ج25. البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر
بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
الْعِشَاءَ
الْآخِرَةَ.
وَقَدْ وَعَظَ مَرَّةً هَارُونَ الرَّشِيدَ بِكَلَامٍ حَسَنٍ فَقَالَ: اعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ سَائِلُكَ عَنْ أُمَّةِ نَبِيِّهِ، فَأَعِدَّ لِذَلِكَ جَوَابًا،
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَوْ مَاتَتْ سَخْلَةٌ بِالْعِرَاقِ
ضَيَاعًا لَخَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا. فَقَالَ:
إِنِّي لَسْتُ كَعُمَرَ، وَإِنَّ دَهْرِي لَيْسَ كَدَهْرِهِ. فَقَالَ: مَا هَذَا
بِمُغْنٍ عَنْكَ شَيْئًا. فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ:
أَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَمُرْ بِهَا فَلْتُقَسَّمْ عَلَيْهِمْ
وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فَفِي صَفَرٍ مِنْهَا أَمَرَ الْأَمِينُ أَنْ لَا يَتَعَامَلُوا بِالدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي عَلَيْهَا اسْمُ الْمَأْمُونِ وَنَهَى أَنْ يُدْعَى لَهُ
عَلَى الْمَنَابِرِ، وَأَنْ يُقْتَصَرَ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُ، ثُمَّ مِنْ
بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ النَّاطِقِ بِالْحَقِّ.
وَفِيهَا تَسَمَّى الْمَأْمُونُ بِإِمَامِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا عَقَدَ الْأَمِينُ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ
مَاهَانَ الْإِمَارَةَ عَلَى الْجَبَلِ، وَهَمَذَانَ، وَأَصْبَهَانَ، وَقُمَّ
وَتِلْكَ الْبِلَادِ، وَأَمَرَهُ بِحَرْبِ الْمَأْمُونِ وَجَهَّزَ مَعَهُ جَيْشًا
كَثِيرًا، وَأَنْفَقَ فِيهِمْ نَفَقَاتٍ عَظِيمَةً، وَأَعْطَاهُ مِائَتَيْ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَلِوَلَدِهِ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَلْفَيْ سَيْفٍ مُحَلًّى،
وَسِتَّةَ آلَافِ ثَوْبٍ لِلْخِلَعِ.
وَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ مِنْ بَغْدَادَ فِي أَرْبَعِينَ
أَلْفَ فَارِسٍ وَمَعَهُ قَيْدٌ مِنْ فِضَّةٍ؛ لِيَأْتِيَ بِالْمَأْمُونِ فِيهِ.
وَخَرَجَ الْأَمِينُ مَعَهُ مُشَيِّعًا، فَسَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الرَّيِّ
فَتَلَقَّاهُ الْأَمِيرُ طَاهِرٌ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ
أُمُورٌ آلَ الْحَالُ فِيهَا إِلَى أَنِ اقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ عَلِيُّ بْنُ
عِيسَى، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ وَجُثَّتُهُ إِلَى
الْأَمِيرِ
طَاهِرٍ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى وَزِيرِ الْمَأْمُونِ ذِي الرِّيَاسَتَيْنِ.
وَكَانَ الَّذِي قَتَلَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: طَاهِرٌ
الصَّغِيرُ فَسُمِّيَ ذَا الْيَمِينَيْنِ لِأَنَّهُ أَخَذَ السَّيْفَ بِيَدَيْهِ
الثِّنْتَيْنِ، فَذَبَحَ بِهِ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ فَفَرِحَ
بِذَلِكَ الْمَأْمُونُ وَذَوُوهُ.
وَانْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى الْأَمِينِ وَهُوَ يَصِيدُ السَّمَكَ مِنْ دِجْلَةَ،
فَقَالَ: وَيْحَكَ، دَعْنِي مِنْ هَذَا؛ فَإِنَّ كَوْثَرًا قَدْ صَادَ
سَمَكَتَيْنِ، وَلَمْ أَصِدْ بَعْدُ شَيْئًا. وَأَرْجَفَ النَّاسُ بِبَغْدَادَ،
وَخَافُوا غَائِلَةَ هَذَا الْأَمْرِ، وَنَدِمَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ عَلَى مَا
كَانَ مِنْهُ مِنْ نَكْثِ الْعَهْدِ، وَخَلْعِ أَخِيهِ الْمَأْمُونِ وَمَا وَقَعَ
مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ. وَكَانَ رُجُوعُ الْخَبَرِ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي
شَوَّالٍ مِنْهَا.
ثُمَّ جَهَّزَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جَبَلَةَ الْأَبْنَاوِيَّ فِي عِشْرِينَ
أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ إِلَى هَمَذَانَ لِيُقَاتِلُوا طَاهِرَ بْنَ
الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْخُرَاسَانِيَّةِ، فَلَمَّا
اقْتَرَبُوا مِنْهُمْ تَوَاجَهُوا، فَتَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَثُرَتِ
الْقَتْلَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ جَبَلَةَ فَلَجَئُوا إِلَى هَمَذَانَ فَحَاصَرَهُمْ بِهَا
طَاهِرٌ حَتَّى اضْطَرَّهُمْ إِلَى أَنْ دَعَوْا إِلَى الصُّلْحِ، فَصَالَحَهُمْ
وَأَمَّنَهُمْ وَوَفَّى لَهُمْ، وَانْصَرَفَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبَلَةَ
وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ رَاجِعِينَ، ثُمَّ غَدَرُوا بِأَصْحَابِ
طَاهِرٍ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَافِلُونَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا،
وَصَبَرَ لَهُمْ أُولَئِكَ، ثُمَّ نَهَضُوا إِلَيْهِمْ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ
فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا أَمِيرَهُمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ
بْنَ
جَبَلَةَ وَفَرَّ أَصْحَابُهُ خَائِبِينَ.
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى بَغْدَادَ وَاضْطَرَبَتِ الْأُمُورُ، وَكَثُرَتِ
الْأَرَاجِيفُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَطَرَدَ طَاهِرٌ عُمَّالَ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ عَنْ قَزْوِينَ وَتِلْكَ
النَّوَاحِي، وَقَوِيَ أَمْرُ الْمَأْمُونِ جِدًّا بِتِلْكَ الْبِلَادِ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ أَمْرُ السُّفْيَانِيِّ
بِالشَّامِ، وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَعَزَلَ نَائِبَهَا، وَدَعَا إِلَى
نَفْسِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْأَمِينُ جَيْشًا، فَلَمْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِ بَلْ
أَقَامُوا بِالرَّقَّةِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نَائِبُ الْحِجَازِ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَعْيَانِ مِنْهُمْ:
إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ رَوَى عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.
بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ
وَكَانَ نَائِبَ الْمَدِينَةِ لِلرَّشِيدِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَشْهُرًا،
وَقَدْ أَطْلَقَ الرَّشِيدُ عَلَى يَدَيْهِ لِأَهْلِهَا
أَلْفَ
أَلْفَ دِينَارٍ وَمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ شَرِيفًا جَوَادًا
مُعَظَّمًا مُمَدَّحًا.
وَأَبُو نُوَاسٍ الشَّاعِرُ
وَاسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئِ بْنِ عَبْدِ الْأَوَّلِ بْنِ صَبَاحِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ بْنِ وُهَيْبِ بْنِ ذَوَّةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ
سَلِيمِ بْنِ حَكَمِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْغَوْثِ بْنِ طَيِّئِ بْنِ أُدَدِ بْنِ شَبِيبِ بْنِ سَبِيعِ بْنِ الْحَارِثِ
بْنِ زَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَوْفِ بْنِ زَيْدِ بْنِ هَمَيْسَعِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ يَشْجُبَ بْنِ عَرِيبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانِ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ
بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالَخِ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ
سَامِ بْنِ نُوحٍ، كَذَا نَسَبَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَعْدٍ الْوَرَّاقُ
أَبُو عَلِيٍّ الْحَكَمِيُّ نِسْبَةً إِلَى وَلَاءِ الْجَرَّاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْحَكَمِيِّ.
وَيُقَالُ لَهُ: أَبُو نُوَاسٍ الْبَصْرِيُّ. كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ
مِنْ جُنْدِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ صَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ،
وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا جُلْبَانُ. فَوَلَدَتْ لَهُ أَبَا نُوَاسٍ
هَذَا، وَابْنًا آخَرَ يُقَالُ لَهُ: أَبُو مُعَاذٍ. ثُمَّ صَارَ أَبُو نُوَاسٍ
إِلَى الْبَصْرَةِ فَتَأَدَّبَ بِهَا عَلَى أَبِي زَيْدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ،
وَقَرَأَ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ وَلَزِمَ خَلَفًا الْأَحْمَرَ، وَصَحِبَ
يُونُسَ
بْنَ حَبِيبٍ الضَّبِّيَّ النَّحْوِيَّ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَقَدْ
صَحِبَ أَبَا أُسَامَةَ وَالِبَةَ بْنَ الْحُبَابِ الْكُوفِيَّ، فَتَأَدَّبَ بِهِ.
وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَزْهَرَ بْنِ سَعْدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ،
وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، وَمُعْتَمِرِ بْنِ
سُلَيْمَانَ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ، وَعَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
كَثِيرٍ الصَّيْرَفِيُّ، حَكَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ،
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالْجَاحِظُ، وَغُنْدَرٌ. وَمِنْ مَشَاهِيرِ حَدِيثِهِ
مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ الصَّيْرَفِيُّ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ
يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ ثَمَنُ
الْجَنَّةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: دَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ
فَقَالَ لَهُ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ: يَا أَبَا عَلِيٍّ، أَنْتَ
الْيَوْمَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ
أَيَّامِ
الْآخِرَةِ، وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ هَنَاتٌ، فَتُبْ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ
وَجَلَّ - مِنْ عَمَلِكَ. فَقَالَ: إِيَّاىَ تُخَوِّفُ بِاللَّهِ ؟ ! فَقَالَ:
أَسْنِدُونِي. فَأَسْنَدُوهُ. فَقَالَ: حَدَّثَنِي حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ
يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ شَفَاعَةً، وَإِنِّي
اخْتَبَأْتُ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ
ثُمَّ قَالَ: أَفَتُرَانِي لَا أَكُونُ مِنْهُمْ ؟
وَقَالَ أَبُو نُوَاسٍ: مَا قُلْتُ الشِّعْرَ حَتَّى رَوَيْتُ لِسِتِّينَ
امْرَأَةً؛ مِنْهُنَّ خَنْسَاءُ، وَلَيْلَى، فَمَا ظَنُّكَ بِالرِّجَالِ ؟ وَقَالَ
يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ: إِذَا رَوَيْتَ الشِّعْرَ عَنِ امْرِئِ الْقَيْسِ
وَالْأَعْشَى مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمِنَ الْإِسْلَامِيِّينَ لِجَرِيرٍ
وَالْفَرَزْدَقِ، وَمِنَ الْمُحْدَثِينَ عَنْ أَبِي نُوَاسٍ فَحَسْبُكَ. وَقَدْ
أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ؛ مِنْهُمُ الْأَصْمَعِيُّ، وَالْجَاحِظُ،
وَالنَّظَّامُ.
وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: لَوْلَا أَنَّ أَبَا نُوَاسٍ أَفْسَدَ
شِعْرَهُ بِهَذِهِ الْأَقْذَارِ لَاحْتَجَجْنَا بِهِ فِي كُتُبِنَا. يَعْنِي
شِعْرَهُ فِي الْخَمْرِيَّاتِ، وَالْأَحْدَاثِ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ طَائِفَةٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ عِنْدَ الْمَأْمُونِ فَقَالَ
لَهُمْ: أَيُّكُمُ الْقَائِلُ:
فَلَمَّا
تَحَسَّاهَا وَقَفْنَا كَأَنَّنَا نَرَى قَمَرًا فِي الْأَرْضِ يَبْلَعُ كَوْكَبًا
قَالُوا: أَبُو نُوَاسٍ قَالَ: فَأَيُّكُمُ الْقَائِلُ:
إِذَا نَزَلَتْ دُونَ اللَّهَاةِ مِنَ الْفَتَى دَعَا هَمُّهُ عَنْ صَدْرِهِ
بِرَحِيلِ
قَالُوا: أَبُو نُوَاسٍ قَالَ: فَأَيُّكُمُ الْقَائِلُ:
فَتَمَشَّتْ فِي مَفَاصِلِهِمْ كَتَمَشِّي الْبُرْءِ فِي السَّقَمِ
قَالُوا: أَبُو نُوَاسٍ قَالَ: فَهُوَ أَشْعَرُكُمْ
.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ لِابْنِ مُنَاذِرٍ: مَا أَشْعَرَ ظَرِيفُكُمْ
أَبَا نُوَاسٍ فِي قَوْلِهِ:
يَا قَمَرًا أَبْصَرْتُ فِي مَأْتَمٍ يَنْدُبُ شَجْوًا بَيْنَ أَتْرَابِ
أَبْرَزَهُ الْمَأْتَمُ لِي كَارِهًا بِرَغْمِ ذِي بَابٍ وَحُجَّابِ
يَبْكِي فَيُذْرِي الدُّرَّ مِنْ نَرْجِسٍ وَيَلْطِمُ الْوَرْدَ بِعُنَّابِ
لَا
زَالَ مَوْتًا دَأْبُ أَحْبَابِهِ وَلَا تَزَلْ رُؤْيَتُهُ دَابِي
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَشْعَرُ النَّاسِ أَبُو نُوَاسٍ فِي قَوْلِهِ:
تَغَطَّيْتُ مِنْ دَهْرِي بِظِلِّ جَنَاحِهِ فَعَيْنِي تَرَى دَهْرِي، وَلَيْسَ
يَرَانِي
فَلَوْ تَسْأَلُ الْأَيَّامُ مَا اسْمِي لَمَا دَرَتْ وَأَيْنَ مَكَانِي مَا
عَرَفْنَ مَكَانِي
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: قُلْتُ فِي الزُّهْدِ عِشْرِينَ أَلْفَ بَيْتٍ،
وَوَدِدْتُ أَنَّ لِي مَكَانَهَا الْأَبْيَاتَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي قَالَهَا
أَبُو نُوَاسٍ، وَهِيَ هَذِهِ وَكَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَى قَبْرِهِ:
يَا نُوَاسِيُّ تَوَقَّرْ وَتَعَزَّ وَتَصَبَّرْ
إِنْ يَكُنْ سَاءَكَ دَهْرٌ فَلَمَا سَرَّكَ أَكْثَرْ
يَا كَبِيرَ الذَّنْبِ عَفْوُ اللَّ هِ مِنْ ذَنْبِكَ أَكْبَرْ
وَمِنْ شَعْرِ أَبِي نُوَاسٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَمْدَحُ بَعْضَ
الْأُمَرَاءِ:
أَوْجَدَهُ اللَّهُ فَمَا مِثْلُهُ لِطَالِبِ ذَاكَ وَلَا نَاشِدِ
وَلَيْسَ
لِلَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدِ
وَأَنْشَدُوا لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَوْلَ أَبِي نُوَاسٍ:
مَا هَوًى إِلَّا لَهُ سَبَبُ يَبْتَدِي مِنْهُ وَيَنْشَعِبُ
فَتَنَتْ قَلْبِي مُحَجَّبَةٌ وَجْهُهُا بِالْحُسْنِ مُنْتَقِبُ
خَلِيَتْ وَالْحُسْنُ تَأْخُذُهُ تَنْتَقِي مِنْهُ وَتَنْتَخِبُ
فَاكْتَسَتْ مِنْهُ طَرَائِفُهُ وَاسْتَزَادَتْ بَعْضَ مَا تَهَبُ
فَهِيَ لَوْ صَيَّرْتَ فِيهِ لَهَا عَوْدَةً لَمْ يُثْنِهَا أَرَبُ
صَارَ جِدًّا مَا مَزَحْتَ بِهِ رُبَّ جِدٍّ جَرَّهُ اللَّعِبُ
فَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَهَا.
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَوْلَا أَنَّ الْعَامَّةَ بَذَلَتْ
هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ لَكَتَبْتُهُمَا بِمَاءِ الذَّهَبِ وَهُمَا لِأَبِي
نُوَاسٍ:
وَلَوْ أَنِّي اسْتَزَدْتُكَ فَوْقَ مَا بِي مِنَ الْبَلْوَى لَأَعْوَزَكَ
الْمَزِيدُ
وَلَوْ عُرِضَتْ عَلَى الْمَوْتَى حَيَاتِي بِعَيْشٍ مِثْلَ عَيْشِي لَمْ
يُرِيدُوا
وَقَدْ
سَمِعَ أَبُو نُوَاسٍ حَدِيثَ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:الْقُلُوبُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا
تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ فَنَظَمَ ذَلِكَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ يَقُولُ فِيهَا:
إِنَّ الْقُلُوبَ لَأَجْنَادٌ مُجَنَّدَةٌ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ بِالْأَهْوَاءِ
تَعْتَرِفُ
فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا فَهُوَ مُؤْتَلِفٌ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا فَهُوَ
مُخْتَلِفُ
وَدَخَلَ أَبُو نُوَاسٍ يَوْمًا مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى عَبْدِ
الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الْوَاحِدِ: لِيَخْتَرْ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَشَرَةَ أَحَادِيثَ أُحَدِّثُهُ بِهَا. فَاخْتَارَ كُلُّ
وَاحِدٍ عَشَرَةً، إِلَّا أَبَا نُوَاسٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ لَا تَخْتَارُ
كَمَا اخْتَارُوا ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
وَلَقَدْ كُنَّا رَوَيْنَا عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَهْ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّ بِ ثُمَّ سَعْدِ بْنِ عُبَادَهْ
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ وَالشَّعْ بِيُّ شَيْخٌ ذُو جَلَادَهْ
وَعَنِ الْأَخْيَارِ نَحْكِي هِ وَعَنْ أَهْلِ الْإِفَادَهْ
أَنَّ مَنْ مَاتَ مُحِبًّا فَلَهُ أَجْرُ شَهَادَهْ
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ: قُمْ يَا مَاجِنُ لَا حَدَّثْتُكَ وَلَا
حَدَّثْتُ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَجْلِكَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مَالِكَ بْنَ
أَنَسٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي يَحْيَى، فَقَالَا: كَانَ يَنْبَغِي
أَنْ
يُحَدِّثَهُ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَهُ.
قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي أَنْشَدَهُ أَبُو نُوَاسٍ فِي شِعْرِهِ قَدْ رَوَاهُ
ابْنُ عَدِيٍّ فِي " " كَامِلِهِ " " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
مَوْقُوفًا، وَمَرْفُوعًا مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ فَكَتَمَ فَمَاتَ مَاتَ شَهِيدًا
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مَنِ ابْتُلِيَ بِالْعِشْقِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ
فَصَبَرَ وَعَفَّ عَنِ الْفَاحِشَةِ وَلَمْ يُفْشِ ذَلِكَ فَمَاتَ بِسَبَبِ
ذَلِكَ، حَصَلَ لَهُ أَجْرٌ كَبِيرٌ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ نَوْعُ
شَهَادَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ أَيْضًا أَنَّ شُعْبَةَ لَقِيَ أَبَا نُوَاسٍ فَقَالَ لَهُ:
حَدِّثْنَا مِنْ طُرَفِكَ، فَقَالَ مُرْتَجِلًا:
حَدَّثَنَا الْخَفَّافُ عَنْ وَائِلٍ وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ جَابِرِ
وَمِسْعَرٌ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ يَرْفَعُهُ الشَّيْخُ إِلَى عَامِرِ
قَالُوا جَمِيعًا أَيُّمَا طِفْلَةٍ عُلِّقَهَا ذُو خُلُقٍ طَاهِرِ
فَوَاصَلَتْهُ ثُمَّ دَامَتْ لَهُ عَلَى وِصَالِ الْحَافِظِ الذَّاكِرِ
كَانَتْ لَهُ الْجَنَّةُ مَفْتُوحَةً يَرْتَعُ فِي مَرْتَعِهَا الزَّاهِرِ
وَأَيُّ مَعْشُوقٍ جَفَا عَاشِقًا بَعْدَ وِصَالٍ دَائِمٍ نَاضِرِ
فَفِي عَذَابِ اللَّهِ بُعْدًا لَهُ نَعَمْ وَسُحْقٍ دَائِمٍ دَاحِرِ
فَقَالَ لَهُ شُعْبَةُ: إِنَّكَ لَجَمِيلُ الْأَخْلَاقِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَكَ.
وَأَنْشَدَ
أَبُو نُوَاسٍ أَيْضًا:
يَا سَاحِرَ الْمُقْلَتَيْنِ وَالْجِيدِ وَقَاتِلِي مِنْكَ بِالْمَوَاعِيدِ
تُوعِدُنِي الْوَصْلَ ثُمْ تُخْلِفُنِي فَوَابَلَائِي مِنْ خُلْفِ مَوْعُودِي
حَدَّثَنِي الْأَزْرَقُ الْمُحَدِّثُ عَنْ شَمْرٍ وَعَوْفٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودِ
مَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ غَيْرُ كَافِرَةٍ وَكَافِرٍ فِي الْجَحِيمِ مَصْفُودِ
فَبَلَغَ ذَلِكَ إِسْحَاقَ بْنَ يُوسُفَ الْأَزْرَقَ فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ
اللَّهِ عَلَيَّ، وَعَلَى التَّابِعِينِ، وَعَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْ سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا نُوَاسٍ فِي مَجْلِسِ أَبِي
يَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا فَقُلْتُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يُعَذِّبَكَ
اللَّهُ بَعْدَ هَذَا الْبُكَاءِ أَبَدًا. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَمْ أَبْكِ فِي مَجْلِسِ مَنْصُورِ شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْحُورِ
وَلَا مِنَ الْقَبْرِ وَأَهْوَالِهِ وَلَا مِنَ النَّفْخَةِ فِي الصُّورِ
وَلَا مِنَ النَّارِ وَأَغْلَالِهَا وَلَا مِنَ الْخُذْلَانِ وَالْجُورِ
لَكِنْ بُكَائِي لِبُكَا شَادِنٍ تَقِيهِ نَفْسِي كُلَّ مَحْذُورِ
ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا بَكَيْتُ لِبُكَاءِ هَذَا الْأَمْرَدِ الَّذِي إِلَى
جَانِبِ أَبِيكَ، وَكَانَ صَبِيًّا حَسَنَ الصُّورَةِ، يَسْمَعُ الْوَعْظَ
فَيَبْكِي خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ
أَبُو نُوَاسٍ: دَعَانِي يَوْمًا بَعْضُ الْحَاكَةِ، وَأَلَحَّ عَلِيَّ
لِيُضِيفَنِي فِي مَنْزِلِهِ، وَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَجَبْتُهُ، فَسَارَ إِلَى
مَنْزِلِهِ وَسِرْتُ مَعَهُ، فَإِذَا مَنْزِلٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدِ احْتَفَلَ
الْحَائِكُ فَلَمْ يُقَصِّرْ، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَالَ: يَا
سَيِّدِي، أَشْتَهِي أَنْ تَقُولَ فِي جَارِيَتِي شَيْئًا مِنَ الشِّعْرِ وَكَانَ
مُغْرَمًا بِجَارِيَةٍ لَهُ. قَالَ أَبُو نُوَاسٍ فَقُلْتُ: أَرِنِيهَا حَتَّى
أَنْظِمَ عَلَى شَكْلِهَا، وَحُسْنِهَا. فَكَشَفَ عَنْهَا الْحِجَابَ، فَإِذَا
هِيَ مِنْ أَسْمَجِ خَلْقِ اللَّهِ وَأَوْحَشِهِمْ، سَوْدَاءُ شَمْطَاءُ
دِنْدَانِيَةٌ يَسِيلُ لُعَابُهَا عَلَى صَدْرِهَا، فَقُلْتُ لِسَيِّدِهَا: مَا
اسْمُهَا ؟ فَقَالَ: تَسْنِيمُ. فَأَنْشَأْتُ أَقُولُ:
أَسْهَرَ لَيْلِي حُبُّ تَسْنِيمِ جَارِيَةٍ فِي الْحُسْنِ كَالْبُومِ
كَأَنَّمَا نَكْهَتُهَا كَامِخٌ أَوْ حُزْمَةٌ مِنْ حُزَمِ الثُّومِ
ضَرَطْتُ مِنْ حُبِّي لَهَا ضَرْطَةً أَفْزَعْتُ مِنْهَا مَلِكَ الرُّومِ
قَالَ: فَقَامَ الْحَائِكُ يَرْقُصُ وَيُصَفِّقُ سَائِرَ يَوْمِهِ، وَيَفْرَحُ
وَيَقُولُ: شَبَّهَهَا وَاللَّهِ بِمَلِكِ الرُّومِ.
وَمِنْ شَعْرِ أَبِي نُوَاسٍ:
أَبْرَمَنِي النَّاسُ يَقُولُونَ تُبْ بِزَعْمِهِمْ كَثْرَةُ أَوْزَارِيَهْ
إِنْ كُنْتُ فِي النَّارِ وَفِي جَنَّةٍ مَاذَا عَلَيْكُمْ يَا بَنِي الزَّانِيَهْ
وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ ذَكَرُوا عَنْهُ أُمُورًا كَثِيرَةً، وَأَشْعَارًا
مُنْكَرَةً، وَمُجُونًا كَثِيرَةً،
وَلَهُ
فِي الْخَمْرِيَّاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَالتَّشَبُّبِ بِالْمُرْدَانِ
وَالنِّسْوَانِ أَشْيَاءُ بَشِعَةٌ شَنِيعَةٌ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُفَسِّقُهُ
وَيَرْمِيهِ بِالْفَاحِشَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْمِيهِ بِالزَّنْدَقَةِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّمَا كَانَ يُخَرِّبُ عَلَى نَفْسِهِ. وَالْأَوَّلُ
أَظْهَرُ؛ لِمَا فِي أَشْعَارِهِ، فَأَمَّا الزَّنْدَقَةُ فَبَعِيدَةٌ عَنْهُ،
وَلَكِنْ كَانَ فِيهِ مُجُونٌ وَخَلَاعَةٌ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ عَزَوْا إِلَيْهِ فِي
صِغَرِهِ وَكِبَرِهِ أَشْيَاءَ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا. وَالْعَامَّةُ
تَنْقُلُ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَا حَقِيقَةَ لَهَا. وَفِي صَحْنِ جَامِعِ
دِمَشْقَ قُبَّةٌ يَفُورُ الْمَاءُ مِنْ وَسَطِهَا، يَقُولُ الدَّمَاشِقَةُ:
قُبَّةُ أَبِي نُوَاسٍ. وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَزْيَدَ مِنْ
مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَمَا أَدْرِي لِمَاذَا تُسَمَّى بِهَذَا ؟ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ: سَمِعْتُ أَبَا نُوَاسٍ يَقُولُ:
وَاللَّهِ مَا فَتَحْتُ سَرَاوِيلِي بِحَرَامٍ قَطُّ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ لِأَبِي نُوَاسٍ: أَنْتَ
زِنْدِيقٌ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ وَأَنَا أَقُولُ:
أُصَلِّي الصَّلَاةَ الْخَمْسَ فِي حِينِ وَقْتِهَا وَأَشْهَدُ بِالتَّوْحِيدِ
للَّهِ خَاضِعَا
وَأُحْسِنُ غُسْلًا إِنْ رَكِبْتُ جَنَابَةً وَإِنْ جَاءَنِي الْمِسْكِينُ لَمْ
أَكُ مَانِعَا
وَإِنِّي وَإِنْ حَانَتْ مِنَ الْكَأْسِ دَعْوَةٌ إِلَى بَيْعَةِ السَّاقِي
أُجِيبُ مُسَارِعَا
وَأَشْرَبُهَا
صِرْفًا عَلَى جَنْبِ مَاعِزٍ وَجَدْيٍ كَثِيرِ الشَّحْمِ أَصْبَحَ رَاضِعَا
وَجُوذَابَ حُوَّارَى وَجُوزٍ وَسُكَّرٍ وَمَا زَالَ لِلْمَخْمُورِ ذَلِكَ
نَافِعَا
وَأَجْعَلُ تَخْلِيطَ الرَّوَافِضِ كُلِّهِمْ لِفَقْحَةِ بَخْتَيْشُوعَ فِي
النَّارِ طَابِعَا
فَقَالَ لَهُ الْأَمِينُ: وَيْحَكَ، وَمَا الَّذِي أَلْجَأَكَ إِلَى فَقْحَةِ
بَخْتَيْشُوعَ ؟ فَقَالَ: بِهَا تَمَّتِ الْقَافِيَةُ فَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ.
وَقَالَ الْجَاحِظُ: لَا أَعْرِفُ فِي كَلَامِ الشُّعَرَاءِ أَرْفَعَ وَلَا
أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ:
أَيَّةُ نارٍ قَدَحَ الْقَادِحُ وَأَيُّ جِدٍّ بَلَغَ الْمَازِحُ
لِلَّهِ دَرُّ الشَيبِ مِنْ واعِظٍ وَناصِحٍ لَو خُطِئَ الناصِحُ
يَأَبْى الْفَتَى إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى وَمَنْهَجُ الْحَقِّ لَهُ واضِحُ
فَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلى نِسْوَةٍ مُهُورُهُنَّ الْعَمَلُ الصَّالِحُ
لَا
يَجْتَلِي الْحَوْرَاءَ مِنَ خِدْرِهَا إِلَّا امْرُؤٌ مِيْزَانُهُ رَاجِحُ
مَنِ اتَّقى اللَّهَ فَذَاكَ الَّذِي سِيقَ إِلَيهِ الْمَتْجَرُ الرَّابِحُ
فَاغْدُ فَمَا فِي الدِّينِ أُغْلُوطَةٌ وَرُحْ لِمَا أَنْتَ لَهُ رَائِحُ
وَقَدِ اسْتَنْشَدَهُ أَبُو هِفَّانَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا:
لَا تَنْسَ لَيْلَى وَلَا تَطْرَبْ إِلَى هِنْدٍ
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا سَجَدَ لَهُ أَبُو هِفَّانَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو نُوَاسٍ:
وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ مُدَّةً. قَالَ: فَغَمَّنِي ذَلِكَ، فَلَمَّا أَرَدْتُ
الِانْصِرَافَ قَالَ: مَتَى أَرَاكَ ؟ فَقُلْتُ: أَلَمْ تُقْسِمْ ؟ فَقَالَ:
الدَّهْرُ أَقْصَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ هَجْرٌ.
وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَيَا رُبَّ وَجْهٍ فِي التُّرَابِ عَتِيقِ وَيا رُبَّ حُسْنٍ فِي التُّرَابِ
رَقِيقِ
وَيَا رُبَّ حَزْمٍ فِي التُّرَابِ وَنَجْدَةٍ وَيَا رُبَّ رَأيٍ فِي التُّرَابِ
وَثِيقِ
أَرَى كُلَّ حَيٍّ هَالِكاً وَابْنَ هَالِكٍ وَذَا حَسَبٍ فِي الْهَالِكِينَ
عَرِيقِ
فَقُلْ لِقَرِيبِ الدَّارِ إِنَّكَ ظَاعِنٌ إِلَى سَفَرٍ نَائِي الْمَحَلِّ
سَحِيقِ
إِذَا
امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي ثِيَابِ صَدِيقِ
وَقَوْلُهُ:
لَا تَشْرَهَنَّ فَإِنَّ الذُّلَّ فِي الشَّرَهِ وَالْعِزُّ فِي الْحِلْمِ لَا فِي
الطَّيْشِ وَالسَّفَهِ
وَقُلْ لِمُغْتَبِطٍ فِي التِّيْهِ مِنْ حُمَقٍ لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي
التِّيهِ لَمْ تَتُهِ
التِّيهُ مَفْسَدَةٌ لِلدِّينِ مَنْقَصَةٌ لِلْعَقْلِ مَهْلَكَةٌ لِلْعِرْضِ
فَانْتَبِهِ
وَجَلَسَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَاسِمِ فِي دُكَّانِ
وَرَّاقٍ، فَكَتَبَ عَلَى ظَهْرِ دَفْتَرٍ:
أَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَ هُ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
ثُمَّ جَاءَ أَبُو نُوَاسٍ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَحْسَنَ، قَاتَلَهُ
اللَّهُ، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا لِي بِجَمِيعِ شَيْءٍ قُلْتُهُ، لِمَنْ
هَذِهِ ؟ قِيلَ: لِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ. فَأَخَذَ الدَّفْتَرَ، فَكَتَبَ إِلَى
جَانِبِهَا:
سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْخَلْ قَ مِنْ ضَعِيفٍ مَهِينِ يَسوقُهُ مِنْ قَرَارٍ
إِلى قَرارٍ مَكِينِ
يَحورُ شَيئًا فَشَيئًا فِي الْحُجُبِ دُونَ الْعُيُونِ
حَتَّى
بَدَتْ حَرَكَاتٌ مَخْلُوقَةٌ مِنْ سُكُونِ
وَمِنْ شِعْرِ أَبِي نُوَاسٍ الْمُسْتَجَادِ قَوْلُهُ:
انْقَضَتْ شِرَّتِي فَعِفْتُ الْمَلَاهِي إِذْ رَمَى الشَّيْبُ مَفْرِقِي
بِالدَّوَاهِي
وَنَهَتْنِي النُّهَى فَمِلْتُ إِلَى الْعَدْ لِ وَأَشْفَقْتُ مِنْ مَقَالَةِ
نَاهِ
أَيُّهَا الْغَافِلُ الْمُقِيمُ عَلَى السَّهْ وِ وَلَا عُذْرَ فِي الْمُقَامِ
لِسَاهِ
لَا بِأَعْمَالِنَا نُطِيقُ خَلَاصًا يَوْمَ تَبْدُو السِّمَاتُ فَوْقَ الْجِبَاهِ
غَيْرَ أَنَّا عَلَى الْإِسَاءَةِ وَالتَّفْ رِيطِ نَرْجُو مِنْ حُسْنِ عَفْوِ
الْإِلَهِ
وَقَوْلُهُ:
نَمُوتُ وَنَبْلَى غَيْرَ أَنَّ ذُنُوبَنَا إِذَا نَحْنُ مِتْنَا لَا تَمُوتُ
وَلَا تَبْلَى
أَلَا رُبَّ ذِي عَيْنَيْنِ لَا تَنْفَعَانِهِ وَهَلْ تَنْفَعُ الْعَيْنَانِ مَنْ
قَلْبُهُ أَعْمَى
وَقَوْلُهُ:
لَوْ أَنَّ عَيْنًا وَهَّمَتْهَا نَفْسُهَا يَوْمَ الْحِسَابِ مُمَثَّلًا لَمْ
تَطْرَفِ
سُبْحَانَ
ذِي الْمَلَكُوتِ أَيَّةَ لَيْلَةٍ مَخِضَتْ صَبِيحَتُهَا بِيَوْمِ الْمَوْقِفِ
كَتَبَ الْفَنَاءَ عَلَى الْبَرِيَّةِ رَبُّهَا فَالنَّاسُ بَيْنَ مُقَدَّمٍ
وَمُخَلَّفِ
وَذَكَرُوا أَنَّ أَبَا نُوَاسٍ لَمَّا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَالَ:
إِلَهَنَا مَا أَعْدَلَكْ مَلِيكَ كُلِّ مَنْ مَلَكْ
لَبَّيْكَ قَدْ لَبَّيْتُ لَكْ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكَ
وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكْ مَا خَابَ عَبْدٌ سَأَلَكْ
لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكْ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ
أَنْتَ لَهُ حَيْثُ سَلَكَ لَوْلَاكَ يَا رَبِّي هَلَكْ
لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ
وَاللَّيْلُ لَمَّا أَنْ حَلَكْ وَالسَّابِحَاتُ فِي الْفَلَكْ
عَلَى مَجَارِي الْمُنْسَلَكْ كُلُّ نَبِيٍّ وَمَلَكْ
وَكُلُّ مَنْ أَهَلَّ لَكْ سَبَّحَ أَوْ صَلَّى فَلَكْ
لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكْ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكْ
يَا
مُخْطِئًا مَا أَغْفَلَكْ عَجِّلْ وَبَادِرْ أَمَلَكْ
وَاخْتِمْ بِخَيْرٍ عَمَلَكْ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكْ
وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكْ
وَقَالَ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ: ثِنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ، سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى ثَعْلَبًا يَقُولُ:
دَخَلْتُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا تُهِمُّهُ نَفْسُهُ،
لَا يُحِبُّ أَنْ يُكْثَرَ عَلَيْهِ، كَأَنَّ النِّيرَانَ قَدْ سُعِّرَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَمَا زِلْتُ أَتَرَفَّقُ بِهِ، وَتَوَسَّلْتُ إِلَيْهِ بِأَنِّي مِنْ مَوَالِي
شَيْبَانَ، حَتَّى قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ نَظَرْتَ ؟ فَقُلْتُ: فِي عِلْمِ
اللُّغَةِ وَالشِّعْرِ. قَالَ: مَرَرْتُ بِالْبَصْرَةِ وَجَمَاعَةٌ يَكْتُبُونَ
عَنْ رَجُلٍ الشِّعْرَ، وَقِيلَ لِي: هَذَا أَبُو نُوَاسٍ فَتَخَلَّلْتُ النَّاسَ
وَرَائِي، فَلَمَّا جَلَسْتُ أَمْلَى عَلَيْنَا:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا تَقُلْ خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ
عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفَلُ سَاعَةً وَلَا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ
يَغِيبُ
لَهَوْنَا لَعَمْرُ اللَّهِ حَتَّى تَتَابَعَتْ ذُنُوبٌ عَلَى آثَارِهِنَّ ذُنُوبُ
فَيَا
لَيْتَ أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ مَا مَضَى وَيَأْذَنُ فِي تَوْبَاتِنَا فَنَتُوبُ
وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي نُوَاسٍ بَعْدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
أَقُولُ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيَّ مَذَاهِبِي وَحَلَّ بِقَلْبِي لِلْهُمُومِ نُدُوبُ
لِطُولِ جِنَايَاتِي وَعِظَمِ خَطِيئَتِي هَلَكْتُ وَمَا لِي فِي الْمَتَابِ
نَصِيبُ
وَأَغْرَقُ فِي بَحْرِ الْمَخَافَةِ آيِسًا وَتَرْجِعُ نَفْسِي تَارَةً فَتَتُوبُ
وَيُذْكَرُ عَفْوٌ لِلْكَرِيمِ عَنِ الْوَرَى فَأَحْيَا وَأَرْجُو عَفْوَهُ
فَأُنِيبُ
فَأَخْضَعُ فِي قَوْلِي وَأَرْغَبُ سَائِلًا عَسَى كَاشِفُ الْبَلْوَى عَلَيَّ
يَتُوبُ
قَالَ ابْنُ طَرَارَا الْجَرِيرِيُّ، وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ: لِمَنْ
؟ قِيلَ: لِأَبِي نُوَاسٍ، وَهِيَ فِي زُهْدِيَّاتِهِ. وَقَدِ اسْتَشْهَدَ بِهَا
النُّحَاةُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ قَدْ ذَكَرْنَاهَا.
وَقَالَ حَسَنُ ابْنُ الدَّايَةِ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي نُوَاسٍ وَهُوَ فِي مَرَضِ
الْمَوْتِ، فَقُلْتُ: عِظْنِي. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
تَكَثَّرْ
مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الْخَطَايَا فَإِنَّكَ لَاقِي رَبًّا غَفُورَا
سَتُبْصِرُ إِذْ وَرَدْتَ عَلَيْهِ عَفْوَا وَتَلْقَى سَيِّدًا مَلِكًا قَدِيرَا
تَعَضُّ نَدَامَةً كَفَّيْكَ مِمَّا تَرَكْتَ مَخَافَةَ النَّارِ السُّرُورَا
فَقُلْتُ: وَيْلَكَ، فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ تَعِظُنِي بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ
؟ فَقَالَ: اسْكُتْ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ
قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:ادَّخَرْتُ شَفَاعَتِي
لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ بِهَذَا السَّنَدِلَا
يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ
وَقَالَ الرَّبِيعُ وَغَيْرُهُ، عَنِ الشَّافِعِيِّ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي
نُوَاسٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ،
فَقُلْنَا: مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْيَوْمِ ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ
أَعْظَمَا
فَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً
وَتَكَرُّمَا
وَلَوْلَاكَ لَمْ يَصْمُدْ لِإِبْلِيسَ عَابِدٌ فَكَيْفَ وَقَدْ أَغْوَى صَفِيَّكَ
آدَمَا
رَوَاهُ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا عِنْدَ رَأْسِهِ رُقْعَةً مَكْتُوبًا فِيهَا
بِخَطِّهِ:
يَا رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَكَ
أَعْظَمُ
إِنْ كَانَ لَا يَرْجُوكَ إِلَّا مُحْسِنٌ فَمَنِ الَّذِي يَدْعُو وَيَرْجُو
الْمُجْرِمُ
أَدْعُوكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعًا فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فَمَنْ ذَا
يَرْحَمُ
مَا لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلَّا الرَّجَا وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ أَنَّي
مُسْلِمُ
وَقَالَ يُوسُفُ ابْنُ الدَّايَةِ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي السِّيَاقِ،
فَقُلْتُ: كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ فَأَطْرَقَ مَلِيًّا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ،
فَقَالَ:
دَبَّ فِيَّ الْفَنَاءُ سُفْلًا وَعُلْوًا وَأُرَانِي أَمُوتُ عُضْوًا فَعُضْوَا
لَيْسَ تَأْتِي مِنْ سَاعَةٍ بِيَ إِلَّا نَقَصَتْنِي بِمُرِّهَا فِيَّ جَزْوَا
ذَهَبَتْ جِدَّتِي بِلَذَّةِ عَيْشِي وَتَذَكَّرْتُ طَاعَةَ اللَّهِ نِضْوَا
قَدْ
أَسْأْنَا كُلَّ الْإِسَاءَةِ فَاللَّهُمَّ صَفْحًا عَنَّا وَغَفْرًا وَعَفْوَا
ثُمَّ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا. فَأَوْصَى
أَنْ يُجْعَلَ فِي فَمِهِ إِذَا غَسَّلُوهُ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ.
وَلَمَّا مَاتَ لَمْ يَجِدُوا لَهُ مِنَ الْمَالِ سِوَى ثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ
وَثِيَابِهِ وَأَثَاثِهِ. وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بِبَغْدَادَ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الشُّونِيزِيَّةِ فِي تَلِّ الْيَهُودِ،
وَلَهُ خَمْسُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً. وَقِيلَ: تِسْعٌ وَخَمْسُونَ
سَنَةً. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: مَا
فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِأَبْيَاتٍ قُلْتُهَا فِي
النَّرْجِسِ:
تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الْأَرْضِ وَانْظُرْ إِلَى آثَارِ مَا فَعَلَ الْمَلِيكُ
عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنٍ فَاخِرَاتٌ بِأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهَبُ السَّبِيكُ
عَلَى قَصَبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: غَفَرَ لِي بِأَبْيَاتٍ قُلْتُهَا، وَهِيَ
تَحْتَ وِسَادَتِي، فَجَاءُوا فَوَجَدُوهَا فِي رُقْعَةٍ بِخَطِّهِ وَهِيَ هَذِهِ
الْأَبْيَاتُ:
يَا
رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً فَلَقْدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَكَ
أَعْظَمُ
الْأَبْيَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَسَاكِرَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ
فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ وَنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ
بِكَ ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي. قُلْتُ: بِمَاذَا ؟ وَقَدْ كُنْتَ مُخَلِّطًا عَلَى
نَفْسِكَ ؟ فَقَالَ: جَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ رَجُلٌ صَالِحٌ إِلَى الْمَقَابِرِ،
فَبَسَطَ رِدَاءَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، قَرَأَ فِيهِمَا أَلْفَيْ مَرَّةٍ قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثُمَّ أَهْدَى ثَوَابَ ذَلِكَ لِأَهْلِ تِلْكَ الْمَقَابِرِ،
فَدَخَلْتُ أَنَا فِي جُمْلَتِهِمْ فَغَفَرَ اللَّهُ لِي.
وَقَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ لَمَّا صَحِبَ أَبَا أُسَامَةَ وَالِبَةَ بْنَ
الْحُبَابِ قَدِمَ بِهِ بَغْدَادَ فَكَانَ أَوَّلَ شِعْرٍ قَالَهُ أَبُو نُوَاسٍ:
حَامِلُ الْهَوَى تَعِبُ يَسْتَخِفُّهُ الطَّرَبُ
إِنْ بَكَى يَحِقُّ لَهُ لَيْسَ مَا بِهِ لَعِبُ
تَضْحَكِينَ لَاهِيَةً وَالْمُحِبُّ يَنْتَحِبُ
تَعْجَبِينَ مِنْ سَقَمِي صِحَّتِي هِيَ الْعَجَبُ
وَقَالَ
الْمَأْمُونُ: مَا أَحْسَنَ قَوْلَهُ:
وَمَا النَّاسُ إِلَّا هَالِكٌ وَابْنُ هَالِكٍ وَذُو نَسَبٍ فِي الْهَالِكِينَ
عَرِيقُ
إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي ثِيَابِ
صَدِيقِ
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَمَا أَشَدَّ رَجَاءَهُ بِرَبِّهِ حَيْثُ يَقُولُ:
تَكَثَّرْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الْخَطَايَا فَإِنَّكَ لَاقِي رَبًّا غَفُورَا
سَتُبْصِرُ إِذْ وَرَدْتَ عَلَيْهِ عَفْوًا وَتَلْقَى سَيِّدًا مَلِكًا قَدِيرًا
تَعَضُّ نَدَامَةً كَفَّيْكَ مِمَّا تَرَكْتَ مَخَافَةَ النَّارِ السُّرُورَا
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ
أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ الثِّقَاتِ الْمَشْهُورِينَ.
وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الدِّمَشْقِيُّ
تِلْمِيذُ الْأَوْزَاعِيِّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا حَبَسَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ أَسَدَ بْنَ يَزِيدَ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُ نَقَمَ
عَلَى الْأَمِينِ لَعِبَهُ وَتَهَاوُنَهُ فِي أَمْرِ الرَّعِيَّةِ، وَارْتِكَابَهُ
اللَّعِبَ وَالصَّيْدَ فِي هَذَا الْوَقْتِ.
وَوَجَّهَ الْأَمِينُ أَحْمَدَ بْنَ مَزْيَدَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُمَيْدِ
بْنِ قَحْطَبَةَ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِشْرُونَ
أَلْفًا إِلَى حُلْوَانَ لِقِتَالِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ أَمِيرِ الْحَرْبِ
مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُونِ فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى قَرِيبٍ مِنْ حُلْوَانَ
خَنْدَقَ طَاهِرٌ عَلَى جَيْشِهِ خَنْدَقًا، وَجَعَلَ يَعْمَلُ الْحِيلَةَ فِي
إِيقَاعِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْأَمِيرَيْنِ، فَاخْتَلَفَا فَرَجَعَا وَلَمْ
يُقَاتِلَاهُ، وَدَخَلَ طَاهِرٌ إِلَى حُلْوَانَ وَجَاءَهُ كِتَابُ الْمَأْمُونِ
بِتَسْلِيمِ مَا تَحْتَ يَدِهِ إِلَى هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ، وَأَنْ
يَتَوَجَّهَ هُوَ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا رَفَعَ الْمَأْمُونُ مَنْزِلَةَ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ وَلَّاهُ
أَعْمَالًا كِبَارًا، وَسَمَّاهُ ذَا الرِّيَاسَتَيْنِ.
وَفِيهَا وَلَّى الْأَمِينُ نِيَابَةَ الشَّامِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحِ
بْنِ عَلِيٍّ وَقَدْ كَانَ أَخْرَجَهُ مِنْ سِجْنِ الرَّشِيدِ وَأَمَرَهُ أَنْ
يَبْعَثَ لَهُ رِجَالًا وَجُنُودًا لِقِتَالِ طَاهِرٍ وهَرْثَمَةَ، فَلَمَّا
وَصَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ إِلَى الرَّقَّةِ أَقَامَ بِهَا، وَكَتَبَ
إِلَى رُؤَسَاءِ الشَّامِ
يَتَأَلَّفُهُمْ
وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
ثُمَّ وَقَعَتْ حُرُوبٌ كَانَ مَبْدَؤُهَا مِنْ أَهْلِ حِمْصَ وَتَفَاقَمَ
الْأَمْرُ وَطَالَ الْقِتَالُ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَاتَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
صَالِحٍ هُنَالِكَ، فَرَجَعَ الْجَيْشُ إِلَى بَغْدَادَ صُحْبَةَ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ، فَتَلَقَّاهُ أَهْلُ بَغْدَادَ بِالْإِكْرَامِ
وَالِاحْتِرَامِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَيْهَا جَاءَهُ رَسُولُ الْأَمِينِ يَطْلُبُهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا
أَنَا بِمُسَامِرٍ وَلَا مُضْحِكٍ، وَلَا وَلِيتُ لَهُ عَمَلًا وَلَا جَاءَ لَهُ
عَلَى يَدَيَّ مَالٌ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ يُرِيدُنِي فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ ؟
ذِكْرُ سَبَبِ خَلْعِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَكَيْفَ أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى
أَخِيهِ الْمَأْمُونِ
لَمَّا أَصْبَحَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ وَلَمْ
يَذْهَبْ إِلَى الْأَمِينِ لَمَّا طَلَبَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَقْدَمِهِ
بِالْجَيْشِ مِنْ الرَّقَّةِ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا وَأَلَّبَهُمْ عَلَى
الْأَمِينِ، وَذَكَرَ لَعِبَهُ وَمَا يَتَعَاطَاهُ مِنَ اللَّهْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِنَ الْمَعَاصِي، وَأَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْخِلَافَةُ لِمَنْ هَذَا حَالُهُ،
وَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُوقِعَ الْبَأْسَ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ حَثَّهُمْ عَلَى
الْقِيَامِ عَلَيْهِ وَالنُّهُوضِ إِلَيْهِ، وَنَدَبَهُمْ لِذَلِكَ، فَالْتَفَّ
عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَبَعَثَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ إِلَيْهِ
خَيْلًا، فَاقْتَتَلُوا مَلِيًّا مِنَ النَّهَارِ، فَأَمَرَ الْحُسَيْنُ
أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَرَجَّلُوا إِلَى الْأَرْضِ وَأَنْ يُقَاتِلُوا بِالسُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ، فَانْهَزَمَ جَيْشُ الْأَمِينِ، وَخَلَعَ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ مِنَ الْغَدِ لِعَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ نَقَلَ الْأَمِينَ مِنْ قَصْرِهِ إِلَى قَصْرِ أَبِي جَعْفَرٍ وَسَطَ بَغْدَادَ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ وَقَيَّدَهُ وَاضْطَهَدَهُ، وَأَمَرَ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى أُمَّهُ زُبَيْدَةَ أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى هُنَالِكَ فَامْتَنَعَتْ فَقَنَّعَهَا بِالسَّوْطِ، وَقَهَرَهَا عَلَى الِانْتِقَالِ، فَانْتَقَلَتْ مَعَ أَوْلَادِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ طَلَبُوا مِنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ أُعْطِيَاتِهِمْ وَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، وَصَارَ أَهْلُ بَغْدَادَ فِرْقَتَيْنِ؛ فِرْقَةً مَعَ الْخَلِيفَةِ وَفِرْقَةً عَلَيْهِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَغَلَبَ حِزْبُ الْخَلِيفَةِ أُولَئِكَ، وَأَسَرُوا الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ وَقَيَّدُوهُ، وَدَخَلُوا بِهِ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَفَكُّوا عَنْهُ قُيُودَهُ، وَأَجْلَسُوهُ عَلَى السَّرِيرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِلَاحٌ مِنَ الْعَامَّةِ أَنْ يُعْطَى سِلَاحًا مِنَ الْخَزَائِنِ، فَانْتَهَبَ النَّاسُ خَزَائِنَ السِّلَاحِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَأُتِيَ الْأَمِينُ بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، فَلَامَهُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِأَنَّ عَفْوَ الْخَلِيفَةِ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَعَفَا عَنْهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَاسْتَوْزَرَهُ، وَأَعْطَاهُ الْخَاتَمَ، وَوَلَّاهُ مَا وَرَاءَ بَابِهِ، وَوَلَّاهُ الْحَرْبَ وَسَيَّرَهُ إِلَى حُلْوَانَ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْجِسْرِ هَرَبَ فِي خَدَمِهِ وَحَاشِيَتِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْأَمِينُ مَنْ يَرُدُّهُ، فَرَكِبَتِ الْخُيُولُ وَرَاءَهُ فَأَدْرَكُوهُ، فَقَاتَلَهُمْ وَقَاتَلُوهُ،
فَقَتَلُوهُ
لِمُنْتَصَفِ رَجَبٍ، وَجَاءُوا بِرَأْسِهِ إِلَى الْأَمِينِ، وَجَدَّدَ النَّاسُ
بَيْعَةَ الْأَمِينِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ عِيسَى هَرَبَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَاجِبُ، وَاسْتَحْوَذَ
طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ نَائِبُ الْمَأْمُونِ عَلَى أَكْثَرِ الْبِلَادِ،
وَاسْتَنَابَ بِهَا النُّوَّابَ، مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُونِ وَخَلَعَتْ أَكْثَرُ
الْأَقَالِيمِ الْأَمِينَ، وَبَايَعُوا الْمَأْمُونَ وَتَدَنَّى طَاهِرٌ إِلَى
الْمَدَائِنِ فَأَخَذَهَا مَعَ وَاسِطٍ وَأَعْمَالِهَا، وَاسْتَنَابَ مِنْ
جِهَتِهِ عَلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْأَمِينِ مِنَ الْبِلَادِ إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا عَقَدَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ أَرْبَعَمِائَةِ لِوَاءٍ،
مَعَ كُلِّ لِوَاءٍ أَمِيرٌ، وَبَعَثَهُمْ لِقِتَالِ هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ
فَالْتَقَوْا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَكَسَرَهُمْ هَرْثَمَةُ، وَأَسَرَ
مُقَدَّمَهُمْ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ نَهِيكٍ، وَبَعَثَ بِهِ
إِلَى الْمَأْمُونِ وَهَرَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ جُنْدِ طَاهِرٍ، نَحْوٌ مِنْ خَمْسَةِ
آلَافٍ، فَسَارُوا إِلَى الْأَمِينِ بِبَغْدَادَ فَأَعْطَاهُمْ أَمْوَالًا
كَثِيرَةً، وَأَكْرَمَهُمْ وَغَلَّفَ لِحَاهُمْ بِالْغَالِيَةِ، فَسُمُّوا جَيْشَ
الْغَالِيَةِ. ثُمَّ نَدَبَهُمُ الْأَمِينُ وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ جَيْشًا كَثِيفًا
لِقِتَالِ طَاهِرٍ فَهَزَمَهُمْ، وَفَرَّقَ شَمْلَهُمْ، وَأَخَذَ مَا كَانَ
مَعَهُمْ. وَاقْتَرَبَ مِنْ بَغْدَادَ فَحَاصَرَهَا، وَبَعَثَ الْقُصَّادَ
وَالْجَوَاسِيسَ يُلْقُونَ الْفِتْنَةَ بَيْنَ الْجُنْدِ حَتَّى تَفَرَّقُوا
شِيَعًا، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَ الْجَيْشِ، وَسَعَتِ الْأَصَاغِرُ عَلَى الْأَكَابِرِ،
وَاخْتَلَفُوا
عَلَى الْأَمِينِ فِي سَادِسِ ذِي الْحِجَّةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْبَغَادِدَةِ:
قُلْ لِأَمِينِ اللَّهِ فِي نَفْسِهِ مَا شَتَّتَ الْجُنْدَ سِوَى الْغَالِيهْ
وَطَاهِرٌ نَفْسِي تَقِي طَاهِرًا
بِرُسْلِهِ وَالْعُدَّةِ الْكَافِيهْ أَضْحَى زِمَامُ الْمُلْكِ فِي كَفِّهِ
مُقَاتِلًا لِلْفِئَةِ الْبَاغِيهْ يَا نَاكِثًا أَسْلَمَهُ نَكْثُهُ
عُيُوبُهُ فِي جَيْشِهِ فَاشِيهْ قَدْ جَاءَكَ اللَّيْثُ بِشَدَّاتِهِ
مُسْتَكْلِبًا فِي أُسُدٍ ضَارِيَهْ فَاهْرَبْ وَلَا مَهْرَبَ مِنْ مِثْلِهِ
إِلَّا إِلَى النَّارِ أَوِ الْهَاوِيَهْ
فَتَفَرَّقَ عَلَى الْأَمِينِ شَمْلُهُ، وَحَارَ فِي أَمْرِهِ، وَجَاءَ طَاهِرُ
بْنُ الْحُسَيْنِ بِجُيُوشِهِ، فَنَزَلَ عَلَى بَابِ الْأَنْبَارِ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ،
وَاشْتَدَّ الْحَالُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَأَخَذَتِ الدُّعَّارُ
وَالشُّطَّارُ أَهْلَ الصَّلَاحِ، وَخُرِّبَتِ الدِّيَارُ، وَثَارَتِ الْفِتْنَةُ
بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى قَاتَلَ الْأَخُ أَخَاهُ، وَالِابْنُ أَبَاهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى
بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ، مِنْ قِبَلِ طَاهِرٍ،
وَدَعَا لِلْمَأْمُونِ بِالْخِلَافَةِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ،
وَهُوَ أَوَّلُ مَوْسِمٍ دُعِيَ فِيهِ لِلْمَأْمُونِ بِالْخِلَافَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ الْحِمْصِيُّ، إِمَامُ أَهْلِ حِمْصَ وَفَقِيهُهَا
وَمُحَدِّثُهَا.
وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ الْقَاضِي، عَاشَ فَوْقَ التِّسْعِينَ، وَلَمَّا احْتُضِرَ
بَكَى بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَبْكِ، وَاللَّهِ مَا حَلَلْتُ
سَرَاوِيلِي عَلَى حَرَامٍ قَطُّ، وَلَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيَّ خَصْمَانِ
فَبَالَيْتُ عَلَى مَنْ وَقَعَ الْحُكْمُ مِنْهُمَا.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَرْزُوقٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، كَانَ وَزِيرًا
لِلرَّشِيدِ فَتَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَتَزَهَّدَ، وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ
أَنْ يُطْرَحَ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى مَزْبَلَةٍ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَهُ.
أَبُو شِيصٍ الشَّاعِرُ مُحَمَّدُ بْنُ رَزِينِ بْنِ سُلَيْمَانَ، كَانَ إِنْشَادُ
الشِّعْرِ وَإِنْشَاؤُهُ،
وَنَظْمُهُ
أَسْهَلَ عَلَيْهِ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ، وَكَانَ هُوَ وَمُسْلِمُ بْنُ الْوَلِيدِ
الْمُلَقَّبُ صَرِيعَ الْغَوَانِي وَأَبُو نُوَاسٍ، وَدِعْبِلٌ يَجْتَمِعُونَ
وَيَتَنَاشَدُونَ. وَقَدْ عَمِيَ أَبُو الشِّيصِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ.
وَمِنْ جَيِّدِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتِ فَلَيْسَ لِي مُتَأَخَّرٌ عَنْهُ وَلَا
مُتَقَدَّمُ أَجِدُ الْمَلَامَةَ فِي هَوَاكِ لَذِيذَةً
حُبًّا لِذِكْرِكِ فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ أَشْبَهْتِ أَعْدَائِي فَصِرْتُ
أُحِبُّهُمْ
إِذْ كَانَ حَظِّي مِنْكِ حَظِّي مِنْهُمُ وأَهَنْتِنِي فَأَهَنْتُ نَفْسِي
صَاغِرًا
مَا مَنْ يَهُونُ عَلَيْكِ مِمَّنْ يُكْرَمُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَقَدْ أَلَحَّ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ وَهَرْثَمَةُ
بْنُ أَعْيَنَ، وَمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْجُنُودِ فِي حِصَارِ بَغْدَادَ
وَالتَّضْيِيقِ عَلَى مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَهَرَبَ الْقَاسِمُ بْنُ الرَّشِيدِ،
وَعَمُّهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ إِلَى الْمَأْمُونِ فَأَكْرَمَهُمَا،
وَوَلَّى أَخَاهُ الْقَاسِمَ جُرْجَانَ وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ بِبَغْدَادَ
وَنُصِبَتْ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقُ وَالْعَرَّادَاتُ وَضَاقَ الْأَمِينُ بِهِمْ
ذَرْعًا، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ مَا يُنْفِقُ فِي الْجُنْدِ، فَاضْطَرَّ إِلَى
ضَرْبِ آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ، وَهَرَبَ كَثِيرٌ
مِنْ جُنْدِهِ إِلَى طَاهِرٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُخِذَتْ
أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ مِنَ التُّجَّارِ، وَبَعَثَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ إِلَى
قُصُورٍ كَثِيرَةٍ، وَدُورٍ شَهِيرَةٍ، وَأَمَاكِنَ وَمَحَالَّ كَثِيرَةٍ
فَحَرَّقَهَا لِمَا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فَعَلَ كُلَّ هَذَا
فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ، وَلِتَدُومَ الْخِلَافَةُ لَهُ فَلَمْ تَدُمْ، وَقُتِلَ،
وَخُرِّبَتْ دِيَارُهُ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا وَفَعَلَ طَاهِرٌ مِثْلَ مَا
فَعَلَ الْأَمِينُ، حَتَّى كَادَتْ بَغْدَادُ تَخْرَبُ بِكَمَالِهَا، فَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ:
مَنْ ذَا أَصَابَكِ يَا بَغْدَادُ بِالْعَيْنِ أَلَمْ تَكُونِي زَمَاناً قُرَّةَ
الْعَيْنِ أَلَمْ يَكُنْ فِيكِ قَوْمٌ كَانَ مَسْكَنُهُمْ
وَكَانَ قُرْبُهُمْ زَيْنًا مِنَ الزَّيْنِ
صَاحَ
الْغُرَابُ بِهِمْ بِالْبَيْنِ
فَافْتَرَقُوا مَاذَا لَقِيتِ بِهِمْ مِنْ لَوْعَةِ الْبَيْنِ أَسْتَوْدِعُ
اللَّهَ قَوْماً مَا ذَكَرْتُهُمْ
إِلَّا تَحَدَّرَ مَاءُ الْعَيْنِ مِنْ عَيْنِي كَانُوا فَمَزَّقَهُمْ دَهْرٌ
وَصَدَّعَهُمْ
وَالدَّهْرُ يَصْدَعُ مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ
وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ أَبُو
جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ
قَصِيدَةً طَوِيلَةً جِدًّا لِبَعْضِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فِيهَا بَسْطُ مَا
وَقَعَ، وَهِيَ هَوْلٌ مِنَ الْأَهْوَالِ اخْتَصَرْنَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ.
وَاسْتَحْوَذَ طَاهِرٌ عَلَى مَا كَانَ فِي الضِّيَاعِ مِنَ الْغَلَّاتِ
وَالْحَوَاصِلِ لِلْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْأَمَانِ،
وَخَلْعِ الْأَمِينِ، وَالْبَيْعَةِ لِلْمَأْمُونِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ جَمَاعَةٌ؛
مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ قَحْطَبَةَ، وَيَحْيَى بْنُ عَلِيِّ
بْنِ مَاهَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ الطُّوسِيُّ، وَكَاتَبَهُ
خَلْقٌ مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ وَالْأُمَرَاءِ، وَصَارَتْ قُلُوبُهُمْ مَعَهُ.
وَاتَّفَقَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَنْ ظَفِرَ أَصْحَابُ الْأَمِينِ بِبَعْضِ
أَصْحَابِ طَاهِرٍ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ طَائِفَةً عِنْدَ قَصْرِ صَالِحٍ،
فَلَمَّا جَرَى ذَلِكَ بَطَرَ الْأَمِينُ، وَأَقْبَلَ عَلَى اللَّهْوِ وَالشُّرْبِ
وَاللَّعِبِ، وَوَكَّلَ الْأُمُورَ، وَتَدْبِيرَهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى
بْنِ نَهِيكٍ، ثُمَّ قَوِيَتْ شَوْكَةُ أَصْحَابِ طَاهِرٍ وَضَعُفَ جَانِبُ
الْأَمِينِ جِدًّا، وَانْحَازَ النَّاسُ إِلَى جَيْشِ طَاهِرٍ، وَكَانَ جَانِبُهُ
آمِنًا جِدًّا، لَا يَخَافُ أَحَدٌ فِيهِ مِنْ سَرِقَةٍ وَلَا نَهْبٍ، وَلَا
غَيْرِ
ذَلِكَ، وَقَدِ احْتَازَ طَاهِرٌ أَكْثَرَ مَحَالِّ بَغْدَادَ وَأَرْبَاضِهَا،
وَمَنَعَ الْمَلَّاحِينَ أَنْ يَحْمِلُوا طَعَامًا إِلَى مَنْ خَالَفَهُ،
لِيُضَيِّقَ عَلَيْهِمْ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ عِنْدَهُمْ جِدًّا، وَنَدِمَ مَنْ
لَمْ يَكُنْ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمُنِعَتِ التُّجَّارُ مِنَ
الْقُدُومِ إِلَى بَغْدَادَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَضَائِعِ أَوِ الدَّقِيقِ،
وَصُرِفَتِ السُّفُنُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ جَرَتْ بَيْنَ
الْفَرِيقَيْنِ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ؛ فَمِنْ ذَلِكَ وَقْعَةُ دَرْبِ الْحِجَارَةِ،
كَانَتْ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ أَصْحَابِ
طَاهِرٍ، كَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْعَيَّارِينَ وَالْحَرَافِشَةُ مِنَ
الْبَغَادِدَةِ يَأْتِي عُرْيَانًا، وَمَعَهُ بَارِيَّةٌ مُقَيَّرَةٌ، وَتَحْتَ
كَتِفِهِ مِخْلَاةٌ فِيهَا حِجَارَةٌ، فَإِذَا ضَرَبَهُ الْفَارِسُ مِنْ بَعِيدٍ
بِالسَّهْمِ اتَّقَاهُ بِبَارِيَّتِهِ فَلَا يُؤْذِيهِ، وَإِذَا اقْتَرَبَ مِنْهُ
رَمَاهُ بِحَجَرٍ فِي الْمِقْلَاعِ فَأَصَابَهُ، فَهَزَمُوهُمْ بِذَلِكَ.
وَوَقْعَةُ الشَّمَّاسِيَّةِ أُسِرَ فِيهَا هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ فَشَقَّ
ذَلِكَ عَلَى طَاهِرٍ، وَأَمَرَ بِعَقْدِ جِسْرٍ عَلَى دِجْلَةَ فَوْقَ
الشَّمَّاسِيَّةِ، وَعَبَرَ بِنَفْسِهِ، وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ
فَقَاتَلَهُمْ بِنَفْسِهِ أَشَدَّ الْقِتَالِ حَتَّى أَزَالَهُمْ عَنْ
مَوَاضِعِهِمْ، وَاسْتَرَدَّ مِنْهُمْ هَرْثَمَةَ، وَجَمَاعَةً مِمَّنْ كَانُوا
أَسَرُوهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَقَالَ
فِي ذَلِكَ:
مُنِيتُ
بِأَشْجَعِ الثَّقَلَيْنِ قَلْبًا إِذَا مَا طَالَ لَيْسَ كَمَا يَطُولُ
لَهُ مَعَ كُلِّ ذِي بَدَنٍ رَقِيبٌ يُشَاهِدُهُ وَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ
فَلَيْسَ بِمُغْفِلٍ أَمْرًا عِنَادًا إِذَا مَا الْأَمْرُ ضَيَّعَهُ الْغُفُولُ
وَضَعُفَ أَمْرُ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ ابْنِ زُبَيْدَةَ جِدًّا، وَلَمْ يَبْقَ
عِنْدَهُ مَالٌ يُنْفِقُهُ عَلَى جُنْدِهِ، وَلَا عَلَى نَفْسِهِ، وَتَفَرَّقَ
أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ عَنْهُ، وَبَقِيَ مُضْطَهَدًا ذَلِيلًا. وَانْقَضَتْ هَذِهِ
السَّنَةُ بِكَمَالِهَا وَالنَّاسُ فِي بَغْدَادَ فِي قَلَاقِلَ وَزَلَازِلَ
وَهَيْشَاتٍ وَقِتَالٍ وَحِصَارٍ وَحَرْقٍ وَغَرَقٍ وَسَرَقٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى الْهَاشِمِيُّ،
وَدَعَا لِلْمَأْمُونِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ السَّادَةِ الْأَعْيَانِ:
شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ، أَحَدُ الزُّهَّادِ.
وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، إِمَامُ أَهْلِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُسْهِرٍ، قَاضِي جَبُّلٍ، أَخُو عَلِيِّ بْنِ
مُسْهِرٍ.
وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، أَبُو سَعِيدٍ، الْمُلَقَّبُ بِوَرْشٍ، أَحَدُ
الْقُرَّاءِ الْمَشْهُورِينَ الرُّوَاةُ عَنْ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ.
وَوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ الرُّؤَاسِيُّ، أَحَدُ أَعْلَامِ الْمُحَدِّثِينَ،
مَاتَ عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَامَرَ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ عَلَى مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَأَخَذَ
الْأَمَانَ مِنْ طَاهِرٍ. وَدَخَلَ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ الْجَانِبَ
الشَّرْقِيَّ، وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ
وَثَبَ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى عَلَى
جِسْرِ بَغْدَادَ فَقَطَعَاهُ وَنَصَبَا رَايَتَهُمَا عَلَيْهِ، وَدَعَوْا إِلَى
بَيْعَةِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ وَخَلْعِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَدَخَلَ
طَاهِرٌ يَوْمَ الْخَمِيسِ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَبَاشَرَ الْقِتَالَ
بِنَفْسِهِ، وَنَادَى بِالْأَمَانِ لِمَنْ لَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَجَرَتْ عِنْدَ
دَارِ الرَّقِيقِ وَالْكَرْخِ وَغَيْرِهِمَا وَقَعَاتٌ، وَأَحَاطَ بِمَدِينَةِ
أَبِي جَعْفَرٍ وَالْخُلْدِ وَقَصْرِ زُبَيْدَةَ، وَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ حَوْلَ
السُّورِ، وَحِذَاءَ قَصْرِ زُبَيْدَةَ، وَرَمَاهُ بِالْمَنْجَنِيقِ، فَخَرَجَ
مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ بِأُمِّهِ وَوَلَدِهِ إِلَى مَدِينَةِ أَبِي جَعْفَرٍ،
وَتَفَرَّقَ عَنْهُ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ فِي الطُّرُقِ، لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى
أَحَدٍ. وَدَخَلَ الْأَمِينُ قَصْرَ أَبِي جَعْفَرٍ وَانْتَقَلَ مِنَ الْخُلْدِ
لِكَثْرَةِ مَا يَأْتِيهِ فِيهِ مِنْ رَمْيِ الْمَنْجَنِيقِ، وَأَمَرَ بِتَحْرِيقِ
مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْبُسُطِ وَالْأَمْتِعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ
فَحُصِرَ فِيهِ حَصْرًا شَدِيدًا. وَمَعَ هَذِهِ الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ
وَإِشْرَافِهِ عَلَى الْهَلَاكِ، خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ
إِلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، وَاسْتَدْعَى بِنَبِيذٍ وَجَارِيَةٍ فَغَنَّتْهُ، فَلَمْ
يَنْطَلِقْ لِسَانُهَا إِلَّا بِالْفُرَاقِيَّاتِ وَذِكْرِ الْمَوْتِ، وَهُوَ
يَقُولُ لَهَا: غَيِّرِي هَذَا.
فَتَذْكُرُ
نَظِيرَهُ، حَتَّى غَنَّتْهُ آخِرَ مَا غَنَّتْهُ أَنْ قَالَتْ:
أَمَا وَرَبِّ السُّكُونِ وَالْحَرَكِ إِنَّ الْمَنَايَا كَثِيرَةُ الشَّرَكِ مَا
اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا
دَارَتْ نُجُومُ السَّمَاءِ فِي الْفَلَكِ إِلَّا لِنَقْلِ السُّلْطَانِ مِنْ
مَلِكٍ
غَاوٍ يُحِبُّ الدُّنْيَا إِلَى مَلِكِ وَمُلْكُ ذِي الْعَرْشِ دَائِمٌ أَبَدًا
لَيْسَ بِفَانٍ وَلَا بِمُشْتَرَكِ
قَالَ: فَسَبَّهَا وَأَقَامَهَا مِنْ حَضْرَتِهِ، فَعَثَرَتْ فِي قَدَحٍ كَانَ
لَهُ مِنْ بَلُّورٍ فَكَسَرَتْهُ، فَتَطَيَّرَ بِذَلِكَ. وَلَمَّا ذَهَبَتِ
الْجَارِيَةُ سَمِعَ صَارِخًا يَقُولُ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ
تَسْتَفْتِيَانِ [ يُوسُفَ: 41 ] فَقَالَ لِجَلِيسِهِ: وَيْحَكَ، أَلَا تَسْمَعُ ؟
فَتَسَمَّعَ فَلَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا، ثُمَّ عَادَ الصَّوْتُ بِذَلِكَ، فَمَا
كَانَ إِلَّا لَيْلَةٌ أَوْ لَيْلَتَانِ حَتَّى قُتِلَ فِي رَابِعِ صَفَرٍ يَوْمَ
الْأَحَدِ، وَقَدْ جَهِدَ فِي حَصْرِهِ ذَلِكَ، بِحَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ
طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ؛ فَجَاعَ لَيْلَةً فَمَا أُتِيَ بِرَغِيفٍ وَدَجَاجَةٍ
إِلَّا بَعْدَ كُلْفَةٍ كَبِيرَةٍ، ثُمَّ طَلَبَ مَاءً فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ،
فَبَاتَ عَطْشَانًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ قُتِلَ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبَ الْمَاءَ.
ذِكْرُ كَيْفِيَّةِ مَقْتَلِهِ
لَمَّا اشْتَدَّ بِهِ الْأَمْرُ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَالْخَدَمِ وَالْجُنْدِ، فَشَاوَرَهُمْ فِي أَمْرِهِ، فَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: تَذْهَبُ بِمَنْ بَقِيَ مَعَكَ إِلَى الْجَزِيرَةِ أَوِ الشَّامِ
فَتَتَقَوَّى بِالْأَمْوَالِ، وَتَسْتَخْدِمَ الرِّجَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ تَخْرُجُ إِلَى طَاهِرٍ وَتَأْخُذُ مِنْهُ أَمَانًا، وَتُبَايِعُ لِأَخِيكَ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَإِنَّ أَخَاكَ سَيَأْمُرُ لَكَ بِمَا يَكْفِيكَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَغَايَةُ مُرَادِكَ الدَّعَةُ وَالرَّاحَةُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ لَكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هَرْثَمَةُ أَوْلَى بِأَنْ يَأْخُذَ لَكَ الْأَمَانَ؛ فَإِنَّهُ مَوْلَاكُمْ أَحَنَى عَلَيْكُمْ. فَمَالَ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْأَحَدِ الرَّابِعِ مِنْ صَفَرٍ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ وَاعَدَ هَرْثَمَةَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ لَبِسَ ثِيَابَ الْخِلَافَةِ، وَطَيْلَسَانًا، وَاسْتَدْعَى بِوَلَدَيْهِ فَشَمَّهُمَا وَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: أَسْتُوْدِعُكُمَا اللَّهَ، وَمَسَحَ دُمُوعَهُ بِطَرَفِ كُمِّهِ، ثُمَّ رَكِبَ عَلَى فَرَسٍ سَوْدَاءَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ شَمْعَةٌ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى هَرْثَمَةَ أَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ، وَرَكِبَا فِي حَرَّاقَةٍ فِي دِجْلَةَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ طَاهِرًا، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: أَنَا الَّذِي فَعَلْتُ هَذَا كُلَّهُ وَيَذْهَبُ إِلَى غَيْرِي، وَيُنْسَبُ هَذَا كُلُّهُ إِلَى هَرْثَمَةَ ! فَلَحِقَهُمَا وَهُمَا فِي الْحَرَّاقَةِ، فَأَمَالَهَا أَصْحَابُهُ فَغَرِقَتْ فِي الْمَاءِ، فَغَرِقَ مَنْ فِيهَا، غَيْرَ أَنَّ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ سَبَحَ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ وَأَسَرَهُ بَعْضُ الْجُنْدِ، وَجَاءَ فَأَعْلَمَ طَاهِرًا بِذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جُنْدًا مِنَ الْعَجَمِ، فَجَاءُوا إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي قَدْ أَوَى إِلَيْهِ، وَعِنْدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: ادْنُ مِنِّي فَإِنِّي أَجِدُ وَحْشَةً شَدِيدَةً. وَجَعَلَ يَلْتَفُّ فِي ثِيَابِهِ شَدِيدًا، وَقَلْبُهُ يَخْفِقُ خَفَقَانًا عَظِيمًا، كَادَ يَخْرُجُ مِنْ صَدْرِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ دَنَا مِنْهُ أَحَدُهُمْ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: وَيْحَكُمُ، أَنَا ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَا ابْنُ هَارُونَ، أَنَا أَخُو الْمَأْمُونِ اللَّهَ اللَّهَ فِي دَمِي ! فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ تَكَاثَرُوا عَلَيْهِ وَذَبَحُوهُ مِنْ قَفَاهُ، وَذَهَبُوا بِرَأْسِهِ إِلَى طَاهِرٍ وَتَرَكُوا جُثَّتَهُ، ثُمَّ جَاءُوا
مِنْ
بَاكِرٍ إِلَيْهَا، فَلَفُّوهَا فِي جُلِّ فَرَسٍ، وَذَهَبُوا بِهَا، وَكَانَ
ذَلِكَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ.
وَهَذَا شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَةِ الْأَمِينِ
هُوَ مُحَمَّدٌ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْأَمِينُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ
مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَيُقَالُ:
أَبُو مُوسَى الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، وَأُمُّهُ أُمُّ
جَعْفَرٍ زُبَيْدَةُ بِنْتُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ.
كَانَ مَوْلِدُهُ بِالرُّصَافَةِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ. وَأَتَتْهُ
الْخِلَافَةُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ
جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَقُتِلَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ
لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، يَعْنِي سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَةٍ، قَتَلَهُ قُرَيْشٌ الدَّنْدَانِيُّ، وَحُمِلُ رَأْسُهُ إِلَى طَاهِرِ بْنِ
الْحُسَيْنِ فَنَصَبَهُ عَلَى رُمْحٍ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قُلِ اللَّهُمَّ
مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ
تَشَاءُ الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ: 26 ]. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ
وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ طَوِيلًا سَمِينًا أَبْيَضَ،
أَقْنَى الْأَنْفِ، صَغِيرَ الْعَيْنَيْنِ، عَظِيمَ الْكَرَادِيسِ، بَعِيدًا مَا
بَيْنَ
الْمَنْكِبَيْنِ،
وَقَدْ رَمَاهُ بَعْضُهُمْ بِكَثْرَةِ اللَّعِبِ وَالشُّرْبِ، وَقِلَّةِ
الصَّلَاةِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ طَرَفًا مِنْ سِيرَتِهِ فِي إِكْثَارِهِ
مِنِ اقْتِنَاءِ السُّودَانِ وَالْخِصْيَانِ، وَإِعْطَائِهِمُ الْأَمْوَالَ
وَالْجَوَاهِرَ، وَأَمْرِهِ بِإِحْضَارِ الْمَلَاهِي وَالْمُغَنِّينَ مِنْ سَائِرِ
الْبُلْدَانِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ بِعَمَلِ خَمْسِ حَرَّاقَاتٍ عَلَى صُورَةِ
الْفِيلِ، وَالْأَسَدِ، وَالْعُقَابِ، وَالْحَيَّةِ، وَالْفَرَسِ، وَأَنْفَقَ
عَلَى ذَلِكَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا، وَقَدِ امْتَدَحَهُ أَبُو نُوَاسٍ
بِشِعْرٍ أَقْبَحَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ صَنِيعِ الْأَمِينِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِهِ:
سَخَّرَ اللَّهُ لِلْأَمِينِ مَطَايَا لَمْ تُسَخَّرْ لِصَاحِبِ الْمِحْرَابِ
فَإِذَا مَا رِكَابُهُ سِرْنَ بَرًّا سَارَ فِي الْمَاءِ رَاكِبًا لَيْثَ غَابِ
ثُمَّ وَصَفَ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْحَرَّاقَاتِ.
وَاعْتَنَى الْأَمِينُ بِبِنَايَاتٍ هَائِلَةٍ لِلنُّزْهَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَأَنْفَقَ فِي ذَلِكَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جِدًّا، فَكَثُرَ النَّكِيرُ عَلَيْهِ
بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ جَلَسَ يَوْمًا فِي مَجْلِسٍ أَنْفَقَ عَلَيْهِ
مَالًا جَزِيلًا فِي الْخُلْدِ، وَقَدْ فُرِشَ لَهُ بِأَنْوَاعِ الْحَرِيرِ،
وَنُضِّدَ بِآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَحْضَرَ نُدَمَاءَهُ، وَأَمَرَ
الْقَهْرَمَانَةَ أَنْ تُهَيِّئَ لَهُ مِائَةَ جَارِيَةٍ حَسْنَاءَ، وَأَمَرَهَا
أَنْ تَبْعَثَهُنَّ إِلَيْهِ عَشْرًا بَعْدَ عَشْرٍ يُغَنِّينَهُ، فَلَمَّا
جَاءَتِ الْعَشْرُ الْأُوَلُ انْدَفَعْنَ يُغَنِّينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ:
هُمْ
قَتَلُوهُ كَيْ يَكُونُوا مَكَانَهُ كَمَا غَدَرَتْ يَوْمًا بِكِسْرَى مَرَازِبُهُ
فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَتَبَرَّمَ وَضَرَبَ رَأْسَهَا بِالْكَأْسِ، وَأَمَرَ
بِهَا أَنْ تُلْقَى إِلَى الْأَسَدِ، فَأَكَلَهَا، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِعَشْرٍ
فَانْدَفَعْنَ يُغَنِّينَ:
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ
نَهَارِ
يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ يَلْطِمْنَ قَبْلَ تَبَلُّجِ
الْأَسْحَارِ
فَطَرَدَهُنَّ، وَاسْتَدْعَى بِعَشْرٍ غَيْرِهِنَّ، فَلَمَّا حَضَرْنَ انْدَفَعْنَ
يُغَنِّينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ:
كُلَيْبٌ لَعَمْرِي كَانَ أَكْثَرَ نَاصِرًا وَأَيْسَرَ ذَنْبًا مِنْكَ ضُرِّجَ
بِالدَّمِ
فَطَرَدَهُنَّ وَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ، وَأَمَرَ بِتَخْرِيبِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ
وَتَحْرِيقِ مَا فِيهِ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْأَدَبِ، فَصِيحًا، يَقُولُ الشِّعْرَ
وَيُحِبُّهُ وَيُعْطِي عَلَيْهِ الْجَوَائِزَ الْكَثِيرَةَ، وَكَانَ شَاعِرُهُ
أَبَا نُوَاسٍ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو نُوَاسٍ مَدَائِحَ حِسَانًا جِدًّا،
وَقَدْ وَجَدَهُ مَسْجُونًا فِي حَبْسِ الرَّشِيدِ مَعَ الزَّنَادِقَةِ،
فَأَحْضَرَهُ، وَأَطْلَقُهُ، وَأَطْلَقَ لَهُ مَالًا، وَجَعَلَهُ مِنْ
نُدَمَائِهِ، ثُمَّ حَبَسَهُ مَرَّةً أُخْرَى فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَطَالَ
حَبْسَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ أَنْ لَا يَشْرَبَ
الْخَمْرَ، وَلَا يَأْتِي الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَامْتَثَلَ ذَلِكَ،
وَكَانَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَعْدَمَا اسْتَتَابَهُ الْأَمِينُ،
وَقَدْ تَأَدَّبَ عَلَى الْكِسَائِيِّ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ.
وَرَوَى
الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِهِ حَدِيثًا أَوْرَدَهُ عَنْهُ لَمَّا عُزِّيَ فِي غُلَامٍ
لَهُ تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
الْمَنْصُورِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:مَنْ
مَاتَ مُحْرِمًا حُشِرَ مُلَبِّيًا
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ
وَالْفُرْقَةِ حَتَّى أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى خَلْعِهِ وَعَزْلِهِ، ثُمَّ إِلَى
التَّضْيِيقِ عَلَيْهِ وَقَتْلِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَامَحَهُ، وَأَنَّهُ
حُصِرَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ حَتَّى احْتَاجَ إِلَى مُصَانَعَةِ هَرْثَمَةَ،
فَخَرَجَ إِلَيْهِ لِيَجْتَمِعَ بِهِ، فَأُلْقِيَ مِنَ الْحَرَّاقَةِ، فَسَبَحَ
إِلَى الشَّطِّ الْآخَرِ مِنْ دِجْلَةَ فَدَخَلَ دَارًا لِبَعْضِ الْعَامَّةِ،
وَهُوَ فِي غَايَةِ الْخَوْفِ وَالدَّهَشِ وَالْجُوعِ وَالْعُرْيِ وَالْقَلَقِ،
فَجَعَلَ الرَّجُلُ يُلَقِّنُهُ الصَّبْرَ وَالِاسْتِغْفَارَ فَاشْتَغَلَ بِذَلِكَ
سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ الطَّلَبُ وَرَاءَهُ مِنْ جِهَةِ طَاهِرِ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ الْبَابُ ضَيِّقًا
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ يَتَدَافَعُونَ، وَقَامَ إِلَيْهِمْ فَجَعَلَ يُدَافِعُهُمْ
عَنْ نَفْسِهِ بِمِخَدَّةٍ فِي يَدِهِ، فَمَا وَصَلُوا إِلَيْهِ حَتَّى
عَرْقَبُوهُ وَضَرَبُوا رَأْسَهُ وَخَاصِرَتَهُ بِالسُّيُوفِ، ثُمَّ ذَبَحُوهُ،
وَأَخَذُوا رَأْسَهُ وَجُثَّتَهُ فَأَتَوْا بِهِمَا طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ
فَفَرِحَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ بِنَصْبِ الرَّأْسِ فَوْقَ رُمْحٍ
هُنَاكَ، حَتَّى أَصْبَحَ النَّاسُ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَوْقَ الرُّمْحِ عِنْدَ
بَابِ الْأَنْبَارِ وَكَثُرَ عَدَدُ النَّاسِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ
طَاهِرٌ بِرَأْسِ الْأَمِينِ مَعَ ابْنِ عَمِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ،
وَبَعَثَ مَعَهُ بِالْبُرْدَةِ وَالْقَضِيبِ وَالْمُصَلَّى وَكَانَ مِنْ خُوصٍ
مُبَطَّنٍ
فَسَلَّمَهُ
إِلَى ذِي الرِّيَاسَتَيْنِ، فَدَخَلَ بِهِ عَلَى الْمَأْمُونِ عَلَى تُرْسٍ،
فَلَمَّا رَآهُ سَجَدَ وَأَمَرَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَقَدْ قَالَ ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ حِينَ قَدِمَ الرَّأْسُ، يُؤَلِّبُ عَلَى
طَاهِرٍ: أَمَرْنَاهُ بِأَنْ يَأْتِيَ بِهِ أَسِيرًا، فَأَرْسَلَ بِهِ عَقِيرًا.
فَقَالَ الْمَأْمُونُ: قَدْ مَضَى مَا مَضَى. وَكَتَبَ طَاهِرٌ إِلَى الْمَأْمُونِ
كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ صُورَةَ مَا وَقَعَ مِنَ الْقِتَالِ حَتَّى آلَ الْحَالُ
إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ.
وَلَمَّا قُتِلَ الْأَمِينُ هَدَأَتِ الْفِتَنُ، وَخَمَدَتِ الشُّرُورُ، وَأَمِنَ
النَّاسُ، وَطَابَتِ النُّفُوسُ، وَدَخَلَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ إِلَى
بَغْدَادَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ وَخَطَبَهُمْ
خُطْبَةً بَلِيغَةً، ذَكَرَ فِيهَا آيَاتٍ كَثِيرَةً مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ
اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَأَمَرَهُمْ فِيهَا
بِالْجَمَاعَةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ
فَأَقَامَ بِهِ، وَأَمَرَ بِتَحْوِيلِ زُبَيْدَةَ مِنْ قَصْرِ أَبِي جَعْفَرٍ
إِلَى قَصْرِ الْخُلْدِ، فَخَرَجَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَبَعَثَ بِمُوسَى وَعَبْدِ اللَّهِ
ابْنَيِ الْأَمِينِ إِلَى عَمِّهِمَا الْمَأْمُونِ بِخُرَاسَانَ، وَكَانَ ذَلِكَ
رَأْيًا سَدِيدًا.
وَقَدْ وَثَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْجُنْدِ بِطَاهِرٍ بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنْ
مَقْتَلِ الْأَمِينِ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَرْزَاقَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ
إِذْ ذَاكَ مَالٌ، فَتَحَزَّبُوا وَاجْتَمَعُوا، وَنَهَبُوا بَعْضَ مَتَاعِهِ
وَنَادَوْا: يَا مُوسَى، يَا مَنْصُورُ. وَاعْتَقَدُوا أَنَّ مُوسَى بْنَ
الْأَمِينِ الْمُلَقَّبَ بِالنَّاطِقِ بِالْحَقِّ هُنَاكَ، وَإِذَا هُوَ قَدْ
سَيَّرَهُ طَاهِرٌ إِلَى عَمِّهِ الْمَأْمُونِ وَانْحَازَ طَاهِرٌ بِمَنْ مَعَهُ
مِنَ الْقُوَّادِ نَاحِيَةً، وَعَزَمَ عَلَى قِتَالِهِمْ وَمُنَاجَزَتِهِمْ بِمَنْ
مَعَهُ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْهِ، وَاعْتَذَرُوا، وَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانُوا
فَعَلُوا، فَأَمَرَ لَهُمْ بِرِزْقِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ بِعِشْرِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ
اقْتَرَضَهَا
مِنْ بَعْضِ النَّاسِ، فَطَابَتِ الْخَوَاطِرُ، وَاتَّسَقَ الْحَالُ وَصَلَحَ
أَمْرُ بَغْدَادَ.
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ قَدْ أَسِفَ عَلَى قَتْلِ مُحَمَّدِ ابْنِ
زُبَيْدَةَ، وَرَثَاهُ بِأَبْيَاتٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَأْمُونَ فَبَعَثَ
إِلَيْهِ يُعَنِّفُهُ وَيَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ
مَرَاثِيَ كَثِيرَةً لِلنَّاسِ فِي الْأَمِينِ، وَذَكَرَ مِنْ أَشْعَارِ الَّذِينَ
هَجَوْهُ طَرَفًا، وَذَكَرَ مِنْ شِعْرِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ حِينَ قَتَلَهُ
قَوْلَهُ:
مَلَكْتَ النَّاسَ قَسْرًا وَاقْتِدَارًا وَقَتَلْتَ الْجَبَابِرَةَ الْكِبَارَا
وَوَجَّهْتَ الْخِلَافَةَ نَحْوَ مَرْوَ إِلَى الْمَأْمُونِ تَبْتَدِرُ
ابْتِدَارَا
خِلَافَةُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ
لَمَّا قُتِلَ أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ بِبَغْدَادَ فِي
رَابِعِ صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: فِي آخِرِ
الْمُحَرَّمِ اسْتَوْسَقَتِ الْبَيْعَةُ شَرْقًا وَغَرْبًا لِلْمَأْمُونِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الرَّشِيدِ، فَوَلَّى الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ نِيَابَةَ الْعِرَاقِ
وَفَارِسَ وَالْأَهْوَازِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ،
وَبَعَثَ نُوَّابَهُ إِلَى هَذِهِ الْأَقَالِيمِ، وَكَتَبَ إِلَى طَاهِرِ بْنِ
الْحُسَيْنِ وَهُوَ بِبَغْدَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى الرَّقَّةِ لِحَرْبِ نَصْرِ
بْنِ شَبَثٍ وَوَلَّاهُ نِيَابَةَ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ وَالْمَوْصِلِ
وَالْمَغْرِبِ. وَكَتَبَ إِلَى هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ بِنِيَابَةِ خُرَاسَانَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى
بْنِ مُوسَى
الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ. وَيَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ الْقَطَّانُ. فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ سَادَةُ الْعُلَمَاءِ فِي
زَمَانِهِمْ فِي الْحَدِيثِ وَأَسْمَاءِ الرِّجَالِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ بَغْدَادَ نَائِبًا عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ
الْمَأْمُونِ وَوَجَّهَ نُوَّابَهُ إِلَى بَقِيَّةِ أَعْمَالِهِ، وَتَوَجَّهَ
طَاهِرٌ إِلَى نِيَابَةِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ،
وَسَارَ هَرْثَمَةُ إِلَى نِيَابَةِ خُرَاسَانَ.
وَكَانَ قَدْ خَرَجَ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ
مِنْهَا الْحَسَنُ الْهِرْشُ يَدْعُو إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَبَى الْأَمْوَالَ، وَانْتَهَبَ الْأَنْعَامَ،
وَعَاثَ فِي الْبِلَادِ فَسَادًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ جَيْشًا، فَقَتَلُوهُ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ بِالْكُوفَةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، يَوْمَ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ،
يَدْعُو إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَالْعَمَلِ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ابْنُ طَبَاطَبَا. وَكَانَ الْقَائِمُ
بِأَمْرِهِ وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ بَيْنَ يَدَيْهِ أَبُو السَّرَايَا السَّرِيُّ
بْنُ مَنْصُورٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَقَدْ أَصْفَقَ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَلَى
وِفَاقِهِ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَوَفَدَتْ إِلَيْهِ
الْأَعْرَابُ مِنْ ضَوَاحِي الْكُوفَةِ وَكَانَ النَّائِبُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ
الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، فَبَعَثَ
الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ إِلَى سُلَيْمَانَ يَلُومُهُ وَيُؤَنِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ،
وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ
صُحْبَةَ زُهَيْرِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فَتَقَاتَلُوا خَارِجَ الْكُوفَةِ فَهَزَمُوا زُهَيْرًا وَاسْتَبَاحُوا جَيْشَهُ وَنَهَبُوا مَا كَانَ مَعَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءَ سَلْخَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنَ الْوَقْعَةِ تُوُفِّيَ ابْنُ طَبَاطَبَا أَمِيرُ الشِّيعَةِ فَجْأَةً يُقَالُ: إِنَّ أَبَا السَّرَايَا سَمَّهُ، وَأَقَامَ مَكَانَهُ غُلَامًا أَمْرَدَ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَانْعَزَلَ زُهَيْرٌ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى قَصْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ وَأَرْسَلَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ مَعَ عُبْدُوسِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ مَدَدًا لِزُهَيْرٍ فَاتَّقَعُوا وَأَبُو السَّرَايَا، فَهَزَمَهُمْ أَبُو السَّرَايَا وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْ أَصْحَابِ عُبْدُوسٍ أَحَدٌ وَانْتَشَرَ الطَّالِبِيُّونَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ وَضَرَبَ أَبُو السَّرَايَا الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي الْكُوفَةِ وَنَقَشَ عَلَيْهَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ الْآيَةَ [ الصَّفِّ: 4 ]، ثُمَّ بَعَثَ أَبُو السَّرَايَا جُيُوشَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَوَاسِطٍ وَالْمَدَائِنِ، فَهَزَمُوا مَنْ فِيهَا وَدَخَلُوهَا قَهْرًا، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ فَاهْتَمَّ لِذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ وَكَتَبَ إِلَى هَرْثَمَةَ مِنْ خُرَاسَانَ يَسْتَدْعِيهِ لِحَرْبِ أَبِي السَّرَايَا، فَتَمَنَّعَ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَى أَبِي السَّرَايَا، فَهَزَمَ أَبَا السَّرَايَا غَيْرَ مَرَّةٍ وَطَرَدَهُ حَتَّى رَدَّهُ إِلَى الْكُوفَةِ وَوَثَبَ الطَّالِبِيُّونَ عَلَى دَورِ بَنِي الْعَبَّاسِ بِالْكُوفَةِ فَنَهَبُوهَا، وَخَرَّبُوا ضِيَاعَهُمْ، وَفَعَلُوا فِعَالًا قَبِيحَةً وَبَعَثَ أَبُو السَّرَايَا إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَبَعَثَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ حُسَيْنَ بْنَ حَسَنٍ الْأَفْطَسِ
بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، لِيُقِيمَ
لَهُمُ الْمَوْسِمَ، فَتَهَيَّبَ أَنْ يَدْخُلَهَا جَهْرَةً، وَلَمَّا سَمِعَ
نَائِبُ مَكَّةَ وَهُوَ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بِقُدُومِهِ هَرَبَ مِنْ مَكَّةَ
طَالِبًا أَرْضَ الْعِرَاقِ، وَبَقِيَ النَّاسُ بِلَا إِمَامٍ، فَسُئِلَ
مُؤَذِّنُهَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ أَنْ
يُصَلِّيَ بِهِمْ فَأَبَى، فَقِيلَ لِقَاضِيهَا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْمَخْزُومِيِّ فَامْتَنَعَ، وَقَالَ: لِمَنْ أَدْعُو وَقَدْ هَرَبَ نُوَّابُ
الْبِلَادِ. فَقَدَّمَ النَّاسُ رَجُلًا مِنْ عُرْضِهِمْ، فَصَلَّى بِهِمُ
الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى حُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ
الْأَفْطَسِ، فَدَخَلَ مَكَّةَ فِي عَشَرَةِ رَهْطٍ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَطَافَ
بِالْبَيْتِ، ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا وَصَلَّى بِالنَّاسِ الْفَجْرَ
بِمُزْدَلِفَةَ وَدَفَعَ بِهِمْ، وَأَقَامَ بَقِيَّةَ الْمَنَاسِكِ فِي أَيَّامِ
مِنًى لِلنَّاسِ، فَدَفَعَ النَّاسُ مِنْ عَرَفَةَ بِغَيْرِ إِمَامٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَابْنُ شَابُورَ، وَعَمْرٌو
الْعَنْقَزِيُّ، وَأَبُو مُطِيعٍ الْبَلْخِيُّ، وَيُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ مِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ جَلَسَ حُسَيْنُ بْنُ حَسَنٍ
الْأَفْطَسُ عَلَى طِنْفِسَةٍ مُثَلَّثَةٍ خَلْفَ الْمَقَامِ، وَأَمَرَ
بِتَجْرِيدِ الْكَعْبَةِ مِمَّا عَلَيْهَا مِنْ كَسَاوِي بَنِي الْعَبَّاسِ،
وَقَالَ: نُطَهِّرُهَا مِنْ كَسَاوِيهِمْ. وَكَسَاهَا مُلَاءَتَيْنِ صَفْرَاوَيْنِ
عَلَيْهِمَا اسْمُ أَبِي السَّرَايَا، ثُمَّ أَخَذَ مَا فِي كَنْزِ الْكَعْبَةِ
مِنَ الْأَمْوَالِ، وَتَتَبَّعَ وَدَائِعَ بَنِي الْعَبَّاسِ فَأَخَذَهَا، حَتَّى
إِنَّهُ لَيَأْخُذُ مَالَ ذِي الْمَالِ، وَيُلْزِمُهُ بِإِقْرَارٍ لِلْمُسَوِّدَةِ
فَيَأْخُذُهُ.
وَهَرَبَ مِنْهُ النَّاسُ إِلَى الْجِبَالِ وَحَكَّ مَا عَلَى رُءُوسِ
الْأَسَاطِينِ مِنَ الذَّهَبِ، فَكَانَ يَنْزِلُ مِنَ السَّارِيَةِ مِقْدَارٌ
يَسِيرٌ بَعْدَ جُهْدٍ جَهِيدٍ، وَقَلَعُوا مَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ
الشَّبَابِيكِ، وَبَاعُوهَا بِالْأَثْمَانِ الْبَخْسَةِ، وَأَسَاءُوا السِّيرَةَ
جِدًّا. فَلَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ أَبِي السَّرَايَا كَتَمَ ذَلِكَ، وَأَمَّرَ
رَجُلًا مِنَ الطَّالِبِيِّينَ شَيْخًا كَبِيرًا، وَاسْتَمَرَّ عَلَى سُوءِ
السِّيرَةِ.
وَفِي سَادِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، قَهَرَ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ
أَبَا السَّرَايَا وَهَزَمَ جَيْشَهُ،
وَأَخْرَجَهُ
وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الطَّالِبِيِّينَ مِنَ الْكُوفَةِ وَدَخَلَهَا هَرْثَمَةُ،
وَمَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ فَأَمَّنُوا أَهْلَهَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا
لِأَحَدٍ، وَسَارَ أَبُو السَّرَايَا بِمَنْ مَعَهُ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ ثُمَّ
سَارَ مِنْهَا فَاعْتَرَضَهُمْ بَعْضُ جُيُوشِ الْمَأْمُونِ فَهَزَمُوهُمْ
أَيْضًا، وَجُرِحَ أَبُو السَّرَايَا جِرَاحَةً مُنْكَرَةً جِدًّا، وَهَرَبُوا
يُرِيدُونَ الْجَزِيرَةَ إِلَى مَنْزِلِ أَبِي السَّرَايَا بِرَأْسِ الْعَيْنِ،
فَاعْتَرَضَهُمْ بَعْضُ الْجُيُوشِ أَيْضًا فَأَسَرُوهُمْ، وَأَتَوْا بِهِمُ
الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ وَهُوَ بِالنَّهْرَوَانِ حِينَ طَرَدَتْهُ الْحَرْبِيَّةُ،
فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِ أَبِي السَّرَايَا، فَجَزِعَ مِنْ ذَلِكَ جَزَعًا
شَدِيدًا جِدًّا، وَطِيفَ بِرَأْسِهِ، وَأَمَرَ بِجَسَدِهِ أَنْ يُقَطَّعَ
بِاثْنَيْنِ، فَيُنْصَبَ عَلَى جِسْرِ بَغْدَادَ فَكَانَ بَيْنَ خُرُوجِهِ
وَقَتْلِهِ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، فَبَعَثَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ مُحَمَّدَ بْنَ
مُحَمَّدٍ إِلَى الْمَأْمُونِ مَعَ رَأْسِ أَبِي السَّرَايَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ:
أَلَمْ تَرَ ضَرْبَةَ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ بِسَيْفِكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَا أَدَارَتْ مَرْوَ رَأْسَ أَبِي السَّرَايَا
وَأَبْقَتْ عِبْرَةً لِلْعَابِرِينَا
وَكَانَ الَّذِي فِي يَدِهِ الْبَصْرَةُ مِنَ الطَّالِبِيِّينَ زَيْدُ بْنُ مُوسَى
بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ،
وَيُقَالُ لَهُ: زَيْدُ النَّارِ. لِكَثْرَةِ مَا حَرَّقَ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي
لِلْمُسَوِّدَةِ، فَأَسَرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَمَّنَهُ، وَبَعَثَ
بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْقُوَّادِ إِلَى الْيَمَنِ، لِقِتَالِ مَنْ هُنَاكَ
مِنْ الطَّالِبِيِّينَ الَّذِينَ قَدْ خَرَجُوا بِهَا.
وَفِيهَا
خَرَجَ بِالْيَمَنِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَيُقَالُ لَهُ: الْجَزَّارُ. لِكَثْرَةِ
مَنْ قَتَلَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَقَدْ كَانَ
مُقِيمًا بِمَكَّةَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ أَبِي السَّرَايَا، وَظُهُورُهُ
بِأَرْضِ الْكُوفَةِ طَمِعَ فَسَافَرَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، فَلَمَّا بَلَغَ
نَائِبَهَا قُدُومُهُ تَرَكَ لَهُ الْيَمَنَ وَسَارَ إِلَى خُرَاسَانَ إِلَى
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاجْتَازَ بِمَكَّةَ، وَأَخَذَ أَمَّهُ مِنْهَا،
وَاسْتَحْوَذَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى عَلَى بِلَادِ الْيَمَنِ، وَجَرَتْ
حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ وَخُطُوبٌ كَبِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَرَجَعَ مُحَمَّدُ
بْنُ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيُّ الَّذِي ادَّعَى الْخِلَافَةَ بِمَكَّةَ عَمَّا كَانَ
يَزْعُمُهُ، وَقَالَ: كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْمَأْمُونَ قَدْ مَاتَ كَمَا سَمِعَ
ذَلِكَ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ حَيَاتُهُ، وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ
إِلَيْهِ مِمَّا كُنْتُ ادَّعَيْتُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ رَجَعْتُ إِلَى
بَيْعَتِهِ، وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْ عُرْضِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَزَمَ أَبُو السَّرَايَا وَأَصْحَابُهُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الَّذِي
تَأَمَّرَ بِالْكُوفَةِ وَادَّعَى الْخِلَافَةَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُمَا عَلَى
يَدِ هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ فَوَشَى بَعْضُ النَّاسِ إِلَى الْمَأْمُونِ أَنَّ
هَرْثَمَةَ لَوْ شَاءَ مَا ظَهَرَ أَبُو السَّرَايَا وَأَصْحَابُهُ، فَاسْتَدْعَى
بِهِ إِلَى مَرْوَ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَوُطِئَ بَطْنُهُ،
ثُمَّ رُفِعَ إِلَى الْحَبْسِ، ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، وَانْطَوَى
خَبَرُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمَّا وَصَلَ خَبَرُ قَتْلِهِ إِلَى بَغْدَادَ
سَعَتِ الْعَامَّةُ وَالْحَرْبِيَّةُ بِالْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ نَائِبِ الْعِرَاقِ
وَغَيْرِهَا، وَقَالُوا: لَا نَرْضَى بِهِ، وَلَا بِعُمَّالِهِ بِبِلَادِنَا.
وَأَقَامُوا إِسْحَاقَ بْنَ مُوسَى بْنِ الْمَهْدِيِّ نَائِبًا، فَاجْتَمَعَ
أَهْلُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى ذَلِكَ،
وَالْتَفَّتْ
عَلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ وَالْأَجْنَادِ،
وَرَاسَلَ مَنْ وَافَقَ الْعَامَّةَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْقُوَّادِ يُحَرِّضُهُمْ
عَلَى الْقِتَالِ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ
يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا مِنْ أَرْزَاقِهِمْ يُنْفِقُونَهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ،
فَمَا زَالَ يَمْطُلُهُمْ إِلَى ذِي الْقَعْدَةِ حَتَّى يُدْرِكَ الزَّرْعَ،
فَخَرَجَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ زَيْدُ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ الَّذِي يُقَالُ
لَهُ: زَيْدُ النَّارِ، وَقَدْ كَانَ خُرُوجُهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ بِنَاحِيَةِ
الْأَنْبَارِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ هِشَامٍ نَائِبُ بَغْدَادَ عَنِ
الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ وَالْحَسَنُ بِالْمَدَائِنِ إِذْ ذَاكَ فَأُخِذَ وَأُتِيَ
بِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ هِشَامٍ، وَأَطْفَأَ اللَّهُ نَائِرَتَهُ.
وَبَعَثَ الْمَأْمُونُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَطْلُبُ جَمَاعَةً مِنَ
الْعَبَّاسِيِّينَ، وَأَحْصَى كَمِ الْعَبَّاسِيُّونَ ؟ فَبَلَغُوا ثَلَاثَةً
وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، مَا بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى.
وَفِيهَا قَتَلَتِ الرُّومُ مَلِكَهُمْ إِلْيُونَ، وَقَدْ مَلَكَهُمْ سَبْعَ
سِنِينَ، وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ مِيخَائِيلَ نَائِبَهُ. وَفِيهَا قَتَلَ
الْمَأْمُونُ يَحْيَى بْنَ عَامِرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ
لِلْمَأْمُونِ: يَا أَمِيرَ الْكَافِرِينَ فَقُتِلَ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو إِسْحَاقَ مُحَمَّدٌ الْمُعْتَصِمُ بْنُ هَارُونَ
الرَّشِيدِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو ضَمْرَةَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ وَسَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، وَمُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ، وَمُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا رَاوَدَ أَهْلُ بَغْدَادَ مَنْصُورَ بْنَ الْمَهْدِيِّ عَلَى الْخِلَافَةِ
فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَرَاوَدُوهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَائِبًا
لِلْمَأْمُونِ، يَدْعُو لَهُ فِي الْخُطْبَةِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ،
وَذَلِكَ بَعْدَ إِخْرَاجِ أَهْلِ بَغْدَادَ عَلِيَّ بْنَ هِشَامٍ نَائِبَ
الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ بَعْدَ أَنْ جَرَتْ حُرُوبٌ
كَثِيرَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا عَمَّ الْبَلَاءُ بِالْعَيَّارِينَ وَالشُّطَّارِ وَالْفُسَّاقِ
بِبَغْدَادَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى، كَانُوا يَأْتُونَ الرَّجُلَ
يَسْأَلُونَهُ مَالًا يُقْرِضُهُمْ أَوْ يَصِلُهُمْ بِهِ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ
فَيَأْخُذُونَ جَمِيعَ مَا فِي مَنْزِلِهِ، وَرُبَّمَا تَعَرَّضُوا لِلْغِلْمَانِ
وَالنِّسْوَانِ، وَيَأْتُونَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ فَيَسْتَاقُونَ مَا فِيهَا مِنَ
الْأَنْعَامِ، وَيَأْخُذُونَ مَا شَاءُوا مِنَ الْغِلْمَانِ وَالنِّسْوَانِ
وَنَهَبُوا أَهْلَ قُطْرَبُّلَ وَلَمْ يَدَعُوا لَهُمْ شَيْئًا أَصْلًا،
فَانْتَدَبَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: خَالِدٌ الدَّرْيُوشُ. وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ:
سَهْلُ بْنُ سَلَامَةَ أَبُو حَاتِمٍ الْأَنْصَارِيُّ مِنْ أَهْلِ
خُرَاسَانَ
وَالْتَفَّ عَلَيْهِمَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَامَّةِ، فَرَدُّوا شَرَّهُمْ
وَقَاتَلُوهُمْ، وَقَوُوا عَلَيْهِمْ، وَمَنَعُوهُمْ مِنَ الْعَيْثِ فِي الْأَرْضِ
فَسَادًا، وَاسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ كَمَا كَانَتْ، وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ
وَرَمَضَانَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا رَجَعَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ إِلَى
بَغْدَادَ وَصَالَحَ الْجُنْدَ، وَانْفَصَلَ مَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ وَمَنِ
الْتَفَّ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ.
وَفِيهَا بَايَعَ الْمَأْمُونُ لَعَلِيٍّ الرِّضَا بْنِ مُوسَى الْكَاظِمِ بْنِ
جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ الشَّهِيدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ،
وَسَمَّاهُ الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَطَرَحَ لُبْسَ السَّوَادِ وَلَبِسَ الْخُضْرَةِ، وَأَلْزَمَ جُنْدَهُ بِذَلِكَ،
وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْآفَاقِ وَالْأَقَالِيمِ. وَكَانَتْ مُبَايَعَتُهُ لَهُ
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ
إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُونَ رَأَى أَنَّ عَلِيًّا
الرِّضَا خَيْرُ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَلَيْسَ فِي بَنِي الْعَبَّاسِ مِثْلُهُ فِي
عِلْمِهِ وَدِينِهِ، فَجَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
ذِكْرُ
بَيْعَةِ أَهْلِ بَغْدَادَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ
لَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَادَ أَنَّ الْمَأْمُونَ بَايَعَ لِعَلِيِّ
بْنِ مُوسَى بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛
فَمِنْ مُجِيبٍ مُبَايِعٍ، وَمِنْ آبٍ مَانِعٍ، وَجُمْهُورُ الْعَبَّاسِيِّينَ
عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَكَانَ الْبَاعِثَ لَهُمْ وَالْقَائِمَ فِي ذَلِكَ
إِبْرَاهِيمُ وَمَنْصُورٌ ابْنَا الْمَهْدِيِّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الثُّلَاثَاءِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، أَظْهَرَ الْعَبَّاسِيُّونَ
الْبَيْعَةَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ وَلَقَّبُوهُ الْمُبَارَكَ وَكَانَ
أَسْوَدَ اللَّوْنِ وَمِنْ بَعْدِهِ لِابْنِ أَخِيهِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ
الْمَهْدِيِّ، وَخَلَعُوا الْمَأْمُونَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ
لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، أَرَادُوا أَنْ يَدْعُوا
لِلْمَأْمُونِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَتِ الْعَامَّةُ: لَا
نَرْضَى إِلَّا بِإِبْرَاهِيمَ فَقَطْ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ وَاضْطَرَبُوا فِيمَا
بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يُصَلُّوا الْجُمُعَةَ وَصَلَّى النَّاسُ فُرَادَى أَرْبَعَ
رَكَعَاتٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ افْتَتَحَ نَائِبُ طَبَرَسْتَانَ جِبَالَهَا وَبِلَادَ
اللَّارِزِ وَالشَّيْزَرِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ سَلْمًا الْخَاسِرَ قَالَ
فِي ذَلِكَ شِعْرًا. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ
وَغَيْرُهُ أَنَّ سَلْمًا تُوُفِّيَ قَبْلَ ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَصَابَ أَهْلَ خُرَاسَانَ وَالرَّيَّ وَأَصْبَهَانَ
مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ، وَعَزَّ الطَّعَامُ جِدًّا. وَفِيهَا تَحَرَّكَ بَابَكُ
الْخُرَّمِيُّ وَاتَّبَعَهُ طَوَائِفُ مِنَ السِّفْلَةِ وَالْجَهَلَةِ، وَكَانَ
يَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَسَيَأْتِي مَا آلَ أَمْرُهُ
إِلَيْهِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو أُسَامَةَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ،
وَحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
صَاحِبُ أَبِي السَّرَايَا الَّذِي كَانَ قَدْ بَايَعَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ بَعْدَ
ابْنِ طَبَاطَبَا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ
فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهَا بُويِعَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ
بِالْخِلَافَةِ بِبَغْدَادَ، وَخَلْعِ الْمَأْمُونِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ خَامِسُ الْمُحَرَّمِ صَعِدَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ
الْمِنْبَرَ فَبَايَعَهُ النَّاسُ وَلُقِّبَ بِالْمُبَارَكِ، وَغَلَبَ عَلَى
الْكُوفَةِ وَأَرْضِ السَّوَادِ وَطَلَبَ مِنْهُ الْجُنْدُ أَرْزَاقَهُمْ
فَمَاطَلَهُمْ ثُمَّ أَعْطَاهُمْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ، وَكَتَبَ
لَهُمْ بِتَعْوِيضٍ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ فَخَرَجُوا لَا يَمُرُّونَ بِشَيْءٍ
إِلَّا انْتَهَبُوهُ، وَأَخَذُوا حَاصِلَ الْفَلَّاحِ وَالسُّلْطَانِ،
وَاسْتَنَابَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ الْعَبَّاسَ بْنَ مُوسَى
الْهَادِي، وَعَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِسْحَاقَ بْنَ مُوسَى الْهَادِي.
وَفِيهَا خَرَجَ خَارِجِيٌّ يُقَالُ لَهُ مَهْدِيُّ بْنُ عُلْوَانَ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ جَيْشًا عَلَيْهِمْ أَبُو إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمُ بْنُ
الرَّشِيدِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْقُوَّادِ فَكَسَرَهُ وَرَدَّ كَيْدَهُ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ أَخُو أَبِي السَّرَايَا بِالْكُوفَةِ فَبَيَّضَ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ مَنْ قَاتَلَهُ، فَقُتِلَ
أَخُو أَبِي السَّرَايَا وَأُرْسِلَ بِرَأْسِهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ. وَلَمَّا
كَانَ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
ظَهَرَتْ فِي السَّمَاءِ حُمْرَةٌ،
ثُمَّ
ذَهَبَتْ وَبَقِيَ بَعْدَهَا عَمُودَانِ أَحْمَرَانِ فِي السَّمَاءِ إِلَى آخِرِ
اللَّيْلِ. وَجَرَتْ بِالْكُوفَةِ حُرُوبٌ بَيْنَ أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ
وَأَصْحَابِ الْمَأْمُونِ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَعَلَى أَصْحَابِ
إِبْرَاهِيمَ السَّوَادُ وَعَلَى أَصْحَابِ الْمَأْمُونِ الْخُضْرَةُ وَاسْتَمَرَّ
الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ إِلَى أَوَاخِرِ رَجَبٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَفِرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بِسَهْلِ بْنِ
سَلَامَةَ الْمُطَّوِّعِيِّ فَسَجَنَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْتَفَّ عَلَيْهِ
جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ يَقُومُونَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ
الْمُنْكَرِ، وَلَكِنْ كَانُوا قَدْ جَاوَزُوا الْحَدَّ وَأَنْكَرُوا عَلَى
السُّلْطَانِ، وَدَعَوْا إِلَى الْقِيَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَصَارَ
بَابُ دَارِهِ كَأَنَّهُ بَابُ سُلْطَانٍ عَلَيْهِ السِّلَاحُ وَالرِّجَالُ وَغَيْرُ
ذَلِكَ مِنْ أُبَّهَةِ الْمُلْكِ، فَقَاتَلَهُ الْجُنْدُ فَكَسَرُوا أَصْحَابَهُ،
فَأَلْقَى السِّلَاحَ وَصَارَ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالنَّظَّارَةِ، ثُمَّ اخْتَفَى
فِي بَعْضِ الدُّرُوبِ فَأُخِذَ وَجِيءَ بِهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَسَجَنَهُ
سَنَةً كَامِلَةً.
وَفِيهَا أَقْبَلَ الْمَأْمُونُ مِنْ خُرَاسَانَ قَاصِدًا الْعِرَاقَ، وَذَلِكَ
أَنَّ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيَّ أَخْبَرَ الْمَأْمُونَ
بِمَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْفِتَنِ وَالِاخْتِلَافِ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ،
وَبِأَنَّ الْهَاشِمِيِّينَ قَدْ أَنْهَوْا إِلَى النَّاسِ بِأَنَّ الْمَأْمُونَ
مَسْحُورٌ وَمَجْنُونٌ، وَأَنَّهُمْ قَدْ يَنْقِمُونَ عَلَيْكَ بِبَيْعَتِكَ
لِعَلِيِّ بْنِ مُوسَى، وَأَنَّ الْحَرْبَ قَائِمَةٌ بَيْنَ الْحَسَنِ بْنِ
سَهْلٍ
وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ فَاسْتَدْعَى الْمَأْمُونُ بِجَمَاعَةٍ
مِنْ أُمَرَائِهِ، وَأَقْرِبَائِهِ، فَسَأَلَهُمْ عَمَّا أَخْبَرَهُ بِهِ عَلَيٌّ
الرِّضَا فَصَدَقُوهُ الْأَمْرَ، بَعْدَ أَخْذِهِمُ الْأَمَانَ مِنْهُ، وَقَالُوا
لَهُ: إِنَّ الْفَضْلَ بْنَ سَهْلٍ حَسَّنَ لَكَ قَتْلَ هَرْثَمَةَ، وَقَدْ كَانَ
نَاصِحًا لَكَ، فَعَاجَلَهُ فَقَتَلَهُ، وَإِنَّ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ مَهَّدَ
لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى قَادَ لَكَ الْخِلَافَةَ بِزِمَامِهَا فَطَرَدْتَهُ إِلَى
الرَّقَّةِ فَقَعَدَ لَا عَمَلَ لَهُ وَلَا تَسْتَنْهِضُهُ فِي أَمْرٍ، وَإِنَّ
الْأَرْضَ تَفَتَّقَتْ بِالشُّرُورِ وَالْفِتَنِ مِنْ أَقْطَارِهَا. فَلَمَّا
تَحَقَّقَ ذَلِكَ الْمَأْمُونُ أَمَرَ بِالرَّحِيلِ إِلَى بَغْدَادَ وَقَدْ فَطِنَ
الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ بِمَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ النَّاصِحُونَ
لِلْمَأْمُونِ، فَضَرَبَ قَوْمًا وَنَتَفَ لِحَى بَعْضِهِمْ.
وَسَارَ الْمَأْمُونُ فَلَمَّا كَانَ بِسَرْخَسَ عَدَا قَوْمٌ عَلَى الْفَضْلِ
بْنِ سَهْلٍ وَزِيرِ الْمَأْمُونِ وَهُوَ فِي الْحَمَّامِ فَقَتَلُوهُ
بِالسُّيُوفِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ
شَعْبَانَ، وَلَهُ سِتُّونَ سَنَةً. فَبَعَثَ الْمَأْمُونُ فِي آثَارِهِمْ فَجِيءَ
بِهِمْ؛ وَهُمْ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَمَالِيكِ فَقَتَلَهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى
أَخِيهِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ يُعَزِّيهِ فِيهِ، وَوَلَّاهُ الْوَزَارَةَ
مَكَانَهُ. وَارْتَحَلَ الْمَأْمُونُ مِنْ سَرْخَسَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ نَحْوَ
الْعِرَاقِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بِالْمَدَائِنِ، وَفِي
مُقَابَلَتِهِ جَيْشٌ يُقَاتِلُونَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُونِ.
وَفِي
هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ الْمَأْمُونُ بُورَانَ بِنْتَ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ،
وَزَوَّجَ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا بِابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبٍ، وَزَوَّجَ
ابْنَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ بِابْنَتِهِ الْأُخْرَى
أُمِّ الْفَضْلِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ
أَخُو عَلِيٍّ الرِّضَا وَدَعَا لِأَخِيهِ بَعْدَ الْمَأْمُونِ ثُمَّ انْصَرَفَ
بَعْدَ الْحَجِّ إِلَى الْيَمَنِ، وَقَدْ كَانَ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا حَمْدَوَيْهِ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ مَاهَانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَضَمْرَةُ، وَعُمَرُ بْنُ حَبِيبٍ، وَالْفَضْلُ بْنُ
سَهْلٍ الْوَزِيرُ، وَأَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَصَلَ الْمَأْمُونُ فِي سَيْرِهِ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الْعِرَاقِ إِلَى
مَدِينَةِ طُوسَ فَنَزَلَ بِهَا وَأَقَامَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِيهِ أَيَّامًا مِنْ
شَهْرِ صَفَرٍ فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ أَكَلَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى
الرِّضَا عِنَبًا فَمَاتَ فَجْأَةً، فَصَلَّى عَلَيْهِ الْمَأْمُونُ وَدَفَنَهُ
إِلَى جَانِبِ أَبِيهِ الرَّشِيدِ، وَأَسِفَ عَلَيْهِ أَسَفًا كَثِيرًا فِيمَا ظَهَرَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَتَبَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ يُعَزِّيهِ فِي عَلِيٍّ الرِّضَا
وَيُخْبِرُهُ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْحُزْنِ عَلَيْهِ، وَكَتَبَ إِلَى بَنِي
الْعَبَّاسِ بِبَغْدَادَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ إِنَّمَا نَقِمْتُمْ عَلَيَّ
بِسَبَبِ تَوْلِيَتِي الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِي لِعَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا
وَهَاهُوَ قَدْ مَاتَ فَارْجِعُوا إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. فَأَجَابُوهُ
بِأَغْلَظِ جَوَابٍ كُتِبَ بِهِ إِلَى أَحَدٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَلَبَتِ السَّوْدَاءُ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ حَتَّى
قُيِّدَ فِي الْحَدِيدِ وَأُودِعَ فِي بَيْتٍ، فَكَتَبَ الْأُمَرَاءُ بِذَلِكَ
إِلَى الْمَأْمُونِ فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ: إِنِّي وَاصِلٌ عَلَى إِثْرِ كِتَابِي
هَذَا، ثُمَّ جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَأَهْلِ بَغْدَادَ
وَتَنَكَّرُوا عَلَيْهِ وَأَبْغَضُوهُ. وَظَهَرَتِ الْفِتَنُ وَالشُّطَّارُ
وَالْفُسَّاقُ بِبَغْدَادَ وَتَفَاقَمَ الْحَالُ وَصَلَّوْا يَوْمَ الْجُمُعَةِ
ظُهْرًا، أَمَّهُمُ الْمُؤَذِّنُ مِنْ غَيْرِ خُطْبَةٍ؛ صَلَّوْا أَرْبَعَ
رَكَعَاتٍ،
وَاشْتَدَّ
الْأَمْرُ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَالْمَأْمُونِ، ثُمَّ غَلَبَتِ الْمَأْمُونِيَّةُ عَلَيْهِمْ.
ذِكْرُ خَلْعِ أَهْلِ بَغْدَادَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ وَدُعَائِهِمْ
لِلْمَأْمُونِ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ دَعَا النَّاسُ لِلْمَأْمُونِ
وَخَلَعُوا إِبْرَاهِيمَ، وَأَقْبَلَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ فِي جَيْشٍ
مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُونِ فَحَاصَرَ بَغْدَادَ وَطَمِعَ جُنْدُهَا فِي الْعَطَاءِ،
فَطَاوَعُوهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلْمَأْمُونِ. وَقَدْ قَاتَلَ عِيسَى
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ جِهَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
الْمَهْدِيِّ ثُمَّ احْتَالَ عِيسَى حَتَّى صَارَ فِي أَيْدِي الْمَأْمُونِيَّةَ
أَسِيرًا، ثُمَّ آلَ الْحَالُ إِلَى أَنِ اخْتَفَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ
فِي آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَتْ أَيَّامُهُ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا
وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَدْ وَصَلَ الْمَأْمُونُ فِي هَذَا الْوَقْتِ إِلَى
هَمَذَانَ وَجُيُوشُهُ قَدِ اسْتَعَادُوا بَغْدَادَ إِلَى طَاعَتِهِ. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَلِيُّ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ الْعَلَوِيُّ،
الْمُلَقَّبُ بِالرِّضَا، كَانَ الْمَأْمُونُ قَدْ هَمَّ أَنْ يَنْزِلَ لَهُ عَنِ
الْخِلَافَةِ فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَجَعَلَهُ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِهِ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ فَتُوُفِّيَّ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
بِطُوسَ. وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ. وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ
مِنْهُمُ الْمَأْمُونُ وَأَبُو الصَّلْتِ الْهَرَوِيُّ، وَأَبُو عُثْمَانَ
الْمَازِنِيُّ النَّحْوِيُّ، وَقَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ
أَنْ يُكَلِّفَ الْعِبَادَ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَهُمْ أَعْجَزُ مِنْ أَنْ
يَفْعَلُوا مَا يُرِيدُونَ. وَمِنْ شِعْرِهِ:
كُلُّنَا يَأْمَلُ مَدًّا فِي الْأَجَلْ وَالْمَنَايَا هُنَّ آفَاتُ الْأَمَلْ لَا
تَغُرَّنَكَ أَبَاطِيلُ الْمُنَى
وَالْزَمِ الْقَصْدَ وَدَعْ عَنْكَ الْعِلَلْ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلٍّ زَائِلٍ
حَلَّ فِيهِ رَاكِبٌ ثُمَّ ارْتَحَلْ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَ قُدُومُ الْمَأْمُونِ أَرْضَ الْعِرَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَرَّ
بِجُرْجَانَ فَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا، وَكَانَ يَنْزِلُ فِي
الْمَنْزِلِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّهْرَوانِ فَأَقَامَ
بِهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَقَدْ كَانَ كَتَبَ إِلَى طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ
وَهُوَ بِالرَّقَّةِ أَنْ يُوَافِيَهُ إِلَى النَّهْرَوانِ فَوَافَاهُ بِهَا
وَتَلَقَّاهُ رُءُوسُ أَهْلِ بَيْتِهِ وَالْقُوَّادُ، وَجُمْهُورُ الْجَيْشِ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ الْآخَرِ دَخَلَ بَغْدَادَ ارْتِفَاعَ
النَّهَارِ، لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ صَفَرٍ، فِي أُبَّهَةٍ
عَظِيمَةٍ وَجَيْشٍ عَظِيمٍ، وَعَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ
وَقُبَابِهِمْ وَجَمِيعِ لِبَاسِهِمُ الْخُضْرَةَ فَلَبِسَ أَهْلُ بَغْدَادَ
وَبَنُو هَاشِمٍ أَجْمَعُونَ الْخُضْرَةَ، وَنَزَلَ الْمَأْمُونُ بِالرُّصَافَةِ
ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى قَصْرِهِ عَلَى دِجْلَةَ، وَجَعَلَ الْأُمَرَاءُ، وَوُجُوهُ
الدَّوْلَةِ يَتَرَدَّدُونَ إِلَى دَارِهِ عَلَى الْعَادَةِ، وَقَدْ تَحَوَّلَ
لِبَاسُ الْبَغَادِدَةِ إِلَى الْخُضْرَةِ، وَجَعَلُوا يَحْرِقُونَ كُلَّ مَا
يَجِدُونَهُ مِنَ السَّوَادِ فَمَكَثُوا بِذَلِكَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ. ثُمَّ
اسْتَعْرَضَ حَوَائِجَ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ فَكَانَ أَوَّلَ حَاجَةٍ سَأَلَهَا
أَنْ يَرْجِعَ إِلَى لِبَاسِ السَّوَادِ فَإِنَّهُ لِبَاسُ آبَائِهِ مِنْ دَوْلَةِ
وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ. فَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ
الْآخَرُ
وَهُوَ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونُ مِنْ صَفَرٍ جَلَسَ الْمَأْمُونُ لِلنَّاسِ
وَعَلَيْهِ الْخُضْرَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِخِلْعَةٍ سَوْدَاءَ،
فَأَلْبَسَهَا طَاهِرًا، ثُمَّ أَلْبَسَ بَعْدَهُ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ
السَّوَادَ فَلَبِسَ النَّاسُ السَّوَادَ وَعَادُوا إِلَى ذَلِكَ، بَعْدَ مَا
عَلِمَ مِنْهُمُ الطَّاعَةَ وَالْمُوَافَقَةَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَأْمُونَ
مَكَثَ يَلْبَسُ الْخُضْرَةَ بَعْدَ قُدُومِهِ بَغْدَادَ سَبْعًا وَعِشْرِينَ
يَوْمًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ عَمُّهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بَعْدَ
اخْتِفَائِهِ سِتَّ سِنِينَ وَشُهُورًا، قَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: أَنْتَ الْخَلِيفَةُ
الْأَسْوَدُ. فَأَخَذَ فِي الِاعْتِذَارِ وَالِاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ قَالَ
لِلْمَأْمُونِ: أَنَا الَّذِي مَنَنْتَ عَلَيْهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
بِالْعَفْوِ. وَأَنْشَدَ الْمَأْمُونَ عِنْدَ ذَلِكَ:
لَيْسَ يُزْرِي السَّوَادُ بِالرَّجُلِ الشَّهْ مِ وَلَا بِالْفَتَى الْأَدِيبِ
الْأَرِيبِ إِنْ يَكُنْ لِلسَّوَادِ مِنْكَ نَصِيبُ
فَبَيَاضُ الْأَخْلَاقِ مِنْكَ نَصِيبِي
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَقَدْ نَظَمَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ
الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ نَصْرُ اللَّهِ بْنُ قَلَاقِسَ الْإِسْكَنْدَرِيُّ
فَقَالَ:
رُبَّ سَوْدَاءَ وَهِيَ بَيْضَاءُ فِعْلِ حَسَدَ الْمِسْكَ عِنْدَهَا الْكَافُورُ
مِثْلُ حَبِّ الْعُيُونِ يَحْسَبُهُ النَّا سُ سَوَادًا وَإِنَّمَا هُوَ نُورُ
وَكَانَ
الْمَأْمُونُ قَدْ شَاوَرَ فِي قَتْلِ عَمِّهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ
فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْوَزِيرُ الْأَحْوَلُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ قَتَلْتَهُ فَلَكَ نُظَرَاءُ، وَإِنْ عَفَوْتَ عَنْهُ فَمَا
لَكَ نَظِيرٌ. ثُمَّ شَرَعَ الْمَأْمُونُ فِي بِنَاءِ قُصُورٍ عَلَى دِجْلَةَ
إِلَى جَانِبِ قَصْرِهِ بِهَا، وَسَكَنَتِ الْفِتَنُ وَانْزَاحَتِ الشُّرُورُ،
وَأَمَرَ بِمُقَاسَمَةِ أَهْلِ السَّوَادِ عَلَى الْخُمْسَيْنِ، وَكَانُوا
يُقَاسِمُونَ عَلَى النِّصْفِ، وَاتَّخَذَ الْقَفِيزَ الْمُلْجَمَ وَهُوَ عَشْرَةُ
مَكَاكِيَّ بِالْمَكُّوكِ الْهَارُونِيِّ، وَوَضَعَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ
خَرَاجَاتِ بِلَادٍ شَتَّى، وَرَفَقَ بِالنَّاسِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
وَوَلَّى أَخَاهُ أَبَا عِيسَى بْنَ الرَّشِيدِ الْكُوفَةَ وَوَلَّى أَخَاهُ
صَالِحًا الْبَصْرَةَ وَوَلَّى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نِيَابَةَ
الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَفِيهَا
وَاقَعَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ بَابَكَ الْخُرَّمِيَّ فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ:
أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ
وَقَدْ أَفْرَدْنَا لَهُ تَرْجَمَةً مُطَوَّلَةً فِي أَوَّلِ كِتَابِنَا "
" طَبَقَاتِ الشَّافِعِيِّينَ " "، وَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا
مُلَخَّصًا مِنْ ذَلِكَ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
هُوَ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ
الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ
عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ
قُصَّيٍّ، الْقُرَشِيُّ الْمُطَّلِبيُّ، وَالسَّائِبُ بْنُ عُبَيْدٍ أَسْلَمَ
يَوْمَ بَدْرٍ وَابْنُهُ شَافِعُ بْنُ السَّائِبِ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ،
وَأُمُّهُ أَزْدِيَّةٌ. وَقَدْ رَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ
خَرَجَ مِنْ فَرْجِهَا حَتَّى انْقَضَّ بِمِصْرَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي كُلِّ بَلَدٍ
مِنْهُ شَظِيَّةٌ. وَقَدْ وُلِدَ الشَّافِعِيُّ بِغَزَّةَ، وَقِيلَ:
بِعَسْقَلَانَ. وَقِيلَ: بِالْيَمَنِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَمَاتَ أَبُوهُ
وَهُوَ صَغِيرٌ، فَحَمَلَتْهُ أُمُّهُ إِلَى مَكَّةَ وَهُوَ ابْنُ سَنَتَيْنِ،
لِئَلَّا يَضِيعَ نَسَبُهُ، فَنَشَأَ بِهَا، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ وَهُوَ ابْنُ
سبْعِ سِنِينَ، وَحَفِظَ " " الْمُوَطَّأَ " " وَهُوَ ابْنُ
عَشْرٍ، وَأَفْتَى وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: ابْنُ ثَمَانِي
عَشْرَةَ سَنَةً. أَذِنَ لَهُ شَيْخُهُ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ.
وَعُنِيَ بِاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ، وَأَقَامَ فِي هُذَيْلٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ
سِنِينَ، وَقِيلَ: عِشْرِينَ سَنَةً، فَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ لُغَاتِ الْعَرَبِ
وَفَصَاحَتَهَا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ
الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ، وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ " " الْمُوَطَّأَ
" " عَلَى مَالِكٍ مِنْ حِفْظِهِ فَأَعْجَبَتْهُ قِرَاءَتُهُ
وَهِمَّتُهُ، وَأُخِذَ عَنْهُ عِلْمُ الْحِجَازِيِّينَ بَعْدَ أَخْذِهِ، عَنْ
مُسْلِمِ
بْنِ
خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ.
وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَسْمَاءَهُمْ مُرَتَّبِينَ عَلَى
حُرُوفِ الْمُعْجَمِ. وَقَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ قُسْطَنْطِينَ،
عَنْ شِبْلٍ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ
أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
عَنْ جِبْرِيلَ، عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ الْفِقْهَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ
وَغَيْرِهِمَا، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ،
وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُمْ، كُلُّهُمْ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَفَقَّهَ أَيْضًا عَلَى مَالِكٍ
عَنْ مَشَايِخِهِ، وَتَفَقَّهَ بِهِ جَمَاعَةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُمْ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ إِلَى زَمَانِنَا فِي مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ الدُّولَابِيِّ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ وَرَّاقٍ الْحُمَيْدِيِّ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنِ
الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ وَلِيَ الْحُكْمَ بِنَجْرَانَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، ثُمَّ
تَعَصَّبُوا عَلَيْهِ وَوَشَوْا بِهِ إِلَى الرَّشِيدِ هَارُونَ أَنَّهُ يَرُومُ
الْخِلَافَةَ، فَحُمِلَ عَلَى بَغْلٍ فِي قَيْدٍ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا فِي
سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَعُمُرُهُ ثَلَاثُونَ سَنَةً فَاجْتَمَعَ
بِالرَّشِيدِ فَتَنَاظَرَ هُوَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَأَحْسَنَ الْقَوْلَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَتَبَيَّنَ لِلرَّشِيدِ
بَرَاءَتَهُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَأَنْزَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
عِنْدَهُ.
وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ بِسَنَةٍ وَقِيلَ: بِسَنَتَيْنِ
وَأَكْرَمَهُ
مُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنِ، وَكَتَبَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ وَقْرَ بَعِيرٍ. ثُمَّ أَطْلَقَ
لَهُ الرَّشِيدُ أَلْفَيْ دِينَارٍ وَقِيلَ: خَمْسَةَ آلَافِ دِينَارٍ وَعَادَ
الشَّافِعِيُّ إِلَى مَكَّةَ فَفَرَّقَ عَامَّةَ مَا حَصَلَ لَهُ فِي أَهْلِهِ
وَذَوِي رَحِمِهِ مِنْ بَنِي عَمِّهِ، ثُمَّ عَادَ الشَّافِعِيُّ إِلَى بَغْدَادَ
فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ فَاجْتَمَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْعُلَمَاءِ هَذِهِ الْمَرَّةَ؛ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو
ثَوْرٍ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ
النَّقَّالُ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيُّ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ
وَغَيْرُهُمْ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ.
وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ أَيْضًا سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، ثُمَّ
انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ؛ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ، كَمَا سَيَأْتِي. وَصَنَّفَ بِهَا
كِتَابَهُ " " الْأُمَّ " "، وَهُوَ مِنْ كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ؛
لِأَنَّهَا مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ مِصْرِيٌّ. وَقَدْ
زَعَمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا مِنَ الْقَدِيمِ. وَهَذَا
بَعِيدٌ وَعَجِيبٌ مِنْ مِثْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَثْنَى عَلَى الشَّافِعِيِّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ كِبَارِ الْأَئِمَّةِ،
مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ
كِتَابًا فِي الْأُصُولِ فَكَتَبَ لَهُ " " الرِّسَالَةَ " "،
وَكَانَ يَدْعُو لَهُ فِي الصَّلَاةِ دَائِمًا، وَشَيْخُهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ
وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَقَالَ: هُوَ إِمَامٌ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ،
وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَكَانَ يَدْعُو لَهُ أَيْضًا فِي صَلَاتِهِ.
وَأَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَفْصَحَ وَلَا أَعْقَلَ وَلَا أَوْرَعَ
مِنَ الشَّافِعِيِّ،
وَيَحْيَى
بْنُ أَكْثَمَ الْقَاضِي، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ وَشَرْحُ أَقْوَالِهِمْ.
وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَدْعُو لَهُ فِي صَلَاتِهِ نَحْوًا مِنْ
أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ أَحْمَدُ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
أَيُّوبَ، عَنْ شَرَاحِيلَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّ اللَّهَ
يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ
لَهَا دِينَهَا قَالَ: فَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ
الْأُولَى، وَالشَّافِعِيُّ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ أَبُو
دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ النَّضْرِ
بْنِ مَعْبَدٍ الْكِنْدِيِّ أَوِ الْعَبْدِيِّ، عَنِ الْجَارُودِ، عَنْ أَبِي
الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسُبُّوا قُرَيْشًا فَإِنَّ عَالِمَهَا
يَمْلَأُ الْأَرْضَ عِلْمًا، اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَذَقْتَ أَوَّلَهَا عَذَابًا -
أَوْ وَبَالًا - فَأَذِقْ آخِرَهَا نَوَالًا.
وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي "
" مُسْتَدْرَكِهِ " "، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ، عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: لَا يَنْطَبِقُ هَذَا إِلَّا
عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ. حَكَاهُ
الْخَطِيبُ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ: هُوَ صَدُوقٌ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقَالَ مَرَّةً: لَوْ كَانَ الْكَذِبُ لَهُ مُطْلَقًا لَكَانَتْ مُرُوءَتُهُ
تَمْنَعُهُ أَنْ يَكْذِبَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ:
الشَّافِعِيُّ فَقِيهُ الْبَدَنِ، صَدُوقُ اللِّسَانِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ عَنْ
أَبِي زُرْعَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَدِيثٌ غَلِطَ فِيهِ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَقَدْ
سُئِلَ: هَلْ سُنَّةٌ لَمْ تَبْلُغِ الشَّافِعِيَّ ؟ فَقَالَ: لَا. وَمَعْنَى
هَذَا أَنَّهَا تَارَةً تَبْلُغُهُ بِسَنَدِهَا، وَتَارَةً مُرْسَلَةً، وَتَارَةً
مُنْقَطِعَةً، كَمَا هُوَ الْمَوْجُودُ فِي كُتُبِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ حَرْمَلَةُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: سُمِّيتُ بِبَغْدَادَ
نَاصِرُ السُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ الشَّافِعِيِّ،
وَلَا رَأَى هُوَ مِثْلَ نَفْسِهِ. وَكَذَا قَالَ الزَّعْفَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ فِي كِتَابٍ جَمَعَهُ فِي فَضَائِلِ
الشَّافِعِيِّ: لِلشَّافِعِيِّ مِنَ الْفَضَائِلِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ؛
مِنْ شَرَفِ نَسَبِهِ، وَصِحَّةِ دِينِهِ،
وَمُعْتَقَدِهِ،
وَسَخَاوَةِ نَفْسِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَسَقَمِهِ
وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَحِفْظِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَسِيرَةَ
الْخُلَفَاءِ، وَحُسْنِ التَّصْنِيفِ، وَجَوْدَةِ الْأَصْحَابِ وَالتَّلَامِذَةِ،
مِثْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ، وَإِقَامَتِهِ عَلَى
السُّنَّةِ. ثُمَّ سَرَدَ أَعْيَانَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْبَغَادِدَةِ
وَالْمِصْرِيِّينَ. وَكَذَا عَدَّ أَبُو دَاوُدَ مِنْ جُمْلَةِ تَلَامِيذِهِ فِي
الْفِقْهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ.
وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ، وَأَشَدِّ النَّاسِ انْتِزَاعًا لِلدَّلَائِلِ مِنْهُمَا، وَكَانَ
مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ قَصْدًا وَإِخْلَاصًا، كَانَ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنَّ
النَّاسَ تَعَلَّمُوا هَذَا الْعِلْمَ، وَلَا يُنْسَبُ إِلَيَّ شَيْءٌ مِنْهُ
أَبَدًا، فَأُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَا يَحْمَدُونِي. وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ
عَنْهُ: إِذَا صَحَّ عِنْدَكُمُ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُولُوا بِهِ وَدَعُوا قَوْلِي فَإِنِّي أَقُولُ بِهِ،
وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوهُ مِنِّي. وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا تُقَلِّدُونِي. وَفِي
رِوَايَةٍ: فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى قَوْلِي. وَفِي رِوَايَةٍ: فَاضْرِبُوا
بِقَوْلِي عُرْضَ الْحَائِطِ، فَلَا قَوْلَ لِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: لِأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ
ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَيْءٍ
مِنْ
الْأَهْوَاءِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِعِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَالَ:
لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ مِنَ الْأَهْوَاءِ لَفَرُّوا
مِنْهُ كَمَا يَفِرُّونَ مِنَ الْأَسَدِ. وَقَالَ أَيْضًا: حُكْمِي فِي أَهْلِ
الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ، وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ
وَيُنَادَى عَلَيْهِمْ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ
وَأَقْبَلَ عَلَى عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَقَالَ الْبُوَيْطِيُّ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِأَصْحَابِ
الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ صَوَابًا.
وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَكَأَنَّمَا
رَأَيْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، جَزَاهُمُ اللَّهُ خَيْرًا، حَفِظُوا لَنَا الْأَصْلَ، فَلَهُمْ
عَلَيْنَا الْفَضْلُ. وَمِنْ شِعْرِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ:
كُلُّ الْعُلُومِ سِوَى الْقُرْآنِ مَشْغَلَةٌ إِلَّا الْحَدِيثَ وَإِلَّا
الْفِقْهَ فِي الدِّينِ الْعِلْمُ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ حَدَّثَنَا
وَمَا سِوَى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ
وَكَانَ يَقُولُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَنْ قَالَ:
مَخْلُوقٌ، فَهُوَ كَافِرٌ.
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الرَّبِيعُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ مَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ
يَمُرُّ
بِآيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا
تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَحْرِيفٍ، عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ. وَقَالَ
ابْنُ خُزَيْمَةَ: أَنْشَدَنِي الْمُزَنِيُّ، قَالَ: أَنْشَدَنَا الشَّافِعِيُّ
لِنَفْسِهِ:
مَا شِئْتَ كَانَ وَإِنْ لَمْ أَشَأْ وَمَا شِئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ
خَلَقْتَ الْعِبَادَ عَلَى مَا عَلِمْتَ فَفِي الْعِلْمِ يَجْرِي الْفَتَى
وَالْمُسِنْ
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ وَمِنْهُمْ قَبِيحٌ وَمِنْهُمْ حَسَنْ
عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَذَا خَذَلْتَ وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ
وَقَالَ الرَّبِيعُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ،
ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ.
وَعَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: أَنْشَدَنِي الشَّافِعِيُّ:
قَدْ عَوِجَ النَّاسُ حَتَّى أَحْدَثُوا بِدَعًا فِي الدِّينِ بِالرَّأْيِ لَمْ
تُبْعَثْ بِهَا الرُّسُلُ
حَتَّى اسْتَخَفَّ بِحَقِّ اللَّهِ أَكْثَرُهُمْ وَفِي الَّذِي حُمِّلُوا مِنْ
حَقِّهِ شُغُلُ
وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ شِعْرِهِ فِي السُّنَّةِ، وَكَلَامِهِ فِيهَا، وَفِي
الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ طَرَفًا
صَالِحًا
فِي الَّذِي كَتَبْنَاهُ فِي أَوَّلِ " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَقِيلَ: يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ، عَنْ
أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَكَانَ أَبْيَضَ جَمِيلًا طَوِيلًا مَهِيبًا،
يُخَضِّبُ بِالْحِنَّاءِ مُخَالَفَةً لِلشِّيعَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ
مَثْوَاهُ، وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا أَيْضًا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ الْفُرَاتِ. وَأَشْهَبُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمِصْرِيُّ
الْمَالِكِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ الْكُوفِيُّ
الْحَنَفِيُّ. وَأَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ. صَاحِبُ
الْمُسْنَدِ وَأَحَدُ الْحُفَّاظِ. وَأَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ.
وَأَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ عَبْدُ الْكَبِيرِ. وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ
عَطَاءٍ الْخَفَّافُ. وَالنَّضْرُ بْنُ
شُمَيْلٍ، أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ. وَهِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ، أَحَدُ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ نِيَابَةَ
بَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ إِلَى أَقْصَى عَمَلِ الْمَشْرِقِ، وَرَضِيَ
عَنْهُ وَرَفَعَ مَنْزِلَتَهُ جِدًّا، وَذَلِكَ لِمَرَضِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ
بِالسَّوَادِ. وَوَلَّى الْمَأْمُونُ مَكَانَ طَاهِرٍ عَلَى الرَّقَّةِ
وَالْجَزِيرَةِ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ وَقَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ
الْحُسَيْنِ إِلَى بَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ
عَلَى الرَّقَّةِ وَأَمَرَهُ بِمُقَاتَلَةِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ وَوَلَّى
الْمَأْمُونُ عِيسَى بْنَ يَزِيدَ الْجُلُودِيَّ مُقَاتَلَةَ الزُّطِّ. وَوَلَّى
عِيسَى بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ أَذْرَبِيجَانَ وَإِرْمِينِيَةَ،
وَأَمَرَهُ بِمُحَارَبَةِ بَابَكَ الْخُرَّمِيَّ وَمَاتَ نَائِبُ مِصْرَ
السَّرِيُّ بْنُ الْحَكَمِ بِهَا. وَنَائِبُ السَّنَدِ دَاوُدُ بْنُ يَزِيدَ،
فَوَلَّى مَكَانَهُ بِشْرَ بْنَ
دَاوُدَ،
عَلَى أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ نَائِبُ الْحَرَمَيْنِ
الشَّرِيفَيْنِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ السَّلُولِيُّ. وَبِشْرُ بْنُ بَكْرٍ الدِّمَشْقِيُّ.
وَأَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ.
وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ. وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَطِيَّةَ.
وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَسْكَرٍ، أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ.
أَصْلُهُ مِنْ وَاسِطٍ وَسَكَنَ قَرْيَةً غَرْبِيَّ دِمَشْقَ يُقَالُ لَهَا:
دَارَيَّا.
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَرَوَى عَنْهُ
أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ وَجَمَاعَةٌ. وَأَسْنَدَ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي
الرَّبِيعِ الزَّاهِدِ يَقُولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ يَقُولُ:
سَمِعْتُ ابْنُ عَجْلَانَ يَذْكُرُ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي
صَالِحٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا غَفَرَ اللَّهُ
ذُنُوبَهُ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: حُكِيَ عَنْ
أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ قَالَ: اخْتَلَفْتُ إِلَى مَجْلِسِ قَاصٍّ
فَأَثَّرَ كَلَامُهُ فِي قَلْبِي، فَلَمَّا قُمْتُ لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِي
شَيْءٌ، فَعُدْتُ ثَانِيَةً فَأَثَّرَ كَلَامُهُ فِي قَلْبِي بَعْدَ مَا قُمْتُ
وَفِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ عُدْتُ ثَالِثَةً فَبَقِيَ أَثَرُ كَلَامِهِ فِي قَلْبِي
حَتَّى رَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي، وَكَسَرْتُ آلَاتِ الْمُخَالَفَاتِ وَلَزِمْتُ
الطَّرِيقَ. فَحَكَيْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ:
عُصْفُورٌ اصْطَادَ كُرْكِيًّا. يَعْنِي بِالْعُصْفُورِ الْقَاصَّ،
وَبِالْكُرْكِيِّ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ:
لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمَ
شَيْئًا
مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ حَتَّى يَسْمَعَهُ مِنَ الْأَثَرِ فَإِذَا
سَمِعَهُ مِنَ الْأَثَرِ عَمِلَ بِهِ، وَحَمِدَ اللَّهَ حِينَ وَافَقَ مَا فِي
قَلْبِهِ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: رُبَّمَا يَقَعُ
فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ أَيَّامًا فَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ
إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ؛ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو
سُلَيْمَانَ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ خِلَافُ هَوَى النَّفْسِ. وَقَالَ: لِكُلِّ
شَيْءٍ عَلَمٌ وَعَلَمُ الْخِذْلَانِ تَرْكُ الْبُكَاءِ. وَقَالَ: لِكُلِّ شَيْءٍ
صَدَأٌ وَصَدَأُ نُورِ الْقَلْبِ شِبَعُ الْبَطْنِ. وَقَالَ: كُلُّ مَا شَغَلَكَ
عَنِ اللَّهِ؛ مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ؛ فَهُوَ عَلَيْكَ مَشْئُومٌ.
وَقَالَ: كُنْتُ لَيْلَةً فِي الْمِحْرَابِ أَدْعُو وَيَدَايَ مَمْدُودَتَانِ
فَغَلَبَنِي الْبَرْدُ فَضَمَمْتُ إِحْدَاهُمَا وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى مَبْسُوطَةً
أَدْعُو بِهَا، وَغَلَبْتَنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ: يَا أَبَا
سُلَيْمَانَ، قَدْ وَضَعْنَا فِي هَذِهِ مَا أَصَابَهَا، وَلَوْ كَانَتِ
الْأُخْرَى لَوَضَعْنَا فِيهَا. قَالَ: فَآلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَلَّا أَدْعُوَ
إِلَّا وَيَدَايَ
خَارِجَتَانِ،
حَرًّا كَانَ أَوْ بَرْدًا. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: نِمْتُ لَيْلَةً عَنْ وِرْدِي
فَإِذَا أَنَا بِحَوْرَاءَ تَقُولُ لِي: تَنَامُ وَأَنَا أُرَبَّى لَكَ فِي
الْخُدُورِ مُنْذُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ ؟
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ:
إِنَّ فِي الْجَنَّةِ أَنْهَارًا عَلَى شَاطِئِهَا خِيَامٌ فِيهِنَّ الْحُورُ،
يُنْشِئُ اللَّهُ خَلْقَ إِحْدَاهُنَّ إِنْشَاءً فَإِذَا تَكَامَلَ خَلْقُهَا
ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِنَّ الْخِيَامَ، جَالِسَةً عَلَى كُرْسِيٍّ مِيلٍ
فِي مِيلٍ، قَدْ خَرَجَ عَجِيزَتُهَا مِنْ جَانِبِ الْكُرْسِيِّ، فَيَجِيءُ أَهْلُ
الْجَنَّةِ مِنْ قُصُورِهِمْ يَتَنَزَّهُونَ مَا شَاءُوا ثُمَّ يَخْلُو كُلُّ
رَجُلٍ مِنْهُمْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: كَيْفَ يَكُونُ
فِي الدُّنْيَا حَالُ مَنْ يُرِيدُ يَفْتَضُّ الْأَبْكَارَ عَلَى شَاطِئِ
الْأَنْهَارِ فِي الْجَنَّةِ ؟
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ
الدَّارَانِيَّ يَقُولُ: رُبَّمَا مَكَثْتُ خَمْسَ لَيَالٍ لَا أَقْرَأُ بَعْدَ
الْفَاتِحَةِ إِلَّا بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ أَتَفَكَّرُ فِي مَعَانِيهَا، وَلَرُبَّمَا
جَاءَتِ الْآيَةُ مِنَ الْقُرْآنِ فَيَطِيرُ الْعَقْلُ، فَسُبْحَانَ مَنْ
يَرُدُّهُ بَعْدُ ! وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِفْتَاحُ الدُّنْيَا
الشِّبَعُ، وَمِفْتَاحُ الْآخِرَةِ الْجُوعُ. وَقَالَ لِي يَوْمًا:
يَا
أَحْمَدُ، جَوِّعْ قَلْبَكَ، وَذِلَّ قَلْبَكَ، وَعَرِّ قَلْبَكَ، وَفَقِّرْ
قَلْبَكَ، وَصَبِّرْ قَلْبَكَ، وَقَدِ انْقَضَتْ عَنْكَ أَيَّامُ الدُّنْيَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: اشْتَهَى أَبُو سُلَيْمَانَ يَوْمًا رَغِيفًا حَارًّا بِمِلْحٍ،
قَالَ: فَجِئْتُهُ بِهِ، فَعَضَّ مِنْهُ عَضَّةً ثُمَّ طَرَحَهُ، وَأَقْبَلَ
يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا رَبِّ عَجَّلْتَ لِي شَهْوَتِي، لَقَدْ أَطَلْتَ جَهْدِي
وَشِقْوَتِي وَأَنَا تَائِبٌ فَاقْبَلْ تَوْبَتِي. فَلَمْ يَذُقِ الْمِلْحَ حَتَّى
لَحِقَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا رَضِيتُ عَنْ
نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ
يَضَعُونِي كَاتِّضَاعِي عِنْدَ نَفْسِي مَا أَحْسَنُوا. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:
مَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ قِيمَةً لَمْ يَذُقْ حَلَاوَةَ الْخِدْمَةِ. وَسَمِعْتُهُ
يَقُولُ: إِذَا تَكَلَّفَ الْمُتَعَبِّدُونَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمُوا إِلَّا
بِالْإِعْرَابِ، ذَهَبَ الْخُشُوعُ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ
بِاللَّهِ، ثُمَّ لَا يَخَافُ فَهُوَ
مَخْدُوعٌ.
وَقَالَ: يَنْبَغِي لِلْخَوْفِ أَنْ يَكُونَ أَغْلَبَ مِنَ الرَّجَاءِ، فَإِذَا
غَلَبَ الرَّجَاءُ عَلَى الْخَوْفِ فَسَدَ الْقَلْبُ. وَقَالَ لِي يَوْمًا: هَلْ
فَوْقَ الصَّبْرِ مَنْزِلَةٌ ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. يَعْنِي الرِّضَا. قَالَ:
فَصَرَخَ صَرْخَةً غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: إِذَا كَانَ الصَّابِرُونَ
يُوفَّوْنَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْآخَرِينَ، وَهُمُ
الَّذِينَ رَضِيَ عَنْهُمْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ
لِي الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا أُنْفِقُهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ،
وَأَنِّي أَغْفُلُ عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ:
قَالَ زَاهِدٌ لِزَاهِدٍ: أَوْصِنِي. فَقَالَ: لَا يَرَاكَ اللَّهُ حَيْثُ نَهَاكَ
وَلَا يَفْقِدُكَ حَيْثُ أَمَرَكَ. فَقَالَ: زِدْنِي. فَقَالَ: مَا عِنْدِي
زِيَادَةٌ. وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ أَحْسَنَ فِي نَهَارِهِ كُوفِئَ فِي لَيْلِهِ،
وَمَنْ أَحْسَنَ فِي لَيْلِهِ كُوفِئَ فِي نَهَارِهِ، وَمَنْ صَدَقَ فِي تَرْكِ
شَهْوَةٍ ذَهَبَ اللَّهُ بِهَا مِنْ قَلْبِهِ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ
يُعَذِّبَ قَلْبًا بِشَهْوَةٍ
تُرِكَتْ
لَهُ. وَقَالَ: إِذَا سَكَنَتِ الدُّنْيَا الْقَلْبَ تَرَحَّلَتْ مِنْهُ
الْآخِرَةُ. وَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الْآخِرَةُ فِي الْقَلْبِ جَاءَتِ الدُّنْيَا
تَزْحَمُهَا، وَإِذَا كَانَتِ الدُّنْيَا فِي الْقَلْبِ لَمْ تَزْحَمْهَا
الْآخِرَةُ؛ إِنَّ الْآخِرَةَ كَرِيمَةٌ وَالدُّنْيَا لَئِيمَةٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ أَبِي
سُلَيْمَانَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَئِنْ طَالَبْتَنِي
بِذُنُوبِي لَأُطَالِبَنَّكَ بِعَفْوِكَ وَلَئِنْ طَالَبْتَنِي بِبُخْلِي
لَأُطَالِبَنَّكَ بِسَخَائِكَ، وَلَئِنْ أَمَرْتَ بِي إِلَى النَّارِ
لَأُخْبِرَنَّ أَهْلَ النَّارِ أَنِّي أُحِبُّكَ. وَكَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ
يَقُولُ: لَوْ شَكَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي الْحَقِّ مَا شَكَكْتُ فِيهِ وَحْدِي.
وَكَانَ يَقُولُ: مَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِبْلِيسَ،
وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَتَعَوَّذَ مِنْهُ مَا تَعَوَّذْتُ
مِنْهُ أَبَدًا، وَلَوْ بَدَا لِي مَا لَطَمْتُ
إِلَّا
صَفْحَةَ وَجْهِهِ. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللِّصَّ لَا يَجِيءُ إِلَى خَرِبَةٍ
يَنْقُبُ حِيطَانَهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الدُّخُولِ إِلَيْهَا مِنْ أَيِّ
مَكَانٍ شَاءَ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ إِلَى بَيْتٍ مَعْمُورٍ، كَذَلِكَ إِبْلِيسُ
لَا يَجِيءُ إِلَّا إِلَى كُلِّ قَلْبٍ عَامِرٍ لِيَسْتَنْزِلَهُ عَنْ شَيْءٍ.
وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ انْقَطَعَ عَنْهُ كَثْرَةُ
الْوَسْوَاسِ وَالرِّيَاءِ وَالرُّؤْيَا. وَقَالَ: مَكَثْتُ عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ
أَحْتَلِمْ، فَدَخَلْتُ مَكَّةَ فَفَاتَتْنِي صَلَاةُ الْعِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ
فَاحْتَلَمْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. وَقَالَ: إِنَّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ قَوْمًا
لَا يَشْغَلُهُمُ الْجِنَانُ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ عَنْهُ، فَكَيْفَ
تَشْتَغِلُونَ بِالدُّنْيَا ؟ وَقَالَ: الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ أَقَلُّ مِنْ
جَنَاحِ بَعُوضَةٍ، فَمَا الزُّهْدُ فِيهَا ؟ وَإِنَّمَا الزُّهْدُ فِي الْجِنَانِ
وَالْحُورِ الْعِينِ، حَتَّى لَا يَرَى اللَّهُ فِي قَلْبِكَ غَيْرَهُ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: شَيْءٌ يُرْوَى عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَا
اسْتَحْسَنْتُهُ كَثِيرًا؛ قَوْلُهُ: مَنِ
اشْتَغَلَ
بِنَفْسِهِ شُغِلَ عَنِ النَّاسِ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِرَبِّهِ شُغِلَ عَنْ
نَفْسِهِ وَعَنِ النَّاسِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ يَقُولُ:
خَيْرُ السَّخَاءِ مَا وَافَقَ الْحَاجَةَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: مَنْ
طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا وَاسْتِعْفَافًا عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَاسْتِغْنَاءً
عَنِ النَّاسِ، لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ
الْبَدْرِ، وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا، مُفَاخِرًا وَمُكَاثِرًا لَقِيَ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. وَقَدْ رُوِيَ
نَحْوُ هَذَا مَرْفُوعًا.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: إِنَّ قَوْمًا طَلَبُوا الْغِنَى فَحَسِبُوا أَنَّهُ
فِي جَمْعِ الْمَالِ، أَلَا وَإِنَّمَا الْغِنَى فِي الْقَنَاعَةِ، وَطَلَبُوا
الرَّاحَةَ فِي الْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا الرَّاحَةُ فِي الْقِلَّةِ، وَطَلَبُوا
الْكَرَامَةَ مِنَ الْخَلْقِ، أَلَا وَهِيَ فِي التَّقْوَى، وَطَلَبُوا
النِّعْمَةَ فِي اللِّبَاسِ الرَّقِيقِ اللَّيِّنِ، وَفِي طَعَامٍ طَيِّبٍ،
وَالنِّعْمَةُ فِي
الْإِسْلَامِ
وَالسَّتْرِ وَالْعَافِيَةِ. وَكَانَ يَقُولُ: لَوْلَا قِيَامُ اللَّيْلِ مَا
أَحْبَبْتُ الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا أُحِبُّ الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا
لِتَشْقِيقِ الْأَنْهَارِ وَلَا لِغَرْسِ الْأَشْجَارِ.
وَقَالَ: أَهْلُ الطَّاعَةِ فِي لَيْلِهِمْ أَلَذُّ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي
لَهْوِهِمْ. وَقَالَ: رُبَّمَا اسْتَقْبَلَنِي الْفَرَحُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ،
وَرُبَّمَا رَأَيْتُ الْقَلْبَ يَضْحَكُ ضَحِكًا.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ:
بَيْنَا أَنَا سَاجِدٌ، إِذْ ذَهَبَ بِيَ النَّوْمُ، فَإِذَا أَنَا بِهَا -
يَعْنِي الْحَوْرَاءَ - قَدْ رَكَضَتْنِي بِرِجْلِهَا، فَقَالَتْ: حَبِيبِي،
أَتَرْقُدُ عَيْنَاكَ وَالْمَلِكُ يَقْظَانُ يَنْظُرُ إِلَى الْمُتَهَجِّدِينَ فِي
تَهَجُّدِهِمْ
؟ بُؤْسًا لَعِينٍ آثَرَتْ لَذَّةَ نَوْمَةٍ عَلَى لَذَّةِ مُنَاجَاةِ الْعَزِيزِ،
قُمْ فَقَدْ دَنَا الْفَرَاغُ وَلَقِيَ الْمُحِبُّونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَمَا
هَذَا الرُّقَادُ ؟ حَبِيبِي وَقُرَّةَ عَيْنِي، أَتَرْقُدُ عَيْنَاكَ وَأَنَا
أُرَبَّى لَكَ فِي الْخُدُورِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا ؟ فَوَثَبْتُ فَزِعًا وَقَدْ
عَرِقْتُ اسْتِحْيَاءً مِنْ تَوْبِيخِهَا إِيَّايَ، وَإِنَّ حَلَاوَةَ مَنْطِقِهَا
لَفِي سَمْعِي وَقَلْبِي.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ
فَإِذَا هُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: زُجِرْتُ الْبَارِحَةَ فِي
مَنَامِي. قُلْتُ: مَا الَّذِي حَلَّ بِكَ ؟ قَالَ: بَيْنَا أَنَا قَدْ غَفَوْتُ
فِي مِحْرَابِي إِذْ وَقَفَتْ عَلَيَّ جَارِيَةٌ تَفُوقُ الدُّنْيَا حُسْنًا، وَبِيَدِهَا
وَرَقَةٌ وَهِيَ تَقُولُ: أَتَنَامُ يَا شَيْخُ ؟ فَقُلْتُ: مَنْ غَلَبَتْهُ
عَيْنَاهُ نَامَ. فَقَالَتْ: كَلَّا إِنَّ طَالِبَ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُ. ثُمَّ
قَالَتْ: أَتَقْرَأُ ؟ فَأَخَذْتُ الْوَرَقَةَ مِنْ يَدِهَا، فَإِذَا فِيهَا
مَكْتُوبٌ:
لَهَتْ بِكَ لَذَّةٌ عَنْ حُسْنِ عَيْشٍ مَعَ الْخَيْرَاتِ فِي غُرَفِ الْجِنَانِ
تَعِيشُ مُخَلَّدًا لَا مَوْتَ فِيهَا
وَتَنْعَمُ فِي الْجِنَانِ مَعَ الْحِسَانِ تَيَقَّظْ مِنْ مَنَامِكَ إِنَّ
خَيْرًا
مِنَ النَّوْمِ التَّهَجُّدُ بِالْقُرَانِ
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: أَمَا يَسْتَحِي أَحَدُهُمْ أَنْ يَلْبَسَ عَبَاءَةً بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَفِي قَلْبِهِ شَهْوَةٌ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ ؟ وَقَالَ أَيْضًا: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ الزُّهْدَ وَالشَّهَوَاتُ فِي قَلْبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، جَازَ أَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ الزُّهْدَ بِلُبْسِ الْعَبَاءِ، فَإِنَّهَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ الزُّهَّادِ، وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ لِيَسْتُرَ بِهِمَا أَبْصَارَ النَّاسِ عَنْهُ كَانَ أَسْلَمَ لِزُهْدِهِ. وَكَانَ يَقُولُ أَيْضًا: إِذَا رَأَيْتَ الصُّوفِيَّ يَتَنَوَّقُ فِي لُبْسِ الصُّوفِ، فَلَيْسَ بِصُوفِيٍّ، وَخِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَصْحَابُ الْقُطْنِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: إِنَّمَا الْأَخُ الَّذِي يَعِظُكَ بِرُؤْيَتِهِ قَبْلَ كَلَامِهِ، وَقَدْ كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْأَخِ مِنْ أَصْحَابِي بِالْعِرَاقِ فَأَنْتَفِعُ بِرُؤْيَتِهِ شَهْرًا. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " عَبْدِي، إِنَّكَ مَا اسْتَحْيَيْتَ مِنِّي أَنْسَيْتُ النَّاسَ عُيُوبَكَ، وَأَنْسَيْتُ بِقَاعَ الْأَرْضِ ذُنُوبَكَ، وَمَحَوْتُ زَلَّاتِكَ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ، وَلَا أُنَاقِشُكَ فِي الْحِسَابِ
يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ".
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَأَلْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ عَنِ
الصَّبْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الَّذِي
تُحِبُّ، فَكَيْفَ فِيمَا تَكْرَهُ ؟ قَالَ أَحْمَدُ: تَنَهَّدْتُ عِنْدَهُ
يَوْمًا، فَقَالَ: إِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنْ كَانَتْ
عَلَى ذَنْبٍ سَلَفَ فَطُوبَى لَكَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الدُّنْيَا فَوَيْلٌ
لَكَ. وَقَالَ: إِنَّمَا رَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ قَبْلَ الْوُصُولِ، وَلَوْ
وَصَلُوا إِلَى اللَّهِ مَا رَجَعُوا. وَقَالَ: إِنَّمَا عَصَى اللَّهَ مَنْ
عَصَاهُ لِهَوَانِهِمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَرُمُوا عَلَيْهِ لَحَجَزَهُمْ عَنْ
مَعَاصِيهِ. وَقَالَ: جُلَسَاءُ الرَّحْمَنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ جَعَلَ
فِيهِمْ خِصَالًا: الْكَرَمَ وَالْحِلْمَ، وَالْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ،
وَالرِّقَّةَ، وَالرَّحْمَةَ، وَالْفَضْلَ، وَالصَّفْحَ، وَالْإِحْسَانَ
وَالْبِرَّ، وَالْعَفْوَ وَاللُّطْفَ.
وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي كِتَابِ " " مِحَنِ
الْمَشَايِخِ " "، أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ أُخْرِجَ
مِنْ دِمَشْقَ وَقَالُوا: إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَرَى الْمَلَائِكَةَ
وَيُكَلِّمُونَهُ.
فَخَرَجَ إِلَى بَعْضِ الثُّغُورِ فَرَأَى بَعْضُ أَهْلِ دِمَشْقَ أَنَّهُ إِنْ
لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ هَلَكُوا، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ وَتَشَفَّعُوا
إِلَيْهِ، حَتَّى رَدُّوهُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَفَاتِهِ عَلَى أَقْوَالٍ؛ فَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَمِائَتَيْنِ. وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَتَيْنِ. وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسَ
عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ مَرْوَانُ الطَّاطَرِيُّ يَوْمَ مَاتَ أَبُو
سُلَيْمَانَ: لَقَدْ أُصِيبَ بِهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ كُلُّهِمْ.
قُلْتُ: وَقَدْ دُفِنَ فِي قَرْيَةِ دَارَيَّا، وَقَبْرُهُ بِهَا مَشْهُورٌ
وَعَلَيْهِ بِنَاءٌ، وَقِبْلَتُهُ مَسْجِدٌ بَنَاهُ الْأَمِيرُ نَاهِضُ الدِّينِ
عُمَرُ الْمِهْرَانِيُّ، وَوَقَفَ عَلَى الْمُقِيمِينَ عِنْدَهُ وَقْفًا يَدْخُلُ
عَلَيْهِمْ مِنْهُ غَلَّةٌ، وَقَدْ جَدَّدَ مَزَارَهُ فِي زَمَانِنَا هَذَا،
وَلَمْ أَرَ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ تَعَرَّضَ لِمَوْضِعِ دَفْنِهِ
بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا عَجَبٌ مِنْهُ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَشْتَهِي أَنْ أَرَى أَبَا سُلَيْمَانَ
فِي الْمَنَامِ فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ سَنَةٍ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ
يَا مُعَلِّمُ ؟ فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ، دَخَلْتُ يَوْمًا مِنْ بَابِ الصَّغِيرِ
فَرَأَيْتُ حِمْلَ شِيحٍ، فَأَخَذْتُ مِنْهُ عُودًا، فَمَا أَدْرِي تَخَلَّلْتُ
بِهِ أَوْ رَمَيْتُهُ، فَأَنَا فِي
حِسَابِهِ
إِلَى الْآنِ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ بَعْدَهُ بِنَحْوٍ مِنْ سَنَتَيْنِ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ دَاوُدَ بْنَ مَاسَجُورَ بِلَادَ الْبَصْرَةِ وَكُورَ
دِجْلَةَ وَالْيَمَامَةَ وَالْبَحْرَيْنِ، وَأَمَرَهُ بِمُحَارَبَةِ الزُّطِّ.
وَفِيهَا جَاءَ مَدٌّ كَثِيرٌ فَغَرَّقَ بِلَادَ أَرْضِ السَّوَادِ وَأَهْلَكَ
لِلنَّاسِ شَيْئًا كَثِيرًا. وَفِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ الرَّقَّةَ وَأَمَرَهُ بِمُحَارَبَةِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ
وَذَلِكَ أَنَّ نَائِبَهَا يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ مَاتَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ
مَكَانَهُ ابْنَهُ أَحْمَدَ، فَلَمْ يُمْضِ ذَلِكَ الْمَأْمُونُ وَاسْتَنَابَ
عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ؛ لِشَهَامَتِهِ وَبَصَرِهِ بِالْأُمُورِ،
وَحَثِّهِ عَلَى قِتَالِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَبُوهُ مِنْ
خُرَاسَانَ بِكِتَابٍ فِيهِ الْأَمْرُ لَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَاتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ
بِطُولِهِ وَقَدْ تَدَاوَلَهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ وَاسْتَحْسَنُوهُ وَتُهَادَوْهُ
بَيْنَهُمْ حَتَّى بَلَغَ أَمْرُهُ إِلَى الْمَأْمُونِ فَأَمَرَ فَقُرِئَ
بَيْنَ
يَدَيْهِ فَاسْتَجَادَهُ جِدًّا، وَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ بِهِ نُسَخٌ إِلَى
سَائِرِ الْعُمَّالِ فِي الْأَقَالِيمِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ نَائِبُ
الْحَرَمَيْنِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ الْكَاهِلِيُّ أَبُو حُذَيْفَةَ، صَاحِبُ كِتَابِ "
" الْمُبْتَدَأِ " ". وَحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرُ.
وَدَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، الَّذِي وَضَعَ كِتَابَ " " الْعَقْلِ
" ". وَشَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ. وَمُحَاضِرُ بْنُ الْمُوَرِّعِ.
وَقُطْرُبٌ صَاحِبُ " " الْمُثَلَّثِ فِي اللُّغَةِ " ". وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ. وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، شَيْخُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِبِلَادِ عَكٍّ فِي
الْيَمَنِ، يَدْعُو إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْعُمَّالَ بِالْيَمَنِ أَسَاءُوا السِّيرَةَ إِلَى الرَّعَايَا، فَلَمَّا ظَهَرَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا بَايَعَهُ النَّاسُ، فَلَمَّا بَلَغَ أَمْرُهُ إِلَى
الْمَأْمُونِ بَعَثَ إِلَيْهِ دِينَارَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ
وَمَعَهُ كِتَابُ أَمَانٍ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا، إِنْ هُوَ سَمِعَ
وَأَطَاعَ، فَحَضَرُوا الْمَوْسِمَ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى الْيَمَنِ، فَلَمَّا
انْتَهَوْا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بَعَثَ دِينَارٌ بِكِتَابِ الْأَمَانِ
فَقَبِلَهُ وَسَمِعَ وَأَطَاعَ، وَجَاءَ حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِ دِينَارٍ،
فَسَارَ مَعَهُ إِلَى بَغْدَادَ وَلَبِسَ السَّوَادَ فِيهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ؛ نَائِبُ الْعِرَاقِ
بِكَمَالِهَا،
وَخُرَاسَانَ بِكَمَالِهَا، وُجِدَ فِي فِرَاشِهِ مَيِّتًا بَعْدَ مَا صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ وَالْتَفَّ فِي الْفِرَاشِ، فَاسْتَبْطَأَ أَهْلُهُ خُرُوجَهُ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَخُوهُ وَعَمُّهُ فَوَجَدَاهُ مَيِّتًا، فَلَمَّا بَلَغَ مَوْتُهُ الْمَأْمُونَ قَالَ: لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَدَّمَهُ وَأَخَّرَنَا. وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمًا وَلَمْ يَدْعُ لَهُ فَوْقَ الْمِنْبَرِ، وَمَعَ هَذَا وَلَّى وَلَدَهُ عَبْدَ اللَّهِ مَكَانَهُ، مَعَ إِضَافَةِ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ إِلَى نِيَابَتِهِ، فَاسْتَخْلَفَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى خُرَاسَانَ أَخَاهُ طَلْحَةَ بْنَ طَاهِرٍ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ طَلْحَةُ فَاسْتَقَلَّ عَبْدُ اللَّهِ بِجَمِيعِ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَكَانَ نَائِبُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى بَغْدَادَ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ كَانَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ هُوَ الَّذِي انْتَزَعَ بَغْدَادَ وَأَرْضَ الْعِرَاقِ بِكَمَالِهَا مِنْ يَدِ الْأَمِينِ بْنِ الرَّشِيدِ وَقَتَلَهُ أَيْضًا وَاسْتَوْسَقَ الْأَمْرُ لِلْمَأْمُونِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، وَقَدْ دَخَلَ طَاهِرٌ هَذَا يَوْمًا عَلَى الْمَأْمُونِ فَسَأَلَهُ حَاجَةً فَقَضَاهَا لَهُ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ وَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ طَاهِرٌ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَلَمْ يُخْبِرْهُ، فَأَعْطَى طَاهِرٌ حُسَيْنًا الْخَادِمَ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَتَّى اسْتَعْلَمَ لَهُ مَا كَانَ خَبَرُ بُكَائِهِ، فَقَالَ لَهُ: لَا تُخْبِرْ بِهِ أَحَدًا، أَقْتُلُكَ، ذَكَرْتُ مَقْتَلَ أَخِي، وَمَا نَالَهُ مِنَ الْإِهَانَةِ عَلَى يَدَيْ
طَاهِرٍ،
وَوَاللَّهِ لَا تَفُوتُهُ مِنِّي. فَلَمَّا تَحَقَّقَ طَاهِرٌ ذَلِكَ سَعَى فِي
النُّقْلَةِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى وَلَّاهُ خُرَاسَانَ
وَأَطْلَقَ لَهُ خَادِمًا مِنْ خُدَّامِهِ، وَعَهِدَ إِلَى الْخَادِمِ إِنْ رَأَى
مِنْهُ مَا يُرِيبُهُ أَنْ يَسُمَّهُ، فَلَمَّا خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
طَاهِرٌ، وَلَمْ يَدْعُ لِلْمَأْمُونِ، سَمَّهُ الْخَادِمُ فِي كَامَخٍ، فَمَاتَ
مِنْ لَيْلَتِهِ.
وَقَدْ كَانَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ هَذَا يُقَالُ لَهُ: ذُو الْيَمِينَيْنِ.
وَكَانَ بِفَرْدِ عَيْنٍ، فَقَالَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ بَانَةَ:
يَا ذَا الْيَمِينَيْنِ وَعَيْنٍ وَاحِدَهْ نُقْصَانُ عَيْنٍ وَيَمِينٌ زَائِدَهْ
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى كَوْنِهِ ذَا الْيَمِينَيْنِ، فَقِيلَ: لِأَنَّهُ ضَرَبَ
رَجُلًا بِشِمَالِهِ فَقَدَّهُ نِصْفَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لُقِّبَ بِذَلِكَ
لِأَنَّهُ وَلِيَ الْعِرَاقَ وَخُرَاسَانَ.
وَقَدْ كَانَ كَرِيمًا مُمَدَّحًا يُحِبُّ الشِّعْرَ وَيَجْزِي عَلَيْهِ
الْجَزِيلَ. رَكِبَ يَوْمًا فِي حَرَّاقَةٍ فَقَالَ فِيهِ شَاعِرٌ:
عَجِبْتُ
لِحَرَّاقَةِ ابْنِ الْحُسَيْ نِ لَا غَرِقَتْ كَيْفَ لَا تَغْرَقُ
وَبَحْرَانِ مِنْ فَوْقِهَا وَاحِدٌ وَآخَرُ مِنْ تَحْتِهَا مُطْبِقُ
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَاكَ أَعْوَادُهُا وَقَدْ مَسَّهَا كَيْفَ لَا تُورِقُ
فَأَجَازَهُ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَقَالَ: إِنْ زِدْتَنَا زِدْنَاكَ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي بَعْضِ
الرُّؤَسَاءِ وَقَدْ رَكِبَ الْبَحْرَ:
وَلَمَّا امْتَطَى الْبَحْرَ ابْتَهَلْتُ تَضَرُّعًا إِلَى اللَّهِ يَا مُجْرِيَ
الرِّيَاحِ بِلُطْفِهِ
جَعَلْتَ النَّدَى مِنْ كَفِّهِ مِثْلَ مَوْجِهِ فَسَلِّمْهُ وَاجْعَلْ مَوْجَهُ
مِثْلَ كَفِّهِ
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: مَاتَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ هَذَا يَوْمَ
السَّبْتِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ
وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. وَكَانَ
الَّذِي سَارَ إِلَى وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَهُوَ بِأَرْضِ الرَّقَّةِ
يُعَزِّيهِ فِي أَبِيهِ وَيُهَنِّيهِ بِوِلَايَةِ تِلْكَ الْبِلَادِ، الْقَاضِي
يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ عَنْ أَمْرِ الْمَأْمُونِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَلَا السِّعْرُ بِبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ،
حَتَّى بَلَغَ سِعْرُ الْقَفِيزِ مِنَ
الْحِنْطَةِ
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الرَّشِيدِ، أَخُو
الْمَأْمُونِ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيُّ، وَجَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ
بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَقُرَادٌ أَبُو نُوحٍ، وَكَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ كُنَاسَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ، قَاضِي
بَغْدَادَ وَصَاحِبُ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي، وَأَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ
الْقَاسِمِ، وَالْهَيْثَمُ بْنُ
عَدِيٍّ،
صَاحِبُ التَّصَانِيفِ.
وَيَحْيَى بْنُ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْظُورٍ أَبُو زَكَرِيَّا،
الْكُوفِيُّ، نَزِيلُ بَغْدَادَ مَوْلَى بَنِي سَعْدٍ، الْمَشْهُورُ
بِالْفَرَّاءِ، شَيْخُ النُّحَاةِ وَاللُّغَوِيِّينَ وَالْقُرَّاءِ، وَكَانَ
يُقَالُ لَهُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّحْوِ. وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ
خَازِمِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [ الْفَاتِحَةِ: 4 ]
بِالْأَلِفِ. رَوَاهُ الْخَطِيبُ، قَالَ: وَكَانَ ثِقَةً إِمَامًا.
وَذُكِرَ أَنَّ الْمَأْمُونَ أَمَرَهُ بِوَضْعِ كِتَابٍ فِي النَّحْوِ
فَأَمْلَاهُ، وَكَتَبَهُ النَّاسُ عَنْهُ، وَأَمَرَ الْمَأْمُونُ بِكَتْبِهِ فِي
الْخَزَائِنِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّبُ وَلَدَيْهِ وَلِيَّيِ الْعَهْدِ، فَقَامَ
يَوْمًا، فَابْتَدَرَاهُ أَيُّهُمَا يُقَدِّمُ نَعْلَيْهِ، فَتَنَازَعَا فِي
ذَلِكَ ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يُقَدِّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَعْلًا،
فَأَطْلَقَ لَهُمَا أَبُوهُمَا عِشْرِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَلِلْفَرَّاءِ
عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ لَهُ: لَا أَعَزَّ مِنْكَ إِذْ يُقَدِّمُ
نَعْلَيْكَ وَلِيَّا الْعَهْدِ.
وَرُوِيَ
أَنَّ بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ أَوْ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ سَأَلَ الْفَرَّاءَ
عَنْ رَجُلٍ سَهَا فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: الْمُصَغَّرُ لَا
يُصَغَّرُ. فَقَالَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ امْرَأَةً تَلِدُ مِثْلَكَ.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ
ابْنَ خَالَةِ الْفَرَّاءِ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ: تُوُفِّيَ الْفَرَّاءُ
سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: كَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ. وَقِيلَ: بِطَرِيقِ مَكَّةَ.
وَقَدِ امْتَدَحُوهُ وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ فِي مُصَنَّفَاتِهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا ذَهَبَ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ أَخُو طَاهِرٍ فَارًّا
مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى كَرْمَانَ فَعَصَى بِهَا، فَسَارَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ
أَبِي خَالِدٍ فَحَاصَرَهُ حَتَّى نَزَلَ قَهْرًا، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى
الْمَأْمُونِ فَعَفَا عَنْهُ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَفِيهَا اسْتَعْفَى مُحَمَّدُ بْنُ سَمَاعَةَ مِنَ الْقَضَاءِ، فَأَعْفَاهُ
الْمَأْمُونُ وَوَلَّى مَكَانَهُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ حَمَّادِ بْنِ أَبِي
حَنِيفَةَ. وَفِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْمَخْزُومِيَّ الْقَضَاءَ بِعَسْكَرِ الْمَهْدِيِّ فِي شَهْرِ الْمُحَرَّمِ،
ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْ قَرِيبٍ وَوَلَّى مَكَانَهُ بِشْرَ بْنَ الْوَلِيدِ
الْكِنْدِيَّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا. فَقَالَ الْمَخْزُومِيُّ فِي
ذَلِكَ:
يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُوَحِّدُ رَبَّهُ قَاضِيكَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ
حِمَارُ يَنْفِي شَهَادَةَ مَنْ يَدِينُ بِمَا بِهِ
نَطَقَ الْكِتَابُ وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ وَيَعُدُّ عَدْلًا مَنْ يَقُولُ
بِأَنَّهُ
شَيْخٌ يُحِيطُ بِجِسْمِهِ الْأَقْطَارُ
وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَالِحُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ عَنْ أَمْرِ
أَخِيهِ الْمَأْمُونِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ.
وَسَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ.
أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ.
وَالْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَاجِبُ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ.
وَمُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ.
الَّذِي كَانَ قَدْ وَلَّاهُ الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَقَّبَهُ بِالنَّاطِقِ
بِالْحَقِّ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ أَمْرُهُ حَتَّى قُتِلَ أَبُوهُ وَكَانَ مَا كَانَ.
وَيَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ.
وَيَحْيَى بْنُ حَسَّانَ.
وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الزُّهْرِيُّ.
وَيُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبُ.
وَفَاةُ السَّيِّدَةِ نَفِيسَةَ
وَهِيَ نَفِيسَةُ بِنْتُ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الْقُرَشِيَّةُ الْهَاشِمِيَّةُ كَانَ أَبُوهَا
نَائِبًا لِلْمَنْصُورِ عَلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ
غَضِبَ عَلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ فَعَزَلَهُ عَنْهَا، وَأَخَذَ مِنْهُ
كُلَّ مَا كَانَ جَمَعَهُ مِنْهَا، وَأَوْدَعَهُ السِّجْنَ بِبَغْدَادَ، فَلَمْ
يَزَلْ بِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ الْمَنْصُورُ، فَأَطْلَقَهُ الْمَهْدِيُّ وَأَطْلَقَ
لَهُ كُلَّ مَا كَانَ أُخِذَ مِنْهُ، وَخَرَجَ مَعَهُ إِلَى الْحَجِّ فِي سَنَةِ
ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، فَلَمَّا كَانَ بِالْحَاجِرِ تُوُفِّيَ الْحَسَنُ
بْنُ زَيْدٍ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَقَدْ رَوَى لَهُ النَّسَائِيُّ
حَدِيثَهُ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَاحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ
مَعِينٍ وَابْنُ عَدِيٍّ، وَوَثَّقَهُ
ابْنُ
حِبَّانَ، وَذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي
رِيَاسَتِهِ وَشَهَامَتِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ ابْنَتَهُ نَفِيسَةَ دَخَلَتِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ
مَعَ زَوْجِهَا الْمُؤْتَمَنِ، إِسْحَاقَ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، فَأَقَامَتْ
بِهَا، وَكَانَتْ ذَاتَ مَالٍ وَإِحْسَانٍ إِلَى النَّاسِ وَالْجَذْمَى
وَالزَّمْنَى وَالْمَرْضَى وَعُمُومِ النَّاسِ، وَكَانَتْ عَابِدَةً زَاهِدَةً
كَثِيرَةَ الْخَيْرِ، وَلَمَّا وَرَدَ الشَّافِعِيُّ مِصْرَ أَحْسَنَتْ إِلَيْهِ،
وَكَانَ رُبَّمَا صَلَّى بِهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحِينَ مَاتَ أَمَرَتْ
بِجِنَازَتِهِ فَأُدْخِلَتْ إِلَيْهَا الْمَنْزِلَ فَصَلَّتْ عَلَيْهِ، وَلَمَّا
تُوُفِّيَتْ عَزَمَ زَوْجُهَا إِسْحَاقُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَمَنَعَهُ أَهْلُ مِصْرَ مِنْ ذَلِكَ، وَسَأَلُوهُ
أَنْ يَتْرُكَهَا عِنْدَهُمْ، فَدُفِنَتْ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي كَانَتْ
تَسْكُنُهُ بِمَحِلَّةٍ كَانَتْ تُعْرَفُ قَدِيمًا بِدَرْبِ السِّبَاعِ بَيْنَ
مِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ الْيَوْمَ، وَقَدْ بَادَتْ تِلْكَ الْمَحِلَّةُ فَلَمْ
يَبْقَ سِوَى قَبْرِهَا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي "
" وَفِيَّاتِ الْأَعْيَانِ " "، قَالَ: وَلِأَهْلِ مِصْرَ فِيهَا
اعْتِقَادٌ. قُلْتُ: وَإِلَى الْآنِ، وَقَدْ بَالَغَ الْعَامَّةُ فِي أَمْرِهَا
كَثِيرًا جِدًّا، وَيُطْلِقُونَ فِيهَا عِبَارَاتٍ بَشِعَةً فِيهَا مُجَازَفَةٌ
تُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَأَلْفَاظًا كَثِيرَةً يَنْبَغِي أَنْ
يَعْرِفُوا بِأَنَّهَا لَا تَجُوزُ إِطْلَاقُهَا فِي مِثْلِ أَمْرِهَا، وَرُبَّمَا
نَسَبَهَا
بَعْضُهُمْ إِلَى زَيْنِ الْعَابِدِينَ، وَلَيْسَتْ مِنْ سُلَالَتِهِ، وَالَّذِي
يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ فِيهَا مِنَ الصَّلَاحِ مَا يَلِيقُ بِأَمْثَالِهَا
مِنَ النِّسَاءِ الصَّالِحَاتِ، وَأَصْلُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنَ
الْمُغَالَاةِ فِي الْقُبُورِ وَأَصْحَابِهِا، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَسْوِيَةِ الْقُبُورِ وَطَمْسِهَا. وَالْمُغَالَاةُ
فِي الْبَشَرِ حَرَامٌ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا تَفُكُّ مِنَ الْخَشَبِ، أَوْ أَنَّهَا
تَنْفَعُ أَوْ تَضُرُّ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ. رَحِمَهَا
اللَّهُ وَأَكْرَمَهَا وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَنْزِلَهَا.
الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي فَرْوَةَ كَيْسَانَ.
مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الَّذِي كَانَ زَوَالُ دَوْلَةِ الْبَرَامِكَةِ
عَلَى يَدَيْهِ، وَقَدْ وَزَرَ مَرَّةً لِلرَّشِيدِ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا
مِنَ الرَّشِيدِ، وَكَانَ شَدِيدَ التَّشَبُّهِ بِالْبَرَامِكَةِ، وَكَانُوا
يَسْتَهِينُونَ بِهِ فَلَمْ يَزَلْ يَعْمَلُ جُهْدَهُ فِيهِمْ حَتَّى هَلَكُوا
كَمَا تَقَدَّمَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّ الْفَضْلَ هَذَا
دَخَلَ يَوْمًا عَلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، وَابْنُهُ جَعْفَرٌ، يُوَقِّعُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَمَعَ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ عَشْرُ قِصَصٍ، فَلَمْ يَقْضِ لَهُ
مِنْهَا وَاحِدَةً بَلْ يَتَعَلَّلُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا،
فَجَمَعَهُنَّ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ وَقَالَ: ارْجِعْنَ خَائِبَاتٍ
خَاسِئَاتٍ. ثُمَّ نَهَضَ وَهُوَ يَقُولُ:
عَسَى وَعَسَى يَثْنِي الزَّمَانُ عِنَانَهُ بِتَصْرِيفِ حَالٍ وَالزَّمَانُ
عَثُورُ فَتُقْضَى لُبَانَاتٌ وَتُشْفَى حَسَائِفُ
وَتَحْدُثُ مِنْ بَعْدِ الْأُمُورِ أُمُورُ
فَسَمِعَهُ
الْوَزِيرُ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ فَقَالَ لَهُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا
رَجَعْتَ. فَأَخَذَ مِنْ يَدِهِ الْقِصَصَ فَوَقَّعَ عَلَيْهَا. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ
يَحْفِرُ خَلْفَهُمْ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْهُمْ، وَتَوَلَّى الْوَزَارَةَ
بَعْدَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو نُوَاسٍ:
مَا رَعَى الدَّهْرُ آلَ بَرْمَكَ لَمَّا أَنْ رَمَى مُلْكَهُمْ بِأَمْرٍ فَظِيعِ
إِنَّ دَهْرَاً لَمْ يَرْعَ عَهْدًا لِيَحْيَى غَيْرُ رَاعٍ ذِمَامَ آلِ
الرَّبِيعِ
ثُمَّ وَزَرَ مِنْ بَعْدِ الرَّشِيدِ لِابْنِهِ الْأَمِينِ، فَلَمَّا دَخَلَ
الْمَأْمُونُ بَغْدَادَ اخْتَفَى، فَأَرْسَلَ لَهُ الْمَأْمُونُ أَمَانًا
فَخَرَجَ، وَلَمْ يَزَلْ خَامِلًا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ
ثَمَانٍ وَسِتُّونَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا حَصَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ نَصْرَ بْنَ شَبَثٍ بَعْدَ مَا
حَارَبَهُ خَمْسَ سِنِينَ، فَلَمَّا حَصَرَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَضَيَّقَ
عَلَيْهِ جِدًّا حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى أَنْ طَلَبَ مِنْهُ الْأَمَانَ، فَكَتَبَ
ابْنُ طَاهِرٍ إِلَى الْمَأْمُونِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
الْمَأْمُونُ يَأْمُرُهُ بِكِتَابَةِ أَمَانٍ لِنَصْرِ بْنِ شَبَثٍ عَنْ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، فَكَتَبَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ كِتَابَ أَمَانٍ،
فَنَزَلَ فَأَمَرَ عَبْدُ اللَّهِ بِتَخْرِيبِ الْمَدِينَةِ الَّتِي كَانَ
مُتَحَصِّنًا بِهَا، وَذَهَبَ شَرُّهُ.
وَفِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ مَعَ بَابَكَ الْخُرَّمِيِّ فَأَسَرَ بَابَكُ بَعْضَ
أُمَرَاءِ الْإِسْلَامِ وَأَحَدَ مُقَدَّمِي الْعَسَاكِرِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ صَالِحُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ وَالِي مَكَّةَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَلِكُ الرُّومِ مِيخَائِيلُ بْنُ جُورْجِسَ، وَكَانَ لَهُ
عَلَيْهِمْ تِسْعَ سِنِينَ، فَمَلَّكُوا عَلَيْهِمُ ابْنَهُ تَوْفِيلَ بْنَ
مِيخَائِيلَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنْ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ:
الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، وَحَفْصُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَاضِي نَيْسَابُورَ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ وَيَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا دَخَلَ نَصْرُ بْنُ شَبَثٍ إِلَى بَغْدَادَ حِينَ بَعَثَهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ مِنَ الرَّقَّةِ فَدَخَلَهَا وَلَمْ يَتَلَقَّهُ
أَحَدٌ مِنَ الْجُنْدِ بَلْ دَخَلَهَا وَحْدَهُ فَأُنْزِلَ فِي مَدِينَةِ أَبِي
جَعْفَرٍ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، وَفِي هَذَا الشَّهْرِ ظَفِرَ
الْمَأْمُونُ بِجَمَاعَةٍ مِنْ كُبَرَاءِ مَنْ كَانَ بَايَعَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ
الْمَهْدِيِّ فَعَاقَبَهُمْ وَحَبَسَهُمْ فِي الْمُطْبِقِ.
ظُهُورُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ بَعْدَ اخْتِفَائِهِ
وَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْأَحَدِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا اجْتَازَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ وَكَانَ
مُخْتَفِيًا مُدَّةَ سِتِّ سِنِينَ وَشُهُورٍ مُنْتَقِبًا فِي زِيِّ امْرَأَةٍ
وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ فِي بَعْضِ دُرُوبِ بَغْدَادَ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ،
فَقَامَ الْحَارِسُ فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ وَمِنْ أَيْنَ ؟
ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُمْسِكَهُنَّ، فَأَعْطَاهُ إِبْرَاهِيمُ خَاتَمًا كَانَ فِي
يَدِهِ مِنْ يَاقُوتٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ الْحَارِسُ اسْتَرَابَ وَقَالَ:
إِنَّمَا هَذَا خَاتَمُ رَجُلٍ كَبِيرِ الشَّأْنِ. فَذَهَبَ بِهِنَّ إِلَى
مُتَوَلِّي اللَّيْلِ، فَأَمَرَهُنَّ أَنْ يُسْفِرْنَ عَنْ وُجُوهِهِنَّ،
فَتَمَنَّعَ
إِبْرَاهِيمُ
فَكَشَفُوا عَنْ وَجْهِهِ فَإِذَا هُوَ هُوَ، فَعَرَفَهُ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى
صَاحِبِ الْحَرَسِ فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ، فَرَفَعَهُ الْآخَرُ إِلَى بَابِ
الْمَأْمُونِ فَأَصْبَحَ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ وَنِقَابُهُ عَلَى رَأْسِهِ
وَالْمِلْحَفَةُ فِي صَدْرِهِ لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَلِيَعْلَمُوا كَيْفَ أُخِذَ.
فَأَمَرَ الْمَأْمُونُ بِالِاحْتِفَاظِ بِهِ وَالِاحْتِرَاسِ عَلَيْهِ مُدَّةً،
ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. هَذَا وَقَدْ صَلَبَ جَمَاعَةً مِمَّنْ كَانَ
سَجَنَهُمْ بِسَبَبِهِ لِكَوْنِهِمْ أَرَادُوا الْفَتْكَ بِالْمُوَكَّلِينَ
بِالسِّجْنِ، فَصَلَبَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ لَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ
يَدَيِ الْمَأْمُونِ شَرَعَ فِي تَأْنِيبِهِ، فَتَرَقَّقَ لَهُ عَمُّهُ إِبْرَاهِيمُ
كَثِيرًا، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ تُعَاقِبْ فَبِحَقِّكَ،
وَإِنْ تَعْفُ فَبِفَضْلِكَ. فَقَالَ: بَلْ أَعْفُو يَا إِبْرَاهِيمُ، إِنَّ
الْقُدْرَةَ تُذْهِبُ الْحَفِيظَةَ، وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ، وَبَيْنَهُمَا عَفْوُ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِمَّا تَسْأَلُهُ. فَكَبَّرَ
إِبْرَاهِيمُ وَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدِ امْتَدَحَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ ابْنَ أَخِيهِ الْمَأْمُونَ
بِقَصِيدَةٍ بَالَغَ فِيهَا، فَلَمَّا سَمِعَهَا الْمَأْمُونُ قَالَ: أَقُولُ
كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ
اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ يُوسُفَ: 92 ] وَذَكَرَ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الْمَأْمُونَ لَمَّا عَفَا عَنْ عَمِّهِ
إِبْرَاهِيمَ أَمَرَهُ أَنْ يُغَنِّيَهُ شَيْئًا، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُهُ.
فَأَمَرَهُ فَأَخَذَ الْعُودَ فِي حِجْرِهِ، وَقَالَ:
هَذَا مَقَامُ مُسَوَّدٍ خَرِبَتْ مَنَازِلُهُ وَدُورُهْ
نَمَّتْ
عَلَيْهِ عِدَاتُهُ
كَذِبًا فَعَاقَبَهُ أَمِيرُهْ
ثُمَّ عَادَ فَقَالَ:
ذَهَبْتُ مِنَ الدُّنْيَا وَقَدْ ذَهَبَتْ مِنِّى لَوَى الدَّهْرُ بِي عَنْهَا
وَوَلَّى بِهَا عَنِّي
فِإِنْ أَبْكِ نَفْسِي أَبْكِ نَفْسًا عَزِيزَةً وَإِنْ أَحْتَقِرْهَا
أَحْتَقِرْهَا عَلَى ضَنِّ
وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ الْمُسِيءَ بِعَيْنِهِ بِرَبِّي تَعَالَى جَدُّهُ حَسَنُ
الظَّنِّ
عَدَوْتُ عَلَى نَفْسِي فَعَادَ بِعَفْوِهِ عَلَيَّ فَعَادَ الْعَفْوُ مَنًّا
عَلَى مَنِّ
فَقَالَ الْمَأْمُونُ: أَحْسَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا. فَرَمَى
بِالْعُودِ مِنْ حِجْرِهِ، وَوَثَبَ قَائِمًا فَزِعًا مِنْ هَذَا الْكَلَامِ،
فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: اقْعُدْ وَاسْكُنْ، مَرْحَبًا بِكَ، لَمْ يَكُنْ
ذَلِكَ لِشَيْءٍ تَتَوَهَّمُهُ، وَوَاللَّهِ لَا رَأَيْتَ طُولَ أَيَّامِي شَيْئًا
تَكْرَهُهُ، وَتَغْتَمُّ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِرَدِّ جَمِيعِ مَا كَانَ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالضِّيَاعِ وَالدُّورِ، فَرُدَّتْ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ
بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ مُكْرَمًا
مُعَظَّمًا.
عُرْسُ
بُورَانَ
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا بَنَى الْمَأْمُونُ بِبُورَانَ بِنْتِ الْحَسَنِ بْنِ
سَهْلٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ فِي رَمَضَانَ إِلَى مُعَسْكَرِ
الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ بِفَمِ الصِّلْحِ، وَكَانَ الْحَسَنُ قَدْ عُوفِيَ مِنْ
مَرَضِهِ فَنَزَلَ الْمَأْمُونُ عِنْدَهُ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ وُجُوهِ الْأُمَرَاءِ
وَالرُّؤَسَاءِ وَأَكَابِرِ بَنِي هَاشِمٍ، فَدَخَلَ بِبُورَانَ فِي شَوَّالٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ فِي لَيْلَةٍ عَظِيمَةٍ، وَقَدْ أُشْعِلَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ
شُمُوعُ الْعَنْبَرِ، وَنُثِرَ عَلَى رَأْسِهِ الدُّرُّ وَالْجَوْهَرُ، فَوْقَ
حُصْرٍ مَنْسُوجَةٍ بِالذَّهَبِ الْأَحْمَرِ. وَكَانَ عَدَدُ الْجَوْهَرِ مِنْهُ
أَلْفَ دُرَّةٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُمِعَ فِي صِينِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ كَانَ
الْجَوْهَرُ فِيهَا، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا نَثَرْنَاهُ
لِتَتَلَقَّطَهُ الْجَوَارِي. فَقَالَ: لَا، أَنَا أُعَوِّضُهُنَّ خَيْرًا مِنْ
ذَلِكَ. فَجَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَلَمَّا جَاءَتِ الْعَرُوسُ وَمَعَهَا
جَدَّتُهَا وَزُبَيْدَةُ أُمُّ أَخِيهِ الْأَمِينِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ جَاءَ
مَعَهَا فَأُجْلِسَتْ إِلَى جَانِبِهِ فَصَبَّ فِي حِجْرِهَا ذَلِكَ
الْجَوْهَرَ،
وَقَالَ لَهَا: هَذَا نِحْلَةٌ مِنِّي لَكِ، وَسَلِي حَاجَتِكَ. فَأَطْرَقَتْ
حَيَاءً، فَقَالَتْ جَدَّتُهَا: كَلِّمِي سَيِّدَكِ وَسَلِيهِ حَاجَتَكِ فَقَدْ
أَمَرَكِ. فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تَرْضَى عَنْ
عَمِّكَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ وَأَنْ تَرُدَّهُ إِلَى مَنْزِلَتِهِ
الَّتِي كَانَ فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ. فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: وَأُمُّ جَعْفَرٍ
تَعْنِي زُبَيْدَةَ تَأْذَنُ لَهَا فِي الْحَجِّ. قَالَ: نَعَمْ. فَخَلَعَتْ
عَلَيْهَا زُبَيْدَةُ بِذْلَتَهَا الْأُمَوِيَّةَ، وَأَطْلَقَتْ لَهَا قَرْيَةً
مُقَوَّرَةً. وَأَمَّا وَالِدُ الْعَرُوسِ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ فَإِنَّهُ كَتَبَ
أَسْمَاءَ قُرَاهُ وَضِيَاعَهُ وَأَمْلَاكَهُ فِي رِقَاعٍ وَنَثَرَهَا عَلَى
الْأُمَرَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ، فَمَنْ وَقَعَتْ فِي يَدِهِ مِنْهَا رُقْعَةٌ،
بَعَثَ إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي فِيهَا نُوَّابُهُ فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ
مِلْكًا خَالِصًا. وَأَنْفَقَ عَلَى الْمَأْمُونِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ
الْجَيْشِ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ عِنْدَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا مَا يُعَادِلُ
خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَلَمَّا أَرَادَ الْمَأْمُونُ الِانْصِرَافَ
مِنْ عِنْدِهِ، أَطْلَقَ لَهُ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَقْطَعَهُ
الْبَلْدَةَ الَّتِي هُوَ نَازِلٌ بِهَا، وَهُوَ إِقْلِيمُ فَمِ الصِّلْحِ
مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الْإِقْطَاعَاتِ. وَرَجَعَ الْمَأْمُونُ إِلَى
بَغْدَادَ فِي أَوَاخِرِ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ رَكِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ إِلَى مِصْرَ
فَاسْتَنْقَذَهَا بِأَمْرِ الْمَأْمُونِ مِنْ يَدِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
السَّرِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، الْمُتَغَلِّبِ عَلَيْهَا، وَاسْتَعَادَهَا مِنْهُ
بَعْدَ
حُرُوبٍ
يَطُولُ ذِكْرُهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ اللُّغَوِيُّ.
وَاسْمُهُ إِسْحَاقُ بْنُ مِرَارٍ.
وَمَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّاطَرِيُّ.
وَيَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْجَوَّابِ. وَطَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ
الصَّنْعَانِيُّ، صَاحِبُ " الْمُصَنَّفِ "، وَ " الْمُسْنَدِ
"، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ، وَأَبُو الْعَتَاهِيَةِ
الشَّاعِرُ الْمُفْلِقُ الْمَشْهُورُ، وَاسْمُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَاسِمِ
بْنِ سُوَيْدِ بْنِ كَيْسَانَ، أَصْلُهُ مِنَ الْحِجَازِ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ
وَكَانَ يَبِيعُ الْجِرَارَ أَوَّلًا، ثُمَّ حَظِيَ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ لَا
سِيَّمَا الْمَهْدِيُّ، وَقَدْ كَانَ يَعْشَقُ جَارِيَةً لِلْمَهْدِيِّ اسْمُهُا
عُتْبَةُ وَقَدْ
طَلَبَهَا
مِنَ الْخَلِيفَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَإِذَا سَمَحَ لَهُ بِهَا لَا تُرِيدُهُ
الْجَارِيَةُ، وَتَقُولُ لِلْخَلِيفَةِ: أَتُعْطِينِي لِرَجُلٍ دَمِيمِ الْخَلْقِ
كَانَ يَبِيعُ الْجِرَارَ ؟ فَكَانَ يُكْثِرُ التَّغَزُّلَ فِيهَا، وَشَاعَ
أَمْرُهُ وَاشْتُهِرَ بِهَا، وَكَانَ الْمَهْدِيُّ يَفْهَمُ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمَهْدِيَّ
اسْتَدْعَى الشُّعَرَاءَ إِلَى مَجْلِسِهِ فَاجْتَمَعُوا، وَكَانَ فِيهِمْ أَبُو
الْعَتَاهِيَةِ وَبَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ الْأَعْمَى، فَسَمِعَ صَوْتَ أَبِي
الْعَتَاهِيَةِ، فَقَالَ بَشَّارٌ لِجَلِيسِهِ: أَثَمَّ هَاهُنَا أَبُو
الْعَتَاهِيَةِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَوَجِمَ لَهَا بَشَّارٌ، ثُمَّ اسْتَنْشَدَ
الْمَهْدِيُّ أَبَا الْعَتَاهِيَةِ. فَانْطَلَقَ يُنْشِدُهُ قَصِيدَتَهُ فِيهَا،
الَّتِي أَوَّلُهَا:
أَلَا مَا لِسَيِّدَتِي مَا لَهَا أَدَلَّتْ فَأَحْمِلَ إِدْلَالَاهَا
فَقَالَ بَشَّارٌ لِجَلِيسِهِ: مَا رَأَيْتُ أَجْسَرَ مِنْ هَذَا. حَتَّى انْتَهَى
أَبُو الْعَتَاهِيَةِ إِلَى قَوْلِهِ:
أَتَتْهُ الْخِلَافَةُ مُنْقَادَةً إِلَيهِ تُجَرِّرُ أَذْيَالَهَا
فَلَمْ تَكُ تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ وَلَمْ يَكُ يَصْلُحُ إِلَّا لَهَا
وَلَوْ رَامَهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ لَزُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا
وَلَوْ
لَمْ تُطِعْهُ بَنَاتُ الْقُلُوبِ لَمَا قَبِلَ اللُّهُ أَعْمَالَهَا
فَقَالَ بَشَّارٌ لِجَلِيسِهِ: انْظُرْ وَيْحَكَ، أَطَارَ الْخَلِيفَةُ عَنْ
فِرَاشِهِ أَمْ لَا ؟ قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ
يَوْمَئِذٍ بِجَائِزَةٍ غَيْرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: اجْتَمَعَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ بِأَبِي نُوَاسٍ وَكَانَ
فِي طَبَقَتِهِ وَطَبَقَةِ بَشَّارٍ، فَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ لِأَبِي
نُوَاسٍ: كَمْ تَعْمَلُ فِي الْيَوْمِ مِنَ الشِّعْرِ ؟ قَالَ: بَيْتًا أَوْ
بَيْتَيْنِ. فَقَالَ: لَكِنِّي أَعْمَلُ الْمِائَةَ وَالْمِائَتَيْنِ. فَقَالَ
أَبُو نُوَاسٍ: لِأَنَّكَ تَعْمَلُ مِثْلَ قَوْلِكَ:
يَا عُتْبَ مَا لِي وَلَكِ يَا لَيْتَنِي لَمْ أَرَكِ
وَلَوْ أَرَدْتُ مِثْلَ هَذَا الْأَلْفَ وَالْأَلْفَيْنِ، لَقَدَرْتُ عَلَيْهِ،
وَأَنَا أَعْمَلُ مِثْلَ قَوْلِي:
مِنْ كَفِّ ذَاتِ حِرٍّ فِي زِيِّ ذِي ذَكَرٍ لَهَا مُحِبَّانِ لُوطِيٌّ وَزَنَّاءُ
وَلَوْ أَرَدْتَ مِثْلَ هَذَا لَأَعْجَزَكَ الدَّهْرَ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ:
وَلَقَدْ صَبَوْتُ إِلَيْكِ حَتَّ ى صَارَ مِنْ فَرْطِ التَّصَابِي
يَجِدُ
الْجَلِيسُ إِذَا دَنَا رِيحَ التَّصَابِي فِي ثِيَابِي
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَأَشْعَارُهُ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ
ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَالِثَ جُمَادَى
الْآخِرَةِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَقِيلَ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ.
وَأَوْصَى أَنْ يَكْتُبَ عَلَى قَبْرِهِ بِبَغْدَادَ:
إِنَّ عَيْشًا يَكُونُ آخِرَهُ الْمَوْتُ لَعَيْشٌ مُعَجَّلُ التَّنْغِيصِ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَجَّهَ الْمَأْمُونُ مُحَمَّدَ بْنَ حُمَيْدٍ الطُّوسِيَّ عَلَى طَرِيقِ
الْمَوْصِلِ لِمُحَارَبَةِ بَابَكَ الْخُرَّمِيَّ فِي أَرْضِ أَذْرَبِيجَانَ
فَأَخَذَ جَمَاعَةً مِنَ الْمُتَغَلِّبِينَ فِيهَا، فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى
الْمَأْمُونِ أُسَرَاءَ إِلَى بَغْدَادَ وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ أَظْهَرَ الْمَأْمُونُ فِي النَّاسِ بِدْعَتَيْنِ فَظِيعَتَيْنِ؛
إِحْدَاهُمَا أَطَمُّ مِنَ الْأُخْرَى، وَهِيَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ،
وَالْأُخْرَى تَفْضِيلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أَخْطَأَ فِي كُلٍّ مِنْ
هَذَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأً كَبِيرًا فَاحِشًا، وَأَثِمَ إِثْمًا عَظِيمًا،
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، كَمَا
سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْعَبَّاسِ الْعَبَّاسِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ: أَسَدُ بْنُ مُوسَى، الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أَسَدُ السُّنَّةِ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ حَفْصٍ، وَأَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، وَاسْمُهُ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَأَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ الشَّامِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ، شَيْخُ الْبُخَارِيِّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا ثَارَ رَجُلَانِ بِمِصْرَ، وَهُمَا عَبْدُ السَّلَامِ وَابْنُ جَلِيسٍ،
فَخَلَعَا الْمَأْمُونَ وَاسْتَحْوَذَا عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَبَايَعَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْقَيْسِيَّةِ وَالْيَمَانِيَّةِ، فَوَلَّى
الْمَأْمُونُ أَخَاهُ أَبَا إِسْحَاقَ نِيَابَةَ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَوَلَّى
ابْنَهُ الْعَبَّاسَ نِيَابَةَ الْجَزِيرَةِ وَالثُّغُورِ وَالْعَوَاصِمِ،
وَأَطْلَقَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَلْفَ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَخَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمْ يُرَ يَوْمًا أَكْثَرَ
إِطْلَاقًا مِنْهُ، أَطْلَقَ فِيهِ لِهَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءِ الثَّلَاثَةِ أَلْفَ
أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ السِّنْدَ غَسَّانَ بْنَ عَبَّادٍ وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِيهَا
تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيُّ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ الْبَصْرِيُّ.
وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ.
وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الدِّمَشْقِيُّ.
وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ فِي " " الْوَفِيَّاتِ " " عَنْ
بَعْضِهِمْ أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَاهَانَ
الْمَوْصِلِيُّ النَّدِيمُ، وَأَبُو الْعَتَاهِيَةِ، وَأَبُو عَمْرٍو
الشَّيْبَانِيُّ النَّحْوِيُّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بِبَغْدَادَ، وَلَكِنَّهُ
صَحَّحَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّدِيمَ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ
وَمِائَةٍ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
هِشَامٍ رَاوِي السِّيرَةِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَكَاهُ ابْنُ خِلِّكَانَ عَنْهُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَمَانِي
عَشْرَةَ
وَمِائَتَيْنِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ فِي "
" تَارِيخِ مِصْرَ " ".
الْعَكَوَّكُ الشَّاعِرُ
أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ الْمُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيُّ، وَيُلَقَّبُ بِالْعَكَوَّكِ لِقِصَرِهِ وَسِمَنِهِ،
وَكَانَ مِنَ الْمَوَالِي، وَوُلِدَ أَعْمَى، وَقِيلَ: بَلْ أَصَابَهُ جُدَرِيٌّ
وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ فَعَمِيَ، وَكَانَ أَسْوَدَ أَبْرَصَ، وَكَانَ
شَاعِرًا مُطْبِقًا فَصِيحًا بَلِيغًا، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ فِي شِعْرِهِ
الْجَاحِظُ فَمَنْ بَعْدَهُ، قَالَ الْجَاحِظُ: مَا رَأَيْتُ بَدَوِيًّا وَلَا
حَضَرِيًّا أَحْسَنَ إِنْشَادًا مِنْهُ. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
بِأَبِي مَنْ زَارَنِي مُكْتَتِمًا خَائِفًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ جَزِعًا
زَائِرًا
نَمَّ عَلَيْهِ حُسْنُهُ كَيْفَ يُخْفِي اللَّيْلُ بَدْرًا طَلَعَا
رَصَدَ الْغَفْلَةَ حَتَّى أَمْكَنَتْ وَرَعَى السَّامِرَ حَتَّى هَجَعَا
رَكِبَ الْأَهْوَالَ فِي زَوْرَتِهِ ثُمَّ مَا سَلَّمَ حَتَّى وَدَّعَا
وَهُوَ الْقَائِلُ فِي أَبِي دُلْفٍ الْقَاسِمِ بْنِ عِيسَى الْعِجْلِيِّ
يَمْتَدِحُهُ:
إِنَّمَا الدُّنْيَا أَبُو دُلَفٍ بَيْنَ مَغْزَاهُ وَمُحْتَضَرِهْ فَإِذَا وَلَّى
أَبُو دُلَفٍ وَلَّتِ الدُّنْيَا عَلَى أَثَرِهْ
كُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَرَبٍ بَيْنَ بَادِيهِ إِلَى حَضَرِهْ مُسْتَعِيرٌ
مِنْكَ مَكْرُمَةً يَكْتَسِيهَا يَوْمَ مُفْتَخَرِهْ
وَلَمَّا بَلَغَ الْمَأْمُونَ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ وَهِيَ فِي قَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ
عَارَضَ فِيهَا أَبَا نُوَاسٍ الْحَسَنَ بْنَ هَانِئٍ تَطَلَّبَهُ الْمَأْمُونُ
فَهَرَبَ مِنْهُ كُلَّ مَهْرَبٍ، ثُمَّ أُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ:
وَيْحَكَ ! فَضَّلْتَ الْقَاسِمَ بْنَ عِيسَى عَلَيْنَا ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ،
أَنْتُمْ أَهْلُ بَيْتٍ اصْطَفَاكُمُ اللَّهُ مِنْ بَيْنِ عِبَادِهِ، وَآتَاكُمْ
مُلْكًا عَظِيمًا، وَإِنَّمَا فَضَّلْتُهُ عَلَى أَشْكَالِهِ وَأَقْرَانِهِ.
فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَبْقَيْتَ أَحَدًا، وَلَقَدْ أَدْخَلْتَنَا فِي الْكُلِّ
حَيْثُ تَقُولُ:
كُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَرَبٍ
الْبَيْتَيْنِ. وَمَعَ هَذَا فَلَا أَسْتَحِلُّ قَتْلَكَ بِهَذَا، وَلَكِنْ
بِكُفْرِكَ وَبِشِرْكِكَ، حَيْثُ تَقُولُ فِي عَبْدٍ ذَلِيلٍ:
أَنْتَ الَّذِي تُنْزِلُ الْأَيَّامَ مَنْزِلَهَا وَتَنْقُلُ الدَّهْرَ مِنْ حَالٍ
إِلَى حَالِ
وَمَا مَدَدْتَ مَدَى طَرَفٍ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا قَضَيْتَ بِأَرْزَاقٍ وَآجَالِ
ذَاكَ اللَّهُ يَفْعَلُهُ، أَخْرِجُوا لِسَانَهُ مِنْ قَفَاهُ. فَأَخْرَجُوا
لِسَانَهُ مِنْ قَفَاهُ فَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
وَقَدِ امْتَدَحَ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ الطُّوسِيَّ:
إِنَّمَا الدُّنْيَا حُمَيْدٌ وَأَيَادِيهِ الْجِسَامُ
فَإِذَا وَلَّى حُمَيْدٌ فَعَلَى الدُّنْيَا السَّلَامُ
وَقَوْلُهُ:
تَكَفَّلَ سَاكِنِي الدُّنْيَا حُمَيْدٌ فَقَدْ أَضْحَوْا لَهُ فِيهَا عِيَالَا
كَأَنَّ أَبَاهُ آدَمَ كَانَ أَوْصَى إِلَيْهِ أَنْ يَعُولَهُمْ فَعَالَا
وَلَمَّا
مَاتَ حُمَيْدٌ هَذَا فِي سَنَةِ عَشْرٍ مَعَ الْمَأْمُونِ بِفَمِ الصِّلْحِ،
قَالَ الْعَكَوَّكُ يَرْثِيهِ قَصِيدَةً، مِنْهَا قَوْلُهُ:
فَأَدَّبَنَا مَا أَدَّبَ النَّاسَ قَبْلَنَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلصَّبْرِ
مَوْضِعُ
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ يَرْثِي حُمَيْدًا هَذَا:
أَبَا غَانِمٍ أَمَّا ذَرَاكَ فَوَاسِعٌ وَقَبْرُكَ مَعْمُورُ الْجَوَانِبِ
مُحْكَمُ
وَمَا يَنْفَعُ الْمَقْبُورَ عُمْرَانُ قَبْرِهِ إِذَا كَانَ فِيهِ جِسْمُهُ يَتَهَدَّمُ
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ خِلِّكَانَ لِعَكَوَّكٍ هَذَا أَشْعَارًا جَيِّدَةً
تَرَكْنَاهَا اخْتِصَارًا
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ السَّبْتِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا الْتَقَى
مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَبَابَكُ الْخُرَّمِيُّ، لَعَنَهُ اللَّهُ فَقَتَلَ
الْخُرَّمِيُّ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ جَيْشِهِ وَقَتَلَهُ أَيْضًا، وَانْهَزَمَ
بَقِيَّةُ أَصْحَابِ ابْنِ حُمَيْدٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ، فَبَعَثَ الْمَأْمُونُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَحْيَى بْنَ
أَكْثَمَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ يُخَيِّرَانِهِ بَيْنَ خُرَاسَانَ
وَنِيَابَةِ الْجِبَالِ وَأَذْرَبِيجَانَ وَأَرْمِينِيَةَ، لِمُحَارَبَةِ بَابَكَ
فَاخْتَارَ الْمُقَامَ بِخُرَاسَانَ، لِكَثْرَةِ احْتِيَاجِهَا إِلَى الضَّبْطِ،
وَلِلْخَوْفِ مِنْ ظُهُورِ الْخَوَارِجِ بِهَا.
وَفِيهَا دَخَلَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ الرَّشِيدِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ،
فَافْتَتَحَهَا وَاسْتَعَادَهَا إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَظَفِرَ بِعَبْدِ
السَّلَامِ وَابْنِ جَلِيسٍ وَقَتَلَهُمَا. وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ:
بِلَالٌ الضَّبَابِيُّ الشَّارِيُّ فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ ابْنَهُ
الْعَبَّاسَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَقَتَلُوا بِلَالًا وَعَادُوا
سَالِمِينَ. وَفِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ عَلِيَّ بْنَ هِشَامٍ
الْجَبَلَ
وَقُمَّ وَأَصْبَهَانَ وَأَذْرَبِيجَانَ، وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِسْحَاقُ
بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْوَهْبِيُّ.
وَحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ.
شَيْخُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ الْمِصْرِيُّ.
وَمُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو.
وَأَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ صُبَيْحٍ أَبُو جَعْفَرٍ
الْكَاتِبُ.
وَلِيَ دِيوَانَ الرَّسَائِلِ لِلْمَأْمُونِ. تَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ،
وَأَوْرَدَ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلَهُ:
قَدْ يُرْزَقُ الْمَرْءُ لَا مِنْ حُسْنِ حِيلَتِهِ وَيُصْرَفُ الرِّزْقُ عَنْ ذِي
الْحِيلَةِ الدَّاهِي مَا مَسَّنِي مِنْ غِنًى يَوْمًا وَلَا عَدَمٍ
إِلَّا وَقَوْلِي عَلَيْهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
وَلَهُ
أَيْضًا:
إِذَا قُلْتَ فِي شَيْءٍ نَعَمْ فَأَتِمَّهُ فَإِنَّ نَعَمْ دَيْنٌ عَلَى الْحُرِّ
وَاجِبُ
وَإِلَّا فَقُلْ لَا تَسْتَرِحْ وُترِحْ بِهَا لِئَلَّا يَقُولَ النَّاسُ إِنَّكَ
كَاذِبُ
وَلَهُ:
إِذَا الْمَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ بِلِسَانِهِ فَلَامَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَهُوَ
أَحْمَقُ
إِذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ فَصَدْرُ الَّذِي
اسْتَوْدَعْتَهُ السِّرَّ أَضْيَقُ
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَعْيَنَ بْنِ لَيْثِ بْنِ
رَافِعٍ الْمِصْرِيُّ، أَحَدُ مَنْ قَرَأَ " " الْمُوَطَّأَ "
" عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَتَفَقَّهَ بِمَذْهَبِهِ، وَكَانَ مُعَظَّمًا
بِبِلَادِ مِصْرَ، وَلَهُ بِهَا ثَرْوَةٌ وَأَمْوَالٌ وَافِرَةٌ. وَحِينَ قَدِمَ
الشَّافِعِيُّ مِصْرَ أَعْطَاهُ أَلْفَ دِينَارٍ، وَجَمَعَ لَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ
أَلْفَيْ دِينَارٍ أُخْرَى.
وَهُوَ وَالِدُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الَّذِي
صَحِبَ الشَّافِعِيَّ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دُفِنَ إِلَى
جَانِبِ قَبْرِ الشَّافِعِيِّ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
دُفِنَ إِلَى جَانِبِ أَبِيهِ مِنَ الْقِبْلَةِ. قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: فَهِيَ
ثَلَاثَةُ أَقْبُرٍ، الشَّافِعِيُّ شَامِيُّهَا، وَهُمَا قِبْلَتُهُ، رَحِمَهُمُ
اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا رَكِبَ الْمَأْمُونُ فِي الْعَسَاكِرِ مِنْ
بَغْدَادَ قَاصِدًا بِلَادَ الرُّومِ لِغَزْوِهِمْ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ
وَأَعْمَالِهَا إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، فَلَمَّا كَانَ
بِتَكْرِيتَ تَلَقَّاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَأَذِنَ لَهُ الْمَأْمُونُ فِي الدُّخُولِ عَلَى
ابْنَتِهِ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْمَأْمُونِ وَكَانَ مَعْقُودَ الْعَقْدِ
عَلَيْهَا فِي حَيَاةِ أَبِيهِ فَدَخَلَ بِهَا، وَأَخَذَهَا مَعَهُ إِلَى بِلَادِ
الْحِجَازِ، وَتَلَقَّاهُ أَخُوهُ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ الرَّشِيدِ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ وَسَارَ
الْمَأْمُونُ فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ إِلَى بِلَادِ طَرَسُوسَ فِي جُمَادَى الْأُولَى
مِنْهَا، وَفَتَحَ حِصْنًا هُنَاكَ عَنْوَةً وَأَمَرَ بِهَدْمِهِ، ثُمَّ رَجَعَ
الْمَأْمُونُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ إِلَى دِمَشْقَ فَنَزَلَهَا وَعَمَرَ دَيْرَ
مُرَّانَ بِسَفْحِ قَاسْيُونَ، وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ الصُّورِيُّ،
وَقَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، وَمَكِّيُّ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ.
فَأَمَّا أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ؛ فَهُوَ سَعِيدُ بْنُ أَوْسِ بْنِ ثَابِتٍ
الْبَصْرِيُّ اللُّغَوِيُّ أَحَدُ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ
كَانَ يَرَى الْقَدَرَ. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ
الْمَازِنِيُّ:
رَأَيْتُ الْأَصْمَعِيَّ جَاءَ إِلَى أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَقَبَّلَ
رَأْسَهُ وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: أَنْتَ رَئِيسُنَا وَسَيِّدُنَا
مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ
كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا " خَلْقُ الْإِنْسَانِ " وَ " كِتَابُ
الْإِبِلِ " وَ " كِتَابُ الْمِيَاهِ " وَ " كِتَابُ
الْقَوْسِ وَالتُّرْسِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ.
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي قَبْلَهَا أَوِ الَّتِي
بَعْدَهَا. وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَارَبَ الْمِائَةَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا عَدَا مَلِكُ الرُّومِ وَهُوَ تَوْفِيلُ بْنُ مِيخَائِيلَ فَقَتَلَ جَمَاعَةً
مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْضِ طَرَسُوسَ؛ نَحْوًا مِنْ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ
إِنْسَانٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَيْضًا كَتَبَ إِلَى الْمَأْمُونِ فَبَدَأَ
بِنَفْسِهِ فَلَمَّا قَرَأَ الْمَأْمُونُ كِتَابَهُ نَهَضَ مِنْ فَوْرِهِ،
فَرَكِبَ فِي الْجُيُوشِ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ،
وَصُحْبَتُهُ أَخُوهُ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ الرَّشِيدِ نَائِبُ الشَّامِ وَمِصْرَ،
فَافْتَتَحَ بُلْدَانًا كَثِيرَةً صُلْحًا وَعَنْوَةً، وَافْتَتَحَ أَخُوهُ
ثَلَاثِينَ حِصْنًا، وَبَعَثَ الْمَأْمُونُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ فِي سَرِيَّةٍ
إِلَى طُوَانَةَ فَافْتَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَأَسَرَ خَلْقًا مِنَ
الذَّرَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ الرُّومِ، وَحَرَقَ حُصُونًا
عِدَّةً، ثُمَّ عَادَ سَالِمًا مُؤَيَّدًا إِلَى الْعَسْكَرِ. وَأَقَامَ
الْمَأْمُونُ بِبِلَادِ الرُّومِ مِنْ نِصْفِ جُمَادَى الْآخِرَةِ إِلَى نِصْفِ
شَعْبَانَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ وَثَبَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ:
عُبْدُوسٌ الْفِهْرِيُّ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِبِلَادِ مِصْرَ،
فَتَغَلَّبَ عَلَى نُوَّابِ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ الرَّشِيدِ، وَقَوِيَتْ
شَوْكَتُهُ، وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَرَكِبَ الْمَأْمُونُ مِنْ دِمَشْقَ
يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِيهَا كَتَبَ الْمَأْمُونُ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ نَائِبِ بَغْدَادَ وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْبِلَادِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالتَّكْبِيرِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَكَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ فِي جَامِعِ الْمَدِينَةِ وَالرُّصَافَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، أَنَّهُمْ لَمَّا قَضَوُا الصَّلَاةَ قَامَ النَّاسُ قِيَامًا فَكَبَّرُوا ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ اسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ، وَهَذِهِ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا الْمَأْمُونُ بِلَا مُسْتَنَدٍ وَلَا دَلِيلٍ وَلَا مُعْتَمَدٍ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ قَبْلَهُ أَحَدٌ وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي " " الصَّحِيحِ " " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ. وَقَدِ اسْتَحَبَّ هَذَا طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى عَدَمِ اسْتِحْبَابِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ الذِّكْرَ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ مَشْرُوعٌ، فَلَمَّا عُلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لِلْجَهْرِ مَعْنًى. وَهَذَا كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا
هَذِهِ الْبِدْعَةُ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الْمَأْمُونُ؛ فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ
مُحْدَثَةٌ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ.
وَفِيهَا وَقَعَ بَرْدٌ شَدِيدٌ جِدًّا. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الَّذِي حَجَّ
بِهِمْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، وَقِيلَ: غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ.
وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قُرَيْبٍ الْأَصْمَعِيُّ.
صَاحِبُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالشِّعْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ بِلَالٍ.
وَهَوْذَةُ بْنُ خَلِيفَةَ.
زُبَيْدَةُ امْرَأَةُ هَارُونَ الرَّشِيدِ وَابْنَةُ عَمِّهِ
وَهِيَ ابْنَةُ جَعْفَرٍ، أَمَةُ الْعَزِيزِ الْمُلَقَّبَةُ بِزُبَيْدَةَ بِنْتُ
جَعْفَرِ بْنِ الْمَنْصُورِ
الْقُرَشِيَّةُ الْهَاشِمِيَّةُ الْعَبَّاسِيَّةُ، امْرَأَةُ هَارُونَ الرَّشِيدِ وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ فِي زَمَانِهَا، مَعَ مَا كَانَ مَعَهَا مِنَ الْحَظَايَا وَالزَّوْجَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَرْجَمَتِهِ، وَإِنَّمَا لُقِّبَتْ زُبَيْدَةَ؛ لِأَنَّ جَدَّهَا أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ كَانَ يُلَاعِبُهَا وَيُرَقِّصُهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا أَنْتِ زُبَيْدَةُ. لِبَيَاضِهَا، فَغَلَبَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَلَا تُعْرَفُ إِلَّا بِهِ، وَأَصْلُ اسْمِهَا أَمَةُ الْعَزِيزِ، كَانَتْ مِنَ الْجِمَالِ وَالْمَالِ وَالْخَيْرِ وَالدِّيَانَةِ عَلَى جَانِبٍ، وَلَهَا مِنَ الصَّدَقَاتِ وَالْأَوْقَافِ وَوُجُوهِ الْقُرُبَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَرَوَى الْخَطِيبُ أَنَّهَا حَجَّتْ، فَبَلَغَتْ نَفَقَتُهَا فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنَّهَا لَمَّا هَنَّأَتِ الْمَأْمُونَ بِالْخِلَافَةِ حِينَ دَخَلَ بَغْدَادَ قَالَتْ لَهُ: لَقَدْ هَنَّأْتُ نَفْسِي بِهَا عَنْكَ قَبْلَ أَنْ أَرَاكَ، وَلَئِنْ كُنْتُ فَقَدْتُ ابْنَا خَلِيفَةٍ لَقَدْ عُوِّضْتُ ابْنًا خَلِيفَةً لَمْ أَلِدْهُ، وَمَا خَسِرَ مَنِ اعْتَاضَ مِثْلَكَ، وَلَا ثَكِلَتْ أُمٌّ مَلَأَتْ يَدَهَا مِنْكَ، وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَجْرًا عَلَى مَا أَخَذَ، وَإِمْتَاعًا بِمَا عَوَّضَ. وَذَكَرَ أَنَّهَا تُوُفِّيَتْ بِبَغْدَادَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ الْخَطِيبُ: حَدَّثَنِى الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ لَفْظًا قَالَ: وَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي الْفَتْحِ الْقَوَّاسِ: ثنا صَدَقَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْمَوْصِلِيُّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ الزَّمِنُ: رَأَيْتُ زُبَيْدَةَ فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكِ ؟ فَقَالَتْ: غَفَرَ لِي فِي أَوَّلِ مِعْوَلٍ ضُرِبَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ. قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ الصُّفْرَةُ فِي وَجْهِكِ ؟ قَالَتْ: دُفِنَ بَيْنَ ظَهْرَانِينَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ زَفَرَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ زَفْرَةً فَاقْشَعَرَّ لَهَا جَسَدِي، فَهَذِهِ الصُّفْرَةُ مِنْ تِلْكَ الزَّفْرَةِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّهُ كَانَ لَهَا مِائَةُ جَارِيَةٍ كُلُّهُنَّ يَحْفَظْنَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَوِرْدُ كُلِّ وَاحِدَةٍ عُشْرُ الْقُرْآنِ، وَكَانَ يُسْمَعُ لَهُنَّ فِي الْقَصْرِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ الْمَأْمُونُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ،
وَظَفِرَ بِعُبْدُوسٍ الْفِهْرِيِّ، فَأَمَرَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، ثُمَّ كَرَّ
رَاجِعًا إِلَى الشَّامِ. وَفِيهَا رَكِبَ الْمَأْمُونُ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ
أَيْضًا، فَحَاصَرَ لُؤْلُؤَةَ مِائَةَ يَوْمٍ، ثُمَّ ارْتَحَلَ عَنْهَا
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى حِصَارِهَا عُجَيْفًا، فَخَدَعَتْهُ الرُّومُ فَأَسَرُوهُ،
فَأَقَامَ فِي أَيْدِيهِمْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ انْفَلَتَ مِنْ
أَيْدِيهِمْ، وَاسْتَمَرَّ مُحَاصِرًا لَهُمْ، فَجَاءَ مَلِكُ الرُّومِ بِنَفْسِهِ
فَأَحَاطَ بِجَيْشِهِ مِنْ وَرَائِهِ، فَبَلَغَ الْمَأْمُونَ فَسَارَ إِلَيْهِ،
فَلَمَّا أَحَسَّ تَوْفِيلُ بِقُدُومِهِ انْصَرَفَ هَارِبًا مِنْ وَجْهِهِ،
وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْوَزِيرَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الصَّنْغَلُ. فَسَأَلَهُ
الْأَمَانَ وَالْمُصَالَحَةَ وَالْمُهَادَنَةَ، لَكِنَّهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ فِي
كِتَابِهِ إِلَى الْمَأْمُونِ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْمَأْمُونُ كِتَابًا بَلِيغًا
مَضْمُونُهُ التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ، وَإِنِّي إِنَّمَا أَقْبَلُ مِنْكَ
الدُّخُولَ فِي الْحَنِيفِيَّةِ وَإِلَّا فَالسَّيْفُ وَالْقَتْلُ، وَالسَّلَامُ عَلَى
مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ
عَلِيٍّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ: حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، وَسُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَمُوسَى بْنُ دَاوُدَ الضَّبِّيُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى مِنْهَا وَجَّهَ الْمَأْمُونُ ابْنَهُ
الْعَبَّاسَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ لِبِنَاءِ الطُّوَانَةِ، وَتَجْدِيدِ
عِمَارَتِهَا، وَبَعَثَ إِلَى سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْآفَاقِ فِي تَجْهِيزِ
الْفَعَلَةِ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ إِلَيْهَا؛ مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا مِيلًا فِي مِيلٍ، وَأَنْ
يَجْعَلَ سُورَهَا ثَلَاثَةَ فَرَاسِخَ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهَا ثَلَاثَةَ
أَبْوَابٍ عِنْدَ كُلِّ بَابٍ حِصْنٌ.
ذِكْرُ أَوَّلِ الْمِحْنَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ الْمَأْمُونُ إِلَى نَائِبِهِ بِبَغْدَادَ إِسْحَاقَ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَمْتَحِنَ الْقُضَاةَ
وَالْمُحَدِّثِينَ بِالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ
جَمَاعَةً مِنْهُمْ إِلَى الرَّقَّةِ وَنُسْخَةَ كِتَابِ الْمَأْمُونِ إِلَى
نَائِبِهِ مُطَوَّلَةٌ، قَدْ سَرَدَهَا ابْنُ
جَرِيرٍ
وَمَضْمُونُهُا الِاحْتِجَاجُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ
بِقَدِيمٍ، وَعِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا
يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَا الْمُحَدِّثِينَ،
فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ
لَا يَقُولُونَ بِأَنَّ فِعْلَهُ تَعَالَى الْقَائِمَ بِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ -
بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ - مَخْلُوقٌ، بَلْ يَقُولُونَ: هُوَ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ
بِمَخْلُوقٍ. بَلْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ
الْمُقَدَّسَةِ، وَمَا كَانَ قَائِمًا بِذَاتِهِ لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا، وَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [
الْأَنْبِيَاءِ: 2 ] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ
صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [ الْأَعْرَافِ:
11 ] فَالْأَمْرُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ صَدَرَ مِنْهُ تَعَالَى بَعْدَ خَلْقِ
آدَمَ، فَالْكَلَامُ الْقَائِمُ بِالذَّاتِ لَيْسَ مَخْلُوقًا، وَهَذَا لَهُ
مَوْضِعٌ آخَرُ. وَقَدْ صَنَّفَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كِتَابًا فِي
هَذَا الْمَعْنَى سَمَّاهُ " " خَلْقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ "
".
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ كِتَابَ الْمَأْمُونِ لَمَّا وَرَدَ بَغْدَادَ قُرِئَ عَلَى
النَّاسِ، وَقَدْ عَيَّنَ الْمَأْمُونُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُحَدِّثِينَ
لِيُحْضِرَهُمْ إِلَيْهِ، وَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ،
وَأَبُو مُسْلِمٍ مُسْتَمْلِي يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ،
وَأَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ دَاوُدَ،
وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الدَّوْرَقِيُّ.
فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى الْمَأْمُونِ إِلَى الرَّقَّةِ فَامْتَحَنَهُمْ بِالْقَوْلِ
بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ وَأَظْهَرُوا مُوَافَقَتَهُ،
وَهُمْ كَارِهُونَ، فَرَدَّهُمْ إِلَى بَغْدَادَ وَأَمَرَ بِإِشْهَارِ أَمْرِهِمْ
بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَفَعَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ذَلِكَ، وَأَحْضَرَ
خَلْقًا مِنْ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ، وَالْقُضَاةِ وَأَئِمَّةِ
الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهِمْ، فَدَعَاهُمُ الى ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ الْمَأْمُونِ
وَذَكَرَ لَهُمْ مُوَافَقَةَ أُولَئِكَ الْمُحَدِّثِينَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ،
فَأَجَابُوا بِمِثْلِ جَوَابِ أُولَئِكَ مُوَافَقَةً لَهُمْ، وَوَقَعَتْ بَيْنَ
النَّاسِ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثُمَّ كَتَبَ الْمَأْمُونُ كِتَابًا ثَانِيًا إِلَى إِسْحَاقَ يَسْتَدِلُّ فِيهِ
عَلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ بِشُبَهٍ مِنَ الدَّلَائِلِ لَا تَحْقِيقَ
تَحْتَهَا، وَلَا حَاصِلَ لَهَا بَلْ هِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَأَوْرَدَ
مِنَ الْقُرْآنِ آيَاتٍ هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ
جَرِيرٍ بِطُولِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، وَأَنْ
يَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ وَإِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَأَحْضَرَ
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمَاعَةً مِنَ الْأَئِمَّةِ؛ وَهُمْ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ، وَقُتَيْبَةُ، وَأَبُو حَسَّانَ الزِّيَادِيُّ، وَبِشْرُ بْنُ
الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي مُقَاتِلٍ، وَسَعْدَوَيْهِ
الْوَاسِطِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ،
وَابْنُ الْهَرْشِ، وَابْنُ عُلَيَّةَ الْأَكْبَرُ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ
الْحَمِيدِ الْعُمَرِيُّ، وَشَيْخٌ آخَرُ مِنْ سُلَالَةِ عُمَرَ
كَانَ قَاضِيًا عَلَى الرَّقَّةِ وَأَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، وَأَبُو مَعْمَرٍ الْقَطِيعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ الْمَضْرُوبُ، وَابْنُ الْفَرُّخَانِ، وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَابْنُ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ، وَأَبُو الْعَوَّامِ الْبَزَّازُ، وَأَبُو شُجَاعٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ الْمَأْمُونِ فَلَمَّا فَهِمُوهُ قَالَ لِبِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقَالَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ، وَإِنَّمَا أَسْأَلُكَ أَهُوَ مَخْلُوقٌ ؟ قَالَ: لَيْسَ بِخَالِقٍ. قَالَ: وَلَا عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ. فَقَالَ: مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا. وَصَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَحَدًا فَرْدًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَلَا بَعْدَهُ شَيْءٌ وَلَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي وَلَا وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لِلْكَاتِبِ: اكْتُبْ بِمَا قَالَ. فَكَتَبَ، ثُمَّ امْتَحَنَهُمْ رَجُلًا رَجُلًا، فَأَكْثَرُهُمُ امْتَنَعَ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَكَانَ إِذَا امْتَنَعَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَمْتَحِنُهُ بِمَا فِي الرُّقْعَةِ الَّتِي وَافَقَ عَلَيْهَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ، مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي وَلَا وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَيَقُولُ: نَعَمْ. كَمَا قَالَ بِشْرٌ.
وَلَمَّا
انْتَهَتِ النَّوْبَةُ إِلَى امْتِحَانِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَقَالَ لَهُ:
أَتَقُولُ إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ ؟ فَقَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ، لَا
أَزِيدُ عَلَى هَذَا. فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذِهِ الرُّقْعَةِ ؟
فَقَالَ: أَقُولُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [
الشُّورَى: 11 ] فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّهُ يَقُولُ سَمِيعٌ
بِأُذُنٍ بَصِيرٌ بِعَيْنٍ. فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ: مَا أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ مِنْهَا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْهَا،
وَهُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، وَلَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ. فَكَتَبَ جَوَابَاتِ
الْقَوْمِ رَجُلًا رَجُلًا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْمَأْمُونِ.
فَصْلٌ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ نَائِبَ بَغْدَادَ
لَمَّا امْتَحَنَ الْجَمَاعَةَ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَنَفَى
التَّشْبِيهَ، فَأَجَابُوا كُلُّهُمْ إِلَى نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ، وَأَمَّا
الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا كُلُّهُمْ:
الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَلَا أَزِيدُ عَلَى
هَذَا حَرْفًا أَبَدًا وَقَرَأَ فِي نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [ الشُّورَى: 11 ]
فَقَالُوا: مَا أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ
مِنْهَا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَكَانَ مِنَ الْحَاضِرِينَ مَنْ أَجَابَ
إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ مُصَانَعَةً مُكْرَهًا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَعْزِلُونَ مَنْ لَا يُجِيبُ عَنْ وَظَائِفِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ رِزْقٌ عَلَى
بَيْتِ الْمَالِ قُطِعَ، وَإِنْ كَانَ مُفْتِيًا مُنِعَ مِنَ الْإِفْتَاءِ، وَإِنْ
كَانَ شَيْخَ حَدِيثٍ رُدِعَ عَنِ الْإِسْمَاعِ وَالْأَدَاءِ، وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ
صَمَّاءُ وَمِحْنَةٌ شَنْعَاءُ وَدَاهِيَةٌ دَهْيَاءُ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
فَصْلٌ
وَأَمَرَ النَّائِبُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكَاتِبَ، فَكَتَبَ عَنْ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَوَابَهُ بِعَيْنِهِ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْمَأْمُونِ فَجَاءَ
الْجَوَابُ بِمَدْحِ النَّائِبِ عَلَى مَا فَعَلَ، وَالرَّدِّ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ،
فَرَدَّ مَا قَالَ فِي كِتَابٍ أَرْسَلَهُ، وَأَمَرَ نَائِبَهُ أَنْ
يَمْتَحِنَهُمْ أَيْضًا، فَمَنْ أَجَابَ مِنْهُمْ شُهِرَ أَمْرُهُ فِي النَّاسِ،
وَمَنْ لَمْ يُجِبْ مِنْهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَابْعَثْ بِهِ
إِلَى عَسْكَرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُقَيَّدًا، مُحْتَفَظًا بِهِ حَتَّى
يَصِلَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ
أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. فَعَقَدَ الْأَمِيرُ
بِبَغْدَادَ مَجْلِسًا آخَرَ، وَأَحْضَرَ أُولَئِكَ وَفِيهِمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
الْمَهْدِيِّ وَكَانَ صَاحِبًا لِبِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيِّ، وَقَدْ
نَصَّ الْمَأْمُونُ عَلَى قَتْلِهِمَا إِنْ لَمْ يُجِيبَا عَلَى الْفَوْرِ،
فَلَمَّا امْتَحَنَهُمْ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَانِيًا بَعْدَ قِرَاءَةِ
كِتَابِ الْخَلِيفَةِ أَجَابُوا كُلُّهُمْ مُكْرَهِينَ مُتَأَوِّلِينَ قَوْلَهُ
تَعَالَى إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [ النَّحْلِ:
106 ] إِلَّا أَرْبَعَةً؛ وَهُمْ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
نُوحٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ سَجَّادَةُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
الْقَوَارِيرِيُّ. فَقَيَّدَهُمْ وَأَرْصَدَهُمْ لِيَبْعَثَ بِهِمْ إِلَى
الْمَأْمُونِ ثُمَّ اسْتَدْعَى بِهِمْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَامْتَحَنَهُمْ،
فَأَجَابَ سَجَّادَةُ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ
وَأَطْلَقَهُ، ثُمَّ امْتَحَنَهُمْ فِي
الْيَوْمِ
الثَّالِثِ فَأَجَابَ الْقَوَارِيرِيُّ إِلَى ذَلِكَ، فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ أَيْضًا
وَأَطْلَقَهُ، وَأَصَرَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ
الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ ذَلِكَ فَأَكَّدَ قُيُودَهُمَا
وَجَمَعَهُمَا فِي الْحَدِيدِ، وَبَعَثَ بِهِمَا إِلَى الْخَلِيفَةِ وَهُوَ
بِطَرَسُوسَ، وَكَتَبَ مَعَهُمَا كِتَابًا بِإِرْسَالِهِمَا إِلَيْهِ، فَسَارَا
مُقَيَّدَيْنِ فِي مَحَارَةٍ عَلَى جَمَلٍ مُتَعَادِلِينَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، وَجَعَلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا
يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَأْمُونِ وَأَنْ لَا يَرَيَاهُ وَلَا
يَرَاهُمَا.
وَجَاءَ كِتَابُ الْمَأْمُونِ إِلَى نَائِبِهِ؛ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ
الْقَوْمَ إِنَّمَا أَجَابُوا مُكْرَهِينَ، مُتَأَوِّلِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَقَدْ أَخْطَئُوا فِي
ذَلِكَ خَطَأً كَبِيرًا فَأَرْسِلْهُمْ كُلَّهُمْ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
فَاسْتَدْعَاهُمْ إِسْحَاقُ وَأَلْزَمَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى طَرَسُوسَ فَسَارُوا
إِلَيْهَا، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بَلَغَهُمْ مَوْتُ الْمَأْمُونِ
فَرُدُّوا إِلَى الرَّقَّةِ ثُمَّ أُذِنَ لَهُمْ فِي الرُّجُوعِ إِلَى بَغْدَادَ.
وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَابْنُ نُوحٍ قَدْ سَبَقَا النَّاسَ، وَلَكِنْ
لَمْ يَجْتَمِعَا بِهِ حَتَّى مَاتَ، وَاسْتَجَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دُعَاءَ
عَبْدِهِ وَوَلِيِّهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
فَلَمْ يَجْتَمِعُوا بِالْمَأْمُونِ، وَرُدُّوا إِلَى بَغْدَادَ وَسَيَأْتِي
تَمَامُ مَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ فِي أَوَّلِ وِلَايَةِ
الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَهَذِهِ
تَرْجَمَةُ الْمَأْمُونِ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَأْمُونُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْمَهْدِيِّ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ
الْعَبَّاسِيُّ، أَبُو جَعْفَرٍ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ
اسْمُهَا مَرَاجِلُ الْبَاذَغِيسِيَّةُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ لَيْلَةَ تُوُفِّيَ عَمُّهُ الْهَادِي،
وَوَلِيَ أَبُوهُ هَارُونُ الرَّشِيدُ وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ كَمَا
تَقَدَّمَ
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرٍ: رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، وَهُشَيْمِ بْنِ بِشْرٍ،
وَأَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ، وَيُوسُفَ بْنِ عَطِيَّةَ، وَعَبَّادِ بْنِ
الْعَوَّامِ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، وَحَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْأَعْوَرِ.
وَرَوَى
عَنْهُ أَبُو حُذَيْفَةَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ وَهُوَ أَسَنُّ مِنْهُ وَيَحْيَى
بْنُ أَكْثَمَ الْقَاضِي، وَابْنُهُ الْفَضْلُ بْنُ الْمَأْمُونِ، وَمَعْمَرُ بْنُ
شَبِيبٍ، وَأَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ الطَّيَالِسِيُّ،
وَأَحْمَدُ بْنُ الْحَارِثِ الشِّيعِيُّ، وَالْيَزِيدِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ
مَسْعَدَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ السُّلَمِيُّ، وَدِعْبِلُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُزَاعِيُّ.
قَالَ: وَقَدِمَ دِمَشْقَ دُفَعَاتٍ، وَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً.
ثُمَّ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْصِلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ
الْمَأْمُونَ فِي الشَّمَّاسِيَّةِ، وَقَدْ أَجْرَى الْحَلْبَةَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ
إِلَى كَثْرَةِ النَّاسِ، فَقَالَ لِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ: أَمَا تَرَى كَثْرَةَ
النَّاسِ ؟ ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ
أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْخَلْقُ
كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ فَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ
وَمِنْ
حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الْمَيَانَجِيِّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ
الْمَالِكِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ الْقَاضِي، عَنِ الْمَأْمُونِ عَنْ
هُشَيْمٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ.
وَمِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ الطَّيَالِسِيِّ أَنَّهُ صَلَّى
الْعَصْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ خَلْفَ الْمَأْمُونِ بِالرُّصَافَةِ، فَلَمَّا سَلَّمَ
كَبَّرَ النَّاسُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: لَا يَا غَوْغَاءُ، لَا يَا غَوْغَاءُ، عَدَا
سُنَّةِ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا كَانَ
الْغَدُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَكَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: أَنْبَأَ هُشَيْمُ بْنُ
بَشِيرٍ، ثنا ابْنُ شُبْرُمَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ
قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ فَقَدْ أَصَابَ
السُّنَّةَ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ
اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، اللَّهُمَّ أَصْلِحْنِي، وَاسْتَصْلِحْنِي،
وَأَصْلِحْ عَلَى يَدَيَّ.
تَوَلَّى
الْمَأْمُونُ الْخِلَافَةَ فِي الْمُحَرَّمِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْهُ بَعْدَ
مَقْتَلِ أَخِيهِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَاسْتَمَرَّ فِي
الْخِلَافَةِ عِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ. وَقَدْ كَانَ فِيهِ تَشَيُّعٌ
وَاعْتِزَالٌ، وَجَهْلٌ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ بَايَعَ فِي سَنَةِ إِحْدَى
وَمِائَتَيْنِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ لَعَلِيٍّ الرِّضَا بْنِ
مُوسَى الْكَاظِمِ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ
عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ الشَّهِيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، وَخَلَعَ السَّوَادَ وَلَبِسَ الْخُضْرَةَ كَمَا قَدَّمْنَا،
فَأَعْظَمَ ذَلِكَ الْعَبَّاسِيُّونَ مِنَ الْبَغَادِدَةِ، وَغَيْرِهِمْ،
وَخَلَعُوا الْمَأْمُونُ وَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ
كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ ظَفِرَ الْمَأْمُونُ بِهِمْ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُهُ فِي
الْخِلَافَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ الرِّضَا بِطُوسَ، وَعَفَا عَنْ
عَمِّهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي
مَوْضِعِهِ.
أَمَّا كَوْنُهُ عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ؛ فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ بِجَمَاعَةٍ؛
مِنْهُمْ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيُّ، فَأَخَذَ عَنْهُمْ هَذَا الْمَذْهَبَ
الْبَاطِلَ، وَكَانَ يُحِبُّ الْعِلْمَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَصِيرَةٌ نَافِذَةٌ
فِيهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الدَّاخِلُ، وَرَاجَ عِنْدَهُ
الْبَاطِلُ،
وَدَعَا إِلَيْهِ وَحَمَلَ النَّاسَ قَهْرًا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ
أَيَّامِهِ وَانْقِضَاءِ دَوْلَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: كَانَ الْمَأْمُونُ أَبْيَضَ
رَبْعَةً حَسَنَ الْوَجْهِ، قَدْ وَخَطَهُ الشَّيْبُ تَعْلُوهُ صُفْرَةٌ، أَعْيَنَ
طَوِيلَ اللِّحْيَةِ رَقِيقَهَا، ضَيِّقَ الْجَبِينِ، عَلَى خَدِّهِ خَالٌ.
أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا: مَرَاجِلُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبَّادٍ، قَالَ: لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ غَيْرُ عُثْمَانَ
بْنِ عَفَّانَ وَالْمَأْمُونِ.
وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. قَالُوا: كَانَ يَتْلُو فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثَلَاثًا
وَثَلَاثِينَ خَتْمَةً.
وَجَلَسَ يَوْمًا لِإِمْلَاءِ الْحَدِيثِ، فَاجْتَمَعَ حَوْلَهُ الْقَاضِي يَحْيَى
بْنُ أَكْثَمَ وَجَمَاعَةٌ، فَأَمْلَى عَلَيْهِمْ مِنْ حِفْظِهِ ثَلَاثِينَ
حَدِيثًا، وَكَانَتْ لَهُ بَصِيرَةٌ بِعُلُومٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ مِنْ فِقْهٍ،
وَطِبٍّ، وَشِعْرٍ، وَفَرَائِضَ، وَكَلَامٍ، وَنَحْوٍ، وَعَرَبِيَّةٍ،
وَغَرِيبٍ،
وَعِلْمِ النُّجُومِ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ الزِّيجُ الْمَأْمُونِيُّ، وَقَدِ
اخْتَبَرَ مِقْدَارَ الدَّرَجَةِ فِي وَطْأَةِ سِنْجَارَ فَاخْتَلَفَ عَمَلُهُ
وَعَمَلُ الْأَوَائِلِ مِنَ الْقُدَمَاءِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الْمَأْمُونَ جَلَسَ يَوْمًا لِلنَّاسِ، وَفِي
مَجْلِسِهِ الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ تَتَظَلَّمُ
إِلَيْهِ، فَذَكَرَتْ أَنَّ أَخَاهَا تُوُفِّيَ، وَتَرَكَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ،
فَلَمْ يَحْصُلْ لَهَا سِوَى دِينَارٍ وَاحِدٍ. فَقَالَ لَهَا عَلَى الْبَدِيهَةِ:
قَدْ وَصَلَ إِلَيْكِ حَقُّكِ، كَأَنَّ أَخَاكِ قَدْ تَرَكَ بِنْتَيْنِ، وَأُمَّا،
وَزَوْجَةً، وَاثْنَيْ عَشَرَ أَخًا، وَأُخْتًا وَهِيَ أَنْتِ. قَالَتْ: نَعَمْ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ
أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ مِائَةُ دِينَارٍ،
وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا، يَبْقَى خَمْسَةٌ
وَعِشْرُونَ دِينَارًا؛ لِكُلِّ أَخٍ دِينَارَانِ، وَلَكِ دِينَارٌ. فَعَجِبَ
النَّاسُ مِنْ فِطْنَتِهِ وَسُرْعَةِ جَوَابِهِ. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ
الْحِكَايَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَدَخَلَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ عَلَى الْمَأْمُونِ وَقَدْ قَالَ فِيهِ بَيْتًا مِنَ
الشِّعْرِ يَرَاهُ
عَظِيمًا،
فَلَمَّا أَنْشَدَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ هَذَا الْبَيْتُ مَوْقِعًا
طَائِلًا، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَقِيَهُ شَاعِرٌ آخَرُ، فَقَالَ: أَلَا
أُعَجَّبُكَ ؟ أَنْشَدْتُ الْمَأْمُونَ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفَعْ بِهِ
رَأْسًا. فَقَالَ: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: قُلْتُ فِيهِ:
أَضْحَى إِمَامُ الْهُدَى الْمَأْمُونُ مُشْتَغِلًا بِالدِّينِ وَالنَّاسُ
بِالدُّنْيَا مَشَاغِيلُ
فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الشَّاعِرُ الْآخَرُ: مَا زِدْتَ عَلَى أَنْ جَعَلْتَهُ
عَجُوزًا فِي مِحْرَابِهَا، فَهَلَّا قُلْتَ كَمَا قَالَ جَرِيرٌ فِي عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ الْوَلِيدِ:
فَلَا هُوَ فِي الدُّنْيَا مُضَيِّعٌ نَصِيبَهُ وَلَا عَرَضُ الدُّنْيَا عَنِ
الدِّينِ شَاغِلُهُ
وَقَالَ الْمَأْمُونُ يَوْمًا لِبَعْضِ جُلَسَائِهِ: بَيْتَانِ لِاثْنَيْنِ مَا
لَحِقَهُمَا أَحَدٌ؛ قَوْلُ أَبِي نُوَاسٍ:
إِذَا اخْتَبَرَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي لِبَاسِ
صَدِيقِ
وَقَوْلُ شُرَيْحٍ
تَهُونُ عَلَى الدُّنْيَا الْمَلَامَةُ إِنَّهُ حَرِيصٌ عَلَى اسْتِصْلَاحِهَا
مَنْ يَلُومُهَا
قَالَ الْمَأْمُونُ: وَقَدْ أَلْجَأَنِي الزِّحَامُ يَوْمًا وَأَنَا فِي
الْمَوْكِبِ حَتَّى خَالَطْتُ
السُّوقَةَ،
فَرَأَيْتُ رَجُلًا فِي دُكَّانٍ عَلَيْهِ أَثْوَابٌ خَلِقَةٌ، فَنَظَرَ إِلَيَّ
نَظَرَ مَنْ يَرْحَمُنِي أَوْ يَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِي، فَقَالَ:
أَرَى كُلَّ مَغْرُورٍ تُمَنِّيهِ نَفْسُهُ إِذَا مَا مَضَى عَامٌ سَلَامَةَ
قَابِلِ
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ سَمِعْتُ الْمَأْمُونَ يَوْمَ عِيدٍ خَطَبَ
النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: عِبَادَ اللَّهِ، عَظُمَ أَمْرُ
الدَّارَيْنِ، وَارْتَفَعَ جَزَاءُ الْعَامِلِينَ، وَطَالَتْ مُدَّةُ
الْفَرِيقَيْنِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَلْجِدُّ لَا اللَّعِبُ، وَإِنَّهُ
لَلْحَقُّ لَا الْكَذِبُ، وَمَا هُوَ إِلَّا الْمَوْتُ، وَالْبَعْثُ وَالْحِسَابُ،
وَالْفَصْلُ وَالصِّرَاطُ، ثُمَّ الْعِقَابُ وَالثَّوَابُ، فَمَنْ نَجَا
يَوْمَئِذٍ فَقَدْ فَازَ، وَمَنْ هَوَى يَوْمَئِذٍ فَقَدْ خَابَ، الْخَيْرُ
كُلُّهُ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي النَّارِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ قَالَ: دَخَلْتُ
عَلَى الْمَأْمُونِ فَقَالَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا نَضْرُ ؟ قُلْتُ: بِخَيْرٍ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: مَا الْإِرْجَاءُ ؟ فَقُلْتُ: دِينٌ يُوَافِقُ
الْمُلُوكَ، يُصِيبُونَ بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ، وَيَنْقُصُونَ مِنْ دِينِهِمْ.
قَالَ: صَدَقْتَ. ثُمَّ قَالَ: يَا نَضْرُ، أَتَدْرِي مَا قُلْتُ فِي صَبِيحَةِ
هَذَا الْيَوْمِ ؟ قُلْتُ:
أَنَّى
لِي بِعِلْمِ الْغَيْبِ ؟ فَقَالَ: قُلْتُ:
أَصْبَحَ دِينِي الَّذِي أَدِينُ بِهِ وَلَسْتُ مِنْهُ الْغَدَاةَ مُعْتَذِرَا
حُبُّ عَلِيٍّ بَعْدَ النَّبِيِّ وَلَا أَشْتِمُ صِدِّيقًا وَلَا عُمَرَا
ثُمَّ ابْنُ عَفَّانَ فِي الْجِنَانِ مَعَ الْ أَبْرَارِ ذَلِكَ الْقَتِيلُ
مُصْطَبِرَا
لَا وَلَا أَشْتِمُ الزُّبَيْرَ وَلَا طَلْحَةَ إِنْ قَالَ قَائِلٌ غَدَرَا
وَعَائِشَ الْأُمُّ لَسْتُ أَشْتِمُهَا مَنْ يَفْتَرِيهَا فَنَحْنُ مِنْهُ بَرَا
وَهَذَا الْمَذْهَبُ ثَانِي مَرَاتِبِ التَّشَيُّعِ، وَفِيهِ تَفْضِيلُ عَلِيٍّ
عَلَى عُثْمَانَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: مَنْ
فَضَّلَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ، يَعْنِي فِي اجْتِهَادِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ اتَّفَقُوا
عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ بَعْدَ مَقْتَلِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ. وَبَعْدَ ذَلِكَ سِتَّ عَشْرَةَ مَرْتَبَةً فِي التَّشَيُّعِ عَلَى مَا
ذَكَرَهُ صَاحِبُ كِتَابِ " " الْبَلَاغِ الْأَكْبَرِ وَالنَّامُوسِ
الْأَعْظَمِ " " تَنْتَهِي إِلَى أَكْفَرِ الْكُفْرِ.
وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
لَا
أُوتَى بِأَحَدٍ فَضَّلَنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِلَّا جَلَدْتُهُ جَلْدَ
الْمُفْتَرِي. وَتَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ
عَثْمَانُ.
فَقَدْ خَالَفَ الْمَأْمُونُ بْنُ الرَّشِيدِ فِي مَذْهَبِهِ الصَّحَابَةَ
كُلَّهُمْ، حَتَّى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ
أَضَافَ الْمَأْمُونُ إِلَى بِدْعَتِهِ هَذِهِ الَّتِي أَزْرَى فِيهَا عَلَى
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ، الْبِدْعَةَ الْأُخْرَى،
وَالطَّامَّةَ الْعُظْمَى، وَهِيَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ مَعَ مَا فِيهِ
مِنَ الِانْهِمَاكِ عَلَى تَعَاطِي الْمُسْكِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْأَفْعَالِ الَّتِي تَعَدَّدَ فِيهَا الْمُنْكَرُ، وَلَكِنْ كَانَ فِيهِ
شَهَامَةٌ عَظِيمَةٌ، وَقُوَّةٌ جَسِيمَةٌ وَلَهُ هِمَّةٌ فِي الْقِتَالِ،
وَحِصَارِ الْأَعْدَاءِ، وَمُصَابَرَةِ الرُّومِ، وَحَصْرِهِمْ فِي بُلْدَانِهِمْ،
وَقَتْلِ فُرْسَانِهِمْ، وَأَسْرِ ذَرَارِيهِمْ وَوِلْدَانِهِمْ. وَكَانَ يَقُولُ:
كَانَ مُعَاوِيَةُ بِعَمْرِهِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بِحَجَّاجِهِ، وَأَنَا
بِنَفْسِي.
وَكَانَ يَقْصِدُ الْعَدْلَ، وَيَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ
وَالْفَصْلَ؛ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ فَتَظَلَّمَتْ عَلَى ابْنِهِ
الْعَبَّاسِ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَأَمَرَ الْحَاجِبَ
فَأَخَذَهُ
بِيَدِهِ فَأَجْلَسَهُ مَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ
أَخَذَ ضَيْعَةً لَهَا وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، فَتَنَاظَرَا سَاعَةً فَجَعَلَ
صَوْتُهُا يَعْلُو عَلَى صَوْتِهِ فَزَجَرَهَا بَعْضُ الْحَاضِرِينَ، فَقَالَ لَهُ
الْمَأْمُونُ: اسْكُتْ فَإِنَّ الْحَقَّ أَنْطَقَهَا، وَالْبَاطِلَ أَسْكَتَهُ.
ثُمَّ حَكَمَ لَهَا بِحَقِّهَا وَأَغْرَمَ لَهَا وَلَدَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ
دِرْهَمٍ، وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ: لَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ
يَكُونَ آنِيَتُكَ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَغَرِيمُكَ عَارٍ، وَجَارُكَ طَاوٍ.
وَوَقَفَ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: وَاللَّهِ
لَأَقْتُلَنَّكَ. فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَأَنَّ عَلَيَّ
فَإِنَّ الرِّفْقَ نِصْفُ الْعَفْوِ. فَقَالَ: وَيْلَكَ وَيْحَكَ! قَدْ حَلَفْتُ
لَأَقْتُلَنَّكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ تَلْقَ اللَّهَ
حَانِثًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَلْقَاهُ قَاتِلًا. فَعَفَا عَنْهُ. وَكَانَ يَقُولُ:
لَيْتَ أَهْلَ الْجَرَائِمِ يَعْرِفُونَ أَنَّ مَذْهَبِي الْعَفْوُ، حَتَّى
يَذْهَبَ الْخَوْفُ عَنْهُمْ وَيَدْخُلَ السُّرُورُ إِلَى قُلُوبِهِمْ، وَرَكِبَ
يَوْمًا فِي حَرَّاقَةٍ فَسَمِعَ مَلَّاحًا يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: تَرَوْنَ هَذَا
الْمَأْمُونُ يَنْبُلُ فِي عَيْنِي، وَقَدْ قَتَلَ أَخَاهُ الْأَمِينَ ؟ يَقُولُ
ذَلِكَ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِمَكَانِ الْمَأْمُونِ فَجَعَلَ الْمَأْمُونُ
يَتَبَسَّمُ وَيَقُولُ: كَيْفَ تَرَوْنَ الْحِيلَةَ حَتَّى أَنْبُلَ فِي عَيْنِ
هَذَا الرَّجُلِ الْجَلِيلِ ؟
وَحَضَرَ عِنْدَ الْمَأْمُونِ هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ لِيَتَغَدَّى عِنْدَهُ،
فَلَمَّا رُفِعَتِ الْمَائِدَةُ جَعَلَ هُدْبَةُ يَلْتَقِطُ مَا تَنَاثَرَ مِنْهَا،
فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: أَمَا شَبِعْتَ يَا شَيْخُ ؟ فَقَالَ بَلَى،
وَلَكِنْ
حَدَّثَنِي حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَكَلَ مَا تَحْتَ
مَائِدَتِهِ أَمِنَ مِنَ الْفَقْرِ قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ الْمَأْمُونُ بِأَلْفِ
دِينَارٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الْمَأْمُونَ قَالَ يَوْمًا لِمُحَمَّدِ بْنِ
عَبَّادِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُهَلَّبِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، قَدْ
أَعْطَيْتُكَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَأَلْفَ أَلْفٍ، وَأَلْفَ أَلْفٍ، وَأَنَّ عَلَيْكَ
دَيْنًا. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مَنْعَ الْمَوْجُودِ سُوءُ
ظَنٍّ بِالْمَعْبُودِ. فَقَالَ: أَحْسَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَعْطُوهُ
أَلْفَ أَلْفٍ وَأَلْفَ أَلْفٍ.
وَلَمَّا أَرَادَ الْمَأْمُونُ أَنْ يَدْخُلَ بِبُورَانَ بِنْتِ الْحَسَنِ بْنِ
سَهْلٍ، جَعَلَ النَّاسُ يُهْدُونَ لِأَبِيهَا الْأَشْيَاءَ النَّفِيسَةَ، وَكَانَ
مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَعْتَزُّ بِهِ رَجُلٌ مِنَ الْأُدَبَاءِ، فَأَهْدَى إِلَيْهِ
مِزْوَدًا فِيهِ مِلْحٌ طَيِّبٌ، وَمِزْوَدًا فِيهِ أُشْنَانٌ جَيِّدٌ، وَكَتَبَ
إِلَيْهِ: إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ تُطْوَى صَحِيفَةُ أَهْلِ الْبِرِّ وَلَا أُذْكَرُ
فِيهَا فَوَجَّهْتُ إِلَيْكَ بِالْمُبْتَدَأِ بِهِ، لِيُمْنِهِ، وَبَرَكَتِهِ،
وَبِالْمَخْتُومِ بِهِ، لِطِيبِهِ وَنَظَافَتِهِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ:
بِضَاعَتِي تَقْصُرُ عَنْ هِمَّتِي وَهِمَّتِي تَقْصُرُ عَنْ مَالِي
فَالْمِلْحُ وَالْأُشْنَانُ يَا سَيِّدِي أَحْسَنُ مَا يُهْدِيهِ أَمْثَالِي
قَالَ:
فَدَخَلَ بِهِمَا الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ عَلَى الْمَأْمُونِ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ،
وَأَمَرَ بِالْمُزْوَدَيْنِ فَفُرِّغَا، وَمُلِئَا دَنَانِيرَ، وَبَعَثَ بِهِمَا
إِلَى ذَلِكَ الْأَدِيبِ.
وَوُلِدَ لِلْمَأْمُونِ ابْنُهُ جَعْفَرٌ فَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ
يُهَنِّئُونَهُ بِصُنُوفِ التَّهَانِي، وَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ،
فَقَالَ لَهُ يُهَنِّئُهُ بِوَلَدِهِ:
مَدَّ لَكَ اللَّهُ الْحَيَاةَ مَدًّا حَتَّى تَرَى ابْنَكَ هَذَا جَدَّا
ثُمَّ يُفَدِّي مِثْلَ مَا تَفَدَّى كَأَنَّهُ أَنْتَ إِذَا تَبَدَّى
أَشْبَهُ مِنْكَ قَامَةً وَقَدًّا مُؤْزَرًا بِمَجْدِهِ مُرَدَّا
قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَقَدِمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِدِمَشْقَ مَالٌ جَزِيلٌ بَعْدَ مَا كَانَ قَدْ
أَفْلَسَ وَشَكَى إِلَى أَخِيهِ الْمُعْتَصِمِ ذَلِكَ، فَوَرَدَتْ عَلَيْهِ
خَزَائِنُ مِنْ خُرَاسَانَ وَبِهَا ثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَخَرَجَ
يَسْتَعْرِضُهَا وَقَدْ زُيِّنَتِ الْجِمَالُ وَالْأَحْمَالُ وَمَعَهُ يَحْيَى
بْنُ أَكْثَمَ الْقَاضِي، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْبَلَدَ، قَالَ: لَيْسَ مِنَ
الْمُرُوءَةِ أَنْ نَحُوزَ نَحْنُ هَذَا كُلَّهُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ. ثُمَّ
فَرَّقَ مِنْهُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِجْلُهُ فِي الرِّكَابِ
لَمْ يَنْزِلْ عَنْ فَرَسِهِ.
وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
لِسَانِي كَتُومٌ لِأَسْرَارِكُمْ وَدَمْعِي نَمُومٌ لِسِرِّي مُذِيعْ
فَلَوْلَا
دُمُوعِي كَتَمْتُ الْهَوَى وَلَوْلَا الْهَوَى لَمْ تَكُنْ لِي دُمُوعْ
وَقَدْ بَعَثَ خَادِمًا لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي لِيَأْتِيَهُ بِجَارِيَةٍ،
فَأَطَالَ الْخَادِمُ عِنْدَهَا الْمُكْثَ، وَتَمَنَّعَتِ الْجَارِيَةُ مِنَ
الْمَجِيءِ إِلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ إِلَيْهَا الْمَأْمُونُ بِنَفْسِهِ،
فَأَنْشَأَ الْمَأْمُونُ يَقُولُ:
بَعَثْتُكَ مُشْتَاقًا فَفُزْتُ بِنَظْرَةٍ وَأَغْفَلْتَنِي حَتَّى أَسَأْتُ بِكَ
الظَّنَّا
وَنَاجَيْتُ مَنْ أَهْوَى وَكُنْتُ مُقَرَّبًا فَيَا لَيْتَ شِعْرِي عَنْ
دُنُوِّكَ مَا أَغْنَى
وَرَدَّدْتَ طَرْفًا فِي مَحَاسِنِ وَجْهِهَا وَمَتَّعْتَ بِاسْتِسْمَاعِ
نَغَمَتِهَا أُذُنَا
أَرَى أَثَرًا فِي صَحْنِ خَدِّكَ لَمْ يَكُنْ لَقَدْ سَرَقَتْ عَيْنَاكَ مِنْ
حُسْنِهَا حُسْنَا
وَلَمَّا ابْتَدَعَ الْمَأْمُونُ مَا ابْتَدَعَ مِنَ التَّشَيُّعِ
وَالِاعْتِزَالِ، فَرِحَ بِذَلِكَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ وَكَانَ بِشْرٌ هَذَا
شَيْخَ الْمَأْمُونِ فَأَنْشَأَ الْمَرِيسِيُّ يَقُولُ:
قَدْ قَالَ مَأْمُونُنُا وَسَيِّدُنَا قَوْلًا لَهُ فِي الْكِتَابِ تَصْدِيقُ
إِنَّ عَلِيًّا أَعْنِي أَبَا حَسَنٍ أَفْضَلُ مَنْ أَرْقَلَتْ بِهِ النُّوقُ
بَعْدَ
نَبِيِّ الْهُدَى وَإِنَّ لَنَا أَعْمَالَنَا وَالْقُرْآنُ مَخْلُوقُ
فَأَجَابَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَقَالَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا قَوْلٌ وَلَا عَمَلُ لِمَنْ يَقُولُ كَلَامُ اللَّهِ
مَخْلُوقُ
مَا قَالَ ذَاكَ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا النَّبِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ
صِدِّيقُ
وَلَمْ يَقُلْ ذَاكَ إِلَّا كُلُّ مُبْتَدِعٍ عَلَى الْإِلَهِ وَعِنْدَ اللَّهِ
زِنْدِيقُ
عَمْدًا أَرَادَ بِهِ إِمْحَاقَ دِينِكُمْ لِأَنَّ دِينَهُمْ وَاللَّهِ مَمْحُوقُ
أَصَحُّ يَا قَوْمُ عَقْلًا مِنْ خَلِيفَتِكُمْ يُمْسِي وَيُصْبُحُ فِي
الْأَغْلَالِ مَوْثُوقُ
وَقَدْ سَأَلَ بِشْرٌ مِنَ الْمَأْمُونِ أَنْ يَطْلُبَ قَائِلَ هَذَا
فَيُؤَدِّبَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: وَيْحَكَ! لَوْ كَانَ فَقِيهًا
لَأَدَّبْتُهُ وَلَكِنَّهُ شَاعِرٌ فَلَسْتُ أَعْرِضُ لَهُ.
وَلَمَّا تَجَهَّزَ الْمَأْمُونُ لِلْغَزْوِ فِي آخِرِ سَفْرَةٍ سَافَرَهَا إِلَى
طَرَسُوسَ اسْتَدْعَى بِجَارِيَةٍ كَانَ يُحِبُّهَا، وَقَدِ اشْتَرَاهَا فِي آخِرِ
عُمُرِهِ، فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَبَكَتِ الْجَارِيَةُ وَقَالَتْ: قَتَلْتَنِي يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِسَفَرِكَ هَذَا، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ:
سَأَدْعُو دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّ رَبًّا يُثِيبُ عَلَى الدُّعَاءِ وَيَسْتَجِيبُ
لَعَلَّ
اللَّهَ أَنْ يَكْفِيَكَ حَرْبًا وَيَجْمَعَنَا كَمَا تَهْوَى الْقُلُوبُ
فَضَمَّهَا إِلَيْهِ وَأَنْشَأَ يَقُولُ مُتَمَثِّلًا:
فَيَا حُسْنَهَا إِذْ يَغْسِلُ الدَّمْعُ كُحْلَهَا وَإِذْ هِيَ تَذْرِي الدَّمْعَ
مِنْهَا الْأَنَامِلُ
صَبِيحَةَ قَالَتْ فِي الْعِتَابِ قَتَلْتَنِي وَقَتْلِي بِمَا قَالَتْ هُنَاكَ
تُحَاوِلُ
ثُمَّ أَمَرَ مَسْرُورًا الْخَادِمَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا وَالِاحْتِفَاظِ
عَلَيْهَا حَتَّى يَرْجِعَ، ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ:
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ
بِأَطْهَارِ
ثُمَّ وَدَّعَهَا وَسَارَ فَمَرِضَتِ الْجَارِيَةُ فِي غَيْبَتِهِ هَذِهِ، وَمَاتَ
الْمَأْمُونُ أَيْضًا، فَلَمَّا جَاءَ نَعْيُهُ إِلَيْهَا تَنَفَّسَتِ
الصُّعَدَاءَ وَحَضَرَتْهَا الْوَفَاةُ، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ وَهِيَ فِي
السِّيَاقِ:
إِنَّ الزَّمَانَ سَقَانَا مِنْ مَرَارَتِهِ بَعْدَ الْحَلَاوَةِ أَنْفَاسًا
فَأَرْوَانَا
أَبْدَى لَنَا تَارَةً مِنْهُ فَأَضْحَكَنَا ثُمَّ انْثَنَى تَارَةً أُخْرَى
فَأَبْكَانَا
إِنَّا إِلَى اللَّهِ فِيمَا لَا يَزَالُ بِنَا مِنَ الْقَضَاءِ وَمِنْ تَلْوِينِ
دُنْيَانَا
دُنْيَا تَرَاهَا تُرِينَا مِنْ تَصَرُّفِهَا مَا لَا يَدُومُ مُصَافَاةً
وَأَحْزَانَا
وَنَحْنُ فِيهَا كَأَنَّا لَا يُزَايِلُنَا لِلْعَيْشِ أَحْيَاؤُنَا يَبْكُونَ
مَوْتَانَا
وَكَانَتْ
وَفَاةُ الْمَأْمُونِ بِطَرَسُوسَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَقْتَ الظُّهْرِ
وَقِيلَ: بَعْدَ الْعَصْرِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ مِنْ
سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ نَحْوٌ مِنْ
ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ عِشْرِينَ سَنَةً
وَأَشْهُرًا وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ الْمُعْتَصِمُ؛ وَهُوَ وَلِيُّ الْعَهْدِ
مِنْ بَعْدِهِ، وَدُفِنَ بِطَرَسُوسَ فِي دَارِ خَاقَانَ الْخَادِمِ. وَقِيلَ:
كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ. وَقِيلَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ
خَلَوْنَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ خَارِجَ
طَرَسُوسَ بِأَرْبَعِ مَرَاحِلَ، فَحُمِلَ إِلَيْهَا فَدُفِنَ بِهَا. وَقِيلَ:
إِنَّهُ نُقِلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَذَنَةَ فِي رَمَضَانَ فَدُفِنَ بِهَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْمَخْزُومِيُّ:
مَا رَأَيْتُ النُّجُومَ أَغْنَتْ عَنِ الْمَأْ مُونِ فِي عِزِّ مُلْكِهِ
الْمَأْسُوسِ
خَلَّفُوهُ بِعَرْصَتَيْ طَرَسُوسَ مِثْلَ مَا خَلَّفُوا أَبَاهُ بِطُوسِ
وَقَدْ
كَانَ أَوْصَى إِلَى أَخِيهِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمِ، وَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ
بِحَضْرَةِ ابْنِهِ الْعَبَّاسِ، وَجَمَاعَةِ الْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ
وَالْوُزَرَاءِ وَالْكُتَّابِ، وَفِيهَا الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ
يَتُبْ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أَدْرَكَهُ أَجَلُهُ وَانْقَضَى عَمَلُهُ، وَهُوَ عَلَى
ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ، وَأَوْصَى أَنْ يُكَبِّرَ
عَلَيْهِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ خَمْسًا، وَأَوْصَى أَخَاهُ أَبَا إِسْحَاقَ
الْمُعْتَصِمَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ،
وَأَنْ يَعْتَقِدَ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ أَخُوهُ الْمَأْمُونُ فِي الْقُرْآنِ،
وَأَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَوْصَاهُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
طَاهِرٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَحْمَدَ بْنِ أَبِي دَاوُدَ
الْقَاضِي، وَقَالَ: شَاوِرْهُ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا وَلَا تُفَارِقْهُ، وَحَذَّرَهُ
مِنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ وَنَهَاهُ عَنْهُ وَذَمَّهُ، وَقَالَ: خَانَنِي
وَنَفَّرَ النَّاسَ عَنِّي، فَفَارَقْتُهُ غَيْرَ رَاضٍ عَنْهُ، ثُمَّ أَوْصَاهُ
بِالْعَلَوِيِّينَ خَيْرًا؛ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَتَجَاوَزَ عَنْ
مُسِيئِهِمْ، وَأَنْ يُوَاصِلَهُمْ بِصِلَاتِهِمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ لِلْمَأْمُونِ تَرْجَمَةً حَافِلَةً، أَوْرَدَ فِيهَا
أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَمْ يَذْكُرْهَا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مَعَ كَثْرَةِ
مَا يُورِدُهُ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
خِلَافَةُ
الْمُعْتَصِمِ بِاللَّهِ أَبِي إِسْحَاقَ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ مَاتَ أَخُوهُ الْمَأْمُونُ بِطَرَسُوسَ
يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ
وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ إِذْ ذَاكَ مَرِيضًا، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَى أَخِيهِ
الْمَأْمُونِ وَقَدْ شَغَبَ بَعْضُ الْجُنْدِ فَأَرَادُوا أَنْ يُوَلُّوا
الْعَبَّاسَ بْنَ الْمَأْمُونِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ لَهُمْ:
مَا هَذَا الْحُبُّ الْبَارِدُ ؟ أَنَا قَدْ بَايَعْتُ عَمِّي الْمُعْتَصِمَ.
فَسَكَنَ النَّاسُ وَخَمَدَتِ الْفِتْنَةُ، وَرَكِبَ الْبُرُدُ بِالْبَيْعَةِ
لِلْمُعْتَصِمِ إِلَى الْآفَاقِ، وَبِالتَّعْزِيَةِ بِالْمَأْمُونِ. فَأَمَرَ
الْمُعْتَصِمُ بِهَدْمِ مَا كَانَ بَنَاهُ الْمَأْمُونُ فِي مَدِينَةِ طَوَانَةَ
وَأَمَرَ بِإِبْطَالِ ذَلِكَ، وَنَقْلِ مَا كَانَ حَوَّلَ إِلَيْهَا مِنَ
السِّلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَذِنَ لِلْفَعَلَةِ بِالِانْصِرَافِ إِلَى
بُلْدَانِهِمْ وَأَقَالِيمِهِمْ، ثُمَّ رَكِبَ الْمُعْتَصِمُ فِي الْجُنُودِ
قَاصِدًا بَغْدَادَ وَصُحْبَتُهُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمَأْمُونِ فَدَخَلَهَا
يَوْمَ السَّبْتِ مُسْتَهَلَّ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ
وَتَجَمُّلٍ تَامٍّ.
وَفِي
هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ هَمَذَانَ وَأَصْبَهَانَ
وَمَاسَبَذَانَ، وَمِهْرَجَانَ فِي دِينِ الْخُرَّمِيَّةِ، فَتَجَمَّعَ مِنْهُمْ
بَشَرٌ كَثِيرٌ فَجَهَّزَ إِلَيْهِمِ الْمُعْتَصِمُ جُيُوشًا كَثِيرَةً، آخِرُ
مَنْ جَهَّزَ إِلَيْهِمْ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ فِي جَيْشٍ
عَظِيمٍ، وَعَقَدَ لَهُ عَلَى الْجِبَالِ فَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ،
وَقُرِئَ كِتَابُهُ بِالْفَتْحِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَأَنَّهُ قَهَرَ
الْخُرَّمِيَّةَ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ
إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَعَلَى يَدَيْهِ
جَرَتْ فِتْنَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ
كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ
فِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ
الثِّقَةُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَالِحُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ
وَضَحَّى أَهْلُ مَكَّةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَهْلُ بَغْدَادَ ضَحَّوْا يَوْمَ
السَّبْتِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ:
بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ.
وَهُوَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْمَرِيسِيُّ
الْمُتَكَلِّمُ
شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَحَدُ مَنْ أَضَلَّ الْمَأْمُونَ وَقَدْ كَانَ هَذَا
الرَّجُلُ يَنْظُرُ أَوَّلًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْفِقْهِ، وَأَخَذَ عَنِ الْقَاضِي
أَبِي يُوسُفَ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْهُ، وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ عِلْمُ
الْكَلَامِ، وَقَدْ نَهَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ تَعَلُّمِهِ وَتَعَاطِيهِ فَلَمْ
يَقْبَلْ مِنْهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ
ذَنْبٍ مَا عَدَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ
بِعِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ بِشْرٌ بِالشَّافِعِيِّ عِنْدَمَا قَدِمَ
الشَّافِعِيُّ بَغْدَادَ.
وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: جَرَّدَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ،
وَحُكِيَ عَنْهُ أَقْوَالٌ شَنِيعَةٌ، وَكَانَ مُرْجِئِيًّا، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ
الْمَرِيسِيَّةُ مِنَ الْمُرْجِئَةِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ السُّجُودَ
لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْسَ بِكُفْرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَامَةُ الْكُفْرِ،
وَكَانَ يُنَاظِرُ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ، وَكَانَ لَا يُحْسِنُ النَّحْوَ،
وَكَانَ يَلْحَنُ لَحْنًا فَاحِشًا، وَيُقَالُ: إِنَّ أَبَاهُ كَانَ يَهُودِيًّا
صَبَّاغًا بِالْكُوفَةِ. وَكَانَ يَسْكُنُ دَرْبَ الْمَرِيسِ بِبَغْدَادَ،
وَالْمَرِيسُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْخُبْزُ الرُّقَاقُ يُمْرَسُ بِالسَّمْنِ
وَالتَّمْرِ. قَالَ: وَمَرِيسُ نَاحِيَةٌ بِبِلَادِ النُّوبَةِ تَهُبُّ عَلَيْهَا
فِي الشِّتَاءِ رِيحٌ بَارِدَةٌ. قُلْتُ: ثُمَّ رَاجَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ عِنْدَ
الْمَأْمُونِ وَحَظِيَ
عِنْدَهُ،
وَقُدِّمَ فِي حَضْرَتِهِ، وَنَفَقَ سُوقُهُ الْكَاسِدُ، وَاسْتُجِيدَ ذِهْنُهُ
الْبَارِدُ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذَا الْعَامِ أَوِ الَّذِي قَبْلَهُ
فِي قَوْلٍ - صَلَّى عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ يُقَالُ لَهُ: عُبَيْدٌ
الشُّونِيزِيُّ. فَلَامَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَلَا
تَسْمَعُونَ كَيْفَ دَعَوْتُ لَهُ فِي صَلَاتِي ؟ قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنَّ
عَبْدَكَ هَذَا كَانَ يُنْكِرُ عَذَابَ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ فَأَذِقْهُ مِنْ
عَذَابِ الْقَبْرِ، وَكَانَ يُنْكِرُ شَفَاعَةَ نَبِيِّكَ فَلَا تَجْعَلْهُ مِنْ
أَهْلِهَا، وَكَانَ يُنْكِرُ رُؤْيَتَكَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَاحْجُبْ
وَجْهَكَ الْكَرِيمَ عَنْهُ. فَقَالُوا لَهُ: أَصَبْتَ. وَهَذَا الَّذِي نَطَقَ
بِهِ بَعْضُ السَّلَفِ حَيْثُ قَالُوا: مَنْ كَذَّبَ بِكَرَامَةٍ لَمْ يَنَلْهَا.
وَفِي هَذَا الْعَامِ تُوُفِّيَ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ التِّنِّيسِيُّ.
وَأَبُو مُسْهِرٍ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ مُسْهِرٍ الْغَسَّانِيُّ الدِّمَشْقِيُّ.
وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَابْلُتِّيُّ.
وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامِ بْنِ أَيُّوبَ الْحِمْيَرِيُّ
الْمَعَافِرِيُّ.
رَاوِي
السِّيرَةِ
عَنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ
مُصَنِّفِهَا، وَإِنَّمَا تُنْسَبُ إِلَيْهِ فَيُقَالُ: سِيرَةُ ابْنِ هِشَامٍ
لِأَنَّهُ هَذَّبَهَا وَزَادَ فِيهَا وَنَقَصَ مِنْهَا، وَحَرَّرَ أَمَاكِنَ،
وَاسْتَدْرَكَ أَشْيَاءَ.
وَكَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، وَكَانَ مُقِيمًا بِمِصْرَ، وَقَدِ
اجْتَمَعَ بِهِ الشَّافِعِيُّ حِينَ وَرَدَهَا، وَتَنَاشَدَا مِنْ أَشْعَارِ
الْعَرَبِ شَيْئًا كَثِيرًا.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي " " تَارِيخِ مِصْرَ
" ". وَزَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا ظَهَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالطَّالَقَانِ مِنْ خُرَاسَانَ
يَدْعُو إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَقَاتَلَهُ قُوَّادُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً، ثُمَّ
ظَهَرُوا عَلَيْهِ وَهَرَبَ فَأُخِذَ ثُمَّ بُعِثَ بِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
طَاهِرٍ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَصَفِ
مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَمَرَ بِهِ فَحُبِسَ فِي مَكَانٍ
ضَيِّقٍ طُولُهُ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثًا،
ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى أَوْسَعَ مِنْهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُ مَنْ يَخْدُمُهُ،
فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا هُنَالِكَ إِلَى لَيْلَةِ عِيدِ الْفِطْرِ، فَاشْتَغَلَ
النَّاسُ بِالْعِيدِ فَدُلِّيَ لَهُ حَبْلٌ مِنْ كُوَّةٍ كَانَ يَأْتِيهِ
الضَّوْءُ مِنْهَا فَذَهَبَ فَلَمْ يُدْرَ كَيْفَ ذَهَبَ، وَإِلَى أَيْنَ صَارَ
مِنَ الْأَرْضِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى دَخَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى بَغْدَادَ رَاجِعًا مِنْ
قِتَالِ الْخُرَّمِيَّةِ، وَمَعَهُ الْأَسْرَى مِنْهُمْ، وَقَدْ قَتَلَ فِي
حَرْبِهِ هَذَا مِنْ الْخُرَّمِيَّةِ مِائَةَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ مِنْهُمْ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا بَعَثَ الْمُعْتَصِمُ عُجَيْفًا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ لِقِتَالِ الزُّطِّ
الَّذِينَ عَاثُوا فِي بِلَادِ
الْبَصْرَةِ
وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ وَنَهَبُوا الْغَلَّاتِ، فَمَكَثَ فِي قِتَالِهِمْ تِسْعَةَ
أَشْهُرٍ فَقَهَرَهُمْ وَقَمَعَ شَرَّهُمْ، وَأَبَادَ خَضْرَاءَهُمْ، وَكَانَ
الْقَائِمَ بِأَمْرِهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ، وَمَعَهُ
آخَرُ يُقَالُ لَهُ: سَمْلَقٌ، وَهُوَ دَاهِيَتُهُمْ، وَشَيْطَانُهُمْ، فَأَرَاحَ
اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ شَرِّهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ، شَيْخُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ.
صَاحِبُ " " الْمُسْنَدِ " "، وَتِلْمِيذُ الْإِمَامِ
الشَّافِعِيِّ.
وَعَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ.
وَأَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ.
شَيْخُ الْبُخَارِيِّ.
وَأَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ دَخَلَ عُجَيْفٌ فِي السُّفُنِ إِلَى بَغْدَادَ وَمَعَهُ
مِنْ الزُّطِّ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا قَدْ جَاءُوا بِالْأَمَانِ إِلَى
الْخَلِيفَةِ فَأُنْزِلُوا فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ ثُمَّ نَفَاهُمُ
الْخَلِيفَةُ إِلَى عَيْنِ زُرْبَةَ فَأَغَارَتْ الرُّومُ عَلَيْهِمْ
فَاجْتَاحُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَكَانَ آخِرَ
الْعَهْدِ بِهِمْ.
وَفِيهَا عَقَدَ الْمُعْتَصِمُ لِلْأَفْشِينِ وَاسْمُهُ حَيْدَرُ بْنُ كَاوَسَ
عَلَى جَيْشٍ عَظِيمٍ لِقِتَالِ بَابَكَ الْخُرَّمِيَّ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَكَانَ
قَدِ اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ جِدًّا، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ جِدًّا، وَانْتَشَرَتْ
أَتْبَاعُهُ فِي بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ وَمَا وَالَاهَا، وَكَانَ أَوَّلُ
ظُهُورِهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ زِنْدِيقًا كَبِيرًا
وَشَيْطَانًا رَجِيمًا، فَسَارَ الْأَفْشِينُ وَقَدْ أَحْكَمَ صِنَاعَةَ الْحَرْبِ
فِي الْأَرْصَادِ وَعِمَارَةِ الْحُصُونِ وَإِيصَالِ الْمَدَدِ، وَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ بِاللَّهِ
مَعَ
بُغَا الْكَبِيرِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً نَفَقَةً لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنْدِ
وَالْأَتْبَاعِ وَقَدِ اتَّقَعَ، فَالْتَقَى هُوَ وَبَابَكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
فَاقْتَتَلَا قِتَالًا عَظِيمًا، فَقَتَلَ الْأَفْشِينُ مِنْ أَصْحَابِ بَابَكَ
خَلْقًا كَثِيرًا أَزْيَدَ مِنْ أَلْفٍ وَهَرَبَ هُوَ إِلَى مَدِينَتِهِ فَأَوَى
إِلَيْهَا مَكْسُورًا وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ مَا تَضَعْضَعَ مِنْ أَمْرِ بَابَكَ
لَعَنَهُ اللَّهُ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدِ اسْتَقْصَاهَا
الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ بَغْدَادَ فَنَزَلَ الْقَاطُولَ
فَأَقَامَ بِهَا.
وَفِيهَا غَضِبَ الْمُعْتَصِمُ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ مَرْوَانَ بَعْدَ
الْمَكَانَةِ الْعَظِيمَةِ وَعَزَلَهُ عَنِ الْوَزَرَاةِ وَحَبَسَهُ وَأَخَذَ
أَمْوَالَهُ، وَجَعَلَ مَكَانَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
الزَّيَّاتِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَالِحُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَمِيرُ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ.
وَعَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ.
وَقَالُونُ.
أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْقُرَّاءِ.
وَأَبُو حُذَيْفَةَ النَّهْدِيُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ بَيْنَ بُغَا الْكَبِيرِ وَبَابَكَ
الْخُرَّمِيِّ، فَهَزَمَ بَابَكُ بُغَا وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ثُمَّ اقْتَتَلَ الْأَفْشِينُ
وَبَابَكَ، فَهَزَمَهُ أَفْشِينُ وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِ بَعْدَ
حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ، قَدِ اسْتَقْصَاهَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي
تَارِيخِهِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا نَائِبُ مَكَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى
بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ
الْقَعْنَبِيُّ.
وَعَبْدَانُ، وَهِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَجَّهَ الْمُعْتَصِمُ جَيْشًا كَثِيفًا مَدَدًا لِلْأَفْشِينِ عَلَى
مُحَارَبَةِ الْخُرَّمِيَّةِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ
دِرْهَمٍ نَفَقَةً لِلْجُنْدِ وَالْأَتْبَاعِ. وَفِيهَا اقْتَتَلَ الْأَفْشِينُ
والْخُرَّمِيَّةُ قِتَالًا عَظِيمًا، وَافْتَتَحَ الْأَفْشِينُ الْبَذَّ مَدِينَةَ
بَابَكَ وَاسْتَبَاحَ مَا فِيهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَذَلِكَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُحَاصَرَةٍ
وَحُرُوبٍ هَائِلَةٍ وَقِتَالٍ شَدِيدٍ وَجُهْدٍ جَهِيدٍ، وَقَدْ أَطَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ بَسْطَهُ جِدًّا. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُ افْتَتَحَ الْبَلَدَ
وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ مِمَّا قَدَرَ
عَلَيْهِ.
ذِكْرُ
مَسْكِ بَابَكَ الْخُرَّمِيِّ وَأَسْرِهِ وَقَتْلِهِ
لَمَّا احْتَوَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى بَلَدِهِ الْمُسَمَّى بِالْبَذِّ، وَهِيَ
دَارُ مُلْكِهِ وَمَقَرُّ سُلْطَانِهِ، هَرَبَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ
وَوَلَدِهِ وَمَعَهُ أُمُّهُ وَامْرَأَتُهُ، فَانْفَرَدَ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ
مِنْ خَدَمِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ طَعَامٌ، فَاجْتَازَ بِحَرَّاثٍ فَبَعَثَ
غُلَامَهُ إِلَيْهِ وَمَعَهُ ذَهَبٌ فَقَالَ: أَعْطِهِ الذَّهَبَ وَخُذْ مَا
مَعَهُ مِنَ الْخُبْزِ. فَنَظَرَ شَرِيكٌ الْحَرَّاثِ إِلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ
وَهُوَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْخُبْزَ، فَظَنَّ أَنَّهُ قَدِ اغْتَصَبَهُ مِنْهُ،
فَذَهَبَ إِلَى حِصْنٍ هُنَاكَ فِيهِ نَائِبٌ لِلْخَلِيفَةِ يُقَالُ لَهُ: سَهْلُ
بْنُ سُنْبَاطٍ لِيَسْتَعْدِيَ عَلَى ذَلِكَ الْغُلَامِ، فَرَكِبَ بِنَفْسِهِ
وَجَاءَ فَوَجَدَ الْغُلَامَ فَقَالَ: مَا خَبَرُكَ ؟ فَقَالَ: لَا شَيْءَ
وَإِنَّمَا أَعْطَيْتُهُ دَنَانِيرَ، وَأَخَذْتُ مِنْهُ هَذَا الْخُبْزَ. فَقَالَ:
وَمَنْ أَنْتَ ؟ فَأَرَادَ أَنْ يُعَمِّيَ عَلَيْهِ الْخَبَرَ، فَأَلَحَّ
عَلَيْهِ، فَقَالَ: مِنْ غِلْمَانِ بَابَكَ. فَقَالَ: وَأَيْنَ هُوَ ؟ فَقَالَ:
هَاهُوَ ذَا جَالِسٌ يُرِيدُ الْغَدَاءَ، فَسَارَ إِلَيْهِ سَهْلُ بْنُ سُنْبَاطٍ،
فَلَمَّا رَآهُ تَرَجَّلَ وَجَاءَهُ فَقَبَّلَ يَدَهُ وَقَالَ: يَا سَيِّدِي
أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَدْخُلَ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَالَ: إِلَى
عِنْدِ مَنْ تَذْهَبُ أَحْرَزُ مِنْ حِصْنِي وَأَنَا غُلَامُكَ وَفِي خِدْمَتِكَ ؟
وَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى خَدَعَهُ وَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى الْحِصْنِ،
فَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ وَأَجْرَى عَلَيْهِ النَّفَقَاتِ الْكَثِيرَةَ وَالتُّحَفَ
وَغَيْرَ ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى الْأَفْشِينِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ أَمِيرَيْنِ لِقَبْضِهِ فَنَزَلَا قَرِيبًا مِنَ الْحِصْنِ وَكَتَبَا
إِلَى ابْنِ سُنْبَاطٍ فَقَالَ: أَقِيمَا مَكَانَكُمَا حَتَّى يَأْتِيَكُمَا
أَمْرِي. ثُمَّ قَالَ لِبَابَكَ: إِنَّكَ قَدْ
حَصَلَ لَكَ غَمٌّ وَضِيقٌ مِنْ هَذَا الْحِصْنِ وَقَدْ عَزَمْتُ عَلَى الْخُرُوجِ الْيَوْمَ إِلَى الصَّيْدِ وَمَعَنَا بُزَاةٌ وَكِلَابٌ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَخْرُجَ مَعَنَا لِتَنْشَرِحَ. قَالَ: نَعَمْ. فَخَرَجُوا وَبَعَثَ ابْنُ سُنْبَاطٍ إِلَى الْأَمِيرَيْنِ أَنْ كُونَا بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا وَفِي وَقْتِ كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّهَارِ، فَلَمَّا كَانُوا بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَقْبَلَ الْأَمِيرَانِ بِمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْجُنُودِ فَأَحَاطُوا بِبَابَكَ وَبِابْنِ سُنْبَاطٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ جَاءُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: تَرَجَّلْ عَنْ دَابَّتِكَ. فَقَالَ: وَمَنْ أَنْتُمَا ؟ فَذَكَرَا أَنَّهُمَا مِنْ عِنْدِ الْأَفْشِينِ فَتَرَجَّلَ حِينَئِذٍ عَنْ دَابَّتِهِ وَعَلَيْهِ دُرَّاعَةٌ بَيْضَاءُ وَعِمَامَةٌ بَيْضَاءُ وَخُفٌّ قَصِيرٌ وَفِي يَدِهِ بَازٌ فَنَظَرَ إِلَى ابْنِ سُنْبَاطٍ، فَقَالَ: قَبَّحَكَ اللَّهُ، فَهَلَّا طَلَبْتَ مِنِّي مِنَ الْمَالِ مَا شِئْتَ، فَكُنْتُ أَعْطَيْتُكَ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطِيكَ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ أَرْكَبُوهُ وَأَخَذُوهُ مَعَهُمَا إِلَى الْأَفْشِينِ فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْ بِلَادِ الْأَفْشِينِ خَرَجَ فَتَلَقَّاهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَصْطَفُّوا صَفَّيْنِ وَأَنْ يَتَرَجَّلَ بَابَكَ فَيَدْخُلَ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ مَاشٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا جِدًّا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. ثُمَّ احْتَفَظَ بِهِ وَهُوَ فِي السِّجْنِ عِنْدَهُ ثُمَّ كَتَبَ الْأَفْشِينُ إِلَى الْمُعْتَصِمِ يُخْبِرُهُ بِأَنَّ بَابَكَ فِي أَسْرِهِ وَقَدِ اسْتَحْضَرَ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ أَيْضًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَقْدَمَ بِهِمَا عَلَيْهِ إِلَى بَغْدَادَ
فَتَجَهَّزَ
بِهِمَا إِلَى بَغْدَادَ فِي تَمَامِ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ.
وَعُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ.
وَمُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ.
وَيَحْيَى بْنُ صَالِحٍ الْوُحَاظِيُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَالِثِ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ الْأَفْشِينُ
عَلَى الْمُعْتَصِمِ سَامَرَّاءَ وَمَعَهُ بَابَكُ الْخُرَّمِيُّ وَأَخُوهُ عَبْدُ
اللَّهِ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ أَمَرَ الْمُعْتَصِمُ ابْنَهُ هَارُونَ
الْوَاثِقَ أَنْ يَتَلَقَّى الْأَفْشِينَ وَكَانَتْ أَخْبَارُهُ تَفِدُ إِلَى
الْمُعْتَصِمِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ شِدَّةِ اعْتِنَاءِ الْمُعْتَصِمِ بِأَمْرِ
بَابَكَ، وَقَدْ رَكِبَ الْمُعْتَصِمُ قَبْلَ وُصُولِ بَابَكَ بِيَوْمَيْنِ عَلَى
الْبَرِيدِ حَتَّى دَخَلَ إِلَى بَابَكَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ
ثُمَّ رَجَعَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ دُخُولِهِ عَلَيْهِ تَأَهَّبَ الْمُعْتَصِمُ
وَاصْطَفَّ النَّاسُ سِمَاطَيْنِ، وَأَمَرَ بَابَكَ أَنْ يَرْكَبَ عَلَى فِيلٍ
لِيَشْتَهِرَ أَمْرُهُ وَيَعْرِفُوهُ، وَعَلَيْهِ قَبَاءُ دِيبَاجٍ وَقَلَنْسُوَةُ
سَمُّورٍ مُدَوَّرَةٌ، وَقَدْ هُيِّئَ الْفِيلُ، وَخُضِّبَتْ أَطْرَافُهُ،
وَأُلْبِسَ مِنَ الْحَرِيرِ وَالْأَمْتِعَةِ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ كَثِيرًا،
وَقَدْ قَالَ فِيهِ بَعْضُهُمْ:
قَدْ
خُضِّبَ الْفِيلُ كَعَادَاتِهِ يَحْمِلُ شَيْطَانَ خُرَاسَانَ وَالْفِيلُ لَا
تُخَضَّبُ أَعْضَاؤُهُ
إِلَّا لِذِي شَأْنٍ مِنَ الشَّانِ
وَلَمَّا أُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعْتَصِمِ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدَيْهِ
وَرِجْلَيْهِ وَحَزِّ رَأْسِهِ، وَشِقِّ بَطْنِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِحَمْلِ رَأْسِهِ
إِلَى خُرَاسَانَ وَصَلْبِ جُثَّتِهِ عَلَى خَشَبَةٍ بِسَامَرَّا، وَكَانَ بَابَكُ
قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي لَيْلَةٍ أَسْفَرَ صَبَاحُهَا عَنْ قَتْلِهِ، وَهِيَ
لَيْلَةُ الْخَمِيسِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ. وَكَانَ هَذَا الْمَلْعُونُ قَدْ قَتَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي
مُدَّةِ ظُهُورِهِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَهِيَ عِشْرُونَ سَنَةً مِائَتَيْ أَلْفٍ
وَخَمْسَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ إِنْسَانٍ قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ
وَأَسَرَ خَلْقًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنِ
اسْتَنْقَذَهُ الْأَفْشِينُ مِنْ أَسْرِهِ نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةِ آلَافٍ
وَسِتِّمِائَةِ إِنْسَانٍ، وَأَسَرَ مِنْ أَوْلَادِهِ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا،
وَمِنْ حَلَائِلِهِ وَحَلَائِلِ أَوْلَادِهِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ امْرَأَةً مِنَ
الْخَوَاتِينِ، وَقَدْ كَانَ أَصْلُ بَابَكَ ابْنَ جَارِيَةٍ زَرِيَّةِ الشَّكْلِ جِدًّا،
فَآلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى مَا آلَ بِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَرَاحَ اللَّهُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِ بَعْدَمَا افْتَتَنَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ
غَفِيرٌ مِنَ الطَّغَامِ
وَلَمَّا قَتَلَهُ الْمُعْتَصِمُ تَوَّجَ الْأَفْشِينَ وَقَلَّدَهُ وِشَاحَيْنِ
مِنْ جَوْهَرٍ، وَأَطْلَقَ لَهُ عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَتَبَ لَهُ
بِوِلَايَةِ السِّنْدِ وَأَمَرَ الشُّعَرَاءَ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ
فَيَمْدَحُوهُ
عَلَى
مَا فَعَلَ مِنَ الْخَيْرِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى تَخْرِيبِهِ بَلَدَ
بَابَكَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا الْبَذُّ وَتَرْكِهِ إِيَّاهَا يَبَابًا خَرَابًا،
فَقَالُوا فِي ذَلِكَ فَأَحْسَنُوا، وَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ أَبُو تَمَامٍ
الطَّائِيُّ، وَقَدْ أَوْرَدَ قَصِيدَتَهُ بِتَمَامِهَا الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي " " تَارِيخِهِ " "، وَهِيَ قَوْلُهُ:
بَذَّ الْجِلَادُ فَهُوَ دَفِينُ مَا إِنْ بِهِ إِلَّا الْوُحُوشَ قَطِينُ
لَمْ يُقْرَ هَذَا السَّيْفُ هَذَا الصَّبْرَ فِي هَيْجَاءَ إِلَّا عَزَّ هَذَا
الدِّينُ
قَدْ كَانَ عُذْرَةَ سُؤْدَدٍ فَافْتَضَّهَا بِالسَّيْفِ فَحْلُ الْمَشرِقِ الْأَفْشِينُ
فَأَعَادَهَا تَعْوِي الثَّعَالِبُ وَسْطَهَا
وَلَقَدْ تُرَى بِالْأَمْسِ وَهِيَ عَرِينُ هَطَلَتْ عَلَيْهَا مِنْ جَمَاجِمِ
أَهْلِهَا
دِيَمٌ أَمَارَتْهَا طُلًى وَشُئُونُ كَانَتْ مِنَ الْمُهْجَاتِ قَبْلَ ذَاكَ
مَفَازَةً
عَسِرًا فَأَمْسَتْ وَهِيَ مِنْهُ مَعِينُ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
أَوْقَعَ مَلِكُ الرُّومِ تَوْفِيلُ بْنُ مِيخَائِيلَ لَعَنَهُ اللَّهُ بِأَهْلِ
مَلَطْيَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَا وَالَاهَا مَلْحَمَةً عَظِيمَةً قَتَلَ
فِيهَا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَسَرَ مَا لَا
يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَكَانَ مِنْ
جُمْلَةِ مَنْ أَسَرَ أَلْفَ امْرَأَةٍ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ، وَمَثَّلَ بِمَنْ وَقَعَ فِي أَسْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَطَّعَ آذَانَهُمْ وَآنَافَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، قَبَّحَهُ اللَّهُ. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ بَابَكَ لَعَنَهُ اللَّهُ لَمَّا أُحِيطَ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فِي مَدِينَتِهِ الْبَذِّ وَاسْتَوْسَقَتِ الْجُنُودُ حَوْلَهُ، كَتَبَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ مِلْكَ الْعَرَبِ قَدْ جَهَّزَ إِلَيَّ جُمْهُورَ جَيْشِهِ وَلَمْ يُبْقِ فِي أَطْرَافِ بِلَادِهِ مَنْ يَحْفَظُهَا، فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْغَنِيمَةَ فَانْهَضْ سَرِيعًا إِلَى مَا حَوْلَكَ مِنْ بِلَادِهِ فَخُذْهَا، فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ أَحَدًا يُمَانِعُكَ عَنْهَا، فَرَكِبَ تَوْفِيلُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - فِي مِائَةِ أَلْفٍ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ الْمُحَمِّرَةُ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا فِي الْجِبَالِ وَقَاتَلَهُمْ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ، وَتَحَصَّنُوا بِتِلْكَ الْجِبَالِ فَلَمَّا قَدِمَ مَلِكُ الرُّومِ صَارُوا مَعَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَوَصَلُوا إِلَى زِبَطْرَةَ فَقَتَلُوا مِنْ رِجَالِهَا خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرُوا مِنْ حَرِيمِهَا أُمَّةً كَثِيرَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُعْتَصِمَ فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ جِدًّا، وَصَرَخَ فِي قَصْرِهِ بِالنَّفِيرِ، وَنَهَضَ مِنْ فَوْرِهِ، فَأَمَرَ بِتَعْبِئَةِ الْجُيُوشِ، وَاسْتَدْعَى بِالْقَاضِي، وَالْعُدُولِ، فَأَشْهَدَهُمْ أَنَّ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الضِّيَاعِ ثُلُثُهُ صَدَقَةٌ، وَثُلُثُهُ لِوَلَدِهِ، وَثُلُثُهُ لِمَوَالِيهِ.
وَخَرَجَ
مِنْ بَغْدَادَ فَعَسْكَرَ غَرْبَيْ دِجْلَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ
خَلَتَا مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَوَجَّهَ بَيْنَ يَدَيْهِ عُجَيْفًا،
وَطَائِفَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ وَمَعَهُمْ خَلْقٌ مِنَ الْجَيْشِ إِعَانَةً
لِأَهْلِ زِبَطْرَةَ فَأَسْرَعُوا السَّيْرَ، فَوَجَدُوا مَلِكَ الرُّومِ قَدْ
فَعَلَ مَا فَعَلَ وَانْشَمَرَ إِلَى بِلَادِهِ رَاجِعًا، وَتَفَارَطَ الْحَالُ
وَلَمْ يُمْكِنِ الِاسْتِدْرَاكُ فِيهِ، وَرَجَعُوا إِلَى الْخَلِيفَةِ
لِإِعْلَامِهِ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ، فَقَالَ لِلْأُمَرَاءِ: أَيُّ بِلَادِ
الرُّومِ أَمْنَعُ ؟ قَالُوا: عَمُّورِيَةُ لَمْ يَعْرِضْ لَهَا أَحَدٌ مُنْذُ
كَانَ الْإِسْلَامُ، وَهِيَ أَشْرَفُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.
ذِكْرُ فَتْحِ عَمُّورِيَةَ عَلَى يَدِ الْمُعْتَصِمِ
لَمَّا تَفَرَّغَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ شَأْنِ بَابَكَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَتَلَهُ
وَأَخَذَ بِلَادَهُ، اسْتَدْعَى بِالْجُيُوشِ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ، وَتُجَهَّزَ
جِهَازًا لَمْ يَتَجَهَّزْهُ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَأَخَذَ
مَعَهُ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ وَالْأَحْمَالِ وَالْجِمَالِ وَالْقِرَبِ
وَالدَّوَابِّ وَالنِّفْطِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ شَيْئًا لَمْ يُسْمَعْ
بِمِثْلِهِ، وَسَارَ إِلَيْهَا، فِي جَحَافِلَ كَالْجِبَالِ، وَبَعَثَ
الْأَفْشِينُ خَيْذَرَ بْنَ كَاوَسَ مِنْ نَاحِيَةِ سَرُوجَ وَعَبَّأَ
الْخَلِيفَةُ جَيْشَهُ تَعْبِئَةً لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، وَقَدَّمَ بَيْنَ
يَدَيْهِ الْأُمَرَاءَ الْمَعْرُوفِينَ بِالْحَرْبِ، فَانْتَهَى فِي سَيْرِهِ
إِلَى نَهْرِ اللَّمِسِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ طَرَسُوسَ وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ
الْمُبَارَكَةِ.
وَقَدْ رَكِبَ مَلِكُ الرُّومِ فِي جَيْشِهِ، فَقَصَدَ نَحْوَ الْمُعْتَصِمِ،
فَتَقَارَبَا حَتَّى كَانَ بَيْنَ الْجَيْشَيْنِ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةِ
فَرَاسِخَ، وَدَخَلَ الْأَفْشِينُ بِلَادَ الرُّومِ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى،
فَجَاءَ مِنْ وَرَاءِ مَلِكِ الرُّومِ، فَحَارَ فِي أَمْرِهِ وَضَاقَ ذَرْعُهُ
بِسَبَبِ ذَلِكَ؛ إِنْ هُوَ نَاجَزَ الْخَلِيفَةَ جَاءَهُ الْأَفْشِينُ مِنْ
خَلْفِهِ، فَالْتَقَيَا عَلَيْهِ فَيَهْلَكُ، وَإِنْ سَارَ إِلَى أَحَدِهِمَا،
وَتَرَكَ الْآخَرَ أَخَذَهُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ اقْتَرَبَ مِنْهُ الْأَفْشِينُ
فَسَارَ إِلَيْهِ مَلِكُ الرُّومِ فِي شِرْذِمَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، وَاسْتَخْلَفَ
عَلَى بَقِيَّتِهِ قَرِيبًا لَهُ، فَالْتَقَى هُوَ وَالْأَفْشِينُ فِي يَوْمِ
الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَثَبَتَ
الْأَفْشِينُ فِي ثَانِي الْحَالِ، وَقَتَلَ مِنَ الرُّومِ خَلْقًا، وَجُرِحَ
آخَرِينَ، وَتَفَلَّتَ فِئَةُ مَلِكِ الرُّومِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ بَقِيَّةَ
الْجَيْشِ قَدْ شَرَدُوا عَنْ قَرَابَتِهِ وَذَهَبُوا عَنْهُ وَتَفَرَّقُوا
عَلَيْهِ، فَأَسْرَعَ الْأَوْبَةَ، فَإِذَا نِظَامُ الْجَيْشِ قَدِ انْحَلَّ،
فَغَضِبَ عَلَى قَرَابَتِهِ وَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ
كُلِّهِ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، فَسَرَّهُ ذَلِكَ جِدًّا، فَرَكِبَ مِنْ
فَوْرِهِ وَجَاءَ إِلَى أَنْقِرَةَ وَوَافَاهُ الْأَفْشِينُ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى هُنَالِكَ، فَوَجَدُوا أَهْلَهَا قَدْ هَرَبُوا مِنْهَا وَتَفَرَّقُوا عَنْهَا فَتَقْوَّوْا مِنْهَا بِطَعَامٍ وَعُلُوفَةٍ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ فَرَّقَ الْمُعْتَصِمُ جَيْشَهُ ثَلَاثَ فِرَقٍ؛ فَالْمَيْمَنَةُ عَلَيْهَا الْأَفْشِينُ وَالْمَيْسَرَةُ عَلَيْهَا أَشْنَاسُ وَالْمُعْتَصِمُ فِي الْقَلْبِ، وَبَيْنَ كُلِّ عَسْكَرَيْنِ فَرْسَخَانِ، وَأَمَرَ كُلَّ أَمِيرٍ مِنَ الْأَفْشِينِ وَأَشْنَاسَ أَنْ يَجْعَلَ لِجَيْشِهِ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَقَلْبًا وَمُقَدِّمَةً وَسَاقَةً، وَأَنَّهُمْ مَهْمَا مَرُّوا عَلَيْهِ مِنَ الْقُرَى حَرَّقُوا، وَخَرَّبُوا، وَأَسَرُوا، وَغَنِمُوا، وَسَارَ بِهِمْ كَذَلِكَ قَاصِدًا إِلَى عَمُّورِيَةَ وَكَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَنْقِرَةَ سَبْعُ مَرَاحِلَ، فَأَوَّلُ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهَا مِنَ الْجُيُوشِ أَشْنَاسُ أَمِيرُ الْمَيْسَرَةِ ضَحْوَةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَدَارَ حَوْلَهَا دَوْرَةً، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى مِيلَيْنِ مِنْهَا، ثُمَّ قَدِمَ الْمُعْتَصِمُ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَهُ، فَدَارَ حَوْلَهَا دَوْرَةً، ثُمَّ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْهَا، ثُمَّ قَدِمَ الْأَفْشِينُ يَوْمَ السَّبْتِ فَدَارَ حَوْلَهَا دَوْرَةً ثُمَّ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْهَا وَقَدْ تَحَصَّنَ أَهْلُهَا، وَمَلَئُوا أَبْرَاجَهَا بِالرِّجَالِ وَالسِّلَاحِ، وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ كَبِيرَةٌ جِدًّا ذَاتُ سُورٍ مَنِيعٍ، وَأَبْرَاجٍ عَالِيَةٍ كَبِيرَةٍ، وَقَسَّمَ الْمُعْتَصِمُ الْأَبْرَاجَ عَلَى الْأُمَرَاءِ، فَنَزَلَ كُلُّ أَمِيرٍ تُجَاهَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَقْطَعُهُ، وَعَيَّنَهُ لَهُ، وَنَزَلَ الْمُعْتَصِمُ قُبَالَهُ بِمَكَانٍ هُنَاكَ قَدْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ بَعْضُ مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأُسَرَاءِ، وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ عِنْدَهُمْ، وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَأَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُسْلِمِينَ مَعَهُ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَخَرَجَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَسْلَمَ وَأَعْلَمَهُ بِمَكَانٍ فِي السُّورِ كَانَ قَدْ هَدَمَهُ السَّيْلُ وَبُنِيَ بِنَاءً فَاسِدًا بِلَا أَسَاسٍ، فَنَصبَ الْمُعْتَصِمُ الْمَجَانِيقَ حَوْلَ عَمُّورِيَةَ فَكَانَ أَوَّلُ مَوْضِعٍ انْهَدَمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَصَحَ فِيهِ ذَلِكَ الْأَسِيرُ، فَبَادَرَ أَهْلُ الْبَلَدِ، فَسَدُّوهُ بِالْخَشَبِ الْكِبَارِ الْمُتَلَاصِقَةِ، فَأَلَحَّ عَلَيْهَا الْمَنْجَنِيقُ فَكَسَرَهَا فَجَعَلُوا فَوْقَهَا الْبَرَادِعُ؛ لِيَرُدُّوا حِدَّةَ الْحَجَرِ، فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهَا الْمَنْجَنِيقُ لَمْ تُغْنِ شَيْئًا، وَانْهَدَمَ السُّورُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَتَفَسَّخَ، فَكَتَبَ نَائِبُ الْبَلَدِ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَبَعَثَ ذَلِكَ مَعَ غُلَامَيْنِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَلَمَّا اجْتَازُوا بِالْجَيْشِ فِي طَرِيقِهِمْ أَنْكَرُوا أَمْرَهُمَا، فَسَأَلُوهُمَا مِمَّنْ أَنْتُمَا ؟ فَقَالَا: مِنْ أَصْحَابِ فُلَانٍ، لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَحُمِلَا إِلَى الْمُعْتَصِمِ فَقَرَّرَهُمَا، فَإِذَا مَعَهُمَا كِتَابُ يَاطَسَ نَائِبِ عَمُّورِيَةَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يُعْلِمُهُ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْحِصَارِ، وَأَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَبْوَابِ الْبَلَدِ بِمَنْ مَعَهُ بَغْتَةً فَيُنَاجِزُ الْمُسْلِمِينَ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا
كَانَ. فَلَمَّا وَقَفَ الْمُعْتَصِمُ عَلَى ذَلِكَ أَمَرَ بِالْغُلَامَيْنِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِمَا، وَأَنْ يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدُرَّةٍ، فَأَسْلَمَا مِنْ فَوْرِهِمَا، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يُطَافَ بِهِمَا حَوْلَ الْبَلَدِ، وَعَلَيْهِمَا الْخُلَعُ، وَأَنْ يُوقَفَا تَحْتَ الْحِصْنِ الَّذِي فِيهِ يَاطَسُ، فَيُنْثَرَ عَلَيْهِمَا الدَّرَاهِمُ وَالْخُلَعُ، وَمَعَهُمَا الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبَ بِهِ يَاطَسُ مَعَهُمَا إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، فَجَعَلَتْ الرُّومُ تَلْعَنُهُمَا وَتَسُبُّهُمَا. ثُمَّ أَمَرَ الْمُعْتَصِمُ عِنْدَ ذَلِكَ بِتَجْدِيدِ الْحَرَسِ وَالِاحْتِفَاظِ فِيهِ مِنْ خُرُوجِ الرُّومِ بَغْتَةً، فَضَاقَتْ الرُّومُ ذَرْعًا بِذَلِكَ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْحِصَارِ، وَقَدْ أَعَدَّ الْمُعْتَصِمُ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ الْكَثِيرَةَ وَالدَّبَّابَاتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ. وَلَمَّا رَأَى الْمُعْتَصِمُ عُمْقَ خَنْدَقِهَا، وَارْتِفَاعَ سُورِهَا عَمِلَ الْمَجَانِيقَ فِي مُقَاوَمَةِ سُورِهَا، وَكَانَ قَدْ غَنِمَ فِي الطَّرِيقِ غَنَمًا كَثِيرًا جِدًّا فَفَرَّقَهَا فِي النَّاسِ، وَقَالَ: لِيَأْكُلِ الرَّجُلُ الرَّأْسَ، وَلْيَجِىءْ بِمِلْءِ جِلْدِهِ تُرَابًا فَيَطْرَحُهُ فِي الْخَنْدَقِ. فَفَعَلَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَتَسَاوَى الْخَنْدَقُ بِوَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ كَثْرَةِ مَا طُرِحَ فِيهِ مِنَ الْأَغْنَامِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالتُّرَابِ، فَوُضِعَ فَوْقَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ طَرِيقًا مُمَهَّدًا، وَأَمَرَ بِالدَّبَّابَاتِ أَنْ تُوضَعَ فَوْقَهُ، فَلَمْ يُحْوِجِ اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ، وَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي الْحَرَسِ إِذْ هَدَمَ الْمَنْجَنِيقُ ذَلِكَ
الْمَوْضِعَ
الْمَعِيبَ مِنَ السُّورِ، فَلَمَّا سَقَطَ مَا بَيْنَ الْبُرْجَيْنِ سَمِعَ
النَّاسُ هَدَّةً عَظِيمَةً، فَظَنَّهَا مَنْ لَمْ يَرَهَا أَنَّ الرُّومَ قَدْ
خَرَجُوا عَلَى النَّاسِ بَغْتَةً، فَبَعَثَ الْمُعْتَصِمُ مَنْ يُنَادِي فِي النَّاسِ:
إِنَّمَا ذَلِكَ سُقُوطُ السُّورِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا
شَدِيدًا لَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَتَّسِعُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْهُ الْجَيْشُ لِضِيقِهِ
عَنْهُمْ، فَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بِالْمَجَانِيقِ الْمُتَفَرِّقَةِ فَجُمِعَتْ
هُنَالِكَ وَنُصِبَتْ حَوْلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَ، لِيُضْرَبَ بِهَا
مَا حَوْلَهُ لِيَتَّسِعَ لِدُخُولِ الْخَيْلِ وَالرِّجَالِ. وَقَوِيَ الْحِصَارُ
هُنَالِكَ جِدًّا، وَقَدْ وَكَّلَتِ الرُّومُ لِكُلِّ بُرْجٍ مِنْ أَبْرَاجِ
السُّورِ أَمِيرًا يَحْفَظُهُ، وَاتَّفَقَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمِيرَ الَّذِي
انْهَدَمَ مَا عِنْدَهُ مِنَ السُّورِ ضَعُفَ عَنْ مُقَاوَمَةِ مَا يَلْقَاهُ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، فَذَهَبَ إِلَى يَاطَسَ، فَسَأَلَهُ النَّجْدَةَ، فَامْتَنَعَ
أَحَدٌ مِنَ الرُّومِ أَنْ يُنْجِدَهُ، وَقَالُوا: لَا نَتْرُكُ مَا نَحْنُ
بِصَدَدِهِ مِنْ حِفْظِ أَمَاكِنِنَا الَّتِي عُيِّنَتْ لَنَا.
فَلَمَّا يَئِسَ مِنْهُمْ خَرَجَ إِلَى الْمُعْتَصِمِ لِيَجْتَمِعَ بِهِ، فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَيْهِ أَمَرَ الْمُعْتَصِمُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْخُلُوا الْبَلَدَ
مِنْ تِلْكَ الثَّغْرَةِ الَّتِي قَدِ انْهَدَمَتْ وَخَلَتْ مِنْ
الْمُقَاتِلَةِ، فَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ نَحْوَهَا، فَجَعَلَتِ الرُّومُ يُشِيرُونَ إِلَيْهِمْ لَا تَحْيَوْا، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى دِفَاعِهِمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ تَكَاثَرُوا عَلَيْهِمْ وَدَخَلُوا الْبَلَدَ قَهْرًا وَتَتَابَعَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا يُكَبِّرُونَ، وَتَفَرَّقَتِ الرُّومُ عَنْ أَمَاكِنِهَا، فَجَعَلُوا يَقْتُلُونَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ وَأَيْنَ ثَقِفُوهُمْ، وَقَدْ حَصَرُوهُمْ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ هَائِلَةٍ، فَفَتَحُوهَا قَسْرًا وَقَتَلُوا مَنْ فِيهَا قَهْرًا، وَأَحْرَقُوا عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَنِيسَةِ فَأُحْرِقُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مَوْضِعٌ مُحَصَّنٌ سِوَى الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ النَّائِبُ وَهُوَ يَاطَسُ، فِي حِصْنٍ مَنِيعٍ، فَرَكِبَ الْمُعْتَصِمُ فَرَسَهُ وَجَاءَ حَتَّى وَقَفَ بِحِذَاءِ الْحِصْنِ الَّذِي فِيهِ يَاطَسُ، فَنَادَاهُ الْمُنَادِي: وَيْحَكَ يَا يَاطَسُ، هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَاقِفٌ تُجَاهَكَ. فَقَالَ: لَيْسَ يَاطَسُ هَاهُنَا. مَرَّتَيْنِ. فَغَضِبَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ ذَلِكَ وَوَلَّى، فَنَادَى يَاطَسُ: هَذَا يَاطَسُ، هَذَا يَاطَسُ. فَرَجَعَ الْخَلِيفَةُ وَنَصَبَ السَّلَالِمَ عَلَى الْحِصْنِ، وَطَلَعَتِ الرُّسُلُ إِلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: وَيْحَكَ، انْزِلْ عَلَى حُكْمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَتَمَنَّعَ، ثُمَّ نَزَلَ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا، فَوَضَعَ السَّيْفَ مِنْ
عُنُقِهِ،
ثُمَّ جِيءَ بِهِ حَتَّى أُوْقِفَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعْتَصِمِ، فَضَرَبَهُ
بِالسَّوْطِ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى مَضْرِبِ
الْخَلِيفَةِ، فَمَشَى مُهَانًا إِلَى الْوِطَاقِ الَّذِي فِيهِ الْخَلِيفَةُ
نَازِلٌ، فَأُوثِقَ هُنَاكَ، وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَمُّورِيَةَ
أَمْوَالًا عَظِيمَةً وَغَنَائِمَ لَا تُحَدُّ وَلَا تُوَصَفُ، فَحَمَلُوا مَا
أَمْكَنَ حَمْلُهُ، وَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بِإِحْرَاقِ مَا بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ،
وَبِإِحْرَاقِ مَا هُنَالِكَ مِنَ الْمَجَانِيقِ وَالدَّبَّابَاتِ وَآلَاتِ
الْحَرْبِ؛ لِئَلَّا يَتَقَوَّى بِهَا الرُّومُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ حَرْبِ
الْمُسْلِمِينَ، وَانْصَرَفَ رَاجِعًا عَنْهَا إِلَى نَاحِيَةِ طَرَسُوسَ فِي
أَوَاخِرِ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَتْ إِقَامَتُهُ عَلَى
عَمُّورِيَةَ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا.
ذِكْرُ مَقْتَلِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْمَأْمُونِ
كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمَأْمُونِ مَعَ عَمِّهِ الْمُعْتَصِمِ فِي غَزَاةِ
عَمُّورِيَةَ وَكَانَ عُجَيْفُ بْنُ عَنْبَسَةَ قَدْ نَدَّمَهُ إِذْ لَمْ يَأْخُذِ
الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَبِيهِ الْمَأْمُونِ حِينَ مَاتَ بِطَرَسُوسَ، وَلَامَهُ
عَلَى مُبَايَعَتِهِ عَمَّهُ الْمُعْتَصِمَ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَجَابَهُ
إِلَى الْفَتْكِ بِعَمِّهِ الْمُعْتَصِمِ، وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ مِنَ الْأُمَرَاءِ
لَهُ، وَجَهَّزَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ السَّمَرْقَنْدِيُّ، وَكَانَ
نَدِيمًا لِلْعَبَّاسِ، فَأَخَذَ لَهُ الْبَيْعَةَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ
الْأُمَرَاءِ فِي الْبَاطِنِ، وَاسْتَوْثَقَ مِنْهُمْ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ
أَنَّهُ يَلِي مَتَى مَا فَتَكَ بِعَمِّهِ، فَلْيَقْتُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِ الْمُعْتَصِمِ؛ كَالْأَفْشِينِ
وَأَشْنَاسَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكِبَارِ، فَلَمَّا كَانُوا بِدَرْبِ الرُّومِ
وَهُمْ قَاصِدُونَ إِلَى أَنْقِرَةَ وَمِنْهَا إِلَى عَمُّورِيَةَ أَشَارَ عُجَيْفٌ
عَلَى الْعَبَّاسِ أَنْ يَقْتُلَ عَمَّهُ فِي هَذَا الْمَضِيقِ، وَيَأْخُذَ لَهُ الْبَيْعَةَ، وَيَرْجِعَ إِلَى بَغْدَادَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُعَطِّلَ عَلَى النَّاسِ هَذِهِ الْغَزْوَةَ. فَلَمَّا فَتَحُوا عَمُّورِيَةَ وَاشْتَغَلَ النَّاسُ بِالْمَغَانِمِ أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْتِكَ، فَوَعَدَهُ مَضِيقَ الدَّرْبِ إِذَا رَجَعُوا، فَلَمَّا رَجَعُوا فَطِنَ الْمُعْتَصِمُ بِالْخَبَرِ، فَأَمَرَ بِالِاحْتِفَاظِ وَقُوَّةِ الْحَرَسِ، وَأَخَذَ بِالْحَزْمِ وَاجْتَهَدَ فِي الْعَزْمِ، وَاسْتَدْعَى بِالْحَارِثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، فَاسْتَقَرَّهُ فَأَقَرَّ لَهُ بِجَلِيَّةِ الْأَمْرِ، وَأَنَّهُ أَخَذَ الْبَيْعَةَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ الْمَأْمُونِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ أَسْمَاهُمْ لَهُ، فَاسْتَكْثَرَهُمُ الْمُعْتَصِمُ، وَاسْتَدْعَى بِابْنِ أَخِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْمَأْمُونِ فَقَيَّدَهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَأَهَانَهُ، ثُمَّ أَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُ وَعَفَا عَنْهُ، فَأَرْسَلَهُ مِنَ الْقَيْدِ وَأَطْلَقَ سَرَاحَهُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ اسْتَدْعَاهُ إِلَى حَضْرَتِهِ فِي مَجْلِسِ شَرَابِهِ، وَاسْتَخْلَاهُ حَتَّى سَقَاهُ وَاسْتَحْكَاهُ عَنِ الَّذِي كَانَ قَدْ دَبَّرَهُ مِنَ الْأَمْرِ، فَشَرَحَ لَهُ الْقَضِيَّةَ وَأَنْهَى لَهُ الْقِصَّةَ، فَإِذَا الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَ الْحَارِثُ السَّمَرْقَنْدِيُّ، فَلَمَّا أَصْبَحَ اسْتَدْعَى بِالْحَارِثِ، فَأَخْلَاهُ وَسَأَلَهُ عَنِ الْقَضِيَّةِ ثَانِيًا، فَذَكَرَهَا لَهُ كَمَا ذَكَرَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، إِنِّي كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ أَجِدْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا بِصِدْقِكَ إِيَّايَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. ثُمَّ أَمَرَ الْمُعْتَصِمُ حِينَئِذٍ بِابْنِ أَخِيهِ الْعَبَّاسِ، فَقُيِّدَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْأَفْشِينِ وَأَمَرَ بِعُجَيْفٍ وَبَقِيَّةِ مَنْ ذَكَرَ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَاحْتِيطَ عَلَيْهِمْ وَأُحِيطَ بِهِمْ، ثُمَّ أَخَذَ فِي أَنْوَاعِ النِّقْمَاتِ يَقْتَرِحُهَا لَهُمْ، فَقَتَلَ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ الْقِتْلَاتِ، وَمَاتَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمَأْمُونِ بِمَنْبِجَ فَدُفِنَ هُنَاكَ، وَكَانَ سَبَبَ
مَوْتِهِ
أَنَّهُ جَاعَ جُوعًا شَدِيدًا، ثُمَّ جِيءَ بِأَكْلٍ كَثِيرٍ، فَأَكَلَ وَطَلَبَ
الْمَاءَ، فَمُنِعَ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ، وَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بِلَعْنِهِ عَلَى
الْمَنَابِرِ، وَسَمَّاهُ اللَّعِينَ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ وَلَدِ
الْمَأْمُونِ أَيْضًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ، وَفُتِحَتْ
فِيهَا عَمُّورِيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَتُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بَابَكُ الْخُرَّمِيُّ قُتِلَ وَصُلِبَ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ مَبْسُوطًا.
وَخَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، كَاتِبُ اللَّيْثِ بْنِ
سَعْدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْعَوَقِيُّ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ آمُلِ طَبَرِسْتَانَ يُقَالُ لَهُ: مَازَيَارُ بْنُ
قَارَنَ بْنِ وِنْدَاهُرْمُزَ، وَكَانَ لَا يَرْضَى أَنْ يَدْفَعَ الْخَرَاجَ
إِلَى نَائِبِ خُرَاسَانَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، بَلْ
يَبْعَثُهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ لِيَقْبِضَهُ مِنْهُ، فَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ مَنْ
يَتَلَقَّى الْحِمْلَ إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ فَيَقْبِضُهُ مِنْهُ ثُمَّ
يَدْفَعُهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ ثُمَّ تَوَثَّبَ عَلَى تِلْكَ
الْبِلَادِ، وَأَظْهَرَ الْمُخَالَفَةَ لِلْمُعْتَصِمِ. وَقَدْ كَانَ
الْمَازَيَارُ هَذَا مِمَّنْ يُكَاتِبُ بَابَكَ الْخُرَّمِيَّ وَيَعِدُهُ
بِالنَّصْرِ. وَيُقَالُ: إِنَّ الَّذِي قَوَّى رَأْسَ الْمَازَيَارِ هُوَ
الْأَفْشِينُ؛ لِيُعْجِزَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ فَيُوَلِّيهِ الْمُعْتَصِمُ
بِلَادَ خُرَاسَانَ مَكَانَهُ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ مُحَمَّدَ بْنَ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ أَخَا إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ
فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَكَانَ آخِرَ
ذَلِكَ أَنْ أُسِرَ الْمَازَيَارُ وَحُمِلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ
فَاسْتَقَرَّهُ عَنِ الْكُتُبِ الَّتِي بَعَثَهَا
إِلَيْهِ
الْأَفْشِينُ فَأَقَرَّ بِهَا، فَأَرْسَلَهُ نَحْوَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
وَمَعَهُ مِنْ أَمْوَالِهِ الَّتِي اصْطُفِيَتْ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ جِدًّا؛ مِنَ
الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ وَالثِّيَابِ، فَلَمَّا أُوْقِفَ بَيْنَ يَدَيِ
الْخَلِيفَةِ سَأَلَهُ عَنْ كُتُبِ الْأَفْشِينِ إِلَيْهِ فَأَنْكَرَهَا فَأَمَرَ
بِهِ، فَضُرِبَ بِالسِّيَاطِ حَتَّى مَاتَ وَصُلِبَ إِلَى جَانِبِ بَابَكَ
الْخُرَّمِيِّ عَلَى جِسْرِ بَغْدَادَ وَقُتِلَ عُيُونُ أَصْحَابِهِ
وَأَتْبَاعِهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ الْحَسَنُ بْنُ الْأَفْشِينِ بِأُتْرُجَّةَ
بِنْتِ أَشْنَاسَ، وَدَخَلَ بِهَا فِي قَصْرِ الْمُعْتَصِمِ بِسَامَرَّا فِي
جُمَادَى، وَكَانَ عُرْسًا عَظِيمًا، وَلِيَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُعْتَصِمُ بِنَفْسِهِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُخَضِّبُونَ لِحَى
الْعَامَّةِ بِالْغَالِيَةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ مَنْكَجُورُ الْأُشْرُوسَنِيُّ قُرَابَةَ الْأَفْشِينِ بِأَرْضِ
أَذْرَبِيجَانَ وَخَلَعَ الطَّاعَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَفْشِينَ كَانَ قَدِ
اسْتَنَابَهُ عَلَى بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ حِينَ فَرَغَ مِنْ أَمْرِ بَابَكَ،
فَظَفِرَ مَنْكَجُورُ بِمَالٍ عَظِيمٍ مَخْزُونٍ لِبَابَكَ فِي بَعْضِ
الْبُلْدَانِ، فَاحْتَجَبَهُ لِنَفْسِهِ وَأَخْفَاهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ وَظَهَرَ
عَلَى ذَلِكَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
وَكَاتَبَ الْخَلِيفَةَ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ مَنْكَجُورُ
يُكَذِّبُهُ
فِي ذَلِكَ، وَهَمَّ بِهِ لِيَقْتُلَهُ فَامْتَنَعَ مِنْهُ بِأَهْلِ أَرْدَبِيلَ
فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْخَلِيفَةُ كَذِبَ مَنْكَجُورَ بَعَثَ إِلَيْهِ بُغَا
الْكَبِيرَ فَحَارَبَهُ وَأَخَذَهُ بِالْأَمَانِ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى
الْخَلِيفَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ يَاطَسُ الرُّومِيُّ الَّذِي كَانَ نَائِبًا عَلَى
عَمُّورِيَةَ حِينَ فَتَحَهَا الْمُعْتَصِمُ وَنَزَلَ مِنْ حِصْنِهِ عَلَى حُكْمِ
الْمُعْتَصِمِ، فَأَخَذَهُ مَعَهُ أَسِيرًا، فَاعْتَقَلَهُ بِسَامَرَّا حَتَّى
تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بْنِ
الْمَنْصُورِ، عَمُّ الْمُعْتَصِمِ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ شَكْلَةَ، وَقَدْ كَانَ
أَسْوَدَ اللَّوْنِ، ضَخْمًا فَصِيحًا فَاضِلًا، قَالَ ابْنُ مَاكُولَا: وَكَانَ
يُقَالُ لَهُ: التِّنِّينُ يَعْنِي لِسَوَادِهِ وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ
ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ تَرْجَمَةً حَافِلَةً، وَذَكَرَ أَنَّهُ وَلِيَ
إِمْرَةَ دِمَشْقَ نِيَابَةً عَنْ أَخِيهِ الرَّشِيدِ مُدَّةَ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ
عُزِلَ عَنْهَا، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَيْهَا الثَّانِيَةَ، وَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَ
سِنِينَ، وَذَكَرَ مِنْ عَدْلِهِ وَصَرَامَتِهِ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، وَأَنَّهُ
أَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى
دِمَشْقَ وَكَانَ قَدْ بَايَعَهُ أَهْلُ بَغْدَادَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ
الْمَأْمُونِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَمِائَتَيْنِ
كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ قَاتَلَهُ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ نَائِبُ بَغْدَادَ
فَهَزَمَهُ إِبْرَاهِيمُ فَقَصَدَهُ حُمَيْدٌ الطُّوسِيُّ فَهَزَمَ إِبْرَاهِيمَ،
وَاخْتَفَى إِبْرَاهِيمُ بِبَغْدَادَ حِينَ قَدِمَهَا الْمَأْمُونُ مُدَّةً
طَوِيلَةً، ثُمَّ ظَفِرَ بِهِ الْمَأْمُونُ سَنَةَ عَشْرٍ، فَعَفَا عَنْهُ
وَأَكْرَمَهُ وَاسْتَمَرَّ بِهِ فِي مَنْزِلَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ
ذَلِكَ.
وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ عَلَى بَغْدَادَ وَمُعَامَلَتِهَا سَنَةً وَأَحَدَ
عَشَرَ شَهْرًا وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ بَدْءُ اخْتِفَائِهِ فِي
أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ
اخْتِفَائِهِ سِتَّ سِنِينَ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَكَانَ الظَّفَرُ
بِهِ فِي ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ،
وَقَدْ جَرَتْ لَهُ فِي اخْتِفَائِهِ هَذَا أُمُورٌ عَجِيبَةٌ يَطُولُ بَسْطُهَا.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ
وَافِرَ الْفَضْلِ، غَزِيرَ الْأَدَبِ، وَاسِعَ النَّفْسِ، سَخِيَّ الْكَفِّ،
وَكَانَ مَعْرُوفَا بِصِنْعَةِ الْغِنَاءِ، حَاذِقًا بِهَا، وَذَكَرَ الْخَطِيبُ
أَنَّهُ قَلَّ الْمَالُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ فِي أَيَّامِ
خِلَافَتِهِ بِبَغْدَادَ فَأَلَحَّ الْأَعْرَابُ عَلَيْهِ فِي أُعْطِيَاتِهِمْ،
فَجَعَلَ يُسَوِّفُ بِهِمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُهُ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا
مَالَ عِنْدَهُ الْيَوْمَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلْيَخْرُجِ الْخَلِيفَةُ
إِلَيْنَا، فَلْيُغَنِّ لِأَهْلِ هَذَا الْجَانِبِ ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ،
وَلِلْجَانِبِ الْآخَرِ ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ. فَقَالَ فِي ذَلِكَ دِعْبِلُ بْنُ
عَلِيٍّ شَاعِرُ الْمَأْمُونِ يَذُمُّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ فِي ذَلِكَ:
يَا
مَعْشَرَ الْأَعْرَابِ لَا تَقْنَطُوا خُذُوا عَطَايَاكُمْ وَلَا تَسْخَطُوا
فَسَوْفَ يُعْطِيكُمْ حُنَيْنِيَّةً
لَا تَدْخُلُ الْكِيسَ وَلَا تُرْبَطُ وَالْمَعْبَدِيَّاتُ لِقُوَّادِكُمْ
وَمَا بِهَذَا أَحَدٌ يُغْبَطُ فَهَكَذَا يَرْزُقُ أَصْحَابَهُ
خَلِيفَةٌ مُصْحَفُهُ الْبَرْبَطُ
وَكَتَبَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ الْمَأْمُونِ حِينَ
طَالَ عَلَيْهِ الِاخْتِفَاءُ: وَلِيُّ الثَّأْرِ مُحَكَّمٌ فِي الْقِصَاصِ،
وَالْعَفْوُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
فَوْقَ كُلِّ ذِي عَفْوٍ، كَمَا جَعَلَ كُلَّ ذِي ذَنْبٍ دُونَهُ فَإِنْ عَفَا
فَبِفَضْلِهِ، وَإِنْ عَاقَبَ فَبِحَقِّهِ.
فَوَقَّعَ الْمَأْمُونُ فِي جَوَابِ ذَلِكَ: الْقُدْرَةُ تُذْهِبُ الْحَفِيظَةَ،
وَكَفَى بِالنَّدَمِ إِنَابَةً، وَعَفْوُ اللَّهِ أَوْسَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وَلَمَّا دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ أَنْشَأَ يَقُولُ:
إِنْ أَكُنْ مُذْنِبًا فَحَظِّيَ أَخْطَأْ تُ فَدَعْ عَنْكَ كَثْرَةَ التَّأْنِيبْ
قُلْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِبَنِي يعَ قُوبَ لَمَّا أَتَوْهُ لَا تَثْرِيبْ
فَقَالَ الْمَأْمُونُ: لَا تَثْرِيبَ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ لَمَّا
وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُونِ
شَرَعَ
يُؤَنِّبُهُ عَلَى مَا فَعَلَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، حَضَرْتَ
أَبِي وَهُوَ جَدُّكَ وَقَدْ أُتِيَ بِرَجُلٍ ذَنْبُهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَنْبِي،
فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤَخِّرَ قَتْلَ هَذَا الرَّجُلِ حَتَّى
أُحَدِّثَكَ حَدِيثًا. فَقَالَ: قُلْ. فَقَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مِنْ بُطْنَانِ
الْعَرْشِ: أَلَا لِيَقُمِ الْعَافُونَ مِنَ الْخُلَفَاءِ إِلَى أَكْرَمِ
الْجَزَاءِ، فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا فَقَالَ الْمَأْمُونُ: قَدْ قَبِلْتُ
هَذَا الْحَدِيثَ بِقَبُولِهِ، وَعَفَوْتُ عَنْكَ يَا عَمِّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي
سَنَةِ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ زِيَادَةً عَلَى هَذَا. وَقَدْ كَانَتْ أَشْعَارُهُ
جَيِّدَةً بَلِيغَةً، سَامَحَهُ اللَّهُ، وَقَدْ سَاقَ مِنْ ذَلِكَ الْحَافِظُ
ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " أَشْيَاءَ حَسَنَةً كَثِيرَةً.
كَانَ مَوْلِدُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ هَذَا فِي مُسْتَهَلِّ ذِي
الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ
سَنَةً.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ أَيْضًا: سَعِيدُ
بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْمِصْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو مَعْمَرٍ
الْمُقْعَدُ.
وَعَلِيُّ
بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ الْأَخْبَارِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ هَذَا
الشَّأْنِ فِي زَمَانِهِ، وَعَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ
تَزَوَّجَ هَذَا الرَّجُلَ أَلْفَ امْرَأَةٍ.
وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ
وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ وَأَيَّامِ النَّاسِ،
وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمَشْهُورَةُ الْمُنْتَشِرَةُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ،
حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ كَتَبَ كِتَابَهُ فِي الْغَرِيبِ
بِيَدِهِ. وَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ رَتَّبَ لَهُ فِي
كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَجْرَاهَا عَلَى ذُرِّيَّتِهِ مِنْ
بَعْدِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ ابْنَ طَاهِرٍ اسْتَحْسَنَهُ، وَقَالَ: مَا
يَنْبَغِي لِعَقْلٍ بَعَثَ صَاحِبَهُ عَلَى تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ أَنْ
يُحْوَجَ صَاحِبُهُ إِلَى طَلَبِ الْمَعَاشِ. وَأَجْرَى لَهُ عَشَرَةَ آلَافِ
دِرْهَمٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ الْمِسْعَرِيُّ:
سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ يَقُولُ: مَكَثْتُ فِي تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ أَرْبَعِينَ
سَنَةً.
وَقَالَ هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ الرَّقِّيُّ: مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
بِهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ؛
بِالشَّافِعِيِّ
تَفَقَّهَ فِي الْحَدِيثِ، وَبِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثَبَتَ فِي الْمِحْنَةِ،
وَبِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ نَفَى الْكَذِبَ عَنِ الْحَدِيثِ، وَبِأَبِي عُبَيْدٍ،
فَسَّرَ غَرِيبَ الْحَدِيثِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاقْتَحَمَ النَّاسُ فِي
الْخَطَأِ.
وَذَكَرَ ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِطَرَسُوسَ
ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَذَكَرَ لَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالِاجْتِهَادِ فِي
الْعِبَادَةِ شَيْئًا كَثِيرًا.
وَقَدْ رَوَى الْعَرَبِيَّةَ عَلَى أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَالْأَصْمَعِيِّ
وَأَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ،
وَالْفَرَّاءِ، وَالْكِسَائِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: نَحْنُ نَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَهُوَ لَا
يَحْتَاجُ إِلَيْنَا.
وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَسَمِعَ النَّاسُ مِنْهُ مِنْ تَصَانِيفِهِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: كَانَ كَأَنَّهُ جَبَلٌ نُفِخَ فِيهِ رُوحٌ
يُحْسِنُ كُلَّ شَيْءٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ الْقَاضِي: كَانَ أَبُو عُبَيْدٍ فَاضِلًا دَيِّنًا
رَبَّانِيًّا عَالِمًا
مُتَفَنِّنًا
فِي أَصْنَافِ عُلُومِ الْإِسْلَامِ؛ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ
وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَخْبَارِ، حَسَنَ الرِّوَايَةِ، صَحِيحَ النَّقْلِ، لَا
أَعْلَمُ أَحَدًا طَعَنَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ وَكُتُبِهِ.
وَلَهُ كِتَابُ " الْأَمْوَالِ "، وَكِتَابُ " فَضَائِلِ
الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنْتَفَعِ
بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي
قَبْلَهَا بِمَكَّةَ، وَقِيلَ: بِالْمَدِينَةِ، وَلَهُ سَبْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: جَاوَزَ السَّبْعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ أَبُو الْجَمَاهِرِ الدِّمَشْقِيُّ الْكَفْرَسُوسِيُّ،
أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ أَبُو النُّعْمَانِ
السَّدُوسِيُّ، الْمُلَقَّبُ بِعَارِمٍ، شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ الْجُرْجُسِيُّ
الْحِمْصِيُّ، شَيْخُهَا فِي زَمَانِهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا دَخَلَ بُغَا الْكَبِيرُ وَمَعَهُ مَنْكَجُورُ، قَدْ أَعْطَى الطَّاعَةَ
بِالْأَمَانِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمُعْتَصِمُ جَعْفَرَ بْنَ دِينَارٍ عَنْ نِيَابَةِ الْيَمَنِ،
وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَوَلَّى الْيَمَنَ إِيتَاخَ.
وَفِيهَا وَجَّهَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ بِالْمَازَيَارِ، فَدَخَلَ
بَغْدَادَ عَلَى بَغْلٍ بِإِكَافٍ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ،
فَضَرَبَهُ الْمُعْتَصِمُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَوْطًا
ثُمَّ سُقِيَ الْمَاءَ حَتَّى مَاتَ، وَأَمَرَ بِصَلْبِهِ إِلَى جَنْبِ بَابَكَ
الْخُرَّمِيَّ وَأَقَرَّ فِي ضَرْبِهِ أَنَّ الْأَفْشِينَ كَانَ يُكَاتِبُهُ
وَيُحَسِّنُ لَهُ خَلْعَ الطَّاعَةِ، فَغَضِبَ الْمُعْتَصِمُ عَلَى الْأَفْشِينِ
وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ، فَبُنِيَ لَهُ مَكَانٌ كَالْمَنَارَةِ مِنْ دَارِ
الْخِلَافَةِ يُسَمَّى الْكَوَّةَ، إِنَّمَا يَسَعُهُ فَقَطْ، وَذَلِكَ حِينَ
تَحَقَّقَ الْخَلِيفَةُ أَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مُخَالَفَتَهُ وَالْخُرُوجَ
عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَعْزِمُ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى بِلَادِ الْخَزَرِ لِيَسْتَجِيشَ
بِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَعَاجَلَهُ الْخَلِيفَةُ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ
قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَعَقَدَ لَهُ الْمُعْتَصِمُ مَجْلِسًا فِيهِ قَاضِيهِ
أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُوَادَ الْمُعْتَزِلِيُّ، وَوَزِيرُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ الزَّيَّاتِ،
وَنَائِبُهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، فَاتُّهِمَ الْأَفْشِينُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ بِأَشْيَاءَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى دِينِ أَجْدَادِهِ مِنَ الْفُرْسِ؛ مِنْهَا أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَتِنٍ، فَاعْتَذَرَ أَنَّهُ يَخَافُ أَلَمَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُنَاظِرُهُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ: فَأَنْتَ تُطَاعِنُ بِالرِّمَاحِ فِي الْحُرُوبِ وَلَا تَخَافُ مِنْ طَعْنِهَا، وَتَخَافُ مِنْ قَطْعِ قُلْفَةٍ بِبَدَنِكَ ؟ ! وَمِنْهَا أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلَيْنِ إِمَامًا وَمُؤَذِّنًا، كُلَّ وَاحِدٍ أَلْفَ سَوْطٍ؛ لِأَنَّهُمَا هَدَمَا بَيْتَ أَصْنَامٍ فَاتَّخَذَاهُ مَسْجِدًا، وَأَنَّهُ عِنْدَهُ كِتَابُ " كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ " وَفِيهِ الْكُفْرُ، وَهُوَ مُحَلَّى بِالْجَوَاهِرِ، وَالذَّهَبِ، فَاعْتَذَرَ أَنَّهُ وَرِثَهُ مِنْ آبَائِهِ، وَاتُّهِمَ بِأَنَّ الْأَعَاجِمَ يُكَاتِبُونَهُ فَتَقُولُ: إِلَى إِلَهِ الْآلِهَةِ مِنْ عَبِيدِهِ، وَأَنَّهُ يُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَجَعَلَ يَعْتَذِرُ بِأَنَّهُ أَجْرَاهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يُكَاتِبُونَ بِهِ آبَاءَهُ وَأَجْدَادَهُ وَخَافَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِتَرْكِ ذَلِكَ فَيَتَّضِعَ عِنْدَهُمْ. فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: وَيْحَكَ، فَمَاذَا أَبْقَيْتَ لِفِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ؟ وَأَنَّهُ كَانَ يُكَاتِبُ الْمَازَيَارَ بِأَنْ يَخْرُجَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَأَنَّهُ فِي ضِيقٍ حَتَّى يَنْصُرَ دِينَ الْمَجُوسِ الَّذِي كَانَ قَدِيمًا، وَيُظْهِرَهُ عَلَى دِينِ الْعَرَبِ وَالْمَغَارِبَةِ وَالْأَتْرَاكِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْتَطِيبُ الْمُنْخَنِقَةَ عَلَى الْمَذْبُوحَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي كُلِّ يَوْمِ أَرْبِعَاءَ يَسْتَدْعِي بِشَاةٍ سَوْدَاءَ، فَيَضْرِبُهَا بِالسَّيْفِ نِصْفَيْنِ، وَيَمْشِي بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَأْكُلُهُمَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بُغَا الْكَبِيرَ أَنْ يَسْجُنَهُ مُهَانًا ذَلِيلًا، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنِّي كُنْتُ أَتَوَقَّعُ مِنْكُمْ ذَلِكَ.
وَفِي
هَذِهِ السَّنَةِ حَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ الْحَسَنَ بْنَ الْأَفْشِينِ
وَزَوْجَتَهُ أُتْرُجَّةَ بِنْتَ أَشْنَاسَ إِلَى سَامَرَّا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ
فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ.
وَسَعْدَوَيْهِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ الْبِيكَنْدِيُّ، شَيْخُ الْبُخَارِيِّ.
وَأَبُو عُمَرَ الْجَرْمِيُّ.
وَأَبُو عُمَرَ الْحَوْضِيُّ.
وَأَبُو دُلَفٍ الْعِجْلِيُّ التَّمِيمِيُّ الْأَمِيرُ.
أَحَدُ الْأَجْوَادِ.
وَسَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ الْأَوْسَطُ الْبَلْخِيُّ
ثُمَّ الْبَصْرِيُّ
النَّحْوِيُّ.
أَخَذَ النَّحْوَ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَصَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً؛ مِنْهَا كِتَابٌ
فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَكِتَابُ " الْأَوْسَطِ " فِي النَّحْوِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَهُ كِتَابٌ فِي الْعَرُوضِ زَادَ فِيهِ بَحْرَ الْخَبَبِ
عَلَى الْخَلِيلِ.
وَسُمِّيَ الْأَخْفَشُ لِصِغَرِ عَيْنَيْهِ وَضَعْفِ بَصَرِهِ، وَكَانَ أَيْضًا
أَجْلَعَ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَنْضَمُّ شَفَتَاهُ عَلَى أَسْنَانِهِ، كَانَ
أَوَّلًا يُقَالُ لَهُ: الْأَخْفَشُ الصَّغِيرُ. بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَخْفَشِ
الْكَبِيرِ أَبِي الْخَطَّابِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ
الْهَجَرِيِّ، شَيْخِ سِيبَوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، فَلَمَّا ظَهَرَ عَلِيُّ
بْنُ سُلَيْمَانَ وَلُقِّبَ بِالْأَخْفَشِ أَيْضًا صَارَ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ
هُوَ الْأَوْسَطُ، وَالْهَجَرِيُّ الْأَكْبَرُ، وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ
الْأَصْغَرُ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ.
الْجَرْمِيُّ النَّحْوِيُّ
وَهُوَ صَالِحُ بْنُ إِسْحَاقَ الْبَصْرِيُّ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَنَاظَرَ بِهَا
الْفَرَّاءَ وَكَانَ قَدْ أَخَذَ
النَّحْوَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَأَبِي زَيْدٍ، وَالْأَصْمَعِيِّ، وَصَنَّفَ كُتُبًا مِنْهَا: " الْفَرْخُ " يَعْنِي فَرْخَ " كِتَابِ سِيبَوَيْهِ " " وَكَانَ فَقِيهًا فَاضِلًا نَحْوِيًّا بَارِعًا عَالِمًا بِاللُّغَةِ حَافِظًا لَهَا، دَيِّنًا وَرِعًا، حَسَنَ الْمَذْهَبِ، صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ، وَرَوَى الْحَدِيثَ. قَالَهُ كُلَّهُ ابْنُ خِلِّكَانَ، وَرَوَى عَنْهُ الْمُبَرِّدُ وَذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " " تَارِيخِ أَصْبَهَانَ " ".
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي شَعْبَانَ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْأَفْشِينُ فِي الْحَبْسِ، فَأَمَرَ بِهِ
الْمُعْتَصِمُ، فَصُلِبَ، ثُمَّ أُحْرِقَ، وَذُرِّيَ رَمَادُهُ فِي دِجْلَةَ،
وَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، فَوَجَدُوا فِيهَا أَصْنَامًا
مُكَلَّلَةً بِذَهَبٍ وَجَوَاهِرَ، وَكُتُبًا فِي فَضْلِ دِينِ الْمَجُوسِ،
وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً كَانَ يُتَّهَمُ بِهَا، تَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ
وَزَنْدَقَتِهِ، وَيَتَحَقَّقُ بِسَبَبِهَا مَا ذُكِرَ عَنْهُ مِنَ الِانْتِمَاءِ
إِلَى دِينِ آبَائِهِ الْمَجُوسِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنْ سَادَاتِ الْمُحَدِّثِينَ:
إِسْحَاقُ الْفَرَوِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ،
وَسُنَيْدُ
بْنُ دَاوُدَ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ، وَغَسَّانُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَيَحْيَى بْنُ
يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، شَيْخُ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ.
وَأَبُو دُلَفٍ الْعِجْلِيُّ الْقَاسِمُ بْنُ عِيسَى بْنِ إِدْرِيسَ بْنِ مَعْقِلِ
بْنِ عُمَيْرِ بْنِ شَيْخِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ خُزَاعِيِّ بْنِ عَبْدِ
الْعُزَّى بْنِ دُلَفِ بْنِ جُشَمِ بْنِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عِجْلِ بْنِ
لُجَيْمٍ، الْأَمِيرُ أَبُو دُلَفٍ الْعِجْلِيُّ أَحَدُ قُوَّادِ الْمَأْمُونِ
وَالْمُعْتَصِمِ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا
صَاحِبُ كِتَابِ " الْإِكْمَالِ ".
وَكَانَ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ خَطِيبُ دِمَشْقَ يَزْعُمُ
أَنَّهُ مِنْ سُلَالَتِهِ، وَيَذْكُرُ نَسَبَهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو دُلَفٍ
هَذَا كِرِيمًا جَوَادًا مِعْطَاءً مُمَدَّحًا، قَدْ قَصَدَهُ الشُّعَرَاءُ مَنْ
كُلِّ أَوْبٍ، وَكَانَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَغْشَاهُ
وَيَسْتَمْنِحُ نَدَاهُ، وَكَانَتْ لَدَيْهِ فَضِيلَةٌ فِي الْأَدَبِ
وَالْغِنَاءِ، وَصَنَّفَ كُتُبًا؛ مِنْهَا
"
سِيَاسَةُ الْمُلُوكِ "، وَمِنْهَا فِي " الصَّيْدِ وَالْبُزَاةِ
"، وَفِي " السِّلَاحِ "، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا أَحْسَنَ مَا
قَالَ فِيهِ بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ الشَّاعِرُ:
يَا طَالَبًا لِلْكِيمْيَاءِ وَعِلْمِهِ مَدْحُ ابْنُ عِيسَى الْكِيمْيَاءُ
الْأَعْظَمُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا دِرْهَمٌ
وَمَدَحْتَهُ لَأَتَاكَ ذَاكَ الدِّرْهَمُ
فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَكَانَ
شُجَاعًا فَاتِكًا، وَمِعْطَاءً لَا يَمَلُّ مِنَ الْعَطَاءِ، وَكَانَ يَسْتَدِينُ
عَلَى ذِمَّتِهِ وَيُعْطِي، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ شَرَعَ فِي بِنَاءِ مَدِينَةِ
الْكَرَجِ، فَمَاتَ وَلَمْ يُتِمَّهَا، فَأَتَمَّهَا أَبُو دُلَفٍ هَذَا، وَكَانَ
فِيهِ تَشَيُّعٌ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مُغَالِيًا فِي التَّشَيُّعِ،
فَهُوَ وَلَدُ زِنَا. فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ دُلَفٌ: لَسْتُ عَلَى مَذْهَبِكُ يَا
أَبَهْ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ وَطِئْتُ أُمَّكَ قَبْلَ أَنْ أَسْتَبْرِئَهَا،
فَهَذَا مِنْ ذَاكَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ وَلَدَهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ
بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ أَنَّ آتِيًا أَتَاهُ، فَقَالَ: أَجِبِ الْأَمِيرَ. قَالَ:
فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَدْخَلَنِي دَارًا وَحْشَةً وَعْرَةً سَوْدَاءَ الْحِيطَانِ
مُقَلَّعَةَ السُّقُوفِ، وَالْأَبْوَابِ، وَأَصْعَدَنِي فِي دَرَجٍ مِنْهَا ثُمَّ
أَدْخَلَنِي غُرْفَةً فِي حِيطَانِهَا أَثَرُ النِّيرَانِ، وَفِي أَرْضِهَا أَثَرُ
الرَّمَادِ، وَإِذَا بِأَبِي فِيهَا وَهُوَ عُرْيَانٌ وَاضِعٌ رَأْسَهُ بَيْنَ
رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ لِي كَالْمُسْتَفْهِمِ: دُلَفٌ ؟ فَقُلْتُ: دُلَفٌ.
فَأَنْشَأَ
يَقُولُ:
أَبْلِغَنْ أَهْلَنَا وَلَا تُخْفِ عَنْهُمْ مَا لَقِينَا فِي الْبَرْزَخِ الْخَنَّاقِ
قَدْ سُئِلْنَا عَنْ كُلِّ مَا قَدْ فَعَلْنَا فَارْحَمُوا وَحْشَتِي وَمَا قَدْ
أُلَاقِي
ثُمَّ قَالَ: أَفَهِمْتَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. ثُمَّ:
فَلَوْ أَنَّا إِذَا مِتْنَا تُرِكْنَا لَكَانَ الْمَوْتُ رَاحَةَ كُلِّ حَيِّ
وَلَكِنَّا إِذَا مِتْنَا بُعِثْنَا وَنُسْأَلُ بَعْدَهُ عَنْ كُلِّ شَيِّ
ثُمَّ قَالَ: أَفَهِمْتَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. وَانْتَبَهْتُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْغَوْرِ بِالشَّامِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو
حَرْبٍ الْمُبَرْقَعُ الْيَمَانِيُّ. فَخَلَعَ الطَّاعَةَ، وَدَعَا إِلَى
نَفْسِهِ، وَكَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْجُنْدِ أَرَادَ أَنْ
يَنْزِلَ فِي مَنْزِلِهِ وَذَلِكَ فِي غَيْبَةِ أَبِي حَرْبٍ، فَمَانَعَتْهُ
الْمَرْأَةُ، فَضَرَبَهَا الْجُنْدِيُّ فِي يَدِهَا فَأَثَّرَتِ الضَّرْبَةُ فِي
مِعْصَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ بَعْلُهَا أَبُو حَرْبٍ أَخْبَرَتْهُ، فَذَهَبَ إِلَى
الْجُنْدِيِّ وَهُوَ غَافِلٌ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ تَحَصَّنَ فِي رُءُوسِ
الْجِبَالِ وَهُوَ مُبَرْقَعٌ، فَإِذَا جَاءَهُ أَحَدٌ دَعَاهُ إِلَى الْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَذُمُّ مِنَ السُّلْطَانِ،
فَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْحَرَّاثِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالُوا: هَذَا
هُوَ السُّفْيَانِيُّ الْمَذْكُورُ أَنَّهُ يَمْلِكُ الشَّامَ. وَاسْتَفْحَلَ
أَمْرُهُ جِدًّا، وَاتَّبَعَهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَنَفَّذَ
إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَصِمُ وَهُوَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ جَيْشًا نَحْوًا
مِنْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ الْأَمِيرُ وَجَدَ أُمَّةً كَثِيرَةً قَدِ
اجْتَمَعُوا حَوْلَهُ فَخَشِيَ أَنْ يُنَاجِزَهُ،
وَالْحَالَةُ
هَذِهِ فَانْتَظَرَ حَتَّى جَاءَ وَقْتُ حَرْثِ الْأَرَاضِي، فَتَصَرَّمَ عَنْهُ
النَّاسُ إِلَى أَرَاضِيهِمْ، وَبَقِيَ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ، فَنَاهَضَهُ، فَأَسَرَهُ جَيْشُ الْخَلِيفَةِ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ
أَصْحَابُهُ، وَحَمَلَهُ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ وَهُوَ رَجَاءُ بْنُ أَيُّوبَ
حَتَّى قَدِمَ بِهِ عَلَى الْمُعْتَصِمِ، فَلَامَهُ الْمُعْتَصِمُ فِي تَأَخُّرِهِ
عَنْ مُنَاجَزَتِهِ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الشَّامَ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ كَانَ
مَعَهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَلَمْ يَزَلْ يُطَاوِلُهُ حَتَّى
أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ. فَشَكَرَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهُ
مَبْسُوطَةً الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنَ الْكُنَى.
ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُعْتَصِمِ
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِسَاعَتَيْنِ مَضَتَا مِنْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي إِسْحَاقَ
مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بِاللَّهِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ
بْنِ الْمَنْصُورِ.
وَهَذِهِ
تَرْجَمَةُ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَصِمِ
هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَبُو إِسْحَاقَ مُحَمَّدٌ الْمُعْتَصِمُ ابْنُ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ ابْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدٍ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ
اللَّهِ الْمَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْعَبَّاسِ، يُقَالُ لَهُ: الْمُثَمَّنُ. لِوُجُوهٍ؛ مِنْهَا أَنَّهُ ثَامِنُ
وَلَدِ الْعَبَّاسِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ ثَامِنُ الْخُلَفَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ،
وَمِنْهَا أَنَّهُ فَتَحَ ثَمَانِيَ فُتُوحَاتٍ؛ بِلَادَ بَابَكَ عَلَى يَدِ
الْأَفْشِينِ وَعَمُّورِيَةَ بِنَفْسِهِ، وَالزُّطَّ بِعُجَيْفٍ، وَبَحْرَ
الْبَصْرَةِ وَقَلْعَةَ الْأَجْرَافِ، وَأَعْرَابَ دِيَارِ رَبِيعَةَ،
وَالشَّارَكَ، وَفَتَحَ مِصْرَ بَعْدَ عِصْيَانِهَا، وَقَتَلَ ثَمَانِيَةَ
أَعْدَاءٍ: بَابَكَ، وَمَازَايَارَ، وَيَاطَسَ الرُّومِيَّ، وَالْأَفْشِينَ،
وَعُجَيْفًا، وَقَارَنَ، وَقَائِدَ الرَّافِضَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَقَامَ فِي
الْخِلَافَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ، وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ.
وَقِيلَ: وَيَوْمَيْنِ. وَأَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ فِي
شَعْبَانَ، وَهُوَ الشَّهْرُ الثَّامِنُ، وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ وَلَهُ مِنْ
الْعُمُرِ
ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَمِنْهَا أَنَّهُ خَلَّفَ ثَمَانِيَةَ بَنِينَ
وَثَمَانِيَ بَنَاتٍ، وَمِنْهَا أَنَّهُ دَخَلَ بَغْدَادَ مِنَ الشَّامِ وَهُوَ
خَلِيفَةٌ فِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ، وَمِائَتَيْنِ
بَعْدَ اسْتِكْمَالِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ مِنَ السَّنَةِ، بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ
الْمَأْمُونِ بِطَرَسُوسَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالُوا: وَكَانَ أُمِّيًّا لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ
أَنَّهُ كَانَ يَتَرَدَّدُ مَعَهُ إِلَى الْكُتَّابِ غُلَامٌ، فَمَاتَ الْغُلَامُ،
فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ الرَّشِيدُ: مَا فَعَلَ غُلَامُكَ ؟ قَالَ: مَاتَ
وَاسْتَرَاحَ مِنَ الْكُتَّابِ. فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ الرَّشِيدُ: وَقَدْ بَلَغَ
مِنْكَ كَرَاهَةُ الْكُتَّابِ إِلَى أَنْ تَجْعَلَ الْمَوْتَ رَاحَةً مِنْهُ ؟
وَاللَّهِ يَا بُنَيَّ لَا تَذْهَبُ إِلَى الْكُتَّابِ بَعْدَهَا. فَتَرَكُوهُ
فَكَانَ أُمِّيًّا، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ يَكْتُبُ كِتَابَةً ضَعِيفَةً.
وَقَدْ أَسْنَدَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ آبَائِهِ حَدِيثَيْنِ
مُنْكَرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا فِي ذَمِّ بَنِي أُمَيَّةَ، وَمَدْحِ بَنِي الْعَبَّاسِ
مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَالثَّانِي فِي النَّهْيِ عَنِ الْحِجَامَةِ يَوْمَ
الْخَمِيسِ.
وَذَكَرَ بِسَنَدِهِ عَنِ الْمُعْتَصِمِ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ كَتَبَ إِلَيْهِ
كِتَابًا يَتَهَدَّدُهُ فِيهِ،
فَقَالَ
لِلْكَاتِبِ: اكْتُبْ: قَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ، وَسَمِعْتُ خِطَابَكَ،
وَالْجَوَابُ مَا تَرَى لَا مَا تَسْمَعُ، " وَسَيَعْلَمُ الْكَافِرُ لِمَنْ
عُقْبَى الدَّارِ ".
قَالَ الْخَطِيبُ: غَزَا الْمُعْتَصِمُ بِلَادَ الرُّومِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَأَنْكَى نِكَايَةً عَظِيمَةً فِي الْعَدُوِّ،
وَنَصَبَ عَلَى عَمُّورِيَةَ الْمَجَانِيقَ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا حَتَّى فَتَحَهَا
وَدَخَلَهَا فَقَتَلَ فِيهَا ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَسَبَى مِثْلَهُمْ، وَكَانَ فِي
سَبْيِهِ سِتُّونَ بِطْرِيقًا، وَطَرَحَ النَّارَ فِي عَمُّورِيَةَ مِنْ سَائِرِ
نَوَاحِيهَا فَأَحْرَقَهَا وَجَاءَ بِبَابِهَا إِلَى الْعِرَاقِ وَهُوَ بَاقٍ
حَتَّى الْآنَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَحَدِ أَبْوَابِ دَارِ الْخِلَافَةِ مِمَّا يَلِي
الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ فِي الْقَصْرِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دَاوُدَ الْقَاضِي، أَنَّهُ قَالَ: رُبَّمَا
أَخْرَجَ الْمُعْتَصِمُ سَاعِدَهُ إِلَيَّ، وَقَالَ لِي: عَضَّ يَا أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ بِكُلِّ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَأَقُولُ: إِنَّهُ لَا تَطِيبُ نَفْسِي
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَيَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَضُرُّنِي. فَأَكْدُمُ
بِكُلِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي يَدِهِ.
قَالَ: وَمَرَّ يَوْمًا فِي خِلَافَةِ أَخِيهِ بِمُخَيَّمِ الْجُنْدِ، فَإِذَا
امْرَأَةٌ تَقُولُ: ابْنِي ابْنِي.
فَقَالَ
لَهَا: مَا شَأْنُكِ ؟ فَقَالَتْ: ابْنِي أَخَذَهُ صَاحِبُ هَذِهِ الْخَيْمَةِ.
فَجَاءَ إِلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ، فَقَالَ لَهُ: أَطْلِقْ هَذَا الصَّبِيَّ.
فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، فَقَبَضَ عَلَى جَسَدِهِ بِيَدِهِ، فَسُمِعَ صَوْتُ
عِظَامِهِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فَسَقَطَ مَيِّتًا، وَأَمَرَ
بِإِخْرَاجِ الصَّبِيِّ إِلَى أُمِّهِ
وَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَ شَهْمًا فِي أَيَّامِهِ وَلَهُ هِمَّةٌ
عَالِيَةٌ، وَمَهَابَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَتْ
هِمَّتُهُ فِي الْحَرْبِ، لَا فِي الْبِنَاءِ، وَلَا فِي غَيْرِهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: تَصَدَّقَ الْمُعْتَصِمُ عَلَى
يَدَيَّ، وَوَهَبَ مَا قَيمَتُهُ مِائَةُ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: كَانَ الْمُعْتَصِمُ إِذَا غَضِبَ لَا يُبَالِي مَنْ قَتَلَ وَلَا مَا
فَعَلَ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْصِلِيُّ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى
الْمُعْتَصِمِ وَعِنْدَهُ قَيْنَةٌ لَهُ تُغَنِّيهِ، فَقَالَ لِي: كَيْفَ تَرَاهَا
؟ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرَاهَا تَقْهَرُهُ بِحِذْقٍ،
وَتَخْتُلُهُ بِرِفْقٍ، وَلَا تَخْرُجُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا إِلَى أَحْسَنَ مِنْهُ،
وَفِي
صَوْتِهَا قِطَعُ شُذُورٍ أَحْسَنُ مِنْ نَظْمِ الدُّرِّ عَلَى النُّحُورِ.
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَصِفَتُكَ لَهَا أَحْسَنُ مِنْهَا وَمِنْ غِنَائِهَا. ثُمَّ
قَالَ لِابْنِهِ هَارُونَ الْوَاثِقِ، وَلِيِّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ: اسْمَعْ
هَذَا الْكَلَامَ.
وَقَدِ اسْتَخْدَمَ الْمُعْتَصِمُ مِنَ الْأَتْرَاكِ خَلْقًا عَظِيمًا كَانَ لَهُ
مِنَ الْمَمَالِيكِ التُّرْكِ قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَتَمَّ لَهُ مِنْ
آلَاتِ الْحَرْبِ وَالدَّوَابِّ مَا لَمْ يَتَّفِقْ لِغَيْرِهِ. وَلَمَّا
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَعَلَ يَقُولُ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا
أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [ الْأَنْعَامِ: 44 ] وَقَالَ:
لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ عُمْرِي قَصِيرٌ مَا فَعَلْتُ مَا فَعَلْتُ، وَقَالَ: إِنِّي
أُخِذْتُ مِنْ بَيْنِ هَذَا الْخَلْقِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: ذَهَبَتِ الْحِيَلُ،
لَيْسَتْ حِيلَةٌ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَخَافُكَ
مِنْ قِبَلِي، وَلَا أَخَافُكَ مِنْ قِبَلِكَ، وَأَرْجُوكَ مِنْ قِبَلِكَ، وَلَا
أَرْجُوكَ مِنْ قِبَلِي.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ضَحًى لِتِسْعَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ
مِنْ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِعَشَرٍ خَلَوْنَ مِنْ
شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَوَلِيَ الْخِلَافَةَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ
ثَمَانِي عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَكَانَ الْمُعْتَصِمُ أَبْيَضَ، أَصْهَبَ
اللِّحْيَةِ طَوِيلَهَا، مَرْبُوعًا، وَمُشْرَبَ اللَّوْنِ، أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ
اسْمُهَا مَارِدَةُ وَهُوَ أَحَدُ أَوْلَادٍ سِتَّةٍ مِنْ أَوْلَادِ الرَّشِيدِ،
كُلٌّ مِنْهُمُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ؛ وَهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمُ، وَأَبُو
الْعَبَّاسِ الْأَمِينُ، وَأَبُو عِيسَى، وَأَبُو أَحْمَدَ، وَأَبُو يَعْقُوبَ،
وَأَبُو أَيُّوبَ، قَالَهُ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ، وَقَدْ قَامَ
بِالْخِلَافَةِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ هَارُونُ الْوَاثِقُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ وَزِيرَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ الزَّيَّاتِ رَثَاهُ فَقَالَ:
قَدْ قُلْتُ إِذْ غَيَّبُوكَ وَاصْطَفَقَتْ عَلَيْكَ أَيْدِي التُّرَابِ
وَالطِّينِ اذْهَبْ فَنِعْمَ الْحَفِيظُ كُنْتَ عَلَى الدُّ
نْيَا وَنِعْمَ الظَّهِيرُ لِلدِّينِ لَا جَبَرَ اللَّهُ أُمَّةً فَقَدَتْ
مِثْلَكَ إِلَّا بِمِثْلِ هَارُونِ
وَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي الْجَنُوبِ وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ:
أَبُو إِسْحَاقَ مَاتَ ضُحًى فَمِتْنَا وَأَمْسَيْنَا بِهَارُونَ حَيِينَا
لَئِنْ جَاءَ الْخَمِيسُ بِمَا كَرِهْنَا لَقَدْ جَاءَ الْخَمِيسُ بِمَا هَوِينَا
خِلَافَةُ
الْوَاثِقِ هَارُونَ بْنِ الْمُعْتَصِمِ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ قَبْلَ أَنْ مَاتَ أَبُوهُ الْمُعْتَصِمُ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، أَعَنِي سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَيُكَنَّى بِأَبِي
جَعْفَرٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ رُومِيَّةٌ، يُقَالُ لَهَا: قَرَاطِيسُ. وَقَدْ
خَرَجَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَاصِدَةً الْحَجَّ، فَمَاتَتْ بِالْحِيرَةِ،
وَدُفِنَتْ بِالْكُوفَةِ فِي دَارِ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى، وَذَلِكَ لِأَرْبَعٍ
خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ الَّذِي أَقَامَ
لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَعْفَرُ بْنُ الْمُعْتَصِمِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ:
مَلِكُ الرُّومِ تَوْفِيلُ بْنُ مِيخَائِيلَ.
وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَمَلَكَتْ بَعْدَهُ
امْرَأَتُهُ تُدُورَةُ، وَكَانَ ابْنُهَا مِيخَائِيلُ بْنُ تَوْفِيلَ صَغِيرًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
بِشْرٌ الْحَافِي.
الزَّاهِدُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَطَاءِ بْنِ هِلَالِ بْنِ مَاهَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيُّ
أَبُو نَصْرٍ الزَّاهِدُ الْمَعْرُوفُ بِالْحَافِي نَزِيلُ بَغْدَادَ.
قَالَ
ابْنُ خِلِّكَانَ وَكَانَ اسْمُ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بَعْبُورَ، أَسْلَمَ عَلَى
يَدَيْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قُلْتُ: وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِبَغْدَادَ سَنَةَ
خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَسَمِعَ بِهَا شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ،
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَابْنِ مَهْدِيٍّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي
بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَغَيْرِهِمْ.
وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ؛ مِنْهُمْ أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَسَرِيٌّ
السَّقَطِيُّ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: سَمِعَ بِشْرٌ كَثِيرًا، ثُمَّ اشْتَغَلَ
بِالْعِبَادَةِ، وَاعْتَزَلَ النَّاسَ وَلَمْ يُحَدِّثْ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي عِبَادَتِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ
وَنُسُكِهِ وَتَقَشُّفِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَوْمَ بَلَغَهُ مَوْتُهُ: لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ
إِلَّا عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَلَوْ تَزَوَّجَ لَكَانَ قَدْ تَمَّ
أَمْرُهُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ مَا أَخْرَجَتْ بَغْدَادُ أَتَمَّ
عَقْلًا، وَلَا أَحْفَظَ لِلِسَانِهِ مِنْهُ، مَا عُرِفَ لَهُ غِيبَةٌ لِمُسْلِمٍ،
وَكَانَ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْهُ عَقْلٌ، وَلَوْ قُسِّمَ عَقْلُهُ عَلَى أَهْلِ
بَغْدَادَ لَصَارُوا عُقَلَاءَ، وَمَا نَقَصَ مِنْ عَقْلِهِ شَيْءٌ.
وَذَكَرَ
غَيْرُ وَاحِدٍ: أَنَّ بِشْرًا كَانَ شَاطِرًا فِي بَدْءِ أَمْرِهِ، وَأَنَّ
سَبَبَ تَوْبَتِهِ أَنَّهُ وَجَدَ رُقْعَةً فِيهَا اسْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
فِي أَتُونِ حَمَّامٍ فَرَفَعَهَا وَرَفَعَ طَرَفَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ:
سَيِّدِي اسْمُكَ هَاهُنَا مُلْقًى يُدَاسُ! ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى عَطَّارٍ فَاشْتَرَى
بِدِرْهَمٍ غَالِيَةً وَضَمَّخَ تِلْكَ الرُّقْعَةَ مِنْهَا، وَوَضَعَهَا حَيْثُ
لَا تُنَالُ فَأَحْيَا اللَّهُ قَلْبَهُ، وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ، وَصَارَ إِلَى
مَا صَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ.
وَمِنْ كَلَامِهِ: مَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا فَلْيَتَهَيَّأْ لِلذُّلِّ. وَكَانَ
بِشْرٌ يَأْكُلُ الْخُبْزَ وَحْدَهُ فَقِيلَ لَهُ: بِمَاذَا تَأْتَدِمُ ؟ فَقَالَ:
أَذْكُرُ الْعَافِيَةَ فَأَجْعَلُهَا أُدْمًا. وَكَانَ لَا يَلْبَسُ نَعْلًا بَلْ
يَمْشِي حَافِيًا، طَرَقَ يَوْمًا بَابًا، فَقِيلَ: مَنْ ؟ فَقَالَ بِشْرٌ
الْحَافِي فَقَالَتْ جَارِيَةٌ صَغِيرَةٌ: أَمَا وَجَدَ هَذَا دَانِقَيْنِ
يَشْتَرِي بِهِمَا نَعْلًا وَيَسْتَرِيحُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ. قَالُوا: وَكَانَ
سَبَبُ تَرْكِهِ النَّعْلَ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى حَذَّاءٍ، فَطَلَبَ مِنْهُ
شِرَاكًا لِنَعْلِهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَكْثَرَ كُلْفَتَكُمْ عَلَى النَّاسِ !
فَطَرَحَ النَّعْلَ مِنْ يَدِهِ، وَخَلَعَ الْأُخْرَى مِنْ رِجْلِهِ وَحَلَفَ لَا
يَلْبَسُ نَعْلًا أَبَدًا.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. وَقِيلَ فِي
رَمَضَانَ
بِبَغْدَادَ.
وَقِيلَ: بِمَرْوَ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَحِينَ مَاتَ اجْتَمَعَ فِي جِنَازَتِهِ أَهْلُ بَغْدَادَ عَنْ بَكْرَةِ
أَبِيهِمْ، فَأُخْرِجَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي
قَبْرِهِ إِلَّا بَعْدَ الْعَتَمَةِ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ،
وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ يَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ فِي الْجِنَازَةِ:
هَذَا وَاللَّهِ شَرَفُ الدُّنْيَا قَبْلَ شَرَفِ الْآخِرَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ
الْجِنَّ كَانَتْ تَنُوحُ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ الَّذِي كَانَ يَسْكُنُ فِيهِ،
وَأَنَّهُ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ
؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي، وَلِكُلِّ مَنْ شَهِدَ جِنَازَتِي، وَلِكُلِّ مَنْ
أَحَبَّنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَخَوَاتٌ ثَلَاثٌ؛
وَهُنَّ مَخَّةُ، وَمُضْغَةُ، وَزُبْدَةُ، وَكُلُّهُنَّ عَابِدَاتٌ زَاهِدَاتٌ
مِثْلَهُ، وَأَشَدُّ وَرَعًا أَيْضًا. ذَهَبَتْ إِحْدَاهُنَّ فَاسْتَأْذَنَتْ
عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالَتْ: إِنِّي رُبَّمَا
طَفِئَ السِّرَاجُ وَأَنَا أَغْزِلُ، فَإِذَا كَانَ ضَوْءُ الْقَمَرِ غَزَلْتُ
فِيهِ فَعَلَيَّ
عِنْدَ
الْبَيْعِ أَنْ أُمَيِّزَ هَذَا مِنْ هَذَا ؟ فَقَالَ لَهَا: إِنْ كَانَ
بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَأَعْلِمِي بِهِ الْمُشْتَرِي، وَقَالَتْ لَهُ مَرَّةً
إِحْدَاهُنَّ: رُبَّمَا تَمُرُّ بِنَا مَشَاعِلُ بَنِي طَاهِرٍ فِي اللَّيْلِ
وَنَحْنُ نَغْزِلُ فَنَغْزِلُ الطَّاقَ وَالطَّاقَيْنِ وَالطَّاقَاتِ،
فَخَلِّصْنِي مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ الْغَزْلِ
كُلِّهِ لِمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهَا مِنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ.
وَسَأَلَتْهُ عَنْ أَنِينِ الْمَرِيضِ أَفِيهِ شَكْوَى ؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا
هُوَ شَكْوَى إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ خَرَجَتْ. فَقَالَ لِابْنِهِ
عَبْدِ اللَّهِ: يَا بُنَيَّ اذْهَبْ خَلْفَهَا فَاعْلَمْ لِي مَنْ هَذِهِ
الْمَرْأَةُ ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَذَهَبْتُ وَرَاءَهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ
دَخَلَتْ دَارَ بِشْرٍ الْحَافِي وَإِذَا هِيَ أُخْتُهُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَيْضًا عَنْ زُبْدَةَ قَالَتْ: جَاءَ
لَيْلَةً أَخِي بِشْرٌ، فَدَخَلَ بِرِجْلِهِ فِي الدَّارِ، وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى
خَارِجَ الدَّارِ، فَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ لَيْلَتَهُ حَتَّى أَصْبَحَ، فَقِيلَ
لَهُ: فِيمَ تَفَكَّرْتَ لَيْلَتَكَ ؟ قَالَ: تَفَكَّرْتُ فِي بِشْرٍ
النَّصْرَانِيِّ، وَبِشْرٍ الْيَهُودِيِّ، وَبِشْرٍ الْمَجُوسِيِّ، وَفِي نَفْسِي
وَاسْمِي بِشْرٌ فَقُلْتُ: مَا الَّذِي سَبَقَ مِنْكَ حَتَّى خَصَّكَ
بِالْإِسْلَامِ مِنْ بَيْنِهِمْ ؟ فَتَفَكَّرْتُ فِي تَفَضُّلِهِ
عَلَيَّ،
وَحَمِدْتُهُ عَلَى أَنْ جَعَلَنِي مِنْ خَاصَّتِهِ، وَأَلْبَسَنِي لِبَاسَ
أَحْبَابِهِ.
وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فَأَطْنَبَ وَأَطْيَبَ وَأَطَالَ
مِنْ غَيْرِ مَلَالٍ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَشْعَارًا حَسَنَةً،
وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
تَعَافُ الْقَذَى فِي الْمَاءِ لَا تَسْتَطِيعُهُ وَتَكْرَعُ مِنْ حَوْضِ
الذُّنُوبِ فَتَشْرَبُ وَتُؤْثِرُ مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ أَلَذَّهُ
وَلَا تَذْكُرُ الْمُخْتَارَ مِنْ أَيْنَ يَكْسِبُ وَتَرْقُدُ يَا مِسْكِينُ
فَوْقَ نَمَارِقٍ
وَفِي حَشْوِهَا نَارٌ عَلَيْكَ تَلَهَّبُ فَحَتَّى مَتَى لَا تَسْتَفِيقُ
جَهَالَةً
وَأَنْتَ ابْنُ سَبْعِينَ بِدِينِكَ تَلْعَبُ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ الْيَرْبُوعِيُّ.
وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ.
وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ.
صَاحِبُ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِي
مِثْلِهَا
إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ الدُّولَابِيُّ.
وَلَهُ سُنَنٌ أَيْضًا.
وَأَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ.
وَأَبُو الْهُذَيْلِ الْعَلَّافُ الْمُتَكَلِّمُ الْمُعْتَزِلِيُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي رَمَضَانَ مِنْهَا خَلَعَ الْخَلِيفَةُ الْوَاثِقُ عَلَى أَشْنَاسَ الْأَمِيرِ
وَتَوَجَّهَ وَأَلْبَسَهُ وِشَاحَيْنِ مِنْ جَوْهَرٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الْأَمِيرُ.
وَغَلَا السِّعْرُ عَلَى النَّاسِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ جِدًّا، وَأَصَابَهُمْ
حَرٌّ شَدِيدٌ، وَهُمْ بِعَرَفَةَ ثُمَّ بَرْدٌ شَدِيدٌ، وَمَطَرٌ عَظِيمٌ فِي
سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَنَزَلَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ بِمِنًى مَطَرٌ لَمْ يُرَ
مِثْلُهُ، وَسَقَطَتْ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَبَلِ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ
فَقَتَلَتْ جَمَاعَةً مِنَ الْحُجَّاجِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ فِي مَنْزِلِ
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْصِلِيِّ، وَحَبِيبُ بْنُ أَوْسٍ الطَّائِيُّ
أَبُو تَمَّامٍ الشَّاعِرُ.
قُلْتُ: أُمَّا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ أَحَدُ
أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، وَإِمَامُ الْأَخْبَارِيِّينَ فِي زَمَانِهِ،
فَتَقَدَّمَ ذِكْرُ وَفَاتِهِ قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ الشَّاعِرُ: صَاحِبُ الْحَمَاسَةِ الَّتِي
جَمَعَهَا فِي
فَصْلِ
الشِّتَاءِ بِهَمَذَانَ فِي دَارِ وَزِيرِهَا، فَهُوَ حَبِيبُ بْنُ أَوْسِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الْأَشَجِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ مُرَيْنَا بْنِ سَهْمِ
بْنِ خِلْجَانَ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ دَفَّافَةَ بْنِ مُرِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ
كَاهِلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ طَيِّئٍ،
وَهُوَ جُلْهُمَةُ بْنُ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ عَرِيبِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ
أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ الشَّاعِرُ الْأَدِيبُ الْمَشْهُورُ.
وَنَقَلَ الْخَطِيبُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الصُّولِيِّ أَنَّهُ حَكَى عَنْ
بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَبُو تَمَّامٍ حَبِيبُ بْنُ تَدْرُسَ
النَّصْرَانِيِّ، فَسَمَّاهُ أَبُو تَمَّامٍ أَوْسًا بَدَلَ تَدْرُسَ. قَالَ ابْنُ
خِلِّكَانَ وَأَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةِ جَاسِمٍ مِنْ عَمَلِ الْجَيْدُورِ
بِالْقُرْبِ
مِنْ
طَبَرِيَّةَ وَكَانَ بِدِمَشْقَ يَعْمَلُ عِنْدَ حَائِكٍ ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ
فِي شَبِيبَتِهِ، وَابْنُ خِلِّكَانَ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ " " تَارِيخِ
الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ " "، وَقَدْ تَرْجَمَ أَبَا تَمَّامٍ
تَرْجَمَةً حَسَنَةً. وَقَالَ الْخَطِيبُ، الْبَغْدَادِيُّ وَهُوَ شَامِيُّ الْأَصْلِ،
وَكَانَ بِمِصْرَ فِي حَدَاثَتِهِ يَسْقِي الْمَاءَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ
ثُمَّ جَالَسَ الْأُدَبَاءَ فَأَخَذَ عَنْهُمْ وَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ، وَكَانَ
فَطِنًا فَهْمًا، وَكَانَ يُحِبُّ الشِّعْرَ، فَلَمْ يَزَلْ يُعَانِيهِ حَتَّى
قَالَ الشِّعْرَ فَأَجَادَ، وَشَاعَ ذِكْرُهُ، وَسَارَ شِعْرُهُ وَبَلَغَ
الْمُعْتَصِمَ خَبَرُهُ فَحَمَلَهُ إِلَيْهِ وَهُوَ بِسُرَّ مَنْ رَأَى فَعَمِلَ
فِيهِ قَصَائِدَ، فَأَجَازَهُ الْمُعْتَصِمُ وَقَدَّمَهُ عَلَى شُعَرَاءِ
وَقْتِهِ، فَقَدِمَ بَغْدَادَ فَجَالَسَ الْأُدَبَاءَ، وَعَاشَرَ الْعُلَمَاءَ،
وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالظُّرْفِ وَحُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَكَرَمِ النَّفْسِ، وَقَدْ
رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ وَغَيْرُهُ أَخْبَارًا مُسْنَدَةً.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: كَانَ يَحْفَظُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ أَلْفَ
أُرْجُوزَةٍ لِلْعَرَبِ غَيْرَ الْقَصَائِدِ وَالْمَقَاطِيعِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَكَانَ يُقَالُ: فِي طَيِّئٍ ثَلَاثَةٌ: حَاتِمٌ فِي كَرَمِهِ، وَدَاوُدُ
الطَّائِيُّ فِي زُهْدِهِ، وَأَبُو تَمَّامٍ فِي شِعْرِهِ، قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ
الشُّعَرَاءُ فِي زَمَانِهِ جَمَاعَةً؛ فَمِنْ مَشَاهِيرِهِمْ أَبُو الشِّيصِ
وَدِعْبِلُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ أَبِي قَيْسٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو تَمَّامٍ مِنْ
خِيَارِهِمْ دِينًا وَأَدَبًا وَأَخْلَاقًا. وَمِنْ رَقِيقِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
يَا
حَلِيفَ النَّدَى وَيَا تَوْءَمَ الْجُو دِ وَيَا خَيْرَ مَنْ حَبَوْتُ الْقَرِيضَا
لَيْتَ حُمَّاكَ بِي وَكَانَ لَكَ الْأَجْ
رُ فَلَا تَشْتَكِي وَكُنْتُ الْمَرِيضَا
وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ أَنَّ
أَبَا تَمَّامٍ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَذَا
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ
إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَوْصِلِ، وَبُنِيَتْ عَلَى قَبْرِهِ قُبَّةٌ، وَحَكَى
الصُّولِيُّ عَنِ الْوَزِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الزَّيَّاتِ
أَنَّهُ قَالَ يَرْثِيهِ:
نَبَأٌ أَتَى مِنْ أَعْظَمِ الْأَنْبَاءِ لَمَّا أَلَمَّ مُقَلْقَلَ الْأَحْشَاءِ
قَالُوا حَبِيبٌ قَدْ ثَوَى فَأَجَبْتُهُمْ نَاشَدْتُكُمْ لَا تَجْعَلُوهُ
الطَّائِي
وَقَالَ غَيْرُهُ:
فُجِعَ الْقَرِيضُ بِخَاتَمِ الشُّعَرَاءِ وَغَدِيرُ رَوْضَتِهَا حَبِيبٌ
الطَّائِي
مَاتَا مَعًا فَتَجَاوَرَا فِي حُفْرَةٍ وَكَذَاكَ كَانَا قَبْلُ فِي الْأَحْيَاءِ
وَقَدْ
جَمَعَ الصُّولِيُّ شِعْرَ أَبِي تَمَّامٍ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ. قَالَ
الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ وَقَدِ امْتَدَحَ أَحْمَدَ بْنَ الْمُعْتَصِمِ -
وَيُقَالُ: ابْنَ الْمَأْمُونِ - بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
إِقْدَامُ عَمْرٍو فِي سَمَاحَةِ حَاتِمٍ فِي حِلْمِ أَحْنَفَ فِي ذَكَاءِ إِيَاسِ
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: أَتَقُولُ هَذَا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَهُوَ أَكْبَرُ قَدْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ. فَأَطْرَقَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:
لَا تُنْكِرُوا ضَرْبِي لَهُ مَنْ دُونَهُ مَثَلًا شَرُودًا فِي النَّدَى
وَالْبَاسِ
فَاللَّهُ قَدْ ضَرَبَ الْأَقَلَّ لِنُورِهِ مَثَلًا مِنَ الْمِشْكَاةِ وَالنِّبْرَاسِ
فَلَمَّا أَخَذُوا مِنْهُ الْقَصِيدَةَ لَمْ يَجِدُوا فِيهَا هَذَيْنَ
الْبَيْتَيْنِ، وَإِنَّمَا قَالَهُمَا ارْتِجَالًا. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَعِيشُ
هَذَا بَعْدَ هَذَا إِلَّا قَلِيلًا. فَكَانَ كَذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ
زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ امْتَدَحَ بِهَا بَعْضَ
الْخُلَفَاءِ، فَأَقْطَعَهُ الْمَوْصِلَ فَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا،
وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ، وَلَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ لَهِجَ بِهِ
بَعْضُ النَّاسِ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ الْحَافِظُ
ابْنُ عَسَاكِرَ أَشْيَاءَ مُسْتَطْرَفَةً مِنْ شِعْرِهِ الرَّائِقِ وَنَظْمِهِ
الْفَائِقِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَلَوْ
كَانَتِ الْأَرْزَاقُ تَجْرِي عَلَى الْحِجَا هَلَكْنَ إِذًا مِنْ جَهْلِهِنَّ
الْبَهَائِمُ
وَلَمْ يَجْتَمِعْ شَرْقٌ وَغَرْبٌ لِقَاصِدٍ وَلَا الْمَجْدُ فِي كَفِّ امْرِئٍ
وَالدَّرَاهِمُ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
وَمَا أَنَا بِالْغَيْرَانِ مِنْ دُونِ عِرْسِهِ إِذَا أَنَا لَمْ أُصْبِحْ
غَيُورًا عَلَى الْعِلْمِ
طَبِيبُ فُؤَادِي مُذْ ثَلَاثِينَ حِجَّةً وَمُذْهِبُ هَمِّي وَالْمُفَرِّجُ لِلْغَمِّ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، وَالْعَيْشِيُّ، وَأَبُو الْجَهْمِ، وَمُسَدَّدٌ،
وَدَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ
الْحِمَّانِيُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْوَاثِقُ بِاللَّهِ بِضَرْبِ الدَّوَّاوِينِ،
وَاسْتِخْلَاصِ الْأَمْوَالِ مِنْهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ ضُرِبَ أَلْفَ سَوْطٍ،
وَمِنْهُمْ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَدُونَ ذَلِكَ، وَجَاهَرَ
الْوَزِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِسَائِرِ وُلَاةِ الشُّرَطِ
بِالْعَدَاوَةِ فَكُشِفُوا، وَحُبِسُوا، وَلَقُوا جَهْدًا عَظِيمًا وَجَلَسَ
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ لِلنَّظَرِ فِي أَمْرِهِمْ، وَأُقِيمُوا لِلنَّاسِ،
وَافْتُضِحُوا فَضِيحَةً بَلِيغَةً، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاثِقَ
جَلَسَ لَيْلَةً فِي دَارِ الْخِلَافَةِ فَسُمِرَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: هَلْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ يَعْرِفُ سَبَبَ عُقُوبَةِ جَدِّي الرَّشِيدِ لِلْبَرَامِكَةِ ؟
فَقَالَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ سَبَبَ
ذَلِكَ أَنَّ الرَّشِيدَ عُرِضَتْ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ، فَأَعْجَبَهُ جَمَالُهَا،
فَسَاوَمَ سَيِّدَهَا فِيهَا، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي
أَقْسَمْتُ بِكُلِّ يَمِينٍ أَنْ لَا
أَبِيعَهَا
بِأَقَلَّ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ بِهَا، وَبَعَثَ
إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ الْوَزِيرِ لِيَبْعَثَ بِهَا إِلَيْهِ مِنْ بَيْتِ
الْمَالِ، فَاعْتَلَّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُ فَأَرْسَلَ الرَّشِيدُ
يُؤَنِّبُهُ، وَيَقُولُ: أَلَيْسَ فِي بَيْتِ مَالِي مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ ؟ !
وَأَلَحَّ فِي طَلَبِهَا، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ: أَرْسِلُوهَا إِلَيْهِ
دَرَاهِمَ لِيَسْتَكْثِرَ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ يَرُدُّ الْجَارِيَةَ. فَبَعَثُوا
بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ دَرَاهِمَ، وَوَضَعُوهَا فِي طَرِيقِ الرَّشِيدِ،
وَهُوَ خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهَا رَأَى كَوْمًا مِنْ
دَرَاهِمَ. فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: ثَمَنُ الْجَارِيَةِ. فَاسْتَكْثَرَ
ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِخَزْنِهَا عِنْدَ بَعْضِ خَدَمِهِ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ،
وَأَعْجَبَهُ جَمْعُ الْمَالِ فِي حَوَاصِلِهِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي تَتَبُّعِ
أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَإِذَا الْبَرَامِكَةُ قَدِ اسْتَهْلَكُوهُ، فَجَعَلَ
يَهُمُّ بِأَخْذِهِمْ تَارَةً وَيُحْجِمُ أُخْرَى، حَتَّى كَانَ فِي بَعْضِ
اللَّيَالِي سَمَرَ عِنْدِهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْعُودِ. فَأَطْلَقَ
لَهُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَذَهَبَ إِلَى الْوَزِيرِ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ
بْنِ بَرْمَكَ، فَمَاطَلَهُ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ
اللَّيَالِي فِي السَّمَرِ عَرَّضَ أَبُو الْعُودِ فِي ذَلِكَ لِلرَّشِيدِ
بِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
وَعَدَتْ هِنْدٌ وَمَا كَادَتْ تَعِدْ لَيْتَ هِنْدًا أَنْجَزَتْنَا مَا تَعِدْ
وَاسْتَبَدَّتْ مَرَّةً وَاحِدَةً
إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ
فَجَعَلَ الرَّشِيدُ يُكَرِّرُ قَوْلَهُ:
إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ
وَيُعْجِبُهُ
ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ دَخَلَ عَلَيْهِ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ،
فَأَنْشَدَهُ الرَّشِيدُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، وَهُوَ يَسْتَحْسِنُهُمَا
فَفَهِمَ ذَلِكَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ، وَخَافَ، وَسَأَلَ عَنْ مَنْ أَنْشَدَ
ذَلِكَ لِلرَّشِيدِ ؟ فَقِيلَ لَهُ: أَبُو الْعُودِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَأَنْجَزَ
لَهُ الثَّلَاثِينَ أَلْفًا، وَأَعْطَاهُ مِنْ عِنْدِهِ عِشْرِينَ أَلْفًا،
وَكَذَلِكَ وَلَدَاهُ الْفَضْلُ، وَجَعْفَرٌ، فَمَا كَانَ عَنْ قَرِيبٍ حَتَّى
أَخَذَ الرَّشِيدُ الْبَرَامِكَةَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِهِمْ مَا كَانَ.
فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْوَاثِقُ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَجَعَلَ يُكَرِّرُ قَوْلَ
الشَّاعِرِ:
إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ
ثُمَّ بَطَشَ بِالْكُتَّابِ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا
عَظِيمَةً جِدًّا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ، وَهُوَ أَمِيرُ
الْحَجِيجِ فِي السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزَّارُ.
أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْقُرَّاءِ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ.
وَنُعَيْمُ
بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ.
أَحَدُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْجَهْمِيَّةِ،
وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي الْفِتَنِ وَغَيْرِهَا.
وَدِينَارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ النُّسْخَةُ الْمَكْذُوبَةُ عَنْهُ أَوْ مِنْهُ، وَهِيَ
عَالِيَةُ الْإِسْنَادِ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي جُمَادَى مِنْهَا خَرَجَتْ بَنُو سُلَيْمٍ حَوْلَ الْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ، فَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَأَخَافُوا السُّبُلَ،
وَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَهَزَمُوا أَهْلَهَا، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى
مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَتِلْكَ الْمَنَاهِلِ وَالْقُرَى فَبَعَثَ
إِلَيْهِمُ الْوَاثِقُ بُغَا الْكَبِيرَ أَبَا مُوسَى التُّرْكِيَّ فِي جَيْشٍ،
فَقَاتَلَهُمْ فِي شَعْبَانَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَارِسًا، وَأَسَرَ
مِثْلَهُمْ، وَانْهَزَمَ بَقِيَّتُهُمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْأَمَانِ، وَأَنْ
يَكُونُوا عَلَى حُكْمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ
خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَدَخَلَ بِهِمُ الْمَدِينَةَ وَسَجَنَ رُءُوسَهُمْ فِي دَارِ
يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَخَرَجَ إِلَى الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَشَهِدَ
مَعَهُ الْمَوْسِمَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، نَائِبُ
الْعِرَاقِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الْمُتَقَدِّمُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ نَائِبُ خُرَاسَانَ وَمَا وَالَاهَا
مِنَ الْبُلْدَانِ،
وَكَانَ
خَرَاجُ مَا تَحْتَ يَدِهِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
فَوَلَّى الْخَلِيفَةُ ابْنَهُ طَاهِرًا، وَكَانَتْ وَفَاةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
طَاهِرٍ الْأَمِيرِ بَعْدَ مَوْتِ أَشْنَاسَ التُّرْكِيِّ بِتِسْعَةِ أَيَّامٍ،
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ بِمَرْوَ، وَقِيلَ: بِنَيْسَابُورَ. وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا
مُمَدَّحًا، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ أَوْرَدَ لَهُ مِنْهُ. قَالَ: وَقَدْ وَلِيَ
نِيَابَةَ مِصْرَ بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وَذَكَرَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْمَغْرِبِيِّ أَنَّ الْبِطِّيخَ
الْعَبْدَاللَّاوِيَّ الَّذِي بِمِصْرَ مَنْسُوبٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
طَاهِرٍ هَذَا. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ إِمَّا أَنَّهُ كَانَ
يَسْتَطِيبُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ زَرَعَهُ هُنَاكَ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَمِنْ جَيِّدِ شِعْرِهِ:
اغْتَفِرْ زَلَّتِي لِتُحْرِزَ فَضْلَ الشُّ كْرِ مِنِّي وَلَا يَفُوتُكَ أَجْرِي
لَا تَكِلْنِي إِلَى التَّوَسُّلِ بِالْعُذْ
رِ لَعَلِّي أَنْ لَا أَقُومَ بِعُذْرِي
وَمِنْ
شَعْرِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:
نَحْنُ قَوْمٌ تُلِينُنَا الْحَدَقُ النُّجْ لُ عَلَى أَنَّنَا نُلِينُ
الْحَدِيدَا
طَوْعَ أَيْدِي الظِّبَاءِ تَقْتَادُنَا الْعِي نُ وَنَقْتَادُ بِالطِّعَانِ
الْأُسُودَا
نَمْلِكُ الصِّيدَ ثُمَّ تَمْلِكُنَا الْبِي ضُ الْمَصُونَاتُ أَعْيُنًا
وَخُدُودَا
تَتَّقِي سُخْطَنَا الْأُسُودُ وَنَخْشَى سَخَطَ الْخِشْفِ حِينَ يُبْدِي
الصُّدُودَا
فَتَرَانَا يَوْمَ الْكَرِيهَةِ أَحْرَا رًا وَفِي السِّلْمِ لِلْغَوَانِي
عَبِيدَا
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَكَانَ خُزَاعِيًّا مِنْ مَوَالِي طَلْحَةَ
الطَّلْحَاتِ الْخُزَاعِيِّ.
وَقَدْ كَانَ أَبُو تَمَّامٍ يَمْدَحُهُ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ مَرَّةً فَاعْتَاقَهُ
الثَّلْجُ بِهَمَذَانَ، فَصَنَّفَ كِتَابَ الْحَمَاسَةِ عِنْدَ بَعْضِ
رُؤَسَائِهَا.
وَرَوَى
لَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَلَمَّا وَلَّاهُ الْمَأْمُونُ نِيَابَةَ
بِلَادِ الشَّامِ وَدِيَارَ مِصْرَ صَارَ إِلَيْهَا، وَقَدْ رَسَمَ لَهُ بِمَا فِي
دِيَارِ مِصْرَ مِنَ الْحَوَاصِلِ، فَحَمَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَفَرَّقَهَا كُلَّهَا فِي مَجْلِسٍ
وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ لَمَّا وَاجَهَ مِصْرَ نَظَرَ إِلَيْهَا فَاحْتَقَرَهَا،
وَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ، مَا كَانَ أَخَسَّهُ وَأَضْعَفَ هِمَّتَهُ
حِينَ مَلَكَ هَذِهِ الْقَرْيَةَ، وَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ الْجَوْهَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ
الْوَاقِدِيِّ وَلَهُ كِتَابُ " الطَّبَقَاتِ " وَغَيْرُهُ مِنَ
الْمُصَنَّفَاتِ، وَسَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَقَعَتْ مُفَادَاةٌ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا
بِأَيْدِي الرُّومِ عَلَى يَدَيِ الْأَمِيرِ خَاقَانَ الْخَادِمِ، وَذَلِكَ فِي
الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ عِدَّةُ الْأُسَارَى الَّذِينَ
اسْتُنْقِذُوا مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ
وَاثْنَيْنِ وَسِتِّينَ أَسِيرًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ الْخُزَاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ أَحْمَدُ
بْنُ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيُّ وَجَدُّهُ مَالِكُ بْنُ
الْهَيْثَمِ مِنْ أَكْبَرِ الدُّعَاةِ فِي النَّاسِ إِلَى دَوْلَةِ بَنِي
الْعَبَّاسِ، وَكَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَرِيَاسَةٌ، وَكَانَ أَبُوهُ نَصْرُ بْنُ
مَالِكٍ يَغْشَاهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ بَايَعَهُ الْعَامَّةُ فِي سَنَةِ
إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ عَلَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ
حِينَ كَثُرَتِ الدُّعَّارُ وَالشُّطَّارُ فِي أَرْجَاءِ بَغْدَادَ فِي زَمَانِ
غَيْبَةِ الْمَأْمُونِ عَنْ بَغْدَادَ كَمَا قَدَّمْنَا بَسْطَ ذَلِكَ، وَبِهِ
تُعْرَفُ سُوَيْقَةُ نَصْرٍ بِبَغْدَادَ.
وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّيَانَةِ
وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالِاجْتِهَادِ
فِي
الْخَيْرِ، وَمِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ السُّنَّةِ الْآمِرِينَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ مِمَّنْ يَدْعُو إِلَى
الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ،
وَكَانَ هَارُونُ الْوَاثِقُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ
الْقُرْآنِ، يَدْعُو إِلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَجِهَارًا ;
اعْتِمَادًا عَلَى مَا كَانَ أَبُوهُ الْمُعْتَصِمُ وَعَمُّهُ الْمَأْمُونُ
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَلَا حُجَّةٍ وَلَا
بَيَانٍ، وَلَا سُنَّةٍ وَلَا قُرْآنٍ، فَقَامَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ هَذَا
يَدْعُو إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ
الْمُنْكَرِ، وَالْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ
مَخْلُوقٍ، فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ دَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا، فَاجْتَمَعَ
عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَالْتَفَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأُلُوفِ
أَعْدَادٌ، وَانْتَصَبَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ هَذَا رَجُلَانِ
وَهُمَا أَبُو هَارُونَ السَّرَّاجُ يَدْعُو أَهْلَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ،
وَطَالِبٌ يَدْعُو أَهْلَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ.
وَلَمَّا كَانَ شَهْرُ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ انْتَظَمَتِ الْبَيْعَةُ
لِأَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ الْخُزَاعِيِّ فِي السِّرِّ عَلَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ
لِبِدْعَتِهِ، وَدَعْوَتِهِ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. فَتَوَاعَدُوا
عَلَى أَنَّهُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ شَهْرِ شَعْبَانَ وَهِيَ
لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ يُضْرَبُ طَبْلٌ فِي اللَّيْلِ، فَيَجْتَمِعُ النَّاسُ
الَّذِينَ بَايَعُوا فِي مَكَانٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَأَنْفَقَ طَالِبٌ وَأَبُو
هَارُونَ فِي أَصْحَابِهِ دِينَارًا دِينَارًا، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ
أَعْطَوْهُ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي أَشْرَسَ، وَكَانَا يَتَعَاطَيَانِ الشَّرَابَ
فَلَمَّا
كَانَتْ لَيْلَةُ الْخَمِيسِ شَرِبَا فِي قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، وَاعْتَقَدَا أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْوَعْدِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَهُ بِلَيْلَةٍ، فَقَامَا يَضْرِبَانِ عَلَى طَبْلٍ فِي اللَّيْلِ ; لِيَجْتَمِعَ إِلَيْهِمَا النَّاسُ، فَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ وَانْخَرَمَ النِّظَامُ، وَسَمِعَ الْحَرَسُ فِي اللَّيْلِ، فَأَعْلَمُوا نَائِبَ السَّلْطَنَةِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ نَائِبُ أَخِيهِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ; لِغَيْبَتِهِ عَنْ بَغْدَادَ فَأَصْبَحَ النَّاسُ مُتَخَبِّطِينَ، وَاجْتَهَدَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ عَلَى إِحْضَارِ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ فَأُحْضِرَا فَعَاقَبَهُمَا، فَأَقَرَّا عَلَى أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ فِي الْحَالِ فَطَلَبَهُ، وَأَخَذَ خَادِمًا لَهُ فَاسْتَقَرَّهُ، فَأَقَرَّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الرَّجُلَانِ، فَجَمَعَ جَمَاعَةً مِنْ رُءُوسٍ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ مَعَهُ، وَأَرْسَلَ بِهِمْ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، وَذَلِكَ آخَرَ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فَأُحْضِرَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ، وَحَضَرَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ الْمُعْتَزِلِيُّ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ عَتَبٌ، فَلَمَّا أُوقِفَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ الْوَاثِقِ لَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَانَ مِنْهُ فِي أَمْرِ مُبَايَعَةِ الْعَامَّةِ لَهُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَأَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقَالَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ: أَمَخْلُوقٌ هُوَ ؟ قَالَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ قَدِ
اسْتَقْتَلَ،
وَحَضَرَ وَقَدْ تَحَنَّطَ وَتَنَوَّرَ، فَقَالَ لَهُ الْوَاثِقُ: فَمَا تَقُولُ
فِي رَبِّكَ، أَتَرَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ وَالْأَخْبَارُ بِذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [ الْقِيَامَةِ:
22، 23 ] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّكُمْ
تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا
تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَنَحْنُ عَلَى الْخَبَرِ. زَادَ الْخَطِيبُ فِي
إِيرَادِهِ: قَالَ الْوَاثِقُ: وَيْحَكَ، أَيُرَى كَمَا يُرَى الْمَحْدُودُ
الْمُتَجَسِّمُ ؟ وَيَحْوِيهِ مَكَانٌ وَيَحْصُرُهُ النَّاظِرُ ؟ أَنَا أَكْفُرُ
بِرَبٍّ هَذِهِ صِفَتُهُ.
قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْخَلِيفَةُ الْوَاثِقُ لَا يَرِدُ، وَلَا
يَلْزَمُ، وَلَا يُرَدُّ بِهِ مِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ الصَّحِيحِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الْخُزَاعِيُّ لِلْوَاثِقِ: وَحَدَّثَنِي
سُفْيَانُ بِحَدِيثٍ يَرْفَعُهُإِنَّ قَلْبَ ابْنِ آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ
أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
يَقُولُ:يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: وَيْلَكَ، انْظُرْ مَا تَقُولُ. فَقَالَ: أَنْتَ أَمَرْتَنِي بِذَلِكَ. فَأَشْفَقَ إِسْحَاقُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: أَنَا أَمَرْتُكَ بِذَلِكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَنْتَ أَمَرْتَنِي أَنْ أَنْصَحَ لَهُ. فَقَالَ الْوَاثِقُ لِمَنْ حَوْلَهُ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ فَأَكْثَرُوا الْقَوْلَ فِيهِ ; فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ قَاضِيًا عَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ فَعُزِلَ وَكَانَ مُوَادًّا لِأَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ قَبْلَ ذَلِكَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هُوَ حَلَالُ الدَّمِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَرْمَنِيُّ صَاحِبُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ: اسْقِنِي دَمَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ الْوَاثِقُ: يَأْتِي عَلَى مَا تُرِيدُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ، لَعَلَّ بِهِ عَاهَةً أَوْ نَقْصَ عَقْلٍ. فَقَالَ الْوَاثِقُ: إِذَا رَأَيْتُمُونِي قُمْتُ إِلَيْهِ فَلَا يَقُومَنَّ أَحَدٌ مَعِي، فَإِنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ. ثُمَّ نَهَضَ إِلَيْهِ بِالصَّمْصَامَةِ وَقَدْ كَانَتْ سَيْفًالِعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الزُّبَيْدِيِّ أُهْدِيَتْ لِمُوسَى الْهَادِي فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ، وَكَانَتْ صَفِيحَةً مَوْصُولَةً فِي أَسْفَلِهَا، مَسْمُورَةً بِثَلَاثَةِ مَسَامِيرَ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ ضَرَبَهُ بِهَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَهُوَ مَرْبُوطٌ بِحَبْلٍ قَدْ أُوقِفَ عَلَى نِطْعٍ ثُمَّ ضَرَبَهُ أُخْرَى عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ طَعَنَهُ بِالصَّمْصَامَةِ فِي بَطْنِهِ فَسَقَطَ رَحِمَهُ اللَّهُ صَرِيعًا عَلَى النِّطْعِ مَيِّتًا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثُمَّ
انْتَضَى سِيمَا الدِّمَشْقِيُّ سَيْفَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَحَزَّ رَأْسَهُ،
وَحُمِلَ مُعْتَرِضًا حَتَّى أُتِيَ بِهِ الْحَظِيرَةَ الَّتِي فِيهَا بَابَكُ
الْخُرَّمِيُّ فَصُلِبَ فِيهَا، وَفِي رِجْلَيْهِ زَوْجُ قُيُودٍ، وَعَلَيْهِ
سَرَاوِيلُ، وَقَمِيصٌ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى بَغْدَادَ فَنُصِبَ فِي
الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ أَيَّامًا، وَفِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ أَيَّامًا،
وَعِنْدَهُ الْحَرَسُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَفِي أُذُنِهِ رُقْعَةٌ
مَكْتُوبٌ فِيهَا: هَذَا رَأْسُ الْكَافِرِ الْمُشْرِكِ الضَّالِّ أَحْمَدَ بْنِ
نَصْرٍ، مِمَّنْ قُتِلَ عَلَى يَدَيْ عَبْدِ اللَّهِ هَارُونَ الْإِمَامِ
الْوَاثِقِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ أَقَامَ عَلَيْهِ
الْحُجَّةَ فِي خَلْقِ الْقُرْآنِ، وَنَفْيِ التَّشْبِيهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ
التَّوْبَةَ، وَمَكَّنَهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ فَأَبَى إِلَّا
الْمُعَانَدَةَ وَالتَّصْرِيحَ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَجَّلَهُ إِلَى
نَارِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ بِالْكُفْرِ، فَاسْتَحَلَّ بِذَلِكَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ دَمَهُ وَلَعَنَهُ.
ثُمَّ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْوَاثِقُ بِتَتَبُّعِ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ، فَأَخَذَ
مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا، فَأُودِعُوا فِي السُّجُونِ
وَسُمُّوا الظَّلَمَةَ، وَمُنِعُوا أَنْ يَزُورَهُمْ أَحَدٌ وَقُيِّدُوا
بِالْحَدِيدِ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْأَرْزَاقِ الَّتِي كَانَتْ
تَجْرِي عَلَى الْمَحْبُوسِينَ، وَهَذَا ظُلْمٌ عَظِيمٌ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا
قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ هَذَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَكَابِرِ
الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ وَمِمَّنْ كَانَ قَائِمًا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ،
وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُشَيْمِ بْنِ بَشِيرٍ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ مُصَنَّفَاتُهُ
كُلُّهَا،
وَسَمِعَ
مِنَ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَحَادِيثَ جَيِّدَةً، وَلَمْ يُحَدِّثْ
بِكَثِيرٍ مِنْ حَدِيثِهِ.
وَحَدَّثَ عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، وَأَخُوهُ يَعْقُوبُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَذَكَرَهُ يَوْمًا فَتَرَحَّمَ
عَلَيْهِ، وَقَالَ: قَدْ خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، وَقَدْ كَانَ لَا
يُحَدِّثُ ; يَقُولُ: لَسْتُ أَهْلَ ذَاكَ. وَأَحْسَنَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ
الثَّنَاءَ عَلَيْهِ.
وَذِكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَوْمًا فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ،
مَا كَانَ أَسَخَاهُ لَقَدْ جَادَ بِنَفْسِهِ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ: بَصُرَ عَيْنَايَ وَإِلَّا
فَعَمِيَتَا، وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ وَإِلَّا فَصُمَّتَا أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ
الْخُزَاعِيَّ حَيْثُ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، يَقُولُ رَأْسُهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ.
وَقَدْ سَمِعَهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَرَأْسُهُ مَصْلُوبٌ يَقْرَأُ عَلَى الْجِذْعِ
الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا
يُفْتَنُونَ [ الْعَنْكَبُوتِ: 1، 2 ] قَالَ: فَاقْشَعَرَّ جِلْدِي. وَرَآهُ
بَعْضُهُمْ فِي النَّوْمِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ ؟
فَقَالَ:
مَا كَانَتْ إِلَّا غَفْوَةً حَتَّى لَقِيتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَضَحِكَ
إِلَيَّ.
وَرَأَى بَعْضُ النَّاسِ فِي الْمَنَامِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَقَدْ مَرُّوا عَلَى الْجِذْعِ
الَّذِي عَلَيْهِ رَأْسُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ، فَلَمَّا حَاذَوْهُ أَعْرَضَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ عَنْهُ،
فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ أَعْرَضْتَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ
؟ فَقَالَ: اسْتِحْيَاءً مِنْهُ حِينَ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي.
وَلَمْ يَزَلْ رَأْسُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ مَنْصُوبًا بِبَغْدَادَ مِنْ يَوْمِ
الْخَمِيسِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ -
أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ - إِلَى بَعْدِ عِيدِ
الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَتَيْنِ، فَجُمِعَ بَيْنَ رَأْسِهِ وَجُثَّتِهِ وَدُفِنَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ
مِنْ بَغْدَادَ بِالْمَقْبَرَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْمَالِكِيَّةِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَذَلِكَ بِأَمْرِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ الَّذِي وَلِيَ
الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَخِيهِ الْوَاثِقِ بِاللَّهِ وَقَدْ دَخَلَ عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ " الْحَيْدَةِ "
عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ
الْخُلَفَاءِ ; لِأَنَّهُ أَحْسَنَ الصَّنِيعَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ، بِخِلَافِ
أَخِيهِ الْوَاثِقِ، وَأَبِيهِ الْمُعْتَصِمِ، وَعَمِّهِ الْمَأْمُونِ فَإِنَّهُمْ
أَسَاءُوا إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَرَّبُوا
أَهْلَ
الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَأَمَرَهُ أَنْ
يُنْزِلَ جُثَّةَ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ، وَيَدْفِنَهُ فَفَعَلَ، وَقَدْ كَانَ
الْمُتَوَكِّلُ يُكْرِمُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ إِكْرَامًا زَائِدًا
جِدًّا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيَّ قَالَ لِلْمُتَوَكِّلِ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رُئِيَ أَعْجَبُ مِنْ أَمْرِ الْوَاثِقِ ; قَتَلَ
أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ وَكَانَ لِسَانُهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ إِلَى أَنْ دُفِنَ.
فَوَجَدَ الْمُتَوَكِّلُ مِنْ ذَلِكَ، وَسَاءَهُ مَا سَمِعَ فِي أَخِيهِ
الْوَاثِقِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ الزَّيَّاتِ، قَالَ لَهُ الْمُتَوَكِّلُ: فِي قَلْبِي مِنْ قَتْلِ أَحْمَدَ
بْنِ نَصْرٍ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَحْرَقَنِي اللَّهُ
بِالنَّارِ إِنْ قَتَلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْوَاثِقُ إِلَّا كَافِرًا.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ هَرْثَمَةُ فَقَالَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، قَطَّعَنِي اللَّهُ إِرْبًا إِرْبًا إِنْ قَتَلَهُ الْوَاثِقُ
إِلَّا كَافِرًا. وَدَخَلَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ،
فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: ضَرَبَنِي اللَّهُ بِالْفَالِجِ إِنْ
قَتَلَهُ الْوَاثِقُ إِلَّا كَافِرًا. قَالَ الْمُتَوَكِّلُ: فَأَمَّا ابْنُ
الزَّيَّاتِ فَأَنَا أَحْرَقْتُهُ بِالنَّارِ، وَأَمَّا هَرْثَمَةُ فَإِنَّهُ
هَرَبَ وَتَبَدَّى فَاجْتَازَ بِقَبِيلَةِ خُزَاعَةَ فَعَرَفَهُ رَجُلٌ مِنَ
الْحَيِّ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، هَذَا الَّذِي قَتَلَ ابْنَ عَمِّكُمْ
أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ فَقَطِّعُوهُ. فَقَطَّعُوهُ إِرْبًا إِرْبًا، وَأَمَّا
ابْنُ
أَبِي دُؤَادٍ فَقَدْ سَجَنَهُ اللَّهُ فِي جِلْدِهِ يَعْنِي بِالْفَالِجِ
ضَرَبَهُ اللَّهُ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَصُودِرَ مِنْ صُلْبِ
مَالِهِ بِمَالٍ جَزِيلٍ جِدًّا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ " الْمَسَائِلِ " عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ
سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ: الْقُلُوبُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعَ
اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَضْحَكُ مِمَّنْ يَذْكُرُهُ فِي الْأَسْوَاقِ ".
فَقَالَ: ارْوُوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الْوَاثِقُ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ،
وَاسْتَعَدَّ لِذَلِكَ، فَذُكِرَ لَهُ أَنَّ الْمَاءَ بِالطَّرِيقِ قَلِيلٌ،
فَتَرَكَ الْحَجَّ عَامَئِذٍ.
وَفِيهَا تَوَلَّى جَعْفَرُ بْنُ دِينَارٍ نِيَابَةَ الْيَمَنِ، فَسَارَ إِلَيْهَا
فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ.
وَفِيهَا عَدَا قَوْمٌ مِنَ الْعَامَّةِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ فَأَخَذُوا مِنْهُ
شَيْئًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَأُخِذُوا، وَسُجِنُوا.
وَفِيهَا ظَهَرَ خَارِجِيٌّ بِبِلَادِ رَبِيعَةَ، فَقَاتَلَهُ نَائِبُ الْمَوْصِلِ
فَكَسَرَهُ، وَانْهَزَمَ بَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ.
وَفِيهَا
قَدِمَ وَصِيفٌ الْخَادِمُ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأَكْرَادِ نَحْوًا مِنْ
خَمْسِمِائَةٍ فِي الْقُيُودِ، كَانُوا قَدْ أَفْسَدُوا فِي الطُّرُقَاتِ
وَقَطَعُوهَا، فَأَطْلَقَ الْخَلِيفَةُ لِوَصِيفٍ الْخَادِمِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ خَاقَانُ الْخَادِمُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَقَدْ
تَمَّ الصُّلْحُ وَالْمُفَادَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّومِ، وَقَدِمَ مَعَهُ
جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِ أَهْلِ الثُّغُورِ فَأَمَرَ الْوَاثِقُ بِامْتِحَانِهِمْ
فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ،
فَأَجَابُوا إِلَّا أَرْبَعَةً، فَأَمَرَ الْوَاثِقُ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ إِنْ
لَمْ يُجِيبُوا بِمِثْلِ مَا أَجَابَ بِهِ بَقِيَّتُهُمْ. وَأَمَرَ الْوَاثِقُ
أَيْضًا بِامْتِحَانِ الْأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فُودِيَ عَنْهُمْ
بِذَلِكَ، فَمَنْ أَجَابَ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَأَنَّ اللَّهَ
لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فُودِيَ، وَإِلَّا تُرِكَ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ،
وَهَذِهِ بِدْعَةٌ صَلْعَاءُ شَنْعَاءُ عَمْيَاءُ صَمَّاءُ لَا مُسْتَنَدَ لَهَا
مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا عَقْلٍ صَحِيحٍ، بَلِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
وَالْعَقْلُ الصَّحِيحُ بِخِلَافِهَا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ،
وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَكَانَ وُقُوعُ الْمُفَادَاةِ عِنْدَ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: اللَّامِسُ. عِنْدَ
سَلُوقِيَةَ بِالْقُرْبِ مِنْ طَرَسُوسَ بَدَلُ كُلِّ مُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمَةٍ
فِي أَيْدِي الرُّومِ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ ذِمِّيَّةٍ كَانَ تَحْتَ عَقْدِ
الْمُسْلِمِينَ - أَسِيرٌ مِنَ الرُّومِ كَانَ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ
لَمْ يُسْلِمْ،
فَنَصَبُوا
جِسْرَيْنِ عَلَى النَّهْرِ فَإِذَا أَرْسَلَ الرُّومُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً فِي
جِسْرِهِمْ فَانْتَهَى إِلَى الْمُسْلِمِينَ كَبَّرَ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ.
وَيُرْسِلُ الْمُسْلِمُونَ أَسِيرًا مِنَ الرُّومِ عَلَى جِسْرِهِمْ، فَإِذَا
انْتَهَى إِلَيْهِمْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ يُشْبِهُ التَّكْبِيرَ أَيْضًا، وَلَمْ
يَزَالُوا كَذَلِكَ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، بَدَلُ كُلِّ نَفْسِ نَفْسٌ،
ثُمَّ بَقِيَ مَعَ خَاقَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّومِ الْأُسَارَى، فَأَطْلَقَهُمْ
لِلرُّومِ ; لِيَكُونَ لَهُ الْفَضْلُ عَلَيْهِمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
أَخُو طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ بِطَبَرِسْتَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. وَفِيهَا
مَاتَ الْخَطَّابُ بْنُ وَجْهِ الْفُلْسِ، وَفِيهَا مَاتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
بْنُ الْأَعْرَابِيِّ الرَّاوِيَةُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ
خَلَتْ مِنْ شَعْبَانَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَفِيهَا مَاتَتْ أُمُّ
أَبِيهَا بِنْتُ مُوسَى أُخْتُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا، وَفِيهَا مَاتَ
مُخَارِقٌ الْمُغَنِّي، وَأَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ حَاتِمٍ رَاوِيَةُ
الْأَصْمَعِيِّ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
سَعْدَانَ النَّحْوِيُّ.
قُلْتُ: وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ أَيْضًا:
أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الْخُزَاعِيُّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ
عَرْعَرَةَ. وَأُمَيَّةُ بْنُ بِسِطَامٍ وَأَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ الشَّاعِرُ فِي قَوْلٍ، وَالْمَشْهُورُ مَا تَقَدَّمَ، وَكَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ الْجُمَحِيُّ، وَأَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ أَخُو حَجَّاجٍ، وَهَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَالْبُوَيْطِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ مَاتَ فِي السِّجْنِ مُقَيَّدًا حَتَّى يَقُولَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، رَاوِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا عَاثَتْ قَبِيلَةٌ يُقَالُ لَهَا: بَنُو نُمَيْرٍ بِالْيَمَامَةِ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا، فَكَتَبَ الْوَاثِقُ إِلَى بُغَا الْكَبِيرِ وَهُوَ مُقِيمٌ
بِأَرْضِ الْحِجَازِ، فَحَارَبَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَأَسَرَ
مِنْهُمْ آخَرِينَ، وَهَزَمَ بَقِيَّتَهُمْ، ثُمَّ الْتَقَى مَعَ بَنِي تَمِيمٍ
وَهُوَ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ وَهُمْ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ
حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ، ثُمَّ كَانَ الظَّفَرُ لَهُ عَلَيْهِمْ آخِرًا، وَذَلِكَ فِي
النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى
بَغْدَادَ وَمَعَهُ مِنْ أَعْيَانِ رُءُوسِ الْعَرَبِ فِي الْأَسْرِ وَالْقُيُودِ،
وَقَدْ قَتَلَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فِي الْوَقَائِعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا مَا
يُنَيِّفُ عَلَى أَلْفَيْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَنُمَيْرٍ، وَكِلَابٍ،
وَمُرَّةَ، وَفَزَارَةَ، وَثَعْلَبَةَ، وَطَيِّئٍ، وَتَمِيمٍ، وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَصَابَ الْحَجِيجَ فِي الرُّجُوعِ عَطَشٌ شَدِيدٌ حَتَّى
بِيعَتِ الشَّرْبَةُ بِالدَّنَانِيرِ الْكَثِيرَةِ، وَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْعَطَشِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا
أَمَرَ الْوَاثِقُ بِتَرْكِ جِبَايَةِ أَعْشَارِ سُفُنِ الْبَحْرِ.
وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ أَبِي جَعْفَرٍ هَارُونَ الْوَاثِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ بْنِ أَبِي
جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَبْدِ اللَّهِ ذِي الدَّوَانِيقِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْإِمَامِ بْنِ عَلِيٍّ السَّجَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بْنِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيِّ الْعَبَّاسِيِّ
كَانَ هَلَاكُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِعِلَّةِ
الِاسْتِسْقَاءِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى حُضُورِ الْعِيدِ عَامَئِذٍ فَاسْتَنَابَ
فِي الصَّلَاةِ بِالنَّاسِ قَاضِيَهُ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُوَادٍ الْإِيَادِيَّ
الْمُعْتَزِلِيَّ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ قَوِيَ بِهِ الِاسْتِسْقَاءُ فَأُقْعِدَ فِي تَنُّورٍ قَدْ
أُحْمِيَ لَهُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ إِجْلَاسُهُ فِيهِ ; لِيَسْكُنَ وَجَعُهُ،
فَلَانَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ بَعْضَ الشَّيْءِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَمَرَ بِأَنْ
يُحْمَى أَكْثَرَ مِنَ الْعَادَةِ فَأُجْلِسَ فِيهِ ثُمَّ أُخْرِجَ فَوُضِعَ فِي
مِحَفَّةٍ فَحُمِلَ فِيهَا وَحَوْلَهُ أُمَرَاؤُهُ، وَوُزَرَاؤُهُ وَقَاضِيهِ،
فَمَاتَ وَهُوَ مَحْمُولٌ فِيهَا فَمَا شَعَرُوا حَتَّى سَقَطَ جَبِينُهُ عَلَى
الْمِحَفَّةِ وَهُوَ مَيِّتٌ فَغَمَّضَ الْقَاضِي عَيْنَيْهِ بَعْدَ
ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ غَسْلَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَدَفَنَهُ فِي قَصْرِ الْهَادِي، وَكَانَ أَبْيَضَ اللَّوْنِ مُشْرَبًا حُمْرَةً، جَمِيلًا رَبْعَةً حَسَنَ الْجِسْمِ، قَاتِمَ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، فِيهَا نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ بِطْرِيقِ مَكَّةَ فَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ خَمْسَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً. وَكَانَ قَدْ جَمَعَ أَصْحَابَ النُّجُومِ فِي زَمَانِهِ حِينَ اشْتَدَّتْ عِلَّتُهُ ; لِيَنْظُرُوا فِي مَوْلِدِهِ وَمَا تَقْتَضِيهِ صِنَاعَةُ النُّجُومِ كَمْ تَدُومُ أَيَّامُ دَوْلَتِهِ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْ رُءُوسِهِمْ جَمَاعَةٌ ; مِنْهُمُ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ وَالْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ نَوْبَخْتَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْخُوَارِزْمِيُّ الْمَجُوسِيُّ الْقُطْرُبُّلِيُّ، وَسَنَدٌ صَاحِبُ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ، وَعَامَّةُ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي النُّجُومِ، فَنَظَرُوا فِي مَوْلِدِهِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ أَجْمَعُوا أَنَّهُ يَعِيشُ دَهْرًا طَوِيلًا، وَقَدَرُوا لَهُ خَمْسِينَ سَنَةً مُسْتَقْبَلَةً فَلَمْ يَلْبَثْ
بَعْدَ
قَوْلِهِمْ إِلَّا عَشَرَةَ أَيَّامٍ حَتَّى مَاتَ. ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو
جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَذَكَرَ الْحُسَيْنُ بْنُ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ شَهِدَ
الْوَاثِقَ بَعْدَ أَنْ مَاتَ الْمُعْتَصِمُ بِأَيَّامٍ، وَقَدْ قَعَدَ مَجْلِسًا
كَانَ أَوَّلَ مَجْلِسٍ قَعَدَهُ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا غُنِّيَ بِهِ فِي ذَلِكَ
الْمَجْلِسِ أَنْ تَغَنَّتْ شَارِيَةُ، جَارِيَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ:
مَا دَرَى الْحَامِلُونَ يَوْمَ اسْتَقَلُّوا نَعْشَهُ لِلثَّوَاءِ أَمْ لِلِقَاءِ
فَلْيَقُلْ فِيكَ بَاكِيَاتُكَ مَا شِئْ
نَ صَبَاحًا وَعِنْدَ كُلِّ مَسَاءِ
قَالَ: فَبَكَى وَبَكَيْنَا حَتَّى شَغَلَنَا الْبُكَاءُ عَنْ جَمِيعِ مَا كُنَّا
فِيهِ، ثُمَّ انْدَفَعَ بَعْضُهُمْ يُغَنِّي:
وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعًا أَيُّهَا
الرَّجُلُ
فَازْدَادَ وَاللَّهِ بُكَاؤُهُ، وَقَالَ: مَا سَمِعْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ
تَعْزِيَةً بِأَبٍّ وَنَعْيَ
نَفْسٍ.
ثُمَّ ارْفَضَّ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ دِعْبَلَ بْنَ عَلِيٍّ الشَّاعِرَ
لَمَّا تَوَلَّى الْوَاثِقُ عَمَدَ إِلَى طُومَارٍ، فَكَتَبَ فِيهِ أَبْيَاتَ
شِعْرٍ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى الْحَاجِبِ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: أَقْرِئْ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ السَّلَامَ، وَقُلْ: هَذِهِ أَبْيَاتٌ امْتَدَحَكَ بِهَا
دِعْبَلٌ. فَلَمَّا فَضَّهَا الْوَاثِقُ إِذَا فِيهَا:
الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا صَبْرٌ وَلَا جَلَدُ وَلَا عَزَاءٌ إِذَا أَهْلُ الْهَوَى
رَقَدُوا
خَلِيفَةٌ مَاتَ لَمْ يَحْزَنْ لَهُ أَحَدٌ وَآخَرُ قَامَ لَمْ يَفْرَحْ بِهِ
أَحَدُ
فَمَرَّ هَذَا وَمَرَّ الشُّؤْمُ يَتْبَعُهُ وَقَامَ هَذَا فَقَامَ الْوَيْلُ
وَالنَّكَدُ
قَالَ: فَتَطَلَّبَهُ الْخَلِيفَةُ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُهُ، فَلَمْ يَقْدِرْ
عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ الْوَاثِقُ. وَرَوَى أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَخْلَفَ
الْوَاثِقُ ابْنَ أَبِي دُؤَادٍ عَلَى الصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ فَرَجَعَ
إِلَيْهِ قَالَ: كَيْفَ كَانَ عِيدُكُمْ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ: كُنَّا
فِي نَهَارٍ لَا شَمْسَ فِيهِ. فَضَحِكَ وَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنَا
مُؤَيَّدٌ بِكَ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى الْوَاثِقِ،
وَحَمَلَهُ عَلَى التَّشْدِيدِ فِي الْمِحْنَةِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْقَوْلِ
بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّ
الْوَاثِقَ
رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
الْفَتْحِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ، ثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ،
عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْمُهْتَدِي أَنَّ الْوَاثِقَ مَاتَ، وَقَدْ تَابَ مِنَ
الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
وَرَوَى أَنَّ الْوَاثِقَ دَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا مُؤَدِّبُهُ فَأَكْرَمَهُ
إِكْرَامًا كَثِيرًا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذَا أَوَّلُ مَنْ فَتَقَ
لِسَانِي بِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَدْنَانِي مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَكَتَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
جَذَبْتُ دَوَاعِي النَّفْسِ عَنْ طَلَبِ الْغِنَى وَقُلْتُ لَهَا عِفِّي عَنِ
الطَّلَبِ النَّزْرِ
فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَفِّهِ مَدَارُ رَحَا الْأَرْزَاقِ دَائِبَةً
تَجْرِي
فَوَقَّعَ لَهُ فِي رُقْعَتِهِ: جَذَبَتْكَ نَفْسُكَ عَنِ امْتِهَانِهَا،
وَدَعَتْكَ إِلَى صَوْنِهَا، فَخُذْ مَا طَلَبْتَهُ هَنِيئًا. وَأَجْزَلَ لَهُ
الْعَطَاءَ.
وَمِنْ شَعْرِهِ قَوْلُهُ:
هِيَ
الْمَقَادِيرُ تَجْرِي فِي أَعِنَّتِهَا فَاصْبِرْ فَلَيْسَ لَهَا صَبْرٌ عَلَى
حَالِ
وَمِنْ شِعْرِ الْوَاثِقِ قَوْلُهُ:
تَنَحَّ عَنِ الْقَبِيحِ وَلَا تُرِدْهُ وَمَنْ أَوْلَيْتَهُ حُسْنًا فَزِدْهُ
سَتُكْفَى مِنْ عَدُوِّكَ كُلَّ كَيْدٍ إِذَا كَادَ الْعَدُوُّ وَلَمْ تَكِدْهُ
وَقَالَ الْقَاضِي يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ مَا أَحْسَنَ أَحَدٌ مِنْ خُلَفَاءِ
بَنِي الْعَبَّاسِ إِلَى آلِ أَبِي طَالِبٍ مَا أَحْسَنَ إِلَيْهِمُ الْوَاثِقُ،
مَا مَاتَ وَفِيهِمْ فَقِيرٌ. وَلَمَّا احْتُضِرَ الْوَاثِقُ جَعَلَ يُرَدِّدُ
هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ:
الْمَوْتُ فِيهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ مُشْتَرِكٌ لَا سُوقَةٌ مِنْهُمْ يَبْقَى وَلَا
مَلِكُ
مَا ضَرَّ أَهْلَ قَلِيلٍ فِي تَفَاقُرِهِمْ وَلَيْسَ يُغْنِي عَنِ الْأَمْلَاكِ
مَا مَلَكُوا
ثُمَّ أَمَرَ بِالْبُسُطِ فَطُوِيَتْ ثُمَّ أَلْصَقَ خَدَّهُ بِالْأَرْضِ،
وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا مَنْ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ ارْحَمْ مَنْ قَدْ زَالَ
مُلْكُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا احْتُضِرَ الْوَاثِقُ وَنَحْنُ حَوْلُهُ
غُشِيَ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: انْظُرُوا هَلْ قَضَى نَحْبَهُ ؟
قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْ بَيْنِهِمْ إِلَيْهِ لِأَنْظُرَ هَلْ هَدَأَ نَفَسُهُ،
فَأَفَاقَ فَلَحَظَ إِلَيَّ بِعَيْنِهِ فَرَجَعْتُ الْقَهْقَرَى ; خَوْفًا مِنْهُ،
فَتَعَلَّقَتْ قَائِمَةُ سَيْفِي بِشَيْءٍ فَكِدْتُ أَنْ أَهْلِكَ، فَمَا كَانَ
عَنْ
قَرِيبٍ
حَتَّى مَاتَ، وَأُغْلِقَ عَلَيْهِ الْبَابُ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَبَقِيَ فِيهِ
وَحْدَهُ، وَاشْتَغَلُوا عَنْ تَجْهِيزِهِ بِالْبَيْعَةِ لِأَخِيهِ جَعْفَرٍ
الْمُتَوَكِّلِ وَجَلَسْتُ أَنَا أَحْرُسُ الْبَابَ فَسَمِعْتُ حَرَكَةً مِنْ
دَاخِلِ الْبَيْتِ، فَدَخَلْتُ فَإِذَا جُرَذٌ قَدْ أَكَلَ عَيْنَهُ الَّتِي
لَحَظَ إِلَيَّ بِهَا، وَمَا كَانَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ إِلَّا الْيَسِيرُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا فِي الْقَصْرِ
الْهَارُونِيِّ، فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ عَنْ
سِتٍّ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَكَانَتْ
مُدَّةُ خِلَافَتِهِ خَمْسَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ،
وَقِيلَ: خَمْسَ سِنِينَ وَشَهْرَيْنِ وَأَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَصَلَّى
عَلَيْهِ أَخُوهُ جَعْفَرٌ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
خِلَافَةُ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بِاللَّهِ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ هَارُونَ الْوَاثِقِ، وَكَانَتْ
بَيْعَتُهُ وَقْتَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ
مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَتِ الْأَتْرَاكُ قَدْ عَزَمُوا
عَلَى
تَوْلِيَةِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْوَاثِقِ، فَاسْتَصْغَرُوهُ فَتَرَكُوهُ، وَعَدَلُوا
إِلَى جَعْفَرٍ هَذَا، وَكَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً،
وَكَانَ الَّذِي أَلْبَسَهُ خِلْعَةَ الْخِلَافَةِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ
الْقَاضِي، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، وَبَايَعَهُ
الْخَاصَّةُ، ثُمَّ الْعَامَّةُ، وَكَانُوا قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى تَسْمِيَتِهِ
بِالْمُنْتَصِرِ بِاللَّهِ إِلَى صَبِيحَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ أَحْمَدُ
بْنُ أَبِي دُؤَادٍ: قَدْ رَأَيْتُ أَنْ يُلَقَّبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
بِالْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ. فَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى
الْآفَاقِ، وَأَمَرَ بِعَطَاءِ الشَّاكِرِيَّةِ مِنَ الْجُنْدِ ثَمَانِيَةَ
شُهُورٍ، وَلِلْمَغَارِبَةِ أَرْبَعَةَ شُهُورٍ، وَلِغَيْرِهِمْ ثَلَاثَةَ
شُهُورٍ، وَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِهِ.
وَقَدْ كَانَ الْمُتَوَكِّلُ رَأَى فِي مَنَامِهِ فِي حَيَاةِ أَخِيهِ هَارُونَ
الْوَاثِقِ كَأَنَّ شَيْئًا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَكْتُوبٌ فِيهِ:
جَعْفَرٌ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ فَعَبَرَهَا فَقِيلَ لَهُ: هِيَ
الْخِلَافَةُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَخَاهُ الْوَاثِقَ فَسَجَنَهُ حِينًا، ثُمَّ
أَرْسَلَهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ أَمِيرُ مَكَّةَ
شَرَّفَهَا اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ: الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، وَعَمْرُو بْنُ
مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعِ صَفَرٍ مِنْهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ
الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ بِالْقَبْضِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ الزَّيَّاتِ وَزِيرِ الْوَاثِقِ، وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ يُبْغِضُهُ
لِأُمُورٍ ; مِنْهَا أَنَّ أَخَاهُ الْوَاثِقَ تَغَضَّبَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ
الْأَوْقَاتِ وَكَانَ ابْنُ الزَّيَّاتِ يَزِيدُ الْوَاثِقَ غَضَبًا عَلَى
أَخِيهِ، فَبَقِيَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ، ثُمَّ كَانَ الَّذِي اسْتَرْضَى
الْوَاثِقَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ فَحَظِيَ لِذَلِكَ عِنْدَهُ فِي
أَيَّامِ مُلْكِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الزَّيَّاتِ كَانَ قَدْ أَشَارَ
بِخِلَافَةِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْوَاثِقِ بَعْدَ أَبِيهِ، وَلَفَّ عَلَيْهِ
النَّاسَ، وَجَعْفَرٌ الْمُتَوَكِّلُ فِي جَنْبِ دَارِ الْخِلَافَةِ، فَلَمْ
يَتِمَّ الْأَمْرُ إِلَّا لِجَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ عَلَى رَغْمِ
أَنْفِ ابْنِ الزَّيَّاتِ فَلِهَذَا أَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ سَرِيعًا
فَطَلَبَهُ، فَرَكِبَ بَعْدَ غَدَائِهِ يَظُنُّ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعَثَ
إِلَيْهِ، فَأَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ إِلَى دَارِ إِيتَاخَ أَمِيرِ الشُّرْطَةِ
فَاحْتِيطَ عَلَيْهِ وَقُيِّدَ، وَبَعَثُوا فِي الْحَالِ إِلَى دَارِهِ فَأُخِذَ
جَمِيعُ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ
وَالْحَوَاصِلِ وَالْجَوَارِي وَالْأَثَاثِ، وَوَجَدُوا فِي مَجْلِسِهِ
الْخَاصِّ
بِهِ آلَاتِ الشَّرَابِ، وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَى حَوَاصِلِهِ وَضِيَاعِهِ
بِسَائِرِ الْأَمَاكِنِ، فَاحْتِيطَ عَلَيْهَا، وَأُمِرَ بِهِ أَنْ يُعَذَّبَ ;
فَمُنِعَ مِنَ الطَّعَامِ، وَجَعَلُوا يُسَاهِرُونَهُ، كُلَّمَا أَرَادَ
الرُّقَادَ نُخِسَ بِالْحَدِيدِ، ثُمَّ وُضِعَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي تَنُّورٍ
مِنْ خَشَبٍ فِيهِ مَسَامِيرُ قَائِمَةٌ فِي أَسْفَلِهِ فَأُقِيمَ عَلَيْهَا
وَوُكِّلَ بِهِ مَنْ يَمْنَعُهُ مِنَ الرُّقَادِ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ أَيَّامًا
حَتَّى مَاتَ وَهُوَ كَذَلِكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ أُخْرِجَ مِنَ التَّنُّورِ وَفِيهِ رَمَقٌ فَضُرِبَ عَلَى
بَطْنِهِ ثُمَّ عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ تَحْتَ الضَّرْبِ. وَيُقَالُ:
إِنَّهُ أُحْرِقَ ثُمَّ دُفِعَتْ جُثَّتُهُ إِلَى أَوْلَادِهِ فَدَفَنُوهُ،
فَنَبَشَتْ عَلَيْهِ الْكِلَابُ فَأَكَلَتْ لَحْمَهُ وَجِلْدَهُ، سَامَحَهُ
اللَّهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِإِحْدَى عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْهَا.
وَكَانَ قِيمَةُ مَا وُجِدَ لَهُ مِنَ الْحَوَاصِلِ نَحْوًا مِنْ تِسْعِينَ أَلْفَ
أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ سَأَلَهُ عَنْ قَتْلِ
أَخِيهِ الْوَاثِقِ أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ الْخُزَاعِيَّ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَحْرَقَنِي اللَّهُ بِالنَّارِ إِنْ كَانَ الْوَاثِقُ قَتَلَهُ
يَوْمَ قَتَلَهُ إِلَّا
وَهُوَ
كَافِرٌ. قَالَ الْمُتَوَكِّلُ: فَأَنَا أَحْرَقْتُهُ بِالنَّارِ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا فُلِجَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ الْقَاضِي
الْمُعْتَزِلِيُّ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ
وَهُوَ كَذَلِكَ، كَمَا دَعَا عَلَى نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ غَضِبَ
الْمُتَوَكِّلُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْكُتَّابِ وَالْعُمَّالِ، وَأَخَذَ
مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا.
وَفِيهَا وَلَّى الْمُتَوَكِّلُ ابْنَهُ مُحَمَّدًا الْمُنْتَصِرَ الْحِجَازَ
وَالْيَمَنَ وَعَقَدَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا.
وَفِيهَا عَمَدَ مَلِكُ الرُّومِ مِيخَائِيلُ بْنُ تَوْفِيلَ إِلَى أُمِّهِ
تَدُورَةَ فَأَقَامَهَا بِالشَّمْسِ وَأَلْزَمَهَا الدَّيْرَ، وَقَتَلَ الرَّجُلَ
الَّذِي اتَّهَمَهَا بِهِ، وَكَانَ مُلْكُهَا سِتَّ سِنِينَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ أَمِيرُ مَكَّةَ
حَرَسَهَا اللَّهُ وَشَرَّفَهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ السَّامِيُّ. وَحِبَّانُ بْنُ مُوسَى
الْمَرْوَزِيُّ، وَسُلَيْمَانُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّ، وَسَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَمَاعَةَ الْقَاضِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ الدِّمَشْقِيُّ، صَاحِبُ " الْمَغَازِي "، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْمَقَابِرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَأُسْتَاذُ أَهْلِ صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ فِي زَمَانِهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ الْبُعَيْثِ بْنِ الْجَلِيسِ عَنِ الطَّاعَةِ فِي
بِلَادِهِ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ وَأَظْهَرَ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ قَدْ مَاتَ،
وَالْتَفَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الرَّسَاتِيقِ، وَلَجَأَ إِلَى
مَدِينَةِ مَرَنْدَ فَحَصَّنَهَا، وَجَاءَتْهُ الْبُعُوثُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،
وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُتَوَكِّلُ جُيُوشًا يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا،
فَنَصَبُوا عَلَى بَلَدِهِ الْمَجَانِيقَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَحَاصَرُوهُ
مُحَاصِرَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَقَاتَلَهُمْ مُقَاتَلَةً هَائِلَةً، وَصَبَرَ
هُوَ وَأَصْحَابُهُ صَبْرًا بَلِيغًا، وَقَدِمَ بُغَا الشَّرَابِيُّ
لِمُحَاصَرَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَسَرَهُ، وَاسْتَبَاحَ أَمْوَالَهُ
وَحَرَمَهُ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ، وَأَسَرَ سَائِرَهُمْ،
وَانْحَسَمَتْ مَادَّةُ ابْنِ الْبُعَيْثِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَفِي جُمَادَى
الْأُولَى مِنْهَا خَرَجَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى الْمَدَائِنِ.
وَفِيهَا حَجَّ إِيتَاخُ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ، وَهُوَ وَالِي مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ وَالْمَوْسِمِ، وَدُعِيَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَقَدْ كَانَ
إِيتَاخُ هَذَا غُلَامًا خَزَرِيًّا،
طَبَّاخًا
لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: سَلَّامٌ الْأَبْرَشُ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ الْمُعْتَصِمُ
فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، فَرَفَعَ مَنْزِلَتَهُ، وَحَظِيَ
عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ الْوَاثِقُ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ، ضَمَّ إِلَيْهِ أَعْمَالًا
كَثِيرَةً، وَكَذَلِكَ عَامَلَهُ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ أَيْضًا وَذَلِكَ
لِرُجْلَةِ إِيتَاخَ وَشَهَامَتِهِ وَنَهْضَتِهِ، وَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ شَرِبَ لَيْلَةً مَعَ الْمُتَوَكِّلِ فَعَرْبَدَ عَلَيْهِ
الْمُتَوَكِّلُ فَهَمَّ إِيتَاخُ بِقَتْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ اعْتَذَرَ
الْمُتَوَكِّلُ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أَبِي وَأَنْتَ رَبَّيْتَنِي ثُمَّ
دَسَّ إِلَيْهِ مَنْ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَسْتَأْذِنَ لِلْحَجِّ،
فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ، وَأَمَّرَهُ عَلَى كُلِّ بَلْدَةٍ يَحِلُّ بِهَا،
وَخَرَجَ الْقُوَّادُ فِي خِدْمَتِهِ إِلَى طَرِيقِ الْحَجِّ حِينَ خَرَجَ،
وَوَلَّى الْمُتَوَكِّلُ الْحِجَابَةَ لِوَصِيفٍ الْخَادِمِ عِوَضًا عَنْ
إِيتَاخَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ أَمِيرُ مَكَّةَ وَهُوَ أَمِيرُ
الْحَجِيجِ مِنْ سِنِينَ مُتَقَدِّمَةٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ
الشَّاذَكُونِيُّ، أَحَدُ
الْحُفَّاظِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ، وَأَبُو رَبِيعٍ الزَّهْرَانِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَدِينِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، وَالْمُعَافَى الرُّسْعَنِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ رَاوِي الْمُوَطَّأِ لِلْمَغَارِبَةِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا كَانَ هَلَاكُ إِيتَاخَ فِي السِّجْنِ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ رَجَعَ مِنَ الْحَجِّ فَتَلَقَّتْهُ هَدَايَا الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا
اقْتَرَبَ يُرِيدُ دُخُولَ سَامَرَّاءَ الَّتِي فِيهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
بَعَثَ إِلَيْهِ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ نَائِبُ بَغْدَادَ عَنْ أَمْرِ
الْخَلِيفَةِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهَا ; لِيَتَلَقَّاهُ وُجُوهُ النَّاسِ، وَبَنِي
هَاشِمٍ فَدَخَلَهَا فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ إِسْحَاقُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى ابْنَيْهِ مُظَفَّرٍ وَمَنْصُورٍ وَكَاتِبَيْهِ سُلَيْمَانَ
بْنِ وَهْبٍ وَقُدَامَةَ بْنِ زِيَادٍ النَّصْرَانِيِّ فَأَسْلَمَ تَحْتَ
الْعُقُوبَةِ، وَكَانَ هَلَاكُ إِيتَاخَ بِالْعَطَشِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَكَلَ
أَكْلًا كَثِيرًا بَعْدَ جُوعٍ شَدِيدٍ، ثُمَّ اسْتَقَى الْمَاءَ فَلَمْ يُسْقَ
حَتَّى مَاتَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
مِنْهَا. وَمَكَثَ وَلَدَاهُ فِي السِّجْنِ مُدَّةَ خِلَافَةِ الْمُتَوَكِّلِ،
فَلَمَّا وَلِي الْمُنْتَصِرُ وَلَدُ الْمُتَوَكِّلِ أَخْرَجَهُمَا.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا قَدِمَ بُغَا سَامَرَّا وَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ
الْبُعَيْثِ وَأَخَوَاهُ صَقْرٌ وَخَالِدٌ، وَنَائِبُهُ الْعَلَاءُ، وَمَعَهُمْ
مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ نَحْوٌ مَنْ مِائَةٍ وَثَمَانِينَ إِنْسَانًا،
فَأُدْخِلُوا عَلَى الْجِمَالِ لِيَرَاهُمُ النَّاسُ، فَلَمَّا أُوقِفَ ابْنُ
الْبُعَيْثِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُتَوَكِّلِ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَأُحْضِرَ
السَّيْفُ وَالنِّطْعُ فَجَاءَ السَّيَّافُونَ فَوَقَفُوا حَوْلَهُ، فَقَالَ لَهُ
الْمُتَوَكِّلُ: وَيْلَكَ، مَا دَعَاكَ إِلَى مَا فَعَلْتَ ؟ فَقَالَ: الشِّقْوَةُ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَأَنْتَ
الْحَبْلُ الْمَمْدُودُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَإِنَّ لِي فِيكَ
لَظَنَّيْنِ، أَسْبَقُهُمَا إِلَى قَلْبِي أَوْلَاهُمَا بِكَ ; وَهُوَ الْعَفْوُ.
ثُمَّ انْدَفَعَ يَقُولُ بَدِيهَةً:
أَبَى النَّاسُ إِلَّا أَنَّكَ الْيَوْمَ قَاتِلِي إِمَامَ الْهُدَى وَالصَّفْحُ
بِالْمَرْءِ أَجْمَلُ وَهَلْ أَنَا إِلَّا جُبْلَةٌ مِنْ خَطِيَّةٍ
وَعَفْوُكَ مِنْ نُورِ النُّبُوَّةِ يُجْبَلُ فَإِنَّكَ خَيْرُ السَّابِقِينَ
إِلَى الْعُلَا
وَلَا شَكَّ أَنَّ خَيْرَ الْفَعَالَيْنِ تَفْعَلُ
فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ: إِنَّ مَعَهُ لَأَدَبًا. ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، وَيُقَالُ:
بَلْ شَفَعَ فِيهِ الْمُعْتَزُّ ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ، فَشَفَّعَهُ فِيهِ.
وَيُقَالُ: بَلْ أَوْدِعَ فِي السِّجْنِ فِي قُيُودٍ ثَقِيلَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ
فِيهِ حَتَّى هَرَبَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ حِينَ هَرَبَ:
كَمْ قَدْ قَضَيْتُ أُمُورًا كَانَ أَهْمَلَهَا غَيْرِي وَقَدْ أَخَذَ
الْإِفْلَاسُ بِالْكَظَمِ
لَا تَعْذِلِينِي فِيمَا لَيْسَ يَنْفَعُنِي إِلَيْكِ عَنِّي جَرَى الْمِقْدَارُ
بِالْقَلَمِ
سَأُتْلِفُ الْمَالَ فِي عُسْرٍ وَفِي يُسْرٍ إِنَّ الْجَوَادَ الَّذِي يُعْطِي
عَلَى الْعَدَمِ
وَفِيهَا أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ أَهْلَ الذِّمَّةِ أَنْ
يَتَمَيَّزُوا عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَعَمَائِمِهِمْ
وَثِيَابِهِمْ، وَأَنْ يَتَطَيْلَسُوا بِالْمَصْبُوغِ بِالْعَسَلِيِّ، وَأَنْ
يَكُونَ عَلَى غِلْمَانِهِمْ رِقَاعٌ - مُخَالِفَةٌ لِلَوْنِ ثِيَابِهِمْ مِنْ
خَلْفِهِمْ وَمِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَأَنْ يُلْزَمُوا
بِالزَّنَانِيرِ
الْخَاصِرَةِ لِثِيَابِهِمْ كَزَنَانِيرِ الْفَلَّاحِينَ الْيَوْمَ، وَأَنْ
يَحْمِلُوا فِي رِقَابِهِمْ كُرَاتٍ مِنْ خَشَبٍ كَثِيرَةً، وَأَنْ لَا يَرْكَبُوا
خَيْلًا، وَلْتَكُنْ رُكُبُهُمْ مِنْ خَشَبٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ
الْمُذِلَّةِ لَهُمُ الْمُهِينَةِ لِنُفُوسِهِمْ، وَأَنْ لَا يُسْتَعْمَلُوا فِي
شَيْءٍ مِنَ الدَّوَاوِينِ الَّتِي يَكُونُ لَهُمْ فِيهَا حُكْمٌ عَلَى مُسْلِمٍ،
وَأَمَرَ بِتَخْرِيبِ كَنَائِسِهِمُ الْمُحْدَثَةِ، وَبِتَضْيِيقِ مَنَازِلِهِمُ
الْمُتَّسِعَةِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهَا الْعُشْرُ، وَأَنْ يَعْمَلُوا مَا كَانَ
مُتَّسِعًا كَبِيرًا مَسْجِدًا، وَأَمَرَ بِتَسْوِيَةِ قُبُورِهِمْ بِالْأَرْضِ،
وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْآفَاقِ، وَإِلَى كُلِّ بَلَدٍ
وَرُسْتَاقٍ.
وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مَحْمُودُ بْنُ الْفَرَجِ
النَّيْسَابُورِيُّ. وَهُوَ مِمَّنْ كَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى خَشَبَةِ بَابَكَ
الْخُرَّمِيِّ وَهُوَ مَصْلُوبٌ، فَيَقْعُدُ قَرِيبًا مِنْهُ، وَذَلِكَ بِقُرْبِ
دَارِ الْخِلَافَةِ مِنْ سُرَّ مَنْ رَأَى، فَادَّعَى أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَّهُ
ذُو الْقَرْنَيْنِ، وَقَدِ اتَّبَعَهُ عَلَى هَذِهِ الضَّلَالَةِ، وَوَافَقَهُ فِي
هَذِهِ الْجَهَالَةِ جَمَاعَةٌ قَلِيلُونَ، وَهُمْ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا،
وَقَدْ نَظَمَ لَهُمْ كَلَامًا فِي مُصْحَفٍ لَهُ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - زَعَمَ
لَعَنَهُ اللَّهُ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَاءَهُ بِهِ مِنَ
اللَّهِ فَأُخِذَ فَرُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ
بَيْنَ يَدَيْهِ بِالسِّيَاطِ ; فَاعْتَرَفَ بِمَا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَمَا هُوَ
مُعَوِّلٌ عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ مِنْ ذَلِكَ، وَالرُّجُوعَ عَنْهُ
فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ أَنْ يَصْفَعَهُ عَشْرَ
صَفَعَاتٍ فَفَعَلُوا، فَعَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ لَعْنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ
وَالسَّمَاوَاتِ، ثُمَّ اتَّفَقَ مَوْتُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثٍ
خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
وَفِي
يَوْمِ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
الْمُبَارَكَةِ أَخَذَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ الْعَهْدَ مِنْ
بَعْدِهِ لِأَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ وَهُمْ: مُحَمَّدٌ الْمُنْتَصِرُ، ثُمَّ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُعْتَزُّ وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَقِيلَ: الزُّبَيْرُ،
ثُمَّ لِإِبْرَاهِيمَ وَسَمَّاهُ الْمُؤَيَّدَ بِاللَّهِ، وَلَمْ يَلِ هَذَا
الْخِلَافَةَ. وَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَائِفَةً مِنَ الْبِلَادِ
يَكُونُ نَائِبًا عَلَيْهَا وَنُوَّابُهُ فِيهَا، وَيَضْرِبُ لَهُ السَّكَّةُ
بِهَا، وَقَدْ عَيَّنَ ابْنُ جَرِيرٍ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنَ
الْبُلْدَانِ وَالْأَقَالِيمِ وَالرَّسَاتِيقِ، وَعَقَدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
لِوَاءَيْنِ، لِوَاءً أَسْوَدَ لِلْعَهْدِ، وَلِوَاءً أَبْيَضَ لِلْعَمَالَةِ،
وَكَتَبَ بَيْنَهُمْ كِتَابًا بِالرِّضَا مِنْهُمْ بِمُبَايَعَةِ الْأُمَرَاءِ
وَالْكُبَرَاءِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ هَذَا مِنْهَا تَغَيَّرَ مَاءُ دِجْلَةَ إِلَى
الصُّفْرَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ صَارَ فِي لَوْنِ مَاءِ الْمُدُودِ
فَفَزِعَ النَّاسُ لِذَلِكَ.
وَفِيهَا أَتَى الْمُتَوَكِّلُ بِيَحْيَى بْنِ عُمَرَ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ بَعْضِ النَّوَاحِي،
وَكَانَ قَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ الشِّيعَةِ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ
فَضُرِبَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ مِقْرَعَةً ثُمَّ حُبِسَ فِي الْمُطْبِقِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ.
قَالَ
ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ صَاحِبُ الْجِسْرِ
يَعْنِي نَائِبَ بَغْدَادَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ، وَصُيِّرَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ مَكَانَهُ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ خَمْسُ
خِلَعٍ، وَقُلِّدَ سَيْفًا.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ لَهُ فِي نِيَابَةِ بَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ مِنْ زَمَنِ
الْمَأْمُونِ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الدُّعَاةِ تَبَعًا لِسَادَتِهِ وَكُبَرَائِهِ،
إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَاهَانَ الْمَوْصِلِيُّ النَّدِيمُ، الْأَدِيبُ
ابْنُ الْأَدِيبِ، النَّادِرُ الشَّكْلُ فِي وَقْتِهِ الْمَجْمُوعُ الْفَضَائِلِ
مِنْ كُلِّ فَنٍّ يَعْرِفُهُ أَبْنَاءُ عَصْرِهِ، مِنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ
وَالْجَدَلِ وَالْكَلَامِ وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ، وَإِنَّمَا اشْتُهِرَ بِالْغِنَاءِ
; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الدُّنْيَا نَظِيرٌ فِيهِ.
قَالَ الْمُعْتَصِمُ: إِنَّ إِسْحَاقَ إِذَا غَنَّى يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّهُ
قَدْ زِيدَ فِي مُلْكِي. وَقَالَ الْمَأْمُونُ لَوْلَا اشْتِهَارُهُ بِالْغِنَاءِ
لَوَلَّيْتُهُ الْقَضَاءَ ; لِمَا أَعْلَمُهُ مِنْ عِفَّتِهِ وَنَزَاهَتِهِ
وَأَمَانَتِهِ.
وَلَهُ
شِعْرٌ حَسَنٌ، وَدِيوَانٌ كَبِيرٌ. وَكَانَتْ عِنْدَهُ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ مِنْ
كُلِّ فَنٍّ.
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ وَقِيلَ: فِي الَّتِي
بَعْدَهَا.
وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ تَرْجَمَةً حَافِلَةً، وَذَكَرَ
عَنْهُ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، وَأَشْعَارًا بَدِيعَةً رَائِقَةً، وَحِكَايَاتٍ
مُدْهِشَةً يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا. فَمِنْ غَرِيبِ ذَلِكَ أَنَّهُ غَنَّى
يَوْمًا لِيَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ فَوَقَّعَ لَهُ بِأَلْفِ أَلْفٍ،
وَوَقَّعَ لَهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ بِمِثْلِهَا، وَابْنُهُ الْفَضْلُ بِمِثْلِهَا
فِي حِكَايَةٍ طَوِيلَةٍ.
قُلْتُ: وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، وَشَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَحَدُ الْأَعْلَامِ
وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبُ " الْمُصَنَّفِ " الَّذِي لَمْ
يُصَنِّفْ أَحَدٌ مِثْلَهُ قَطُّ، لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ بِهَدْمِ قَبْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الْمَنَازِلِ وَالدُّورِ، وَنُودِيَ فِي
النَّاسِ: مَنْ وُجِدَ هَاهُنَا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ رُفِعَ إِلَى
الْمُطْبِقِ. فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ بَشَرٌ، وَاتَّخَذَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ
مَزْرَعَةً تُحْرَثُ وَتُسْتَغَلُّ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدٌ الْمُنْتَصِرُ ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ: مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، سَمَّهُ ابْنُ
أَخِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ هَذَا مِنَ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ الْوَزِيرُ، وَالِدُ بُورَانَ زَوْجَةِ
الْمَأْمُونِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَكَانَ مِنْ سَرَاةِ النَّاسِ
وَرُؤَسَائِهِمْ. وَيُقَالُ: إِنَّ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا
تُوُفِّيَ أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْمَرْوَزِيُّ فَجْأَةً،
فَوَلِيَ ابْنُهُ يُوسُفُ مَكَانَهُ عَلَى نِيَابَةِ أَرْمِينِيَّةَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَيْضًا: إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ،
وَمُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ، وَهُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ
الْقَيْسِيُّ، وَأَبُو الصَّلْتِ الْهَرَوِيُّ، أَحَدُ الضُّعَفَاءِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا قَبَضَ يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ نَائِبُ أَرْمِينِيَّةَ عَلَى
الْبِطْرِيقِ الْكَبِيرِ بِهَا وَبَعَثَهُ إِلَى نَائِبِ الْخَلِيفَةِ، وَاتَّفَقَ
بَعْدَ بَعْثِهِ إِيَّاهُ أَنْ سَقَطَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ،
فَتَحَزَّبَ أَهْلُ ذَلِكَ الْبِطْرِيقِ، وَجَاءُوا فَحَاصَرُوا الْبَلَدَ الَّتِي
بِهَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ ; لِيُقَاتِلَهُمْ،
فَقَتَلُوهُ وَطَائِفَةً كَبِيرَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَعَهُ،
وَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الثَّلْجِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَلَمَّا
بَلَغَ الْمُتَوَكِّلَ مَا وَقَعَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ ; أَرْسَلَ
إِلَى أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ بُغَا الْكَبِيرَ مِنْ جَيْشٍ كَثِيفٍ جِدًّا،
فَقَتَلَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ مِمَّنْ حَاصَرَ الْمَدِينَةَ وَقَتَلَ
الْأَمِيرَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَأَسَرَ مِنْهُمْ طَائِفَةً
كَبِيرَةً، ثُمَّ سَارَ إِلَى بِلَادِ الْبَاقِ مِنْ كُورَةِ الْبَسْفُرْجَانَ،
وَسَلَكَ إِلَى مُدُنٍ كَثِيرَةٍ كِبَارٍ، وَمَهَّدَ الْمَمَالِكَ، وَوَطَّدَ
الْبِلَادَ وَالنَّوَاحِيَ.
وَفِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ غَضِبَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ
أَبِي دُؤَادٍ الْقَاضِي الْمُعْتَزِلِيِّ، وَكَانَ عَلَى الْمَظَالِمِ فَعَزَلَهُ
عَنْهَا، وَاسْتَدْعَى بِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ فَوَلَّاهُ قَضَاءَ
الْقُضَاةِ
وَالْمَظَالِمِ أَيْضًا.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى ضِيَاعِ
ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ، وَأَخَذَ ابْنَهُ أَبَا الْوَلِيدِ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ
بْنِ أَبِي دُؤَادٍ، فَحَبَسَهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَأَمَرَ بِمُصَادَرَتِهِ فَحَمَلَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ
وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ مَا يُقَوَّمُ
بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ صُولِحَ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ
دِرْهَمٍ وَكَانَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ قَدْ أَصَابَهُ الْفَالِجُ كَمَا ذَكَرْنَا
ثُمَّ نَفَى أَهْلَهُ مِنْ سَامَرَّا إِلَى بَغْدَادَ مُهَانِينَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ فِي ذَلِكَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:
لَوْ كُنْتَ فِي الرَّأْيِ مَنْسُوبًا إِلَى رَشَدٍ وَكَانَ عَزْمُكَ عَزْمًا
فِيهِ تَوْفِيقُ لَكَانَ فِي الْفِقْهِ شُغْلٌ لَوْ قَنِعْتَ بِهِ
عَنْ أَنْ تَقُولَ كِتَابُ اللَّهِ مَخْلُوقُ مَاذَا عَلَيْكَ وَأَصْلُ الدِّينِ
يَجْمَعُهُمْ
مَا كَانَ فِي الْفَرْعِ لَوْلَا الْجَهْلُ وَالْمُوْقُ
وَفِي عِيدِ الْفِطْرِ مِنْهَا أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ بِإِنْزَالِ جُثَّةِ
أَحْمَدَ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيِّ، وَالْجَمْعِ
بَيْنَ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ، وَأَنْ يُسَلَّمَ إِلَى أَوْلِيَائِهِ، فَفَرِحَ
النَّاسُ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَاجْتَمَعَ مِنَ الْعَامَّةِ فِي
جِنَازَتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ جِدًّا، وَجَعَلُوا يَتَمَسَّحُونَ بِهَا،
وَبِأَعْوَادِ نَعْشِهِ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، ثُمَّ أَتَوْا إِلَى
الْجِذْعِ الَّذِي صُلِبَ عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَأَرْهَجَ
الْعَامَّةُ فِي ذَلِكَ فَرَحًا وَسُرُورًا،
فَكَتَبَ
الْمُتَوَكِّلُ إِلَى نَائِبِهِ يَأْمُرُهُ بِرَدْعِهِمْ عَنْ تَعَاطِي مِثْلِ
ذَلِكَ وَعَنِ الْمُغَالَاةِ فِي الْبَشَرِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ
بِالْمَنْعِ مِنَ الْكَلَامِ، فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالْكَفِّ عَنِ
الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَظْهَرَ إِكْرَامَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ وَاسْتَدْعَاهُ مِنْ بَغْدَادَ إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعَ بِهِ فَأَكْرَمَهُ،
وَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، وَخَلَعَ عَلَيْهِ
خِلْعَةً سَنِيَّةً مِنْ مَلَابِسِهِ، فَاسْتَحْيَا مِنْهُ أَحْمَدُ كَثِيرًا،
فَلَبِسَهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ نَازِلًا فِيهِ، ثُمَّ نَزَعَهَا
نَزْعًا عَنِيفًا وَهُوَ يَبْكِي، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَجَعَلَ الْمُتَوَكِّلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُرْسِلُ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامِهِ
الْخَاصِّ يَظُنُّ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَا
يَأْكُلُ لَهُمْ طَعَامًا، بَلْ كَانَ صَائِمًا مُوَاصِلًا يَطْوِي تِلْكَ
الْأَيَّامَ كُلَّهَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ شَيْءٌ يَرْتَضِي
أَكْلَهُ، وَلَكِنْ كَانَ ابْنَاهُ صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ يَقْبَلَانِ تِلْكَ الْجَوَائِزَ،
وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ أَسْرَعُوا
الْأَوْبَةَ إِلَى بَغْدَادَ لَخُشِيَ عَلَى أَحْمَدَ أَنْ يَمُوتَ جُوعًا.
وَارْتَفَعَ شَأْنُ السُّنَّةِ جِدًّا فِي أَيَّامِ الْمُتَوَكِّلِ عَفَا اللَّهُ
عَنْهُ وَكَانَ لَا يُوَلِّي أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ مَشُورَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ، وَكَانَتْ وِلَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ
مَوْضِعَ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ عَنْ مَشُورَتِهِ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ يَحْيَى
بْنُ أَكْثَمَ هَذَا مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَعُلَمَاءِ النَّاسِ، وَمِنَ
الْمُعَظِّمِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَاتِّبَاعِ
الْأَثَرِ، وَكَانَ قَدْ وَلَّى مِنْ جِهَتِهِ حَيَّانَ بْنَ بِشْرٍ قَضَاءَ
الشَّرْقِيَّةِ، وَسَوَّارَ بْنَ
عَبْدِ
اللَّهِ الْعَنْبَرِيَّ قَضَاءَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَكِلَاهُمَا كَانَ
أَعْوَرَ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ:
رَأَيْتُ مِنَ الْكَبَائِرِ قَاضِيَيْنِ هُمَا أُحْدُوثَةٌ فِي الْخَافِقَيْنِ
هُمَا اقْتَسَمَا الْعَمَى نِصْفَيْنِ قَدًّا كَمَا اقْتَسَمَا قَضَاءَ الْجَانِبَيْنِ
وَتَحْسَبُ مِنْهُمَا مَنْ هَزَّ رَأْسًا لِيَنْظُرَ فِي مَوَارِيثٍ وَدَيْنِ
كَأَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ عَلَيْهِ دَنًّا فَتَحْتَ بُزَالَهُ مِنْ فَرْدِ عَيْنِ
هُمَا فَأْلُ الزَّمَانِ بِهُلْكِ يَحْيَى إِذِ افْتَتَحَ الْقَضَاءَ
بِأَعْوَرَيْنِ
وَغَزَا الصَّائِفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْأَرْمِنِيُّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ جَعْفَرِ ابْنِ أَبِي
جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، أَمِيرُ الْحِجَازِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ وَعَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ،
وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ الْفُضَيْلُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْجَحْدَرِيُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا حَاصَرَ بُغَا مَدِينَةَ تَفْلِيسَ وَعَلَى
مُقَدِّمَتِهِ زَيْرَكُ التُّرْكِيُّ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ صَاحِبُ تَفْلِيسَ
إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فَقَاتَلَهُ، فَأُسِرَ إِسْحَاقُ، فَأَمَرَ بُغَا
بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَصَلْبِهِ، وَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ النَّارِ فِي النِّفْطِ إِلَى
نَحْوِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَكْثَرُ بِنَائِهَا مِنْ خَشَبِ الصَّنَوْبَرِ،
فَأَحْرَقَ أَكْثَرَهَا، وَأَحْرَقَ مِنْ أَهْلِهَا نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ
إِنْسَانٍ، وَطَفِئَتِ النَّارُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ ; لِأَنَّ نَارَ الصَّنَوْبَرِ
لَا بَقَاءَ لَهَا، وَدَخَلَ الْجُنْدُ فَأَسَرُوا مَنْ بَقِيَ مَنْ أَهْلِهَا،
وَاسْتَلَبُوهُمْ حَتَّى اسْتَلَبُوا الْمَوْتَى. ثُمَّ سَارَ بُغَا إِلَى مُدُنٍ
أُخْرَى مِمَّنْ كَانَ يُمَالِئُ أَهْلُهَا مَعَ مَنْ قَتَلَ نَائِبَ
أَرْمِينِيَّةَ يُوسُفَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، أَخْذًا بِثَأْرِهِ
وَعُقُوبَةً لِمَنْ تَجَرَّأَ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا جَاءَتِ الْفِرِنْجُ فِي نَحْوٍ مَنْ ثَلَاثِمِائَةِ مَرْكَبٍ،
قَاصِدِينَ دِيَارَ مِصْرَ مِنْ نَاحِيَةِ دِمْيَاطَ فَدَخَلُوهَا فَجْأَةً
فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَحَرَقُوا الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ
وَالْمِنْبَرَ، وَأَسَرُوا مِنَ النِّسَاءِ نَحْوًا مِنْ سِتِّمِائَةِ امْرَأَةٍ ;
مِنَ الْمُسْلِمَاتِ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَالْبَاقِيَاتُ مِنْ
نِسَاءِ الْقِبْطِ، وَأَخَذُوا مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَالْأَمْتِعَةِ
وَالْمَغَانِمَ
شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَفَرَّ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ جِهَةٍ فَكَانَ
مَنْ غَرِقَ فِي بُحَيْرَةِ تِنِّيسَ أَكْثَرَ مِمَّنْ أَسَرُوهُ، ثُمَّ رَجَعُوا
عَلَى حَمِيَّةٍ، وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ أَحَدٌ حَتَّى رَجَعُوا بِلَادَهُمْ،
لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الصَّائِفَةَ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْأَرْمِنِيُّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ أَحَدُ الْأَعْلَامِ وَعُلَمَاءِ
الْإِسْلَامِ وَالْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْأَنَامِ. وَبِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ، الْفَقِيهُ
الْحَنَفِيُّ، وَطَالُوتُ بْنُ عَبَّادٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ
الرَّيَّانِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ
الْبُرْجُلَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّرِىِّ الْعَسْقَلَانِيُّ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا زَادَ الْمُتَوَكِّلُ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى أَهْلِ
الذِّمَّةِ فِي التَّمَيُّزِ فِي اللِّبَاسِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَكَّدَ
الْأَمْرَ بِتَخْرِيبِ الْكَنَائِسِ الْمُحْدَثَةِ فِي الْإِسْلَامِ.
وَفِيهَا نَفَى الْمُتَوَكِّلُ عَلِيَّ بْنَ الْجَهْمِ إِلَى خُرَاسَانَ.
وَفِيهَا اتَّفَقَ شَعَانِينُ النَّصَارَى وَيَوْمُ النَّيْرُوزِ فِي يَوْمٍ
وَاحِدٍ وَهُوَ يَوْمُ الْأَحَدِ لِعِشْرِينَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ، وَزَعَمَتِ النَّصَارَى أَنَّ هَذَا لَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُهُ فِي
الْإِسْلَامِ إِلَّا فِي هَذَا الْعَامِ.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْمَذْكُورُ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ
عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالِي مَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْوَلِيدِ مُحَمَّدٌ ابْنُ
الْقَاضِي أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ
الْإِيَادِيُّ
الْمُعْتَزِلِيُّ.
قُلْتُ: وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ وَصَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ مُؤَذِّنُ أَهْلِ دِمَشْقَ
وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ،
وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ صَاحِبُ " التَّفْسِيرِ "، "
وَالْمُسْنَدِ " الْمَشْهُورِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ،
وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، وَوَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ.
وَأَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيُّ، أَبُو عَلِيٍّ الْوَاعِظُ الزَّاهِدُ
أَحَدُ
الْعُبَّادِ،
لَهُ كَلَامٌ حَسَنٌ فِي الزُّهْدِ وَمُعَامَلَاتِ الْقُلُوبِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ
الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: كَانَ مِنْ طَبَقَةِ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ
وَبِشْرٍ الْحَافِي، وَكَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ يُسَمِّيهُ
جَاسُوسَ الْقُلُوبِ ; لِحِدَّةِ فِرَاسَتِهِ.
رَوَى عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ وَطَبَقَتِهِ، وَعَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ
أَبِي الْحَوَارِيِّ، وَمَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ،
وَغَيْرُهُمْ.
رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحِوَارِيِّ، عَنْ مَخْلَدِ بْنِ الْحُسَيْنِ،
عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ: مَرَرْتُ بِالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَهُوَ
جَالِسٌ وَقْتَ السَّحَرِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، مِثْلُكَ يَجْلِسُ فِي
هَذَا الْوَقْتِ ؟ ! قَالَ: إِنِّي قَدْ تَوَضَّأْتُ فَأَرَدْتُهَا أَنْ تَقُومَ
فَتُصَلِّيَ فَأَبَتْ عَلَيَّ، وَأَرَادَتْنِي عَلَى أَنْ تَنَامَ فَأَبَيْتُ
عَلَيْهَا.
وَمِنْ مُسْتَجَادِ كَلَامِهِ ; قَوْلُهُ: إِذَا أَرَدْتَ صَلَاحَ قَلْبِكَ
فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِحِفْظِ لِسَانِكَ. وَقَالَ: مِنَ الْغَنِيمَةِ
الْبَارِدَةِ أَنْ تُصْلِحَ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِكَ فَيُغْفَرَ لَكَ مَا مَضَى
مِنْهُ، وَقَالَ: يَسِيرُ الْيَقِينِ يُخْرِجُ الشَّكَّ كُلَّهُ مِنَ الْقَلْبِ،
وَيَسِيرُ الشَّكِّ يُخْرِجُ الْيَقِينَ كُلَّهُ مِنْهُ، وَقَالَ: مَنْ كَانَ
بِاللَّهِ أَعْرَفَ كَانَ
لَهُ
أُخْوَفَ. وَقَالَ: خَيْرُ صَاحِبٍ لَكَ فِي دُنْيَاكَ الْهَمُّ يَقْطَعُكَ عَنِ
الدُّنْيَا، وَيُوصِلُكَ إِلَى الْآخِرَةِ، وَمِنْ شِعْرِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ:
هَمَمْتُ وَلَمْ أَعْزِمْ وَلَوْ كُنْتُ صَادِقًا عَزَمْتُ وَلَكِنَّ الْفِطَانَ
شَدِيدُ وَلَوْ كَانَ لِي عَقْلٌ وَإِيقَانُ مُوقِنٍ
لَمَا كُنْتُ عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ أَحِيدُ وَلَا كَانَ فِي شَكِّ الْيَقِينِ
مَطَامِعِي
وَلَكِنْ عَنِ الْأَقْدَارِ كَيْفَ أَحِيدُ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
دَاعِيَاتُ الْهَوَى تَخِفُّ عَلَيْنَا وَخِلَافُ الْهَوَى عَلَيْنَا ثَقِيلُ
فُقِدَ الصِّدْقُ فِي الْأَمَاكِنِ حَتَّى وَصْفُهُ الْيَوْمَ مَا عَلِيْهِ
دَلِيلُ
لَا نَرَى خَائِفًا فَيَلْزَمَنَا الْخَوْ فُ وَلَا صَادِقًا بِمَا قَدْ يَقُولُ
فَبَقِينَا مُذَبْذَبِينَ حَيَارَى نَطْلُبُ الصَّدْقَ مَا إِلَيْهِ سَبِيلُ
وَمِنْ
شَعْرِهِ أَيْضًا:
هَوِّنْ عَلَيْكَ فَكُلُّ الْأَمْرِ يَنْقَطِعُ وَخَلِّ عَنْكَ عِنَانَ الْهَمِّ
يَنْدَفِعُ
فَكُلُّ هَمٍّ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَرَجٌ وَكُلُّ كَرْبٍ إِذَا ضَاقَ يَتَّسِعُ
إِنَّ الْبَلَاءَ وَإِنَّ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ الْمَوْتُ يَقْطَعُهُ أَوْ سَوْفَ
يَنْقَطِعُ
وَقَدْ أَطَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ تَرْجَمَتَهُ، وَلَمْ يُؤَرِّخْ
وَفَاتَهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ هَاهُنَا تَقْرِيبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ.
سَنَةُ
أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا عَدَا أَهْلُ حِمْصَ عَلَى عَامِلِهِمْ أَبِي الْغَيْثِ مُوسَى بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الرَّافِقِيِّ وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ
فَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْمُتَوَكِّلُ أَمِيرًا عَلَيْهِمْ، وَقَالَ لِلسَّفِيرِ
مَعَهُ: إِنْ قَبِلُوا وَإِلَّا فَأَعْلِمْنِي، فَقَبِلُوهُ، فَعَمِلَ فِيهِمُ
الْأَعَاجِيبَ، وَأَهَانَهُمْ غَايَةَ الْإِهَانَةِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمُتَوَكِّلُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ الْقَاضِي عَنْ قَضَاءِ
الْقُضَاةِ، وَصَادَرَهُ بِمَا مَبْلَغُهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَخَذَ
مِنْهُ أَرَاضِيَ كَثِيرَةً فِي أَرْضِ الْبَصْرَةِ وَوَلَّى مَكَانَهُ جَعْفَرَ
بْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ عَلَى
قَضَاءِ الْقُضَاةِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي
دُؤَادٍ بَعْدَ
ابْنِهِ
بِعِشْرِينَ يَوْمًا.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ الْقَاضِي
هُوَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ وَاسْمُهُ الْفَرَجُ، وَقِيلَ: دُعْمِيٌّ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْمَهُ كُنْيَتُهُ - ابْنُ جَرِيرٍ الْقَاضِي، أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْإِيَادِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ فِي نَسَبِهِ: هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ
أَبِي دُؤَادٍ فَرَجِ بْنِ جَرِيرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّادِ بْنِ سَلَّامِ بْنِ عَبْدِ هِنْدِ بْنِ عَبْدِ لَخْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
قَنَصِ بْنِ مَنَعَةَ بْنِ بُرْجَانَ بْنِ دَوْسِ بْنِ الدُّئِلِ بْنِ أُمَيَّةَ
بْنِ
حُذَاقَةَ بْنِ زُهْرِ بْنِ إِيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَلِيَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ قَضَاءَ الْقُضَاةِ لِلْمُعْتَصِمِ،
ثُمَّ لِلْوَاثِقِ، وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالْجُودِ وَالسَّخَاءِ وَحُسْنِ
الْخُلُقِ وَوُفُورِ الْأَدَبِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَعْلَنَ بِمَذْهَبِ
الْجَهْمِيَّةِ، وَحَمَلَ السُّلْطَانَ عَلَى امْتِحَانِ النَّاسِ بِخَلْقِ
الْقُرْآنِ، قَالَ الصُّولِيُّ: لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْبَرَامِكَةِ أَكْرَمُ
مِنْهُ، وَلَوْلَا مَا وَضَعَ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ مَحَبَّةِ الْمِحْنَةِ
لَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأَلْسُنُ. قَالُوا: وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ
سِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ بِعِشْرِينَ
سَنَةً.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ وَأَصْلُهُ مِنْ بِلَادِ قِنِّسرِينَ وَكَانَ أَبُوهُ
تَاجِرًا يَفِدُ إِلَى الشَّامِ ثُمَّ أَخَذَ وَلَدَهُ هَذَا مَعَهُ إِلَى
الْعِرَاقِ، فَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ، وَصَحِبَ هَيَّاجَ بْنَ الْعَلَاءِ
السُّلَمِيَّ، أَحَدَ أَصْحَابِ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ فَأَخَذَ عَنْهُ
الِاعْتِزَالَ، وَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَصْحَبُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ الْقَاضِي،
وَيَأْخُذُ عَنْهُ الْعِلْمَ ثُمَّ سَرَدَ لَهُ تَرْجَمَةً طَوِيلَةً فِي كِتَابِ
" الْوَفَيَاتِ ".
وَقَدِ امْتَدَحَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، فَقَالَ:
رَسُولُ
اللَّهِ وَالْخُلَفَاءُ مِنَّا وَمِنَّا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادِ
فَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ:
فَقُلْ لِلْفَاخِرِينَ عَلَى نِزَارٍ وَهُمْ فِي الْأَرْضِ سَادَاتُ الْعِبَادِ
رَسُولُ اللَّهِ وَالْخُلَفَاءُ مِنَّا وَنَبْرَأُ مِنْ دَعِيِّ بَنِي إِيَادِ
وَمَا مِنَّا إِيَادٌ إِذْ أَقَرَّتْ بِدَعْوَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادِ
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي
أَكْرَهُ الْعُقُوبَةَ لَعَاقَبْتُ هَذَا الشَّاعِرَ عُقُوبَةً مَا فَعَلَهَا
أَحَدٌ. وَعَفَا عَنْهُ.
قَالَ الْخَطِيبُ: حَدَّثَنِي الْأَزْهَرِيُّ، ثَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ
الْوَاعِظُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَالِكٍ،
حَدَّثَنِي جَرِيرُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَبِي - يَعْنِي
أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ - إِذَا صَلَّى رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ،
وَخَاطَبَ رَبَّهُ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مَا أَنْتَ بِالسَّبَبِ الضَّعِيفِ وَإِنَّمَا نُجْحُ الْأُمُورِ بِقُوَّةِ
الْأَسْبَابِ
وَالْيَوْمَ حَاجَتُنَا إِلَيْكَ وَإِنَّمَا يُدْعَى الطَّبِيبُ لِسَاعَةِ
الْأَوْصَابِ
ثُمَّ رَوَى الْخَطِيبُ أَنَّ أَبَا تَمَّامٍ دَخَلَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ أَبِي
دُؤَادٍ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ:
أَحْسَبُكَ
عَاتِبًا. فَقَالَ: إِنَّمَا يُعْتَبُ عَلَى وَاحِدٍ، وَأَنْتَ النَّاسُ جَمِيعًا.
فَقَالَ لَهُ: أَنَّى لَكَ هَذِهِ ؟ فَقَالَ: مِنْ قَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ:
وَلَيْسَ لِلَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدِ
وَامْتَدَحَهُ أَبُو تَمَّامٍ يَوْمًا، فَقَالَ:
لَقَدْ أَنْسَتْ مَسَاوِئَ كُلِّ دَهْرٍ مَحَاسِنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادِ
وَمَا سَافَرْتُ فِي الْآفَاقِ إِلَّا وَمِنْ جَدْوَاكَ رَاحِلَتِي وَزَادِي
يُقِيمُ الظَّنُّ عِنْدَكَ وَالْأَمَانِي وَإِنْ قَلِقَتْ رِكَابِي فِي الْبِلَادِ
فَقَالَ لَهُ: هَذَا الْمَعْنَى تَفَرَّدْتَ بِهِ، أَوْ أَخَذْتَهُ مَنْ غَيْرِكَ
؟ فَقَالَ: هُوَ لِي غَيْرَ أَنِّي أَلْمَمْتُ بِقَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ:
وَإِنْ جَرَتِ الْأَلْفَاظُ يَوْمًا بِمِدْحَةٍ لِغَيْرِكَ إِنْسَانًا فَأَنْتَ
الَّذِي نَعْنِي
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ: وَمِنْ مُخْتَارِ مَدِيحِ أَبِي
تَمَّامٍ لِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ قَوْلُهُ:
أَأَحْمَدُ إِنَّ الْحَاسِدِينَ كَثِيرُ وَمَا لَكَ إِنْ عُدَّ الْكِرَامُ نَظِيرُ
حَلَلْتَ
مَحَلًّا فَاضِلًا مُتَقَدِّمًا مِنَ الْمَجْدِ وَالْفَخْرُ الْقَدِيمُ فَخُورُ
فَكُلُّ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ فَإِنَّهُ إِلَيْكَ وَإِنْ نَالَ السَّمَاءَ فَقِيرُ
إِلَيْكَ تَنَاهَى الْمَجْدُ مِنْ كُلِّ وِجْهَةٍ يَصِيرُ فَمَا يَعْدُوكَ حَيْثُ
تَصِيرُ
وَبَدْرُ إِيَادٍ أَنْتَ لَا يُنْكِرُونَهُ كَذَاكَ إِيَادٌ لِلَأَنَامِ بُدُورُ
تَجَنَّبْتَ أَنْ تُدَعَى الْأَمِيرَ تَوَاضُعًا وَأَنْتَ لِمَنْ يُدْعَى
الْأَمِيرَ أَمِيرُ
فَمَا مِنْ نَدًى إِلَّا إِلَيْكَ مَحَلُّهُ وَلَا رِفْعَةٍ إِلَّا إِلَيْكَ
تَسِيرُ
قُلْتُ: قَدْ أَخْطَأَ الشَّاعِرُ فِي هَذَا خَطَأً كَبِيرًا، وَأَفْحَشَ فِي
الْمُبَالَغَةِ كَثِيرًا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ يَوْمًا لِبَعْضِهِمْ:
لِمَ لَا تَسْأَلُنِي ؟ فَقَالَ لَهُ: لِأَنِّي لَوْ سَأَلْتُكَ أَعْطَيْتُكَ
ثَمَنَ مَا تُعْطِينِي. فَقَالَ لَهُ: صَدَقْتَ. وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِخَمْسَةِ
آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ أَبِي دُؤَادٍ أَنْ يَحْمِلَهُ
عَلَى عِيرٍ، فَقَالَ:
يَا
غُلَامُ، أَعْطِهِ عِيرًا وَبَغْلًا وَبِرْذَوْنًا وَفَرَسًا وَجَارِيَةً. ثُمَّ
قَالَ لَهُ: لَوْ أَعْلَمُ مَرْكُوبًا غَيْرَ هَذَا لَأَعْطَيْتُكَ. ثُمَّ
أَوْرَدَ الْخَطِيبُ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ أَخْبَارًا
تَدُلُّ عَلَى كَرَمِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَأَدَبِهِ وَحِلْمِهِ وَمُبَادَرَتِهِ
إِلَى قَضَاءِ الْحَاجَاتِ، وَعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ.
وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدٍ الْمُهْتَدِي ابْنِ الْوَاثِقِ أَنَّ شَيْخًا دَخَلَ
يَوْمًا عَلَى الْوَاثِقِ فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْوَاثِقُ، بَلْ
قَالَ: لَا سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
بِئْسَ مَا أَدَّبَكَ مُعَلِّمُكَ ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [ النِّسَاءِ: 86 ]
فَلَا حَيَّيْتَنِي بِأَحْسَنَ مِنْهَا، وَلَا رَدَدْتَهَا. فَقَالَ ابْنُ أَبِي
دُؤَادٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الرَّجُلُ مُتَكَلِّمٌ. فَقَالَ: نَاظِرْهُ.
فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: مَا تَقُولُ يَا شَيْخُ فِي الْقُرْآنِ، أَمَخْلُوقٌ
هُوَ ؟ فَقَالَ الشَّيْخُ: لَمْ تُنْصِفْنِي ; الْمَسْأَلَةُ لِي. فَقَالَ: قُلْ.
فَقَالَ: هَذَا الَّذِي تَقُولُهُ، عَلِمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعْلَيٌّ أَوْ مَا
عَلِمُوهُ ؟ فَقَالَ: لَمْ يَعْلَمُوهُ. قَالَ: فَأَنْتَ عَلِمْتَ مَا لَمْ
يَعْلَمُوا ؟ فَخَجِلَ وَسَكَتَ. ثُمَّ قَالَ: أَقِلْنِي، بَلْ عَلِمُوهُ. قَالَ:
فَلِمَ لَا دَعَوُا النَّاسَ إِلَيْهِ كَمَا دَعَوْتَهُمْ أَنْتَ، أَمَا وَسِعَكَ
مَا وَسِعَهُمْ ؟ فَسَكَتَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ، وَأَمَرَ الْوَاثِقُ لَهُ
بِجَائِزَةٍ نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ. قَالَ الْمُهْتَدِي: فَدَخَلَ أَبِي
الْمَنْزِلَ وَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ، وَجَعَلَ يُكَرِّرُ قَوْلَ الشَّيْخِ
عَلَى نَفْسِهِ،
وَيَقُولُ:
أَمَا وَسِعَكَ مَا وَسِعَهُمْ ؟ ثُمَّ أَمَرَ بِإِطْلَاقِ الشَّيْخِ
وَإِعْطَائِهِ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ وَرَدَّهُ إِلَى بِلَادِهِ، وَسَقَطَ مِنْ
عَيْنَيْهِ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ وَلَمْ يَمْتَحِنْ بَعْدَهُ أَحَدًا. رَوَاهَا
الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ بَعْضُ مَنْ لَا
أَعْرِفُهُ، وَسَاقَهَا مُطَوَّلَةً وَفِيهَا نَكَارَةٌ.
وَقَدْ أَنْشَدَ ثَعْلَبٌ عَنْ أَبِي حَجَّاجٍ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي
ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ:
نَكَسْتَ الدِّينَ يَا ابْنَ أَبِي دُؤَادِ فَأَصْبَحَ مَنْ أَطَاعَكَ فِي
ارْتِدَادِ
زَعَمْتَ كَلَامَ رَبِّكَ كَانَ خَلْقًا أَمَا لَكَ عِنْدَ رَبِّكَ مِنْ مَعَادِ
كَلَامُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ بِعِلْمٍ وَأَنْزَلَهُ عَلَى خَيْرِ الْعِبَادِ
وَمَنْ أَمْسَى بِبَابِكَ مُسْتَضِيفًا كَمَنْ حَلَّ الْفَلَاةَ بِغَيْرِ زَادِ
لَقَدْ أَطْرَفْتَ يَا ابْنَ أَبِي دُؤَادِ بِقَوْلِكَ إِنَّنِي رَجْلٌ إِيَادِي
ثُمَّ قَالَ الْخَطِيبُ: أَنْبَأَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الطَّبَرِيُّ قَالَ: أَنْشَدَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا
الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الصُّولِيِّ لِبَعْضِهِمْ يَهْجُو
ابْنَ أَبِي دُؤَادٍ:
لَوْ كُنْتَ فِي الرَّأْيِ مَنْسُوبًا إِلَى رَشَدٍ وَكَانَ عَزْمُكَ عَزْمًا
فِيهِ تَوْفِيقُ
لَكَانَ
فِي الْفِقْهِ شُغْلٌ لَوْ قَنِعْتَ بِهِ عَنْ أَنْ تَقُولَ كَتَابُ اللَّهِ
مَخْلُوقُ
مَاذَا عَلَيْكَ وَأَصْلُ الدِّينِ يَجْمَعُهُمْ مَا كَانَ فِي الْفَرْعِ لَا فِي
الْجَهْلِ وَالْمُوقِ
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ يَحْيَى الْجَلَّاءِ أَوْ عَلِيٍّ ابْنِ الْمُوَفَّقِ
أَنَّهُ قَالَ: نَاظَرَنِي رَجُلٌ مِنَ الْوَاقِفِيَّةِ فِي خَلْقِ الْقُرْآنِ
فَنَالَنِي مِنْهُ مَا أَكْرَهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَتَيْتُ امْرَأَتِي
فَوَضَعَتْ لِيَ الْعَشَاءَ فَلَمْ أَقْدِرْ أَنْ أَنَالَ مِنْهُ شَيْئًا،
وَنِمْتُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَهُنَاكَ حَلْقَةٌ فِيهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَأَصْحَابُهُ، وَحَلْقَةٌ فِيهَا ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ وَأَصْحَابُهُ، فَجَعَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ
فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ [ الْأَنْعَامِ: 89 ] وَيُشِيرُ إِلَى حَلْقَةِ
ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ
[ الْأَنْعَامِ: 89 ] وَيُشِيرُ إِلَى حَلْقَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
وَأَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ لَيْلَةَ مَاتَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ
كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: هَلَكَ اللَّيْلَةَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ.
فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا سَبَبُ هَلَاكِهِ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ أَغْضَبَ
اللَّهَ
عَلَيْهِ فَغَضِبَ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
رَأَيْتُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَأَنَّ النَّارَ زَفَرَتْ زَفْرَةً عَظِيمَةً،
فَخَرَجَ مِنْهَا اللَّهَبُ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا ؟ فَقِيلَ: هَذِهِ اتُّخِذَتْ
لِابْنِ أَبِي دُؤَادٍ
وَقَدْ كَانَ مَوْتُهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْعَبَّاسُ، وَدُفِنَ فِي
دَارِهِ بِبَغْدَادَ وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَابْتَلَاهُ
اللَّهُ بِالْفَالِجِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ وَبَقِيَ طَرِيحًا فِي
فِرَاشِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحَرِّكَ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ.
وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا جِئْتُكَ عَائِدًا
وَإِنَّمَا جِئْتُ لِأَحْمَدَ اللَّهَ عَلَى أَنْ سَجَنَكَ فِي جَسَدِكَ. وَقَدْ
صُودِرَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ جِدًّا، كَمَا تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَةٍ. قُلْتُ:
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَسَنَّ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمِنْ يَحْيَى بْنِ
أَكْثَمَ الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ خِلِّكَانَ
أَنَّهُ
كَانَ سَبَبَ اتِّصَالِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ بِالْخَلِيفَةِ الْمَأْمُونِ فَحَظِيَ
عِنْدَهُ، بِحَيْثُ إِنَّهُ أَوْصَى بِهِ إِلَى أَخِيهِ الْمُعْتَصِمِ، فَوَلَّاهُ
الْمُعْتَصِمُ الْقَضَاءَ وَعَزَلَ ابْنَ أَكْثَمَ، وَكَانَ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا
دُونَهُ، فَكَانَ عِنْدَهُ خِصِّيصًا ; وَلَّاهُ الْقَضَاءَ وَالْمَظَالِمَ،
وَكَانَ ابْنُ الزَّيَّاتِ الْوَزِيرُ يُبْغِضُهُ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا
مُنَافَسَاتٌ وَهَجْوٌ، كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ بَالَغَ ابْنُ خِلِّكَانَ فِي
تَرْجَمَتِهِ وَمَدْحِهِ، وَذَكَرَ مِنْ مَآثِرِهِ وَمَحَاسِنِهِ فَأَطْنَبَ
وَأَكْثَرَ وَمَا أَطْيَبَ، وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ مَسَاوِئِهِ، بَلْ
ذَكَرَ امْتِحَانَهُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ذِكْرًا مُوجَزًا
بِأَطْرَافِ الْأَنَامِلِ، وَهِيَ الْمِحْنَةُ الَّتِي هِيَ أُسُّ مَا بَعْدَهَا
مِنَ الْمِحَنِ، وَالْفِتْنَةُ الَّتِي فَتَحَتْ عَلَى النَّاسِ بَابَ الْفِتَنِ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ خِلِّكَانَ مَا ضُرِبَ بِهِ مِنَ الْفَالِجِ، وَمَا صُودِرَ
بِهِ مِنَ الْمَالِ الرَّابِحِ، وَأَنَّ ابْنَهُ أَبَا الْوَلِيدِ مُحَمَّدًا
صُودِرَ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ بِشَهْرٍ.
وَأَمَّا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فَإِنَّهُ بَسَطَ الْقَوْلَ فِي تَرْجَمَتِهِ
وَشَرَحَهَا شَرْحًا مَلِيحًا. وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ أَدِيبًا فَصِيحًا كَرِيمًا
جَوَادًا مُمَدَّحًا، يُؤْثِرُ الْعَطَاءَ عَلَى الْمَنْعِ، وَالتَّفْرِقَةَ عَلَى
الْجَمْعِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادِهِ أَنَّهُ جَلَسَ
يَوْمًا
مَعَ أَصْحَابِهِ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَ الْوَاثِقِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ:
إِنَّهُ لَيُعْجِبُنِي هَذَانَ الْبَيْتَانِ:
وَلِي نَظْرَةٌ لَوْ كَانَ يُحْبِلَ نَاظِرٌ بِنَظْرَتِهِ أُنْثَى لَقَدْ حَبِلَتْ
مِنِّي
فَإِنْ وَلَدَتْ مَا بَيْنَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ إِلَى نَظْرَتِي ابْنًا فَإِنَّ
ابْنَهَا مِنِّي
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو ثَوْرٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ الْكَلْبِيُّ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ
وَالْمَشَاهِيرِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هُوَ عِنْدَنَا فِي مِسْلَاخِ
الثَّوْرِيِّ، وَخَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ، أَحَدُ أَئِمَّةِ التَّارِيخِ،
وَسُوِيدُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَدَثَانِيُّ، وَسُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ، وَعَبْدُ
السَّلَامِ بْنُ
سَعِيدٍ،
الْمُلَقَّبُ بِسُحْنُونٍ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ الْمَشْهُورِينَ، وَعَبْدُ
الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ شَيْخُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ،
وَأَبُو الْعَمَيْثَلِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خُلَيْدٍ كَاتِبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
طَاهِرٍ، وَشَاعِرُهُ كَانَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ وَلَهُ فِيهَا مُصَنَّفَاتٌ
عَدِيدَةٌ أَوْرَدَ مِنْهَا الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ جُمْلَةً، وَمِنْ شِعْرِهِ
يَمْدَحُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ:
يَا مَنْ يُحَاوِلُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ كَصِفَاتِ عِبْدِ اللَّهِ أَنْصَتْ
وَاسْمَعِ فَلَأَنْصَحَنَّكَ فِي الْمَشُورَةِ وَالَّذِي
حَجَّ الْحَجِيجُ إِلَيْهِ فَاسْمَعْ أَوْ دَعِ اصْدُقْ وَعِفَّ وَبِرَّ وَاصْبِرْ
وَاحْتَمَلْ
وَاصْفَحْ وَكَافِ وَدَارِ وَاحْلُمْ وَاشْجَعِ وَالْطُفْ وَلِنْ وَتَأَنَّ
وَارْفُقْ وَاتَّئِدْ
وَاحْزِمْ وَجِدَّ وَحَامِ وَاحْمِلْ وَادْفَعِ
فَلَقَدْ
مَحَضْتُكَ إِنْ قَبِلْتَ نَصِيحَتِي
وَهُدِيتَ لِلنَّهْجِ الْأَسَدِّ الْمَهْيَعِ
أَمَّا سُحْنُونٌ الْمَالِكِيُّ صَاحِبُ الْمُدَوَّنَةِ فَهُوَ أَبُو سَعِيدٍ
عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ حَسَّانَ بْنِ هِلَالِ بْنِ
بَكَّارِ بْنِ رَبِيعَةَ التَّنُوخِيُّ، أَصْلُهُ مِنْ مَدِينَةِ حِمْصَ فَدَخَلَ
بِهِ أَبُوهُ مَعَ جُنْدِهَا بِلَادَ الْمَغْرِبِ، فَأَقَامَ بِهَا، وَانْتَهَتْ
إِلَيْهِ رِيَاسَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ هُنَاكَ، وَكَانَ قَدْ تَفَقَّهَ عَلَى ابْنِ
الْقَاسِمِ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ قَدِمَ أَسَدُ بْنُ الْفُرَاتِ الْمَالِكِيُّ مِنْ
بِلَادِ الْعِرَاقِ إِلَى بِلَادِ مِصْرَ فَسَأَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
الْقَاسِمِ صَاحِبَ مَالِكٍ عَنْ أَسْئِلَةٍ كَثِيرَةٍ، فَأَجَابَهُ عَنْهَا،
فَعَقَلَهَا عَنْهُ وَدَخَلَ بِهَا بِلَادَ الْمَغْرِبِ، فَانْتَسَخَهَا مِنْهُ
سُحْنُونٌ ثُمَّ قَدِمَ عَلَى ابْنِ الْقَاسِمِ مِصْرَ، فَأَعَادَ أَسْئِلَتَهُ
عَلَيْهِ فَزَادَ فِيهَا وَنَقَصَ، وَرَجَعَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْهَا، فَرَتَّبَهَا
سُحْنُونٌ وَرَجَعَ بِهَا إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ.
وَكَتَبَ مَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ إِلَى أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ أَنْ يَعْرِضَ نُسْخَتَهُ
عَلَى نُسْخَةِ سُحْنُونٍ وَيُصْلِحَهَا بِهَا فَلَمْ يَقْبَلْ، فَدَعَا عَلَيْهِ
ابْنُ الْقَاسِمِ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ وَلَا بِكِتَابِهِ، وَصَارَتِ
الرِّحْلَةُ إِلَى سُحْنُونٍ وَانْتَشَرَتْ عَنْهُ الْمُدَوَّنَةُ، وَسَادَ أَهْلَ
ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ بِالْقَيْرَوَانِ إِلَى أَنَّ تُوُفِّيَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ أَهْلُ حِمْصَ أَيْضًا
عَلَى عَامِلِهِمْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدَوَيْهِ فَأَرَادُوا قَتْلَهُ،
وَسَاعَدَهُمْ نَصَارَى أَهْلِهَا أَيْضًا عَلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ
يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِمُنَاهَضَتِهِمْ، وَكَتَبَ
إِلَى مُتَوَلِّي دِمَشْقَ أَنْ يَمُدَّهُ بِجَيْشٍ مِنْ عِنْدِهِ ; لِيُسَاعِدَهُ
عَلَى أَهْلِ حِمْصَ وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ
مَعْرُوفِينَ بِالشَّرِّ بِالسِّيَاطِ حَتَّى يَمُوتُوا، ثُمَّ يَصْلُبَهُمْ عَلَى
أَبْوَابِ الْبَلَدِ، وَأَنْ يَضْرِبَ عِشْرِينَ آخَرِينَ مِنْهُمْ ; كُلَّ
وَاحِدٍ ثَلَاثَمِائَةٍ ثَلَاثَمِائَةٍ، وَأَنْ يُرْسِلَهُمْ إِلَى سَامَرَّا
مُقَيِّدِينَ فِي الْحَدِيدِ، وَأَنْ يُخْرِجَ كُلَّ نَصْرَانِيٍّ بِهَا،
وَيَهْدِمَ كَنِيسَتَهَا الْعُظْمَى الَّتِي إِلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ
الْجَامِعِ، وَيُضِيفَهَا إِلَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ،
وَلِلْأُمَرَاءِ الَّذِينَ سَاعَدُوهُ بِصِلَاتٍ سَنِيَّةٍ، فَامْتَثَلَ مَا
أَمَرَهُ بِهِ الْخَلِيفَةُ فِيهِمْ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ بِضَرْبِ رَجُلٍ مِنْ
أَعْيَانِ أَهْلِ بَغْدَادَ يُقَالُ لَهُ: عِيسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَاصِمٍ، فَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا مُبَرِّحًا، يُقَالُ: إِنَّهُ ضُرِبَ
أَلْفَ سَوْطٍ حَتَّى مَاتَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهِ سَبْعَةَ عَشَرَ
رَجُلًا عِنْدَ
قَاضِي
الشَّرْقِيَّةِ أَبِي حَسَّانَ الزِّيَادِيِّ أَنَّهُ يَشْتُمُ أَبَا بَكْرٍ
وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَرُفِعَ
أَمْرُهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَجَاءَ كِتَابُ الْخَلِيفَةِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، نَائِبِ بَغْدَادَ يَأْمُرُهُ
أَنَّ يَضْرِبَ هَذَا الرَّجُلَ بَيْنَ النَّاسِ حَدَّ السَّبِّ، ثُمَّ يُضْرَبَ
بِالسِّيَاطِ حَتَّى يَمُوتَ، وَيُلْقَى فِي دِجْلَةَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ،
لِيَرْتَدِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْإِلْحَادِ وَالْمُعَانَدَةِ. فَفَعَلَ مَعَهُ
ذَلِكَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَلَعَنَهُ.
وَمِثْلُ هَذَا يَكْفُرُ إِنْ كَانَ قَدْ قَذَفَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ
بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي مَنْ قَذَفَ سِوَاهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ
قَوْلَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَكْفُرُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ عَنْهُنَّ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ انْقَضَّتِ الْكَوَاكِبُ بِبَغْدَادَ
وَتَنَاثَرَتْ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ، لِلَّيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ. قَالَ: وَفِيهَا مُطِرَ النَّاسُ فِي آبَ مَطَرًا شَدِيدًا جِدًّا.
قَالَ: وَفِيهَا مَاتَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْبَقَرِ. قَالَ:
وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى عَيْنِ زَرْبَةَ، فَأَسَرُوا مَنْ بِهَا مِنَ
الزُّطِّ وَأَخَذُوا نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهِمْ وَدَوَابَّهُمْ. قَالَ:
وَفِيهَا الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ فِي بِلَادِ طَرَسُوسَ
بِحَضْرَةِ قَاضِي الْقُضَاةِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ إِذَنِ
الْخَلِيفَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَاسْتِنَابَتِهِ ابْنَ أَبِي الشَّوَارِبِ. وَكَانَتْ
عِدَّةُ الْأَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَثَمَانِينَ
رَجُلًا، وَمِنَ النِّسَاءِ مِائَةً وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ امْرَأَةً، وَقَدْ
كَانَتْ أَمُّ الْمَلِكَ تَدُورَةُ لَعَنَهَا اللَّهُ عَرَضَتِ النَّصْرَانِيَّةَ
عَلَى مَنْ كَانَ فِي يَدِهَا مِنَ الْأُسَارَى وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ
أَلْفًا فَمَنْ أَجَابَهَا إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ
وَإِلَّا
قَتَلَتْهُ فَقَتَلَتِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَتَنَصَّرَ بَعْضُهُمْ، وَبَقِيَ
مِنْهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فُدُوا، وَهُمْ قَرِيبٌ مِنَ التِّسْعِمِائَةِ ;
رِجَالًا وَنِسَاءً.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الْبُجَّةُ عَلَى حَرَسٍ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَقَدْ كَانَتِ
الْبُجَّةُ لَا يَغْزُونَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ هَذَا ; لِهُدْنَةٍ كَانَتْ
لَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَنَقَضُوا الْهُدْنَةَ وَصَرَّحُوا بِالْمُخَالَفَةِ.
وَالْبُجَةُ طَائِفَةٌ مِنْ سُودَانِ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَكَذَا النُّوبَةُ
وَالْفَرَوِيَّةُ وَبَيْنُوزُ، وَزُعْرُويِنُ، وَيكْسُومُ، وَأُمَمٌ كَثِيرُونَ
لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ. وَفِي بِلَادِ هَؤُلَاءِ
مَعَادِنُ الذَّهَبِ وَالْجَوْهَرِ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ حِمْلٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ
إِلَى دِيَارِ مِصْرَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَادِنِ، فَلَمَّا كَانَتْ دَوْلَةُ
الْمُتَوَكِّلِ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ مُتَعَدِّدَةً،
فَكَتَبَ نَائِبُ مِصْرَ وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَاذَغِيسِيُّ
مَوْلَى الْهَادِي وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِقَوْصَرَةَ - بِذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى
الْمُتَوَكِّلِ، فَغَضِبَ الْمُتَوَكِّلُ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَشَاوَرَ
فِي أَمْرِ الْبُجَةِ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُمْ
قَوْمٌ أَهْلُ إِبِلٍ وَبَادِيَةٍ وَإِنَّ بِلَادَهُمْ بَعِيدَةٌ وَمُعْطِشَةٌ،
وَيَحْتَاجُ الْجَيْشُ الذَّاهِبُونَ إِلَيْهَا أَنْ يَتَزَوَّدُوا
لِمُقَامِهِمْ بِهَا طَعَامًا وَمَاءً. فَصَدَّهُ ذَلِكَ عَنِ الْبَعْثِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّهُمْ يُغِيرُونَ عَلَى أَطْرَافِ الصَّعِيدِ، وَخَشِيَ أَهْلُ مِصْرَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ، فَجَهَّزَ لِحَرْبِهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقُمُّيَّ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ نِيَابَةَ تِلْكَ الْبِلَادِ كُلِّهَا الْمُتَاخِمَةِ لِأَرْضِهِمْ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِ مِصْرَ أَنْ يُعِينُوهُ بِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَتَخَلَّصَ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ الَّذِينَ انْضَافُوا إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ حَتَّى دَخَلَ بِلَادَهُمْ فِي عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، وَحَمَلَ مَعَهُ الطَّعَامَ وَالْإِدَامَ فِي مَرَاكِبَ سَبْعَةٍ، وَأَمَرَ الَّذِينَ هُمْ بِهَا أَنْ يُلِجِّجُوا بِهَا فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ يُوَافُوهُ بِهَا إِذَا تَوَسَّطَ بِلَادَ الْبُجَةِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى دَخَلَ بِلَادَهُمْ، وَجَاوَزَ مَعَادِنَهُمْ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ مَلِكُ الْبُجَةِ وَاسْمُهُ: عَلِي بَابَا فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ أَضْعَافِ مَنْ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقُمِّيِّ، وَهُمْ قَوْمٌ مُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَجَعَلَ الْمَلِكُ يُطَاوِلُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ لَعَلَّهُ تَنْفَدُ أَزْوَادُهُمْ فَيَأْخُذُونَهُمْ بِالْأَيْدِي، فَلَمَّا نَفِدَ مَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَطَمِعَ فِيهِمُ السُّودَانُ يَسَّرَ اللَّهُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِوُصُولِ تِلْكَ الْمَرَاكِبِ وَفِيهَا مِنَ الطَّعَامِ وَالتَّمْرِ وَالزَّيْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، فَقَسَّمَهُ الْأَمِيرُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَسَبِ حَاجَاتِهِمْ، فَيَئِسَ السُّودَانُ مِنْ هَلَاكِ الْمُسْلِمِينَ جُوعًا، فَشَرَعُوا فِي التَّأَهُّبِ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا يَرْكَبُونَ عَلَى إِبِلٍ شَبِيهَةٍ بِالْهُجُنِ زَعِرَةٍ جِدًّا كَثِيرَةِ النِّفَارِ، لَا تَكَادُ تَرَى شَيْئًا، وَلَا تَسْمَعُ شَيْئًا إِلَّا جَفَلَتْ مِنْهُ. فَلَمَّا كَانَ
يَوْمُ
الْحَرْبِ عَمَدَ الْأَمِيرُ إِلَى جَمِيعِ الْأَجْرَاسِ الَّتِي مَعَهُمْ فِي
الْجَيْشِ فَجَعَلَهَا فِي رِقَابِ الْخَيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْوَقْعَةُ
حَمَلَ الْمُسْلِمُونَ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَهَرَبَ السُّودَانُ فِرَارَ
رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَنَفَرَتْ إِبِلُهُمْ مِنْ أَصْوَاتِ تِلْكَ الْأَجْرَاسِ فِي
كُلِّ وَجْهٍ، وَتَفَرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ
يَقْتُلُونَ مَنْ شَاءُوا، لَا يَمْتَنِعُ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَلَا يَعْلَمُ عَدَدَ
مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ أَصْبَحُوا وَقَدِ
اجْتَمَعُوا رَجَّالَةً، فَكَسَبَهُمُ الْقُمِّيُّ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ
فَقَتَلَ عَامَّةَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَأَخَذَ الْمَلِكَ بِالْأَمَانِ،
وَأَدَّى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحِمْلِ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ أَسِيرًا إِلَى
الْخَلِيفَةِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ،
فَوَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ عَلَى بِلَادِهِ كَمَا كَانَ، وَجَعَلَ إِلَى ابْنِ
الْقُمِّيِّ أَمْرَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَالنَّظَرَ فِي أَمْرِهَا، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الْمَعْرُوفُ بِقَوْصَرَةَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. قُلْتُ: وَهَذَا الرَّجُلُ
كَانَ نَائِبًا عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى
اللَّهِ وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ دَاوُدَ، وَحَجَّ جَعْفَرُ بْنُ دِينَارٍ فِيهَا وَهُوَ وَالِي طَرِيقِ
مَكَّةَ وَأَحْدَاثِ الْمَوْسِمِ.
وَلَمْ
يَتَعَرَّضِ ابْنُ جَرِيرٍ لِوَفَاةِ أَحَدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَجُبَارَةُ بْنُ الْمُغَلِّسِ
الْحِمَّانِيُّ، وَأَبُو تَوْبَةَ الْحَلَبِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ،
سَجَّادَةُ، وَيَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ.
وَلْنَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَفَضَائِلِهِ وَمَنَاقِبِهِ وَمَآثِرِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ
فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ: هُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
حَنْبَلِ بْنِ هِلَالِ بْنِ أَسَدِ بْنِ إِدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَيَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ عَوْفِ بْنِ قَاسِطِ بْنِ مَازِنِ
بْنِ شَيْبَانَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ بْنِ قَاسِطِ
بْنِ
هِنْبِ بْنِ أَفْصَى بْنِ دُعْمِيِّ بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ
بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ بْنِ أُدِّ بْنِ أُدَدِ بْنِ
الْهَمَيْسَعِ بْنِ حَمَلِ بْنِ النَّبْتِ بْنِ قَيْدَارِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ،
ثُمَّ الْمَرْوَزِيُّ، ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ هَكَذَا سَاقَ نَسَبَهُ الْحَافِظُ
الْكَبِيرُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي
جَمَعَهُ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ شَيْخِهِ الْحَافِظِ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمِ صَاحِبِ " الْمُسْتَدْرَكِ ".
وَرَوِيَ عَنْ صَالِحٍ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، قَالَ: رَأَى أَبِي هَذَا
النَّسَبَ فِي كِتَابٍ لِي، فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهَذَا ؟ وَلَمْ يُنْكِرِ
النَّسَبَ. قَالُوا: وَقَدِمَ بِهِ أَبُوهُ مِنْ مَرْوَ وَهُوَ حَمْلٌ،
فَوَضَعَتْهُ أُمُّهُ فِي بِبَغْدَادَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ أَبُوهُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ
سَنَةً، فَكَفَلَتْهُ أُمُّهُ. قَالَ صَالِحٌ، عَنْ أَبِيهِ: فَثَقَبَتْ أُذُنِي
وَجَعَلَتْ فِيهِمَا لُؤْلُؤَتَيْنِ فَلَمَّا كَبِرْتُ دَفَعَتْهُمَا إِلَيَّ
فَبِعْتُهُمَا بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا.
وَتُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَوْمَ الْجُمِعَةِ
الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ فِي حَدَاثَتِهِ يَخْتَلِفُ إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ،
ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْبَلَ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ، فَكَانَ أَوَّلُ
طَلَبِهِ لِلْحَدِيثِ وَأَوَّلُ سَمَاعِهِ مِنْ
مَشَايِخِهِ
فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ سِتَّ عَشْرَةَ
سَنَةً، وَأَوَّلُ حَجَّةٍ حَجَّهَا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ،
ثُمَّ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَتِسْعِينَ. وَفِيهَا حَجَّ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ،
ثُمَّ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ، وَجَاوَرَ إِلَى سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ،
ثُمَّ حَجَّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ، وَجَاوَرَ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ
وَتِسْعِينَ، سَافَرَ إِلَى عِنْدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِالْيَمَنِ، فَكَتَبَ
عَنْهُ هُوَ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَجَجْتُ خَمْسَ حِجَجٍ ; مِنْهَا ثَلَاثٌ رَاجِلًا،
أَنْفَقْتُ فِي إِحْدَى هَذِهِ الْحِجَجِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا. قَالَ: وَقَدْ
ضَلَلْتُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْحِجَجِ، عَنِ الطَّرِيقِ وَأَنَا مَاشٍ، فَجَعَلْتُ
أَقُولُ: يَا عِبَادَ اللَّهِ دَلُّونِي عَلَى الطَّرِيقِ، فَلَمْ أَزَلْ أَقُولُ
ذَلِكَ حَتَّى وَقَفْتُ عَلَى الطَّرِيقِ. قَالَ: وَخَرَجْتُ إِلَى الْكُوفَةِ
فَكُنْتُ فِي بَيْتٍ تَحْتَ رَأْسِي لَبِنَةٌ، وَلَوْ كَانَ عِنْدِي خَمْسُونَ
دِرْهَمًا ; كُنْتُ رَحَلْتُ إِلَى جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ إِلَى الرَّيِّ
وَخَرَجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَلَمْ يُمْكِنِّي الْخُرُوجُ ; لِأَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَرْمَلَةَ: سَمِعْتُ
الشَّافِعِيَّ يَقُولُ:
وَعَدَنِي
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيَّ مِصْرَ فَلَمْ يَقْدَمْ. قَالَ
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ خِفَّةُ ذَاتِ الْيَدِ حَالَتْ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَفَاءِ بِالْعِدَةِ.
وَقَدْ طَافَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْبِلَادِ وَالْآفَاقِ، وَسَمِعَ مِنْ
مَشَايِخِ الْعَصْرِ، وَكَانُوا يُجِلُّونَهُ وَيَحْتَرِمُونَهُ فِي حَالِ
سَمَاعِهِ مِنْهُمْ.
وَقَدْ سَرَدَ شَيْخُنَا فِي " تَهْذِيبِهِ " أَسْمَاءَ شُيُوخِهِ
مُرَتَّبِينَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَكَذَلِكَ الرُّوَاةَ عَنْهُ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ جَمَاعَةً مِنْ
شُيُوخِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: وَقَدْ أَكْثَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي "
الْمُسْنَدِ " وَغَيْرِهِ الرِّوَايَةَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَخَذَ عَنْهُ
جُمْلَةً مِنْ كَلَامِهِ فِي أَنْسَابِ قُرَيْشٍ، وَأَخَذَ عَنْهُ مِنَ الْفِقْهِ
مَا هُوَ مَشْهُورٌ. وَحِينَ تُوُفِّيَ أَحْمَدُ وَجَدُوا فِي تَرِكَتِهِ
رِسَالَتَيِ الشَّافِعِيِّ ; الْقَدِيمَةَ وَالْجَدِيدَةَ.
قُلْتُ: قَدْ أَفْرَدَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الشَّافِعِيِّ، وَهِيَ أَحَادِيثُ لَا تَبْلُغُ عِشْرِينَ حَدِيثًا ; وَمِنْ
أَحْسَنِ مَا رُوِّينَاهُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنِ الْإِمَامِ
الشَّافِعِيِّ، عَنِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ
تَعَلَّقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ
يَبْعَثُهُ.
وَقَدْ
قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَحْمَدَ لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ فِي الرِّحْلَةِ
الثَّانِيَةِ إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ سَنَةِ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَعُمُرُ
أَحْمَدَ إِذْ ذَاكَ نَيِّفٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ، إِذَا صَحَّ عِنْدَكُمُ الْحَدِيثُ فَأَعْلِمْنِي بِهِ ; أَذْهَبُ
إِلَيْهِ حِجَازِيًّا كَانَ أَوْ شَامِيًّا أَوْ عِرَاقِيًّا أَوْ يَمَنِيًّا.
يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِقَوْلِ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ الَّذِينَ لَا
يَقْبَلُونَ إِلَّا رِوَايَةَ الْحِجَازِيِّينَ وَيُنْزِلُونَ أَحَادِيثَ مَنْ
سِوَاهُمْ مَنْزِلَةَ أَحَادِيثِ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ لَهُ
هَذِهِ الْمَقَالَةَ تَعْظِيمٌ لِأَحْمَدَ وَإِجْلَالٌ لَهُ، وَإِنَّهُ عِنْدَهُ
بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ إِذَا صَحَّحَ أَوْ ضَعَّفَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ،
وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ
وَالْعُلَمَاءِ، كَمَا سَيَأْتِي ثَنَاءُ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهِ وَاعْتِرَافُهُمْ
لَهُ بِعُلُوِّ الْمَكَانَةِ وَارْتِفَاعِ الْمَنْزِلَةِ فِي الْعِلْمِ
وَالْحَدِيثِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ بَعُدَ صِيتُهُ فِي زَمَانِهِ
وَاشْتُهِرَ اسْمُهُ فِي شَبِيبَتِهِ فِي الْآفَاقِ.
ثُمَّ حَكَى الْبَيْهَقِيُّ كَلَامَ أَحْمَدَ فِي الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ قَوْلٌ
وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَكَلَامُهُ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ
غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَإِنْكَارُهُ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّ لَفْظَهُ بِالْقُرْآنِ
مَخْلُوقٌ يُرِيدُ بِهِ الْقُرْآنَ. قَالَ: وَفِيمَا حَكَى أَبُو عُمَارَةَ
وَأَبُو جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ شَيْخُنَا السَّرَّاجُ، عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: اللَّفْظُ
مُحْدَثٌ.
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ [ ق: 18 ] قَالَ: فَاللَّفْظُ كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ. وَرَوَى
غَيْرُهُمَا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: الْقُرْآنُ كَيْفَ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ
غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَمَّا أَفْعَالُنَا فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ.
قُلْتُ: وَقَدْ قَرَّرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ،
وَذَكَرَهُ أَيْضًا فِي " الصَّحِيحِ "، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ وَلِهَذَا قَالَ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ: الْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِئِ، وَالصَّوْتُ
صَوْتُ الْقَارِئِ، وَقَدْ قَرَّرَ الْبَيْهَقِيُّ ذَلِكَ أَيْضًا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيِّ،
عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ. فَهُوَ كَافِرٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الْحَسَنِ الْمَيْمُونِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ أَجَابَ
الْجَهْمِيَّةَ حِينَ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مَا يَأْتِيهِمْ
مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [
الْأَنْبِيَاءِ: 2 ] قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلُهُ إِلَيْنَا هُوَ
الْمُحْدَثَ، لَا الذِّكْرُ نَفْسُهُ هُوَ الْمُحْدَثُ.
وَعَنْ
حَنْبَلٍ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرًا آخَرَ
غَيْرَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَوْ وَعْظُهُ إِيَّاهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ كَلَامَ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ،
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ صُهَيْبٍ فِي الرُّؤْيَةِ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ، وَكَلَامُهُ
فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَتَرْكِ الْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ وَالتَّمَسُّكِ بِمَا
وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ
الْحَاكِمِ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ السَّمَّاكِ، عَنْ حَنْبَلٍ، أَنَّ أَحْمَدَ
بْنَ حَنْبَلٍ تَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى وَجَاءَ رَبُّكَ [ الْفَجْرِ: 22
] أَنَّهُ جَاءَ ثَوَابُهُ. ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا
غُبَارَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، ثَنَا
عَاصِمٌ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا رَآهُ
الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْهُ سَيِّئًا
فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ سَيِّئٌ. وَقَدْ رَأَى الصَّحَابَةُ جَمِيعًا أَنْ
يَسْتَخْلِفُوا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. قُلْتُ:
وَهَذَا الْأَثَرُ فِيهِ حِكَايَةُ إِجْمَاعٍ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي تَقْدِيمِ
الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْأَئِمَّةِ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حِينَ
اجْتَازَ
بِحِمْصَ، وَقَدْ حُمِلَ إِلَى الْمَأْمُونِ فِي زَمَنِ الْمِحْنَةِ، وَدَخَلَ
عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْحِمْصِيُّ، فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي
الْخِلَافَةِ ؟ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ
عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ، وَمَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى
بِأَصْحَابِ الشُّورَى ; لِأَنَّهُمْ قَدَّمُوا عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ فِي وَرَعِهِ وَتَقَشُّفِهِ وَزُهْدِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ
رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْمُزَنِيِّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ
قَالَ لِلرَّشِيدِ: إِنَّ الْيَمَنَ تَحْتَاجُ إِلَى قَاضٍ، فَقَالَ لَهُ: اخْتَرْ
رَجُلًا نُوَلِّهِ إِيَّاهَا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
وَهُوَ يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ فِي جُمْلَةِ مَنْ يَأْخُذُ عَنْهُ: أَلَا تَقْبَلُ
قَضَاءَ الْيَمَنِ. فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعًا شَدِيدًا، وَقَالَ:
إِنِّي إِنَّمَا أَخْتَلِفُ إِلَيْكَ لِأَجْلِ الْعِلْمِ الْمُزَهِّدِ فِي
الدُّنْيَا، أَفَتَأْمُرُنِي أَنْ أَلِيَ الْقَضَاءَ ؟ وَلَوْلَا الْعِلْمُ لَمَا
أُكَلِّمُكَ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَاسْتَحْيَى الشَّافِعِيُّ مِنْهُ.
وَرَوِيَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي خَلْفَ عَمِّهِ إِسْحَاقَ بْنِ حَنْبَلٍ
وَلَا خَلْفَ بَنِيهِ، وَلَا يُكَلِّمُهُمْ أَيْضًا ; لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا
جَائِزَةَ السُّلْطَانِ.
وَمَكَثَ
مَرَّةً ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَجِدُ مَا يَأْكُلُهُ حَتَّى بَعَثَ إِلَى بَعْضِ
أَصْحَابِهِ فَاسْتَقْرَضَ مِنْهُ دَقِيقًا، فَعَرَفَ أَهْلُهُ حَاجَتَهُ إِلَى
الطَّعَامِ فَعَجَّلُوا وَعَجَنُوا وَخَبَزُوا لَهُ سَرِيعًا، فَقَالَ: مَا هَذِهِ
الْعَجَلَةُ ! كَيْفَ خَبَزْتُمْ سَرِيعًا ؟ فَقَالُوا: وَجَدْنَا تَنُّورَ بَيْتِ
صَالِحٍ مَسْجُورًا فَخَبَزْنَا لَكَ فِيهِ. فَقَالَ: ارْفَعُوا. وَلَمْ يَأْكُلْ،
وَأَمَرَ بِسَدِّ بَابِهِ إِلَى دَارِ صَالِحٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لِأَنَّ
صَالِحًا أَخَذَ جَائِزَةَ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَكَثَ أَبِي بِالْعَسْكَرِ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ سِتَّةَ
عَشَرَ يَوْمًا لَمْ يَأْكُلْ فِيهَا إِلَّا رُبُعَ مُدٍّ سَوِيقًا، يُفْطِرُ
بَعْدَ كُلِّ ثَلَاثِ لَيَالٍ عَلَى سَفَّةٍ مِنْهُ حَتَّى رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ،
وَلَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ إِلَّا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَقَدْ
رَأَيْتُ مُوقَيْهِ دَخَلَتَا فِي حَدَقَتَيْهِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ كَانَ الْخَلِيفَةُ يَبْعَثُ لِمَائِدَتِهِ شَيْئًا
كَثِيرًا، وَكَانَ أَحْمَدُ لَا يَتَنَاوَلُ مِنْ طَعَامِهِ شَيْئًا.
وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ الْمَأْمُونُ مَرَّةً ذَهَبَا ; لِيُقَسَّمَ عَلَى
أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَخَذَ، إِلَّا
أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَإِنَّهُ أَبَى.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ الشَّاذَكُونِيُّ: حَضَرْتُ أَحْمَدَ وَقَدْ رَهَنَ سَطْلًا
لَهُ عِنْدَ فَامِيٍّ بِالْيَمَنِ، فَلَمَّا جَاءَهُ بِفِكَاكِهِ أَخْرَجَ
إِلَيْهِ سَطْلَيْنِ فَقَالَ: خُذْ مَتَاعَكَ. فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ
أَيُّهُمَا
الَّذِي لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْهُ وَمِنَ الْفِكَاكِ،
وَتَرَكَهُ.
وَحَكَى عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا فِي زَمَنِ الْوَاثِقِ فِي ضِيقٍ شَدِيدٍ،
فَكَتَبَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي: إِنَّ عِنْدِي أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ
وَرِثْتُهَا مِنْ أَبِي وَلَيْسَتْ صَدَقَةً وَلَا زَكَاةً فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ
تَقْبَلَهَا مِنِّي. فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَكَرَّرَ عَلَيْهِ فَأَبَى،
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ حِينِ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ كُنَّا قَبِلْنَاهَا
كَانَتْ قَدْ ذَهَبَتْ.
وَعَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ التُّجَّارِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ رِبْحًا مِنْ
بِضَاعَةٍ جَعَلَهَا بِاسْمِهِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: نَحْنُ فِي
كِفَايَةٍ، وَجَزَاكَ اللَّهُ عَنْ قَصْدِكَ خَيْرًا، وَعَرَضَ عَلَيْهِ تَاجِرٌ
آخَرُ ثَلَاثَةً آلَافِ دِينَارٍ فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا وَقَامَ وَتَرَكَهُ.
وَنَفَدَتْ نَفَقَةُ أَحْمَدَ وَهُوَ فِي الْيَمَنِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ شَيْخُهُ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِلْءَ كَفِّهِ دَنَانِيرَ، فَقَالَ: نَحْنُ فِي كِفَايَةٍ
وَلَمْ يَقْبَلْهَا. وَسُرِقَتْ ثِيَابُهُ وَهُوَ بِالْيَمَنِ فَجَلَسَ فِي
بَيْتِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ الْبَابَ، فَافْتَقَدَهُ أَصْحَابُهُ فَجَاءُوا
إِلَيْهِ فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ ذَهَبًا فَلَمْ
يَقْبَلْهُ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمْ إِلَّا دِينَارًا وَاحِدًا ; لِيَكْتُبَ
لَهُمْ بِهِ فَكَتَبَ لَهُمْ بِالْأَجْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَانَتْ مَجَالِسُ أَحْمَدَ مَجَالِسَ الْآخِرَةِ، لَا
يُذْكَرُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَمَا رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ
حَنْبَلٍ ذَكَرَ الدُّنْيَا قَطُّ.
وَرَوَى
الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنِ التَّوَكُّلِ فَقَالَ: هُوَ قَطْعُ
الِاسْتِشْرَافِ بِالْيَأْسِ مِنَ النَّاسِ. فَقِيلَ لَهُ: هَلْ مِنْ حُجَّةٍ
عَلَى هَذَا ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ
فِي الْمِنْجَنِيقِ عَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ ؟ قَالَ:
أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. قَالَ: فَسَلْ مَنْ لَكَ إِلَيْهِ حَاجَةٌ. فَقَالَ:
أَحَبُّ الْأَمْرَيْنِ إِلَيَّ أَحَبُّهُمَا إِلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الصِّفَارِ قَالَ: كُنَّا مَعَ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، فَقُلْنَا: ادْعُ اللَّهَ لَنَا،
فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَا نَعْلَمُ أَنَّكَ لَنَا عَلَى
أَكْثَرَ مِمَّا نُحِبُّ فَاجْعَلْنَا عَلَى مَا تُحِبُّ. ثُمَّ سَكَتَ.
فَقُلْنَا: زِدْنَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِالْقُدْرَةِ الَّتِي
قُلْتَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا
أَتَيْنَا طَائِعِينَ [ فُصِّلَتْ: 11 ] اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَرْضَاتِكَ،
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ إِلَّا إِلَيْكَ، وَنَعُوذُ بِكَ
مِنَ الذُّلِّ إِلَّا لَكَ، اللَّهُمَّ لَا تُكْثِرْ لَنَا فَنَطْغَى، وَلَا
تُقِلَّ عَلَيْنَا فَنَنْسَى، وَهَبْ لَنَا مَنْ رَحِمَتِكَ وَسَعَةِ رِزْقِكَ مَا
يَكُونُ بَلَاغًا لَنَا فِي دُنْيَانَا، وَغِنًى مِنْ فَضْلِكَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِي حِكَايَةِ أَبِي الْفَضْلِ التَّمِيمِيِّ عَنْ أَحْمَدَ:
وَكَانَ دُعَاؤُهُ فِي السُّجُودِ: اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ
عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ فَرُدَّهُ إِلَى
الْحَقِّ لِيَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ. وَكَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ
قَبِلْتَ مِنْ عُصَاةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِدَاءً فَاجْعَلْنِي فِدَاءً لَهُمْ. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: كَانَ أَبِي
لَا يَدَعُ
أَحَدًا
يَسْتَقِي لَهُ الْمَاءَ لِلْوُضُوءِ، بَلْ كَانَ يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ،
فَإِذَا خَرَجَ الدَّلْوُ مَلْآنَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَقُلْتُ: يَا
أَبَهْ، مَا الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَمَا سَمِعْتَ
قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا
فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [ الْمُلْكِ: 30 ] وَالْأَخْبَارُ عَنْهُ فِي
هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَدْ صَنَّفَ فِي الزُّهْدِ كِتَابًا حَافِلًا عَظِيمًا لَمْ يُسْبَقْ إِلَى
مِثْلِهِ، وَلَمْ يَلْحَقْهُ أَحَدٌ فِيهِ. وَالْمَظْنُونُ بَلِ الْمَقْطُوعُ بِهِ
أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ بِمَا أَمْكَنَهُ مِنْ ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مُنْقَلَبَهُ وَمَأْوَاهُ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ: قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي الْحَارِثَ الْمُحَاسِبِيَّ إِذَا جَاءَ
مَنْزِلَكَ ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَفَرِحْتُ بِذَلِكَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى
الْحَارِثِ فَقُلْتُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَ اللَّيْلَةَ أَنْتَ
وَأَصْحَابُكَ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَثِيرٌ فَأَحْضِرْ لَهُمُ التَّمْرَ
وَالْكُسْبَ. فَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ جَاءُوا، وَكَانَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ قَدْ سَبَقَهُمْ فَجَلَسَ فِي غُرْفَةٍ بِحَيْثُ يَرَاهُمْ وَيَسْمَعُ
كَلَامَهُمْ، وَلَا يَرَوْنَهُ فَلَمَّا صَلَّوُا الْعِشَاءَ لَمْ يُصَلُّوا
بَعْدَهَا شَيْئًا، حَتَّى جَاءُوا فَجَلَسُوا بَيْنَ يَدَيِ الْحَارِثِ سُكُوتًا
كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ، حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ
اللَّيْلِ، ثُمَّ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَشَرَعَ الْحَارِثُ
يَتَكَلَّمُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالزُّهْدِ وَالْوَعْظِ فَجَعَلَ هَذَا يَبْكِي،
وَهَذَا يَئِنُّ، وَهَذَا يَزْعَقُ، قَالَ: فَصَعِدْتُ إِلَى الْغُرْفَةِ، فَإِذَا
بِالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَبْكِي حَتَّى كَادَ يُغْشَى عَلَيْهِ،
ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى الصَّبَاحِ،
فَلَمَّا
أَرَادُوا الِانْصِرَافَ قُلْتُ: كَيْفَ رَأَيْتَ هَؤُلَاءِ يَا أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ ؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَتَكَلَّمُ فِي الزُّهْدِ مِثْلَ هَذَا
الرَّجُلِ، وَمَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَؤُلَاءِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا أَرَى لَكَ أَنْ
تَجْتَمِعَ بِهِمْ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَرِهَ لَهُ صُحْبَتَهُمْ ; لِأَنَّ
الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ وَإِنْ كَانَ زَاهِدًا لَكِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ
مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَكَانَ أَحْمَدُ يَكْرَهُ ذَلِكَ، أَوْ كَرِهَ لَهُ
صُحْبَتَهُمْ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا يُطِيقُ سُلُوكَ طَرِيقَتِهِمْ وَمَا هُمْ
عَلَيْهِ مِنَ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ. قُلْتُ: بَلْ إِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ ;
لِأَنَّ فِي كَلَامِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ مِنَ التَّقَشُّفِ الَّذِي لَمْ يَرِدْ بِهِ
الشَّرْعُ، وَالتَّدْقِيقُ وَالتَّنْقِيرُ وَالْمُحَاسَبَةُ الْبَلِيغَةُ مَا لَمْ
يَأْتِ بِهِ أَمْرٌ ; وَلِهَذَا لَمَّا وَقَفَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ عَلَى
كِتَابِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ الْمُسَمَّى " بِالرِّعَايَةِ " قَالَ:
هَذَا بِدْعَةٌ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي جَاءَهُ بِهِ: عَلَيْكَ بِمَا
كَانَ عَلَيْهِ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ، وَدَعْ هَذَا فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ:
إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يَدُومَ اللَّهُ لَكَ عَلَى مَا تُحِبُّ فَدُمْ لَهُ عَلَى
مَا يُحِبُّ. وَكَانَ يَقُولُ: الصَّبْرُ عَلَى الْفَقْرِ مَرْتَبَةٌ لَا
يَنَالُهَا إِلَّا الْأَكَابِرُ. وَكَانَ يَقُولُ: الْفَقْرُ أَشْرَفُ مِنَ
الْغِنَى، فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مَرَارَةً، وَانْزِعَاجَهُ
أَعْظَمُ حَالًا مِنَ الشُّكْرِ. وَقَالَ: لَا أَعْدِلُ بِفَضْلِ الْفَقْرِ
شَيْئًا. وَكَانَ يَقُولُ: عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَقْبَلَ الرِّزْقَ بَعْدَ
الْيَأْسِ، وَلَا يَقْبَلَهُ إِذَا تَقَدَّمَهُ طَمَعٌ أَوِ اسْتِشْرَافٌ. وَكَانَ
يُحِبُّ التَّقَلُّلَ طَلَبًا لِخِفَّةِ الْحِسَابِ.
وَقَالَ
إِبْرَاهِيمُ: قَالَ رَجُلٌ لِأَحْمَدَ: هَذَا الْعِلْمُ تَعَلَّمْتَهُ لِلَّهِ ؟
فَقَالَ: هَذَا شَرْطٌ شَدِيدٌ، وَلَكِنْ حُبِّبَ إِلَيَّ شَيْءٌ فَجَمَعْتُهُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَقَالَ:
إِنَّ أُمِّي زَمِنَةٌ مُقْعَدَةٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَقَدْ بَعَثَتْنِي
إِلَيْكَ لِتَدْعُوَ اللَّهَ لَهَا، فَكَأَنَّهُ غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ:
نَحْنُ أَحْوَجُ أَنْ تَدْعُوَ هِيَ لَنَا. ثُمَّ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
لَهَا. فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى أُمِّهِ فَدَقَّ الْبَابَ فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ
عَلَى رِجْلَيْهَا، وَقَالَتْ قَدْ وَهَبَنِي اللَّهُ الْعَافِيَةَ.
وَرَوِيَ أَنْ سَائِلًا سَأَلَ فَأَعْطَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قِطْعَةً، فَقَامَ
رَجُلٌ إِلَى السَّائِلِ فَقَالَ: هَبْنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ حَتَّى أُعْطِيَكَ
عِوَضَهَا، مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا فَأَبَى فَرَقَّاهُ إِلَى خَمْسِينَ وَهُوَ
يَأْبَى، فَقَالَ: إِنِّي أَرْجُو مَنْ بَرَكَتِهَا مَا تَرْجُوهُ أَنْتَ مَنْ
بَرَكَتِهَا.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
بَابُ ذِكْرِ مَا جَاءَ فِي مِحْنَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فِي أَيَّامِ الْمَأْمُونِ ثُمَّ الْمُعْتَصِمِ، ثُمَّ الْوَاثِقِ بِسَبَبِ
الْقُرْآنِ، وَمَا أَصَابَهُ مِنَ الْحَبْسِ الطَّوِيلِ وَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ،
وَالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ بِسُوءِ الْعَذَابِ وَأَلِيمِ الْعِقَابِ وَقِلَّةِ
مُبَالَاتِهِ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَصَبْرِهِ عَلَيْهِ،
وَتَمَسُّكِهِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ
الْمُسْتَقِيمِ.
وَكَانَ
أَحْمَدُ عَالِمًا بِمَا وَرَدَ بِمِثْلِ حَالِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ
وَالْآثَارِ الْمَأْثُورَةِ، وَبَلَغَهُ مَا أُوصِيَ بِهِ فِي الْمَنَامِ
وَالْيَقَظَةِ، فَرَضِيَ وَسَلَّمَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَفَازَ بِخَيْرِ
الدُّنْيَا وَنَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَهَيَّأَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ مِنْ ذَلِكَ
لِبُلُوغِ أَعْلَى مَنَازِلِ أَهْلِ الْبَلَاءِ فِي اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ
اللَّهِ، وَأَلْحَقَ بِهِ مُحِبِّيهِ فِيمَا نَالَ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ
تَعَالَى، إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ بَلِيَّةٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ
وَالْعِصْمَةُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا
آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [
الْعَنْكَبُوتِ: 1 - 3 ] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ
لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [
لُقْمَانَ: 17 ] فِي آيٍ سِوَاهَا فِي مَعْنَى مَا كَتَبْنَا.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْمُمْتَحَنَ فِي مُسْنَدِهِ قَائِلًا فِيهِ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ
بَهْدَلَةَ، سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ، يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ قَالَ:سَأَلْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ
بَلَاءً ؟ فَقَالَ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، ثُمَّ
يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ رَقِيقَ الدِّينِ
ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ صُلْبَ الدِّينِ ابْتُلِيَ عَلَى
حَسَبِ ذَلِكَ، وَمَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالرَّجُلِ حَتَّى يَمْشِيَ فِي
الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي
قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:ثَلَاثَةٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَقَدْ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ ; مَنْ
كَانَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ
الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبُّ
إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ
مِنْهُ وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، ثَنَا
أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو السَّكْسَكِيُّ، ثَنَا عَمْرُو
بْنُ قَيْسٍ السَّكُونِيُّ، ثَنَا عَاصِمُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاذَ
بْنَ جَبَلٍ يَقُولُ: إِنَّكُمْ لَمْ تَرَوْا إِلَّا بَلَاءً وَفِتْنَةً، وَلَنْ
يَزْدَادَ الْأَمْرُ إِلَّا شَدَّةً، وَلَا الْأَنْفُسُ إِلَّا شُحًّا. وَبِهِ،
قَالَ مُعَاذٌ: " لَنْ تَرَوْا مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَّا غِلْظَةً وَلَنْ
تَرَوْا أَمْرًا يَهُولُكُمْ وَيَشْتَدُّ عَلَيْكُمْ إِلَّا حَضَرَ بَعْدَهُ مَا
هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ ". قَالَ الْبَغَوِيُّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ رَضِينَا. يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: بَعَثَنِي الشَّافِعِيُّ
بِكِتَابٍ مِنْ مِصْرَ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَأَتَيْتُهُ وَقَدِ
انْفَتَلَ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ الْكِتَابَ فَقَالَ:
أَقَرَأْتَهُ ؟ فَقُلْتُ: لَا. فَأَخَذَهُ فَقَرَأَهُ فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ،
فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَمَا فِيهِ ؟ فَقَالَ: يَذْكُرُ أَنَّهُ
رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ
لَهُ: " اكْتُبْ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
وَاقْرَأْ عَلَيْهِ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ سَتُمْتَحَنُ،
وَتُدْعَى إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَلَا تُجِبْهُمْ، يَرْفَعُ
اللَّهُ لَكَ عَلَمًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ الرَّبِيعُ: فَقُلْتُ:
حَلَاوَةُ الْبِشَارَةِ. فَخَلَعَ قَمِيصَةُ الَّذِي يَلِي جِلْدَهُ
فَأَعْطَانِيهِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى الشَّافِعِيِّ أَخْبَرْتُهُ فَقَالَ:
إِنِّي لَسْتُ أَفْجَعُكَ فِيهِ، وَلَكِنْ بُلَّهُ بِالْمَاءِ وَأَعْطِنِيهِ
حَتَّى أَتَبَرَّكَ بِهِ.
ذِكْرُ
مُلَخَّصِ الْفِتْنَةِ وَالْمِحْنَةِ مَجْمُوعًا مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ
السُّنَّةِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَأَثَابَهُمُ الْجَنَّةَ
قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَأْمُونَ كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ بِهِ
وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَأَزَاغُوهُ عَنْ
طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَزَيَّنُوا لَهُ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ،
وَنَفْيِ الصِّفَاتِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ فِي الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ لَا
مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَلَا مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ خَلِيفَةٌ إِلَّا عَلَى
مَنْهَجِ السَّلَفِ، حَتَّى وَلِيَ هُوَ الْخِلَافَةَ، فَاجْتَمَعَ بِهِ هَؤُلَاءِ
فَحَمَلُوهُ عَلَى ذَلِكَ. قَالُوا: وَاتَّفَقَ خُرُوجُهُ إِلَى طَرَسُوسَ
لِغَزْوِ بِلَادِ الرُّومِ فَعَنَّ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى نَائِبِ بَغْدَادَ
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى
الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَاتَّفَقَ ذَلِكَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ قَبْلَ
مَوْتِهِ بِشُهُورٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ.
فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ كَمَا ذَكَرْنَا اسْتَدْعَى جَمَاعَةً مِنْ أَئِمَّةِ
الْحَدِيثِ فَدَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ فَامْتَنَعُوا، فَتَهَدَّدَهُمْ بِالضَّرْبِ،
وَقَطْعِ الْأَرْزَاقِ، فَأَجَابَ أَكْثَرُهُمْ مُكْرَهِينَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى
الِامْتِنَاعِ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
نُوحٍ
الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ،
فَحُمِلَا عَلَى بَعِيرٍ، وَسَيَّرَهُمَا إِلَى الْخَلِيفَةِ عَنْ أَمْرِهِ
بِذَلِكَ، وَهُمَا مُقَيَّدَانِ مُتَعَادِلَانِ فِي مَحْمَلٍ عَلَى بَعِيرٍ
وَاحِدٍ، فَلَمَّا كَانُوا بِبِلَادِ الرَّحْبَةِ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ
مِنْ عُبَّادِهِمْ يُقَالُ لَهُ: جَابِرُ بْنُ عَامِرٍ. فَسَلَّمَ عَلَى
الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا، إِنَّكَ وَافِدُ النَّاسِ، فَلَا
تَكُنْ مَشْئُومًا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّكَ رَأْسُ النَّاسِ الْيَوْمَ، فَإِيَّاكَ
أَنْ تُجِيبَ فَيُجِيبُوا، وَإِنْ كُنْتَ تُحِبُّ اللَّهَ فَاصْبِرْ عَلَى مَا
أَنْتَ فِيهِ فَإِنَّ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ تُقْتَلَ،
وَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُقْتَلْ تَمُتْ، وَإِنْ عِشْتَ عِشْتَ حَمِيدًا. قَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: فَكَانَ ذَلِكَ مَا قَوَّى عَزْمِي عَلَى مَا أَنَا فِيهِ
مِنَ الِامْتِنَاعِ مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْ جَيْشِ الْمَأْمُونِ
وَنَزَلُوا دُونَهُ بِمَرْحَلَةٍ جَاءَ خَادِمٌ، وَهُوَ يَمْسَحُ دُمُوعَهُ
بِطَرَفِ ثِيَابِهِ وَهُوَ يَقُولُ: يَعِزُّ عَلَيَّ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
أَنُّ الْمَأْمُونُ قَدْ سَلَّ سَيْفًا لَمْ يَسُلَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَبَسَطَ
نِطْعًا لَمْ يَبْسُطْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُقْسِمُ بِقَرَابَتِهِ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ لَمْ تُجِبْهُ إِلَى
الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ لَيَقْتُلَنَّكَ بِذَلِكَ السَّيْفِ. قَالَ:
فَجَثَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَرَمَقَ بِطَرْفِهِ إِلَى
السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: سَيِّدِي غَرَّ حِلْمُكَ هَذَا الْفَاجِرَ حَتَّى
يَتَجَبَّرَ عَلَى أَوْلِيَائِكَ بِالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، اللَّهُمَّ فَإِنْ
يَكُنِ الْقُرْآنُ كَلَامُكَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَاكْفِنَا مُؤْنَتَهُ. قَالَ:
فَجَاءَهُمُ الصَّرِيخُ بِمَوْتِ الْمَأْمُونِ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ
اللَّيْلِ.
قَالَ أَحْمَدُ: فَفَرِحْتُ بِذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ
الْمُعْتَصِمَ قَدْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ، وَقَدِ انْضَمَّ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ
أَبِي دُؤَادٍ، وَأَنَّ الْأَمْرَ شَدِيدٌ، فَرَدُّونَا إِلَى بَغْدَادَ فِي
سَفِينَةٍ مَعَ
بَعْضِ
الْأُسَارَى، وَنَالَنِي مَعَهُمْ أَذًى كَثِيرٌ، وَكَانَ فِي رِجْلَيْهِ
الْقُيُودُ، وَمَاتَ صَاحِبُهُ مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ فِي الطَّرِيقِ وَصَلَّى
عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَلَمَّا رَجَعَ أَحْمَدُ إِلَى بَغْدَادَ دَخَلَهَا وَهُوَ
مَرِيضٌ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَأُودِعَ السِّجْنَ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِيَةٍ
وَعِشْرِينَ شَهْرًا. وَقِيلَ: نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ شَهْرًا. ثُمَّ أُخْرِجَ
إِلَى الضَّرْبِ بَيْنَ يَدِيِ الْمُعْتَصِمِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ. وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي بِأَهْلِ السِّجْنِ وَعَلَيْهِ قُيُودٌ فِي رِجْلَيْهِ.
ذِكْرُ ضَرْبِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَيْنَ يَدِيِ الْمُعْتَصِمِ
لَمَّا أَحْضَرَهُ الْمُعْتَصِمُ مِنَ السِّجْنِ زِيدَ فِي قُيُودِهِ، قَالَ
أَحْمَدُ: فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَمْشِيَ بِهَا فَرَبَطْتُهَا فِي التِّكَّةِ
وَحَمَلْتُهَا بِيَدِي، ثُمَّ جَاءُونِي بِدَابَّةٍ فَحُمِلْتُ عَلَيْهَا فَكِدْتُ
أَنْ أَسْقُطَ عَلَى وَجْهِي مِنْ ثِقَلِ الْقُيُودِ، وَلَيْسَ مَعِي أَحَدٌ
يُمْسِكُنِي، فَسَلَّمَ اللَّهُ حَتَّى جِئْنَا دَارَ الْخِلَافَةِ فَأُدْخِلْتُ
فِي بَيْتٍ، وَأُغْلِقَ عَلَيَّ، وَلَيْسَ عِنْدِي سِرَاجٌ فَأَرَدْتُ الْوُضُوءَ
فَمَدَدْتُ يَدِي فَإِذَا إِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ فَتَوَضَّأْتُ مِنْهُ، ثُمَّ قُمْتُ
أَصْلِي، وَلَا أَعْرِفُ الْقِبْلَةَ فَلَمَّا أَصْبَحْتُ إِذَا أَنَا عَلَى
الْقِبْلَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ: ثُمَّ دُعِيتُ فَأُدْخِلْتُ عَلَى الْمُعْتَصِمِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ، وَعِنْدَهُ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ حَدَثُ السِّنِّ، وَهَذَا شَيْخٌ مُكْتَهِلٌ ؟ فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ وَسَلَّمْتُ قَالَ لِيَ: ادْنُهْ. فَلَمْ يَزَلْ يُدْنِينِي حَتَّى قَرُبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: اجْلِسْ. فَجَلَسْتُ وَقَدْ أَثْقَلَنِي الْحَدِيدُ، فَمَكَثْتُ سَاعَةً، ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَامَ دَعَا إِلَيْهِ ابْنُ عَمِّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ: إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قُلْتُ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: ثُمَّ ذَكَرْتُ لَهُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، ثُمَّ قُلْتُ: فَهَذَا الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ بِكَلَامٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، وَذَلِكَ لِأَنِّي لَمْ أَتَفَقَّهْ كَلَامَهُ، ثُمَّ قَالَ الْمُعْتَصِمُ: لَوْلَا أَنَّكَ كُنْتَ فِي يَدِ مَنْ كَانَ قَبْلِي لَمْ أَتَعَرَّضْ إِلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أَلَمْ آمُرْكَ أَنْ تَرْفَعَ الْمِحْنَةَ ؟ قَالَ أَحْمَدُ: فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا فَرَجٌ لِلْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ قَالَ: نَاظِرُوهُ، يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ كَلِّمْهُ. فَقَالَ لِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقَالَ الْمُعْتَصِمُ: أَجِبْهُ. فَقُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي الْعِلْمِ ؟ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: الْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ. فَسَكَتَ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَفَّرَكَ وَكَفَّرَنَا. فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَانَ اللَّهُ وَلَا قُرْآنَ ؟ فَقُلْتُ: كَانَ اللَّهُ وَلَا
عِلْمَ
؟ فَسَكَتَ. فَجَعَلُوا يَتَكَلَّمُونَ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَقُلْتُ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَعْطُونِي شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ سُنَّةِ
رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى أَقُولَ بِهِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: وَأَنْتَ لَا
تَقُولُ إِلَّا بِهَذَا وَهَذَا ؟ فَقُلْتُ: وَهَلْ يَقُومُ الْإِسْلَامُ إِلَّا
بِهِمَا ؟
وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا مُنَاظَرَاتٌ طَوِيلَةٌ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [ الْأَنْبِيَاءِ: 2 ]
وَعَنْهُ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ بِحَدَثِ إِنْزَالِهِ، أَوْ ذِكْرٌ غَيْرُ
الْقُرْآنِ مُحْدَثٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَرَشَّحَ هَذَا بُقُولِهِ ص وَالْقُرْآنِ
ذِي الذِّكْرِ [ ص: 1 ] يَعْنِي بِهِ الْقُرْآنَ بِخِلَافِ الذِّكْرِ فَإِنَّهُ
غَيْرُ الْقُرْآنِ. وَبِقَوْلِهِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [ الرَّعْدِ: 16 ]
وَأَجَابَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [ الْأَحْقَافِ: 25 ] فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: هُوَ
وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ضَالٌّ مُضِلٌّ مُبْتَدِعٌ، وَهَؤُلَاءِ
قُضَاتُكَ وَالْفُقَهَاءُ فَسَلْهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِيهِ:
فَأَجَابُوا بِمِثْلِ مَا قَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ، ثُمَّ أَحْضَرُوهُ فِي
الْيَوْمِ الثَّانِي فَنَاظَرُوهُ أَيْضًا، ثُمَّ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ
فَنَاظَرُوهُ أَيْضًا، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَعْلُو صَوْتُهُ عَلَيْهِمْ،
وَتَغْلِبُ حُجَّتُهُ حُجَجَهُمْ. قَالَ: فَإِذَا سَكَتُوا فَتَحَ الْكَلَامَ
عَلَيْهِمُ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ، وَكَانَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالْعِلْمِ
وَالْكَلَامِ،
وَقَدْ تَنَوَّعَتْ بِهِمُ الْمَسَائِلُ فِي الْمُجَادَلَةِ، وَلَا عِلْمَ لَهُمْ
بِالنَّقْلِ، فَجَعَلُوا يُنْكِرُونَ الْآثَارَ، وَيَرُدُّونَ الِاحْتِجَاجَ
بِهَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: سَمِعْتُ مِنْهُمْ مَقَالَاتٍ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّ
أَحَدًا يَقُولُهَا، وَقَدْ تَكَلَّمَ مَعِي بُرْغُوثٌ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ ذَكَرَ
فِيهِ الْجِسْمَ وَغَيْرَهُ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي مَا
تَقُولُ إِلَّا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ، فَسَكَتَ عَنِّي.
وَقَدْ أَوْرَدْتُ لَهُمْ حَدِيثَ الرُّؤْيَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ
فَحَاوَلُوا أَنْ يُضَعِّفُوا إِسْنَادَهُ، وَيُلَفِّقُوا عَنْ بَعْضِ
الْمُحَدِّثِينَ كَلَامًا يَتَسَلَّقُونَ بِهِ إِلَى الطَّعْنِ فِيهِ، وَهَيْهَاتَ
وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [ سَبَأٍ: 52 ] وَفِي غُبُونِ
ذَلِكَ كُلِّهِ يَتَلَطَّفُ بِهِ الْخَلِيفَةُ، وَيَقُولُ: يَا أَحْمَدُ،
أَجِبْنِي إِلَى هَذَا حَتَّى أَجْعَلَكَ مِنْ خَاصَّتِي، وَمِمَّنْ يَطَأُ
بِسَاطِي. فَأَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، يَأْتُونِي بِآيَةٍ مِنْ
كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى أُجِيبَهُمْ إِلَيْهَا.
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِمْ حِينَ أَنْكَرُوا الِاحْتِجَاجَ بِالْآثَارِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا
لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [ مَرْيَمَ: 42 ]
وَبُقُولِهِ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [ النِّسَاءِ: 164 ]
وَبِقَوْلِهِ:
إِنَّنِي
أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [ طه: 14 ]، وَبِقَوْلِهِ:
أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [ الْأَعْرَافِ: 54 ] وَبِقَوْلِهِ إِنَّمَا
قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [
النَّحْلِ: 40 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ لَهُمْ
مَعَهُ حُجَّةٌ عَدَلُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ جَاهِ الْخَلِيفَةِ فِي ذَلِكَ،
فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا كَافِرٌ ضَالٌّ مُضِلٌّ. وَقَالَ
لَهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ نَائِبُ بَغْدَادَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
لَيْسَ مِنْ تَدْبِيرِ الْخِلَافَةِ أَنْ تُخَلِّيَ سَبِيلَهُ وَيَغْلِبَ
خَلِيفَتَيْنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ حَمِيَ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، وَكَانَ أَلْيَنَهُمْ
عَرِيكَةً، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ. قَالَ أَحْمَدُ: فَعِنْدَ
ذَلِكَ قَالَ لِي: لَعَنَكَ اللَّهُ، طَمِعْتُ فِيكَ أَنْ تُجِيبَنِي فَلَمْ
تَجْبُنِي. ثُمَّ قَالَ: خُذُوهُ وَاخْلَعُوهُ وَاسْحَبُوهُ.
قَالَ أَحْمَدُ: فَأُخِذْتُ وَسُحِبْتُ وَخُلِعْتُ وَجِيءَ بِالْعُقَابَيْنِ
وَالسِّيَاطِ، وَأَنَا أَنْظُرُ، وَكَانَ مَعِي شَعْرٌ مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَصْرُورٌ فِي ثَوْبِي فَجَرَّدُونِي مِنْهُ،
وَصِرْتُ بَيْنَ الْعُقَابَيْنِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهَ
اللَّهَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:لَا
يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَّا
بِإِحْدَى ثَلَاثٍ.. وَتَلَوْتُ الْحَدِيثَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى
يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي
دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
فَبِمَ
تَسْتَحِلُّ دَمِي، وَلَمْ آتِ شَيْئًا مِنْ هَذَا، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
اذْكُرْ وُقُوفَكَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ كَوُقُوفِي بَيْنَ يَدَيْكَ. فَكَأَنَّهُ
أَمْسَكَ، ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا يَقُولُونَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
إِنَّهُ ضَالٌّ مُضِلٌّ كَافِرٌ. فَأَمَرَ بِي فَأُقِمْتُ بَيْنَ الْعُقَابَيْنِ،
وَجِيءَ بِكُرْسِيٍّ فَأُقِمْتُ عَلَيْهِ، وَأَمَرَنِي بَعْضُهُمْ أَنْ آخُذَ
بِيَدِي بِأَيِّ الْخَشَبَتَيْنِ فَلَمْ أَفْهَمْ، فَتَخَلَّعَتْ يَدَايَ، وَجِيءَ
بِالضَّرَّابِينَ، وَمَعَهُمُ السِّيَاطُ فَجَعَلَ أَحَدُهُمْ يَضْرِبُنِي
سَوْطَيْنِ، وَيَقُولُ لَهُ يَعْنِي الْمُعْتَصِمُ: شُدَّ، قَطَّعَ اللَّهُ يَدَكَ
! وَيَجِيءُ الْآخَرُ فَيَضْرِبُنِي سَوْطَيْنِ، ثُمَّ الْآخَرُ كَذَلِكَ،
فَضَرَبُونِي أَسْوَاطًا فَأُغْمِيَ عَلَيَّ، وَذَهَبَ عَقْلِي مِرَارًا، فَإِذَا
سَكَنَ الضَّرْبُ يَعُودُ إِلَيَّ عَقْلِي، وَقَامَ الْمُعْتَصِمُ إِلَيَّ
يَدْعُونِي إِلَى قَوْلِهِمْ فَلَمْ أُجِبْهُ، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: وَيْحَكَ،
الْخَلِيفَةُ عَلَى رَأْسِكَ. فَلَمْ أَقْبَلْ، فَأَعَادُوا الضَّرْبَ، ثُمَّ
عَادَ إِلَيَّ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَأَعَادُوا الضَّرْبَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَيَّ
الثَّالِثَةَ، فَدَعَانِي فَلَمْ أَعْقِلْ مَا قَالَ مِنْ شِدَّةِ الضَّرْبِ،
ثُمَّ أَعَادُوا الضَّرْبَ فَذَهَبَ عَقْلِي فَلَمْ أُحِسَّ بِالضَّرْبِ،
وَأَرْعَبَهُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِي، وَأَمَرَ بِي فَأُطْلِقْتُ، وَلَمْ أَشْعُرْ
إِلَّا وَأَنَا فِي حُجْرَةٍ مِنْ بِيْتٍ وَقَدْ أُطْلِقَتِ الْأَقْيَادُ مِنْ
رِجْلِي، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ
مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ
بِإِطْلَاقِهِ إِلَى أَهْلِهِ، وَكَانَ جُمْلَةُ مَا ضُرِبَ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ
سَوْطًا، وَقِيلَ: ثَمَانِينَ سَوْطًا لَكِنْ كَانَ ضَرْبًا مُبَرِّحًا شَدِيدًا
جِدًّا.
وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَجُلًا طُوَالًا رَقِيقًا أَسْمَرَ اللَّوْنِ
كَثِيرَ التَّوَاضُعِ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَرَضِيَ
عَنْهُ، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَلَمَّا حُمِلَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى دَارِ إِسْحَاقَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ صَائِمٌ، أَتَوْهُ بِسَوِيقٍ وَمَاءٍ ; لِيُفْطِرَ مِنَ
الضَّعْفِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَتَمَّ صَوْمَهُ، وَحِينَ حَضَرَتْ صَلَاةُ
الظُّهْرِ صَلَّى مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سَمَاعَةَ الْقَاضِي: صَلَّيْتَ
فِي دَمِكَ ؟ فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ: قَدْ صَلَّى عُمَرُ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ
دَمًا. فَسَكَتَ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ لِيُضْرَبَ انْقَطَعَتْ تِكَّةُ سَرَاوِيلِهِ
فَخَشِيَ أَنْ يَسْقُطَ سَرَاوِيلُهُ فَتُكْشَفَ عَوْرَتَهُ، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ
بِدُعَاءٍ فَعَادَ سَرَاوِيلُهُ كَمَا كَانَ. وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: يَا
غَيَّاثَ الْمُسْتَغِيثِينَ يَا إِلَهَ الْعَالَمِينَ، إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ
أَنِّي قَائِمٌ لَكَ بِحَقٍّ فَلَا تَهْتِكْ لِي عَوْرَةً.
وَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ جَاءَهُ الْجَرَّايِحِيُّ فَقَطَعَ لَحْمًا
مَيِّتًا مِنْ جَسَدِهِ، وَجَعَلَ يُدَاوِيهِ، وَالنَّائِبُ يَبْعَثُ كَثِيرًا فِي
كُلِّ وَقْتٍ يَسْأَلُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَصِمَ نَدِمَ عَلَى مَا
كَانَ مِنْهُ إِلَى أَحْمَدَ نَدَمًا كَثِيرًا، وَجَعَلَ يَسْأَلُ النَّائِبَ
عَنْهُ، وَالنَّائِبُ يَسْتَعْلِمُ خَبَرَهُ، فَلَمَّا عُوفِيَ فَرِحَ
الْمُعْتَصِمُ وَالْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَلَمَّا شَفَاهُ اللَّهُ
بِالْعَافِيَةِ بَقِيَ مُدَّةً وَإِبْهَامَاهُ يُؤْذِيهِمَا الْبَرْدُ، وَجَعَلَ
كُلَّ مَنْ سَعَى فِي أَمْرِهِ فِي حِلٍّ إِلَّا
أَهْلَ
الْبِدْعَةِ، وَكَانَ يَتْلُو فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [ النُّورِ: 22 ]
وَيَقُولُ: مَاذَا يَنْفَعُكَ أَنْ يُعَذَّبَ أَخُوكَ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِكَ ؟
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
[ الشُّورَى: 40 ] وَيُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: " لِيَقُمْ مَنْ أَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ " فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: مَا نَقَصَ
مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَنْ
تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى الْمِحْنَةِ فَلَمْ يُجِيبُوا بِالْكُلِّيَّةِ
أَرْبَعَةٌ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَهُوَ رَئِيسُهُمْ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نُوحِ
بْنِ مَيْمُونٍ الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ، وَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ حِينَ ذَهَبَ هُوَ
وَأَحْمَدُ إِلَى الْمَأْمُونِ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ، وَقَدْ
مَاتَ فِي السِّجْنِ، وَأَبُو يَعْقُوبَ الْبُوَيْطِيُّ، وَقَدْ مَاتَ فِي سِجْنِ
الْوَاثِقِ عَلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، لَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ.
وَكَانَ مُثْقَلًا بِالْحَدِيدِ، وَأَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا، وَأَحْمَدُ بْنُ
نَصْرٍ الْخُزَاعِيُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ قَتْلِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ
- فِي أَيَّامِ الْوَاثِقِ.
ذِكْرُ
ثَنَاءِ الْأَئِمَّةِ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الْمُعَظِّمِ
الْمُبَجَّلِ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَمَّا ضُرِبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ كُنَّا بِالْبَصْرَةِ
فَسَمِعْتُ أَبَا الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيَّ يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ لَكَانَ أُحْدُوثَةً.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْخَلِيلِ: لَوْ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ لَكَانَ عَجَبًا.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَوْمَ الْمِحْنَةِ، وَأَبُو بَكْرٍ
يَوْمَ الرِّدَّةِ، وَعُمَرُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ، وَعُثْمَانُ يَوْمَ الدَّارِ،
وَعَلِيٌّ يَوْمَ صِفِّينَ.
وَقَالَ حَرْمَلَةُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: خَرَجْتُ مِنَ الْعِرَاقِ
فَمَا خَلَّفْتُ بِهَا رَجُلًا أَفْضَلَ وَلَا أَعْلَمَ وَلَا أَوْرَعَ وَلَا
أَتْقَى مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَقَالَ
شَيْخُهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: مَا قَدِمَ عَلَيَّ مِنْ بَغْدَادَ
أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَقَالَ قُتَيْبَةُ: مَاتَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَاتَ الْوَرَعُ، وَمَاتَ
الشَّافِعِيُّ وَمَاتَتِ السُّنَنُ، وَيَمُوتُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَتَظْهَرُ
الْبِدَعُ، وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ قُتَيْبَةُ: إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ
قَامَ فِي الْأُمَّةِ مَقَامَ النُّبُوَّةِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَعْنِي فِي
صَبْرِهِ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنَ الْأَذَى فِي ذَاتِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ النَّحَّاسِ وَذَكَرَ أَحْمَدَ يَوْمًا فَقَالَ:
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الدِّينِ مَا كَانَ أَبْصَرَهُ، وَعَنِ الدُّنْيَا مَا كَانَ
أَصْبَرَهُ، وَفِي الزُّهْدِ مَا كَانَ أَخْبَرَهُ، وَبِالصَّالِحِينَ مَا كَانَ
أَلْحَقَهُ، وَبِالْمَاضِينَ مَا كَانَ أَشْبَهَهُ، عَرَضَتْ لَهُ الدُّنْيَا
فَأَبَاهَا، وَالْبِدَعُ فَنَفَاهَا.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي بَعْدَمَا ضُرِبَ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ: أُدْخِلَ أَحْمَدُ الْكِيرَ فَخَرَجَ ذَهَبًا أَحْمَرَ.
وَقَالَ
الْمَيْمُونِيُّ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ بَعْدَمَا امْتُحِنَ
أَحْمَدُ، وَقَبْلَ أَنْ يُمْتَحَنَ: يَا مَيْمُونِيُّ، مَا قَامَ أَحَدٌ فِي
الْإِسْلَامِ مَا قَامَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. فَعَجِبْتُ مِنْ هَذَا عَجَبًا
شَدِيدًا، وَذَهَبْتُ إِلَى أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، فَحَكَيْتُ
لَهُ مَقَالَةَ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، فَقَالَ: صَدَقَ، إِنَّ أَبَا بَكْرٍ
الصِّدِّيقَ وَجَدَ يَوْمَ الرِّدَّةِ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا وَإِنَّ أَحْمَدَ
بْنَ حَنْبَلٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْصَارٌ وَلَا أَعْوَانٌ. ثُمَّ أَخَذَ أَبُو
عُبَيْدٍ يُطْرِي أَحْمَدَ وَيَقُولُ: لَسْتُ أَعْلَمُ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَهُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حُجَّةٌ بَيْنَ
اللَّهِ وَبَيْنَ عَبِيدِهِ فِي أَرْضِهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: إِذَا ابْتُلِيتُ بِشَيْءٍ فَأَفْتَانِي
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَمْ أُبَالِ إِذَا لَقِيتُ رَبِّي كَيْفَ كَانَ. وَقَالَ
عَلِيٌّ أَيْضًا: إِنِّي اتَّخَذْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ حُجَّةً فِيمَا
بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَقْوَى عَلَى مَا
يَقْوَى عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ؟
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ أَيْضًا: كَانَ فِي أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ خِصَالٌ
مَا رَأَيْتُهَا فِي عَالِمٍ قَطُّ، كَانَ مُحَدِّثًا، وَكَانَ حَافِظًا، وَكَانَ
عَالِمًا، وَكَانَ وَرِعًا، وَكَانَ زَاهِدًا، وَكَانَ عَاقِلًا.
وَقَالَ
يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ أَيْضًا: أَرَادَ النَّاسُ مِنَّا أَنْ نَكُونَ مِثْلَ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَاللَّهِ مَا نَقْوَى أَنْ نَكُونَ مِثْلَ أَحْمَدَ،
وَلَا نُطِيقُ سُلُوكَ طَرِيقِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: اتَّخَذْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ
حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ
الرَّقِّيُّ: مَنَّ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَرْبَعَةٍ:
بِالشَّافِعِيِّ، فَهِمَ الْأَحَادِيثَ وَفَسَّرَهَا، وَبَيَّنَ الْمُجْمَلَ مِنَ
الْمُفَسَّرِ، وَالْخَاصِّ مِنَ الْعَامِّ، وَالنَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ،
وَبِأَبِي عُبَيْدٍ عَرَفَ الْغَرِيبَ وَفَسَّرَهُ، وَبِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ
نَفَى الْكَذِبَ عَنِ الْأَحَادِيثِ، وَبِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثَبَتَ فِي
الْمِحْنَةِ، لَوْلَا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ لَهَلَكَ النَّاسُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مُقَدَّمٌ
عَلَى كُلِّ مَنْ حَمَلَ بِيَدِهِ قَلَمًا وَمِحْبَرَةً ; يَعْنِي فِي عَصْرِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ رَجَاءٍ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَلَا رَأَيْتُ مَنْ رَأَى مِثْلَهُ.
وَقَالَ
أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ: مَا أَعْرِفُ فِي أَصْحَابِنَا أَسْوَدَ الرَّأْسِ
أَفْقَهَ مِنْهُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ
الْعَنْبَرِيِّ قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُوشَنْجِيُّ فِي
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ:
إِنَّ ابْنَ حَنْبَلٍ إِنْ سَأَلْتَ إَمَامُنَا وَبِهِ الْأَئِمَّةُ فِي
الْأَنَامِ تَمَسَّكُوا خَلَفَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا بَعْدَ الْأُلَى
كَانُوا الْخَلَائِفَ بَعْدَهُ وَاسْتَهْلَكُوا حَذْوَ الشِّرَاكِ عَلَى
الشِّرَاكِ وَإِنَّمَا
يَحْذُو الْمِثَالَ مِثَالُهُ الْمُتَمِسِّكُ
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى
الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ
أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ كَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ،
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَغَيْرُهُمَا: هُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَالِينِيِّ، عَنِ ابْنِ عَدِيٍّ
عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ مُعَانِ
بْنِ
رِفَاعَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ. ح قَالَ
الْبَغَوِيُّ: وَحَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا مُبَشِّرٌ، عَنْ
مُعَانٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ
كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ
الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ وَهَذَا الْحَدِيثُ مُرْسَلٌ،
وَإِسْنَادُهُ فِيهِ ضَعْفٌ، وَالْعَجَبُ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ صَحَّحَهُ،
وَاحْتَجَّ بِهِ عَلَى عَدَالَةِ كُلِّ مَنْ نُسِبَ إِلَى حَمْلِ الْعِلْمِ،
وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
ذِكْرُ مَا كَانَ مَنْ أَمْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بَعْدَ الْمِحْنَةِ
حِينَ أُخْرِجَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ بَعْدَ الضَّرْبِ صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ
فَدُووِيَ حَتَّى
بَرِئَ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ
إِلَى جَمَاعَةٍ وَلَا جُمُعَةٍ، وَامْتَنَعَ مِنَ التَّحْدِيثِ، وَكَانَتْ
غَلَّتُهُ مِنْ مِلْكٍ لَهُ ; فِي كُلِّ شَهْرٍ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا
يُنْفِقُهَا عَلَى عِيَالِهِ، وَيَتَقَنَّعُ بِذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، صَابِرًا
مُحْتَسِبًا، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ مُدَّةَ خِلَافَةِ الْمُعْتَصِمِ، وَكَذَلِكَ
فِي أَيَّامِ ابْنِهِ مُحَمَّدٍ الْوَاثِقِ.
فَلَمَّا وَلِيَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ جَعْفَرُ ابْنُ الْمُعْتَصِمِ
اسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِوِلَايَتِهِ فَإِنَّهُ كَانَ مُحِبًّا لِلسُّنَّةِ
وَأَهْلِهَا، وَرَفَعَ الْمِحْنَةَ عَنِ النَّاسِ، وَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ أَنْ
لَا يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى
نَائِبِهِ بِبَغْدَادَ وَهُوَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَبْعَثَ
بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إِلَيْهِ، فَاسْتَدْعَى إِسْحَاقُ بِالْإِمَامِ أَحْمَدَ
إِلَيْهِ فَأَكْرَمَهُ إِسْحَاقُ وَعَظَّمَهُ ; لِمَا يَعْلَمُ مِنْ إِعْظَامِ
الْخَلِيفَةِ لَهُ وَإِجْلَالِهِ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ
عَنِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ: سُؤَالُ تَعَنُّتٍ أَوِ اسْتِرْشَادٍ ؟
فَقَالَ: بَلْ سُؤَالُ اسْتِرْشَادٍ. فَقَالَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مَنَزَّلٌ
غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَسَكَنَ إِلَى قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ جَهَّزَهُ إِلَى
الْخَلِيفَةِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، ثُمَّ سَبَقَهُ إِلَيْهِ.
وَبَلَغَهُ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ اجْتَازَ بِابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ فَلْمْ يَأْتِهِ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَغَضِبَ إِسْحَاقُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذَلِكَ وَشَكَاهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ:
يُرَدُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَ بِسَاطِي. فَرَجَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنَ
الطَّرِيقِ إِلَى بَغْدَادَ وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُتَكَرِّهًا
لِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمْ يَهُنْ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ،
وَإِنَّمَا
كَانَ رُجُوعُهُ عَنْ قَوْلِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ هُوَ
السَّبَبَ فِي ضَرْبِهِ.
ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الثَّلْجِيِّ وَشَى
إِلَى الْخَلِيفَةِ شَيْئًا، فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ قَدْ
ضَوَى إِلَى مَنْزِلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَهُوَ يُبَايِعُ لَهُ النَّاسَ فِي
الْبَاطِنِ. فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ نَائِبَ بَغْدَادَ أَنْ يَكْبِسَ مَنْزِلَ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنَ اللَّيْلِ. فَلَمْ يَشْعُرُوا إِلَّا وَالْمَشَاعِلُ
قَدْ أَحَاطَتْ بِالدَّارِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى مِنْ فَوْقِ الْأَسْطِحَةِ
فَوَجَدُوا الْإِمَامَ أَحْمَدَ جَالِسًا فِي دَارِهِ مَعَ عِيَالِهِ، فَسَأَلُوهُ
عَمَّا ذُكِرَ عَنْهُ، فَقَالَ: لَيْسَ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمٌ، وَلَيْسَ مِنْ
هَذَا شَيْءٌ، وَلَا هَذَا مِنْ نِيَّتِي، وَإِنِّي لِأَرَى طَاعَةَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَفِي عُسْرِي وَيُسْرِي،
وَمَنْشَطِي وَمَكْرَهِي، وَأَثَرَةٍ عَلَيَّ، وَإِنِّي لَأَدْعُو اللَّهَ لَهُ
بِالتَّسْدِيدِ وَالتَّوْفِيقِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ،
فَفَتَّشُوا مَنْزِلَهُ حَتَّى مَكَانَ الْكُتُبِ وَبُيُوتَ النِّسَاءِ
وَالْأَسْطِحَةَ وَغَيْرَهَا فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا. فَلَمَّا بَلَغَ
الْمُتَوَكِّلَ ذَلِكَ، وَعَلِمَ بَرَاءَتَهُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ، عَلِمَ
أَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ كَثِيرًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ يَعْقُوبَ بْنَ
إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفَ بِقَوْصَرَةَ وَهُوَ أَحَدُ الْحَجَبَةِ بِعَشَرَةِ
آلَافِ دِرْهَمٍ مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَقَالَ: هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ
وَيَقُولُ لَكَ: اسْتَنْفَقَ هَذِهِ. فَامْتَنَعَ مَنْ قَبُولِهَا. فَقَالَ: يَا
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنِّي أَخْشَى مِنْ رَدِّكَ إِيَّاهَا أَنْ يَقَعَ وَحْشَةٌ
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَالْمَصْلَحَةُ لَكَ قَبُولُهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَهُ
ثُمَّ ذَهَبَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ اسْتَدْعَى الْإِمَامُ
أَحْمَدُ
أَهْلَهُ
وَبَنِي عَمِّهِ وَعِيَالَهُ، وَقَالَ: لَمْ أَنَمْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ مِنْ هَذَا
الْمَالِ. فَجَلَسُوا مَعَهُ، وَكَتَبُوا أَسْمَاءَ جَمَاعَةٍ مِنَ
الْمُحْتَاجِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ
وَالْبَصْرَةِ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَفَرَّقَهَا فِي النَّاسِ مَا بَيْنَ الْخَمْسِينَ
إِلَى الْمِائَةِ وَالْمِائَتَيْنِ وَلَمْ يبْقِ مِنْهَا دِرْهَمًا، وَأَعْطَى
مِنْهَا لِأَبِي كُرَيْبٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ، وَتَصَدَّقَ بِالْكِيسِ
الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَلَمْ يُعْطِ مِنْهَا لِأَهْلِهِ شَيْئًا، وَهُمْ فِي
غَايَةِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، وَجَاءَ بُنَيُّ ابْنِهِ فَقَالَ: أَعْطِنِي
دِرْهَمًا. فَنَظَرَ أَحْمَدُ إِلَى ابْنِهِ صَالِحٍ، فَتَنَاوَلَ صَالِحٌ
قِطْعَةً فَأَعْطَاهَا الصَّبِيَّ، فَسَكَتَ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَبَلَغَ الْخَلِيفَةُ أَنَّهُ قَدْ تَصَدَّقَ بِالْجَائِزَةِ كُلِّهَا حَتَّى
لَمْ يُبْقِ مِنْهَا شَيْئًا وَأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِكِيسِهَا، فَقَالَ عَلِيُّ
بْنُ الْجَهْمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ قَدْ قَبِلَهَا مِنْكَ
وَتَصَدَّقَ بِهَا عَنْكَ، وَمَا يَصْنَعُ أَحْمَدُ بِالْمَالِ ؟ إِنَّمَا
يَكْفِيهِ رَغِيفٌ. فَقَالَ: صَدَقْتَ.
فَلَمَّا مَاتَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ، وَلَمْ يَكُنْ
بَيْنَهُمَا إِلَّا الْقَرِيبُ، وَتَوَلَّى نِيَابَةَ بَغْدَادَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ إِسْحَاقَ، كَتَبَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِ
الْإِمَامَ أَحْمَدَ، فَقَالَ لِأَحْمَدَ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: إِنِّي شَيْخٌ
كَبِيرٌ وَضَعِيفٌ، فَرَدَّ الْجَوَابَ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ
يَعْزِمُ عَلَيْهِ لَتَأْتِيَنِّي، وَكَتَبَ إِلَى أَحْمَدَ يَقُولُ لَهُ: إِنِّي
أُحِبُّ أَنْ آنَسَ بِقُرْبِكَ، وَبِالنَّظَرِ إِلَيْكَ، وَيَحْصُلَ لِي بَرَكَةُ
دُعَائِكَ. فَسَارَ إِلَيْهِ
الْإِمَامُ
أَحْمَدُ وَهُوَ عَلِيلٌ فِي بَنِيهِ وَبَعْضِ أَهْلِهِ، فَلَمَّا قَارَبَ
الْعَسْكَرَ تَلَقَّاهُ وَصِيفٌ الْخَادِمُ فِي مَوْكِبٍ عَظِيمٍ، فَسَلَّمَ
وَصِيفٌ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ
وَصِيفٌ: قَدْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْ عَدُوِّكَ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ. فَلَمْ
يَرُدَّ عَلَيْهِ جَوَابًا، وَجَعَلَ ابْنُهُ يَدْعُو اللَّهَ لِلْخَلِيفَةِ
وَلِوَصِيفٍ فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْعَسْكَرِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، أُنْزِلَ
أَحْمَدُ فِي دَارِ إِيتَاخَ فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ ارْتَحَلَ مِنْهَا،
وَأَمَرَ أَنْ يُسْتَكْرَى لَهُ دَارٌ غَيْرُهَا.
وَكَانَ رُءُوسُ الْأُمَرَاءِ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَحْضُرُونَ عِنْدَهُ،
وَيُبَلِّغُونَهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ السَّلَامَ، وَلَا يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ
حَتَّى يَخْلَعُوا مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الزِّينَةِ وَالسِّلَاحِ، وَبَعَثَ
إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ بِالْمَفَارِشِ الْوَطِيئَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآلَاتِ
الَّتِي تَلِيقُ بِتِلْكَ الدَّارِ الْعَظِيمَةِ.
وَأَرَادَ مِنْهُ الْخَلِيفَةُ أَنْ يُقِيمَ هُنَاكَ لِيُحَدِّثَ النَّاسَ عِوَضًا
عَمَّا فَاتَهُمْ مِنْهُ فِي أَيَّامِ الْمِحْنَةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ
السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ الْمُتَطَاوِلَةِ وَهُوَ مَحْجُوبٌ فِي دَارِهِ لَا
يَخْرُجُ إِلَى جَمَاعَةٍ وَلَا جُمُعَةٍ أَيْضًا، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ
بِأَنَّهُ عَلِيلٌ وَأَسْنَانُهُ تَتَحَرَّكُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَكَانَ
الْخَلِيفَةُ يَبْعَثُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَائِدَةً فِيهَا أَلْوَانُ
الْأَطْعِمَةِ وَالْفَاكِهَةِ وَالثَّلْجُ، مِمَّا يُقَاوِمُ مِائَةً وَعِشْرِينَ
دِرْهَمًا فِي كُلِّ يَوْمِ، وَالْخَلِيفَةُ يَحْسَبُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ
ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ أَحْمَدُ يَطْعَمُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ،
بَلْ كَانَ صَائِمًا يَطْوِي، فَمَكَثَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَسْتَطْعِمْ
بِطَعَامٍ، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ عَلِيلٌ، ثُمَّ أَقْسَمَ
عَلَيْهِ وَلَدُهُ حَتَّى شَرِبَ قَلِيلًا مِنَ السَّوِيقِ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ. وَجَاءَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ بِمَالٍ جَزِيلٍ مِنَ الْخَلِيفَةِ ; جَائِزَةً لَهُ، فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ الْأَمِيرُ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَأَخَذَهَا الْأَمِيرُ فَفَرَّقَهَا عَلَى بَنِيهِ وَأَهْلِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُرَدَّ عَلَى الْخَلِيفَةِ جَائِزَتُهُ. وَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ لِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَمَانَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا هَذَا إِلَّا لِوَلَدِكَ. فَأَمْسَكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُمَانَعَتِهِ، ثُمَّ أَخَذَ يَلُومُ أَهْلَهُ وَعَمَّهُ وَبَنِي عَمِّهِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا بَقِيَ لَنَا أَيَّامٌ قَلَائِلُ، وَكَأَنَّنَا وَقَدْ نَزَلَ بِنَا الْمَوْتُ فَإِمَّا إِلَى جَنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى نَارٍ، فَنَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا وَبُطُونُنَا قَدْ أَخَذَتْ مِنْ مَالِ هَؤُلَاءِ. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ يَعِظُهُمْ بِهِ. فَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُسْتَشْرِفٍ فَخُذْهُ وَبِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ قَبِلَا جَوَائِزَ السُّلْطَانِ. فَقَالَ: مَا هَذَا وَذَاكَ سَوَاءٌ،
وَلَوْ
أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْمَالَ أُخِذَ مِنْ حَقِّهِ، وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ وَلَا
جَوْرٌ لَمْ أُبَالِ.
وَلَمَّا اسْتَمَرَّ ضَعْفُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعَلَ الْمُتَوَكِّلُ يَبْعَثُ
إِلَيْهِ بِابْنِ مَاسَوَيْهِ الْمُتَطَبِّبِ لِيَنْظُرَ فِي مَرَضِهِ، فَرَجَعَ
إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ
لَيْسَ بِهِ عِلَّةٌ فِي بَدَنِهِ، وَإِنَّمَا عِلَّتُهُ مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ،
وَكَثْرَةِ الصِّيَامِ وَالْعِبَادَةِ. فَسَكَتَ الْمُتَوَكِّلُ، ثُمَّ سَأَلَتْ
أَمُّ الْخَلِيفَةِ مِنْهُ أَنْ تَرَى الْإِمَامَ أَحْمَدَ، فَبَعَثَ
الْمُتَوَكِّلُ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِابْنِهِ الْمُعْتَزِّ
وَيَدْعُوَ لَهُ، وَيَكُونَ فِي حِجْرِهِ فَتَمَنَّعَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَجَابَ
إِلَيْهِ ; رَجَاءَ أَنْ يُعَجِّلَ بِرُجُوعِهِ إِلَى أَهْلِهِ بِبَغْدَادَ،
وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ بِخِلْعَةٍ سَنِيَّةٍ وَمَرْكُوبٍ مِنْ
مَرَاكِيبِهِ، فَامْتَنَعَ مِنْ رُكُوبِهِ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ مِيثَرَةُ نُمُورٍ
فَجِيءَ بِبَغْلٍ لِبَعْضِ التُّجَّارِ فَرَكِبَهُ، وَجَاءَ إِلَى مَجْلِسٍ
الْمُعْتَزِّ، وَقَدْ جَلَسَ الْخَلِيفَةُ وَأَمُّهُ فِي نَاحِيَةٍ فِي ذَلِكَ
الْمَجْلِسِ، مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ. فَلَمَّا جَاءَ أَحْمَدُ قَالَ:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. وَجَلَسَ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ،
فَقَالَتْ أَمُّ الْخَلِيفَةِ: اللَّهَ اللَّهَ يَا بُنَيَّ فِي هَذَا الرَّجُلِ !
تَرُدُّهُ إِلَى أَهْلِهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّنْ يُرِيدُ مَا أَنْتُمْ
فِيهِ، وَحِينَ رَأَى الْمُتَوَكِّلُ أَحْمَدَ قَالَ لِأُمِّهِ: يَا أُمَّهْ، قَدْ
أَنَارَتِ الدَّارُ.
وَجَاءَ الْخَادِمُ وَمَعَهُ خِلْعَةٌ سَنِيَّةٌ مُبَطَّنَةٌ وَثَوْبٌ
وَقَلَنْسُوَةٌ وَطَيْلَسَانٌ، فَأَلْبَسَهَا الْإِمَامَ أَحْمَدَ بِيَدِهِ،
وَأَحْمَدُ لَا يَتَحَرَّكُ بِالْكُلِّيَّةِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَمَّا
جَلَسْتُ إِلَى
الْمُعْتَزِّ
قَالَ مُؤَدِّبُهُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، هَذَا الَّذِي أَمَرَ
الْخَلِيفَةُ أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّبَكَ. فَقَالَ: إِنْ عَلَّمَنِي شَيْئًا تَعَلَّمْتُهُ.
قَالَ أَحْمَدُ: فَعَجِبْتُ مِنْ ذَكَائِهِ فِي صِغَرِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ
صَغِيرًا جِدًّا. ثُمَّ خَرَجَ أَحْمَدُ عَنْهُمْ وَهُوَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ،
وَيَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنْ مَقْتِهِ، وَغَضَبِهِ.
ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ أَذِنَ لَهُ الْخَلِيفَةُ بِالِانْصِرَافِ، وَهَيَّأَ لَهُ
حَرَّاقَةً فَلَمْ يَقْبَلْ أَنْ يَنْحَدِرَ فِيهَا بَلْ رَكِبَ فِي زَوْرَقٍ
فَدَخَلَ بَغْدَادَ مُخْتَفِيًا، وَأَمَرَ أَنْ تُبَاعَ تِلْكَ الْخِلْعَةُ،
وَأَنْ يُتَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. وَجَعَلَ
أَيَّامًا يَتَأَلَّمُ مِنَ اجْتِمَاعِهِ بِهِمْ وَيَقُولُ: سَلِمْتُ مِنْهُمْ
طُولَ عُمْرِي، ثُمَّ ابْتُلِيتُ بِهِمْ فِي آخِرِهِ، وَكَانَ قَدْ جَاعَ
عِنْدَهُمْ جُوعًا عَظِيمًا كَثِيرًا حَتَّى كَادَ يَهْلِكُ مِنَ الْجُوعِ. وَقَدْ
قَالَ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ لِلْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ الْخَلِيفَةِ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ لَا يَأْكُلُ لَكَ
طَعَامًا، وَلَا يَشْرَبُ لَكَ شَرَابًا، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى فَرْشِكَ،
وَيُحَرِّمُ مَا تَشْرَبُهُ. فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَوْ نُشِرَ
الْمُعْتَصِمُ، وَكَلَّمَنِي فِي أَحْمَدَ مَا قَبِلْتُ مِنْهُ. وَجَعَلَتْ رُسُلُ
الْخَلِيفَةِ تَفِدُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ ; تَسْتَعْلِمُ أَخْبَارَهُ
وَكَيْفَ حَالُهُ. وَجَعَلَ يَسْتَفْتِيهِ فِي أَمْوَالِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ
فَلَا يُجِيبُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّ الْمُتَوَكِّلَ أَخْرَجَ ابْنَ أَبِي دُؤَادٍ
مِنْ سُرَّ مَنْ رَأَى إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ أَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ نَفْسَهُ
بِبَيْعِ
ضِيَاعِهِ
وَأَمْلَاكِهِ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِ كُلِّهَا.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: وَحِينَ رَجَعَ أَبِي مَنْ سَامَرَّا إِلَى
بَغْدَادَ وَجَدْنَا عَيْنَيْهِ قَدْ دَخَلَتَا فِي مُوقَيْهِ، وَمَا رَجَعَتْ
إِلَيْهِ نَفْسُهُ إِلَّا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَامْتَنَعَ أَنْ يَدْخُلَ
بَيْتَ قَرَابَتِهِ أَوْ يَدْخُلَ بَيْتًا هُمْ فِيهِ، أَوْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ
مِمَّا هُمْ فِيهِ ; لِأَجْلِ قَبُولِهِمْ أَمْوَالَ السُّلْطَانِ.
وَكَانَ مَسِيرُ أَحْمَدَ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَتَيْنِ، ثُمَّ مَكَثَ إِلَى سَنَةِ وَفَاتِهِ، قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا
وَرِسَالَةُ الْمُتَوَكِّلِ تَفِدُ إِلَيْهِ فِي أُمُورٍ يُشَاوِرُهُ فِيهَا،
وَيَسْتَشِيرُهُ فِي أَشْيَاءَ تَقَعُ لَهُ.
وَلَمَّا قَدِمَ الْمُتَوَكِّلُ بَغْدَادَ بَعَثَ إِلَيْهِ ابْنَ خَاقَانَ
وَمَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ لِيُفَرِّقَهَا عَلَى مَنْ يَرَى فَامْتَنَعَ مِنْ
قَبُولِهَا وَتَفْرِقَتِهَا، وَقَالَ: إِنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ
أَعْفَانِي مِمَّا أَكْرَهُ فَرَدَّهَا.
وَكَتَبَ رَجُلٌ رُقْعَةً إِلَى الْمُتَوَكِّلِ يَقُولُ فِيهَا: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَشْتُمُ آبَاءَكَ وَيَرْمِيهِمْ
بِالزَّنْدَقَةِ. فَكَتَبَ فِيهَا الْمُتَوَكِّلُ: أَمَّا الْمَأْمُونُ فَإِنَّهُ
خَلَطَ فَسَلَّطَ النَّاسَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا أَبِي الْمُعْتَصِمُ
فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلَ حَرْبٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَصَرٌ بِالْكَلَامِ، وَأَمَّا
أَخِي الْوَاثِقُ فَإِنَّهُ اسْتَحَقَّ مَا قِيلَ فِيهِ، ثُمَّ أَمَرَ أَنَّ
يُضْرَبَ هَذَا
الرَّجُلُ
الَّذِي رَفَعَ إِلَيْهِ الرُّقْعَةَ مِائَتَيْ سَوْطٍ، فَأَخَذَهُ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فَضَرَبَهُ خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ، فَقَالَ لَهُ
الْخَلِيفَةُ: لِمَ ضَرَبْتَهُ خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ ؟ فَقَالَ: مِائَتَيْنِ
لِطَاعَتِكَ، وَمِائَتَيْنِ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمِائَةً لِكَوْنِهِ
قَذَفَ هَذَا الشَّيْخَ ; الرَّجُلَ الصَّالِحَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ.
وَقَدْ كَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْقَوْلِ
فِي الْقُرْآنِ ; سُؤَالَ اسْتِرْشَادٍ وَاسْتِفَادَةٍ لَا سُؤَالَ تَعَنُّتٍ
وَلَا امْتِحَانٍ وَلَا عِنَادٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ
رِسَالَةً حَسَنَةً، فِيهَا آثَارٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَحَادِيثُ
مَرْفُوعَةٌ، وَقَدْ أَوْرَدَهَا ابْنُهُ صَالِحٌ فِي الْمِحْنَةِ الَّتِي
سَاقَهَا، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْهُ، وَقَدْ نَقَلَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْحُفَّاظِ.
ذِكْرُ وَفَاةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ
قَالَ ابْنُهُ صَالِحٌ: كَانَ مَرَضُهُ فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَحْمُومٌ يَتَنَفَّسُ
الصُّعَدَاءَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ مَا كَانَ غَدَاؤُكَ ؟
فَقَالَ: مَاءُ الْبَاقِلَّا. ثُمَّ ذَكَرَ كَثْرَةَ مَجِيءِ النَّاسِ مِنَ
الْأَكَابِرِ وَعُمُومِ النَّاسِ لِعِيَادَتِهِ، وَكَثْرَةَ
جَزَعِ
النَّاسِ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَعَهُ خُرَيْقَةٌ فِيهَا قُطَيْعَاتٌ يُنْفِقُ عَلَى
نَفْسِهِ مِنْهَا، وَقَدْ أَمَرَ وَلَدَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُطَالِبَ سُكَّانَ
مِلْكِهِ وَأَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ فَأَخَذَ شَيْئًا مِنَ
الْأُجْرَةِ فَاشْتَرَى تَمْرًا وَكَفَّرَ عَنْ أَبِيهِ، وَفَضَلَ مِنْ ذَلِكَ
ثَلَاثَةُ دَرَاهِمٍ، وَكَتَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصِيَّتَهُ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، أَوْصَى أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. وَأَوْصَى مَنْ أَطَاعَهُ مِنْ أَهْلِهِ
وَقَرَابَتِهِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فِي الْعَابِدِينَ، وَأَنْ يَحْمَدُوهُ فِي
الْحَامِدِينَ، وَأَنْ يَنْصَحُوا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأُوصِي أَنِّي
قَدْ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا،
وَأُوصِي لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِفُورَانَ عَلَيَّ
نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ دِينَارًا، وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا قَالَ فَيُقْضَى مَا
لَهُ عَلَيَّ مِنْ غَلَّةِ الدَّارِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا اسْتُوْفِيَ
أُعْطِي وَلَدُ صَالِحٍ كُلُّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.
ثُمَّ اسْتَدْعَى بِالصِّبْيَانِ مَنْ وَرَثَتِهِ فَجَعَلَ يَدْعُو لَهُمْ،
وَكَانَ قَدْ وُلِدَ لَهُ صَبِيٌّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسِينَ يَوْمًا فَسَمَّاهُ
سَعِيدًا، وَكَانَ لَهُ وَلَدٌ آخَرُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ قَدْ مَشَى حِينَ مَرِضَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فَدَعَاهُ فَالْتَزَمَهُ وَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا
كُنْتُ أَصْنَعُ بِالْوَلَدِ عَلَى
كِبَرِ السِّنِّ ؟ فَقِيلَ لَهُ: ذُرِّيَّةٌ تَكُونُ بَعْدَكَ يَدْعُونَ لَكَ. قَالَ: وَذَاكَ. وَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ بَلَغَهُ فِي مَرَضِهِ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ كَرِهَ الْأَنِينَ فِي الْمَرَضِ، فَتَرَكَ الْأَنِينَ فَلَمْ يَئِنَّ حَتَّى كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي تُوُفِّيَ فِي صَبِيحَتِهَا، وَكَانَتْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَنَّ حِينَ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَيُرْوَى عَنْ صَالِحٍ وَقَدْ يَكُونُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا احْتُضِرَ أَبِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: لَا بَعْدُ، لَا بَعْدُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، مَا هَذِهِ اللَّفْظَةُ الَّتِي لَهَجْتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ إِبْلِيسَ وَاقِفٌ فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ، وَهُوَ عَاضٌّ عَلَى أُصْبُعِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: فُتَّنِي يَا أَحْمَدُ ؟ فَأَقُولُ: لَا بَعْدُ لَا بَعْدُ. يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ حَتَّى تَخْرُجَ رُوحُهُ مِنْ جَسَدِهِ عَلَى التَّوْحِيدِ، كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، قَالَ إِبْلِيسُ: يَا رَبِّ، وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ مَا أَزَالُ أُغْوِيهِمْ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ. فَقَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَلَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي.
وَأَحْسَنُ
مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَهْلِهِ أَنْ يُوَضِّئُوهُ فَجَعَلُوا
يُوَضِّئُونَهُ، وَهُوَ يُشِيرُ إِلَيْهِمْ أَنْ خَلَّلُوا أَصَابِعِي، وَهُوَ
يَذْكُرُ اللَّهَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَكْمَلُوا الْوُضُوءَ تُوُفِّيَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ.
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ حِينَ مَضَى نَحْوٌ مَنْ سَاعَتَيْنِ مِنَ
النَّهَارِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الشَّوَارِعِ، وَبَعَثَ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ حَاجِبَهُ وَمَعَهُ غِلْمَانٌ يَحْمِلُونَ مَنَادِيلَ
فِيهَا أَكْفَانٌ، وَأَرْسَلَ يَقُولُ: هَذَا نِيَابَةً عَنِ الْخَلِيفَةِ
فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَبَعَثَ بِهَذَا. فَأَرْسَلَ أَوْلَادُهُ
يَقُولُونَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ قَدْ أَعْفَاهُ فِي حَيَاتِهِ
مِمَّا يَكْرَهُ، وَهَذَا مِمَّا يَكْرَهُ، وَأَبَوْا أَنْ يُكَفِّنُوهُ فِي
تِلْكَ الْأَثْوَابِ، وَأَتَوْا بِثَوْبٍ كَانَ قَدْ غَزَلَتْهُ جَارِيَتُهُ،
فَكَفَّنُوهُ فِيهِ، وَاشْتَرَوْا مَعَهُ عَوَزَ لِفَافَةٍ وَحَنُوطًا،
وَاشْتَرَوْا لَهُ رَاوِيَةَ مَاءٍ، وَامْتَنَعُوا أَنْ يَغْسِلُوهُ بِمَاءٍ مِنْ
بُيُوتِهِمْ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ هَجَرَ بُيُوتَهُمْ فَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا
وَلَا يَسْتَعِيرُ مَنْ أَمْتِعَتِهِمْ شَيْئًا، وَكَانَ لَا يَزَالُ مُتَغَضِّبًا
عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ مَا رُتِّبَ لَهُمْ عَلَى بَيْتِ
الْمَالِ، وَهُوَ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَكَانُوا عَالَةً
فَقُرَاءَ، وَحَضَرَ غُسْلَهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَةٍ مِنْ بَيْتِ الْخِلَافَةِ مَنْ
بَنِي هَاشِمٍ، فَجَعَلُوا يُقَبِّلُونَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَيَدْعُونَ لَهُ،
وَيَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِ. وَخَرَجَ النَّاسُ بِنَعْشِهِ وَالْخَلَائِقُ حَوْلَهُ
مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَا لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ،
وَنَائِبُ الْبَلَدِ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَاقِفٌ فِي النَّاسِ، فَتَقَدَّمَ خُطْوَاتٍ فَعَزَّى
أَوْلَادَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيهِ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَمَّ النَّاسَ فِي
الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَعَادَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ الصَّلَاةَ عَلَى
الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي قَبْرِهِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْأَمِيرَ مُحَمَّدَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَمَرَ بِحَزْرِ النَّاسِ، فَوُجِدُوا أَلْفَ أَلْفٍ
وَثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَسَبْعَمِائَةِ أَلْفٍ سِوَى مَنْ كَانَ
فِي السُّفُنِ، وَأَقَلُّ مَا قِيلَ: سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ
الْمُتَوَكِّلَ أَمَرَ أَنْ يُمْسَحَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وَقَفَ النَّاسُ
عَلَيْهِ حَيْثُ صُلِّيَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَبَلَغَ مَقَامَ أَلْفَيْ
أَلْفٍ وَخَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ: سَمِعْتُ أَبَا
بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ كَامِلٍ الْقَاضِي يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى
الزِّنْجَانِيَّ، سَمِعَتْ عَبْدَ الْوَهَّابِ
الْوَرَّاقَ
يَقُولُ: مَا بَلَغَنَا أَنَّ جَمْعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ كَانَ
أَكْثَرَ مِنَ الْجَمْعِ عَلَى جِنَازَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْمَكِّيُّ، سَمِعْتُ الْوَرْكَانِيَّ جَارَ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: أَسْلَمَ يَوْمَ مَاتَ أَحْمَدُ عِشْرُونَ أَلْفًا مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، وَوَقَعَ الْمَأْتَمُ فِي الْمُسْلِمِينَ
وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: أَسْلَمَ
عَشَرَةُ آلَافٍ بَدَلَ عِشْرِينَ أَلْفًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا سَهْلِ بْنَ زِيَادٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قُولُوا لِأَهْلِ الْبِدَعِ،
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْجَنَائِزُ. وَقَدْ
صَدَّقَ
اللَّهُ قَوْلَهُ فِي هَذَا فَإِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ إِمَامَ السُّنَّةِ
فِي زَمَانِهِ، وَعُيُونُ مُخَالِفِيهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ الْقَاضِي
لَمْ يَحْتَفِلْ أَحَدٌ بِمَوْتِهِ، وَلَا شَيَّعَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا
الْقَلِيلَ، وَكَذَلِكَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيُّ مَعَ زُهْدِهِ
وَوَرَعِهِ وَتَنْقِيرِهِ وَمُحَاسَبَتِهِ نَفْسَهُ فِي خِطْرَاتِهِ وَحَرَكَاتِهِ
لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَلِلَّهِ
الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّاعِرِ أَنَّهُ
قَالَ: مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ أُصَلِّ
عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَرُوِيَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ
قَالَ يَوْمَ دُفِنَ أَحْمَدُ: دُفِنَ الْيَوْمَ سَادِسُ خَمْسَةٍ: وَهُمْ أَبُو
بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَكَانَ عُمْرُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَوْمَ تُوُفِّيَ سَبْعًا
وَسَبْعِينَ سَنَةً وَأَيَّامًا أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ.
ذِكْرُ مَا رُئِيَ مِنْ الْمَنَامَاتِ الصَّالِحَةِ الَّتِي رَآهَا الْإِمَامُ
أَحْمَدُ وَرُئِيَتْ لَهُ.
وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِلَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ
- وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا
الرُّؤْيَا
الصَّالِحَةُ - يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ سَمِعَتْ عَلِيَّ بْنَ حَمْشَاذَ،
سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ
شَبِيبٍ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَجَاءَهُ شَيْخٌ
وَمَعَهُ عُكَّازَةٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَجَلَسَ، فَقَالَ: مَنْ مِنْكُمْ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ: أَنَا، مَا حَاجَتُكَ ؟ فَقَالَ:
ضَرَبْتُ إِلَيْكَ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ فَرْسَخٍ، أُرِيتُ الْخَضِرَ فِي
الْمَنَامِ فَقَالَ لِي: سِرْ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَسَلْ عَنْهُ، وَقُلْ
لَهُ: إِنَّ سَاكِنَ الْعَرْشِ وَالْمَلَائِكَةَ رَاضُونَ عَنْكَ بِمَا صَبَرْتَ
نَفْسَكَ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ
خُزَيْمَةَ الْإِسْكَنْدَرَانِيِّ. قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
اغْتَمَمْتُ غَمًّا شَدِيدًا، فَرَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَتَبَخْتَرُ
فِي مِشْيَتِهِ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ مِشْيَةٍ هَذِهِ ؟
فَقَالَ: مِشْيَةُ الْخُدَّامِ فِي دَارِ السَّلَامِ. فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ
اللَّهُ بِكَ ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي وَتَوَّجَنِي وَأَلْبَسَنِي نَعْلَيْنِ مَنْ
ذَهَبٍ، وَقَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ، هَذَا بِقَوْلِكَ: الْقُرْآنُ كَلَامِي. ثُمَّ
قَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ، ادْعُنِي بِتِلْكَ الدَّعَوَاتِ الَّتِي بَلَغَتْكَ عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَكُنْتَ تَدْعُو بِهِنَّ فِي دَارِ الدُّنْيَا. قَالَ:
قُلْتُ: يَا رَبِّ كُلُّ
شَيْءٍ، بِقُدْرَتِكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، اغْفِرْ لِي كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى لَا تَسْأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ. فَقَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ، هَذِهِ الْجَنَّةُ قُمْ فَادْخُلْهَا. فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَلَهُ جَنَاحَانِ أَخْضَرَانِ يَطِيرُ بِهِمَا مِنْ نَخْلَةٍ إِلَى نَخْلَةٍ، وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [ الزُّمَرِ: 74 ] قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ بِشْرٌ الْحَافِي ؟ فَقَالَ: بَخٍ بَخٍ، وَمَنْ مِثْلُ بِشْرٍ ؟ تَرَكْتُهُ بَيْنَ يَدَيِ الْجَلِيلِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مَائِدَةٌ مِنَ الطَّعَامِ وَالْجَلِيلُ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: كُلْ يَا مَنْ لَمْ يَأْكُلْ، وَاشْرَبْ يَا مَنْ لَمْ يَشْرَبْ، وَانْعَمْ يَا مَنْ لَمْ يَنْعَمْ. أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو زُرْعَةَ رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: قَالَ لِيَ الْجَبَّارُ: أَلْحِقُوهُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ; مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ خُرَّزَادَ الْأَنْطَاكِيُّ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ وَقَدْ بَرَزَ الرَّبُّ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَكَأَنَّ مُنَادِيًا يُنَادِي مِنْ تَحْتٍ بُطْنَانِ الْعَرْشِ: أَدْخِلُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْجَنَّةَ. قَالَ: فَقُلْتُ لِمَلَكٍ إِلَى جَانِبِي: مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ: مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ الْمَقْدِسِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ، وَهُوَ نَائِمٌ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مُغَطَّى، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يَذُبَّانِ عَنْهُ. وَتَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ عَنْ يَحْيَى الْجَلَّاءِ أَنَّهُ رَأَى كَأَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي حَلْقَةٍ بِالْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَأَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ فِي حَلْقَةٍ أُخْرَى، وَكَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بَيْنَ الْحَلْقَتَيْنِ، وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ وَيُشِيرُ إِلَى حَلْقَةِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ وَأَصْحَابِهِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [ الْأَنْعَامِ: 89 ] وَيُشِيرُ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَصْحَابِهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتْ زَلَازِلُ هَائِلَةٌ فِي الْبِلَادِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ
بِمَدِينَةِ قُومِسَ تَهَدَّمَتْ مِنْهَا دُورٌ كَثِيرَةٌ، وَمَاتَ مِنْ أَهْلِهَا
نَحْوٌ مَنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا وَسِتَّةٍ وَتِسْعِينَ نَفْسًا،
وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ وَخُرَاسَانَ وَفَارِسَ وَالشَّامِ وَغَيْرِهَا مِنَ
الْبِلَادِ زَلَازِلُ مُنْكِرَةٌ.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى بِلَادِ الْجَزِيرَةِ فَانْتَبَهُوا شَيْئًا
كَثِيرًا وَأَسَرُوا نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ الذَّرَارِي فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الْإِمَامُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ نَائِبُ مَكَّةَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، قَاضِي مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ.
وَأَبُو حَسَّانَ الزِّيَادِيُّ، قَاضِي الشَّرْقِيَّةِ. وَاسْمُ أَبِي حَسَّانَ
الزِّيَادِيِّ الْحَسَنُ
بْنُ
عُثْمَانَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ الْبَغْدَادِيُّ،
سَمِعَ الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ، وَوَكِيعَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَالْوَاقِدِيَّ
وَخَلْقًا سِوَاهُمْ. وَعَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَعَلِيُّ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَرْغَانِيُّ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِكَغَطَ
وَجَمَاعَةٌ. تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ
". قَالَ: وَلَيْسَ هُوَ مِنْ سُلَالَةِ زِيَادِ بْنِ أَبِيهِ إِنَّمَا
تَزَوَّجَ بَعْضُ أَجْدَادِهِ بِأُمِّ وَلَدٍ لِزِيَادٍ، فَقِيلَ لَهُ:
الزِّيَادِيُّ، ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ حَدِيثِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ الْحَلَالُ
بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ الْحَدِيثَ. وَرُوِيَ عَنِ الْخَطِيبِ أَنَّهُ
قَالَ: كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَفَاضِلِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ
وَالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَلِيَ قَضَاءَ الشَّرْقِيَّةِ فِي خِلَافَةِ
الْمُتَوَكِّلِ، وَلَهُ تَارِيخٌ حَسَنٌ، وَلَهُ حَدِيثٌ كَثِيرٌ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: كَانَ صَالِحًا دَيِّنًا قَدْ عَمِلَ الْكُتُبَ، وَكَانَتْ لَهُ
مَعْرِفَةٌ بِأَيَّامِ النَّاسِ، وَلَهُ تَارِيخٌ حَسَنٌ، وَكَانَ كَرِيمًا
مِفْضَالًا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَشْيَاءَ حَسَنَةً ; مِنْهَا أَنَّهُ
أَنْفَذَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَذْكُرُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَتْهُ
ضَائِقَةٌ فِي عِيدٍ مِنَ الْأَعْيَادِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ غَيْرُ مِائَةِ
دِينَارٍ، فَأَرْسَلَهَا بِصُرَّتِهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ سَأَلَ ذَلِكَ الرَّجُلَ
صَاحِبٌ لَهُ أَيْضًا
يَشْكُو
مِثْلَ تِلْكَ الْحَالِ، فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، وَكَتَبَ أَبُو حَسَّانَ
إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي أَخَذَ الْمِائَةَ يَسْتَقْرِضُ مِنْهُ شَيْئًا
وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِالْأَمْرِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْمِائَةِ فِي
صُرَّتِهَا، فَلِمَا رَآهَا تَعَجَّبَ مِنْ أَمْرِهَا وَرَكِبَ إِلَيْهِ
وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَذَكَرَ أَنَّ فُلَانًا أَرْسَلَهَا إِلَيْهِ،
فَاجْتَمَعَ الثَّلَاثَةُ وَاقْتَسَمُوا الْمِائَةَ دِينَارٍ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَجَزَاهُمْ عَنْ مُرُوءَاتِهِمْ خَيْرًا.
وَأَبُو مُصْعَبٍ الزُّهْرِيُّ أَحَدُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْمَشَاهِيرِ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ
وَالتَّعْدِيلِ، وَالْقَاضِي يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا تَوَجَّهَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ مِنَ
الْعِرَاقِ قَاصِدًا مَدِينَةَ دِمَشْقَ ; لِيَجْعَلَهَا لَهُ دَارَ إِقَامَةٍ
وَمَحِلَّةَ إِمَامَتِهِ فَأَدْرَكَهُ عِيدُ الْأَضْحَى بِهَا وَهُوَ بِمَدِينَةِ
بَلَدَ فَضَحَّى بِهَا، وَتَأَسَّفَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ
يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ:
أَظُنُّ الشَّامَ تَشْمَتُ بِالْعِرَاقِ إِذَا عَزَمَ الْإِمَامُ عَلَى انْطِلَاقِ
فَإِنْ تَدَعِ الْعِرَاقَ وَسَاكِنِيهَا
فَقَدْ تُبْلَى الْمَلِيحَةُ بِالطَّلَاقِ
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَبْدُ الصَّمَدِ الْمَذْكُورُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
وَهُوَ نَائِبُ مَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، فَوَلِيَ
دِيوَانَ الضِّيَاعِ الْحَسَنُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ الْجَرَّاحِ خَلِيفَةُ
إِبْرَاهِيمَ فِي شَعْبَانَ. قُلْتُ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ صُولٍ الصُّولِيُّ، الشَّاعِرُ الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ
عَمُّ مُحَمَّدِ بْنِ
يَحْيَى
الصُّولِيِّ، وَكَانَ جَدُّهُ صُولٌ مَلِكَ جُرْجَانَ وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْهَا
ثُمَّ تَمَجَّسَ ثُمَّ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ بْنِ
أَبِي صُفْرَةَ. وَلِإِبْرَاهِيمَ هَذَا دِيوَانُ شِعْرٍ ذَكَرَهُ ابْنُ
خِلِّكَانَ وَاسْتَجَادَ مِنْ شِعْرِهِ أَشْيَاءَ ; مِنْهَا قَوْلُهُ:
وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ بِهَا الْفَتَى ذَرَعًا وَعِنْدَ اللَّهِ مِنْهَا
مَخْرَجُ
ضَاقَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلَقَاتُهَا فُرِجَتْ وَكَانَ يَظُنُّهَا لَا
تُفْرَجُ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ:
كُنْتَ السَّوَادَ لِمُقْلَتِي فَبَكَى عَلَيْكَ النَّاظِرُ
مَنْ شَاءَ بَعْدَكَ فَلْيَمُتْ فَعَلَيْكَ كُنْتُ أُحَاذِرُ
وَمِنْ ذَلِكَ مَا كَتَبَ بِهِ إِلَى وَزِيرِ الْمُعْتَصِمِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ الزَّيَّاتِ:
وَكُنْتَ أَخِي بِإِخَاءِ الزَّمَانِ فَلَمَّا نَبَا صِرْتَ حَرْبًا عَوَانَا
وَكُنْتُ أَذُمُّ إِلَيْكَ الزَّمَانَ فَأَصْبَحْتُ مِنْكَ أَذُمُّ الزَّمَانَا
وَكُنْتُ
أَعُدُّكَ لِلنَّائِبَاتِ فَهَا أَنَا أَطْلُبُ مِنْكَ الْأَمَانَا
وَلَهُ:
لَا يَمْنَعَنَّكَ خَفْضُ الْعَيْشِ فِي دَعَةٍ نُزُوعُ نَفْسٍ إِلَى أَهْلٍ
وَأَوْطَانِ
تَلَقَى بِكُلِّ بِلَادٍ إِنْ حَلَلْتَ بِهَا أَهْلًا بِأَهْلٍ وَجِيرَانًا
بِجِيرَانِ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمُنْتَصَفِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِسُرَّ مَنْ
رَأَى، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ: وَمَاتَ هَاشِمُ بْنُ بَنْجُورٍ فِي ذِي الْحِجَّةِ.
قُلْتُ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الرِّبَاطِيُّ، وَالْحَارِثُ
بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ
يَحْيَى التُّجِيبِيُّ صَاحِبُ
الشَّافِعِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَمَّالُ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي صِفْرٍ مِنْهَا دَخَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى مَدِينَةِ دِمَشْقَ
فِي أُبَّهَةِ الْخِلَافَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا وَكَانَ عَازِمًا عَلَى
الْإِقَامَةِ بِهَا وَأَمَرَ بِنَقْلِ دَوَاوِينِ الْمُلْكِ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ
بِبِنَاءِ الْقُصُورِ بِهَا فَبُنِيَتْ بِطَرِيقِ دَارَيَّا، فَأَقَامَ بِهَا
مُدَّةً، ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَوْخَمَهَا، وَرَأَى أَنَّ هَوَاءَهَا بَارِدٌ
نَدِيٌّ، وَمَاءَهَا ثَقِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَوَاءِ الْعِرَاقِ وَمَائِهِ،
وَرَأَى الْهَوَاءَ بِهَا يَتَحَرَّكُ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ فِي زَمَنِ
الصَّيْفِ، فَلَا يَزَالُ فِي اشْتِدَادٍ وَغُبَارٍ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ ثُلْثِ
اللَّيْلِ، وَرَأَى كَثْرَةَ الْبَرَاغِيثِ بِهَا، وَدَخَلَ عَلَيْهِ فَصْلُ
الشِّتَاءِ فَرَأَى مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ أَمْرًا عَجِيبًا،
وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ وَهُوَ بِهَا، وَانْقَطَعَتِ الْأَجْلَابُ بِسَبَبِ
كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ، فَضَجِرَ مِنْهَا، فَجَهَّزَ بُغَا إِلَى
بِلَادِ الرُّومِ، ثُمَّ رَجَعَ مِنْ آخِرِ السَّنَةِ إِلَى سَامَرَّا بَعْدَمَا
أَقَامَ بِدِمَشْقَ شَهْرَيْنِ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أُتِيَ الْمُتَوَكِّلُ بِالْحَرْبَةِ الَّتِي كَانَتْ
تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْعِيدِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَتْ لِلنَّجَاشِيِّ
فَوَهَبَهَا لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَوَهَبَهَا الزُّبَيْرُ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا صَارَتْ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ عَلَى
اللَّهِ فَرِحَ بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ صَاحِبَ الشُّرْطَةِ أَنْ
يَحْمِلَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا كَانَتْ تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِيهَا غَضِبَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى الطَّبِيبِ بَخْتَيَشُوعَ وَنَفَاهُ
وَأَخَذَ مَالَهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَبْدُ الصَّمَدِ الْمَذْكُورُ قَبْلَهَا.
وَاتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمُ عِيدِ الْأَضْحَى، وَعِيدُ الْفِطْرِ
لِلْيَهُودِ وَشَعَانِينُ للنَّصَارَى، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ غَرِيبٌ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْخَطْمِيُّ، وَحُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ،
وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، وَالْوَزِيرُ مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
الزَّيَّاتِ، وَيَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ صَاحِبُ إِصْلَاحِ الْمَنْطِقِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ بِبِنَاءِ مَدِينَةِ الْمَاحُوزَةِ وَحَفْرِ نَهْرٍ
لَهَا، فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى بِنَائِهَا وَبِنَاءِ قَصْرٍ
لِلْخِلَافَةِ فِيهَا يُقَالُ لَهُ: اللُّؤْلُؤَةُ. أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ زَلَازِلُ كَثِيرَةٌ فِي بِلَادٍ شَتَّى، فَمِنْ
ذَلِكَ بِمَدِينَةِ أَنْطَاكِيَةَ بِحَيْثُ سَقَطَ فِيهَا أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ
دَارٍ، وَانْهَدَمَ مِنْ سُورِهَا نَيِّفٌ وَتِسْعُونَ بُرْجًا، وَسُمِعَتْ مَنْ
كُوَى دُورِهَا أَصْوَاتٌ مُزْعِجَةٌ جِدًّا، فَخَرَجُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ
سِرَاعًا يُهْرَعُونَ، وَسَقَطَ الْجَبَلُ الَّذِي إِلَى جَانِبِهَا الَّذِي
يُقَالُ لَهُ الْأَقْرَعُ، فَسَاخَ فِي الْبَحْرِ، فَهَاجَ الْبَحْرُ عِنْدَ
ذَلِكَ وَارْتَفَعَ مِنْهُ دُخَانٌ أَسْوَدُ مُظْلِمٌ مُنْتِنٌ، وَغَارَ نَهْرٌ
عَلَى فَرْسَخٍ مِنْهَا، فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ. ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ
جَرِيرٍ قَالَ: وَسَمِعَ فِيهَا أَهْلُ تِنِّيسَ ضَجَّةً دَائِمَةً طَوِيلَةً
مَاتَ مِنْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. قَالَ: وَزُلْزِلَتْ فِيهَا بَالِسُ وَالرَّقَّةُ
وَحَرَّانُ وَرَأْسُ الْعَيْنِ وَحِمْصُ وَدِمَشْقُ وَالرُّهَاُ وَطَرَسُوسُ
وَالْمِصِّيصَةُ، وَأَذَنَةُ، وَسَوَاحِلُ الشَّامِ وَرَجَفَتِ اللَّاذِقِيَّةُ
فَمَا بَقِيَ
مِنْهَا
مَنْزِلٌ إِلَّا انْهَدَمَ، وَلَا بَقِيَ مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا الْيَسِيرُ،
وَذَهَبَتْ جَبَلَةُ بِأَهْلِهَا.
وَفِيهَا غَارَتْ مُشَاشُ عَيْنٌ بِمَكَّةَ حَتَّى بَلَّغَ ثَمَنُ الْقِرْبَةِ
بِمَكَّةَ ثَمَانِينَ دِرْهَمًا. حَتَّى بَعَثَ الْمُتَوَكِّلُ فَأَنْفَقَ
عَلَيْهَا. قَالَ: وَفِيهَا مَاتَ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، وَسَوَّارُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، وَهِلَالٌ الرَّازِيُّ، وَفِيهَا هَلَكَ نَجَاحُ
بْنُ سَلَمَةَ، كَانَ عَلَى دِيوَانِ التَّوْقِيعِ، وَقَدْ كَانَ حَظِيًّا عِنْدَ
الْمُتَوَكِّلِ، ثُمَّ جَرَتْ لَهُ كَائِنَةٌ أَفْضَتْ بِهِ إِلَى أَنْ أَمَرَ
الْمُتَوَكِّلُ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِ وَأَمْلَاكِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَقَدْ
أَوْرَدَ قِصَّتَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مُطَوَّلَةً.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبَّيُّ.
وَأَبُو الْحَسَنِ الْقَوَّاسُ مُقْرِئُ مَكَّةَ.
وَأَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ.
وَإِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ.
وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى
ابْنُ
بِنْتِ السُّدِّيِّ.
وَذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ.
وَسَوَّارٌ الْقَاضِي.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٌ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ.
وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ.
وَأَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ.
وَابْنُ الرَّاوَنْدِيُّ الزِّنْدِيقُ.
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الرَّاوَنْدِيِّ.
نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ بِبِلَادَ قَاسَانَ ثُمَّ نَشَأَ بِبَغْدَادَ، كَانَ
بِهَا يُصَنِّفُ الْكُتُبَ فِي الزَّنْدَقَةِ، وَكَانَتْ لَدَيْهِ فَضِيلَةٌ،
لَكِنَّهُ اسْتَعْمَلَهَا فِيمَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهُ تَرْجَمَةً مُطَوَّلَةً حَسَبَ مَا ذَكَرَهَا
ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَإِنَّمَا
ذَكَرْنَاهُ
هَاهُنَا ; لِأَنَّ الْقَاضِيَ ابْنَ خِلِّكَانَ ذَكَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ تَلَبَّسَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُجَرِّحْهُ بِشَيْءٍ
أَصْلًا، بَلْ مَدَحَهُ فَقَالَ: أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ
إِسْحَاقَ الرَّاوَنْدِيُّ الْعَالِمُ الْمَشْهُورُ، لَهُ مَقَالَةٌ فِي عِلْمِ
الْكَلَامِ، وَكَانَ مِنَ الْفُضَلَاءِ فِي عَصْرِهِ، وَلَهُ مِنَ الْكُتُبِ
الْمُصَنَّفَةِ نَحْوٌ مِنْ مِائَةٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ كِتَابًا، مِنْهَا كُتُبُ
" فَضِيحَةِ الْمُعْتَزِلَةِ "، وَكِتَابُ " التَّاجِ "،
وَكِتَابُ " الزُّمُرُّدَةِ "، وَكِتَابُ " الْقَصَبِ "،
وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَهُ مَحَاسِنُ وَمُحَاضَرَاتٌ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ
الْكَلَامِ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِمَذَاهِبَ نَقَلَهَا عَنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي
كُتُبِهِمْ.
تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ بِرَحْبَةِ مَالِكِ بْنِ
طَوْقٍ التَّغْلِبِيِّ، وَقِيلَ: بِبَغْدَادَ. وَتَقْدِيرُ عُمْرِهِ أَرْبَعُونَ
سَنَةً، وَذُكِرَ فِي " الْبُسْتَانِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ
خَمْسِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ، وَإِنَّمَا أَرَّخَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ،
وَسَيَأْتِي لَهُ تَرْجَمَةٌ مُطَوَّلَةٌ.
ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ.
ثَوْبَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - وَقِيلَ: الْفَيْضُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - أَبُو
الْفَيْضِ الْمِصْرِيُّ، أَحَدُ الْمَشَايِخِ الْمَذْكُورِينَ فِي رِسَالَةٍ
الْقُشَيْرِيِّ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ
الْقَاضِي
ابْنُ خِلِّكَانَ فِي الْوَفَيَاتِ، وَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ فَضَائِلِهِ
وَأَحْوَالِهِ وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي
بَعْدَهَا. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي جُمْلَةِ مَنْ رَوَى الْمُوَطَّأَ عَنْ مَالِكٍ. وَذَكَرَهُ
ابْنُ يُونُسَ فِي " تَارِيخِ مِصْرَ "، وَقَالَ: كَانَ أَبُوهُ
نُوبِيًّا. وَقِيلَ: مِنْ أَهْلِ إِخْمِيمَ. وَكَانَ حَكِيمًا فَصِيحًا. وَقِيلَ:
وَسُئِلَ عَنْ سَبَبِ تَوْبَتِهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى قُنْبُرَةً عَمْيَاءَ
نَزَلَتْ مِنْ وِكْرِهَا فَانْشَقَّتِ الْأَرْضُ عَنْ سُكُرَّجَتَيْنِ مَنْ ذَهَبٍ
وَفِضَّةٍ فِي إِحْدَاهِمَا سِمْسِمٌ، وَفِي الْأُخْرَى مَاءٌ، فَأَكَلَتْ مِنْ
هَذِهِ، وَشَرِبَتْ مِنْ هَذِهِ. وَقَدْ شُكِيَ مَرَّةً إِلَى الْمُتَوَكِّلِ
فَأَحْضَرَهُ مِنْ مِصْرَ إِلَى الْعِرَاقِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَعَظَهُ
فَأَبْكَاهُ، فَرَدَّهُ مُكَرَّمًا إِلَى بَلَدِهِ. فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا
ذُكِرَ عِنْدَهُ بَكَى عَلَيْهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْهَا دَخَلَ الْمُتَوَكِّلُ الْمَاحُوزَةَ، فَنَزَلَ
بِقَصْرِ الْخِلَافَةِ مِنْهَا، وَاسْتَدْعَى بِالْقُرَّاءِ ثُمَّ
بِالْمُطْرِبِينَ، وَأَعْطَى وَأَطْلَقَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا وَقَعَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ،
فَفُودِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوٌ مَنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ أَسِيرٍ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا مُطِرَتْ بَغْدَادُ مَطَرًا عَظِيمًا اسْتَمَرَّ نَحْوًا
مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَوَقَعَ بِأَرْضِ بَلْخَ مَطَرٌ مَاؤُهُ دَمٌ
عَبِيطٌ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الزَّيْنَبِيُّ، وَحَجَّ
فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَوَلِيَ
هُوَ أَمْرَ الْمَوْسِمِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ.
وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ.
وَأَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْمَشَاهِيرِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى الْحِمْصِيُّ.
وَدِعْبِلُ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَزِينِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْخُزَاعِيُّ.
مَوْلَاهُمُ الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ الْبَلِيغُ فِي الْمَدْحِ وَفِي الْهِجَاءِ
أَكْثَرُ. قَالَ: حَضَرَ يَوْمًا عِنْدَ سَهْلِ بْنِ هَارُونَ الْكَاتِبِ وَكَانَ
بَخِيلًا، فَاسْتَدْعَى بِغَدَائِهِ فَإِذَا دِيكٌ فِي قَصْعَةٍ، وَإِذَا هُوَ
عَاسٍ لَا يَقْطَعُهُ سِكِّينٌ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ ضِرْسٌ فُقِدَ رَأَسُهُ،
فَقَالَ لِلطَّبَّاخِ: وَيْلَكَ مَاذَا صَنَعْتَ بِهِ ؟ أَيْنَ رَأْسُهُ ؟ قَالَ:
ظَنَنْتُ أَنَّكَ لَا تَأْكُلُهُ فَأَلْقَيْتُهُ. فَقَالَ: وَيْحَكَ، وَاللَّهِ
إِنِّي لَأَعِيبُ عَلَى مَنْ يُلْقِي الرِّجْلَيْنِ فَكَيْفَ بِالرَّأْسِ، وَفِيهِ
الْحَوَاسُّ الْأَرْبَعُ، وَمِنْهُ يُصَوِّتُ، وَبِهِ فَضْلٌ، وَعَيْنَاهُ
يُضْرَبُ بِهِمَا الْمَثَلُ، وَعُرْفُهُ وَبِهِ يُتَبَرَّكُ، وَعَظْمُهُ أَهَشُّ
الْعِظَامِ، فَإِنْ كُنْتَ رَغِبْتَ عَنْ أَكْلِهِ فَأَحْضِرْهُ. فَقَالَ: لَا
أَدْرِي أَيْنَ هُوَ. فَقَالَ: بَلْ أَنَا أَدْرِي، هُوَ فِي بَطْنِكَ قَاتَلَكَ
اللَّهُ.
أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ.
وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونِ بْنِ
عَبَّاسِ
بْنِ الْحَارِثِ أَبُو الْحَسَنِ التَّغْلِبِيُّ الْغَطَفَانِيُّ أَحَدُ
الزُّهَّادِ الْمَشْهُورِينَ، وَالْعُبَّادِ الْمَذْكُورِينَ، وَالْأَبْرَارِ
الْمَشْكُورِينَ ذَوِي الْأَحْوَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْكَرَامَاتِ الصَّادِقَةِ
أَصْلُهُ مِنَ الْكُوفَةِ وَسَكَنَ دِمَشْقَ وَتَتَلْمَذَ لِلشَّيْخِ أَبِي
سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَوَكِيعٍ، وَأَبِي أُسَامَةَ، وَخَلْقٍ. وَعَنْهُ
أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ
الدِّمَشْقِيُّ، وَأَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ، ذَكَرَهُ أَبُو
حَاتِمٍ فَأَثْنَى عَلَيْهِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: إِنِّي لَأَظُنُّ
أَنَّ اللَّهُ يَسْقِي أَهْلَ الشَّامِ بِهِ. وَكَانَ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
يَقُولُ: هُوَ رَيْحَانَةُ الشَّامِ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَاهَدَ أَبَا
سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ أَلَّا يُغْضِبَهُ وَلَا يُخَالِفَهُ، فَجَاءَهُ
يَوْمًا وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، قَدْ سَجَّرُوا
التَّنُّورَ فَمَاذَا تَأْمُرُ ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَبُو سُلَيْمَانَ ;
لِشُغْلِهِ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَعَادَهَا أَحْمَدُ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً، فَقَالَ
لَهُ فِي الثَّالِثَةِ: اذْهَبْ فَاقْعُدْ فِيهِ. ثُمَّ اشْتَغَلَ أَبُو
سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّاسِ ثُمَّ اسْتَفَاقَ فَقَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ:
إِنِّي قُلْتُ لِأَحْمَدَ: اذْهَبْ فَاقْعُدْ فِي التَّنُّورِ،
وَإِنِّي
أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقُومُوا بِنَا إِلَيْهِ، فَذَهَبُوا
فَوَجَدُوهُ جَالِسًا فِي التَّنُّورِ، وَلَمْ يَحْتَرِقْ مِنْهُ شَعْرَةٌ
وَاحِدَةٌ.
وَرَوِيَ أَيْضًا أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي الْحَوَارِيِّ أَصْبَحَ ذَاتَ يَوْمٍ
وَقَدْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا يُصْلِحُ بِهِ الْوَلَدَ،
فَقَالَ لِخَادِمِهِ: اذْهَبْ فَاسْتَدِنْ لَنَا وَزْنَةً مِنْ دَقِيقٍ،
فَبَيْنَمَا هُوَ فِي ذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ
فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ
فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ، إِنَّهُ قَدْ وُلِدَ لِيَ اللَّيْلَةَ وَلَدٌ وَلَا
أَمْلِكُ شَيْئًا. فَرَفَعَ أَحْمَدُ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: يَا
مَوْلَايَ، هَكَذَا بِالْعَجَلَةِ ! وَقَالَ لِلرَّجُلِ: خُذْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ
لَكَ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا دِرْهَمًا، وَاسْتَدَانَ لِأَهْلِهِ دَقِيقًا.
وَرَوَى عَنْهُ خَادِمُهُ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الثَّغْرِ لِلرِّبَاطِ، فَمَا
زَالَتِ الْهَدَايَا تَفِدُ إِلَيْهِ مِنْ بُكْرَةِ النَّهَارِ إِلَى الزَّوَالِ،
ثُمَّ فَرَّقَهَا كُلَّهَا إِلَى وَقْتِ الْغُرُوبِ، ثُمَّ قَالَ لِي: كُنْ
هَكَذَا لَا تَرُدَّ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَدَّخِرْ عَنْهُ شَيْئًا.
وَلَمَّا جَاءَتِ الْمِحْنَةُ زَمَنَ الْمَأْمُونِ إِلَى دِمَشْقَ بِخَلْقِ
الْقُرْآنِ، عُيِّنَ فِيهَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ، وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ،
وَسُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ،
فَكُلُّهُمْ أَجَابُوا إِلَّا أَحْمَدَ بْنَ أَبِي الْحَوَارِيِّ، فَحُبِسَ
بِدَارِ الْحِجَارَةِ، ثُمَّ
هُدِّدَ فَأَجَابَ تَوْرِيَةً مُكْرَهًا، ثُمَّ أُطْلِقَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ قَامَ لَيْلَةً بِالثَّغْرِ يُكَرِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [ الْفَاتِحَةِ: 5 ] حَتَّى أَصْبَحَ، وَقَدْ أَلْقَى كُتُبَهُ فِي الْبَحْرِ وَقَالَ: نِعْمَ الدَّلِيلُ كُنْتَ لِي عَلَى اللَّهِ وَإِلَيْهِ، وَلَكِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالدَّلِيلِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ مُحَالٌ، وَمِنْ كَلَامِهِ: لَا دَلِيلَ عَلَى اللَّهِ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ الْعِلْمُ لِآدَابِ الْخِدْمَةِ. وَقَالَ: مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا زَهِدَ فِيهَا، وَمَنْ عَرَفَ الْآخِرَةَ رَغِبَ فِيهَا، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ آثَرَ رِضَاهُ، وَقَالَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى الدُّنْيَا نَظَرَ إِرَادَةٍ وَحُبٍّ لَهَا أَخْرَجَ اللَّهُ نُورَ الْيَقِينِ وَالزُّهْدَ مَنْ قَلْبِهِ، وَقَالَ: قُلْتُ لِأَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِي: أَوْصِنِي. فَقَالَ: أَمُسْتَوْصٍ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ: خَالِفْ نَفْسَكَ فِي كُلِّ مُرَادٍ لَهَا ; فَإِنَّهَا الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحْقِرَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاجْعَلْ طَاعَةَ اللَّهِ دِثَارًا، وَالْخَوْفَ مِنْهُ شِعَارًا، وَالْإِخْلَاصَ زَادًا، وَالصِّدْقَ جُنَّةً، وَاقْبَلْ مِنِّي هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ وَلَا تُفَارِقْهَا وَلَا تَغْفَلْ عَنْهَا: إِنَّهُ مَنِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ بَلَّغَهُ إِلَى مَقَامِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ: فَجَعَلْتُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ أَمَامِي، فَفِي كُلِّ وَقْتٍ أَذْكُرُهَا وَأُطَالِبُ نَفْسِي بِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي شَوَّالٍ مِنْهَا كَانَ مَقْتَلُ الْخَلِيفَةِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ
عَلَى يَدَيْ وَلَدِهِ الْمُنْتَصِرِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَ
ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ الْمُعْتَزَّ الَّذِي هُوَ وَلِيُّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِهِ أَنْ يَخْطُبَ بِالنَّاسِ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَأَدَّاهَا أَدَاءً
عَظِيمًا بَلِيغًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْتَصِرِ كُلَّ مَبْلَغٍ، وَحَنَقَ
عَلَى أَبِيهِ وَأَخِيهِ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَنْ أَحْضَرَهُ أَبُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَأَهَانَهُ وَأَمَرَ بِضَرْبِهِ فِي رَأْسِهِ وَصَفْعِهِ وَصَرَّحَ بِعَزْلِهِ
عَنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَخِيهِ، فَاشْتَدَّ أَيْضًا حَنَقُهُ
أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عِيدِ الْفِطْرِ خَطَبَ
الْخَلِيفَةُ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ بِالنَّاسِ وَعِنْدَهُ بَعْضُ
التَّشَكِّي مِنْ عِلَّةٍ بِهِ، ثُمَّ عَدَلَ إِلَى خِيَامٍ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ ;
أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ فِي مِثْلِهَا، فَنَزَلَ هُنَاكَ ثُمَّ اسْتَدْعَى فِي يَوْمِ
ثَالِثِ الشَّهْرِ بِنُدَمَائِهِ، وَكَانَ عَلَى عَادَتِهِ فِي سَمَرِهِ
وَحَضْرَتِهِ وَشُرْبِهِ ثُمَّ تَمَالَأَ وَلَدُهُ الْمُنْتَصِرُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ
الْأُمَرَاءِ عَلَى الْفَتْكِ بِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فِي لَيْلَةِ
الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ - وَيُقَالُ: مِنْ شَعْبَانَ -
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ عَلَى السِّمَاطِ، فَابْتَدَرُوهُ بِالسُّيُوفِ
فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ وَلَّوْا بَعْدَهُ وَلَدَهُ الْمُنْتَصِرَ عَلَى مَا
سَنَذْكُرُهُ.
وَهَذِهِ
تَرْجَمَةُ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ
جَعْفَرُ ابْنُ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْمَهْدِيِّ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، أَبُو الْفَضْلِ
الْمُتَوَكِّلُ. وَأُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا: شُجَاعُ. وَكَانَتْ مِنْ
سَرَوَاتِ النِّسَاءِ سَخَاءً وَحَزْمًا. كَانَ مَوْلِدُهُ بِفَمِ الصُّلْحِ
سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ، وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ
الْوَاثِقِ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِسَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَرَوَى الْخَطِيبُ مِنْ
طَرِيقِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ،
عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:مَنْ حُرِمَ الرِّفْقَ حُرِمَ
الْخَيْرَ ثُمَّ أَنْشَأَ الْمُتَوَكِّلُ يَقُولُ:
الرِّفْقُ يُمْنٌ وَالْأَنَاةُ سَعَادَةٌ فَاسْتَأْنَ فِي رِفْقٍ تُلَاقِ نَجَاحَا
لَا خَيْرَ فِي حَزْمٍ بِغَيْرِ رَوِيَّةٍ
وَالشَّكُ وَهْنٌ إِنْ أَرَدْتَ سَرَاحَا
وَقَالَ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ: وَحَدَّثَ عَنْ أَبِيهِ
الْمُعْتَصِمِ، وَيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ الْقَاضِي. وَرَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ
الْجَهْمِ الشَّاعِرُ، وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيُّ، وَقَدِمَ دِمَشْقَ
فِي خِلَافَتِهِ، وَابْتَنَى بِهَا قَصْرًا بِأَرْضِ دَارَيَّا، وَقَالَ يَوْمًا
لِبَعْضِهِمْ: إِنَّ الْخُلَفَاءَ كَانَتْ تَتَصَعَّبُ عَلَى الرَّعِيَّةِ
لِتُطِيعَهَا، وَإِنِّي أَلِينُ لَهُمْ لِيُحِبُّونِي وَيُطِيعُونِي. وَقَالَ
أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ الْمَالِكِيُّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَصْرِيُّ
قَالَ: وَجَّهَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ الْمُعَذَّلِ وَغَيْرِهِ مِنَ
الْعُلَمَاءِ، فَجَمَعَهُمْ فِي دَارِهِ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ النَّاسُ
كُلُّهُمْ إِلَيْهِ غَيْرَ أَحْمَدَ بْنِ الْمُعَذَّلِ، فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ
لِعُبَيْدِ اللَّهِ: إِنَّ هَذَا لَا يَرَى بَيْعَتَنَا ؟ فَقَالَ لَهُ: بَلَى يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ فِي بَصَرِهِ سُوءٌ. فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُعَذَّلِ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْنِينَ، مَا فِي بَصَرِي سُوءٌ، وَلَكِنْ نَزَّهْتُكَ مِنْ
عَذَابِ اللَّهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:مَنْ
أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ
مِنَ النَّارِ فَجَاءَ الْمُتَوَكِّلُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْجَهْمِ دَخَلَ عَلَى
الْمُتَوَكِّلِ وَفِي يَدِهِ دُرَّتَانِ يُقَلِّبُهُمَا، فَأَنْشُدُهُ قَصِيدَتَهُ
الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
وَإِذَا
مَرَرْتَ بِبِئْرِ عُرْ وَةَ فَاسْقِنِي مِنْ مَائِهَا
فَأَعْطَاهُ الَّتِي فِي يَمِينِهِ وَكَانَتْ تُسَاوِي مِائَةَ أَلْفٍ، ثُمَّ
أَنْشَدَهُ:
بِسُرَّ مَنْ رَأَى أَمِيرُ عَدْلٍ تَغْرِفُ مِنْ بَحْرِهِ الْبِحَارُ
يُرْجَى وَيُخْشَى لِكُلِّ خَطْبٍ كَأَنَّهُ جَنَّةٌ وَنَارُ
الْمُلْكُ فِيهِ وَفِي بَنِيهِ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ
يَدَاهُ فِي الْجُودِ ضَرَّتَانِ عَلَيْهِ كِلْتَاهُمَا تَغَارُ
لَمْ تَأْتِ مِنْهُ الْيَمِينُ شَيْئًا إِلَّا أَتَتْ مِثْلَهُ الْيَسَارُ
قَالَ: فَأَعْطَاهُ الَّتِي فِي يَسَارِهِ أَيْضًا. وَقَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ
رُوِيَتْ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَارُونَ لِلْبُحْتُرِيِّ فِي
الْمُتَوَكِّلِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَهْمِ قَالَ: وَقَفَتْ قَبِيحَةُ
حَظِيَّةُ الْمُتَوَكِّلِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَدْ كَتَبَتْ عَلَى خَدِّهَا بِالْغَالِيَةِ:
جَعْفَرٌ. فَتَأَمَّلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
وَكَاتِبَةٍ فِي الْخَدِّ بِالْمِسْكِ جَعْفَرًا بِنَفْسِي مَحَطُّ الْمِسْكِ مِنْ
حَيْثُ أَثَّرَا
لَئِنْ أَوْدَعَتْ سَطْرًا مِنَ الْمِسْكِ خَدَّهَا لَقَدْ أَوْدَعَتْ قَلْبِي
مِنَ الْحُبِّ أَسْطُرًا
فَيَا
مَنْ مُنَاهَا فِي السَّرِيرَةِ جَعْفَرٌ سَقَى اللَّهُ مِنْ سُقْيَا ثَنَايَاكِ
جَعْفَرًا
وَيَا مَنْ لِمَمْلُوكٍ لِمِلْكِ يَمِينِهِ مُطِيعٍ لَهُ فِيمَا أَسَرَّ
وَأَظْهَرَا
قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ عَرِيبًا فَغَنَّتْ بِهِ. وَقَالَ الْفَتْحُ
بْنُ خَاقَانَ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْمُتَوَكِّلِ فَإِذَا هُوَ مُطْرِقٌ
مُفَكِّرٌ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا لَكَ مُفَكِّرًا ؟
فَوَاللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ أَطْيَبُ مِنْكَ عَيْشًا، وَلَا أَنْعَمُ مِنْكَ
بَالًا. فَقَالَ: أَطْيَبُ مِنِّي عَيْشًا رَجُلٌ لَهُ دَارٌ وَاسِعَةٌ،
وَزَوْجَةٌ صَالِحَةٌ، وَمَعِيشَةٌ حَاضِرَةٌ، لَا يَعْرِفُنَا فَنُؤْذِيهِ، وَلَا
يَحْتَاجُ إِلَيْنَا فَنَزْدَرِيهِ.
وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ مُحَبَّبًا إِلَى رَعِيَّتِهِ، قَائِمًا بِالسُّنَّةِ
فِيهَا، وَقَدْ شَبَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِالصِّدِّيقِ فِي رَدِّهِ عَلَى أَهْلِ
الرِّدَّةِ، حَتَّى رَجَعُوا إِلَى الدِّينِ، وَبِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
حِينَ رَدَّ مَظَالِمَ بَنِي أُمَيَّةَ. وَهُوَ أَظْهَرَ السُّنَّةَ بَعْدَ
الْبِدْعَةِ، وَأَخْمَدَ الْبِدْعَةَ بَعْدَ انْتِشَارِهَا وَاشْتِهَارِهَا،
فَرَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي
نُورٍ، فَقَالَ:
آلْمُتَوَكِّلُ
؟ ! فَقَالَ: الْمُتَوَكِّلُ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ ؟ قَالَ: غَفَرَ
لِي. قُلْتُ: بِمَاذَا ؟ قَالَ: بِقَلِيلٍ مِنَ السُّنَّةِ أَحْيَيْتُهَا.
وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ صَالِحِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ
لَيْلَةَ مَاتَ الْمُتَوَكِّلُ كَأَنَّ رَجُلًا يَصْعَدُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ،
وَقَائِلًا يَقُولُ:
مَلِكٌ يُقَادُ إِلَى مَلِيكٍ عَادِلٍ مُتَفَضِّلٍ فِي الْعَفْوِ لَيْسَ بِجَائِرِ
وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شَيْبَانَ الْحَلَبِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ لَيْلَةَ
قُتِلَ الْمُتَوَكِّلُ قَائِلًا يَقُولُ:
يَا نَائِمَ الْعَيْنِ فِي أَقْطَارِ جُثْمَانِ أَفِضْ دُمُوعَكَ يَا عَمْرُو بْنَ
شَيْبَانِ
أَمَا تَرَى الْفِتْيَةَ الْأَرْجَاسَ مَا فَعَلُوا بِالْهَاشِمِيِّ وَبِالْفَتْحِ
بْنِ خَاقَانِ
وَافَى إِلَى اللَّهِ مَظْلُومًا فَضَجَّ لَهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ مِنْ مَثْنَى
وَوُحْدَانِ
وَسَوْفَ تَأْتِيكُمْ أُخْرَى مُسَوَّمَةٌ تَوَقَّعُوهَا لَهَا شَأْنٌ مِنَ
الشَّانِ
فَابْكُوا عَلَى جَعْفَرٍ وَارْثُوا خَلِيفَتَكُمْ فَقَدْ بَكَاهُ جَمِيعُ
الْإِنْسِ وَالْجَانِ
قَالَ: فَأَصْبَحْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّاسَ، فَجَاءَ نَعْيُهُ أَنَّهُ قُتِلَ فِي
تِلْكَ اللَّيْلَةِ. قَالَ: ثُمَّ
رَأَيْتُهُ
بَعْدَ هَذَا بِشَهْرٍ وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي. قُلْتُ: بِمَاذَا ؟
قَالَ: بِقَلِيلٍ مِنَ السُّنَّةِ أَحْيَيْتُهَا. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ هَاهُنَا
؟ قَالَ: أَنْتَظِرُ ابْنِي مُحَمَّدًا أُخَاصِمُهُ إِلَى اللَّهِ الْحَلِيمِ
الْعَظِيمِ الْكَرِيمِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَرِيبًا كَيْفِيَّةَ مَقْتَلِهِ، وَأَنَّ ابْنَهُ مُحَمَّدًا
الْمُسْتَنْصِرَ مَالَأَ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى قَتْلِهِ فِي لَيْلَةِ
الْأَرْبِعَاءِ أَوَّلَ اللَّيْلِ، لِأَرْبَعٍ خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
بِالْمُتَوَكِّلِيَّةِ، وَهِيَ الْمَاحُوزَةُ. وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ وَدُفِنَ بِالْجَعْفَرِيَّةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ أَرْبَعُونَ
سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَشَرَةَ
أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَكَانَ أَسْمَرَ، حَسَنَ الْعَيْنَيْنِ، نَحِيفَ
الْجِسْمِ، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ، أَقْرَبَ إِلَى الْقِصَرِ. وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
خِلَافَةُ مُحَمَّدٍ الْمُنْتَصِرِ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ.
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَمَالَأَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى
قَتْلِ أَبِيهِ، وَحِينَ قُتِلَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَوَكِّلُ بُويِعَ لَهُ
بِالْخِلَافَةِ فِي اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ مِنْ يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ شَوَّالٍ أُخِذَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ مِنَ الْعَامَّةِ،
وَبَعَثَ إِلَى أَخِيهِ الْمُعْتَزِّ فَأَحْضَرَهُ إِلَيْهِ فَبَايَعَهُ
الْمُعْتَزُّ، وَقَدْ
كَانَ
الْمُعْتَزُّ هُوَ وَلِيَّ الْعَهْدِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّهُ أَكْرَهَهُ فَسَلَّمَ
وَبَايَعَ. فَلَمَّا أُخِذَتِ الْبَيْعَةُ لَهُ كَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ
أَنَّهُ اتَّهَمَ الْفَتْحَ بْنَ خَاقَانَ عَلَى قَتْلِ أَبِيهِ، وَقُتِلَ
الْفَتْحُ أَيْضًا ثُمَّ بَعَثَ الْبَيْعَةَ لَهُ إِلَى الْآفَاقِ.
وَفِي ثَانِي يَوْمٍ مِنْ خِلَافَتِهِ وَلَّى الْمَظَالِمَ لِأَبِي عَمْرَةَ أَحْمَدَ
بْنِ سَعِيدٍ، مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، فَقَالَ الشَّاعِرُ:
يَا ضَيْعَةَ الْإِسْلَامِ لَمَّا وَلِيَ مَظَالِمَ النَّاسِ أَبُو عَمْرَهْ
صُيِّرَ مَأْمُونًا عَلَى أُمَّةٍ
وَلَيْسَ مَأْمُونًا عَلَى بَعْرَهْ
وَكَانَتِ الْبَيْعَةُ لَهُ بِالْمُتَوَكِّلِيَّةِ وَهِيَ الْمَاحُوزَةُ،
فَأَقَامَ بِهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَحَوَّلَ هُوَ وَجَمِيعُ قُوَّادِهِ
وَحَشَمِهِ مِنْهَا إِلَى سَامَرَّاءَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَخْرَجَ الْمُنْتَصِرُ عَمَّهُ
عَلِيَّ ابْنَ الْمُعْتَصِمِ مِنْ سَامَرَّاءَ إِلَى بَغْدَادَ وَوَكَّلَ بِهِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الزَّيْنَبِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ.
وَسُفْيَانُ بْنُ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ.
وَسَلَمَةُ بْنُ
شَبِيبٍ.
وَأَبُو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ النَّحْوِيُّ.
وَاسْمُهُ: بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ، شَيْخُ النُّحَاةِ
فِي زَمَانِهِ. أَخَذَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي زَيْدٍ
الْأَنْصَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَأَخَذَ عَنْهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ
وَأَكْثَرَ عَنْهُ، وَلِلْمَازِنِيِّ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ،
وَكَانَ شَبِيهًا بِالْفُقَهَاءِ، وَرِعًا زَاهِدًا ثِقَةً مَأْمُونًا.
رَوَى عَنْهُ الْمُبَرِّدُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ طَلَبَ مِنْهُ
أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ وَيُعْطِيَهُ مِائَةَ دِينَارٍ،
فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَامَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ:
إِنَّمَا تَرَكْتُ هَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. فَاتَّفَقَ
بَعْدَ هَذَا أَنَّ جَارِيَةً غَنَّتْ بِحَضْرَةِ الْوَاثِقِ:
أَظَلُومُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجْلًا رَدَّ السَّلَامَ تَحِيَّةً ظُلْمُ
فَاخْتَلَفَ مَنْ بِحَضْرَةِ الْوَاثِقِ فِي إِعْرَابِ هَذَا الْبَيْتِ، وَهَلْ
يَكُونُ " رَجُلًا " مَرْفُوعًا أَوْ مَنْصُوبًا، وَبِمَ نُصِبَ ؟
أَهْوَ اسْمٌ أَوْ مَاذَا ؟ وَأَصَرَّتِ الْجَارِيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَازِنِيَّ
حَفَّظَهَا هَذَا هَكَذَا. قَالَ: فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا
مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ
لَهُ:
أَنْتَ الْمَازِنِيُّ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مِنْ مَازِنِ تَمِيمٍ، أَمْ مِنْ
مَازِنِ رَبِيعَةَ، أَمْ مِنْ مَازِنِ قَيْسٍ ؟ فَقُلْتُ: مِنْ مَازِنِ رَبِيعَةَ.
فَأَخَذَ يُكَلِّمُنِي بِلُغَتِي، فَقَالَ: بَاسْمُكَ ؟ وَهُمْ يَقْلِبُونَ
الْبَاءَ مِيمًا وَالْمِيمَ بَاءً، فَكَرِهْتُ أَنْ أَقُولَ: مَكْرٌ. فَقُلْتُ:
بَكْرٌ. فَأَعْجَبَهُ إِعْرَاضِي عَنِ الْمَكْرِ إِلَى الْبِكْرِ، وَعَرَفَ مَا
أَرَدْتُ. فَقَالَ: عَلَامَ تَنْصِبُ رَجُلًا ؟ فَقُلْتُ: لِأَنَّهُ مَعْمُولُ
الْمَصْدَرِ ; " مُصَابَكُمْ ". فَأَخَذَ الْيَزِيدِيُّ يُعَارِضُهُ
فَعَلَاهُ الْمَازِنِيُّ بِالْحُجَّةِ، فَأَطْلَقَ لَهُ الْخَلِيفَةُ أَلْفَ دِينَارٍ،
وَرَدَّهُ إِلَى أَهْلِهِ مُكَرَّمًا. فَعَوَّضَهُ اللَّهُ عَنِ الْمِائَةِ
دِينَارٍ لَمَّا تَرَكَهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَمْ يُمَكِّنِ الذِّمِّيَّ
مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ ; لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَلْفَ دِينَارٍ
; عَشْرَةَ أَمْثَالِهَا.
وَرَوَى الْمُبَرِّدُ عَنْهُ قَالَ: أَقَرَأْتُ رَجُلًا كِتَابَ سِيبَوَيْهِ إِلَى
آخِرِهِ، فَلَمَّا انْتَهَى قَالَ لِي: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الشَّيْخُ،
فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَمَّا أَنَا، فَوَاللَّهِ مَا فَهِمْتُ مِنْهُ
حَرْفًا.
تُوُفِّيَ الْمَازِنِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ ثَمَانٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَغْرَبَ مَنْ قَالَ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فَفِيهَا أَغْزَى الْمُنْتَصِرُ وَصِيفًا التُّرْكِيَّ الصَّائِفَةَ لِقِتَالِ
الرُّومِ ; وَذَلِكَ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ قَصَدَ بِلَادَ الشَّامِ فَعِنْدَ
ذَلِكَ جَهَّزَ الْمُنْتَصِرُ وَصِيفًا وَجَهَّزَ مَعَهُ جَيْشًا كَثِيفًا
وَرِجَالًا وَعُدَدًا وَأَمَرَ بِنَفَقَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَأَمَرَهُ إِذَا فَرَغَ
مِنْ قِتَالِ الرُّومِ أَنْ يُقِيمَ بِالثَّغْرِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَكَتَبَ لَهُ
إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، نَائِبِ الْعِرَاقِ كِتَابًا
عَظِيمًا فِيهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي التَّحْرِيضِ لِلنَّاسِ عَلَى الْقِتَالِ
وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ.
وَفِي لَيْلَةِ السَّبْتِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
الْمُبَارَكَةِ خَلَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ الْمُعْتَزُّ
وَالْمُؤَيَّدُ إِبْرَاهِيمُ أَخَوَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَّا الْعَهْدِ
أَنْفَسَهُمَا مِنَ الْخِلَافَةِ، وَأَشْهَدَا عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ، وَأَنَّهُمَا
عَاجِزَانِ عَنِ الْخِلَافَةِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي حِلٍّ مِنْ
بَيْعَتِهِمَا، وَذَلِكَ بَعْدَمَا تَهَدَّدَهُمَا أَخُوهُمَا الْمُنْتَصِرُ،
وَتَوَعَّدَهُمَا بِالْقَتْلِ إِنْ لَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ، وَمَقْصُودُهُ
تَوْلِيَةُ ابْنِهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بِإِشَارَةِ
أُمَرَاءِ
الْأَتْرَاكِ بِذَلِكَ، وَخَطَبَ بِذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ بِحَضْرَةِ
الْقُوَّادِ، وَالْقُضَاةِ، وَأَعْيَانِ بَنِي هَاشِمٍ وَالنَّاسِ عَامَّةً،
وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْآفَاقِ وَالْأَقَالِيمِ ; لِيَعْلَمُوا بِذَلِكَ
وَيَخْطُبُوا لَهُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَيَتَوَالَى عَلَى مَحَالِّ
الْكِتَابَةِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْلُبَهُمَا
الْمُلْكَ وَيَجْعَلَهُ فِي عَقِبِهِ، وَالْأَقْدَارُ تُكَذِّبُهُ وَتُخَالِفُهُ ;
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْ بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِ سِوَى سِتَّةِ
أَشْهُرٍ، فَفِي أَوَاخِرِ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَرَضَتْ لَهُ عِلَّةٌ،
كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَقَدْ كَانَ الْمُنْتَصِرُ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّهُ يَصْعَدُ سُلَّمًا،
فَبَلَغَ إِلَى آخَرِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَقَصَّهَا عَلَى بَعْضِ
الْمُعَبِّرِينَ، فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً تَلِي فِيهَا
الْخِلَافَةَ. وَإِذَا هِيَ مُدَّةُ عُمْرِهِ، قَدِ اسْتَكْمَلَهَا فِي هَذِهِ
السَّنَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْنَا عَلَيْهِ يَوْمًا فَإِذَا هُوَ يَبْكِي
وَيَنْتَحِبُ شَدِيدًا، فَسَأَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَنْ بُكَائِهِ، فَقَالَ:
رَأَيْتُ أَبِي الْمُتَوَكِّلَ فِي مَنَامِي هَذَا وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلَكَ يَا
مُحَمَّدُ قَتَلْتَنِي وَظَلَمْتَنِي وَغَصَبْتَنِي خِلَافَتِي، وَاللَّهِ لَا
مُتِّعْتَ بِهَا بَعْدِي إِلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً ثُمَّ مَصِيرُكَ إِلَى
النَّارِ. قَالَ: فَمَا أَمْلِكُ عَيْنِي وَلَا جَزَعِي. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ
أَصْحَابِهِ مِنَ الْغَرَّارِينَ الَّذِينَ يَغُرُّونَ النَّاسَ
وَيَفْتِنُونَهُمْ: هَذِهِ رُؤْيَا وَهِيَ تَصْدُقُ وَتَكْذِبُ،
فَقُمْ
بِنَا إِلَى الشَّرَابِ ; لِيَذْهَبَ هَمُّكَ وَحُزْنُكَ. فَأَمَرَ بِالشَّرَابِ
فَأُحْضِرَ وَجَاءَ نُدَمَاؤُهُ، فَأَخَذَ فِي الْخَمْرِ وَهُوَ مُنْكَسِرُ
الْهِمَّةِ، وَمَا زَالَ كَذَلِكَ مَكْسُورًا حَتَّى مَاتَ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّتِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا هَلَاكُهُ، فَقِيلَ:
إِنَّهُ أَصَابَهُ دَاءٌ فِي رَأْسِهِ فَقُطِّرَ فِي أُذُنِهِ دُهْنٌ، فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَى دِمَاغِهِ عُوجِلَ بِالْمَوْتِ. وَقِيلَ: بَلْ وَرِمَتْ مَعِدَتُهُ
فَانْتَهَى الْوَرَمُ إِلَى قَلْبِهِ فَمَاتَ. وَقِيلَ: بَلْ أَصَابَتْهُ ذَبْحَةٌ
فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَمَاتَ. وَقِيلَ: بَلْ فَصَدَهُ
الْحَجَّامُ بِمِفْصَدٍ مَسْمُومٍ فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ هَذَا الْحَجَّامَ
رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَهُوَ مَحْمُومٌ، فَدَعَا تِلْمِيذًا لَهُ لِيَفْصِدَهُ
فَأَخَذَ مَبَاضِعَ أُسْتَاذِهِ فَاخْتَارَ مِنْهَا أَجْوَدَهَا فَإِذَا بِهِ
ذَلِكَ الْمِبْضَعُ الْمَسْمُومُ الَّذِي فَصَدَ بِهِ الْخَلِيفَةَ، فَفَصَدَ
أُسْتَاذَهُ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَأَنْسَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَجَّامَ،
فَمَا ذَكَرَ حَتَّى رَآهُ قَدْ فَصَدَهُ بِهِ، وَتَحَكَّمَ فِيهِ السُّمُّ
فَأَوْصَى عِنْدَ ذَلِكَ وَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ أُمَّ الْخَلِيفَةِ دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي
مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَتْ لَهُ: كَيْفَ حَالُكَ ؟ فَقَالَ:
ذَهَبَتْ مِنِّي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ.
وَيُقَالُ:
إِنَّهُ أَنْشَدَ لَمَّا أُحِيطَ بِهِ وَأَيِسَ مِنَ الْحَيَاةِ وَهُوَ فِي
السِّيَاقِ:
فَمَا فَرِحَتْ نَفْسِي بِدُنْيَا أَصَبْتُهَا وَلَكِنْ إِلَى الرَّبِّ الْكَرِيمِ
أَصِيرُ
فَمَاتَ يَوْمَ الْأَحَدِ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقْتَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، قِيلَ:
وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إِنَّمَا وَلِيَ الْخِلَافَةَ سِتَّةَ
أَشْهُرٍ لَا أَزْيَدَ مِنْهَا.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَسْمَعُ
النَّاسَ يَقُولُونَ، الْعَامَّةَ وَغَيْرَهُمْ حِينَ وَلِيَ الْمُنْتَصِرُ:
إِنَّهُ لَا يَمْكُثُ فِي الْخِلَافَةِ سِوَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، كَمَا مَكَثَ
شِيرَوَيْهِ بْنُ كِسْرَى حِينَ قَتَلَ أَبَاهُ لِأَجْلِ الْمُلْكِ، وَكَذَلِكَ
وَقَعَ سَوَاءً.
وَقَدْ كَانَ الْمُنْتَصِرُ أَعْيَنَ أَقْنَى قَصِيرًا مَهِيبًا جَيِّدَ
الْبَدَنِ، وَهُوَ أَوَّلُ خَلِيفَةٍ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ أُبْرِزَ قَبْرُهُ،
وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ أُمِّهِ حَبَشِيَّةَ الرُّومِيَّةِ.
وَمِنْ جَيِّدِ كَلَامِهِ قَوْلُهُ: وَاللَّهِ مَا عَزَّ ذُو بَاطِلٍ قَطُّ،
وَلَوْ طَلَعَ الْقَمَرُ مِنْ جَبِينِهِ، وَلَا ذَلَّ ذُو حَقٍّ قَطُّ، وَلَوْ
أَصْفَقَ الْعَالَمُ عَلَيْهِ.
خِلَافَةُ
الْمُسْتَعِينِ بِاللَّهِ
وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْمُعْتَصِمِ بُويِعَ
لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ مَاتَ الْمُنْتَصِرُ، بَايَعَهُ عُمُومُ النَّاسِ،
ثُمَّ خَرَجَتْ عَلَيْهِ شِرْذِمَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ يَقُولُونَ: يَا مُعْتَزُّ،
يَا مَنْصُورُ. فَالْتَفَّ عَلَيْهِمْ خَلْقٌ، وَقَامَ بِنَصْرِ الْمُسْتَعِينِ
جُمْهُورُ الْجَيْشِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أَيَّامًا، فَقُتِلَ خَلْقٌ
مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَانْتُهِبَتْ أَمَاكِنُ كَثِيرَةٌ مِنْ بَغْدَادَ وَجَرَتْ
فِتَنٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِلْمُسْتَعِينِ فَعَزَلَ
وَوَلَّى، وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَأَمَرَ وَنَهَى.
وَفِيهَا مَاتَ بُغَا الْكَبِيرُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَوَلَّى الْخَلِيفَةُ
مَكَانَهُ وَلَدَهُ مُوسَى بْنَ بُغَا، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ،
وَآثَارٌ سَامِيَةٌ، وَغَزَوَاتٌ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مُتَوَالِيَةٌ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ابْتَاعَ الْمُسْتَعِينُ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْمُعْتَزِّ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْمَتَاعِ وَالْأَثَاثِ وَالضِّيَاعِ بِمَا
قِيمَتُهُ عَشَرَةُ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعَشْرُ حَبَّاتِ جَوْهَرٍ،
وَمِنْ
إِبْرَاهِيمَ بِمَا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ وَثَلَاثُ
حَبَّاتٍ.
وَفِيهَا عَدَا أَهْلُ حِمْصَ عَلَى عَامِلِهِمْ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ
أَظْهُرِهِمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْمُسْتَعِينُ فَأَخَذَ مِنْهُمْ مِائَةَ
رَجُلٍ مِنْ سَرَاتِهِمْ، وَأَمَرَ بِهَدْمِ سُورِهِمْ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الزَّيْنَبِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ، وَعَبْدُ
الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبٍ، وَعِيسَى بْنُ
حَمَّادٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ،
وَمُحَمَّدُ
بْنُ زُنْبُورٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ أَبُو كُرَيْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
يَزِيدَ أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ.
وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ، وَاسْمُهُ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عُثْمَانَ بْنِ يَزِيدَ الْجُشَمِيُّ، أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ
النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ، صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَكَانَ
بَارِعًا فِي اللُّغَةِ اشْتَغَلَ فِيهَا عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ،
وَالْأَصْمَعِيِّ، وَأَكْثَرَ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ،
وَأَخَذَ عَنْهُ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ دُرَيْدٍ، وَغَيْرُهُمَا.
وَكَانَ عَبْدًا صَالِحًا، كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالتِّلَاوَةِ، يَتَصَدَّقُ كُلَّ
يَوْمٍ بِدِينَارٍ، وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ خَتْمَةً، وَلَهُ شِعْرٌ
كَثِيرٌ ; مِنْهُ قَوْلُهُ:
أَبْرَزُوا وَجْهَهُ الْجَمِي لَ وَلَامُوا مَنِ افْتُتِنْ
لَوْ
أَرَادُوا صِيَانَتِي
سَتَرُوا وَجْهَهُ الْحَسَنْ
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ. وَقِيلَ: فِي
رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ النِّصْفِ مِنْ رَجَبٍ مِنْهَا الْتَقَى جَمْعٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَخَلْقٌ مِنَ الرُّومِ بِالْقُرْبِ مِنْ مَلَطْيَةَ
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا، قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَقُتِلَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَقْطَعِ،
وَقُتِلَ مَعَهُ أَلْفَا رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ قُتِلَ
الْأَمِيرُ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْأَرْمَنِيُّ فِي طَائِفَةٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَقَدْ
كَانَ هَذَانَ الْأَمِيرَانِ مِنْ أَكْبَرِ أَنْصَارِ الْإِسْلَامِ.
وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ صَفَرٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَامَّةَ كَرِهُوا جَمَاعَةً مِنَ
الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ قَدْ تَغَلَّبُوا عَلَى أَمْرِ الْخِلَافَةِ، وَقَتَلُوا
الْمُتَوَكِّلَ، وَاسْتَضْعَفُوا الْمُنْتَصِرَ وَالْمُسْتَعِينَ بَعْدَهُ ;
فَنَهَضُوا إِلَى السِّجْنِ، فَأَخْرَجُوا مَنْ فِيهِ، وَجَاءُوا إِلَى الْجِسْرِ
فَقَطَعُوهُ وَضَرَبُوا الْآخَرَ بِالنَّارِ، فَأَحْرَقُوهُ، وَنَادَوْا
بِالنَّفِيرِ فَاجْتَمَعَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَنَهَبُوا أَمَاكِنَ
مُتَعَدِّدَةً، وَذَلِكَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ ثُمَّ جَمَعَ
أَهْلُ الْيَسَارِ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً ; لِتُصْرَفَ إِلَى
مَنْ
يَنْهَضُ
إِلَى ثُغُورِ الرُّومِ لِقِتَالِهِمْ عِوَضًا عَنْ مَنْ قُتِلَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ هُنَاكَ، فَأَقْبَلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ نَوَاحِي الْجِبَالِ
وَالْأَهْوَازِ وَفَارِسَ وَغَيْرِهَا لِغَزْوِ الرُّومِ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْخَلِيفَةَ وَالْجَيْشَ تَأَخَّرُوا عَنِ النُّهُوضِ فَغَضِبَتِ الْعَامَّةُ
مِنْ ذَلِكَ، وَفَعَلُوا مَا ذَكَرْنَا.
وَلِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ نَهَضَ عَامَّةُ أَهْلِ سَامَرَّا
إِلَى السِّجْنِ، فَأَخْرَجُوا مَنْ فِيهِ، وَجَاءَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْجَيْشِ،
يُقَالُ لَهُمُ: الزُّرَافَةُ، فَهَزَمَتْهُمُ الْعَامَّةُ فَرَكِبَ عِنْدَ
ذَلِكَوَصِيفٌ وَبُغَا الصَّغِيرُ وَعَامَّةُ الْأَتْرَاكِ، فَقَتَلُوا مِنَ
الْعَامَّةِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَجَرَتْ فِتَنٌ طَوِيلَةٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ
سَكَنَتْ.
وَفِي النِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ،
وَذَلِكَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَعِينَ كَانَ قَدْ فَوَّضَ أَمْرَ
الْخِلَافَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى ثَلَاثَةٍ ;
وَهُمْ أُتَامِشُ التُّرْكِيُّ، وَكَانَ أَخَصَّ مَنْ عِنْدَهُ، وَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ الْوَزِيرِ، وَفِي حِجْرِهِ الْعَبَّاسُ ابْنُ الْمُسْتَعِينِ
يُرَبِّيهِ، وَيَعَلِّمُهُ الْفُرُوسِيَّةَ، وَشَاهَكُ الْخَادِمُ، وَأُمُّ
الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ لَا يَمْنَعُهَا شَيْئًا تُرِيدُهُ، وَكَانَ لَهَا كَاتِبٌ
يُقَالُ لَهُ: سَلَمَةُ بْنُ سَعِيدٍ
النَّصْرَانِيُّ.
فَأَقْبَلَ أُتَامِشُ فَأَسْرَفَ فِي أَخْذِ الْأَمْوَالِ حَتَّى لَمْ يُبْقِ
بِبَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا، فَغَضِبَ الْأَتْرَاكُ مِنْ ذَلِكَ، وَغَارَتْ مِنْهُ
فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَرَكِبُوا إِلَيْهِ، وَأَحَاطُوا بِقَصْرِ
الْخِلَافَةِ، وَهُوَ عِنْدَ الْمُسْتَعِينِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ مَنْعُهُ
مِنْهُمْ، وَلَا دَفْعُهُمْ عَنْهُ فَأَنْزَلُوهُ صَاغِرًا فَقَتَلُوهُ،
وَانْتَهَبُوا أَمْوَالَهُ وَحَوَاصِلَهُ وَدُورَهُ، وَاسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ
بَعْدَهُ أَبَا صَالِحٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَزْدَادَ، وَوَلَّى
بُغَا الصَّغِيرَ فِلَسْطِينَ، وَوَلَّى وَصِيفًا الْأَهْوَازَ، وَجَرَى خَبْطٌ
كَبِيرٌ، وَوَهْنٌ كَثِيرٌ مِنْ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ.
وَتَحَرَّكَتِ الْمَغَارِبَةُ بِسَامَرَّا فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ
خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ فَيَرْكَبُونَ، ثُمَّ
يَتَفَرَّقُونَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَهُوَ الْيَوْمُ
السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ تَمُّوزَ، مُطِرَ أَهْلُ سَامَرَّا مَطَرًا عَظِيمًا
بِرَعْدٍ وَبَرْقٍ، وَالْغَيْمُ مُطْبِقٌ، وَالْمَطَرُ مُسْتَهِلٌّ كَثِيرٌ مِنْ
أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ أَصَابَ
أَهْلَ الرَّيِّ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ جِدًّا، وَرَجْفَةٌ هَائِلَةٌ تَهَدَّمَتْ
مِنْهَا الدُّورُ، وَمَاتَ مِنْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَخَرَجَ بَقِيَّةُ أَهْلِهَا
إِلَى الصَّحْرَاءِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُوسَى بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الْإِمَامُ،
وَهُوَ وَالِي مَكَّةَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَزَّانُ.
وَالْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ، صَاحِبُ كِتَابِ " السُّنَنِ
".
وَرَجَاءُ بْنُ مُرَجَّى الْحَافِظُ.
وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ " وَ " التَّفْسِيرِ
" الْحَافِلِ.
وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ.
وَعَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ بْنِ بَدْرِ بْنِ الْجَهْمِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ أَسَدٍ
الْقُرَشِيُّ السَّامِيُّ.
مِنْ وَلَدِ سَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ، الْخُرَاسَانِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ أَحَدُ
الشُّعَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ، وَأَهْلِ الدِّيَانَةِ الْمُعْتَبَرِينَ.
وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ فِيهِ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ فِيهِ تَحَامُلٌ عَلَى
عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ بِالْمُتَوَكِّلِ، ثُمَّ غَضِبَ
عَلَيْهِ فَنَفَاهُ إِلَى خُرَاسَانَ وَأَمَرَ نَائِبَهُ بِهَا أَنْ يَنْصِبَهُ
يَوْمًا، مُجَرَّدًا، فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ:
بَلَاءٌ لَيْسَ يَعْدِلُهُ بَلَاءٌ عَدَاوَةُ غَيْرِ ذِي حَسَبٍ وَدِينِ يُبِيحُكَ
مِنْهُ عِرْضًا لَمْ يَصُنْهُ
وَيَرْتَعُ مِنْكَ فِي عِرْضٍ مَصُونِ
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي مَرْوَانَ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ حِينَ هَجَاهُ،
فَقَالَ فِي هِجَائِهِ لَهُ:
لَعَمْرُكَ مَا الْجَهْمُ بْنُ بَدْرٍ بِشَاعِرٍ وَهَذَا عَلِيٌّ بَعْدَهُ
يَدَّعِي الشِّعْرَا
وَلَكِنْ أَبِي قَدْ كَانَ جَارًا لِأُمِّهِ فَلَمَّا ادَّعَى الْأَشْعَارَ
أَوْهَمَنِي أَمْرَا
كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ قَدْ قَدِمَ الشَّامَ ثُمَّ عَادَ قَاصِدًا
الْعِرَاقَ فَلَمَّا جَاوَزَ حَلَبَ ثَارَ عَلَيْهِ أُنَاسٌ مِنْ بَنِي كَلْبٍ،
فَقَاتَلَهُمْ فَجُرِحَ جُرْحًا بَلِيغًا فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ فَوُجِدَ بَيْنَ
ثِيَابِهِ رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا:
يَا رَحْمَتَا لِلْغَرِيبِ فِي الْبَلَدِ النَّا زِحِ مَاذَا بِنَفْسِهِ صَنَعَا
فَارَقَ
أَحْبَابَهُ فَمَا انْتَفَعُوا بِالْعَيْشِ مِنْ بَعْدِهِ وَمَا انْتَفَعَا
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَذَا السَّبَبِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
سَنَةُ
خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا كَانَ ظُهُورُ أَبِي الْحُسَيْنِ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ بْنِ يَحْيَى بْنِ
حُسَيْنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ بِالْكُوفَةِ، وَأُمُّهُ أُمُّ الْحُسَيْنِ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ فَدَخَلَ سَامَرَّا،
فَسَأَلَ وَصِيفًا أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقًا، فَأَغْلَظَ لَهُ الْقَوْلَ،
فَرَجَعَ إِلَى أَرْضِ الْكُوفَةِ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الْأَعْرَابِ،
وَخَرَجَ إِلَيْهِ خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَنَزَلَ عَلَى الْفَلُّوجَةِ،
وَقَدْ كَثُرَ الْجَمْعُ مَعَهُ، فَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
طَاهِرٍ نَائِبُ الْعِرَاقِ إِلَى عَامِلِ الْكُوفَةِ وَهُوَ أَيُّوبُ بْنُ
الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ يَأْمُرُهُ
بِمُقَاتَلَتِهِ. وَدَخَلَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ إِلَى الْكُوفَةِ فَاحْتَوَى عَلَى بَيْتِ مَالِهَا فَلَمْ يَجِدْ
فِيهِ سِوَى أَلْفَيْ دِينَارٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَظَهَرَ أَمْرُهُ
بِالْكُوفَةِ، وَفَتَحَ
السِّجْنَيْنِ، وَأَطْلَقَ مَنْ فِيهِمَا، وَأَخْرَجَ نُوَّابَ الْخَلِيفَةِ مِنْهَا، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، وَاسْتَحْكَمَ أَمْرُهُ بِهَا، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الزَّيْدِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى سَوَادِهَا، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَيْهَا، فَتَلَقَّاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْخَطَّابِ الْمُلَقَّبُ وَجْهَ الْفُلْسِ، فَقَاتَلَهُ قِتَالًا شَدِيدًا فَانْهَزَمَ وَجْهُ الْفُلْسِ، وَدَخَلَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ الْكُوفَةَ وَدَعَا إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ جَدًّا، وَصَارَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهَا، وَتَوَلَّاهُ أَهْلُ بَغْدَادَ مِنَ الْعَامَّةِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى التَّشَيُّعِ، وَأَحَبُّوهُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانُوا يُحِبُّونَ أَحَدًا مِنَ الْخَارِجِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَشَرَعَ فِي تَحْصِيلِ السِّلَاحِ، وَإِعْدَادِ آلَاتِ الْحَرْبِ، وَجَمْعِ الرِّجَالِ، وَقَدْ خَرَجَ نَائِبُ الْكُوفَةِ مِنْهَا وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ إِلَى ظَاهِرِهَا، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَمْدَادٌ كَثِيرَةٌ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَاسْتَرَاحُوا وَجَمَّتْ خُيُولُهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ أَشَارَ مَنْ أَشَارَ عَلَى يَحْيَى بْنِ عُمَرَ مِمَّنْ لَا رَأْيَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ فَيُنَاجِزَ الْحُسَيْنَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، وَيَكْبِسَ جَيْشَهُ، فَرَكِبَ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ فِيهِ خَلْقٌ مِنَ الْفُرْسَانِ وَالْمُشَاةِ أَيْضًا مِنْ عَامَّةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِغَيْرِ أَسْلِحَةٍ، فَسَارُوا فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ نَهَضُوا إِلَيْهِمْ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فِي ظُلْمَةِ آخِرِ اللَّيْلِ فَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ إِلَّا وَقَدِ انْكَشَفَ أَصْحَابُ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ وَدَاسَتْهُمُ الْخُيُولُ، وَوَجَدُوا يَحْيَى بْنَ عُمَرَ قَدْ تَقَنْطَرَ بِهِ فَرَسُهُ وَطُعِنَ
فِي
ظَهْرِهِ فَحَزُّوا رَأَسَهُ، وَحَمَلُوهُ إِلَى الْأَمِيرِ فَبَعَثَهُ إِلَى
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ مِنَ
الْغَدِ مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخُو عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْخَطَّابِ فَنُصِبَ بِسَامَرَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ،
ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى بَغْدَادَ ; لِيُنْصَبَ عِنْدَ الْجِسْرِ، فَلَمْ يُمْكِنْ
ذَلِكَ مِنْ كَثْرَةِ الْعَامَّةِ، فَجُعِلَ فِي خَزَائِنِ السِّلَاحِ. وَلَمَّا
جِيءَ بِرَأْسِ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
طَاهِرٍ دَخَلَ النَّاسُ يُهَنُّونَهُ بِالْفَتْحِ وَالظَّفَرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ
أَبُو هَاشِمٍ دَاوُدُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْجَعْفَرِيُّ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا
الْأَمِيرُ، إِنَّكَ لَتُهَنَّى بِقَتْلِ رَجُلٍ لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا لَعُزِّيَ بِهِ. فَمَا رَدَّ عَلَيْهِ
شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ أَبُو هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيُّ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا بَنِي طَاهِرٍ كُلُوُهُ وَبِيَّا إِنَّ لَحْمَ النَّبِيِّ غُيْرُ مَرِيِّ
إِنَّ وَتْرًا يَكُونُ طَالِبُهُ اللَّهُ
لَوَتْرٌ نَجَاحُهُ بِالْحَرِيِّ
وَكَانَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَعِينُ قَدْ وَجَّهَ أَمِيرًا إِلَى الْحُسَيْنِ
بْنِ إِسْمَاعِيلَ نَائِبِ الْكُوفَةِ فَلَمَّا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ
دَخَلُوا الْكُوفَةَ فَأَرَادَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ أَنْ يَضَعَ فِي أَهْلِهَا
السَّيْفَ، فَمَنَعَهُ الْحُسَيْنُ، وَأَمَّنَ الْأَسْوَدَ وَالْأَبْيَضَ،
وَأَطْفَأَ اللَّهُ هَذِهِ الْفِتْنَةَ.
ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَيْضًا
فَلَمَّا كَانَ رَمَضَانُ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِنَاحِيَةِ طَبَرِسْتَانَ وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ أَقْطَعَ الْمُسْتَعِينُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ طَائِفَةً مِنْ أَرْضِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَبَعَثَ كَاتِبًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: جَابِرُ بْنُ هَارُونَ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا ; لِيَتَسَلَّمَ تِلْكَ الْأَرَاضِيَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ كَرِهُوا ذَلِكَ جِدًّا، وَرَاسَلُوا الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ هَذَا، فَجَاءَ إِلَيْهِمْ فَبَايَعُوهُ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الدَّيْلَمِ، وَجَمَاعَةُ الْأُمَرَاءِ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، فَرَكِبَ فِيهِمْ وَدَخَلَ آمُلَ طَبَرِسْتَانَ وَأَخَذَهَا قَهْرًا، وَجَبَى خَرَاجَهَا، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ جِدًّا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا طَالِبًا لِقِتَالِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرِ تِلْكَ النَّوَاحِي فَالْتَقَيَا هُنَالِكَ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ ثُمَّ انْهَزَمَ سُلَيْمَانُ هَزِيمَةً مُنْكَرَةٌ، وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَلَمْ يَرْجِعْ دُونَ جُرْجَانَ فَدَخَلَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ سَارِيَةَ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَا بِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ، وَسَيَّرَ أَهْلَ سُلَيْمَانَ إِلَيْهِ عَلَى مَرَاكِبَ مُكْرَمِينَ، وَاجْتَمَعَ لِلْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ إِمْرَةُ طَبَرِسْتَانَ بِكَمَالِهَا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الرَّيِّ فَأَخَذَهَا أَيْضًا، وَأَخْرَجَ مِنْهَا الطَّاهِرِيَّةَ، وَصَارَ لَهُ إِلَى حَدِّ هَمَذَانَ وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُ الْمُسْتَعِينَ وَكَانَ مُدَبِّرَ مَلِكِهِ يَوْمَئِذٍ وَصِيفٌ التُّرْكِيُّ اغْتَمَّ لِذَلِكَ جِدًّا، وَاجْتَهَدَ فِي بَعْثِ الْجُيُوشِ وَالْأَمْدَادِ لِقِتَالِ الْحَسَنِ
بْنِ
زَيْدٍ هَذَا.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ بِالرَّيِّ أَحْمَدُ بْنُ
عِيسَى بْنِ حُسَيْنٍ الصَّغِيرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، وَإِدْرِيسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،
فَصَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَ الْعِيدِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى هَذَا، وَدَعَا إِلَى
الرِّضَا مَنْ آلِ مُحَمَّدٍ، فَحَارَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ طَاهِرٍ،
فَهَزَمَهُ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ.
وَفِيهَا وَثَبَ أَهْلُ حِمْصَ عَلَى عَامِلِهِمُ الْفَضْلِ بْنِ قَارَنَ أَخِي
الْمَازَيَارِ بْنِ قَارَنَ فَقَتَلُوهُ فِي رَجَبٍ، فَوَجَّهَ الْمُسْتَعِينُ
إِلَيْهِمْ مُوسَى بْنَ بُغَا الْكَبِيرِ، فَاقْتَتَلُوا بِأَرْضِ الرَّسْتَنِ
فَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِهَا، وَأَحْرَقَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً
مِنْهَا، وَأَسَرَ أَشْرَافَ أَهْلِهَا.
وَفِيهَا وَثَبَتِ الشَّاكِرِيَّةُ وَالْجُنْدُ فِي أَرْضِ فَارِسَ عَلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فَهَرَبَ مِنْهُمْ فَانْتَهَبُوا
دَارَهُ، وَقَتَلُوا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ قَارَنَ، وَفِيهَا غَضِبَ
الْخَلِيفَةُ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَنَفَاهُ إِلَى
الْبَصْرَةِ.
وَفِيهَا أُسْقِطَتْ مَرْتَبَةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَوِيِّينَ فِي دَارِ
الْخِلَافَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا جَعْفَرُ بْنُ الْفَضْلِ أَمِيرُ مَكَّةَ شَرَّفَهَا
اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو
الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ.
وَالْبَزِّيُّ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْمَشَاهِيرِ.
وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ.
وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ.
وَعَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الرَّوَاجِنِيُّ.
وَعَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ.
صَاحِبُ الْكَلَامِ وَالْمُصَنَّفَاتِ.
وَكَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحِمْصِيُّ.
وَنَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا اجْتَمَعَ رَأْيُ الْمُسْتَعِينِ وَبُغَا الصَّغِيرِ وَوَصِيفٍ عَلَى
قَتْلِ بَاغِرَ التُّرْكِيِّ وَكَانَ مِنَ الْقُوَّادِ الْكِبَارِ الَّذِينَ
بَاشَرُوا قَتْلَ الْمُتَوَكِّلِ، وَقَدِ اتَّسَعَ إِقْطَاعُهُ، وَكَثُرَتْ
أَعْمَالُهُ فَقُتِلَ وَنُهِبَتْ دَارُ كَاتِبِهِ دَلِيلِ بْنِ يَعْقُوبَ
النَّصْرَانِيِّ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُ وَحَوَاصِلُهُ، فَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ
فِي حَرَّاقَةِ مَنْ سَامَرَّا إِلَى بَغْدَادَ ; فَاضْطَرَبَتِ الْأُمُورُ
بِسَبَبِ خُرُوجِهِ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ فِي خَامِسِ الْمُحَرَّمِ، فَنَزَلَ
الْخَلِيفَةُ دَارَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ شَنْعَاءُ بَيْنَ جُنْدِ بَغْدَادَ
وَجُنْدِ سَامَرَّا، وَدَعَا أَهْلُ سَامَرَّا إِلَى بَيْعَةِ الْمُعْتَزِّ،
وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ بَغْدَادَ عَلَى الْمُسْتَعِينِ، وَأُخْرِجَ
الْمُعْتَزُّ وَأَخُوهُ الْمُؤَيَّدُ مِنَ السِّجْنِ فَبَايَعَ أَهْلُ سَامَرَّا
الْمُعْتَزَّ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلَ بَيْتِ الْمَالِ بِهَا ; فَإِذَا
بِهَا خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفِي خِزَانَةِ أَمِّ الْمُسْتَعِينِ
أَلْفُ أَلْفُ دِينَارٍ، وَفِي حَوَاصِلِ الْعَبَّاسِ ابْنِ الْمُسْتَعِينِ
سِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ الْمُعْتَزِّ بِسَامَرَّا،
وَأَمَرَ الْمُسْتَعِينُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَنْ
يُحَصِّنَ بَغْدَادَ وَيَعْمَلَ فِي السُّورَيْنِ وَالْخَنْدَقِ، وَغَرِمَ عَلَى
ذَلِكَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَوَكَّلَ
بِكُلِّ بَابٍ أَمِيرًا يَحْفَظُهُ، وَنَصَبَ عَلَى السُّورِ خَمْسَةَ مَجَانِيقَ،
مِنْهَا وَاحِدٌ كَبِيرٌ جِدًّا
يُقَالُ
لَهُ: الْغَضْبَانُ. وَسِتَّ عَرَّادَاتٍ، وَأَعَدُّوا آلَاتِ الْحَرْبِ
وَالْحِصَارِ وَالْعُدَدَ وَقُطِعَتِ الْقَنَاطِرُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ ;
لِئَلَّا يَصِلَ الْجَيْشُ إِلَيْهِمْ.
وَكَتَبَ الْمُعْتَزُّ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ
يَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُ فِي أَمْرِهِ، وَيُذَكِّرُهُ مَا كَانَ
أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ أَبُوهُ الْمُتَوَكِّلُ مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ أَنْ
تَكُونَ الْخِلَافَةُ بَعْدَ الْمُنْتَصِرِ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ بَلْ
رَدَّ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِحُجَجٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا.
وَكَتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْتَعِينِ وَالْمُعْتَزِّ إِلَى مُوسَى بْنِ
بُغَا الْكَبِيرِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِأَطْرَافِ الشَّامِ لِحَرْبِ أَهْلِ حِمْصَ
يَدْعُوهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْوِيَةٍ يَعْقِدُهَا لِمَنِ
اخْتَارَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُسْتَعِينُ يَأْمُرُهُ
بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ إِلَى بَغْدَادَ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي
عَمَلِهِ، فَرَكِبَ مُسْرِعًا فَسَارَ إِلَى سَامَرَّا فَكَانَ مَعَ الْمُعْتَزِّ
عَلَى الْمُسْتَعِينِ، وَكَذَلِكَ هَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُغَا الصَّغِيرِ
مِنْ عِنْدِ أَبِيهِ، مِنْ بَغْدَادَ إِلَى سَامَرَّا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَالْأَتْرَاكِ.
وَعَقَدَ الْمُعْتَزُّ لِأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى
حَرْبِ الْمُسْتَعِينِ، وَجَهَّزَ مَعَهُ جَيْشًا لِذَلِكَ، فَسَارَ فِي خَمْسَةِ
آلَافٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَغَيْرِهِمْ نَحْوَ بَغْدَادَ وَصَلَّى بِعُكْبَرَا
يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَدَعَا لِأَخِيهِ الْمُعْتَزِّ، ثُمَّ وَصَلَ إِلَى
بَغْدَادَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ صَفَرٍ فَاجْتَمَعَتِ
الْعَسَاكِرُ هُنَالِكَ، وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ يُقَالُ
لَهُ:
بَاذِنْجَانَةُ. كَانَ فِي عَسْكَرِ أَبِي أَحْمَدَ:
يَا بَنِي طَاهِرٍ أَتَتْكُمْ جُنُودُ اللَّهِ وَالْمَوْتُ بَيْنَهَا مَنْثُورُ
وَجُيُوشٌ أَمَامَهُنَّ أَبُو أَحْ
مَدَ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ وَفِتَنٌ مَهُولَةٌ جِدًّا قَدْ
ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ مُطَوَّلَةً
ثُمَّ بَعَثَ الْمُعْتَزُّ مَعَ مُوسَى بْنِ أَشْنَاسَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ مَدَدًا
لِأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ، فَوَصَلُوا لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَوَقَفُوا فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ عِنْدَ بَابِ
قُطْرَبُّلَ، وَأَبُو أَحْمَدَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ،
وَالْحَرْبُ مُسْتَعِرَةٌ، وَالْقِتَالُ كَثِيرٌ، وَالْقَتْلُ وَاقِعٌ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذُكِرَ أَنَّ الْمُعْتَزَّ كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ أَبِي
أَحْمَدَ يَلُومُهُ عَلَى التَّقْصِيرِ فِي قِتَالِ أَهْلِ بَغْدَادَ فَكَتَبَ
إِلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ:
لِأَمْرِ الْمَنَايَا عَلَيْنَا طَرِيقُ وَلِلدَّهْرِ فِينَا اتِّسَاعٌ وَضِيقُ
فَأَيَّامُنَا عِبَرٌ لِلَأَنَامِ فَمِنْهَا الْبُكُورُ وَمِنْهَا الطَّرُوقُ
وَمِنْهَا هَنَاتٌ تُشِيبُ الْوَلِيدَ وَيَخْذُلُ فِيهَا الصَّدِيقَ الصَّدِيقُ
وَسُورٌ عَرِيضٌ لَهُ ذِرْوَةٌ تَفُوتُ الْعُيُونَ وَبَحْرٌ عَمِيقُ
قِتَالٌ مُبِيدٌ وَسَيْفٌ عَتِيدٌ وَخَوْفٌ شَدِيدٌ وَحِصْنٌ وَثِيقُ
وَطُولُ
صِيَاحٍ لِدَاعِي الصَّبَاحِ السِّلَاحَ السِّلَاحَ فَمَا يَسْتَفِيقُ
فَهَذَا طَرِيحٌ وَهَذَا جَرِيحٌ وَهَذَا حَرِيقٌ وَهَذَا غَرِيقُ
وَهَذَا قَتِيلٌ وَهَذَا تَلِيلٌ وَآخَرُ يَشْدُخُهُ الْمِنْجَنِيقُ
هُنَاكَ اغْتِصَابٌ وَثَمَّ انْتِهَابٌ وَدُورٌ خَرَابٌ وَكَانَتْ تَرُوقُ
إِذَا مَا سَمَوْنَا إِلَى مَسْلَكٍ وَجَدْنَاهُ قَدْ سُدَّ عَنَّا الطَّرِيقُ
فَبِاللَّهِ نَبْلُغُ مَا نَرْتَجِيهِ وَبِاللَّهِ نَدْفَعُ مَا لَا نُطِيقُ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا الشِّعْرُ يُنْشَدُ لِعَلِيِّ بْنِ أُمَيَّةَ فِي
فِتْنَةِ الْمَخْلُوعِ وَالْمَأْمُونِ.
وَقَدِ اسْتَمَرَّتِ الْفِتْنَةُ وَالْقِتَالُ بِبَغْدَادَ بَيْنَ أَبِي أَحْمَدَ
أَخِي الْمُعْتَزِّ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ نَائِبِ
الْمُسْتَعِينِ، وَالْبَلَدُ مَحْصُورٌ وَأَهْلُهُ فِي ضِيقٍ شَدِيدٍ جِدًّا
بَقِيَّةَ شُهُورِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ
فِي وَقَعَاتٍ مُتَعَدِّدَاتٍ، وَأَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ; فَتَارَةً يَظْهَرُ
أَصْحَابُ أَبِي أَحْمَدَ، وَيَأْخُذُونَ بَعْضَ الْأَبْوَابِ، فَتَحْمِلُ
عَلَيْهِمُ الطَّاهِرِيَّةُ فَيُزِيحُونَهُمْ عَنْهَا، وَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ
خَلْقًا، ثُمَّ يَتَرَاجَعُونَ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ وَيُصَابِرُونَهُمْ
مُصَابَرَةً عَظِيمَةً، لَكِنَّ أَهْلَبَغْدَادَ كُلُّ مَا لَهُمْ إِلَى ضَعْفٍ
بِسَبَبِ قِلَّةِ الْمِيرَةِ وَالْجَلَبِ إِلَى دَاخِلِ الْبَلَدِ.
ثُمَّ شَاعَ بَيْنَ الْعَامَّةِ أَنْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ
يُرِيدُ أَنْ يَخْلَعَ الْمُسْتَعِينَ وَيُبَايِعَ لِلْمُعْتَزِّ، وَذَلِكَ فِي
أَوَاخِرَ السَّنَةِ، فَتَنَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ، وَاعْتَذَرَ إِلَى
الْخَلِيفَةِ
وَإِلَى الْعَامَّةِ، وَحَلَفَ بِالْأَيْمَانِ الْغَلِيظَةِ، فَلَمْ تَبْرَأْ
سَاحَتُهُ مِنْ ذَلِكَ حَقَّ الْبَرَاءَةِ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَاجْتَمَعَتِ
الْعَامَّةُ وَالْغَوْغَاءُ إِلَى دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ، وَالْخَلِيفَةُ نَازِلٌ
بِهَا، فَسَأَلُوا أَنْ يُبْرِزَ لَهُمُ الْخَلِيفَةَ لِيَرَوْهُ وَيَسْأَلُوهُ
عَنِ ابْنِ طَاهِرٍ ; أَهْوَ رَاضٍ عَنْهُ أَمْ لَا ؟ وَمَا زَالَتِ الضَّجَّةُ
وَالْأَصْوَاتُ مُرْتَفِعَةً حَتَّى بَرَزَ الْخَلِيفَةُ مِنْ فَوْقِ الْمَكَانِ
الَّذِي هُمْ فِيهِ، وَعَلَيْهِ السَّوَادُ وَمِنْ فَوْقِهِ الْبُرْدَةُ
النَّبَوِيَّةُ، وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ:
أَقْسَمْتُ عَلَيْكُمْ بِحَقٍّ صَاحِبِ هَذِهِ الْبُرْدَةِ وَالْقَضِيبِ لَمَا
رَجَعْتُمْ إِلَى مَنَازِلِكُمْ، وَرَضِيتُمْ عَنِ ابْنِ طَاهِرٍ ; فَإِنَّهُ غَيْرُ
مُتَّهَمٍ لَدَيَّ. فَسَكَتَ الْغَوْغَاءُ وَرَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ ثُمَّ
انْتَقَلَ الْخَلِيفَةُ مِنْ دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ إِلَى دَارِ رِزْقٍ الْخَادِمِ،
وَذَلِكَ فِي أَوَائِلِ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَصَلَّى بِهِمُ الْعِيدَ يَوْمَ
الْأَضْحَى فِي الْجَزِيرَةِ الَّتِي بِحِذَاءِ دَارَ ابْنِ طَاهِرٍ، وَبَرَزَ
الْخَلِيفَةُ يَوْمَئِذٍ لِلنَّاسِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْحَرْبَةُ، وَعَلَيْهِ
الْبُرْدَةُ، وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا بِبَغْدَادَ
عَلَى مَا بِأَهْلِهَا مِنَ الْحِصَارِ، وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ الْمُتَرْجَمَيْنِ
عَنْ لِبَاسِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ.
وَلَمَّا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ وَضَاقَ الْمَجَالُ، وَجَاعَ
الْعِيَالُ، وَجَهِدَ الرِّجَالُ شَرَعَ ابْنُ طَاهِرٍ يُظْهِرُ مَا كَانَ
كَامِنًا فِي نَفْسِهِ مِنْ خَلْعِ الْمُسْتَعِينِ، فَجَعَلَ يُعَرِّضُ لَهُ
بِذَلِكَ وَلَا يُصَرِّحُ ثُمَّ كَاشَفَهُ بِهِ وَأَظْهَرَهُ لَهُ، وَنَاظَرَهُ
فِيهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي أَنْ تُصَالِحَ عَنِ الْخِلَافَةِ
عَلَى مَالٍ تَأْخُذُهُ سَلَفًا، وَتَعْجِيلًا، وَأَنْ يَكُونَ لَكَ مِنَ
الْخَرَاجِ فِي كُلِّ عَامٍ مَا تَخْتَارُهُ وَتَحْتَاجُهُ. وَلَمْ يَزَلْ
يَفْتِلُ فِي الذِّرْوَةِ،
وَالْغَارِبِ
حَتَّى أَجَابَ إِلَى ذَلِكَ وَأَنَابَ. فَكَتَبَ بِمَا اشْتَرَطَهُ الْمُسْتَعِينُ
فِي خَلْعِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ كِتَابًا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
السَّبْتِ لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ رَكِبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ إِلَى الرُّصَافَةِ، وَجَمَعَ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ،
وَأَدْخَلَهُمْ عَلَى الْمُسْتَعِينِ فَوْجًا فَوْجًا يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ
أَنَّهُ قَدْ صَيَّرَ أَمْرَهُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ،
وَكَذَلِكَ جَمَاعَةُ الْحُجَّابِ وَالْخَدَمِ ثُمَّ تَسَلَّمَ مِنْهُ جَوْهَرَ
الْخِلَافَةِ، وَأَقَامَ عِنْدَ الْمُسْتَعِينِ إِلَى هَوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ،
وَأَصْبَحَ النَّاسُ يَذْكُرُونَ، وَيَتَنَوَّعُونَ فِيمَا يَقُولُونَ مِنَ
الْأَرَاجِيفِ، وَأَمَّا ابْنُ طَاهِرٍ، فَإِنَّهُ أَرْسَلَ بِالْكِتَابِ مَعَ
جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْمُعْتَزِّ بِسَامَرَّا فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ
بِذَلِكَ أَكْرَمَهُمْ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَأَجَازَهُمْ فَأَسْنَى
جَوَائِزَهُمْ، وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ أَوَّلَ السَّنَةِ
الدَّاخِلَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا كَانَ ظُهُورُ رَجُلٍ مِنْ
أَهْلِ الْبَيْتِ أَيْضًا بِأَرْضِ قَزْوِينَ وَزَنْجَانَ ; وَهُوَ الْحُسَيْنُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْأَرْقَطِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،
وَيُعْرَفُ بِالْكَوْكَبِيِّ، وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ هُنَاكَ.
وَفِيهَا خَرَجَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ الْعَلَوِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ
مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنِيِّ. وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ
أَيْضًا.
وَفِيهَا
خَرَجَ بِالْكُوفَةِ أَيْضًا رَجُلٌ مِنَ الطَّالِبِيِّينَ، وَهُوَ الْحُسَيْنُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَوَجَّهَ إِلَيْهِ
الْمُسْتَعِينُ مُزَاحِمَ بْنَ خَاقَانَ فَاقْتَتَلَا فَهُزِمَ الْعَلَوِيُّ،
وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَلَمَّا دَخَلَ مُزَاحِمٌ الْكُوفَةَ
حَرَّقَ بِهَا أَلْفَ دَارٍ، وَنَهَبَ أَمْوَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ،
وَبَاعَ بَعْضَ جِوَارِي الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ هَذَا وَكَانَتْ مُعْتَقَةً
عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ.
وَفِيهَا ظَهَرَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
بِمَكَّةَ، فَهَرَبَ مِنْهُ نَائِبُهَا جَعْفَرُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى بْنِ
مُوسَى، فَانْتَهَبَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ مَنْزِلَهُ، وَمَنَازِلَ
أَصْحَابِهِ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ
وَأَخَذَ مَا فِي الْكَعْبَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالطِّيبِ وَكُسْوَةَ
الْكَعْبَةِ، وَأَخَذَ مِنَ النَّاسِ نَحَوًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ،
ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَهَرَبَ مِنْهُ عَامِلُهَا
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ ثُمَّ رَجَعَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
يُوسُفَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَجَبٍ فَحَصَرَ أَهْلَهَا حَتَّى هَلَكُوا جُوعًا وَعَطَشًا
فَبِيعَ الْخُبْزُ ثَلَاثُ أَوَاقٍ بِدِرْهَمٍ وَاللَّحْمُ الرِّطْلُ
بِأَرْبَعَةٍ، وَشَرْبَةُ الْمَاءِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَلَقِيَ مِنْهُ أَهْلُ
مَكَّةَ كُلَّ بَلَاءٍ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُمْ إِلَى جُدَّةَ بَعْدَ مُقَامِ
سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا فَانْتَهَبَ أَمْوَالَ التُّجَّارِ هُنَالِكَ،
وَأَخَذَ
الْمَرَاكِبَ،
وَقَطَعَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى جُلِبَتْ إِلَيْهَا مِنَ
الْيَمَنِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ لَا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا عَنِ
الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ لَمْ يُمَكِّنِ النَّاسَ مِنَ
الْوُقُوفِ نَهَارًا وَلَا لَيْلًا، وَقَتَلَ مِنَ الْحَجِيجِ أَلْفًا وَمِائَةً،
وَسَلَبَهُمْ أَمْوَالَهُمْ، وَلَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ عَامَئِذٍ سِوَاهُ، وَمِنْ
مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، لَا تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُمْ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ الْكَوْسَجُ.
وَحُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ.
وَعَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ الْحِمْصِيُّ.
وَأَبُو النَّقِيِّ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْيَزَنِيُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ
بَعْدَ خَلْعِ الْمُسْتَعِينِ نَفْسَهُ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَقَدِ اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ بِاسْمِ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ الْمُعْتَزِّ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ بْنِ
مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ
بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَ الْمُعْتَزِّ أَحْمَدُ.
وَقِيلَ: الزُّبَيْرُ. وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ وَتَرْجَمَهُ فِي " تَارِيخِهِ ". فَلَمَّا خَلَعَ
الْمُسْتَعِينُ - أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ - نَفْسَهُ مِنَ
الْخِلَافَةِ وَبَايَعَ لِلْمُعْتَزِّ، دَعَا الْخُطَبَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
رَابِعَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِجَوَامِعِ بَغْدَادَ عَلَى
الْمَنَابِرِ لِلْخَلِيفَةِ الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ. وَانْتَقَلَ الْمُسْتَعِينُ
مِنَ الرُّصَافَةِ إِلَى قَصْرِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ هُوَ وَعِيَالُهُ
وَوَلَدُهُ وَجَوَارِيهِ، وَوَكَّلَ بِهِمْ سَعِيدَ بْنَ رَجَاءٍ فِي جَمَاعَةٍ
مَعَهُ، وَأَخَذَ مِنَ الْمُسْتَعِينِ الْبُرْدَةَ وَالْقَضِيبَ وَالْخَاتَمَ،
وَبَعَثَ بِذَلِكَ إِلَى الْمُعْتَزِّ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُعْتَزُّ
يَطْلُبُ مِنْهُ خَاتَمَيْنِ مِنْ جَوْهَرٍ ثَمِينٍ بَقِيَا عِنْدَهُ يُقَالُ
لِأَحَدِهِمَا: بُرْجٌ. وَلِلْآخَرِ: جَبَلٌ. فَأَرْسَلَهُمَا. وَطَلَبَ
الْمُسْتَعِينُ
أَنْ يَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ فَلَمْ يُمَكَّنْ، فَطَلَبَ الْبَصْرَةَ فَقِيلَ لَهُ:
إِنَّهَا وَبِيئَةٌ. فَقَالَ: إِنَّ تَرْكَ الْخِلَافَةِ أَوْبَأُ مِنْهَا. ثُمَّ
أَذِنَ لَهُ فِي الْمَسِيرِ إِلَى وَاسِطَ فَخَرَجَ وَمَعَهُ حَرَسٌ
يُوَصِّلُونَهُ إِلَيْهَا نَحْوٌ مَنْ أَرْبَعِمِائَةٍ.
وَاسْتَوْزَرَ الْمُعْتَزُّ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي إِسْرَائِيلَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ،
وَأَلْبَسَهُ تَاجًا عَلَى رَأْسِهِ. وَلَمَّا تَمَهَّدَ أَمْرُ بَغْدَادَ
وَاسْتَقَرَّتِ الْبَيْعَةُ لِلْمُعْتَزِّ بِهَا، وَدَانَ لَهُ أَهْلُهَا
وَاجْتَمَعَ شَمْلُهَا، وَقَدِمَتْهَا الْمِيرَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَاتَّسَعَ
النَّاسُ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْأَطْعِمَةِ، رَكِبَ أَبُو أَحْمَدَ مِنْهَا فِي
يَوْمِ السَّبْتِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنَ الْمُحَرَّمِ إِلَى
سَامَرَّا، وَشَيَّعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فِي وُجُوهِ
الْقُوَّادِ، فَخَلَعَ أَبُو أَحْمَدَ عَلَى ابْنِ طَاهِرٍ خَمْسَ خِلَعٍ
وَسَيْفًا، وَرَدَّهُ مِنَ الرُّوذَبَارِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مَدَائِحَ الشُّعَرَاءِ فِي الْمُعْتَزِّ
وَتَشَفِّيَهُمْ بِخَلْعِ الْمُسْتَعِينِ، فَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا. فَمِنْ
ذَلِكَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ أَبِي الْجَنُوبِ بْنِ مَرْوَانَ فِي
مَدْحِ الْمُعْتَزِّ وَذَمِّ الْمُسْتَعِينِ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ
الشُّعَرَاءِ:
إِنَّ الْأُمُورَ إِلَى الْمُعْتَزِّ قَدْ رَجَعَتْ وَالْمُسْتَعِينُ إِلَى
حَالَاتِهِ رَجَعَا وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُلْكَ لَيْسَ لَهُ
وَأَنَّهُ لَكَ لَكِنْ نَفْسَهُ خَدَعَا وَمَالِكُ الْمُلْكِ مُؤْتِيهِ
وَنَازِعُهُ
آتَاكَ مُلْكًا وَمِنْهُ الْمُلْكَ قَدْ نَزَعَا إِنَّ الْخِلَافَةَ كَانَتْ لَا
تُلَائِمُهُ
كَانَتْ كَذَاتِ حَلِيلٍ زُوِّجَتْ مُتَعَا
مَا
كَانَ أَقْبَحَ عِنْدَ النَّاسِ بَيْعَتَهُ
وَكَانَ أَحْسَنَ قَوْلَ النَّاسِ قَدْ خُلِعَا لَيْتَ السَّفِينَ إِلَى قَافٍ
دَفَعْنَ بِهِ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِمَلَّاحٍ بِهِ دَفَعَا كَمْ سَاسَ قَبْلَكَ أَمْرَ النَّاسِ
مِنْ مَلِكٍ
لَوْ كَانَ حُمِّلَ مَا حُمِّلْتَهُ ظَلَعَا أَمَسَى بِكَ النَّاسُ بَعْدَ
الضِّيقِ فِي سِعَةٍ
وَاللَّهُ يَجْعَلُ بَعْدَ الضِّيقِ مُتَّسَعَا وَاللَّهُ يَدْفَعُ عَنْكَ السُّوءَ
مِنْ مَلِكٍ
فَإِنَّهُ بِكَ عَنَّا السُّوءَ قَدْ دَفَعَا
وَكَتَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَزُّ مِنْ سَامَرَّا إِلَى نَائِبِ
بَغْدَادَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَنْ يُسْقِطَ اسْمَ
وَصِيِفٍ وَبُغَا وَمَنْ كَانَ فِي رَسْمِهِمَا فِي الدَّوَاوِينِ، وَعَزَمَ عَلَى
قَتْلِهِمَا، ثُمَّ اسْتُرْضِيَ عَنْهُمَا، فَرَضِيَ عَنْهُمَا.
وَفِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ الْمُعْتَزُّ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ
الْمُلَقَّبَ بِالْمُؤَيَّدِ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ وَحَبَسَهُ، وَأَخَاهُ
أَبَا أَحْمَدَ، بَعْدَمَا ضَرَبَ الْمُؤَيَّدَ أَرْبَعِينَ مَقْرَعَةً. وَلَمَّا
كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ سَابِعُهُ خَطَبَ بِخَلْعِهِ، وَأَمْرَهُ أَنْ يَكْتُبَ
كِتَابًا عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَمْسَةَ
عَشَرَ يَوْمًا، فَقِيلَ: إِنَّهُ أُدْرِجَ فِي لِحَافِ سَمُّورٍ وَأُمْسِكَ
طَرَفَاهُ حَتَّى مَاتَ غَمًّا. وَقِيلَ: بَلْ ضُرِبَ بِحِجَارَةٍ مِنْ ثَلْجٍ
حَتَّى مَاتَ بَرْدًا. وَبَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ أُخْرِجَ مِنَ السِّجْنِ وَلَا
أَثَرَ بِهِ، فَأُحْضِرَ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ فَأُشْهِدُوا عَلَى مَوْتِهِ
مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ وَلَيْسَ بِهِ أَثَرٌ، ثُمَّ حُمِلَ عَلَى حِمَارٍ وَمَعَهُ
كَفَنُهُ،
فَأُرْسِلَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ فَدَفَنَتْهُ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ الْمُسْتَعِينِ
فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ الْمُعْتَزُّ إِلَى نَائِبِهِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ يَأْمُرُهُ بِتَجْهِيزِ جَيْشٍ نَحْوَ
الْمُسْتَعِينِ، فَجَهَّزَ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ التُّرْكِيَّ فَوَافَاهُ،
فَأَخْرَجَهُ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَقَدِمَ بِهِ الْقَاطُولَ لِثَلَاثٍ
مَضَيْنَ مِنْ شَوَّالٍ ثُمَّ قُتِلَ ; فَقِيلَ: ضُرِبَ حَتَّى مَاتَ، وَقِيلَ:
بَلْ غُرِّقَ فِي دُجَيْلٍ وَقِيلَ: بَلْ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُسْتَعِينَ سَأَلَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ
صَالِحٍ التُّرْكِيِّ حِينَ أَرَادَ قَتْلَهُ أَنْ يُمْهِلَهُ حَتَّى يُصَلِّيَ
رَكْعَتَيْنِ، فَأَمْهَلَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ
قَتَلَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَدَفَنَ جُثَّتَهُ فِي مَكَانِ صِلَاتِهِ، وَعَفَّا
أَثَرَهُ، وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى الْمُعْتَزِّ فَدَخَلَ بِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ
يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ، فَقِيلَ: هَذَا رَأْسُ الْمَخْلُوعِ. فَقَالَ:
ضَعُوهُ
حَتَّى أَفْرُغَ مِنَ الدَّسْتِ. فَلَمَّا فَرَغَ نَظَرَ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ
بِدَفْنِهِ، ثُمَّ أَطْلَقَ لِسَعِيدِ بْنِ صَالِحٍ الَّذِي قَتَلَهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَوَلَّاهُ مَعُونَةَ الْبَصْرَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ الْعَلَوِيُّ الَّذِي فَعَلَ بِمَكَّةَ مَا فَعَلَ،
وَأَلْحَدَ فِي الْحَرَمِ مَا أَلْحَدَ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَأَهْلَكَهُ اللَّهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَاجِلًا وَلَمْ يُنْظِرْهُ. وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمُعْتَصِمِ، وَهُوَ الْمُسْتَعِينُ بِاللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِسْحَاقُ
بْنُ بُهْلُولٍ، وَزِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، بُنْدَارٌ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الزَّمِنُ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الدَّوْرَقِيُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي رَجَبٍ مِنْهَا عَقَدَ الْمُعْتَزُّ لِمُوسَى بْنِ بُغَا الْكَبِيرِ عَلَى
جَيْشٍ قَرِيبٍ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ ; لِيَذْهَبُوا إِلَى قِتَالِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ بِنَاحِيَةِ هَمَذَانَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ خَرَجَ
عَنِ الطَّاعَةِ، وَهُوَ فِي نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَهَزَمُوا عَبْدَ
الْعَزِيزِ فِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ هَزِيمَةً فَظِيعَةً. ثُمَّ كَانَتْ
بَيْنَهُمَا وَقْعَةٌ أُخْرَى فِي رَمَضَانَ عِنْدَ الْكَرَجِ فَهُزِمَ عَبْدُ
الْعَزِيزِ أَيْضًا، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَأَسَرُوا
ذَرَارِيَّ كَثِيرَةً حَتَّى أَسَرُوا أَمَّ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبَعَثُوا إِلَى
الْخَلِيفَةِ سَبْعِينَ حِمْلًا مِنَ الرُّءُوسِ وَأَعْلَامًا كَثِيرَةً، وَأُخِذَ
مِنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا كَانَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِ
الْخَلِيفَةِ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا خَلَعَ الْمُعْتَزُّ عَلَى بُغَا الشَّرَابِيِّ
وَأَلْبَسَهُ التَّاجَ وَالْوِشَاحَيْنِ.
وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ كَانَتْ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ عِنْدَ الْبَوَازِيجِ ;
وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: مُسَاوِرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ حَكَمَ
فِيهَا وَالْتَفَّ عَلَيْهِ نَحْوٌ مَنْ سَبْعِمِائَةٍ مِنَ
الْخَوَارِجِ،
فَقَصَدَ لَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: بُنْدَارٌ الطَّبَرِيُّ. فِي نَحْوِ
ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَالْتَقَوْا فِي هَذَا الْيَوْمِ فَاقْتَتَلُوا
قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ مِنَ الْخَوَارِجِ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِينَ، وَقُتِلَ
مِنْ أَصْحَابِ بُنْدَارٍ مِائَتَانِ، وَقِيلَ: وَخَمْسُونَ رَجُلًا. وَقُتِلَ
بُنْدَارٌ فِي مَنْ قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. ثُمَّ صَمَدَ مُسَاوِرٌ إِلَى حُلْوَانَ
فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا، وَأَعَانَهُمْ حُجَّاجُ أَهْلِ خُرْسَانَ، فَقَتَلَ
مُسَاوِرٌ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ إِنْسَانٍ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ أَيْضًا. وَلِثَلَاثٍ بَقِينَ
مِنْ شَوَّالٍ قُتِلَ وَصِيفٌ التُّرْكِيُّ وَأَرَادَتِ الْعَامَّةُ أَنْ تَنْهَبَ
دَارَهُ بِسَامَرَّا وَدُورَ أَوْلَادِهِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ
الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَزُّ مَا كَانَ إِلَيْهِ إِلَى بُغَا الشَّرَابِيِّ.
وَفِي لَيْلَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
خَسَفَ الْقَمَرُ حَتَّى غَابَ أَكْثَرُهُ وَغَرِقَ نُورُهُ، وَعِنْدَ انْتِهَاءِ
خُسُوفِهِ مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ نَائِبُ الْعِرَاقِ
بِبَغْدَادَ. وَكَانَتْ عِلَّتُهُ قُرُوحًا فِي رَأْسِهِ وَحَلْقِهِ فَذَبَحَتْهُ،
وَلَمَّا أُتِيَ بِهِ لِيُصَلَّى عَلَيْهِ اخْتَلَفَ أَخُوهُ عُبَيْدُ اللَّهِ
وَابْنُهُ طَاهِرٌ، أَيُّهُمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَتَنَازَعَا حَتَّى جُذِبَتِ
السُّيُوفُ وَتَرَامَى النَّاسُ بِالْحِجَارَةِ، وَصَاحَتِ الْغَوْغَاءُ: يَا
طَاهِرُ، يَا مَنْصُورُ. فَمَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الشَّرْقِيَّةِ وَمَعَهُ
الْقُوَّادُ وَأَكَابِرُ النَّاسِ، فَدَخَلَ دَارَهُ وَكَانَ أَخُوهُ قَدْ أَوْصَى
إِلَيْهِ. وَحِينَ بَلَغَ الْمُعْتَزَّ مَا وَقَعَ بَعَثَ بِالْخِلَعِ
وَالْوِلَايَةِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ،
فَأَطْلَقَ عُبَيْدُ اللَّهِ لِلَّذِي قَدِمَ بِالْخِلَعِ خَمْسِينَ أَلْفَ
دِرْهَمٍ.
وَفِيهَا نَفَى الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَزُّ أَخَاهُ أَبَا أَحْمَدَ مِنْ سُرَّ مَنْ
رَأَى إِلَى وَاسِطَ ثُمَّ إِلَى
الْبَصْرَةِ
ثُمَّ رُدَّ إِلَى بَغْدَادَ فَأُنْزِلَ فِي الشَّرْقِيَّةِ فِي قَصْرِ دِينَارِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَفِيهَا نَفُيِ عَلِيُّ ابْنُ الْمُعْتَصِمِ إِلَى وَاسِطَ ثُمَّ رُدَّ إِلَى
بَغْدَادَ أَيْضًا.
وَفِي يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ سَلْخَ ذِي الْقَعْدَةِ الْتَقَى مُوسَى بْنُ بُغَا
الْكَبِيرِ هُوَ وَالْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَوْكَبِيُّ الطَّالِبِيُّ
الَّذِي خَرَجَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ عِنْدَ قَزْوِينَ فَاقْتَتَلَا
قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ هُزِمَ الْكَوْكَبِيُّ وَأَخَذَ مُوسَى بْنُ بُغَا
قَزْوِينَ وَهَرَبَ الْكَوْكَبِيُّ إِلَى الدَّيْلَمِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ
عَنْ بَعْضِ مَنْ حَضَرَ هَذِهِ الْوَقْعَةَ أَنَّ الْكَوْكَبِيَّ حِينَ الْتَقَى
أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَتَرَّسُوا بِالْحَجَفِ، وَكَانَتِ السِّهَامُ لَا
تَعْمَلُ فِيهِمْ، فَأَمَرَ مُوسَى بْنُ بُغَا أَصْحَابَهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ
يَطْرَحُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ النِّفْطِ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ جَاوَلُوهُمْ
وَأَرَوْهُمْ أَنَّهُمْ قَدِ انْهَزَمُوا مِنْهُمْ، فَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ
الْكَوْكَبِيِّ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النِّفْطُ أَمَرَ
عِنْدَ ذَلِكَ بِإِلْقَاءِ النَّارِ فِيهِ، فَجَعَلَتِ النَّارُ تَحْرِقُ
أَصْحَابَ الْكَوْكَبِيِّ، فَفَرُّوا سِرَاعًا هَارِبِينَ، وَكَرَّ عَلَيْهِمْ
مُوسَى وَأَصْحَابُهُ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَهَرَبَ
الْكَوْكَبِيُّ إِلَى الدَّيْلَمِ، وَتَسَلَّمَ مُوسَى بْنُ بُغَا قَزْوِينَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ
الزَّيْنَبِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْأَشْعَثِ. وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ.
وَسَرِيٌّ
السَّقَطِيُّ.
أَحَدُ كِبَارِ مَشَايِخِ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ، وَهُوَ السَّرِيُّ بْنُ
الْمُغَلِّسِ أَبُو الْحَسَنِ السَّقَطِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، تِلْمِيذُ مَعْرُوفٍ
الْكَرْخِيِّ حَدَّثَ عَنْ هُشَيْمٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَعَلِيِّ
بْنِ غُرَابٍ، وَيَحْيَى بْنِ يَمَانٍ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَعَنْهُ ابْنُ أُخْتِهِ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو الْحَسَنِ
النُّورِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ جَابِرٍ السَّقَطِيُّ، وَجَمَاعَةٌ.
وَكَانَتْ لَهُ دُكَّانٌ يَتَّجِرُ فِيهَا، فَمَرَّتْ بِهِ جَارِيَةٌ قَدِ
انْكَسَرَ إِنَاءٌ كَانَ مَعَهَا تَشْتَرِي فِيهِ شَيْئًا لِسَادَتِهَا،
فَجَعَلَتْ تَبْكِي، فَأَعْطَاهَا سَرِيٌّ شَيْئًا تَشْتَرِي بِهِ بَدَلَهُ،
فَنَظَرَ مَعْرُوفٌ إِلَيْهِ وَمَا صَنَعَ بِتِلْكَ الْجَارِيَةِ، فَقَالَ لَهُ:
بَغَّضَ اللَّهُ إِلَيْكَ الدُّنْيَا.
وَقَالَ سَرِيٌّ: مَرَرْتُ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَإِذَا مَعْرُوفٌ وَمَعَهُ صَبِيٌّ
صَغِيرٌ شَعِثُ الْحَالِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا ؟ فَقَالَ: هَذَا كَانَ وَاقِفًا
وَالصِّبْيَانُ يَلْعَبُونَ وَهُوَ مُنْكَسِرٌ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ لَا
تَلْعَبُ ؟ فَقَالَ: أَنَا يَتِيمٌ وَلَا شَيْءَ مَعِي أَشْتَرِي بِهِ جَوْزًا
أَلْعَبُ بِهِ. فَأَخَذْتُهُ لِأَجْمَعَ لَهُ نَوًى يَشْتَرِي بِهِ جَوْزًا
يَفْرَحُ بِهِ، فَقُلْتُ: أَلَا أَكْسُوهُ وَأُعْطِيهِ شَيْئًا يَشْتَرِي بِهِ
جَوْزًا ؟ فَقَالَ: أَوَتَفْعَلُ ؟ فَقُلْتُ:
نَعَمْ.
فَقَالَ: خُذْهُ، أَغْنَى اللَّهُ قَلْبَكَ. قَالَ: فَسَوِيَتِ الدُّنْيَا عِنْدِي
أَقَلَّ شَيْءٍ.
وَكَانَ عِنْدَهُ مَرَّةً لَوْزٌ، فَسَاوَمَهُ رَجُلٌ عَلَى الْكُرِّ بِثَلَاثَةٍ
وَسِتِّينَ دِينَارًا، ثُمَّ ذَهَبَ الرَّجُلُ، فَإِذَا اللَّوْزُ يُسَاوِي
الْكُرُّ مِنْهُ تِسْعِينَ دِينَارًا، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَشْتَرِي مِنْكَ
الْكُرَّ بِتِسْعِينَ دِينَارًا. فَقَالَ: إِنِّي سَاوَمْتُكُ بِثَلَاثَةٍ
وَسِتِّينَ، وَإِنِّي لَا أَبِيعُهُ إِلَّا بِذَلِكَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: وَأَنَا
أَشْتَرِي مِنْكَ بِتِسْعِينَ. فَقَالَ: لَا أَبِيعُهُ إِلَّا بِمَا سَاوَمْتُكَ
عَلَيْهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّ مِنَ النُّصْحِ أَنْ لَا أَشْتَرِيَ مِنْكَ
إِلَّا بِتِسْعِينَ دِينَارًا. وَذَهَبَ فَلَمْ يَشْتَرِ مِنْهُ.
وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ يَوْمًا إِلَى سَرِيٍّ فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنِي قَدْ أَخَذَهُ
الْحَرَسُ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ لِئَلَّا
يُضْرَبَ. فَقَامَ فَكَبَّرَ وَطَوَّلَ فِي الصَّلَاةِ وَجَلَعَتِ الْمَرْأَةُ
تَحْتَرِقُ فِي نَفْسِهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَتِ
الْمَرْأَةُ: اللَّهَ اللَّهَ فِي وَلَدِي. فَقَالَ: هَاأَنَذَا فِي حَاجَتِكِ.
فَمَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ
فَقَالَتْ: أَبْشِرِي، فَقَدْ أَطْلَقَ الْمُتَوَلِّي وَلَدَكِ. فَانْصَرَفَتْ
إِلَيْهِ. وَقَالَ سَرِيٌّ: أَشْتَهِي أَنْ آكُلَ أَكْلَةً لَيْسَ لِلَّهِ عَلَيَّ
فِيهَا تَبِعَةٌ، وَلَا
لِأَحَدٍ
عَلَيَّ فِيهَا مِنَّةٌ، فَمَا أَجِدُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا. وَفِي رِوَايَةٍ
قَالَ: إِنِّي لَأَشْتَهِي الْبَقْلَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَا أَقْدِرُ
عَلَيْهِ. وَعَنِ السَّرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: احْتَرَقَ سُوقُنَا، فَقَصَدْتُ
الْمَكَانَ الَّذِي فِيهِ دُكَّانِي، فَتَلَقَّانِي رَجُلٌ فَقَالَ: أَبْشِرْ ;
فَإِنَّ دُكَّانَكَ قَدْ سَلِمَتْ. فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. ثُمَّ
تَذَكَّرْتُ ذَلِكَ التَّحْمِيدَ، فَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مُنْذُ ثَلَاثِينَ
سَنَةً. رَوَاهَا الْخَطِيبُ.
وَقَالَ السَّرِيُّ: صَلَّيْتُ وِرْدِي ذَاتَ لَيْلَةٍ ثُمَّ مَدَدْتُ رِجْلِي فِي
الْمِحْرَابِ، فَنُودِيتُ: يَا سَرِيُّ، كَذَا تُجَالِسُ الْمُلُوكَ ؟ قَالَ:
فَضَمَمْتُ رِجْلِي ثُمَّ قُلْتُ: وَعِزَّتِكَ لَا مَدَدْتُ رِجْلِي أَبَدًا.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: مَا رَأَيْتُ أَعْبَدَ لِلَّهِ مِنَ
السَّرِيِّ السَّقَطِيِّ ; أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ سَنَةً مَا رُئِيَ
مُضْطَجِعًا إِلَّا فِي عِلَّةِ الْمَوْتِ. وَقَالَ الْخَطِيبُ: عَنْ أَبِي
نُعَيْمٍ، عَنْ جَعْفَرٍ الْخُلْدِيِّ، عَنِ الْجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ:
دَخَلْتُ عَلَيْهِ أَعُودُهُ، فَقُلْتُ: كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ فَقَالَ: كَيْفَ
أَشْكُو إِلَى طَبِيبِي مَا بِي، وَالَّذِي قَدْ أَصَابَنِي مِنْ طَبِيبِي.
قَالَ: فَأَخَذْتُ الْمِرْوَحَةَ أَرَوِّحُهُ، فَقَالَ لِي: كَيْفَ يَجِدُ رَوْحَ
الْمِرْوَحَةِ مَنْ جَوْفُهُ يَحْتَرِقُ مِنْ دَاخِلٍ ؟ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
الْقَلْبُ
مُحْتَرِقٌ وَالدَّمْعُ مُسْتَبِقٌ وَالْكَرْبُ مُجْتَمِعٌ وَالصَّبْرُ مُفْتَرِقُ
كَيْفَ الْقَرَارُ عَلَى مَنْ لَا قَرَارَ لَهُ
مِمَّا جَنَاهُ الْهَوَى وَالشَّوْقُ وَالْقَلَقُ يَا رَبِّ إِنْ كَانَ شَيْءٌ
فِيهِ لِي فَرَجٌ
فَامْنُنْ عَلَيَّ بِهِ مَا دَامَ بِي رَمَقُ
قَالَ: وَقُلْتُ لَهُ: أَوْصِنِي. قَالَ: لَا تَصْحَبِ الْأَشْرَارَ، وَلَا
تَشْتَغِلْ عَنِ اللَّهِ بِمُجَالَسَةِ الْأَخْيَارِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ وَفَاتَهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ
رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ بَعْدَ أَذَانِ الْفَجْرِ،
وَدُفِنَ بَعْدَ الْعَصْرِ. قَالَ: وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الشُّونِيزِيَّةِ،
وَقَبْرُهُ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ، وَإِلَى جَنْبِهِ قَبْرُ الْجُنَيْدِ. وَرُوِيَ
عَنِ الْقَاضِي، عَنْ أَبِي عَبُيْدِ بْنِ حَرْبَوَيْهِ قَالَ: رَأَيْتُ سَرِيًّا
فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي
وَلِكُلِّ مَنْ شَهِدَ جِنَازَتِي. قُلْتُ: فَإِنِّي مِمَّنْ حَضَرَ جِنَازَتَكَ
وَصَلَّى عَلَيْكَ. قَالَ: فَأَخْرَجَ دُرْجًا فَنَظَرَ فِيهِ، فَلَمْ يَرَ فِيهِ
اسْمِي، فَقُلْتُ: بَلَى، قَدْ حَضَرْتُ، فَإِذَا اسْمِي فِي الْحَاشِيَةِ.
وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ قَوْلًا ; أَنَّ سَرِيًّا تُوَفِّي سَنَةَ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ
خِلِّكَانَ: وَمِمَّا كَانَ يُنْشِدُهُ السَّرِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ:
إِذَا
مَا شَكَوْتُ الْحُبَّ قَالَتْ كَذَبْتَنِي فَمَا لِي أَرَى الْأَعْضَاءَ مِنْكَ
كَوَاسِيَا
فَلَا حُبَّ حَتَى يَلْصَقَ الْجِلْدُ بِالْحَشَا وَتَذْهَلَ حَتَى لَا تُجِيبَ
الْمُنَادِيَا
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَزُّ بِقَتْلِ بُغَا الشَّرَابِيِّ وَنَصَبَ
رَأْسَهُ بِسَامَرَّا ثُمَّ بِبَغْدَادَ وَحُرِّقَتْ جُثَّتُهُ وَأُخِذَتْ
أَمْوَالُهُ وَحَوَاصِلُهُ.
وَفِيهَا وَلِيَ أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ وَهُوَ بَانِي
الْجَامِعِ الْمَشْهُورِ بِهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الْحَسَّانِىُّ. وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مُوسَى الرِّضَا يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ بِبَغْدَادَ. وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ الْمُتَوَكِّلُ فِي
الشَّارِعِ الْمَنْسُوبِ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ وَدُفِنَ بِدَارِهِ بِبَغْدَادَ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ
اللَّهِ الْمُخَرِّمِيُّ. وَمُؤَمِّلُ بْنُ إِهَابٍ.
وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ الْهَادِي.
فَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْجَوَادِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا بْنِ مُوسَى الْكَاظِمِ
بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ عَلِيٍّ زَيْنِ
الْعَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ الشَّهِيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَهُوَ وَالِدُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ
الْعَسْكَرِيِّ الْمُنْتَظَرِ عِنْدَ الْفِرْقَةِ الضَّالَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ
الْكَاذِبَةِ الْخَاطِئَةِ.
وَقَدْ كَانَ عَابِدًا زَاهِدًا، نَقَلَهُ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى سَامَرَّا
فَأَقَامَ بِهَا أَزْيَدَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً بِأَشْهُرٍ، وَمَاتَ بِهَا فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَدْ ذُكِرَ لِلْمُتَوَكِّلِ أَنَّ بِمَنْزِلِهِ سِلَاحًا وَكُتُبًا كَثِيرَةً
مِنَ النَّاسِ فَأَرْسَلَ فَكَبَسَهُ فَوَجَدُوهُ جَالِسًا مُسْتَقْبَلَ
الْقِبْلَةِ، وَعَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ مِنْ صُوفٍ وَهُوَ عَلَى بَسِيطِ الْأَرْضِ
لَيْسَ دُونَهَا حَائِلٌ فَأَخَذُوهُ كَذَلِكَ فَحَمَلُوهُ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ
وَهُوَ عَلَى شَرَابِهِ، فَلَمَّا مَثُلَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَجَلَّهُ وَعَظَّمَهُ
وَأَجْلَسَهُ إِلَى جَانِبِهِ وَنَاوَلَهُ الْكَأْسَ الَّذِي فِي يَدِهِ فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ لَمْ يُخَالِطْ لَحْمِي وَدَمِي قَطُّ، فَأَعْفِنِي
مِنْهُ. فَأَعْفَاهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَنْشِدْنِي شِعْرًا. فَأَنْشَدَهُ:
بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الْأَجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ غُلْبُ الرِّجَالِ فَمَا
أَغْنَتْهُمُ الْقُلَلُ وَاسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍّ عَنْ مَعَاقِلِهِمْ
فَأُودِعُوا حُفَرًا يَا بِئْسَ مَا نَزَلُوا نَادَاهُمْ صَارِخٌ مِنْ بَعْدِ مَا
قُبِرُوا
أَيْنَ الْأَسِرَّةُ وَالتِّيجَانُ وَالْحُلَلُ
أَيْنَ
الْوُجُوهُ الَّتِي كَانَتْ مُنَعَّمَةً
مِنْ دُونِهَا تُضْرَبُ الْأَسْتَارُ وَالْكِلَلُ فَأَفْصَحَ الْقَبْرُ عَنْهُمْ
حِينَ سَاءَلَهُمْ
تَلْكَ الْوُجُوهُ عَلَيْهَا الدُّودُ يَقْتَتِلُ قَدْ طَالَ مَا أَكَلُوا دَهْرًا
وَمَا شَرِبُوا
فَأَصْبَحُوا بَعْدَ طُولِ الْأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا
قَالَ: فَبَكَى الْمُتَوَكِّلُ حَتَّى بَلَّ الثَّرَى وَبَكَى مَنْ حَوْلَهُ
بِحَضْرَتِهِ وَأَمَرَ بِرَفْعِ الشَّرَابِ وَأَمَرَ لَهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ
دِينَارٍ وَرَدَّهُ إِلَى مَنْزِلِهِ مُكَرَّمًا رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ مُفْلِحٍ وَبَيْنَ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ
الطَّالِبِيِّ فَهَزَمَهُ مُفْلِحٌ وَدَخَلَ آمُلَ طَبَرِسْتَانَ وَحَرَقَ
مَنَازِلَ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ، ثُمَّ سَارَ وَرَاءَهُ إِلَى الدَّيْلَمِ.
وَفِيهَا كَانَتْ مُحَارَبَةٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ يَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ وَبَيْنَ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشِ بْنِ شِبْلٍ فَبَعَثَ عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ رَجُلًا مِنْ جِهَتِهِ يُقَالُ لَهُ: طَوْقُ بْنُ الْمُغَلِّسِ
فَصَابَرَهُ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ، ثُمَّ ظَفِرَ يَعْقُوبُ بِطَوْقٍ فَأَسَرَهُ
وَأَسَرَ وُجُوهَ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ هَذَا
فَأَسَرَهُ أَيْضًا، وَأَخَذَ بِلَادَهُ - وَهِيَ كَرْمَانُ - فَأَضَافَهَا إِلَى
مَا بِيَدِهِ مِنْ مَمْلَكَةِ سِجِسْتَانَ ثُمَّ بَعَثَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ
بِهَدِيَّةٍ سَنِيَّةٍ إِلَى الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ ; دَوَابًّ وَبُزَاةٍ
وَثِيَابٍ فَاخِرَةٍ.
وَفِيهَا وَلَّى الْخَلِيفَةُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ
نِيَابَةَ بَغْدَادَ وَالسَّوَادِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
وَفِيهَا أَخَذَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ أَحْمَدَ بْنَ إِسْرَائِيلَ كَاتِبَ
الْمُعْتَزِّ وَالْحَسَنَ بْنَ مَخْلَدٍ كَاتِبَ قَبِيحَةَ أَمِّ الْمُعْتَزِّ،
وَأَبَا نُوحٍ عِيسَى بْنَ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانُوا قَدْ تَمَالَئُوا عَلَى أَكْلِ
أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَانُوا دَوَّاوِينَ وَغَيْرَهُمْ فَضَرَبَهُمْ
وَأَخَذَ
خُطُوطَهُمْ
بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ يَحْمِلُونَهَا، وَذَلِكَ بِغَيْرِ رِضًا مِنَ الْمُعْتَزِّ
فِي الْبَاطِنِ، وَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَحَوَاصِلِهِمْ وَضِيَاعِهِمْ،
وَسُمُّوا الْكُتَّابَ الْخَوَنَةَ وَوَلَّى الْخَلِيفَةُ عَنْ قَهْرٍ غَيْرَهُمْ.
وَفِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَلِيُّ بْنُ
زَيْدٍ الْحَسَنِيَّانِ بِالْكُوفَةِ، وَقَتَلَا بِهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمَا بِهَا.
مَقْتَلُ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ
وَلِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خُلِعَ الْخَلِيفَةُ
الْمُعْتَزُّ بِاللَّهِ وَلِلَيْلَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ شَعْبَانَ أُظْهِرَ
مَوْتُهُ. وَكَانَ سَبَبَ خَلْعِهِ أَنَّ الْجُنْدَ اجْتَمَعُوا فَطَلَبُوا مِنْهُ
أَرْزَاقَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِمْ فَسَأَلَ مِنْ أُمِّهِ
أَنْ تُقْرِضَهُ مَالًا يَدْفَعُهُمْ عَنْهُ بِهِ فَلَمْ تُعْطِهِ وَأَظْهَرَتْ
أَنَّهُ لَا شَيْءَ عِنْدَهَا فَاجْتَمَعَ الْأَتْرَاكُ عَلَى خَلْعِهِ
فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ ; لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ قَدْ شَرِبَ
دَوَاءً وَأَنَّ عِنْدَهُ ضَعْفًا، وَلَكِنْ لِيَدْخُلْ إِلَيَّ بَعْضُكُمْ.
فَدَخَلَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ فَتَنَاوَلُوهُ بِالدَّبَابِيسِ
يَضْرِبُونَهُ وَجَرُّوا بِرِجْلِهِ وَأَخْرَجُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ مُخَرَّقٌ
مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ فَأَقَامُوهُ فِي وَسَطِ دَارِ الْخِلَافَةِ فِي حَرٍّ
شَدِيدٍ حَتَّى جَعَلَ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ،
وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَلْطِمُهُ وَهُوَ يَبْكِي، وَيَقُولُ لَهُ الضَّارِبُ:
اخْلَعْهَا وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ. ثُمَّ
أَدْخَلُوهُ
حُجْرَةً مُضَيَّقًا عَلَيْهِ فِيهَا.
وَمَا زَالُوا عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ حَتَّى خَلَعَ نَفْسَهُ مِنَ
الْخِلَافَةِ وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ، كَمَا سَيَأْتِي، ثُمَّ
سَلَّمُوهُ إِلَى مَنْ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ بِأَنْوَاعِ الْمَثُلَاتِ
وَمُنِعَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى جَعَلَ يَطْلَبُ
شَرْبَةً مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ فَلَمْ يُسْقَ ثُمَّ أَدْخَلُوهُ سِرْبًا فِيهِ
جَصُّ جِيرٍ فَدَسُّوهُ فِيهِ فَأَصْبَحَ مَيِّتًا فَاسْتَلُّوهُ مِنَ الْجَصِّ
سَلِيمَ الْجَسَدِ فَأَشْهَدُوا عَلَيْهِ جَمَاعَةً مِنَ الْأَعْيَانِ أَنَّهُ
مَاتَ وَلَيْسَ بِهِ أَثَرٌ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ وَصَلَّى عَلَيْهِ
الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ وَدُفِنَ مَعَ أَخِيهِ الْمُنْتَصِرِ إِلَى جَانِبِ قَصْرِ
الصَّوَامِعِ، عَنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةً
وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَكَانَ طَوِيلًا جَسِيمًا وَسِيمًا أَقْنَى الْأَنْفِ
مُدَوَّرَ الْوَجْهِ حَسَنَ الضَّحِكِ أَبْيَضَ، أَسْوَدَ الشَّعْرِ جَعْدَهُ
كَثِيفَهُ كَثِيفَ اللِّحْيَةِ حَسَنَ الْعَيْنَيْنِ وَالْوَجْهِ ضَيِّقَ
الْجَبِينِ أَحْمَرَ الْوَجْنَتَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ أَثْنَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَى جَوْدَةِ ذِهْنِهِ
وَحُسْنِ فَهْمِهِ وَأَدَبِهِ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ
الْمُتَوَكِّلِ بِسَامَرَّا، كَمَا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: دَخَلْتُ
عَلَى الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ فَمَا رَأَيْتُ خَلِيفَةً أَحْسَنَ وَجْهًا مِنْهُ،
فَلَمَّا رَأَيْتُهُ سَجَدْتُ فَقَالَ: يَا شَيْخُ تَسْجُدُ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِ
اللَّهِ ؟ فَقُلْتُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ
النَّبِيلُ،