنْ بِهَا حَيًّا كَأَنَّكَ مَيَّتٌ لَا يَرْتَجِي مِنْهُ الْقَرِيبُ وِصَالَا
قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَصْرِيُّ: قُلْتُ لِلْحَلَبِيِّ: هَذِهِ
مَوْعِظَةُ سَرِيٍّ لَكَ، فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ: يَا أَخِي، أَحَبُّ الْأَعْمَالِ
إِلَى اللَّهِ مَا أُصْدِرَ إِلَيْهِ مِنْ قَلْبٍ زَاهِدٍ فِي الدُّنْيَا،
فَازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
أَنْتَ فِيِ دَارِ شَتَاتٍ فَتَأَهَّبْ لِشَتَاتِكَ
وَاجْعَلِ الدُّنْيَا كَيَوْمٍ صُمْتَهُ عَنْ شَهَوَاتِكَ
وَاجْعَلِ الْفِطْرَ إِذَا مَا صُمْتَهُ يَوْمَ وَفَاتِكَ
قَالَ ابْنُ خُرَّزَادَ: فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ الْحَلَبِيِّ
لَكَ، فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ لِي: احْفَظْ وَقْتَكَ وَاسْخُ بِنَفْسِكَ
لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَانْزِعْ قِيمَةَ الْأَشْيَاءِ عَنْ قَلْبِكَ يَصْفُ لَكَ
بِذَلِكَ سِرُّكَ، وَيَزْكُ بِهِ ذِكْرُكَ. ثُمَّ أَنْشَدَنِي:
حَيَاتُكَ أَنْفَاسٌ تُعَدُّ فَكُلَّمَا مَضَى نَفَسٌ مِنْهَا انْتُقِصْتَ بِهِ
جُزْءًا
فَتُصْبحُ فِي نَقْصٍ وَتُمْسِي بِمِثْلِهِ وَمَا لَكَ مَعْقُولٌ تُحِسُّ بِهِ
رُزْءًا
يُمِيتُكَ مَا يُحْيِيكَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَيَحْدُوكَ حَادٍ مَا يُرِيدُ بِكَ
الْهُزْءَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ عَلِيٍّ لَكَ،
فَعِظْنِي. فَقَالَ: يَا أَخِي، عَلَيْكَ بِلُزُومِ الطَّاعَةِ، وَإِيَّاكَ أَنْ
تَبْرَحَ بَابَ الْقَنَاعَةِ، وَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ، وَلَا تُؤْثِرْ هَوَاكَ،
وَلَا تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ، وَاشْتَغِلْ بِمَا يَعْنِيكَ بِتَرْكِ مَا
لَا يَعْنِيكَ. ثُمَّ أَنْشَدَنِي:
نَدِمْتُ عَلَى مَا كَانَ مِنِّي نَدَامَةً وَمَنْ يَتْبَعْ مَا تَشْتَهِي
النَّفْسُ يَنْدَمِ
فَخَافُوا
لِكَيْمَا تَأْمَنُوا بَعْدَ مَوْتِكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبًّا عَادِلًا لَيْسَ
يَظْلِمْ
فَلَيْسَ لِمَغْرُورٍ بِدُنْيَاهُ زَاجِرٌ سَيَنْدَمُ إِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ
فَاعْلَمْ
قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ رَامِينَ فَقُلْتُ لِأَبِي مُحَمَّدٍ:
هَذِهِ مَوْعِظَةُ أَحْمَدَ لَكَ، فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ: اعْلَمْ، رَحِمَكَ
اللَّهُ، أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، يُنْزِلُ الْعَبِيدَ حَيْثُ نَزَلَتْ
قُلُوبُهُمْ بِهُمُومِهَا، فَانْظُرْ أَيْنَ أَنْزَلَتْ قَلْبَكَ، وَاعْلَمْ
أَنَّهُ تُقَرَّبُ الْقُلُوبُ عَلَى حَسَبِ مَا قَرُبَ إِلَيْهَا، فَانْظُرْ مَنِ
الْقَرِيبُ مِنْ قَلْبِكَ. وَأَنْشَدَنِي:
قُلُوبُ رِجَالٍ فِي الْحِجَابِ نُزُولُ وَأَرْوَاحُهُمْ فِيمَا هُنَاكَ حُلُولُ
بِرَوْحِ نَعِيمِ الْأُنْسِ فِي عِزِّ قُرْبِهِ بِإِفْرَادِ تَوْحِيدِ الْمَلِيكَ
تَحُولُ
لَهُمْ بِفِنَاءِ الْقُرْبِ مِنْ مَحْضِ بِرِّهِ عَوَائِدُ بَذْلٍ خَطْبُهُنَّ
جَلِيلُ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: فَقُلْتُ لِلْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدِ
بْنِ رَامِينَ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ الْحُمَيْدِيِّ لَكَ، فَعِظْنِي. فَقَالَ:
اتَّقِ اللَّهَ، وَثِقْ بِهِ وَلَا تَتَّهِمْهُ; فَإِنَّ اخْتِيَارَهُ لَكَ خَيْرٌ
مِنَ اخْتِيَارِكَ لِنَفْسِكَ. وَأَنْشَدَنِي:
اتَّخِذِ اللَّهَ صَاحِبًا وَذَرِ النَّاسَ جَانِبًا
جَرِّبِ النَّاسَ كَيْفَ شِئْ تَ تَجِدْهُمُ عَقَارِبًا
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ غَيْثٌ الصُّورِيُّ: فَقُلْتُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ:
هَذِهِ مَوْعِظَةُ ابْنِ رَامِينَ لَكَ، فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ: احْذَرْ
نَفْسَكَ الَّتِي هِيَ أَعْدَى أَعْدَائِكَ أَنْ تُتَابِعَهَا عَلَى هَوَاهَا،
فَذَاكَ أَعْضَلُ دَائِكَ، وَاسْتَشْعِرِ الْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ بِخِلَافِهَا،
وَكَرِّرْ
عَلَى قَلْبِكَ ذِكْرَ نُعُوتِهَا وَأَوْصَافِهَا، فَإِنَّهَا الْأَمَّارَةُ
بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ، وَالْمُورِدَةُ مَنْ أَطَاعَهَا مَوَارِدَ الْعَطَبِ
وَالْبَلَاءِ، وَاعْمِدْ فِي جَمِيعِ أُمُورِكَ إِلَى تَحَرِّي الصِّدْقِ، وَلَا
تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ
لِمَنْ خَالَفَ هَوَاهُ أَنْ يَجْعَلَ دَارَ الْخُلْدِ قَرَارَهُ وَمَأْوَاهُ.
ثُمَّ أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ:
إِنْ كُنْتَ تَبْغِي الرَّشَادَ مَحْضًا فِي أَمْرِ دُنْيَاكَ وَالْمَعَادِ
فَخَالِفِ النَّفْسَ فِي هَوَاهَا إِنَّ الْهَوَى جَامِعُ الْفَسَادِ
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: الْمَحْفُوظُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ
تُوُفِّيَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ
إِحْدَى. وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ،
كَمَا ذَكَرْنَا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِجَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ بَحْرِ الرُّومِ وَهُوَ
مُرَابِطٌ، وَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْخَلَاءِ لَيْلَةَ وَفَاتِهِ نَحْوًا مِنْ
عِشْرِينَ مَرَّةً، وَكُلُّ مَرَّةٍ يُجَدِّدُ الْوُضُوءَ بَعْدَهَا، فَلَمَّا
غَشِيَهُ الْمَوْتُ قَالَ: أَوْتِرُوا لِي قَوْسِي. وَقَبَضَ عَلَى الْقَوْسِ،
وَمَاتَ وَهُوَ كَذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: سَمِعَتْ
السِّرِيَّ بْنَ حَيَّانَ يَقُولُ - وَكَانَ سُفْيَانُ مُعْجَبًا بِهِ -:
أَجَاعَتْهُمُ
الدُّنْيَا فَجَاعُوا وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ ذُو التَّقْوَى عَنِ الْعَيْشِ
مُلْجَمًا
أَخُو طَيِّئٍ دَاوُدُ مِنْهِمُ وَمِسْعَرٌ وَمِنْهُمْ وُهَيْبٌ وَالْغَرِيبُ
ابْنُ أَدْهَمَا
وَفِي ابْنِ سَعِيدٍ قُدْوَةَ الْبِرِّ وَالنُّهَى وَفِي الْوَارِثِ الْفَارُوقِ
صِدْقًا مُقَدَّمًا
وَحَسْبُكَ مِنْهُمْ بِالْفُضَيْلِ مَعَ ابْنِهِ وَيُوسُفُ إِنْ لَمْ يَأْلُ أَنْ
يَتَسَلَّمَا
أُولَئِكَ أَصْحَابِي، وَأَهْلُ مَوَدَّتِي فَصَلَّى عَلَيْهِمْ ذُو الْجَلَالِ
وَسَلِّمَا
فَمَا ضَرَّ ذَا التَّقْوَى نِصَالُ أَسِنَّةٍ وَمَا زَالَ ذُو التَّقْوَى أَعَزَّ
وَأَكْرَمَا
وَمَا زَالَتِ التَّقْوَى تُرِيكَ عَلَى الْفَتَى إِذَا مَحَّضَ التَّقْوَى مِنَ
الْعِزِّ مِيسَمَا
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَدَبِ " عَنْ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ أَدْهَمَ، وَأَخْرَجَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي " جَامِعِهِ "
حَدِيثًا مُعَلَّقًا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَأَمَّا دَاوُدُ الطَّائِيُّ فَهُوَ دَاوُدُ بْنُ نُصَيْرٍ الطَّائِيُّ، أَبُو
سُلَيْمَانَ الْكُوفِيُّ الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: ثُمَّ تَرَكَ طَلَبَ الْفِقْهِ، وَأَقْبَلَ
عَلَى الْعِبَادَةِ، وَدَفَنَ كُتُبَهُ.
قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: وَهَلِ الْأَمْرُ إِلَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ
دَاوُدُ الطَّائِيُّ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَانَ ثِقَةً. وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ:
تَرَكَ الْفِقْهَ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ حَتَّى مَاتَ، وَقَدْ قَدِمَ عَلَى
الْمَهْدِيِّ بَغْدَادَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكُوفَةِ.
مَاتَ فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ
وَمِائَةٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ فِي "
تَارِيخِهِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا حُصِرَ الْمُقَنَّعُ الزِّنْدِيقُ الَّذِي كَانَ قَدْ نَبَغَ بِخُرَاسَانَ
وَقَالَ بِالتَّنَاسُخِ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى جَهَالَتِهِ وَضَلَالَتِهِ خَلْقٌ
مِنَ الطَّغَامِ وَسُفَهَاءِ الْأَنَامِ، وَالسَّفِلَةِ مِنَ الْعَوَامِّ،
وَمَنَعُوهُ مِنَ الْجُنُودِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ لَجَأَ إِلَى قَلْعَةِ كَشٍّ، فَحَاصَرَهُ سَعِيدٌ الْحَرِشِيُّ فَأَلَحَّ
عَلَيْهِ فِي الْحِصَارِ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِالْغَلَبَةِ تَحَسَّى سُمًّا وَسَمَّ
نِسَاءَهُ، فَمَاتُوا جَمِيعًا، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ. وَدَخَلَ الْجَيْشُ
الْإِسْلَامِيُّ قَلْعَتَهُ، فَاحْتَزُّوا رَأَسَهُ، وَبَعَثُوا بِهِ إِلَى
الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ الْمَهْدِيُّ حِينَ جَاءَهُ رَأْسُ الْمُقَنَّعِ بِحَلَبَ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: الْمُقَنَّعُ الْخُرَاسَانِيُّ قِيلَ: اسْمُهُ عَطَاءٌ.
وَقِيلَ: حَكِيمٌ. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَكَانَ أَوَّلًا قَصَّارًا، ثُمَّ
ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَعْوَرَ قَبِيحَ الْمَنْظَرِ،
وَكَانَ يَتَّخِذُ لَهُ وَجْهًا مِنْ ذَهَبٍ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى جَهَالَتِهِ
خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْجَهَلَةِ،
وَكَانَ يُرِي النَّاسَ قَمَرًا يُرَى مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ يَغِيبُ،
فَعَظُمَ اعْتِقَادُهُمْ فِيهِ، وَمَنَعُوهُ بِالسِّلَاحِ، وَكَانَ يَزْعُمُ -
لَعَنَهُ اللَّهُ، وَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا
كَبِيرًا - أَنَّ اللَّهَ ظَهَرَ فِي صُورَةِ آدَمَ، وَلِهَذَا سَجَدَتْ لَهُ
الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ فِي نُوحٍ، ثُمَّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا وَاحِدًا،
ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ، ثُمَّ تَحَوَّلَ
إِلَيْهِ، وَلَمَّا حَاصَرَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي قَلْعَتِهِ الَّتِي كَانَ
جَدَّدَهَا بِنَاحِيَةِ كَشٍّ مِمَّا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَيُقَالُ لَهَا:
سَنَامُ. سَقَى نِسَاءَهُ وَأَهْلَهُ سُمًّا، وَتَحَسَّى هُوَ أَيْضًا مِنْهُ،
فَمَاتُوا كُلُّهُمْ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ - وَاسْتَحْوَذَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ كُلِّهَا.
وَفِيهَا جَهَّزَ الْمَهْدِيُّ الْبُعُوثَ مِنْ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا مِنَ
الْبِلَادِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَأَمَّرَ عَلَى الْجَمِيعِ وَلَدَهُ هَارُونَ
الرَّشِيدَ، وَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ مُشَيِّعًا لَهُ، فَسَارَ مَعَهُ مَرَاحِلَ،
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ وَلَدَهُ مُوسَى الْهَادِي، وَكَانَ فِي هَذَا
الْجَيْشِ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَالرَّبِيعُ الْحَاجِبُ، وَخَالِدُ بْنُ
بَرْمَكَ، وَهُوَ مِثْلُ الْوَزِيرِ لِلرَّشِيدِ وَلِيِّ الْعَهْدِ، وَيَحْيَى
بْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ كَاتِبُهُ وَإِلَيْهِ النَّفَقَاتُ. وَمَا زَالَ
الْمَهْدِيُّ مَعَ وَلَدِهِ مُشَيِّعًا لَهُ حَتَّى بَلَغَ دَرْبَ الرُّومِ عِنْدَ
جَيْحَانَ، وَارْتَادَ هُنَاكَ الْمَدِينَةَ الْمُسَمَّاةَ بِالْمَهْدِيَّةِ فِي
بِلَادِ الرُّومِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الشَّامِ، وَزَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ،
فَسَارَ الرَّشِيدُ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فِي جَحَافِلَ عَظِيمَةٍ، فَفَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً، وَغَنِمُوا أَمْوَالًا جَزِيلَةً
جِدًّا، وَكَانَ لِخَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ جَمِيلٌ لَمْ يَكُنْ
لِغَيْرِهِ، وَبَعَثُوا
بِالْبِشَارَةِ
مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ بَرْمَكَ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَأَكْرَمَهُ الْمَهْدِيُّ
وَأَجْزَلَ عَطَاءَهُ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَهْدِيُّ عَمَّهُ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ عَنِ
الْجَزِيرَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا زُفَرَ بْنَ عَاصِمٍ الْهِلَالِيَّ، ثُمَّ
عَزَلَهُ وَوَلَّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ.
وَفِيهَا وَلَّى الْمَهْدِيُّ وَلَدَهُ هَارُونَ الرَّشِيدِ بِلَادَ الْمَغْرِبِ
وَأَذْرَبِيجَانَ وَأَرْمِينِيَّةَ، وَجَعَلَ عَلَى رَسَائِلِهِ يَحْيَى بْنَ
خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، وَوَلَّى وَعَزَلَ جَمَاعَةً مِنَ النُّوَّابِ، وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا عَلِيٌّ ابْنُ الْمَهْدِيِّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، وَحَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ
الرَّحَبِيُّ الْحِمْصِيُّ، وَمُوسَى بْنُ عَلِيٍّ اللَّخْمِيُّ الْمِصْرِيُّ،
وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، وَعِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ عَمُّ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ قَصْرُ عِيسَى،
وَنَهْرُ عِيسَى بِبَغْدَادَ، قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَانَ لَهُ مَذْهَبٌ
جَمِيلٌ، وَكَانَ مُعْتَزِلًا لِلسُّلْطَانِ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَهَمَّامُ بْنُ يَحْيَى،
وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْمِصْرِيُّ. وَعُبَيْدَةُ بِنْتُ أَبِي كِلَابٍ الْعَابِدَةُ، بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى عَمِيَتْ. وَكَانَتْ تَقُولُ: أَشْتَهِي الْمَوْتَ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ أَجْنِيَ عَلَى نَفْسِي جِنَايَةً تَكُونُ سَبَبَ هَلَاكِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا عَبْدُ الْكَبِيرِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، بِلَادَ الرُّومِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ مِيخَائِيلُ
الْبِطْرِيقُ فِي نَحْوِ تِسْعِينَ أَلْفًا، فِيهِمْ طَازَاذُ الْأَرْمَنِيُّ
الْبِطْرِيقُ، فَفَشَلَ عَنْهُ عَبْدُ الْكَبِيرِ، وَمَنَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ
الْقِتَالِ، وَانْصَرَفَ، فَأَرَادَ الْمَهْدِيُّ ضَرْبَ عُنُقِهِ، فَكُلِّمَ
فِيهِ، فَحَبَسَهُ فِي الْمُطْبِقِ. وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ فِي أَوَاخِرِ
ذِي الْقِعْدَةِ أَسَّسَ الْمَهْدِيُّ قَصْرًا مِنْ لَبِنٍ بِعِيسَابَاذْ، ثُمَّ
عَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى الْحَجِّ، فَقَلَّ الْمَاءُ، وَأَصَابَهُ حُمًّى،
فَرَجَعَ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَعَطِشَ النَّاسُ فِي الرَّجْعَةِ حَتَّى كَادَ
بَعْضُهُمْ يَهْلَكُ، فَغَضِبَ الْمَهْدِيُّ عَلَى يَقْطِينَ صَاحِبِ
الْمَصَانِعِ، وَبَعَثَ مِنْ حَيْثُ رَجَعَ صَالِحَ ابْنَ أَبِي جَعْفَرٍ
لِيَحُجَّ بِالنَّاسِ، فَحَجَّ بِهِمْ عَامَئِذٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَمَّادٌ الرَّاوِيَةُ - فِي قَوْلٍ - وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ
النَّاسِ بِأَيَّامِ النَّاسِ وَالشِّعْرِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَدَبِ، وَقَدْ
كَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ تُعَظِّمُهُ وَتُسْنِي جَائِزَتَهُ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَى
الْمَنْصُورِ وَالْمَهْدِيِّ.... وَشَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
النَّحْوِيُّ.
وَعَبْدُ الْعَزِيزِ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، وَمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ صَاحِبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا جَهَّزَ الْمَهْدِيُّ وَلَدَهُ هَارُونَ الرَّشِيدَ لِغَزْوِ الصَّائِفَةِ،
وَأَنْفَذَ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ خَمْسَةً وَتِسْعِينَ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةٍ
وَثَلَاثَةً وَتِسْعِينَ رَجُلًا، وَكَانَ مَعَهُ مِنَ النَّفَقَةِ مِائَةُ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَأَرْبَعَةٌ وَتِسْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَرْبَعُمِائَةٍ
وَخَمْسُونَ دِينَارًا، وَمِنَ الْفِضَّةِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفٍ
وَأَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَثَمَانِمِائَةِ
دِرْهَمٍ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. فَبَلَغَ بِجُنُودِهِ خَلِيجَ الْبَحْرِ الَّذِي
عَلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَصَاحِبُ الرُّومِ يَوْمَئِذٍ أُغَسْطَةُ امْرَأَةُ
أَلْيُونَ، وَمَعَهَا ابْنُهَا فِي حِجْرِهَا مِنَ الْمَلِكِ الَّذِي تُوُفِّيَ
عَنْهَا، فَطَلَبَتِ الصُّلْحَ مِنَ الرَّشِيدِ عَلَى أَنْ تَدْفَعَ لَهُ
سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهَا، وَذَلِكَ
بَعْدَ مَا قَتَلَ مِنَ الرُّومِ فِي الْوَقَائِعِ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ
أَلْفًا، وَأَسَرَ مِنَ الذَّرَارِيِّ خَمْسَةَ آلَافِ رَأْسٍ وَسِتَّمِائَةٍ
وَثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ رَأْسًا، وَقَتَلَ مِنَ الْأَسْرَى أَلْفَيْ أَسِيرٍ
صَبْرًا، وَغَنِمَ مِنَ الدَّوَابِّ بِأَدَوَاتِهَا عِشْرِينَ أَلْفَ فَرَسٍ،
وَذَبَحَ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مِائَةَ أَلْفِ رَأْسٍ، وَبِيعَ
الْبِرْذَوْنُ بِدِرْهَمٍ، وَالْبَغْلُ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ،
وَالدِّرْعُ بِأَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ، وَعِشْرُونَ سَيْفًا بِدِرْهَمٍ،
فَقَالَ
فِي ذَلِكَ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ
أَطُفْتَ بِقُسْطَنْطِينَةِ الرُّومِ مُسْنِدًا إِلَيْهَا الْقَنَا حَتَّى
اكْتَسَى الذُّلَّ سُورُهَا وَمَا رُمْتَهَا حَتَّى أَتَتْكَ مُلُوكُهَا
بِجِزْيَتِهَا وَالْحَرْبُ تَغْلِي قُدُورُهَا
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَالِحُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ،
وَوُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا قَدِمَ الرَّشِيدُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، فَدَخَلَ
بَغْدَادَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَمَعَهُ الرُّومُ يَحْمِلُونَ الْجِزْيَةَ
مِنَ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ.
وَفِيهَا أَخَذَ الْمَهْدِيُّ الْبَيْعَةَ لِوَلَدِهِ هَارُونَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى
الْهَادِي، وَلَقَّبَ هَارُونَ بِالرَّشِيدِ.
وَفِيهَا سَخِطَ الْمَهْدِيُّ عَلَى يَعْقُوبَ بْنِ دَاوُدَ، وَكَانَ قَدْ حَظِيَ
عِنْدَهُ حَتَّى اسْتَوْزَرَهُ، وَارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ فِي الْوِزَارَةِ
حَتَّى فُوِّضَ إِلَيْهِ جَمِيعُ أَمْرِ الْخِلَافَةِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ
بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ:
بَنِي أُمَيَّةَ هُبُّوا طَالَ نَوْمُكُمُ إِنَّ الْخَلِيفَةَ يَعْقُوبُ بْنُ
دَاوُدَ ضَاعَتْ خِلَافَتُكُمْ يَا قَوْمُ فَاطَّلِبُوا
خَلِيفَةَ اللَّهِ بَيْنَ الدُّفِّ وَالْعُودِ
فَلَمْ تَزَلِ السُّعَاةُ وَالْوُشَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلِيفَةِ حَتَّى
أَخْرَجُوهُ عَلَيْهِ، وَكُلَّمَا سَعَوْا بِهِ إِلَيْهِ، دَخَلَ إِلَيْهِ
فَأَصْلَحَ أَمْرَهُ عِنْدَهُ، حَتَّى وَقَعَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَأَذْكُرُهُ;
وَهُوَ أَنَّهُ دَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمَهْدِيِّ فِي مَجْلِسٍ عَظِيمٍ قَدْ
فُرِشَ بِأَنْوَاعِ الْفُرُشِ وَأَلْوَانِ الْحَرِيرِ، وَحَوْلَ ذَلِكَ الْمَكَانِ
أَشْجَارٌ مُزْهِرَةٌ بِأَنْوَاعِ الْأَزَاهِيرِ، فَقَالَ: يَا يَعْقُوبُ،
كَيْفَ رَأَيْتَ مَجْلِسَنَا هَذَا؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ. فَقَالَ: هُوَ لَكَ بِمَا فِيهِ، وَهَذِهِ الْجَارِيَةُ لِيَتِمَّ بِهَا سُرُورُكَ، وَلِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ أُحِبُّ أَنْ تَقْضِيَهَا لِي. قَالَ: وَمَا هِيَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: حَتَّى تَقُولَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: يَأْمُرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَيَّ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ. فَقَالَ: آللَّهِ؟ فَقُلْتُ: آللَّهِ. قَالَ: وَحَيَاةُ رَأْسِي. قُلْتُ: وَحَيَاةُ رَأْسِكَ. فَقَالَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِي وَقُلْ ذَلِكَ. فَفَعَلْتُ، فَقَالَ: إِنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ أُحِبُّ أَنْ تَكْفِيَنِيهِ - وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: وَعَجَّلَ عَلَيَّ. ثُمَّ أَمَرَ بِتَحْوِيلِ مَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ إِلَى مَنْزِلِي، وَأَمَرَ لِي بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَتِلْكَ الْجَارِيَةِ، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِهَا، فَلَمَّا صَارَتْ إِلَى مَنْزِلِي حَجَبْتُهَا مِنْ جَانِبِ الدَّارِ فِي الْخِدْرِ، فَأَمَرْتُ بِذَلِكَ الْعَلَوِيِّ فَجِيءَ بِهِ، فَجَلَسَ إِلَيَّ فَتَكَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنْهُ وَلَا أَفْهَمَ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا يَعْقُوبُ، تَلْقَى اللَّهَ بِدَمِي وَأَنَا رَجُلٌ مَنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنِ اذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ. فَقَالَ: إِنِّي أَخْتَارُ بِلَادَ كَذَا وَكَذَا. فَقُلْتُ: اذْهَبْ كَيْفَ شِئْتَ، وَلَا يَظْهَرَنَّ عَلَيْكَ الْمَهْدِيُّ فَتَهْلِكُ وَأَهْلِكُ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِي وَجَهَّزْتُ مَعَهُ رَجُلَيْنِ يُسَفِّرَانِهِ وَيُوَصِّلَانِهِ بَعْضَ الْبِلَادِ، وَلَمْ أَشْعُرْ بِأَنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ أَحَاطَتْ عِلْمًا بِمَا جَرَى، وَبَعَثَتْ بِخَادِمِهَا إِلَى الْمَهْدِيِّ فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ، وَقَالَتْ لَهُ: هَذَا الَّذِي آثَرْتَهُ بِي قَدْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. فَغَضِبَ الْمَهْدِيُّ وَبَعَثَ إِلَى تِلْكَ الطَّرِيقِ، فَرَدُّوا الْعَلَوِيَّ، فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي بَيْتٍ مِنْ دَارِ
الْخِلَافَةِ،
وَأَرْسَلَ إِلَيَّ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَذَهَبْتُ وَأَنَا لَا أَسْتَشْعِرُ
أَمْرَ الْعَلَوِيِّ، فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ قَالَ: مَا فَعَلَ الْعَلَوِيُّ؟
قُلْتُ: مَاتَ. قَالَ: آللَّهِ؟ قُلْتُ: آللَّهِ. قَالَ: فَضَعْ يَدَكَ عَلَى
رَأْسِي، وَاحْلِفْ بِحَيَاتِهِ. فَفَعَلْتُ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ أَخْرِجْ مَا
فِي هَذَا الْبَيْتِ. فَخَرَجَ الْعَلَوِيُّ، فَأُسْقِطَ فِي يَدِي، فَقَالَ
الْمَهْدِيُّ: دَمُكَ لِي حَلَالٌ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُلْقِيَ فِي بِئْرٍ فِي
الْمُطْبِقِ. قَالَ يَعْقُوبُ: فَكُنْتُ فِي مَكَانٍ لَا أَسْمَعُ فِيهِ وَلَا
أُبْصِرُ، فَذَهَبَ بَصَرِي، وَطَالَ شَعْرِي حَتَّى صِرْتُ مِثْلَ الْبَهَائِمِ،
ثُمَّ مَضَتْ عَلَيَّ مُدَدٌ مُتَطَاوِلَةٌ، فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ
دُعِيتُ فَخَرَجْتُ مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي فِي ذَلِكَ الْمُطْبِقِ، فَقِيلَ لِي:
سَلِّمْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَسَلَّمْتُ وَأَنَا أَظُنُّهُ
الْمَهْدِيَّ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ الْمَهْدِيَّ فِي كَلَامِي، قَالَ رَحِمَ اللَّهُ
الْمَهْدِيَّ. فَقُلْتُ: الْهَادِي؟ فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْهَادِي. فَقُلْتُ:
الرَّشِيدُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ رَأَيْتَ
مَا حَلَّ بِي مِنَ الضَّعْفِ وَالْعِلَّةِ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُطْلِقَنِي.
فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ تَذْهَبُ؟ قُلْتُ: مَكَّةُ. فَقَالَ: اذْهَبْ رَاشِدًا.
فَسَارَ إِلَى مَكَّةَ، فَمَا لَبِثَ بِهَا إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى مَاتَ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ كَانَ يَعْقُوبُ هَذَا يَعِظُ الْمَهْدِيَّ فِي تَعَاطِيهِ شُرْبَ
النَّبِيذِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَثْرَةِ سَمَاعِ الْغِنَاءِ، وَيَلُومُهُ عَلَى
ذَلِكَ وَيَقُولُ: مَا عَلَى هَذَا اسْتَوْزَرْتَنِي، وَلَا عَلَى هَذَا
صَحِبْتُكَ، أَبَعْدَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يُشْرَبُ
عِنْدَكَ النَّبِيذُ وَيُسْمَعُ السَّمَاعُ بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: فَقَدْ
سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ. فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ
حَسَنَاتِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا قُرْبَةً لَكَانَ كُلَّمَا دَاوَمَ عَلَيْهِ
الْعَبْدُ كَانَ
أَفْضَلَ
لَهُ.
وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
فَدَعْ عَنْكَ يَعْقُوبَ بْنَ دَاوُدَ جَانِبًا وَأَقْبِلْ عَلَى صَهْبَاءَ
طَيِّبَةِ النَّشْرِ
وَفِيهَا ذَهَبَ الْمَهْدِيُّ إِلَى قَصْرِهِ الْمُسَمَّى بِقَصْرِ السَّلَامِ
بِعِيسَابَاذْ - بُنِيَ لَهُ بِالْآجُرِّ بَعْدَ الْقَصْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي
بَنَاهُ بِاللَّبِنِ - فَسَكَنَهُ وَضَرَبَ هُنَاكَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِإِقَامَةِ الْبَرِيدِ بَيْنَ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ، وَلَمْ يُفْعَلْ هَذَا قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ مُوسَى الْهَادِي إِلَى جُرْجَانَ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَى
الْقَضَاءِ أَبَا يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ صَاحِبَ أَبِي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ عَامِلُ
الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَائِفَةٌ; لِلْهُدْنَةِ الَّتِي
كَانَتْ بَيْنَ الرَّشِيدِ وَبَيْنَ الرُّومِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَدَقَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّمِينُ، وَأَبُو الْأَشْهَبِ الْعُطَارِدِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ النَّهْشَلِيُّ، وَعُفَيْرُ بْنُ مَعْدَانَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا وَجَّهَ الْمَهْدِيُّ ابْنَهُ مُوسَى الْهَادِي إِلَى جُرْجَانَ فِي جَيْشٍ
كَثِيفٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، وَجَعَلَ عَلَى رَسَائِلِهِ أَبَانَ بْنَ صَدَقَةَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عِيسَى بْنُ مُوسَى الَّذِي كَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِ الْمَهْدِيِّ فَخُلِعَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْكُوفَةِ، فَأَشْهَدَ
نَائِبُهَا رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ عَلَى وَفَاتِهِ الْقَاضِي وَجَمَاعَةً مِنَ
الْأَعْيَانِ، ثُمَّ دُفِنَ، وَكَانَ قَدِ امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ
فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَهْدِيَّ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يُعَنِّفُهُ أَشَدَّ
التَّعْنِيفِ وَأَمَرَ بِمُحَاسَبَتِهِ عَلَى عَمَلِهِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَهْدِيُّ أَبَا عُبَيْدِ اللَّهِ مُعَاوِيَةَ بْنَ عُبَيْدِ
اللَّهِ عَنْ دِيوَانِ الرَّسَائِلِ، وَوَلَّاهُ الرَّبِيعَ بْنَ يُونُسَ
الْحَاجِبَ، فَاسْتَخْلَفَ فِيهِ سَعِيدَ بْنَ وَاقِدٍ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدِ
اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَى مَرْتَبَتِهِ.
وَفِيهَا وَقَعَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ وَسُعَالٌ كَثِيرٌ بِبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ
وَأَظْلَمَتِ الدُّنْيَا فَكَانَتْ كَاللَّيْلِ حَتَّى تَعَالَى النَّهَارُ،
وَكَانَ ذَلِكَ لِلَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا تَتَبَّعَ الْمَهْدِيُّ جَمَاعَةً مِنَ الزَّنَادِقَةِ فِي سَائِرِ
الْآفَاقِ، فَاسْتَحْضَرَهُمْ وَقَتَلَهُمْ
صَبْرًا
بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ الْمُتَوَلِّيَ أَمْرَ الزَّنَادِقَةِ عُمَرُ
الْكَلْوَاذِيُّ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِزِيَادَةٍ كَبِيرَةٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،
فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ دُورٌ كَثِيرَةٌ، وَوَلَّى ذَلِكَ يَقْطِينَ بْنَ مُوسَى
الْمُوَكَّلَ بِأَمْرِ الْحَرَمَيْنِ وَمَصَالِحِهِمَا، فَلَمْ يَزَلْ فِي
عِمَارَةِ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ الْمَهْدِيُّ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَمْ يَكُنْ
لِلنَّاسِ صَائِفَةٌ; لِلْهُدْنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
وَتُوُفِّيَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْحَجِّ بِأَيَّامٍ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ
إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ، أَبُو مُعَاذٍ الشَّاعِرُ مَوْلَى عُقَيْلٍ، وُلِدَ
أَعْمًى، وَقَالَ الشِّعْرَ وَهُوَ دُونَ عَشْرِ سِنِينَ، وَلَهُ التَّشْبِيهَاتُ
الَّتِي لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهَا الْبُصَرَاءُ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ
الْأَصْمَعِيُّ وَالْجَاحِظُ وَأَبُو تَمَّامٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَقَالَ: لَهُ
ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ بَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ جَيِّدٍ. فَلَمَّا بَلَغَ
الْمَهْدِيَّ أَنَّهُ هَجَاهُ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ قَوْمٌ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ،
أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ حَتَّى مَاتَ عَنْ بِضْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَقَدْ
ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ "، فَقَالَ: بَشَّارُ
بْنُ بُرْدِ بْنِ يَرْجُوخَ الْعُقَيْلِيُّ
مَوْلَاهُمْ،
وَقَدْ نَسَبَهُ صَاحِبُ الْأَغَانِي فَأَطَالَ نَسَبَهُ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ،
قَدِمَ بَغْدَادَ وَأَصْلُهُ مِنْ طَخَارِسْتَانَ، وَكَانَ ضَخْمًا عَظِيمَ
الْخَلْقِ، وَشِعْرُهُ فِي أَوَّلِ طَبَقَاتِ الْمُوَلَّدِينَ، وَمِنْ شِعْرِهِ
الْبَيْتُ الْمَشْهُورُ:
هَلْ تَعْلَمِينَ وَرَاءَ الْحُبِّ مَنْزِلَةً تُدْنِي إِلَيْكِ فَإِنَّ الْحُبَّ
أَقْصَانِي
وَقَوْلُهُ:
أَنَا وَاللَّهِ أَشْتَهِي سِحْرَ عَيْنَيْ كِ وَأَخْشَى مَصَارِعَ الْعُشَّاقِ
وَلَهُ أَيْضًا:
يَا قَوْمُ أُذْنِي لِبَعْضِ الْحَيِّ عَاشِقَةٌ وَالْأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ
الْعَيْنِ أَحْيَانَا
قَالُوا بِمَنْ لَا تَرَى تَهْذِي فَقُلْتُ لَهُمْ الْأُذُنُ كَالْعَيْنِ تُولِي
الْقَلْبَ مَا كَانَا
وَلَهُ أَيْضًا:
إِذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ بِحَزْمِ نَصِيحٍ أَوْ نَصِيحَةِ
حَازِمِ
وَلَا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضَةً فَرِيشُ الْخَوَافِي تَابِعٌ لِلْقَوَادِمِ
وَمَا
خَيْرُ كَفٍّ أَمْسَكَ الْغُلُّ أُخْتَهَا وَمَا خَيْرُ سَيْفٍ لَمْ يُؤَيَّدْ
بِقَائِمِ
كَانَ بَشَّارٌ يَمْدَحُ الْمَهْدِيَّ حَتَّى وَشَى إِلَيْهِ الْوَزِيرُ أَنَّهُ
هَجَاهُ وَقَذَفَهُ، وَنُسِبَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الزَّنْدَقَةِ، وَأَنَّهُ يَقُولُ
بِتَفْضِيلِ النَّارِ عَلَى التُّرَابِ، وَعُذْرِ إِبْلِيسَ فِي تَرْكِ السُّجُودِ
لِآدَمَ، وَأَنَّهُ أَنْشَدَ:
الْأَرْضُ مُظْلِمَةٌ وَالنَّارُ مُشْرِقَةٌ وَالنَّارُ مَعْبُودَةٌ مُذْ كَانَتِ
النَّارُ
فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِضَرْبِهِ، فَضُرِبَ حَتَّى مَاتَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ
غُرِّقَ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حُيَيٍّ، وَحَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، وَالرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
مُسْلِمٍ، وَعُتْبَةُ
الْغُلَامُ; وَهُوَ عُتْبَةُ بْنُ أَبَانِ بْنِ صَمْعَةَ، أَحَدُ الْعُبَّادِ الْمَشْهُورِينَ، وَالْبَكَّائِينَ الْمَذْكُورِينَ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ فِي الْخُوصِ، وَيَصُومُ الدَّهْرَ وَيُفْطِرُ عَلَى الْخُبْزِ وَالْمِلْحِ. وَالْقَاسِمُ الْحُدَّانِيُّ، وَأَبُو هِلَالٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، وَأَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا، فِي رَمَضَانَ مِنْهَا، نَقَضَتِ الرُّومُ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصُّلْحِ الَّذِي عَقَدَهُ لَهُمْ هَارُونُ الرَّشِيدُ عَنْ
أَمْرِ أَبِيهِ الْمَهْدِيِّ، وَلَمْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى الصُّلْحِ إِلَّا
ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، فَبَعَثَ نَائِبُ الْجَزِيرَةِ خَيْلًا إِلَى
الرُّومِ، فَقَتَلُوا وَأَسَرُوا وَغَنِمُوا وَسَلِمُوا.
وَفِيهَا اتَّخَذَ الْمَهْدِيُّ دَوَاوِينَ الْأَزِمَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَنُو
أُمَيَّةَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمَهْدِيُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ابْنُ رَيْطَةَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَّاهُ
الْمَنْصُورُ الْمَدِينَةَ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ غَضِبَ عَلَيْهِ، فَعَزَلَهُ وَحَبَسَهُ،
وَأَخَذَ جَمِيعَ مَالِهِ. وَحَمَّادُ عَجْرَدٍ، كَانَ ظَرِيفًا مَاجِنًا
شَاعِرًا، وَكَانَ مِمَّنْ يُعَاشِرُ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ، وَيُهَاجِي
بَشَّارَ بْنَ بُرْدٍ، وَقَدِمَ عَلَى الْمَهْدِيِّ، وَنَزَلَ الْكُوفَةَ،
وَاتُّهِمَ بِالزَّنْدَقَةِ.
قَالَ
ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي " طَبَقَاتِ الشُّعَرَاءِ ": ثَلَاثَةٌ
حَمَّادُونَ بِالْكُوفَةِ يُرْمَوْنَ بِالزَّنْدَقَةِ; حَمَّادٌ الرَّاوِيَةُ،
وَحَمَّادُ عَجْرَدٍ، وَحَمَّادُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ النَّحْوِيُّ، وَكَانُوا
يَتَعَاشَرُونَ وَيَتَمَاجَنُونَ.
وَخَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحُصَيْنِ
بْنِ أَبِي الْحُرِّ الْعَنْبَرِيُّ، قَاضِي الْبَصْرَةِ بَعْدَ سَوَّارٍ، سَمِعَ
خَالِدًا الْحَذَّاءَ، وَدَاوُدَ بْنَ أَبِي هِنْدٍ، وَسَعِيدًا الْجُرَيْرِيَّ،
وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ. وَكَانَ ثِقَةً فَقِيهًا، لَهُ اخْتِيَارَاتٌ
تُعْزَى إِلَيْهِ غَرِيبَةٌ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَقَدْ سُئِلَ مَرَّةً
عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَأَخْطَأَ فِي الْجَوَابِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: الْحُكْمُ
فِيهَا كَذَا وَكَذَا. فَأَطْرَقَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: إِذًا أَرْجِعُ، وَأَنَا
صَاغِرٌ، لَأَنْ أَكُونَ ذَنَبًا فِي الْحَقِّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ
رَأْسًا فِي الْبَاطِلِ. تُوُفِّيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقِيلَ: بَعْدَ ذَلِكَ بِعَشْرِ سِنِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
غَوْثُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ زِيَادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نُعَيْمٍ أَبُو يَحْيَى
الْحَضْرَمِيُّ،
قَاضِي
مِصْرَ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْحُكَّامِ، وَلِيَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي أَيَّامِ الْمَنْصُورِ وَالْمَهْدِيِّ. وَفُلَيْحُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، وَقَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، فِي قَوْلٍ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلَاثَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَالِكٍ
أَبُو الْيَسِيرِ الْعُقَيْلِيُّ، قَاضِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ
لِلْمَهْدِيِّ، هُوَ وَعَافِيَةُ بْنُ يَزِيدَ. وَكَانَ يُقَالُ لِابْنِ
عُلَاثَةَ: قَاضِي الْجِنِّ؛ لِأَنَّهُ كَانَتْ بِئْرٌ يُصَابُ مَنْ أَخَذَ
مِنْهَا شَيْئًا فَقَالَ: أَيُّهَا الْجِنُّ إِنَّا حَكَمْنَا أَنَّ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَلَنَا النَّهَارَ. فَكَانَ مَنْ أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا فِي
النَّهَارِ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: كَانَ ثِقَةً. وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ: فِي حِفْظِهِ شَيْءٌ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا تُوَفِّيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيُّ ابْنُ
الْمَنْصُورِ الْعَبَّاسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ:
مَاسَبَذَانُ. بِالْحُمَّى، وَقِيلَ: مَسْمُومًا. وَقِيلَ: بِعَضَّةِ فَرَسٍ،
فَمَاتَ. كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ:
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْمَهْدِيُّ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا لُقِّبَ بِالْمَهْدِيِّ طَمَعًا
أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ، فَلَمْ يَكُنْ بِهِ،
وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الِاسْمِ; لِأَنَّهُ لَمْ يُشْبِهْهُ فِي الْفِعْلِ، ذَاكَ
يَأْتِي آخِرَ الزَّمَانِ وَعِنْدَ فَسَادِهِ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا
مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ فِي أَيَّامِهِ يَنْزِلُ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ بِدِمَشْقَ. كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ
الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ وَذِكْرِ الْمَهْدِيِّ وَنُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ مِنْ طَرِيقِ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَقَدْ جَاءَ
مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَلَا يَصِحُّ
ذَلِكَ،
وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى
التَّعْيِينِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: الْمَهْدِيُّ مِنْ وَلَدِ
فَاطِمَةَ " فَهُوَ يُعَارِضُ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمُّهُ أُمُّ
مُوسَى بِنْتُ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيِّ.
رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَهَرَ بِ
" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". رَوَاهُ عَنْهُ يَحْيَى
بْنُ حَمْزَةَ الْبَتْلَهِيُّ قَاضِي دِمَشْقَ، وَذُكِرَ أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ
الْمَهْدِيِّ حِينَ قَدِمَ دِمَشْقَ فَجَهَرَ فِي السُّورَتَيْنِ بِالْبَسْمَلَةِ،
وَأَسْنَدَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ. وَرَوَى الْمَهْدِيُّ عَنِ
الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ. وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ
الضُّبَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ، وَأَبُو سُفْيَانَ
سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مَهْدِيٍّ.
وَكَانَ مَوْلِدُ الْمَهْدِيِّ فِي سَنَةِ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ - وَقِيلَ: سَنَةَ
إِحْدَى - وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، بِالْحُمَيْمَةِ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ،
وَاسْتُخْلِفَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ
وَمِائَةٍ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ فِي
الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثَلَاثٍ أَوْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ
سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ
سِنِينَ
وَشَهْرًا وَبَعْضَ شَهْرٍ، وَكَانَ أَسْمَرَ طَوِيلًا، جَعْدَ الشَّعْرِ، عَلَى
إِحْدَى عَيْنَيْهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، فَقِيلَ: عَيْنُهُ الْيُمْنَى. وَقِيلَ:
الْيُسْرَى.
قَالَ الرَّبِيعُ الْحَاجِبُ: رَأَيْتُ الْمَهْدِيَّ يُصَلِّي فِي لَيْلَةٍ
مُقْمِرَةٍ فِي بَهْوٍ لَهُ، عَلَيْهِ ثِيَابٌ حِسَانٌ، فَمَا أَدْرِي هُوَ
أَحْسَنُ أَمِ الْقَمَرُ، أَمْ بَهْوُهُ، أَمْ ثِيَابُهُ. فَقَرَأَ: فَهَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا
أَرْحَامَكُمْ [ مُحَمَّدٍ: 22 ]. ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْضَرْتُ رَجُلًا مِنْ
قَرَابَتِهِ كَانَ مَسْجُونًا، فَأَطْلَقَهُ.
وَلَمَّا جَاءَهُ خَبَرُ مَوْتِ أَبِيهِ بِمَكَّةَ، وَهُوَ بِبَغْدَادَ مَعَ
مَنَارَةَ الْبَرْبَرِيِّ مَوْلَاهُ، فِي السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِ أَبِيهِ، كَتَمَ الْأَمْرَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ نُودِيَ فِي النَّاسِ يَوْمَ
الْخَمِيسِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، فَأَعْلَمَهُمْ
بِمَوْتِ أَبِيهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ دُعِيَ فَأَجَابَ،
وَقَدْ قُلِّدْتُ بَعْدَهُ جَسِيمًا، فَعِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى خِلَافَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَبَايَعَهُ
النَّاسُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمئِذٍ، وَقَدْ عَزَّاهُ أَبُو دُلَامَةَ وَهَنَّأَهُ
فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
عَيْنَايَ وَاحِدَةٌ تُرَى مَسْرُورَةً بِأَمِيرِهَا جَذْلَى وَأُخْرَى تَذْرِفُ
تَبْكِي وَتَضْحَكُ تَارَةً وَيَسُوءُهَا
مَا أَنْكَرَتْ وَيَسُرُّهَا مَا تَعْرِفُ فَيَسُوءُهَا مَوْتُ الْخَلِيفَةِ
مُحْرِمًا
وَيَسُرُّهَا أَنْ قَامَ هَذَا الْأَرْأَفُ
مَا
إِنْ رَأَيْتُ كَمَا رَأَيْتُ وَلَا أَرَى
شَعْرًا أُرَجِّلُهُ وَآخَرُ يُنْتَفُ هَلَكَ الْخَلِيفَةُ يَالَأُمَّةِ أَحْمَدَ
وَأَتَاكُمْ مِنْ بَعْدِهِ مَنْ يَخْلُفُ أَهْدَى لِهَذَا اللَّهُ فَضْلَ
خِلَافَةٍ
وَلِذَاكَ جنَاتِ النَّعِيمِ تُزَخْرَفُ
وَقَدْ قَالَ الْمَهْدِيُّ يَوْمًا فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَسِرُّوا
مِثْلَمَا تُعْلِنُونَ مِنْ طَاعَتِنَا تَهْنِكُمُ الْعَافِيَةُ، وَتَحْمَدُوا
الْعَاقِبَةَ، وَاخْفِضُوا جَنَاحَ الطَّاعَةِ لِمَنْ نَشَرَ مِعْدِلَتَهُ
فِيكُمْ، وَطَوَى ثَوْبَ الْإِصْرِ عَنْكُمْ، وَأَهَالَ عَلَيْكُمُ السَّلَامَةَ
وَلِينَ الْمَعِيشَةِ مِنْ حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ، مُقَدِّمًا ذَلِكَ فِعْلَ مَنْ
تَقَدَّمَهُ، وَاللَّهِ لَأُفْنِيَنَّ عُمْرِي بَيْنَ عُقُوبَتِكُمْ
وَالْإِحْسَانِ إِلَيْكُمْ. قَالَ: فَأَشْرَقَتْ وُجُوهُ النَّاسِ مِنْ حُسْنِ
كَلَامِهِ.
ثُمَّ اسْتَخْرَجَ الْمَهْدِيُّ حَوَاصِلَ أَبِيهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
الَّتِي كَانَتْ لَا تُحَدُّ وَلَا تُوصَفُ كَثْرَةً، فَفَرَّقَهَا فِي النَّاسِ،
وَلَمْ يُعْطِ أَهْلَهُ وَمَوَالِيَهُ مِنْهَا، بَلْ أَجْرَى لَهُمْ أَرْزَاقًا
بِحَسَبِ كِفَايَتِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ خَمْسُمِائَةٍ فِي
الشَّهْرِ غَيْرَ الْأُعْطِيَّاتِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ الْمَنْصُورُ حَرِيصًا
عَلَى تَوْفِيرِ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُنْفِقُ فِي السَّنَةِ
أَلْفَيْ دِرْهَمٍ مَنْ مَالِ الشَّرَاةِ، وَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِبِنَاءِ مَسْجِدِ
الرُّصَافَةِ وَعَمَلِ خَنْدَقٍ وَسُورٍ حَوْلَهَا، وَبَنَى مُدُنًا قَدْ
ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَرَى
الصَّلَاةَ خَلْفَهُ، فَأَحْضَرَهُ إِلَيْهِ فَتَكَلَّمَ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ
الْمَهْدِيُّ فِي كَلَامٍ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ. فَقَالَ: مَهْ مَهْ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَقَدْ كَانَتْ صَوَّامَةً قَوَّامَةً. فَقَالَ لَهُ:
يَا زِنْدِيقُ لَأَقْتُلَنَّكَ. فَضَحِكَ
شَرِيكٌ،
وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ لِلزَّنَادِقَةِ عَلَامَاتٍ
يُعْرَفُونَ بِهَا; شُرْبُهُمُ الْقَهَوَاتِ، وَاتِّخَاذُهُمُ الْقَيْنَاتِ.
فَأَطْرَقَ الْمَهْدِيُّ، وَخَرَجَ شَرِيكٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فِي زَمَنِ الْمَهْدِيِّ فَدَخَلَ
الْمَهْدِيُّ بَيْتًا فِي دَارِهِ، فَأَلْزَقَ خَدَّهُ بِالتُّرَابِ، وَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ أَنَا الْمَطْلُوبَ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ دُونَ النَّاسِ
فَهَا أَنَا ذَا بَيْنِ يَدَيْكَ، اللَّهُمَّ لَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ مِنْ
أَهْلِ الْأَدْيَانِ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى انْجَلَتْ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يَوْمًا وَمَعَهُ نَعْلٌ، فَقَالَ: هَذِهِ نَعْلُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَهْدَيْتُهَا لَكَ.
فَقَالَ: هَاتِهَا. فَنَاوَلَهُ إِيَّاهَا، فَقَبَّلَهَا وَوَضَعَهَا عَلَى
عَيْنَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ الْآفِ دِرْهَمٍ. فَلَمَّا انْصَرَفَ
الرَّجُلُ قَالَ الْمَهْدِيُّ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَ هَذِهِ النَّعْلَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ
يَلْبَسَهَا، وَلَكِنْ لَوْ رَدَدْتُهُ لَذَهَبَ يَقُولُ لِلنَّاسِ: أَعْطَيْتُهُ
نَعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّهَا عَلَيَّ.
فَيُصَدِّقُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ; لِأَنَّ الْعَامَّةَ تَمِيلُ إِلَى
أَمْثَالِهَا، وَمِنْ شَأْنِهِمْ نَصْرُ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ وَإِنْ كَانَ
ظَالِمًا، فَاشْتَرَيْنَا لِسَانَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَرَأَيْنَا
هَذَا أَرْجَحَ وَأَنْجَحَ.
وَاشْتُهِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْحَمَامَ وَالسِّبَاقَ بَيْنَهَا،
فَدَخَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، فِيهِمْ غِيَاثُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، فَحَدَّثَهُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا سَبْقَ إِلَّا فِي
خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ ". وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: " أَوْ
جَنَاحٍ ". فَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ
آلَافٍ.
وَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى قَفَاكَ قَفَا كَذَّابٍ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَمَرَ بِالْحَمَامِ
فَذُبِحَ، وَلَمْ يَذْكُرْ غِيَاثًا بَعْدَهَا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَحَدَّثْتُهُ
بِأَحَادِيثَ، فَكَتَبَهَا عَنِّي ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ بُيُوتَ نِسَائِهِ، ثُمَّ
خَرَجَ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ غَيْظًا، فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْخَيْزُرَانِ، فَقَامَتْ إِلَيَّ،
وَمَزَّقَتْ ثَوْبِي، وَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا. وَإِنِّي وَاللَّهِ
يَا وَاقَدِيُّ إِنَّمَا اشْتَرَيْتُهَا مِنْ نَخَّاسٍ، وَقَدْ نَالَتْ عِنْدِي
مَا نَالَتْ، وَقَدْ بَايَعْتُ لِوَلَدَيْهَا بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ
بَعْدِي. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّهُنَّ يَغْلِبْنَ الْكِرَامَ
وَيَغْلِبُهُنَّ اللِّئَامُ. وَقَالَ خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا
خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي. وَقَالَ خُلِقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ إِنْ
قَوَّمْتَهُ كَسَرْتَهُ. وَحَدَّثْتُهُ فِي هَذَا الْبَابِ بِكُلِّ مَا حَضَرَنِي،
فَأَمَرَ لِي بِأَلْفَيْ دِينَارٍ، فَلَمَّا وَافَيْتُ الْمَنْزِلَ إِذَا رَسُولُ
الْخَيْزُرَانِ قَدْ لَحِقَنِي بِأَلْفَيْ دِينَارٍ إِلَّا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ،
وَإِذَا مَعَهُ أَثْوَابٌ أُخَرُ، وَبَعَثَتْ تَتَشَكَّرُ لِي وَتُثْنِي عَلَيَّ
مَعْرُوفًا.
وَذَكَرُوا أَنَّ الْمَهْدِيَّ كَانَ قَدْ أَهْدَرَ دَمَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ وَجَعَلَ لِمَنْ جَاءَ
بِهِ
مِائَةَ أَلْفٍ، فَدَخَلَ الرَّجُلُ بَغْدَادَ مُتَنَكِّرًا، فَبَيْنَمَا هُوَ
يَوْمًا فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ بَغْدَادَ إِذْ لَقِيَهُ رَجُلٌ، فَأَخَذَ
بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ وَنَادَى: هَذَا طِلْبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَجَعَلَ
الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَلِتَ مِنْهُ فَلَا يَقْدِرُ، فَبَيْنَا هُمَا
كَذَلِكَ إِذَا أَمِيرٌ فِي مَوْكِبِهِ قَدْ أَقْبَلَ وَإِذَا هُوَ مَعْنُ بْنُ
زَائِدَةَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ، خَائِفٌ مُسْتَجِيرٌ.
فَقَالَ: وَيْحَكَ! مَا لَكَ وَلَهُ؟ فَقَالَ هَذَا طِلَبَةُ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، جَعَلَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ مِائَةَ أَلْفٍ. قَالَ مَعْنٌ:
وَيْحَكَ! أَوَمَا عَلِمْتَ أَنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ؟ أَرْسِلْهُ مِنْ يَدِكَ.
ثُمَّ أَمَرَ بَعْضَ غِلْمَانِهِ فَتَرَجَّلَ وَأَرْكَبَهُ، وَذَهَبَ بِهِ إِلَى
مَنْزِلِهِ، وَانْطَلَقَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى بَابِ الْخَلِيفَةِ فَأَنْهَى
إِلَيْهِ الْخَبَرَ، فَبَلَغَ الْمَهْدِيَّ. فَأَرْسَلَ إِلَى مَعْنِ بْنِ
زَائِدَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ الْمَهْدِيُّ. وَقَالَ:
يَا مَعْنُ، أَبَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ أَنْ تُجِيرَ عَلَيَّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
وَنَعَمْ أَيْضًا. قَالَ: نَعْمَ، قَدْ قَتَلْتُ فِي دَوْلَتِكُمْ أَرْبَعَةَ
آلَافِ مُصَلٍّ، أَفَلَا يُجَارُ لِي رَجُلٌ وَاحِدٌ؟! فَأَطْرَقَ الْمَهْدِيُّ،
ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجْرْتَ يَا
مَعْنُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الرَّجُلَ ضَعِيفٌ. فَأَمَرَ
لَهُ الْمَهْدِيُّ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا. فَقَالَ: إِنَّ جَرِيمَتَهُ عَظِيمَةٌ،
وَإِنَّ جَوَائِزَ الْخُلَفَاءِ عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِ الرَّعِيَّةِ. فَأَمَرَ لَهُ
بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَحُمِلَتْ بَيْنَ يَدَيْ مَعْنٍ إِلَى الرَّجُلِ، فَقَالَ لَهُ
مَعْنٌ: ادْعُ لِلْخَلِيفَةِ وَأَصْلِحْ نِيَّتَكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَقَدِمَ الْمَهْدِيُّ مَرَّةً الْبَصْرَةَ، فَخَرَجَ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ،
فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مُرْ هَؤُلَاءِ
فَلْيَنْتَظِرُونِي حَتَّى أَتَوَضَّأَ. فَأَمَرَهُمُ الْمَهْدِيُّ
بِانْتِظَارِهِ، وَوَقَفَ الْمَهْدِيُّ فِي الْمِحْرَابِ حَتَّى قِيلَ لَهُ: هَذَا
الْأَعْرَابِيُّ قَدْ جَاءَ، فَكَبَّرَ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ سَمَاحَةِ
أَخْلَاقِهِ.
وَقَدِمَ
أَعْرَابِيٌّ وَمَعَهُ كِتَابٌ مَخْتُومٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ: هَذَا كِتَابُ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْنَ الرَّجُلُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الرَّبِيعُ؟
فَدَلُّوهُ عَلَى الرَّبِيعِ الْحَاجِبِ، فَأَخَذَ الْكِتَابَ وَجَاءَ بِهِ إِلَى
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَوْقَفَ الْأَعْرَابِيَّ، وَفَتَحَ الْكِتَابَ،
فَإِذَا هُوَ قِطْعَةُ أَدِيمٍ، فِيهَا كِتَابَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَالْأَعْرَابِيُّ
يَزْعُمُ أَنَّ هَذَا خَطُّ الْخَلِيفَةِ، فَتَبَسَّمَ الْمَهْدِيُّ وَقَالَ:
صَدَقَ الْأَعْرَابِيُّ هَذَا خَطِّي، إِنِّي خَرَجْتُ يَوْمًا إِلَى الصَّيْدِ،
فَضِعْتُ مِنَ الْجَيْشِ، وَأَقْبَلَ اللَّيْلُ، فَتَعَوَّذْتُ بِتَعَوُّذِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُفِعُ لِي نَارٌ مِنْ
بُعْدٍ، فَقَصَدْتُهَا فَإِذَا هُوَ الشَّيْخُ وَامْرَأَتُهُ فِي خِبَاءٍ
يُوقِدَانِ نَارًا، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّ السَّلَامَ، وَفَرَشَ لِي كِسَاءً،
وَسَقَانِي مِنْ مَذْقَةٍ مِنْ لَبَنٍ مَشُوبٍ بِمَاءٍ، فَمَا شَرِبْتُ شَيْئًا
إِلَّا وَهِيَ أَطْيَبُ مِنْهُ، وَنِمْتُ نَوْمَةً عَلَى تِلْكَ الْعَبَاءَةِ مَا
أَذْكُرُ أَنِّي نِمْتُ نَوْمَةً أَحْلَى مِنْهَا. فَقَامَ إِلَى شُوَيْهَةٍ لَهُ
فَذَبَحَهَا، فَسَمِعْتُ امْرَأَتَهُ تَقُولُ لَهُ: عَمَدْتَ إِلَى مَعِيشَتِكَ
وَمَعِيشَةِ أَوْلَادِكَ فَذَبَحْتَهَا؟! أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ وَعِيَالِكَ. فَمَا
الْتَفَتَ إِلَيْهَا، وَاسْتَيْقَظْتُ مِنَ النَّوْمِ فَاشْتَوَيْتُ مِنْ تِلْكَ
الشُّوَيْهَةِ، وَقُلْتُ لَهُ: أَعْنَدَكَ شَيْءٌ أَكْتُبُ لَكَ فِيهِ كِتَابًا؟
فَأَتَانِي بِهَذِهِ الرُّقْعَةِ مِنَ الْأَدِيمِ فَكَتَبْتُ لَهُ بِعُودٍ مِنْ
ذَلِكَ الرَّمَادِ خَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ خَمْسِينَ أَلْفًا،
وَاللَّهِ لَأُنْفِذَنَّهَا لَهُ كُلَّهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ
سِوَاهَا. فَقَبَضَهَا الْأَعْرَابِيُّ، وَاسْتَمَرَّ مُقِيمًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ
وَهُوَ فِي طَرِيقِ الْحَاجِّ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَنْبَارِ فَجَعَلَ يُقْرِي
النَّاسَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَعُرِفَ بِمَنْزِلِ مُضِيفِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيِّ.
وَعَنْ سَوَّارٍ - صَاحِبِ رَحْبَةِ سَوَّارٍ - قَالَ: انْصَرَفْتُ يَوْمًا مِنْ
عِنْدِ الْمَهْدِيِّ، فَجِئْتُ مَنْزِلِي فَوُضِعَ لِيَ الْغَدَاءُ، فَلَمْ
تُقْبِلْ نَفْسِي عَلَيْهِ، فَدَخَلْتُ خَلْوَتِي لِأَنَامَ
فِي الْقَائِلَةِ، فَلَمْ يَأْخُذْنِي نَوْمٌ، فَاسْتَدْعَيْتُ بِبَعْضَ حَظَايَايَ لِأَتَلَهَّى بِهَا، فَلَمْ يَقِرَّ لِي قَرَارٌ، فَنَهَضْتُ فَخَرَجْتُ مِنَ الْمَنْزِلِ، وَرَكِبْتُ بَغْلَتِي، فَمَا جَاوَزْتُ الدَّارَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى لَقِيَنِي رَجُلٌ وَمَعَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ، فَقُلْتُ: مَنْ أَيْنَ هَذِهِ؟ فَقَالَ: مِنْ مُلْكِكَ الْجَدِيدِ. فَاسْتَصْحَبْتُهُ مَعِي، وَسِرْتُ فِي أَزِقَّةِ بَغْدَادَ أَتَشَاغَلُ مِمَّا أَنَا فِيهِ مِنَ الضَّجَرِ، فَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ عِنْدَ مَسْجِدٍ فِي بَعْضِ الْحَارَاتِ، فَنَزَلْتُ لِأُصَلِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا قَضَيْتُ الصَّلَاةَ إِذَا بِرَجُلٍ أَعْمَى قَدْ أَخَذَ بِثِيَابِي فَقَالَ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. فَقُلْتُ: مَا حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرٌ، وَلَكِنَّنِي لَمَّا شَمَمْتُ رَائِحَةَ طِيبِكَ ظَنَنْتُ أَنَّكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النِّعْمَةِ وَالثَّرْوَةِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُفْضِيَ بِحَاجَتِي إِلَيْكَ. فَقُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقَصْرَ الَّذِي تُجَاهَ الْمَسْجِدِ كَانَ لِأَبِي، فَسَافَرَ مِنْهُ إِلَى خُرَاسَانَ، وَبَاعَهَ وَأَخَذَنِي مَعَهُ وَأَنَا صَغِيرٌ، فَافْتَرَقْنَا هُنَاكَ، وَأَصَابَنِي الضَّرَرُ، فَرَجَعْنَا إِلَى بَغْدَادَ، فَجِئْتُ إِلَى صَاحِبِ هَذَا الْقَصْرِ أَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا أَتَبَلَّغُ بِهِ لَعَلِّي أَجْتَمِعُ بِسَوَّارٍ، فَإِنَّهُ كَانَ صَاحِبًا لِأَبِي، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ سِعَةٌ يَجُودُ مِنْهَا عَلَيَّ. فَقُلْتُ: وَمَنْ أَبُوكَ؟ فَذَكَرَ رَجُلًا كَانَ أَصْحَبَ النَّاسَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَنَا سَوَّارٌ صَاحِبُ أَبِيكَ، وَقَدْ مَنَعَنِي اللَّهُ فِي يَوْمِكَ هَذَا النَّوْمَ وَالْقَرَارَ وَالْأَكْلَ وَالرَّاحَةَ، حَتَّى أَخْرَجَنِي مِنْ مَنْزِلِي لِأَجْتَمِعَ بِكَ، وَأَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَأَمَرْتُ وَكِيلِي، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْأَلْفَيْنِ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ، وَقُلْتُ: إِذَا كَانَ الْغَدُ فَأْتِ مَنْزِلِي فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا. وَرَكِبْتُ فَجِئْتُ دَارَ الْخِلَافَةِ وَقُلْتُ: مَا أُتْحِفَ الْمَهْدِيَّ اللَّيْلَةَ فِي السَّمَرِ بِأَغْرَبَ مِنْ هَذَا. فَلَمَّا قَصَصْتُ عَلَيْهِ
الْقِصَّةَ
تَعَجَّبَ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا، وَأَمَرَ لِلْأَعْمَى بِأَلْفَيْ دِينَارٍ، وَقَالَ
لِي: عَلَيْكَ دَيْنٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: كَمْ؟ قُلْتُ: خَمْسُونَ أَلْفَ
دِينَارٍ. فَسَكَتَ وَحَادَثَنِي سَاعَةً، فَلَمَّا قُمْتُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ،
فَوَصَلْتُ الْمَنْزِلَ إِذَا الْحَمَّالُونَ قَدْ سَبَقُونِي إِلَى الْمَنْزِلِ
بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَأَلْفَيْ دِينَارٍ لِلْأَعْمَى، فَانْتَظَرْتُ
الْأَعْمَى أَنْ يَجِيءَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَتَأَخَّرَ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ جَلَسْتُ
إِلَى الْمَهْدِيُّ فَقَالَ: قَدْ فَكَّرْتُ فِي أَمْرِكَ، فَوَجَدْتُكَ إِذَا
قَضَيْتَ دَيْنَكَ لَمْ يَبْقَ مَعَكَ شَيْءٌ، وَقَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِخَمْسِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ أُخْرَى. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ جَاءَنِي
الْمَكْفُوفُ فَقُلْتُ: قَدْ رَزَقَ اللَّهُ بِسَبَبِكَ خَيْرًا كَثِيرًا،
وَدَفَعْتُ إِلَيْهِ الْأَلْفَيْ دِينَارٍ الَّتِي مِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ،
وَزِدْتُهُ أَلْفَيْ دِينَارٍ مِنْ مَالِي أَيْضًا.
وَوَقَفَتِ امْرَأَةٌ لِلْمَهْدِيُّ فَقَالَتْ: يَا عَصَبَةَ رَسُولِ اللَّهِ،
اقْضِ حَاجَتِي. فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: مَا سَمِعْتُهَا مِنْ غَيْرِهَا، اقْضُوا
حَاجَتَهَا وَأَعْطُوهَا عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَدَخَلَ ابْنُ الْخَيَّاطِ عَلَى الْمَهْدِيِّ، وَامْتَدَحَهُ فَأَمَرَ لَهُ
بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَفَرَّقَهَا ابْنُ الْخَيَّاطِ، وَأَنْشَأَ
يَقُولُ:
أَخَذْتُ بِكَفِّي كَفَّهُ أَبْتَغِي الْغِنَى وَلَمْ أَدْرِ أَنَّ الْجُودَ مِنْ
كَفِّهِ يُعْدِي
فَلَا أَنَا مِنْهُ مَا أَفَادَ ذَوُو الْغِنَى أَفَدْتُ وَأَعْدَانِي فَبَدَّدْتُ
مَا عِنْدِي
قَالَ: فَنَمَّى ذَلِكَ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَأَعْطَاهُ بَدَلَ كُلِّ دِرْهَمٍ
دِينَارًا.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَهُ مَآثِرُ وَمَحَاسِنُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ
بِمَاسَبَذَانَ،
كَانَ
قَدْ خَرَجَ إِلَيْهَا لِيَبْعَثَ إِلَى ابْنِهِ الْهَادِي لِيَحْضُرَ إِلَيْهِ
مِنْ جُرْجَانَ حَتَّى يَخْلَعَهُ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَيَجْعَلَهُ بَعْدَ
هَارُونَ الرَّشِيدِ، فَامْتَنَعَ الْهَادِي مِنْ ذَلِكَ، فَرَكِبَ الْمَهْدِيُّ
مِنْ بَغْدَادَ قَاصِدًا إِحْضَارَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِمَاسَبَذَانَ مَاتَ بِهَا
عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَكَانَ قَدْ رَأَى فِي النَّوْمِ وَهُوَ بِقَصْرِهِ بِبَغْدَادَ - وَأَظُنُّهُ
الْمُسَمَّى بِقَصْرِ السَّلَامَةِ - كَأَنَّ شَيْخًا وَقَفَ بِبَابِ الْقَصْرِ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَمِعَ هَاتِفًا يَقُولُ:
كَأَنِي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ آهِلُهُ وَأَوْحَشَ مِنْهُ أَهْلُهُ
وَمَنَازِلُهُ
وَصَارَ عَمِيدُ الْقَوْمِ مِنْ بَعْدِ بَهْجَةٍ وَمُلْكٍ إِلَى قَبْرٍ عَلَيْهِ
جَنَادِلُهُ
وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا ذِكْرُهُ وَحَدِيثُهُ يُنَادِي بِلَيْلٍ مُعْوِلَاتٍ
حَلَائِلُهُ
فَمَا عَاشَ بَعْدَهَا إِلَّا عَشْرًا حَتَّى تُوُفِّيَ، رَحِمَهُ اللَّهُ
وَسَامَحَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ الْهَاتِفَ:
كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ آهِلُهُ وَقَدْ دَرَسَتْ أَعْلَامُهُ
وَمَنَازِلُهُ
فَأَجَابَهُ الْمَهْدِيُّ:
كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ يَبْلَى جَدِيدُهَا وُكُلُّ فَتًى يَوْمًا سَتَبْلَى
فَعَائِلُهُ
فَقَالَ
الْهَاتِفُ:
تَزَوَّدْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّكَ مَسْئُولٌ فَمَا أَنْتَ
قَائِلُهُ
فَأَجَابَهُ الْمَهْدِيُّ:
أَقُولُ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ شَهِدْتُهُ فَذَلِكَ قَوْلٌ لَيْسَ تُحْصَى
فَضَائِلُهُ
فَقَالَ الْهَاتِفُ
تَزَوَّدْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ رَاحِلٌ وَقَدْ أَزَفَ الْأَمْرُ الَّذِي
بِكَ نِازِلُهُ
فَأَجَابَهُ الْمَهْدِيُّ:
مَتَى ذَاكَ خَبِّرْنِي هُدِيتَ فَإِنَّنِي سَأَفْعَلُ مَا قَدْ قُلْتَ لِي
وَأُعَاجِلُهُ
فَقَالَ الْهَاتِفُ:
تَلَبَّثْ ثَلَاثًا بَعْدَ عِشْرِينَ لَيْلَةً إِلَى مُنْتَهَى شَهْرٍ وَمَا
أَنْتَ كَامِلُهُ
قَالُوا: فَلَمْ يَعِشْ بَعْدَهَا إِلَّا تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا حَتَّى
مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ اخْتِلَافًا فِي سَبَبِ مَوْتِهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ سَاقَ
خَلْفَ ظَبْيٍ وَالْكِلَابُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَخَلَ الظَّبْيُ إِلَى خَرِبَةٍ،
فَدَخَلَتِ الْكِلَابُ وَرَاءَهُ، وَجَاءَ الْفَرَسُ، فَحَمَلَ بِهِ فِي
مِشْوَارِهِ، فَدَخَلَ الْخَرِبَةَ، فَكُسِرَ ظَهْرُ الْخَلِيفَةِ فَكَانَ ذَلِكَ
سَبَبَ وَفَاتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ حَظَايَاهُ بَعَثَتْ إِلَى أُخْرَى
لَبَنًا مَسْمُومًا، فَمَرَّ الرَّسُولُ بِالْمَهْدِيِّ، فَأَكَلَ مِنْهُ فَمَاتَ.
وَقِيلَ: بَلْ بَعَثَتْ إِلَيْهَا بِصِينِيَّةٍ فِيهَا كُمِّثْرَى، وَفِي
أَعْلَاهَا
وَاحِدَةٌ كَبِيرَةٌ فِيهَا سُمٌّ، وَكَانَ الْمَهْدِيُّ يُعْجِبُهُ
الْكُمِّثْرَى، فَمَرَّتِ الْجَارِيَةُ تَحْمِلُ تِلْكَ الصِّينِيَّةَ فَرَآهَا
فَاسْتَدْعَاهَا، فَأَخَذَ الَّتِي فِي أَعْلَاهَا، فَأَكَلَهَا فَمَاتَ مِنْ
سَاعَتِهِ، فَجَعَلَتِ الْحَظِيَّةُ تَنْدُبُهُ، وَتَقُولُ: وَاأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَاهُ،
أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي وَحْدِي، فَقَتَلْتُكَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ
تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ - وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ
سَنَةً عَلَى الْمَشْهُورِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَشَهْرًا
وَكُسُورًا، وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ قَدْ أَوْرَدَ
مِنْهَا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ طَرَفًا وَكَذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ ابْنُ
جَرِيرٍ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادٍ، وَنَافِعُ بْنُ عُمَرَ
الْجُمَحِيُّ، وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ الْقَارِئُ.
خِلَافَةُ
مُوسَى الْهَادِي ابْنِ الْمَهْدِيِّ
تُوُفِّيَ أَبُوهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ أَوَّلِ سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ
وَمِائَةٍ، وَكَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ، لَكِنْ كَانَ أَبُوهُ
قَدْ عَزَمَ عَلَى تَقْدِيمِ أَخِيهِ هَارُونَ الرَّشِيدِ عَلَيْهِ فِي وِلَايَةِ
الْعَهْدِ، فَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ أَبُوهُ بِمَاسَبَذَانَ فِي
شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ، وَكَانَ الْهَادِي إِذْ ذَاكَ بِجُرْجَانَ، فَهَمَّ
بَعْضُ الدَّوْلَةِ مِنْهُمُ; الرَّبِيعُ الْحَاجِبُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ
عَلَى تَقْدِيمِ الرَّشِيدِ عَلَيْهِ وَالْمُبَايَعَةِ لَهُ، وَكَانَ حَاضِرًا
بِبَغْدَادَ، وَعَزَمُوا عَلَى النَّفَقَةِ فِي الْجُنْدِ لِذَلِكَ تَنْفِيذًا
لِمَا رَامَهُ الْمَهْدِيُّ مِنْ ذَلِكَ. فَأَسْرَعَ الْهَادِي السَّيْرَ مِنْ
جُرْجَانَ إِلَى بَغْدَادَ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَسَاقَ مِنْهَا إِلَيْهَا
فِي عِشْرِينَ يَوْمًا فَدَخَلَ بَغْدَادَ وَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا،
وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ مِنْهُمْ فَبَايَعُوهُ، وَتَغَيَّبَ الرَّبِيعُ الْحَاجِبُ،
فَتَطَلَّبَهُ الْهَادِي حَتَّى حَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَفَا عَنْهُ
وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَقَرَّهُ عَلَى وَظِيفَةِ الْحُجُوبِيَّةِ، وَزَادَهُ
الْوِزَارَةَ وَوِلَايَاتٍ أُخَرَ، وَشَرَعَ الْهَادِي فِي تَطَلُّبِ
الزَّنَادِقَةِ مِنَ الْآفَاقِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ طَائِفَةً كَثِيرَةً،
وَاقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِأَبِيهِ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى الْهَادِي مِنْ أَفْكَهِ
النَّاسِ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي الْخَلْوَةِ، فَإِذَا جَلَسَ فِي مَقَامِ
الْخِلَافَةِ لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ; لِمَا يَعْلُوهُ مِنَ
الْمَهَابَةِ وَالرِّيَاسَةِ، وَكَانَ شَابًّا حَسَنًا وَقُورًا مَهِيبًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ - خَرَجَ
بِالْمَدِينَةِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَصْبَحَ
يَوْمًا
وَقَدْ لَبِسَ الْبَيَاضَ، وَجَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَجَاءَ
النَّاسُ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَمَّا رَأَوْهُ وَلَّوْا رَاجِعِينَ، وَالْتَفَّ
عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، فَبَايَعُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرِّضَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ.
وَكَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ أَنَّ مُتَوَلِّيَهَا خَرَجَ مِنْهَا إِلَى بَغْدَادَ
لِتَلَقِّي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَهْنِئَتِهِ بِالْوِلَايَةِ، وَتَعْزِيَتِهِ
فِي أَبِيهِ الْمَهْدِيِّ، فَجَرَتْ أُمُورٌ اقْتَضَتْ أَنْ خَرَجَ حُسَيْنٌ
هَذَا، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، وَجَعَلُوا مَأْوَاهُمُ الْمَسْجِدَ
النَّبَوِيَّ، وَمَنَعُوا النَّاسَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَلَمْ يُجِبْهُ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ، وَجَعَلُوا يَدْعُونَ عَلَيْهِ لِامْتِهَانِهِمُ الْمَسْجِدَ،
حَتَّى ذُكِرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَذِّرُونَ فِي جَنْبَاتِ الْمَسْجِدِ، وَقَدِ
اقْتَتَلُوا مَعَ الْمُسَوِّدَةِ مَرَّاتٍ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَقُتِلَ
مِنْهُمْ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى مَكَّةَ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى زَمَنِ الْحَجِّ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْهَادِي جَيْشًا، فَقَاتَلُوهُ بَعْدَ فَرَاغِ النَّاسِ مِنَ
الْمَوْسِمِ، فَقَتَلُوهُ وَقَتَلُوا طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَانْهَزَمَ
بَقِيَّتُهُمْ، وَتَفَرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ، فَكَانَ مُدَّةُ خُرُوجِهُ إِلَى
أَنْ قُتِلَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَقَدْ كَانَ كَرِيمًا مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ; دَخَلَ يَوْمًا عَلَى
الْمَهْدِيِّ، فَأَطْلَقَ لَهُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَفَرَّقَهَا فِي
أَهْلِهِ وَأَصْدِقَائِهِ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ، وَمَا خَرَجَ
مِنْهَا وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ، إِنَّمَا عَلَيْهِ فَرْوَةٌ لَيْسَ دُونَهَا قَمِيصٌ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ سُلَيْمَانُ ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَمُّ الْخَلِيفَةِ.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ مِنْ طَرِيقِ دَرْبِ الرَّاهِبِ مَعْيُوفُ بْنُ يَحْيَى فِي
جَحْفَلٍ كَثِيفٍ، وَقَدْ أَقْبَلَتِ الرُّومُ مَعَ بَطْرِيقِهَا فَبَلَغُوا
الْحَدَثَ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، قُتِلَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، كَمَا ذَكَرْنَا. الرَّبِيعُ
بْنُ يُونُسَ الْحَاجِبُ، مَوْلَى الْمَنْصُورِ وَحَاجِبُهُ وَوَزِيرُهُ، وَقَدْ
وَزَرَ أَيْضًا لِلْهَادِي. وَقِيلَ: إِنَّهُ وَزَرَ أَيْضًا لِلْمَهْدِيِّ.
وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَطْعَنُ فِي نَسَبِهِ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْخَطِيبُ فِي تَرْجَمَتِهِ
حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِهِ، وَلَكِنَّهُ مُنْكَرٌ، فِي صِحَّتِهِ عَنْهُ نَظَرٌ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ وَلِيَ الْحُجُوبِيَّةَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْفَضْلُ
بْنُ الرَّبِيعِ، وَلَّاهُ إِيَّاهَا الْخَلِيفَةُ الْهَادِي.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا عَزَمَ الْهَادِي عَلَى خَلْعِ أَخِيهِ هَارُونَ مِنَ الْخِلَافَةِ،
وَوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ وَمُبَايَعَةِ ابْنِهِ جَعْفَرٍ ابْنِ
الْهَادِي، فَانْقَادَ هَارُونُ لِذَلِكَ، وَلَمْ يُظْهِرِ الْمُنَازَعَةَ بَلِ
الْمُطَاوَعَةَ، وَاسْتَدْعَى الْهَادِي جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ،
فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَبَتْ ذَلِكَ أُمُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
الْخَيْزُرَانُ، وَكَانَتْ أَمْيَلَ إِلَى ابْنِهَا هَارُونَ الرَّشِيدِ، وَكَانَ
الْهَادِي قَدْ مَنَعَهَا التَّصَرُّفَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَمْلَكَةِ، بَعْدَ مَا
كَانَتْ قَدِ اسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ وِلَايَتِهِ، وَانْقَلَبَتِ
الدُّوَلُ إِلَى بَابِهَا، وَالْأُمَرَاءُ إِلَى جَانِبِهَا فَحَلَفَ الْهَادِي
لَئِنْ عَادَ أَمِيرٌ يَلُوذُ بِبَابِهَا لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ، وَلَا يَقْبَلُ
لَهَا شَفَاعَةً أَبَدًا، فَامْتَنَعَتْ مِنَ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ، وَحَلَفَتْ
لَا تُكَلِّمُهُ أَبَدًا، وَانْتَقَلَتْ عَنْهُ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ، وَأَلَحَّ
هُوَ عَلَى أَخِيهِ هَارُونَ فِي الْخَلْعِ، وَبَعَثَ إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدِ
بْنِ بَرْمَكَ - وَكَانَ مِنْ أَكَابِرَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ هُمْ فِي صَفِّ
الرَّشِيدِ - فَقَالَ لَهُ: مَاذَا تَرَى فِيمَا أُرِيدُ مَنْ خَلْعِ الرَّشِيدِ،
وَتَوْلِيَةِ ابْنِي جَعْفَرٍ؟ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي
أَخْشَى أَنْ تَهُونَ الْأَيْمَانُ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ
أَنْ تَجْعَلَ جَعْفَرًا وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ هَارُونَ، وَأَيْضًا يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ لَا يُجِيبَ أَكْثَرُ النَّاسِ
إِلَى الْبَيْعَةِ لِجَعْفَرٍ; وَهُوَ دُونُ الْبُلُوغِ، فَيَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ
وَيَخْتَلِفَ النَّاسُ فَيَنَالَهَا بَعْضُ أَهْلِكَ، لَا هَذَا وَلَا هَذَا.
فَأَطْرَقَ
مَلِيًّا - وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلًا - ثُمَّ أَمَرَ بِسَجْنِهِ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ.
وَجَاءَ يَوْمًا إِلَيْهِ أَخُوهُ هَارُونُ الرَّشِيدُ، فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِهِ
بَعِيدًا عَنْهُ، فَجَعَلَ الْهَادِي يَنْظُرُ إِلَيْهِ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ: يَا
هَارُونُ، أَتَطْمَعُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَا الْمَهْدِيِّ حَقًّا؟ فَقَالَ: إِي
وَاللَّهِ، وَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ لَأَصِلَنَّ مَنْ قَطَعْتَ، وَلَأُنْصِفَنَّ
مَنْ ظَلَمْتَ، وَلَأُزَوِّجَنَّ بَنِيكَ مِنْ بَنَاتِي. فَقَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ
بِكَ. فَقَامَ إِلَيْهِ هَارُونُ لِيُقَبِّلَ يَدَهُ، فَحَلَفَ الْهَادِي
لَيَجْلِسَنَّ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، فَجَلَسَ مَعَهُ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ
بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنْ يَدْخُلَ الْخَزَائِنَ فَيَأْخُذَ مِنْهَا مَا
أَرَادَ، وَإِذَا جَاءَ الْخَرَاجُ فَلْيُدْفَعْ إِلَيْهِ نِصْفُهُ. فَفُعِلَ
ذَلِكَ كُلُّهُ، وَرَضِيَ الْهَادِي عَنِ الرَّشِيدِ. ثُمَّ سَافَرَ إِلَى
حَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَادَ مِنْهَا، فَمَاتَ بِعِيسَابَاذَ
لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ لِلنِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ - وَقِيلَ: الْآخَرُ -
سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ. وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً،
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَةً وَشَهْرًا وَثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَكَانَ
طَوِيلًا جَمِيلًا أَبْيَضَ بِشَفَتِهِ الْعُلْيَا تَقَلُّصٌ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ خَلِيفَةٌ، وَهُوَ الْهَادِي، وَوَلِيَ
خَلِيفَةٌ، وَهُوَ الرَّشِيدُ، وَوُلِدَ خَلِيفَةٌ، وَهُوَ الْمَأْمُونُ ابْنُ
الرَّشِيدِ. وَقَدْ كَانَتِ الْخَيْزُرَانُ أُمُّ الْخَلِيفَةِ قَالَتْ فِي
أَوَّلِ اللَّيْلِ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ يُولَدُ اللَّيْلَةَ خَلِيفَةٌ،
وَيَمُوتُ خَلِيفَةٌ، وَيَتَوَلَّى خَلِيفَةٌ. يُقَالُ: إِنَّهَا سَمِعَتْ ذَلِكَ
مِنَ الْأَوْزَاعِيِّ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ، وَقَدْ سَرَّهَا ذَلِكَ جِدًّا.
وَيُقَالُ: إِنَّهَا سَمَّتِ وَلَدَهَا الْهَادِيَ خَوْفًا عَلَى ابْنِهَا
الرَّشِيدِ مِنْهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ
كَانَ
قَدْ أَبْعَدَهَا وَأَقْصَاهَا، وَقَرَّبَ حَظِيَّتَهُ خَالِصَةَ وَأَدْنَاهَا.
فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَهَذَا ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ تَرْجَمَةِ الْهَادِي
هُوَ مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْهَادِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
ابْنُ الْمَهْدِيِّ ابْنِ الْمَنْصُورِ. وَلِيَ الْخِلَافَةَ - كَمَا ذَكَرْنَا -
فِي مُحَرَّمٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
النِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَوِ الْآخِرِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ،
وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ - وَقِيلَ أَرْبَعٌ. وَقِيلَ: سِتٌّ - وَعِشْرُونَ
سَنَةً. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ
أَحَدٌ قَبْلَهُ فِي سِنِّهِ. وَكَانَ حَسَنًا جَمِيلًا طَوِيلًا أَبْيَضَ، فِي
شَفَتِهِ الْعُلْيَا تَقَلُّصٌ، وَكَانَ قَوِيَّ الْبَأْسِ يَثِبُ عَلَى
الدَّابَّةِ وَعَلَيْهِ دِرْعَانِ، وَكَانَ أَبُوهُ يُسَمِّيهِ رَيْحَانَتِي.
وَذَكَرَ عِيسَى بْنُ دَأَبٍ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ الْهَادِي، إِذْ جِيءَ
بِطَسْتٍ فِيهِ رَأْسَا جَارِيَتَيْنِ، لَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْهُمَا، وَلَا
مِثْلَ شُعُورِهِمَا، وَفِي شُعُورِهِمَا اللَّآلِئُ وَالْجَوَاهِرُ مُنَضَّدَةً،
وَلَا مِثْلَ طِيبِ رِيحِهِمَا، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا شَأْنُ هَاتَيْنِ؟
قُلْنَا: لَا. فَقَالَ: إِنَّهُ ذُكِرَ لِي عَنْهُمَا أَنَّهُمَا يَرْتَكِبَانِ
الْفَاحِشَةَ، فَأَمَرْتُ الْخَادِمَ، فَرَصَدَهُمَا ثُمَّ جَاءَنِي فَقَالَ:
إِنَّهُمَا مُجْتَمِعَتَانِ. فَجِئْتُ فَوَجَدْتُهُمَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ
وَهُمَا عَلَى
الْفَاحِشَةِ،
فَأَمَرْتُ بِحَزِّ رِقَابِهِمَا. ثُمَّ أَمَرَ بِرَفْعِ رُءُوسِهِمَا مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ، وَرَجَعَ إِلَى حَدِيثِهِ الْأَوَّلِ، كَأَنْ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا.
وَكَانَ شَهْمًا خَبِيرًا بِالْمُلْكِ كَرِيمًا.
وَمِنْ كَلَامِهِ: مَا أُصْلِحَ الْمُلْكُ بِمِثْلِ تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ
لِلْجَانِي، وَالْعَفْوِ عَنِ الزَّلَّاتِ الْقَرِيبَةِ، لِيَقِلَّ الطَّمَعُ عَنِ
الْمُلْكِ.
وَغَضِبَ يَوْمًا مِنْ رَجُلٍ، فَاسْتُرْضِيَ عَنْهُ فَرَضِيَ، فَشَرَعَ الرَّجُلُ
يَعْتَذِرُ، فَقَالَ الْهَادِي: إِنَّ الرِّضَا قَدْ كَفَاكَ مُؤْنَةَ
الِاعْتِذَارِ.
وَعَزَّى الْهَادِي رَجُلًا فِي وَلَدٍ لَهُ تُوُفِّيَ: فَقَالَ لَهُ: أَسَرَّكَ
وَهُوَ عَدُوٌّ وَفِتْنَةٌ، وَأَحْزَنَكَ وَهُوَ صَلَاةٌ وَرَحْمَةٌ.
وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ أَبِي حَفْصَةَ أَنْشَدَ
الْهَادِي قَصِيدَةً لَهُ، مِنْهَا:
تَشَابَهَ يَوْمًا بَأْسُهُ وَنَوَالُهُ فَمَا أَحَدٌ يَدْرِي لِأَيِّهِمَا
الْفَضْلُ
فَقَالَ لَهُ الْهَادِي: أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ ثَلَاثُونَ أَلْفًا مُعَجَّلَةً
أَوْ مِائَةُ أَلْفٍ تَدُورُ فِي الدَّوَاوِينِ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَوَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَكُونُ
ثَلَاثُونَ أَلْفًا مُعَجَّلَةً وَمِائَةُ أَلْفٍ تَدُورُ بِالدَّوَاوِينِ.
فَقَالَ الْهَادِي: أَوْ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ; نُعَجِّلُ الْجَمِيعَ لَكَ.
فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا مُعَجَّلَةً.
وَقَالَ
الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: حَدَّثَنِي الْأَزْهَرِيُّ، ثَنَا سَهْلُ بْنُ
أَحْمَدَ الدِّيبَاجِيُّ، ثَنَا الصُّولِيُّ، ثَنَا الْغَلَابِيُّ، حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْمِيُّ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنِي
الْمُطَّلِبُ بْنُ عُكَّاشَةَ الْمُزَنِيُّ قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى أَبِي
مُحَمَّدٍ الْهَادِي شُهُودًا عَلَى رَجُلٍ مِنَّا شَتَمَ قُرَيْشًا، وَتَخَطَّى
إِلَى ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ لَنَا
مَجْلِسًا أَحْضَرَ فِيهِ فُقَهَاءَ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَمَنْ كَانَ بِالْحَضْرَةِ
عَلَى بَابِهِ، وَأَحْضَرَ الرَّجُلَ وَأَحْضَرَنَا، فَشَهِدْنَا عَلَيْهِ بِمَا
سَمِعْنَا مِنْهُ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ الْهَادِي، ثُمَّ نَكَّسَ رَأْسَهُ، ثُمَّ
رَفَعَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبِي الْمَهْدِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ
الْمَنْصُورِ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ أَرَادَ هَوَانَ قُرَيْشٍ أَهَانَهُ اللَّهُ،
وَأَنْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ لَمْ تَرْضَ بِأَنْ أَرَدْتَ ذَلِكَ مِنْ قُرَيْشٍ
حَتَّى تَخَطَّيْتَ إِلَى ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ! اضْرِبُوا عُنُقَهُ. فَمَا بَرِحْنَا حَتَّى قُتِلَ.
تُوُفِّيَ الْهَادِي فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَصَلَّى
عَلَيْهِ أَخُوهُ هَارُونُ وَلِيُّ الْعَهْدِ، وَدُفِنَ فِي قَصْرٍ بَنَاهُ
وَسَمَّاهُ الْأَبْيَضَ بِعِيسَابَاذَ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ
بَغْدَادَ. وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ تِسْعَةٌ; سَبْعَةٌ ذُكُورٌ وَابْنَتَانِ،
فَالذُّكُورُ; جَعْفَرٌ - وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ رَشَّحَهُ لِلْخِلَافَةِ -
وَعَبَّاسٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَإِسْحَاقُ وَإِسْمَاعِيلُ وَسُلَيْمَانُ وَمُوسَى
الْأَعْمَى الَّذِي وُلِدَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَسُمِّيَ بِاسْمِ أَبِيهِ،
وَالْبِنْتَانِ هُمَا أُمُّ عِيسَى الَّتِي تَزَوَّجَهَا الْمَأْمُونُ،
وَالْأُخْرَى أُمُّ
الْعَبَّاسِ
تُلَقَّبُ نُوتَةَ.
خِلَافَةُ هَارُونَ الرَّشِيدِ ابْنِ الْمَهْدِيِّ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ لَيْلَةَ مَاتَ أَخُوهُ الْهَادِي، وَذَلِكَ لَيْلَةَ
الْجُمْعَةِ لِلنِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ،
وَكَانَ عُمْرُ الرَّشِيدِ يَوْمَئِذٍ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَبَعَثَ
إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ السِّجْنِ، وَقَدْ
كَانَ الْهَادِي عَزَمَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَلَى قَتْلِهِ وَقَتْلِ هَارُونَ
الرَّشِيدِ، فَأَخْرَجَهُ الرَّشِيدُ، وَكَانَ ابْنَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ،
وَوَلَّاهُ حِينَئِذٍ الْوِزَارَةَ، وَوَلَّى يُوسُفَ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ
صُبَيْحٍ كِتَابَةَ الْإِنْشَاءِ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي قَامَ خَطِيبًا بَيْنَ
يَدَيْهِ حِينَ أُخِذَتِ الْبَيْعَةُ لَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِعِيسَابَاذَ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لِمَا مَاتَ الْهَادِي فِي اللَّيْلِ جَاءَ يَحْيَى بْنُ
خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ إِلَى الرَّشِيدِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا، فَقَالَ لَهُ: قُمْ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: كَمْ تُرَوِّعُنِي، وَلَوْ سَمِعَ بِهَذَا
الْكَلَامِ هَذَا الرَّجُلُ لَكَانَ ذَلِكَ أَكْبَرَ ذُنُوبِي عِنْدَهُ. فَقَالَ
لَهُ يَحْيَى: قَدْ مَاتَ الرَّجُلُ. فَجَلَسَ هَارُونُ فَقَالَ: أَشِرْ عَلَيَّ.
فَجَعَلَ يَذْكُرُ لَهُ وِلَايَاتِ الْأَقَالِيمِ لِرِجَالٍ يُسَمِّيهِمْ،
فَيُوَلِّيهِمُ الرَّشِيدُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ:
أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ; فَقَدْ وُلِدَ لَكَ السَّاعَةَ غُلَامٌ.
فَقَالَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَهُوَ الْمَأْمُونُ ثُمَّ أَصْبَحَ فَصَلَّى عَلَى
أَخِيهِ الْهَادِي، وَدَفَنَهُ بِعِيسَابَاذَ، وَحَلَفَ لَا يُصَلِّي الظُّهْرَ
إِلَّا بِبَغْدَادَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْجِنَازَةِ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِ
أَبِي عِصْمَةَ الْقَائِدِ; لِأَنَّهُ
كَانَ
مَعَ جَعْفَرٍ ابْنِ الْهَادِي فَزَاحَمُوا هَارُونَ عَلَى جِسْرٍ، فَقَالَ أَبُو
عِصْمَةَ: قِفْ حَتَّى يَجُوزَ وَلِيُّ الْعَهْدِ. فَقَالَ الرَّشِيدُ: السَّمْعُ
وَالطَّاعَةُ لِلْأَمِيرِ. فَجَازَ جَعْفَرٌ وَوَقَفَ الرَّشِيدُ، فَلَمَّا وَلِيَ
أَمَرَ بِقَتْلِ أَبِي عِصْمَةَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى بَغْدَادَ فَلَمَّا انْتَهَى
إِلَى جِسْرِ بَغْدَادَ اسْتَدْعَى بِالْغَوَّاصِينَ فَقَالَ: إِنِّي سَقَطَ
مِنِّي هَاهُنَا خَاتَمٌ، كَانَ وَالِدِي الْمَهْدِيُّ قَدِ اشْتَرَاهُ لِي
بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَيَّامٍ بَعَثَ وَرَائِي الْهَادِي
يَطْلُبُهُ، فَأَلْقَيْتُهُ إِلَى الرَّسُولِ، فَسَقَطَ هَاهُنَا. فَغَاصُوا
وَرَاءَهُ فَوَجَدُوهُ، فَسُرَّ بِهِ الرَّشِيدُ سُرُورًا كَثِيرًا.
وَلَمَّا وَلَّى الرَّشِيدُ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ الْوِزَارَةَ قَالَ لَهُ: قَدْ
فَوَّضْتُ إِلَيْكَ أَمْرَ الرَّعِيَّةِ، وَخَلَعْتُ ذَلِكَ مِنْ عُنُقِي،
وَجَعَلْتُهُ فِي عُنُقِكَ، فَوَلِّ مَنْ رَأَيْتَ، وَاعْزِلْ مَنْ رَأَيْتَ.
فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ سَقِيمَةً فَلَمَّا وَلِيَ هَارُونُ أَشْرَقَ
نُورُهَا بِيُمْنِ أَمِينِ اللَّهِ هَارُونَ ذِي النَّدَى
فَهَارُونُ وَالِيهَا وَيَحْيَى وَزِيرُهَا
وَكَانَتِ الْخَيْزُرَانُ هِيَ الْمُشَاوَرَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، لَا
يَقْطَعُ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ أَمْرًا حَتَّى يُشَاوِرَهَا فِيمَا يُبْرِمُهُ
وَيَحِلُّهُ وَيُمْضِيهِ وَيُحْكُمُهُ.
وَفِيهَا أَمَرَ الرَّشِيدُ بِسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى أَنْ يُقَسَّمَ فِي بَنِي
هَاشِمٍ عَلَى السَّوَاءِ.
وَفِيهَا تَتَبَّعَ الرَّشِيدُ خَلْقًا مِنَ الزَّنَادِقَةِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ
طَائِفَةً كَثِيرَةً.
وَفِيهَا خَرَجَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْبَيْتِ.
فِيهَا وُلِدَ الْأَمِينُ مُحَمَّدٌ ابْنُ الرَّشِيدِ مِنْ زُبَيْدَةَ، وَذَلِكَ
يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِسِتَّ
عَشْرَةَ
لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَوَّالَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا كَمُلَ بِنَاءُ مَدِينَةِ طَرَسُوسَ عَلَى يَدَيْ فَرَجٍ الْخَادِمِ
التُّرْكِيِّ، وَنَزَلَهَا النَّاسُ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ، وَأَعْطَى
أَهْلَ الْحَرَمَيْنِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جِدًّا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ غَزَا فِي
هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ دَاوُدُ بْنُ رَزِينٍ الشَّاعِرُ:
بِهَارُونَ لَاحَ النُّورُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ وَقَامَ بِهِ فِي عَدْلِ سِيرَتِهِ
النَّهْجُ
إِمَامٌ بِذَاتِ اللَّهِ أَصْبَحَ شُغْلُهُ وَأَكْثَرُ مَا يُعْنَى بِهِ الْغَزْوُ
وَالْحَجُّ
تَضِيقُ عُيُونُ النَّاسِ عَنْ نُورِ وَجْهِهِ إِذَا مَا بَدَا لِلنَّاسِ
مَنْظَرُهُ الْبَلْجُ
وَإِنَّ أَمِينَ اللَّهِ هَارُونَ ذَا النَّدَى يُنِيلُ الَّذِي يَرْجُوهُ
أَضْعَافَ مَا يَرْجُو
وَغَزَا الصَّائِفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَكَّائِيُّ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْفَرَاهِيدِيُّ - وَيُقَالُ الْفُرْهُودِيُّ - الْأَزْدِيُّ الْيَحْمَدِيُّ،
شَيْخُ النُّحَاةِ، وَعَنْهُ أَخَذَ سِيبَوَيْهِ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ،
وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَكَابِرِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَرَعَ عِلْمَ الْعَرُوضِ،
قَسَّمَهُ إِلَى
خَمْسِ
دَوَائِرَ، وَفَرَّعَهُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ بَحْرًا، وَزَادَ الْأَخْفَشُ فِيهِ
بَحْرًا آخَرَ، وَهُوَ الْخَبَبُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
قَدْ كَانَ شِعْرُ الْوَرَى صَحِيحًا مِنْ قَبْلُ أَنْ يُخْلَقَ الْخَلِيلُ
وَقَدْ كَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِعِلْمِ النَّغَمِ، وَلَهُ فِيهِ تَصْنِيفٌ
أَيْضًا، وَلَهُ كِتَابُ " الْعَيْنِ " فِي اللُّغَةِ، ابْتَدَأَهُ
وَأَكْمَلَهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَأَضْرَابُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ،
كَمُؤَرِّجٍ السَّدُوسِيِّ، وَنَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ. فَلَمْ
يُنَاسِبُوا مَا وَضَعَهُ الْخَلِيلُ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ وَضَعَ ابْنُ
دَرَسْتَوَيْهِ كِتَابًا بَيَّنَ فِيهِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْخَلَلِ،
فَأَفَادَ.
وَقَدْ كَانَ الْخَلِيلُ رَجُلًا صَالِحًا عَاقِلًا كَامِلًا حَلِيمًا وَقُورًا،
وَكَانَ مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا، صَبُورًا عَلَى الْعَيْشِ الْخَشِنِ
الضَّيِّقِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا يُجَاوِزُ هَمِّي مَا وَرَاءَ بَابِي. وَكَانَ
ظَرِيفًا حَسَنَ الْخُلُقِ.
وَذُكِرَ أَنَّهُ اشْتَغَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي الْعُرُوضِ، قَالَ: وَكَانَ
بَعِيدَ الْفَهْمِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: كَيْفَ تُقَطِّعُ هَذَا
الْبَيْتَ؟
إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ
فَشَرَعَ مَعِي فِي تَقْطِيعِهِ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَهَضَ
مِنْ عِنْدِي فَلَمْ يَعُدْ إِلَيَّ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَحْمَدَ سِوَى أَبِيهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
أَبِي خَيْثَمَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وُلِدَ
الْخَلِيلُ سَنَةَ مِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَمَاتَ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ
سَبْعِينَ وَمِائَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتِّينَ، وَزَعَمَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " شُذُورِ الْعُقُودِ " أَنَّهُ
تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. وَالْمَشْهُورُ
الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ كَامِلٍ الْمُرَادِيُّ
مَوْلَاهُمُ، الْمِصْرِيُّ الْمُؤَذِّنُ، رَاوِيَةُ الشَّافِعِيِّ، وَآخِرُ مَنْ
رَوَى عَنْهُ. وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا تَفَرَّسَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ، وَفِي
الْبُوَيْطِيِّ وَالْمُزَنِيِّ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَا
وَقَعَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمِنْ شِعْرِ الرَّبِيعِ هَذَا:
صَبْرًا جَمِيلًا مَا أَسْرَعَ الْفَرَجَا مَنْ صَدَقَ اللَّهَ فِي الْأُمُورِ
نَجَا
مَنْ خَشِيَ اللَّهَ لَمْ يَنَلْهُ أَذَى وَمَنْ رَجَا اللَّهَ كَانَ حَيْثُ رَجَا
فَأَمَّا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْجِيزِيُّ، فَإِنَّهُ رَوَى
عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا. وَقَدْ مَاتَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ
وَمِائَتَيْنِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا أَضَافَ الرَّشِيدُ الْخَاتَمَ إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ مَعَ
الْوِزَارَةِ.
وَفِيهَا قَتَلَ الرَّشِيدُ أَبَا هُرَيْرَةَ مُحَمَّدَ بْنَ فَرُّوخٍ نَائِبَ
الْجَزِيرَةِ صَبْرًا فِي قَصْرِ الْخُلْدِ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَفِيهَا خَرَجَ الْفَضْلُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَرُورِيُّ فَقُتِلَ.
وَفِيهَا قَدِمَ رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ إِفْرِيقِيَّةَ. وَخَرَجَتْ أُمُّ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ الْخَيْزُرَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَأَقَامَتْ بِهَا حَتَّى شَهِدَتِ الْحَجَّ،
وَكَانَ الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ عَمُّ الْخُلَفَاءِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَكْرَمَهُ،
وَتَقَبَّلَ مِنْهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا وَضَعَ الرَّشِيدُ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ الْعُشْرَ الَّذِي كَانَ
يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بَعْدَ النِّصْفِ.
وَفِيهَا خَرَجَ الرَّشِيدُ مِنْ بَغْدَادَ يَرْتَادُ لَهُ مَوْضِعًا يَسْكُنُهُ
غَيْرَهَا، فَلَمْ يَبْرَحْ إِلَّا أَنْ تَشَوَّشَ فِيهَا ثُمَّ رَجَعَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ يَعْقُوبُ ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَمُّ
هَارُونَ الرَّشِيدِ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بِالْبَصْرَةِ، فَأَمَرَ الرَّشِيدُ
بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى حَوَاصِلِهِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلْخُلَفَاءِ، فَوَجَدُوا
مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، فَقَبَضُوهُ; مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْأَمْتِعَةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى الْحَرْبِ وَعَلَى تَقَوِّي
الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعُدَدِ وَالْبِرَكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ حَسَنٍ بِنْتُ جَعْفَرِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ
عَلِيٍّ، وَكَانَ مِنْ رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ وَشُجْعَانِهِمْ. جَمَعَ لَهُ
الْمَنْصُورُ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَزَوَّجَهُ الْمَهْدِيُّ
ابْنَتَهُ الْعَبَّاسَةَ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ
دَخْلُهُ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ. وَكَانَ لَهُ خَاتَمٌ مِنْ يَاقُوتٍ
أَحْمَرَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ.
رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ الْأَكْبَرِ - وَهُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ
- حَدِيثًا مَرْفُوعًا فِي مَسْحِ رَأْسِ الْيَتِيمِ إِلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ،
وَمَسْحِ رَأْسِ مَنْ لَهُ أَبٌ إِلَى مُؤَخَّرِهِ.
وَقَدْ
وَفَدَ عَلَى الرَّشِيدِ، فَهَنَّأَهُ بِالْخِلَافَةِ، فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ،
وَزَادَهُ فِي عَمَلِهِ شَيْئًا كَثِيرًا. وَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ خَرَجَ
مَعَهُ الرَّشِيدُ يُشَيِّعُهُ إِلَى كَلْوَاذَى.
تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ سَنَةً.
وَقَدْ أَرْسَلَ الرَّشِيدُ مَنِ اصْطَفَى مِنْ مَالِهِ الصَّامِتِ، فَوَجَدَ لَهُ
مِنَ الذَّهَبِ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفٍ دِينَارٍ، وَمِنَ الدَّرَاهِمِ سِتِّينَ
أَلْفَ أَلْفٍ، خَارِجًا عَنِ الْأَمْلَاكِ وَالْجَوَاهِرِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ وَفَاتَهُ وَوَفَاةَ الْخَيْزُرَانِ فِي يَوْمٍ
وَاحِدٍ.
وَقَدْ وَقَفَتْ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِيهِ عَلَى قَبْرِهِ، فَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:
أَمْسَى التُّرَابُ لِمَنْ هَوِيتُ مَبِيتَا الْقَ التُّرابَ فَقُلْ لَهُ
حُيِّيتَا إِنَّا نُحِبُّكَ يَا تُرَابُ وَمَا بِنَا
إِلَّا كَرَامَةُ مَنْ عَلَيْهِ حُثِيتَا
وَفِيهَا تُوُفِّيَتِ الْخَيْزُرَانُ جَارِيَةُ الْمَهْدِيِّ وَأُمُّ أَمِيرَيِ
الْمُؤْمِنِينَ الْهَادِي وَالرَّشِيدِ، اشْتَرَاهَا الْمَهْدِيُّ وَحَظِيَتْ
عِنْدَهُ جَدَّا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَوَلَدَتْ لَهُ
خَلِيفَتَيْنِ; مُوسَى الْهَادِي وَالرَّشِيدَ، وَلَمْ يَتَّفِقْ هَذَا
لِغَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا لِوَلَّادَةَ بِنْتِ الْعَبَّاسِ
الْعَبْسِيَّةِ، زَوْجَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَهِيَ أُمُّ
الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ. وَإِلَّا لِشَاهِفِرِنْدَ
بِنْتِ
فَيْرُوزَ بْنِ يَزْدَجِرْدَ، وَلَدَتْ لِمَوْلَاهَا الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمَ، وَكِلَاهُمَا وَلِيَ
الْخِلَافَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْخَيْزُرَانِ، عَنْ مَوْلَاهَا الْمَهْدِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَقَاهُ اللَّهُ كُلَّ شَيْءٍ.
وَلَمَّا عُرِضَتْ عَلَى الْمَهْدِيِّ لِيَشْتَرِيَهَا أَعْجَبَتْهُ إِلَّا
دِقَّةَ سَاقَيْهَا، فَقَالَ لَهَا: يَا جَارِيَةُ، إِنَّكِ لَعَلَى غَايَةِ
الْمُنَى لَوْلَا خُمُوشَةٌ فِي سَاقَيْكَ. فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إِلَيْهِمَا لَا تَرَاهُمَا.
فَاسْتَحْسَنَ جَوَابَهَا وَاشْتَرَاهَا، وَحَظِيَتْ عِنْدَهُ جِدًّا.
وَقَدْ حَجَّتِ الْخَيْزُرَانُ مَرَّةً فِي حَيَاةِ الْمَهْدِيِّ، فَكَتَبَ
إِلَيْهَا وَهِيَ بِمَكَّةَ يَسْتَوْحِشُ لَهَا، وَيَتَشَوَّقُ إِلَيْهَا،
يَقُولُ:
نَحْنُ فِي غَايَةِ السُّرُورِ وَلَكِنْ لَيْسَ إِلَّا بِكُمْ يَتِمُّ السُّرُورُ
عَيْبُ مَا نَحْنُ فِيهِ يَا أَهْلَ وُدِّي أَنَّكُمْ غُيَّبٌ وَنَحْنُ حُضُورُ
فَأَجِدُّوا فِي السَّيْرِ بَلْ إِنْ قَدَرْتُمْ أَنْ تَطِيرُوا مَعَ الرِّيَاحِ
فَطِيرُوا
فَأَجَابَتْهُ أَوْ قَالَتْ لِمَنْ أَجَابَهُ:
قَدْ أَتَانَا الَّذِي وَصَفْتَ مِنَ الشَّوْ قِ فَكَدِنْا وَمَا فَعَلْنَا
نَطِيرُ
لَيْتَ
أَنَّ الرِّيَاحَ كُنَّ يُؤَدِّي نَ إِلَيْكُمْ مَا قَدْ يُجِنُّ الضَّمِيرُ
لَمْ أَزَلْ صَبَّةً فَإِنْ كُنْتَ بَعْدِي فِي سُرُورٍ فَدَامَ ذَاكَ السُّرُورُ
وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَهْدَى إِلَيْهَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ نَائِبُ
الْبَصْرَةِ مِائَةَ وَصَيْفٍ، مَعَ كُلِّ وَصَيْفٍ جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ مَمْلُوءٌ
مِسْكًا. فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ: إِنْ كَانَ مَا بَعَثْتَهُ ثَمَنًا عَنْ ظَنِّنَا
فِيكَ فَظَنُّنَا فِيكَ أَكْثَرُ مِمَّا بَعَثْتَ، وَقَدْ بَخَسْتَنَا فِي
الثَّمَنِ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ زِيَادَةَ الْمَوَدَّةِ فَقَدِ
اتَّهَمْتَنِي فِي الْمَوَدَّةِ. وَرَدَّتْهَا عَلَيْهِ.
وَقَدِ اشْتَرَتِ الدَّارَ الْمَشْهُورَةَ بِهَا بِمَكَّةَ الْمَعْرُوفَةَ بِدَارِ
الْخَيْزُرَانِ، فَزَادَتْهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَكَانَ مُغَلُّ ضِيَاعِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ أَلْفٍ وَسِتِّينَ أَلْفًا.
وَاتَّفَقَ مَوْتُهَا بِبَغْدَادَ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ
جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَخَرَجَ ابْنُهَا الرَّشِيدُ فِي
جِنَازَتِهَا وَهُوَ حَامِلٌ سَرِيرَهَا يَخُبُّ فِي الطِّينِ، فَلَمَّا انْتَهَى
إِلَى الْمَقْبَرَةِ أُتِيَ بِمَاءٍ، فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَلَبِسَ خُفًّا،
وَصَلَّى عَلَيْهَا، وَنَزَلَ فِي لَحْدِهَا، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْقَبْرِ
أُتِيَ بِسَرِيرٍ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدْعَى بِالْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ،
فَوَلَّاهُ الْخَاتَمَ وَالنَّفَقَاتِ. وَأَنْشَدَ الرَّشِيدُ قَوْلَ مُتَمِّمِ
بْنِ نُوَيْرَةَ حِينَ دَفَنَ أُمَّهُ الْخَيْزُرَانَ:
وَكُنَّا
كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ
لَيْلَةً مَعَا
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَادِرُ جَارِيَةٌ كَانَتْ لِمُوسَى
الْهَادِي، وَكَانَ يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا جِدًّا، وَكَانَتْ تُحْسِنُ
الْغِنَاءَ جَيِّدًا، فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْمًا تُغَنِّيهِ إِذْ أَخَذَتْهُ
فِكْرَةٌ غَيَّبَتْهُ عَنْهَا، وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، فَسَأَلَهُ بَعْضُ
الْحَاضِرِينَ: مَا هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: أَخَذَتْنِي
فِكْرَةٌ; أَنِّي أَمُوتُ، وَأَنَّ أَخِي هَارُونَ يَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ
بَعْدِي، وَيَتَزَوَّجُ جَارِيَتِي هَذِهِ. فَفَدَاهُ الْحَاضِرُونَ، وَدَعَوْا
لَهُ بِطُولِ الْعُمْرِ، فَاسْتَدْعَى أَخَاهُ هَارُونَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا
وَقَعَ فِي فِكْرِهِ، فَعَوَّذَهُ الرَّشِيدُ مِنْ ذَلِكَ، فَاسْتَحْلَفَهُ
الْهَادِي بِالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْحَجِّ
مَاشِيًا حَافِيًا أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا، فَحَلَفَ لَهُ، وَاسْتَحْلَفَ
الْجَارِيَةَ بِالْحَجِّ وَالْعَتَاقِ، فَحَلَفَتْ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا
أَقَلُّ مِنْ شَهْرٍ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعَثَ
الرَّشِيدُ إِلَيْهَا يَخْطُبُهَا، فَقَالَتْ: كَيْفَ بِالْأَيْمَانِ الَّتِي
حَلَفْتُهَا وَحَلَفْتَهَا؟ فَقَالَ: أَنَا أُكَفِّرُ عَنْكِ وَعَنِّي.
وَتَزَوَّجَهَا فَحَظِيَتْ عِنْدَهُ أَيْضًا جِدًّا حَتَّى كَانَتْ تَنَامُ فِي
حِجْرِهِ فَلَا يَتَحَرَّكُ خَشْيَةَ أَنْ يُزْعِجَهَا مِنْ مَنَامِهَا، فَبَيْنَمَا
هِيَ ذَاتَ لَيْلَةٍ نَائِمَةٌ مَعَهُ إِذِ انْتَبَهَتْ مَذْعُورَةً تَبْكِي،
فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، رَأَيْتُ
الْهَادِي مَوْلَايَ فِي مَنَامِي هَذَا وَهُوَ يَقُولُ:
أَخْلَفْتِ عَهْدِي بَعْدَ مَا جَاوَرْتُ سُكَّانَ الْمَقَابِرْ
وَنَسِيتِنِي وَحَنَثْتِ فِي أَيْمَانِكَ الْكُذُبِ الْفَوَاجِرْ
وَنَكَحْتِ غَادِرَةً أَخِي صَدَقَ الَّذِي سَمَّاكِ غَادِرْ
أَمْسَيْتُ
فِي أَهْلِ الْبِلَى وَغَدَوْتِ فِي الْحُورِ الْغَرَائِرْ
لَا يَهْنِكِ الْإِلْفُ الْجَدِي دُ وَلَا تَدُرْ عَنْكِ الدَّوَائِرْ
وَلَحِقْتِ بِي قَبْلَ الصَّبَا حِ وَصِرْتِ حَيْثُ غَدَوْتُ صَائِرْ
فَقَالَ لَهَا الرَّشِيدُ: إِنَّمَا هَذَا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ. فَقَالَتْ: كَلَّا
وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَكَأَنَّمَا كُتِبَتٍ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ
فِي قَلْبِي. ثُمَّ مَا زَالَتْ تَضْطَرِبُ وَتَرْتَعِدُ حَتَّى مَاتَتْ قَبْلَ
الصَّبَاحِ.
هَيْلَانَةُ جَارِيَةُ الرَّشِيدِ، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهَا هَيْلَانَةَ
لِكَثْرَةِ قَوْلِهَا: هِيَ لَانَةُ.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَكَانَ لَهَا مُحِبًّا، وَكَانَتْ قَبْلَهُ لِيَحْيَى بْنِ
خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، فَدَخَلَ الرَّشِيدُ يَوْمًا مَنْزِلَهُ قَبْلَ
الْخِلَافَةِ، فَاعْتَرَضَتْهُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَتْ: أَمَا لَنَا مِنْكَ
نَصِيبٌ؟ فَقَالَ لَهَا؟ وَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ:
اسْتَوْهِبْنِي مِنْ هَذَا الشَّيْخِ. فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْ يَحْيَى بْنِ
خَالِدٍ، فَوَهَبَهَا لَهُ فَحَظِيَتْ عِنْدَهُ، وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ ثَلَاثَ
سِنِينَ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا وَرَثَاهَا
وَاسْتَرْثَاهَا، وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ فِيهَا:
قَدْ قُلْتُ لَمَّا ضَمَّنُوكِ الثَّرَى وَجَالَتِ الْحَسْرَةُ فِي صَدْرِي
اذْهَبْ فَلَا وَاللَّهِ لَا سَرَّنِي بَعْدَكِ شَيْءٌ آخِرَ الدَّهْرِ
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ فِي مَوْتِهَا:
يَا
مَنْ تَبَاشَرَتِ الْقُبُورُ بِمَوْتِهَا قَصَدَ الزَّمَانُ مَسَاءَتِي فَرَمَاكِ
أَبْغِي الْأَنِيسَ فَمَا أَرَى لِي مُؤْنِسًا إِلَّا التَّرَدُّدَ حَيْثُ كُنْتُ
أَرَاكِ
مَلِكٌ بَكَاكِ وَطَالَ بَعْدَكِ حُزْنُهُ لَوْ يَسْتَطِيعُ بِمُلْكِهِ لَفَدَاكِ
تَحْمِي الْفُؤَادَ عِنِ النِّسَاءِ حَفِيظَةٌ كَيْلَا يَحِلَّ حِمَى الْفُؤَادِ
سِوَاكِ
قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ الرَّشِيدُ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا; لِكُلِّ بَيْتٍ عَشَرَةُ
آلَافٍ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَتْ عَصَبِيَّةٌ بِالشَّامِ وَتَخْبِيطٌ بَيْنَ أَهْلِهَا.
وَفِيهَا اسْتَقْضَى الرَّشِيدُ يُوسُفَ ابْنَ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ وَأَبُوهُ
حَيٌّ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ، فَدَخَلَ بِلَادَ
الرُّومِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدُ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ
مِنْ مَكَّةَ بَلَغَهُ أَنَّ بِهَا وَبَاءً، فَلَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ حَتَّى كَانَ
وَقْتُ الْوُقُوفِ فَوَقَفَ، ثُمَّ جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ، ثُمَّ مِنًى، ثُمَّ
دَخَلَ مَكَّةَ، فَطَافَ وَسَعَى، وَارْتَحَلَ، وَلَمْ يَنْزِلْ بِهَا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا أَخَذَ الرَّشِيدُ الْبَيْعَةَ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ
لِوَلَدِهِ مُحَمَّدٍ ابْنِ زُبَيْدَةَ، وَسَمَّاهُ الْأَمِينَ، وَعُمْرُهُ إِذْ
ذَاكَ خَمْسُ سِنِينَ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ سَلْمٌ الْخَاسِرُ:
قَدْ وَفَّقَ اللَّهُ الْخَلِيفَةَ إِذْ بَنَى بَيْتَ الْخِلَافَةِ لِلْهِجَانِ
الْأَزْهَرِ فَهُوَ الْخَلِيفَةُ عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ
شَهِدَا عَلَيْهِ بِمَنْظَرٍ وِبَمَخْبَرِ قَدْ بَايَعَ الثَّقَلَانِ فِي مَهْدِ
الْهُدَى
لِمُحَمَّدٍ ابْنِ زُبَيْدَةَ ابْنَةِ جَعْفَرِ
وَقَدْ كَانَ الرَّشِيدُ يَتَوَسَّمُ النَّجَابَةَ وَالرَّجَاحَةَ فِي عَبْدِ
اللَّهِ الْمَأْمُونِ، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّ فِيهِ حَزْمَ الْمَنْصُورِ،
وَنُسُكَ الْمَهْدِيِّ، وَعِزَّةَ نَفْسِ الْهَادِي، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ
الرَّابِعَةَ مِنِّي لَقُلْتُ، وَإِنِّي لَأُقَدِّمُ مُحَمَّدًا ابْنَ زُبَيْدَةَ
عَلَيْهِ وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ هَوَاهُ، وَلَكِنْ لَا
أَسْتَطِيعُ غَيْرَ ذَلِكَ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
لَقَدْ بَانَ وَجْهُ الرَّأْيِ لِي غَيْرَ أَنَّنِي غُلِبْتُ عَلَى الْأَمْرِ
الَّذِي كَانَ أَحْزَمَا
وَكَيْفَ يُرَدُّ الدَّرُّ فِي الضَّرْعِ بَعْدَمَا تَوَزَّعَ حَتَّى صَارَ
نَهْبًا مُقَسَّمًا
أَخَافُ الْتَوَاءَ الْأَمْرِ بَعْدَ اسْتِوَائِهِ وَأَنْ يُنْقَضَ الْأَمْرُ
الَّذِي كَانَ أُبْرِمَا
وَغَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ، فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدُ.
وَفِيهَا
سَارَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ إِلَى الدَّيْلَمِ، وَتَحَرَّكَ
هُنَالِكَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
شَعْوَانَةُ الْعَابِدَةُ الزَّاهِدَةُ، كَانَتْ أَمَةً سَوْدَاءَ، كَثِيرَةَ
الْعِبَادَةِ، رُوِيَ عَنْهَا كَلِمَاتٌ حَسَّانٌ، وَقَدْ سَأَلَهَا الْفُضَيْلُ
بْنُ عِيَاضٍ الدُّعَاءَ، فَقَالَتْ: أَمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَا إِنْ
دَعَوْتَهُ اسْتَجَابَ لَكَ؟ فَشَهِقَ الْفُضَيْلُ، وَوَقَعَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.
وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَهْمِيُّ مَوْلَاهُمْ، قَالَ
ابْنُ خِلِّكَانَ: كَانَ مَوْلَى قَيْسِ بْنِ رَفَاعَةَ، وَهُوَ مَوْلَى عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ مُسَافِرٍ الْفَهْمِيُّ، إِمَامُ أَهْلِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وُلِدَ بِقَرْقَشَنْدَةَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَنَشَأَ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: أَصْلُهُ مِنْ قَلْقَلَشَنْدَةَ، وَضَبَطَهُ
بِلَامَيْنِ، الثَّانِيَةُ مُتَحَرِّكَةٌ.
وَحَكَى
عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ، وَأَنَّهُ وَلِيَ
الْقَضَاءَ بِمِصْرَ، وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ
وَمِائَةٍ، وَذَلِكَ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ لَهُ مِنْ مِلْكِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ خَمْسَةُ
آلَافِ دِينَارٍ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَدْخُلُ لَهُ مِنَ الْغَلَّةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ
ثَمَانُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ.
وَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ اللَّيْثُ أَفْقَهَ مِنْ مَالِكٍ إِلَّا أَنَّهُ ضَيَّعَهُ
أَصْحَابُهُ.
وَبَعَثَ إِلَيْهِ مَالِكٌ يَسْتَهْدِيهِ شَيْئًا مِنَ الْعُصْفُرِ لِأَجْلِ
جِهَازِ ابْنَتِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ حِمْلًا، فَاسْتَعْمَلَ مِنْهُ
مَالِكٌ حَاجَتَهُ، وَبَاعَ مِنْهُ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ، وَبَقِيَ عِنْدَهُ
بَقِيَّةٌ.
وَحَجَّ مَرَّةً فَأَهْدَى لَهُ مَالِكٌ طَبَقًا فِيهِ رُطَبٌ، فَرَدَّ الطَّبَقَ
وَفِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ.
وَكَانَ يَهَبُ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ
الْأَلْفَ دِينَارٍ وَمَا يُقَارِبُ ذَلِكَ.
وَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي الْبَحْرِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ
فِي مَرْكَبٍ، وَمَطْبَخُهُ
فِي
مَرْكَبٍ. وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي "
التَّكْمِيلِ ".
وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّهُ سُمِعَ قَائِلٌ يَقُولُ يَوْمَ مَاتَ اللَّيْثُ:
ذَهَبَ اللَّيْثُ فَلَا لَيْثَ لَكُمْ وَمَضَى الْعِلْمُ غَرِيبًا وَقُبِرْ
فَالْتَفَتُوا فَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا.
الْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُنْذِرِ الْقُرَشِيُّ، عَرَضَ عَلَيْهِ
الْمَهْدِيُّ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ وَيُعْطِيَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِائَةَ
أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ عَاهَدْتُ اللَّهَ أَنْ لَا أَلِيَ
شَيْئًا، وَأُعِيذُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ أَنْ أَخِيسَ بِعَهْدِي.
فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ: آللَّهِ؟ قَالَ: آللَّهِ. قَالَ: انْطَلِقْ فَقَدْ
أَعْفَيْتُكَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ ظُهُورُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِبِلَادِ الدَّيْلَمِ، وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ
وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَارْتَحَلَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنَ
الْكُوَرِ وَالْأَمْصَارِ، فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ الرَّشِيدُ، وَقَلِقَ مِنْ
أَمْرِهِ، فَنَدَبَ إِلَيْهِ الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ
فِي خَمْسِينَ أَلْفًا، وَوَلَّاهُ كُوَرَ الْجَبَلِ وَالرَّيَّ وَجُرْجَانَ
وَطَبَرِسْتَانَ وَقُومَسَ وَالرُّويَانِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَسَارَ الْفَضْلُ
بْنُ يَحْيَى إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَكُتُبُ
الرَّشِيدِ تَلْحَقُهُ مَعَ الْبُرُدِ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ، وَأَنْوَاعُ
التُّحَفِ وَالْبِرِّ، وَكَاتَبَ الْفَضْلُ صَاحِبَ الدَّيْلَمِ، وَوَعَدَهُ
بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ إِنْ هُوَ سَهَّلَ خُرُوجَ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
إِلَيْهِمْ، وَكَتَبَ الْفَضْلُ إِلَى يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَعِدُهُ
وَيُمَنِّيهِ وَيُؤَمِّلُهُ وَيُرَجِّيهِ وَيَبْسُطُ أَمَلَهُ، إِنْ هُوَ خَرَجَ
إِلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ لَهُ الْعُذْرَ عِنْدَ الرَّشِيدِ، فَامْتَنَعَ يَحْيَى
أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَكْتُبَ لَهُ الرَّشِيدُ كِتَابَ أَمَانٍ
بِيَدِهِ، فَكَتَبَ الْفَضْلُ إِلَى الرَّشِيدِ بِذَلِكَ، فَفَرِحَ الرَّشِيدُ،
وَوَقَعَ مِنْهُ مَوْقِعًا عَظِيمًا، وَكَتَبَ الْأَمَانَ بِيَدِهِ، وَأَشْهَدَ
عَلَيْهِ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ وَمَشْيَخَةَ بَنِي هَاشِمٍ، مِنْهُمْ عَبْدُ
الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ، وَبَعَثَ الْأَمَانَ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ جَوَائِزَ
وَتُحَفًا كَثِيرَةً جِدًّا، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى الْفَضْلِ بَعَثَهَا
بِكَمَالِهَا إِلَى يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَخَرَجَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ إِلَيْهِمْ، فَسَارَ بِهِ الْفَضْلُ، فَدَخَلَ بِهِ بَغْدَادَ
وَتَلْقَّاهُ الرَّشِيدُ، وَأَكْرَمَهُ وَأَجْزَلَ لَهُ الْعَطَاءَ، وَخَدَمَهُ
آلُ بَرْمَكَ خِدْمَةً عَظِيمَةً، بِحَيْثُ إِنَّ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ كَانَ
يَتَوَلَّى
خِدْمَتَهُ
بِنَفْسِهِ، وَعَظُمَ الْفَضْلُ عِنْدَ الرَّشِيدِ جَدًّا بِهَذِهِ الْفِعْلَةِ;
حَيْثُ سَعَى فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْعَبَّاسِيِّينَ وَالْفَاطِمِيِّينَ.
فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ مَرْوَانُ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ يَمْدَحُ الْفَضْلَ بْنَ
يَحْيَى، وَيَشْكُرُهُ عَلَى سَعْيِهِ هَذَا:
ظَفِرْتَ فَلَا شُلَّتْ يَدٌ بَرْمَكِيَّةٌ رَتَقْتَ بِهَا الْفَتْقَ الَّذِي
بَيْنَ هَاشِمٍ عَلَى حِينِ أَعْيَا الرَّاتِقينَ الْتِئَامُهُ
فَكَفُّوا وَقَالُوا لَيْسَ بِالْمُتَلَائِمِ فَأَصْبَحَتْ قَدْ فَازَتْ يَدَاكَ
بِخُطَّةٍ
مِنَ الْمَجْدِ بَاقٍ ذِكْرُهَا فِي الْمَوَاسِمِ وَمَا زَالَ قِدْحُ الْمُلِكِ
يَخْرُجُ فَائِزًا
لَكُمْ كُلَّمَا ضُمَّتْ قِدَاحُ الْمُسَاهِمِ
قَالُوا: ثُمَّ إِنَّ الرَّشِيدَ تَنَكَّرَ لِيَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَسَنٍ، وَتَغَيَّرَ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَجَنَهُ، ثُمَّ اسْتَحْضَرَهُ
الرَّشِيدُ وَعِنْدَهُ الْقَاضِيَانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو
الْبَخْتَرِيِّ، وَعِنْدَهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ،
وَأَحْضَرَ الْأَمَانَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ، فَسَأَلَ الرَّشِيدُ
مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ عَنْ هَذَا الْأَمَانِ أَصَحِيحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ،
فَتَغَيَّظَ الرَّشِيدُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: لَيْسَ هَذَا
بِصَحِيحٍ، فَاحْكُمْ فِيهِ بِمَا شِئْتَ. وَمَزَّقَ الْأَمَانَ، وَبَصَقَ فِيهِ
أَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَأَقْبَلَ الرَّشِيدُ عَلَى يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،
فَقَالَ: هِيهِ هِيهِ. وَهُوَ يَتَبَسَّمُ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، وَقَالَ إِنَّ
النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّا سَمَمْنَاكَ. فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ لَنَا قَرَابَةً وَرَحِمًا وَحَقًّا، فَعَلَامَ
تُعَذِّبُنِي وَتَحْبِسُنِي؟ فَرَقَّ لَهُ الرَّشِيدُ، فَاعْتَرَضَ بَكَّارُ بْنُ
مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ: لَا يُغْرُنَّكَ كَلَامُ هَذَا، فَإِنَّهُ عَاصٍ شَاقٌّ،
وَإِنَّمَا هَذَا مِنْهُ مَكْرٌ وَخُبْثٌ، وَقَدْ أَفْسَدَ عَلَيْنَا
مَدِينَتَنَا، وَأَظْهَرَ فِيهَا
الْعِصْيَانَ.
فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: وَمَنْ أَنْتُمْ عَافَاكُمُ اللَّهُ؟ وَإِنَّمَا هَاجَرَ
أَبُوكَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِآبَائِي، وَآبَاءِ هَذَا. ثُمَّ قَالَ يَحْيَى: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا النَّاسُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ، وَاللَّهِ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ جَاءَ إِلَيَّ هَذَا حِينَ قُتِلَ أَخِي مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ قَاتِلَهُ. وَأَنْشَدَنِي فِيهِ
مَرْثِيَّةً نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ بَيْتًا، وَقَالَ: إِنْ تَحَرَّكْتَ فِي هَذَا
الْأَمْرِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُبَايِعُكَ، وَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَلْحَقَ
بِالْبَصْرَةِ وَأَيْدِينَا مَعَ يَدِكَ؟ قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُ الزُّبَيْرِيِّ،
وَأَنْكَرَ وَشَرَعَ يَحْلِفُ بِالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ: إِنَّهُ لَكَاذِبٌ
فِي ذَلِكَ. وَتَنَمَّرَ الرَّشِيدُ، وَقَالَ لِيَحْيَى: أَتَحْفَظُ شَيْئًا مِنَ
الْمَرْثِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَأَنْشَدَهُ مِنْهَا جَانِبًا. فَازْدَادَ
الزُّبَيْرِيُّ فِي الْإِنْكَارِ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ:
فَقُلْ: إِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فَقَدْ بَرِئْتَ مِنْ حَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ،
وَوَكَلَنِي اللَّهُ إِلَى حَوْلِي وَقُوَّتِي. فَامْتَنَعَ مِنَ الْحَلِفِ
بِذَلِكَ، فَعَزَمَ عَلَيْهِ الرَّشِيدُ، وَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، فَحَلَفَ
بِذَلِكَ، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ الرَّشِيدِ فَرَمَاهُ
اللَّهُ بِالْفَالِجِ فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ امْرَأَتَهُ
غَمَّتْ وَجْهَهُ بِمِخَدَّةٍ، فَقَتَلَتْهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنَّ الرَّشِيدَ أَطْلَقَ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ،
وَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَيُقَالُ: إِنَّمَا حَبَسَهُ بَعْضَ
يَوْمٍ. وَكَانَ جُمْلَةُ مَا وَصَلَهُ مِنَ الْمَالِ مِنَ الرَّشِيدِ
أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ
كُلِّهِ شَهْرًا وَاحِدًا، ثُمَّ مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِالشَّامِ بَيْنَ
النِّزَارِيَّةِ - وَهُمْ قِيسٌ - وَالْيَمَانِيَّةِ، وَهَذَا كَانَ أَوَّلَ
بَدُوِّ أَمْرِ الْعِشْرَيْنِ بِحُورَانَ، وَهُمْ قَيْسٌ وَيَمَنٌ، أَعَادُوا
مَا
كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي هَذَا الْأَوَانِ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ
بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ عَلَى نِيَابَةِ الشَّامِ كُلِّهَا مِنْ جِهَةِ
الرَّشِيدِ ابْنُ عَمِّهِ مُوسَى بْنُ عِيسَى، وَقِيلَ: عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ
عَلِيٍّ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ عَلَى نِيَابَةِ دِمَشْقَ بِخُصُوصِهَا سِنْدِيُّ بْنُ شَاهَكَ أَحَدُ
مَوَالِي أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَقَدْ هَدَمَ سُورَ دِمَشْقَ حِينَ
هَاجَتْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ; خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا أَبُو
الْهَيْذَامِ الْمُرِّيُّ رَأْسُ الْقَيْسِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ سِنْدِيٌّ هَذَا
دَمِيمَ الْخَلْقِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَكَانَ لَا يُحَلِّفُ الْمُكَارِي وَلَا
الْمَلَّاحَ وَلَا الْحَائِكَ، يَقُولُ: الْقَوْلُ قَوْلُهُمْ. وَيَسْتَخِيرُ
اللَّهَ فِي الْجَمَّالِ وَمُعَلِّمِ الْكُتَّابِ. وَقَدْ تُوُفِّيَ سِنْدِيٌّ
سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ.
فَلَمَّا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ بَعَثَ الرَّشِيدُ مِنْ جِهَتِهِ مُوسَى بْنَ
يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ وَرُءُوسِ الْكُتَّابِ
فَأَصْلَحُوا بَيْنَ النَّاسِ، وَهَدَأَتِ الْفِتْنَةُ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُ
الشَّامِ، وَحَمَلُوا جَمَاعَاتٍ مِنْ رُءُوسِ الْفِتْنَةِ إِلَى مَدِينَةِ
السَّلَامِ، فَرَدَّ الرَّشِيدُ أَمْرَهُمْ إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فَعَفَا
عَنْهُمْ وَأَطَلْقَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
قَدْ هَاجَتِ الشَّامُ هَيْجًا يُشِيبُ رَاسَ وَلِيدِهِ
فَصَبَّ مُوسَى عَلَيْهَا بِخَيْلِهِ وَجُنُودِهِ
فَدَانَتِ
الشَّامُ لَمَّا أَتَى نَسِيجُ وَحِيدِهِ
هَذَا الْجَوَادُ الَّذِي بَذَّ كُلَّ جُودٍ بِجُودِهِ
أَعْدَاهُ جُودُ أَبِيهِ يَحْيَى وَجُودُ جُدُودِهِ
فَجَادَ مُوسَى بْنُ يَحْيَى بِطَارِفٍ وَتَلِيدِهِ
وَنَالَ مُوسَى ذُرَى الْمَجْ دِ وَهُوَ حَشْوُ مُهُودِهِ
خَصَصْتُهُ بِمَدِيحِي مَنْثُورِهِ وَقَصِيدِهِ
مِنَ الْبَرَامِكِ عُودٌ لَهُ فَأَكْرِمْ بَعُودِهِ
حَوَوْا عَلَى الشِّعْرِ طُرًّا خَفِيفِهِ وَمَدِيدِهِ
وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ الْغِطْرِيفَ بْنَ عَطَاءٍ عَنْ خُرَاسَانَ،
وَوَلَّاهَا حَمْزَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيَّ الْمُلَقَّبَ
بِالْعَرُوسِ.
وَفِيهَا وَلَّى الرَّشِيدُ جَعْفَرَ بْنَ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ
نِيَابَةَ مِصْرَ، فَاسْتَنَابَ جَعْفَرٌ عَلَيْهَا عُمَرَ بْنَ مِهْرَانَ،
وَكَانَ شَنِيعَ الشَّكْلِ، زَرِيَّ الْخَلْقِ، بَيِّنَ الْكِنْبَةِ، أَحْوَلَ،
وَمَا كَانَ سَبَبَ وِلَايَةِ الرَّشِيدِ إِيَّاهُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ
إِلَّا أَنَّ نَائِبَهَا مُوسَى بْنَ عِيسَى كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى خَلْعِ
الرَّشِيدِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَعْزِلَنَّهُ وَلَأُوَلِّيَنَّ عَلَيْهَا
أَخَسَّ النَّاسِ. فَاسْتَدْعَى عُمَرَ بْنَ مَهْرَانَ هَذَا، وَوَلَّاهُ
عَلَيْهَا نِيَابَةً عَنْ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ الْبَرْمَكِيِّ،
فَسَارَ إِلَيْهَا عُمَرُ بْنُ مِهْرَانَ عَلَى بَغْلٍ وَغُلَامُهُ أَبُو دُرَّةَ
عَلَى بَغْلٍ آخَرَ، فَدَخَلَهَا كَذَلِكَ، فَانْتَهَى إِلَى مَجْلِسِ نَائِبِهَا
مُوسَى بْنِ عِيسَى، فَجَلَسَ فِي
أُخْرَيَاتِ
النَّاسِ، فَلَمَّا انْفَضَّ النَّاسُ أَقْبَلَ عَلَيْهِ مُوسَى بْنُ عِيسَى
وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَنْ هُوَ، فَقَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ يَا شَيْخُ؟ قَالَ:
نَعَمْ، أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ. ثُمَّ قَامَ بِالْكُتُبِ، فَدَفَعَهَا
إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَرَأَهَا قَالَ: أَنْتَ عُمَرُ بْنُ مِهْرَانَ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ
مِصْرَ [ الزُّخْرُفِ: 51 ]. ثُمَّ سَلَّمَ إِلَيْهِ الْعَمَلَ، وَارْتَحَلَ
عَنْهَا، وَأَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ مِهْرَانَ عَلَى عَمَلِهِ، فَكَانَ لَا يَقْبَلُ
شَيْئًا مِنَ الْهَدَايَا إِلَّا مَا كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ قُمَاشًا،
وَيَكْتُبُ عَلَى ذَلِكَ اسْمَ مُهْدِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ طَالَبَ بِالْخَرَاجِ
وَأَلَحَّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَشَرَعَ بَعْضُهُمْ فِي مُمَاطَلَتِهِ،
فَأَقْسَمَ لَا يُمَاطِلُهُ أَحَدٌ فَيَقْبِضَ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا
يَبْعَثُهُ إِلَى بَغْدَادَ وَيَزِنُ خَرَاجَهُ بِهَا، وَيَأْتِي بِوَرَقَةِ
الْقَبْضِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ بِبَعْضِ النَّاسِ فَتَأَدَّبَ بَقِيَّتُهُمْ، ثُمَّ
جَبَاهُمُ الْقِسْطَ الثَّانِي، فَلَمَّا كَانَ الثَّالِثُ عَجَزَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ
عَنِ الْأَدَاءِ، فَجَعَلَ يَسْتَحْضِرُ مَا كَانُوا أَهْدَوْا إِلَيْهِ; فَإِنْ
كَانَ نَقْدًا أَدَّاهُ عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بُرًّا بَاعَهُ وَاعْتَدَّ بِهِ
عَنْهُمْ، وَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا ادَّخَرْتُ هَذَا لَكْمْ إِلَى وَقْتِ
حَاجَتِكُمْ. ثُمَّ أَكْمَلَ اسْتِخْرَاجَ جَمِيعَ الْخَرَاجِ بِدِيَارِ مِصْرَ،
وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدٌ قَبْلَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهَا; لِأَنَّهُ
كَانَ قَدْ شَرَطَ عَلَى الرَّشِيدِ أَنَّهُ إِذَا مَهَّدَ الْبِلَادَ وَجَبَى
الْخَرَاجَ، فَذَاكَ إِذْنُهُ فِي الِانْصِرَافِ. وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ سِوَى مَوْلَاهُ أَبِي دُرَّةَ وَهُوَ حَاجِبُهُ،
وَهُوَ مَنْفِذُ أُمُورِهِ.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ، فَفَتَحَ حِصْنًا.
وَحَجَّتْ زُبَيْدَةُ زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَمَعَهَا
أَخُوهَا. وَكَانَ أَمِيرَ الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سُلَيْمَانُ ابْنَ أَبِي
جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَمُّ الرَّشِيدِ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ
أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ، حَكَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ وَهْبٍ.
وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَرْمَةَ، الشَّاعِرُ، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
سَلَمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ هَرْمَةَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفِهْرِيُّ الْمَدَنِيُّ،
شَاعِرٌ مُفَلِّقٌ، وَفَدَ عَلَى الْمَنْصُورِ بَغْدَادَ فِي وَفْدٍ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ حِينَ اسْتَوْفَدَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ، فَجَلَسُوا
إِلَى سِتْرٍ دُونَ الْمَنْصُورِ، يَرَى النَّاسَ مِنْ وَرَائِهِ وَلَا يَرَوْنَهُ،
وَأَبُو الْخَصِيبِ الْحَاجِبُ وَاقِفٌ يَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
هَذَا فُلَانٌ الْخَطِيبُ. فَيَأْمُرُهُ فَيَخْطُبُ، وَيَقُولُ: هَذَا فُلَانٌ
الشَّاعِرُ. فَيَسْتَنْشِدُهُ، حَتَّى كَانَ مِنْ آخِرِهِمْ ابْنُ هَرْمَةَ هَذَا،
قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا، وَلَا أَنْعَمَ
اللَّهُ بِهِ عَيْنًا. قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ، ذَهَبَتْ وَاللَّهِ نَفْسِي، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَيَّ نَفْسِي
فَقُلْتُ: يَا نَفْسُ، هَذَا مَوْقِفٌ إِنْ لَمْ تَشْتَدِّي فِيهِ هَلَكْتِ. ثُمَّ
اسْتَنْشَدَنِي، فَأَنْشَدْتُهُ قَصِيدَتِي الَّتِي أَقُولُ فِيهَا:
سَرَى ثَوْبَهُ عَنْكَ الصِّبَا الْمُتَخَايِلُ وَقَرَّبَ لِلْبَيْنِ الْخَلِيطُ
الْمُزَايِلُ
حَتَّى
انْتَهَيْتُ إِلَى قَوْلِي:
فَأَمَّا الَّذِي أَمَّنْتَهُ يَأْمِنُ الرَّدَى وَأَمَّا الَّذِي حَاوَلْتَ
بِالثُّكْلِ ثَاكِلُ
قَالَ: فَأَمَرَ بِرَفْعِ الْحِجَابِ، فَإِذَا وَجْهُهُ كَأَنَّهُ فِلْقَةُ
قَمَرٍ، فَاسْتَنْشَدَنِي بَقِيَّةَ الْقَصِيدَةِ، وَأَمَرَنِي بِالْقُرْبِ
إِلَيْهِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ يَا إِبْرَاهِيمُ !
لَوْلَا ذُنُوبٌ بَلَغَتْنِي عَنْكَ لَفَضَّلْتُكَ عَلَى أَصْحَابِكَ، فَأَقِرَّ
عَلَيَّ بِذُنُوبِكَ أَعْفُهَا عَنْكَ. فَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ فَقِيهٌ عَالِمٌ،
وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَنِي بِحُجَّةٍ تَجِبُ عَلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، كُلُّ ذَنْبٍ بَلَغَكَ مِمَّا عَفَوْتَهُ عَنِّي فَأَنَا مُقِرٌّ
بِهِ. فَتَنَاوَلَ الْمِخْصَرَةَ، فَضَرَبَنِي بِهَا ضَرْبَتَيْنِ وَأَمَرَ لِي
بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَخِلْعَةٍ، وَعَفَا عَنِّي وَأَلْحَقَنِي
بِنُظَرَائِي.
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَنْقِمُهُ الْمَنْصُورُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
وَمَهْمَا أُلَامُ عَلَى حُبِّهِمْ فَإِنِّي أُحِبُّ بَنِي فَاطِمَهْ
بَنِي بِنْتِ مَنْ جَاءَ بِالْمُحْكَمَاتِ وَبِالدِّينِ وَالسُّنَّةِ الْقَائِمَهْ
فَلَسْتُ أُبَالِي بِحُبِّي لَهُمْ سِوَاهُمْ مِنَ النَّعْمِ السَّائِمَهْ
قَالَ
الْأَخْفَشُ: قَالَ لَنَا ثَعْلَبٌ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: خُتِمَ الشُّعَرَاءُ
بِابْنِ هَرْمَةَ، وَهُوَ آخِرُ الْحُجَجِ.
ذَكَرَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي
" الْمُنْتَظِمِ ".
وَالْجَرَّاحُ بْنُ مَلِيحٍ، وَالِدُ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ. وَسَعِيدُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَمِيلٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْمَدِينِيُّ، وَلِيَ قَضَاءَ بَغْدَادَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بِعَسْكَرِ
الْمَهْدِيِّ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ.
صَالِحُ بْنُ بَشِيرٍ الْمُرِّيُّ
وَصَالِحُ بْنُ بَشِيرٍ الْمُرِّيُّ، أَحَدُ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ، كَانَ
كَثِيرَ الْبُكَاءِ، وَكَانَ يَعِظُ، فَيَحْضُرُ مَجْلِسَهُ سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ فَيَقُولُ: هَذَا نَذِيرُ قَوْمٍ. وَقَدِ اسْتَدْعَاهُ الْمَهْدِيُّ
لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ، فَجَاءَ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ، فَدَنَا مِنْ بِسَاطِ
الْخَلِيفَةِ، فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ ابْنَيْهِ - وَلِيَّيِ الْعَهْدِ; مُوسَى
الْهَادِيَ وَهَارُونَ الرَّشِيدَ - فَابْتَدَرَا إِلَيْهِ لِيُنْزِلَاهُ عَنْ
دَابَّتِهِ، فَأَقْبَلَ صَالِحٌ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ
إِنْ كُنْتُ عَمِلْتُ لِهَذَا الْيَوْمِ. ثُمَّ جَلَسَ إِلَى الْمَهْدِيِّ،
فَوَعَظَهُ فَقَالَ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
خَصَمَ
مَنْ خَالَفَهُ فِي أُمَّتِهِ، وَمَنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَصْمَهُ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ، فَأَعِدَّ لِمُخَاصَمَةِ اللَّهِ
وَمُخَاصَمَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَجًا تَضْمَنُ لَكَ
النَّجَاةَ، وَإِلَّا فَاسْتَسْلِمْ لِلْهَلَكَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَبْطَأَ
الصَّرْعَى نَهْضَةً صَرِيعُ هَوًى يَدَّعِي إِلَى اللَّهِ قُرْبَةً، وَأَنَّ
أَثْبَتَ النَّاسِ قَدَمًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ
وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ،
فَبَكَى الْمَهْدِيُّ، وَأَمَرَ بِكِتَابَةِ ذَلِكَ الْكَلَامِ فِي دَوَاوِينِهِ.
وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ حَزْمٍ، قَدِمَ قَاضِيًا بِالْعِرَاقِ فَمَاتَ فِي هَذَا الْعَامِ.
فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ الْحِمْصِيُّ التَّنُّوخِيُّ، كَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ
بِبَغْدَادَ فِي خِلَافَةِ الرَّشِيدِ، فَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ
مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ فَمَاتَ وَلَهُ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ
سَنَةً.
وَمِنْ مَنَاقِبِهِ أَنَّ الْمَنْصُورَ دَخَلَ يَوْمًا إِلَى قَصْرِ الذَّهَبِ،
فَقَامَ النَّاسُ إِلَّا الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، فَقَالَ لَهُ وَقَدْ غَضِبَ
عَلَيْهِ: لِمَ لَمْ تَقُمْ؟! فَقَالَ: خِفْتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللَّهُ عَنْ
ذَلِكَ، وَيَسْأَلَكَ لِمَ رَضِيتَ بِذَلِكَ وَقَدْ كَرِهَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: فَبَكَى الْمَنْصُورُ، وَقَرَّبَهُ
بِهِ وَقَضَى حَوَائِجَهُ.
الْمُسَيَّبُ
بْنُ زُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو أَبُو مُسْلِمٍ الضَّبِّيُّ، كَانَ وَالِيَ
الشُّرْطَةِ بِبَغْدَادَ فِي أَيَّامِ الْمَنْصُورِ وَالْمَهْدِيِّ وَالرَّشِيدِ،
وَوَلِيَ خُرَاسَانَ مَرَّةً لِلْمَهْدِيِّ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
الْوَضَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَوَانَةَ الْيَشْكُرِيُّ مَوْلَاهُمْ،
كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَشَايِخِ فِي الرِّوَايَةِ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرَ بْنَ يَحْيَى الْبَرْمَكِيَّ عَنْ مِصْرَ،
وَوَلَّى عَلَيْهَا إِسْحَاقَ بْنَ سُلَيْمَانَ، وَعَزَلَ حَمْزَةَ بْنَ مَالِكٍ
عَنْ خُرَاسَانَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى الْبَرْمَكِيَّ
مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ بِالرَّيِّ وَسِجِسْتَانَ
وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ أَصَابَ النَّاسَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَظُلْمَةٌ فِي
أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ صَفَرٍ
مِنْهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي الْكُوفِيُّ النَّخَعِيُّ، سَمِعَ أَبَا
إِسْحَاقَ السَّبِيعِيَّ وَغَيْرَ وَاحِدٍ، وَكَانَ مَشْكُورًا فِي حُكْمِهِ
وَتَنْفِيذِهِ وَتَضْمِينِهِ، وَكَانَ لَا يَجْلِسُ لِلْحُكْمِ حَتَّى يَتَغَدَّى،
ثُمَّ يُخْرِجُ وَرَقَةً مِنْ قِمْطَرَةٍ فَيَنْظُرُ فِيهَا، ثُمَّ يَأْمُرُ
بِتَقْدِيمِ
الْخُصُومِ إِلَيْهِ، فَحَرَصَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَلَى قِرَاءَةِ مَا فِي تِلْكَ
الْوَرَقَةِ، فَإِذَا فِيهَا: يَا شَرِيكُ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، اذْكُرِ
الصِّرَاطَ وَحِدَّتَهُ، يَا شَرِيكُ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، اذْكُرِ الْمَوْقِفَ
بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتَ
مُسْتَهَلَّ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَمُوسَى بْنُ
أَعْيَنَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا وَثَبَتَ طَائِفَةٌ مِنَ الْحُوفِيَّةِ مِنْ قَيْسٍ وَقُضَاعَةَ بِعَامِلِ
مِصْرَ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، فَقَاتَلُوهُ وَجَرَتْ بِهَا فِتْنَةٌ
عَظِيمَةٌ، فَبَعَثَ الرَّشِيدُ هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ نَائِبَ فِلَسْطِينَ فِي
خَلْقٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ مَدَدًا لِإِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، فَقَاتَلُوهُمْ
حَتَّى أَذْعَنُوا بِالطَّاعَةِ، وَأَدَّوْا مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَرَاجِ
وَالْوَظَائِفِ، وَاسْتَمَرَّ هَرْثَمَةُ نَائِبًا عَلَى مِصْرَ نَحْوًا مِنْ
شَهْرٍ عِوَضًا عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا،
وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ صَالِحٍ.
وَفِيهَا وَثَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَقَتَلُوا الْفَضْلَ
بْنَ رَوْحِ بْنِ حَاتِمٍ، وَأَخْرَجُوا مَنْ كَانَ بِهَا مِنْ آلِ الْمُهَلَّبِ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الرَّشِيدُ هَرْثَمَةَ، فَرَجَعُوا إِلَى الطَّاعَةِ عَلَى
يَدَيْهِ.
وَفِيهَا فَوَّضَ الرَّشِيدُ أُمُورَ الْخِلَافَةِ كُلَّهَا إِلَى يَحْيَى بْنِ
خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ.
وَفِيهَا خَرَجَ الْوَلِيدُ بْنُ طَرِيفٍ بِالْجَزِيرَةِ، وَحَكَمَ بِهَا وَقَتَلَ
خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ مَضَى مِنْهَا إِلَى أَرْمِينِيَّةَ، فَكَانَ مِنْ
أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِيهَا سَارَ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى إِلَى خُرَاسَانَ، فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ
بِهَا، وَبَنَى فِيهَا
الرُّبُطَ
وَالْمَسَاجِدَ، وَغَزَا مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَاتَّخَذَ بِهَا جُنْدًا مِنَ
الْعَجَمِ سَمَّاهُمُ الْعَبَّاسِيَّةَ، وَجَعَلَ وَلَاءَهُمْ لَهُمْ وَكَانُوا
نَحْوًا مِنْ خَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ، وَبَعَثَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ
أَلْفًا إِلَى بَغْدَادَ فَكَانُوا يُعْرَفُونَ بِهَا بِالْكُرُنْبِيَّةِ.
وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ:
مَا الْفَضْلُ إِلَّا شِهَابٌ لَا أُفُولَ لَهُ عِنْدَ الْحُرُوبِ إِذَا مَا
تَأْفُلُ الشُّهُبُ حَامٍ عَلَى مُلْكِ قَوْمٍ عَزَّ سَهْمُهُمُ
مِنَ الْوِرَاثَةِ فِي أَيْدِيهِمُ سَبَبُ أَمْسَتْ يَدٌ لِبَنِي سَاقِي
الْحَجِيجِ بِهَا
كَتَائِبُ مَا لَهَا فِي غَيْرِهِمْ أَرَبُ كَتَائِبُ لِبَنِي الْعَبَّاسِ قَدْ
عَرَفَتْ
مَا أَلَّفَ الْفَضْلُ مِنْهَا الْعُجْمُ وَالْعَرَبُ أَثْبَتَّ خَمْسَ مِئِينٍ
فِي عِدَادِهِمْ
مِنَ الْأُلُوفِ الَّتِي أَحْصَتْ لَهَا الْكُتُبُ يُقَارِعُونَ عَنِ الْقَوْمِ
الَّذِينُ هُمُ
أَوْلَى بِأَحْمَدَ فِي الْفُرْقَانِ إِنْ نُسِبُوا إِنَّ الْجَوَادَ ابْنَ
يَحْيَى الْفَضْلَ لَا وَرِقٌ
يَبْقَى عَلَى جُودِ كَفَّيْهِ وَلَا ذَهَبُ مَا مَرَّ يَوْمٌ لَهُ مُذْ شَدَّ
مِئْزَرَهُ
إِلَّا تَمَوَّلَ أَقْوَامٌ بِمَا يَهَبُ كَمْ غَايَةٍ فِي النَّدَى وَالْبَأْسِ
أَحْرَزَهَا
لِلطَّالِبِينَ مَدَاهَا دُونَهَا تَعَبُ يُعْطِي اللُّهَى حِينَ لَا يُعْطِي
الْجَوَادُ وَلَا
يَنْبُو إِذَا سُلَّتِ الْهِنْدِيَّةُ الْقُضُبُ وَلَا الرِّضَا وَالرِّضَا
لِلَّهِ غَايَتُهُ
إِلَى سِوَى الْحَقِّ يَدْعُوهُ وَلَا الْغَضَبُ قَدْ فَاضَ عَرْفُكَ حَتَّى مَا
يُعَادِلُهُ
غَيْثٌ مُغِيثٌ وَلَا بَحْرٌ لَهُ حَدَبُ
وَكَانَ قَدْ أَنْشَدَهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى خُرَاسَانَ:
أَلَمْ
تَرَ أَنَّ الْجُودَ مِنْ لَدْنِ آدَمَ تَحَدَّرَ حَتَّى صَارَ فِي رَاحَةِ
الْفَضْلِ
إِذَا مَا أَبُو الْعَبَّاسِ رَاحَتْ سَمَاؤُهُ فَيَا لَكَ مِنْ هَطِلٍ وَيَا لَكَ
مِنْ وَبْلِ
إِذَا أُمَّ طِفْلٍ رَاعَهَا جُوعُ طِفْلِهَا دَعَتْهُ بِإِسْمِ الْفَضْلِ
فَاسْتَطْعَمَ الطِّفْلُ
لِيَحْيَى بِكَ الْإِسْلَامُ إِنَّكَ عِزُّهُ وَإِنَّكَ مِنْ قَوْمٍ صَغِيرُهُمْ
كَهْلُ
قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو
جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ سَلْمٌ الْخَاسِرُ فِيهِمْ أَيْضًا:
وَكَيْفَ تَخَافُ مِنْ بُؤْسٍ بِدَارٍ تَكَنَّفَهَا الْبَرَامِكَةُ الْبُحُورُ
وَقَوْمٌ مِنْهُمُ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى نَفِيرٌ مَا يُوَازِنُهُ نَفِيرُ
لَهُ يَوْمَانِ يَوْمُ نَدًى وَبَأْسٍ كَأَنَّ الدَّهْرَ بَيْنَهُمَا أَسِيرُ
إِذَا مَا الْبَرْمَكِيُّ غَدَا ابْنَ عَشْرٍ فَهِمَّتُهُ أَمِيرٌ أَوْ وَزِيرُ
وَقَدِ اتَّفَقَ لِلْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى فِي هَذِهِ السَّفْرَةِ إِلَى خُرَاسَانَ
أَشْيَاءُ غَرِيبَةٌ، وَفَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً، مِنْهَا كَابُلُ وَمَا وَرَاءَ
النَّهْرِ، وَقَهَرَ مَلِكَ التُّرْكِ هُنَاكَ وَكَانَ مُمْتَنِعًا، وَأَطْلَقَ
أَمْوَالًا كَثِيرَةً جِدًّا، ثُمَّ قَفَلَ رَاجِعًا إِلَى بَغْدَادَ، فَلَمَّا
اقْتَرَبَ مِنْهَا خَرَجَ الرَّشِيدُ وَوُجُوهُ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَقَدِمَ
عَلَيْهِ الشُّعَرَاءُ وَالْخُطَبَاءُ وَأَكَابِرُ النَّاسِ، فَجَعَلَ يُطْلِقُ
الْأَلْفَ أَلْفٍ، وَالْخَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ وَنَحْوَهَا، فَصَرَفَ مِنَ
الْأَمْوَالِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا
جِدًّا
لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ إِلَّا بِكُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، وَالْبِدَرُ مَوْضُوعَةٌ مَخْتُومَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَهِيَ تُفَرَّقُ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:
كَفَى اللَّهُ بِالْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ وَجُودِ يَدَيْهِ بُخْلَ
كُلِّ بَخِيلِ
فَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُعَاوِيَةُ بْنُ زُفَرَ بْنِ عَاصِمٍ،
وَغَزَا الشَّاتِيَةَ سُلَيْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ نَائِبُ مَكَّةَ، كَرَّمَهَا
اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَبْثَرُ بْنُ الْقَاسِمِ،
وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ حَزْمٍ الْقَاضِي بِبَغْدَادَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الرَّشِيدُ، وَدُفِنَ
بِهَا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ قُدُومُ الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى مِنْ خُرَاسَانَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ
عَلَيْهَا عَمْرَو بْنَ شُرَحْبِيلَ، فَوَلَّى الرَّشِيدُ عَلَيْهَا مَنْصُورَ
بْنَ يَزِيدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْحِمْيَرِيَّ.
وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ عَنِ
الْحَجَبَةِ، وَرَدَّهَا إِلَى الْفَضْلِ بْنِ رَبِيعٍ.
وَفِيهَا خَرَجَ بِخُرَاسَانَ حَمْزَةُ بْنُ أَتْرَكَ السِّجِسْتَانِيُّ، وَكَانَ
مِنْ أَمْرِهِ مَا سَيَأْتِي طَرَفٌ مِنْ ذِكْرِهِ.
وَفِيهَا رَجَعَ الْوَلِيدُ بْنُ طَرِيفٍ الشَّارِي إِلَى الْجَزِيرَةِ،
وَاشْتَدَّتْ شَوْكَتُهُ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ
يَزِيدَ بْنَ مَزْيَدٍ الشَّيْبَانِيَّ، فَرَاوَغَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، وَتَفَرَّقَ
أَصْحَابُهُ، فَقَالَتِ الْفَارِعَةُ أُخْتُ الْوَلِيدِ بْنِ طَرِيفٍ تَرِثِيهِ:
أَيَا شَجَرَ الْخَابُورِ مَا لَكَ مُورِقًا كَأَنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ عَلَى ابْنِ
طَرِيفِ فَتًى لَا يُحِبُّ الزَّادَ إِلَّا مِنَ الْتُّقَى
وَلَا الْمَالَ إِلَّا مِنْ قَنًا وَسُيُوفِ
وَفِيهَا خَرَجَ الرَّشِيدُ مِنْ بَغْدَادَ مُعْتَمِرًا شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، فَلَمَّا قَضَى عُمْرَتَهُ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى حَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَمَشَى مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى، ثُمَّ إِلَى
عَرَفَاتٍ،
وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ وَالْمَشَاعِرَ كُلَّهَا مَاشِيًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى
بَغْدَادَ عَلَى طَرِيقِ الْبَصْرَةِ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ السَّادَةِ الْأَعْيَانِ
السَّيِّدُ الْحِمْيَرِيُّ الشَّاعِرُ الرَّافِضِيُّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ يَزِيدَ بْنِ رَبِيعَةَ، أَبُو هَاشِمٍ الْحِمْيَرِيُّ الْمُلَقَّبُ
بِالسَّيِّدِ، كَانَ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ، وَالْمُبَرَّزِينَ فِي
هَذِهِ الصِّنَاعَةِ الْمُفَوَّهِينَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ رَافِضِيًّا خَبِيثًا،
وَشِيعِيًّا غَثِيثًا، كَانَ مِمَّنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَقُولُ
بِالرَّجْعَةِ، أَيْ بِالدَّوْرِ.
قَالَ يَوْمًا لِرَجُلٍ: أَقْرِضْنِي دِينَارًا، وَلَكَ عِنْدِي مِائَةُ دِينَارٍ
إِذَا عُدْنَا إِلَى الدُّنْيَا. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ
تَعُودَ كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا، فَيَذْهَبُ مَالِي.
وَكَانَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، يَسُبُّ الصَّحَابَةَ فِي شِعْرِهِ وَيَشْتُمُ
الْخِيَرَةَ.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا قَدَّمْتُ عَلَيْهِ أَحَدًا فِي
طَبَقَتِهِ. وَلَا سِيَّمَا الشَّيْخَيْنِ وَابْنَيْهِمَا، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ، وَلَعَنَهُ وَأَسْحَقُهُ وَأَبْعَدَهُ.
وَقَدْ
أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ فِي ذَلِكَ كَرِهْتُ
كِتَابَتَهُ، وَقَدِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ وَأَصَابَهُ كَرْبٌ
شَدِيدٌ جِدًّا. وَلَمَّا مَاتَ لَمْ يَدْفِنُوهُ; لِسَبِّهِ الصَّحَابَةَ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ.
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. وَخَالِدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَشَرَى نَفْسَهُ
مِنَ اللَّهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ.
وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ الْإِمَامُ. وَالْهِقْلُ بْنُ زِيَادٍ صَاحِبُ
الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ. وَكُلُّهُمْ ذَكَرْنَاهُمْ فِي كِتَابِنَا
" التَّكْمِيلِ " بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ بِمَا يُغْنِي عَنْ
ذِكْرِهِمْ هَاهُنَا، وَلَكِنِ الْإِمَامُ مَالِكٌ هُوَ أَشْهَرُهُمْ، فَإِنَّهُ
أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْمُتَّبَعَةِ.
الْإِمَامُ مَالِكٌ
فَهُوَ مَالِكُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ غَيَمَانَ بْنِ خُثَيْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ
ذُو أَصْبَحَ الْحِمْيَرِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْمَدَنِيُّ،
إِمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ فِي زَمَانِهِ.
رَوَى عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ
الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمُ; السُّفْيَانَانِ، وَشُعْبَةُ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ،
وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ مَهْدِيٍّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَاللَّيْثُ
وَالشَّافِعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ شَيْخُهُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ شَيْخُهُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَيَحْيَى
بْنُ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ: مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَا كَانَ أَشَدَّ انْتِقَادِهِ لِلرِّجَالِ!
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كُلُّ مَنْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ فَهُوَ ثِقَةٌ،
إِلَّا أَبَا أُمَيَّةَ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ أَثْبَتُ أَصْحَابِ نَافِعٍ وَالزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا جَاءَ الْحَدِيثُ فَمَالِكٌ النَّجْمُ.
وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ أَرَادَ الْحَدِيثَ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مَالِكٍ.
وَمَنَاقِبُهُ
وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَثَنَاءُ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ
أَنَّ يُحْصَرَ فِي هَذَا الْمَكَانِ.
قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: مَا أَفْتَيْتُ حَتَّى شَهِدَ لِي
سَبْعُونَ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ.
وَكَانَ إِذَا أَرَادَ التَّحْدِيثَ تَنَظَّفَ وَتَطَيَّبَ، وَلَبِسَ أَحْسَنَ
ثِيَابِهِ، وَكَانَ يَلْبَسُ حَسَنًا. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: حَسْبِيَ=
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَكَانَ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ يَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ. وَكَانَ مَنْزِلُهُ مَبْسُوطًا بِأَنْوَاعِ الْفُرُشِ. وَمِنْ وَقْتِ
خُرُوجِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ لَزِمَ مَالِكٌ بَيْتَهُ،
فَلَمْ يَكُنْ يَتَرَدَّدُ إِلَى أَحَدٍ لَا لِعَزَاءٍ وَلَا لِهَنَاءٍ، حَتَّى
قِيلَ: وَلَا يَخْرُجُ إِلَى جَمَاعَةٍ وَلَا جُمْعَةٍ. وَيَقُولُ: مَا كَلُّ مَا
=يُعْلَمُ يُقَالُ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى الِاعْتِذَارِ. وَلَمَّا
احْتُضِرَ رَحِمَهُ اللَّهُ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ
وَمِنْ بَعْدُ. ثُمَّ قُبِضَ فِي لَيْلَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ،
وَقِيلَ: مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ خَمْسٌ
وَثَمَانُونَ سَنَةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: بَلَغَ تِسْعِينَ سَنَةً. وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ رَحِمَهُ
اللَّهُ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةَ: يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَلَا يَجِدُونَ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ ". ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ. وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " فَأَطْنَبَ وَأَتَى بِفَوَائِدَ جَمَّةٍ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا هَاجَتِ الْفِتْنَةُ بِالشَّامِ بَيْنَ النِّزَارِيَّةِ وَالْيَمَانِيَّةِ،
فَانْزَعَجَ الرَّشِيدُ لِذَلِكَ، فَنَدَبَ جَعْفَرًا الْبَرْمَكِيَّ إِلَى
الشَّامِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْجُنُودِ، فَدَخَلَ الشَّامَ،
فَانْقَادَ النَّاسُ لَهُ، وَلَمْ يَدَعْ جَعْفَرٌ بِالشَّامِ فَرَسًا وَلَا
سَيْفًا وَلَا رُمْحًا إِلَّا اسْتَلَبَهُ مِنَ النَّاسِ. وَأَطْفَأَ اللَّهُ بِهِ
نَارَ تِلْكَ الْفِتْنَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ:
لَقَدْ أُوقِدَتْ بِالشَّامِ نِيرَانُ فِتْنَةٍ فَهَذَا أَوَانُ الشَّامِ تُخْمَدُ
نَارُهَا إِذَا جَاشَ مَوْجُ الْبَحْرِ مِنْ آلِ بَرْمَكَ
عَلَيْهَا خَبَتْ شُهْبَانُهَا وَشِرَارُهَا رَمَاهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
بِجَعْفَرٍ
وَفِيهِ تَلَاقَى صَدْعُهَا وَانْجِبَارُهَا رَمَاهَا بِمَيْمُونِ النَّقِيبَةِ
مَاجِدٍ
تَرَاضَى بِهِ قَحْطَانُهَا وَنِزَارُهَا
ثُمَّ كَرَّ جَعْفَرٌ رَاجِعًا إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَمَا اسْتَخْلَفَ عَلَى
الشَّامِ عِيسَى ابْنَ الْعَكِّيِّ، وَلَمَّا قَدِمَ عَلَى الرَّشِيدِ أَكْرَمَهُ
وَقَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ، وَشَرَعَ جَعْفَرٌ يَذْكُرُ كَثْرَةَ وَحْشَتِهِ لَهُ
فِي الشَّامِ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ بِرُجُوعِهِ إِلَى
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَرُؤْيَتِهِ وَجْهَهُ.
وَفِيهَا وَلَّى الرَّشِيدُ جَعْفَرًا خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، فَاسْتَعْمَلَ
عَلَى ذَلِكَ مُحَمَّدَ
بْنَ
الْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ، ثُمَّ عَزَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرًا عَنْ خُرَاسَانَ
بَعْدَ عِشْرِينَ لَيْلَةً.
وَفِيهَا هَدَمَ الرَّشِيدُ سُورَ الْمَوْصِلِ ; بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْخَوَارِجِ
هُنَاكَ، وَجَعَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرًا عَلَى الْحَرَسِ، وَنَزَلَ الرَّشِيدُ
الرَّقَّةَ وَاسْتَوْطَنَهَا، وَاسْتَنَابَ عَلَى بَغْدَادَ ابْنَهُ الْأَمِينَ
مُحَمَّدًا، وَوَلَّاهُ الْعِرَاقَيْنِ، وَعَزَلَ هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ عَنْ
إِفْرِيقِيَّةَ وَاسْتَدْعَاهُ إِلَى بَغْدَادَ فَاسْتَنَابَهُ جَعْفَرٌ عَلَى
الْحَرَسِ.
وَفِيهَا كَانَتْ بِمِصْرَ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ سَقَطَ مِنْهَا رَأْسُ مَنَارَةِ
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ بِالْجَزِيرَةِ خُرَاشَةُ الشَّيْبَانِيُّ، فَقَتَلَهُ مُسْلِمُ
بْنُ بَكَّارِ بْنِ مُسْلِمٍ الْعُقَيْلِيُّ.
وَفِيهَا ظَهَرَتْ طَائِفَةٌ بِجُرْجَانَ يُقَالُ لَهُمُ: الْمُحَمِّرَةُ.
لَبِسُوا الْحُمْرَةَ، وَاتَّبَعُوا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ
الْعَمْرَكِيُّ. وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى الزَّنْدَقَةِ، فَبَعَثَ الرَّشِيدُ
يَأْمُرُ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ بِمَرْوَ، وَأَطْفَأَ اللَّهُ نَارَهُمْ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مُعَاوِيَةُ بْنُ زُفَرَ بْنِ عَاصِمٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْأَنْصَارِيُّ،
قَارِئُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ أَقَامَ
مُدَّةً
بِبَغْدَادَ يُؤَدِّبُ عَلِيًّا ابْنَ الْمَهْدِيِّ، حَتَّى تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ عَلِيٍّ ابْنِ الْمَهْدِيٍّ، وَقَدْ وَلِيَ إِمْرَةَ الْحَجِّ
غَيْرَ مَرَّةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنَ الرَّشِيدِ بِشُهُورٍ.
حَسَّانُ بْنُ سِنَانٍ
حَسَّانُ بْنُ سِنَانِ بْنِ أَوْفَى بْنِ عَوْفٍ التَّنُوخِيُّ الْأَنْبَارِيُّ،
وُلِدَ سَنَةَ سِتِّينَ، وَرَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَدَعَا لَهُ، فَجَاءَ مِنْ
نَسْلِهِ قُضَاةٌ وَوُزَرَاءُ وَصُلَحَاءُ، وَأَدْرَكَ الدَّوْلَتَيْنِ، وَكَانَ
نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ يَكْتُبُ
بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ، وَكَانَ يُعَرِّبُ
الْكُتُبَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِيعَةَ لَمَّا وَلَّاهُ السَّفَّاحُ الْأَنْبَارَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، أَحَدُ
الثِّقَاتِ.
وَعَافِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قَيْسٍ، الْقَاضِي لِلْمَهْدِيِّ عَلَى الْجَانِبِ
الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ هُوَ وَابْنُ عُلَاثَةَ، وَكَانَا يَحْكُمَانِ
بِجَامِعِ الرُّصَافَةِ، وَكَانَ عَافِيَةُ عَابِدًا زَاهِدًا وَرِعًا، دَخَلَ
يَوْمًا عَلَى الْمَهْدِيِّ فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَعْفِنِي. فَقَالَ:
لِمَ؟
أَعْتَرَضَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ كَانَ
بَيْنَ اثْنَيْنِ خُصُومَةٌ عِنْدِي، فَعَمَدَ أَحَدُهُمَا إِلَى رُطَبِ
السُّكَّرِ، وَكَأَنَّهُ سَمِعَ أَنِّي أُحِبُّهُ، فَأَهْدَى إِلَيَّ مِنْهُ
طَبَقًا لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَرَدَدْتُهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا
أَصْبَحَا وَجَلَسَا لِلْحُكُومَةِ، لَمْ يَسْتَوِيَا عِنْدِي فِي قَلْبِي وَلَا
نَظَرِي، وَمَالَ قَلْبِي إِلَى الْمُهْدِي مِنْهُمَا، هَذَا وَمَا قَبِلْتُ
مِنْهُ، فَكَيْفَ لَوْ قَبِلْتُ مِنْهُ؟! فَأَعْفِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. فَأَعْفَاهُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كُنْتُ عِنْدَ الرَّشِيدِ يَوْمًا وَعِنْدَهُ عَافِيَةُ
الْقَاضِي، وَقَدْ أَحْضَرَهُ لِأَنَّ قَوْمًا اسْتَعَدَوْا عَلَيْهِ إِلَى
الرَّشِيدِ، فَجَعَلَ الرَّشِيدُ يُوقِفُهُ عَلَى مَا قِيلَ عَنْهُ، وَهُوَ
يُجِيبُ الْخَلِيفَةَ عَمَّا يَسْأَلُهُ، وَطَالَ الْمَجْلِسُ، فَعَطَسَ
الْخَلِيفَةُ، فَشَمَّتَهُ النَّاسُ وَلَمْ يُشَمِّتْهُ عَافِيَةُ، فَقَالَ لَهُ:
لِمَ لَمْ تُشَمِّتْنِي مَعَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: لِأَنَّكَ لَمْ تَحْمَدِ اللَّهَ.
وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: ارْجِعْ إِلَى
عَمَلِكَ، فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ لِتَفْعَلَ مَا قِيلَ عَنْكَ، وَأَنْتَ لَمْ
تُسَامِحْنِي فِي عَطْسَةٍ. وَرَدَّهُ رَدًّا جَمِيلًا إِلَى وِلَايَتِهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ سِيبَوَيْهِ إِمَامُ النُّحَاةِ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ
بْنِ قَنْبَرٍ أَبُو بِشْرٍ، الْمَعْرُوفُ بِسِيبَوَيْهِ النَّحْوِيِّ، مَوْلَى
بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَقِيلَ: مَوْلَى آلِ الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ سِيبَوَيْهِ; لِأَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ تُرَقِّصُهُ وَتَقُولُ
لَهُ ذَلِكَ، وَمَعْنَى
سِيبَوَيْهِ:
رَائِحَةُ التُّفَّاحِ. وَقَدْ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ يَصْحَبُ
الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءَ، وَكَانَ يَسْتَمْلِي عَلَى حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، فَلَحَنَ يَوْمًا، فَرَدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَأَنِفَ مِنْ ذَلِكَ،
فَلَزِمَ الْخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدَ، فَبَرَعَ فِي النَّحْوِ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ
وَنَاظَرَ الْكِسَائِيَّ.
وَكَانَ سِيبَوَيْهِ شَابًّا جَمِيلًا نَظِيفًا، تَعَلَّقَ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ
بِسَبَبٍ، وَضَرَبَ فِي كُلِّ أَدَبٍ بِسَهْمٍ، مَعَ حَدَاثَةِ سِنِّهِ
وَبَرَاعَتِهِ فِي النَّحْوِ. وَقَدْ صَنَّفَ فِي النَّحْوِ كِتَابًا لَا يُلْحَقُ
شَأْوُهُ، وَشَرَحَهُ أَئِمَّةُ النُّحَاةِ بَعْدَهُ، فَانْغَمَرُوا فِي لُجُجِ
بَحْرِهِ، وَاسْتَخْرَجُوا مِنْ جَوَاهِرِ حَاصِلِهِ، وَلَمْ يَبْلُغُوا إِلَى
قَعْرِهِ. وَقَدْ زَعَمَ ثَعْلَبٌ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِتَصْنِيفِهِ، وَقَدْ
تَسَاعَدَ جَمَاعَةٌ فِي تَصْنِيفِهِ نَحْوٌ مَنْ أَرْبَعِينَ نَفَسًا، هُوَ
أَحَدُهُمْ. قَالَ: وَهُوَ أَصُولُ الْخَلِيلِ، فَادَّعَاهُ سِيبَوَيْهِ
لِنَفْسِهِ، وَقَدِ اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ السِّيرَافِيُّ فِي كِتَابِ "
طَبَقَاتِ النُّحَاةِ " قَالَ: وَقَدْ أَخَذَ سِيبَوَيْهِ اللُّغَاتِ عَنْ
أَبِي الْخَطَّابِ الْأَخْفَشِ وَغَيْرِهِ، وَكِتَابُهُ الْمَشْهُورُ "
بِالْكِتَابِ " لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ، وَلَا يَلْحَقُهُ فِيهِ
أَحَدٌ.
وَكَانَ سِيبَوَيْهِ يَقُولُ: سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْعَرُوبَةِ، وَالْعَرُوبَةُ
يَوْمُ الْجُمْعَةِ. وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ قَالَ: عَرُوبَةُ. فَقَدْ أَخْطَأَ.
فَذُكِرَ ذَلِكَ لِيُونُسَ فَقَالَ: أَصَابَ، لِلَّهِ دَرُّهُ.
وَقَدِ
ارْتَحَلَ إِلَى خُرَاسَانَ لِيَحْظَى عِنْدَ طَلْحَةَ بْنِ طَاهِرٍ، فَإِنَّهُ
كَانَ يُحِبُّ النَّحْوَ، فَمَرِضَ هُنَاكَ مَرَضَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ،
فَتَمَثَلَ عِنْدَ الْمَوْتِ:
يُؤَمِّلُ دُنْيَا لِتَبْقَى لَهُ فَمَاتَ الْمُؤَمِّلُ قَبْلَ الْأَمَلْ حَثِيثًا
يَرْوِي أُصُولَ الْفَسِيلِ
فَعَاشَ الْفَسِيلُ وَمَاتَ الرَّجُلْ
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ وَضَعَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِ أَخِيهِ،
فَدَمَعَتْ عَيْنُ أَخِيهِ، فَأَفَاقَ فَرَآهُ يَبْكِي، فَقَالَ:
وَكُنَّا جَمِيعًا فَرَّقَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا إِلَى الْأَمَدِ الْأَقْصَى فَمَنْ
يَأْمَنُ الدَّهَرَا
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَيُقَالُ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ وَعُمْرُهُ
ثِنْتَانِ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ عُفَيْرَةُ الْعَابِدَةُ، كَانَتْ طَوِيلَةَ الْحُزْنِ
كَثِيرَةَ الْبُكَاءِ، قَدِمَ قَرِيبٌ لَهَا مِنْ سَفَرٍ، فَجَعَلَتْ تَبْكِي،
فَقِيلَ لَهَا: لَيْسَ هَذَا وَقْتَ بُكَاءٍ! فَقَالَتْ: لَقَدْ ذَكَّرَنِي
قُدُومُ هَذَا الْفَتَى يَوْمَ الْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ، فَمِنْ مَسْرُورٍ
وَمَثْبُورٍ.
وَفِيهَا مَاتَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ شَيْخُ الشَّافِعِيِّ، كَانَ
مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ لِسُوءِ حِفْظِهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ بِلَادَ الرُّومِ،
فَافْتَتَحَ حِصْنًا يُقَالُ لَهُ: الصَّفْصَافُ. فَقَالَ فِي ذَلِكَ مَرْوَانُ
بْنُ أَبِي حَفْصَةَ:
إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصْطَفَى قَدْ تَرَكَ الصَّفْصَافَ قَاعًا
صَفْصَفًا
وَفِيهَا غَزَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ بِلَادَ الرُّومِ، فَبَلَغَ
أَنْقَرَةَ وَافْتَتَحَ مَطْمُورَةَ.
وَفِيهَا تَغَلَّبَتِ الْمُحَمِّرَةُ عَلَى جُرْجَانَ.
وَفِيهَا أَمَرَ الرَّشِيدُ أَنْ يُكْتَبَ فِي صُدُورِ الرَّسَائِلِ الصَّلَاةُ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الثَّنَاءِ عَلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الرَّشِيدُ وَتَعَجَّلَ فِي النَّفْرِ، وَسَأَلَهُ
يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ أَنْ يُعْفِيَهُ مِنَ الْوِلَايَةِ، فَأَعْفَاهُ وَأَقَامَ
يَحْيَى بِمَكَّةَ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ أَحَدُ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ الْعَبَّاسِيَّةِ،
وَحَمْزَةُ بْنُ مَالِكٍ، وَلِيَ إِمْرَةَ خُرَاسَانَ فِي أَيَّامِ الرَّشِيدِ.
وَخَلَفُ
بْنُ خَلِيفَةَ شَيْخُ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَرْوَزِيُّ،
كَانَ أَبُوهُ تُرْكِيًّا مَوْلًى لِرَجُلٍ مِنَ التُّجَّارِ مِنْ بَنِي
حَنْظَلَةَ مِنْ أَهْلِ هَمَذَانَ، فَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ إِذَا قَدِمَهَا
أَحْسَنَ إِلَى وَلَدِ مَوْلَاهُمْ، وَكَانَتْ أُمُّهُ خَوَارِزْمِيَّةً، وُلِدَ
سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَسَمِعَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ،
وَالْأَعْمَشَ، وَهِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ، وَحُمَيْدًا الطَّوِيلَ، وَغَيْرَهُمْ
مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ. وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلَائِقُ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ
مَوْصُوفًا بِالْحِفْظِ وَالْفِقْهِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالزُّهْدِ وَالْكَرَمِ
وَالشَّجَاعَةِ، وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْحِسَانُ، وَالشِّعْرُ الْمُتَضَمِّنُ حِكَمًا
جَمَّةً، وَكَانَ كَثِيرَ الْغَزْوِ وَالْحَجِّ، وَكَانَ لَهُ رَأْسُ مَالٍ نَحْوُ
أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ يَدُورُ يَتَّجِرُ بِهِ فِي الْبُلْدَانِ، فَحَيْثُ
اجْتَمَعَ بِعَالِمِ بَلْدَةٍ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَرْبُو كَسْبُهُ فِي
كُلِّ سَنَةٍ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ، يُنْفِقُهَا كُلَّهَا فِي أَهْلِ الْعِلْمِ
وَالْعِبَادَةِ، وَرُبَّمَا أَنْفَقَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: نَظَرْتُ فِي أَمْرِهِ وَأَمْرِ الصَّحَابَةِ،
فَمَا رَأَيْتُهُمْ يَفْضُلُونَ عَلَيْهِ إِلَّا بِصُحْبَتِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ: مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِثْلُهُ، وَمَا
أَعْلَمُ خَصْلَةً مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي ابْنِ
الْمُبَارَكِ، وَلِقَدْ حَدَّثَنِي أَصْحَابِي أَنَّهُمْ صَحِبُوهُ مِنْ
مِصْرَ
إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ يُطْعِمُهُمُ الْخَبِيصَ، وَهُوَ الدَّهْرَ صَائِمٌ.
وَقَدِمَ مَرَّةً إِلَى الرَّقَّةِ، وَبِهَا هَارُونُ الرَّشِيدُ، فَلَمَّا
دَخَلَهَا انْجَفَلَ النَّاسُ يُهْرَعُونَ إِلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَازْدَحَمَ
النَّاسُ حَوْلَهُ، فَأَشْرَفَتْ أُمُّ وَلَدٍ لِلرَّشِيدِ مِنْ قَصْرٍ هُنَاكَ
فَقَالَتْ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَقِيلَ لَهَا: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ عُلَمَاءِ
خُرَاسَانَ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ. فَانْجَفَلَ النَّاسُ
إِلَيْهِ. فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: هَذَا هُوَ الْمُلْكُ، لَا مُلْكَ هَارُونَ
الرَّشِيدِ الذى يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَيْهِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالرَّغْبَةِ
وَالرَّهْبَةِ.
وَخَرَجَ مَرَّةً إِلَى الْحَجِّ، فَاجْتَازَ بِبَعْضِ الْبِلَادِ، فَمَاتَ
طَائِرٌ مَعَهُمْ، فَأَمَرَ بِإِلْقَائِهِ عَلَى مَزْبَلَةٍ، وَسَارَ أَصْحَابُهُ
أَمَامَهُ وَتَخَلَّفَ هُوَ وَرَاءَهُمْ، فَلَمَّا مَرَّ بِالْمَزْبَلَةِ إِذَا
جَارِيَةٌ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ دَارٍ قَرِيبَةٍ مِنْهَا، فَأَخَذَتْ ذَلِكَ
الطَّائِرَ الْمَيِّتَ، فَكَشَفَ عَنْ أَمْرِهَا وَفَحَصَ، حَتَّى سَأَلَهَا، فَقَالَتْ:
أَنَا وَأُخْتِي هَاهُنَا، لَيْسَ لَنَا شَيْءٌ إِلَّا هَذَا الْإِزَارَ، وَقَدْ
حَلَّتْ لَنَا الْمَيْتَةُ، وَكَانَ أَبُونَا لَهُ مَالٌ= عَظِيمٌ، فَظُلِمَ
وَأُخِذَ مَالُهُ وَقُتِلَ. فَأَمَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ بِرَدِّ الْأَحْمَالِ،
وَقَالَ لِوَكِيلِهِ: كَمْ مَعَكَ مِنَ النَّفَقَةِ؟ فَقَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ.
فَقَالَ: عُدَّ مِنْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا تَكْفِينَا إِلَىمَرْوَ، وَأَعْطِهَا
الْبَاقِيَ، فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ حَجِّنَا فِي هَذَا الْعَامِ. ثُمَّ رَجَعَ.
وَكَانَ إِذَا عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ عَزَمَ مِنْكُمْ
عَلَى
الْحَجِّ؟
فَيَأْخُذُ مِنْهُمْ نَفَقَاتِهِمْ، وَيَكْتُبُ عَلَى كُلِّ صُرَّةٍ اسْمَ
صَاحِبِهَا وَيَجْمَعُهَا فِي صُنْدُوقٍ، ثُمَّ يَخْرُجُ بِهِمْ فِي أَوْسَعِ مَا
يَكُونُ مِنَ النَّفَقَاتِ وَالرُّكُوبِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّيْسِيرِ
عَلَيْهِمْ، فَإِذَا قَضَوْا حَجَّتَهُمْ يَقُولُ لَهُمْ: هَلْ أَوْصَاكُمْ
أَهْلُوكُمْ بِهَدِيَّةٍ؟ فَيَشْتَرِي لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا وَصَّاهُ
أَهْلُهُ مِنَ الْهَدَايَا الْمَكِّيَّةِ وَالْيَمَنِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا
جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةَ اشْتَرَى لَهُمْ مِنْهَا الْهَدَايَا الْمَدَنِيَّةَ،
فَإِذَا قَفَلُوا بَعَثَ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ إِلَى بُيُوتِهِمْ
فَأُصْلِحَتْ وَبُيِّضَتْ أَبْوَابُهَا وَرُمِّمَ شَعَثُهَا، فَإِذَا رَجَعُوا
إِلَى أَوْطَانِهِمْ عَمِلَ وَلِيمَةً بَعْدَ قُدُومِهِمْ وَدَعَاهُمْ فَأَكَلُوا
وَكَسَاهُمْ، ثُمَّ دَعَا بِذَلِكَ الصُّنْدُوقِ فَفَتَحَهُ وَأَخْرَجَ مِنْهُ
تِلْكَ الصُّرَرَ، ثُمَّ يُقْسِمُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ
نَفَقَتَهُ الَّتِي عَلَيْهَا اسْمُهُ، فَيَأْخُذُونَهَا وَيَنْصَرِفُونَ إِلَى
مَنَازِلِهِمْ وَهُمْ شَاكِرُونَ نَاشِرُونَ لِوَاءَ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ.
وَكَانَتْ سُفْرَتُهُ تُحْمَلُ عَلَى بَعِيرٍ وَحْدَهَا، وَفِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ
الْمَأْكُولِ مِنَ اللَّحْمِ وَالدَّجَاجِ وَالْحَلْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ،
يُطْعِمُهُ وَهُوَ صَائِمٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ.
وَسَأَلَهُ مَرَّةً سَائِلٌ، فَأَعْطَاهُ دِرْهَمًا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ
أَصْحَابِهِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يَأْكُلُونَ فِي غَدَائِهِمُ الشِّوَاءَ
وَالْفَالَوْذَجَ، وَقَدْ كَانَ يَكْفِيهِ قِطْعَةٌ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا
ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَأْكُلُ إِلَّا الْبَقْلَ وَالْخُبْزَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ
يَأْكُلُ الشِّوَاءَ وَالْفَالَوْذَجَ فَلَا بُدَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، يَا
غُلَامُ: رُدَّهُ وَأَعْطِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. وَفَضَائِلُهُ وَمَنَاقِبُهُ
وَمَآثِرُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَالَ
أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَبُولِهِ
وَجَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَعَدْلِهِ. تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ بِهَيْتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَمَضَانِهَا عَنْ ثَلَاثٍ
وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، وَلِيَ قَضَاءَ مِصْرَ مَرَّتَيْنِ، وَكَانَ دَيِّنًا
ثِقَةً، سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَ عَنْهُ الْأَمَلَ، فَأَذْهَبَهُ، فَكَانَ
بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُهَنِّئُهُ عَيْشٌ وَلَا شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا، فَسَأَلَ
اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ فَرَدَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى حَالِهِ.
وَيَعْقُوبُ التَّائِبُ الْعَابِدُ الْكُوفِيُّ، قَالَ عَلِيٌّ ابْنُ
الْمُوَفَّقِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ: خَرَجْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا
أَظُنُّ أَنِّي قَدْ أَصْبَحْتُ، فَإِذَا عَلَيَّ لَيْلٌ، فَجَلَسْتُ إِلَى بَابٍ
صَغِيرٍ، وَإِذَا شَابٌّ يَبْكِي وَهُوَ يَقُولُ: وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ مَا
أَرَدْتُ بِمَعْصِيَتِكَ مُخَالَفَتَكَ، وَلَكِنْ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي،
وَغَلَبَتْنِي شِقْوَتِي، وَغَرَّنِي سِتْرُكَ الْمُرْخَى عَلَيَّ، فَالْآنَ مِنْ
عَذَابِكَ مَنْ يَسْتَنْقِذُنِي؟ وَبِحَبْلِ مَنْ أَتَّصِلُ إِنْ قَطَعْتَ
حَبْلَكَ عَنِّي؟ وَاسَوْأَتَاهُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ أَيَّامِي فِي مَعْصِيَةِ
رَبِّي! يَا وَيْلِي كَمْ أَتُوبُ، وَكَمْ أَعُودُ! قَدْ حَانَ لِي أَنْ
أَسْتَحْيِيَ مِنْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ مَنْصُورٌ: فَقُلْتُ: أَعُوذُ
بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ
اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ التَّحْرِيمِ: 6 ].
قَالَ: فَسَمِعْتُ صَوْتًا وَاضْطِرَابًا شَدِيدًا، فَذَهَبْتُ لِحَاجَتِي،
فَلَمَّا أَصْبَحْتُ رَجَعْتُ، فَلَمَّا مَرَرْتُ عَلَى ذَلِكَ الْبَابِ، فَإِذَا
جِنَازَةٌ، فَسَأَلْتُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ مِنْ سَمَاعِ هَذِهِ الْآيَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا أَخَذَ الرَّشِيدُ لِوَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ الْبَيْعَةَ
بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ ابْنِ زُبَيْدَةَ
الْأَمِينِ، وَذَلِكَ بِالرَّقَّةِ بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الْحَجِّ، وَضَمَّ
ابْنَهُ الْمَأْمُونَ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى الْبَرْمَكِيِّ، ثُمَّ
أَرْسَلَهُ إِلَى بَغْدَادَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الرَّشِيدِ خَدَمَةً
لَهُ، وَوَلَّاهُ خُرَاسَانَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، وَسَمَّاهُ الْمَأْمُونَ.
وَفِيهَا رَجَعَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ الْبَرْمَكِيُّ مِنْ مُجَاوَرَتِهِ
بِمَكَّةَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
صَالِحٍ، فَبَلَغَ مَدِينَةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ.
وَفِيهَا سَمَلَتِ الرُّومُ عَيْنَيْ مَلِكِهِمْ قُسْطَنْطِينَ بْنِ أَلْيُونَ،
وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ أُمَّهُ رِينَى، وَتُلَقَّبُ أُغُسْطَةَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ الْحِمْصِيُّ أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ مِنْ أَئِمَّةِ
الشَّامِيِّينَ، وَفِيهِ كَلَامٌ.
وَمَرْوَانُ
بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ الْمَشْكُورُ، كَانَ يَمْدَحُ
الْخُلَفَاءَ وَالْبَرَامِكَةَ وَمَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ، وَكَانَ قَدْ تَحَصَّلَ
لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَبْخَلِ
النَّاسِ، لَا يَكَادُ يَأْكُلُ اللَّحْمَ مِنْ بُخْلِهِ، وَلَا يُشْعِلُ فِي
بَيْتِهِ سِرَاجًا، وَلَا يَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ إِلَّا الْكِرْبَاسَ
وَالْفَرْوَ الْغَلِيظَ، وَكَانَ رَفِيقُهُ سَلْمٌ الْخَاسِرُ إِذَا رَكِبَ إِلَى
دَارِ الْخِلَافَةِ يَأْتِي عَلَى بِرْذَوْنٍ، وَبَدْلَةٍ سَنِيَّةٍ تُسَاوِي
أَلْفَ دِينَارٍ، وَالطِّيبُ يَنْفُحُ مِنْ ثِيَابِهِ، وَيَأْتِي مَرْوَانَ فِي
شَرِّ حَالَةٍ وَأَسْوَئِهَا.
وَخَرَجَ يَوْمًا إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ: إِنْ
أَطْلَقَ لَكَ الْخَلِيفَةُ شَيْئًا فَاجْعَلْ لِي مِنْهُ شَيْئًا. فَقَالَ: إِنْ
أَعْطَانِي مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَكِ دِرْهَمٌ. فَأَعْطَاهُ سِتِّينَ
أَلْفًا، فَأَعْطَاهَا أَرْبَعَةَ دَوَانِيقَ. تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ.
وَالْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ حَبْتَةَ، وَهِيَ أُمُّهُ، وَأَبُوهُ بَحِيرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ،
وَسَعْدٌ هَذَا لَهُ صُحْبَةٌ، اسْتُصْغِرَ يَوْمَ
أُحُدٍ،
وَأَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي هَذَا كَانَ أَكْبَرَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ،
رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِيِنٍ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: تُوُفِّيَ أَبِي وَأَنَا
صَغِيرٌ، فَأَسْلَمَتْنِي أُمِّي إِلَى قَصَّارٍ، فَكُنْتُ أَمُرُّ عَلَى حَلْقَةِ
أَبِي حَنِيفَةَ، فَأَجْلِسُ فِيهَا، فَكَانَتْ أُمِّي تَتْبَعُنِي، فَتَأْخُذُ
بِيَدِي مِنَ الْحَلْقَةِ وَتَذْهَبُ بِي إِلَى الْقَصَّارِ، ثُمَّ كُنْتُ
أُخَالِفُهَا فِي ذَلِكَ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ
قَالَتْ أُمِّي لِأَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ هَذَا صَبِيٌّ يَتِيمٌ، لَيْسَ لَهُ
شَيْءٌ إِلَّا مَا أُطْعِمُهُ مِنْ مِغْزَلِي، وَإِنَّكَ قَدْ أَفْسَدْتَهُ
عَلَيَّ. فَقَالَ لَهَا: اسْكُتِي يَا رَعْنَاءُ، هَا هُوَ ذَا يَتَعَلَّمُ
الْعِلْمَ، وَسَيَأْكُلُ الْفَالَوْذَجَ بِدُهْنِ الْفُسْتُقِ. فَقَالَتْ لَهُ:
إِنَّكَ شَيْخٌ قَدْ خَرِفْتَ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَلَمَّا وَلِيتُ الْقَضَاءَ
- وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ الْهَادِي، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ
لُقِّبَ بِقَاضِي الْقُضَاةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: قَاضِي قُضَاةِ الدُّنْيَا.
لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَنِيبُ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا
الْخَلِيفَةُ - قَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ
الرَّشِيدِ إِذْ أُتِيَ بِفَالَوْذَجَ وَكُنْتُ لَا أَعْرِفُهَا، فَقَالَ لِي:
كُلْ مِنْ هَذَا; فَإِنَّهُ لَا يُصْنَعُ لَنَا كُلَّ وَقْتٍ. فَقُلْتُ: وَمَا
هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: هَذَا الْفَالَوْذَجُ. قَالَ:
فَتَبَسَّمْتُ، فَقَالَ: مَا لَكَ تَتَبَسَّمُ؟ فَقُلْتُ: لَا شَيْءَ، أَبْقَى
اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: لَتُخْبِرَنِّي: فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ
الْقِصَّةَ مِنْ أَوَّلِهَا، فَقَالَ: إِنَّ الْعِلْمَ يَنْفَعُ وَيَرْفَعُ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا حَنِيفَةَ، فَلِقَدْ
كَانَ يَنْظُرُ بِعَيْنِ عَقْلِهِ مَا لَا يَرَاهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ.
وَكَانَ
أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنَّهُ أَعْلَمُ أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: كَانَ أَبُو يُوسُفَ أَتْبَعَهُمْ لِلْحَدِيثِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: كَانَ صَدُوقًا. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: كَانَ
ثِقَةً. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: كَانَ سَلِيمًا مِنَ التَّجَهُّمِ.
وَقَالَ بَشَّارٌ الْخَفَّافُ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ: مَنْ قَالَ:
الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. فَحَرَامُ كَلَامُهُ، وَفَرْضٌ مُبَايَنَتُهُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ الَّذِي يَنْبَغِي كِتَابَتُهُ بِمَاءِ الذَّهَبِ قَوْلُهُ: مَنْ
طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ، وَمَنْ تَتَبَّعَ غَرَائِبَ الْحَدِيثِ
كَذَبَ، وَمَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ.
وَلَمَّا تَنَاظَرَ هُوَ وَمَالِكٌ بِالْمَدِينَةِ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ فِي
مَسْأَلَةِ الصَّاعِ وَزَكَاةِ الْخَضْرَاوَاتِ احْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا اسْتَدْعَى
بِهِ مِنْ تِلْكَ الصِّيعَانِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ،
وَبِأَنَّهُ لَمْ تَكُنِ الْخَضْرَاوَاتُ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ.
فَقَالَ: لَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْتُ لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْتُ. وَهَذَا
إِنْصَافٌ.
وَقَدْ كَانَ يَحْضُرُ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى طَبَقَاتِهِمْ،
حَتَّى إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ كَانَ شَابًّا، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ
فِي أَثْنَاءِ النَّاسِ، فَيَتَنَاظَرُونَ وَيَتَبَاحَثُونَ فِيهِ، وَهُوَ مَعَ
ذَلِكَ يَحْكُمُ وَيُصَنِّفُ أَيْضًا.
وَقَالَ:
وُلِّيتُ هَذَا الْحُكْمَ، وَأَرْجُو اللَّهَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ جَوْرٍ
وَلَا مَيْلٍ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا; جَاءَنِي رَجُلٌ فَذَكَرَ
أَنَّ لَهُ بُسْتَانًا، وَأَنَّهُ فِي يَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَدَخَلْتُ
إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَعْلَمْتُهُ، فَقَالَ: الْبُسْتَانُ لِي،
اشْتَرَاهُ لِي الْمَهْدِيُّ. فَقُلْتُ: إِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ
يُحْضِرَهُ لِأَسْمَعَ دَعْوَاهُ. فَأَحْضَرَهُ فَادَّعَى بِالْبُسْتَانِ،
فَقُلْتُ: مَا تَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: هُوَ بُسْتَانِي.
فَقُلْتُ لِلرَّجُلِ: قَدْ سَمِعْتَ مَا أَجَابَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَحْلِفُ.
فَقُلْتُ: أَتَحْلِفُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: لَا. فَقُلْتُ:
سَأَعْرِضُ عَلَيْكَ الْيَمِينَ ثَلَاثًا، فَإِنْ حَلَفْتَ وَإِلَّا حَكَمْتُ
عَلَيْكَ. فَعَرَضْتُهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَامْتَنَعَ، فَحَكَمْتُ
بِالْبُسْتَانِ لِلْمُدَّعِي. قَالَ: فَكُنْتُ فِي أَثْنَاءِ الْخُصُومَةِ أَوَدُّ
أَنْ نَنْفَصِلَ، وَلَمْ يُمْكِنِّي أَنْ أُجْلِسَ الرَّجُلَ مَعَ الْخَلِيفَةِ.
وَبَعَثَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ فِي تَسْلِيمِ الْبُسْتَانِ إِلَى الرَّجُلِ.
وَرَوَى الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ أَبِي
الْأَزْهَرِ، عَنْ حَمَّادِ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ - الْمَوْصِلِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا
ذَاتَ لَيْلَةٍ قَدْ نِمْتُ فِي الْفِرَاشِ، إِذَا رَسُولُ الْخَلِيفَةِ يَطْرُقُ
الْبَابَ، فَخَرَجْتُ مُنْزَعِجًا فَقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُوكَ.
فَذَهَبْتُ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ وَمَعَهُ عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ، فَقَالَ لِي
الرَّشِيدُ: إِنَّ هَذَا قَدْ طَلَبْتُ مِنْهُ جَارِيَةً يَهَبُنِيهَا، فَلَمْ
يَفْعَلْ، أَوْ يَبِيعُنِيهَا فَلَمْ يَفْعَلْ، وَإِنِّي أُشْهِدُكَ إِنْ لَمْ
يُجِبْنِي إِلَى ذَلِكَ قَتَلْتُهُ. فَقُلْتُ لِعِيسَى: لِمَ لَمْ تَفْعَلْ؟
فَقَالَ: إِنِّي حَالِفٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَصَدَقَةِ مَالِي كُلِّهِ
أَنْ لَا أَبِيعَهَا وَلَا أَهَبَهَا. فَقَالَ لِي الرَّشِيدُ: فَهَلْ لَهُ مِنْ
مَخْلَصٍ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، يَبِيعُكُ نِصْفَهَا، وَيَهَبُكَ نِصْفَهَا.
فَوَهَبَهُ النِّصْفَ، وَبَاعَهُ النِّصْفَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَقَبِلَ
مِنْهُ ذَلِكَ،
وَأُحْضِرَتِ
الْجَارِيَةُ، فَلَمَّا رَآهَا الرَّشِيدُ قَالَ: هَلْ لِي مِنْ سَبِيلٍ عَلَيْهَا
اللَّيْلَةَ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا مَمْلُوكَةٌ، وَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِبْرَائِهَا،
إِلَّا أَنْ تُعْتِقَهَا وَتَتَزَوَّجَهَا، فَإِنَّ الْحُرَّةَ لَا تُسْتَبْرَأُ.
قَالَ: فَأَعْتَقَهَا وَزَوَّجْتُهَا مِنْهُ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ،
وَأَمَرَ لِي بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعِشْرِينَ تَخْتًا مِنْ ثِيَابٍ،
وَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ الْجَارِيَةُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ.
قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَجَاءَتْهُ هَدِيَّةٌ
مِنْ ثِيَابٍ دَبِيقِيٍّ وَطِيبٍ وَتَمَاثِيلَ نِدٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
فَذَاكَرَنِي رَجُلٌ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِ: " مَنْ أُهْدِيَتْ لَهُ
هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ جُلُوسٌ فَهُمْ شُرَكَاؤُهُ ". فَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ: إِنَّمَا ذَاكَ فِي الْأَقِطِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَلَمْ تَكُنِ
الْهَدَايَا مَا تَرَوْنَ، يَا غُلَامُ، شِلْ إِلَى الْخَزَائِنِ.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ:
صَحِبْتُ أَبَا حَنِيفَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ انْصَبَّتْ عَلَيَّ
الدُّنْيَا سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَا أَظُنُّ أَجَلِي إِلَّا قَدِ اقْتَرَبَ.
فَمَا كَانَ شُهُورٌ حَتَّى مَاتَ.
وَقَدْ مَاتَ أَبُو يُوسُفَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
تِسْعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقَدْ مَكَثَ فِي الْقَضَاءِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً،
وَوَلِيَ الْقَضَاءَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ يُوسُفُ.
وَقَدْ
كَانَ نَائِبَهُ عَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ. وَمَنْ زَعَمَ
مِنَ الرُّوَاةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ اجْتَمَعَ بِأَبِي يُوسُفَ كَمَا يَقُولُهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلَوِيُّ الْكَذَّابُ فِي الرِّحْلَةِ الَّتِي
سَاقَهَا الشَّافِعِيُّ، فَقَدْ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ
إِنَّمَا وَرَدَ بَغْدَادَ فِي أَوَّلِ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا إِلَيْهَا فِي سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ. وَإِنَّمَا اجْتَمَعَ بِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ
الشَّيْبَانِيِّ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ
بَيْنَهُمَا شَنَآنٌ، كَمَا قَدْ يَذْكُرُهُ بَعْضُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ
بِهَذَا الشَّأْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ طَهْمَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ،
مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ السُّلَمِيِّ، اسْتَوْزَرَهُ الْمَهْدِيُّ،
وَسَلَّمَ إِلَيْهِ أَزِمَّةَ الْأُمُورِ، وَحَظِيَ عِنْدَهُ جِدًّا، ثُمَّ لَمَّا
أَمَرَهُ بِقَتْلِ ذَلِكَ الْعَلَوِيِّ فَأَرْسَلَهُ، وَنَمَّتْ عَلَيْهِ
الْجَارِيَةُ، وَتَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، سَجَنَهُ فِي بِئْرٍ،
وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ قُبَّةٌ، وَنَبَتَ عَلَيْهِ شَعْرٌ كَمَا يَنْبُتُ شَعْرُ
الْأَنْعَامِ، وَعَمِيَ، وَيُقَالُ: عَشِيَ بَصَرُهُ، وَمَكَثَ نَحْوًا مِنْ
خَمْسَ عَشْرَ سَنَةً فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَا يَرَى شَيْئًا، وَلَا يَسْمَعُ
صَوْتًا إِلَّا حِينَ الصَّلَوَاتِ يُعْلَمُ بِهِ، وَيُدَلَّى إِلَيْهِ فِي كُلِّ
يَوْمٍ رَغِيفٌ وَكُوزُ مَاءٍ، حَتَّى انْقَضَتْ أَيَّامُ الْمَهْدِيِّ وَأَيَّامُ
الْهَادِي وَصَدْرٌ مِنْ خِلَافَةِ الرَّشِيدِ، قَالَ يَعْقُوبُ: فَأَتَانِي آتٍ
فِي مَنَامِي فَقَالَ:
عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ
فَيَأَمَنَ خَائِفٌ وَيُفَكُّ عَانٍ
وَيَأْتِي أَهْلَهُ النَّائِي الْغَرِيبُ
فَلَمَّا
أَصْبَحْتُ نُودِيتُ فَظَنَنْتُ أَنِّي أُعْلَمُ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ، وَدُلِيَّ
إِلَيَّ حَبْلٌ، وَقِيلَ لِي: ارْبُطْ هَذَا الْحَبْلَ فِي وَسَطِكِ.
فَأَخْرَجُونِي، فَلَمَّا نَظَرْتُ إِلَى الضِّيَاءِ لَمْ أُبْصِرْ شَيْئًا،
وَأُوقِفْتُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ. فَظَنَنْتُهُ الْمَهْدِيَّ، فَسَلَّمْتُ
عَلَيْهِ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ، فَقَالَ: لَسْتُ بِهِ. قُلْتُ: فَالْهَادِي؟
فَقَالَ: لَسْتُ بِهِ. فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
الرَّشِيدَ. فَقَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمْ يَشْفَعْ فِيكَ
عِنْدِي أَحَدٌ، وَلَكِنِّي الْبَارِحَةَ حَمَلْتُ جَارِيَةً لِي صَغِيرَةً عَلَى
عُنُقِي، فَذَكَرْتُ حَمْلَكَ إِيَّايَ عَلَى عُنُقِكَ، فَرَحِمْتُ مَا أَنْتَ
فِيهِ مِنَ الضِّيقِ، فَأَخْرَجْتُكَ. ثُمَّ أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ
إِلَيْهِ. فَغَارَ مِنْهُ يَحْيِي بْنُ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، وَخَشِيَ أَنْ
يُعِيدَهُ إِلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا أَيَّامِ الْمَهْدِيِّ،
وَفَهِمَ ذَلِكَ يَعْقُوبُ، فَاسْتَأْذَنَ الْخَلِيفَةَ فِي الذَّهَابِ إِلَى
مَكَّةَ، فَأَذِنَ لَهُ، فَكَانَ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَبُو مُعَاوِيَةَ الْعَيْشِيُّ، كَانَ ثِقَةً عَالِمًا
عَابِدًا وَرِعًا، تُوُفِّيَ أَبُوهُ وَكَانَ وَالِيَ الْبَصْرَةِ، وَتَرَكَ مِنَ
الْمَالِ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا يَزِيدُ
دِرْهَمًا وَاحِدًا، وَكَانَ يَعْمَلُ الْخُوصَ، وَيَأْكُلُ مِنْهُ. وَتُوُفِّيَ
بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ قَبْلَ ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَتِ الْخَزَرُ عَلَى النَّاسِ مِنْ ثُلْمَةِ أَرْمِينِيَّةَ،
فَعَاثُوا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ فَسَادًا، وَسَبَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَأَهْلِ الذِّمَّةِ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ، وَقَتَلُوا بَشَرًا كَثِيرًا،
وَانْهَزَمَ نَائِبُ أَرْمِينِيَّةَ سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، فَأَرْسَلَ الرَّشِيدُ
إِلَيْهِمْ خُزَيْمَةَ بْنَ خَازِمٍ وَيَزِيدَ بْنَ مَزْيَدٍ فِي جُيُوشٍ
كَثِيفَةٍ، إِلَى تِلْكَ الْبِلَادِ فَأَصْلَحُوا مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ
الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى الْهَادِي.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ عَلِيُّ بْنُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فِي
حَيَاةِ أَبِيهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْخَوْفِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ صُبَيْحٍ أَبُو الْعَبَّاسِ، مَوْلَى بَنِي عِجْلٍ،
الْمُذَكِّرُ. وَيُعْرَفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ. رَوَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
أَبِي خَالِدٍ وَالْأَعْمَشِ وَالثَّوْرِيِّ وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ
وَغَيْرِهِمْ.
وَدَخَلَ
يَوْمًا عَلَى الرَّشِيدِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ لَكَ بَيْنَ
يَدَيِ اللَّهِ مَوْقِفًا، فَانْظُرْ أَيْنَ مُنْصَرَفُكَ; إِلَى الْجَنَّةِ أَمْ
إِلَى النَّارِ؟ فَبَكَى الرَّشِيدُ حَتَّى كَادَ يَمُوتُ.
وَمُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْهَاشِمِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ:
الْكَاظِمُ. وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ
كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْمُرُوءَةِ، إِذَا بَلَغَهُ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ
يُؤْذِيهِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالتُّحَفِ وَالذَّهَبِ، وُلِدَ لَهُ مِنَ
الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ أَرْبَعُونَ نَسَمَةً. وَأَهْدَى لَهُ مَرَّةً عَبْدٌ
عَصِيدَةً فَاشْتَرَاهُ وَاشْتَرَى الْمَزْرَعَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا بِأَلْفِ
دِينَارٍ، وَأَعْتَقَهُ، وَوَهَبَهَا لَهُ.
وَقَدِ اسْتَدْعَاهُ الْمَهْدِيُّ إِلَى بَغْدَادَ فَحَبَسَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي
بَعْضِ اللَّيَالِي رَأَى الْمَهْدِيُّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ يَقُولُ
لَهُ: يَا مُحَمَّدُ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [ مُحَمَّدٍ: 22 ]. فَاسْتَيْقَظَ
مَذْعُورًا، وَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ مِنَ السِّجْنِ لَيْلًا، فَأَجْلَسَهُ
مَعَهُ، وَعَانَقَهُ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ أَنْ لَا
يَخْرُجَ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا
هَذَا مِنْ شَأْنِي. فَقَالَ: صَدَقْتَ. وَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثَةِ آلَافِ
دِينَارٍ، وَأَمَرَ بِهِ فَرُدَّ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ
إِلَّا وَهُوَ عَلَى الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَزَلْ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى كَانَتْ
خِلَافَةُ الرَّشِيدِ فَحَجَّ، فَلَمَّا دَخَلَ لِيُسَلِّمَ عَلَى قَبْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ،
فَقَالَ الرَّشِيدُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا ابْنِ عَمِّ.
فَقَالَ مُوسَى: السَّلَامُ عَلَيْكَ
يَا
أَبَهْ. فَقَالَ الرَّشِيدُ: هَذَا هُوَ الْفَخْرُ يَا أَبَا الْحَسَنِ. ثُمَّ
لَمْ يَزَلْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ حَتَّى اسْتَدْعَاهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ
وَسَبْعِينَ، وَسَجَنَهُ فَأَطَالَ سِجْنَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُوسَى رِسَالَةً
يَقُولُ فِيهَا: أَمَّا بَعْدُ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ لَنْ
يَنْقَضِيَ عَنِّي يَوْمٌ مِنَ الْبَلَاءِ إِلَّا انْقَضَى عَنْكَ يَوْمٌ مِنَ
الرَّخَاءِ، حَتَّى يُفْضِيَ بِنَا ذَلِكَ إِلَى يَوْمٍ يَخْسَرُ فِيهِ
الْمُبْطِلُونَ. تُوُفِّيَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
بِبَغْدَادَ، وَقَبْرُهُ هُنَاكَ مَشْهُورٌ.
هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ أَبِي خَازِمٍ الْقَاسِمِ بْنِ دِينَارٍ، أَبُو
مُعَاوِيَةَ السُّلَمِيُّ الْوَاسِطِيُّ، كَانَ أَبُوهُ طَبَّاخًا لِلْحَجَّاجِ
بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَبِيعُ الصَّحْنَاةَ
وَالْكَوَامِخَ، وَكَانَ يَمْنَعُ ابْنَهُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِيُسَاعِدَهُ
عَلَى صِنَاعَتِهِ، فَيَأْبَى إِلَّا أَنْ يَسْمَعَ الْحَدِيثَ. فَاتَّفَقَ أَنَّ
هُشَيْمًا مَرِضَ، فَجَاءَهُ أَبُو شَيْبَةَ قَاضِي وَاسِطَ لِيَعُودَهُ، وَمَعَهُ
خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ بَشِيرٌ فَرِحَ بِذَلِكَ وَقَالَ لَهُ: يَا
بُنَيَّ، أَبَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ أَنْ جَاءَ الْقَاضِي إِلَى مَنْزِلِي؟! لَا
أَمْنَعُكَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مِنْ طَلَبِ الْحَدِيثِ.
كَانَ مِنْ سَادَاتِ الْعُلَمَاءِ، حَدَّثَ عَنْهُ; مَالِكٌ، وَشُعْبَةُ،
وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ، وَكَانَ مِنَ الصُّلَحَاءِ
الْعُبَّادِ. مَكَثَ يُصَلِّي
الصُّبْحَ
بِوُضُوءِ الْعَشَاءِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ عَشْرَ سِنِينَ.
يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَاضِي الْمَدَائِنِ كَانَ مِنَ
الْأَئِمَّةِ الثِّقَاتِ.
يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، أَحَدُ النُّحَاةِ النُّجَبَاءِ، وَقَدْ أَخَذَ عَنْ أَبِي
عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَغَيْرِهِ، وَأَخَذَ عَنْهُ الْكِسَائِيُّ
وَالْفَرَّاءُ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ بِالْبَصْرَةِ يَنْتَابُهَا أَهْلُ
الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَالْفُصَحَاءُ مِنَ الْحَاضِرِينَ وَالْعَرَبِ. تُوُفِّيَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا رَجَعَ الرَّشِيدُ مِنَ الرَّقَّةِ إِلَى بَغْدَادَ، فَأَخَذَ النَّاسَ
بِأَدَاءِ بَقَايَا الْخَرَاجِ الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَوَلَّى رَجُلًا يَضْرِبُ
النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ وَيَحْبِسُ، وَوَلَّى عَلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ، وَعَزَلَ
وَقَطَعَ وَوَصَلَ.
وَخَرَجَ بِالْجَزِيرَةِ أَبُو عَمْرٍو الشَّارِي، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ
مَنْ قَتَلَهُ بِشَهْرَزُورَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ الْعَبَّاسِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدِ كَانَ زَاهِدًا عَابِدًا قَدْ
تَنَسَّكَ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ، يَعْمَلُ فِي
الطِّينِ، وَلَيْسَ يَمْلِكُ إِلَّا مَرًّا وَزِنْبِيلًا - أَيْ مِجْرَفَةً
وَقُفَّةً - وَكَانَ أُجْرَتُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَعْمَلُ فِيهِ مِنَ الْجُمْعَةِ
إِلَى الْجُمْعَةِ دِرْهَمًا وَدَانِقًا، وَكَانَ لَا يَعْمَلُ إِلَّا فِي يَوْمِ
السَّبْتِ فَقَطْ، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى الْعِبَادَةِ بَقِيَّةَ أَيَّامِ
الْجُمْعَةِ، وَكَانَ مِنْ زُبَيْدَةَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَالصَّحِيحُ
أَنَّهُ مِنَ امْرَأَةٍ غَيْرِهَا كَانَ الرَّشِيدُ قَدْ أَحَبَّهَا
فَتَزَوَّجَهَا سِرًّا، فَحَمَلَتْ مِنْهُ بِهَذَا الْغُلَامِ ثُمَّ أَحْدَرَهَا
إِلَى الْبَصْرَةِ وَأَعْطَاهَا خَاتَمًا مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ، وَأَشْيَاءَ
مَعَهَا
نَفِيسَةً، وَأَمَرَهَا إِذَا أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ أَنْ تَأْتِيَهُ. فَلَمَّا صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ لَمْ تَأْتِهِ وَلَا وَلَدُهَا، وَبَلَغَهُ أَنَّهُمَا مَاتَا، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَكَانَ هَذَا الشَّابُّ يَعْمَلُ بِيَدِهِ، وَيَأْكُلُ مِنْ كَدِّهَا، فَاتَّفَقَ مَرَضُهُ فِي دَارِ مَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُهُ فِي الطِّينِ، فَمَرَّضَهُ عِنْدَهُ، فَلَمَّا احْتُضِرَ أَخْرَجَ الْخَاتَمَ، وَقَالَ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ: اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى الرَّشِيدِ، وَقُلْ لَهُ: صَاحِبُ هَذَا الْخَاتَمِ يَقُولُ لَكَ: إِيَّاكَ أَنْ تَمُوتَ فِي سَكْرَتِكَ هَذِهِ فَتَنْدَمَ فَلَمَّا مَاتَ وَدَفَنَهُ وَطَلَبَ الْحُضُورَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟ قُلْتُ: هَذَا الْخَاتَمُ دَفَعَهُ إِلَيَّ رَجُلٌ، وَأَوْصَانِي أَنْ أَقُولَ لَكَ كَلَامًا. فَلَمَّا نَظَرَ عَرَفَهُ فَقَالَ: وَيْحَكَ! وَأَيْنَ صَاحِبُ الْخَاتَمِ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: مَاتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ يَقُولُ لَكَ: احْذَرْ أَنْ تَمُوتَ فِي سَكْرَتِكَ فَتَنْدَمَ. قَالَ: فَقَامَ الرَّشِيدُ فَضَرَبَ بِنَفْسِهِ الْبِسَاطَ وَجَعَلَ يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَدْ نَصَحْتَنِي يَا بُنَيَّ. ثُمَّ قَالَ: أَتَعْرِفُ قَبْرَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِذَا كَانَ الْعَشِيُّ فَأْتِنِي. فَأَتَيْتُهُ، فَذَهَبَ إِلَى قَبْرِهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي عِنْدَهُ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ أَمَرَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَكَتَبَ لَهُ وَلِعِيَالِهِ رِزْقًا.
عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ
الْعَوَّامِ، أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ، وَالِدُ بَكَّارٍ.
أَلْزَمَهُ الْخَلِيفَةُ الرَّشِيدُ بِوِلَايَةِ الْمَدِينَةِ، فَقَبِلَهَا
بِشُرُوطٍ عِدَّةٍ اشْتَرَطَهَا، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَضَافَ
إِلَيْهِ نِيَابَةَ الْيَمَنِ، وَكَانَ مِنْ أَعْدَلِ الْوُلَاةِ، وَكَانَ
عُمْرُهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيُّ أَدْرَكَ أَبَا طُوَالَةَ،
وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا،
وَعَظَ الرَّشِيدَ يَوْمًا فَأَطْنَبَ وَأَطْيَبَ; قَالَ لَهُ وَهُوَ وَاقِفٌ
عَلَى الصَّفَا: انْظُرْ كَمْ حَوْلَهَا مِنَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: بَشَرٌ كَثِيرٌ.
فَقَالَ: كُلٌّ مِنْهُ يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ خَاصَّةِ نَفْسِهِ،
وَأَنْتَ تُسْأَلُ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ. فَبَكَى الرَّشِيدُ بُكَاءً كَثِيرًا،
وَجَعَلُوا يَأْتُونَهُ بِمَنْدِيلٍ بَعْدَ مَنْدِيلٍ لِلدُّمُوعِ. ثُمَّ قَالَ
لَهُ: يَا هَارُونُ، إِنَّ الرَّجُلَ لِيُسْرِعُ فِي مَالِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ
عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُسْرِعُ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ؟!
ثُمَّ تَرَكَهُ وَانْصَرَفَوَالرَّشِيدُ يَبْكِي. وَلَهُ مَعَهُ مَوَاقِفُ
مَحْمُودَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. تُوُفِّيَ عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ
سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مَعْدَانَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبِهَانِيُّ،
أَدْرَكَ التَّابِعِينَ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالتَّعَبُّدِ وَالزَّهَادَةِ. وَكَانَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ يُسَمِّيهِ عَرُوسَ الزُّهَّادِ.
وَقَالَ
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَكَانَ
كَأَنَّهُ قَدْ عَايَنَ.
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ. قَالُوا: وَكَانَ لَا يَشْتَرِي
زَادَهُ مِنْ خَبَّازٍ وَاحِدٍ، وَلَا مِنْ بَقَّالٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَشْتَرِي
إِلَّا مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ، يَقُولُ: أَخْشَى أَنْ يُحَابُونِي فَأَكُونَ
مِمَّنْ يَعِيشُ بِدِينِهِ. وَكَانَ لَا يَضَعُ جَنْبَهُ لِلنَّوْمِ صَيْفًا وَلَا
شِتَاءً. وَمَاتَ وَلَمْ يُجَاوِزِ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا قَتَلَ أَهْلُ طَبَرِسْتَانَ مُتَوَلِّيَهُمْ مَهْرَوَيْهِ الرَّازِيَّ،
فَوَلَّى الرَّشِيدُ عَلَيْهِمْ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ
الْحَرِشِيَّ.
وَفِيهَا قَتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَبْنَاوِيُّ أَبَانَ بْنَ قَحْطَبَةَ
الْخَارِجِيَّ بِمَرَجِ الْقَلْعَةِ.
وَفِيهَا عَاثَ حَمْزَةُ الشَّارِي بِبَاذَغِيسَ مِنْ خُرَاسَانَ، فَنَهَضَ عِيسَى
بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى إِلَى عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ جَيْشِ حَمْزَةَ،
فَقَتَلَهُمْ، وَسَارَ وَرَاءَ جَيْشِ حَمْزَةَ إِلَى كَابُلَ وَزَابُلِسْتَانَ.
وَفِيهَا خَرَجَ أَبُو الْخَصِيبِ فَتَغَلَّبَ عَلَى أَبِيوَرْدَ وَطُوسَ
وَنَيْسَابُورَ، وَحَاصَرَ مَرْوَ وَقَوِيَ أَمْرُهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ بِبَرْذَعَةَ، فَوَلَّى الرَّشِيدُ
مَكَانَهُ ابْنَهُ أَسَدَ بْنَ يَزِيدَ. وَاسْتَأْذَنَ الْوَزِيرُ يَحْيَى بْنُ
خَالِدٍ الْخَلِيفَةَ فِي أَنْ يَعْتَمِرَ فِي رَمَضَانَ، فَأَذِنَ لَهُ،
فَاعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ رَابَطَ بِجُدَّةَ إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ
فَحَجَّ مَعَ النَّاسِ، وَكَانَ أَمِيرَ الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَنْصُورُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ.
ذِكْرُ
مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ، عَمُّ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ، وُلِدَ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، وَكَانَ ضَخْمَ الْخَلْقِ جَدًّا وَلَمْ يُبَدِّلْ
أَسْنَانَهُ، وَكَانَتْ أُصُولُهَا صَفِيحَةً وَاحِدَةً. وَقَدْ قَالَ
يَوْمًالِلرَّشِيدِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا مَجْلِسٌ اجْتَمَعَ فِيهِ
عَمُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَمُّ عَمِّهِ، وَعَمُّ عَمِّ عَمِّهِ. وَذَلِكَ
أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ عَمُّ الرَّشِيدِ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَمُّ سُلَيْمَانَ، وَعَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ عَمُّ
الْعَبَّاسِ، وَتَلْخِيصُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الصَّمَدِ عَمُّ عَمِّ عَمِّ
الرَّشِيدِ، لِأَنَّهُ عَمُّ جَدِّهِ.
رَوَى عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ
الْبَرَّ وَالصِّلَةَ لَيُطِيلَانِ الْأَعْمَارَ، وَيُعَمِّرَانِ الدِّيَارَ،
وَيُثْرِيَانِ الْأَمْوَالَ، وَلَوْ كَانَ الْقَوْمُ فُجَّارًا ". وَبِهِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ
الْبَرَّ وَالصِّلَةَ لَيُخَفِّفَانِ سُوءَ الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
". ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ " [ الرَّعْدِ: 21 ]. وَغَيْرَ
ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ، الْمَعْرُوفُ
بِالْإِمَامِ،
كَانَ يَلِي إِمَارَةَ الْحَاجِّ وَإِقَامَةَ شَعَائِرِ الْحَجِّ فِي خِلَافَةِ
الْمَنْصُورِ عِدَّةَ سِنِينَ. تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فَصَلَّى عَلَيْهِ
الْأَمِينُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِالْعَبَّاسِيَّةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنْ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ ضِمَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
وَعُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَالْمُطَّلِبُ بْنُ زِيَادٍ، وَالْمُعَافَى بْنُ
عُمْرَانَ فِي قَوْلٍ، وَيُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ
الْفَزَارِيُّ، إِمَامُ أَهْلِ الشَّامِ بَعْدَ الْأَوْزَاعِيِّ فِي الْمَغَازِي
وَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ.
رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ، هِيَ رَابِعَةُ بِنْتُ إِسْمَاعِيلَ الْعَدَوِيَّةُ
مَوْلَاةُ آلِ عَتِيكٍ، الْبَصَرِيَّةُ الْعَابِدَةُ الْمَشْهُورَةُ. ذَكَرَهَا
الْقُشَيْرِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي "
الْحِلْيَةِ "،
وَابْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي " صِفَةِ الصَّفْوَةِ "، وَالشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ
السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي " الْمَعَارِفِ " وَأَثْنَى عَلَيْهَا أَكْثَرُ
النَّاسِ، وَتَكَلَّمَ فِيهَا أَبُو دُوَادَ السِّجِسْتَانِيُّ، وَاتَّهَمَهَا بِالزَّنْدَقَةِ،
فَلَعَلَّهُ بَلَغَهُ عَنْهَا أَمْرٌ. وَأَنْشَدَ لَهَا السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي
" الْمَعَارِفِ ":
إِنِّي جَعَلْتُكَ فِي الْفُؤَادِ مُحَدِّثِي وَأَبَحْتُ جِسْمِي مَنْ أَرَادَ
جُلُوسِي فَالْجِسْمُ مِنِّى لِلْجَلِيسِ مُؤَانِسٌ
وَحَبِيبُ قَلْبِي فِي الْفُؤَادِ أَنِيسِي
وَقَدْ ذُكِرَ لَهَا أَحْوَالٌ وَأَعْمَالٌ صَالِحَةٌ، وَقِيَامُ لَيْلٍ وَصِيَامُ
نَهَارٍ، وَرُؤِيَتْ لَهَا مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَتُوُفِّيَتْ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَقَبْرُهَا
شَرْقِيُّهُ بِالطُّورِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ مِنْ مَرْوَ لِحَرْبِ أَبِي
الْخَصِيبِ إِلَى نَسَا، فَقَاتَلَهُ بِهَا، وَسَبَى نِسَاءَهُ وَذَرَارِيَّهُ،
وَاسْتَقَامَتْ خُرَاسَانُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ، وَمَعَهُ
ابْنَاهُ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَأْمُونُ، فَبَلَغَ جُمْلَةُ
مَا أَعْطَى لِأَهْلِ الْحَرَمَيْنِ أَلْفَ أَلْفَ دِينَارٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي، ثُمَّ يَذْهَبُ النَّاسُ مِنْ بَعْدِهِ
إِلَى وَلَدِهِ الْأَمِينِ فَيُعْطِي، ثُمَّ يَذْهَبُونَ إِلَى وَلَدِهِ عَبْدِ
اللَّهِ الْمَأْمُونِ فَيُعْطِي.
وَكَانَ إِلَى الْأَمِينِ وِلَايَةُ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَإِلَى الْمَأْمُونِ
مِنْ هَمَذَانَ إِلَى بِلَادِ الْمَشْرِقِ. ثُمَّ بَايَعَ الرَّشِيدُ لِوَلَدِهِ
الْقَاسِمِ مِنْ بَعْدِ أَخَوَيْهِ، وَلَقَّبَهُ الْمُؤْتَمَنَ، وَوَلَّاهُ
الْجَزِيرَةَ وَالثُّغُورَ وَالْعَوَاصِمَ، وَكَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ
أَنَّ ابْنَهُ الْقَاسِمَ هَذَا كَانَ فِي حِجْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ،
فَلَمَّا بَايَعَ الرَّشِيدُ لِوَلَدَيْهِ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ كَتَبَ
إِلَيْهِ:
يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الَّذِي لَوْ كَانَ نَجْمًا كَانَ سَعْدَا اعْقِدْ
لِقَاسِمِ بَيْعَةً
وَاقْدَحْ لَهُ فِي الْمُلْكِ زَنْدَا اللَّهُ فَرْدٌ وَاحِدٌ
فَاجَعَلْ وُلَاةَ الْعَهْدِ فَرْدَا
فَفَعَلَ
الرَّشِيدُ ذَلِكَ، وَقَدْ حَمِدَهُ قَوْمٌ عَلَى ذَلِكَ، وَذَمَّهُ آخَرُونَ،
وَلَمْ يَنْتَظِمْ لِلْقَاسِمِ هَذَا أَمْرٌ، بَلِ اخْتَرَمَتْهُ الْأَقْدَارُ
عَنْ بُلُوغِ الْأَوْطَارِ.
وَلَمَّا قَضَى الرَّشِيدُ حَجَّهُ وَمَنَاسِكَهُ أَحْضَرَ مِنْ مَعَهُ مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ، وَأَحْضَرَ وَلِيِّيَ الْعَهْدِ; مُحَمَّدًا
الْأَمِينَ وَعَبْدَ اللَّهِ الْمَأْمُونَ، وَأَشْهَدَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا
السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لِأَخِيهِ، وَأَلَّا يُنَازِعَهُ مَا وَلَّاهُ اللَّهُ
مِنْ ذَلِكَ، وَكَتَبَ بِمَضْمُونِ ذَلِكَ صَحِيفَةً، وَكَتَبَ فِيهَا
الْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ خُطُوطَهُمْ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بِذَلِكَ،
وَأَرَادَ الرَّشِيدُ أَنْ يُعَلِّقَهَا فِي الْكَعْبَةِ فَسَقَطَتْ، فَقِيلَ:
هَذَا الْأَمْرُ سَرِيعٌ انْتِقَاضُهُ. وَكَذَا وَقَعَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ فِي عَقْدِ هَذِهِ الْبَيْعَةِ فِي
الْكَعْبَةِ:
خَيْرُ الْأُمُورِ مَغَبَّةً وَأَحَقُّ أَمْرٍ بِالتَّمَامِ
أَمْرٌ قَضَى أَحْكَامَهُ الرَّ حْمَنُ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ
وَقَدْ أَطَالَ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَبُو جَعْفَرٍ ابْنُ جَرِيرٍ
وَتَبِعَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظَمِ "
أَيْضًا.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَصْبَغُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَبُو زَبَّانَ
فِي رَمَضَانَ مِنْهَا.
وَحَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَاضِي كَرْمَانَ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ.
سَلْمٌ
الْخَاسِرُ الشَّاعِرُ، وَهُوَ سَلْمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَمَّادِ بْنِ عَطَاءٍ،
وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: الْخَاسِرُ. لِأَنَّهُ بَاعَ مُصْحَفًا وَاشْتَرَى بِهِ
دِيوَانَ شِعْرٍ لِامْرِئِ الْقَيْسٍ. وَقِيلَ لِلْأَعْشَى. وَقِيلَ: طُنْبُورًا:
وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَنْفَقَ مِائَتَيْ أَلْفٍ فِي صِنَاعَةِ الْأَدَبِ. وَقَدْ
كَانَ شَاعِرًا مُطَبِّقًا، لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْإِنْشَاءِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ،
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى الْهَادِي:
مُوسَى الْمَطَرْ غَيْثُ بَكَرْ ثُمَّ انْهَمَرْ
كَمِ اعْتَسَرْ ثُمَّ ايْتَسَرْ
وَكَمْ قَدَرْ ثُمَّ غَفَرْ
عَدْلُ السِّيَرْ بَاقِي الْأَثَرْ
خَيْرُ الْبَشَرْ فَرْعُ مُضَرْ
بَدْرٌ بَدَرْ لِمَنْ نَظَرْ
هُوَ الْوَزَرْ لِمَنْ حَضَرْ
وَالْمُفْتَخَرْ لِمَنْ غَبَرْ
وَالْمُجْتَبَرْ لِمَنْ عَثَرْ
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّهُ كَانَ عَلَى طَرِيقَةٍ غَيْرِ
مَرْضِيَّةٍ مِنَ الْمُجُونِ وَالْفِسْقِ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ تَلَامِيذِ
بَشَّارِ بْنِ بُرْدٍ، وَأَنَّ نَظْمَهُ أَحْسَنُ مِنْ نَظْمِ بِشَّارٍ، فَمِمَّا
غَلَبَ
فِيهِ
بَشَّارًا قَوْلُ بَشَّارٍ:
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ لَمْ يَظْفَرْ بِحَاجَتِهِ وَفَازَ بِالطَّيِّبَاتِ
الْفَاتِكُ اللَّهِجْ
فَقَالَ سَلْمٌ:
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَاتَ غَمًّا وَفَازَ بِاللَّذَّةِ الْجَسُورُ
فَغَضِبَ بَشَّارٌ وَقَالَ: أَخَذَ مَعَانِيَّ فَكَسَاهَا أَلْفَاظًا أَخَفَّ مِنْ
أَلْفَاظِي.
وَقَدْ حَصَلَ لَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالْبَرَامِكَةِ نَحْوٌ مَنْ أَرْبَعِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ، وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا مَاتَ تَرَكَ سِتَّةً
وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَأَوْدَعَهَا عِنْدَ أَبِي السَّمْرَاءِ
الْغَسَّانِيِّ، فَغَنَّى إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ الرَّشِيدَ يَوْمًا
فَأَطْرَبَهُ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
أَسْأَلُكُ شَيْئًا لَا أَرْزُؤُكَ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ فَذَكَرَ لَهُ وَدِيعَةَ
سَلْمٍ الْخَاسِرِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا، فَأَمَرَ لَهُ بِهَا.
وَيُقَالُ: إِنَّهَا كَانَتْ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.
الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ،
عَمُّ الرَّشِيدِ، كَانَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ، وَلِيَ إِمَارَةَ الْجَزِيرَةِ
فِي أَيَّامِ الرَّشِيدِ، وَقَدْ أَطْلَقَ لَهُ الرَّشِيدُ فِي يَوْمٍ خَمْسَةَ
آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْعَبَّاسِيَّةُ، وَبِهَا دُفِنَ
وَعُمْرُهُ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْأَمِينُ.
يَقْطِينُ بْنُ مُوسَى، كَانَ أَحَدَ الدُّعَاةِ إِلَى دَوْلَةِ بَنِي
الْعَبَّاسِ، وَكَانَ دَاهِيَةً ذَا رَأْيٍ، وَقَدِ احْتَالَ مَرَّةً حِيلَةً
عَظِيمَةً وَذَلِكَ حِينَ حَبَسَ مَرْوَانُ الْحِمَارُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ
مُحَمَّدٍ بِحَرَّانَ، فَتَحَيَّرَتِ الشِّيعَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ فِيمَنْ يَكُونُ وَلِيَّ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، فَذَهَبَ يَقْطِينُ هَذَا إِلَى مَرْوَانَ، فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي صُورَةِ تَاجِرٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي قَدْ بِعْتُ بِضَاعَةً مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ أَقْبِضْ ثَمَنَهَا مِنْهُ حَتَّى أَخَذَتْهُ رُسُلُكَ فَحَبَسُوهُ، فَإِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لِأُطَالِبَهُ بِمَالِي؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَيْهِ مَعَ غُلَامٍ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِلَى مَنْ تَرَكْتَ بَعْدَكَ آخُذُ مَالِيَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: إِلَى ابْنِ الْحَارِثِيَّةِ. يَعْنِي أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ السَّفَّاحَ، فَرَجَعَ يَقْطِينُ إِلَى الدُّعَاةِ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ، فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا قَالَ، فَبَايَعُوا السَّفَّاحَ، وَكَانَ مَا قَدْ كَانَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ مَهْلِكُ الْبَرَامِكَةِ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الرَّشِيدِ جَعْفَرَ بْنَ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ
الْبَرْمَكِيَّ، وَدَمَارُ دِيَارِهِمْ وَانْدِثَارُ آثَارِهِمْ، وَذَهَابُ
صِغَارِهِمْ وَكِبَارِهِمْ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ
ذَكَرَهَا أَبُو جَعْفَرٍ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ،
فَمِمَّا قِيلَ: إِنَّ الرَّشِيدَ كَانَ قَدْ سَلَّمَ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ حَسَنٍ إِلَى جَعْفَرٍ الْبَرْمَكِيِّ فَسَجَنَهُ عِنْدَهُ، فَمَا زَالَ
يَحْيَى يَتَرَقَّقُ لَهُ حَتَّى أَطْلَقَهُ جَعْفَرٌ، فَنَمَّ الْفَضْلُ بْنُ
الرَّبِيعِ عَلَى جَعْفَرٍ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: وَيْلَكَ لَا
تَدْخُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ جَعْفَرٍ فَلَعَلَّهُ أَطْلَقَهُ عَنْ أَمْرِي وَأَنَا
لَا أَشْعُرُ. ثُمَّ سَأَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرًا عَنْ ذَلِكَ فَصَدَقَهُ
الْحَالَ، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ الرَّشِيدُ وَحَلَفَ لَيَقْتُلَنَّهُ وَكَرِهَ
الْبَرَامِكَةَ وَمَقَتَهُمْ وَقَلَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، بَعْدَ مَا كَانُوا
أَحْظَى النَّاسِ عِنْدَهُ وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْهِ.
وَكَانَتْ أُمُّ جَعْفَرٍ وَالْفَضْلِ أُمَّهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَحَصَلَ لَهُمْ
مِنَ الرِّفْعَةِ فِي الدُّنْيَا وَكَثْرَةِ الْمَالِ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَيْءٌ
كَثِيرٌ لَمْ يَحْصُلْ لِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْوُزَرَاءِ وَلَا لِمَنْ
بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَكَابِرِ وَالرُّؤَسَاءِ، بِحَيْثُ إِنَّ جَعْفَرًا بَنَى
دَارًا غَرِمَ عَلَيْهَا عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ
جُمْلَةِ مَا نَقَمَهُ عَلَيْهِ الرَّشِيدُ. وَيُقَالُ: إِنَّ الرَّشِيدَ
كَانَ
لَا يَكَادُ يَمُرُّ بِبَلَدٍ وَلَا إِقْلِيمٍ فَيَسْأَلُ عَنْ قَرْيَةٍ أَوْ
مَزْرَعَةٍ أَوْ بُسْتَانٍ إِلَّا قِيلَ: هَذَا لِجَعْفَرٍ. وَقِيلَ: إِنَّ
الْبَرَامِكَةَ كَانُوا يُرِيدُونَ إِبْطَالَ خِلَافَةِ الرَّشِيدِ وَإِظْهَارَ
الزَّنْدَقَةِ. وَقِيلَ: بِسَبَبِ الْعَبَّاسَةِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ
أَنْكَرَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ ابْنُ جَرِيرٍ قَدْ ذَكَرَهُ.
رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الرَّشِيدَ سُئِلَ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ
أَجْلِهِ أَهْلَكَ الْبَرَامِكَةَ فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ قَمِيصِي يَعْلَمُ
ذَلِكَ لَأَحْرَقْتُهُ. وَقَدْ كَانَ جَعْفَرٌ يَدْخُلُ عَلَى الرَّشِيدِ بِغَيْرِ
إِذْنٍ حَتَّى كَانَ رُبَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْفِرَاشِ مَعَ
حَظَايَاهُ، وَهَذِهِ وَجَاهَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَنْزِلَةٌ عَالِيَةٌ، وَكَانَ مِنْ
أَحْظَى الْعُشَرَاءِ عَلَى الشَّرَابِ - فَإِنَّ الرَّشِيدَ كَانَ يَسْتَعْمِلُ
فِي أَوَاخِرِ مُلْكِهِ الْمُسْكِرَ، وَكَأَنَّهُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ - وَكَانَ
أَحَبَّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ أُخْتُهُ الْعَبَّاسَةُ بِنْتُ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ
يُحْضِرُهَا مَعَهُ، وَجَعْفَرٌ الْبَرْمَكِيُّ حَاضِرٌ أَيْضًا، فَزَوَّجَهُ
بِهَا لِيَحِلَّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا
يَطَأْهَا، فَكَانَ الرَّشِيدُ رُبَّمَا قَامَ وَتَرَكَهُمَا وَهُمَا ثَمِلَانِ
مِنَ الشَّرَابِ، فَرُبَّمَا وَاقَعَهَا جَعْفَرٌ فَاتَّفَقَ حَمْلُهَا مِنْهُ
فَوَلَدَتْ وَلَدًا، وَبَعْثَتْهُ مَعَ بَعْضِ جَوَارِيهَا إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ
يُرَبَّى بِهَا.
وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " صِفَةً
أُخْرَى فِي مَقْتَلِ جَعْفَرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا زَوَّجَ الرَّشِيدُ
جَعْفَرًا مِنَ الْعَبَّاسَةِ أَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَرَاوَدَتْهُ عَنْ
نَفْسِهِ فَامْتَنَعَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ مِنْ خَشْيَةِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، فَاحْتَالَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ
تُهْدِي
إِلَيْهِ فِي كُلِّ لَيْلَةِ جُمْعَةٍ جَارِيَةً حَسْنَاءَ بِكْرًا فَقَالَتْ
لِأُمِّهِ: أَدْخِلِينِي عَلَيْهِ فِي صِفَةِ جَارِيَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجَوَارِي
فَهَابَتْ مِنْ تِلْكَ، فَتَهَدَّدَتْهَا حَتَّى فَعَلَتْ، فَلَمَّا دَخَلَتْ
عَلَيْهِ وَكَانَ لَا يَتَحَقَّقُ وَجْهَهَا مِنْ مَهَابَةِ الرَّشِيدِ،
فَوَاقَعَهَا فَقَالَتْ لَهُ: كَيْفَ رَأَيْتَ خَدِيعَةَ بَنَاتِ الْمُلُوكِ.
فَقَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْعَبَّاسَةُ. وَحَمَلَتْ مِنْ تِلْكَ
اللَّيْلَةِ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّهِ فَقَالَ لَهَا. بِعْتِينِي وَاللَّهِ
بِرَخِيصٍ. ثُمَّ إِنَّ وَالِدَهُ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ جَعَلَ يُضَيِّقُ عَلَى
عِيَالِ الرَّشِيدِ فِي النَّفَقَةِ، حَتَّى شَكَتْهُ إِلَى الرَّشِيدِ زُبَيْدَةُ
مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَفْشَتْ لَهُ سِرَّ الْعَبَّاسَةِ، فَاسْتَشَاطَ غَضَبًا،
وَلَمَّا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ الْوَلَدَ قَدْ أَرْسَلَتْ بِهِ إِلَى مَكَّةَ حَجَّ
عَامَهُ ذَلِكَ حَتَّى تَحَقَّقَ الْأَمْرَ. وَيُقَالُ: إِنَّ بَعْضَ الْجَوَارِي
نَمَّتْ عَلَيْهَا إِلَى الرَّشِيدِ، وَأَخْبَرَتْهُ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ،
وَأَنَّ الْوَلَدَ بِمَكَّةَ، وَعِنْدَهُ جَوَارٍ وَمَعَهُ أَمْوَالٌ وَحُلِيٌّ
كَثِيرٌ، فَلَمْ يُصَدِّقْ حَتَّى حَجَّ فِي السَّنَةِ الْحَالِيَّةِ، فَكَشَفَ
عَنِ الْحَالِ، فَإِذَا هُوَ كَمَا ذَكَرَتْ تِلْكَ الْجَارِيَةُ.
وَقَدْ حَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ الْوَزِيرُ، وَقَدِ
اسْتَشْعَرَ الْغَضَبَ مِنَ الرَّشِيدِ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو عِنْدَ
الْكَعْبَةِ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ يُرْضِيكَ عَنِّي سَلْبُ مَالِيَ وَوَلَدِي
وَأَهْلِي فَافْعَلْ ذَلِكَ بِي، وَأَبْقِ عَلَيَّ مِنْهُمُ الْفَضْلَ. ثُمَّ
خَرَجَ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ رَجَعَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ
وَالْفَضْلُ مَعَهُمْ، فَإِنِّي رَاضٍ بِرِضَاكَ عَنِّي وَلَا تَسْتَثْنِ مِنْهُمْ
أَحَدًا.
فَلَمَّا قَفَلَ الرَّشِيدُ مِنَ الْحَجِّ صَارَ إِلَى الْحِيرَةِ، ثُمَّ رَكِبَ
فِي السُّفُنِ إِلَى الْعُمْرِ مِنْ أَرْضِ الْأَنْبَارِ، فَلَمَّا كَانَتْ
لَيْلَةُ السَّبْتِ سَلْخَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ
سَبْعٍ وَثَمَانِينَ أَرْسَلَ مَسْرُورًا الْخَادِمَ، وَمَعَهُ حَمَّادُ بْنُ
سَالِمٍ أَبُو عِصْمَةَ فِي جَمَاعَةٍ
مِنَ
الْجُنْدِ فَأَطَافُوا بِجَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى لَيْلًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ
مَسْرُورٌ الْخَادِمُ، وَعِنْدَهُ بُخْتَيَشُوعُ الْمُتَطَبِّبُ، وَأَبُو زَكَّارٍ
الْأَعْمَى الْمُغَنِّي الْكَلْوَذَانِيُّ، وَهُوَ فِي أَمْرِهِ، وَأَبُو زَكَّارٍ
يُغَنِّيهِ:
فَلَا تَبْعَدْ فَكُلُّ فَتًى سَيَأْتِي عَلَيْهِ الْمَوْتُ يَطْرُقُ أَوْ
يُغَادِي
فَقَالَ الْخَادِمُ لَهُ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، هَذَا الْمَوْتُ قَدْ طُرَقَكَ،
أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَامَ إِلَيْهِ، فَقَبَّلَ قَدَمَيْهِ، وَدَخَلَ
عَلَيْهِ، أَنْ يَدْخُلَ إِلَى أَهْلِهِ، فَيُوصِيَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَمَّا
الدُّخُولُ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فَأَوْصَى جَعْفَرٌ وَأَعْتَقَ جَمَاعَةً مِنْ
مَمَالِيكِهِ، وَجَاءَتْ رُسُلُ الرَّشِيدِ تَسْتَحِثُّ الْخَادِمَ، فَأَخْرَجَهُ
إِخْرَاجًا عَنِيفًا يَقُودُهُ، حَتَّى أَتَى الْمَنْزِلَ الَّذِي كَانَ فِيهِ
الرَّشِيدُ فَحَبَسَهُ وَقَيَّدَهُ بِقَيْدِ حِمَارٍ، وَأَعْلَمَ الرَّشِيدَ بِمَا
كَانَ فَعَلَ، فَأَمَرَهُ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَجَاءَ إِلَى جَعْفَرٍ فَقَالَ:
إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِرَأْسِكَ، فَقَالَ:
يَا أَبَا هَاشِمٍ، لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَكْرَانُ، فَإِذَا صَحَا
عَاتَبَكَ عَلَى ذَلِكَ، فَعَاوِدْهُ. فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، لَعَلَّكَ مَشْغُولٌ. فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا مَاصَّ بَظْرِ
أُمِّهِ ! ائْتِنِي بِرَأْسِهِ. فَكَرَّرَ عَلَيْهِ جَعْفَرٌ الْمُعَاوَدَةَ،
فَقَالَ لَهُ: بَرِئْتُ مِنَ الْمَهْدِيِّ لَئِنْ لَمْ تَأْتِنِي بِرَأْسِهِ لَأَبْعَثَنَّ
مَنْ يَأْتِينِي بِرَأْسِكَ وَرَأْسِهِ. فَرَجَعَ إِلَى جَعْفَرٍ، فَحَزَّ
رَأْسَهُ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى الرَّشِيدِ، فَأَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَأَرْسَلَ الرَّشِيدُ مِنْ لَيْلَتِهِ الْبُرُدَ فِي الِاحْتِيَاطِ عَلَى
الْبَرَامِكَةِ جَمِيعِهِمْ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ
بِسَبِيلٍ فَأُخِذُوا كُلُّهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ،
وَحَبَسَ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ فِي مَنْزِلِهِ، وَحَبَسَ الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى
فِي مَنْزِلٍ آخَرَ، وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا كَانُوا يَمْلِكُونَهُ مِنَ
الْأَمْوَالِ، وَالْمَوَالِي، وَالْحَشَمِ، وَالْخَدَمِ، وَاحْتِيطَ عَلَى
أَمْلَاكِهِمْ، وَبَعَثَ الرَّشِيدُ بِرَأْسِ جَعْفَرٍ وَجُثَّتِهِ، ثُمَّ
قُطِعَتْ بِاثْنَيْنِ، فَنُصِبَ الرَّأْسُ عِنْدَ الْجِسْرِ الْأَعْلَى، وَشِقُّ
الْجُثَّةِ عِنْدَ الْجِسْرِ الْأَسْفَلِ، وَشِقُّهَا الْآخَرُ عِنْدَ الْجِسْرِ
الْآخَرِ، ثُمَّ أُحْرِقَتْ بَعْدَ
ذَلِكَ،
وَنُودِيَ فِي بَغْدَادَ أَنْ لَا أَمَانَ لِلْبَرَامِكَةِ وَلَا لِمَنْ آوَاهُمْ،
إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فَإِنَّهُ اسْتَثْنَاهُ مِنْ بَيْنِ
الْبَرَامِكَةِ لِنُصْحِهِ لِلْخَلِيفَةِ.
وَأَتَى الرَّشِيدُ بِأَنَسِ بْنِ أَبِي شَيْخٍ - وَكَانَ يُتَّهَمُ
بِالزَّنْدَقَةِ، وَكَانَ مُصَاحِبًا لِجَعْفَرٍ الْبَرْمَكِيِّ - وَذَلِكَ
لَيْلَةَ قُتِلَ جَعْفَرٌ، فَدَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ كَلَامٌ، فَأَخْرَجَ الرَّشِيدُ
سَيْفًا مِنْ تَحْتِ فِرَاشِهِ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ بِهِ، وَجَعَلَ
يَتَمَثَّلُ بِبَيْتٍ قِيلَ فِي أَنَسٍ قَبْلَ ذَلِكَ:
تَلَمَّظَ السَّيْفُ مِنْ شَوْقٍ إِلَى أَنَسٍ فَالسَّيْفُ يَلْحَظُ
وَالْأَقْدَارُ تَنْتَظِرُ
فَضُرِبَتْ عُنُقُ أَنَسٍ، فَسَبَقَ السَّيْفُ الدَّمَ، فَقَالَ الرَّشِيدُ:
رَحِمَ اللَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُصْعَبٍ. فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّ السَّيْفَ
كَانَ سَيْفَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ. وَشُحِنَتِ السُّجُونُ
بِالْبَرَامِكَةِ، وَاسْتُلِبَتْ أَمْوَالُهُمْ كُلُّهَا.
وَقَدْ كَانَ الرَّشِيدُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَتَلَ فِي آخِرِهِ جَعْفَرًا،
هُوَ وَإِيَّاهُ رَاكِبَيْنِ فِي الصَّيْدِ، وَقَدْ خَلَا بِهِ دُونَ وُلَاةِ
الْعُهُودِ، وَطَيَّبَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالْغَالِيَةِ بِيَدِهِ، وَلَمَّا
كَانَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَوَدَّعَهُ الرَّشِيدُ، ضَمَّهُ إِلَيْهِ وَقَالَ:
لَوْلَا أَنَّ اللَّيْلَةَ لَيْلَةُ خَلْوَتِي بِالنِّسَاءِ مَا فَارَقْتُكَ،
فَاذْهَبْ إِلَى مَنْزِلِكَ وَاشْرَبْ وَاطْرَبْ لِتَكُونَ عَلَى مِثْلِ حَالِي.
فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا أَشْتَهِي ذَلِكَ إِلَّا
مَعَكَ. فَانْصَرَفَ عَنْهُ جَعْفَرٌ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ ذَهَبَ مِنَ
اللَّيْلِ بَعْضُهُ حَتَّى أَوْقَعَ بِهِ مِنَ الْبَأْسِ وَالنَّكَالِ مَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ السَّبْتِ آخَرَ لَيْلَةٍ مِنَ
الْمُحَرَّمِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مُسْتَهَلُّ صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ.
وَكَانَ عُمْرُ جَعْفَرٍ إِذْ ذَاكَ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
وَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى أَبِيهِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ بِقَتْلِهِ قَالَ:
قَتَلَ اللَّهُ ابْنَهُ. وَلَمَّا قِيلَ لَهُ:
قَدْ
خُرِّبَتْ دَارُكَ. قَالَ: خَرَّبَ اللَّهُ دَوْرَهُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا
نَظَرَ إِلَى دَارِهِ وَقَدْ هُتِكَتْ سُتُورُهَا، وَاسْتُبِيحَتْ قُصُورُهَا،
وَانْتُهِبَ مَا فِيهَا، قَالَ: هَكَذَا تَقُومُ السَّاعَةُ.
وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يُعَزِّيهِ فِيمَا وَقَعَ، فَكَتَبَ
جَوَابَ التَّعْزِيَةِ: أَنَا بِقَضَاءِ اللَّهِ رَاضٍ، وَبِالْخِيَارِ عَالِمٌ،
وَلَا يُؤَاخِذُ اللَّهُ الْعِبَادَ إِلَّا بِذُنُوبِهِمْ، وَمَا اللَّهُ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وَمَا يَغْفِرُ اللَّهُ أَكْثَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مِنَ الْمَرَاثِي فِي الْبَرَامِكَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ
قَوْلُ الرَّقَاشِيِّ - وَيُذْكَرُ أَنَّهَا لِأَبِي نُوَاسٍ -:
أَلَانَ اسْتَرَحْنَا وَاسْتَرَاحَتْ رِكَابُنَا وَأَمْسَكَ مَنْ يُجْدِي وَمَنْ
كَانَ يَجْتَدِي
فَقُلْ لِلْمَطَايَا قَدْ أَمِنْتِ مِنَ السُّرَى وَطَيِّ الْفَيَافِي فَدْفَدًا
بَعْدَ فَدْفَدِ
وَقُلْ لِلْمَنَايَا قَدْ ظَفِرْتِ بِجَعْفَرٍ وَلَنْ تَظْفَرِي مِنْ بَعْدِهِ
بَمُسَوَّدِ
وَقُلْ لِلْعَطَايَا بَعْدْ فَضْلٍ تَعَطَّلِي وَقُلْ لِلرَّزَايَا كُلَّ يَوْمٍ
تَجَدَّدِي
وَدُونَكِ سَيْفًا بَرْمَكِيًّا مُهَنَّدًا أُصِيبَ بِسَيْفٍ هَاشِمِيٍّ مُهَنَّدِ
وَقَالَ الرَّقَاشِيُّ وَقَدْ نَظَرَ إِلَى جَعْفَرٍ وَهُوَ عَلَى جِذْعِهِ
مَصْلُوبٌ:
أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا خَوْفُ وَاشٍ وَعَيْنٌ لِلْخَلِيفَةِ لَا تَنَامُ
لَطُفْنَا حَوْلِ جِذْعِكَ وَاسْتَلَمْنَا كَمَا لِلنَّاسِ بِالْحَجَرِ اسْتِلَامُ
فَمَا أَبْصَرْتُ قُبْلَكَ يَابْنَ يَحْيَى حُسَامًا فَلَّهُ السَّيْفُ الْحُسَامُ
عَلَى اللَّذَّاتِ وَالدُّنْيَا جَمِيعًا وَدَوْلَةِ آلِ بَرْمَكٍ السَّلَامُ
قَالَ:
فَاسْتَدْعَى بِهِ الرَّشِيدُ وَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ! كَمْ كَانَ يُعْطِيكَ
جَعْفَرٌ كُلَّ عَامٍ؟ قَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ. فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفَيْ
دِينَارٍ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَمِّهِ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ قَالَ:
لَمَّا قُتِلَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى وَقَفَتِ امْرَأَةٌ عَلَى حِمَارٍ فَارِهٍ،
فَقَالَتْ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ صِرْتَ الْيَوْمَ آيَةً فَلَقَدْ
كُنْتَ فِي الْمَكَارِمِ غَايَةً. ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ:
وَلَمَّا رَأَيْتُ السَّيْفَ خَالَطَ جَعْفَرًا وَنَادَى مُنَادٍ لِلْخَلِيفَةِ
فِي يَحْيَى
بَكَيْتُ عَلَى الدُّنْيَا وَأَيْقَنْتُ أَنَّمَا قُصَارَى الْفَتَى يَوْمًا
مُفَارَقَةُ الدُّنْيَا
وَمَا هِيَ إِلَّا دَوْلَةٌ بَعْدَ دَوْلَةٍ تُخَوِّلُ ذَا نُعْمَى وَتُعْقِبُ ذَا
بَلْوَى
إِذَا أَنْزَلَتْ هَذَا مَنَازِلَ رِفْعَةٍ مِنَ الْمُلْكِ حَطَّتْ ذَا إِلَى
الْغَايَةِ الْقُصْوَى
قَالَ ثُمَّ حَرَّكَتْ حِمَارَهَا، فَذَهَبَتْ فَكَأَنَّهَا كَانَتْ رِيحًا لَا
أَثَرَ لَهَا، وَلَا يُعْرَفُ أَيْنَ ذَهَبَتْ
وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ "
الْمُنْتَظَمِ " أَنَّ جَعْفَرًا كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا:
فَنْفَنَةُ. مُغَنِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الدُّنْيَا نَظِيرٌ، كَانَ
مُشْتَرَاهَا عَلَيْهِ بِمَنْ مَعَهَا مِنَ الْجَوَارِي مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ،
فَطَلَبَهَا مِنْهُ الرَّشِيدُ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَتَلَهُ
الرَّشِيدُ اصْطَفَى تِلْكَ الْجَارِيَةَ، فَأَحْضَرَهَا لَيْلَةً فِي مَجْلِسِ
شَرَابِهِ، وَعِنْدَهُ
جَمَاعَةٌ
مِنْ جُلَسَائِهِ وَسُمَّارِهِ وَأَحْبَابِهِ، فَأَمَرَ مَنْ مَعَهَا أَنْ
يُغَنِّينَ، فَانْدَفَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَغَنِّي، حَتَّى انْتَهَتِ
النَّوْبَةُ إِلَى فَنْفَنَةَ، فَأَمَرَهَا بِالْغِنَاءِ، فَأَسْبَلَتْ دَمْعَهَا
وَقَالَتْ: أَمَّا بَعْدَ السَّادَةِ فَلَا. فَغَضِبَ الرَّشِيدُ مِنْ ذَلِكَ
غَضَبًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ بَعْضَ الْحَاضِرِينَ أَنْ يَأْخُذَهَا إِلَيْهِ
فَقَدْ وَهَبَهَا لَهُ، ثُمَّ لَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَالَ لَهُ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ: لَا تَطَأْهَا. فَفَهِمُوا أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ
كَسْرَهَا. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْضَرَهَا، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ قَدْ
رَضِيَ عَنْهَا وَأَمَرَهَا بِالْغِنَاءِ، فَامْتَنَعَتْ وَأَرْسَلَتْ دُمُوعَهَا
وَقَالَتْ: أَمَّا بَعْدَ السَّادَةِ فَلَا. فَغَضِبَ الرَّشِيدُ أَشَدَّ مِنَ
الْأَوَّلِ، وَقَالَ: النِّطْعُ وَالسَّيْفُ. وَجَاءَ السَّيَّافُ، فَوَقَفَ عَلَى
رَأْسِهَا، وَقَالَ لَهُ: إِذَا أَمَرْتُكَ ثَلَاثًا وَعَقَدْتُ أَصَابِعِي
ثَلَاثًا فَاضْرِبْ. ثُمَّ قَالَ لَهَا: غَنِّي. فَبَكَتْ وَقَالَتْ: أَمَّا
بَعْدَ السَّادَةِ فَلَا. فَعَقَدَ أُصْبَعَهُ الْخِنْصَرَ، ثُمَّ أَمَرَهَا
الثَّانِيَةَ فَامْتَنَعَتْ، فَعَقَدَ اثْنَتَيْنِ، فَارْتَعَدَ الْحَاضِرُونَ،
وَأَشْفَقُوا غَايَةَ الْإِشْفَاقِ، وَأَقْبَلُوا عَلَيْهَا يَسْأَلُونَهَا أَنْ
لَا تَقْتَلَ نَفْسَهَا، وَأَنْ تُجِيبَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يُرِيدُ
مِنْهَا. ثُمَّ أَمَرَهَا الثَّالِثَةَ، فَانْدَفَعَتْ تَغَنِّي:
لَمَّا رَأَيْتُ الدِّيَارَ قَدْ دَرَسَتْ أَيْقَنْتُ أَنَّ النَّعِيمَ لَمْ
يَعُدْ
قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهَا الرَّشِيدُ، وَأَخَذَ الْعُودَ مِنْ يَدِهَا،
وَأَقْبَلَ يَضْرِبُ بِهِ وَجْهَهَا، وَرَأْسَهَا حَتَّى تَكَسَّرَ، وَأَقْبَلَتِ
الدِّمَاءُ، وَتَطَايَرْنَا مِنْ حَوْلِهَا، وَحُمِلَتِ الْجَارِيَةُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ فَمَاتَتْ بَعْدَ ثَلَاثٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ يَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَغْرَانِي
بِالْبَرَامِكَةِ، فَمَا وَجَدْتُ
بَعْدَهُمْ
لَذَّةً وَلَا رَاحَةً وَلَا رَخَاءً، وَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنِّي شُوطِرْتُ
نِصْفَ عُمْرِي وَمُلْكِي وَأَنِّي تَرَكْتُهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ.
وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ جَعْفَرًا اشْتَرَى جَارِيَةً مِنْ رَجُلٍ
بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَالْتَفَتَتْ إِلَى بَائِعِهَا وَقَالَتْ لَهُ:
اذْكُرِ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَنْ لَا تَأْكُلَ مِنْ ثَمَنِي
شَيْئًا. فَبَكَى سَيِّدُهَا وَقَالَ: اشْهَدُوا أَنَّهَا حُرَّةٌ، وَأَنِّي قَدْ
تَزَوَّجْتُهَا. فَقَالَ جَعْفَرٌ: اشْهَدُوا أَنَّ الثَّمَنَ لَهُ أَيْضًا.
قَالَ: وَكَتَبَ إِلَى نَائِبٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ; فَقَدْ كَثُرَ شَاكُوكَ،
وَقَلَّ شَاكِرُوكَ، فَإِمَّا أَنْ تَعْدِلَ وَإِمَّا أَنْ تَعْتَزِلَ.
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ التَّلَطُّفِ فِي إِزَالَةِ هَمِّ
الرَّشِيدِ وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ مُنَجِّمٌ يَهُودِيٌّ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ
سَيَمُوتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَحَمَلَ الرَّشِيدُ هَمًّا عَظِيمًا، فَدَخَلَ
جَعْفَرٌ فَسَأَلَ: مَا الْخَبَرُ؟ فَأُخْبِرَ بِقَوْلِ الْيَهُودِيِّ
لِلْخَلِيفَةِ: أَنَّهُ سَيَمُوتُ مِنْ عَامِهِ هَذَا، فَاسْتَدْعَى جَعْفَرٌ
الْيَهُودِيَّ، فَقَالَ لَهُ: كَمْ وَجَدْتَ بَقِيَ لَكَ مِنَ الْعُمْرِ؟ فَذَكَرَ
مُدَّةً طَوِيلَةً، فَأَقْبَلَ عَلَى الرَّشِيدِ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، اقْتُلْهُ حَتَّى تَعْلَمَ كَذِبَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ
مَوْتِكَ، كَمَا عَلِمْتَ كَذِبَهُ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْ عُمْرِهِ. فَأَمَرَ
الرَّشِيدُ بِالْيَهُودِيِّ فَقُتِلَ، وَسُرِّيَ عَنِ الرَّشِيدِ هَمُّهُ الَّذِي
كَانَ يَجِدُهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَبَعْدَ مَقْتَلِ الْبَرَامِكَةِ قَتَلَ الرَّشِيدُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عُثْمَانَ
بْنِ نَهِيكٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
حَزِنَ
عَلَى مَقْتَلِ الْبَرَامِكَةِ، وَلَاسِيَّمَا عَلَى جَعْفَرٍ، وَكَانَ يُكْثِرُ
الْبُكَاءَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ حَيِّزِ الْبُكَاءِ إِلَى حَيِّزِ
الِانْتِصَارِ لَهُمْ وَالْأَخْذِ بِثَأْرِهِمْ، وَكَانَ إِذَا شَرِبَ فِي
مَنْزِلِهِ يَقُولُ لِجَارِيَتِهِ: ائْتِينِي بِسَيْفِي. فَيَسُلُّهُ ثُمَّ
يَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ قَاتِلَهُ. فَأَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ،
فَخَشِيَ ابْنُهُ عُثْمَانُ أَنْ يَطَّلِعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ، فَيُهْلِكُهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَرَأَى أَنَّ أَبَاهُ لَا يَنْزِعُ عَنْ
هَذَا، فَذَهَبَ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ فَأَعْلَمَهُ، فَأَخْبَرَ
الْفَضْلُ الْخَلِيفَةَ، فَاسْتَدْعَى بِهِ، فَاسْتَخْبَرَهُ فَأَخْبَرَهُ
فَقَالَ: مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ؟ قَالَ: فَلَانٌ الْخَادِمُ. فَجَاءَ بِهِ
فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: لَا يَحِلُّ لِي قَتْلُ أَمِيرٍ كَبِيرٍ
بِمُجَرَّدِ قَوْلِ غُلَامٍ وَخَصِيٍّ، لَعَلَّهُمَا قَدْ تَوَاصَيَا عَلَى ذَلِكَ.
فَأَحْضُرُهُ الرَّشِيدُ مَعَهُ عَلَى الشَّرَابِ، ثُمَّ خَلَا بِهِ فَقَالَ لَهُ:
وَيْحَكَ يَا إِبْرَاهِيمُ، إِنَّ عِنْدِي سِرًّا أُحِبُّ أَنْ أُطْلِعَكَ
عَلَيْهِ، قَدْ أَقْلَقَنِي فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ
إِنِّي نَدِمْتُ عَلَى قَتْلِ الْبَرَامِكَةِ وَوَدِدْتُ أَنِّي قَدْ خَرَجْتُ
مِنْ نِصْفِ مُلْكِي وَنُقِصْتُ نِصْفَ عُمْرِي وَلَمْ أَكُنْ فَعَلْتُ بِهِمْ مَا
فَعَلْتُ، فَإِنِّي لَمْ أَجِدْ بَعْدَهُمْ لَذَّةً وَلَا رَاحَةً، فَقَالَ:
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي الْفَضْلِ - يَعْنِي جَعْفَرًا، وَبَكَى - وَاللَّهِ
يَا سَيِّدِي، لَقَدْ أَخْطَأْتَ فِي قَتْلِهِ. فَقَالَ لَهُ: قُمْ، لَعَنَكَ
اللَّهُ. ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَسَلَّمَ أَهْلَهُ
وَوَلَدَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَضِبَ الرَّشِيدُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ
بِسَبَبِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخِلَافَةَ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ
بِسَبَبِهِ أَيْضًا عَلَى الْبَرَامِكَةِ الَّذِينَ هُمْ فِي الْحُبُوسِ،
وَسَجَنَهُ، فَلَمْ يَزَلْ فِي السِّجْنِ حَتَّى تُوُفِّيَ الرَّشِيدُ
فَأَخْرَجَهُ الْأَمِينُ، وَعَقَدَ لَهُ عَلَى نِيَابَةِ الشَّامِ.
وَفِي
هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَتِ الْعَصَبِيَّةُ أَيْضًا بِالشَّامِ بَيْنَ
الْمُضَرِيَّةِ وَالْيَمَانِيَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الرَّشِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ
مَنْصُورِ بْنِ زِيَادٍ فَأَصْلَحَ بَيْنِهِمْ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالْمِصِّيصَةِ، فَانْهَدَمَ بَعْضُ
سُورِهَا، وَنَضَبَ مَاؤُهُمْ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ.
وَفِيهَا بَعَثَ الرَّشِيدُ وَلَدَهُ الْقَاسِمَ عَلَى الصَّائِفَةِ، وَجَعَلَهُ
قُرْبَانًا وَوَسِيلَةً، وَوَلَّاهُ الْعَوَاصِمَ، فَسَارَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ،
فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى افْتَدَوْا مِنْهُ بِخَلْقٍ مِنَ الْأَسَارَى
يُطْلِقُونَهُمْ وَيَرْجِعُ عَنْهُمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا نَقَضَتِ الرُّومُ الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ الَّذِي كَانَ عَقَدَهُ الرَّشِيدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِينَى
مَلِكَةِ الرُّومِ الْمُلَقَّبَةِ أُغُسْطَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّومَ عَزَلُوهَا
عَنْهُمْ، وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمُ النَّقْفُورَ، وَكَانَ شُجَاعًا، يُقَالُ:
إِنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ آلِ جَفْنَةَ، وَإِنَّهُ قَبْلَ الْمُلْكِ كَانَ يَلِي
دِيوَانَ الْخَرَاجِ، وَمَلَّكُوا نَقْفُورَ هَذَا عَلَيْهِمْ، فَخَلَعُوا رِينَى
وَسَمَلُوا عَيْنَيْهَا، فَكَتَبَ إِلَى الرَّشِيدِ: مِنْ نَقْفُورَ مَلِكِ
الرُّومِ إِلَى هَارُونَ مَلِكِ الْعَرَبِ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْمَلِكَةَ
الَّتِي كَانَتْ قَبِلُ أَقَامَتْكَ مُقَامِ الرُّخِّ، وَأَقَامَتْ نَفْسَهَا
مُقَامِ الْبَيْدَقِ، فَحَمَلَتْ إِلَيْكَ مِنْ أَمْوَالِهَا مَا كُنْتَ حَقِيقًا
بِحَمْلِ أَمْثَالِهِ إِلَيْهَا،
وَلَكِنَّ
ذَلِكَ مِنْ ضَعْفِ النِّسَاءِ وَحُمْقِهِنَّ، فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا
فَارْدُدْ مَا حَصَلَ لَكَ مِنْ أَمْوَالِهَا، وَافْتَدِ نَفْسَكَ، وَإِلَّا
فَالسَّيْفُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ. فَلَمَّا قَرَأَ الرَّشِيدُ الْكِتَابَ
اسْتَفَزَّهُ الْغَضَبُ، حَتَّى لَمْ يُمْكِنْ أَحَدًا أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ
دُونَ أَنْ يُخَاطِبَهُ، وَتَفَرَّقَ جُلَسَاؤُهُ خَوْفًا مِنْهُ، وَاسْتَدْعَى
بِدَوَاةٍ وَكَتَبَ عَلَى ظَهْرِ الْكِتَابِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، مِنْ هَارُونَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نَقْفُورَ كَلْبِ
الرُّومِ، قَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ يَا ابْنَ الْكَافِرَةِ، وَالْجَوَابُ مَا
تَرَاهُ دُونَ مَا تَسْمَعُهُ، وَالسَّلَامُ. ثُمَّ شَخَصَ مِنْ يَوْمِهِ حَتَّى
أَقَامَ بِبَابِ هَرْقَلَةَ، فَفَتَحَهَا وَاصْطَفَى ابْنَةَ مَلِكِهَا، وَغَنِمَ
مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَخَرَّبَ وَأَحْرَقَ، وَاصْطَلَمَ، فَطَلَبَ
نَقْفُورُ مِنْهُ الْمُوَادَعَةَ عَلَى خَرَاجٍ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ
سَنَةٍ، فَأَجَابَهُ الرَّشِيدُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَتِهِ
وَصَارَ بِالرِّقَّةِ، نَقَضَ الْكَافِرُ الْعَهْدَ، وَخَانَ الْمِيثَاقَ، وَكَانَ
الْبَرْدُ قَدِ اشْتَدَّ جِدًّا، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى إِخْبَارِ
الرَّشِيدِ بِذَلِكَ; لِخَوْفِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهِ، حَتَّى
يَنْفَصِلَ الشِّتَاءُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ أَبُو الْفَضْلِ الْبَرْمَكِيُّ
الْوَزِيرُ ابْنُ
الْوَزِيرِ،
وَقَدْ وَلَّاهُ الرَّشِيدُ الشَّامَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَذَكَرَ ابْنُ
عَسَاكِرَ أَنَّ الرَّشِيدَ بَعَثَهُ إِلَى دِمَشْقَ لَمَّا ثَارَتِ الْفِتْنَةُ
بَيْنِ الْعِشْرَيْنِ بَحُورَانَ بَيْنَ قَيْسٍ وَيَمَنٍ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ
مَا أَنْشَئُوهُ فِي الْإِسْلَامِ، كَانَ خَامِدًا فَأَثَارُوهُ فِي هَذَا
الْأَوَانِ، فَلِمَا قَدِمَ جَعْفَرٌ بِجَيْشِهِ خَمَدَتِ الشُّرُورُ وَظَهَرَ
السُّرُورُ، وَقِيلَتْ فِي ذَلِكَ أَشْعَارٌ حِسَانٌ قَدْ ذَكَرَهَا فِي
تَرْجَمَتِهِ مِنْ " تَارِيخِهِ " فَمِنْهَا:
لَقَدْ أُوقِدَتْ فِي الشَّامِ نِيرَانُ فِتْنَةٍ فَهَذَا أَوَانُ الشَّامِ
تُخْمَدُ نَارُهَا
إِذَا جَاشَ مَوْجُ الْبَحْرِ مِنْ آلِ بَرْمَكٍ عَلَيْهَا خَبَتْ شُهْبَانُهَا
وَشِرَارُهَا
رَمَاهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِجَعْفَرٍ وَفِيهِ تَلَاقَى صَدْعُهَا
وَانْجِبَارُهَا
رَمَاهَا بِمَيْمُونِ النَّقِيبَةِ مَاجِدٍ تَرَاضَى بِهِ قَحْطَانُهَا
وَنِزَارُهَا
هُوَ الْمَلِكُ الْمَأْمُولُ لِلَّبِرِّ وَالتُّقَى وَصَوْلَاتُهُ لَا يُسْتَطَاعُ
خِطَارُهَا
وَزِيرُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَسَيْفُهُ وَمُدْيَتُهُ وَالْحَرْبُ تَدْمَى
شِفَارُهَا
وَمَنْ تُطْوَ أَسْرَارُ الْخَلِيفَةِ دُونَهُ فَعِنْدَكَ مَأْوَاهَا وَأَنْتَ
قَرَارُهَا
إِذَا مَا ابْنُ يَحْيَى جَعْفَرٌ قَصَدَتْ لَهُ مُلِمَّاتُ خَطْبٍ لَمْ تَرُعْهُ
كِبَارُهَا
لَقَدْ نَشَأَتْ بِالشَّامِ مِنْكَ غَمَامَةٌ يُؤْمَلُ جَدْوَاهَا وَيُخْشَى
دَمَارُهَا
وَهِيَ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ، اقْتَصَرْنَا مِنْهَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ،
وَكَانَتْ لَهُ فَصَاحَةٌ وَبَلَاغَةٌ وَكَرَمٌ زَائِدٌ، كَانَ أَبُوهُ قَدْ
ضَمَّهُ إِلَى الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ، فَتَفَقَّهُ عَلَيْهِ،
وَصَارَ
لَهُ اخْتِصَاصٌ بِالرَّشِيدِ، وَقَدْ وَقَّعَ لَيْلَةً بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ
زِيَادَةً عَلَى أَلْفِ تَوْقِيعٍ فَلَمْ يَخْرُجْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عَنْ
مُوجَبِ الْفِقْهِ.
وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْكَاتِبِ، عَنْ
سَالِمِ بْنِ هِشَامٍ الْكَاتِبِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ كَاتِبِ
عُثْمَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ كَاتِبِ الْوَحْيِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَتَبْتَ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَبَيِّنِ السِّينَ فِيهِ ". رَوَاهُ الْخَطِيبُ
وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْقَاسِمِ الْكَعْبِيِّ الْمُتَكَلِّمِ،
وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ - وَقَدْ كَانَ كَاتِبًا
لِمُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، عَنْ
طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ رُزَيْقٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ
سَهْلٍ ذِى الرِّيَاسَتَيْنِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بِهِ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ: قَالَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى
لِلرَّشِيدِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ لِي أَبِي يَحْيَى: إِذَا
أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ فَأَعْطِ ; فَإِنَّهَا لَا تَفْنَى، وَإِذَا
أَدْبَرَتْ عَنْكَ فَأَعْطِ ; فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى. قَالَ جَعْفَرٌ: وَأَنْشَدَنَا
أَبِي:
لَا تَبْخَلَنَّ لِدُنْيَا وَهْيَ مُقْبِلَةٌ فَلَيْسَ يَنْقُصُهَا التَّبْذِيرُ
وَالسَّرَفُ
فَإِنْ تَوَلَّتْ فَأَحْرَى أَنْ تَجُودَ بِهَا فَالْحَمْدُ مِنْهَا إِذَا مَا
أَدْبَرَتْ خَلَفُ
قَالَ
الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَقَدْ كَانَ جَعْفَرٌ مِنْ عُلُوِّ الْقَدْرِ
وَنَفَاذِ الْأَمْرِ وَعِظَمِ الْمَحَلِّ وَجَلَالَةِ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ
الرَّشِيدِ بِحَالَةٍ انْفَرَدَ بِهَا، وَلَمْ يُشَارَكْ فِيهَا، وَكَانَ سَمْحَ
الْأَخْلَاقِ، طَلْقَ الْوَجْهِ، ظَاهِرَ الْبِشْرِ. فَأَمَّا جُودُهُ وَسَخَاؤُهُ
وَبَذْلُهُ وَعَطَاؤُهُ فَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ وَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ
يَظْهَرَ، وَكَانَ أَيْضًا مِنْ ذَوِي الْفَصَاحَةِ الْمَذْكُورِينَ
وَالْبَلَاغَةِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ مُهَذَّبٍ حَاجِبِ الْعَبَّاسِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، صَاحِبِ قَطِيعَةِ الْعَبَّاسِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ، أَنَّهُ
أَصَابَتْهُ ضَائِقَةٌ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ الْمُطَالِبُونَ، وَعِنْدَهُ سَفَطٌ
فِيهِ جَوْهَرٌ شِرَاؤُهُ عَلَيْهِ أَلْفُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَحَمَلَهُ إِلَى
جَعْفَرٍ لِيَبِيعَهُ مِنْهُ، فَاشْتَرَاهُ بِثَمَنِهِ وَوَزَنَ لَهُ أَلْفَ أَلْفٍ،
وَقَبَضَ مِنْهُ السَّفَطَ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا
رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ إِذَا السَّفَطُ قَدْ سَبَقَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ،
فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَيْهِ لِيَشْكُرَهُ، فَوَجَدَهُ مَعَ أَخِيهِ
الْفَضْلِ عَلَى بَابِ الرَّشِيدِ يَسْتَأْذِنَانِ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ
جَعْفَرٌ: إِنِّي قَدْ ذَكَرْتُ أَمْرَكَ لِلْفَضْلِ، وَقَدْ أَمَرَ لَكَ بِأَلْفِ
أَلْفٍ، وَمَا أَظُنُّهَا إِلَّا قَدْ سَبَقَتْكَ إِلَى أَهْلِكَ، وَسَأُفَاوِضُ
فِيكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا دَخَلَ ذَكَرَ أَمْرَهُ وَمَا لَحِقَهُ
مِنَ الدُّيُونِ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَكَانَ جَعْفَرٌ لَيْلَةً فِي سَمَرِهِ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ،
فَجَاءَتِ الْخُنْفُسَاءُ، حَتَّى رَكِبَتْ ثِيَابَ الرَّجُلِ، فَأَلْقَاهَا
عَنْهُ جَعْفَرٌ. وَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِنَّ مَنْ
قَصَدَتْهُ
الْخُنْفُسَاءُ يُبَشَّرُ بِمَالٍ يُصِيبُهُ. فَأَمَرَ لَهُ جَعْفَرٌ بِأَلْفِ
دِينَارٍ. ثُمَّ عَادَتِ الْخُنْفُسَاءُ، فَرَجَعَتْ إِلَى الرَّجُلِ، فَأَمَرَ
لَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ أُخْرَى.
وَحَجَّ مَرَّةً مَعَ الرَّشِيدِ، فَلَمَّا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ قَالَ لِرَجُلٍ
مِنْ أَصْحَابِهِ: انْظُرْ جَارِيَةً أَشْتَرِيهَا تَكُونُ فَائِقَةً فِي
جَمَالِهَا وَغِنَائِهَا وَذَكَائِهَا. فَفَتَّشَ الرَّجُلُ فَوَجَدَ جَارِيَةً
عَلَى النَّعْتِ، فَطَلَبَ سَيِّدُهَا فِيهَا مَالًا كَثِيرًا عَلَى أَنْ يَرَاهَا
جَعْفَرٌ، فَذَهَبَ جَعْفَرٌ إِلَى مَنْزِلِ سَيِّدِهَا، فَلَمَّا رَآهَا أُعْجِبَ
بِهَا، فَلَمَّا غَنَّتْهُ أَعْجَبَتْهُ أَكْثَرَ، فَسَاوَمَ صَاحِبَهَا فِيهَا،
وَقَالَ: قَدْ أَحْضَرْنَا مَالًا فَإِنْ أَعْجَبَكَ وَإِلَّا زِدْنَاكَ. فَقَالَ
لَهَا سَيِّدُهَا: إِنِّي كُنْتُ فِي نِعْمَةٍ، وَكُنْتِ عِنْدِي فِي غَايَةِ
السُّرُورِ وَالسِّعَةِ، وَإِنَّهُ قَدِ انْقَبَضَ عَلَيَّ حَالِي، وَقَدْ
أَحْبَبْتُ أَنْ أَبِيعَكَ لِهَذَا الْمَلِكِ، لِتَكُونِي عِنْدَهُ كَمَا كُنْتِ
عِنْدِي. فَقَالَتْ: يَا سَيِّدِي، وَاللَّهِ لَوْ مَلَكْتُ مِنْكَ مَا مَلَكْتَ
مِنِّي لَمْ أَبِعْكَ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَأَيْنَ مَا كُنْتَ
عَاهَدْتَنِي أَنْ لَا تَبِيعَنِي، وَلَا تَأْكُلَ ثَمَنِي؟! فَقَالَ سَيِّدُهَا
لِجَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ: أُشْهِدُكُمْ أَنَّهَا حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَأَنِّي قَدْ تَزَوَّجْتُهَا. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ نَهَضَ جَعْفَرٌ،
وَقَامَ أَصْحَابُهُ، وَأَمَرُوا الْحَمَّالَ أَنْ يَحْمِلَ الدَّرَاهِمَ، فَقَالَ
جَعْفَرٌ: وَاللَّهِ لَا تَتْبَعُنِي. وَقَالَ لِلرَّجُلِ: قَدْ مَلَّكْتُكَهَا.
فَأَنْفِقْهَا عَلَى أَهْلِكَ. وَذَهَبَ وَتَرَكَهُ.
هَذَا وَقَدْ كَانَ يُبَخَّلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَخِيهِ الْفَضْلِ، إِلَّا
أَنَّ الْفَضْلَ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ مَالًا.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الدَّارَقُطْنِيِّ بِسَنَدِهِ أَنَّهُ
لَمَّا أُصِيبَ جَعْفَرٌ وَجَدُوا لَهُ فِي جَرَّةٍ أَلْفَ دِينَارٍ، زِنَةُ كُلِّ
دِينَارٍ مِائَةُ دِينَارٍ، مَكْتُوبٌ عَلَى صَفْحَةِ الدِّينَارِ
الْوَاحِدَةُ
جَعْفَرٌ، وَالْأُخْرَى:
وَأَصْفَرَ مِنْ ضَرْبِ دَارِ الْمُلُوكِ يَلُوحُ عَلَى وَجْهِهِ جَعْفَرُ
يَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَاحِدًا مَتَى تُعْطِهِ مُعْسِرًا يُوسِرُ
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُعَلَّى الرَّاوِيَةُ: كَتَبَتْ عِنَانُ جَارِيَةُ
النَّاطِفِيِّ إِلَى جَعْفَرٍ تَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ لِأَبِيهِ يَحْيَى
أَنْ يُشِيرَ عَلَى الرَّشِيدِ بِشِرَائِهَا، وَكَتَبَتْ إِلَيْهِ بِهَذِهِ
الْأَبْيَاتِ مِنْ شَعْرِهَا فِي جَعْفَرٍ:
يَا لَائِمِي جَهْلًا أَلَا تُقْصِرُ مَنْ ذَا عَلَى حَرِّ الْهَوَى يَصْبِرُ
لَا تَلْحَنِي إِذَا شَرِبْتُ الْهَوَى صَرْفًا فَمَمْزُوجُ الْهَوَى سُكْرُ
أَحَاطَ بِيَ الْحُبُّ فَخَلْفِي لَهُ بَحْرٌ وَقُدَّامِي لَهُ أَبْحُرُ
تُخْفِقُ رَايَاتِ الْهَوَى بِالرَّدَى فَوْقِي وَحَوْلِي لِلْهَوَى عَسْكَرُ
سِيَّانَ عِنْدِي فِي الْهَوَى لَائِمٌ أَقَلَّ فِيهِ وَالَّذِي يَكْثُرُ
أَنْتَ الْمُصَفَّى مِنْ بَنِي بَرْمَكٍ يَا جَعْفَرَ الْخَيْرَاتِ يَا جَعْفَرُ
لَا يَبْلُغُ الْوَاصِفُ فِي وَصْفِهِ مَا فِيكَ مِنْ فَضْلٍ وَلَا يَعْشُرُ
مَنْ وَفَّرَ الْمَالَ بِأَعْرَاضِهِ فَجَعْفَرٌ أَعْرَاضُهُ أَوْفَرُ
دِيبَاجَةُ الْمُلْكِ عَلَى وَجْهِهِ وَفِي يَدَيْهِ الْعَارِضُ الْمُمْطِرُ
سَحَّتْ عَلَيْنَا مِنْهُمَا دِيمَةٌ يَنْهَلُّ مِنْهَا الذَّهَبُ الْأَحْمَرُ
لَوْ مَسَحَتْ كَفَّاهُ جُلْمُودَةً أَنْضَرَ فِيهَا الْوَرَقُ الْأَخْضَرُ
لَا يَسْتَتِمُّ الْمَجْدُ إِلَّا فَتًى يَصْبِرُ لِلْبَذْلِ كَمَا يَصْبِرُ
يَهْتَزُّ
تَاجُ الْمُلْكِ مِنْ فَوْقِهِ فَخْرًا وَيُزْهِي تَحْتَهُ الْمِنْبَرُ
أَشْبَهَهُ الْبَدْرُ إِذَا مَا بَدَا أَوْ غُرَّةٌ فِي وَجْهِهِ تُزْهِرُ
وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَبَدْرُ الدُّجْى فِي وَجْهِهِ أَمْ وَجْهُهُ أَنْوَرُ
يَسْتَمْطِرُ الزُّوَّارُ مِنْكَ النَّدَى وَأَنْتَ بِالزُّوَّارِ تَسْتَبْشِرُ
وَكَتَبَتْ تَحْتَ أَبْيَاتِهَا حَاجَتَهَا، فَرَكِبَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى
أَبِيهِ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِشِرَائِهَا،
فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَشْتَرِيهَا وَقَدْ قَالَ فِيهَا الشُّعَرَاءُ
فَأَكْثَرُوا، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهَا، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا أَبُو
نُوَاسٍ:
إِنَّ عِنَانَ النِّطَافَ جَارِيَةٌ أَصْبَحَ حِرُّهَا لِلنَّيْكِ مَيْدَانَا
لَا يَشْتَرِيهَا إِلَّا ابْنُ زَانِيَةٍ أَوْ قَلْطَبَانٌ يَكُونُ مَنْ كَانَا
وَعَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَشْرَسَ قَالَ: بِتُّ لَيْلَةً مَعَ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى
بْنِ خَالِدٍ، فَانْتَبَهَ مِنْ مَنَامِهِ يَبْكِي مَذْعُورًا، فَقُلْتُ: مَا
شَأْنُكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ شَيْخًا جَاءَ فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيْ هَذَا الْبَابِ
وَقَالَ:
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ
بِمَكَّةَ سَامِرُ
قَالَ فَأَجَبْتُهُ:
بَلَى
نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا فَأَبَادَنَا صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالْجُدُودُ
الْعَوَاثِرُ
قَالَ ثُمَامَةُ بْنُ أَشْرَسَ: فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الْمُقْبِلَةُ
قَتَلَهُ الرَّشِيدُ، وَنَصَبَ رَأَّسَهُ عَلَى الْجِسْرِ، ثُمَّ خَرَجَ الرَّشِيدُ
يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَتَأَمَّلَهُ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
تَقَاضَاكَ دَهْرُكَ مَا أَسْلَفَا وَكَدَّرَ عَيْشَكَ بَعْدَ الصَّفَا
فَلَا تَعْجَبَنَّ فَإِنَّ الزَّمَانَ رَهِينٌ بِتَفْرِيقِ مَا أَلَّفَا
قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى جَعْفَرٍ، وَقُلْتُ: أَمَا لَئِنْ أَصْبَحْتَ آيَةً،
فَلَقَدْ كُنْتُ فِي الْخَيْرِ غَايَةً. قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيَّ الرَّشِيدُ
كَأَنَّهُ جَمَلٌ صَئُولٌ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
مَا يُعْجِبُ الْعَالَمَ مِنْ جَعْفَرٍ مَا عَايَنُوهُ فَبِنَا كَانَا
مَنْ جَعْفَرٌ أَوْ مَنْ أَبُوهُ وَمَنْ كَانَتْ بَنُو بَرْمَكٍ لَوْلَانَا
ثُمَّ حَوَّلَ وَجْهَ فَرَسِهِ وَانْصَرَفَ.
وَقَدْ كَانَ مَقْتَلُ جَعْفَرٍ فِي لَيْلَةِ السَّبْتِ مُسْتَهَلَّ صَفَرٍ مِنْ
سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ
سَنَةً، وَكَانَ لَهُمْ فِي الْوِزَارَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَقَدْ دَخَلَتْ عُبَادَةُ أُمُّ جَعْفَرٍ عَلَى أُنَاسٍ فِي يَوْمِ عِيدِ أَضْحَى
تَسْتَمْنِحُ مِنْهُمْ جِلْدَ شَاةٍ تَتَدَفَّأُ بِهِ، وَسَأَلُوهَا عَنْ
أَمْرِهِمْ: فَقَالَتْ: أَذْكُرُ أَصْبَحْتُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ وَإِنَّ
عَلَى رَأْسِي أَرْبَعَمِائَةِ وَصِيفَةٍ، وَإِنِّي لَأَقُولُ: إِنَّ ابْنِي
جَعْفَرًا عَاقٌّ بِي.
وَرَوَى
الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ لَمَّا بَلَغَهُ
قَتْلُ الرَّشِيدِ جَعْفَرًا، وَمَا أَحَلَّ بِالْبَرَامِكَةِ مِنَ النِّقْمَةِ
اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ جَعْفَرًا كَانَ قَدْ كَفَانِي
مَئُونَةَ الدُّنْيَا فَاكْفِهِ مَئُونَةَ الْآخِرَةِ.
حِكَايَةٌ غَرِيبَةٌ
ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظَمِ
" أَنَّ الْمَأْمُونَ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا يَأْتِي كُلَّ يَوْمٍ إِلَى
قُبُورِ الْبَرَامِكَةِ فَيَبْكِي عَلَيْهِمْ وَيَنْدُبُهُمْ، فَبَعَثَ مَنْ
جَاءَهُ بِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَدْ يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ، فَقَالَ لَهُ:
وَيْحَكَ! مَا يَحْمِلُكَ عَلَى صَنِيعِكَ هَذَا؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُمْ أَسْدَوْا إِلَى مَعْرُوفًا وَخَيْرًا كَثِيرًا، وَلِي
خَبَرٌ طَوِيلٌ. فَقَالَ: قُلْ. قَالَ: أَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مِنْ
أَهْلِ دِمَشْقَ، كُنْتُ فِي نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، فَزَالَتْ عَنِّي حَتَّى أَفْضَى
بِي الْحَالُ إِلَى أَنْ بِعْتُ دَارِي، وَلَمْ يَبْقَ لِي شَيْءٌ فَأَشَارَ
بَعْضُ أَصْحَابِي عَلَيَّ بِقَصْدِ الْبَرَامِكَةِ فَأَتَيْتُ بَغْدَادَ وَمَعِي
نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ امْرَأَةً وَصَبِيًّا، فَأَنْزَلْتُهُنَّ فِي مَسْجِدٍ ثُمَّ
قَصَدْتُ مَسْجِدًا أَصْلِيُّ فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ جَمَاعَةٌ لَمْ أَرَ أَحْسَنَ
مِنْهُمْ، فَجَلَسْتُ
إِلَيْهِمْ، فَجَعَلْتُ أُدِيرُ فِي نَفْسِي كَلَامًا أَطْلُبُ بِهِ مِنْهُمْ قُوتًا لِلْعِيَالِ، فَيَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ ذُلُّ السُّؤَالِ، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذَا بِخَادِمٍ قَدْ أَقْبَلَ فَاسْتَدْعَاهُمْ، فَقَامُوا كُلُّهُمْ وَقُمْتُ مَعَهُمْ، فَدَخَلُوا دَارًا عَظِيمَةً، فَإِذَا الْوَزِيرُ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ فِيهَا، فَجَلَسُوا حَوْلَهُ، فَعَقَدَ عَقْدَ ابْنَتِهِ عَائِشَةَ عَلَى ابْنِ عَمٍّ لَهُ، وَنَثَرُوا عَلَيْنَا سَحِيقَ الْمِسْكِ وَبَنَادِقَ الْعَنْبَرِ، ثُمَّ جَاءَتِ الْخَدَمُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِصِينِيَّةٍ مِنْ فِضَّةٍ فِيهَا أَلْفُ دِينَارٍ، وَمَعَهَا فُتَاتُ الْمِسْكِ، فَأَخَذَهَا الْقَوْمُ وَنَهَضُوا، وَبَقِيَتْ بَيْنَ يَدَيَّ الصِّينِيَّةُ الَّتِي وَضَعُوهَا لِي، وَأَنَا أَهَابُ أَنْ آخُذَهَا مِنْ عَظَمَتِهَا عِنْدِي، فَقَالَ لِي بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: أَلَّا تَأْخُذُهَا وَتَقُومُ ؟ فَمَدَدْتُ يَدِي، فَأَخَذْتُهَا فَأَفْرَغْتُ ذَهَبَهَا فِي جَيْبِي وَأَخَذْتُ الصِّينِيَّةَ تَحْتَ إِبِطِي وَقُمْتُ وَأَنَا خَائِفٌ أَنْ تُؤْخَذَ مِنِّي، فَجَعَلْتُ أَتَلَفَّتُ وَالْوَزِيرُ يَنْظُرُ إِلَيَّ وَأَنَا لَا أَشْعُرُ، فَلَمَّا بَلَغْتُ السِّتَارَةَ أَمَرَهُمْ فَرَدُّونِي، فَيَئِسْتُ مِنَ الْمَالِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ قَالَ لِي: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ خَبَرِي، فَبَكَى ثُمَّ قَالَ لِأَوْلَادِهِ: خُذُوا هَذَا فَضَمُّوهُ إِلَيْكُمْ. فَجَاءَنِي خَادِمٌ، فَأَخَذَ مِنِّي الذَّهَبَ وَالصِّينِيَّةَ، وَأَقَمْتُ عِنْدَهُمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ وَلَدٍ إِلَى وَلَدٍ وَخَاطِرِي كُلُّهُ عِنْدَ عِيَالِي، وَلَا يُمْكِنُنِي الِانْصِرَافُ، فَلَمَّا انْقَضَتِ الْعَشْرَةُ جَاءَنِي خَادِمٌ فَقَالَ: أَلَا تَذْهَبُ إِلَى أَهْلِكَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى وَاللَّهِ. فَقَامَ يَمْشِي أَمَامِي وَلَمْ يُعْطِنِي الذَّهَبَ، فَقُلْتُ: يَا لَيْتَ هَذَا كَانَ قَبْلَ هَذَا. فَسَارَ يَمْشِي أَمَامِي إِلَى دَارٍ لَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْهَا، فَإِذَا
عِيَالِي
يَتَمَرَّغُونَ فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ فِيهَا، وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ
مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَكِتَابٌ فِيهِ تَمْلِيكُ
الدَّارِ بِمَا فِيهَا، وَبِقَرْيَتَيْنِ جَلِيلَتَيْنِ لَهُمْ، فَكُنْتُ مَعَ
الْبَرَامِكَةِ فِي أَطْيَبِ عَيْشٍ، فَلَمَّا أُصِيبُوا أَخَذَ مِنِّي عَمْرُو
بْنُ مَسْعَدَةَ الْقَرْيَتَيْنِ، وَأَلْزَمَنِي بِخَرَاجِهِمَا، فَكُلَّمَا
لَحِقَتْنِي فَاقَةٌ قَصَدْتُ دَوْرَهُمْ وَقُبُورَهُمْ فَبَكَيْتُ عَلَيْهِمْ.
فَأَمَرَ الْمَأْمُونُ بِرَدِّ الْقَرْيَتَيْنِ عَلَيْهِ وَخَرَاجِهِمَا. فَبَكَى
الشَّيْخُ بُكَاءً شَدِيدًا، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: أَلَمْ أَسْتَأْنِفْ بِكَ
جَمِيلًا ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ هُوَ مِنْ بَرَكَةِ الْبَرَامِكَةِ. فَقَالَ
الْمَأْمُونُ: امْضِ مُصَاحَبًا فَإِنَّ الْوَفَاءَ مُبَارَكٌ، وَحُسْنَ الْعَهْدِ
مِنَ الْإِيمَانِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ،
أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْعُبَّادِ، وَعَلَمُ
الزُّهَّادِ، وَوَاحِدُ الْعُلَمَاءِ الْأَوْلِيَاءِ، وُلِدَ بِخُرَاسَانَ
بِكَوْرَةِ أَبِيوَرْدَ، وَقَدِمَ الْكُوفَةَ وَهُوَ كَبِيرٌ، فَسَمِعَ
الْأَعْمَشَ، وَمَنْصُورَ بْنَ الْمُعْتَمِرِ وَعَطَاءَ بْنَ السَّائِبِ،
وَحُصَيْنَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَغَيْرَهُمْ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مَكَّةَ
فَتَعَبَّدَ بِهَا، وَكَانَ حَسَنَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، كَثِيرَ الصَّلَاةِ
وَالصِّيَامِ، وَكَانَ سَيِّدًا كَبِيرَ الشَّأْنِ، ثِقَةً مِنْ أَئِمَّةِ
الرِّوَايَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرَضِيَ عَنْهُ، وَلَهُ مَعَ الرَّشِيدِ قِصَّةُ
مَوْعِظَتِهِ لَهُ، وَقَدْ رُوِّينَا ذَلِكَ
مُطَوَّلًا
فِي كَيْفِيَّةِ دُخُولِ الرَّشِيدِ عَلَيْهِ مَنْزِلَهُ، وَمَا قَالَ لَهُ
الْفُضَيْلُ، وَعَرْضِ الرَّشِيدِ عَلَيْهِ الْمَالَ، فَأَبَى ذَلِكَ وَلَمْ
يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ فِي هَذَا الْعَامِ، فِي الْمُحَرَّمِ
مِنْهُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ شَاطِرًا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَكَانَ يَتَعَشَّقُ
جَارِيَةً، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهَا جِدَارًا إِذْ
سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ
قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [ الْحَدِيدِ: 61 ]. فَقَالَ: بَلَى يَا رَبِّ.
وَأَقْلَعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ، وَرَجَعَ إِلَى خَرِبَةٍ، فَبَاتَ بِهَا فَسَمِعَ
سِفَارًا يَقُولُونَ: إِنَّ فُضَيْلًا أَمَامَكُمْ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ.
فَأَمَّنَهُمْ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَوْبَتِهِ، حَتَّى كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ
مِنَ السِّيَادَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ، ثُمَّ صَارَ عَلَمًا يُقْتَدَى
بِهِ وَيُهْتَدَى بِكَلَامِهِ وَفِعَالِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ الْفُضَيْلُ:
لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا حَلَالٌ لَا أُحَاسَبُ بِهَا، لَكُنْتُ
أَتَقَذَّرُهَا كَمَا يَتَقَذَّرُ أَحَدُكُمُ الْجِيفَةَ إِذَا مَرَّ بِهَا أَنْ
تُصِيبُ ثَوْبَهُ.
وَقَالَ: الْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ
النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا.
وَقَالَ
لَهُ الرَّشِيدُ يَوْمًا: مَا أَزْهَدَكَ! فَقَالَ: أَنْتَ أَزْهَدُ مِنِّي ;
لِأَنِّي زَهِدْتُ فِي الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَأَنْتَ زَهِدْتَ فِي الْآخِرَةِ
الْبَاقِيَةِ.
وَمِنْ كَلَامِهِ: لَوْ أَنَّ لِي دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً لَدَعَوْتُ بِهَا
لِإِمَامِ عَامَّةٍ ; فَإِنَّهُ إِذَا صَلَحَ أَمِنَتِ الْبِلَادُ وَالْعِبَادُ.
وَقَالَ: إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ فَأَعْرِفُ ذَلِكَ فِي خُلِقِ حِمَارِي
وَخَادِمِي.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [
الْمُلْكِ: 2 ]. قَالَ: يَعْنِي أَخْلَصَهُ وَأَصْوَبَهُ ;إِنَّ الْعَمَلَ يَجِبُ
أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، وَصَوَابًا عَلَى مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، وَعَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ،
وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْعَمِّيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْأَمِيرُ بِبِلَادِ الرُّومِ مَعَ الْقَاسِمِ ابْنِ الرَّشِيدِ فِي الصَّائِفَةِ، وَمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَأَبُو شُعَيْبٍ الْبَرَاثِيُّ الزَّاهِدُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَكَنَ بَرَاثَا فِي كُوخٍ لَهُ يَتَعَبَّدُ فِيهِ، فَهَوِيَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ الرُّؤَسَاءِ، فَانْخَلَعَتْ مِمَّا كَانَتْ فِيهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالْحِشْمَةِ، وَتَزَوَّجَتْهُ وَأَقَامَتْ مَعَهُ يَتَعَبَّدَانِ فِي ذَلِكَ الْكُوخِ حَتَّى مَاتَا، رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَيُقَالُ إِنَّ اسْمَهَا جَوْهَرَةُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ جِبْرِيلَ الصَّائِفَةَ، فَدَخَلَ بِلَادَ
الرُّومِ مِنْ دَرْبِ الصَّفْصَافِ، فَخَرَجَ النَّقْفُورُ لِلِقَائِةِ، فَجُرِحَ
النَّقْفُورُ ثَلَاثَ جِرَاحَاتٍ، وَانْهَزَمَ وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَكْثَرُ
مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَغَنِمُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ دَابَّةٍ.
وَفِيهَا رَابَطَ الْقَاسِمُ ابْنُ الرَّشِيدِ بِمَرْجِ دَابِقٍ. وَفِيهَا حَجَّ
بِالنَّاسِ الرَّشِيدُ، وَكَانَتْ آخِرَ حَجَّاتِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ حِينَ رَأَى الرَّشِيدَ مُنْصَرِفًا مِنَ
الْحَجِّ، وَقَدِ اجْتَازَ بِالْكُوفَةِ: لَا يَحُجُّ الرَّشِيدُ بَعْدَهَا، وَلَا
يَحُجُّ بَعْدَهُ خَلِيفَةٌ أَبَدًا.
وَقَدْ لَقِيَهُ بُهْلُولٌ الْمُوَلَّهُ الْعَاقِلُ فَوَعَظَهُ مَوْعِظَةً
حَسَنَةً، فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ الْحَاجِبِ قَالَ:
حَجَجْتُ مَعَ الرَّشِيدِ فَمَرَرْنَا بِالْكُوفَةِ، فَإِذَا بُهْلُولٌ
الْمَجْنُونُ يَهْذِي، فَقُلْتُ: اسْكُتْ، فَقَدْ أَقْبَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.
فَسَكَتَ، فَلَمَّا حَاذَاهُ الْهَوْدَجُ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
حَدَّثَنِي أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ، ثَنَا قُدَامَةُ بْنُ
عَبْدِ
اللَّهِ الْعَامِرِيُّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمِنَى عَلَى جَمَلٍ وَتَحْتَهٌ رَحْلٌ رَثٌّ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ
طَرْدٌ وَلَا ضَرْبٌ وَلَا إِلَيْكَ إِلَيْكَ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ بُهْلُولٌ الْمَجْنُونُ. فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُهُ، قُلْ
يَا بُهْلُولُ. فَقَالَ:
فَهَبْ أَنْ قَدْ مَلَكْتَ الْأَرْضَ طُرًّا وَدَانَ لَكَ الْعِبَادُ فَكَانَ
مَاذَا أَلَيْسَ غَدًا مُصِيرُكَ جَوْفَ قَبْرِ
وَيَحْثُو عَلَيْكَ التُّرْبَ هَذَا ثُمَّ هَذَا
قَالَ: أَجَدْتَ يَا بُهْلُولُ، أَفَغَيْرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ جَمَالًا وَمَالًا ; فَعَفَّ فِي
جَمَالِهِ، وَوَاسَى فِي مَالِهِ، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْأَبْرَارِ. قَالَ:
فَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ شَيْئًا، فَقَالَ: إِنَّا قَدْ أَمَرْنَا بِقَضَاءِ
دَيْنِكَ. قَالَ: لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَقْضِ دَيْنًا
بِدَيْنٍ، ارْدُدِ الْحَقَّ إِلَى أَهْلِهِ، وَاقْضِ دَيْنَ نَفْسِكَ مِنْ
نَفْسِكَ. قَالَ: إِنَّا أَمَرْنَا أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْكَ رِزْقٌ. قَالَ: لَا
تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ لَا يُعْطِيكَ وَيَنْسَانِي،
وَلَا حَاجَةَ لِي فِي جِرَايَتِكَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
أَسْمَاءَ بْنِ
خَارِجَةَ
، إِمَامُ أَهْلِ الشَّامِ فِي الْمَغَازِي وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَخَذَ عَنِ
الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقِيلَ: قَبْلَهَا.
وَإِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ، النَّدِيمُ،
وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَاهَانَ بْنِ بَهْمَنَ بْنِ نُسْكَ أَبُو إِسْحَاقَ،
أَحَدُ الشُّعَرَاءِ وَالْمُغَنِّينَ وَالنُّدَمَاءِ، أَصْلُهُ مِنَ الْفُرْسِ
وَوَلَاؤُهُ لِلْحَنْظَلِيِّينَ، وُلِدَ بِالْكُوفَةِ، وَصَحِبَ شَبَابَهَا
وَأَخَذَ عَنْهُمُ الْغِنَاءَ، فَأَجَادَ فِي عِلْمِهِ، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى
الْمَوْصِلِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكُوفَةِ فَقَالُوا لَهُ: الْمَوْصِلِيُّ.
وَقَدِ اتَّصَلَ بِالْخُلَفَاءِ ; أَوَّلُهُمُ الْمَهْدِيُّ، وَحَظِيَ عِنْدَ
الرَّشِيدِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ سُمَّارِهِ وَنُدَمَائِهِ وَمُغَنِّيهِ، وَقَدْ
أَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ تَرَكَ
أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَكَانَتْ لَهُ طُرَفٌ وَحِكَايَاتٌ
غَرِيبَةٌ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ فِي
الْكُوفَةِ، وَنَشَأَ فِي كَفَالَةِ بَنِي تَمِيمٍ، فَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ وَنُسِبَ
إِلَيْهِمْ، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا فِي صِنَاعَةِ الْغِنَاءِ، وَكَانَ
مُزَوَّجًا بِأُخْتِ مَنْصُورٍ الْمُلَقَّبِ بِزَلْزَلٍ الَّذِي كَانَ يَضْرِبُ
مَعَهُ، فَإِذَا غَنَّى هَذَا وَضَرَبَ هَذَا اهْتَزَّ الْمَجْلِسُ. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ فِي
" الْوَفَيَاتِ " قَوْلًا أَنَّهُ تُوُفِّيَ هُوَ وَأَبُو
الْعَتَاهِيَةِ وَأَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ النَّحْوِيُّ بِبَغْدَادَ فِي
يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ
سَنَةِ
ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَصَحَّحَ الْأَوَّلَ.
وَمِنْ أَشْعَارِهِ عِنْدَ احْتِضَارِهِ قَوْلُهُ:
مَلَّ وَاللَّهِ طَبِيبِي مِنْ مُقَاسَاةِ الَّذِي بِي سَوْفَ أُنْعَى عَنْ
قَرِيبٍ لَعَدُوٍّ وَحَبِيبِ
وَفِيهَا مَاتَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَرِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ،
وَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، وَعُمَرُ بْنُ أَيُّوبَ
الْعَابِدُ أَحَدُ مَشَايِخِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ فِي
قَوْلٍ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا رَجَعَ الرَّشِيدُ مِنَ الْحَجِّ، وَسَارَ إِلَى الرَّيِّ، فَوَلَّى
وَعَزَلَ وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَرَدَّ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى إِلَى وِلَايَةِ
خُرَاسَانَ، وَجَاءَهُ نُوَّابُ تِلْكَ الْبُلْدَانِ بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ
مِنْ سَائِرِ الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ
فَأَدْرَكَهُ عِيدُ الْأَضْحَى بِقَصْرِ اللُّصُوصِ، فَضَحَّى عِنْدَهُ، وَدَخَلَ
بَغْدَادَ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِالْجِسْرِ
أَمَرَ بِجُثَّةِ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى الْبَرْمَكِيِّ، فَأُحْرِقَتْ، وَكَانَتْ
مَصْلُوبَةً مُنْذُ قَتَلَهُ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ الرَّشِيدُ
مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الرَّقَّةِ وَهُوَ مُتَأَسِّفٌ عَلَى بَغْدَادَ وَطِيبِهَا،
وَإِنَّمَا مُرَادُهُ بِمُقَامِهِ بِالرَّقَّةِ رَدْعُ الْمُفْسِدِينَ بِهَا،
وَقَدْ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ فِي سُرْعَةِ خُرُوجِهِمْ مِنْ
بَغْدَادَ مَعَ الرَّشِيدِ:
مَا أَنَخْنَا حَتَّى ارْتَحَلْنَا فَمَا نُ فَرِّقُ بَيْنَ الْمُنَاخِ وَالْإِرْتِحَالِ
سَاءَلُونَا عَنْ حَالِنَا إِذْ قَدِمْنَا
فَقَرَنَّا وَدَاعَهُمْ بِالسُّؤَالِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فَادَى الرَّشِيدُ الْأُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ
الَّذِينَ كَانُوا بِبِلَادِ الرُّومِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِهَا
أَسِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ الْأَلِبَّاءِ:
وَفُكَّتْ بِكَ الْأَسْرَى الَّتِي شُيِّدَتْ لَهَا مَحَابِسُ مَا فِيهَا حَمِيمٌ
يَزُورُهَا
عَلَى حِينِ أَعْيَا الْمُسْلِمِينَ فِكَاكُهَا وَقَالُوا سُجُونُ الْمُشْرِكِينَ
قُبُورُهَا
وَفِيهَا
رَابَطَ الْقَاسِمُ ابْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ بِمَرْجِ دَابِقٍ مُحَاصِرًا
الرُّومَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنِ
مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَيْرُوزَ أَبُو الْحَسَنِ
الْأَسَدِيُّ مَوْلَاهُمُ، الْكُوفِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالْكِسَائِيِّ ; لِإِحْرَامِهِ فِي كِسَاءٍ، وَقِيلَ:
لِاشْتِغَالِهِ عَلَى حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ فِي كِسَاءٍ. النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ، أَصْلُهُ مِنَ الْكُوفَةِ، ثُمَّ اسْتَوْطَنَ
بَغْدَادَ، فَأَدَّبَ الرَّشِيدَ وَوَلَدَهُ الْأَمِينَ، وَقَدْ قَرَأَ عَلَى
حَمْزَةَ بْنِ حَبِيبٍ الزَّيَّاتِ قِرَاءَتَهُ، وَكَانَ يُقْرِئُ بِهَا، ثُمَّ
اخْتَارَ لِنَفْسِهِ قِرَاءَةً، فَكَانَ يَقْرَأُ بِهَا.
رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ
وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ.
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي النَّحْوِ فَهُوَ
عِيَالٌ عَلَى الْكِسَائِيِّ.
وَقَدْ
كَانَ الْكِسَائِيُّ أَخَذَ عَنِ الْخَلِيلِ صِنَاعَةَ النَّحْوِ، فَسَأَلَهُ
يَوْمًا: عَمَّنْ أَخَذْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ بَوَادِي الْحِجَازِ. فَرَحَلَ
الْكِسَائِيُّ إِلَى هُنَاكَ، فَكَتَبَ عَنِ الْعَرَبِ شَيْئًا كَثِيرًا، ثُمَّ عَادَ
- وَمِنْ هِمَّتِهِ الْعَوْدُ - إِلَى الْخَلِيلِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ،
وَتَصَدَّرَ فِي مَوْضِعِهِ يُونُسُ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا مُنَاظَرَاتٌ أَقَرَّ
لَهُ فِيهَا يُونُسُ وَأَجْلَسَهُ فِي مَوْضِعِهِ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: صَلَّيْتُ يَوْمًا بِالرَّشِيدِ، فَأَعْجَبَتْنِي
قِرَاءَتِي، فَغَلِطْتُ غَلْطَةً مَا غَلِطَهَا صَبِيٌّ، أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ:
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ الْأَعْرَافِ: 168 ]. فَقُلْتُ: لَعَلَّهُمْ
يَرجِعِينَ. فَمَا تَجَاسَرَ الرَّشِيدُ أَنْ يَرُدَّهَا، لَكِنْ لَمَّا سَلَّمْتُ
قَالَ: أَيُّ لُغَةٍ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ الْجَوَادَ قَدْ يَعْثُرُ. فَقَالَ:
أَمَّا هَذَا فَنَعَمْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقِيتُ الْكِسَائِيَّ فَإِذَا هُوَ مَهْمُومٌ، فَقُلْتُ: مَا
لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ قَدْ وَجَّهَ إِلَيَّ يَسْأَلُنِي عَنْ
أَشْيَاءَ، فَأَخْشَى مِنَ الْخَطَأِ. فَقُلْتُ لَهُ: قُلْ مَا شِئْتَ فَأَنْتَ
الْكِسَائِيُّ. فَقَالَ: قَطْعُهُ اللَّهُ - يَعْنِي لِسَانَهُ - إِنْ قُلْتُ مَا
لَمْ أَعْلَمْ.
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: قُلْتُ يَوْمًا لِنَجَّارٍ: بِكَمْ هَذَانَ الْبَابَانِ؟
فَقَالَ: بَسَلْحَتَانِ يَا مَصْفَعَانِ.
تُوُفِّيَ الْكِسَائِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، عَنْ سَبْعِينَ
سَنَةً. وَكَانَ فِي
صُحْبَةِ
الرَّشِيدِ بِبِلَادِ الرَّيِّ، فَمَاتَ بِنَوَاحِيهَا هُوَ وَمُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ أَيْضًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ الرَّشِيدُ يَقُولُ: دَفَنْتُ
الْفِقْهَ وَالْعَرَبِيَّةَ بِالرَّيِّ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَقِيلَ: إِنَّ الْكِسَائِيَّ تُوُفِّيَ
بِطُوسَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَأَى بَعْضُهُمُ الْكِسَائِيَّ فِي الْمَنَامِ وَوَجْهُهُ كَالْبَدْرِ،
فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ رَبُّكَ بِكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِالْقُرْآنِ.
فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ حَمْزَةُ ؟ قَالَ: ذَاكَ فِي عِلِّيِّينَ، مَا نَرَاهُ
إِلَّا كَمَا نَرَى الْكَوْكَبَ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ فَرْقَدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ
مَوْلَاهُمْ، صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى
دِمَشْقَ، قَدِمَ أَبُوهُ الْعِرَاقَ، فَوُلِدَ بِوَاسِطَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَنَشَأَ بِالْكُوفَةِ، فَسَمِعَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَمِسْعَرٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، وَمَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ،
وَكَتَبَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَسَكَنَ
بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَكَتَبَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ حِينَ قَدِمَهَا فِي
سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَقْرَ بَعِيرٍ، وَوَلَّاهُ الرَّشِيدُ
قَضَاءَ الرَّقَّةِ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَخَرَجَ مَعَ الرَّشِيدِ إِلَى الرَّيِّ
فَمَاتَ بِهَا.
وَكَانَ
يَقُولُ لِأَهْلِهِ: لَا تَسْأَلُونِي حَاجَةً مِنْ حَاجَاتِ الدُّنْيَا
فَتَشْغَلُوا قَلْبِي، وَخُذُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ وَكِيلِي، فَإِنَّهُ أَقَلُّ
لِهَمِّي وَأَفْرَغُ لِقَلْبِي. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا رَأَيْتُ حَبْرًا
سَمِينًا مِثْلَهُ، وَلَا رَأَيْتُ أَخَفَّ رُوحًا مِنْهُ، وَلَا أَفْصَحَ مِنْهُ،
كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ كَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، كَانَ
يَمْلَأُ الْعَيْنَ وَالْقَلْبَ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: كَانَ الشَّافِعِيُّ قَدْ طَلَبَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ كِتَابَ السِّيَرِ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى الْإِعَارَةِ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ:
قُلْ لِلَّذِي لَمْ تَرَ عَيْ نَا مَنْ رَآهُ مِثْلَهُ حَتَّى كَأَنَّ مَنْ رَآهُ
قَدْ رَأَى مَنْ قَبْلَهْ الْعِلْمُ يَنْهَى أَهْلَهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ أَهْلَهْ
لَعَلَّهُ يَبْذُلُهُ لِأَهْلِهِ لَعَلَّهْ
قَالَ: فَوَجَّهَ بِهِ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ هَدِيَّةً لَا عَارِيَّةً.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ هَذِهِ
الْمَسَائِلُ
الدِّقَاقُ
مِنْ أَيْنَ هِيَ لَكَ؟ قَالَ: مِنْ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.
وَكَانَتْ وَفَاةُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْكِسَائِيِّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: دَفَنْتُ الْيَوْمَ اللُّغَةَ
وَالْفِقْهَ جَمِيعًا. وَكَانَ عُمْرُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ثَمَانِيًا
وَخَمْسِينَ سَنَةً.
سَنَةَ
تِسْعِينَ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا خَلَعَ رَافِعُ بْنُ لَيْثِ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ نَائِبُ
سَمَرْقَنْدَ الطَّاعَةَ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَتَابَعَهُ أَهْلُ بَلَدِهِ
وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ، فَسَارَ
إِلَيْهِ نَائِبُ خُرَاسَانَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى، فَهَزَمَهُ رَافِعٌ وَتَفَاقَمَ
الْأَمْرُ بِهِ.
وَفِيهَا سَارَ هَارُونُ الرَّشِيدُ لِغَزْوِ بِلَادِ الرُّومِ لِعَشْرٍ بَقِينَ
مِنْ رَجَبٍ، وَقَدْ لَبِسَ عَلَى رَأْسِهِ قَلَنْسُوَةً، فَقَالَ فِيهَا أَبُو
الْمُعَلَّى الْكِلَابِيُّ:
فَمَنْ يَطْلُبْ لِقَاءَكَ أَوْ يُرِدْهُ فَبِالْحَرَمَيْنِ أَوْ أَقْصَى
الثُّغُورِ فَفِي أَرْضِ الْعُدُوِّ عَلَى طِمِرٍّ
وَفِي أَرْضِ التَّرَفُّهِ فَوْقَ كُورِ
ثُمَّ وَصَلَ إِلَى الطُّوَانَةِ، فَعَسْكَرَ بِهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ نَقْفُورُ
بِالطَّاعَةِ، وَحَمَلَ الْخَرَاجَ وَالْجِزْيَةَ حَتَّى عَنْ رَأْسِهِ وَرَأْسِ
وَلَدِهِ، وَأَهْلِ مَمْلَكَتِهِ - فِي كُلِّ سَنَةٍ - خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ،
وَبَعَثَ يَطْلُبُ مِنَ الرَّشِيدِ جَارِيَةً قَدْ أَسَرُوهَا، كَانَتِ ابْنَةَ
مَلِكِ هِرَقْلَةَ، وَكَانَ قَدْ خَطَبَهَا عَلَى وَلَدِهِ، فَبَعَثَ بِهَا
الرَّشِيدُ مَعَ هَدَايَا وَتُحَفٍ، وَطِيبٍ بَعَثَ بِطَلَبِهِ، وَاشْتَرَطَ
عَلَيْهِ الرَّشِيدُ أَنْ يَحْمِلَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَأَنْ لَا يُعَمِّرَ هِرَقْلَةَ. ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّشِيدُ رَاجِعًا،
وَاسْتَنَابَ عَلَى الْغَزْوِ عَقَبَةَ بْنَ جَعْفَرٍ.
وَنَقَضَ
أَهْلُ قُبْرُسَ الْعَهْدَ، فَغَزَاهُمْ مَعْيُوفُ بْنُ يَحْيَى، فَسَبَى
أَهْلَهَا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ
الْقَيْسِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ مَنْ قَتَلَهُ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عِيسَى بْنُ مُوسَى الْهَادِي.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْمَشَاهِيرِ
أَسَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، أَبُو الْمُنْذِرِ الْبَجَلِيُّ الْكُوفِيُّ،
صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَكَمَ بِبَغْدَادَ وَبِوَاسِطَ، فَلَمَّا أَنْكَرَ
بَصَرَهُ عَزَلَ نَفْسَهُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَرَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَقَالَ: كَانَ صَدُوقًا. وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ عَلِيٌّ
ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالْبُخَارِيُّ.
سَعْدُونُ الْمَجْنُونُ، صَامَ سِتِّينَ سَنَةً، فَخَفَّ دِمَاغُهُ، فَسَمَّاهُ
النَّاسُ الْمَجْنُونَ. وَقَفَ يَوْمًا عَلَى حَلْقَةِ ذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ
فَسَمِعَ كَلَامَهُ، فَصَرَخَ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
وَلَا خَيْرَ فِي شَكْوَى إِلَى غَيْرِ مُشْتَكَى وَلَا بُدَّ مِنْ شَكْوَى إِذَا
لَمْ يَكُنْ صَبْرُ
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: مَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ رَأْسِ شَيْخٍ
سَكْرَانَ يَذُبُّ عَنْهُ، فَقُلْتُ: مَا لِي أَرَاكَ عِنْدَ رَأْسِ هَذَا
الشَّيْخِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ. فَقُلْتُ:
أَنْتَ
الْمَجْنُونُ أَوْ هُوَ؟ قَالَ: لَا، بَلْ هُوَ، لِأَنِّي صَلَّيْتُ الظُّهْرَ
وَالْعَصْرَ جَمَاعَةً، وَهُوَ لَمْ يُصَلِّ جَمَاعَةً وَلَا فُرَادَى. قُلْتُ:
فَهَلْ قُلْتَ فِي هَذَا شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
تَرَكْتُ النَّبِيذَ لِأَهْلِ النَّبِيذِ وَأَصْبَحْتُ أَشْرَبُ مَاءَ قَرَاحًا
لِأَنَّ النَّبِيذَ يُذِلُّ الْعَزِيزَ وَيَكْسُو بِذَاكَ الْوُجُوهَ الصِّبَاحَا
فَإِنْ كَانَ ذَا جَائِزًا لِلشَّبَابِ فَمَا الْعُذْرُ مِنْهُ إِذَا الشَّيْبُ
لَاحَا
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فَقُلْتُ لَهُ: صَدَقْتَ. وَانْصَرَفْتُ.
عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ صُهَيْبٍ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْمِيُّ
الْكُوفِيُّ، مُؤَدِّبُ الْأَمِينِ، رَوَى عَنِ الْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ
يَحْيَى بْنُ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، أَبُو عَلِيٍّ الْوَزِيرُ، وَالِدُ جَعْفَرٍ
الْبَرْمَكِيُّ، ضَمَّ إِلَيْهِ الْمَهْدِيُّ وَلَدَهُ الرَّشِيدَ، فَرَبَّاهُ
وَأَرْضَعَتْهُ امْرَأَتُهُ مَعَ الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى، فَلَمَّا وَلِيَ
الرَّشِيدُ عَرَفَ لَهُ حَقَّهُ، وَكَانَ يَقُولُ: قَالَ أَبِي. وَفَوَّضَ
إِلَيْهِ أُمُورَ الْخِلَافَةِ وَأَزِمَّتَهَا، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى
نُكِبَتِ الْبَرَامِكَةُ، فَقَتَلَ جَعْفَرًا، وَخَلَّدَ أَبَاهُ فِي الْحَبْسِ
حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَ كَرِيمًا فَصِيحًا، ذَا رَأْيٍ
سَدِيدٍ،
وَيَظْهَرُ
مِنْ أُمُورِهِ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ.
قَالَ يَوْمًا لِوَلَدِهِ: خُذُوا مَنْ كُلِّ شَيْءٍ طَرَفًا، فَإِنَّ مَنْ جَهِلَ
شَيْئًا عَادَاهُ.
وَقَالَ لِأَوْلَادِهِ: اكْتُبُوا أَحْسَنَ مَا تَسْمَعُونَ، وَاحْفَظُوا أَحْسَنَ
مَا تَكْتُبُونَ، وَتُحَدَّثُوا بِأَحْسَنِ مَا تَحْفَظُونَ.
وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا فَأَنْفِقُوا مِنْهَا
فَإِنَّهَا لَا تَفْنَى، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَأَنْفِقُوا مِنْهَا فَإِنَّهَا لَا
تَبْقَى.
وَكَانَ إِذَا سَأَلَهُ سَائِلٌ فِي الطَّرِيقِ وَهُوَ رَاكِبٌ أَقَلُّ مَا
يَأْمُرُ لَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَوْمًا:
:
يَا سَمِيَّ الْحَصُورِ يَحْيَى أُتِيحَتْ لَكَ مِنْ فَضْلِ رَبِّنَا جَنَّتَانِ
كُلُّ مَنْ مَرَّ فِي الطَّرِيقِ عَلَيْكُمْ
فَلَهُ مِنْ نَوَالِكُمْ مِائَتَانِ مِائَتَا دِرْهَمٍ لِمِثْلِي قَلِيلٌ
هِيَ مِنْكُمْ لِلْقَابِسِ الْعَجْلَانِ
فَقَالَ: صَدَقْتَ. وَأَمَرَ أَنْ يُسْبَقَ بِهِ إِلَى الدَّارِ، فَلَمَّا رَجَعَ
سَأَلَ عَنْهُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ تَزَوَّجَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى
أَهْلِهِ، فَأَعْطَاهُ صَدَاقَهَا أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَثَمَنَ دَارٍ أَرْبَعَةَ
آلَافٍ، وَثَمَنَ الْأَمْتِعَةِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَثَمَنَ الدُّخُولِ
أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَأَرْبَعَةَ آلَافٍ يَسْتَظْهِرُ بِهَا.
وَجَاءَ
رَجُلٌ يَوْمًا يَسْأَلُهُ شَيْئًا، فَقَالَ: وَيْحَكْ! لَقَدْ جِئْتَنِي فِي
وَقْتٍ لَا أَمْلِكُ فِيهِ مَالًا، وَلَكِنْ قَدْ بَعَثَ إِلَيَّ صَاحِبٌ لِي
يَطْلُبُ مِنِّي أَنْ يُهْدِيَ إِلَيَّ مَا أُحِبُّ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ
تُرِيدُ أَنْ تَبِيعَ جَارِيَةً لَكَ، وَأَنَّكَ قَدْ أُعْطِيتَ فِيهَا ثَلَاثَةَ
آلَافِ دِينَارٍ، وَإِنِّي سَأَطْلُبُهَا مِنْهُ، فَلَا تَبِعْهَا مِنْهُ
بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا جَائَنِي يُسَاوِمُنِي
فِيهَا أَلْحَحْتُ أَنْ لَا أَبِيعَهَا بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ، فَبَلَغَ ثَمَنُهَا عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا سَمِعْتُهَا
ضَعُفُ قَلْبِي وَأَجَبْتُ إِلَى بَيْعِهَا، فَلَمَّا اجْتَمَعْتُ بِيَحْيَى،
قَالَ: بِكُمْ بِعْتَهَا؟ قُلْتُ: بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. قَالَ: إِنَّكَ
لَخَسِيسٌ، خُذْ جَارِيَتَكَ إِلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيَّ نَائِبُ فَارِسَ
يَطْلُبُ مِنِّي أَنْ أَسْتَهْدِيَهُ شَيْئًا، وَإِنِّي سَأَطْلُبُهَا مِنْهُ،
فَلَا تَبِعْهَا بِأَقَلِّ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَجَاءُونِي
فَوَصَلُوا إِلَى ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَبِعْتُهَا. فَلَمَّا جِئْتُهُ
لَامَنِي أَيْضًا، وَرَدَّهَا عَلَيَّ، فَقُلْتُ: أُشْهِدُكَ أَنَّهَا حُرَّةٌ،
وَأَنِّي قَدْ تَزَوَّجْتُهَا.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَنَّ الرَّشِيدَ طَلَبَ مِنْ مَنْصُورِ بْنِ زِيَادٍ
عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا سِوَى أَلْفِ
أَلْفٍ، فَضَاقَ ذَرْعًا، وَقَدْ تَوَعَّدَهُ إِنْ لَمْ يَحْمِلْهَا فِي يَوْمِهِ
ذَلِكَ وَإِلَّا قَتَلَهُ، فَدَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، وَذَكَرَ لَهُ
أَمْرَهُ، فَأَطْلَقَ لَهُ خَمْسَةَ آلَافِ أَلْفٍ، وَاسْتَطْلَقَ لَهُ مِنَ
ابْنِهِ الْفَضْلِ أَلْفَيْ أَلْفٍ، وَقَالَ لِابْنِهِ:
يَا
بُنَيَّ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَشْتَرِيَ بِهَا ضَيْعَةً، وَهَذِهِ
ضَيْعَةٌ تُغِلُّ الشُّكْرَ وَتَبْقَى مَدَى الدَّهْرِ. وَأَخَذَ لَهُ مِنَ
ابْنِهِ جَعْفَرٍ أَلْفَ أَلْفٍ، وَأَخَذَ لَهُ مَنْ جَارَيْتِهِ دَنَانِيرَ
عُقْدًا مُشَتَرَاهُ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ،
وَقَالَ لِلْمُتَرَسِّمِ عَلَيْهِ: قَدْ حَسَبْنَاهُ عَلَيْكَ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ.
فَلَمَّا عُرِضَتِ الْأَمْوَالُ عَلَى الرَّشِيدِ رَدَّ الْعُقْدِ، وَكَانَ قَدْ
وَهَبَهُ لِجَارِيَةِ يَحْيَى، فَلْمْ يَعُدْ فِيهِ بَعْدَ أَنْ وَهَبَهُ لَهَا.
وَقَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ بَنِيهِ وَهُمْ فِي السِّجْنِ وَالْقُيُودِ: يَا أَبَتِ،
بَعْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالنِّعْمَةِ صِرْنَا إِلَى هَذَا الْحَالِ.
فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، دَعْوَةُ مَظْلُومٍ سَرَتْ بِلَيْلٍ وَنَحْنُ عَنْهَا
غَافِلُونَ، وَلَمْ يَغْفُلِ اللَّهُ عَنْهَا. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
رُبَّ قَوْمٍ قَدْ غَدَوْا فِي نِعْمَةٍ زَمَنًا وَالدَّهْرُ رَيَّانُ غَدَقْ
سَكَتَ الدَّهْرُ زَمَانًا عَنْهُمُ ثُمَّ أَبْكَاهُمْ دَمًا حِينَ نَطَقْ
وَقَدْ كَانَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ يُجْرِي عَلَى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كُلَّ
شَهْرٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَكَانَ سُفْيَانُ يَدْعُو لَهُ فِي سُجُودِهِ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّهُ قَدْ كَفَانِي أَمْرَ دُنْيَايَ فَاكْفِهِ أَمْرَ آخِرَتِهِ.
فَلَمَّا مَاتَ يَحْيَى رَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ:
مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي بِدُعَاءِ سُفْيَانَ.
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاةُ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فِي الْحَبْسِ بِالرَّافِقَةِ
لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعِينَ
سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْفَضْلُ، وَدُفِنَ عَلَى شَطِّ الْفُرَاتِ.
وَقَدْ وُجِدَ فِي جَيْبِهِ رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا بِخَطِّهِ: قَدْ تَقَدَّمَ
الْخَصْمُ وَالْمُدَّعَى
عَلَيْهِ
بِالْأَثَرِ، وَالْحَاكِمُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، وَلَا
يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ. فَحُمِلَتْ إِلَى الرَّشِيدِ، فَلَمَّا قَرَأَهَا مَا
زَالَ يَبْكِي يَوْمَهُ ذَلِكَ، وَبَقِيَ أَيَّامًا يُتَبَيَّنُ الْأَسَى فِي
وَجْهِهِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ هَذَا:
سَأَلْتُ النَّدَا هَلْ أَنْتَ حُرٌّ فَقَالَ لَا وَلَكِنَّنِي عَبْدٌ لِيَحْيَى
بْنِ خَالِدِ
فَقُلْتُ شِرَاءً؟ قَالَ لَا بَلْ وِرَاثَةً تَوَارَثَنِي عَنْ وَالِدٍ بَعْدَ
وَالِدِ
بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ يُقَالُ لَهُ: ثَرْوَانُ بْنُ سَيْفٍ
وَجَعَلَ يَتَنَقَّلُ فِيهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ
طَوْقَ بْنَ مَالِكٍ فَهَزَمَهُ، وَجُرِحَ ثَرْوَانُ وَقُتِلَ عَامَّةُ
أَصْحَابِهِ، وَكُتِبَ بِالْفَتْحِ إِلَى الرَّشِيدِ.
وَفِيهَا خَرَجَ بِالشَّامِ أَبُو النِّدَاءِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ
يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ وَاسْتَنَابَهُ عَلَى الشَّامِ.
وَفِيهَا وَقَعَ الثَّلْجُ بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا غَزَا بِلَادَ الرُّومِ يَزِيدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْهُبَيْرِيُّ فِي
عَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَخَذَتْ عَلَيْهِ الرُّومُ الْمَضِيقَ فَقَتَلُوهُ فِي
خَمْسِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ طَرَسُوسَ فَانْهَزَمَ
الْبَاقُونَ، وَوَلَّى الرَّشِيدُ غَزْوَ الصَّائِفَةِ لِهَرْثَمَةَ بْنِ
أَعْيَنَ، وَضَمَّ إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا فِيهِمْ مَسْرُورٌ الْخَادِمُ،
وَإِلَيْهِ النَّفَقَاتُ.
وَخَرَجَ
الرَّشِيدُ إِلَى الْحَدَثِ لِيَكُونَ قَرِيبًا مِنْهُمْ، وَأَمَرَ الرَّشِيدُ
بِهَدْمِ الْكَنَائِسِ بِالثُّغُورِ، وَأَلْزَمَ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِتَمْيِيزِ
لِبَاسِهِمْ وَهَيْئَاتِهِمْ فِي بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ
وَوَلَّاهَا هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ
وَفِيهَا فَتَحَ الرَّشِيدُ هِرَقْلَةَ فِي شَوَّالٍ، وَخَرَّبَهَا وَسَبَى
أَهْلَهَا، وَبَثَّ الْجُيُوشَ وَالسَّرَايَا بِأَرْضِ الرُّومِ، وَخَرَجَتِ
الرُّومُ إِلَى عَيْنِ زَرْبَى، وَالْكَنِيسَةِ السَّوْدَاءِ. وَكَانَ خَرَاجُ
هِرَقْلَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ وَخَمْسَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ
مَرْفُوقٍ. وَوَلَّى حُمَيْدَ بْنَ مَعْيُوفٍ سَوَاحِلَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ،
وَدَخَلَ جَزِيرَةَ قُبْرُصَ، فَسَبَى أَهْلَهَا وَحَمَلَهُمْ حَتَّى بَاعَهُمْ
بِالرَّافِقَةِ، فَبَلَغَ ثَمَنُ الْأُسْقُفِّ أَلْفَيْ دِينَارٍ، بَاعَهُمْ أَبُو
الْبَخْتَرِيِّ الْقَاضِي
وَفِيهَا أَسْلَمَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ عَلَى يَدَيِ الْمَأْمُونِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ،
وَكَانَ وَالِيَ مَكَّةَ
وَلَمْ
يَكُنْ لِلنَّاسِ بَعْدَ هَذِهِ السَّنَةِ صَائِفَةٌ إِلَى سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ
وَمِائَتَيْنِ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَبْرَشُ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ.
الْفَقِيهُ الرَّاوِي عَنْ مَالِكٍ؛ الَّذِي هُوَ الْعُمْدَةُ فِي مَذْهَبِ
مَالِكٍ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ
الصَّالِحِينَ.
وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ.
قَدِمَ عَلَى الرَّشِيدِ فَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ؛ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ
أَلْفًا، فَلَمْ يَقْبَلْهُ. وَالْفَضْلُ بْنُ مُوسَى السِّينَانِيُّ. وَمُحَمَّدُ
بْنُ سَلَمَةَ. وَمَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمِصِّيصِيُّ أَحَدُ
الزُّهَّادِ الثِّقَاتِ، قَالَ: لَمْ أَتَكَلَّمْ بِكَلِمَةٍ أَحْتَاجُ إِلَى الِاعْتِذَارِ مِنْهَا مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً. وَمُعَمَّرٌ الرَّقِّيُّ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ إِلَى خُرَاسَانَ نَائِبًا عَلَيْهَا،
وَقَبَضَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، فَأَخَذَ أَمْوَالَهُ وَحَوَاصِلَهُ،
وَأَرْكَبَهُ عَلَى رَاحِلَةٍ، وَنَادَى عَلَيْهِ بِبِلَادِ خُرَاسَانَ وَكَتَبَ
إِلَى الرَّشِيدِ بِذَلِكَ، فَشَكَرَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ سَيَّرَهُ إِلَى
الرَّشِيدِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحُبِسَ بِدَارِهِ بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا وَلَّى الرَّشِيدُ ثَابِتَ بْنَ نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ نِيَابَةَ
الثُّغُورِ فَدَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ، وَفَتَحَ مَطْمُورَةَ.
وَفِيهَا كَانَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ عَلَى يَدَيْ ثَابِتِ
بْنِ نَصْرٍ.
وَفِيهَا خَرَجَتْ الْخُرَّمِيَّةُ بِالْجَبَلِ وَبِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ
فَوَجَّهَ الرَّشِيدُ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ
الْخُزَاعِيَّ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا،
وَأَسَرَ وَسَبَى ذَرَارِيهِمْ، وَقَدِمَ بِهِمْ بَغْدَادَ فَأَمَرَ الرَّشِيدُ
بِقَتْلِ الرِّجَالِ مِنْهُمْ، وَبِالذُّرِّيَّةِ فَبِيعُوا بِهَا، وَكَانَ قَدْ
غَزَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا قَدِمَ الرَّشِيدُ مِنَ الرَّقَّةِ إِلَى
بَغْدَادَ فِي السُّفُنِ، وَقَدْ
اسْتَخْلَفَ
عَلَى الرَّقَّةِ ابْنَهُ الْقَاسِمَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ
وَمِنْ نِيَّةِ الرَّشِيدِ الذَّهَابُ إِلَى خُرَاسَانَ لِغَزْوِ رَافِعِ بْنِ
لَيْثٍ؛ الَّذِي كَانَ قَدْ خَلَعَ الطَّاعَةَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادٍ
كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ سَمَرْقَنْدَ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ خَرَجَ الرَّشِيدُ فِي
شَعْبَانَ قَاصِدًا خُرَاسَانَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ ابْنَهُ مُحَمَّدًا
الْأَمِينَ، وَسَأَلَ الْمَأْمُونُ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ خَوْفًا
مِنْ غَدْرِ أَخِيهِ الْأَمِينِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَسَارَ مَعَهُ وَقَدْ شَكَا
الرَّشِيدُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ إِلَى بَعْضِ أُمَرَائِهِ جَفَاءَ بَنِيهِ
الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ وُلَاةَ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَرَاهُ
دَاءً فِي جَسَدِهِ، وَقَالَ: إِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمِينِ
وَالْمَأْمُونِ وَالْقَاسِمِ عِنْدِي عَيْنًا عَلَيَّ، وَهُمْ يَعُدُّونَ
أَنْفَاسِي، وَيَتَمَنَّوْنَ انْقِضَاءَ أَيَّامِي وَذَلِكَ شَرٌّ لَهُمْ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ. فَدَعَا لَهُ ذَلِكَ الْأَمِيرُ، ثُمَّ أَمَرَهُ الرَّشِيدُ
بِالِانْصِرَافِ إِلَى عَمَلِهِ وَوَدَّعَهُ، وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ.
وَفِيهَا تَحَرَّكَ ثَرْوَانُ الْحَرُورِيُّ، وَقَتَلَ عَامِلَ السُّلْطَانِ
بِطَفِّ الْبَصْرَةِ. وَفِيهَا قَتَلَ الرَّشِيدُ الْهَيْصَمَ الْيَمَانِيَّ.
وَمَاتَ عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ وَهُوَ يُرِيدُ اللَّحَاقَ بِالرَّشِيدِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ
أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَامِعِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ
أَبُو
الْقَاسِمِ، أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ بِالْغِنَاءِ، وَمِمَّنْ يُضْرَبُ بِهِ
الْمَثَلُ فِيهِ، فَيُقَالُ: غِنَاءُ بْنُ جَامِعٍ. وَقَدْ كَانَ أَوَّلًا
يَحْفَظُ الْقُرْآنَ ثُمَّ صَارَ إِلَى صِنَاعَةِ الْغِنَاءِ، وَذَكَرَ عَنْهُ
أَبُو الْفَرَجِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَصْبَهَانِيُّ صَاحِبُ الْأَغَانِي
حِكَايَاتٍ غَرِيبَةً؛ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا مُشْرِفًا فِي
غُرْفَةٍ بِحَرَّانَ إِذْ أَقْبَلَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ مَعَهَا قِرْبَةٌ
تَسْتَقِي فِيهَا مِنْ مَشْرَعَةٍ فَجَلَسَتْ وَوَضَعَتْ قِرْبَتَهَا
وَانْدَفَعَتْ تُغَنِّي.
إِلَى اللَّهِ أَشْكُو بُخْلَهَا وَسَمَاحَتِي لَهَا عَسَلٌ مِنِّي وَتَبْذُلُ
عَلْقَمَا فَرُدِّي مُصَابَ الْقَلْبِ أَنْتِ قَتَلْتِهِ
وَلَا تُبْعِدِي فِيمَا تَجَشَّمْتِ كُلْثُمَا
قَالَ: فَسَمِعْتُ مَا لَا صَبْرَ لِي عَنْهُ، وَرَجَوْتُ أَنْ تُعِيدَهُ،
فَقَامَتْ وَانْصَرَفَتْ، فَنَزَلْتُ وَانْطَلَقْتُ وَرَاءَهَا وَسَأَلْتُهَا أَنْ
تُعِيدَهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ عَلَيَّ خَرَاجًا كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَانِ.
فَأَعْطَيْتُهَا دِرْهَمَيْنِ فَأَعَادَتْهُ فَحَفِظْتُهُ وَسَلَكْتُهُ يَوْمِي
ذَلِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أُنْسِيتُهُ، فَأَقْبَلَتِ السَّوْدَاءُ
فَسَأَلْتُهَا أَنْ تُعِيدَهُ فَلَمْ تَفْعَلْ إِلَّا بِدِرْهَمَيْنِ، ثُمَّ
قَالَتْ: كَأَنَّكَ تَسْتَكْثِرُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، كَأَنِّي بِكَ وَقَدْ
أَخَذْتَ بِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ. قَالَ ابْنُ جَامِعٍ: فَغَنَّيْتُهُ
لَيْلَةً لِلرَّشِيدِ فَأَعْطَانِي أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ
اسْتَعَادَنِيهِ
ثَلَاثًا أُخْرَى وَأَعْطَانِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَتَبَسَّمْتُ فَقَالَ:
مِمَّ تَتَبَسَّمُ ؟ فَذَكَرْتُ لَهُ الْقِصَّةَ، فَضَحِكَ وَأَلْقَى إِلَيَّ
كِيسًا آخَرَ فِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَقَالَ: لَا تُكْذِبِ السَّوْدَاءَ.
وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَصْبَحْتُ يَوْمًا بِالْمَدِينَةِ وَلَيْسَ مَعِي
إِلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، فَإِذَا جَارِيَةٌ عَلَى رَقَبَتِهَا جَرَّةٌ تُرِيدُ
الرَّكِيَّ، وَهِيَ تَسْعَى وَتَتَرَنَّمُ بِصَوْتٍ شَجِيٍّ، وَتَقُولُ:
شَكَوْنَا إِلَى أَحْبَابِنَا طُولَ لَيْلِنَا فَقَالُوا لَنَا مَا أَقْصَرَ
اللَّيْلَ عِنْدَنَا
وَذَاكَ لِأَنَّ النَّوْمَ يَغْشَى عُيُونَهُمْ سِرَاعًا وَلَا يَغْشَى لَنَا
النَّوْمُ أَعْيُنَا
إِذَا مَا دَنَا اللَّيْلُ الْمُضِرُّ لِذِي الْهَوَى جَزِعْنَا وَهُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ إِذَا دَنَا
فَلَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُلَاقُونَ مِثْلَ مَا نُلَاقِي لَكَانُوا فِي
الْمَضَاجِعِ مِثْلَنَا
قَالَ: فَاسْتَعَدْتُهُ مِنْهَا وَأَعْطَيْتُهَا الثَّلَاثَةَ دَرَاهِمَ،
فَقَالَتْ: لَتَأْخُذَنَّ بَدَلَهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَلْفَ دِينَارٍ، وَأَلْفَ
دِينَارٍ. فَأَعْطَانِي الرَّشِيدُ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ فِي لَيْلَةٍ عَلَى
ذَلِكَ الصَّوْتِ.
بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ أَبُو وَائِلٍ الْحَنَفِيُّ الْبَصْرِيُّ، الشَّاعِرُ
الْمَشْهُورُ، نَزَلَ بَغْدَادَ فِي زَمَنِ الرَّشِيدِ، وَكَانَ يُعَاشِرُ أَبَا
الْعَتَاهِيَةِ.
قَالَ
أَبُو هِفَّانَ: أَشْعَرُ أَهْلِ الْغَزَلِ مِنَ الْمُحْدَثِينَ أَرْبَعَةٌ؛
أَوَّلُهُمْ بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ رَجَاءٍ يَقُولُ: اجْتَمَعَ
جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ وَمَعَهُمْ بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ يَتَنَاشَدُونَ،
فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ طِوَالِهِمْ أَنْشَدَ بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ لِنَفْسِهِ:
مَا ضَرَّهَا لَوْ كَتَبَتْ بِالرِّضَا فَجَفَّ جَفْنُ الْعَيْنِ أَوْ أُغْمِضَا
شَفَاعَةٌ مَرْدُودَةٌ عِنْدَهَا فِي عَاشِقٍ تَنْدَمُ لَوْ قَدْ قَضَى
يَا نَفْسُ صَبْرًا وَاعْلَمِي أَنَّ مَا يُأْمَلُ مِنْهَا مِثْلَ مَا قَدْ مَضَى
لَمْ تَمْرَضِ الْأَجْفَانُ مِنْ قَاتِلٍ بِلَحْظِهِ إِلَّا لِأَنْ أَمْرَضَا
قَالَ: فَابْتَدَرُوهُ يُقَبِّلُونَ رَأْسَهُ.
وَلَمَّا مَاتَ رَثَاهُ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فَقَالَ:
مَاتَ ابْنُ نَطَّاحٍ أَبُو وَائِلٍ بَكْرٌ فَأَمْسَى الشِّعْرُ قَدْ بَانَا
بُهْلُولٌ الْمَجْنُونُ كَانَ يَأْوِي إِلَى مَقَابِرِ الْكُوفَةِ وَكَانَ
يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَاتٍ حَسَنَةٍ، وَقَدْ لَقِيَ الرَّشِيدَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى
الْحَجِّ، فَوَعَظَهُ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَزْدِيُّ الْكُوفِيُّ، سَمِعَ الْأَعْمَشَ وَابْنَ
جُرَيْجٍ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكًا، وَخَلْقًا سِوَاهُمْ.
وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَقَدِ اسْتَدْعَاهُ الرَّشِيدُ
لِيُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ، فَقَالَ: لَا أَصْلُحُ. وَامْتَنَعَ أَشَدَّ
الِامْتِنَاعِ، وَكَانَ قَدْ سَأَلَ قَبْلَهُ وَكِيعًا، فَامْتَنَعَ أَيْضًا،
فَطَلَبَ حَفْصَ بْنَ غِيَاثٍ فَقَبِلَ.
وَأَطْلَقَ لِكُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ؛ عِوَضًا عَنْ كُلْفَةِ
السَّفَرِ، فَلَمْ يَقْبَلْ وَكِيعٌ، وَلَا ابْنُ إِدْرِيسَ، وَقَبِلَ ذَلِكَ
حَفْصٌ، فَحَلَفَ ابْنُ إِدْرِيسَ لَا يُكَلِّمُهُ أَبَدًا.
وَحَجَّ الرَّشِيدُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ فَاجْتَازَ بِالْكُوفَةِ وَمَعَهُ
الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ وَالْأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ، فَأَمَرَ الرَّشِيدُ
بِجَمْعِ شُيُوخِ الْحَدِيثِ لِيُسْمِعُوا وَلَدَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَّا ابْنَ
إِدْرِيسَ هَذَا، وَعِيسَى بْنَ يُونُسَ، فَرَكِبَ الْأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ
بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَمَاعِهِمَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ
فَأَسْمَعَهُمَا مِائَةَ حَدِيثٍ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: يَا عَمِّ، إِنْ
أَذِنْتَ لِي أَعَدْتُهَا مِنْ حِفْظِي. فَأَذِنَ لَهُ، فَأَعَادَهَا مِنْ
حِفْظِهِ كَمَا سَمِعَهَا، فَتَعَجَّبَ لِحِفْظِهِ ابْنُ إِدْرِيسَ، ثُمَّ أَمَرَ
لَهُ الْمَأْمُونُ بِمَالٍ، فَلَمْ
يَقْبَلْ
مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ سَارَا إِلَى عِيسَى بْنِ يُونُسَ، فَسَمَّعَا عَلَيْهِ،
ثُمَّ أَمَرَ لَهُ الْمَأْمُونُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَظَنَّ
أَنَّهُ اسْتَقَلَّهَا فَأَضْعَفَهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ وَلَا إِهْلِيلَجَةَ،
لَوْ مَلَأْتَ لِي الْمَسْجِدَ مَالًا إِلَى سَقْفِهِ مَا قَبِلْتُ مِنْهُ شَيْئًا
عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَمَّا احْتُضِرَ ابْنُ إِدْرِيسَ بَكَتِ ابْنَتُهُ، فَقَالَ: لَا تَبْكِي
فَقَدْ خَتَمْتُ الْقُرْآنَ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَرْبَعَةَ آلَافِ خَتْمَةٍ.
صَعْصَعَةُ بْنُ سَلَّامٍ وَيُقَالُ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الدِّمَشْقِيُّ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ فَاسْتَوْطَنَهَا فِي زَمَنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَابْنِهِ هِشَامٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ
أَدْخَلَ عِلْمَ الْحَدِيثِ وَمَذْهَبَ الْأَوْزَاعِيِّ إِلَى الْأَنْدَلُسِ،
وَوَلِيَ الصَّلَاةَ بِقُرْطُبَةَ، وَفِي أَيَّامِهِ غُرِسَتِ الْأَشْجَارُ
بِالْمَسْجِدِ الْجَامِعِ هُنَاكَ، كَمَا يَرَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ
وَالشَّامِيُّونَ، وَيَكْرَهُهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ.
وَقَدْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ؛ مِنْهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الْفَقِيهُ،
وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ
"
الْفُقَهَاءِ " وَذَكَرَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي تَارِيخِهِ " "
تَارِيخِ مِصْرَ " " وَالْحُمَيْدِيُّ فِي " " تَارِيخِ
الْأَنْدَلُسِ " " وَحَرَّرَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي
سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ.
وَحَكَى عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّ صَعْصَعَةَ هَذَا أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ
مَذْهَبَ الْأَوْزَاعِيِّ إِلَى الْأَنْدَلُسِ.
وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ عِلْمَ الْحَدِيثِ إِلَيْهَا.
وَذَكَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ قَرِيبًا مِنْ سَنَةِ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَالَّذِي
حَرَّرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَثْبَتُ.
عَلِيُّ بْنُ ظَبْيَانَ، أَبُو الْحَسَنِ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ، قَاضِي
الشَّرْقِيَّةِ مِنْ بَغْدَادَ زَمَنَ الرَّشِيدِ، كَانَ ثِقَةً عَالِمًا مِنْ
أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ وَلَّاهُ الرَّشِيدُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ،
وَكَانَ الرَّشِيدُ يَخْرُجُ مَعَهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، مَاتَ بِقَرْمِيسِينَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ طَلْحَةَ، الشَّاعِرُ
الْمَشْهُورُ كَانَ مِنْ
عَرَبِ
خُرَاسَانَ وَنَشَأَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ لَطِيفًا ظَرِيفًا مَقْبُولًا، حَسَنَ
الشَّعْرِ.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ: لَوْ قِيلَ لِي
مَنْ أَحْسَنُ النَّاسِ شِعْرًا تَعْرِفُهُ ؟ لَقُلْتُ: الْعَبَّاسُ
قَدْ سَحَّبَ النَّاسُ أَذْيَالَ الظُّنُونِ بِنَا وَفَرَّقَ النَّاسُ فِينَا
قَوْلَهُمْ فِرَقَا
فَكَاذِبٌ قَدْ رَمَى بِالْحُبِّ غَيْرَكُمْ وَصَادِقٌ لَيْسَ يَدْرِي أَنَّهُ
صَدَقَا
وَقَدْ طَلَبَهُ الرَّشِيدُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، فَانْزَعَجَ
لِذَلِكَ وَخَافَ نِسَاؤُهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّشِيدِ قَالَ
لَهُ: وَيْحَكَ، إِنَّهُ قَدْ عَنَّ لِي بَيْتٌ فِي جَارِيَةٍ لِي، فَأَحْبَبْتُ
أَنْ تَشْفَعَهُ بِمِثْلِهِ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا خِفْتُ
قَطُّ أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ. فَقَالَ: وَلِمَ ؟ فَذَكَرَ لَهُ دُخُولَ
الْحَرَسِ عَلَيْهِ فِي اللَّيْلِ، ثُمَّ جَلَسَ حَتَّى سَكَنَ رَوْعُهُ، ثُمَّ
قَالَ: مَا قُلْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ:
جِنَانٌ قَدْ رَأَيْنَاهَا فَلَمْ نَرَ مِثْلَهَا بَشَرَا
فَقَالَ الْعَبَّاسُ:
يَزِيدُكَ وَجْهُهَا حُسْنًا إِذَا مَا زِدْتَهُ نَظَرَا
فَقَالَ الرَّشِيدُ: زِدْ. فَقَالَ:
إِذَا مَا اللَّيْلُ مَالَ عَلَيْ كَ بِالْإِظْلَامِ وَاعْتَكَرَا
وَدَجَّ فَلَمْ تَرَ قَمَرًا فَأَبْرِزْهَا تَرَى قَمَرَا
فَقَالَ:
إِنَّا قَدْ رَأَيْنَاهَا وَقَدْ أَمَرْنَا لَكَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَمِنْ شَعْرِهِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ وَأَثْبَتَهُ فِي
سِلْكِ الشُّعَرَاءِ بِسَبَبِهِ قَوْلُهُ:
أَبْكَي الَّذِينَ أَذَاقُونِي مَوَدَّتَهُمْ حَتَّى إِذَا أَيْقَظُونِي لِلْهَوَى
رَقَدُوا
وَاسْتَنْهَضُونِي فَلَمَّا قُمْتُ مُنْتَصِبًا بِثِقْلِ مَا حَمَّلُونِي مِنْهُمْ
قَعَدُوا
وَلَهُ أَيْضًا:
وَحَدَّثْتَنِي يَا سَعْدُ عَنْهَا فِزِدْتَنِي جُنُونًا فَزِدْنِي مِنْ حَدِيثِكَ
يَا سَعْدُ
هَوَاهَا هَوًى لَمْ يَعْرِفِ الْقَلْبُ غَيْرَهُ فَلَيْسَ لَهُ قَبْلٌ وَلَيْسَ
لَهُ بَعْدُ
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ بِالْبَصْرَةِ
وَهُوَ طَرِيحٌ عَلَى فِرَاشِهِ يَجُودُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا بَعِيدَ الدَّارِ عَنْ وَطَنِهِ مُفْرَدًا يَبْكِي عَلَى شَجَنِهْ
كُلَّمَا شَدَّ النُّجَاءُ بِهِ زَادَتِ الْأَسْقَامُ فِي بَدَنِهْ
ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ انْتَبَهَ بِصَوْتِ طَائِرٍ عَلَى شَجَرَةٍ
فَقَالَ:
وَلَقَدْ
زَادَ الْفَؤَادَ شَجًى هَاتِفٌ يَبْكِي عَلَى فَنَنِهْ
شَاقَهُ مَا شَاقَنِي فَبَكَى كُلُّنَا يَبْكِي عَلَى سَكَنِهْ
قَالَ: ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أُخْرَى، فَحَرَّكْتُهُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ.
قَالَ الصُّولِيُّ: كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَكَى الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ بَعْدَهَا.
وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ بَقِيَ بَعْدَ الرَّشِيدِ
عِيسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، أَخُو زُبَيْدَةَ، كَانَ
نَائِبًا عَلَى الْبَصْرَةِ فِي أَيَّامِ الرَّشِيدِ، فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ
هَذِهِ السَّنَةِ.
الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، أَخُو جَعْفَرٍ وَإِخْوَتِهِ،
كَانَ هُوَ وَالرَّشِيدُ يَتَرَاضَعَانِ، أَرْضَعَتِ الْخَيْزُرَانُ فَضْلًا هَذَا
وَأَرْضَعَتْ أُمُّ الْفَضْلِ - وَهِيَ زُبَيْدَةُ بِنْتُ سِنِينَ بَرْبَرِيَّةٌ -
هَارُونَ الرَّشِيدَ وَكَانَتْ زُبَيْدَةُ هَذِهِ مِنْ
مُوَلَّدَاتِ
الْمَدِينَةِ وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
كَفَى لَكَ فَضْلًا أَنَّ أَفْضَلَ حُرَّةٍ غَذَتْكَ بِثَدِيٍ وَالْخَلِيفَةَ
وَاحِدِ
لَقَدْ زِنْتَ يَحْيَى فِي الْمَشَاهِدِ كُلِّهَا كَمَا زَانَ يَحْيَى خَالِدًا
فِي الْمَشَاهِدِ
قَالُوا: وَكَانَ الْفَضْلُ أَكْرَمَ مِنْ أَخِيهِ جَعْفَرٍ، وَلَكِنْ كَانَ فِيهِ
كِبْرٌ شَدِيدٌ، وَكَانَ عَبُوسًا، وَكَانَ جَعْفَرٌ أَحْسَنَ بِشْرًا مِنْهُ،
وَأَطْلَقَ وَجْهًا، وَأَقَلَّ عَطَاءً، وَكَانَ النَّاسُ إِلَيْهِ أَمْيَلَ.
وَقَدْ وَهَبَ الْفَضْلُ لِطَبَّاخِهِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَعَاتَبَهُ
أَبُوهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ، إِنَّ هَذَا كَانَ يَصْحَبُنِي فِي
الْعُسْرِ وَالْعَيْشِ الْخَشِنِ، وَاسْتَمَرَّ مَعِي فِي هَذَا الْحَالِ
فَأَحْسَنَ صُحْبَتِي، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْكِرَامَ إِذَا مَا أُسْهَلُوا ذَكَرُوا مَنْ كَانَ يُؤْنِسُهُمْ فِي
الْمَنْزِلِ الْخَشِنِ
وَوَهَبَ يَوْمًا لِبَعْضِ الْأُدَبَاءِ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَبَكَى
الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ: مِمَّ تَبْكِي، أَسْتَقْلَلْتَهَا ؟ قَالَ: لَا
وَاللَّهِ؛ وَلَكِنِّي أَبْكِي أَسَفًا أَنَّ الْأَرْضَ تُوَارِي مِثْلَكَ !
وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ عَنْ أَبِيهِ: أَصْبَحْتُ يَوْمًا لَا أَمْلِكُ شَيْئًا
وَلَا عَلَفَ الدَّابَّةِ، فَقَصَدْتُ الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى فَإِذَا هُوَ قَدْ
أَقْبَلَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ فِي مَوْكِبٍ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا رَآنِي
رَحَّبَ بِي، وَقَالَ: هَلُمَّ. فَسِرْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ
الطَّرِيقِ سَمِعَ غُلَامًا يَدْعُو جَارِيَةً مِنْ دَارٍ، وَإِذَا هِيَ بَاسِمِ
جَارِيَةٍ لَهُ يُحِبُّهَا، فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ وَشَكَا إِلَيَّ مَا لَقِيَ مِنْ
ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَصَابَكَ مَا أَصَابَ أَخَا بَنِي عَامِرٍ حَيْثُ يَقُولُ:
وَدَاعٍ دَعَا إِذْ نَحْنُ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى فَهَيَّجَ أَحْزَانَ الْفُؤَادِ
وَلَا يَدْرِي
دَعَا بِاسْمِ لَيْلَى غَيْرَهَا فَكَأَنَّمَا أَطَارَ بِلَيْلَى طَائِرًا كَانَ
فِي صَدْرِي
فَقَالَ: اكْتُبْ لِي هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ. قَالَ: فَذَهَبْتُ إِلَى بَقَّالٍ،
فَرَهَنْتُ عِنْدَهُ خَاتِمِي عَلَى ثَمَنِ وَرَقَةٍ، وَكَتَبْتُهُمَا لَهُ
فَأَخَذَهُمَا وَقَالَ: انْطَلِقْ رَاشِدًا. فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي، فَقَالَ
لِي غُلَامِي: هَاتِ خَاتِمَكَ حَتَّى نَرْهَنَهُ عَلَى طَعَامٍ لَنَا وَعَلَفٍ
لِلدَّابَّةِ. فَقُلْتُ: إِنِّي رَهَنْتُهُ. فَمَا أَمْسَيْنَا حَتَّى أَرْسَلَ
إِلَيَّ الْفَضْلُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَعَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ سَلَفًا
لِشَهْرَيْنِ مِنْ رِزْقٍ أَجْرَاهُ عَلَيَّ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَكَابِرِ، فَأَكْرَمَهُ الْفَضْلُ وَأَجْلَسَهُ
مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ،
فَشَكَا
إِلَيْهِ الرَّجُلُ دَيْنًا عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُكَلِّمَ فِي ذَلِكَ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَكَمْ دَيْنُكَ ؟ قَالَ:
ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ مَهْمُومٌ
لِضَعْفِ رَدِّهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَالَ إِلَى بَعْضِ إِخْوَانِهِ، فَاسْتَرَاحَ
عِنْدَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَإِذَا الْمَالُ قَدْ سَبَقَهُ
إِلَيْهِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
لَكَ الْفَضْلُ يَا فَضْلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ وَمَا كُلُّ مَنْ يُدْعَى
بِفَضْلٍ لَهُ الْفَضْلُ
رَأَى اللَّهُ فَضْلًا مِنْكَ فِي النَّاسِ وَاسِعًا فَسَمَّاكَ فَضْلًا
فَالْتَقَى الِاسْمُ وَالْفِعْلُ
وَقَدْ كَانَ الْفَضْلُ أَكْبَرَ رُتْبَةً مِنْ جَعْفَرٍ، وَلَكِنَّ جَعْفَرًا
أَحْظَى عِنْدَ الرَّشِيدِ مِنْهُ وَأَخَصُّ. وَقَدْ وَلِيَ الْفَضْلُ أَعْمَالًا
كِبَارًا، مِنْهَا نِيَابَةُ خُرَاسَانَ وَغَيْرُهَا.
فَلَمَّا قَتَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرًا وَحَبَسَ الْبَرَامِكَةَ، جَلَدَ الْفَضْلَ
بْنَ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ مِائَةَ سَوْطٍ، وَخَلَّدَهُ فِي السِّجْنِ حَتَّى
مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَبْلَ الرَّشِيدِ بِشُهُورٍ خَمْسَةٍ بِالرَّقَّةِ،
وَصَلَّى عَلَيْهِ بِالْقَصْرِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ أُخْرِجَتْ
جِنَازَتُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا النَّاسُ، وَدُفِنَ هُنَاكَ وَلَهُ خَمْسٌ
وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ ثِقَلٌ أَصَابَهُ فِي لِسَانِهِ
اشْتَدَّ بِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ وَتُوُفِّيَ قَبْلَ أَذَانِ
الْغَدَاةِ مِنْ يَوْمِ السَّبْتِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَةٍ.
وَقَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ تَرْجَمَتَهُ، وَذَكَرَ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ
مَحَاسِنِهِ وَمَكَارِمِهِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ بَلْخَ حِينَ كَانَ
نَائِبًا عَلَى خُرَاسَانَ وَكَانَ بِهَا بَيْتُ النَّارِ الَّتِي كَانَتْ
تَعْبُدُهَا الْمَجُوسُ، وَقَدْ كَانَ جَدُّهُ بَرْمَكُ مِنْ خُدَّامِهَا،
فَهَدَمَ بَعْضَهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ هَدْمِهِ كُلِّهِ؛ لِقُوَّةِ
إِحْكَامِهِ وَبَنَى مَكَانَهُ مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ أَنَّهُ
كَانَ يَتَمَثَّلُ فِي السِّجْنِ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
إِلَى اللَّهِ فِيمَا نَالَنَا نَرْفَعُ الشَّكْوَى فَفِي يَدِهِ كَشْفُ
الْمَضَرَّةِ وَالْبَلْوَى
خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلِهَا فَلَا نَحْنُ فِي الْأَمْوَاتِ
فِيهَا وَلَا الْأَحْيَا
إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا
مِنَ الدُّنْيَا
وَمُحَمَّدُ بْنُ أُمَيَّةَ، الشَّاعِرُ الْكَاتِبُ، وَهُوَ مِنْ بَيْتٍ كُلُّهُمْ
شُعَرَاءُ، وَقَدِ اخْتَلَطَ أَشْعَارُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ وَلَهُ شِعْرٌ
رَائِقٌ، وَمَدِيحٌ فَائِقٌ.
مَنْصُورُ
بْنُ الزِّبْرِقَانِ بْنِ سَلَمَةَ، أَبُو الْفَضْلِ النُّمَيْرِيُّ، الشَّاعِرُ،
امْتَدَحَ الرَّشِيدَ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَزِيرَةِ وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ،
وَيُقَالُ لِجَدِّهِ: مُطْعِمُ الْكَبْشِ الرَّخَمَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَضَافَ
قَوْمًا، فَجَعَلَتِ الرَّخَمُ تُحَمْلِقُ حَوْلَهُمْ، فَأَمَرَ بِكَبْشٍ يُذْبَحُ
لِلرَّخَمِ حَتَّى لَا يَتَأَذَّى بِهَا أَضْيَافُهُ، فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ
لِذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَبُوكَ زَعِيمُ بَنِي قَاسِطٍ وَخَالُكَ ذُو الْكَبْشِ يَقْرِي الرَّخَمَ
وَلَهُ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ يَرْوِي عَنْ كُلْثُومِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ
شَيْخَهُ الَّذِي أَخَذَ عَنْهُ الْغِنَاءَ.
يُوسُفُ بْنُ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنَ السَّرِيِّ بْنِ يَحْيَى، وَيُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ،
وَنَظَرَ فِي الرَّأْيِ، وَتَفَقَّهَ، وَوَلِيَ قَضَاءَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ
بِبَغْدَادَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ بِجَامِعِ
الْمَنْصُورِ، عَنْ أَمْرِ الرَّشِيدِ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ وَهُوَ قَاضٍ بِبَغْدَادَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْفَضْلُ بْنُ
يَحْيَى، وَقَدْ أَرَّخَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ،
وَتِسْعِينَ، وَمِائَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَعِيدٌ الْجَوْهَرِيُّ. قَالَ: وَفِيهَا وَافَى
الرَّشِيدُ جُرْجَانَ وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ خَزَائِنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى
تُحْمَلُ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ بَعِيرٍ، وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا،
ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْهَا إِلَى طُوسَ وَهُوَ عَلِيلٌ، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِيهَا.
وَفِيهَا تَوَاقَعَ هَرْثَمَةُ نَائِبُ الْعِرَاقِ هُوَ وَرَافِعُ بْنُ اللَّيْثِ،
فَكَسَرَهُ هَرْثَمَةُ، وَافْتَتَحَ بُخَارَى، وَأَسَرَ أَخَاهُ بَشِيرَ بْنَ
اللَّيْثِ، فَبَعَثَهُ إِلَى الرَّشِيدِ، وَهُوَ بِطُوسَ مُثْقَلٌ عَنِ السَّيْرِ،
فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَرَعَ يَتَرَقَّقُ لَهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ
مِنْهُ، بَلْ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي إِلَّا أَنْ
أُحَرِّكَ شَفَتَيْ بِقَتْلِكَ لَقَتَلْتُكَ. ثُمَّ دَعَا بِقَصَّابٍ، فَجَزَّأَهُ
بَيْنَ يَدَيْهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ عُضْوًا، ثُمَّ رَفَعَ الرَّشِيدُ يَدَيْهِ
إِلَى السَّمَاءِ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُمَكِّنَهُ
مِنْ
رَافِعٍ كَمَا مَكَّنَهُ مِنْ أَخِيهِ بَشِيرٍ
ذِكْرُ وَفَاةِ هَارُونَ الرَّشِيدِ
كَانَ قَدْ رَأَى، وَهُوَ بِالرَّقَّةِ رُؤْيَا أَفْزَعَتْهُ، وَغَمَّهُ ذَلِكَ،
فَدَخَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بْنُ بَخْتَيْشُوعَ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ كَأَنَّ كَفًّا فِيهَا تُرْبَةٌ حَمْرَاءُ
خَرَجَتْ مِنْ تَحْتِ سَرِيرِي هَذَا، وَقَائِلًا يَقُولُ هَذِهِ تُرْبَةُ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ. فَهَوَّنَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ أَمْرَهَا، وَقَالَ: هَذِهِ مِنْ
أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ، وَمِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، فَتَنَاسَهَا يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا سَارَ يُرِيدُ خُرَاسَانَ وَمَرَّ بِطُوسَ، وَاعْتَقَلَتْهُ
الْعِلَّةُ بِهَا، ذَكَرَ رُؤْيَاهُ الَّتِي كَانَ رَأَى؛ فَهَالَهُ ذَلِكَ،
وَانْزَعَجَ جِدًّا فَدَخَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لِجِبْرِيلَ: وَيْحَكَ ؟
أَمَا تَذْكُرُ مَا قَصَصْتُهُ عَلَيْكَ مِنَ الرُّؤْيَا ؟ فَقَالَ: بَلَى يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَ مَاذَا ؟ فَدَعَا مَسْرُورًا الْخَادِمَ،
وَقَالَ: ائْتِنِي بِشَيْءٍ مِنْ تُرْبَةِ هَذِهِ الْأَرْضِ. فَجَاءَهُ بِتُرْبَةٍ
حَمْرَاءَ فِي يَدِهِ، فَلَمَّا رَآهَا قَالَ: وَاللَّهِ هَذِهِ الْكَفُّ الَّتِي
رَأَيْتُ، وَالتُّرْبَةُ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا. قَالَ جِبْرِيلُ: فَوَاللَّهِ
مَا أَتَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثٌ حَتَّى تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ
أَمَرَ بِحَفْرِ قَبْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فِي الدَّارِ الَّتِي كَانَ فِيهَا،
وَهِيَ دَارُ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي غَانِمٍ الطَّائِيِّ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى
قَبْرِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: ابْنَ آدَمَ تَصِيرُ إِلَى هَذَا ! ثُمَّ أَمَرَ
بِقُرَّاءٍ فَقَرَءُوا فِي الْقَبْرِ الْقُرْآنَ حَتَّى خَتَمُوهُ، وَهُوَ فِي
مَحَفَّةٍ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ احْتَبَى
بِمُلَاءَةٍ وَجَلَسَ يُقَاسِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ
حَضَرَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوِ اضْطَجَعْتَ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْكَ.
فَضَحِكَ ضَحِكَ صَحِيحٍ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي مِنْ قَوْمٍ كِرَامٍ يَزِيدُهُمْ شِمَاسًا، وَصَبْرًا شِدَّةُ
الْحَدَثَانِ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، وَقِيلَ: لَيْلَةَ الْأَحَدِ.
مُسْتَهَلَّ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، عَنْ
خَمْسٍ، وَقِيلَ: سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. فَكَانَ مُلْكُهُ ثَلَاثًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ
هُوَ هَارُونُ الرَّشِيدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ابْنُ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمَنْصُورِ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْقُرَشِيُّ
الْهَاشِمِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ، وَيُقَالُ: أَبُو جَعْفَرٍ. وَأُمُّهُ
الْخَيْزُرَانُ أُمُّ وَلَدٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ،
وَقِيلَ: سَبْعٍ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ
وُلِدَ
سَنَةَ
خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ مُوسَى
الْهَادِي فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ، بِعَهْدٍ مِنْ
أَبِيهِ الْمَهْدِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.
رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وَحَدَّثَ عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ
فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ
تَمْرَةٍ أَوْرَدَهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ. وَقَدْ
حَدَّثَ عَنْهُ ابْنُهُ، وَسُلَيْمَانُ الْهَاشِمِيُّ، وَالِدُ إِسْحَاقَ،
وَنُبَاتَةُ بْنُ عَمْرٍو. وَكَانَ الرَّشِيدُ أَبْيَضَ طَوِيلًا سَمِينًا
جَمِيلًا.
وَقَدْ غَزَا الصَّائِفَةَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ مِرَارًا، وَعَقَدَ الْهُدْنَةَ
بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالرُّومِ بَعْدَ مُحَاصَرَتِهِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ
وَقَدْ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ جَهْدًا جَهِيدًا، وَخَوْفًا شَدِيدًا،
وَكَانَ الصُّلْحُ مَعَ امْرَأَةِ أَلْيُونَ، وَهِيَ الْمُلَقَّبَةُ بِأُغُسْطَةَ
عَلَى حَمْلٍ كَثِيرٍ تَبْذُلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَامٍ، فَفَرِحَ
الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَهَذَا هُوَ
الَّذِي حَدَا أَبَاهُ عَلَى أَنْ بَايَعَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ بَعْدَ
أَخِيهِ مُوسَى الْهَادِي، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. ثُمَّ
لَمَّا أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَخِيهِ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ
وَمِائَةٍ، كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ سِيرَةً، وَأَكْثَرِهِمْ غَزْوًا
وَحَجًّا بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِيهِ أَبُو السَّعْلِيِّ:
فَمَنْ
يَطْلُبْ لِقَاءَكَ أَوْ يُرِدْهُ فَبِالْحَرَمَيْنِ أَوْ أَقْصَى الثُّغُورِ
فَفِي أَرْضِ الْعَدُوِّ عَلَى طِمِرٍّ
وَفِي أَرْضِ الْبَنِيَّةِ فَوْقَ كُورِ وَمَا حَازَ الثُّغُورَ سِوَاكَ خَلْقٌ
مِنَ الْمُسْتَخْلَفِينَ عَلَى الْأُمُورِ
وَكَانَ يَتَصَدَّقُ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ،
وَإِذَا حَجَّ أَحَجَّ مَعَهُ مِائَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَبْنَائِهِمْ، وَإِذَا
لَمْ يَحُجَّ أَحَجَّ ثَلَاثَمِائَةٍ بِالنَّفَقَةِ السَّابِغَةِ، وَالْكُسْوَةِ
التَّامَّةِ، وَكَانَ يُحِبُّ التَّشَبُّهَ بِجَدِّهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ
إِلَّا فِي الْعَطَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ سَرِيعَ الْعَطَاءِ جَزِيلَهُ، وَكَانَ
يُحِبُّ الْفُقَهَاءَ، وَالشُّعَرَاءَ، وَيُعْطِيهِمْ كَثِيرًا، وَلَا يَضِيعُ
لَدَيْهِ بِرٌّ وَلَا مَعْرُوفٌ، وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ. وَكَانَ يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا، إِلَى
أَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا، إِلَّا أَنْ تَعْرِضَ لَهُ عِلَّةٌ.
وَكَانَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْمَدَنِيُّ هُوَ الَّذِي يُضْحِكُهُ، وَكَانَ
عِنْدَهُ فَضِيلَةٌ بِأَخْبَارِ الْحِجَازِ، وَغَيْرِهَا، وَكَانَ الرَّشِيدُ قَدْ
أَنْزَلَهُ فِي قَصْرِهِ، وَخَلَطَهُ بِأَهْلِهِ. نَبَّهَهُ الرَّشِيدُ يَوْمًا
إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَامَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ أَدْرَكَ الرَّشِيدَ، وَهُوَ
يَقْرَأُ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [ يس: 22 ] فَقَالَ ابْنُ
أَبِي مَرْيَمَ: لَا أَدْرِي وَاللَّهِ. فَضَحِكَ الرَّشِيدُ، وَقَطَعَ
الصَّلَاةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَيْحَكَ ! اجْتَنِبِ الصَّلَاةَ
وَالْقُرْآنَ،
وَلَكَ
مَا عَدَا ذَلِكَ.
وَدَخَلَ يَوْمًا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَلَى الرَّشِيدِ، وَمَعَهُ
بَرْنِيَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ فِيهَا غَالِيَةٌ مِنْ أَحْسَنِ الطِّيبِ، فَجَعَلَ
يَمْدَحُهَا، وَيَزِيدُ فِي شُكْرِهَا، وَسَأَلَ مِنَ الرَّشِيدِ أَنْ يَقْبَلَهَا
مِنْهُ فَقَبِلَهَا، فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ فَوَهَبَهَا
لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: وَيَحَكَ ! جِئْتُ بِشَيْءٍ مَنَعْتُهُ نَفْسِي، وَآثَرْتُ
بِهِ سَيِّدِي فَأَخَذْتَهُ. فَحَلَفَ ابْنُ مَرْيَمَ لَيُطَيِّبَنَّ بِهِ
اسْتَهُ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا فَطَلَى بِهِ اسْتَهُ، وَدَهَنَ
جَوَارِحَهُ كُلَّهَا مِنْهَا، وَالرَّشِيدُ لَا يَتَمَالَكُ نَفْسَهُ مِنَ
الضَّحِكِ. ثُمَّ قَالَ لِخَادِمٍ قَائِمٍ يُقَالُ لَهُ خَاقَانُ: اطْلُبْ لِي
غُلَامِي. فَقَالَ الرَّشِيدُ: ادْعُ لَهُ غُلَامَهُ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ هَذِهِ
الْغَالِيَةَ، وَاذْهَبْ بِهَا إِلَى سِتِّكَ فَمُرْهَا فَلْتُطَيِّبْ مِنْهَا
اسْتَهَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهَا فَأَنِيكَهَا. فَذَهَبَ الضَّحِكُ
بِالرَّشِيدِ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَلَى
الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ: جِئْتَ بِهَذِهِ الْغَالِيَةِ
تَمْدَحُهَا عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي مَا تُمْطِرُ السَّمَاءُ
شَيْئًا، وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ تَصَرُّفِهِ،
وَفِي يَدِهِ ؟ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنْ قِيلَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ: مَا
أَمَرَكَ بِهِ هَذَا فَأَنْفِذْهُ. وَأَنْتَ تَمْدَحُ هَذِهِ الْغَالِيَةَ
عِنْدَهُ كَأَنَّهُ بَقَّالٌ، أَوْ خَبَّازٌ، أَوْ طَبَّاخٌ، أَوْ تَمَّارٌ.
فَكَادَ الرَّشِيدُ يَهْلِكُ مِنْ شِدَّةِ
الضَّحِكِ
ثُمَّ أَمَرَ لِابْنِ أَبِي مَرْيَمَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَقَدْ شَرِبَ الرَّشِيدُ يَوْمًا دَوَاءً فَسَأَلَهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَنْ
يَلِيَ الْحِجَابَةَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَمَهْمَا حَصَلَ لَهُ فَهُوَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَلَّاهُ الْحِجَابَةَ، فَجَاءَتِ الرُّسُلُ
بِالْهَدَايَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ عِنْدِ زُبَيْدَةَ، وَالْبَرَامِكَةِ،
وَكِبَارِ الْأُمَرَاءِ، فَكَانَ حَاصِلُهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ،
فَسَأَلَهُ الرَّشِيدُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَمَّا تَحَصَّلَ، فَأَخْبَرَهُ،
قَالَ: فَأَيْنَ نَصِيبِي ؟ قَالَ: مَعْزُولٌ. قَالَ: قَدْ صَالَحْتُكَ عَلَيْهِ
بِعَشَرَةِ آلَافِ تُفَّاحَةٍ.
وَقَدِ اسْتَدْعَى إِلَيْهِ أَبَا مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرَ مُحَمَّدَ بْنَ خَازِمٍ
لِيَسْمَعَ مِنْهُ الْحَدِيثَ، قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: مَا ذَكَرْتُ عِنْدَهُ
فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ إِلَّا قَالَ: صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى
سَيِّدِي. وَإِذَا سَمِعَ حَدِيثًا فِيهِ مَوْعِظَةٌ يَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ
الثَّرَى. وَأَكَلْتُ عِنْدَهُ يَوْمًا ثُمَّ قُمْتُ لِأَغْسِلَ يَدِي فَصَبَّ
الْمَاءَ عَلَيَّ، وَأَنَا لَا أَرَاهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُعَاوِيَةَ،
أَتَدْرِي مَنْ يَصُبُّ عَلَيْكَ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: أَنَا. فَدَعَا لَهُ أَبُو
مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ تَعْظِيمَ الْعِلْمِ، وَقَدْ
حَدَّثَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ يَوْمًا عَنِ
الْأَعْمَشِ
عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَدِيثِ: " احْتَجَّ آدَمُ،
وَمُوسَى " " فَقَالَ عَمُّ الرَّشِيدِ: أَيْنَ الْتَقَيَا يَا أَبَا
مُعَاوِيَةَ ؟ فَغَضِبَ الرَّشِيدُ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ:
أَتَعْتَرِضُ عَلَى الْحَدِيثِ ؟ ! عَلَيَّ بِالنَّطْعِ، وَالسَّيْفِ. فَأُحْضِرَ
ذَلِكَ، فَقَامَ النَّاسُ إِلَيْهِ يَشْفَعُونَ فِيهِ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: هَذِهِ
زَنْدَقَةٌ. ثُمَّ أَمَرَ بِسَجْنِهِ، وَقَالَ: لَا يَخْرُجُ حَتَّى يُخْبِرَنِي
مَنْ أَلْقَى إِلَيْهِ هَذَا. فَأَقْسَمَ بِالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ مَا قَالَ
لَهُ أَحَدٌ وَإِنَّمَا كَانَتْ بَادِرَةً مِنِّي، فَأَطْلَقَهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْتُ عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلٌ
مَضْرُوبُ الْعُنُقِ، وَالسَّيَّافُ يَمْسَحُ سَيْفَهُ فِي قَفَا الرَّجُلِ
الْمَقْتُولِ، فَقَالَ هَارُونُ: قَتَلْتُهُ لِأَنَّهُ قَالَ: الْقُرْآنُ
مَخْلُوقٌ. فَقَتَلْتُهُ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ لَهُ
بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، انْظُرْ هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَيُقَدِّمُونَهُمَا فَأَكْرِمْهُمْ
يَعِزُّ سُلْطَانُكَ. فَقَالَ الرَّشِيدُ: أَوَلَسْتُ كَذَلِكَ ؟ ! أَنَا
وَاللَّهِ كَذَلِكَ أُحِبُّهُمَا، وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُمَا، وَأُعَاقِبُ مَنْ
يُبْغِضُهُمَا.
وَقَالَ لَهُ ابْنُ السِّمَاكِ أَوْ غَيْرُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ
اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ فَوْقَكُ، فَاجْتَهِدْ أَنْ لَا
يَكُونَ فِيهِمْ أَحَدٌ أَطْوَعَ إِلَى اللَّهِ مِنْكَ. فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ
أَقْصَرْتَ فِي الْكَلَامِ لَقَدْ أَبْلَغْتَ فِي الْمَوْعِظَةِ.
وَدَخَلَ
عَلَيْهِ ابْنُ السِّمَاكِ يَوْمًا فَاسْتَسْقَى الرَّشِيدُ فَأُتِيَ بِقُلَّةٍ
فِيهَا مَاءٌ مُبَرَّدٌ، فَقَالَ لِابْنِ السِّمَاكِ: عِظْنِي. فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِكُمْ كُنْتَ مُشْتَرِيًا هَذِهِ الشَّرْبَةَ لَوْ
مُنِعْتَهَا ؟ فَقَالَ: بِنِصْفِ مُلْكِي. فَقَالَ: اشْرَبْ هَنِيئًا. فَلَمَّا
شَرِبَ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ مُنِعْتَ خُرُوجَهَا مِنْ بَدَنِكَ، بِكَمْ كُنْتَ
تَشْتَرِي ذَلِكَ ؟ قَالَ: بِمُلْكِي كُلِّهِ. فَقَالَ: إِنَّ مُلْكًا قِيمَتُهُ
شَرْبَةُ مَاءٍ لَخَلِيقٌ أَنْ لَا يُتَنَافَسَ فِيهِ. فَبَكَى هَارُونُ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ثِنَا الرِّيَاشِيُّ، سَمِعْتُ الْأَصْمَعِيَّ،
يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى الرَّشِيدِ، وَهُوَ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَخْذُ الْأَظْفَارِ يَوْمَ
الْخَمِيسِ مِنَ السُّنَّةِ، وَبَلَغَنِي أَنَّ أَخْذَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ
يَنْفِي الْفَقْرَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوَ تَخْشَى الْفَقْرَ
؟ ! فَقَالَ: يَا أَصْمَعِيُّ، وَهَلْ أَحَدٌ أَخْشَى لِلْفَقْرِ مِنَى ؟
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ قَالَ: كُنْتُ
يَوْمًا عِنْدَ الرَّشِيدِ فَدَعَا طَبَّاخَهُ، فَقَالَ: أَعِنْدَكَ فِي
الطَّعَامِ لَحْمُ جَزُورٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَلْوَانٌ مِنْهُ. فَقَالَ:
أَحْضِرْهُ مَعَ الطَّعَامِ، فَلَمَّا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَخَذَ لُقْمَةً
مِنْهُ، فَوَضَعَهَا فِي فِيهِ، فَضَحِكَ جَعْفَرٌ الْبَرْمَكِيُّ، فَتَرَكَ
الرَّشِيدُ مَضْغَ اللُّقْمَةِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ:
مِمَّ تَضْحَكُ ؟ قَالَ: لَا شَيْءَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرْتُ كَلَامًا دَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ جَارِيَتِي الْبَارِحَةَ. فَقَالَ: بِحَقِّي عَلَيْكَ لَمَا أَخْبَرْتَنِي بِهِ. قَالَ: حَتَّى تَأْكُلَ هَذِهِ اللُّقْمَةَ، فَأَلْقَاهَا مِنْ فِيهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَتُخْبِرَنِّي. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِكَمْ تَقُولُ إِنَّ هَذَا الطَّعَامَ مِنْ لَحْمِ الْجَزُورِ يُقَوَّمُ عَلَيْكَ ؟ قَالَ: بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ. قَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ: إِنَّكَ طَلَبْتَ مِنْ طَبَّاخِكَ هَذَا لَحْمَ جَزُورٍ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ، فَقُلْتُ: لَا يَخْلُوَنَّ الْمَطْبَخُ مِنْ لَحْمِ جَزُورٍ، فَنَحْنُ نَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ جَزُورًا؛ لِأَنَّا لَا نَشْتَرِي لَحْمَ الْجَزُورِ مِنَ السُّوقِ، فَصُرِفَ فِي لَحْمِ الْجَزُورِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَطْلُبْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَحْمَ الْجَزُورِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ، قَالَ جَعْفَرٌ: فَضَحِكْتُ؛ لِأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا نَالَهُ مِنْ ذَلِكَ هَذِهِ اللُّقْمَةُ، فَهِيَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ: فَبَكَى الرَّشِيدُ بُكَاءً شَدِيدًا، وَأَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ يُوَبِّخُهَا، وَيَقُولُ: هَلَكْتَ وَاللَّهِ يَا هَارُونُ. وَأَمَرَ بِرَفْعِ السِّمَاطِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى آذَنَهُ الْمُؤَذِّنُونَ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَخَرَجَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، ثُمَّ رَجَعَ يَبْكِي، وَقَدْ أَمَرَ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ تُصْرَفُ إِلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمَيْنِ، فِي كُلِّ حَرَمٍ أَلْفُ أَلْفٍ صَدَقَةً، وَأَمَرَ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ يَتَصَدَّقُ بِهَا فِي جَانِبَيْ بَغْدَادَ؛ الْغَرْبِيِّ، وَالشَّرْقِيِّ، وَبِأَلْفِ أَلْفٍ يُتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى
فَقُرَاءِ
الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ. ثُمَّ خَرَجَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ رَجَعَ
يَبْكِي حَتَّى صَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو
يُوسُفَ الْقَاضِي، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَاكِيًا
فِي هَذَا الْيَوْمِ ؟ فَذَكَرَ أَمْرَهُ، وَمَا صَرَفَ مِنَ الْمَالِ الْجَزِيلِ
لِأَجْلِ شَهْوَتِهِ، وَإِنَّمَا نَالَهُ مِنْهَا لُقْمَةٌ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ
لِجَعْفَرٍ: هَلْ كَانَ مَا يَذْبَحُونَهُ مِنَ الْجَزُورِ يَفْسَدُ، أَوْ
يَأْكُلُهُ النَّاسُ ؟ قَالَ: بَلْ يَأْكُلُهُ النَّاسُ. فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِثَوَابِ اللَّهِ فِيمَا صَرَفْتَهُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي
أَكَلَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ، وَبِمَا يَسَّرَهُ اللَّهُ
عَلَيْكَ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَبِمَا
رَزَقَكَ اللَّهُ مِنْ خَشْيَتِهِ وَخَوْفِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَقَدْ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [ الرَّحْمَنِ: 46 ]
فَأَمَرَ لَهُ الرَّشِيدُ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِطَعَامٍ،
فَأَكَلَ مِنْهُ فَكَانَ غَدَاؤُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَشَاءً.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ: اجْتَمَعَ لِلرَّشِيدِ مِنَ الْجِدِّ
وَالْهَزْلِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ، كَانَ أَبُو يُوسُفَ قَاضِيَهُ،
وَالْبَرَامِكَةُ وُزَرَاءَهُ، وَحَاجِبُهُ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ أَنْبَهُ
النَّاسِ، وَأَشَدُّهُمْ تَعَاظُمًا، وَنَدِيمُهُ عَمُّ أَبِيهِ الْعَبَّاسُ بْنُ
مُحَمَّدٍ صَاحِبُ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَشَاعِرُهُ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ
وَمُغَنِّيهِ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ وَاحِدُ
عَصْرِهِ
فِي صِنَاعَتِهِ وَضَارِبُهُ زَلْزَلٌ، وَزَامِرُهُ بَرْصُومَا، وَزَوْجَتُهُ
أُمُّ جَعْفَرٍ يَعْنِي زُبَيْدَةَ، وَكَانَتْ أَرْغَبَ النَّاسِ فِي كُلِّ
خَيْرٍ، وَأَسْرَعَهُمْ إِلَى كُلِّ بِرٍّ وَمَعْرُوفٍ، أَدْخَلَتِ الْمَاءَ
الْحَرَمَ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ ذَلِكَ، إِلَى أَشْيَاءَ مِنَ الْمَعْرُوفِ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّا مِنْ قَوْمٍ
عَظُمَتْ رَزِيَّتُهُمْ، وَحَسُنَتْ بَقِيَّتُهُمْ، وَرِثْنَا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَقِيَتْ فِينَا خِلَافَةُ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
وَبَيْنَمَا الرَّشِيدُ يَطُوفُ يَوْمًا بِالْبَيْتِ إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ،
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُكَلِّمَكَ بِكَلَامٍ
فِيهِ غِلْظَةٌ. فَقَالَ: لَا، وَلَا نِعْمَتْ عَيْنٌ، قَدْ بَعَثَ اللَّهُ مَنْ
هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ إِلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ
قَوْلًا لَيِّنًا.
وَعَنْ شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: رَأَيْتُ الرَّشِيدَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ،
وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَخَوَّفَتْنِي، وَقَالَتْ: إِنَّهُ الْآنَ
يَضْرِبُ عُنُقَكَ. فَقُلْتُ: لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ. فَنَادَيْتُهُ: فَقُلْتُ:
يَا هَارُونُ، قَدْ أَتْعَبْتَ الْأُمَّةَ، وَالْبَهَائِمَ. فَقَالَ: خُذُوهُ.
فَأُدْخِلْتُ عَلَيْهِ، وَفِي يَدِهِ
لَتٌّ
مِنْ حَدِيدٍ يَلْعَبُ بِهِ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ، فَقَالَ: مِمَّنِ
الرَّجُلُ ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ،
مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ: مِنَ الْأَبْنَاءِ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ
دَعَوْتَنِي بِاسْمِي ؟ قَالَ: فَخَطَرَ بِبَالِي شَيْءٌ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِي
قَبْلَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَنَا أَدْعُو اللَّهَ بِاسْمِهِ، يَا اللَّهُ، يَا
رَحْمَنُ أَفَلَا أَدْعُوكَ بِاسْمِكَ ؟ ! وَهَذَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ دَعَا
أَحَبَّ خَلْقِهِ إِلَيْهِ بِاسْمِهِ: مُحَمَّدًا، وَكَنَّى أَبْغَضَ الْخَلْقِ
إِلَيْهِ، فَقَالَ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [ الْمَسَدِ: 1 ] فَقَالَ
الرَّشِيدُ: أَخْرِجُوهُ أَخْرِجُوهُ.
وَقَالَ لَهُ ابْنُ السِّمَاكِ يَوْمًا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ
تَمُوتُ وَحْدَكَ، وَتُقْبَرُ وَحْدَكَ، فَاحْذَرِ الْمُقَامَ بَيْنَ يَدَيِ
الْجَبَّارِ، وَالْوُقُوفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حِينَ يُؤْخَذُ
بِالْكَظَمِ، وَتَزِلُّ الْقَدَمُ، وَيَقَعُ النَّدَمُ، فَلَا تَوْبَةَ تُنَالُ،
وَلَا عَثْرَةَ تُقَالُ، وَلَا يُقْبَلُ فِدَاءٌ بِمَالٍ. فَجَعَلَ الرَّشِيدُ
يَبْكِي حَتَّى عَلَا صَوْتُهُ، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ لَهُ: يَا ابْنَ
السِّمَاكِ لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّيْلَةَ. فَقَامَ
فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَهُوَ يَبْكِي.
وَقَالَ
لَهُ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ فِي جُمْلَةِ مَوْعِظَتِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ
بِمَكَّةَ: يَا صَبِيحَ الْوَجْهِ، إِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ،
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [ الْبَقَرَةِ:
166 ] قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ: الْوُصَلَاتُ الَّتِي كَانَتْ
بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا. فَبَكَى حَتَّى جَعَلَ يَشْهَقُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: اسْتَدْعَانِي الرَّشِيدُ يَوْمًا، وَقَدْ زَخْرَفَ
مَنَازِلَهُ، وَأَكْثَرَ الطَّعَامَ، وَالشَّرَابَ، وَاللَّذَّاتِ فِيهَا، ثُمَّ
اسْتَدْعَى أَبَا الْعَتَاهِيَةِ، فَقَالَ لَهُ: صِفْ لَنَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ
الْعَيْشِ، وَالنَّعِيمِ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
عِشْ مَا بَدَا لَكَ سَالِمًا فِي ظِلِّ شَاهِقَةِ الْقُصُورِ
يَسْعَى عَلَيْكَ بِمَا اشْتَهَيْ تَ لَدَى الرَّوَاحِ وَفِي الْبُكُورِ
فَإِذَا النُّفُوسُ تَقَعْقَعَتْ عَنْ ضِيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدُورِ
فَهُنَاكَ تَعْلَمُ مُوقِنًا مَا كُنْتَ إِلَّا فِي غُرُورِ
قَالَ: فَبَكَى الرَّشِيدُ بُكَاءً شَدِيدًا. فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى:
دَعَاكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لِتَسُرَّهُ فَأَحْزَنْتَهُ ؟ فَقَالَ لَهُ
الرَّشِيدُ: دَعْهُ؛ فَإِنَّهُ رَآنَا فِي عَمًى فَكَرِهَ أَنْ يَزِيدَنَا عَمًى.
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ الرَّشِيدَ قَالَ لِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ: عِظْنِي
بِأَبْيَاتٍ مِنَ الشِّعْرِ
وَأَوْجِزْ.
فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَا تَأْمَنِ الْمَوْتَ فِي طَرَفٍ وَلَا نَفَسٍ وَلَوْ تَمَنَّعْتَ بِالْحُجَّابِ
وَالْحَرَسِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ سِهَامَ الْمَوْتِ قَاصِدَةٌ لِكُلِّ مُدَّرِعٍ مِنْهَا
وَمُتَّرِسِ
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي
عَلَى الْيَبَسِ
قَالَ: فَخَرَّ الرَّشِيدُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.
وَقَدْ حَبَسَ الرَّشِيدُ مَرَّةً أَبَا الْعَتَاهِيَةِ، وَأَرْصَدَ عَلَيْهِ مَنْ
يَأْتِيهِ بِمَا يَقُولُ، فَكَتَبَ مَرَّةً عَلَى جِدَارِ الْحَبْسِ:
أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ الظُّلْمَ لُومٌ وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
قَالَ: فَاسْتَدْعَاهُ وَاسْتَجْعَلَهُ فِي حِلٍّ، وَوَهَبَهُ أَلْفَ دِينَارٍ،
وَأَطْلَقَهُ.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهْمِ: ثِنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الرَّشِيدِ فَقَالَ: مَا
خَبَرُكَ ؟ فَقُلْتُ:
بِعَيْنِ اللَّهِ مَا تَخْفَى الْبُيُوتُ فَقَدْ طَالَ التَّحَمُّلُ وَالسُّكُوتُ
فَقَالَ: يَا فُلَانُ، مِائَةُ أَلْفٍ لِابْنِ عُيَيْنَةَ تُغْنِيهِ، وَتُغْنِي
عَقِبَهُ، وَلَا تَضُرُّ الرَّشِيدَ شَيْئًا.
وَقَالَ
الْأَصْمَعِيُّ: كُنْتُ مَعَ الرَّشِيدِ فِي الْحَجِّ، فَمَرَرْنَا بِوَادٍ،
فَإِذَا عَلَى شَفِيرِهِ امْرَأَةٌ صَبِيَّةٌ حَسْنَاءُ بَيْنَ يَدَيْهَا
قَصْعَةٌ، وَهِيَ تَسْأَلُ فِيهَا، وَتَقُولُ:
طَحْطَحَتْنَا طَحَاطِحُ الْأَعْوَامِ وَرَمَتْنَا حَوَادِثُ الْأَيَّامِ
فَأَتَيْنَاكُمْ نَمُدُّ أَكُفًّا لِفَضَالَاتِ زَادِكُمْ، وَالطَّعَامِ
فَاطْلُبُوا الْأَجْرَ، وَالْمَثُوبَةَ فِينَا أَيُّهَا الزَّائِرُونَ بَيْتَ
الْحَرَامِ
مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي، وَرَحْلِي فَارْحَمُوا غُرْبَتِي، وَذُلَّ مَقَامِي
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فَذَهَبْتُ إِلَى الرَّشِيدِ فَأَخْبَرْتُهُ بِأَمْرِهَا،
فَجَاءَ بِنَفْسِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهَا، فَسَمِعَهَا فَرَحِمَهَا وَبَكَى،
وَأَمَرَ مَسْرُورًا الْخَادِمَ أَنْ يَمْلَأَ قَصْعَتَهَا ذَهَبًا، فَمَلَأَهَا
حَتَّى جَعَلَتْ تَفِيضُ يَمِينًا، وَشِمَالًا.
وَسَمِعَ مَرَّةً الرَّشِيدُ أَعْرَابِيًّا يَحْدُو إِبِلَهُ فِي طَرِيقِ
الْحَجِّ، وَهُوَ يَقُولُ:
يَا أَيُّهَا الْمُجْمِعُ هَمًّا لَا تُهَمْ إِنَّكَ إِنْ تُقْضَى لَكَ الْحُمَّى
تُحَمْ
كَيْفَ تَوَقِّيكَ وَقَدْ جَفَّ الْقَلَمْ
وَحَطَّتِ
الصِّحَّةُ مِنْكَ وَالسَّقَمْ
فَقَالَ الرَّشِيدُ لِبَعْضِ الْخَدَمِ: مَا مَعَكَ ؟ قَالَ: أَرْبَعُمِائَةِ
دِينَارٍ. فَقَالَ: ادْفَعْهَا إِلَى هَذَا الْأَعْرَابِيِّ. فَلَمَّا قَبَضَهَا
ضَرَبَ رَفِيقُهُ بِيَدِهِ عَلَى كَتِفِهِ، وَقَالَ مُتَمَثِّلًا:
وَكُنْتُ جَلِيسَ قَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو وَلَا يَشْقَى بِقَعْقَاعٍ جَلِيسُ
فَأَمَرَ الرَّشِيدُ بَعْضَ الْخَدَمِ أَنْ يُعْطِيَ الْمُتَمَثِّلَ مَا مَعَهُ مِنَ
الذَّهَبِ، فَإِذَا مَعَهُ مِائَتَا دِينَارٍ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَصْلُ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أُهْدِيَتْ
لَهُ هَدِيَّةٌ؛ جَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَفَرَّقَهَا عَلَى جُلَسَائِهِ، وَإِلَى
جَانِبِهِ قَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَإِلَى جَانِبِ الْقَعْقَاعِ أَعْرَابِيٌّ
لَمْ يَفْضُلْ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ، فَأَطْرَقَ الْأَعْرَابِيُّ حَيَاءً، فَدَفَعَ
إِلَيْهِ الْقَعْقَاعُ الْجَامَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ، فَنَهَضَ الْأَعْرَابِيُّ،
وَهُوَ يَقُولُ:
وَكُنْتُ جَلِيسَ قَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو وَلَا يَشْقَى بِقَعْقَاعٍ جَلِيسُ
وَخَرَجَ الرَّشِيدُ يَوْمًا مِنْ عِنْدِ زُبَيْدَةَ، وَهُوَ يَضْحَكُ فَقِيلَ
لَهُ: مِمَّ تَضْحَكُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: دَخَلَتْ إِلَيَّ
هَذِهِ الْمَرْأَةُ - يَعْنِي زَوْجَتَهُ زُبَيْدَةَ - فَأَكَلْتُ عِنْدَهَا،
وَنِمْتُ، فَمَا اسْتَيْقَظْتُ إِلَّا بِصَوْتِ ذَهَبٍ يُصَبُّ، فَقُلْتُ: مَا
هَذَا ؟
قَالُوا:
هَذِهِ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ قَدِمَتْ مِنْ مِصْرَ. فَقَالَتْ: هَبْهَا
لِي يَابْنَ عَمِّ. فَقُلْتُ: هِيَ لَكِ. ثُمَّ مَا خَرَجْتُ حَتَّى عَرْبَدَتْ
عَلَيَّ، وَقَالَتْ: أَيُّ خَيْرٍ رَأَيْتُ مِنْكَ ؟
وَقَالَ الرَّشِيدُ مَرَّةً لِلْمُفَضَّلِ الضَّبِّيِّ: مَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ
فِي الذِّئْبِ، وَلَكَ هَذَا الْخَاتَمُ، وَشِرَاؤُهُ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةِ
دِينَارٍ ؟ فَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
يَنَامُ بِإِحْدَى مُقْلَتَيْهِ وَيَتَّقِي بِأُخْرَى الرَّزَايَا فَهُو يَقْظَانُ
هَاجِعُ
فَقَالَ: مَا قُلْتَ هَذَا إِلَّا لِتَسْلُبَنَا الْخَاتَمَ. ثُمَّ أَلْقَاهُ
إِلَيْهِ، فَبَعَثَتْ زُبَيْدَةُ فَاشْتَرَتْهُ مِنْهُ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ
دِينَارٍ، وَبَعَثَتْ بِهِ إِلَى الرَّشِيدِ، وَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُكَ
مُعْجَبًا بِهِ. فَرَدَّهُ إِلَى الْمُفَضَّلِ، وَالدَّنَانِيرَ، وَقَالَ: مَا
كُنَّا لِنَهَبَ شَيْئًا، وَنَرْجِعَ فِيهِ.
وَقَالَ الرَّشِيدُ يَوْمًا لِلْعَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ: أَيُّ بَيْتٍ
قَالَتْهُ الْعَرَبُ أَرَقُّ ؟ فَقَالَ: قَوْلُ جَمِيلٍ فِي بُثَيْنَةَ:
أَلَا لَيْتَنِي أَعْمَى أَصَمُّ تَقُودُنِي بُثَيْنَةُ لَا يَخْفَى عَلَيَّ
كَلَامُهُا
فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: فَقَوْلُكَ أَرَقُّ مِنْ هَذَا حَيْثُ قُلْتَ:
طَافَ الْهَوَى فِي عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمْ حَتَّى إِذَا مَرَّ بِي مِنْ بَيْنِهِمْ
وَقَفَا
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: فَقَوْلُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَقُّ مِنْ هَذَا
كُلِّهِ:
أَمَا يَكْفِيكِ أَنَّكِ تَمْلِكِينِي وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَبِيدِي
وَأَنَّكِ
لَوْ قَطَعْتِ يَدِي، وَرِجْلِي لَقُلْتُ مِنَ الْهَوَى أَحْسَنْتِ زِيدِي
قَالَ: فَضَحِكَ الرَّشِيدُ، وَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ.
وَمِنْ شَعْرِ الرَّشِيدِ فِي ثَلَاثِ حَظِيَّاتٍ كُنَّ عِنْدَهُ مِنَ
الْخَوَاصِّ:
مَلَكَ الثَّلَاثُ الْآنِسَاتُ عِنَانِي وَحَلَلْنَ مِنْ قَلْبِي بِكُلِّ مَكَانِ
مَا لِي تُطَاوِعُنِي الْبَرِيَّةُ كُلُّهَا وَأُطِيعُهُنَّ، وَهُنَّ فِي
عِصْيَانِي
مَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ سُلْطَانَ الْهَوَى وَبِهِ قَوَيْنَ أَعَزُّ مِنْ
سُلْطَانِي
وَمِنْ شَعْرِهِ فِيمَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْعِقْدِ فِي كِتَابِهِ:
تُبْدِي صُدُودًا وَتُخْفِي تَحْتَهُ مِقَّةً فَالنَّفْسُ رَاضِيَةٌ وَالطَّرْفُ
غَضْبَانُ
يَا مَنْ بَذَلْتُ لَهُ خَدِّي فَزَلَّلَهُ وَلَيْسَ فَوْقِي سِوَى الرَّحْمَنِ
سُلْطَانُ
وَذَكَرَ أَبُو هِفَّانَ أَنَّهُ كَانَ فِي دَارِ الرَّشِيدِ مِنَ الْجَوَارِي،
وَالْحَظَايَا، وَخَدَمِهِنَّ، وَخَدَمِ زَوْجَتِهِ، وَأَخَوَاتِهِ أَرْبَعَةُ
آلَافِ جَارِيَةٍ، وَأَنَّهُنَّ حَضَرْنَ كُلُّهُنَّ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَغَنَّتْهُ الْمُطْرِبَاتُ فَطَرِبَ جِدًّا، وَأَمَرَ بِمَالٍ فَنُثِرَ
عَلَيْهِنَّ، فَكَانَ
مَبْلَغُهُ
سِتَّةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَرَوَى أَنَّهُ اشْتَرَى جَارِيَةً مِنَ الْمَدِينَةِ فَأُعْجِبَ بِهَا جِدًّا،
فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ مَوَالِيهَا، وَمَنْ يَلُوذُ بِهِمْ لِيَقْضِيَ
حَوَائِجَهُمْ، فَقَدِمُوا فِي ثَمَانِينَ نَفْسًا، فَأَمَرَ الْحَاجِبَ الْفَضْلَ
بْنَ الرَّبِيعِ أَنْ يَتَلَقَّاهُمْ، وَيَكْتُبَ حَوَائِجَهُمْ، فَكَانَ فِيهِمْ
رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ قَدْ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَهْوَى تِلْكَ
الْجَارِيَةَ، فَقَالَ لَهُ الْحَاجِبُ: مَا حَاجَتُكَ ؟ قَالَ: حَاجَتِي أَنْ
يُجْلِسَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ فُلَانَةٍ فَأَشْرَبَ ثَلَاثَةَ
أَرْطَالٍ مِنْ شَرَابٍ، فَتُغَنِّينِي ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ. فَقَالَ: أَمَجْنُونٌ
أَنْتَ ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِ اعْرِضْ ذَلِكَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، ذَكَرَ لَهُ مَا قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ،
فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، وَأَنْ تَجْلِسَ مَعَهُ الْجَارِيَةُ بِحَيْثُ يَنْظُرُ
إِلَيْهِمَا، فَجَلَسَتْ عَلَى كُرْسِيٍّ، وَالْخُدَّامُ بَيْنَ يَدَيْهَا
وَجَلَسَ الرَّجُلُ عَلَى كُرْسِيٍّ، فَشَرِبَ رِطْلًا، وَقَالَ لَهَا: غَنِّينِي:
خَلِيلَيَّ عُوجَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هِنْدُ
بِأَرْضِكُمَا قَصْدَا
وَقُولَا لَهَا لَيْسَ الضَّلَالُ أَجَازَنَا وَلَكِنَّنَا جُزْنَا لِنَلْقَاكُمْ
عَمْدَا
غَدًا يَكْثُرُ الْبَاكُونَ مِنَّا، وَمِنْكُمُ وَتَزْدَادُ دَارِي مِنْ
دِيَارِكُمْ بُعْدَا
فَغَنَّتْهُ ثُمَّ اسْتَعْجَلَهُ الْخَادِمُ فَشَرِبَ رِطْلًا آخَرَ، وَقَالَ:
غَنِّينِي، جُعِلْتُ فِدَاكِ:
تَكَلَّمُ
مِنَّا فِي الْوُجُوهِ عُيُونُنَا فَنَحْنُ سُكُوتٌ، وَالْهَوَى يَتَكَلَّمُ
وَنَغْضَبُ أَحْيَانًا وَنَرْضَى بِطَرْفِنَا وَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَنَا لَيْسَ
يُعْلَمُ
فَغَنَّتْهُ، ثُمَّ شَرِبَ رِطْلًا ثَالِثًا، وَقَالَ: غَنِّينِي جَعَلَنِي
اللَّهُ فِدَاكِ:
أَحْسَنُ مَا كُنَّا تَفَرُّقُنَا وَخَانَنَا الدَّهْرُ، وَمَا خُنَّا
فَلَيْتَ ذَا الدَّهْرَ لَنَا مَرَّةً عَادَ لَنَا يَوْمًا كَمَا كُنَّا
قَالَ: ثُمَّ قَامَ الشَّابُّ إِلَى دَرَجَةٍ هُنَاكَ فَعَلَاهَا، ثُمَّ أَلْقَى
نَفْسَهُ مِنْ أَعْلَاهَا عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَمَاتَ. فَقَالَ الرَّشِيدُ:
عَجِلَ الْفَتَى، وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَعْجَلْ لَوَهَبْتُهَا لَهُ.
وَفَضَائِلُهُ، وَمَكَارِمُهُ، وَمَآثِرُهُ، وَأَشْعَارُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، قَدْ
أَوْرَدَ الْأَئِمَّةُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ
ذَلِكَ أُنْمُوذَجًا صَالِحًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدْ كَانَ الْفُضَيْلُ
بْنُ عِيَاضٍ يَقُولُ: لَيْسَ أَحَدٌ أَعَزَّ عَلَيْنَا مِنْ مَوْتِ هَارُونَ
الرَّشِيدِ وَإِنِّي لَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَزِيدَ فِي عُمُرِهِ مِنْ عُمُرِي.
قَالُوا: فَلَمَّا مَاتَ الرَّشِيدُ، وَظَهَرَتْ تِلْكَ الْفِتَنُ
وَالِاخْتِلَافَاتُ، وَالْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، عَرَفْنَا مَا كَانَ
يَحْمِلُ الْفُضَيْلَ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا رَآهُ فِي مَنَامِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ تُرْبَةٌ
حَمْرَاءُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: هَذِهِ تُرْبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَتْ
بِطُوسَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الرَّشِيدَ رَأَى فِي مَنَامِهِ
قَائِلًا يَقُولُ:
كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ أَهْلُهُ..........
الشِّعْرَ
إِلَى آخِرِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ رَآهُ أَخُوهُ مُوسَى الْهَادِي، وَأَبُوهُ
مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ أَمَرَ بِحَفْرِ قَبْرِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَأَمَرَ
بِقِرَاءَةِ خَتْمَةٍ فِيهِ، وَأَنَّهُ حُمِلَ حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِ فَجَعَلَ
يَقُولُ: إِلَى هَاهُنَا تَصِيرُ يَابْنَ آدَمَ! وَيَبْكِي، وَأَمَرَ أَنْ
يُوَسَّعَ عِنْدَ صَدْرِهِ، وَأَنْ يُمَدَّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَ
يَقُولُ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [ الْحَاقَّةِ:
28، 29 ] وَيَبْكِي.
وَيُقَالُ: إِنَّ آخَرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ حِينَ احْتُضِرَ: اللَّهُمَّ
انْفَعْنَا بِالْإِحْسَانِ، وَاغْفِرْ لَنَا الْإِسَاءَةَ، يَا مَنْ لَا يَمُوتُ،
ارْحَمْ مَنْ يَمُوتُ.
وَكَانَ مَرَضُهُ بِالدَّمِ، وَقِيلَ: بِالسُّلِّ. وَكَانَ جِبْرِيلُ بْنُ
بَخْتَيْشُوعَ يَكْتُمُهُ مَا بِهِ مِنَ الْعِلَّةِ، فَأَمَرَ الرَّشِيدُ رَجُلًا
أَنْ يَأْخُذَ مَاءَهُ فِي قَارُورَةٍ، وَيَذْهَبَ بِهِ إِلَى جِبْرِيلَ
فَيُرِيَهُ إِيَّاهُ، عَلَى أَنَّهُ لِمَرِيضٍ عِنْدَهُ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ لِرَجُلٍ
عِنْدَهُ: هَذَا مِثْلُ مَاءِ ذَلِكَ الرَّجُلِ. فَفَهِمَ صَاحِبُ الْقَارُورَةِ
مَنْ عَنَى بِهِ، فَقَالَ لَهُ: بِاللَّهِ عَلَيْكَ أَخْبِرْنِي عَنْ حَالِ
صَاحِبِ هَذَا الْمَاءِ؛ فَإِنَّ لِي عَلَيْهِ مَالًا، فَإِنْ كَانَ بِهِ رَجَاءٌ،
وَإِلَّا أَخَذْتُهُ مِنْهُ. فَقَالَ: اذْهَبْ فَتَخَلَّصْ مِنْهُ؛ فَإِنَّهُ لَا
يَعِيشُ إِلَّا أَيَّامًا. فَلَمَّا جَاءَ، وَأَخْبَرَ الرَّشِيدَ، بَعَثَ إِلَى
جِبْرِيلَ فَتَغَيَّبَ حَتَّى مَاتَ الرَّشِيدُ. وَقَدْ قَالَ الرَّشِيدُ فِي
هَذِهِ الْحَالِ:
إِنِّي بِطُوسَ مُقِيمٌ مَا لِي بِطُوسَ حَمِيمُ أَرْجُو إِلَهِي
لِمَا بِي فَإِنَّهُ بِي رَحِيمُ
لَقَدْ
أَتَانِي بِطُوسَ
قَضَاؤُهُ الْمَحْتُومُ وَلَيْسَ إِلَّا رِضَائِي
وَالصَّبْرُ وَالتَّسْلِيمُ
مَاتَ بِطُوسَ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى
الْأُولَى. وَقِيلَ: فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسٌ،
وَقِيلَ: سِتٌّ، وَقِيلَ: سَبْعٌ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً.
وَمُدَّةُ وِلَايَتِهِ لِلْخِلَافَةِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَشَهْرٌ،
وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقِيلَ: وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَصَلَّى عَلَيْهِ
ابْنُهُ صَالِحٌ، وَدُفِنَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى طُوسَ يُقَالُ لَهَا سَنَابَاذُ
رَحِمَهُ اللَّهُ، وَسَامَحَهُ، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرَأْتُ عَلَى خِيَامِ الرَّشِيدِ بِسَنَابَاذَ، وَالنَّاسُ
مُنْصَرِفُونَ مِنْ طُوسَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ:
مَنَازِلُ الْعَسْكَرِ مَعْمُورَةٌ وَالْمَنْزِلُ الْأَعْظَمُ مَهْجُورُ
خَلِيفَةُ اللَّهِ بِدَارِ الْبِلَى تَسْفِي عَلَى أَجْدَاثِهِ الْمُورُ
أَقْبَلَتِ الْعِيرُ تُبَاهِي بِهِ وَانْصَرَفَتْ تَنْدُبُهُ الْعِيرُ
وَقَدْ رَثَاهُ أَبُو الشِّيصِ فَقَالَ:
غَرَبَتْ
فِي الشَّرْقِ شَمْسٌ فَلَهَا الْعَيْنَانِ تَدْمَعْ
مَا رَأَيْنَا قَطُّ شَمْسًا غَرَبَتْ مِنْ حَيْثُ تَطْلُعْ
وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ بِقَصَائِدَ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي " " الْمُنْتَظَمِ " ": وَقَدْ خَلَّفَ
الرَّشِيدُ مِنَ الْمِيرَاثِ مَا لَمْ يُخَلِّفْهُ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ، مِنَ
الْجَوَاهِرِ، وَالْأَثَاثِ، وَالْأَمْتِعَةِ سِوَى الضِّيَاعِ، وَالدُّورِ مَا
قِيمَتُهُ مِائَةُ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَخَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفِ
دِينَارٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَكَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَصَالِحِ النَّاسِ
تِسْعُمِائَةِ أَلْفِ أَلْفٍ، وَنَيِّفٍ.
ذِكْرُ زَوْجَاتِهِ، وَبَنِيهِ، وَبَنَاتِهِ
تَزَوَّجَ أُمَّ جَعْفَرٍ زُبَيْدَةَ بِنْتَ عَمِّهِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورِ، فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ
الْمَهْدِيِّ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ، وَمَاتَتْ فِي سَنَةِ سِتَّ
عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي. وَتَزَوَّجَ أَمَةَ الْعَزِيزِ أُمَّ
وَلَدٍ كَانَتْ لِأَخِيهِ مُوسَى الْهَادِي فَوَلَدَتْ لَهُ عَلِيَّ بْنَ
الرَّشِيدِ. وَتَزَوَّجَ أُمَّ مُحَمَّدٍ بِنْتَ صَالِحٍ الْمِسْكِينِ،
وَالْعَبَّاسَةَ بِنْتَ عَمِّهِ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ، فَزُفَّتَا
إِلَيْهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ سَنَةَ سَبْعٍ
وَثَمَانِينَ
وَمِائَةٍ بِالرَّقَّةِ. وَتَزَوَّجَ عَزِيزَةَ بِنْتَ الْغِطْرِيفِ، وَهِيَ
بِنْتُ خَالِهِ أَخِي أُمِّهِ الْخَيْزُرَانِ وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
الْعُثْمَانِيَّةَ، وَيُقَالُ لَهَا: الْجُرَشِيَّةُ. لِأَنَّهَا وُلِدَتْ
بِجُرَشَ بِالْيَمَنِ. وَتُوُفِّيَ الرَّشِيدُ عَنْ أَرْبَعِ حَرَائِرَ:
زُبَيْدَةَ، وَعَبَّاسَةَ، وَابْنَةِ صَالِحٍ، وَالْعُثْمَانِيَّةِ هَذِهِ.
وَأَمَّا الْحَظَايَا مِنَ الْجَوَارِي فَكَثِيرٌ جِدًّا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ فِي دَارِهِ أَرْبَعَةُ آلَافِ جَارِيَةٍ.
وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الذُّكُورُ فَمُحَمَّدٌ الْأَمِينُ بْنُ زُبَيْدَةَ،
وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَأْمُونُ مِنْ جَارِيَةٍ اسْمُهَا مَرَاجِلُ، وَمُحَمَّدٌ
أَبُو إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا: مَارِدَةُ،
وَالْقَاسِمُ الْمُؤْتَمَنُ مِنْ جَارِيَةٍ يُقَالُ لَهَا: قَصْفُ. وَعَلِيٌّ
أُمُّهُ أَمَةُ الْعَزِيزِ، وَصَالِحٌ مِنْ جَارِيَةٍ اسْمُهَا رَثْمُ،
وَمُحَمَّدٌ أَبُو يَعْقُوبَ، وَمُحَمَّدٌ أَبُو عِيسَى، وَمُحَمَّدٌ أَبُو
الْعَبَّاسِ، وَمُحَمَّدٌ أَبُو عَلِيٍّ، كُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ أُمَّهَاتِ
أَوْلَادٍ.
وَمِنَ الْإِنَاثِ سَكِينَةُ مِنْ قَصْفَ، وَأُمُّ حَبِيبٍ مِنْ مَارِدَةَ،
وَأَرْوَى، وَأُمُّ الْحَسَنِ، وَأُمُّ مُحَمَّدٍ حَمْدُونَةَ، وَفَاطِمَةُ،
وَأُمُّهَا غُصَصُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَخَدِيجَةُ، وَأُمُّ الْقَاسِمِ،
وَرَمْلَةُ، وَأُمُّ عَلِيٍّ، وَأُمُّ الْغَالِيَةِ، وَرَيْطَةُ، كُلُّهُنَّ مِنْ
أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ.
خِلَافَةُ
مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ بْنِ
أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ
لَمَّا تُوُفِّيَ الرَّشِيدُ بِطُوسَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ كَتَبَ صَالِحُ بْنُ
الرَّشِيدِ إِلَى أَخِيهِ، وَلِيِّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ
الرَّشِيدِ الْمُلَقَّبِ بِالْأَمِينِ، وَهُوَ ابْنُ زُبَيْدَةَ، يُعْلِمُهُ
بِبَغْدَادَ بِوَفَاةِ أَبِيهِ، وَيُعَزِّيهِ فِيهِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ
صُحْبَةَ رَجَاءٍ الْخَادِمِ، وَمَعَهُ الْخَاتَمُ، وَالْقَضِيبُ وَالْبُرْدَةُ
يَوْمَ الْخَمِيسِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ فَرَكِبَ
الْأَمِينُ مِنْ قَصْرِهِ بِالْخُلْدِ إِلَى قَصْرِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ
الَّذِي يُقَالُ لَهُ قَصْرُ الذَّهَبِ عَلَى شَطِّ بَغْدَادَ وَكَانَ ذَلِكَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ النِّصْفَ مِنْ جُمَادَى، فَصَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ صَعِدَ
الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَهُمْ، وَعَزَّاهُمْ فِي الرَّشِيدِ، وَبَسَطَ آمَالَ
النَّاسِ، وَوَعَدَهُمُ الْخَيْرَ، فَبَايَعَهُ الْخَوَاصُّ مِنْ قَوْمِهِ،
وَوُجُوهُ الْأُمَرَاءِ، وَأَمَرَ بِصَرْفِ أُعْطِيَاتِ الْجُنْدِ عَنْ
سَنَتَيْنِ، نَزَلَ وَأَمَرَ عَمَّهُ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ أَنْ
يَأْخُذَ الْبَيْعَةَ لَهُ مِنْ بَقِيَّةِ النَّاسِ، فَلَمَّا انْتَظَمَ أَمْرُ
الْأَمِينِ بِبَغْدَادَ، وَاسْتَقَامَ حَالُهُ فِيهَا حَسَدَهُ أَخُوهُ
الْمَأْمُونُ وَوَقَعَ
الْخُلْفُ
بَيْنَهُمَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
اخْتِلَافُ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ
وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الرَّشِيدَ لَمَّا كَانَ قَدْ وَصَلَ إِلَى
أَوَّلِ بِلَادِ خُرَاسَانَ وَهَبَ جَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْحَوَاصِلِ،
وَالدَّوَابِّ، وَالسِّلَاحِ لِوَلَدِهِ الْمَأْمُونِ وَجَدَّدَ لَهُ الْبَيْعَةَ،
وَكَانَ الْأَمِينُ قَدْ بَعَثَ بَكْرَ بْنَ الْمُعْتَمِرِ بِكُتُبٍ فِي خِفْيَةٍ
لِيُوَصِّلَهَا إِلَى الْأُمَرَاءِ إِذَا مَاتَ الرَّشِيدُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ
الرَّشِيدُ نَفَذَتِ الْكُتُبُ إِلَى الْأُمَرَاءِ، وَإِلَى صَالِحِ بْنِ
الرَّشِيدِ، وَفِيهَا كِتَابٌ إِلَى الْمَأْمُونِ يَأْمُرُهُ بِالسَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ، فَأَخَذَ صَالِحٌ الْبَيْعَةَ مِنَ النَّاسِ لِلْأَمِينِ،
وَارْتَحَلَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَاجِبُ بِالْجَيْشِ إِلَى بَغْدَادَ
وَقَدْ بَقِيَ فِي نُفُوسِهِمْ تَحَرُّجٌ مِنَ الْبَيْعَةِ الَّتِي أُخِذَتْ
مِنْهُمْ لِلْمَأْمُونِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمُ الْمَأْمُونُ يَدْعُوهُمْ إِلَى
بَيْعَتِهِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَوَقَعَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ،
وَلَكِنْ تَحَوَّلَ عَامَّةُ الْجَيْشِ إِلَى الْأَمِينِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ كَتَبَ
الْمَأْمُونُ إِلَى أَخِيهِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَبَعَثَ
إِلَيْهِ مِنْ هَدَايَا خُرَاسَانَ وَتُحَفِهَا، مِنَ الدَّوَابِّ، وَالْمِسْكِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ نَائِبٌ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَمَرَ الْأَمِينُ فِي
صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ بَعْدَ أَخْذِ الْبَيْعَةِ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
بِبِنَاءِ مَيْدَانَيْنِ لِلصَّوَالِجَةِ،
فَقَالَ
فِي ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
بَنَى أَمِينُ اللَّهِ مَيْدَانًا وَصَيَّرَ السَّاحَةَ بُسْتَانًا وَكَانَتِ
الْغِزْلَانُ فِيهِ بَانَا
يُهْدَى إِلَيْهِ فِيهِ غِزْلَانَا
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا قَدِمَتْ زُبَيْدَةُ مِنَ
الرَّقَّةِ بِالْخَزَائِنِ، وَمَا كَانَ عِنْدَهَا مِنَ التُّحَفِ وَالثِّيَابِ،
فَتَلَقَّاهَا ابْنُهَا الْأَمِينُ إِلَى الْأَنْبَارِ وَمَعَهُ وُجُوهُ النَّاسِ.
وَأَقَرَّ الْأَمِينُ أَخَاهُ الْمَأْمُونَ عَلَى مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ
خُرَاسَانَ وَالرَّيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَقَرَّ أَخَاهُ الْقَاسِمَ عَلَى
الْجَزِيرَةِ وَالثُّغُورِ، وَأَقَرَّ عُمَّالَ أَبِيهِ عَلَى الْبِلَادِ إِلَّا
الْقَلِيلَ مِنْهُمْ.
وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نِقْفُورُ مَلِكُ الرُّومِ، قَتَلَهُ الْبُرْجَانُ،
وَكَانَ مُلْكُهُ سَبْعَ سِنِينَ، وَأَقَامَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ إِسْتِبْرَاقُ
شَهْرَيْنِ فَمَاتَ، فَمَلَكَهُمْ مِيخَائِيلُ زَوْجُ أُخْتِ نِقْفُورَ لَعَنَهُمُ
اللَّهُ.
وَفِيهَا تَوَاقَعَ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ نَائِبُ خُرَاسَانَ وَرَافِعُ بْنُ
اللَّيْثِ فَاسْتَجَاشَ رَافِعٌ بِالتُّرْكِ، ثُمَّ هَرَبُوا وَبَقِيَ رَافِعٌ
وَحْدَهُ فَضَعُفَ أَمْرُهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نَائِبُ الْحِجَازِ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى
بْنِ مُوسَى
بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ
وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ الرُّفَعَاءِ رَوَى عَنْهُ
الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَدْ وَلِيَ الْمَظَالِمَ بِبَغْدَادَ،
وَكَانَ نَاظِرَ الصَّدَقَاتِ بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ ثِقَةً نَبِيلًا جَلِيلًا
كَبِيرَ الْقَدْرِ، قَلِيلَ التَّبَسُّمِ، وَكَانَ يَتَّجِرُ فِي الْبَزِّ
فَيُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَيَحُجُّ مِنْهُ، وَيَبَرُّ أَصْحَابَهُ مِنَ
الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ السُّفْيَانَانِ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ وَلَّاهُ
الرَّشِيدُ الْقَضَاءَ، فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ
وَلِيَ الْقَضَاءَ بَعَثَ إِلَيْهِ يَعْتِبُ عَلَيْهِ وَيَلُومُهُ نَظْمًا
وَنَثْرًا، فَاسْتَعْفَى ابْنُ عُلَيَّةَ الرَّشِيدَ مِنَ الْقَضَاءِ فَأَعْفَاهُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي
مَقَابِرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ
الْمُلَقَّبُ بِغُنْدَرٍ، رَوَى عَنْ شُعْبَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ،
وَقَدْ حَدَّثَ عَنْ خَلْقٍ. وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمْ
أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ.
وَكَانَ ثِقَةً جَلِيلًا حَافِظًا مُتْقِنًا فِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ
حِكَايَاتٌ تَدُلُّ عَلَى تَغْفِيلِهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي
بَعْدَهَا.
وَقَدْ لُقِّبَ بِهَذَا اللَّقَبِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ مِنَ
الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
هَارُونُ الرَّشِيدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ قَرِيبًا.
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ
أَحَدُ الْأَئِمَّةِ، سَمِعَ أَبَا إِسْحَاقَ السَّبِيعِيَّ، وَالْأَعْمَشَ،
وَهِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ وَجَمَاعَةً.
وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ الثِّقَاتِ، مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. قَالَ
فِيهِ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ كَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا لَمْ يَضَعْ جَنْبَهُ إِلَى
الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَالُوا: وَمَكَثَ سِتِّينَ سَنَةً يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَتْمَةً
كَامِلَةً، وَصَامَ
ثَمَانِينَ رَمَضَانًا، وَتُوُفِّيَ وَلَهُ سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَلَمَّا احْتُضِرَ بَكَى عَلَيْهِ ابْنُهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ عَلَامَ تَبْكِي ؟ وَاللَّهِ مَا أَتَى أَبُوكَ فَاحِشَةً قَطُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَلَعَ أَهْلُ حِمْصَ نَائِبَهُمْ، فَعَزَلَهُ عَنْهُمُ الْأَمِينُ،
وَوَلَّى عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ الْحَرَشِيَّ فَقَتَلَ طَائِفَةً
مِنْ وُجُوهِهَا، وَحَرَّقَ نَوَاحِيَهَا بِالنَّارِ، فَسَأَلُوهُ الْأَمَانَ
فَأَمَّنَهُمْ، ثُمَّ هَاجُوا، فَضَرَبَ أَعْنَاقَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَيْضًا.
وَفِيهَا عَزَلَ الْأَمِينُ أَخَاهُ الْقَاسِمَ عَنِ الْجَزِيرَةِ وَالثُّغُورِ،
وَوَلَّى عَلَى ذَلِكَ خُزَيْمَةَ بْنَ خَازِمٍ وَأَمَرَ أَخَاهُ بِالْمُقَامِ
عِنْدَهُ بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْأَمِينُ بِالدُّعَاءِ لِوَلَدِهِ مُوسَى عَلَى الْمَنَابِرِ
فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ، وَبِالْإِمْرَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَسَمَّاهُ النَّاطِقَ
بِالْحَقِّ، ثُمَّ يُدْعَى بَعْدَهُ لِلْمَأْمُونِ، ثُمَّ لِلْقَاسِمِ، وَمِنْ
نِيَّةِ الْأَمِينِ الْوَفَاءُ لِأَخَوَيْهِ بِمَا شَرَطَ لَهُمَا، فَلَمْ يَزَلْ
بِهِ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ حَتَّى غَيَّرَ نِيَّتَهُ فِي أَخَوَيْهِ،
وَحَسَّنَ لَهُ خَلْعَ الْمَأْمُونِ وَالْقَاسِمِ، وَصَغَّرَ عِنْدَهُ شَأْنَ
الْمَأْمُونِ وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ خَوْفُهُ مِنَ الْمَأْمُونِ إِنْ
أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَيَسْعَى فِي خَلْعِهِ،
وَزَوَالِ الْوِلَايَةِ عَنْهُ، فَوَافَقَهُ الْأَمِينُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَ
بِالدُّعَاءِ لِوَلَدِهِ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ بِوِلَايَةِ عَهْدِهِ، وَذَلِكَ فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَأْمُونَ قَطَعَ الْبَرِيدَ عَنْهُ، وَتَرَكَ ضَرْبَ
اسْمِهِ عَلَى السِّكَّةِ
وَالطُّرُزِ، وَتَنَكَّرَ لِأَخِيهِ الْأَمِينِ، وَبَعَثَ رَافِعُ بْنُ اللَّيْثِ إِلَى الْمَأْمُونِ يَسْأَلُ مِنْهُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ بِمَنْ مَعَهُ، فَأَكْرَمَهُ الْمَأْمُونُ وَعَظَّمَهُ، وَجَاءَ هَرْثَمَةُ عَلَى إِثْرِهِ فَتَلَقَّاهُ الْمَأْمُونُ وَوُجُوهُ النَّاسِ، وَوَلَّاهُ الْحَرَسَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْأَمِينَ أَنَّ الْجُنُودَ قَدِ الْتَفَّتَ عَلَى أَخِيهِ الْمَأْمُونِ سَاءَهُ ذَلِكَ وَأَنْكَرَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْمَأْمُونِ كِتَابًا وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلًا ثَلَاثَةً مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، يَسْأَلُهُ أَنْ يُجِيبَهُ إِلَى تَقْدِيمِ وَلَدِهِ مُوسَى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَدْ سَمَّاهُ النَّاطِقَ بِالْحَقِّ، فَأَظْهَرَ الْمَأْمُونُ الِامْتِنَاعَ وَشَرَعُوا فِي مُطَايَبَتِهِ، وَمُلَايَنَتِهِ، وَأَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَأَبَى كُلَّ الْإِبَاءِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى: فَقَدْ خَلَعَ أَبِي نَفْسَهُ فَمَاذَا كَانَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَبَاكَ كَانَ امْرَأً مُكْرَهًا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْمَأْمُونُ يَعِدُ الْعَبَّاسَ وَيُمَنِّيهِ حَتَّى بَايَعَهُ بِالْخِلَافَةِ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ كَانَ يُرَاسِلُهُ بِمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ بِبَغْدَادَ وَيُنَاصِحُهُ، وَلَمَّا رَجَعَ الرُّسُلُ إِلَى الْأَمِينِ أَخْبَرُوهُ بِمَا كَانَ مِنْ جَوَابِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ صَمَّمَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ عَلَى الْأَمِينِ فِي خَلْعِ الْمَأْمُونِ فَخَلَعَهُ، وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ لِوَلَدِهِ فِي الْعِرَاقِ كُلِّهِ وَبِلَادِ الْحِجَازِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَسَمَّاهُ النَّاطِقَ بِالْحَقِّ، وَجَعَلُوا مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَأْمُونِ وَيَذْكُرُ مَسَاوِئَهُ، وَبَعَثُوا إِلَى مَكَّةَ فَأَخَذُوا الْكِتَابَ الَّذِي كَتَبَهُ الرَّشِيدُ، وَأَوْدَعَهُ فِي الْكَعْبَةِ، فَمَزَّقَهُ الْأَمِينُ، وَأَكَّدُوا الْبَيْعَةَ لِلنَّاطِقِ بِالْحَقِّ مُوسَى بْنِ الْأَمِينِ عَلَى مَا يَلِيهِ أَبُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَجَرَتْ بَيْنَ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ مُكَاتَبَاتٌ وَرُسُلٌ يَطُولُ بَسْطُهَا، وَقَدِ اسْتَقْصَاهَا الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي " " تَارِيخِهِ " " ثُمَّ آلَ
الْحَالُ
إِلَى أَنِ احْتَفَظَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى بِلَادِهِ وَحَصَّنَهَا وَهَيَّأَ
الْجُيُوشَ وَالْجُنُودَ وَتَأَلَّفَ الرَّعَايَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَدَتِ الرُّومُ عَلَى مَلِكِهِمْ مِيخَائِيلَ فَرَامُوا
خَلْعَهُ وَقَتْلَهُ فَتَرَكَ الْمُلْكَ وَتَرَهَّبَ، وَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ
لِيُونَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا نَائِبُ الْحِجَازِ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى، وَقِيلَ:
عَلِيُّ بْنُ الرَّشِيدِ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَلْمُ بْنُ سَالِمٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَلْخِيُّ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ
بِهَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ وَالثَّوْرِيِّ. وَعَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ
عَرَفَةَ. وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا، مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ نَرَ لَهُ
فِرَاشًا، وَصَامَهَا كُلَّهَا إِلَّا يَوْمَ عِيدِ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، وَلَمْ
يَرْفَعْ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَانَ دَاعِيَةً إِلَى الْإِرْجَاءِ، ضَعِيفَ
الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ رَأْسًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ بَغْدَادَ فَشَنَّعَ عَلَى
الرَّشِيدِ، فَحَبَسَهُ وَقَيَّدَهُ بِاثْنَيْ عَشَرَ قَيْدًا، فَلَمْ يَزَلْ
أَبُو مُعَاوِيَةَ يَشْفَعُ فِيهِ حَتَّى تَرَكُوهُ فِي أَرْبَعَةِ قُيُودٍ، ثُمَّ
كَانَ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى أَهْلِهِ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ
الرَّشِيدُ أَطْلَقَتْهُ زُبَيْدَةُ
فَرَجَعَ
إِلَى أَهْلِهِ وَكَانُوا بِمَكَّةَ قَدْ جَاءُوا حُجَّاجًا فَمَرِضَ بِمَكَّةَ.
وَاشْتَهَى يَوْمًا بَرَدًا، فَسَقَطَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَرَدٌ، فَأَكَلَ
مِنْهُ. وَمَاتَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، كَانَتْ غَلَّتُهُ فِي
السَّنَةِ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا يُنْفِقُهَا كُلَّهَا عَلَى أَهْلِ
الْحَدِيثِ. تُوُفِّيَ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
أَبُو النَّصْرِ الْجُهَنِيُّ الْمُصَابُ، كَانَ مُقِيمًا بِالْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ بِالصُّفَّةِ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي الْحَائِطِ الشَّمَالِيِّ
مِنْهُ، وَكَانَ يُطِيلُ السُّكُوتَ، فَإِذَا سُئِلَ أَجَابَ بِجَوَابٍ حَسَنٍ،
وَيَتَكَلَّمُ بِكَلِمَاتٍ مُفِيدَةٍ تُؤْثَرُ عَنْهُ، وَتُكْتَبُ، وَكَانَ
يَخْرُجُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَيَقِفُ عَلَى مَجَامِعِ النَّاسِ
فَيَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا
يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا
[ لُقْمَانَ: 33 ] وَ يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا
يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [ الْبَقَرَةِ: 48 ]
ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْ جَمَاعَةٍ إِلَى جَمَاعَةٍ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ
فَيُصَلِّيَ فِيهِ الْجُمُعَةَ، ثُمَّ لَا يَخْرُجُ حَتَّى يُصَلِّيَ