Translate

مشاري راشد {سورة الطلاق}

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

ج26. البداية والنهاية تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

ج26. البداية والنهاية


تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر 

بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

 

 ثَنَا بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى مَا يَفْرَحُ بِهِ، أَوْ بُشِّرَ بِمَا يَسُرُّهُ، سَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: صِرْتُ إِلَى الْمُعْتَزِّ وَهُوَ أَمِيرٌ، فَلَمَّا سَمِعَ بِقُدُومِي خَرَجَ مُسْتَعْجِلًا إِلَيَّ فَعَثَرَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَمُوتُ الْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ وَلَيْسَ يَمُوتُ الْمَرْءُ مِنْ عَثْرَةِ الرِّجْلِ فَعَثْرَتُهُ مِنْ فِيهِ تَرْمِي بِرَأْسِهِ
وَعَثْرَتُهُ فِي الرِّجْلِ تَبْرَأُ عَلَى مَهْلِ
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنَّ الْمُعْتَزَّ لَمَّا حَذَقَ الْقُرْآنَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ الْمُتَوَكِّلِ اهْتَمَّ أَبُوهُ لِذَلِكَ وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَرَاءُ الْكُبَرَاءُ وَالرُّؤَسَاءُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، وَاخْتَلَفُوا لِذَلِكَ أَيَّامًا عَدِيدَةً وَجَرَتْ أَحْوَالٌ عَظِيمَةٌ. وَلَمَّا جَلَسَ وَهُوَ صَبِيٌّ عَلَى الْمِنْبَرِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِيهِ بِالْخِلَافَةِ، وَخَطَبَ النَّاسَ نُثِرَتِ الْجَوَاهِرُ فِي الصَّوَانِيِ، وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ عَلَى الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، فَكَانَ قِيمَةُ مَا نُثِرَ مِنَ الْجَوَاهِرِ مَا يُسَاوِي مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِثْلَهَا ذَهَبًا، وَأَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، غَيْرَ مَا كَانَ مِنْ خِلَعٍ وَأَسْمِطَةٍ وَأَقْمِشَةٍ مِمَّا يَفُوتُ الْحَصْرَ وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا لَمْ يَكُنْ سُرُورٌ بِدَارِ الْخِلَافَةِ أَبْهَجَ مِنْهُ وَلَا أَحْسَنَ وَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى أُمِّ وَلَدِهِ الْمُعْتَزِّ - وَهِيَ قَبِيحَةُ - خِلَعًا سَنِيَّةً وَأَعْطَاهَا وَأَجْزَلَ لَهَا الْعَطَاءَ، وَكَذَلِكَ خَلَعَ عَلَى مُؤَدَّبِ الْمُعْتَزِّ - وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ - مِنَ الْجَوْهَرِ وَالذَّهَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

خِلَافَةُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَاثِقِ هَارُونَ بْنِ الْمُعْتَصِمِ
وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِلَّيْلَةِ بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ خَلْعِ الْمُعْتَزِّ نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِشْهَادِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِ الْخِلَافَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ رَغِبَ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِأَعْبَائِهَا مُحَمَّدِ بْنِ الْوَاثِقِ بِاللَّهِ. ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَبَايَعَهُ قَبْلَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْخَاصَّةُ ثُمَّ كَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ وَكُتِبَ عَلَى الْمُعْتَزِّ كِتَابٌ أُشْهِدَ عَلَيْهِ فِيهِ بِالْخَلْعِ وَالْعَجْزِ وَالْمُبَايَعَةِ لِلْمُهْتَدِي.
وَفِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ هَذَا وَقَعَتْ بِبَغْدَادَ فِتْنَةٌ هَائِلَةٌ وَثَبَتَ فِيهَا الْعَامَّةُ عَلَى نَائِبِهَا سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَدَعَوْا إِلَى بَيْعَةِ أَبِي أَحْمَدَ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ أَخِي الْمُعْتَزِّ ; وَذَلِكَ لِعَدَمِ عِلْمِ أَهْلِ بَغْدَادَ بِمَا وَقَعَ بِسَامَرَّا مِنْ بَيْعَةِ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ ابْنِ الْوَاثِقِ، وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَغَرِقَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ لَمَّا بَايَعَ النَّاسُ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ لِلْمُهْتَدِي بِاللَّهِ فِي سَابِعِ شَعْبَانَ، وَبَلَغَ أَهْلَ بَغْدَادَ ذَلِكَ، سَكَنُوا وَاسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ وَاسْتَقَلَّ الْمُهْتَدِي بِالْخِلَافَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ عِنْدَ قَبِيحَةَ أُمِّ الْمُعْتَزِّ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ، وَجَوَاهِرُ نَفِيسَةٌ ; كَانَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا يُقَارِبُ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ وَمِنَ الزُّمُرُّدِ الَّذِي لَمْ يُرَ مِثْلُهُ مِقْدَارُ مَكُّوكٍ، وَمِنَ الْحَبِّ الْكِبَارِ مَكُّوكٌ وَكَيْلَجَةُ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ مِمَّا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ أَيْضًا. وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مُخْتَفِيَةً عِنْدَ صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ

ثُمَّ نَزَحَتْ عَنْهُ، فَكَانَتْ تَدْعُو عَلَيْهِ ; تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَخْزِ صَالِحَ بْنَ وَصِيفٍ كَمَا هَتَكَ سِتْرِي، وَقَتَلَ وَلَدِي وَبَدَّدَ شَمْلِي وَأَخَذَ مَالِي وَغَرَّبَنِي عَنْ بَلَدِي، وَرَكِبَ الْفَاحِشَةَ مِنِّي. هَذَا وَقَدْ كَانَ الْأَتْرَاكُ قَدْ طَلَبُوا مِنَ ابْنِهَا الْمُعْتَزِّ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ تُصْرَفُ فِي أَرْزَاقِهِمْ وَضَمِنُوا لَهُ أَنْ يَقْتُلُوا صَالِحَ بْنَ وَصِيفٍ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَطَلَبَ مِنْ أُمِّهِ قَبِيحَةَ - قَبَّحَهَا اللَّهُ - أَنْ تُقْرِضَهُ ذَلِكَ، فَأَظْهَرَتْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عِنْدَهَا. ثُمَّ لَمَّا قُتِلَ ابْنُهَا - وَكَانَ مَا كَانَ - ظَهَرَ عِنْدَهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ كَانَ لَهَا مِنَ الْغَلَّاتِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَا يَعْدِلُ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَاسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ لِلْمُهْتَدِي بِاللَّهِ وَكَانَ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - خَلِيفَةً صَالِحًا. قَالَ يَوْمًا لِلْأُمَرَاءِ: إِنِّي لَيْسَتْ لِي أُمٌّ لَهَا مِنَ الْغَلَّاتِ مَا يُقَاوِمُ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَلَسْتُ أُرِيدُ إِلَّا الْقُوتَ فَقَطْ، وَلَا أُرِيدُ فَضْلًا عَلَى ذَلِكَ إِلَّا لِإِخْوَتِي فَإِنَّهُمْ قَدْ مَسَّتْهُمُ الْحَاجَةُ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ أَمَرَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ بِضَرْبِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي كَانَ وَزِيرًا، وَأَبِي نُوحٍ عِيسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، وَكَانَ كَاتِبَ قَبِيحَةَ فَضُرِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ بَعْدَ اسْتِخْلَاصِ أَمْوَالِهِمَا، ثُمَّ طِيفَ بِهِمَا عَلَى بَغْلَيْنِ مُنَكَّسَيْنِ فَمَاتَا، وَهُمَا كَذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ رِضَا الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ، وَلَكِنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى

الْإِنْكَارِ عَلَى صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ.
وَفِي رَمَضَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ أَيْضًا بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَوْسٍ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الشَّاكِرِيَّةِ وَالْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ وَبَيْنَ الْعَامَّةِ وَالرَّعَاعِ فَاجْتَمَعَ مِنَ الْعَامَّةِ نَحْوٌ مَنْ مِائَةِ أَلْفٍ، وَكَانَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ بِالنِّبَالِ وَالرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ، وَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ انْهَزَمَ مُحَمَّدُ بْنُ أَوْسٍ وَأَصْحَابُهُ فَنَهَبَتِ الْعَامَّةُ مَا وَجَدُوا مِنْ أَمْوَالِهِ، وَكَانَ مِنْهُ شَيْءٌ يُعَادِلُ أَلْفَيْ أَلْفٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى إِخْرَاجِ مُحَمَّدِ بْنِ أَوْسٍ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى أَيْنَمَا أَرَادَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا طَرِيدًا ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّاسِ مَرْضِيَّ السِّيرَةِ بَلْ كَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا، وَشَيْطَانًا مَرِيدًا وَفَاسِقًا شَدِيدًا وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ بِأَنْ يُنْفَى الْقِيَانُ وَالْمُغَنِّيُونَ مَنْ سَامَرَّا، وَأَمَرَ بِقَتْلِ السِّبَاعِ وَالنُّمُورِ الَّتِي فِي دَارِ السُّلْطَانِ، وَالْكِلَابِ الْمُعَدَّةِ لِلصَّيْدِ أَيْضًا، وَإِبْطَالِ الْمَلَاهِي وَرَدِّ الْمَظَالِمِ، وَأَنْ يُؤْمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَجَلَسَ لِلْعَامَّةِ.
وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ وَالدُّنْيَا كُلُّهَا مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَغَيْرِهَا مُفْتَرِقَةٌ، ثُمَّ اسْتَدْعَى الْخَلِيفَةُ الْمُهْتَدِي مُوسَى بْنَ بُغَا الْكَبِيرِ إِلَى حَضْرَتِهِ ; لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْأَتْرَاكِ ; لِتَجْتَمِعَ كَلِمَةُ الْخِلَافَةِ وَاعْتَذَرَ مِنَ اسْتِدْعَائِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْجِهَادِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ.

ذِكْرُ خَارِجِيٍّ آخَرَ ادَّعَى أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ ظَهَرَ بِالْبَصْرَةِ
وَفِي النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ رَجُلٌ بِظَاهِرِ الْبَصْرَةِ زَعَمَ أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَمْ يَكُنْ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ هَذَا النَّسَبَ، وَإِنَّمَا كَانَ عَبْقَسِيًّا - مَنْ عَبْدِ الْقَيْسِ - وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، وَأُمُّهُ قُرَّةُ بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ رَحِيبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الرَّيِّ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قَالَ: وَقَدْ خَرَجَ أَيْضًا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ بِالْبَحْرَيْنِ فَادَّعَى أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَدَعَا النَّاسَ بِهَجَرَ إِلَى طَاعَتِهِ فَاتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهَا، فَوَقَعَ بِسَبَبِهِ قِتَالٌ كَثِيرٌ وَفِتَنٌ كِبَارٌ وَحُرُوبٌ كَثِيرَةٌ وَمُنْتَشِرَةٌ.

وَلَمَّا خَرَجَ خَرْجَتَهُ هَذِهِ الثَّانِيَةَ بِظَاهِرِ الْبَصْرَةِ الْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الزَّنْجِ الَّذِينَ كَانُوا يَكْسَحُونَ السِّبَاخَ فَعَبَرَ بِهِمْ دِجْلَةَ فَنَزَلَ الدِّينَارِيَّ، وَكَانَ يَزْعُمُ لِبَعْضِ الْجَهَلَةِ مِنْ أَتْبَاعِهِ أَنَّهُ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمَقْتُولُ بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ وَكَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ حَفِظَ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ جَرَى بِهَا لِسَانُهُ لَا يَحْفَظُهَا غَيْرُهُ فِي مُدَّةٍ ; وَهُنَّ " سُبْحَانَ " وَالْكَهْفُ " وَص " وَأَنَّهُ فَكَّرَ يَوْمًا وَهُوَ فِي الْبَادِيَةِ إِلَى أَيِّ الْبِلَادِ يَصِيرُ، فَخُوطِبَ مِنْ سَحَابَةٍ أَنْ يَقْصِدَ الْبَصْرَةَ فَقَصَدَهَا، وَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا وَجَدَ أَهْلَهَا مُفْتَرِقِينَ عَلَى شُعْبَتَيْنِ ; سَعْدِيَّةٍ وَبِلَالِيَّةٍ فَطَمِعَ أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ إِحْدَاهُمَا فَيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى الْأُخْرَى فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَارْتَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً وَانْتَسَبَ بِهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَ يَزْعُمُ بِهَا أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِرِ أَصْحَابِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ فَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَهَلَةٌ مِنَ الطَّغَامِ، وَطَائِفَةٌ مِنْ رَعَاعِ النَّاسِ الْعَوَامِّ.
ثُمَّ عَادَ إِلَى أَرْضِ الْبَصْرَةِ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فَاجْتَمَعَ مَعَهُ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ عُدَدٌ يُقَاتِلُونَ بِهَا فَأَتَاهُمْ جَيْشٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَصْرَةِ فَاقْتَتَلُوا جَمِيعًا، فَلَمْ يَكُنْ فِي جَيْشِ هَذَا الْخَارِجِيِّ سِوَى ثَلَاثَةِ أَسْيَافٍ وَأُولَئِكَ الْجَيْشُ مَعَهُمْ عُدَدٌ وَعَدَدٌ وَلَبُوسٌ وَمَعَ هَذَا هَزَمَ أَصْحَابُ هَذَا الْخَارِجِيِّ ذَلِكَ الْجَيْشَ وَكَانُوا فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ ثُمَّ مَضَى نَحْوَ الْبَصْرَةِ بِمَنْ

مَعَهُ فَأَهْدَى لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ جُبَّا فَرَسًا، فَلَمْ يَجِدْ لَهَا سَرْجًا وَلَا لِجَامًا، فَأَلْقَى عَلَيْهَا حَبْلًا وَرَكِبَهَا، وَشَنَقَ حَنَكَهَا بِلِيفٍ، ثُمَّ صَادَرَ رَجُلًا فَتَهَدَّدَهُ بِالْقَتْلِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِينَارًا وَأَلْفَ دِرْهَمٍ فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ مَالٍ غَنِمَهُ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَأَخَذَ مِنْ آخَرَ ثَلَاثَةَ بَرَاذِينَ، وَأَخَذَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ شَيْئًا مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَالْأَمْتِعَةِ، فَسَارَ فِي جَيْشِهِ قَلِيلُ سِلَاحٍ وَخُيُولٍ، ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُيُوشٍ مِنْ جِهَةِ نَائِبِ الْبَصْرَةِ وَقْعَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ يَهْزِمُهُمْ فِيهَا وَكُلُّ مَا لِأَمْرِهِ يَقْوَى وَيَتَزَايَدُ أَصْحَابُهُ وَيَعْظُمُ جَيْشُهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَتَعَرَّضُ لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَخْذَ أَمْوَالِ السُّلْطَانِ.
وَقَدِ انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْحُرُوبِ هَزِيمَةً فَظِيعَةً ثُمَّ تَرَاجَعُوا إِلَيْهِ وَاجْتَمَعُوا حَوْلَهُ، ثُمَّ كَرُّوا إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرُوا آخَرِينَ، فَكَانَ لَا يُؤْتَى بِأَحَدٍ مِنَ الْأَسْرَى إِلَّا قَتَلَهُ، ثُمَّ قَوِيَ أَمْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَخَافَهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهَا مَدَدًا يَكُونُونَ لَهُمْ عَلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ - هَذَا الْخَارِجِيِّ قَبَّحَهُ اللَّهُ - ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِ رُءُوسُ أَصْحَابِهِ أَنْ يَهْجُمَ بِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَيَدْخُلُونَهَا عَنْوَةً، فَهَجَّنَ آرَاءَهُمْ، وَقَالَ: بَلْ نَكُونُ مِنْهَا قَرِيبًا حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الَّذِينَ يَطْلُبُونَنَا إِلَيْهَا، وَيَخْطُبُونَنَا عَلَيْهَا. وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ،

وَأَمْرِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْجَاحِظُ الْمُتَكَلِّمُ الْمُعْتَزِلِيُّ.
وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْفِرْقَةُ الْجَاحِظِيَّةُ مِنْهُمْ، وَهُوَ أَبُو عُثْمَانَ عَمْرُو بْنُ بَحْرِ بْنِ مَحْبُوبٍ الْكِنَانِيُّ اللَّيْثِيُّ الْبَصْرِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالْجَاحِظِ ; لِجُحُوظِ عَيْنَيْهِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْحَدَقِيُّ. وَكَانَ شَنِيعَ الْمَنْظَرِ سَيِّئَ الْمَخْبَرِ رَدِيءَ الِاعْتِقَادِ يُنْسَبُ إِلَى الْبِدْعَةِ، وَرُبَّمَا جَاوَزَ بِهِ بَعْضُهُمْ إِلَى الِانْحِلَالِ حَتَّى يُقَالَ فِي الْمَثَلِ: يَا وَيْحَ مَنْ كَفَّرَهُ الْجَاحِظُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ. وَكَانَ بَارِعًا فَاضِلًا، قَدْ أَتْقَنَ عُلُومًا كَثِيرَةً، وَصَنَّفَ كُتُبًا جَمَّةً تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ ذِهْنِهِ وَجَوْدَةِ تَصَرُّفِهِ. وَمِنْ أَجَلِّ كُتُبِهِ كِتَابُ " الْحَيَوَانِ "، وَكِتَابُ " الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ ".
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَهُمَا أَحْسَنُ مُصَنَّفَاتِهِ وَأَمْتَعُهَا، وَقَدْ أَطَالَ تَرْجَمَتَهُ بِحِكَايَاتٍ ذَكَرَهَا عَنْهُ. وَذَكَرَ: أَنَّهُ أَصَابَهُ الْفَالِجُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا مِنْ جَانِبِي الْأَيْسَرِ مَفْلُوجٌ، لَوْ قُرِضَ بِالْمَقَارِيضِ مَا عَلِمْتُ وَجَانِبِي

الْأَيْمَنُ مُنْقَرَسٌ فَلَوْ مَرَّتْ بِهِ ذُبَابَةٌ لَأَلِمْتُ، وَبِي حَصَاةٌ وَأَشَدُّ مَا عَلَيَّ سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً. وَكَانَ يُنْشِدُ:
أَتَرْجُو أَنْ تَكُونَ وَأَنْتَ شَيْخٌ كَمَا قَدْ كُنْتَ أَيَّامَ الشَّبَابِ لَقَدْ كَذَبَتْكَ نَفْسُكَ لَيْسَ ثَوْبٌ
دَرِيسٌ كَالْجَدِيدِ مِنَ الثِّيَابِ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ، صَاحِبُ الْمُسْنَدِ الْمَشْهُورِ، وَقَدْ سَمِعْنَاهُ بِعُلُوٍّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ الطُّوسِيُّ. وَالْخَلِيفَةُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ الْمُعْتَزُّ بِاللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ فِي رَجَبٍ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْمُلَقَّبُ صَاعِقَةَ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ كَرَّامٍ.
الْمُتَكَلِّمُ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْفِرْقَةُ الْكَرَّامِيَّةُ. وَقَدْ نُسِبَ إِلَيْهِمْ جَوَازُ وَضْعِ الْأَحَادِيثِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ ; وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ كَرَّامٍ - بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، عَلَى وَزْنِ جَمَّالٍ - بْنِ

عِرَاقِ بْنِ حُزَابَةَ بْنِ الْبَرَاءِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السِّجِسْتَانِيُّ الْعَابِدُ، يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ بَنِي نِزَارٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مُحَمَّدُ بْنُ كِرَامٍ - بِكَسْرِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ - جَمْعُ كَرِيمٍ. وَفَرَّقَ الْبَيْهَقِيُّ بَيْنَهُمَا، فَجَعَلَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْكَرَّامِيَّةُ - بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ - وَهُوَ الَّذِي سَكَنَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا، وَجَعَلَ الْآخَرَ شَيْخًا مِنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمِ، وَالْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ ابْنِ عَسَاكِرَ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ كَرَّامٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ وَعَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَنْظَلِيِّ السَّمَرْقَنْدِيِّ، سَمِعَ مِنْهُ التَّفْسِيرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ الْمَاكِيَانِيِّ وَمَالِكِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْهَرَوِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَرْبٍ وَعَتِيقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْجُرَشِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ الْأَزْهَرِ النَّيْسَابُورِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُوَيْبَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ تَمِيمٍ الْفَارَيَانِيِّ - وَكَانَا كَذَّابَيْنِ وَضَّاعَيْنِ - وَغَيْرِهِمْ.

وَعَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ وَأَبُو إِسْحَاقَ بْنُ سُفْيَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقِيرَاطِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ النَّيْسَابُورِيُّ.
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ: أَنَّهُ حُبِسَ فِي حَبْسِ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا أَطْلَقَهُ ذَهَبَ إِلَى ثُغُورِ الشَّامِ ثُمَّ عَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ فَحَبَسَهُ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَطَالَ حَبْسُهُ وَكَانَ يَتَأَهَّبُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَيَأْتِي إِلَى السَّجَّانِ فَيَقُولُ: دَعْنِي أَخْرُجْ إِلَى الْجُمُعَةِ. فَيَمْنَعُهُ السَّجَّانُ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ غَيْرِي. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَقَامَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَكَانَ يَجْلِسُ لِلْوَعْظِ عِنْدَ الْعَمُودِ الَّذِي عِنْدَ مَشْهَدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ. فَتَرَكَهُ أَهْلُهَا وَنَفَاهُ مُتَوَلِّيهَا إِلَى غَوْرِ زُغَرَ فَمَاتَ بِهَا، وَنُقِلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ: تُوُفِّيَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ لَيْلًا وَدُفِنَ بِبَابِ أَرِيحَا عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَهُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنَ الْأَصْحَابِ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ قَدِمَ مُوسَى بْنُ بُغَا الْكَبِيرِ إِلَى سَامَرَّا فَدَخَلَهَا فِي جَيْشٍ هَائِلٍ قَدْ عَبَّاهُ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَقَلْبًا وَجَنَاحَيْنِ فَقَصَدَ دَارَ الْخِلَافَةِ الَّتِي فِيهَا الْمُهْتَدِي جَالِسٌ لِلْعَامَّةِ لِكَشْفِ الْمَظَالِمِ وَاسْتَأْذَنُوا عَلَيْهِ فَتَمَادَى الْإِذْنُ سَاعَةً وَتَأَخَّرَ عَنْهُمْ فَظَنُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّمَا طَلَبَهُمْ خَدِيعَةً مِنْهُ لِيُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ صَالِحَ بْنَ وَصِيفٍ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ هَجْمًا فَجَعَلُوا يُرَاطِنُونَهُمْ بِالتُّرْكِيِّ ثُمَّ عَزَمُوا فَأَقَامُوهُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَانْتَهَبُوا مَا كَانَ فِيهِ ثُمَّ أَخَذُوهُ مُهَانًا إِلَى دَارٍ أُخْرَى فَجَعَلَ يَقُولُ لِمُوسَى بْنِ بُغَا: مَا لَكَ وَيْحَكَ ؟! إِنَّى إِنَّمَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ لِأَتَقَوَّى بِكَ عَلَى صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ فَقَالَ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ احْلِفْ لِي أَنَّكَ لَا تُرِيدُ بِي خِلَافَ مَا أَظْهَرْتَ، فَحَلَفَ لَهُ الْخَلِيفَةُ فَطَابَتْ أَنْفُسُهُمْ وَبَايَعُوهُ بَيْعَةً ثَانِيَةً مُشَافَهَةً وَأَخَذُوا عَلَيْهِ الْعُهُودَ وَالْمَوَاثِيقَ أَنْ لَا يُمَالِئَ صَالِحًا عَلَيْهِمْ وَاصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ بَعَثُوا إِلَى صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ لِيَحْضُرَهُمْ لِلْمُنَاظَرَةِ فِي أَمْرِ الْمُعْتَزِّ، وَمَنْ قَتَلَهُ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ مِنَ الْكُتَّابِ وَغَيْرِهِمْ، فَوَعَدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ ثُمَّ اجْتَمَعَ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَخَذَ يَتَأَهَّبُ لِجَمْعِ الْجُيُوشِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ اخْتَفَى مِنْ لَيْلَتِهِ لَا يَدْرِي أَحَدٌ أَيْنَ ذَهَبَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَبَعَثُوا الْمُنَادِيَةَ تُنَادِي عَلَيْهِ فِي أَرْجَاءِ الْبَلَدِ وَتُهَدِّدُ مَنْ أَخْفَاهُ فَلَمْ يَزَلْ فِي خَفَاءٍ إِلَى أَوَاخِرَ صَفَرٍ عَلَى مَا

سَنَذْكُرُ. وَرُدَّ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ إِلَى نِيَابَةِ بَغْدَادَ وَسُلِّمَ الْوَزِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزْدَادَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ مَخْلَدٍ الَّذِي كَانَ أَرَادَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ قَتْلَهُ مَعَ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ فَبَقِيَ فِي السِّجْنِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْوِزَارَةِ.
وَلَمَّا أَبْطَأَ خَبَرُ صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ عَلَى مُوسَى بْنِ بُغَا وَأَصْحَابِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اخْلَعُوا هَذَا الرَّجُلَ. يَعْنِي الْخَلِيفَةَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا صَوَّامًا قَوَّامًا لَا يَشْرَبُ النَّبِيذَ وَلَا يَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَلَا يُطَاوِعُكُمُ النَّاسُ عَلَيْهِ وَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ فَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفًا فَجَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ وَاسْتَدْعَى بِمُوسَى بْنِ بُغَا وَأَصْحَابِهِ، فَقَالَ: قَدْ بَلَغَنِي مَا تَمَالَأْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِي، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ إِلَيْكُمْ إِلَّا وَأَنَا مُتَحَنِّطٌ وَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى أَخِي بِوَلَدِي وَهَذَا سَيْفِي وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ بِهِ مَا اسْتَمْسَكَ قَائِمُهُ بِيَدِي، وَاللَّهِ لَئِنْ سَقَطَ مِنْ شِعْرِي شَعْرَةٌ لَيَهْلِكَنَّ أَوْ لِيَذْهَبَنَّ بِهَا أَكْثَرُكُمْ أَمَا دِينٌ أَمَا حَيَاءٌ أَمَا رِعَةٌ ؟! كَمْ يَكُونُ هَذَا الْخِلَافُ عَلَى الْخُلَفَاءِ وَالْإِقْدَامُ وَالْجُرْأَةُ عَلَى اللَّهِ ؟! سَوَاءٌ عِنْدَكُمْ مَنْ قَصَدَ الْإِبْقَاءَ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ كَانَ إِذَا بَلَغَهُ هَذَا عَنْكُمْ دَعَا بِأَرْطَالِ الشَّرَابِ فَشَرِبَهَا ; سُرُورًا بِمَكْرُوهِكُمْ، وَاذْهَبُوا فَانْظُرُوا فِي مَنْزِلِي وَفِي مَنَازِلِ إِخْوَتِي وَمَنْ يَتَّصِلُ بِي هَلْ فِيهَا مِنْ آلَاتِ الْخِلَافَةِ أَوْ فُرُشِهَا شَيْءٌ غَيْرَ مَا يَكُونُ فِي بُيُوتِ آحَادِ النَّاسِ، وَيَقُولُونَ: إِنِّي أَعْلَمُ عِلْمَ صَالِحٍ وَهَلْ هُوَ إِلَّا كَوَاحِدٍ مِنْكُمْ ؟ فَاذْهَبُوا فَاعْلَمُوا عِلْمَهُ فَابْلُغُوا شِفَاءَ نُفُوسِكُمْ فِيهِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَعْلَمُ عِلْمَهُ. قَالُوا: فَاحْلِفْ لَنَا عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: أَمَّا الْيَمِينُ فَإِنِّي أَبْذُلُهَا لَكُمْ،

وَلَكِنِّي أُؤَخِّرُهَا لَكُمْ حَتَّى تَكُونَ بِحَضْرَةِ الْهَاشِمِيِّينَ وَالْقُضَاةِ وَالْمُعَدَّلِينَ وَأَصْحَابِ الْمَرَاتِبِ فِي غَدٍ إِذَا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ. قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ لَانُوا لِذَلِكَ قَلِيلًا.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ ظَفِرُوا بِصَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ فَقُتِلَ وَجِيءَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ وَقَدِ انْفَتَلَ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ وَارُوهُ، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَسْبِيحِهِ وَذِكْرِهِ، وَلَمَّا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ مِنْ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ رُفِعَ الرَّأْسُ عَلَى رُمْحٍ وَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي أَرْجَاءِ الْبَلَدِ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ قَتَلَ مَوْلَاهُ. وَمَا زَالَ الْأَمْرُ مُضْطَرِبًا حَتَّى تَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَعَظُمَ الْخَطْبُ.

ذِكْرُ خَلْعِ الْمُهْتَدِي وَوِلَايَةِ الْمُعْتَمِدِ أَحْمَدَ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ وَإِيرَادُ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْمُهْتَدِي
لَمَّا بَلَغَ مُوسَى بْنَ بُغَا أَنَّ مُسَاوِرًا الشَّارِيَّ قَدْ عَاثَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ رَكِبَ إِلَيْهِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ وَمَعَهُ مُفْلِحٌ وَبَايَكْبَاكُ التُّرْكِيُّ، فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَمَسَاوِرٌ الْخَارِجِيُّ، فَلَمْ يَظْفَرُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ يُعْجِبُهُمْ، وَهَرَبَ مِنْهُمْ وَأَعْجَزَهُمْ، وَكَانَ قَدْ فَعَلَ قَبْلَ مَجِيئِهِمُ الْأَفَاعِيلَ الْمُنْكَرَةَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمُهْتَدِيَ بِاللَّهِ أَرَادَ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ كَلِمَةِ الْأَتْرَاكِ، فَكَتَبَ إِلَى بَايَكْبَاكَ أَنْ يَتَسَلَّمَ الْجَيْشَ مِنْ مُوسَى بْنِ بُغَا، وَيَكُونَ هُوَ الْأَمِيرَ عَلَى النَّاسِ، وَأَنْ يُقْبِلَ بِهِمْ إِلَى سَامَرَّا، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابُ

أَقْرَأَهُ مُوسَى بْنَ بُغَا، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَى الْمُهْتَدِي، وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ وَقَصَدَا إِلَيْهِ بَلَدَ سَامَرَّا، وَتَرَكَا مَا كَانَا فِيهِ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُهْتَدِي اسْتَخْدَمَ مِنْ فَوْرِهِ جُنْدًا مِنَ الْمَغَارِبَةِ وَالْفَرَاغِنَةِ وَالْأَشْرُوسَنِيَّةِ وَالْأَزْكَشِيَّةِ وَالْأَتْرَاكِ أَيْضًا، وَرَكِبَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ رَجَعَ مُوسَى بْنُ بُغَا إِلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ وَأَظْهَرَ بَايَكْبَاكُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ، فَدَخَلَ فِي ثَانِيَ عَشَرَ رَجَبٍ إِلَى الْخَلِيفَةِ سَامِعًا مُطِيعًا، فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَحَوْلَهُ الْأُمَرَاءُ وَالسَّادَةُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، شَاوَرَهُمْ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ صَالِحُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ فِي الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ مَا بَلَغْتَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ شَرًّا مِنْ هَذَا وَأَكْثَرَ جُنْدًا، وَلَمَّا قَتَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ سَكَنَتِ الْفِتْنَةُ وَخَمَدَ صَوْتُ أَصْحَابِهِ. فَأَمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ بِضَرْبِ عُنُقِ بَايَكْبَاكَ، ثُمَّ أَلْقَى رَأْسَهُ إِلَى الْأَتْرَاكِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ أَعْظَمُوهُ وَأَصْبَحُوا مِنَ الْغَدِ مُجْتَمِعِينَ عَلَى أَخِيهِ طُغُوتْيَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْخَلِيفَةُ فِيمَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا الْتَقَوْا خَامَرَتِ الْأَتْرَاكُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الْخَلِيفَةِ إِلَى أَصْحَابِهِمْ، وَصَارُوا أَلْبًا وَاحِدًا عَلَى الْخَلِيفَةِ وَأَصْحَابِهِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، ثُمَّ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَهَزَمُوهُمْ وَانْهَزَمَ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ وَبِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا، وَهُوَ يُنَادِي: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، انْصُرُوا خَلِيفَتَكُمْ. فَدَخَلَ دَارَ أَحْمَدَ بْنِ جَمِيلٍ صَاحِبِ الْمَعُونَةِ، فَوَضَعَ فِيهَا سِلَاحَهُ وَلَبِسَ الْبَيَاضَ، وَأَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ

فَيَخْتَفِيَ، فَعَاجَلَهُ أَحْمَدُ بْنُ خَاقَانَ فِيهَا فَأَخَذَهُ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ، وَرُمِيَ بِسَهْمٍ، وَطُعِنَ فِي خَاصِرَتِهِ، وَحُمِلَ عَلَى دَابَّةٍ وَخِلْفَهُ سَائِسُ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلُ حَتَّى حَصَلَ فِي دَارِ أَحْمَدَ بْنِ خَاقَانَ، فَجَعَلَ مَنْ هُنَاكَ يَصْفَعُونَهُ وَيَبْزُقُونَ فِي وَجْهِهِ، وَأَخَذُوا خَطَّهُ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَسَلَّمُوهُ إِلَى رَجُلٍ فَلَمْ يَزَلْ يَطَأُ خُصْيَتَيْهِ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَوُلِدَ فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَصَلَّى عَلَيْهِجَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْمُنْتَصِرِ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ، وَكَانَ أَسْمَرَ رَقِيقًا، أَجْلَى، حَسَنَ اللِّحْيَةِ، أَشْهَبَ، حَسَنَ الْعَيْنَيْنِ، عَظِيمَ الْبَطْنِ، عَرِيضَ الْمَنْكِبَيْنِ، قَصِيرًا، طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ الْخُلَفَاءِ مَذْهَبًا، وَأَجْمَلِهِمْ طَرِيقَةً، وَأَظْهَرِهِمْ وَرَعًا، وَأَكْثَرِهِمْ عِبَادَةً، وَإِنَّمَا رَوَى حَدِيثًا وَاحِدًا، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي هَاشِمِ بْنِ طِبْرَاخَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْفَقِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:

قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ ؟ قَالَ: " لِي النُّبُوَّةُ، وَلَكُمُ الْخِلَافَةُ، بِكُمْ يُفْتَحُ هَذَا الْأَمْرُ، وَبِكُمْ يُخْتَمُ ". وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: " مَنْ أَحَبَّكَ نَالَتْهُ شَفَاعَتِي، وَمَنْ أَبْغَضَكَ لَا نَالَتْهُ شَفَاعَتِي ".
وَرَوَى الْخَطِيبُ أَنَّ رَجُلًا اسْتَعْدَى الْمُهْتَدِي عَلَى خَصْمِهِ، فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ، فَأَنْشَأَ الرَّجُلُ يَقُولُ:
حَكَّمْتُمُوهُ فَقَضَى بَيْنَكُمْ أَبْلَجُ مِثْلُ الْقَمَرِ الزَّاهِرِ لَا يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ فِي حُكْمِهِ
وَلَا يُبَالِي غَبَنَ الْخَاسِرِ
فَقَالَ لَهُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَأَحْسَنَ اللَّهُ مَقَالَتَكَ، وَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي مَا جَلَسْتُ حَتَّى قَرَأْتُ: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 47 ] قَالَ: فَبَكَى النَّاسُ حَوْلَهُ. فَمَا رُئِيَ بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَرَدَ الْمُهْتَدِي الصَّوْمَ مُنْذُ وَلِيَ إِلَى أَنْ قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ يُحِبُّ الِاقْتِدَاءَ بِمَا سَلَكَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُمَوِيُّ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ مِنَ الْوَرَعِ وَالتَّقَشُّفِ وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَشِدَّةِ الِاحْتِيَاطِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ: كُنَّا جُلُوسًا بِمَكَّةَ وَعِنْدِي جَمَاعَةٌ وَنَحْنُ نَبْحَثُ فِي النَّحْوِ وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ، إِذْ وَقَفَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مَجْنُونٌ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

أَمَا تَسْتَحُونَ اللَّهَ يَا مَعْدِنَ الْجَهْلِ شُغِلْتُمْ بِذَا وَالنَّاسُ فِي أَعْظَمِ الشُّغْلِ
إِمَامُكُمْ أَضْحَى قَتِيلًا مُجَدَّلًا وَقَدْ أَصْبَحَ الْإِسْلَامُ مُفْتَرِقَ الشَّمْلِ
وَأَنْتُمْ عَلَى الْأَشْعَارِ وَالنَّحْوِ عُكَّفٌ تَضِجُّونَ بِالْأَصْوَاتِ فِي قِلَّةِ الْعَقْلِ
قَالَ: فَنَظَرْنَا وَأَرَّخْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ فَإِذَا الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ قَدْ قُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَكَانَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ.

خِلَافَةُ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ أَحْمَدَ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ وَيُعْرَفُ بِابْنِ فِتْيَانَ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي دَارِ الْأَمِيرِ يَارْجُوخَ، وَذَلِكَ قَبْلَ خَلْعِ الْمُهْتَدِي بِأَيَّامٍ، ثُمَّ كَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ.
وَلِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ دَخَلَ مُوسَى بْنُ بُغَا، وَمُفْلِحٌ إِلَى سُرَّ مَنْ رَأَى، فَنَزَلَ مُوسَى فِي دَارِهِ وَسَكَنَ النَّاسُ، وَخَمَدَتِ الْفِتْنَةُ هُنَالِكَ.
وَأَمَّا صَاحِبُ الزَّنْجِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ عَلَوِيٌّ فَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْبَصْرَةِ، وَالْجُيُوشُ الْخَلِيفِيَّةُ فِي وَجْهِهِ دُونَهَا، وَهُوَ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَقْهَرُهَا، وَيَغْنَمُ مَا يَفِدُ إِلَيْهِمْ فِي الْمَرَاكِبِ مِنَ

الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا، وَاسْتَحْوَذَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْأُبُلَّةِ وَعَبَّادَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْبِلَادِ، وَخَافَ مِنْهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ خَوْفًا شَدِيدًا، وَكُلُّ مَا لِأَمْرِهِ يَقْوَى، وَلِجُيُوشِهِ تَكْثُرُ، وَلِعَدَدِهِ يَتَزَايَدُ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ إِلَى انْسِلَاخِهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ رَجُلٌ آخَرُ بِالْكُوفَةِ يُقَالُ لَهُ: عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ الطَّالِبِيُّ، وَجَاءَهُ جَيْشٌ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ فَكَسَرَهُ الطَّالِبِيُّ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ بِالْكُوفَةِ وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُ.
وَفِيهَا وَثَبَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاصِلٍ التَّمِيمِيُّ عَلَى نَائِبِ فَارِسَ الْحَارِثِ بْنِ سِيمَا الشَّرَابِيِّ، فَقَتَلَهُ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادِ فَارِسَ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا تَغَلَّبَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ الطَّالِبِيُّ عَلَى بِلَادِ الرَّيِّ فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ مُوسَى بْنُ بُغَا فِي شَوَّالٍ مِنْ عِنْدِ الْمُعْتَمَدِ، وَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ لِتَوْدِيعِهِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى بَابِ دِمَشْقَ بَيْنَ أَمَاجُورَ نَائِبِ دِمَشْقَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ فَارِسٍ وَبَيْنَ ابْنٍ لِعِيسَى ابْنِ الشَّيْخِ، وَهُوَ فِي قَرِيبٍ مَنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَهَزَمَهُ أَمَاجُورُ. وَجَاءَتْ مِنَ الْخَلِيفَةِ وِلَايَةٌ لِابْنِ الشَّيْخِ ; بِلَادَ أَرْمِينِيَّةَ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ أَهْلَ الشَّامِ فَقَبِلَ ذَلِكَ وَانْصَرَفَ عَنْهُمْ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْحُجَّاجِ أَبُو أَحْمَدَ ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ، فَتَعَجَّلَ وَعَجَّلَ السَّيْرَ إِلَى سَامَرَّا،

فَدَخَلَهَا لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْخَلِيفَةُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ فِي رَجَبٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، الْقُرَشِيُّ الزُّبَيْرِيُّ، قَاضِي مَكَّةَ قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَلَهُ كِتَابُ " أَنْسَابِ قُرَيْشٍ "، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِذَلِكَ، وَكِتَابُهُ فِي ذَلِكَ حَافِلٌ جِدًّا. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ وَثَّقَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْخَطِيبُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَعَلَى كِتَابِهِ. وَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَكَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ " الصَّحِيحِ ".
وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهُ تَرْجَمَةً حَافِلَةً فِي أَوَّلِ شَرْحِنَا " لِصَحِيحِهِ "، وَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا نُبْذَةً يَسِيرَةً مِنْ ذَلِكَ، فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ بَرْدِزَبَهَ، وَيُقَالُ: بَذْدِزَبَهَ، الْجُعْفِيُّ مَوْلَاهُمْ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ الْحَافِظُ، إِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ

فِي زَمَانِهِ، وَالْمُقْتَدَى بِهِ فِي أَوَانِهِ، وَالْمُقَدَّمُ عَلَى سَائِرِ أَضْرَابِهِ وَأَقْرَانِهِ، وَكِتَابُهُ " الصَّحِيحُ " يُسْتَسْقَى بِقِرَاءَتِهِ الْغَمَامُ، وَأَجْمَعَ عَلَى قَبُولِهِ وَصِحَّةِ مَا فِيهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ.
وُلِدَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَمَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَنَشَأَ فِي حِجْرِ أُمِّهِ، فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ حِفْظَ الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي الْمَكْتَبِ، وَقَرَأَ الْكُتُبَ الْمَشْهُورَةَ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ وَهُوَ صَبِيٌّ سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ سَرْدًا. وَحَجَّ وَعَمُرُهُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ يَطْلُبُ بِهَا الْحَدِيثَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سَائِرِ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ فِي الْبُلْدَانِ الَّتِي أَمْكَنَهُ الرِّحْلَةُ إِلَيْهَا، وَكَتَبَ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ شَيْخٍ، وَرَوَى عَنْهُ خَلَائِقُ وَأُمَمٌ.
وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنِ الْفِرَبْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعَ " الصَّحِيحَ " مِنَ الْبُخَارِيِّ مَعِي نَحْوٌ مَنْ تِسْعِينَ أَلْفًا، لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرِي.
وَقَدْ رُوِيَ " الْبُخَارِيُّ " مِنْ طَرِيقِ الْفِرَبْرِيِّ - كَمَا هِيَ رِوَايَةُ النَّاسِ الْيَوْمَ مِنْ طَرِيقِهِ - وَحَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ، وَطَاهِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَخْلَدٍ، وَآخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو طَلْحَةَ مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَزْدَوِيُّ النَّسَفِيُّ،

وَقَدْ تُوُفِّيَ النَّسَفِيُّ هَذَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَوَثَّقَهُ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا. وَمِمَّنْ رَوَى عَنِ الْبُخَارِيِّ مُسْلِمٌ فِي غَيْرِ " الصَّحِيحِ "، وَكَانَ مُسْلِمٌ يُتَلْمِذُ لَهُ وَيُعَظِّمُهُ، وَرَوَى عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ فِي " جَامِعِهِ "، وَالنَّسَائِيُّ فِي " سُنَنِهِ " فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ.
وَقَدْ دَخَلَ بَغْدَادَ ثَمَانِ مَرَّاتٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا يَجْتَمِعُ بِالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَيَحُثُّهُ أَحْمَدُ عَلَى الْمُقَامِ بِبَغْدَادَ، وَيَلُومُهُ عَلَى الْإِقَامَةِ بِخُرَاسَانَ.
وَقَدْ كَانَ الْبُخَارِيُّ يَسْتَيْقِظُ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ نَوْمِهِ فَيُورِي السِّرَاجَ، وَيَكْتُبُ الْفَائِدَةَ تَمُرُّ بِخَاطِرِهِ ثُمَّ يُطْفِئُ سِرَاجَهُ، ثُمَّ يَقُومُ مَرَّةً أُخْرَى حَتَّى كَانَ يَتَعَدَّدُ ذَلِكَ مِنْهُ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً.
وَقَدْ كَانَ أُصِيبَ بَصَرُهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَرَأَتْ أُمُّهُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ: يَا هَذِهِ، قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَى وَلَدِكِ بَصَرَهُ بِكَثْرَةِ دُعَائِكِ، أَوْ قَالَ: بُكَائِكِ. فَأَصْبَحَ وَهُوَ بَصِيرٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: فَكَّرْتُ الْبَارِحَةَ فَإِذَا أَنَا قَدْ كَتَبْتُ فِي مُصَنَّفَاتِي نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ حَدِيثٍ مُسْنَدَةً. وَكَانَ يَحْفَظُهَا كُلَّهَا.
وَدَخَلَ مَرَّةً إِلَى سَمَرْقَنْدَ فَاجْتَمَعَ بِهِ أَرْبَعُمِائَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ بِهَا، فَرَكَّبُوا

لَهُ أَسَانِيدَ وَأَدْخَلُوا إِسْنَادَ الشَّامِ فِي إِسْنَادِ الْعِرَاقِ، وَخَلَطُوا الرِّجَالَ فِي الْأَسَانِيدِ، وَجَعَلُوا مُتُونَ الْأَحَادِيثِ عَلَى غَيْرِ أَسَانِيدِهَا، ثُمَّ قَرَءُوهَا عَلَى الْبُخَارِيِّ، فَرَدَّ كُلَّ حَدِيثٍ إِلَى إِسْنَادِهِ، وَقَوَّمَ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ وَالْأَسَانِيدَ كُلَّهَا، وَمَا تَعَلَّقُوا عَلَيْهِ بِسَقْطَةٍ فِي إِسْنَادٍ وَلَا فِي مَتْنٍ. وَكَذَلِكَ صَنَعَ بِمِائَةِ مُحَدِّثٍ فِي أَهْلِ بَغْدَادَ.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَيَحْفَظُ مَا فِيهِ مِنْ نَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْأَخْبَارُ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ عُلَمَاءُ زَمَانِهِ مِنْ شُيُوخِهِ وَأَقْرَانِهِ ; فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا أَخْرَجَتْ خُرَاسَانُ مِثْلَهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: لَمْ يَرَ الْبُخَارِيُّ مِثْلَ نَفْسِهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: لَوْ كَانَ فِي زَمَنِ الْحَسَنِ لَاحْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِمَعْرِفَتِهِ بِالْحَدِيثِ وَفِقْهِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ: لَا أَعْلَمَ مِثْلَهُ. وَقَالَ مَحْمُودُ بْنُ النَّضْرِ أَبُو سَهْلٍ الشَّافِعِيُّ: دَخَلْتُ الْبَصْرَةَ وَالشَّامَ وَالْحِجَازَ وَالْكُوفَةَ، وَرَأَيْتُ عُلَمَاءَهَا كُلَّمَا جَرَى ذِكْرُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ فَضَّلُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الدَّغُولِيُّ: كَتَبَ أَهْلُ بَغْدَادَ إِلَى الْبُخَارِيِّ:

الْمُسْلِمُونَ بِخَيْرٍ مَا حَيِيتَ لَهُمْ وَلَيْسَ بَعْدَكَ خَيْرٌ حِينَ تُفْتَقَدُ
وَقَالَ الْفَلَّاسُ: كُلُّ حَدِيثٍ لَا يَعْرِفُهُ الْبُخَارِيُّ فَلَيْسَ بِحَدِيثٍ. وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: هُوَ فَقِيهُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَكَذَا قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَهُ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ.
وَقَالَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: رُحِلَ إِلَيَّ مِنْ شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا، فَمَا رَحَلَ إِلَيَّ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ مُرَجَّى: فَضْلُ الْبُخَارِيِّ عَلَى الْعُلَمَاءِ - يَعْنِي فِي زَمَانِهِ - كَفَضْلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ. وَقَالَ: هُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّرَامِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ أَفْقَهُنَا وَأَعْلَمُنَا وَأَغْوَصُنَا وَأَكْثَرُنَا طَلَبًا.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: هُوَ أَبْصَرُ مِنِّي. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَعْلَمُ مَنْ دَخَلَ الْعِرَاقَ. وَقَالَ عُبَيْدٌ الْعِجْلِيُّ: رَأَيْتَ

أَبَا حَاتِمٍ وَأَبَا زُرْعَةَ يَجْلِسَانِ إِلَيْهِ يَسْتَمِعَانِ مَا يَقُولُ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْلِمٌ يَبْلُغُهُ، وَكَانَ أَعْلَمَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ بِكَذَا وَكَذَا، وَكَانَ دَيِّنًا فَاضِلًا يُحْسِنُ كُلَّ شَيْءٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الذُّهْلِيَّ يَسْأَلُ الْبُخَارِيَّ عَنِ الْأَسَامِي وَالْكُنَى وَالْعِلَلِ، وَهُوَ يَمُرُّ فِيهِ كَالسَّهْمِ، كَأَنَّهُ يَقْرَأُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [ الْإِخْلَاصِ: 1 ].
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَمْدُونَ الْقَصَّارُ: رَأَيْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ جَاءَ إِلَى الْبُخَارِيِّ فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أُقَبِّلَ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذِينَ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ. ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ، فَذَكَرَ لَهُ عِلَّتَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ مُسْلِمٌ: لَا يُبْغِضُكَ إِلَّا حَاسِدٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُكَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَمْ أَرَ بِالْعِرَاقِ وَلَا بِخُرَاسَانَ فِي مَعْنَى الْعِلَلِ وَالتَّارِيخِ وَمَعْرِفَةِ الْأَسَانِيدِ أَعْلَمَ مِنَ الْبُخَارِيِّ. وَكُنَّا يَوْمًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنِيرٍ، فَقَالَ لِلْبُخَارِيِّ: جَعَلَكَ اللَّهُ زَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: فَاسْتُجِيبَ لَهُ فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: مَا رَأَيْتُ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَعْلَمَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْفَظَ لَهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ. وَلَوْ ذَهَبْنَا نُسَطِّرُ مَا أَثْنَى عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِي حِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ وَعِلْمِهِ وَفِقْهِهِ وَوَرَعِهِ وَزُهْدِهِ وَتَبَحُّرِهِ لَطَالَ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ عَلَى عَجَلٍ مِنْ أَجْلِ الْحَوَادِثِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي أَوَّلِ شَرْحِ " الصَّحِيحِ "، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُسْتَعَانُ.

وَقَدْ كَانَ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي غَايَةِ الْحَيَاءِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالْوَرَعِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا دَارِ الْفَنَاءِ، وَالرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ دَارِ الْبَقَاءِ. قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُطَالِبُنِي أَنِّي اغْتَبْتُهُ. فَذُكِرَ لَهُ " التَّارِيخُ " وَمَا ذَكَرَ فِيهِ مِنَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ هَذَا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:ائْذَنُوا لَهُ، فَلَبِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَنَحْنُ إِنَّمَا رَوَيْنَا ذَلِكَ رِوَايَةً، وَلَمْ نَقُلْهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا.
وَقَدْ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُصَلِّي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَكَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ خَتْمَةً، وَكَانَتْ لَهُ جِدَةٌ وَمَالٌ جَيِّدٌ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا، وَكَانَ يُكْثِرُ الصَّدَقَةَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، وَكَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، مُسَدَّدَ الرَّمْيَةِ، شَرِيفَ النَّفْسِ ; بَعَثَ إِلَيْهِ بَعْضُ السَّلَاطِينِ لِيَأْتِيَهُ حَتَّى يَسْمَعَ أَوْلَادُهُ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ، إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ ذَلِكَ فَهَلُمُّوا إِلَيَّ، وَأَبَى أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِمْ - وَهُوَ خَالِدُ بْنُ أَحْمَدَ الذُّهْلِيُّ، نَائِبُ الظَّاهِرِيَّةِ بِبُخَارَى - فَبَقِيَ فِي نَفْسِ الْأَمِيرِ مِنْ ذَلِكَ ; فَاتَّفَقَ أَنْ جَاءَهُ كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ مِنْ نَيْسَابُورَ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ بِأَنَّ لَفْظَهُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ - وَكَانَ وَقَدْ وَقَعَ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ وَبَيْنَ الْبُخَارِيِّ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ، وَصَنَّفَ الْبُخَارِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابَ " خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " - فَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ النَّاسَ عَنِ السَّمَاعِ مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ يُعَظِّمُونَهُ جِدًّا، وَحِينَ رَجَعَ إِلَيْهِمْ نَثَرُوا عَلَى رَأْسِهِ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يَوْمَ دَخَلَ بُخَارَى عَائِدًا إِلَى أَهْلِهِ، وَكَانَ

لَهُ مَجْلِسُ الْإِمْلَاءِ بِجَامِعِهَا، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنَ الْأَمِيرِ، فَأَمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ بِنَفْيِهِ مِنَ الْبِلَادِ، فَخَرَجَ مِنْهَا وَدَعَا عَلَى خَالِدِ بْنِ أَحْمَدَ، فِلَمْ يَمْضِ شَهْرٌ حَتَّى أَمَرَ ابْنُ طَاهِرٍ بِأَنْ يُنَادَى عَلَى خَالِدِ بْنِ أَحْمَدَ عَلَى أَتَانٍ، وَزَالَ مُلْكُهُ وَسُجِنَ فِي بَغْدَادَ حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَاعِدَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا ابْتُلِيَ بِبَلَاءٍ شَدِيدٍ. فَنَزَحَ الْبُخَارِيُّ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا: خَرْتَنْكُ. عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ سَمَرْقَنْدَ فَنَزَلَ عِنْدَ أَقَارِبَ لَهُ بِهَا، وَجَعَلَ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ حِينَ رَأَى الْفِتَنَ ; كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنَا إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ.
ثُمَّ اتَّفَقَ مَرَضُهُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، فَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ، وَكَانَتْ لَيْلَةَ السَّبْتِ، عِنْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْعِيدِ بَعْدَ الظُّهْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ - وَكُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ، وَفْقَ مَا أَوْصَى بِهِ، وَحِينَ دُفِنَ فَاحَتْ مِنْ قَبْرِهِ رَائِحَةُ غَالِيَةٍ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، فَدَامَ ذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ عَلَتْ سَوَارٍ بَيْضٌ مُسْتَطِيلَةٌ بِحِذَاءِ قَبْرِهِ. وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَقَدْ تَرَكَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَهُ عِلْمًا نَافِعًا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَمَلُهُ فِيهِ لَمْ يَنْقَطِعْ بَلْ هُوَ مَوْصُولٌ بِمَا أَسْدَاهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ فِي الْحَيَاةِ ; وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ، مِنْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ الْحَدِيثَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَشَرْطُهُ فِي " صَحِيحِهِ " هَذَا أَعَزُّ مِنْ شَرْطِ كُلِّ كِتَابٍ صُنِّفَ فِي " الصَّحِيحِ "، لَا يُوَازِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ، لَا " صَحِيحُ مُسْلِمٍ " وَلَا غَيْرُهُ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ مِنَ الشُّعَرَاءِ:
صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ لَوْ أَنْصَفُوهُ لَمَا خُطَّ إِلَّا بِمَاءِ الذَّهَبْ
هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْهُدَى وَالْعَمَى هُوَ السَّدُ بَيْنَ الْفَتَى وَالْعَطَبْ
أَسَانِيدُ مِثْلُ نُجُومِ السَّمَاءِ أَمَامَ مُتُونٍ كَمِثْلِ الشُّهُبْ
بِهَا قَامَ مِيزَانُ دِينِ الرَّسُولِ وَدَانَ بِهِ الْعُجْمُ بَعْدَ الْعَرَبْ
حِجَابٌ مِنَ النَّارِ لَا شَكَّ فِيهِ تَمَيَّزَ بَيْنَ الرِّضَا وَالْغَضَبْ
وَسِتْرٌ رَقِيقٌ إِلَى الْمُصْطَفَى وَنَصٌّ مُبِينٌ لِكَشْفِ الرِّيَبْ
فَيَا عَالِمًا أَجْمَعَ الْعَالِمُونَ عَلَى فَضْلِ رُتْبَتِهِ فِي الرُّتَبْ
سَبَقْتَ الْأَئِمَّةَ فِي مَا جَمَعْتَ وَفُزْتَ عَلَى زَعْمِهِمْ بِالْقَصَبْ
نَفَيْتَ الضَّعِيفَ مِنَ النَّاقِلِينَ وَمَنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبْ
وَأَبْرَزْتَ فِي حُسْنِ تَرْتِيبِهِ وَتَبْوِيبِهِ عَجَبًا لِلْعَجَبْ
فَأَعْطَاكَ مَوْلَاكَ مَا تَشْتَهِيهِ وَأَجْزَلَ حَظَّكَ فِيمَا وَهَبْ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَلَّى الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ لِيَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ بَلْخَ وَطَخَارِسْتَانَ وَمَا يَلِي ذَلِكَ مِنْ كَرْمَانَ وَسَجِسْتَانَ وَالسِّنْدِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا عَقَدَ الْمُعْتَمِدُ لِأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ عَلَى الْكُوفَةِ وَطَرِيقِ مَكَّةَ وَالْحَرَمَيْنِ وَالْيَمَنِ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ فِي رَمَضَانَ نِيَابَةَ بَغْدَادَ وَالسَّوَادِ وَوَاسِطَ وَكُوَرِ دِجْلَةَ وَالْبَصْرَةِ وَالْأَهْوَازِ وَفَارِسَ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَفِيهَا تَوَاقَعَ سَعِيدٌ الْحَاجِبُ وَصَاحِبُ الزَّنْجِ فِي أَرَاضِي الْبَصْرَةِ فَهَزَمَهُ سَعِيدٌ الْحَاجِبُ وَاسْتَنْقَذَ مِنْ يَدِهِ خَلْقًا مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَاسْتَرْجَعَ مِنْهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَأَذَلَّ الزِّنْجَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ وَالْمَذَلَّةِ. ثُمَّ إِنَّ الزِّنْجَ بَيَّتُوا سَعِيدًا وَجَيْشَهُ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَيُقَالُ: إِنَّ سَعِيدَ بْنَ صَالِحٍ قُتِلَ أَيْضًا. ثُمَّ الْتَقَى مَعَ مَنْصُورِ بْنِ جَعْفَرٍ الْخَيَّاطِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَهَزَمَهُمْ هَذَا الْخَارِجِيُّ صَاحِبُ الزَّنْجِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ طَالِبِيٌّ، وَهُوَ كَاذِبٌ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا ظُفِرَ بِبَغْدَادَ - بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: بِرْكَةُ زَلْزَلٍ - بِرَجُلٍ خَنَّاقٍ قَدْ قَتَلَ خَلْقًا مِنَ النِّسَاءِ، فَحُمِلَ إِلَى الْمُعْتَمِدِ فَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَلْفَيْ سَوْطٍ

وَأَرْبَعِمِائَةِ أَرْزَنَ فَلَمْ يَمُتْ حَتَّى ضَرَبَ الْجَلَّادُونَ عَلَى أُنْثَيَيْهِ بِخَشَبِ الْعُقَابَيْنِ فَمَاتَ، وَرُدَّ إِلَى بَغْدَادَ وَصُلِبَ هُنَاكَ، ثُمَّ أُحْرِقَتْ جُثَّتَهُ.
وَفِي لَيْلَةِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَسَفَ الْقَمَرُ وَغَابَ أَكْثَرُهُ، وَفِي صَبِيحَةِ هَذَا الْيَوْمِ دَخَلَ جَيْشُ الْخَبِيثِ إِلَى الْبَصْرَةِ قَهْرًا، فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا وَهَرَبَ نَائِبُهَا بُغْرَاجُ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَحْرَقَتِ الزِّنْجُ جَامِعَ الْبَصْرَةِ وَدُورًا كَثِيرَةً وَانْتَهَبُوهَا، ثُمَّ نَادَى فِيهِمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى الْمُهْلَّبِيُّ أَحَدُ أَصْحَابِ الْخَارِجِيِّ: مَنْ أَرَادَ الْأَمَانَ فَلْيَحْضُرْ. فَاجْتَمَعَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا، فَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ فُرْصَةً فَغَدَرَ بِهِمْ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، فَلَمْ يَفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّاذُّ، كَانَتِ الزِّنْجُ تُحِيطُ بِالْجَمَاعَةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ثُمَّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: كِيلُوا - وَهِيَ الْإِشَارَةُ بَيْنَهُمْ إِذَا أَرَادُوا قَتْلَ أَحَدٍ - فَيَحْمِلُونَ عَلَيْهِمْ بِالسُّيُوفِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا تَشَهُّدَ أُولَئِكَ وَضَجِيجَهُمْ عِنْدَ الْقَتْلِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَهَكَذَا كُلُّ مَحَلَّةٍ مِنْ مَحَالِّ الْبَصْرَةِ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ، وَهَرَبَ النَّاسُ مِنْهُمْ كُلَّ مَهْرَبٍ، وَحَرَقُوا الْكَلَأَ مِنَ الْجَبَلِ إِلَى الْجَبَلِ، فَحَرَقَتِ النَّارُ مَا وَجَدَتْ مِنْ شَيْءٍ ; مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ بَهِيمَةٍ أَوْ أَثَاثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَحْرَقُوا الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ أَيْضًا، وَقَدْ قُتِلَ فِي هَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأُدَبَاءِ وَالْفُضَلَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْعُلَمَاءِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَكَانَ هَذَا الْخَبِيثُ قَدْ أَوْقَعَ بِأَهْلِ فَارِسَ وَقْعَةً عَظِيمَةً، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْمِيرَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَقَدِ اتَّسَعُوا بَعْدَ الضِّيقِ فَحَسَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مَنْ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَعَوْتُ اللَّهَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَخُوطِبْتُ فَقِيلَ

لِي: إِنَّمَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ خُبْزَةٌ تَأْكُلُهَا مِنْ جَوَانِبِهَا، فَإِذَا انْكَسَرَ نِصْفُ الرَّغِيفِ خَرِبَتِ الْبَصْرَةُ. فَأَوَّلْتُ ذَلِكَ بِانْكِسَافِ الْقَمَرِ. وَقَدْ كَانَ هَذَا شَائِعًا فِي أَصْحَابِهِ حَتَّى وَقَعَ الْأَمْرُ طِبْقَ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا كَانَ مَعَهُ شَيْطَانٌ يُخَاطِبُهُ، كَمَا كَانَ يَأْتِي شَيْطَانُ مُسَيْلِمَةَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا أَوْقَعَ أَصْحَابُهُ مِنَ الزَّنْجِ وَغَيْرِهِمْ مَا أَوْقَعُوا بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ قَالَ لِمَنْ مَعَهُ: إِنِّي صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ دَعَوْتُ اللَّهَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَرُفِعَتْ لِي بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَرَأَيْتُ أَهْلَهَا يُقَتَّلُونَ، وَرَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُقَاتِلُ مَعَ أَصْحَابِي، وَإِنِّي لَمَنْصُورٌ عَلَى النَّاسِ، وَالْمَلَائِكَةُ تُقَاتِلُ مَعِي، وَتُثَبِّتُ جُيُوشِي، وَتُؤَيِّدُنِي فِي حُرُوبِي.
وَلَمَّا صَارَ إِلَيْهِ الْعَلَوِيَّةُ الَّذِينَ كَانُوا بِالْبَصْرَةِ انْتَسَبَ حِينَئِذٍ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ زَيْدٍ لَمْ يُعْقِبْ إِلَّا بِنْتًا مَاتَتْ، وَهِيَ تَرْضَعُ، فَقَبَّحَ اللَّهُ هَذَا اللَّعِينَ، مَا أَكْذَبَهُ وَأَفْجَرَهُ وَأَغْدَرَهُ!
وَفِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ وَجَّهَ الْخَلِيفَةُ مِنْ سَامَرَّا جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ الْأَمِيرِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِالْمُوَلَّدِ لِقِتَالِ صَاحِبِ الزَّنْجِ فَقَبَضَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى سَعِيدِ بْنِ أَحْمَدَ الْبَاهِلِيِّ الَّذِي كَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى أَرْضِ الْبَطَائِحِ وَأَخَافَ السُّبُلَ.
وَفِيهَا خَالَفَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاصِلٍ السُّلْطَانَ بِأَرْضِ فَارِسَ وَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا.
وَفِيهَا وَثَبَ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ يُقَالُ لَهُ: بَسِيلُ الصَّقْلَبِيُّ. عَلَى مَلِكِ الرُّومِ مِيخَائِيلَ بْنِ تَوْفِيلَ، فَقَتَلَهُ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَمْلَكَةِ الرُّومِ، وَقَدْ كَانَ لِمِيخَائِيلَ فِي

مُلْكِ الرُّومِ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْعَبَّاسِيُّ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ بْنِ يَزِيدَ.
صَاحِبُ الْجُزْءِ الْمَشْهُورِ الْمَرْوِيِّ، وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَقِيلَ: بِسَبْعٍ. وَكَانَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَاءِ الْعَشَرَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَدْ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ مِائَةٍ وَسَبْعِ سِنِينَ.
زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ الطَّائِيُّ. وَالرُّؤَاسِيُّ، ذَبَحَهُمَا الزِّنْجُ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَتَلُوا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ كَمَا قَدَّمْنَا قِصَّتَهُمْ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - وَمَا قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَحِمَهُمُ

اللَّهُ. وَعَلِيُّ بْنُ خُشْرَمٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ; أَحَدُ مَشَايِخِ مُسْلِمٍ الَّذِينَ يُكْثِرُ عَنْهُمْ.
وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْفَرَجِ أَبُو الْفَضْلِ الرِّيَاشِيُّ، النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ، كَانَ عَالِمًا بِأَيَّامِ الْعَرَبِ وَالسِّيَرِ، وَكَانَ كَثِيرَ الِاطِّلَاعِ، ثِقَةً عَالِمًا، رَوَى عَنِ الْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُمَا. قُتِلَ الرِّيَاشِيُّ بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَتَلَهُ الزَّنْجُ فِيمَنْ قَتَلُوا، ذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ "، وَحَكَى عَنْهُ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ بِنَا أَعْرَابِيٌّ يَنْشُدُ ابْنَهُ، فَقُلْنَا لَهُ: صِفْهُ لَنَا. فَقَالَ: كَأَنَّهُ دُنَيْنِيرٌ. فَقُلْنَا: لَمْ نَرَهُ. فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ جَاءَ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ أَسَيِّدًا كَأَنَّهُ جُعَلٌ. فَقُلْنَا: لَوْ سَأَلْتَنَا عَنْ هَذَا لَأَرْشَدْنَاكَ، إِنَّهُ مُنْذُ الْيَوْمِ يَلْعَبُ هَاهُنَا مَعَ الْغِلْمَانِ. ثُمَّ أَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ:
نِعْمَ ضَجِيعُ الْفَتَى إِذَا بَرَدَ الْ لَيْلُ سُحَيْرًا وَقَرْقَفَ الصَّرِدُ زَيَّنَهَا اللَّهُ فِي الْفُؤَادِ كَمَا
زُيِّنَ فِي عَيْنِ وَالِدٍ وَلَدُ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عَقَدَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ لِأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ عَلَى دِيَارِ مُضَرَ وَقِنِّسْرِينَ وَالْعَوَاصِمِ وَجَلَسَ يَوْمَ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلَّ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَخَلَعَ عَلَى أَخِيهِ وَعَلَى مُفْلِحٍ، وَرَكِبَا نَحْوَ الْبَصْرَةِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فِي عَدَدٍ وَعُدَدٍ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ مُفْلِحٌ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، أَصَابَهُ سَهْمٌ بِلَا نَصْلٍ فِي صَدْرِهِ، فَأَصْبَحَ مَيِّتًا، وَحُمِلَتْ جُثَّتُهُ إِلَى سَامَرَّا وَدُفِنَ بِهَا.
وَفِيهَا أُسِرَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَحْرَانِيُّ ; أَحَدُ أُمَرَاءِ صَاحِبِ الزَّنْجِ الْكِبَارِ، وَحُمِلَ إِلَى سَامَرَّا، فَضُرِبَ بَيْنَ يَدِيِ الْمُعْتَمِدِ مِائَتَيْ سَوْطٍ، ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ مِنْ خِلَافٍ، ثُمَّ خُبِطَ بِالسُّيُوفِ ثُمَّ ذُبِحَ ثُمَّ أُحْرِقَ، وَكَانَ الَّذِينَ أَسَرُوهُ جَيْشَ أَبِي أَحْمَدَ فِي وَقْعَةٍ هَائِلَةٍ مَعَ الزَّنْجِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ. وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُ صَاحِبَ الزَّنْجِ أَسِفَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ خُوطِبْتُ فِيهِ، فَقِيلَ لِي: قَتْلُهُ كَانَ خَيْرًا لَكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ شَرِهًا يُخْفِي مِنَ الْمَغَانِمِ خِيَارَهَا. وَقَدْ كَانَ هَذَا اللَّعِينُ - أَعْنِي صَاحِبَ الزَّنْجِ الْمُدَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ النُّبُوَّةُ فَخِفْتُ أَنْ لَا أَقُومَ بِأَعْبَائِهَا، فَلَمْ أَقْبَلْهَا.

وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا وَصَلَ سَعِيدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَاهِلِيُّ إِلَى بَابِ السُّلْطَانِ، فَضُرِبَ سَبْعَمِائَةِ سَوْطٍ حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ صُلِبَ.
وَفِيهَا قُتِلَ قَاضٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ صَاحِبِ الزَّنْجِ عِنْدَ بَابِ الْعَامَّةِ بِسَامَرَّا.
وَفِيهَا رَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاصِلٍ إِلَى طَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَحَمَلِ خَرَاجَ فَارِسَ وَتَمَهَّدَتِ الْأُمُورُ هُنَاكَ، وَاسْتَقَلَّتْ عَلَى السَّدَادِ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ كَانْتْ بَيْنَ أَبِي أَحْمَدَ وَبَيْنَ الزَّنْجِ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ، قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ اسْتَوْخَمَ أَبُو أَحْمَدَ مَنْزِلَهُ، فَتَحَيَّزَ إِلَى وَاسِطَ فَنَزَلهَا فِي أَوَائِلِ شَعْبَانَ، فَوَقَعَتْ هُنَاكَ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ وَهَدَّةٌ عَظِيمَةٌ، تَهَدَّمَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ دُورٌ كَثِيرَةٌ، وَمَاتَ مِنَ النَّاسِ نَحْوٌ مَنْ عِشْرِينَ أَلْفًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ فِي النَّاسِ وَبَاءٌ شَدِيدٌ بِبَغْدَادَ وَسَامَرَّا وَوَاسِطَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ. وَحَصَلَ لِلنَّاسِ بِبَغْدَادَ دَاءٌ يُقَالُ لَهُ: الْقِفَاعُ. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ، أُخِذَ رَجُلٌ مِنْ بَابِ الْعَامَّةِ بِسَامَرَّا ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ يَسُبُّ السَّلَفَ، فَضُرِبَ أَلْفَ سَوْطٍ حَتَّى مَاتَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَامِنِهِ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ يَارْجُوخُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُو الْخَلِيفَةِ أَبُو عِيسَى وَحَضَرَهُ جَعْفَرُ بْنُ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ بَيْنَ مُوسَى بْنِ بُغَا وَبَيْنَ أَصْحَابِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ

بِبِلَادِ خُرَاسَانَ فَهَزَمَهُمْ مُوسَى بْنُ بُغَا هَزِيمَةً فَظِيعَةً.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ مَسْرُورٍ الْبَلْخِيِّ وَبَيْنَ مَسَاوِرٍ الْخَارِجِيِّ، فَأَسَرَ مَسْرُورٌ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُتَقَدِّمُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ بُدَيْلٍ.
وَأَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ.
وَأَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَطَّانُ.
وَأَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ.
وَحَمِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ سَنْجَرَ، صَاحِبُ الْمُسْنَدِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ.
وَيَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ رَجَعَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ مِنْ وَاسِطَ إِلَى سَامَرَّا، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى حَرْبِ الْخَبِيثِ صَاحِبِ الزَّنْجِ مُحَمَّدًا الْمُلَقَّبَ بِالْمَوْلَّدِ، وَكَانَ شُجَاعًا شَهْمًا.
وَفِيهَا بَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَى كَنْجُورَ نَائِبِ الْكُوفَةِ جَمَاعَةً مِنَ الْقُوَّادِ فَذَبَحُوهُ، وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمَالِ، فَإِذَا هُوَ أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَفِيهَا تَغَلَّبَ رِجْلٌ جَمَّالٌ يُقَالُ لَهُ: شَرْكَبُ. عَلَى مَدِينَةِ مَرْوَ فَانْتَهَبَهَا مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُ هُنَاكَ.
وَلِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ تَوَجَّهَ مُوسَى بْنُ بُغَا الْكَبِيرُ مِنْ سَامَرَّا لِحَرْبِ الْخَبِيثِ، وَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَمِدُ لِتَوْدِيعِهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ عِنْدَ مُفَارَقَتِهِ لَهُ. وَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُفْلِحٍ إِلَى بِلَادِ الْأَهْوَازِ نَائِبًا عَلَيْهَا ; وَلِيَكُونَ عَوْنًا لِمُوسَى بْنِ بُغَا عَلَى حَرْبِ صَاحِبِ الزَّنْجِ الْخَبِيثِ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَهَزَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُفْلِحٍ جَيْشًا لِلْخَبِيثِ، وَقَتَلَ مِنَ الزَّنْجِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ طَائِفَةً كَثِيرَةً مِنْهُمْ، وَأَرْعَبَهُمْ إِرْعَابًا بَلِيغًا بِحَيْثُ لَمْ يَتَجَاسَرُوا عَلَى مُوَافَقَتِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَقَدْ حَرَّضَهُمُ الْخَبِيثُ كُلَّ التَّحْرِيضِ فَلَمْ يَنْجَعْ ذَلِكَ فِيهِمْ.

ثُمَّ تَوَاقَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُفْلِحٍ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيُّ، وَهُوَ مُقَدَّمُ جُيُوشِ صَاحِبِ الزَّنْجِ فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ يَطُولُ شَرْحُهَا، ثُمَّ كَانَتِ الدَّائِرَةُ عَلَى الزَّنْجِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، فَرَجَعَ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ إِلَى الْخَبِيثِ مَفْلُولًا مَقْهُورًا مَذْمُومًا مَدْحُورًا، وَبَعَثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُفْلِحٍ بِالْأُسَارَى إِلَى سَامَرَّا، فَبَادَرَ إِلَيْهِمُ الْعَامَّةُ فَقَتَلُوا أَكْثَرَهُمْ، وَسَلَبُوهُمْ.
وَفِيهَا تَدَنَّى مَلِكُ الرُّومِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - إِلَى بِلَادِ سُمَيْسَاطَ ثُمَّ إِلَى مَلَطْيَةَ فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا فَهَزَمُوهُ، وَقَتَلُوا بِطْرِيقَ الْبَطَارِقَةِ الَّذِي كَانَ مَعَهُ، وَرَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ.
وَفِيهَا دَخَلَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ إِلَى نَيْسَابُورَ فَظَفِرَ بِالْخَارِجِيِّ الَّذِي كَانَ بِهَرَاةَ يَنْتَحِلُ الْخِلَافَةَ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَقَتَلَهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ عَلَى رُمْحٍ، وَطِيفَ بِهِ فِي الْآفَاقِ وَالْأَقَالِيمِ، وَمَعَهُ رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا ذَلِكَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ، خَطِيبُ

دِمَشْقَ وَإِمَامُهَا وَعَالِمُهَا، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمَشْهُورَةُ الْمُفِيدَةُ، مِنْهَا الْمُتَرْجَمُ فِيهِ عُلُومٌ غَزِيرَةٌ وَفَوَائِدُ كَثِيرَةٌ. وَأَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السَّهْمِيُّ. وَحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الشَّاعِرُ. وَمَحْمُودُ بْنُ آدَمَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا وَقَعَ غَلَاءٌ عَظِيمٌ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا حَتَّى أَجْلَى أَكْثَرَ أَهْلِ الْبُلْدَانِ مِنْهَا يَنْتَجِعُونَ غَيْرَهَا، وَلَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ مِنَ الْمُجَاوِرِينَ وَمَنْ يُشْبِهُهُمْ، حَتَّى ارْتَحَلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَخَرَجَ نَائِبُ مَكَّةَ مِنْهَا، وَبَلَغَ كُرُّ الشَّعِيرِ بِبَغْدَادَ مِائَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ شُهُورًا.
وَفِيهَا قَتَلَ صَاحِبُ الزَّنْجِ الْمُسْتَحْوِذُ عَلَى الْبَصْرَةِ عَلِيَّ بْنَ زَيْدٍ صَاحِبَ الْكُوفَةِ.
وَفِيهَا أَخَذَتِ الرُّومُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِصْنَ لُؤْلُؤَةَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهَا.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ. وَمَالِكُ بْنُ

طَوْقٍ، الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ رَحْبَةُ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ.
وَحُنَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَبَّادِيُّ، الطَّبِيبُ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَرَّبَ كِتَابَ إِقْلِيدِسَ، وَحَرَّرَهُ بَعْدَهُ ثَابِتُ بْنُ قُرَّةَ وَعَرَّبَ حُنَيْنٌ كِتَابَ " الْمَجَسْطِيِّ " أَيْضًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ الطِّبِّ مِنْ لُغَةِ الْيُونَانِ إِلَى لُغَةِ الْعَرَبِ، وَكَانَ الْمَأْمُونُ شَدِيدَ الِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ جَدًّا، وَكَذَلِكَ جَعْفَرٌ الْبَرْمَكِيُّ قَبْلَهُ، وَلَحُنَيْنٍ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الطِّبِّ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ مَسَائِلُ حُنَيْنٍ وَكَانَ بَارِعًا فِي فَنِّهِ جِدًّا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا انْصَرَفَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ مِنْ بِلَادِ الدَّيْلَمِ إِلَى طَبَرِسْتَانَ وَأَحْرَقَ مَدِينَةَ شَالُوسَ ; لِمُمَالَأَتِهِمْ يَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا قَتَلَ مَسَاوِرٌ الْخَارِجِيُّ يَحْيَى بْنَ حَفْصٍ الَّذِي كَانَ يَلِي طَرِيقَ خُرَاسَانَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَشَخَصَ إِلَيْهِ مَسْرُورٌ الْبَلْخِيُّ، ثُمَّ تَبِعَهُ أَبُو أَحْمَدَ ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ، فَتَنَحَّى مَسَاوِرٌ فَلَمْ يُلْحَقْ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ ابْنِ وَاصِلٍ الَّذِي تَغَلَّبَ عَلَى فَارِسَ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُفْلِحٍ، فَكَسَرَهُ ابْنُ وَاصِلٍ وَأَسَرَهُ، وَقَتَلَ طَاشْتُمُرَ، وَاصْطَلَمَ الْجَيْشَ الَّذِي كَانَ مَعَهُمَا، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الْيَسِيرُ، ثُمَّ سَارَ ابْنُ وَاصِلٍ إِلَى وَاسِطَ يُرِيدُ حَرْبَ مُوسَى بْنِ بُغَا، فَرَجَعَ مُوسَى بْنُ بُغَا إِلَى بَابِ السُّلْطَانِ، وَسَأَلَ أَنْ يُعْفَى مِنْ نِيَابَةِ بِلَادِ الْمَشْرِقِ لِمَا رَأَى مِنْ كَثْرَةِ الْمُتَغَلِّبِينَ بِهَا، فَعُزِلَ عَنْهَا، وَوَلِيَ ذَلِكَ أَبُو أَحْمَدَ أَخُو الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَمِدِ.

وَفِيهَا سَارَ أَبُو السَّاجِ لِحَرْبِ الزَّنْجِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَسَرَتْهُمُ الزَّنْجُ وَدَخَلُوا الْأَهْوَازَ، فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا وَحَرَّقُوا مَنَازِلَهُمْ، ثُمَّ صُرِفَ أَبُو السَّاجِ عَنْ نِيَابَةِ الْأَهْوَازِ وَحَرْبِ الزَّنْجِ، وَوَلِيَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سِيمَا.
وَفِيهَا تَجَهَّزَ مَسْرُورٌ الْبَلْخِيُّ فِي جَيْشٍ لِقِتَالِ الزَّنْجِ أَيْضًا.
وَفِيهَا وَلَّى الْخَلِيفَةُ نَصْرَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدٍ السَّامَانِيَّ مَا وَرَاءَ نَهْرِ بَلْخَ وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْهَا.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَصَدَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ إِلَى ابْنِ وَاصِلٍ، فَالْتَقَيَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَهَزَمَهُ يَعْقُوبُ، وَفَلَّ عَسْكَرَهُ، وَأَسَرَ خَالَهُ، وَطَائِفَةً مِنْ حَرَمِهِ، وَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِ مَا قِيمَتُهُ أَرْبَعُونَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَتَلَ مَنْ كَانَ يُمَالِئُهُ وَيَنْصُرُهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ، وأَطَّدَ تِلْكَ النَّاحِيَةَ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَلِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ وَلَدَهُ جَعْفَرًا الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِهِ، وَسَمَّاهُ الْمُفَوِّضَ إِلَى اللَّهِ، وَوَلَّاهُ الْمَغْرِبَ وَضَمَّ إِلَيْهِ مُوسَى بْنَ بُغَا، وَوَلَّاهُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَمِصْرَ، وَالشَّامَ، وَالْجَزِيرَةَ، وَالْمَوْصِلَ وَأَرْمِينِيَّةَ، وَطَرِيقَ خُرَاسَانَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِ جَعْفَرٍ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ، وَلَقَّبَهُ الْمُوَفَّقَ بِاللَّهِ، وَوَلَّاهُ الْمَشْرِقَ وَضَمَّ إِلَيْهِ مَسْرُورًا الْبَلْخِيَّ، وَوَلَّاهُ بَغْدَادَ وَالسَّوَادَ، وَالْكُوفَةَ، وَطَرِيقَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَالْيَمَنَ، وَكَسْكَرَ، وَكُوَرَ دِجْلَةَ، وَالْأَهْوَازَ، وَفَارِسَ، وَأَصْبَهَانَ، وَقُمَّ، وَالْكَرْخَ، وَالدِّينَوَرَ، وَالرِّيَّ، وَزَنْجَانَ، وَالسِّنْدَ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ مُكَاتَبَاتٍ وَقُرِئَتْ فِي الْآفَاقِ، وَعُلِّقَتْ مِنْهَا نُسْخَةٌ بِالْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ.

وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّهَاوِيُّ.
وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ.
وَالْحَسَنُ بْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ بِمَكَّةَ.
وَدَاودُ بْنُ الْقَاسِمِ الْجَعْفَرِيُّ.
وَشُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبَ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَاثِقِ، أَخُو الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ.
وَأَبُو شُعَيْبٍ السُّوسِيُّ.
وَأَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ.
وَعَلِيُّ بْنُ إِشْكَابَ. وَأَخُوهُ

مُحَمَّدٌ.
وَمُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ.
صَاحِبُ " الصَّحِيحِ "، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَهَذَا ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ
هُوَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ مُسْلِمٍ، أَبُو الْحُسَيْنِ الْقُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، أَحَدُ الْأَئِمَّةِ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ، صَاحِبُ " الصَّحِيحِ " الَّذِي هُوَ تِلْوَ " الصَّحِيحِ " لِلْبُخَارِيِّ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَذَهَبَ الْمَغَارِبَةُ، وَأَبُو عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ شَيْخُ الْحَاكِمِ النَّيْسَابُورِيِّ مِنَ الْمَشَارِقَةِ إِلَى تَفْضِيلٍ " صَحِيحِ " مُسْلِمٍ عَلَى " صَحِيحِ " الْبُخَارِيِّ، فَإِنْ أَرَادُوا تَقْدِيمَهُ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ التَّعْلِيقَاتِ إِلَّا الْقَلِيلَ، وَأَنَّهُ يَسُوقُ الْأَحَادِيثَ بِتَمَامِهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَقْطَعُهَا كَتَقْطِيعِ الْبُخَارِيِّ لَهَا فِي الْأَبْوَابِ، فَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُوَازِي قُوَّةَ أَسَانِيدِ الْبُخَارِيِّ، وَاخْتِيَارَهُ فِي تَصْحِيحِ مَا أَوْرَدَهُ فِي " جَامِعِهِ " مُعَاصَرَةَ الرَّاوِي لِشَيْخِهِ وَسَمَاعَهُ مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ مُسْلِمًا لَا يَشْتَرِطُ فِي كِتَابِهِ الشَّرْطَ الثَّانِيَ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي أَوَّلِ شَرْحِ " الْبُخَارِيِّ "، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، فِي تَرْجَمَةِ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

وَالْمَقْصُودُ الْآنَ أَنَّ مُسْلِمًا دَخَلَ إِلَى الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ، وَسَمِعَ مِنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرِينَ قَدْ أَوْرَدَهُمْ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ فِي " تَهْذِيبِهِ " مُرَتَّبَيْنَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ.

وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ ; مِنْهُمُ التِّرْمِذِيُّ فِي " جَامِعِهِ " حَدِيثًا وَاحِدًا ; وَهُوَ حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:أَحْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ وَصَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ صَاعِدٍ، وَأَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ سَلَمَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ أَبَا زُرْعَةَ وَأَبَا حَاتِمٍ يُقَدِّمَانِ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ عَلَى مَشَايِخِ عَصْرِهِمَا.
وَأَخْبَرَنِي ابْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ، سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْمَاسَرْجَسِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ يَقُولُ: صَنَّفْتُ هَذَا " الْمُسْنَدَ الصَّحِيحَ " مِنْ ثَلَاثمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ مَسْمُوعَةٍ.

وَرَوَى الْخَطِيبُ قَائِلًا: حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ السَّوْذَرْجَانِيُّ بِأَصْبَهَانَ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْدَهْ، سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيَّ يَقُولُ: مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَصَحُّ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ.
وَقَدْ ذُكِرَ مُسْلِمٌ عِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، فَقَالَ بِالْعَجَمِيَّةِ مَا مَعْنَاهُ: أَيُّ رَجُلٍ كَانَ هَذَا ؟
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ لِمُسْلِمٍ: لَنْ نَعْدَمَ الْخَيْرَ مَا أَبْقَاكَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَخْرَمُ: قَلَّ مَا يَفُوتُ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا مِمَّا يَثْبُتُ فِي الْحَدِيثِ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ الْحِيرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ عُقْدَةَ الْحَافِظَ عَنِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، أَيُّهُمَا أَعْلَمُ ؟ فَقَالَ: كَانَ الْبُخَارِيُّ عَالِمًا وَمُسْلِمٌ عَالِمًا. فَكَرَّرْتُ ذَلِكَ

عَلَيْهِ مِرَارًا، وَهُوَ يَرُدُّ عَلَيَّ هَذَا الْجَوَابَ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَبَا عَمْرٍو، قَدْ يَقَعُ لِلْبُخَارِيِّ الْغَلَطُ فِي أَهْلِ الشَّامِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخَذَ كُتُبَهُمْ فَنَظَرَ فِيهَا، فَرُبَّمَا ذَكَرَ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ بِكُنْيَتِهِ، وَيَذُكُرُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِاسْمِهِ، وَيُتَوَهَّمُ أَنَّهُمَا اثْنَانِ، فَأَمَّا مُسْلِمٌ فَقَلَّ مَا يَقَعُ لَهُ الْغَلَطُ لِأَنَّهُ كَتَبَ الْمَسَانِيدَ وَلَمْ يَكْتُبِ الْمَقَاطِيعَ وَالْمَرَاسِيلَ.
قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّمَا قَفَا مُسْلِمٌ طَرِيقَ الْبُخَارِيِّ، وَنَظَرَ فِي عِلْمِهِ، وَحَذَا حَذْوَهُ، وَلَمَّا وَرَدَ الْبُخَارِيُّ نَيْسَابُورَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ لَازَمَهُ مُسْلِمٌ، وَأَدَامَ الِاخْتِلَافَ إِلَيْهِ. وَقَدْ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ الصَّيْرَفِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيَّ يَقُولُ: لَوْلَا الْبُخَارِيُّ لَمَا ذَهَبَ مُسْلِمٌ وَلَا جَاءَ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الْمُنْكَدِرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنِي أَبُو نَصْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، سَمِعْتُ أَبَا حَامِدٍ أَحْمَدَ بْنَ حَمْدَانَ الْقَصَّارَ، سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ، وَجَاءَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أُقَبِّلَ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذِينَ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ، حَدَّثَكَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ، حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ الْحَرَّانَيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ، فَمَا عِلَّتُهُ ؟ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مَلِيحٌ، وَلَا أَعْلَمُ فِي الدُّنْيَا فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرَ هَذَا

الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ ; ثَنَا بِهِ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلَهُ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَهَذَا أَوْلَى ; فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِمُوسَى بْنِ عَقَبَةَ سَمَاعٌ مَنْ سُهَيْلٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ أَفْرَدْتُ لِهَذَا الْحَدِيثِ جُزْءًا عَلَى حِدَةٍ، وَأَوْرَدْتُ فِيهِ طُرُقَهُ وَأَلْفَاظَهُ وَمَتْنَهُ وَعِلَلَهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ كَانَ مُسْلِمٌ يُنَاضِلُ عَنِ الْبُخَارِيِّ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا كَانَ وَقَعَ بَيْنَ الْبُخَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ فِي نَيْسَابُورَ وَكَيْفَ نُودِيَ عَلَى الْبُخَارِيِّ بِسَبَبِ ذَلِكَ بِنَيْسَابُورَ، وَأَنَ الذُّهْلِيَّ قَالَ يَوْمًا لِأَهْلِ مَجْلِسِهِ، وَفِيهِمْ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: أَلَا مَنْ كَانَ يَقُولُ بِقَوْلِ الْبُخَارِيِّ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ فَلْيَعْتَزِلْ مَجْلِسَنَا. فَنَهَضَ مُسْلِمٌ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَجَمَعَ مَا كَانَ سَمِعَهُ مِنَ الذُّهْلِيِّ جَمِيعَهُ، وَأَرْسَلَ بِهِ إِلَيْهِ، وَتَرَكَ الرِّوَايَةَ عَنِ الذُّهْلِيِّ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ شَيْئًا لَا فِي " صَحِيحِهِ "، وَلَا فِي غَيْرِهِ وَاسْتَحْكَمَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا. هَذَا وَلَمْ يَتْرُكِ الْبُخَارِيُّ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الذُّهْلِيَّ، بَلْ رَوَى عَنْهُ فِي " صَحِيحِهِ " وَغَيْرِهِ وَعَذَرَهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ سَبَبَ مَوْتِ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ عُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ لِلْمُذَاكَرَةِ، فَسُئِلَ يَوْمًا عَنْ حَدِيثٍ لَمْ يَعْرِفْهُ، فَانْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَأَوْقَدَ السِّرَاجَ، وَقَالَ لِأَهْلِهِ: لَا يَدْخُلْ أَحَدٌ اللَّيْلَةَ عَلَيَّ. وَقَدْ أُهْدِيَتْ لَهُ سَلَّةٌ مِنْ تَمْرٍ فَهِيَ عِنْدُهُ ; يَأْكُلُ مِنْهَا تَمْرَةً وَيَكْشِفُ حَدِيثًا، ثُمَّ يَأْكُلُ أُخْرَى، وَيَكْشِفُ آخَرَ، وَلَمَ

يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى أَصْبَحَ وَقَدْ أَكَلَ تِلْكَ السَّلَّةَ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَحَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ ثِقَلٌ، وَمَرِضَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ عَشِيَّةَ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا الشَّافِعِيُّ ; وَهِيَ سَنَةُ أَرْبَعِ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ عُمُرُهُ سَبْعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو يَزِيدِ الْبِسْطَامِيُّ:
اسْمُهُ طَيْفُورُ بْنُ عِيسَى بْنِ آدَمَ بْنِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ، أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، وَكَانَ جَدُّهُ مَجُوسِيًّا فَأَسْلَمَ، وَكَانَ لِأَبِي يَزِيدَ أَخَوَانِ صَالِحَانِ عَابِدَانِ وَهُوَ أَجَلُّ مِنْهُمَا، وَقِيلَ لَهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ وَصَلْتَ إِلَى هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ ؟ فَقَالَ: بِبَطْنٍ جَائِعٍ وَبَدَنٍ عَارٍ. وَكَانَ يَقُولُ: دَعَوْتُ نَفْسِي إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَلَمْ تَجِبْنِي، فَمَنَعْتُهَا الْمَاءَ سَنَةً. وَقَالَ أَيْضًا: إِذَا نَظَرْتُمْ إِلَى الرَّجُلِ أُعْطِي مِنَ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَرْتَفِعَ فِي الْهَوَاءِ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَحِفْظِ الْحُدُودِ وَأَدَاءِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَلَهُ مَقَامَاتٌ كَثِيرَةٌ وَمُجَاهَدَاتٌ مَشْهُورَةٌ وَكَرَامَاتٌ ظَاهِرَةٌ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ. قُلْتُ: قَدْ حُكِيَ عَنْهُ كَلِمَاتٌ فِيهَا شَطْحٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وَالْفُقَهَاءِ عَلَيْهَا ;

فَمِنْ مُتَأَوِّلٍ عَلَى الْمَحَامِلِ الْبَعِيدَةِ، أَوْ قَائِلٍ: إِنَّ هَذَا قَالَهُ فِي حَالِ الِاصْطِلَامِ وَالسُّكْرِ، وَمِنْ مُبَدِّعٍ وَمُخْطِّئٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا قَدِمَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ فِي جَحَافِلَ فَدَخَلَ وَاسِطَ قَهْرًا، فَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَمِدُ بِنَفْسِهِ مِنْ سَامَرَّا لِقِتَالِهِ، فَتَوَسَّطَ بَيْنَ بَغْدَادَ وَوَاسِطَ، فَانْتَدَبَ لَهُ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ بِاللَّهِ أَخُو الْخَلِيفَةِ، فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِ مُوسَى بْنُ بُغَا، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ مَسْرُورٌ الْبَلْخِيُّ، فَاقْتَتَلُوا فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَيَّامًا قِتَالًا عَظِيمًا هَائِلًا، ثُمَّ كَانَتِ الْغَلَبَةُ عَلَى يَعْقُوبَ وَأَصْحَابِهِ، وَذَلِكَ يَوْمَ عِيدِ الشَّعَانِينَ. فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرُونَ، وَغَنِمَ مِنْهُمْ أَبُو أَحْمَدَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمِسْكِ وَالدَّوَابِّ. وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ وَجَدُوا فِي جَيْشِ يَعْقُوبَ هَذَا رَايَاتٍ عَلَيْهَا صُلْبَانٌ. ثُمَّ انْصَرَفَ الْمُعْتَمِدُ إِلَى الْمَدَائِنِ وَرَدَّ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ إِلَى نِيَابَةِ بَغْدَادَ وَأَمْرِ لَهُ بِخَمْسمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَفِيهَا غُلِبَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ عَلَى بِلَادِ فَارِسَ وَهَرَبَ ابْنُ وَاصِلٍ مِنْهَا.
وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَجَيْشِ الْخَلِيفَةِ.
وَفِيهَا وَلِيَ الْقَضَاءَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ.
وَفِيهَا جُمِعَ لِلْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ قَضَاءُ جَانِبَيْ بَغْدَادَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَبَّاسِيُّ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْحَنَّاطِينَ وَالْجَزَّارِينَ بِمَكَّةَ، فَاقْتَتَلُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ أَوْ قَبْلَهُ بِيَوْمٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ نَفَسًا، وَخَافَ النَّاسُ أَنْ يَفُوتَهُمُ الْحَجُّ بِسَبَبِهِمْ، ثُمَّ تَوَادَعُوا إِلَى مَا بَعْدَ الْحَجِّ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

صَالِحُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ الْمَنْصُورِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا. وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ النَّمِيرِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَاصِمٍ. وَيَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ، صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ " الْحَافِلِ الْمَشْهُورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى ; فَمِنْ ذَلِكَ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الزَّنْجِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، حَصَرَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِفِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ فَقَتَلَ الْمَوْجُودِينَ عِنْدَهُ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا سَلَّمَتِ الصَّقَالِبَةُ حِصْنَ لُؤْلُؤَةَ إِلَى طَاغِيَةِ الرُّومِ لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا تَغَلَّبَ أَخُو شَرْكَبَ الْجَمَّالِ عَلَى نَيْسَابُورَ وَأَخْرَجَ مِنْهَا عَامِلَهَا الْحُسَيْنَ بْنَ طَاهِرٍ، وَأَخَذَ مِنْ أَهْلِهَا ثُلُثَ أَمْوَالِهِمْ مُصَادَرَةً، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَبَّاسِيُّ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

مَسَاوِرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الشَّارِي الْخَارِجِيُّ، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْأَبْطَالِ الْمَذْكُورِينَ وَالشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَطَالَتْ مُدَّتُهُ حَتَّى قَصَمَهُ اللَّهُ.
وَوَزِيرُ الْخِلَافَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ، صَدَمَهُ فِي الْمَيْدَانِ خَادِمٌ

يُقَالُ لَهُ: رَشِيقٌ. فَسَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَخَرَجَ دِمَاغُهُ مِنْ أُذُنَيْهِ وَأَنْفِهِ، فَمَاتَ بَعْدَ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ وَمَشَى فِي جِنَازَتِهِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَاسْتَوْزَرَ مِنَ الْغَدِ الْحَسَنَ بْنَ مَخْلَدٍ فَلَمَّا قَدِمَ مُوسَى بْنُ بُغَا سَامَرَّا عَزَلَهُ وَاسْتَوْزَرَ مَكَانَهُ سُلَيْمَانَ بْنَ وَهْبٍ وَسُلِّمَتْ دَارُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ إِلَى الْأَمِيرِ الْمَعْرُوفِ بِكَيْغَلَغَ.
وَأَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ. وَالْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ. وَمُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ الْأَشْعَرِيُّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَسْكَرَ أَبُو أَحْمَدَ وَمُوسَى بْنُ بُغَا بِسَامِرَّا، وَخَرَجَا مِنْهَا لِلَيْلَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ صَفَرٍ، وَخَرَجَ الْمُعْتَمِدُ لِتَوْدِيعِهِمَا، وَسَارَا فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى بَغْدَادَ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ مُوسَى بْنُ بُغَا بِهَا، وَحُمِلَ إِلَى سَامَرَّا وَدُفِنَ بِهَا.
وَفِيهَا وَلِيَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُوَلَّدِ وَاسِطَ فَحَارَبَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ نَائِبُهَا مِنْ جِهَةِ الْخَبِيثِ صَاحِبِ الزَّنْجِ فَهَزَمَهُ ابْنُ الْمُوَلَّدِ بَعْدَ حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ بَيْنَهُمَا.
وَفِيهَا سَارَ ابْنُ الدِّيرَانِيِّ إِلَى مَدِينَةِ الدِّينَوَرِ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ دُلَفُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ، وَابْنُ عِيَاضٍ، فَهَزَمَاهُ وَنَهَبَا أَمْوَالَهُ وَرَجَعَ مَغْلُولًا.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ مُوسَى بْنُ بُغَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَمِدُ الْوَزِيرَ الَّذِي كَانَ مِنْ جِهَتِهِ ; وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ وَحَبَسَهُ مُقَيَّدًا وَأَمَرَ بِنَهْبِ دُورِهِ وَدُورِ أَقْرِبَائِهِ، وَرَدَّ الْحَسَنَ بْنَ مَخْلَدٍ إِلَى الْوِزَارَةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا أَحْمَدَ وَهُوَ بِبَغْدَادَ، فَسَارَ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى سَامَرَّا ; فَتَحَصَّنَ مِنْهُ أَخُوهُ الْمُعْتَمِدُ بِجَانِبِهَا الْغَرْبِيِّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ عَبَرَ جَيْشُ أَبِي أَحْمَدَ إِلَى الْجَانِبِ الَّذِي فِيهِ الْمُعْتَمِدُ، فِلْمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ بَلِ اصْطَلَحُوا عَلَى رَدِّ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ إِلَى الْوِزَارَةِ، وَهَرَبَ الْحَسَنُ بْنُ مَخْلَدٍ فَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُ

وَحَوَاصِلُهُ وَاخْتَفَى أَبُو عِيسَى ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ ثُمَّ ظَهَرَ، وَهَرَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْمَوْصِلِ ; خَوْفًا مِنْ أَبِي أَحْمَدَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى الْهَاشِمِيُّ الْكُوفِيُّ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ. وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى الْمُزَنِيُّ، أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَقَدْ تَرْجَمْنَاهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيِّينَ ". وَتَرْجَمَهُ ابْنُ خِلِّكَانَ فِي الْوَفَيَاتِ أَيْضًا فَأَحْسَنَ وَأَطْنَبَ وَأَطْيَبَ.
وَأَبُو زُرْعَةَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الرَّازِيُّ.
أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْمَشْهُورِينَ، قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ. وَكَانَ فَقِيهًا وَرِعًا زَاهِدًا عَابِدًا خَاشِعًا مُتَوَاضِعًا، أَثْنَى عَلَيْهِ أَهْلُ زَمَانِهِ بِالْحِفْظِ وَالدِّيَانَةِ، وَشَهِدُوا لَهُ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى أَقْرَانِهِ، وَكَانَ فِي حَالٍ شَبِيبَتِهِ إِذَا اجْتَمَعَ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ لِلْمُذَاكَرَةِ يَقْتَصِرُ أَحْمَدُ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَلَا يَفْعَلُ الْمَنْدُوبَاتِ اكْتِفَاءً بِالْمُذَاكَرَةِ عَنْ ذَلِكَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ سَلْخَ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ

مِائَتَيْنِ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ مَبْسُوطَةً فِي " التَّكْمِيلِ ".
وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ قَاضِي دِمَشْقَ.
وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ الْمِصْرِيُّ، مِمَّنْ رَوَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " التَّكْمِيلِ "، وَفِي " الطَّبَقَاتِ ".
وَقَبِيحَةُ أَمُّ الْمُعْتَزِّ، إِحْدَى حَظَايَا الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ، جَمَعَتْ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَاللَّآلِئِ وَالذَّهَبِ وَالْمَصَاغِ مَا لَمْ يُعْهَدْ لِمِثْلِهَا، ثُمَّ سُلِبَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقُتِلَ وَلَدُهَا الْمُعْتَزُّ لِأَجْلِ نَفَقَاتِ الْجُنْدِ، وَشَحَّتْ عَلَيْهِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ تُدَارِئُ بِهَا عَنْهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ ابْنِ لَيْثَوَيْهِ عَامِلِ أَبِي أَحْمَدَ عَلَى جُنْبُلَاءَ وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ، ظَفِرَ فِيهَا ابْنُ لَيْثَوَيْهِ بِابْنِ جَامِعٍ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْخَبِيثِ صَاحِبِ الزَّنْجِ فَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَصَابَ مِنْهُمْ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ أَسِيرًا، وَحَرَّقَ لَهُ مَرَاكِبَ كَثِيرَةً، وَغَنِمَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ حَاصَرَ أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ نَائِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ وَفِيهَا سِيمَا الطَّوِيلُ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى فَتَحَهَا بَعْدَ حُرُوبٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقُتِلَ سِيمَا الْمَذْكُورُ. وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى جَاءَتْهُ هَدَايَا مَلَكِ الرُّومِ وَفِي جُمْلَتِهَا أُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مَعَ كُلِّ أَسِيرٍ مُصْحَفٌ، وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَشِيدِ بْنِ كَاوِسَ الَّذِي كَانَ عَامِلَ الثُّغُورِ فَاجْتَمَعَ لِأَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ مُلْكُ الشَّامِ بِكَمَالِهِ مَعَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ نَائِبُ دِمَشْقَ أَمَاجُورُ، رَكِبَ ابْنُ طُولُونَ مِنْ مِصْرَ، فَتَلَقَّاهُ ابْنُ أَمَاجُورَ إِلَى الرَّمْلَةِ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ فَدَخَلَهَا، ثُمَّ إِلَى حِمْصَ فَتَسَلَّمَهَا، ثُمَّ إِلَى حَلَبَ فَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا تَقَدَّمَ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ قَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ابْنَهُ الْعَبَّاسَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ قُدُومُ أَبِيهِ عَلَيْهِ مَنَ الشَّامِ أَخَذَ مَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ

مِنَ الْحَوَاصِلِ، وَوَازَرَهُ جَمَاعَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَسَارُوا إِلَى بَرْقَةَ خَارِجًا عَنْ طَاعَةِ أَبِيهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَنْ أَخَذَهُ ذَلِيلًا حَقِيرًا، وَرَدُّوهُ إِلَى مِصْرَ فَحَبَسَهُ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ.
وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْقَاسِمُ بْنُ مَهَارَةَ عَلَى دُلَفِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ الْعِجْلِيِّ، فَقَتَلَهُ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى أَصْبَهَانَ فَانْتَصَرَ أَصْحَابُ دُلَفٍ لَهُ فَقَتَلُوا الْقَاسِمَ هَذَا وَرَأَّسُوا عَلَيْهِمْ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَفِيهَا لِحَقَ مُحَمَّدٌ الْمُوَلَّدُ بِيَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ فَسَارَ إِلَيْهِ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِنَهْبِ حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ وَأَمْلَاكِهِ وَضِيَاعِهِ.
وَفِيهَا دَخَلَ صَاحِبُ الزَّنْجِ إِلَى النُّعْمَانِيَّةِ فَقَتَلَ وَحَرَّقَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى جَرْجَرَايَا فَانْزَعَجَ النَّاسُ، وَدَخَلَ أَهْلُ السَّوَادِ إِلَى بَغْدَادَ فَلَجَئُوا إِلَيْهَا مَحْصُورِينَ.
وَفِيهَا وَلِيَ أَبُو أَحْمَدَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ خُرَاسَانَ وَفَارِسَ وَأَصْبَهَانَ وَسِجِسْتَانَ وَكَرْمَانَ وَالسِّنْدَ، وَوَجَّهَهُ إِلَيْهَا بِذَلِكَ وَبِالْخِلَعِ وَالتُّحَفِ.
وَفِيهَا حَاصَرَتِ الزَّنْجُ تُسْتَرَ حَتَّى كَادُوا يَفْتَحُونَهَا، فَوَافَاهُمْ تِكِينُ الْبُخَارِيُّ، فَلَمْ يَضَعْ ثِيَابَ سَفَرِهِ حَتَّى نَاجَزَ الزَّنْجَ فَهَزَمَهُمْ هَزِيمَةً فَظِيعَةً مُنْكَرَةً جِدًّا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَهَرَبَ أَمِيرُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيُّ

مَغْلُولًا مَدْحُورًا مَخْذُولًا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذِهِ وَقْعَةُ بَابِ كُودَكَ الْمَشْهُورَةُ. ثُمَّ إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيَّ أَخَذَ فِي مُكَاتَبَةِ تِكِينَ وَاسْتِمَالَتِهِ إِلَيْهِ وَإِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ فَشَرَعَ تِكِينُ فِي الْإِجَابَةِ إِلَى ذَلِكَ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ مَسْرُورًا الْبَلْخِيَّ، فَسَارَ نَحْوَهُ وَأَظْهَرَ لَهُ الْأَمَانَ حَتَّى أَخَذَهُ وَقَيَّدَهُ وَتَفَرَّقَ جَيْشُهُ عَنْهُ ; فَفِرْقَةٌ صَارَتْ إِلَى الزَّنْجِ، وَفِرْقَةٌ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْكُرْدِيِّ، وَفِرْقَةٌ انْضَافَتْ إِلَى مَسْرُورٍ الْبَلْخِيِّ بَعْدَ إِعْطَائِهِ إِيَّاهُمُ الْأَمَانَ، وَوَلَّى مَكَانَهُ عَلَى عِمَالَتِهِ أَمِيرًا آخَرَ يُقَالُ لَهُ: أَغَرْتِمْشُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، رَاوِيَةُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَقَدْ صَحِبَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ، وَكَانَ يُعَدُّ مِنَ الْأَبْدَالِ، تُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَسَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُخَرِّمِيُّ. وَعَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ

الطَّائِيُّ الْمَوْصِلِيُّ. وَأَبُو حَفْصٍ النَّيْسَابُورِيُّ عَلِيُّ بْنُ مُوَفَّقٍ الزَّاهِدُ. وَمُحَمَّدُ بْنُ سُحْنُونٍ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ ": وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو الْفَضْلِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَرَجِ الرِّيَاشِيُّ - صَاحِبُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيِّ - قَتَلَهُ الزَّنْجُ بِالْبَصْرَةِ.
وَيَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ الصِّفَّارُ.
أَحَدُ الْمُلُوكِ الْعُقَلَاءِ الْأَبْطَالِ، فَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً ; مِنْ ذَلِكَ بَلَدُ الرُّخَّجِ الَّتِي كَانَ بِهَا مَلِكٌ يُحْمَلُ فِي سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ عَلَى رُءُوسِ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَكَانَ لَهُ بَيْتٌ فِي رَأْسِ جَبَلٍ عَالٍ سَمَّاهُ مَكَّةَ فَمَا زَالَ حَتَّى قَتَلَهُ وَأَخَذَ بَلَدَهُ وَأَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَى يَدَيْهِ، وَلَكِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ وَقَاتَلَهُ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَمَّا مَاتَ وَلَّوْا أَخَاهُ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ مَا كَانَ يَلِيهِ أَخُوهُ يَعْقُوبُ مَعَ شُرْطَةِ بَغْدَادَ وَسَامَرَّا، كَمَا سَيَأْتِي.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا تَغَلَّبَ أَسَاتِكِينُ عَلَى بَلَدِ الرِّيِّ وَأَخْرَجَ عَامِلَهَا مِنْهَا، ثُمَّ مَضَى إِلَى قَزْوِينَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا فَدَخَلَهَا وَأَخَذَ مِنْهَا أَمْوَالًا جَزِيلَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى الرِّيِّ فَمَانَعَهُ أَهْلُهَا عَنِ الدُّخُولِ إِلَيْهَا فَقَاتَلَهُمْ وَدَخَلَهَا قَهْرًا.
وَفِيهَا أَغَارَتْ سَرِيَّةٌ مِنَ الرُّومِ عَلَى نَاحِيَةِ دِيَارِ رَبِيعَةَ فَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَمَثَّلُوا وَأَخَذُوا نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ أَسِيرًا، فَنَفَرَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ نَصِيبِينِ وَأَهْلُ الْمَوْصِلِ فَهَرَبَتْ مِنْهُمُ الرُّومُ وَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا وَلِيَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ شُرْطَةَ بَغْدَادَ وَسَامَرَّا لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ بِالْخِلْعَةِ وَخَلَعَ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ أَيْضًا، وَأَهْدَى إِلَيْهِ عَمُودَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، وَذَلِكَ مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ يَلِيهِ أَخُوهُ مِنَ الْبُلْدَانِ.
وَفِيهَا سَارَ أَغْرِتْمِشُ لِقِتَالِ عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيِّ بِتُسْتَرَ، فَأَخَذَ مَنْ كَانَ فِي السِّجْنِ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيِّ مِنَ الْأُمَرَاءِ فَقَتَلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ فَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا فِي مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ، وَكَانَ آخِرُهَا لِعَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيِّ، قَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ أَغْرِتْمِشَ وَأَسَرَ بَعْضَهُمْ فَقَتَلَهُمْ، وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْخَبِيثِ صَاحِبِ الزَّنْجِ فَنَصَبَ رُءُوسَهُمْ عَلَى سُورِ مَدِينَتِهِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.

وَفِيهَا وَثَبَ أَهْلُ حِمْصَ عَلَى عَامِلِهِمْ عِيسَى الْكَرْخِيِّ فَقَتَلُوهُ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
وَفِيهَا دَعَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُسَيْنٍ الْأَصْغَرُ الْعُقَيْقِيُّ أَهْلَ طَبَرِسْتَانَ إِلَى نَفْسِهِ وَأَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ قَدْ أُسِرَ وَلَمْ يَبْقَ مَنْ يَقُومُ بِهَذَا الْأَمْرِ غَيْرُهُ فَبَايَعُوهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ، قَصْدَهُ فَقَاتَلَهُ فَقَتَلَهُ وَنَهَبَ أَمْوَالَ مَنِ اتَّبَعَهُ وَحَرَّقَ دُورَهُمْ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِالْمَدِينَةِ وَنَوَاحِيهَا بَيْنَ الْجَعْفَرِيَّةِ وَالْعَلَوِيَّةِ، وَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْ سُلَالَةِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي تَغَلَّبَ عَلَى طَبَرِسْتَانَ وَجَرَتْ شُرُورٌ كَثِيرَةٌ هُنَالِكَ بِسَبَبِ قَتْلِ الْجَعْفَرِيَّةِ وَالْعَلَوِيَّةِ يَطُولُ ذِكْرُهَا.
وَفِيهَا وَثَبَتِ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَعْرَابِ عَلَى كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ فَانْتَهَبُوهَا، وَصَارَ بَعْضُهَا إِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ وَأَصَابَ الْحَجِيجَ مِنْهُمْ شِدَّةٌ عَظِيمَةٌ وَبَلَاءٌ شَدِيدٌ.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ أَيْضًا عَلَى دِيَارِ رَبِيعَةَ.
وَفِيهَا دَخَلَ أَصْحَابُ صَاحِبِ الزَّنْجِ إِلَى رَامَهُرْمُزَ فَافْتَتَحُوهَا بَعْدَ قِتَالٍ طَوِيلٍ.
وَفِيهَا دَخَلَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ مَكَّةَ فَقَاتَلَهُ الْمَخْزُومِيُّ فَقَهَرَهُ ابْنُ أَبِي السَّاجِ وَحَرَّقَ دَارَهُ وَاسْتَبَاحَ مَالَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَعَلَ إِلَى ابْنِ أَبِي السَّاجِ إِمْرَةَ الْحَرَمَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ قَبْلَهَا.

وَفِيهَا عَمِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّاخِلُ - خَلِيفَةُ الْأَنْدَلُسِ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ - مَرَاكِبَ فِي نَهْرِ قُرْطُبَةَ لِيَدْخُلَ بِهَا إِلَى الْبَحْرِ الْمُحِيطِ ; لِتَسِيرَ الْجُيُوشُ فِي أَطْرَافِهِ إِلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ لِيُقَاتِلُوهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْمَرَاكِبُ الْبَحْرَ الْمُحِيطَ تَكَسَّرَتْ وَتَقَطَّعَتْ وَلَمْ يَنْجُ مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا الْيَسِيرُ وَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ.
وَفِيهَا التَّقَى أُسْطُولُ الْمُسْلِمِينَ وَأُسْطُولُ الرُّومِ بِبِلَادِ صِقِلِّيَّةَ فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا حَارَبَ لُؤْلُؤٌ غُلَامُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ لِمُوسَى بْنِ أَتَامِشَ فَكسَرَ جَيْشَهُ وَأَسَرَهُ لُؤْلُؤٌ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى مَوْلَاهُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ نَائِبِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَإِفْرِيقِيَةَ مِنْ جِهَةِ الْخِلَافَةِ، ثُمَّ اقْتَتَلَ لُؤْلُؤٌ هَذَا وَطَائِفَةٌ مِنَ الرُّومِ، فَقَتَلَ مِنَ الْعَدُوِّ خَلْقًا كَثِيرًا.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا اشْتَدَّ الْحَالُ وَضَاقَ النَّاسُ ذَرْعًا بِكَثْرَةِ الْهَيْجِ، وَتَغَلُّبِ الْقُوَّادِ وَالْأَجْنَادِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ بِسَبَبِ ضَعْفِ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَمِدِ، وَاشْتِغَالِ أَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ بِقِتَالِ الزَّنْجِ.
وَفِيهَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فِي تِشْرِينَ الثَّانِي جِدًّا، ثُمَّ قَوِيَ بِهِ الْبَرْدُ حَتَّى جَمَدَ الْمَاءُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ أُورَمَةَ.
وَصَالِحٌ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَاضِي

أَصْبَهَانَ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ، أَحَدُ عُبَّادِ الْجَهْمِيَّةِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الدَّقِيقِيُّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَجَّهَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ وَلَدَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ فِي نَحْوٍ مَنْ عَشْرَةِ آلَافِ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ فِي أَحْسَنِ هَيْئَةٍ، وَأَكْمَلِ تَجَمُّلٍ لِقِتَالِ الزَّنْجِ، فَسَارُوا نَحْوَهُمْ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْقِتَالِ وَالنِّزَالِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَاتٍ وَوَقَعَاتٍ مَشْهُورَاتٍ مَا يَطُولُ بَسْطُهُ، وَقَدِ اسْتَقْصَاهُ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي " تَارِيخِهِ " مَبْسُوطًا.
وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهُ آلَ الْحَالُ، وَانْتَهَى الْحَرْبُ وَالْجِلَادُ وَالْجِدَالُ وَالنِّزَالُ إِلَى أَنِ اسْتَحْوَذَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْمُوَفَّقِ عَلَى مَا كَانَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الزَّنْجُ بِبِلَادِ وَاسِطَ وَأَرَاضِي دِجْلَةَ، هَذَا وَهُوَ شَابٌّ حَدَثٌ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِالْحَرْبِ، وَلَكِنْ سَلَّمَهُ اللَّهُ وَغَنَّمَهُ، وَأَعْلَى كَلِمَتِهِ، وَسَدَّدَ رَمْيَتَهُ، وَأَجَابَ دَعْوَتَهُ، وَفَتَحَ عَلَى يَدَيْهِ، وَأَسْبَغَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الشَّابُّ هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ عَمِّهِ الْمُعْتَمِدُ، وَلُقِّبَ بِالْمُعْتَضِدِ كَمَا سَيَأْتِي.
ثُمَّ رَكِبَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ نَاصِرُ دِينِ اللَّهِ مِنْ بَغْدَادَ فِي صِفْرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُيُوشٍ كَثِيفَةٍ، فَدَخَلَ وَاسِطَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، فَتَلَقَّاهُ ابْنُهُ وَأَخْبَرَهُ عَنِ

الْجُيُوشِ الَّذِينَ مَعَهُ، وَمَا تَحَمَّلُوا مِنْ أَعْبَاءِ الْجِهَادِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأُمَرَاءِ كُلِّهِمْ خِلَعًا سَنِيَّةً، ثُمَّ سَارَ بِجَمِيعِ الْجُيُوشِ إِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا، وَسَمَّاهَا الْمَنِيعَةَ، فَقَاتَلُوا دُونَهَا قِتَالًا عَظِيمًا فَقَهَرَهُمْ، وَدَخَلَهَا عَنْوَةً وَهَرَبُوا مِنْهَا، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ جَيْشًا فَلَحِقُوهُمْ إِلَى الْبَطَائِحِ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَغَنِمَ أَبُو أَحْمَدَ مِنَ الْمَنِيعَةِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَاسْتَنْقَذَ مِنَ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ خَمْسَةَ آلَافِ امْرَأَةٍ، وَأَمَرَ بِإِرْسَالِهِنَّ إِلَى أَهَالِيهِنَّ بِوَاسِطَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَدْمِ سُورِ الْبَلَدِ وَطَمِّ خَنْدَقِهَا وَجَعَلَهَا بَلْقَعًا بَعْدَمَا كَانَتْ لِلْبَشَرِ مَجْمَعًا، وَعَادَتْ يَبَابًا بَعْدَ كَوْنِهَا لِلْخَبِيثِ جَنَابًا.
ثُمَّ سَارَ الْمُوَفَّقُ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: الْمَنْصُورَةُ. مِنْ إِنْشَاءِ الزَّنْجِ أَيْضًا وَبِهَا سُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ، فَحَاصَرَهَا وَقَاتَلُوهُ دُونَهَا فَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَرَمَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْمُوَفَّقِ أَحْمَدَ بْنَ مَهْدِيٍّ بِسَهْمٍ فَأَصَابَهُ فِي دِمَاغِهِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ صَاحِبِ الزَّنْجِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ جِدًّا، وَأَصْبَحَ النَّاسُ مُحَاصِرِينَ مَدِينَةَ الزَّنْجِ، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَالْجُيُوشُ الْمُوَفَّقِيَّةُ مُرَتَّبَةٌ أَحْسَنَ تَرْتِيبٍ، فَتَقَدَّمَ الْمُوَفَّقُ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَابْتَهَلَ إِلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ، وَاجْتَهَدَ فِي حِصَارِهَا، فَهَزَمَ اللَّهُ مُقَاتِلَتَهَا، وَانْتَهَى إِلَى

خَنْدَقِهَا ; فَإِذَا هُوَ قَدْ حُصِّنَ غَايَةَ التَّحْصِينِ، وَإِذَا هُمْ قَدْ جَعَلُوا حَوْلَ الْبَلَدِ خَمْسَةَ خَنَادِقَ وَخَمْسَةَ أَسْوَارٍ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاوَزَ سُورًا قَاتَلُوهُ دُونَ الْآخَرِ فَيَقْهَرُهُمْ وَيَجُوزُهُ إِلَى الَّذِي يَلِيهِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَلَدِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ وَأَسَرَ مِنْ نِسَاءِ الزَّنْجِ وَمِنْ حَلَائِلِ سُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ وَذَوِيهِ نِسَاءً كَثِيرَةً وَصِبْيَانًا، وَاسْتَنْقَذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ مِنَ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَوَاسِطَ نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ نَسَمَةٍ فَسَيَّرَهُمْ إِلَى أَهَالِيهِمْ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا. ثُمَّ أَمَرَ بِهَدْمِ خَنَادِقِهَا وَأَسْوَارِهَا وَرَدْمِ خَنَادِقِهَا وَأَنْهَارِهَا، وَأَقَامَ بِهَا سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَبَعَثَ فِي آثَارِ مَنِ انْهَزَمَ مِنَ الزَّنْجِ، فَكَانَ لَا يُؤْتَى بِأَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا اسْتَمَالَهُ إِلَى الْخَيْرِ بِرِفْقٍ وَلِينٍ وَصَفْحٍ، وَأَضَافَهُ إِلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ مَقْصُودُهُ رُجُوعَهُمْ إِلَى الْحَقِّ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْأَهْوَازِ فَأَجْلَاهُمْ عَنْهَا، وَطَرَدَهُمْ مِنْهَا، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ ; مِنْهُمْ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَصْرِيُّ، وَكَانَ رَئِيسًا فِيهِمْ مُطَاعًا، وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَكَتَبَ الْمُوَفَّقُ إِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - كِتَابًا يَدْعُوهُ فِيهِ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ مِمَّا ارْتَكَبَهُ مِنَ الْمَآثِمِ وَالْمَظَالِمِ وَالْمَحَارِمِ وَدَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَخَرَابِ الْبُلْدَانِ وَاسْتِحْلَالِ الْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ، يَبْذُلُ لَهُ الْأَمَانَ إِنْ هُوَ رَجَعَ إِلَى الْحَقِّ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الزَّنْجِ جَوَابًا.

ذِكْرُ مَسِيرِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي فِيهَا صَاحِبُ الزَّنْجِ، وَهِيَ الْمُخْتَارَةُ ; لِيُحَاصِرَهَا
لَمَّا كَتَبَ أَبُو أَحْمَدَ إِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ يَدْعُوهُ إِلَى الْحَقِّ فَلَمْ يُجِبْهُ، اسْتِهَانَةً بِهِ، رَكِبَ فِي جُيُوشٍ عَظِيمَةٍ قَرِيبٍ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ قَاصِدًا إِلَى مَدِينَتِهِ الَّتِي أَنْشَأَهَا وَسَمَّاهَا الْمُخْتَارَةَ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا وَجَدَهَا فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ، وَقَدْ حَوَّطَ عَلَيْهَا مِنْ آلَاتِ الْحِصَارِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَدِ الْتَفَّ عَلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ بِسَيْفٍ وَرُمْحٍ وَمِقْلَاعٍ، وَمَنْ يَكْثُرُ سَوَادُهُمْ، فَقَدَّمَ الْمُوَفَّقُ وَلَدَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَتَقَدَّمَ حَتَّى وَقَفَ تَحْتَ قَصْرِ الْمَلِكِ فَحَاصَرَهُ مُحَاصَرَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَتَعَجَّبَ الزَّنْجُ مِنْ إِقْدَامِهِ وَجُرْأَتِهِ، مَعَ صِغَرِ سِنِّهِ، وَحَدَاثَةِ عُمُرِهِ فَتَرَاكَمَتِ الزُّنُوجُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَهَزَمَهُمْ، وَأَثْبَتَ بَهْبُوذَ أَكْبَرَ أُمَرَائِهِ بِالسِّهَامِ وَالْحِجَارَةِ، ثُمَّ خَامَرَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَأَجْنَادِهِ إِلَى الْمُوَفَّقِ، فَأَكْرَمَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ خِلَعًا سَنِيَّةً، فَرَغِبَ إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ فَصَارُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ رَكِبَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ فِي يَوْمِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَنَادَى فِي النَّاسِ كُلِّهِمْ بِالْأَمَانِ إِلَّا صَاحِبَ الزَّنْجِ فَتَحَوَّلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ جَيْشِهِ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَابْتَنَى الْمُوَفَّقُ تِجَاهَ مَدِينَةِ صَاحِبِ الزَّنْجِ مَدِينَةً سَمَّاهَا الْمُوَفَّقِيَّةَ، وَأَمَرَ بِحَمْلِ الْأَمْتِعَةِ وَالتِّجَارَاتِ إِلَيْهَا، فَاجْتَمَعَ بِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَشْيَاءِ وَصُنُوفِهَا مَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي

بَلَدٍ قَبْلَهَا، وَعَظُمَ شَأْنُهَا، وَامْتَلَأَتْ مِنَ الْمَعَايِشِ وَالْأَرْزَاقِ وَصُنُوفِ التِّجَارَاتِ وَالسُّكَّانِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا بَنَاهَا لِيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى قِتَالِ صَاحِبِ الزَّنْجِ ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ عَظِيمَةٌ، وَمَا زَالَتِ الْحَرْبُ نَاشِبَةً بَيْنَهُمْ حَتَّى انْسَلَخَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُمْ مُحَاصِرُونَ الْبَلَدَ الْخَبِيثَ وَمَنْ فِيهِ، وَقَدْ تَحَوَّلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَصَارُوا عَلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَعَهُ، فَبَلَغَ عَدَدُهُمْ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا مِنَ الْأُمَرَاءِ الْخَوَاصِّ وَالْأَجْنَادِ، وَالْمُوَفَّقُ وَأَصْحَابُهُ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - كُلُّ مَا لَهُمْ فِي زِيَادَةٍ وَقُوَّةٍ وَنَصْرٍ وَظَفَرٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى الْهَاشِمِيُّ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِسْمَاعِيلُ سَمُّوَيْهِ. وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ شَاذَانُ. وَبَحْرُ بْنُ نَصْرٍ الْخَوْلَانِيُّ. وَعَبَّاسٌ التَّرَقُفِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ بَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ أَبُو بَكْرٍ

الْمُقْرِئُ صَاحِبُ خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ الْبَزَّارِ، بِبَغْدَادَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُزَيْزٍ الْأَيْلِيُّ. وَيَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ حَيْكَانُ، وَيُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ رَاوِي " مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ " عَنْهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا اسْتَأْمَنَ جَعْفَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ بِالسَّجَّانِ - وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَثِقَاتِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ - الْمُوَفَّقَ فَأَمَّنَهُ وَفَرِحَ بِهِ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ فَرَكِبَ فِي سُمْرَتِهِ فَوَقَفَ تُجَاهَ قَصْرِ الْمَلِكِ، فَنَادَى فِي النَّاسِ وَأَعْلَمَهُمْ بِكَذِبِ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَفُجُورِهِ، وَأَنَّهُ فِي غُرُورٍ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ، فَاسْتَأْمَنَ بِسَبَبِ ذَلِكَ بِشْرٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَبَرَدَ قِتَالُ الزَّنْجِ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى رَبِيعٍ الْآخَرِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ الْمُوَفَّقُ أَصْحَابَهُ بِمُحَاصَرَةِ السُّورِ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا نَقَبُوا السُّورَ أَنْ لَا يَدْخُلُوا الْبَلَدَ حَتَّى يَأْمُرَهُمْ، فَنَقَبُوا السُّورَ حَتَّى انْثَلَمَ ثُمَّ عَجَّلُوا الدُّخُولَ فَدَخَلُوا، فَقَاتَلَهُمُ الزَّنْجُ فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَتَقَدَّمُوا إِلَى وَسَطِ الْمَدِينَةِ فَجَاءَتْهُمُ الزَّنْجُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَخَرَجَتْ عَلَيْهِمُ الْكَمَائِنُ مِنْ أَمَاكِنَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا، فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقًا كَثِيرًا وَاسْتَلَبُوهُمْ، وَفَرَّ الْبَاقُونَ، فَلَامَهُمْ أَبُو أَحْمَدَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ مِنَ الْعَجَلَةِ، وَأَجْرَى الْأَرْزَاقَ عَلَى ذُرِّيَّةِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، فَحَسُنَ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ جِدًّا، وَظَفِرَ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ الْمُوَفَّقِ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ، كَانُوا يَجْلِبُونَ الطَّعَامَ إِلَى الزَّنْجِ فَقَتَلَهُمْ، وَظَفِرَ بِبَهْبُوذَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْفَتْحِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْظَمِ الرَّزَايَا عِنْدَ الزَّنْجِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَبَعْثَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسِينَ مَنًّا مِنْ مِسْكٍ، وَخَمْسِينَ مَنًّا مِنْ عَنْبَرٍ، وَمِائَتَيْ مَنٍّ مِنْ عُودٍ، وَفِضَّةً بِقِيمَةِ مِائَةِ

أَلْفٍ، وَثِيَابًا مِنْ وَشْيٍ وَغِلْمَانًا كَثِيرَةً جِدًّا.
وَفِيهَا خَرَجَ مَلِكُ الرُّومِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصَّقْلَبِيَّةِ فَحَاصَرَ أَهْلَ مَلَطْيَةَ فَأَعَانَهُمْ أَهْلُ مَرْعَشَ فَفَرَّ الْخَبِيثُ خَاسِئًا.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ مِنْ نَاحِيَةِ الثُّغُورِ عَامِلُ ابْنِ طُولُونَ فَقَتَلَ مِنَ الرُّومِ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَاشِمِيُّ الْمُتَقَدِّمُ.
وَفِيهَا قُتِلَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُجُسْتَانِيُّ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ. وَأَحْمَدُ بْنُ شَيْبَانَ. وَأَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ الضَّبِّيُّ، وَعِيسَى بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، الْمِصْرِيُّ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، وَقَدْ صَحِبَ الشَّافِعِيَّ وَرَوَى عَنْهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَهَدَ الْمُوَفَّقُ - وَفَّقَهُ اللَّهُ - فِي تَخْرِيبِ سُورِ مَدِينَةِ صَاحِبِ الزَّنْجِ فَخَرَّبَ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَتَمَكَّنَ الْجُيُوشُ مِنَ الْعُبُورِ إِلَى الْبَلَدِ، وَلَكِنْ جَاءَهُ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْحَالَةِ سَهْمٌ فِي صَدْرِهِ مِنْ يَدِ رَجُلٍ رُومِيٍّ يُقَالُ لَهُ: قِرْطَاسٌ. فَكَادَ يَقْتُلُهُ، فَاضْطَرَبَ الْحَالُ لِذَلِكَ وَهُوَ يَتَجَلَّدُ وَيَحُضُّ عَلَى الْقِتَالِ مَعَ ذَلِكَ. وَأَقَامَ بِبَلَدِهِ الْمُوَفَّقِيَّةِ أَيَّامًا يَتَدَاوَى، وَاضْطَرَبَتِ الْأَحْوَالُ، وَخَافَ النَّاسُ جِدًّا مِنْ صَاحِبِ الزَّنْجِ، وَأَشَارُوا عَلَى الْمُوَفَّقِ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَغْدَادَ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَقَوِيَتْ عِلَّتُهُ ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَافِيَةِ فِي شَعْبَانَ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، فَنَهَضَ مُسْرِعًا إِلَى الْحِصَارِ، فَوَجَدَ الْخَبِيثَ قَدْ رَمَّمَ كَثِيرًا مِمَّا كَانَ الْمُوَفَّقُ قَدْ خَرَّبَهُ وَهَدَمَهُ، فَأَمَرَ بِتَخْرِيبِهِ وَمَا حَوْلَهُ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ، ثُمَّ لَازَمَ الْحِصَارَ وَمَا انْفَكَّ حَتَّى فَتَحَ الْمَدِينَةَ الْغَرْبِيَّةَ، وَخَرَّبَ قُصُورَ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَدُورَ أُمَرَائِهِ، وَاسْتَلَبَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَغَنِمَ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ كَثْرَةً، وَأَسَرَ خَلْقًا مِنْ نِسَاءِ الزَّنْجِ، وَاسْتَنْقَذَ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَصِبْيَانِهِمْ خَلْقًا كَثِيرًا، فَأَمَرَ بِرَدِّهِمْ إِلَى أَهْلِيهِمْ مُكَرَّمِينَ، وَقَدْ تَحَوَّلَ صَاحِبُ الزَّنْجِ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ وَعَمِلَ الْجُسُورَ وَالْقَنَاطِرَ الْحَائِلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصُولِ السُّمَيْرِيَّاتِ إِلَيْهِ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ بِتَخْرِيبِهَا وَقَطْعِ الْجُسُورِ، وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَمَا بَرِحَ حَتَّى تَسَلَّمَ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ أَيْضًا وَاسْتَحْوَذَ

عَلَى حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَفَرَّ الْخَبِيثُ ذَاهِبًا وَكَرَّ هَارِبًا وَتَرَكَ حَلَائِلَهُ وَأَوْلَادَهُ وَحَوَاصِلَهُ، فَأَخَذَهَا الْمُوَفَّقُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَشَرْحُ ذَلِكَ كُلِّهِ يَطُولُ جِدًّا. وَقَدْ حَرَّرَهُ مَبْسُوطًا ابْنُ جَرِيرٍ وَلَخَّصَهُ مَبْسُوطًا ابْنُ الْأَثِيرِ، وَاخْتَصَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
وَلَمَّا رَأَى الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَمِدُ أَنَّ أَخَاهُ أَبَا أَحْمَدَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى أُمُورِ الْخِلَافَةِ وَصَارَ هُوَ الْحَاكِمَ الْآمِرَ النَّاهِيَ الَّذِي إِلَيْهِ تُجْلَبُ الْأَمْوَالُ وَيُحْمَلُ الْخَرَاجُ، وهُوَ الَّذِي يُوَلِّي وَيَعْزِلُ، كَتَبَ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ يَشْكُو إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ طُولُونَ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى عِنْدِهِ بِبِلَادِ مِصْرَ وَوَعَدَهُ النَّصْرَ وَالْقِيَامَ مَعَهُ، فَاسْتَغْنَمَ غَيْبَةَ أَخِيهِ الْمُوَفَّقِ وَرَكِبَ فِي جُمَادَى الْأُولَى وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ، وَقَدْ أَرْصَدَ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ جَيْشًا بِالرَّقَّةِ يَتَلَقَّوْنَهُ، فَلَمَّا اجْتَازَ الْخَلِيفَةُ بِإِسْحَاقَ بْنِ كِنْدَاجٍ نَائِبِ الْمَوْصِلِ وَعَامَّةِ الْجَزِيرَةِ اعْتَقَلَهُ عِنْدَهُ عَنِ الْمَسِيرِ إِلَى ابْنِ طُولُونَ، وَقَيَّدَ أَعْيَانَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ، وَعَاتَبَ الْخَلِيفَةَ وَلَامَهُ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ أَشَدَّ اللَّوْمِ، ثُمَّ أَلْزَمَهُ الْعَوْدَ إِلَى سَامَرَّا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَرَجَعُوا إِلَيْهَا فِي غَايَةِ الذُّلِّ وَالْإِهَانَةِ.
وَلَمَّا بَلَغَ الْمُوَفَّقَ ذَلِكَ شَكَرَ سَعْيَ إِسْحَاقَ وَوَلَّاهُ جَمِيعَ أَعْمَالِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ أَنْ يَلْعَنَ ابْنَ طُولُونَ فِي دَارِ الْعَامَّةِ، فَلَمْ يُمْكِنِ الْمُعْتَمِدَ إِلَّا إِجَابَتُهُ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ كَارِهٌ، وَكَانَ ابْنُ طُولُونَ قَدْ قَطَعَ ذِكْرَ الْمُوَفَّقِ فِي الْخُطَبِ وَأَسْقَطَ اسْمَهُ عَنِ الطِّرَازَاتِ.

وَفِيهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِمَكَّةَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْمُوَفَّقِ وَأَصْحَابِ ابْنِ طُولُونَ، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ طُولُونَ مِائَتَانِ وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ، واسْتَلَبَهُمْ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ شَيْئًا كَثِيرًا.
وَفِيهَا قَطَعَتِ الْأَعْرَابُ عَلَى الْحَجِيجِ الطَّرِيقَ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ خَمْسَةَ آلَافِ بَعِيرٍ بِأَحْمَالِهَا.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُنْقِذٍ الْخَوْلَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ مُخَالِدٍ مَوْلَى الْمُعْتَصِمِ، وَكَانَ مِنْ دُعَاةِ الْمُعْتَزِلَةِ، أَخَذَ الْكَلَامَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُبَشِّرٍ الْمُعْتَزِلِيِّ. وَسُلَيْمَانُ بْنِ حَفْصٍ الْمُعْتَزِلِيُّ صَاحِبُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَأَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ. وَعِيسَى ابْنُ الشَّيْخِ ابْنِ السَّلِيلِ الشَّيْبَانِيُّ نَائِبُ أَرْمِينِيَّةَ وَدِيَارِ بَكْرٍ. وَأَبُو فَرْوَةَ يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرًّهَاوِيُّ، أَحَدُ الضُّعَفَاءِ.

سَنَةُ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ صَاحِبِ الزَّنْجِ قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُوَفَّقَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ شَأْنِ مَدِينَةِ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَهِيَ الْمُخْتَارَةُ وَاحْتَازَ مَا كَانَ بِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَقَتَلَ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَسَبَى مَنْ وَجَدَ فِيهَا مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، وَقَدْ هَرَبَ صَاحِبُ الزَّنْجِ عَنْ حَوْمَةِ الْجِلَادِ وَالنِّزَالِ، وَسَارَ إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ طَرِيدًا شَرِيدًا بِشَرِّ حَالٍ، عَادَ الْمُوَفَّقُ - وَفَّقَهُ اللَّهُ - إِلَى مَدِينَتِهِ الْمُوَفَّقِيَّةِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، وَقَدِمَ عَلَيْهِ لُؤْلُؤَةُ غُلَامُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ مُنَابِذًا لِسَيِّدِهِ سَمِيعًا مُطِيعًا لِلْمُوَفَّقِ، فَكَانَ وُرُودُهُ عَلَيْهِ فِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَأَعْطَاهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَبَعَثَهُ طَلِيعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ لِقِتَالِ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَرَكِبَ الْمُوَفَّقُ فِي الْجُيُوشِ الْكَثِيفَةِ الْهَائِلَةِ وَرَاءَهُ، فَقَصَدُوا الْخَبِيثَ وَقَدْ تَحَصَّنَ بِبَلْدَةٍ أُخْرَى، فَلَمْ يَزَلْ مُحَاصِرًا لَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْهَا ذَلِيلًا وَهُوَ صَاغِرٌ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَا كَانَ بِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْمَغَانِمِ، ثُمَّ بَعَثَ السَّرَايَا وَالْجُيُوشَ وَرَاءَهُ، فَأَسَرُوا عَامَّةَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ خَاصَّتِهِ وَحُمَاتِهِ ; مِنْهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ، فَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِأَسْرِهِ وَكَبَّرُوا فَرَحًا بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ، وَحَمَلَ الْمُوَفَّقُ بِمَنِّ مَعَهُ حَمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى أَصْحَابِ الْخَبِيثِ فَاسْتَحَرَّ فِيهِمُ الْقَتْلُ، وَمَا انْجَلَتِ الْحَرْبُ حَتَّى جَاءَ الْبَشِيرُ بِقَتْلِ

الْخَبِيثِ صَاحِبِ الزَّنْجِ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَأَتَى بِرَأْسِهِ مَعَ غُلَامِ لُؤْلُؤَةَ فَتَى أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْمُوَفَّقُ أَنَّهُ رَأَسُهُ بَعْدَ شَهَادَةِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ، خَرَّ سَاجِدًا لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ثُمَّ انْكَفَأَ رَاجِعًا إِلَى الْمُوَفَّقِيَّةِ، وَرَأْسُ الْخَبِيثِ تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسُلَيْمَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ، فَدَخَلَ الْبَلَدَ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، ثُمَّ جِيءَ بِأَنْكَلَايَ وَلَدِ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَأَبَانِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُهَلَّبِيِّ، مُسَعَّرِ حَرْبِهِمْ، مَأْسُورَيْنِ، وَمَعَهُمَا قَرِيبٌ مِنْ خَمْسَةِ آلَافِ أَسِيرٍ، فَتَمَّ السُّرُورُ، وَهَرَبَ قِرْطَاسٌ الَّذِي رَمَى الْمُوَفَّقَ فِي صَدْرِهِ بِذَلِكَ السَّهْمِ إِلَى رَامَهُرْمُزَ فَأُخِذَ وَبُعِثَ بِهِ إِلَى الْمُوَفَّقِ فَقَتَلَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ وَلَدُ الْمُوَفَّقِ. وَاسْتَأْمَنَ مَنْ بَقِيَ مِنْ جُيُوشِ الزَّنْجِ فَأَمَّنَهُمُ الْمُوَفَّقُ، وَنَادَى فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ، وَأَنْ يَرْجِعَ كُلُّ مَنْ كَانَ أُخْرِجَ مِنْ دِيَارِهِ بِسَبَبِ فِتْنَةِ الزَّنْجِ إِلَى أَوْطَانِهِمْ وَبُلْدَانِهِمْ، ثُمَّ قَدَّمَ وَلَدَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى بَغْدَادَ وَمَعَهُ رَأْسُ الْخَبِيثِ يُحْمَلُ لِيَرَاهُ أَهْلُ بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا بِبَغْدَادَ، وَانْتَهَتْ أَيَّامُ صَاحِبِ الزَّنْجِ الْمُدَّعِي الْكَذَّابِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ ظُهُورُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقُتِلَ يَوْمَ السَّبْتِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَكَانَتْ دَوْلَتُهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَقَدْ قِيلَ فِي انْقِضَاءِ دَوْلَةِ الزَّنْجِ وَمَا كَانَ مِنَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ ; مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَسْلَمِيِّ:
أَقُولُ وَقَدْ جَاءَ الْبَشِيرُ بِوَقْعِةٍ أَعَزَّتْ مِنَ الْإِسْلَامِ مَا كَانَ وَاهِيًا جَزَى اللَّهُ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ بَعْدَمَا
أُبِيحَ حِمَاهُمْ خَيْرَ مَا كَانَ جَازِيَا تَفَرَّدَ - إِذْ لَمْ يَنْصُرِ اللَّهُ نَاصِرٌ
بِتَجْدِيدِ دِينٍ كَانَ أَصْبَحَ بَالِيَا وَتَجْدِيدِ مُلْكٍ قَدْ وَهَى بَعْدَ عِزِّهِ
وَأَخْذٍ بِثَارَاتٍ تُبِيرُ الْأَعَادِيَا وَرَدِّ عِمَارَاتٍ أُزِيلَتْ وَأُخْرِبَتْ
لِيَرْجِعَ فَيْءٌ قَدْ تَخَرَّمَ وَافِيَا وَتَرْجِعَ أَمْصَارٌ أُبِيحَتْ وَأُحْرِقَتْ
مِرَارًا فَقَدْ أَمْسَتْ قَوَاءً عَوَافِيَا وَيَشْفِي صُدُورَ الْمُسْلِمِينَ بِوَقْعَةٍ
يُقِرُّ بِهَا مِنَّا الْعُيُونَ الْبَوَاكِيَا وَيُتْلَى كِتَابُ اللَّهِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ
وَيُلْقَى دُعَاءُ الطَّالِبِيِّينَ خَاسِيَا فَأَعْرَضَ عَنْ أَحْبَابِهِ وَنَعِيمِهِ
وَعَنْ لَذَّةِ الدُّنْيَا وَأَصْبَحَ عَارِيَا
وَهِيَ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ، هَذَا طَرَفٌ مِنْهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَقْبَلَتِ الرُّومُ فِي مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ طَرَسُوسَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَبَيَّتُوهُمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى الصَّبَاحِ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقُتِلَ الْمُقَدَّمُ الَّذِي عَلَيْهِمْ وَهُوَ بِطْرِيقُ الْبَطَارِقَةِ، وَجُرِحَ أَكْثَرُ الْبَاقِينَ، وَغَنِمَ

الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ غَنِيمَةً عَظِيمَةً ; مِنْ ذَلِكَ سَبْعُ صُلْبَانٍ مَنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَصَلِيبُهُمُ الْأَعْظَمُ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مٍنْ ذَهَبٍ صَامِتٍ مُكَلَّلٍ بِالْجَوَاهِرِ، وَأَرْبَعَةُ كَرَاسٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَمِائَتَا كُرْسِيٍّ مِنْ فِضَّةٍ، وَآنِيَةٌ كَثِيرَةٌ، وَعَشَرَةُ آلَافِ عَلَمٍ مِنْ دِيبَاجٍ، وَغَنِمُوا حَرِيرًا كَثِيرًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دَابَّةٍ وَسُرُوجًا وَسِلَاحًا وَسُيُوفًا مُحَلَّاةً، وَشَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ أَوَّلًا وَآخِرًا.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ.
أَبُو الْعَبَّاسِ أَمِيرُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَبَانِي الْجَامِعِ بِهَا، الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ، وَقَدْ مَلَكَ دِمَشْقَ وَالْعَوَاصِمَ وَالثُّغُورَ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ طُولُونَ مِنَ الْأَتْرَاكِ الَّذِينَ أَهْدَاهُمْ نُوحُ بْنُ أَسَدِ بْنِ سَامَانَ السَّامَانِيُّ، عَامِلُ بُخَارَى إِلَى الْمَأْمُونِ فِي سَنَةِ مِائَتَيْنِ، وَيُقَالُ: إِلَى الرَّشِيدِ فِي سَنَةِ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ.
وُلِدَ أَحْمَدُ هَذَا فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ.

وَمَاتَ أَبُوهُ طُولُونَ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ ابْنَهُ وَإِنَّمَا تَبَنَّاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ مِنْ جَارِيَةٍ تُرْكِيَّةٍ اسْمُهَا هَاشِمُ.
وَنَشَأَ أَحْمَدُ هَذَا فِي صِيَانَةٍ وَعَفَافٍ وَدِرَاسَةٍ لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، مَعَ حُسْنِ الصَّوْتِ، وَكَانَ يَعِيبُ عَلَى أَوْلَادِ التُّرْكِ مَا يَرْتَكِبُونَهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْأَشْيَاءِ الْمُنْكَرَاتِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ جَارِيَةً اسْمُهَا هَاشِمُ.
وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِ مِصْرَ أَنَّ طُولُونَ لَمْ يَكُنْ أَبَاهُ، وَإِنَّمَا كَانَ قَدْ تَبَنَّاهُ، وَأَنَّهُ كَانَ ظَاهِرَ النَّجَابَةِ مِنْ صِغَرِهِ، وَأَنَّهُ اتَّفَقَ أَنْ بَعَثَهُ طُولُونَ فِي حَاجَةٍ لِيَأْتِيَهُ بِهَا مِنْ قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَذَهَبَ، فَإِذَا حَظِيَّةٌ مِنْ حَظَايَا أَبِيهِ مَعَ بَعْضِ الْخَدَمِ فِي فَاحِشَةٍ، فَأَخَذَ حَاجَتَهُ الَّتِي أَمَرَهُ بِهَا، وَكَرَّ رَاجِعًا إِلَيْهِ سَرِيعًا، وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِشَيْءٍ مِمَّا رَأَى مِنْ ذَلِكَ، فَتَوَهَّمَتِ الْحَظِيَّةُ أَنْ يَكُونَ أَحْمَدُ قَدْ أَخْبَرَ طُولُونَ بِمَا رَأَى، فَجَاءَتْ إِلَى طُولُونَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَحْمَدَ

جَاءَنِي الْآنَ إِلَى الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ وَرَاوَدَنِي عَنْ نَفْسِي، وَانْصَرَفَتْ إِلَى قَصْرِهَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهَا، فَاسْتَدْعَى أَحْمَدَ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا، وَخَتَمَهُ إِلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ: أَنْ إِذَا وَصَلَ إِلَيْكَ حَامِلُ هَذَا الْكِتَابِ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، وَابْعَثْ بِرَأْسِهِ سَرِيعًا إِلَيَّ. فَذَهَبَ أَحْمَدُ وَهُوَ لَا يَدْرِي مَا فِي الْكِتَابِ، فَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ بِقَصْرِ تِلْكَ الْحَظِيَّةِ، فَاسْتَدْعَتْهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: إِنِّي مَشْغُولٌ بِهَذَا الْكِتَابِ لِأُوَصِّلَهُ إِلَى فُلَانٍ. فَقَالَتْ: هَلُمَّ، فَلِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ - وَأَرَادَتْ أَنْ تَحْبِسَهُ عِنْدَهَا ; لِيَكْتُبَ لَهَا كِتَابًا، لِتُحَقِّقَ فِي ذِهْنِ الْمَلِكِ مَا ذَكَرَتْهُ مِنْ أَمْرِهِ، وَأَرْسَلَتْ بِذَلِكَ الْكِتَابِ مَعَ الْخَادِمِ الَّذِي كَانَتْ هِيَ وَإِيَّاهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ وَجَلَسَ أَحْمَدُ يَكْتُبُ لَهَا الْكِتَابَ، وَذَهَبَ ذَلِكَ الْخَادِمُ إِلَى ذَلِكَ الْأَمِيرِ بِالْكِتَابِ، فَلَمَّا قَرَأَهُ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، وَأَرْسَلَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمَلِكِ طُولُونَ، فَتَعَجَّبَ الْمَلِكُ وَقَالَ: أَيْنَ أَحْمَدُ ؟ فَطُلَبَ لَهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، أَخْبِرْنِي كَيْفَ صَنَعْتَ مُنْذُ خَرَجْتَ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى مِنَ الْأَمْرِ، وَلَمَّا سَمِعَتْ تِلْكَ الْحَظِيَّةُ بِأَنَّ رَأْسَ الْخَادِمِ قَدْ أُتِيَ بِهِ إِلَى الْمَلِكِ سَقَطَ فِي يَدَيْهَا، وَتَوَهَّمَتْ أَنَّ الْمَلِكَ قَدْ تَحَقَّقَ الْحَالَ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ

تَعْتَذِرُ وَتَسْتَغْفِرُ مِمَّا وَقَعَ مِنْهَا مَعَ الْخَادِمِ، وَاعْتَرَفَتْ بِالْحِقِّ وَبَرَّأَتْ سَاحَةَ أَحْمَدَ، فَحَظِيَ عِنْدَهُ، وَأَوْصَى لَهُ بِالْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ.
ثُمَّ وَلِيَ نِيَابَةَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِلْمُعْتَزِّ، فَدَخَلَهَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا إِحْسَانًا كَثِيرًا، وَأَنْفَقَ فِيهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَمِنْ صَدَقَاتِهِ، وَاسْتَغَلَّ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَبَنَى بِهَا الْجَامِعَ، وَغَرِمَ عَلَيْهِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ فَرَاغُهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ. وَكَانَتْ لَهُ مَائِدَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَحْضُرُهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَكَانَ يَتَصَدَّقُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ. وَقَالَ لَهُ وَكِيلُهُ يَوْمًا: إِنَّهُ تَأْتِينِي الْمَرْأَةُ وَعَلَيْهَا الْإِزَارُ وَبِذْلَةٌ وَهَيْئَةٌ فَتَسْأَلُنِي أَفَأُعْطِيَهَا ؟ فَقَالَ: مَنْ مَدَّ يَدَهُ إِلَيْكَ فَأَعْطِهِ.
وَكَانَ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ أَطْيَبِهِمْ صَوْتًا بِهِ.
وَقَدْ قِيلَ - فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ خَلِّكَانَ: إِنَّهُ قَتَلَ صَبْرًا نَحْوًا مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ نَفْسٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبَنَى الْبِيمَارِسْتَانَ، فَغَرِمَ عَلَيْهِ سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى الْمَيْدَانِ مِائَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا، وَكَانَ لَهُ صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَإِحْسَانٌ زَائِدٌ، ثُمَّ مَلَكَ دِمَشْقَ بَعْدَ أَمِيرِهَا أَمَاجُورَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا.

وَاتَّفَقَ أَنَّهُ وَقَعَ بِهَا حَرِيقٌ عِنْدَ كَنِيسَةِ مَرْيَمَ، فَنَهَضَ بِنَفْسِهِ إِلَيْهِ وَمَعَهُ أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْحَافِظُ الدِّمَشْقِيُّ، وَكَاتِبُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، ثُمَّ أَمَرَ كَاتِبَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِ الْأَمِيرِ سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ تُصْرَفُ إِلَى أَهْلِ الدُّورِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي أُحْرِقَتْ، فَصَرَفَ إِلَيْهِمْ جَمِيعَ قِيمَةِ مَا ذَكَرُوهُ، وَبَقِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُوَزَّعَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِمَالٍ عَظِيمٍ يُفَرَّقُ عَلَى فُقَرَاءِ دِمَشْقَ وَغُوطَتِهَا، فَأَقَلُّ مَا حَصَلَ لِلْفَقِيرِ دِينَارٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ فَحَاصَرَ بِهَا صَاحِبَهَا سِيمَا حَتَّى قَتَلَهُ، وَتَسَلَّمَ الْبَلَدَ - كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ - ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ فِي أَوَائِلِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ عِلَّةٍ أَصَابَتْهُ مِنْ أَكْلِ لَبَنِ الْجَوَامِيسِ، فَأَصَابَهُ ذَرَبٌ، فَدَاوَاهُ الْأَطِبَّاءُ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، فَكَانَ يَأْكُلُ مِنْهُ فِي الْخُفْيَةِ، فَمَاتَ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ تَرَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَثَاثِ وَالدَّوَابِّ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا ; مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةُ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَلَدًا ; مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا، فَقَامَ

بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ خُمَارَوَيْهِ، وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مَنْ أَمْرِهِ.
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْغِلْمَانِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ غُلَامٍ، وَمِنَ الْمُوَالَى سَبْعَةُ آلَافِ مَوْلًى، وَمِنَ الْبِغَالِ وَالْخَيْلِ وَالْجِمَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَإِنَّمَا تَغَلَّبَ عَلَى الْبِلَادِ لِاشْتِغَالِ الْمُوَفَّقِ طَلْحَةَ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَنْهُ بِحَرْبِ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَقَدْ كَانَ الْمُوَفَّقُ نَائِبَ أَخِيهِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ - وَهُوَ وَالِدُ الْمُعْتَضِدِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ سَهْلٍ الْكَاتِبُ.
صَاحِبُ كِتَابِ " الْخَرَاجِ "، قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.
وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْبَرْقِيِّ.
وَأُسِيدُ بْنُ عَاصِمٍ الْجَمَّالُ.
وَبَكَّارُ بْنُ قُتَيْبَةَ الْمِصْرِيُّ.
فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.

وَالْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ الْعَلَوِيُّ.
صَاحِبُ طَبَرِسْتَانَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا يَعْرِفُ الْفِقْهَ وَالْعَرَبِيَّةَ، قَالَ لَهُ شَاعِرٌ فِي جُمْلَةِ قَصِيدَةٍ مَدَحَهُ بِهَا:
اللَّهُ فَرْدٌ وَابْنُ زَيْدٍ فَرْدُ
فَقَالَ: وَيْلَكَ، لَا تَقُلْ، هَلَّا قُلْتَ:
اللَّهُ فَرْدٌ وَابْنُ زَيْدٍ عَبْدُ
ثُمَّ نَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ، وَخَرَّ سَاجِدًا لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالتُّرَابِ، وَلَمْ يُعْطِ ذَلِكَ الشَّاعِرَ شَيْئًا.
وَامْتَدَحَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ فِي أَوَّلِ قَصِيدَتِهِ:
لَا تَقُلْ بُشْرَى وَلَكِنْ بُشْرَيَانِ عِزَّةُ الدَّاعِي وَيَوْمُ الْمِهْرَجَانِ
فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ: لَوِ ابْتَدَأَتْ بِالْمِصْرَاعِ الثَّانِي لَكَانَ أَحْسَنَ، وَأَبْعَدَ لَكَ أَنْ تَبْتَدِئَ شِعْرَكَ بِحَرْفِ " لَا ". فَقَالَ لَهُ الشَّاعِرُ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا كَلِمَةٌ أَجْلَّ مَنْ قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَقَالَ: أَصَبْتَ. وَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ.

وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ الْعَامِرِيُّ.
وَدَاودُ بْنُ عَلِيٍّ.
الْأَصْبَهَانِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ الْفَقِيهُ الظَّاهِرِيُّ، إِمَامُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، رَوَى عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ الْقَعْنَبِيِّ، وَمُسَدَّدِ بْنِ مُسَرْهَدٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ، وَزَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ.
قَالَ الْخَطِيبُ: كَانَ فَقِيهًا زَاهِدًا وَفِي كُتُبِهِ حَدِيثٌ كَثِيرٌ، وَالرِّوَايَةُ عَنْهُ عَزِيزَةٌ جِدًّا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ مِائَتَيْنِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي " طَبَقَاتِهِ " أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ أَصْبَهَانَ وَوُلِدَ بِالْكُوفَةِ، وَنَشَأَ بِبَغْدَادَ وَأَنَّهُ انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْعِلْمِ بِهَا، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ أَرْبَعُمِائَةِ صَاحِبِ

طَيْلَسَانٍ أَخْضَرَ، وَكَانَ مِنَ الْمُتَعَصِّبِينَ لِلشَّافِعِيِّ، وَصَنَّفَ مَنَاقِبَهُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ حَسَنَ الصَّلَاةِ وَالتَّوَاضُعِ.
وَقَدْ قَالَ الْأَزْدِيُّ: تُرِكَ حَدِيثُهُ. وَلَمْ يُتَابَعِ الْأَزْدِيُّ عَلَى ذَلِكَ.
لَكِنْ رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِيهِ بِسَبَبِ كَلَامِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّ لَفْظَهُ بِهِ مَخْلُوقٌ، كَمَا نُسِبَ إِلَى الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ. قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ، وَلَكِنْ حَصَرَ نَفْسَهُ بِنَفْيِهِ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ، فَضَاقَ بِذَلِكَ ذَرْعُهُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْفِقْهِ، فَلَزِمَهُ الْقَوْلُ بِأَشْيَاءَ قَطْعِيَّةٍ صَارَ إِلَيْهَا بِسَبَبِ اتِّبَاعِهِ الظَّاهِرَ الْمُجَرَّدَ مِنْ غَيْرِ تَفَهُّمٍ لِمَعْنَى النَّصِّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الْقِيَاسِيُّونَ بَعْدَهُ فِي الِاعْتِدَادِ بِخِلَافِهِ، وَأَنَّهُ هَلْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ مَعَ خِلَافِهِ أَمْ لَا ؟ عَلَى أَقْوَالٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُرَادِيُّ.
صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ تَرْجَمْنَاهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ "
وَالْقَاضِي بَكَّارُ بْنُ قُتَيْبَةَ.
الْحَاكِمُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ

وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ مَسْجُونًا فِي حَبْسِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ ; لِكَوْنِهِ لَمْ يَخْلَعِ الْمُوَفَّقَ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ، وَكَانَ عَالِمًا عَابِدًا زَاهِدًا كَثِيرَ التِّلَاوَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ شَغَرَ مَنْصِبُ الْقَضَاءِ بَعْدَهُ بِمِصْرَ ثَلَاثَ سِنِينَ وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ خَلِّكَانَ تَرْجَمَتَهُ فِي الْوَفَيَاتِ.
ابْنُ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ قَاضِيهَا، النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ الْبَدِيعَةِ الْمُفِيدَةِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى عُلُومٍ جَمَّةٍ نَافِعَةٍ، اشْتَغَلَ بِبَغْدَادَ، وَسَمِعَ بِهَا الْحَدِيثَ عَلَى إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَطَبَقَتِهِ، وَأَخَذَ اللُّغَةَ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ وَذَوِيهِ، وَصَنَّفَ وَجَمَعَ وَأَلَّفَ الْكُتُبَ الْكَثِيرَةَ ; فَمِنْ ذَلِكَ كِتَابُ " الْمَعَارِفِ " " وَأَدَبُ الْكَاتِبِ " الَّذِي شَرَحَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ السَّيِّدِ الْبَطْلَيُوسِيُّ، وَكِتَابُ " مُشْكِلِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ "، " وَغَرِيبُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ "، " وَعُيُونُ الْأَخْبَارِ "، " وَإِصْلَاحُ الْغَلَطِ "، وَكِتَابُ " الْخَيْلِ "، وَكِتَابُ " الْأَنْوَاءِ "، وَكِتَابُ " الْمَسَائِلِ وَالْجَوَابَاتِ "، وَكِتَابُ " الْمَيْسِرِ وَالْقِدَاحِ "، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا. وَمَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَمْ يُجَاوِزِ السِّتِّينَ، وَرَوَى عَنْهُ وَلَدُهُ أَحْمَدُ جَمِيعَ

مُصَنَّفَاتِهِ. وَقَدْ وَلِيَ وَلَدُهُ أَحْمَدُ قَضَاءَ مِصْرَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَتُوُفِّيَ بِهَا بَعْدَ سَنَةٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّاغَانِيُّ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ.
وَمُصَعَبُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو أَحْمَدَ الصُّوفِيُّ.
وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِ الْجُنَيْدِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَلِكُ الرُّومِ ابْنُ الصَّقْلَبِيَّةِ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا ابْتَدَأَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى بِبِنَاءِ مَدِينَةِ لَارِدَةَ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ عَنْ وِلَايَةِ خُرَاسَانَ وَأَمَرَ بِلَعْنِهِ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَفَوَّضَ أَمْرَ خُرَاسَانَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ، وَبَعَثَ جَيْشًا إِلَى عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ فَهُزِمَ عَمْرٌو.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدِ ابْنِ الْمُوَفَّقِ أَبِي أَحْمَدَ وَبَيْنَ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ ; وَذَلِكَ أَنَّ خُمَارَوَيْهِ لَمَّا مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ بِلَادَ مِصْرَ وَالشَّامِ جَاءَهُ جَيْشٌ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ، عَلَيْهِمْ إِسْحَاقُ بْنُ كِنْدَاجَ نَائِبُ الْجَزِيرَةِ وَابْنُ أَبِي السَّاجِ فَقَاتَلُوهُ بِأَرْضِ شَيْرَزَ، فَامْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِ الشَّامِ إِلَيْهِمْ، فَاسْتَنْجَدُوا بِأَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ الْمُوَفَّقِ، فَقَدِمَ إِلَيْهِمْ فَكَسَرَ جَيْشَ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ، وَتَسَلَّمَ دِمَشْقَ وَاحْتَازَهَا، ثُمَّ سَارَ نَحْوَ خُمَارَوَيْهِ إِلَى بِلَادِ الرَّمْلَةِ عِنْدَ مَاءٍ عَلَيْهِ طَوَاحِينُ، فَاقْتَتَلُوا هُنَالِكَ، فَبِذَلِكَ تُسَمَّى هَذِهِ وَقْعَةَ الطَّوَاحِينِ، ثُمَّ كَانَتِ النَّوْبَةُ أَوَّلًا لِأَبِي الْعَبَّاسِ عَلَى خُمَارَوَيْهِ، فَهَزَمَهُ حَتَّى هَرَبَ خُمَارَوَيْهِ، لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ، فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى دَخَلَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَأَقْبَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَصْحَابُهُ عَلَى نَهْبِ مُعَسْكَرِهِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ كَمِينٌ لِجَيْشِ خُمَارَوَيْهِ وَهُمْ مَشْغُولُونَ بِالْغَنِيمَةِ فَوَضَعَتِ الْمِصْرِيُّونَ فِيهِمُ السُّيُوفَ، فَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَانْهَزَمَ

الْجَيْشُ، وَهَرَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدُ، فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ فَلَمْ يَفْتَحْ لَهُ أَهْلُهَا بَابَهَا، فَانْصَرَفَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى طَرَسُوسَ وَبَقِيَ الْجَيْشَانِ الْمِصْرِيُّ وَالْعِرَاقِيُّ يَقْتَتِلَانِ، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمِيرٌ. ثُمَّ كَانَ الظَّفَرُ لِلْمِصْرِيِّينَ ; لِأَنَّهُمْ أَقَامُوا أَبَا الْعَشَائِرِ أَخَا خُمَارَوَيْهِ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا، فَغَلَبُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَاسْتَقَرَّتْ أَيْدِيهِمْ عَلَى دِمَشْقَ وَسَائِرِ الشَّامِ وَهَذِهِ مِنْ أَعْجَبِ الْوَقَعَاتِ.
وَفِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بِأَرْضِ الْأَنْدَلُسِ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ.
وَفِيهَا دَخَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ ابْنَا الْحُسَيْنِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَتَلَا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، وَأَخَذَا أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَتَعَطَّلَتِ الصَّلَوَاتُ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أَرْبَعَ جُمَعٍ لَمْ يَحْضُرِ النَّاسُ فِيهَا جُمْعَةً وَلَا جَمَاعَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَجَرَتْ بِمَكَّةَ فِتْنَةٌ أُخْرَى وَاقْتَتَلَ النَّاسُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَيْضًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْعَبَّاسِيُّ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ.
تِلْمِيذُ ابْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ

وَالتَّعْدِيلِ
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْبَصْرِيُّ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الطَّهْرَانِيُّ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ.
وَيُوسُفُ بْنُ مُسْلِمٍ.
وَبُورَانُ بِنْتُ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ.
زَوْجَةُ الْمَأْمُونِ وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَهَا خَدِيجَةُ، وَبُورَانُ لَقَبٌ لَهَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. عَقَدَ عَلَيْهَا الْمَأْمُونُ بِفَمِ الصِّلْحِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ، وَلَهَا عَشْرُ سِنِينَ، فَنَثَرَ أَبُوهَا عَلَى النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَنَادِقَ الْمِسْكِ، مَكْتُوبٌ فِي وَرَقَةٍ وَسَطَ كُلِّ بُنْدُقَةٍ اسْمَ قَرْيَةٍ، أَوْ مِلْكٍ، أَوْ جَارِيَةٍ، أَوْ غُلَامٍ، أَوْ فَرَسٍ، فَمَنِ الْتَقَطَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَلَكَهَ، وَنَثَرَ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ الدَّنَانِيرَ وَنَوَافِجَ

الْمِسْكِ وَبِيصَ الْعَنْبَرِ، وَأَنْفَقَ عَلَى الْمَأْمُونِ وَعَسْكَرِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ تِلْكَ الْأَيَّامَ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَلَمَّا تَرَحَّلَ الْمَأْمُونُ عَنْهُ أَطْلَقَ لَهُ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَقْطَعُهُ فَمَ الصِّلْحِ وَبَنَى بِهَا فِي سَنَةِ عَشْرٍ. فَلَمَّا جَلَسَ الْمَأْمُونُ فَرَشُوا لَهُ حَصِيرًا مَنْ ذَهَبٍ، وَنَثَرُوا عَلَى قَدَمَيْهِ أَلْفَ حَبَّةِ جَوْهَرٍ، وَهُنَاكَ تَوْرٌ مَنْ ذَهَبٍ فِيهِ شَمْعَةٌ مِنْ عَنْبَرٍ زِنَةُ أَرْبَعِينَ مَنًّا مِنْ عَنْبَرٍ، فَقَالَ: هَذَا سَرَفٌ. وَنَظَرَ إِلَى ذَلِكَ الْحَبِّ عَلَى الْحَصِيرِ فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ أَبَا نُوَاسٍ حَيْثُ يَقُولُ فِي صِفَةِ الْخَمْرِ:
كَأَنَّ صُغْرَى وَكُبْرَى مِنْ فَوَاقِعِهَا حَصْبَاءُ دُرٍّ عَلَى أَرْضٍ مِنَ الذَّهَبِ
ثُمَّ أَمَرَ بِالدُّرِّ فَجُمِعَ فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهَا وَقَالَ: هَذَا نِحْلَةٌ مِنِّي لَكَ، وَسَلِي حَاجَتَكِ. فَقَالَتْ لَهَا جَدَّتُهَا: سَلِي سَيِّدَكِ فَقَدِ اسْتَنْطَقَكِ. فَقَالَتْ: أَسْأَلُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَرْضَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ فَرَضِيَ عَنْهُ، ثُمَّ أَرَادَ الِاجْتِمَاعَ بِهَا فَإِذَا هِيَ حَائِضٌ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ الْمَأْمُونُ فِي سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، وَتَأَخَّرَتْ هِيَ بَعْدَهُ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهَا ثَمَانُونَ سَنَةً.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا سَارَ نَائِبُ قَزْوِينَ وَهُوَ أَذْكُوتِكِينُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيِّ صَاحِبِ طَبَرِسْتَانَ بَعْدَ أَخِيهِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ بِالرِّيِّ، فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ مِنَ الدَّيْلَمِ وَغَيْرِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَهَزَمَهُ أَذْكُوتِكِينُ وَغَنِمَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِ، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ سِتَّةَ آلَافٍ، وَدَخَلَ الرَّىَّ فَأَخَذَ مِنْ أَهْلِهَا مِائَةَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفَرَّقَ عُمَّالَهُ فِي نُوَاحِي الرَّىِّ.
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْمُوَفَّقِ وَبَيْنَ صَاحِبِ ثَغْرِ طَرَسُوسَ - وَهُوَ يَازْمَانُ الْخَادِمُ - فَثَارَ أَهْلُ طَرَسُوسَ عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ فَأَخْرَجُوهُ عَنْهُمْ، فَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا دَخَلَ حَمْدَانُ بْنُ حَمْدُونَ وَهَارُونُ الشَّارِي مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ وَصَلَّى بِهِمُ الشَّارِي فِي جَامِعِهَا الْأَعْظَمِ.
وَفِيهَا عَاثَتْ بَنُو شَيْبَانَ فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ وَسَعَوْا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا.
وَفِيهَا تَحَرَّكَتْ بَقِيَّةُ الزَّنْجِ فِي أَرْضِ الْبَصْرَةِ وَنَادَوْا: يَا أَنْكِلَايُ، يَا مَنْصُورُ.

وَكَانَ أَنْكِلَايُ ابْنُ صَاحِبِ الزَّنْجِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ، وَأَبَانُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُهَلَّبِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ أُمَرَائِهِمْ فِي حَبْسِ الْمُوَفَّقِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ، فَقُتِلُوا وَحُمِلَتْ رُءُوسُهُمْ إِلَيْهِ وَصُلِبَتْ أَبْدَانُهُمْ بِبَغْدَادَ، وَسَكَنَتِ الشُّرُورُ.
وَفِيهَا صَلُحَ أَمْرُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَتَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَيْهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بِبِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَتَسَلَّمَتِ الرُّومُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَلَدَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنَ الْأَنْدَلُسِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا قَدِمَ صَاعِدُ بْنُ مُخَلَّدٍ الْكَاتِبُ مِنْ فَارِسَ إِلَى وَاسِطَ فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ الْقُوَّادَ أَنْ يَتَلَقَّوْهُ، فَدَخَلَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَلَكِنْ ظَهَرَ مِنْهُ تِيهٌ وَعُجْبٌ شَدِيدٌ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ عَمَّا قَرِيبٍ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَهْلِهِ وَأَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَاسْتَكْتَبَ مَكَانَهُ أَبَا الصَّقْرِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ بُلْبُلٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْعَبَّاسِيُّ، أَمِيرُ الْحَجِّ مُنْذُ دَهْرٍ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ الْجَشَّاشُ. وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُطَارِدٍ الْعُطَارِدِيُّ التَّمِيمِيُّ، رَاوِي السِّيرَةِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ

بْنِ يَسَارٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَبُو عُتْبَةَ الْحِجَازِيُّ. وَسُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ. وَسُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ الْوَزِيرُ، فِي حَبْسِ الْمُوَفَّقِ. وَشُعَيْبُ بْنُ بَكَّارٍ، يَرْوِي عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْمَاطِيُّ، وَيُلَقَّبُ بِكِيلَجَةَ، وَهُوَ مِنْ تَلَامِيذِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْفَرَّاءُ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمُنَادِي. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ الْحِمْصِيُّ.
وَأَبُو مَعْشَرٍ الْمُنَجِّمُ.
وَاسْمُهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلْخِيُّ، أُسْتَاذُ عَصْرِهِ فِي صِنَاعَةِ التَّنْجِيمِ، وَلَهُ فِيهِ التَّصَانِيفُ الْمَشْهُورَةُ، كَ " الْمَدْخَلِ "، وَ " الزِّيجِ "، وَ " الْأُلُوفِ " وَغَيْرِهَا، وَتَكَلَّمَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّسْيِيرِ وَكَذَلِكَ بِالْأَحْكَامِ.

قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ وَلَهُ إِصَابَاتٌ عَجِيبَةٌ. ثُمَّ حَكَى أَنَّ بَعْضَ الْمُلُوكِ تَطَلَّبَ رَجُلًا، فَذَهَبَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَاخْتَفَى وَخَافَ مِنْ أَبِي مَعْشَرٍ الْمُنَجِّمِ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْمَلِكَ بِصَنْعَتِهِ، فَعَمَدَ إِلَى طَسْتٍ فَمَلَأَهُ دِمَاءً، وَوَضَعَ أَسْفَلَهُ هَاوَنًا وَجَلَسَ عَلَى ذَلِكَ الْهَاوَنِ، فَاسْتَدْعَى الْمَلِكُ أَبَا مَعْشَرٍ، فَضَرَبَ رَمْلَهُ وَحَرَّرَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا عَجِيبٌ ! أَجِدُ هَذَا الرَّجُلَ جَالِسًا عَلَى جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ فِي وَسَطِ بَحْرٍ مِنْ دَمٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا فِي الدُّنْيَا. ثُمَّ أَعَادَ الضَّرْبَ فَوَجَدَهُ كَذَلِكَ، فَتَعَجَّبَ الْمَلِكُ أَيْضًا، وَنَادَى فِي الْبَلَدِ بِأَمَانِ الْمَذْكُورِ، فَلَمَّا مَثُلَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ سَأَلَهُ أَيْنَ اخْتَفَى ؟ فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِهِ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنِ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ مِنْ عِلْمِ الرَّجَزِ، وَالطُّرَفِ، وَاخْتِلَاجِ الْأَعْضَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ هَذَا، وَلَيْسَ بِالصَّادِقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ إِسْحَاقَ بْنِ كِنْدَاجَ نَائِبِ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ نَائِبِ قِنَّسْرِينَ وَغَيْرِهَا بَعْدَمَا كَانَا مُتَّفِقَيْنِ، وَكَاتَبَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ خُمَارَوَيْهِ صَاحِبَ مِصْرَ، وَخَطَبَ لَهُ بِبِلَادِهِ، وَقَدِمَ خُمَارَوَيْهِ إِلَى الشَّامِ فَاجْتَمَعَ بِهِ ابْنُ أَبِي السَّاجِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ كِنْدَاجَ فَتَوَاقَعَا، فَانْهَزَمَ ابْنُ كِنْدَاجَ، وَهَرَبَ إِلَى قَلْعَةِ مَارْدِينَ فَحَاصَرَهُ بِهَا، ثُمَّ ظَهَرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي السَّاجِ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْمَوْصِلِ وَبِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَخَطَبَ بِهَا لِخُمَارَوَيْهِ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ جِدًّا.
وَفِيهَا قَبَضَ الْمُوَفَّقُ عَلَى لُؤْلُؤٍ غُلَامِ ابْنِ طُولُونَ، وَصَادَرَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَسَجَنَهُ، فَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ لِي ذَنْبٌ إِلَّا كَثْرَةُ مَالِي. ثُمَّ أُخْرِجَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ السِّجْنِ وَهُوَ فَقِيرٌ ذَلِيلٌ، فَعَادَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي أَيَّامِ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ، وَمَعَهُ غُلَامٌ وَاحِدٌ. وَهَذَا جَزَاءُ كُفْرِ نِعْمَةِ سَيِّدِهِ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا عَدَا أَوْلَادُ مَلِكِ الرُّومِ عَلَى أَبِيهِمْ فَقَتَلُوهُ، وَتَمَلَّكَ بَعْدَهُ أَحَدُ أَوْلَادِهِ.

وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ:

مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ الْأُمَوِيِّ.
صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ أَبْيَضَ مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ، رَبْعَةً أَوْقَصَ، يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَكَانَ عَاقِلًا لَبِيبًا، وَكَانَ يُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ الْمُشْتَبِهَةَ، وَخَلَّفَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ذَكَرًا، وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْمُنْذِرُ، فَأَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ فَأَحَبُّوهُ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ:
خَالِدِ بْنِ أَحْمَدَ أَبِي الْهَيْثَمِ الذُّهْلِيِّ.
الَّذِي كَانَ أَمِيرَ خُرَاسَانَ فِي حَبْسِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الْبُخَارِيَّ مِنْ بُخَارَى، فَدَعَا عَلَيْهِ، فَلَمْ يُفْلِحْ بَعْدَهَا، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْإِمْرَةِ إِلَّا أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ حَتَّى احْتِيطَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَأُرْكِبَ حِمَارًا وَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ، ثُمَّ سُجِنَ، فَمَاتَ فِيهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ تَعَرَّضَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا - أَيْضًا - مِنَ الْأَعْيَانِ: إِسْحَاقُ بْنُ سَيَّارٍ. وَحَنْبَلُ بْنُ

إِسْحَاقَ، ابْنُ عَمِّ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَحَدُ الرُّوَاةِ الْمَشْهُورِينَ عَنْهُ، عَلَى أَنَّهُ قَدِ اتُّهِمَ فِي بَعْضِ مَا يَرْوِيهِ وَيَحْكِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَبُو أُمَيَّةَ الطَّرَسُوسِيُّ. وَالْفَتْحُ بْنُ شُخْرُفٍ، أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ ذَوِي الْأَحْوَالِ وَالْكَرَامَاتِ وَالْمَقَامَاتِ وَالْكَلِمَاتِ النَّافِعَاتِ، وَوَهِمَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي قَوْلِهِ فِي " كَامِلِهِ ": إِنَّ أَبَا دَاوُدَ صَاحِبَ " السُّنَنِ " تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، بَلْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، كَمَا سَيَأْتِي.
ابْنُ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيُّ.
صَاحِبُ " السُّنَنِ "، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، ابْنُ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيُّ مَوْلَى رَبِيعَةَ، صَاحِبُ كِتَابِ " السُّنَنِ " الْمَشْهُورَةِ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى عَمَلِهِ وَعِلْمِهِ وَتَبَحُّرِهِ وَاطِّلَاعِهِ وَاتِّبَاعِهِ لِلسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ كِتَابًا، وَأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ بَابٍ، وَيَحْتَوِي عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ حَدِيثٍ، كُلُّهَا جِيَادٌ سِوَى الْيَسِيرِ.

وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ أَنَّهُ انْتَقَدَ مِنْهَا بِضْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، رُبَّمَا يُقَالُ: إِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ، أَوْ مُنْكَرَةٌ جِدًّا. وَلَهُ تَفْسِيرٌ حَافِلٌ وَتَارِيخٌ كَامِلٌ مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ إِلَى عَصْرِهِ.
قَالَ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلِيلِيُّ الْقَزْوِينِيُّ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ وَيَعْرِفُ يَزِيدُ بِمَاجَهْ مَوْلَى رَبِيعَةَ، عَالِمٌ بِهَذَا الشَّأْنِ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ فِي التَّارِيخِ، وَالسُّنَنِ، ارْتَحَلَ إِلَى الْعِرَاقَيْنِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ. ثُمَّ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ مَشَايِخِهِ، وَقَدْ تَرْجَمْنَاهُمْ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ: وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْكِبَارُ الْقُدَمَاءُ ; ابْنُ سِيبَوَيْهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الصَّفَّارُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَلَمَةَ الْقَطَّانُ، وَجَدِّي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَزِيدَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ عَنْ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ أَبُو بَكْرٍ، وَتَوَلَّى دَفْنَهُ مَعَ أَخِيهِ الْآخَرِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا نَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ بِفَارِسَ، فَقَصَدَهُ أَبُو أَحْمَدَ، فَهَرَبَ مِنْهُ عَمْرٌو مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَيَتْبَعُهُ، ثُمَّ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا قِتَالٌ وَلَا مُوَاجَهَةٌ، وَقَدْ تَحَيَّزَ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ مُقَدَّمُ جَيْشِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، وَهُوَ أَبُو طَلْحَةَ شَرْكَبٌ الْجَمَّالُ، ثُمَّ أَرَادَ الْعَوْدَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ، وَأَبَاحَ مَالَهُ لِوَلَدِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدِ، وَذَلِكَ بِالْقُرْبِ مِنْ شِيرَازَ.
وَفِيهَا غَزَا يَازْمَانُ الْخَادِمُ - نَائِبُ طَرَسُوسَ - بِلَادَ الرُّومِ، فَأَوْغَلَ فِيهَا فَقَتَلَ وَغَنِمَ وَسَلِمَ.
وَفِيهَا دَخَلَ صِدِّيقٌ الْفَرْغَانِيُّ سَامَرَّا، فَنَهَبَ دُورَ التُّجَّارِ بِهَا، وَكَرَّ رَاجِعًا، وَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِمَّنْ يَحْرُسُ الطُّرُقَاتِ، فَتَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْبَلَ يَقْطَعُهَا وَضَعُفَ الْجُنْدُ بِسَامَرَّا عَنْ مُقَاوَمَتِهِ.

وَمِمَّا تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْأَصَمِّ، أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظِمِ ": كَانَ حَافِظًا فَاضِلًا، رَوَى عَنْ حَرْمَلَةَ وَغَيْرِهِ، وَتُوُفِّيَ فِي جُمَادَى

الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ زِيَادٍ، أَبُو يَعْقُوبَ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَ عَنْ هُدْبَةَ، وَعَنْهُ ابْنُ مَخْلَدٍ. تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الصُّغْدِيُّ، يَرْوِي عَنْ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، وَأَبِي الْيَمَانِ، وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَابْنُ السَّمَاكِ، وَكَانَ ثِقَةً، تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا.
الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمِ بْنِ حَسَّانَ بْنِ عَلِيٍّ الْبَزَّارُ، سَمِعَ عَفَّانَ، وَأَبَا النَّضْرِ، وَيَزِيدَ بْنَ هَارُونَ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ الْمَحَامِلِيُّ، وَابْنُ مَخْلَدٍ النَّجَّادُ، وَكَانَ ثِقَةً. تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، أَبُو الْحُسَيْنِ الْوَاسِطِيُّ، الْمُلَقَّبُ بِكُرْدُوسٍ، رَوَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ الْمَحَامِلِيُّ، وَابْنُ مَخْلَدٍ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:

صَدُوقٌ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثِقَةٌ. تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى الثَّمَانِينَ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوْحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِعَبْدُوسٍ، رَوَى عَنْ شَبَابَةَ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَعَنْهُ الْمَحَامِلِيُّ، وَابْنُ السَّمَّاكِ، وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ. تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَعْدٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، أَصْلُهُ مِنْ بِلْخَ وَسَكَنَ بَغْدَادَ رَوَى عَنْ سُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ، وَعَفَّانَ، وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَغَوِيُّ، وَالْمَحَامِلِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً صَاحِبَ أَخْبَارٍ وَآدَابٍ وَمُلَحٍ، تُوُفِّيَ بِوَاسِطَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا عَنْ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زِيَادٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَقِيلَ: أَبُو بَكْرٍ الدُّولَابِيُّ، سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ، وَأَبَا الْيَمَانِ، وَأَبَا مُسْهِرٍ، وَعَنْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَابْنُ السَّمَّاكِ، وَكَانَ ثِقَةً.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ ابْنِ أَبِي السَّاجِ وَبَيْنَ خُمَارَوَيْهِ، فَاقْتَتَلَا عِنْدَ ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ فَغُلِبَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ وَانْهَزَمَ، وَكَانَتْ حَوَاصِلُهُ بِحِمْصَ، فَبَعَثَ خُمَارَوَيْهِ مَنْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا، فَأَخَذَهَا وَمَنَعَ مِنْهُ حِمْصَ فَذَهَبَ إِلَى حَلَبٍ فَمَنَعَهُ خُمَارَوَيْهِ، فَسَارَ إِلَى الرَّقَّةِ فَاتَّبَعَهُ، فَذَهَبَ إِلَى الْمَوْصِلِ ثُمَّ انْهَزَمَ مِنْهَا خَوْفًا مِنْ خُمَارَوَيْهِ وَوَصَلَ خُمَارَوَيْهِ إِلَى الْبَلَدِ، وَاتَّخَذَ لَهُ بِهَا سَرِيرًا طَوِيلَ الْقَوَائِمِ، وَكَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ فِي الْفُرَاتِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَمِعَ فِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ كِنْدَاجَ فَسَارَ وَرَاءَهُ ; لِيَظْفَرَ مِنْهُ بِشَيْءٍ فَلَمْ يَقْدِرْ، وَقَدِ الْتَقَيَا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، فَصَبَرَ لَهُ ابْنُ أَبِي السَّاجِ صَبْرًا عَظِيمًا، فَسَلِمَ وَانْصَرَفَ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بِبَغْدَادَ، فَأَكْرَمَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ إِلَى الْجَبَلِ، وَرَجَعَ إِسْحَاقُ بْنُ كِنْدَاجَ إِلَى دِيَارِ بِكْرٍ وَمُضَرَ مِنَ الْجَزِيرَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا سَجَنَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدَ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَسِيرَ إِلَّا إِلَى الشَّامِ الَّتِي كَانَ عَمُّهُ الْمُعْتَمِدُ وَلَّاهُ إِيَّاهَا، فَغَضِبَ عَلَيْهِ وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ، فَثَارَتِ الْأُمَرَاءُ وَاخْتَبَطَتْ بَغْدَادُ وَرَكِبَ الْمُوَفَّقُ إِلَى بَغْدَادَ وَقَالَ

لِلنَّاسِ: أَتَظُنُّونَ أَنَّكُمْ أَشْفَقُ عَلَى وَلَدِي مِنِّي ؟ فَسَكَنَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ وَتَرَاجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، ثُمَّ أَفْرَجَ عَنْهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ رَافِعٌ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ أَخِي الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيِّ، فَأَخَذَ مِنْهُ مَدِينَةَ جُرْجَانَ فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى أَسْتَرَابَاذَ فَحَصَرَهُ بِهَا سَنَتَيْنِ، فَغَلَا بِهَا السِّعْرُ حَتَّى بِيعَ الْمِلْحُ بِهَا وَزْنُ الدِّرْهَمِ بِدِرْهَمَيْنِ، فَهَرَبَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ مِنْهَا لَيْلًا إِلَى سَارِيَةَ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهُ رَافِعٌ بِلَادًا كَثِيرَةً بَعْدَ ذَلِكَ فِي مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا - أَوْ فِي صِفْرٍ - كَانَتْ وَفَاةُ الْمُنْذِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُقْوِيِّ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ عَنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ أَسْمَرَ طَوِيلًا، بِوَجْهِهِ أَثَرُ جُدَرِيٍّ، جَوَادًا مُمَدَّحًا، يُحِبُّ الشُّعَرَاءَ وَيَصِلُهُمْ بِمَالٍ كَثِيرٍ، وَخَلَّفَ مِنَ الْأَوْلَادِ سِتَّةَ ذُكُورٍ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَامْتَلَأَتْ بِلَادُ الْأَنْدَلُسِ فِي أَيَّامِهِ فِتَنًا وَشُرُورًا حَتَّى هَلَكَ، كَمَا سَيَأْتِي.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَجَّاجُ الْمَرُّوذِيُّ صَاحِبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، كَانَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَذْكِيَاءِ، وَكَانَ أَحْمَدُ يُقَدِّمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ وَيَأْنَسُ بِهِ

وَيَبْعَثُهُ فِي الْحَاجَةِ وَيَقُولُ: قُلْ مَا شِئْتَ. وَهُوَ الَّذِي أَغْمَضَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَكَانَ فِيمَنْ غَسَّلَهُ أَيْضًا، وَقَدْ نَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ مَسَائِلَ كَثِيرَةً، وَحَصَلَتْ لَهُ رِفْعَةٌ عَظِيمَةٌ، شَيَّعَهُ إِلَى سَامَرَّا حِينَ أَرَادَ الْغَزْوَ خَمْسُونَ أَلْفًا.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مِرْدَاسٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَاهِلِيُّ الْبَصْرِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِغُلَامِ خَلِيلٍ، سَكَنَ بَغْدَادَ وَرَوَى عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الشَّاذَكُونِيِّ، وَشَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، وَقُرَّةَ بْنِ حَبِيبٍ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ ابْنُ السَّمَّاكِ وَابْنُ مَخْلَدٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ أَحَادِيثَ رَوَاهَا مُنْكَرَةً عَنْ شُيُوخٍ مَجْهُولِينَ، قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَفْتَعِلُ الْحَدِيثَ، كَانَ رَجُلًا صَالِحًا. وَكَذَّبَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ عَنْهُ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ لِيُرَقِّقَ بِهِ قُلُوبَ النَّاسِ. وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا يَقْتَاتُ الْبَاقِلَاءَ الصِّرْفَ، وَحِينَ مَاتَ أُغْلِقَتْ أَسْوَاقُ بَغْدَادَ وَحَضَرَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ حُمِلَ فِي زَوْرَقٍ إِلَى الْبَصْرَةِ فَدُفِنَ بِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَأَحْمَدُ بْنُ مُلَاعِبٍ، رَوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً دَيِّنًا عَالِمًا فَاضِلًا، انْتَشَرَ بِهِ عِلْمٌ كَثِيرٌ مِنَ الْحَدِيثِ.

وَأَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّكَّرِيُّ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ.
وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ، أَبُو يَعْقُوبَ النَّيْسَابُورِيُّ، كَانَ مِنْ أَخِصَّاءِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَعِنْدَهُ اخْتَفَى فِي زَمَنِ الْمِحْنَةِ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ التَّمِيمِيُّ الْعَطَّارُ الْمَوْصِلِيُّ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: كَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ مُعَدَّلًا عِنْدَ الْحُكَّامِ. وَيَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ:
صَاحِبُ " السُّنَنِ "، وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ بَشِيرِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِمْرَانَ، أَبُو دَاوُدَ الْأَزْدِيُّ السِّجِسْتَانِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الرَّحَّالِينَ الْجَوَّالِينَ فِي الْآفَاقِ وَالْأَقَالِيمِ، جَمَعَ وَصَنَّفَ وَخَرَّجَ وَأَلَّفَ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ‍عَنْ مَشَايِخِ الْبُلْدَانِ فِي الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَهُ " السُّنَنُ " الْمَشْهُورَةُ الْمُتَدَاوَلَةُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، الَّتِي قَالَ فِيهَا أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ: يَكْفِي الْمُجْتَهِدَ مَعْرِفَتُهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ. وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ ; مِنْهُمُ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ

سَلْمَانَ النَّجَّادُ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى عَنْهُ فِي الدُّنْيَا. سَكَنَ أَبُو دَاوُدَ الْبَصْرَةَ وَقَدِمَ بَغْدَادَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَحَدَّثَ بِكِتَابِهِ " السُّنَنِ " بِهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ صَنَّفَهُ بِهَا، وَعَرَضَهُ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَاسْتَجَادَهُ وَاسْتَحْسَنَهُ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْقَارِيُّ الدِّينَوَرِيُّ، بِلَفْظِهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحُسَيْنِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْفَرْضِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ دَاسَهْ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ يَقُولُ: كَتَبْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، انْتَخَبْتُ مِنْهَا مَا ضَمَّنْتُهُ هَذَا الْكِتَابَ - يَعْنِي كِتَابَ " السُّنَنِ " - جَمَعْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَثَمَانِمِائَةِ حَدِيثٍ ; ذَكَرْتُ الصَّحِيحَ وَمَا يُشْبِهُهُ وَيُقَارِبُهُ، وَيَكْفِي الْإِنْسَانَ لِدِينِهِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ ; أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَالثَّانِي: قَوْلُهُمِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُلَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَرْضَى لِأَخِيهِ مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُالْحَلَّالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ وَحُدِّثْتُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الْخَلَّالَ قَالَ: أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ

الْإِمَامُ الْمُقَدَّمُ فِي زَمَانِهِ رَجُلٌ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ تَخْرِيجَ الْعُلُومِ وَبَصَرِهِ بِمَوَاضِعِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ، رَجُلٌ وَرِعٌ مُقَدَّمٌ، قَدْ سَمِعَ مِنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدِيثًا وَاحِدًا كَانَ أَبُو دَاوُدَ يَذْكُرُهُ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ الْأَصْبَهَانِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ صَدَقَةَ يَرْفَعُونَ مِنْ قَدْرِهِ وَيَذْكُرُونَهُ بِمَا لَا يَذْكُرُونَ أَحَدًا فِي زَمَانِهِ مِثْلَهُ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ الَّذِي كَتَبَهُ عَنْهُ وَسَمِعَهُ مِنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هُوَ مَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الْعُشَرَاءِ الدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْعَتِيرَةِ، فَحَسَّنَهَا ".
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَغَيْرُهُ: أُلِينَ لِأَبِي دَاوُدَ الْحَدِيثُ كَمَا أُلِينَ لِدَاودَ الْحَدِيدُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ أَحَدَ حُفَّاظِ الْإِسْلَامِ لِلْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ وَسَنَدِهِ، فِي أَعْلَى دَرَجَةِ النُّسُكِ وَالْعَفَافِ وَالصَّلَاحِ وَالْوَرَعِ، مِنْ فُرْسَانِ الْحَدِيثِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُشَبَّهُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِي هَدْيِهِ وَدَلِّهِ وَسَمْتِهِ، وَكَانَ عَلْقَمَةُ يُشْبِهُهُ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يُشْبِهُ عَلْقَمَةَ، وَكَانَ مَنْصُورٌ يُشْبِهُ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ سُفْيَانُ يُشْبِهُ مَنْصُورًا، وَكَانَ وَكِيعٌ يُشْبِهُ سُفْيَانَ، وَكَانَ أَحْمَدُ يُشْبِهُ وَكِيعًا، وَكَانَ أَبُو دَاوُدَ يُشْبِهُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: كَانَ لِأَبِي دَاوُدَ كُمٌّ وَاسِعٌ وَكُمٌّ ضَيَّقٌ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا يَرْحَمُكَ اللَّهُ ؟ فَقَالَ: هَذَا الْوَاسِعُ لِلْكُتُبِ، وَالْآخَرُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَقَدْ كَانَ مَوْلِدُ أَبِي دَاوُدَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ; عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ قَبْرِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي كتَابِنَا " التَّكْمِيلِ "، وَذَكَرْنَا ثَنَاءَ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو الْعَنْبَسِ الصَّيْمَرِيُّ الشَّاعِرُ، كَانَ مُجِيدًا فِي شِعْرِهِ، أَدِيبًا، كَثِيرَ الْمُلَحِ، وَكَانَ هَجَّاءً، وَمِنْ جَيِّدِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
كَمْ مَرِيضٌ قَدْ عَاشَ مِنْ بَعْدِ يَأْسٍ بَعْدَ مَوْتِ الطَّبِيبِ وَالْعُوَّادِ قَدْ يُصَادُ الْقَطَا فَيَنْجُو سَلِيمًا
وَيَحُلُّ الْقَضَاءُ بِالصَّيَّادِ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا أُعِيدَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ إِلَى شُرْطَةِ بَغْدَادَ وَكُتِبَ اسْمُهُ عَلَى الْفُرُشِ وَالْمَقَاعِدِ وَالسُّتُورِ، ثُمَّ أُسْقِطَ اسْمُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، وَعُزِلَ عَنْ ذَلِكَ وَوَلِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ.
وَفِيهَا وَلَّى الْمُوَفَّقُ ابْنَ أَبِي السَّاجِ نِيَابَةَ أَذْرَبِيجَانَ. وَفِيهَا قَصَدَ هَارُونُ الشَّارِي الْخَارِجِيُّ مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ فَنَزَلَ شَرْقِيَّ دِجْلَتِهَا، فَحَاصَرَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَشْرَافُ أَهْلِهَا فَاسْتَأْمَنُوهُ فَأَمَّنَهُمْ، وَرَجَعَ عَنْهُمْ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبَّاسِيُّ أَمِيرُ الْحَرَمَيْنِ وَالطَّائِفِ، وَلَمَّا رَجَعَ حُجَّاجُ الْيَمَنِ نَزَلُوا فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ، فَجَاءَهُمْ سَيْلٌ فَلَمْ يَشْعُرُوا بِهِ حَتَّى غَرَّقَهُمْ كُلَّهُمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ " وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ "، أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْفَرَجَ تَلٌّ فِي أَرْضِ الْبَصْرَةِ يُعْرَفُ بِتَلِّ بَنِيَ شَقِيقٍ عَنْ سَبْعَةِ أَقْبُرٍ فِي مِثْلِ الْحَوْضِ، وَفِيهِ سَبْعَةٌ، أَبْدَانُهُمْ صَحِيحَةٌ وَأَكْفَانُهُمْ، يَفُوحُ مِنْهُمْ رِيحُ الْمِسْكِ،

أَحَدُهُمْ شَابٌّ لَهُ جُمَّةٌ وَعَلَى شَفَتَيْهِ بَلَلٌ كَأَنَّهُ قَدْ شَرِبَ مَاءً، وَكَأَنَّ عَيْنَيْهِ مُكَحَّلَتَانِ، وَبِهِ ضَرْبَةٌ فِي خَاصِرَتِهِ، وَأَرَادَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا فَإِذَا هُوَ قَوِيٌ كَشَعْرِ الْحَيِّ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ حَازِمِ بْنِ أَبِي غَرْزَةَ، الْحَافِظُ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ " الْمَشْهُورِ، لَهُ حَدِيثٌ كَثِيرٌ وَرِوَايَةٌ عَالِيَةٌ.
وَبَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ.
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْدَلُسِيُّ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ، صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ " الْمُبَوَّبِ عَلَى الْفِقْهِ، رَوَى فِيهِ عَنْ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ صَحَابِيٍّ، وَقَدْ فَضَّلَهُ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى " مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَعِنْدِي فِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ " مُسْنَدَ أَحْمَدَ " أَجْوَدُ مِنْهُ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ هُوَ بِبِلَادِهِمْ، وَلَا وَقَعَ لَهُمْ رِوَايَتُهُ، وَلَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَوَقَفَ عَلَى مَا فِيهِ لِمَا فَضَّلَ عَلَيْهِ مُسْنَدًا مِنَ الْمُسْنَدَاتِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَقِيٌّ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَحْمَدَ جَمِيعَ " الْمُسْنَدِ "، وَزَادَ عَلَيْهِ، كَمَا قَدْ يَسَّرَ اللَّهُ مِنَ الزِّيَادَاتِ الَّتِي أَلْحَقْنَاهَا بِ " مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ رَحَلَ بَقِيٌّ إِلَى الْعِرَاقِ، فَسَمِعَ مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِالْعِرَاقِ

وَغَيْرِهَا، يَزِيدُونَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ بِأَرْبَعَةٍ وَثَمَانِينَ شَيْخًا، وَلَهُ تَصَانِيفُ أُخَرُ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا عَابِدًا، زَاهِدًا، مُجَابَ الدَّعْوَةِ ; ذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنِي قَدْ أَسَرَتْهُ الْإِفْرِنْجُ، وَإِنِّي لَا أَنَامُ اللَّيْلَ مِنْ شَوْقِي إِلَيْهِ، وَلِي دُوَيْرَةٌ أُرِيدُ أَنْ أَبِيعَهَا لِأَسْتَفِكَّهُ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَسِيرَ إِلَى أَحَدٍ يَأْخُذُهَا لِأَسْعَى فِي فِكَاكِهِ، فَلَيْسَ لِي لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، وَلَا صَبْرٌ وَلَا قَرَارٌ. فَقَالَ: نَعَمْ، انْصَرِفِي حَتَّى نَنْظُرَ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَطْرَقَ الشَّيْخُ وَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ يَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لِوَلَدِهَا بِالْخَلَاصِ، فَذَهَبَتِ الْمَرْأَةُ، فَمَا كَانَ إِلَّا عَنْ قَلِيلٍ حَتَّى جَاءَتْ وَابْنُهَا مَعَهَا، فَقَالَتِ: اسْمَعْ خَبَرَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ أَمْرُكَ ؟ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ فِيمَنْ يَخْدُمُ الْمَلِكَ، وَنَحْنُ فِي الْقُيُودِ، فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ أَمْشِي إِذْ سَقَطَ الْقَيْدُ مِنْ رِجْلِي، فَأَقْبَلَ الْمُوَكِّلُ بِنَا فَشَتَمَنِي، وَقَالَ: فَكَكْتَ الْقَيْدَ مِنْ رِجْلَيْكَ ؟ فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ وَلَكِنَّهُ سَقَطَ وَلَمْ أَشْعُرْ. فَجَاءُوا بِالْحَدَّادِ فَأَعَادَهُ وَشَدَّ مِسْمَارَهُ وَأَيَّدَهُ، ثُمَّ قُمْتُ فَسَقَطَ أَيْضًا، فَأَعَادُوهُ وَأَكَّدُوهُ، فَسَقَطَ أَيْضًا، فَسَأَلُوا رُهْبَانَهُمْ فَقَالُوا: لَهُ وَالِدَةٌ ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالُوا: إِنَّهُ قَدِ اسْتُجِيبَ دُعَاؤُهَا، أَطْلِقُوهُ. فَأَطْلَقُونِي وَخَفَرُونِي حَتَّى وَصَلْتُ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ. فَسَأَلَهُ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ عَنِ السَّاعَةِ الَّتِي سَقَطَ فِيهَا الْقَيْدُ مِنْ رِجْلَيْهِ، فَإِذَا هِيَ السَّاعَةُ الَّتِي دَعَا فِيهَا اللَّهَ لَهُ.
صَاعِدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْكَاتِبُ، كَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ

أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ "، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ "، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ تِيهٌ وَحُمْقٌ، وَقَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ.
ابْنُ قُتَيْبَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ، أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، أَحَدُ الْعُلَمَاءِ وَالْأُدَبَاءِ وَالْحُفَّاظِ الْأَذْكِيَاءِ رَوَى عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْمُفِيدَةُ الْمَشْهُورَةُ الْأَنِيقَةُ ; كَ: " غَرِيبِ الْقُرْآنِ " وَ " مُشْكِلِهِ " وَ " الْمَعَارِفِ "، وَ " أَدَبِ الْكَاتِبِ "، وَ " عُيُونِ الْأَخْبَارِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ ثِقَةً نَبِيلًا جَلِيلًا مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَكَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَتَّهِمُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَنْزِلِهِ شَيْءٌ مِنْ تَصَانِيفِهِ، وَكَانَ سَبَبَ وَفَاتِهِ أَنَّهُ أَكَلَ لُقْمَةً مِنْ هَرِيسَةٍ فَإِذَا هِيَ حَارَّةٌ، فَصَاحَ صَيْحَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ، ثُمَّ أَفَاقَ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَتَشَهَّدُ إِلَى أَنْ مَاتَ وَقْتَ السَّحَرِ، أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو قِلَابَةَ الرَّقَاشِيُّ، أَحَدُ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ، وَلَكِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ لَقَبُ: أَبُو قِلَابَةَ. سَمِعَ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ وَرَوْحَ بْنَ عُبَادَةَ، وَأَبَا دَاوُدَ الطَّيَالِسِيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ صَدُوقًا عَابِدًا، يُصَلِّي فِي

كُلِّ يَوْمٍ أَرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ، وَرَوَى مِنْ حِفْظِهِ سِتِّينَ أَلْفَ حَدِيثٍ، غَلَطَ فِي بَعْضِهَا لَا عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْعَوَّامِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَأَبُو الرَّدَّادِ الْمُؤَذِّنُ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الرَّدَّادِ، الْمُؤَذِّنُ صَاحِبُ الْمِقْيَاسِ بِمِصْرَ، الَّذِي هُوَ مُسَلَّمٌ إِلَيْهِ وَإِلَى ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا. قَالَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ ".

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَطَبَ يَازْمَانُ نَائِبُ طَرَسُوسَ لِخُمَارَوَيْهِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ هَادَاهُ بِذَهَبٍ كَثِيرٍ وَتُحَفٍ هَائِلَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا قَدِمَ قَائِدٌ عَظِيمٌ مِنْ أَصْحَابِ خُمَارَوَيْهِ إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا وَلِيَ الْمَظَالِمَ بِبَغْدَادَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ وَلَوْ عِنْدَ الْأَمِيرِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ، أَوْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فَلْيَحْضُرْ.
وَسَارَ فِي النَّاسِ سِيرَةً حَسَنَةً، وَأَظْهَرَ صَرَامَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَاشِمِيُّ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي الْعَنْبَسِ أَبُو إِسْحَاقَ الْكُوفِيُّ قَاضِي بَغْدَادَ بَعْدَ ابْنِ سَمَاعَةَ سَمِعَ يَعْلَى بْنَ عُبَيْدٍ وَغَيْرَهُ، وَحَدَّثَ عَنْهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُ. تُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا دَيِّنًا صَالِحًا.

أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى.
أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ أَحَدُ مَشَاهِيرِ الصُّوفِيَّةِ بِالْعِبَادَةِ وَالْمُجَاهَدَةِ وَالْوَرَعِ وَالْمُرَاقَبَةِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي ذَلِكَ، وَلَهُ كَرَامَاتٌ وَأَحْوَالٌ وَصَبْرٌ عَلَى الشَّدَائِدِ وَضِيقِ الْحَالِ. وَرَوَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَشَّارٍ صَاحِبِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ.
وَمِنْ جَيِّدِ كَلَامِهِ قَوْلُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِذَا بَكَتْ أَعْيُنُ الْخَائِفِينَ، فَقَدْ كَاتَبُوا اللَّهَ بِدُمُوعِهِمْ. وَقَوْلُهُ: الْعَافِيَةُ تَسْتُرُ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ، فَإِذَا جَاءَتِ الْبَلْوَى تَبَيَّنَ عِنْدَهَا الرِّجَالُ. وَقَولُهُ: كُلُّ بَاطِنٍ يُخَالِفُهُ ظَاهِرٌ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَقَوْلُهُ: الِاشْتِغَالُ بِوَقْتٍ مَاضٍ تَضْيِيعُ وَقْتٍ حَاضِرٍ. وَقَوْلُهُ: ذُنُوبُ الْمُقَرَّبِينَ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ. وَقَالَ: الرِّضَا قَبْلَ الْقَضَاءِ تَفْوِيضٌ، وَالرِّضَا مَعَ الْقَضَاءِ تَسْلِيمٌ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا. فَقَالَ: يَا عَجَبًا لِمَنْ لَمْ يَرَ مُحْسِنًا غَيْرَ اللَّهِ، كَيْفَ لَا يَمِيلُ إِلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِ ؟ ! قُلْتُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَكِنَّ كَلَامَهُ عَلَيْهِ أَحْسَنُ.

وَقَالَ ابْنُهُ سَعِيدٌ: طَلَبْتُ مِنْ أَبِي دَانِقَ فِضَّةٍ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، اصْبِرْ فَلَوْ أَحَبَّ أَبُوكَ أَنْ يَرْكَبَ الْمُلُوكُ إِلَى بَابِهِ مَا تَأْبَّوْا عَلَيْهِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ قَالَ: أَصَابَنِي مَرَّةً جُوعٌ شَدِيدٌ فَهَمَمْتُ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ طَعَامًا، فَقُلْتُ: هَذَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ، فَهَمَمْتُ أَنْ أَسْأَلَهُ صَبْرًا، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ يَقُولُ:
وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مِنَّا قَرِيبٌ وَأَنَّا لَا نُضَيِّعُ مَنْ أَتَانَا وَيَسْأَلُنَا الْقِرَى جَهْدًا وَصَبْرًا
كَأَنَّا لَا نَرَاهُ وَلَا يَرَانَا
قَالَ: فَقُمْتُ وَمَشَيْتُ فَرَاسِخَ بِلَا زَادٍ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: الْمُحِبُّ يَتَعَلَّلُ إِلَى مَحْبُوبِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يَتَسَلَّى عَنْهُ بِشَيْءٍ، يَتَّبِعُ آثَارَهُ، وَلَا يَدَعُ اسْتِخْبَارَهُ، ثُمَّ أَنْشَدَ:
أُسَائِلُكُمْ عَنْهَا فَهَلْ مِنْ مُخْبِرٍ فَمَا لِي بِنُعْمَى بَعْدَ مَكَّتِنَا عِلْمُ
فَلَوْ كُنْتُ أَدْرِي أَيْنَ خَيَّمَ أَهْلُهَا وَأَيُّ بِلَادِ اللَّهِ إِذْ ظَعَنُوا أَمُّوا
إِذًا لَسَلَكْنَا مَسْلَكَ الرِّيحِ خَلْفَهَا وَلَوْ أَصْبَحَتْ نُعْمَى وَمِنْ دُونِهَا النَّجْمُ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.

عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانِ بْنِ دَلَّوَيْهِ بْنِ مُوسَى الطَّيَالِسِيُّ الْحَافِظُ، يُلَقَّبُ: زَغَاثَ، سَمِعَ عَفَّانَ وَأَبَا نُعَيْمٍ، وَعَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَوَثَّقَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
أَبُو حَاتِمِ الرَّازِيُّ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ مِهْرَانَ أَبُو حَاتِمٍ الّحَنْظَلِيُّ الرَّازِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ الْأَثْبَاتِ الْعَارِفِينَ بِعِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَهُوَ قَرِينُ أَبِي زَرْعَةَ، الرَّازِيِّ، تَغَمَّدَهُمَا اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَطَافَ الْأَقْطَارَ وَالْأَمْصَارَ، وَرَوَى عَنْ خَلْقٍ مِنَ الْكِبَارِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَهَمَا أَكْبَرُ مِنْهُ، وَقِدَمَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِهَا، وَرَوَى عَنْهُ مِنْ أَهْلِهَا إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ لِابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: يَا بُنَيَّ، مَشِيتُ عَلَى قَدَمَيَّ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ فَرْسَخٍ. وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَأَنَّهُ مَكَثَ ثَلَاثًا لَا يَأْكُلُ شَيْئًا حَتَّى اسْتَقْرَضَ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ نِصْفَ دِينَارٍ. وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ.

وَكَانَ يَتَحَدَّى مَنْ حَضَرَ عِنْدَهُ مِنَ الْحُفَّاظِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَقُولُ: مَنْ أَغْرَبَ عَلَيَّ بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ صَحِيحٍ فَلَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ أَتَصَدَّقُ بِهِ. قَالَ: وَمُرَادِي أَنْ أَسْمَعَ مَا لَيْسَ عِنْدِي، فَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ.
كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي حَاتِمٍ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ الْحَسَنِ أَبُو جَعْفَرٍ الْكُوفِيُّ الْخَزَّازُ الْمَعْرُوفُ بِالْحُنَيْنِيِّ، لَهُ مُسْنَدٌ كَبِيرٌ، رَوَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، وَالْقَعْنَبِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ السَّمَّاكِ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا.
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَزَّازُ، سَمِعَ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِائَةِ شَيْخٍ، وَلَكِنْ لَمْ يُحَدِّثْ إِلَّا بِالْيَسِيرِ، وَتُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَثَمَّ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدَانَ الْبَزَّازُ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدَانَ النَّحْوِيُّ مَشْهُورٌ. تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.

قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ ": وَتُوُفِّيَ فِيهَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ جُوَانَ الْإِمَامُ الْفَسَوِيُّ، وَكَانَ يَتَشَيَّعُ. وَيَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مَعْقِلٍ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمْ، وَالِدُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ الْأَصَمِّ. عُرَيْبُ الْمُغَنِّيَةُ الْمَأْمُونِيَّةُ، قِيلَ: إِنَّهَا ابْنَةُ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى الْبَرْمَكِيِّ. فَأَمَّا
يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ جُوَانَ.
فَهُوَ أَبُو يُوسُفَ بْنُ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْفَارِسِيُّ الْفَسَوِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَرَوَى عَنْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ شَيْخٍ مِنَ الثِّقَاتِ ; مِنْهُمْ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، وَدُحَيْمٌ، وَأَبُو الْجُمَاهِرِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّونَ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو عَاصِمٍ، وَمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، وَالْقَعْنَبِيُّ. وَرَوَى عَنْهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، وَابْنُ خِرَاشٍ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَأَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ، وَصَنَّفَ كِتَابَ " التَّارِيخِ وَالْمَعْرِفَةِ "، وَغَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمُفِيدَةِ النَّافِعَةِ، وَقَدْ رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى الْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ، وَتَغَرَّبَ عَنْ وَطَنِهِ فِي ذَلِكَ نَحْوَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ فِي اللَّيْلِ عَلَى ضَوْءِ السِّرَاجِ فِي زَمَنِ الرِّحْلَةِ، فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ إِذْ وَقَعَ شَيْءٌ عَلَى بَصَرِي فَلَمْ أُبْصِرْ مَعَهُ السِّرَاجَ، فَجَعَلْتُ أَبْكِي

عَلَى مَا فَاتَنِي مِنْ ذَهَابِ بَصَرِي، وَمَا يَفُوتُنِي بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ كِتَابَةِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْغُرْبَةِ، ثُمَّ غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ. فَقَالَ: مَا لَكَ ؟ فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْغُرْبَةِ، وَمَا فَاتَنِي مِنْ كِتَابَةِ السُّنَّةِ. فَقَالَ: " ادْنُ مِنِّي " فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى عَيْنِي، وَجَعَلَ كَأَنَّهُ يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ فَأَبْصَرْتُ وَجَلَسْتُ أُسَبِّحُ اللَّهَ.
وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، وَالْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ وَقَالَ: هُوَ إِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِفَارِسَ، وَقَدِمَ نَيْسَابُورَ وَسَمِعَ مِنْهُ مَشَايِخُنَا، وَقَدْ نَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى التَّشَيُّعِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ يَعْقُوبَ بْنَ اللَّيْثِ صَاحِبَ فَارِسَ بَلَغَهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَقَالَ لَهُ وَزِيرُهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ فِي شَيْخِنَا عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ السِّجْزِيِّ، إِنَّمَا يَتَكَلَّمُ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الصَّحَابِيِّ. فَقَالَ: دَعُوهُ مَا لِي وَلِلصَّحَابَةِ، إِنِّي إِنَّمَا حَسِبْتُهُ يَتَكَلَّمُ فِي شَيْخِنَا عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ السِّجْزِيِّ.
قُلْتُ: وَمَا أَظُنُّ هَذَا صَحِيحًا عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، فَإِنَّهُ إِمَامٌ مُحَدِّثٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ قَبْلَ أَبِي حَاتِمٍ بِشَهْرٍ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِالْبَصْرَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي

وَأَمَرَنِي أَنَّ أُمْلِيَ الْحَدِيثَ فِي السَّمَاءِ كَمَا كُنْتُ أُمْلِيهِ فِي الْأَرْضِ، فَجَلَسْتُ لِلْإِمْلَاءِ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَجَلَسَ حَوْلِي جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ; مِنْهُمْ جِبْرِيلُ يَكْتُبُونَ مَا أُمْلِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ بِأَقْلَامِ الذَّهَبِ.
وَأَمَّا عُرَيْبُ الْمَأْمُونِيَّةُ.
فَقَدْ تَرْجَمَهَا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " وَحَكَى قَوْلًا لِبَعْضِهِمْ أَنَّهَا ابْنَةُ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ الْبَرْمَكِيِّ، سُرِقَتْ وَهِيَ صَغِيرَةٌ عِنْدَ ذَهَابِ دَوْلَةِ الْبَرَامِكَةِ، وَبِيعَتْ فَاشْتَرَاهَا الْمَأْمُونُ ابْنُ الرَّشِيدِ، ثُمَّ رَوَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ امْرَأَةً قَطُّ أَحْسَنَ وَجْهًا، وَأَدَبًا وَغِنَاءً وَضَرْبًا وَشِعْرًا وَلَعِبًا بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ مِنْهَا، وَمَا تَشَاءُ أَنْ تَجِدَ خَصْلَةً حَسَنَةً طَرِيفَةً بَارِعَةً فِي امْرَأَةٍ إِلَّا وَجَدْتَهَا فِيهَا. وَقَدْ كَانَتْ شَاعِرَةً مُطَبِّقَةً فَصِيحَةً بَلِيغَةً، وَكَانَ الْمَأْمُونُ يَتَعَشَّقُهَا، ثُمَّ أَحَبَّهَا بَعْدَهُ الْمُعْتَصِمُ، وَكَانَتْ هِيَ تَتَعَشَّقُ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ، وَرُبَّمَا أَدْخَلَتْهُ إِلَيْهَا فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، قَبَّحَهَا اللَّهُ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهَا فِي " تَارِيخِهِ "، ثُمَّ تَعَشَّقَتْ صَالِحًا الْمُنْذِرِيَّ، وَتَزَوَّجَتْهُ سِرًّا، وَكَانَتْ تَقُولُ فِيهِ الشِّعْرَ، وَرُبَّمَا غَنَّتْهُ بَيْنَ يَدِيِ الْمُتَوَكِّلِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ فَيَمَنْ هُوَ، فَتَضْحَكُ جَوَارِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَتَقُولُ: يَا سَحَّاقَاتُ، هَذَا خَيْرٌ مِنْ عَمَلِكُنَّ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ شِعْرِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهَا لَمَّا

دَخَلَتْ عَلَى الْمُتَوَكِّلِ تَعُودُهُ مِنْ حُمَّى أَصَابَتْهُ فَقَالَتْ:
أَتَوْنِي فَقَالُوا بِالْخَلِيفَةِ عِلَّةٌ فَقُلْتُ وَنَارُ الشَّوْقِ تُوقَدُ فِي صَدْرِي
أَلَا لَيْتَ بِي حُمَّى الْخَلِيفَةِ جَعْفَرٍ فَكَانَتْ بِيَ الْحُمَّى وَكَانَ لَهُ أَجْرِي
كَفَى حُزْنًا إِنْ قِيلَ حُمَّ فَلَمْ أَمُتْ مِنَ الْحُزْنِ إِنِّي بَعْدَ هَذَا لَذُو صَبْرٍ
جُعِلْتُ فِدَاءً لِلْخَلِيفَةِ جَعْفَرٍ وَذَاكَ قَلِيلٌ لِلْخَلِيفَةِ مِنْ شُكْرِ
وَلَمَّا عُوفِيَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَغَنَّتْهُ مِنْ قِيلِهَا:
شُكْرًا لِأَنْعُمِ مَنْ عَافَاكَ مِنْ سَقَمِ دُمْتَ الْمُعَافَى مِنَ الْآلَامِ وَالسَّقَمِ
عَادَتْ بِنُورِكَ لِلْأَيَّامِ بَهْجَتُهَا وَاهْتَزَّ نَبْتُ رِيَاضِ الْجُودِ وَالْكَرَمِ
مَا قَامَ للدِّينِ بَعْدَ الْمُصْطَفَى مَلِكٌ أَعَفُّ مِنْكَ وَلَا أَرْعَى عَلَى الذِّمَمِ
فَعَمَّرَ اللَّهُ فِينَا جَعْفَرًا وَنَفَى بِنُورِ سُنَّتِهِ عَنَّا دُجَى الظُّلَمِ
وَلَهَا فِي عَافِيَتِهِ أَيْضًا:
حَمِدْنَا الَّذِي عَافَى الْخَلِيفَةَ جَعْفَرًا عَلَى رُغْمِ أَشْيَاخِ الضَّلَالَةِ وَالْكُفْرِ
وَمَا كَانَ إِلَّا مِثْلَ بَدْرٍ أَصَابَهُ كُسُوفٌ قَلِيلٌ ثُمَّ أَجْلَى عَنِ الْبَدْرِ

سَلَامَتُهُ لِلدِّينِ عِزٌّ وَقُوَّةٌ وَعِلَّتُهُ لِلدِّينِ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ
مَرِضْتَ فَأَمْرَضْتَ الْبَرِيَّةَ كُلَّهَا وَأَظْلَمَتِ الْأَمْصَارُ مِنْ شِدَّةِ النَّعْرِ
فَلَمَّا اسْتَبَانَ النَّاسُ مِنْكَ إِفَاقَةً أَفَاقُوا وَكَانُوا كَالنِّيَامِ عَلَى الْجَمْرِ
سَلَامَةُ دُنْيَانَا سَلَامَةُ جَعْفَرٍ فَدَامَ مُعَافًى سَالِمًا آخِرَ الدَّهْرِ
إِمَامٌ يَعُمُّ النَّاسَ بِالْفَضْلِ وَالْتُّقَى قَرِيبًا مِنَ التَّقْوَى بَعِيدًا مِنَ الْوِزْرِ
وَلَهَا مِنَ الْأَشْعَارِ الرَّائِقَةِ الْفَائِقَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: بَلَغَنِي أَنَّ مَوْلِدَهَا فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَتْ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، وَلَهَا سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ طَلَعَ نَجْمٌ ذُو جُمَّةٍ، ثُمَّ صَارَتِ الْجُمَّةُ ذُؤَابَةً. قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَارَ مَاءُ النِّيلِ وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ وَلَا بَلَغَنَا فِي الْأَخْبَارِ السَّالِفَةِ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِمِصْرَ بِسَبَبِ ذَلِكَ جِدًّا. قَالَ: وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ بِالْوِزَارَةِ. وَقَالَ: فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا قَدِمَ الْمُوَفَّقُ أَبُو أَحْمَدَ مِنَ الْغَزْوِ فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ إِلَى النَّهْرَوَانِ فَدَخَلَ بَغْدَادَ وَهُوَ مَرِيضٌ بِالنِّقْرِسِ، فَاسْتَمَرَّ فِي دَارِهِ فِي أَوَائِلِ صَفَرٍ، وَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ كَمَا سَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَحَرَّكَتِ الْقَرَامِطَةُ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، وَهُمْ فِرْقَةٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ الْمَلَاحِدَةِ أَتْبَاعِ الْفَلَاسِفَةِ مِنَ الْفُرْسِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ نُبُوَّةَ زَرَادِشْتَ وَمَزْدَكَ، وَكَانَا يُبِيحَانِ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ إِلَى بَاطِلٍ، وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُونَ مِنْ جِهَةِ الرَّافِضَةِ، لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ النَّاسِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ عُقُولًا، وَيُقَالُ لَهُمُ: الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ ; لِانْتِسَابِهِمْ إِلَى إِسْمَاعِيلَ الْأَعْرَجِ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ. وَيُقَالُ لَهُمُ: الْقَرَامِطَةُ، قِيلَ: نِسْبَةً إِلَى قِرْمِطِ بْنِ الْأَشْعَثِ الْبَقَّارِ. وَقِيلَ: إِنَّ رَئِيسَهُمْ كَانَ فِي أَوَّلِ دَعْوَتِهِ يَأْمُرُ مَنِ اتَّبَعَهُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِيَشْغَلَهُمْ بِذَلِكَ عَمَّا يُرِيدُ تَدْبِيرَهُ مِنَ الْمَكِيدَةِ. ثُمَّ اتَّخَذَ نُقَبَاءَ اثْنَيْ عَشَرَ، وَأَسَّسَ لِأَتْبَاعِهِ دَعْوَةً وَمَسْلَكًا، وَدَعَا إِلَى إِمَامٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ.

وَيُقَالُ لَهُمُ: الْبَاطِنِيَّةُ ; لِأَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الرَّفْضَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ الْمَحْضَ. وَالْخُرَّمِيَّةُ وَالْبَابَكِيَّةُ، نِسْبَةً إِلَى بَابَكَ الْخُرَّمِيِّ الَّذِي ظَهَرَ فِي أَيَّامِ الْمُعْتَصِمِ فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ خَلْفَهُ الْجُيُوشَ حَتَّى جِيءَ بِهِ أَسِيرًا فَقَتَلَهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ. وَيُقَالُ لَهُمُ: الْمُحَمِّرَةُ ; نِسْبَةً إِلَى صَبْغِ الْحُمْرَةِ شِعَارًا، مُضَاهَاةً لِسَوَادِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَيُقَالُ لَهُمُ: التَّعْلِيمِيَّةُ ; نِسْبَةً إِلَى التَّعَلُّمِ مِنَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ، وَتَرْكِ الرَّأْيِ وَمُقْتَضَى الْعَقْلِ. وَيُقَالُ لَهُمُ: السَّبْعِيَّةُ ; نِسْبَةً إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ الْمُتَحَيِّزَةَ السَّيَّارَةَ مُدَبِّرَةٌ لِهَذَا الْعَالَمِ فِيمَا يَزْعُمُونَ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَهِيَ الْقَمَرُ فِي الْأُولَى، وَعُطَارِدُ فِي الثَّانِيَةِ، وَالزُّهْرَةُ فِي الثَّالِثَةِ، وَالشَّمْسُ فِي الرَّابِعَةِ، وَالْمِرِّيخُ فِي الْخَامِسَةِ، وَالْمُشْتَرِي فِي السَّادِسَةِ، وَزُحَلُ فِي السَّابِعَةِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْبَابَكِيَّةِ جَمَاعَةٌ يُقَالُ: إِنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ لَيْلَةً هُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، ثُمَّ يُطْفِئُونَ الْمِصْبَاحَ وَيَنْتَهِبُونَ النِّسَاءَ، فَمَنْ وَقَعَ فِي يَدِهِ امْرَأَةٌ حَلَّتْ لَهُ. وَيَقُولُونَ: هَذَا اصْطِيَادٌ مُبَاحٌ. لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَقَدْ بَسَطَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ تَارِيخِهِ الْمُسَمَّى بِالْمُنْتَظَمِ تَفْصِيلَ قَوْلِهِمْ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ الْمُتَكَلِّمُ الْمَشْهُورُ فِي كِتَابِهِ " هَتْكُ الْأَسْتَارِ وَكَشْفُ الْأَسْرَارِ " فِي الرَّدِّ عَلَى الْبَاطِنِيَّةِ، وَرَدَّ عَلَى كِتَابِهِمُ الَّذِي جَمَعَهُ بَعْضُ قُضَاتِهِمْ بِدِيَارِ مِصْرَ فِي أَيَّامِ الْفَاطِمِيِّينَ الَّذِي سَمَّاهُ " الْبَلَاغَ الْأَعْظَمَ وَالنَّامُوسَ الْأَكْبَرَ " جَعَلَهُ سِتَّ عَشْرَةَ دَرَجَةً، أَوَّلُ دَرَجَةٍ أَنْ يَدْعُوَ مَنْ يَجْتَمِعُ بِهِ أَوَّلًا - إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ - إِلَى الْقَوْلِ بِتَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ،

ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِذَا وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى تَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، ثُمَّ يَتَرَقَّى بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سَبِّهِمَا لِأَنَّهُمَا ظَلَمَا عَلِيًّا وَأَهْلَ الْبَيْتِ، ثُمَّ يَتَرَقَّى بِهِ إِلَى تَجْهِيلِ الْأُمَّةِ وَتَخْطِئَتِهَا فِي مُوَافَقَةِ أَكْثَرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي الْقَدْحِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ. وَقَدْ ذَكَرَ لِمُخَاطَبَتِهِ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُخَاطِبَهُ بِذَلِكَ شُبَهًا وَضَلَالَاتٍ، لَا تَرُوجُ إِلَّا عَلَى كُلِّ غَبِيٍّ جَاهِلٍ شَقِيٍّ. كَمَا قَالَ تَعَالَى وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [ الذَّارِيَاتِ: 7 - 9 ] أَيْ يَضِلُّ بِهِ مَنْ هُوَ ضَالٌّ. وَقَالَ تَعَالَى فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمَ [ الصَّافَّاتِ: 161 - 163 ] وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [ الْأَنْعَامِ: 112 - 113 ] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَمَضْمُونُهَا أَنَّ الْجَهْلَ وَالضَّلَالَ لَا يَنْقَادُ لَهَا إِلَّا شِرَارُ النَّاسِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
إِنْ هُوَ مُسْتِحْوِذًا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى أَضْعَفِ الْمَجَانِينِ
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ لَهُمْ مَقَامَاتٌ فِي الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالسَّخَافَةِ وَالرُّعُونَةِ مَا لَا يَنْبَغِي لِضَعِيفِ عَقْلٍ أَوْ دِينٍ أَوْ تَصَوُّرٍ سَمَاعُهُ، مِمَّا فَتَحَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ مِنَ الْأَبْوَابِ وَأَنْوَاعِ الْجَهَالَاتِ، وَرُبَّمَا أَفَادَ بَعْضُهُمْ إِبْلِيسَ أَشْيَاءَ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:

وَكُنْتُ امْرَأً مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى صَارَ إِبْلِيسُ مِنْ جُنْدِي
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ تَحَرَّكَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ وَتَفَاقَمَ الْحَالُ بِهِمْ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، حَتَّى آلَ الْحَالُ إِلَى أَنْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَسَفَكُوا فِيهِ دِمَاءَ الْحَجِيجِ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ الْمُكَرَّمَةِ وَكَسَرُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَاقْتَلَعُوهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى بِلَادِهِمْ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُمْ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَمَكَثَ غَائِبًا عَنْ مَوْضِعِهِ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَاتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ شَيْئَانِ ; أَحَدُهُمَا ظُهُورُ هَؤُلَاءِ، وَالثَّانِي مَوْتُ حُسَامِ الْإِسْلَامِ وَنَاصِرِ الدِّينِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ، تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَأَسْكَنَهُ بُحْبُوحَةَ جَنَّتِهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، لَكِنْ أَبْقَى اللَّهَ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ وَلَدَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ ابْنَ الْمُوَفَّقَ الْمُلَقَّبَ بِالْمُعْتَضِدِ. وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا فَاتِكًا كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ رَحِمَهُ اللَّهُ
هُوَ الْأَمِيرُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ الْمُوَفَّقُ بِاللَّهِ أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدٌ - طَلْحَةُ - بْنُ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، كَانَ مُوَلِدُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ أَخُوهُ الْمُعْتَمِدُ حِينَ صَارَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ قَدْ عَهِدَ إِلَيْهِ بِالْوِلَايَةِ بَعْدَ أَخِيهِ جَعْفَرٍ، وَلَقَّبَهُ الْمُوَفَّقَ بِاللَّهِ، ثُمَّ لَمَّا قَتَلَ صَاحِبَ الزَّنْجِ وَكَسَرَ جَيْشَهُ تَلَقَّبَ بِنَاصِرِ دِينِ اللَّهِ، وَصَارَ إِلَيْهِ الْعَقْدُ

وَالْحَلُّ وَالْوِلَايَةُ وَالْعَزْلُ، وَإِلَيْهِ يُجْبَى الْخَرَاجُ. وَكَانَ يُخْطَبُ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، فَيُقَالُ: اللَّهُمَّ أَصْلِحِ الْأَمِيرَ النَّاصِرَ لِدِينِ اللَّهِ أَبَا أَحْمَدَ الْمُوَفَّقَ بِاللَّهِ وَلِيَّ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ أَخَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ اتَّفَقَ مَوْتُهُ قَبْلَ أَخِيهِ الْمُعْتَمِدِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ غَزِيرَ الْعَقْلِ حَسَنَ التَّدْبِيرِ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا شُجَاعًا مِقْدَامًا رَئِيسًا، حَسَنَ الْمُحَادَثَةِ وَالْمُجَالَسَةِ عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ، يَجْلِسُ لِلْمَظَالِمِ وَعِنْدَهُ الْقُضَاةُ فَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَدَبِ وَالنَّسَبِ وَالْفِقْهِ وَسِيَاسَةِ الْمُلْكِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَهُ مَحَاسِنُ وَمَآثِرُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ أَصَابَهُ مَرَضُ النِّقْرِسِ فِي السَّفَرِ، ثُمَّ قَدِمَ إِلَى بَغْدَادَ وَهُوَ عَلِيلٌ فَاسْتَقَرَّ فِي دَارِهِ فِي أَوَائِلِ صَفَرٍ، وَقَدْ تَزَايَدَ بِهِ الْمَرَضُ وَتَوَرَّمَتْ رِجْلُهُ حَتَّى عَظُمَتْ جَدًّا، وَكَانَ يُوضَعُ عَلَيْهَا الْأَشْيَاءُ الْمُبَرِّدَةُ كَالثَّلْجِ وَنَحْوِهِ، وَكَانَ يَحْمِلُ سَرِيرَهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا بِالنَّوْبَةِ، عِشْرُونَ عِشْرُونَ. فَقَالَ لَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ: مَا أَظُنُّكُمْ إِلَّا قَدْ مَلِلْتُمْ مِنِّي فَيَا لَيْتَنِي كَوَاحِدٍ مِنْكُمْ آكُلُ كَمَا تَأْكُلُونَ، وَأَشْرَبُ كَمَا تَشْرَبُونَ وَأَرْقُدُ كَمَا تَرْقُدُونَ، فِي عَافِيَةٍ. وَقَالَ أَيْضًا: فِي دِيوَانِي مِائَةُ أَلْفِ مُرْتَزِقٍ لَيْسَ فِيهِمْ أَسْوَأُ حَالًا مِنِّي. ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْقَصْرِ الْحُسَيْنِيِّ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَهُ سَبْعٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً تَنْقُصُ شَهْرًا وَأَيَّامًا.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ، اجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ عَلَى أَخْذِ الْبَيْعَةِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ، فَبَايَعَ لَهُ الْمُعْتَمِدُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ بَعْدَ ابْنِهِ

الْمُفَوَّضِ وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ بَعْدَ الْمُفَوَّضِ. وَجَعَلَ إِلَيْهِ مَا كَانَ إِلَى أَبِيهِ مِنَ الْوِلَايَةِ وَالْعَزْلِ وَالْقَطْعِ وَالْوَصْلِ وَالْعَقْدِ وَالْحَلِّ، وَلُقِّبَ الْمُعْتَضِدَ بِاللَّهِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا أَيْضًا:
إِدْرِيسُ بْنُ سُلَيْمٍ الْفَقْعَسِيُّ الْمَوْصِلِيُّ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَكَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَالصَّلَاحِ. وَإِسْحَاقُ بْنُ كِنْدَاجَ نَائِبُ الْجَزِيرَةِ وَكَانَ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، وَقَامَ بِمَا كَانَ إِلَيْهِ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ. وَيَازَامَانُ نَائِبُ طَرَسُوسَ جَاءَهُ حَجَرُ مَنْجَنِيقٍ مِنْ بَلْدَةٍ كَانَ يُحَاصِرُهَا بِبِلَادِ الرُّومِ، فَمَاتَ مِنْهُ، وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِطَرَسُوسَ، فَوَلِيَ نِيَابَةَ الثَّغْرِ بَعْدَهُ أَحْمَدُ الْعُجَيْفِيُّ بِأَمْرِ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْ قَرِيبٍ بِابْنِ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ طُولُونَ. وَعَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَبَّحَهُ اللَّهُ. ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " أَنَّ هَذَا الشَّقِيَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ يُجَاهِدُونَ كَثِيرًا فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ وَالْمُسْلِمُونَ مُحَاصِرُونَ لِبَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، إِذْ نَظَرَ إِلَى امْرَأَةٍ فِي

ذَلِكَ الْحِصْنِ فَهَوِيَهَا، فَرَاسَلَهَا: وَمَا السَّبِيلُ إِلَيْكِ. فَقَالَتْ: أَنْ تَتَنَصَّرَ وَتَصْعَدَ إِلَيَّ، فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، فَمَا رَاعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا وَهُوَ عِنْدَهَا، فَاغْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ غَمًّا شَدِيدًا، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةً عَظِيمَةً، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ مَرُّوا عَلَيْهِ وَهُوَ مَعَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ الْحِصْنِ، فَقَالُوا لَهُ: يَا فُلَانُ مَا فَعَلَ قِرَاءَتُكَ ؟ مَا فَعَلَ عِلْمُكَ ؟ مَا فَعَلَ صِيَامُكَ وَصَلَاتُكَ ؟ فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنِّي أُنْسِيتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إِلَّا قَوْلَهُ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [ الْحِجْرِ: 2، 3 ].

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خُلِعَ جَعْفَرٌ الْمُفَوَّضُ مِنَ الْعَهْدِ، وَاسْتَقَلَّ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ الْمُعْتَمِدُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ الْمُوَفَّقِ، وَلُقِّبَ بِالْمُعْتَضِدِ، وَجُعِلَ إِلَيْهِ السَّلْطَنَةُ كَمَا كَانَ أَبُوهُ، وَخَطْبَ بِذَلِكَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ يُهَنِّئُ الْمُعْتَضِدَ:
لِيَهْنِكَ عَقْدٌ أَنْتَ فِيهِ الْمُقَدَّمُ حَبَاكَ بِهِ رَبٌّ بِفَضْلِكَ أَعْلَمُ فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَصْبَحَتْ وَالِيَ عَهْدِنَا
فَأَنْتَ غَدًا فِينَا الْإِمَامُ الْمُعَظَّمُ وَلَا زَالَ مَنْ وَالَاكَ فِينِا مُبَلَّغًا
مُنَاهُ وَمَنْ عَادَاكَ يَشْجَى وَيَنْدَمُ وَكَانَ عَمُودُ الدِّينِ فِيهِ تَأَوُّدٌ
فَعَادَ بِهَذَا الْعَهْدِ وَهْوَ مُقَوَّمُ وَأَصْبَحَ وَجْهُ الْمُلْكِ جَذْلَانَ ضَاحِكًا
يُضِيءُ لَنَا مِنْهُ الَّذِي كَانَ يُظْلِمُ فَدُونَكَ فَاشْدُدْ عَقْدَ مَا قَدْ حَوَيْتَهُ
فَإِنَّكَ دُونَ النَّاسِ فِيهِ الْمُحَكَّمُ
وَفِيهَا نُودِيَ بِبَغْدَادَ أَنْ لَا يُمَكَّنَ أَحَدٌ مِنَ الْقُصَّاصِ وَالطُّرُقِيَّةِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الطُّرُقَاتِ وَأَنْ لَا تُبَاعَ كُتُبُ الْكَلَامِ

وَالْفَلْسَفَةِ وَالْجَدَلِ بَيْنَ النَّاسِ، وَذَلِكَ بِهِمَّةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدِ سُلْطَانِ الْإِسْلَامِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ حُرُوبٌ بَيْنَ هَارُونَ الشَّارِي وَبَيْنَ بَنِي شَيْبَانَ فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ.
وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ لَيْلَةَ الْإِثْنَيْنِ لِتِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ.
هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ وَاسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ اسْتَمَرَّتْ أَيَّامُهُ فِي الْخِلَافَةِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَيَّامٍ وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ خَمْسِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ أَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَتَأَخَّرَ بَعْدَهُ أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ وَلَمْ يَكُنْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَدْبِيرِ الْخِلَافَةِ إِلَى الْمُوَفَّقِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَنَّ الْمُعْتَمِدَ طَلَبَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ:
أَلَيْسَ مِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ مِثْلِي يَرَى مَا قَلَّ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ
وَتُؤْخَذُ بِاسْمِهِ الدُّنْيَا جَمِيعًا وَمَا مِنْ ذَاكَ شَيْءٌ فِي يَدَيْهِ

إِلَيْهِ تُحْمَلُ الْأَمْوَالُ طُرًّا وَيُمْنَعُ بَعْضَ مَا يُجْبَى إِلَيْهِ
وَكَانَ أَوَّلَ خَلِيفَةٍ انْتَقَلَ مِنْ سَامَرَّا إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ مَا بُنِيَتْ سَامَرَّا، ثُمَّ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ، بَلْ جَعَلُوا دَارَ إِقَامَتِهِمْ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ سَبَبَ هَلَاكِهِ فِي مَا ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ، أَنَّهُ شَرِبَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ شَرَابًا كَثِيرًا وَتَعَشَّى عَشَاءً كَثِيرًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْقَصْرِ الْحَسَنِيِّ مِنْ بَغْدَادَ وَحِينَ مَاتَ أَحْضَرَ الْمُعْتَضِدُ الْقُضَاةَ وَالْأَعْيَانَ وَأَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، ثُمَّ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ثُمَّ حُمِلَ فَدُفِنَ بِسَامَرَّا، وَفِي صَبِيحَةِ الْعَزَاءِ بُويِعَ لِلْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ.
خِلَافَةُ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ وَرِجَالِهِمْ، وَكَانَتِ الْبَيْعَةُ لَهُ صَبِيحَةَ مَوْتِ الْمُعْتَمِدِ، وَذَلِكَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ - وَقَدْ كَانَ أَمْرُ الْخِلَافَةِ دَاثِرًا فَأَحْيَاهُ اللَّهُ بِهِمَّتِهِ وَعَدْلِهِ وَشَهَامَتِهِ وَصَرَامَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَاسْتَوْزَرَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ وَوَلَّى مَوْلَاهُ بَدْرًا الشُّرْطَةَ فِي بَغْدَادَ وَجَاءَتْهُ هَدَايَا عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، وَسَأَلَ مِنْهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ إِمْرَةَ خُرَاسَانَ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ وَاللِّوَاءِ، فَنَصَبَهُ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ فِي دَارِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَرَحًا وَسُرُورًا بِذَلِكَ، وَعَزَلَ رَافِعَ بْنَ هَرْثَمَةَ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ.
وَدَخَلَهَا عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ فَلَمْ يَزَلْ يَتَّبِعُ رَافِعًا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى قَتَلَهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ كَمَا سَيَأْتِي وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمُعْتَضِدِ وَصَفَتْ إِمْرَةُ خُرَاسَانَ لِعَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجَصَّاصِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِهَدَايَا عَظِيمَةٍ مِنْ خُمَارَوَيْهِ صَاحِبِ مِصْرَ إِلَى الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ، فَتَزَوَّجَ الْمُعْتَضِدُ بِابْنَةِ خُمَارَوَيْهِ فَجَهَّزَهَا أَبُوهَا بِجِهَازٍ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْهَوَاوِينِ الذَّهَبِ مِائَةُ هَاوُنَ، فَحُمِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى بَغْدَادَ صُحْبَةَ الْعَرُوسِ وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَمَلَّكَ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الشَّيْخِ قَلْعَةَ مَارْدِينَ وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لِإِسْحَاقَ بْنِ كِنْدَاجَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبَّاسِيُّ وَهِيَ آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا بِالنَّاسِ، وَكَانَ يَحُجُّ بِالنَّاسِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَمِدُ، كَمَا تَقَدَّمَ تَرْجَمَتُهُ قَرِيبًا.
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ خَيْثَمَةَ صَاحِبُ التَّارِيخِ وَغَيْرِهِ، سَمِعَ أَبَا نُعَيْمٍ وَعَفَّانَ وَأَخَذَ عِلْمَ الْحَدِيثِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَعِلْمَ النَّسَبِ عَنْ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ وَأَيَّامَ النَّاسِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيِّ، وَأَخَذَ الْأَدَبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ الْجُمَحِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا ضَابِطًا مَشْهُورًا، وَفِي تَارِيخِهِ هَذَا فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ وَفَرَائِدُ غَزِيرَةٌ.

رَوَى عَنْهُ الْبَغَوِيُّ وَابْنُ صَاعِدٍ وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ وَابْنُ الْمُنَادِي، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَخَاقَانُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيُّ كَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ.
وَنَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَامَانَ، السَّامَانِيُّ أَحَدُ مُلُوكِهِمُ الْأَكَابِرِ، وَقَدْ كَانُوا مِنْ سُلَالَةِ الْأَكَاسِرَةِ كَانَ جَدُّهُمْ سَامَانُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَأَصْلُهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ بَهْرَامَ بْنِ أَزْدَشِيرَ بْنِ سَابُورَ ثُمَّ كَانَ ابْنُهُ أَسَدٌ مِنْ عُقَلَاءَ الرِّجَالِ وَخَلَّفَ نُوحًا وَأَحْمَدَ وَيَحْيَى وَإِلْيَاسَ وَقَدْ وَلِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مَمْلَكَةَ نَاحِيَةٍ مِنَ النَّوَاحِي وَهُمُ السَّامَانِيَّةُ.
الْبَلَاذُرِيُّ الْمُؤَرِّخُ.
أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ جَابِرِ بْنِ دَاوُدَ أَبُو الْحَسَنِ، وَيُقَالُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَيُقَالُ أَبُو بَكْرٍ - الْبَغْدَادِيُّ الْبَلَاذُرِيُّ صَاحِبُ التَّارِيخِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ. سَمِعَ هِشَامَ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ وَأَبَا الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيَّ وَجَمَاعَةً وَعَنْهُ يَحْيَى بْنُ النَّدِيمِ وَأَحْمَدُ بْنُ عَمَّارٍ وَأَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ قَرْقَارَةَ الْأَزْدِيُّ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَانَ أَدِيبًا رَاوِيَةً، لَهُ كُتُبٌ جِيَادٌ، وَمَدَحَ الْمَأْمُونَ بِمَدَائِحَ، وَجَالَسَ الْمُتَوَكِّلَ، وَتُوُفِّيَ أَيَّامَ الْمُعْتَمِدِ وَوُسْوِسَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ.

وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْبَلَاذُرِيِّ قَالَ: قَالَ لِي مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ: قُلْ مِنَ الشِّعْرِ مَا يَبْقَى لَكَ ذِكْرُهُ، وَيَزُولُ عَنْكَ إِثْمُهُ. فَقُلْتُ:
اسْتَعْدِّي يَا نَفْسُ لِلْمَوْتِ وَاسْعَيْ لِنَجَاةٍ فَالْحَازِمُ الْمُسْتَعِدُّ قَدْ تَبَيَّنْتِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَيِّ
خُلُودٌ وَلَا مِنَ الْمَوْتِ بُدُّ إِنَّمَا أَنْتِ مُسْتَعِيرَةٌ مَا سَوْ
فَ تَرُدِّينَ وَالْعَوَارِي تُرَدُّ أَنْتِ تَسْهَيْنَ وَالْحَوَادِثُ لَا تَسْ
هُو وَتَلْهِينَ وَالْمَنَايَا تَجِدُّ أَيُّ مُلْكٍ فِي الْأَرْضِ أَوْ أَيُّ حَظٍّ
لِامْرِئٍ حَظُّهُ مِنَ الْأَرْضِ لَحْدُ لَا تُرَجِّي الْبَقَاءَ فِي مَعْدِنِ الْمَوُ
تِ وَدَارٍ حُتُوفُهَا لَكِ وِرْدُ كَيْفَ يَهْوَى امْرُؤٌ لَذَاذَةَ أَيَّا
مٍ عَلَيْهِ الْأَنْفَاسُ فِيْهَا تُعَدُّ
التِّرْمِذِيُّ.
وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ بْنِ مُوسَى بْنِ الضَّحَّاكِ. وَقِيلَ: مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ يَزِيدَ بْنِ سَوْرَةَ بْنِ السَّكَنِ. وَيُقَالُ: مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ بْنِ شَدَّادٍ أَبُو عِيسَى السُّلَمِيُّ التِّرْمِذِيُّ الضَّرِيرُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ وُلِدَ أَكْمَهَ. وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ فِي زَمَانِهِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمَشْهُورَةُ، مِنْهَا " الْجَامِعُ " وَ " الشَّمَائِلُ " وَ " أَسْمَاءُ الصَّحَابَةِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكِتَابُ " الْجَامِعِ " أَحَدُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا الْعُلَمَاءُ فِي سَائِرِ الْآفَاقِ، وَجَهَالَةُ ابْنِ حَزْمٍ لِأَبِي عِيسَى

حَيْثُ قَالَ فِي " مُحَلَّاهُ ": وَمَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ ؟ - لَا تَضُرُّهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَلَا تَضَعُ مِنْ قَدْرِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ تَحُطُّ مِنْ مَنْزِلَةِ ابْنِ حَزْمٍ عِنْدَ الْحُفَّاظِ.
وَكَيْفَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَشَايِخَهُ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ ". وَرَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ فِي غَيْرِ " الصَّحِيحِ "، وَالْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ الشَّاشِيُّ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ "، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْبُوبٍ الْمَحْبُوبِيُّ رَاوِي " الْجَامِعِ " عَنْهُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ شَكَّرُ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلِيلِيُّ الْقَزْوِينِيُّ فِي كِتَابِهِ " عُلُومِ الْحَدِيثِ ": مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ بْنِ شَدَّادٍ الْحَافِظُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَهُ كِتَابٌ فِي السُّنَنِ وَكَلَامٌ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ. رَوَى عَنْهُ ابْنُ مَحْبُوبٍ وَالْأَجِلَّاءُ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِالْأَمَانَةِ وَالْعِلْمِ، مَاتَ بَعْدَ الثَّمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ. كَذَا قَالَ فِي تَارِيخِ وَفَاتِهِ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْغُنْجَارُ فِي " تَارِيخِ بُخَارَى ": مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ بْنِ مُوسَى بْنِ الضَّحَّاكِ السُّلَمِيُّ التِّرْمِذِيُّ الْحَافِظُ دَخَلَ بُخَارَى وَحَدَّثَ بِهَا وَهُوَ صَاحِبُ " الْجَامِعِ " وَ " التَّارِيخِ " تُوُفِّيَ بِالتِّرْمِذِ لَيْلَةَ الْإِثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو حَاتِمِ

بْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، فَقَالَ: كَانَ مِمَّنْ جَمَعَ وَصَنَّفَ وَحَفِظَ وَذَاكَرَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كَتَبَ عَنِّي الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ:لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُجْنِبُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرِي وَغَيْرُكَ وَرَوَى ابْنُ نُقْطَةَ فِي تَقْيِيدِهِ عَنِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَنَّفْتُ هَذَا الْمُسْنَدَ الصَّحِيحَ فَعَرَضْتُهُ عَلَى عُلَمَاءِ الْحِجَازِ فَرَضُوا بِهِ وَعَرَضْتُهُ عَلَى عُلَمَاءِ الْعِرَاقِ فَرَضُوا بِهِ وَعَرَضْتُهُ عَلَى عُلَمَاءِ خُرَاسَانَ فَرَضُوا بِهِ وَمَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ هَذَا الْكِتَابُ فَكَأَنَّمَا فِي بَيْتِهِ نَبِيٌّ يَتَكَلَّمُ. قَالُوا: وَجُمْلَةُ " الْجَامِعِ " مِائَةٌ وَإِحْدَى وَخَمْسُونَ كِتَابًا وَكِتَابُ " الْعِلَلِ " صَنَّفَهُ بِسَمَرْقَنْدَ وَكَانَ فَرَاغُهُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى مِنْ سَنَةِ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ نُقْطَةَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيَّ سَمِعْتُ أَبَا إِسْمَاعِيلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: كِتَابُ التِّرْمِذِيِّ عِنْدِي أَفْيَدُ مِنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، قُلْتُ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى الْفَائِدَةِ مِنْهُمَا إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ، وَهَذَا كِتَابٌ قَدْ شَرَحَ أَحَادِيثَهُ وَبَيَّنَهَا، فَيَصِلُ إِلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمَا، قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْعَمَى بَعْدَ أَنْ رَحَلَ وَسَمِعَ وَكَتَبَ وَذَاكَرَ وَنَاظَرَ وَصَنَّفَ، ثُمَّ اتَّفَقَ مَوْتُهُ فِي بَلَدِهِ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا قَتَلَ الْمُعْتَضِدُ رَجُلًا مِنْ أُمَرَاءِ الزَّنْجِ كَانَ قَدْ لَجَأَ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ وَيُعْرَفُ بِشَيْلَمَةَ ذُكِرَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو إِلَى رَجُلٍ لَا يُعْرَفُ مَنْ هُوَ وَقَدْ أَفْسَدَ جَمَاعَةً فَاسْتَدْعَى بِهِ فَقَرَّرَهُ فَلَمْ يُقِرَّ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَا أَقْرَرْتُ بِهِ. فَأَمَرَ بِهِ فَشُدَّ عَلَى عَمُودِ خَيْمَةٍ ثُمَّ لَوَّحَهُ عَلَى النَّارِ حَتَّى تَسَاقَطَ جِلْدُهُ عَنْ عِظَامِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَصَلْبِهِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ. وَفِي أَوَّلِ صَفَرٍ رَكِبَ الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْمُوَفَّقِ مِنْ بَغْدَادَ قَاصِدًا بَنِي شَيْبَانَ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا عِنْدَ جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ تَوْبَاذُ. وَكَانَ مَعَ الْمُعْتَضِدِ حَادٍ جَيِّدُ الْحُدَاءِ فَقَالَ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي يَحْدُو لِلْمُعْتَضِدِ:
فَأَجْهَشْتُ لَلتَّوْبَاذِ حِينَ رَأَيْتُهُ وَهَلَّلْتُ لِلّرَّحْمَنِ حِينَ رَآنِي وَقُلْتُ لَهُ أَيْنَ الَّذِينَ عَهِدْتَهُمْ
بِظِلِّكَ فِي أَمْنٍ وَلِينِ زَمَانِي فَقَالَ مَضَوْا وَاسْتَخْلَفُونِي مَكَانَهُمْ
وَمَنْ ذَا الَّذِي يَبْقَى عَلَى الْحَدَثَانِ
قَالَ: فَتَغَرْغَرَتْ عَيْنَا الْمُعْتَضِدِ، وَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَبْقَى عَلَى الْحَدَثَانِ.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِتَسْهِيلِ عَقَبَةِ حُلْوَانَ فَغَرِمَ عَلَيْهَا عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَكَانَ النَّاسُ يَلْقَوْنَ مِنْهَا شِدَّةً عَظِيمَةً، وَفِيهَا ‍وَسَّعَ الْمُعْتَضِدُ جَامِعَ الْمَنْصُورِ بِإِضَافَةِ دَارِ الْمَنْصُورِ إِلَيْهِ، وَغَرِمَ عَلَيْهِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَتِ الدَّارُ قِبْلِيَّةً فَبَنَاهَا مَسْجِدًا عَلَى حِدَةٍ وَفَتَحَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ عَشَرَ بَابًا وَحَوَّلَ الْمِنْبَرَ وَالْمِحْرَابِ إِلَى الْمَسْجِدِ لِيَكُونَ فِي قِبْلَةِ الْجَامِعِ عَلَى عَادَتِهِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَزَادَ بَدْرٌ مَوْلَى الْمُعْتَضِدِ الْمُسْقِطَاتِ مِنْ قَصْرِ الْمَنْصُورِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْبَدْرِيَّةِ، فِي هَذَا الْوَقْتِ.

ذِكْرُ بِنَاءِ دَارِ الْخِلَافَةِ بِبَغْدَادَ
أَوَّلُ مَنْ بَنَاهَا الْمُعْتَضِدُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَكَنَهَا مِنَ الْخُلَفَاءِ إِلَى آخَرِ دَوْلَتِهِمْ وَكَانَتْ أَوَّلًا دَارًا لِلْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ تُعْرَفُ بِالْقَصْرِ الْحَسَنِيِّ ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِابْنَتِهِ بُورَانَ الَّتِي تَزَوَّجَ بِهَا الْمَأْمُونُ فَعَمَّرَتْ فِيهَا حَتَّى اسْتَنْزَلَهَا الْمُعْتَضِدُ عَنْهَا فَأَجَابَتْهُ إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ أَصْلَحَتْ مَا وَهَى مِنْهَا وَرَمَّمَتْ مَا كَانَ قَدْ شَعِثَ فِيهَا وَفَرَشَتْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْمَفَارِشِ، وَأَسْكَنَتْ فِيهِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْجَوَارِي وَالْخَدَمِ وَأَعَدَّتْ بِهَا الْمَآكِلَ الشَّهِيَّةَ وَمَا يَحْسُنُ ادِّخَارُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ثُمَّ أَرْسَلَتْ بِمَفَاتِيحِهَا إِلَى الْمُعْتَضِدِ، فَلَمَّا دَخَلَهَا أَذْهَلَهُ مَا رَأَى فِيهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ ثُمَّ وَسَّعَهَا وَزَادَ فِيهَا وَجَعَلَ لَهَا سُورًا حَوْلَهَا وَكَانَتْ قَدْرَ مَدِينَةِ

شِيرَازَ وَبَنَى الْمَيْدَانَ ثُمَّ بَنَى قَصْرًا مُشْرِفًا عَلَى دِجْلَةَ، ثُمَّ بَنَى الْمُكْتَفِي التَّاجَ، ثُمَّ كَانَتْ أَيَّامُ الْمُقْتَدِرِ فَزَادَ فِيهَا زِيَادَاتٍ عَظِيمَةً جِدًّا، وَتَأَخَّرَتْ آثَارُهَا إِلَى أَيَّامِ التَّتَارِ الَّذِينَ خَرَّبُوا بَغْدَادَ وَسَبَوْا مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْحَرَائِرِ الْآمِنَاتِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَالَّذِي يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ بُوَرَانُ سَلَّمَتْ دَارَ الْخِلَافَةِ إِلَى الْمُعْتَمِدِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَعِشْ إِلَى أَيَّامِ الْمُعْتَضِدِ.
وَفِيهَا زُلْزِلَتْ أَرْدَبِيلُ سِتَّ مَرَّاتٍ فَتَهَدَّمَتْ دُورُهَا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا مِائَةُ دَارٍ وَمَاتَ تَحْتَ الرَّدْمِ مِائَةُ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفًا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا غَارَتِ الْمِيَاهُ بِبِلَادِ الرَّيِّ وَطَبَرِسْتَانَ حَتَّى بِيعَ الْمَاءُ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ هُنَالِكَ جَدَّا.
وَفِيهَا غَزَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ بِلَادَ التُّرْكِ فَفَتَحَ مَدِينَةَ مَلِكِهِمْ وَأَسَرَ امْرَأَتَهُ الْخَاتُونَ وَأَبَاهُ وَنَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ أَسِيرٍ وَغَنِمَ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا، أَصَابَ الْفَارِسُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ إِسْحَاقَ الْعَبَّاسِيُّ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارِ بْنِ أَيُّوبَ.
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْمَشْهُورُ بِالْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ.

وَأَحْمَدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ مُوسَى بْنِ عِيسَى أَبُو جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيُّ.
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْحَنَفِيَّةِ، تَفَقَّهَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سَمَاعَةَ وَهُوَ أُسْتَاذُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ وَكَانَ ضَرِيرًا، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ وَغَيْرِهِ وَقَدِمَ مِصْرَ فَحَدَّثَ بِهَا مِنْ حَفِظِهِ وَتُوُفِّيَ بِهَا فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي " تَارِيخِ مِصْرَ ".
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ الْأَزْهَرِ.
أَبُو الْعَبَّاسِ الْبِرْتِيُّ الْقَاضِي بِوَاسِطَ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ " رَوَى عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَأَبِي سَلَمَةَ التَّبُوذَكِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَأَبِي الْوَلِيدِ وَخَلْقٍ وَكَانَ ثِقَةً ثَبَتًا تَفَقَّهَ بِأَبِي سُلَيْمَانَ الْجَوْزَجَانِيِّ صَاحِبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَقَدْ حَكَمَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ فِي أَيَّامِ الْمُعْتَزِّ فَلَمَّا كَانَ أَيَّامُ الْمُوَفَّقِ طَلَبَ مِنْهُ وَمِنْ إِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي أَنْ يُعْطِيَاهُ مَا بِأَيْدِيِهِمَا مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى الْمَوْقُوفَةِ فَبَادَرَ إِلَى ذَلِكَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي وَاسْتَنْظَرَهُ إِلَى ذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْبِرْتِيُّ هَذَا ثُمَّ بَادَرَ إِلَى كُلِّ مَنْ أَنِسَ مِنْهُ رُشْدًا مِنَ الْيَتَامَى فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ فَلَمَّا طُولِبَ بِهِ قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ دَفَعْتُهُ إِلَى أَهْلِهِ. فَعُزِلَ عَنِ الْقَضَاءِ وَلَزِمَ بَيْتَهُ وَتَعَبَّدَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ وَقَدْ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إِلَيْهِ وَصَافَحَهُ وَقَبَّلَ بَيْنِ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: مَرْحَبًا بِمَنْ عَمِلَ بِسُنَّتِي وَأَثَرِي.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَعْفَرُ بْنُ الْمُعْتَمِدِ وَكَانَ يُسَامِرُ أَبَاهُ وَرَاشِدٌ مَوْلَى الْمُوَفَّقِ بِمَدِينَةِ الدِّينَوَرِ فَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ مُصَنِّفُ الرَّدِّ عَلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ فِيمَا ابْتَدَعَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ لِمَذْهَبِ الْجَهْمِيَّةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ". وَمَسْرُورٌ الْخَادِمُ وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يُوسُفَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْحَسَنَةِ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ وَشَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ. وَهِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ الْمُحَدِّثُ الْمَشْهُورُ وَقَدْ وَقَعَ لَنَا مِنْ حَدِيثِهِ طَرَفٌ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ بِلَادَ الرُّومِ فَغَنِمُوا وَسَلِمُوا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَفِيهَا تَكَامَلَ غَوْرُ الْمِيَاهِ بِبِلَادِ الرَّيِّ وَطَبَرِسْتَانَ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ جِدًّا وَجَهَدَ النَّاسُ وَقَحَطُوا حَتَّى أَكَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ ابْنَهُ وَابْنَتَهُ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا حَاصَرَ الْمُعْتَضِدُ قَلْعَةَ مَارْدِينَ وَكَانَتْ بِيَدِ حَمْدَانَ بْنِ حَمْدُونَ فَفَتَحَهَا

قَسْرًا وَأَخَذَ مَا كَانَ فِيهَا ثُمَّ أَمَرَ بِتَخْرِيبِهَا فَهُدِّمَتْ، وَفِيهَا وَصَلَتْ قَطْرُ النَّدَى بِنْتُ خُمَارَوَيْهِ نَائِبِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى بَغْدَادَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ وَمَعَهَا مِنَ الْجِهَازِ شَيْءٌ عَظِيمٌ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ كَانَ فِي الْجِهَازِ مِائَةُ هَاوُنٍ مِنْ ذَهَبٍ غَيْرَ الْفِضَّةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْقُمَاشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى ثُمَّ بَعْدَ كُلِّ حِسَابٍ مَعَهَا مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ لِتَشْتَرِيَ بِهَا مِنَ الْعِرَاقِ مَا قَدْ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِمَّا لَا يَتَهَيَّأُ مِثْلُهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ وَوَلَّى وَلَدَهُ عَلِيًّا الْمُكْتَفِيَ نِيَابَةَ الرِّىِّ وَقَزْوِينَ وَزَنْجَانَ وَقُمَّ وَهَمَذَانَ وَالدِّينَوَرِ وَجَعَلَ عَلَى كِتَابَتِهِ أَحْمَدَ بْنَ الْأَصْبَغِ وَوَلَّى عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ نِيَابَةَ أَصْبَهَانَ وَنَهَاوَنْدَ وَالْكَرْخِ ثُمَّ عَادَ رَاجِعًا إِلَى بَغْدَادَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ إِسْحَاقَ، وَأَصَابَ الْحُجَّاجَ فِي الْأَجْفُرِ مَطَرٌ عَظِيمٌ فَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، كَانَ الرَّجُلُ يَغْرَقُ فِي الرَّمْلِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى خَلَاصِهِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ الْحَافِظُ صَاحِبُ كِتَابِ الْمُصَنَّفَاتِ، مِنْهَا فِي صِفِّينَ مُجَلَّدٌ كَبِيرٌ.
وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّائِيُّ بِالْكُوفَةِ فِي جُمَادَى مِنْهَا

وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ.
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجَبَلِيِّ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ يُفْتِي النَّاسَ بِالْحَدِيثِ وَكَانَ يُوصَفُ بِالْفَهْمِ وَالْحِفْظِ.
ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا الْقُرَشِيُّ.
مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ قَيْسٍ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا الْحَافِظُ الْمُصَنِّفُ الْمَشْهُورُ، لَهُ التَّصَانِيفُ النَّافِعَةُ الشَّائِعَةُ الذَّائِعَةُ فِي الرَّقَائِقِ وَغَيْرِهَا، تَزِيدُ عَلَى مِائَةِ مُصَنَّفٍ. سَمِعَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيَّ وَخَالِدَ بْنَ خِرَاشٍ وَعَلِيَّ بْنَ الْجَعْدِ وَخَلْقًا، وَكَانَ مُؤَدِّبًا لِلْمُعْتَضِدِ وَابْنِهِ عَلِيِّ ابْنِ الْمُعْتَضِدِ الْمُلَقَّبِ بِالْمُكْتَفِي، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا حَافِظًا ذَا مُرُوءَةٍ، لَكِنْ قَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةُ: إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَرْوِي عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْبَلْخِيُّ، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ كَذَّابًا يَضَعُ لِلْكَلَامِ إِسْنَادًا،

وَيَرْوِي أَحَادِيثَ مُنْكَرَةً، وَمِنْ شِعْرِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّهُ جَلَسَ أَصْحَابٌ لَهُ يَنْتَظِرُونَهُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَجَاءَ الْمَطَرُ فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ رُقْعَةً فِيهَا:
أَنَا مُشْتَاقٌ إِلَى رُؤْيَتِكُمْ يَا أَخِلَّائِي وَسَمْعِي وَالْبَصَرْ كَيْفَ أَنْسَاكُمْ وَقَلْبِي عِنْدَكُمْ
حَالَ فِيمَا بَيْنَنَا هَذَا الْمَطَرْ
تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً وَصَلَّى عَلَيْهِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي وَدُفِنَ بِالشُّونِيزِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ الشَّهِيرُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ابْنُ الْمَوَّازِ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، لَهُ اخْتِيَارَاتٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، فَمِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي خَامِسِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ دَخَلَ الْمُعْتَضِدُ بِزَوْجَتِهِ ابْنَةِ خُمَارَوَيْهِ وَكَانَ قُدُومُهَا بَغْدَادَ صُحْبَةَ عَمِّهَا وَصُحْبَةَ ابْنِ الْجَصَّاصِ وَكَانَ الْخَلِيفَةُ غَائِبًا وَكَانَ دُخُولُهَا إِلَيْهِ يَوْمًا مَشْهُودًا امْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الْمُرُورِ فِي الطُّرُقَاتِ.
وَفِيهَا نَهَى الْمُعْتَضِدُ النَّاسَ أَنْ يَعْمَلُوا فِي يَوْمِ النَّيرُوزِ مَا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ إِيقَادِ النِّيرَانِ وَصَبِّ الْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشَابِهَةِ لِأَفْعَالِ الْمَجُوسِ وَمَنَعَ مِنْ حَمْلِ هَدَايَا الْفَلَّاحِينَ إِلَى الْمُقْطَعِينِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَأَمَرَ بِتَأْخِيرِ ذَلِكَ إِلَى الْحَادِي عَشَرَ مِنْ حَزِيرَانَ، وَسُمِّيَ النَّيرُوزَ الْمُعْتَضِدِيَّ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْآفَاقِ وَسَائِرِ الْعُمَّالِ.
فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَاذَرَائِيُّ مِنْ دِمَشْقَ عَلَى الْبَرِيدِ فَأَخْبَرَ الْمُعْتَضِدَ بِاللَّهِ بِأَنَّ خُمَارَوَيْهِ ذَبَحَهُ بَعْضُ خُدَّامِهِ عَلَى فِرَاشِهِ وَوَلَّوْا بَعْدَهُ وَلَدَهُ جِيشًا ثُمَّ قَتَلُوهُ وَنَهَبُوا دَارَهُ ثُمَّ وَلَّوْا هَارُونَ بْنَ خُمَارَوَيْهِ وَقَدِ الْتَزَمَ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ تُحْمَلُ إِلَى بَابِ الْخَلِيفَةِ فَأَقَرَّهُ الْمُعْتَضِدُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْمُكْتَفِي عَزَلَهُ وَوَلَّى مَكَانَهُ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ الْوَاثِقِيَّ فَاصْطَفَى أَمْوَالَ آلِ طُولُونَ وَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِمْ.

وَفِيهَا أُطْلِقَ لُؤْلُؤَةُ غُلَامُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ مِنَ السِّجْنِ فَعَادَ إِلَى مِصْرَ فِي أَذَلِّ حَالٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ اللُّغَوِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ " النَّبَاتِ ".
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَبُو إِسْحَاقَ الْأَزْدِيُّ الْقَاضِي أَصْلُهُ مِنَ الْبَصْرَةِ وَنَشَأَ بِبَغْدَادَ وَسَمِعَ مُسْلِمَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ وَالْقَعْنَبِيَّ وَعَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ وَكَانَ حَافِظًا فَقِيهًا مَالِكِيًّا جَمَعَ وَصَنَّفَ وَشَرَحَ فِي الْمَذْهَبِ عِدَّةَ مُصَنَّفَاتٍ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فِي أَيَّامِ الْمُتَوَكِّلِ بَعْدَ سَوَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ عُزِلَ ثُمَّ وَلِيَ وَصَارَ مُقَدَّمَ الْقُضَاةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فُجَاءَةً لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ صَاحِبُ الْمُسْنَدِ الْمَشْهُورِ.
خُمَارَوَيْهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ صَاحِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، بُويِعَ

لَهُ بِمُلْكِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ أَبِيهِ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ فَقَصَدَهُ الْمُعْتَضِدُ بْنُ الْمُوَفَّقِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فِي أَرْضِ الرَّمْلَةِ وَقِيلَ فِي أَرْضِ الصَّعِيدِ، فَانْهَزَمَ خُمَارَوَيْهِ هَارِبًا عَلَى حِمَارٍ، وَكَرَّ جَيْشُهُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ، فَهَرَبَ كَمَا قَدَّمْنَا، ثُمَّ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ وَتَصَافَيَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَدَا الْخَدَمُ مِنَ الْخِصْيَانِ عَلَى خُمَارَوَيْهِ فَذَبَحُوهُ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُمْ بِجَوَارِيهِ، فَمَاتَ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ هَارُونُ بْنُ خُمَارَوَيْهِ وَهُوَ آخِرُ الطُّولُونِيَّةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِيمَنْ تُوَفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ عُثْمَانَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ أَبَا سَعِيدٍ الدَّارِمِيَّ الْفَقِيهَ الشَّافِعِيَّ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنِ الْبُوَيْطِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ.
الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ مُوسَى بْنِ زُهَيْرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ بْنِ بَاذَانَ مَلِكِ الْيَمَنِ. وَقَدْ أَسْلَمَ بَاذَانُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَبُو مُحَمَّدٍ الشَّعْرَانِيُّ الْأَدِيبُ الْفَقِيهُ الْعَابِدُ الْحَافِظُ الرَّحَّالُ تَلْمَذَ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ رَوَى عَنْهُ الْفَوَائِدَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَخَذَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَقَرَأَ عَلَى خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ الْبَزَّارِ وَتَعَلَّمَ اللُّغَةَ مِنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ وَكَانَ ثِقَةً كَبِيرَ الْقَدْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ خَلِّادٍ أَبُو الْعَيْنَاءِ الْبَصْرِيُّ الضَّرِيرُ الشَّاعِرُ الْأَدِيبُ الْبَلِيغُ اللُّغَوِيُّ تِلْمِيذُ الْأَصْمَعِيِّ وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَإِنَّمَا لُقِّبَ بِأَبِي الْعَيْنَاءِ لِأَنَّهُ قَالَ لِأَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ: كَيْفَ تُصَغِّرُ عَيْنًا ؟ فَقَالَ: عُيَيْنًا يَا أَبَا الْعَيْنَاءِ. فَبَقِيَ لَهُ. وَلَهُ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ بِالْأَدَبِ وَالْحِكَايَاتِ وَالْمُلَحِ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ لَهُ مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خَرَجَ الْمُعْتَضِدُ مِنْ بَغْدَادَ قَاصِدًا بِلَادَ الْمَوْصِلِ لِقِتَالِ هَارُونَ الشَّارِي الْخَارِجِيِّ فَظَفِرَ بِهِ، وَهُزِمَ أَصْحَابُهُ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى بَغْدَادَ فَلَمَّا رَجَعَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَادَ أَمَرَ بِصَلْبِ هَارُونَ وَكَانَ صُفْرِيًّا، فَلَمَّا صُلِبَ قَالَ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. وَكَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدُونَ قَدْ قَاتَلَ الْخَوَارِجَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ قِتَالًا شَدِيدًا مَعَ الْخَلِيفَةِ، فَأَطْلَقَ الْخَلِيفَةُ أَبَاهُ حَمْدَانَ بْنَ حَمْدُونَ مِنَ الْقُيُودِ بَعْدَمَا كَانَ قَدْ سَجَنَهُ حِينَ أَخَذَ قَلْعَةَ مَارْدِينَ مِنْ يَدِهِ وَهَدَمَهَا عَلَيْهِ فَأَطْلَقَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا كَتَبَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى الْآفَاقِ بِرَدِّ مَا فَضُلَ عَنْ سِهَامِ ذَوِي الْفَرْضِ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَصَبَةٌ إِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَذَلِكَ عَنْ فُتْيَا أَبِي حَازِمٍ الْقَاضِي، وَقَدْ قَالَ فِي فُتْيَاهُ: إِنَّ هَذَا اتِّفَاقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ بَرَدِّ مَا فَضُلَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَوَافَقَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ لِأَبِي حَازِمٍ، أَفْتَى الْقَاضِي يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بِقَوْلِ زَيْدٍ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ الْمُعْتَضِدُ، وَأَمْضَى فُتْيَا أَبِي حَازِمٍ وَمَعَ هَذَا وَلَّى الْقَاضِيَ يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ قَضَاءَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلَعَا سَنِيَّةً أَيْضًا، وَقَلَّدَ أَبَا حَازِمٍ قَضَاءَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ وَكَذَلِكَ لِابْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلَعًا سَنِيَّةً أَيْضًا.

وَفِيهَا وَقَعَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ فَاسْتُنْقِذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا حَاصَرَتِ الصَّقَالِبَةُ الرُّومَ فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَاسْتَعَانَ مَلِكُ الرُّومِ بِمَنْ عِنْدَهُ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ وَأَعْطَاهُمْ سِلَاحًا كَثِيرًا فَخَرَجُوا مَعَهُمْ فَهَزَمُوا الصَّقَالِبَةَ ثُمَّ خَافَ مَلِكُ الرُّومِ مِنْ غَائِلَةِ الْمُسْلِمِينَ فَفَرَّقَهُمْ فِي الْبِلَادِ.
وَفِيهَا خَرَجَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ مِنْ نَيْسَابُورَ لِبَعْضِ أَشْغَالِهِ فَخَلَفَهُ فِيهَا رَافِعُ بْنُ هَرْثَمَةَ وَدَعَا عَلَى مَنَابِرِهَا لِمُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْمُطَّلِبِيِّ وَلِوَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ عَمْرٌو وَحَاصَرَهُ فِيهَا وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْهَا وَقَتَلَهُ عَلَى بَابِهَا.
وَفِيهَا بَعَثَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَضِدُ وَزِيرَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ لِقِتَالِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ طَلَبَ مِنْهُ عُمَرُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ وَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَتَلَقَّاهُ الْأُمَرَاءُ عَنْ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِهْرَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ السَّرَّاجُ النَّيْسَابُورِيُّ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَدْخُلُ إِلَى مَنْزِلِهِ - وَكَانَ بِقَطِيعَةِ الرَّبِيعِ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ - وَيَنْبَسِطُ فِيهِ وَيُفْطِرُ عِنْدَهُ وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ الْعُلَمَاءِ الْعُبَّادِ تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَازِمٍ أَبُو الْقَاسِمِ الْخُتَّلِيُّ وَلَيْسَ هُوَ

بِالَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي السِّنِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ سَمِعَ دَاوُدَ بْنَ عَمْرٍو وَعَلِيَّ بْنَ الْجَعْدِ وَخَلْقًا كَثِيرًا وَقَدْ لَيَّنَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ سَنَةً.
سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ التُّسْتَرِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ لَقِيَ ذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ، وَمِنْ كَلَامِ سَهْلٍ الْحَسَنِ قَوْلُهُ: أَمْسِ قَدْ مَاتَ وَالْيَوْمُ فِي النَّزْعِ وَغَدٌ لَمْ يُولَدْ وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
مَا مَضَى فَاتَ وَالْمُؤَمَّلُ غَيْبٌ وَلَكَ السَّاعَةُ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَكَانَ سُلُوكُهُ عَلَى يَدِ خَالِهِ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ خِرَاشٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ الْمَرْوَزِيُّ أَحَدُ الْجَوَّالِينَ الرَّحَّالِينَ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَقَدْ يَتَسَتَّرُ بِشَيْءٍ مِنَ التَّشَيُّعِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

رَوَى الْخَطِيبُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: شَرِبْتُ بَوْلِي فِي هَذَا الشَّأْنِ خَمْسَ مَرَّاتٍ. يَعْنِي أَنَّهُ اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ فِي الْأَسْفَارِ فِي طَلَبِهِ الْحَدِيثَ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ عَبْدِ الْمَلِكِ، الْأُمَوِيُّ الْبَصْرِيُّ قَاضِي سَامَرَّا وَقَدْ وَلِيَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ قَضَاءَ الْقُضَاةِ وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ سَمِعَ أَبَا الْوَلِيدِ وَأَبَا عُمَرَ الْحَوْضِيَّ وَعَنْهُ النَّجَّادُ وَابْنُ صَاعِدٍ وَابْنُ قَانِعٍ، وَحَمَلَ النَّاسُ عَنْهُ عِلْمًا كَثِيرًا.
ابْنُ الرُّومِيِّ الشَّاعِرُ
صَاحِبُ الدِّيوَانِ فِي الشِّعْرِ عَلِيُّ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ جُرَيْجٍ أَبُو الْحَسَنِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرُّومِيِّ وَهُوَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَكَانَ شَاعِرًا مَشْهُورًا مُطْبِقًا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا مَا مَدَحْتَ الْبَاخِلِينَ فَإِنَّمَا تُذَكِّرُهُمْ مَا فِي سِوَاهُمْ مِنَ الْفَضْلِ

وَتُهْدِي لَهُمْ غَمًّا طَوِيلًا وَحَسْرَةً فَإِنْ مَنَعُوا مِنْكَ النَّوَالَ فَبِالْعَدْلِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا مَا كَسَاكَ الدَّهْرُ سِرْبَالَ صِحَّةٍ وَلَمْ تَخْلُ مِنْ قُوتٍ يَلَذُّ وَيَعْذُبُ
فَلَا تَغْبِطَنَّ الْمُتْرَفِينَ فَإِنَّهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْسُوهُمُ الدَّهْرُ يَسْلُبُ
وَقَالَ أَيْضًا:
عَدُوُّكَ مِنْ صَدِيقِكَ مُسْتَفَادٌ فَلَا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحَابِ
فَإِنَّ الدَّاءَ أَكْثَرُ مَا تَرَاهُ يَكُونُ مِنَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ
إِذَا انْقَلَبَ الصَّدِيقُ غَدًا عَدُوًّا مُبِينًا وَالْأُمُورُ إِلَى انْقِلَابِ
وَلَوْ كَانَ الْكَثِيرُ يَطِيبُ كَانَتْ مُصَاحَبَةُ الْكَثِيرِ مِنَ الصَّوَابِ
وَلَكِنْ قَلَّ مَا اسْتَكْثَرْتَ إِلَّا وَقَعْتَ عَلَى ذِئَابٍ فِي ثِيَابِ
فَدَعْ عَنْكَ الْكَثِيرَ فَكَمْ كَثِيرٍ يُعَافُ وَكَمْ قَلِيلٍ مُسْتَطَابِ
وَمَا اللُّجَجِ الْمِلَاحُ بِمُرْوِيَاتٍ وَيَكْفِي الرِّيُّ فِي النُّطَفِ الْعِذَابِ
وَقَالَ أَيْضًا:
وَمَا الْحَسَبُ الْمَوْرُوثُ لَا دَرَّ دَرُّهُ بِمُحْتَسَبٍ إِلَّا بِآخَرَ مُكَتَسَبْ
فَلَا تَتَّكِلْ إِلَّا عَلَى مَا فَعَلْتَهُ وَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَجْدَ يُورَثُ بِالنَّسَبْ

فَلَيْسَ يَسُودُ الْمَرْءُ إِلَّا بِنَفْسِهِ وَإِنَّ عَدَّ آبَاءً كِرَامًا ذَوِي حَسَبْ
إِذَا الْعُودُ لَمْ يُثْمِرْ وَإِنْ كَانَ شُعْبَةً مِنَ الْمُثْمِرَاتِ اعْتَدَّهُ النَّاسُ فِي الْحَطَبْ
وَلِلْمَجْدِ قَوْمٌ سَاوَرُوهُ بِأَنْفُسٍ كِرَامٍ وَلَمْ يَعْبَوْا بِأُمٍّ وَلَا بِأَبْ
وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِهِ:
قَلْبِي مِنَ الطَّرْفِ السَّقِيمِ سَقِيمُ لَوْ أَنَّ مَنْ أَشْكُو إِلَيْهِ رَحِيمُ
فِي وَجْهِهَا أَبَدًا نَهَارٌ وَاضِحٌ مِنْ فَرْعِهَا لَيْلٌ عَلَيْهِ بَهِيمُ
إِنْ أَقْبَلَتْ فَالْبَدْرُ لَاحَ وَإِنْ مَشَتْ فَالْغُصْنُ رَاحَ وَإِنْ رَنَتْ فَالرِّيمُ
نَعِمَتْ بِهَا عَيْنِي فَطَالَ عَذَابُهَا وَلَكَمْ عَذَابٌ قَدْ جَنَاهُ نَعِيمُ
نَظَرَتْ فَأَقَصَدَتِ الْفُؤَادَ بِسَهْمِهَا ثُمَّ انْثَنَتْ نَحْوِي فَكِدْتُ أَهِيمُ
وَيْلَاهُ إِنْ نَظَرَتْ وَإِنْ هِيَ أَعْرَضَتْ وَقْعُ السِّهَامِ وَنَزْعُهُنَّ أَلِيمُ
يَا مُسْتَحِلَّ دَمِي مُحَرِّمَ رَحْمَتِي مَا أَنْصَفَ التَّحْلِيْلُ وَالتَّحْرِيمُ
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً غَيْرَ مَا أَوْرَدْنَاهُ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ:

آرَاؤُكُمْ وَوَجُوهُكُمْ وَسُيُوفُكُمْ فِي الْحَادِثَاتِ إِذَا دَجَوْنَ نُجُومُ
مِنْهَا مَعَالِمُ لِلْهُدَى وَمَصَابِحٌ تَجْلُو الدُّجَى وَالْأُخْرَيَاتُ رُجُومُ
وَذَكَرَ أَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَنَّهُ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، وَقِيلَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِينَ، وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَ وَفَاتِهِ أَنَّ وَزِيرَ الْمُعْتَضِدِ الْقَاسِمَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ يَخَافُ مَنْ هَجْوِهِ وَلِسَانِهِ فَدَسَّ إِلَيْهِ مَنْ أَطْعَمَهُ وَهُوَ بِحَضْرَتِهِ خُشْكَنَانَجَةً مَسْمُومَةً فَلَمَّا أَحَسَّ بِالسُّمِّ قَامَ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: إِلَى أَيْنَ ؟ قَالَ: إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَعَثْتَنِي إِلَيْهِ، قَالَ: سَلِّمْ عَلَى وَالِدِي، فَقَالَ: لَسْتُ أَجْتَازُ عَلَى النَّارِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ أَبُو بَكْرٍ الْبَاغَنْدِيُّ الْوَاسِطِيُّ كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ كَانَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ وَمَعَ هَذَا تَكَلَّمُوا فِيهِ وَضَعَّفُوهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ أَبُو جَعْفَرٍ الضَّبِّيُّ الْمَعْرُوفُ بِتَمْتَامٍ سَمِعَ

عَفَّانَ وَقَبِيصَةَ وَالْقَعْنَبِيَّ وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَرُبَّمَا أَخْطَأَ. تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً.
الْبُحْتُرِيُّ الشَّاعِرُ
صَاحِبُ الدِّيوَانِ الْمَشْهُورِ، اسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ عَبَادَةَ، وَيُقَالُ: الْوَلِيدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ يَحْيَى أَبُو عُبَادَةَ الطَّائِيُّ الْبُحْتُرِيُّ الشَّاعِرُ أَصْلُهُ مِنَ مَنْبِجَ وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَمَدَحَ الْمُتَوَكِّلَ وَالرُّؤَسَاءَ وَكَانَ شِعْرُهُ فِي الْمَدْحِ خَيْرًا مِنْهُ فِي الْمَرَاثِي فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: الْمَدِيحُ لِلرَّجَاءِ وَالْمَرَاثِي لِلْوَفَاءِ وَبَيْنَهُمَا بُعْدٌ. وَقَدْ رَوَى شِعْرَهُ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ وَابْنُ الْمَرْزُبَانِ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّكَ أَشْعَرُ مِنْ أَبِي تَمَّامٍ، فَقَالَ: لَوْلَا أَبُو تَمَّامٍ مَا أَكَلْتُ الْخُبْزَ، كَانَ أَبُو تَمَّامٍ أُسْتَاذَنَا وَقَدْ كَانَ الْبُحْتُرِيُّ شَاعِرًا مُطْبِقًا فَصِيحًا بَلِيغًا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ رَأَسُ رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ إِلَى بَغْدَادَ فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِنَصْبِهِ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ إِلَى الظُّهْرِ ثُمَّ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِلَى اللَّيْلِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا خَلَعَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بِالْقَضَاءِ بِمَدِينَةِ الْمَنْصُورِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٍ وَهِيَ شَاغِرَةٌ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ ظَهَرَتْ بِمِصْرَ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ وَحُمْرَةٌ فِي الْأُفُقِ حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ صَاحِبِهِ فَيَرَاهُ أَحْمَرَ اللَّوْنِ جَدًّا وَكَذَلِكَ الْجُدْرَانُ فَمَكَثُوا كَذَلِكَ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَتَضَرَّعُونَ حَتَّى كَشَفَ عَنْهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَمَ الْمُعْتَضِدُ عَلَى لَعْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الْمَنَابِرِ فَحَذَّرَهُ وَزِيرُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَامَّةَ تُنْكِرُ قُلُوبُهُمْ وَهُمْ يَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَجَوَامِعِهِمْ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَأَمَرَ بِذَلِكَ وَأَمْضَاهُ وَكُتِبَتْ نُسَخٌ بِلَعْنِ مُعَاوِيَةَ وَذَكَرَ فِيهَا ذَمَّهُ وَذَمَّ ابْنِهِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَأَوْرَدَ فِيهَا أَحَادِيثَ بَاطِلَةً فِي ذَمِّ مُعَاوِيَةَ وَقُرِئَتْ فِي

الْجَانِبَيْنِ مِنْ بَغْدَادَ وَنُهِيَتِ الْعَامَّةُ عَنِ التَّرَحُّمِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَالتَّرَضِّي عَنْهُ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ الْوَزِيرُ حَتَّى قَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ هَذَا الصَّنِيعَ مِمَّا يُرَغِّبُ الْعَامَّةَ فِي الطَّالِبِيِّينَ وَقَبُولِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِمْ. فَوَجَمَ لِذَلِكَ الْمُعْتَضِدُ وَتَرَكَ مَا كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِخَوْفِهِ عَلَى الْمُلْكِ وَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْوَزِيرَ كَانَ نَاصِبِيًّا يُبْغِضُ عَلِيًّا فَكَانَ هَذَا مِنْ هَفَوَاتِ الْمُعْتَضِدِ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا نُودِيَ فِي الْبُلْدَانِ: لَا يَجْتَمِعِ الْعَامَّةُ عَلَى قَاصٍّ وَلَا كَاهِنٍ وَلَا مُنَجِّمٍ وَلَا جَدَلِيٍّ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَأَنْ لَا يَهْتَمُّوا لِأَمْرِ النَّوْرُوزِ ثُمَّ أَطْلَقَ لَهُمْ أَمْرَ النَّوْرُوزِ فَكَانُوا يَصُبُّونَ الْمِيَاهَ عَلَى الْمَارَّةِ فَتَوَسَّعَتِ الْعَامَّةُ فِي ذَلِكَ وَغَلَوْا فِيهِ حَتَّى جَعَلُوا يَصُبُّونَ الْمِيَاهَ عَلَى الْجُنْدِ وَعَلَى أَصْحَابِ الشُّرَطِ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ هَفَوَاتِهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَعَدَ الْمُنَجِّمُونَ النَّاسَ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَقَالِيمِ سَتَغْرَقُ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ وَالسُّيُولِ وَزِيَادَةِ الْأَنْهَارِ فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا، فَلَمْ تَكُنْ سَنَةٌ أَقَلَّ مَطَرًا مِنْهُ وَقَلَّتِ الْعُيُونُ جِدًّا وَقَحَطَتِ النَّاسُ فِي كُلِّ بُقْعَةٍ حَتَّى اسْتَسْقَى النَّاسُ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ مِرَارًا كَثِيرَةً، وَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ يَتَبَدَّى بِاللَّيْلِ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ شَخْصٌ بِيَدِهِ سَيْفٌ

مَشْهُورٌ، فَإِذَا أَرَادُوا أَخْذَهُ انْهَزَمَ مِنْهُمْ فَدَخَلَ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَالزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ وَالْعَطَفَاتِ الَّتِي بِدَارِ الْخِلَافَةِ فَلَا يُطَّلَعُ لَهُ عَلَى خَبَرٍ، فَقَلِقَ مِنْ ذَلِكَ الْمُعْتَضِدُ قَلَقًا شَدِيدًا وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ سُورِ دَارِ الْخِلَافَةِ وَالِاحْتِفَاظِ بِهِ وَأَمَرَ الْحَرَسَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِشِدَّةِ الِاحْتِرَاسِ فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ اسْتَدْعَى بِالْمُعَزِّمِينَ وَمَنْ يُعَانِي عَلِمَ السِّحْرِ وَأَمَرَ الْمَجَانِينَ فَعَزَّمُوا وَاجْتَهَدُوا فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَعْيَاهُمْ أَمْرُهُ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ اطُّلِعَ عَلَى جَلِيَّةِ خَبَرِهِ وَحَقِيقَةِ أَمْرِهِ، أَنَّهُ كَانَ خَادِمًا خَصِيًّا مِنَ الْخُدَّامِ كَانَ يَتَعَشَّقُ بَعْضَ الْجَوَارِي مِنْ خَوَاصِّ الْحَظَايَا اللَّاتِي لَا يَصِلُ مِثْلُهُ إِلَى النَّظَرِ إِلَيْهَا فَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ لِحًى مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ فَيَلْبَسُ الْوَاحِدَةَ وَيَتَبَدَّى فِي اللَّيْلِ فِي شَكْلٍ مُزْعِجٍ فَيَنْزَعِجُ الْجَوَارِي وَالْخَدَمُ وَيَثُورُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَيَقْصِدُونَهُ فَيَدْخُلُ فِي بَعْضِ الْعَطَفَاتِ وَيَخْلَعُهَا وَيَجْعَلُهَا فِي كُمِّهِ، ثُمَّ يُظْهِرُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْخَدَمِ الْمُتَطَلِّبِينَ لِكَشْفِ هَذَا الْأَمْرِ وَيَسْأَلُ هَذَا وَهَذَا مَا الْخَبَرُ ؟ وَالسَّيْفُ فِي يَدِهِ فِي صِفَةِ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ رُهِبَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْجَوَارِي يَتَمَكَّنُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى تِلْكَ الْمَعْشُوقَةِ وَمُلَاحَظَتِهَا وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا بِمَا يُرِيدُهُ مِنْهَا، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ إِلَى زَمَنِ الْمُقْتَدِرِ فَبُعِثَ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى طَرَسُوسَ فَنَمَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْجَارِيَةُ وَانْكَشَفَ زَيْفُهُ وَمِحَالُهُ وَأَهْلَكَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.

وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اضْطَرَبَ الْجَيْشُ عَلَى هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ بِمِصْرَ فَأَقَامُوا لَهُ بَعْضَ أُمَرَاءِ أَبِيهِ يُدَبِّرُ الْأُمُورَ وَيُصْلِحُ الْأَحْوَالَ وَهُوَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبَّا فَبَعَثَ إِلَى دِمَشْقَ وَكَانَتْ قَدْ مَنَعَتْ بَيْعَةَ جَيْشِ ابْنِ خُمَارَوَيْهِ فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ أَبِيهِ وَاضْطَرَبَتْ أَحْوَالُهَا فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ بَدْرٍ الْحَمَامِيِّ وَالْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَاذَرَائِيِّ فَأَصْلَحَا أَمْرَهَا وَاسْتَعْمَلَا عَلَى نِيَابَتِهَا طُغْجَ بْنَ جُفٍّ وَرَجَعَا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ. وَالْأُمُورُ مُخْتَلِفَةٌ جِدًّا، وَهَكَذَا يَكُونُ انْقِضَاءُ الدُّوَلِ فِي أَوَاخِرِهَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [ الرَّعْدِ: 11 ]

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ الْمُبَارَكِ أَبُو عَمْرٍو الْمُسْتَمْلِي.
الزَّاهِدُ النَّيْسَابُورِيُّ يُلَقَّبُ بِحَمْكَوَيْهِ الْعَابِدِ سَمِعَ قُتَيْبَةَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرَهُمْ وَاسْتَمْلَى الزَّاهِدُ النَّيْسَابُورِيُّ عَلَى الْمَشَايِخِ سِتًّا وَخَمْسِينَ سَنَةً وَكَانَ فَقِيرًا رَثَّ الْهَيْئَةِ زَاهِدًا دَخَلَ يَوْمًا عَلَى أَبِي عُثْمَانَ سَعِيدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ التَّذْكِيرَ فَبَكَى أَبُو عُثْمَانَ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: إِنَّمَا أَبْكَانِي رَثَاثَةُ ثِيَابِ رَجُلٍ كَبِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَا أُجِلُّهُ

عَنْ أَنْ أُسَمِّيَهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ فَجَعَلَ النَّاسُ يُلْقُونَ الْخَوَاتِيمَ وَالثِّيَابَ وَالدَّرَاهِمَ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ بَيْنَ يَدَيِ الشَّيْخِ أَبِي عُثْمَانَ فَنَهَضَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو الْمُسْتَمْلِي فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا الَّذِي قَصَدَنِي الشَّيْخُ بِكَلَامِهِ وَلَوْلَا أَنِّي كَرِهْتُ أَنْ يُتَّهَمَ بِإِثْمٍ لَسَتَرْتُ مَا سَتَرَهُ. فَتَعَجَّبَ الشَّيْخُ مِنْ إِخْلَاصِهِ ثُمَّ أَخَذَ أَبُو عَمْرٍو ذَلِكَ الْمُجْتَمِعَ مِنَ الْمَالِ بَيْنَ يَدَيِ الشَّيْخِ فَمَا خَرَجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ حَتَّى تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ.
ابْنِ مَيْمُونِ بْنِ سَعْدٍ أَبُو يَعْقُوبَ الْحَرْبِيُّ سَمِعَ عَفَّانَ وَأَبَا نُعَيْمٍ وَغَيْرَهُمَا وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ بِثَلَاثِ سِنِينَ وَلَمَّا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ نُودِيَ لَهُ بِالْبَلَدِ فَقَصَدَ النَّاسُ دَارَهُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَاعْتَقَدَ بَعْضُ الْعَامَّةِ أَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فَجَعَلُوا يَقْصِدُونَ دَارَهُ، فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: لَيْسَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَصَدْتُمْ وَغْدًا تَأْتُونَهُ أَيْضًا. فَمَا عُمِّرَ بَعْدَهُ إِلَّا دُونَ السَّنَةِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو يَعْقُوبَ السَّدُوسِيُّ عُمِّرَ تِسْعِينَ سَنَةً وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا.
إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ الْفَقِيهُ أَبُو يَعْقُوبَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ

الشَّافِعِيُّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْهَاشِمِيُّ كَانَتْ إِلَيْهِ الْحِسْبَةُ بِبَغْدَادَ وَإِمَامَةُ جَامِعِ الرُّصَافَةِ.
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْعَتَّابِيُّ مِنْ وَلَدِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ بِصْرِيٌ قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ عَنْ أَزْهَرَ السَّمَّانِ وَأَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ.
يَزِيدُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ طَهْمَانَ أَبُو خَالِدٍ الدَّقَّاقُ وَيُعْرَفُ بِالْبَادَا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ الْبَادِي لِأَنَّهُ وُلِدَ تَوْأَمًا وَكَانَ هُوَ الْأَوَّلَ فِي الْمِيلَادِ. رَوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا عَالِمًا عَامِلًا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَرَجَ صَالِحُ بْنُ مُدْرِكٍ الطَّائِيُّ عَلَى الْحَاجِّ بِالْأَجْفُرِ فَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَخَدَمَهُمْ، يُقَالُ: إِنَّهُ أَخَذَ مِنْهُمْ مَا قِيمَتُهُ أَلْفَا أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا يَوْمَ الْأَحَدِ لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْهُ ارْتَفَعَتْ بِنَوَاحِي الْكُوفَةِ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ جِدًّا ثُمَّ سَقَطَتْ أَمْطَارٌ بِرُعُودٍ وَبُرُوقٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا وَسَقَطَ فِي بَعْضِ الْقُرَى مَعَ الْمَطَرِ حِجَارَةٌ بِيضٌ وَسُودٌ وَسَقَطَ بَرَدٌ كِبَارٌ وَزْنُ الْبَرَدَةِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَاقْتَلَعَتِ الرِّيَاحُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ مِمَّا حَوْلَدِجْلَةَ وَزَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً حَتَّى خِيفَ عَلَى بَغْدَادَ مِنَ الْغَرَقِ.
وَفِيهَا غَزَا رَاغِبٌ الْخَادِمُ مَوْلَى الْمُوَفَّقِ بِلَادَ الرُّومِ فَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً وَأَسَرَ ذَرَارِيَّ كَثِيرَةً جِدًّا وَقَتَلَ مِنْ أَسَارَى الرِّجَالِ الَّذِينَ تَحَصَّلُوا مَعَهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ رَقَبَةٍ ثُمَّ عَادَ سَالِمًا مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الشَّيْخِ صَاحِبُ آمِدَ فَقَامَ بِأَمْرِهَا مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ فَقَصَدَهُ الْمُعْتَضِدُ وَمَعَهُ ابْنُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيٌّ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ فَحَاصَرَهُ بِهَا فَخَرَجَ إِلَيْهِ سَامِعًا مُطِيعًا فَتَسَلَّمَهَا مِنْهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَكْرَمَ أَهْلَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا وَلَدَهُ الْمُكْتَفِي ثُمَّ سَارَ إِلَى قِنِّسْرِينَ وَالْعَوَاصِمِ فَتَسَلَّمَهَا عَنْ كِتَابِ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ وَإِذْنِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ وَمُصَالَحَتِهِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِيهَا غَزَا ابْنُ الْإِخْشِيدِ بِأَهْلِ طَرَسُوسَ بِلَادَ الرُّومِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ حُصُونًا كَثِيرَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ بَشِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَيْسَمٍ أَبُو إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا تَخَرَّجَ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَرَوَى عَنْهُ كَثِيرًا.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ إِمَامٌ مُصَنِّفٌ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ بَارِعٌ فِي كُلِّ عِلْمٍ صَدُوقٌ كَانَ يُقَاسُ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي زُهْدِهِ وَعِلْمِهِ وَوَرَعِهِ.

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: أَجْمَعَ عُقَلَاءُ كُلِّ أُمَّةٍ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجْرِ مَعَ الْقَدَرِ لَمْ يَتَهَنَّ بِعَيْشِهِ. وَكَانَ يَقُولُ: الرَّجُلُ الَّذِي يُدْخِلُ غَمَّهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُدْخِلُهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَقَدْ كَانَتْ بِي شَقِيقَةٌ مُنْذُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مَا أَخْبَرْتُ بِهَا أَحَدًا قَطُّ وَلِيَ عَشْرُ سِنِينَ أُبْصِرُ بِفَرْدِ عَيْنٍ مَا أَخْبَرْتُ بِهَا أَحَدًا قَطُّ. وَذَكَرَ أَنَّهُ مَكَثَ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ مَا يَسْأَلُ أَهْلَهُ غَدَاءً وَلَا عَشَاءً بَلْ إِنْ جَاءُوهُ بِشَيْءٍ أَكْلَهُ وَإِلَّا طَوَى إِلَى اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ وَذَكَرَ أَنَّهُ أَنْفَقَ فِي بَعْضِ الرَّمَضَانَاتِ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ دِرْهَمًا وَاحِدًا وَأَرْبَعَةَ دَوَانِيقَ وَنِصْفًا، وَمَا كُنَّا نَعْرِفُ مِنْ هَذِهِ الْطَّبَائِخِ شَيْئًا إِنَّمَا هُوَ بَاذِنْجَانٌ مَشْوِيٌّ أَوْ بَاقَةُ فِجْلٍ أَوْ نَحْوُ هَذَا.
وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَضِدُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَرَدَّهَا فَرَجَعَ الرَّسُولُ وَقَالَ: يَقُولُ لَكَ الْخَلِيفَةُ فِرِّقْهَا عَلَى مَنْ تَعْرِفُ مِنْ فُقَرَاءَ جِيرَانِكَ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ نَجْمَعْهُ وَلَا نُسْأَلُ عَنْ جَمْعِهِ فَلَا نُسْأَلُ عَنْ تَفْرِيقِهِ، قُلْ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِمَّا يَتْرُكُنَا وَإِلَّا نَتَحَوَّلُ مِنْ بَلَدِهِ.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَعُودُهُ فَقَامَتِ ابْنَتُهُ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ وَأَنَّهُ لَا طَعَامَ لَهُمْ إِلَّا الْخَبْزَ الْيَابِسَ بِالْمِلْحِ وَرُبَّمَا عُدِمُوا الْمِلْحَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَقَالَ لَهَا إِبْرَاهِيمُ: يَا بُنَيَّةُ تَخَافِينَ الْفَقْرَ ؟ انْظُرِي

إِلَى تِلْكَ الزَّاوِيَةِ فَفِيهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ جُزْءٍ قَدْ كَتَبْتُهَا فِي الْعِلْمِ، فَفِي كُلِّ يَوْمٍ بِيعِي مِنْهَا جُزْءًا بِدِرْهَمٍ، فَمَنْ عِنْدَهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ بِفَقِيرٍ.
ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي عِنْدَ بَابِ الْأَنْبَارِ وَكَانَ الْجَمْعُ كَثِيرًا جِدًّا.
الْمُبَرِّدُ النَّحْوِيُّ.
مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْأَكْبَرِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَزْدِيُّ الثُّمَالِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْمِبْرِّدِ النَّحْوِيُّ الْبَصْرِيُّ إِمَامٌ فِي اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ أَخَذَ ذَلِكَ عَنِ الْمَازِنِيِّ وَأَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتَا فِيمَا يَنْقُلُهُ وَكَانَ مُنَاوِئًا لِثَعْلَبٍ وَلَهُ كِتَابُ " الْكَامِلِ " فِي الْأَدَبِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِالْمِبْرِّدِ لِأَنَّهُ اخْتَبَأَ مِنَ الْوَالِي عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ تَحْتَ الْمُزَمَّلَةِ.
قَالَ الْمُبَرِّدُ: دَخَلْنَا يَوْمًا عَلَى الْمَجَانِينِ نَزُورُهُمْ أَنَا وَأَصْحَابٌ مَعِي بِالرَّقَّةِ، فَإِذَا فِيهِمْ شَابٌّ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِالْمَكَانِ عَلَيْهِ ثِيَابٌ نَاعِمَةٌ، فَلَمَّا أَبْصَرَ بِنَا قَالَ: حَيَّاكُمُ اللَّهُ مِمَّنْ أَنْتُمْ ؟ قُلْنَا: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَقَالَ: بِأَبِي الْعِرَاقُ وَأَهْلُهَا أَنْشِدُونِي أَوْ أُنْشِدُكُمْ ؟ قَالَ الْمُبَرِّدُ: فَقُلْتُ: بَلْ أَنْشِدْنَا أَنْتَ. فَقَالَ:
اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّنِي كَمِدٌ لَا أَسْتَطِيعُ أَبُثُّ مَا أَجِدُ

رُوحَانِ لِي رُوحٌ تَضَمَّنَهَا
بَلَدٌ وَأُخْرَى حَازَهَا بَلَدُ وَأَرَى الْمُقِيمَةَ لَيْسَ يَنْفَعُهَا
صَبْرٌ وَلَا يَقْوَى لَهَا جَلَدُ وَأَظُنُّ غَائِبَتِي كَشَاهِدَتِي
بِمَكَانِهَا تَجِدُ الَّذِي أَجِدُ
قَالَ الْمُبَرِّدُ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَظَرِيفٌ فَزِدْنَا مِنْهُ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَمَّا أَنَاخُوا قُبَيْلَ الصُّبْحِ عِيرَهُمُ وَرَحَّلُوهَا فَثَارَتْ بِالْهَوَى الْإِبِلُ
وَأَبْرَزَتْ مِنْ خِلَالِ السِّجْفِ نَاظِرَهَا تَرْنُو إِلَيَّ وَدَمْعُ الْعَيْنِ يَنْهَمِلُ
وَوَدَّعَتْ بِبَنَانٍ عَقْدُهُ عَنَمٌ نَادَيْتُ لَا حَمَلَتْ رِجْلَاكَ يَا جَمَلُ
وَيْلِي مِنَ الْبَيِنِ مَاذَا حَلَّ بِي وَبِهِمْ مِنْ نَازِلِ الْبَيْنِ حَانَ الْبَيْنُ وَارْتَحَلُوا
يَا رَاحِلَ الْعِيسِ عَجِّلْ كَيْ أُوَدِّعَهُمْ يَا رَاحِلَ الْعِيسِ فِي تَرْحَالِكَ الْأَجَلُ
إِنِّي عَلَى الْعَهْدِ لَمْ أَنْقُضْ مَوَدَّتَهُمْ فَلَيْتَ شِعْرِي لِطُولِ الْعَهْدِ مَا فَعَلُوا
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْبُغَضَاءِ الَّذِينَ مَعِي: مَاتُوا، فَقَالَ الشَّابُّ: إِذًا أَمُوتُ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ، فَتَمَطَّى وَاسْتَنَدَ إِلَى سَارِيَةٍ عِنْدَهُ وَمَاتَ وَمَا بَرِحْنَا حَتَّى دَفَنَّاهُ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمَاتَ الْمُبَرِّدُ وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَقَعَ تَسَلُّمُ آمِدَ مِنِ ابْنِ الشَّيْخِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ وَوَصَلَ كِتَابُ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الْمُعْتَضِدِ وَهُوَ مُخَيِّمٌ بِآمِدَ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ قِنِّسْرِينَ وَالْعَوَاصِمَ عَلَى أَنْ يُقِرَّهُ عَلَى إِمْرَةِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَرَحَّلَ عَنْ آمِدَ قَاصِدًا الْعِرَاقَ وَأَمَرَ بِهَدْمِ سُورِ آمِدَ فَهَدَمَ الْبَعْضَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ يُهَنِّئُهُ بِفَتْحِ آمِدَ:
اسْلَمْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَدُمْ فِي غِبْطَةٍ وَلْيَهْنِكَ النَّصْرُ فَلَرُبَّ حَادِثَةٍ نَهَضْتَ لَهَا
مُتَقَدِّمًا فَتَأَخَّرَ الدَّهْرُ لَيْثٌ فَرَائِسُهُ اللُّيُوثُ فَمَا
يَبْيَضُّ مِنْ دَمِهَا لَهُ ظُفْرُ
وَلَمَّا رَجَعَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَادَ جَاءَتْهُ هَدِيَّةُ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ مِنْ نَيْسَابُورَ فَكَانَ وُصُولُهَا بَغْدَادَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَكَانَ مَبْلَغُهَا مَا قِيمَتُهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ خَارِجًا عَنْ دَوَابَّ وَسُرُوجٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا تَحَارَبَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ وَعَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ وَذَلِكَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ لَمَّا قَتَلَ رَافِعَ بْنَ هَرْثَمَةَ وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ سَأَلَ مِنْهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ وِلَايَةِ خُرَاسَانَ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ

فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ نَائِبُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّكَ قَدْ وُلِّيتَ دُنْيَا عَرِيضَةً فَاقْتَنِعْ بِهَا عَنْ مَا فِي يَدِي مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ. فَلَمْ يَقْبَلْ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ فِي جُيُوشٍ عَظِيمَةٍ جِدًّا فَالْتَقَيَا عِنْدَ بَلْخَ فَهُزِمَ أَصْحَابُ عَمْرٍو وَأُسِرَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ فَلَمَّا جِيءَ بِهِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ قَامَ إِلَيْهِ وَقَبَّلَ بَيْنِ عَيْنَيْهِ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَمَّنَهُ وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فِي أَمْرِهِ وَيَذْكُرُ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْبِلَادِ قَدْ مَلُّوهُ وَضَجِرُوا مِنْ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ فَجَاءَ كِتَابُ الْخَلِيفَةِ بِأَنْ يَتَسَلَّمَ حَوَاصِلَهُ وَأَمْوَالَهُ فَسَلَبَهُ إِيَّاهَا فَآلَ بِهِ الْحَالُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَطْبَخُهُ يُحْمَلُ عَلَى سِتِّمِائَةِ جَمَلٍ إِلَى الْقَيْدِ وَالسِّجْنِ. وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ عَمْرًا كَانَ مَعَهُ خَمْسُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ لَمْ يُصَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا أُسِرَ سِوَاهُ.
ظُهُورُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ رَأْسِ الْقَرَامِطَةِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنَهُمْ
وَهْمْ أَخْبَثُ مِنَ الزَّنْجِ وَأَشَدُّ فَسَادًا كَانَ ظُهُورُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِنَوَاحِي الْبَصْرَةِ فَالْتَفَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ بِشَرٌ كَثِيرٌ وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ جِدًّا وَقَتَلَ مَنْ حَوْلَهُ مَنْ أَهْلِ الْقُرَى، ثُمَّ صَارَ إِلَى الْقَطِيفِ قَرِيبًا مِنَ الْبَصْرَةِ وَرَامَ دُخُولَهَا فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَضِدُ إِلَى نَائِبِهَا يَأْمُرُهُ بِتَحْصِينِ سُورِهَا فَعَمَّرُوهُ وَجَدَّدُوا مَعَالِمَهُ بِنَحْوٍ مَنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَامْتَنَعَتِ الْبَصْرَةُ مِنَ الْقَرَامِطَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَتَغَلَّبَ أَبُو سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْقَرَامِطَةِ عَلَى هَجَرَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْبِلَادِ وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ.

وَكَانَ أَصْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ هَذَا أَنَّهُ كَانَ سِمْسَارًا فِي الطَّعَامِ يَبِيعُهُ وَيَحْسِبُ لِلنَّاسِ الْأَثْمَانَ فَقَدِمَ رَجُلٌ بِهِ يُقَالُ لَهُ يَحْيَى بْنُ الْمَهْدِيِّ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ فَدَعَا أَهْلَ الْقَطِيفِ إِلَى بَيْعَةِ الْمَهْدِيِّ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ حَمْدَانَ الزِّيَادِيُّ وَسَاعَدَهُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْمَهْدِيِّ وَجَمَعَ الشِّيعَةَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْقَطِيفِ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنِ اسْتَجَابَ أَبُو سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ هَذَا - قَبَّحَهُ اللَّهُ - ثُمَّ تَغَلَّبَ عَلَى أَمْرِهِمْ وَأَظْهَرَ فِيهِمُ الْقَرْمَطَةَ فَاسْتَجَابُوا لَهُ وَالْتَفُّوا عَلَيْهِ فَتَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ وَصَارَ هُوَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِيهِمْ. وَأَصْلُهُ مِنْ بَلْدَةٍ هُنَاكَ يُقَالُ لَهَا جَنَّابَةُ وَسَيَأْتِي مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ أَصْحَابِهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": وَمِنْ عَجَائِبِ مَا وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - ثُمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ - أَنَّ امْرَأَةً تَقَدَّمَتْ إِلَى قَاضِي الرَّيِّ فَادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا بِصَدَاقِهَا خَمْسَمِائَةَ دِينَارٍ فَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ فَجَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهَا بِهِ، فَقَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تُسْفِرَ لَنَا عَنْ وَجْهِهَا حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهَا الزَّوْجَةُ أَمْ لَا، فَلَمَّا صَمَّمُوا عَلَى ذَلِكَ، قَالَ الزَّوْجُ: لَا تَفْعَلُوا هِيَ صَادِقَةٌ فِيمَا تَدَّعِيهِ. فَأَقَرَّ بِمَا ادَّعَتْ لِيَصُونَ زَوْجَتَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا. فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَإِذْ قَدْ أَرَادَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي حِلٍّ مِنْ صَدَاقِي عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَشَاهِيرِ:
أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ فِيمَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ.

وَقَدْ أَرَّخَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبَانٍ.
أَبُو يَعْقُوبَ النَّخَعِيُّ الْأَحْمَرُ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الطَّائِفَةُ الْإِسْحَاقِيَّةُ مِنَ الشِّيعَةِ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ النُّوبَخْتِيِّ وَالْخَطِيبُ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ يَعْتَقِدُ إِلَهِيَّةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى الْحَسَنِ ثُمَّ الْحُسَيْنِ وَأَنَّهُ كَانَ يَظْهَرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَقَدِ اتَّبَعَهُ عَلَى هَذَا الْكُفْرِ خَلْقٌ مِنَ الْحَمِيرِ قَبَّحَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ.
وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: الْأَحْمَرُ ; لِأَنَّهُ كَانَ أَبْرَصَ وَكَانَ يَطْلِي بِرَصَهُ بِمَا يُغَيِّرُ لَوْنَهُ. وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ النُّوبَخْتِيُّ أَقْوَالًا عَظِيمَةً فِي الْكُفْرِ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رَوَى شَيْئًا مِنَ الْحِكَايَاتِ وَالْمُلَحِ عَنِ الْمَازِنِيِّ وَطَبَقَتِهِ، وَمِثْلُ هَذَا أَقَلُّ وَأَذَلُّ مِنْ أَنْ يُرْوَى عَنْهُ.
بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ يَزِيدَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْدَلُسِيُّ الْحَافِظُ أَحَدُ عُلَمَاءِ الْغَرْبِ لَهُ " التَّفْسِيرُ " وَ " الْمُسْنَدُ " وَ " السُّنَنُ وَالْآثَارُ " الَّتِي فَضَّلَهَا ابْنُ حَزْمٍ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَمُسْنَدِ أَحْمَدَ وَمُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَفِيمَا زَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ نَظَرٌ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ فَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا وَوَصَفَهُ بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ

وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ بِهَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً
وَالْحُسَيْنُ بْنُ بَشَّارِ بْنِ مُوسَى.
أَبُو عَلِيٍّ الْخَيَّاطُ رَوَى عَنْ أَبِي بِلَالٍ الْأَشْعَرِيِّ وَعَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَكَانَ ثِقَةً رَأَى فِي مَنَامِهِ - وَقَدْ كَانَتْ بِهِ عِلَّةٌ - قَائِلًا يَقُولُ لَهُ كُلْ لَا وَاشْرَبْ لَا، فَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ [ النُّورِ: 35 ] فَأَكَلَ زَيْتُونًا وَشَرِبَ زَيْتًا فَبَرَأَ مِنْ عِلَّتِهِ تِلْكَ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو جَعْفَرٍ الْأَنْمَاطِيُّ الْمَعْرُوفُ بِمُرَبَّعٍ تِلْمِيذُ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ كَانَ ثِقَةً حَافِظًا.
عَبْدُ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ الْمُصَنِّفُ. وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ ".

مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُوسَى بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ كُدَيْمٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرَشِيُّ الْبَصْرِيُّ الْكُدَيْمِيُّ وَهُوَ ابْنُ امْرَأَةِ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَسَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ وَأَبَا دَاوُدَ الطَّيَالِسِيَّ وَالْأَصْمَعِيَّ وَخَلْقًا، وَعَنْهُ ابْنُ السَّمَّاكِ وَالنَّجَّادُ وَآخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ وَقَدْ كَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا مُغْرِبًا، تَكَلَّمَ فِيهِ النَّاسُ لِإِغْرَابِهِ فِي الرِّوَايَاتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ " بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ.
دُفِنَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ سَنَةٍ وَصَلَّى عَلَيْهِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ.
يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ تَحِيَّةَ أَبُو يُوسُفَ الْوَاسِطِيُّ سَمِعَ مِنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَقَدِمَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِهَا بِأَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ وَوَعَدَ النَّاسَ أَنْ يُحَدِّثَهُمْ مِنَ الْغَدِ فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ عَنْ مِائَةٍ وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْوَلِيدُ أَبُو عُبَادَةَ الْبُحْتُرِيُّ فِيمَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ

ذِكْرُهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا تَفَاقَمَ أَمْرُ الْقَرَامِطَةِ صُحْبَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ فَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَأَفْسَدُوا فِي بِلَادِ هَجَرَ فَجَهَّزَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ جَيْشًا كَثِيفًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَمْرٍو الْغَنَوِيَّ وَأَمَّرَهُ عَلَى الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ لِيُحَارِبَ أَبَا سَعِيدٍ هَذَا فَالْتَقَوْا هُنَالِكَ، وَالْعَبَّاسُ فِي عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَأَسَرَهُمْ أَبُو سَعِيدٍ كُلَّهُمْ، فَنَجَا مِنْ بَيْنِهِمْ كُلِّهِمُ الْأَمِيرُ وَحْدَهُ، وَقُتِلَ الْبَاقُونَ عَنْ آخِرِهِمْ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي سَعِيدٍ قَبَّحَهُ اللَّهُ. وَهَذَا عَجِيبٌ جِدًّا وَهُوَ عَكْسُ وَاقِعَةِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، فَإِنَّهُ أُسِرَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ وَكَانُوا خَمْسِينَ أَلْفًا، وَيُقَالُ: إِنَّ الْعَبَّاسَ لَمَّا قَتَلَ أَبُو سَعِيدٍ أَصْحَابَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْعَبَّاسُ يَنْظُرُ، أَقَامَ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ أَيَّامًا ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَحَمَلَهُ عَلَى رَوَاحِلَ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى صَاحِبِكِ فَأَخْبِرْهُ بِمَا رَأَيْتَ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي أَوَاخِرِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمَّا وَقَعَ هَذَا انْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ انْزِعَاجًا عَظِيمًا جِدًّا، وَهَمَّ أَهْلُ الْبَصْرَةِ بِالْجَلَاءِ مِنْهَا فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ نَائِبُهَا أَحْمَدُ الْوَاثِقِيُّ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى بِلَادِ طَرَسُوسَ وَكَانَ نَائِبُهَا ابْنُ الْإِخْشِيدِ قَدْ تُوُفِّيَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي وَاسْتَخْلَفَ

عَلَى الثَّغْرِ أَبَا ثَابِتٍ فَطَمِعَتِ الرُّومُ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَحَشَدُوا عَسَاكِرَهُمْ إِلَى هُنَالِكَ، فَالتَقَاهُمْ أَبُو ثَابِتٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُقَاوَمَتِهِمْ فَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً وَأَسَرُوهُ فِيمَنْ أَسَرُوا، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الثَّغْرِ عَلَى ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ فَوَلَّوْهُ أَمْرَهُمْ وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ.
وَفِيهَا قُتِلَ:
مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ الْعَلَوِيُّ.
أَمِيرُ طَبَرِسْتَانَ وَالدَّيْلَمِ وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ظَفِرَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ بِعَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ نَائِبِ خُرَاسَانَ ظَنَّ مُحَمَّدٌ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ لَا يُجَاوِزُ عَمَلَهُ وَأَنَّ خُرَاسَانَ قَدْ خَلَتْ لَهُ فَارْتَحَلَ مِنْ بَلَدِهِ يُرِيدُهَا وَسَبَقَهُ إِلَى خُرَاسَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ الْزَمْ عَمَلَكَ وَلَا تُجَاوِزْهُ إِلَى غَيْرِهِ. فَلَمْ يَقْبَلْ فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَيْشًا مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الَّذِي كَانَ يَنُوبُ عَنْ رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ فَلَمَّا الْتَقَيَا هَرَبَ مِنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ خَدِيعَةً فَسَارَ الْجَيْشُ وَرَاءَهُ فِي الطَّلَبِ فَكَرَّ عَلَيْهِمْ رَاجِعًا فَانْهَزَمُوا مِنْهُ فَاحْتَازَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ وَجُرِحَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ جِرَاحَاتٍ شَدِيدَةً فَمَاتَ بِسَبَبِهَا بَعْدَ أَيَّامٍ وَأُسِرَ وَلَدُهُ زَيْدٌ فَبُعِثَ بِهِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ فَأَكْرَمَهُ وَأَنْزَلَهُ بُخَارَى.
وَقَدْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ هَذَا فَاضِلًا دَيِّنًا حَسَنَ السِّيرَةِ فِيمَا وَلِيَهُ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ وَكَانَ فِيهِ تَشَيُّعٌ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ يَوْمًا خَصْمَانِ اسْمُ أَحَدِهِمَا مُعَاوِيَةُ وَاسْمُ

الْآخَرِ عَلِيٌّ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْحُكْمَ بَيْنَكُمَا ظَاهِرٌ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ لَا تَغْتَرَّنَّ بِنَا فَإِنَّ أَبِي كَانَ مِنْ كِبَارِ الشِّيعَةِ وَإِنَّمَا سَمَّانِي مُعَاوِيَةَ مُدَارَاةً لِمَنْ بِبَلَدِنَا مِنَ السُّنَّةِ، وَهَذَا كَانَ أَبُوهُ مِنْ كِبَارِ النَّوَاصِبِ فَسَمَّاهُ عَلِيًّا تُقَاةً لَكُمْ. فَتَبَسَّمَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ ": وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا إِسْحَاقُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيُّ، عَدِيُّ رَبِيعَةَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى دِيَارِ رَبِيعَةَ مِنَ الْجَزِيرَةِ فَوُلِّيَ مَكَانَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ صَاحِبُ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ. وَفَهْدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فَهْدٍ الْأَزْدِيُّ الْمَوْصِلِيُّ وَكَانَ مِنَ الْأَعْيَانِ وَذَكَرَ هُوَ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ قَطْرَ النَّدَى بِنْتَ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ امْرَأَةَ الْمُعْتَضِدِ تُوُفِّيَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ رَجَبٍ مِنْهَا وَدُفِنَتْ دَاخِلَ قَصْرِ الرُّصَافَةِ.
وَيَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ أَبُو بَكْرٍ الْمُطَّوِّعِيُّ سَمِعَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَعَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ وَعَنْهُ النَّجَّادُ وَالْخُلْدِيُّ، كَانَ وِرْدُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ قِرَاءَةَ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " إِحْدَى وَثَلَاثِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ أَوْ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ.

قُلْتُ: وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا: أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ صَاحِبُ السُّنَّةِ

وَالْمُصَنَّفَاتِ وَهُوَ:
أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ الضَّحَّاكِ.
ابْنِ مَخْلَدٍ النَّبِيلِ لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْحَدِيثِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا كِتَابُ " السُّنَّةِ " فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ وَكَانَ حَافِظًا كَبِيرًا جَلِيلًا، قَدْ وَلِيَ قَضَاءَ أَصْبَهَانَ بَعْدَ صَالِحِ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَكَانَ قَدْ طَافَ الْبِلَادَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ وَصَحِبَ أَبَا تُرَابٍ النَّخْشَبِيَّ وَغَيْرَهُ مِنْ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ لَهُ مَرَّةً كَرَامَةٌ هَائِلَةٌ كَانَ هُوَ وَاثْنَانِ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ فِي سَفَرٍ فَنَزَلُوا يَوْمًا عَلَى رَمْلٍ أَبْيَضَ فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا يُقَلِّبُهُ بِيَدِهِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا خَبِيصًا يَكُونُ بِلَوْنِ هَذَا. فَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ وَبِيَدِهِ قَصْعَةٌ فِيهَا خَبِيصٌ بِلَوْنِ ذَلِكَ الرَّمْلِ فِي بَيَاضِهِ فَأَكَلُوا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا أُحِبُّ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسِي مُبْتَدِعٌ وَلَا طَعَّانٌ وَلَا لَعَّانٌ وَلَا فَاحِشٌ وَلَا بَذِيءٌ وَلَا مُنْحَرِفٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَصْبَهَانَ وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: يُؤْنِسُنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
اتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَصَائِبُ عَدِيدَةٌ مِنْهَا أَنَّ الرُّومَ قَصَدُوا بِلَادَ الرَّقَّةِ فِي جَحَافِلَ مِنَ الْبَحْرِ وَالْبَرِّ فَقَتَلُوا خَلْقًا وَأَسَرُوا نَحْوًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الذُّرِّيَّةِ. وَمِنْهَا أَنَّ بِلَادَ أَذْرَبِيجَانَ أَصَابَ أَهْلَهَا وَبَاءٌ شَدِيدٌ حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى دَفْنِ الْمَوْتَى فَتُرِكُوا فِي الطُّرُقِ لَا يُوَارَوْنَ عَنِ الْأَبْصَارِ. وَمِنْهَا أَنَّ بِلَادَ أَرْدَبِيلَ أَصَابَتْهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ إِلَى ثُلْثِ اللَّيْلِ ثُمَّ زُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ أَيَّامًا فَتَهَدَّمَتِ الدُّورُ وَالْمَنَازِلُ وَخُسِفَ بِآخَرِينَ مِنْهُمْ وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ مَاتَ تَحْتَ الْهَدْمِ مِائَةَ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَفِيهَا اقْتَرَبَ الْقَرَامِطَةُ مِنَ الْبَصْرَةِ فَخَافَ أَهْلُهَا خَوْفًا شَدِيدًا وَهَمُّوا بِالرَّحِيلِ مِنْهَا فَمَنَعَهُمْ وَالِيهَا.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

بِشْرُ بْنُ مُوسَى بْنِ صَالِحٍ أَبُو عَلِيٍّ الْأَسَدِيُّ.
وُلِدَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ

وَسَمِعَ مِنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ حَدِيثًا وَاحِدًا وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنْ هَوْذَةَ بْنِ خَلِيفَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ مُوسَى الْأَشْيَبِ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ وَالْأَصْمَعِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ: ابْنُ الْمُنَادِي وَابْنُ مَخْلَدٍ وَابْنُ صَاعِدٍ وَالنَّجَّادُ وَأَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ وَالْخُلْدِيُّ وَالْخُطَبِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الصَّوَّافِ وَغَيْرُهُمْ وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا حَافِظًا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ وَكَانَ أَحْمَدُ يُكْرِمُهُ.
وَمِنْ شِعْرِهِ:
ضَعُفْتُ وَمَنْ جَازَ الثَّمَانِينَ يَضْعُفُ وَيُنْكَرُ مِنْهُ كُلُّ مَا كَانَ يُعْرَفُ وَيَمْشِي رُوَيْدًا كَالْأَسِيرِ مُقَيَّدًا
يُدَانِي خُطَاهُ فِي الْحَدِيدِ وَيَرْسُفُ
ثَابِتُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ هَارُونَ - وَيُقَالُ: زَهْرُونُ - ابْنُ ثَابِتِ بْنِ كَرَايَا بْنِ إِبْرَاهِيمَ الصَّابِئِيُّ الْفَيْلَسُوفُ الْحَرَّانَيُّ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ حَرَّرَ كِتَابَ إِقْلِيدِسَ الَّذِي عَرَّبَهُ حُنَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَبَّادِيُّ، وَكَانَ أَصْلُهُ صَيْرَفِيًّا بِحَرَّانَ فَتَرَكَ ذَلِكَ وَاشْتَغَلَ بِعِلْمِ الْأَوَائِلِ فَنَالَ مِنْهُ رُتْبَةً سَامِيَةً عِنْدَ أَهْلِهِ ثُمَّ صَارَ

إِلَى بَغْدَادَ فَعَظُمَ شَأْنُهُ بِهَا وَكَانَ يَدْخُلُ مَعَ الْمُنَجِّمِينَ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى دِينِ الصَّابِئَةِ وَحَفِيدُهُ ثَابِتُ بْنُ سِنَانٍ لَهُ تَارِيخٌ أَجَادَ فِيهِ وَأَحْسَنَ وَكَانَ بَلِيغًا مَاهِرًا حَاذِقًا بَالِغًا. وَعَمُّهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ قُرَّةَ كَانَ طَبِيبًا عَارِفًا أَيْضًا. وَقَدْ سَرَدَهُمْ كُلَّهُمْ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ.
الْحَسَنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَهْمِ أَبُو الْحَسَنِ الشِّيعِيُّ مِنْ شِيعَةِ الْمَنْصُورِ لَا مِنَ الرَّوَافِضِ حَدَّثَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَحَكَى عَنْ بِشَرٍ الْحَافِي وَعَنْهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ وَزِيرُ الْمُعْتَضِدِ كَانَ حَظِيًّا عِنْدَهُ وَقَدْ عَزَّ عَلَيْهِ وَفَاتُهُ وَتَأَلَّمَ لِفَقْدِهِ وَأَهَمَّهُ مَنْ يَجْعَلُهُ مِنْ بَعْدِهِ فَعَقَدَ لِوَلَدِهِ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْوِزَارَةَ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ جَبْرًا لِمُصَابِهِ بِهِ.
وَأَبُو الْقَاسِمِ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ بَشَّارٍ الْمَعْرُوفُ بِالْأَنْمَاطِيِّ أَحَدُ كِبَارِ الشَّافِعِيَّةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " طَبَقَاتِهِمْ ".
وَهَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى أَبُو

مُوسَى الْهَاشِمِيُّ إِمَامُ النَّاسِ فِي الْحَجِّ. سَمِعَ وَحَدَّثَ وَتُوُفِّيَ بِمِصْرَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا عَاثَتِ الْقَرَامِطَةُ بِسَوَادِ الْكُوفَةِ فَظِفَرَ بَعْضُ الْعُمَّالِ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَبَعَثَ بِرَئِيسِهِمْ إِلَى الْمُعْتَضِدِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْفَوَارِسِ، فَنَالَ مِنَ الْعَبَّاسِ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُلِعَتْ أَضْرَاسُهُ وَخُلِعَتْ يَدَاهُ ثُمَّ قُطِعَتَا مَعَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ قُتِلَ وَصُلِبَ بِبَغْدَادَ، وَأُشْهِرَ أَمْرُهُ.
وَفِيهَا قَصَدَتِ الْقَرَامِطَةُ دِمَشْقَ فِي جَحْفَلٍ عَظِيمٍ فَقَاتَلَهُمْ نَائِبُهَا طُغْجُ بْنُ جُفٍّ مِنْ جِهَةِ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ فَهَزَمُوهُ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَتَفَاقَمَ الْحَالُ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِسِفَارَةِ يَحْيَى بْنِ زَكْرَوَيْهِ بْنِ مَهْرُوَيْهِ الَّذِي ادَّعَى عِنْدَ الْقَرَامِطَةِ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ كَذَبَ فِي ذَلِكَ، وَزَعَمَ لَهُمْ أَنَّهُ قَدِ اتَّبَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ مِائَةُ أَلْفٍ، وَأَنَّ نَاقَتَهُ مَأْمُورَةٌ حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ بِهِ نُصِرَ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَرَاجَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَلَقَّبُوهُ الشَّيْخَ وَاتَّبَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي الْأَصْبَغِ وَسُمُّوا بِالْفَاطِمِيِّينَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْخَلِيفَةُ جَيْشًا كَثِيفًا فَهَزَمُوهُ ثُمَّ اجْتَازُوا بِالرُّصَافَةِ فَأَحْرَقُوا جَامِعَهَا وَلَمْ يَجْتَازُوا بِقَرْيَةٍ إِلَّا انْتَهَبُوهَا وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُمْ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى دِمَشْقَ فَقَاتَلَهُمْ نَائِبُهَا فَهَزَمُوهُ مَرَّاتٍ وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا وَانْتَهَبُوا مِنْ أَمْوَالِهَا شَيْئًا كَثِيرًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

وَفِي هَذِهِ الْحَالِ الشَّدِيدَةِ اتَّفَقَ مَوْتُ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. أَحْسَنَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ الْمُعْتَضِدِ
أَحْمَدُ بْنُ الْأَمِيرِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ الْمُلَقَّبِ بِنَاصِرِ دِينِ اللَّهِ - وَاسْمُ أَبِي أَحْمَدَ مُحَمَّدٌ، وَقِيلَ: طَلْحَةُ - ابْنُ جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، أَبُو الْعَبَّاسِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ، وُلِدَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ، وَقِيلَ: ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ، وَكَانَ أَسْمَرَ نَحِيفَ الْجِسْمِ مُعْتَدِلَ الْقَامَةِ قَدْ وَخَطَهُ الشَّيْبُ، وَفِي مُقَدَّمِ لِحْيَتِهِ طُولٌ، وَفِي رَأْسِهِ شَامَةٌ بَيْضَاءُ.
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَاسْتَوْزَرَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ، وَوَلَّى الْقَضَاءَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ وَيُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ وَابْنَ أَبِي الشَّوَارِبِ وَكَانَ أَمْرُ الْخِلَافَةِ قَدْ ضَعُفَ فِي أَيَّامِ عَمِّهِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْمُعْتَضِدُ أَقَامَ شِعَارَهَا وَرَفَعَ مَنَارَهَا وَشَيَّدَ دَعَائِمَهَا وَحِيطَانَهَا، وَأَطَّدَ أَرْكَانَهَا.
وَكَانَ شُجَاعًا فَاضِلًا مِنْ رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ حَزْمًا وَجُرْأَةً وَغَزْوًا وَعِزًّا وَإِقْدَامًا وَحُرْمَةً، وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُوهُ مِنْ قَبْلِهِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ الْمُعْتَضِدَ اجْتَازَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِقَرْيَةٍ

فِيهَا مَقْثَأَةٌ فَوَقَفَ صَاحِبُهَا صَائِحًا مُسْتَصْرِخًا بِالْخَلِيفَةِ فَاسْتَدْعَى بِهِ فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ الْجَيْشِ أَخَذُوا لِي شَيْئًا مِنَ الْقِثَّاءِ وَهُمْ مِنْ غِلْمَانِكَ فَقَالَ: أَتَعْرِفُهُمْ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَعَرَضَهُمْ عَلَيْهِ فَعَرَفَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِتَقْيِيدِهِمْ وَحَبْسِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ نَظَرَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَنْفُسٍ مَصْلُوبِينَ عَلَى جَادَّةِ الطَّرِيقِ فَاسْتَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ وَاسْتَنْكَرُوا وَعَابُوا ذَلِكَ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَقَالُوا قَتَلَ ثَلَاثَةً بِسَبَبِ قِثَّاءٍ أَخَذُوهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ قَلِيلٍ أَمَرَ الْخَوَاصُّ مُسَامِرَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلْيَتَلَطَّفْ فِي مُخَاطَبَتِهِ بِذَلِكَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ فَفَهِمَ الْخَلِيفَةُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ كَلَامٍ يُرِيدُ أَنْ يُبْدِيَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَعْرِفُ أَنَّ فِي نَفْسِكَ كَلَامًا فَمَا هُوَ ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا آمِنٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ لَهُ: فَإِنَّ النَّاسَ يُنْكِرُونَ عَلَيْكَ تَسَرَّعَكَ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَفَكْتُ دَمًا حَرَامًا مُنْذُ وُلِّيتُ الْخِلَافَةَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُلْتُ لَهُ: فَعَلَامَ قَتَلْتَ أَحْمَدَ بْنَ الطَّيِّبِ وَقَدْ كَانَ خَادِمَكَ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ جِنَايَةٌ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنَّهُ دَعَانِي إِلَى الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا هَذَا أَنَا ابْنُ عَمِّ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ وَأَنَا مُنْتَصِبٌ فِي مَنْصِبِهِ فَأَكْفُرُ حَتَّى أَكُونَ مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ ؟ فَقَتَلْتُهُ عَلَى الْكُفْرِ وَالزَّنْدَقَةِ. فَقُلْتُ لَهُ: فَمَا بَالُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ قَتَلْتَهُمْ فِي الْقِثَّاءِ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كَانَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخَذُوا الْقِثَّاءَ وَإِنَّمَا كَانُوا لُصُوصًا قَدْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، فَوَجَبَ قَتْلُهُمْ فَبَعَثْتُ فَجِئْتُ بِهِمْ مِنَ السِّجْنِ فَقَتَلْتُهُمْ وَأَرَيْتُ النَّاسَ أَنَّهُمُ الَّذِينَ أَخَذُوا الْقِثَّاءَ وَأَرْدَتُ بِذَلِكَ أَنْ أُرْهِبَ الْجَيْشَ لِئَلَّا يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَتَعَدَّوْا عَلَى

النَّاسِ وَيَكُفُّوا عَنِ الْأَذَى. ثُمَّ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ حَبَسَهُمْ بِسَبَبِ الْقِثَّاءِ فَأَطْلَقَهُمْ بَعْدَمَا اسْتَتَابَهُمْ وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ وَرَدَّهُمْ إِلَى أَرْزَاقِهِمُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَخَرَجَ الْمُعْتَضِدُ يَوْمًا فَعَسْكَرَ بِبَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ وَنَهَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدٌ مِنْ بُسْتَانِ أَحَدٍ شَيْئًا فَأُتِيَ بِأَسْوَدَ قَدْ أَخَذَ عِذْقًا مَنْ بُسْرٍ فَتَأَمَّلَهُ طَوِيلًا ثُمَّ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: إِنَّ الْعَامَّةَ يُنْكِرُونَ هَذَا وَيَقُولُونَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ وَلَمْ يَكْفِهِ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ حَتَّى قَتَلَهُ وَإِنِّي لَمْ أَقْتُلْ هَذَا عَلَى سَرِقَتِهِ وَإِنَّمَا هَذَا الْأَسْوَدُ لَهُ خَبَرٌ طَرِيفٌ، هَذَا رَجُلٌ مِنَ الزَّنْجِ كَانَ قَدِ اسْتَأْمَنَ فِي حَيَاةِ أَبِي، وَإِنَّهُ تَقَاوَلَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَضَرَبَ الْمُسْلِمَ فَقَطَعَ يَدَهُ فَمَاتَ الْمُسْلِمُ فَأَهْدَرَ أَبِي دَمَ الرَّجُلِ الْمَقْتُولِ تَأْلِيفًا لِلزَّنْجِ فَآلَيْتُ عَلَى نَفْسِي لَئِنْ أَنَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ لَأَقْتُلَنَّهُ، فَمَا وَقَعَتْ عَيْنِي عَلَيْهِ إِلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ، فَقَتَلْتُهُ بِذَلِكَ الرَّجُلِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ الضَّبِّيُّ سَمِعْتُ أَبَا الْوَلِيدِ حَسَّانَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهَ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ يَقُولُ سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ الْقَاضِيَ يَقُولُ دَخَلْتُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ وَعَلَى رَأْسِهِ أَحْدَاثٌ رُومٌ صِبَاحُ الْوُجُوهِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِمْ، فَرَآنِي الْمُعْتَضِدُ وَأَنَا أَتَأَمَّلُهُمْ، فَلَمَّا أَرَدْتُ الْقِيَامَ أَشَارَ إِلَيَّ فَمَكَثْتُ سَاعَةً، فَلَمَّا خَلَا

قَالَ لِي: أَيُّهَا الْقَاضِي وَاللَّهِ مَا حَلَلْتُ سَرَاوِيلِي عَلَى حَرَامٍ قَطُّ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ حَسَّانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ سُرَيْجٍ عَنِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْمُعْتَضِدِ فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا قَدْ جُمِعَ لَهُ فِيهِ الرُّخَصُ مِنْ زَلَلِ الْعُلَمَاءِ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا جَمَعَ هَذَا زِنْدِيقٌ. فَقَالَ: كَيْفَ ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ مَنْ أَبَاحَ النَّبِيذَ لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَبَاحَ الْغِنَاءَ لَمْ يُبِحِ النَّبِيذَ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ. فَأَمَرَ بِتَحْرِيقِ ذَلِكَ الْكِتَابِ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ بِسَنَدِهِ عَنْ صَافِي الْحُرَمِيِّ الْخَادِمِ قَالَ: انْتَهَى الْمُعْتَضِدُ وَأَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى مَنْزِلِ شَغْبَ وَابْنُهُ الْمُقْتَدِرُ جَعْفَرٌ جَالِسٌ فِيهِ وَحَوْلَهُ نَحْوٌ مَنْ عَشْرٍ مِنَ الْوَصَائِفِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي سِنِّهِ عِنْدَهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ طَبَقٌ مِنْ فِضَّةٍ فِيهِ عُنْقُودُ عِنَبٍ، وَكَانَ الْعِنَبُ إِذْ ذَاكَ عَزِيزًا جِدًّا، وَهُوَ يَأْكُلُ عِنَبَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يُفَرِّقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُلَسَائِهِ عِنَبَةً عِنَبَةً، فَتَرَكَهُ الْمُعْتَضِدُ وَجَلَسَ نَاحِيَةً فِي بَيْتٍ مَهْمُومًا، فَقُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ وَاللَّهِ لَوْلَا النَّارُ وَالْعَارُ لَأَقْتُلَنَّ هَذَا الْغُلَامَ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِ صَلَاحًا لِلْأُمَّةِ. فَقُلْتُ: أُعِيذُكَ بِاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْعَنِ الشَّيْطَانَ. فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا صَافِي إِنَّ هَذَا الْغُلَامَ فِي غَايَةِ السَّخَاءِ لِمَا أَرَاهُ يَفْعَلُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَإِنَّ طِبَاعَ الصِّبْيَانِ تَأْبَى الْكَرَمَ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْكَرَمِ وَإِنَّ النَّاسَ مِنْ بَعْدِي لَا يُوَلُّونَ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ وَلَدِي فَسَيَلِي عَلَيْهِمُ الْمُكْتَفِي ثُمَّ

لَا تَطُولُ أَيَّامُهُ لِعِلَّتِهِ الَّتِي بِهِ وَهِيَ دَاءُ الْخَنَازِيرِ، ثُمَّ يَمُوتُ فَيُوَلَّى عَلَى النَّاسِ جَعْفَرٌ هَذَا، فَيَصَرِفُ جَمِيعَ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى الْحَظَايَا لِشَغَفِهِ بِهِنَّ وَقُرْبِ عَهْدِهِ مِنْ تَشَبُّهِهِ بِهِنَّ فَتَضِيعُ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَتُعَطَّلُ الثُّغُورُ وَتَكْثُرُ الْفِتَنُ وَالْهَرْجُ وَالْخَوَارِجُ وَالشُّرُورُ. قَالَ صَافِي: وَاللَّهِ لَقَدْ شَاهَدْتُ مَا قَالَهُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ بَعْضِ خَدَمِ الْمُعْتَضِدِ قَالَ: كَانَ الْمُعْتَضِدُ يَوْمًا نَائِمًا وَقْتَ الْقَائِلَةِ وَنَحْنُ حَوْلَ سَرِيرِهِ فَاسْتَيْقَظَ مَذْعُورًا، فَصَرَخَ بِنَا فَجِئْنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَيَحْكُمُ اذْهَبُوا إِلَى دِجْلَةَ فَأَوَّلُ سَفِينَةٍ تَجِدُونَهَا فَارِغَةً مُنْحَدِرَةً فَأْتُونِي بِمَلَّاحِهَا وَاحْتَفِظُوا بِالسَّفِينَةِ، فَذَهَبْنَا سِرَاعًا فَوَجَدْنَا مَلَّاحًا فِي سُمَيْرِيَّةٍ فَارِغَةٍ مُنْحَدِرًا فَأَتَيْنَا بِهِ الْخَلِيفَةَ، فَلَمَّا رَأَى الْمَلَّاحُ الْخَلِيفَةَ كَادَ يَتْلَفُ، فَصَاحَ بِهِ الْخَلِيفَةُ صَيْحَةً عَظِيمَةً فَكَادَتْ رُوحُ الْمَلَّاحِ تَخْرُجُ، فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ: وَيْحَكَ يَا مَلْعُونُ اصْدُقْنِي عَنْ قِصَّتِكَ مَعَ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلْتَهَا الْيَوْمَ وَإِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَكَ. قَالَ: فَتَلَعْثَمَ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كُنْتُ الْيَوْمَ سَحَرًا فِي مَشْرَعَتِيِ الْفُلَانِيَّةِ، فَنَزَلَتِ امْرَأَةٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ فَاخِرَةٌ وَحُلِيٌّ كَثِيرٌ وَجَوْهَرٌ، فَطَمِعْتُ فِيهَا وَاحْتَلْتُ عَلَيْهَا حَتَّى سَدَدْتُ فَاهَا وَغَرَّقْتُهَا وَأَخَذْتُ جَمِيعَ مَا كَانَ عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ، وَخَشِيتُ أَنْ أَرْجِعَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِي فَيَشْتَهِرُ خَبَرُهَا، فَأَرَدْتُ الذَّهَابَ إِلَى وَاسِطَ فَلَقِيَنِي هَؤُلَاءِ الْخَدَمُ فَأَخَذُونِي، فَقَالَ لَهُ: وَأَيْنَ حُلِيُّهَا ؟ فَقَالَ: فِي صَدْرِ السَّفِينَةِ تَحْتَ الْبَوَارِي. فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ عِنْدَ ذَلِكَ بِإِحْضَارِ الْحُلِيِّ فَجِيءَ بِهِ فَإِذَا هُوَ حُلِيٌّ كَثِيرٌ يُسَاوِي أَمْوَالًا كَثِيرَةً، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِتَغْرِيقِ الْمَلَّاحِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي غَرَّقَ فِيهِ الْمَرْأَةَ،

وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى عَلَى أَهْلِ الْمَرْأَةِ لِيَحْضُرُوا حَتَّى يَتَسَلَّمُوا مَالَ وَلَيَّتِهِمْ، فَنَادَى بِذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي أَسْوَاقِ بَغْدَادَ وَأَزِقَّتِهَا، فَحَضَرُوا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مِنَ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ، فَقَالَ لَهُ خَدَمُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ هَذَا ؟ قَالَ: رَأَيْتُ فِي نَوْمِي تِلْكَ السَّاعَةَ شَيْخًا أَبْيَضَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَالثِّيَابِ وَهُوَ يُنَادِي يَا أَحْمَدُ يَا أَحْمَدُ خُذْ أَوَّلَ مَلَّاحٍ يَنْحَدِرُ السَّاعَةَ فَاقْبِضْ عَلَيْهِ وَقَرِّرْهُ عَنْ خَبَرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَهَا الْيَوْمَ وَسَلَبَهَا، فَأَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَكَانَ مَا شَاهَدْتُمْ.
وَعَنْ خَفِيفٍ السَّمَرْقَنْدِيِّ الْحَاجِبِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ مَوْلَايَ الْمُعْتَضِدِ فِي بَعْضِ مُتَصَيَّدَاتِهِ وَكَانَ قَدِ انْقَطَعَ عَنِ الْعَسْكَرِ وَلَيْسَ مَعَهُ غَيْرِي، إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا أَسَدٌ فَقَصَدَ قَصْدَنَا، فَقَالَ لِيَ الْمُعْتَضِدُ: يَا خَفِيفُ أَفِيكَ خَيْرٌ ؟ قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ يَا مَوْلَايَ. قَالَ: وَلَا أَنْ تُمْسِكَ فَرَسِي وَأَنْزِلُ أَنَا ؟ فَقُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ فَأَمْسَكْتُهَا، وَغَرَزَ أَطْرَافَ ثِيَابِهِ فِي مِنْطَقَتِهِ وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ وَرَمَى بِقِرَابِهِ إِلَيَّ، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى الْأَسَدِ فَوَثَبَ الْأَسَدُ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ الْمُعْتَضِدُ بِالسَّيْفِ فَأَطَارَ يَدَهُ، فَاشْتَغَلَ الْأَسَدُ بِيَدِهِ فَضَرَبَهُ ثَانِيَةً عَلَى هَامَتِهِ فَفَلَقَهَا، فَخَرَّ الْأَسَدُ صَرِيعًا، فَدَنَا مِنْهُ فَمَسَحَ سَيْفَهُ فِي صُوفِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيَّ فَأَغْمَدَ سَيْفَهُ فِي قِرَابِهِ ثُمَّ رَكِبَ فَرَسَهُ ثُمَّ عُدْنَا إِلَى الْعَسْكَرِ، قَالَ: وَصَحِبْتُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ فَوَاللَّهِ مَا سَمِعْتُهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ، فَمَا أَدْرِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَعْجَبُ، مِنْ شَجَاعَتِهِ أَمْ مِنْ عَدَمِ احْتِفَالِهِ بِذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ، أَمْ مِنْ عَدَمِ عَتْبِهِ عَلَيَّ حَيْثُ ضَنِنْتُ بِنَفْسِي عَنْهُ ؟ وَاللَّهِ مَا عَاتَبَنِي فِي ذَلِكَ قَطُّ.

وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ النُّورِيِّ أَنَّهُ اجْتَازَ بِزَوْرَقٍ فِيهِ خَمْرٌ مَعَ مَلَّاحٍ فَقَالَ: مَا هَذِهِ ؟ وَلِمَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ خَمْرٌ لِلْمُعْتَضِدِ، فَصَعِدَ أَبُو الْحُسَيْنِ إِلَيْهَا فَجَعَلَ يَضْرِبُ الدِّنَانَ بِعَمُودٍ فِي يَدِهِ حَتَّى كَسَرَهَا كُلَّهَا إِلَّا دَنًّا وَاحِدًا تَرَكَهُ، وَاسْتَغَاثَ الْمَلَّاحُ فَجَاءَتِ الشُّرْطَةُ فَأَخَذُوا أَبَا الْحُسَيْنِ فَأَوْقَفُوهُ بَيْنَ يَدِيِ الْمُعْتَضِدِ فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ: مُحْتَسِبٌ. فَقَالَ: وَمَنْ وَلَّاكَ الْحِسْبَةَ ؟ فَقَالَ: الَّذِي وَلَّاكَ الْخِلَافَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَفَعَهَا، فَقَالَ: مَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ ؟ فَقَالَ: شَفَقَةً عَلَيْكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْكَ. فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَفَعَهُ، فَقَالَ: وَلِمَ تَرَكْتَ مِنَ الدِّنَانِ وَاحِدًا ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَقْدَمْتُ عَلَيْهَا فَكَسَرْتُهَا إِجْلَالًا لِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ أُبَالِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى هَذَا الدَّنِّ فَتَخَوَّفْتُ عَلَى نَفْسِي كِبْرًا عَلَى أَنِّي قَدْ أَقْدَمْتُ عَلَى مِثْلِكَ، فَتَرَكْتُهُ. فَقَالَ لَهُ الْمُعْتَضِدُ: اذْهَبْ فَقَدْ أَطْلَقْتُ يَدَكَ فَغَيِّرْ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ تُغَيِّرَهُ مِنَ الْمُنْكَرِ. فَقَالَ لَهُ النُّورِيُّ: الْآنَ نَقَصَ عَزْمِي عَنِ التَّغْيِيرِ، فَقَالَ: وَلِمَ ؟ فَقَالَ: لِأَنِّي كُنْتُ أُغَيِّرُ عَنِ اللَّهِ وَأَنَا الْآنَ أُغَيِّرُ عَنْ شُرْطِيٍّ، فَقَالَ: سَلْ حَاجَتَكَ، فَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ تُخْرِجَنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ سَالِمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ فَصَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَأَقَامَ بِهَا مُخْتَفِيًا خَشْيَةَ أَنْ يَشُقَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي حَاجَةٍ عِنْدَ الْمُعْتَضِدِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمُعْتَضِدُ رَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْهَاشِمِيُّ عَنْ شَيْخٍ مِنَ التُّجَّارِ قَالَ: كَانَ لِي عَلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ مَالٌ كَثِيرٌ فَمَاطَلَنِي وَمَنَعَنِي حَقِّي

وَجَعَلَ كُلَّمَا جِئْتُ أُطَالِبُهُ حَجَبَنِي عَنْهُ وَيَأْمُرُ غِلْمَانَهُ يُؤْذُونَنِي فَاشْتَكَيْتُ عَلَيْهِ إِلَى الْوَزِيرِ فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا وَإِلَى أَوْلِيَاءِ الْأَمْرِ مِنَ الدَّوْلَةِ فَلَمْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيْئًا وَمَا زَادَهُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْعًا وَجُحُودًا فَأَيِسْتُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ وَدَخَلَنِي هَمٌّ مِنْ جِهَتِهِ فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ وَأَنَا حَائِرٌ إِلَى مَنْ أَشْتَكِي إِذْ قَالَ لِي رَجُلٌ: أَلَا تَأْتِي فَلَانًا الْخَيَّاطَ إِمَامَ مَسْجِدٍ هُنَاكَ، فَقُلْتُ: وَمَا عَسَى أَنْ يَصْنَعَ خَيَّاطٌ مَعَ هَذَا الظَّالِمِ، وَأَعْيَانُ الدَّوْلَةِ لَمْ يَقْطَعُوا فِيهِ، فَقَالَ لِي: هُوَ أَقْطَعُ وَأَخْوَفُ عِنْدَهُ مِنْ جَمِيعِ مَنِ اشْتَكَيْتَ إِلَيْهِ فَاذْهَبْ إِلَيْهِ لَعَلَّكَ أَنْ تَجِدَ عِنْدَهُ فَرَجًا. قَالَ: فَقَصَدْتُهُ غَيْرَ مُحْتَفِلٍ فِي أَمْرِهِ فَذَكَرْتُ لَهُ حَاجَتِي وَمَا لِيَ وَمَا لَقِيتُ مِنْ هَذَا الظَّالِمِ فَقَامَ مَعِي فَحِينَ عَايَنَهُ الْأَمِيرُ قَامَ إِلَيْهِ وَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَبَادَرَ إِلَى قَضَاءِ حَقِّي الَّذِي عَلَيْهِ فَأَعْطَانِيهِ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ إِلَى الْأَمِيرِ كَبِيرُ أَمْرٍ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: ادْفَعْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ حَقَّهُ وَإِلَّا أَذَّنْتُ. فَتَغَيَّرَ لَوْنُ الْأَمِيرِ وَدَفَعَ إِلِيَّ حَقِّي، قَالَ التَّاجِرُ: فَعَجِبْتُ مِنْ ذَلِكَ الْخَيَّاطِ مَعَ رَثَاثَةِ حَالِهِ وَضِعْفِ بِنْيَتِهِ كَيْفَ انْطَاعَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ لَهُ ثُمَّ إِنِّي عَرَضْتُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنِّي شَيْئًا، وَقَالَ: لَوْ أَرَدْتُ هَذَا لَكَانَ لِي مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصَى. فَسَأَلْتُهُ عَنْ خَبَرِهِ وَذَكَرْتُ لَهُ تَعَجُّبِي مِنْهُ وَأَلْحَحْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَنَا هَاهُنَا رَجُلٌ تُرْكِيٌّ شَابٌّ حَسَنٌ أَمِيرٌ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ قَدْ خَرَجَتْ مِنَ الْحَمَّامِ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ مُرْتَفِعَةٌ ذَاتُ قِيمَةٍ، فَقَامَ إِلَيْهَا وَهُوَ سَكْرَانٌ فَتَعَلَّقَ بِهَا يُرِيدُهَا عَلَى نَفْسِهَا لِيُدْخِلَهَا مُنْزِلَهُ، وَهِيَ تَأْبَى عَلَيْهِ وَتَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهَا: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنَا امْرَأَةٌ ذَاتُ زَوْجٍ، وَهَذَا الرَّجُلُ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي لِيُدْخِلَنِي مَنْزِلَهُ وَقَدْ حَلَفَ زَوْجِي بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا أَبِيتَ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ وَمَتَى بَتُّ هَاهُنَا طُلِّقْتُ مِنْهُ وَلَحِقَنِي بِسَبَبِ ذَلِكَ عَارٌ لَا تَدْحَضُهُ الْأَيَّامُ وَلَا تَغْسِلُهُ الْمَدَامِعُ. قَالَ الْخَيَّاطُ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَأَنْكَرْتُ

عَلَيْهِ وَأَرَدْتُ خَلَاصَ الْمَرْأَةِ مِنْ يَدَيْهِ فَضَرَبَنِي بِدَبُّوسٍ فِي يَدِهِ فَشَجَّ رَأْسِي وَغَلَبَ الْمَرْأَةَ عَلَى نَفْسِهَا وَأَدْخَلَهَا مَنْزِلَهُ قَهْرًا فَرَجَعْتُ أَنَا فَغَسَلْتُ الدَّمَ عَنَى وَعَصَبْتُ رَأْسِي وَصَلَّيْتُ بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ، ثُمَّ قُلْتُ لِلْجَمَاعَةِ: إِنَّ هَذَا قَدْ فَعَلَ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ فَقُومُوا مَعِي إِلَيْهِ لِنُنْكِرَ عَلَيْهِ وَنُخَلِّصَ الْمَرْأَةَ مِنْهُ فَقَامَ النَّاسُ مَعِي فَهَجَمْنَا عَلَيْهِ دَارَهُ، فَثَارَ إِلَيْنَا فِي جَمَاعَةٍ مِنْ غِلْمَانِهِ بِأَيْدِيهِمُ الْعِصِيُّ وَالدَّبَابِيسُ يَضْرِبُونَ النَّاسَ وَقَصَدَنِي هُوَ مِنْ بَيْنِهِمْ فَضَرَبَنِي ضَرْبًا شَدِيدًا مُبَرِّحًا حَتَّى أَدْمَانِي وَأَخْرَجَنَا مِنْ مَنْزِلِهِ وَنَحْنُ فِي غَايَةِ الْإِهَانَةِ، فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي وَأَنَا لَا أَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيقِ مِنْ شِدَّةِ الْوَجَعِ وَكَثْرَةِ الدِّمَاءِ فَنِمْتُ عَلَى فِرَاشِي فَلَمْ يَأْخُذْنِي نَوْمٌ وَتَحَيَّرْتُ مَاذَا أَصْنَعُ حَتَّى أُنْقِذَ الْمَرْأَةَ مِنْ يَدِهِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِتَرْجِعَ فَتَبِيتَ فِي مَنْزِلِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ عَلَى زَوْجِهَا الطَّلَاقُ فَأُلْهِمْتُ أَنْ أُؤَذِّنَ لِلصُّبْحِ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ لِكَيْ يَظُنَّ أَنَّ الصُّبْحَ قَدْ طَلَعَ فَيُخْرِجَهَا مِنْ مَنْزِلِهِ فَتَذْهَبَ إِلَى مَنْزِلِ زَوْجِهَا فَصَعِدْتُ الْمَنَارَةَ وَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى بَابِ دَارِهِ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ عَلَى عَادَتِي قَبْلَ الْأَذَانِ هَلْ أَرَى الْمَرْأَةَ قَدْ خَرَجَتْ ثُمَّ أَذَّنْتُ فَلَمْ تَخْرُجْ ثُمَّ صَمَّمْتُ إِنْ لَمْ تَخْرُجْ أَقَمْتُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الصَّبَاحَ، فَبَيْنَا أَنَا أَنْظُرُ هَلْ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ أَمْ لَا ؟ إِذِ امْتَلَأَتِ الطَّرِيقُ فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً وَهُمْ يَقُولُونَ: أَيْنَ الَّذِي أَذَّنَ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ فَقُلْتُ: هَأَنَذَا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ يُعِينُونِي عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْزِلْ. فَنَزَلَتُ، فَقَالُوا: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَخَذُونِي وَذَهَبُوا بِي لَا أَمْلِكُ مِنْ نَفْسِي شَيْئًا، وَمَا زَالُوا بِي حَتَّى أَدْخَلُونِي عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ جَالِسًا فِي مَقَامِ الْخِلَافَةِ ارْتَعَدْتُ مِنَ الْخَوْفِ وَفَزِعْتُ فَزَعًا شَدِيدًا، فَقَالَ: ادْنُ. فَدَنَوْتُ، فَقَالَ لِي: لِيَسْكُنْ رَوْعُكَ وَلِيَهْدَأْ قَلْبُكَ. وَمَا زَالَ يُلَاطِفُنِي حَتَّى اطْمَأْنَنْتُ وَذَهَبَ خَوْفِي، فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي أَذَّنْتَ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ

عَلَى أَنْ أَذَّنْتَ هَذِهِ السَّاعَةَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ أَكْثَرُ مِمَّا مَضَى مِنْهُ، فَتَغُرُّ بِذَلِكَ الصَّائِمَ وَالْمُسَافِرَ وَالْمُصَلِّيَ وَغَيْرَهُمْ. فَقُلْتُ: يُؤَمِّنُنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى أَقُصَّ عَلَيْهِ خَبَرِي ؟ فَقَالَ: أَنْتَ آمِنٌ. فَذَكَرْتُ لَهُ الْقِصَّةَ، قَالَ: فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ ذَلِكَ الْأَمِيرِ وَالْمَرْأَةِ مِنْ سَاعَتِهِ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ كَانَا، فَأُحْضِرَا سَرِيعًا، فَبَعَثَ بِالْمَرْأَةِ إِلَى زَوْجِهَا مَعَ نِسْوَةٍ مِنْ جِهَتِهِ ثِقَاتٍ، وَمَعَهُنَّ ثِقَةٌ مِنْ جِهَتِهِ أَيْضًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَ زَوْجَهَا بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا، فَإِنَّهَا مُكْرَهَةٌ وَمَعْذُورَةٌ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ذَلِكَ الشَّابِّ الْأَمِيرِ، فَقَالَ لَهُ: كَمْ لَكَ مِنَ الرِّزْقِ ؟ وَكَمْ عِنْدَكَ مِنَ الْمَالِ ؟ وَكَمْ عِنْدَكَ مِنَ الْجَوَارِي وَالزَّوْجَاتِ ؟ فَذَكَرَ لَهُ شَيْئًا كَثِيرًا. فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ أَمَا كَفَاكَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ حَتَّى انْتَهَكْتَ حُرْمَةَ اللَّهِ وَتَعَدَّيْتَ حُدُودَهُ وَتَجَرَّأْتَ عَلَى السُّلْطَانِ وَمَا كَفَاكَ ذَلِكَ حَتَّى عَمِدْتَ إِلَى رَجُلٍ أَمَرَكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَاكَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَضَرَبْتَهُ وَأَهَنْتَهُ وَأَدْمَيْتَهُ. فَلَمْ يَكُنْ لَهُ جَوَابٌ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُعِلَ فِي رِجْلِهِ قَيْدٌ وَفِي عُنُقِهِ غُلٌّ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُدْخِلَ فِي جُوَالِقَ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ بِالدَّبَابِيسِ ضَرْبًا شَدِيدًا حَتَّى خَفَتَ صَوْتُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُلْقِي فِي دِجْلَةَ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بَدْرًا صَاحِبَ الشُّرْطَةِ أَنْ يَحْتَاطَ عَلَى مَا فِي دَارِهِ مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي كَانَ يَتَنَاوَلُهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِغَيْرِ حِلِّهَا، ثُمَّ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ الْخَيَّاطِ: كُلَّمَا رَأَيْتَ مُنْكَرًا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا وَلَوْ عَلَى هَذَا - وَأَشَارَ إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ - فَأَعْلِمْنِي بِهِ، فَإِنِ اتَّفَقَ اجْتِمَاعُكَ بِي وَإِلَّا فَعَلَامَةُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَنْ تُؤَذِّنَ فِي مِثْلِ وَقْتِ أَذَانِكَ هَذَا. قَالَ: فَبِهَذَا السَّبَبِ لَا آمُرُ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الدَّوْلَةِ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ أَوْ أَنْهَاهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَادَرَ إِلَى امْتِثَالِهِ وَقَبُولِهِ خَوْفًا مِنَ الْمُعْتَضِدِ وَمَا احْتَجْتُ أَنْ أُؤَذِّنَ فِي مِثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ إِلَى الْآنِ.

وَذَكَرَ الْوَزِيرُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ الْمُعْتَضِدِ وَخَادِمٌ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِهِ يَذُبُّ بِمِذَبَّةٍ فِي يَدِهِ إِذْ حَرَّكَهَا فَجَاءَتْ فِي قَلَنْسُوَةِ الْخَلِيفَةِ فَسَقَطَتْ عَنْ رَأْسِهِ فَأَعْظَمْتُ أَنَا ذَلِكَ جِدًّا وَخِفْتُ مِنْ هَوْلِ مَا وَقَعَ وَلَمْ يَكْتَرِثِ الْخَلِيفَةُ لِذَلِكَ، بَلْ أَخَذَ قَلَنْسُوَتَهُ فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ قَالَ لِبَعْضِ الْخَدَمِ: مُرْ هَذَا الْبَائِسَ فَلْيَذْهَبْ لِرَاحَتِهِ فَإِنَّهُ قَدْ نَعَسَ، وَزِيدُوا فِي عِدَّةِ مَنْ يَذُبُّ بِالنَّوْبَةِ. قَالَ الْوَزِيرُ: فَأَخَذْتُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَالشُّكْرِ لَهُ عَلَى حِلْمِهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْبَائِسَ لَمْ يَتَعَمَّدْ مَا وَقَعَ مِنْهُ وَإِنَّمَا نَعَسَ وَلَيْسَ الْعِتَابُ وَالْمُعَاتَبَةُ إِلَّا عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لَا عَلَى الْمُخْطِئِ وَالسَّاهِي.
وَقَالَ خَفِيفٌ السَّمَرْقَنْدِيُّ الْحَاجِبُ: لَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى الْمُعْتَضِدِ بِمَوْتِ وَزِيرِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَتَحَقَّقَ ذَلِكَ خَرَّ سَاجِدًا طَوِيلًا، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ يَخْدِمُكَ وَيَنْصَحُ لَكَ. فَقَالَ: إِنَّمَا سَجَدْتُ شُكْرًا لِلَّهِ أَنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ وَلَمْ أُؤْذِهِ، ثُمَّ اسْتَشَارَ الْحَاضِرِينَ فِيمَنْ يَسْتَوْزِرُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَذَكَرَ هُوَ رَجُلَيْنِ، أَحَدُهُمَا جَرَادَةُ، وَكَانَ حَازِمَ الرَّأْيِ قَوِيًّا وَالْآخَرُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ فَعَدَلَ بِهِ بَدْرٌ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ عَنْهُمَا، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَسَفَّهَ رَأْيَهُ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَوَلَّاهُ وَبَعَثَ إِلَيْهِ يُعَزِّيهِ فِي أَبِيهِ وَيُهَنِّيهِ بِالْوِزَارَةِ، فَمَا لَبِثَ الْقَاسِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَتَّى وَلِيَ الْمُكْتَفِي الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ الْمُعْتَضِدِ حَتَّى قَتَلَ بَدْرًا، وَكَانَ الْمُعْتَضِدُ يَنْظُرُ إِلَى مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَدَاوَةِ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ وَهَذِهِ فِرَاسَةٌ عَظِيمَةٌ وَتَوَسُّمٌ قَوِيٌّ.

وَقَدْ رُفِعَ يَوْمًا إِلَى الْمُعْتَضِدِ أَنَّ قَوْمًا يَجْتَمِعُونَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَاسْتَشَارَ وَزِيرَهُ فِي أَمْرِهِمْ، فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُصْلَبَ بَعْضُهُمْ وَيُحْرَقَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ: وَيْحَكَ لَقَدْ بَرَّدْتَ لَهَبَ غَضَبِي عَلَيْهِمْ بِقَسْوَتِكَ هَذِهِ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّعِيَّةَ وَدِيعَةُ اللَّهِ عِنْدَ سُلْطَانِهَا وَأَنَّهُ سَائِلُهُ عَنْهَا، وَلَمْ يُقَابِلْهُمْ بِمَا قَالَ الْوَزِيرُ فِيهِمْ.
وَلِهَذِهِ النِّيَّةِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَ بَيْتُ الْمَالِ صِفْرًا مِنَ الْمَالِ وَكَانَتِ الْأَحْوَالُ فَاسِدَةً وَالْأَعْرَابُ تَعِيثُ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا فِي كُلِّ جِهَةٍ فَلَمْ يَزَلْ بِرَأْيِهِ وَتَسْدِيدِهِ حَتَّى كَثُرَتِ الْأَمْوَالُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَصَلَحَتِ الْأَحْوَالُ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْآفَاقِ وَالْمَحَالِّ.
وَمِنْ شِعْرِهِ فِي جَارِيَةٍ لَهُ تُوُفِّيَتْ فَوَجَدَ عَلَيْهَا وَجْدًا عَظِيمًا، فَقَالَ:
يَا حَبِيبًا لَمْ يَكُنْ يَعْ دِلُهُ عِنْدِي حَبِيبُ أَنْتَ عَنْ عَيْنِي بَعِيدٌ
وَمِنَ الْقَلْبِ قَرِيبُ لَيْسَ لِي بَعْدَكَ فِي شَيْ
ءٍ مِنَ اللَّهْوِ نَصِيبُ لَكَ مِنْ قَلْبِي عَلَى قَلْبِي
وَإِنْ بِنْتَ رَقِيبُ وَحَيَاتِي مِنْكَ مُذْ غِبْ
تَ خَيَالٌ مَا يَغِيبُ لَوْ تَرَانِي كَيْفَ لِي بَعْ
دَكَ عَوْلٌ وَنَحِيبُ وَفُؤَادِي حَشْوُهُ مِنْ
حَرْقِ الْحُزْنِ لَهِيبُ

لَتَيَقَّنْتَ بِأَنِّي
بِكَ مَحْزُونٌ كَئِيبُ ما أَرَى نَفْسِي وَإِنْ طَيَّ
بْتُهَا عَنْكَ تَطِيبُ لَيْسَ دَمْعٌ لِيَ يَعْصِي
نِي وَصَبْرِي مَا يُجِيبُ
وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا:
لَمْ أَبْكِ لِلدَّارِ وَلَكِنْ لِمَنْ قَدْ كَانَ فِيهَا مَرَّةً سَاكِنَا
فَخَانَنِي الدَّهْرُ بِفُقْدَانِهِ وَكُنْتُ مِنْ قَبْلُ لَهُ آمِنَا
وَدَّعْتُ صَبْرِي عِنْدَ تَوْدِيعِهِ وَبَانَ قَلْبِي مَعَهُ ظَاعِنَا
وَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْمُعْتَزِّ يُعَزِّيهِ وَيُسَلِّيهِ عَنْ مُصِيبَتِهِ فِيهَا:
يَا إِمَامَ الْهُدَى بِنَا لَا بِكَ الْغَ مُّ وَأَفْنَيْتَنَا وَعِشْتَ سَلِيمًا
أَنْتَ عَلَّمْتَنَا عَلَى النِّعَمِ الشُّكْ رَ وَعِنْدَ الْمَصَائِبِ التَّسْلِيمَا
فَاسْلُ عَنْ مَا مَضَى فَإِنَّ الَّتِي كَا نَتْ سُرُورًا صَارَتْ ثَوَابًا عَظِيمَا
قَدْ رَضِينَا بَأَنْ نَمُوتَ وَتَحْيَى إِنَّ عِنْدِي فِي ذَاكَ حَظًّا جَسِيمَا
مَنْ يَمُتْ طَائِعًا لِمَوْلَاهُ فَقَدْ أُعْ طِيَ فَوْزًا وَمَاتَ مَوْتًا كَرِيمَا
وَاجْتَمَعَ يَوْمًا عِنْدَ الْمُعْتَضِدِ نُدَمَاؤُهُ، فَلَمَّا انْقَضَى السَّمَرُ وَصَارَ إِلَى حَظَايَاهُ وَنَامَ الْقَوْمُ السُّمَّارُ نَبَّهَهُمْ مِنْ نَوْمِهُمْ خَادِمٌ مِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ، وَقَالَ: يَقُولُ لَكُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ أَصَابَهُ أَرَقٌ مِنْ بَعْدِكُمْ، وَقَدْ عَمِلَ بَيْتًا أَعْيَاهُ ثَانِيهِ، فَمَنْ

عَمِلَ ثَانِيَهُ فَلَهُ جَائِزَةٌ، وَهُوَ هَذَا الْبَيْتُ:
وَلَمَّا انْتَبَهْنَا لِلْخَيَالِ الَّذِي سَرَى إِذَا الدَّارُ قَفْرَى وَالْمَزَارُ بَعِيدُ
قَالَ: فَجَلَسَ الْقَوْمُ مِنْ فُرُشِهِمْ يُفَكِّرُونَ فِي ثَانِيهِ، فَبَدَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقَالَ:
فَقُلْتُ لِعَيْنِي عَاوِدِي النَّوْمَ وَاهْجَعِي لَعَلَّ خَيَالًا طَارِقًا سَيَعُودُ
قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ بِهِ الْخَادِمُ إِلَى الْمُعْتَضِدِ، وَقَعَ مِنْهُ مَوْقِعًا جَيِّدًا وَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ.
وَاسْتَعْظَمَ الْمُعْتَضِدُ يَوْمًا مِنْ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ قَوْلَ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْمَازِنِيِّ الْبَصْرِيِّ:
لَهْفِي عَلَى مَنْ أَطَارَ النَّوْمَ فَامْتَنَعَا وَزَادَ قَلْبِي عَلَى أَوْجَاعِهِ وَجَعَا
كَأَنَّمَا الشَّمْسُ مِنْ أَعْطَافِهِ طَلَعَتْ حُسْنًا أَوِ الْبَدْرُ مِنْ أَزْرَارِهِ طَلَعَا
مُسْتَقْبَلٌ بِالَّذِي يَهْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ مِنْهُ الْإِسَاءَةُ مَعْذُورٌ بِمَا صَنَعَا
فِي وَجْهِهِ شَافِعٌ يَمْحُو إِسَاءَتَهُ مِنَ الْقُلُوبِ وَجِيهٌ حَيْثُمَا شَفَعَا
وَلَمَّا كَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ - اشْتَدَّ وَجَعُ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ، فَاجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْقُوَّادِ ; مِنْهُمْ يُونُسُ الْخَادِمُ

وَغَيْرُهُ إِلَى الْوَزِيرِ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَأَشَارُوا بِأَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ لِتَجْدِيدِ الْبَيْعَةِ لِلْمُكْتَفِي بِاللَّهِ عَلِيِّ بْنِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَتَأَكَّدَتِ الْبَيْعَةُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ.
وَحِينَ حَضَرَتِ الْمُعْتَضِدَ الْوَفَاةُ أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ:
تَمَتَّعْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ لَا تَبْقَى وَخُذْ صَفْوَهَا مَا إِنْ صَفَتْ وَدَعِ الرَّنْقَا
وَلَا تَأْمَنَنَّ الدَّهْرَ إِنِّي أَمِنْتُهُ فَلَمْ يُبْقِ لِي حَالًا وَلَمْ يَرْعَ لِي حَقًّا
قَتَلْتُ صَنَادِيدَ الرِّجَالِ فَلَمْ أَدَعْ عَدُوًّا وَلَمْ أُمْهِلْ عَلَى خُلُقٍ خَلْقَا
وَأَخْلَيْتُ دَارَ الْمُلْكِ مِنْ كُلِّ نَازِعٍ فَشَرَّدْتُهُمْ غَرْبًا وَمَزَّقْتُهُمْ شَنْقَا
فَلَمَّا بَلَغْتُ النَّجْمَ عِزًّا وَرِفْعَةً وَصَارَتْ رِقَابُ الْخَلْقِ أَجْمَعَ لِي رِقَّا
رَمَانِي الرَّدَى سَهْمًا فَأَخْمَدَ جَمْرَتِي فَهَاأَنَذَا فِي حُفْرَتِي عَاجِلًا أُلْقَى
وَلَمْ يُغْنِ عَنِّي مَا جَمَعْتُ وَلَمْ أَجِدْ لِذِي مَلِكِ الْأَحْيَاءِ فِي حِينِهَا رِفْقَا
وَأَفْسَدْتُ دُنْيَايَ وَدِينِي سَفَاهَةً فَمَنْ ذَا الَّذِي مِنِّي بِمَصْرَعِهِ أَشْقَى
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي بَعْدَ مَوْتِيَ مَا أَلْقَى إِلَى نِعْمَةٍ لِلَّهِ أَمْ نَارِهِ أُلْقَى
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْإِثْنَيْنِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْخَمْسِينَ. فَكَانَتْ خِلَافَتُهُ تِسْعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَخَلَّفَ مِنَ الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ، عَلِيًّا الْمُكْتَفِيَ، وَجَعْفَرًا الْمُقْتَدِرَ، وَهَارُونَ، وَمِنَ الْبَنَاتِ إِحْدَى عَشْرَةَ بِنْتًا، وَيُقَالُ سَبْعَ عَشْرَةَ بِنْتًا. وَتَرَكَ فِي بَيْتِ

الْمَالِ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَ يُمْسِكُ عَنْ صَرْفِ الْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ وَجْهِهَا، فَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يُبَخِّلُهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْحَدِيثِ، الِاثْنَيْ عَشَرَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمْ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَثَى أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ الْعَبَّاسِيُّ ابْنَ عَمِّهِ، الْمُعْتَضِدَ بِمَرْثَاةٍ حَسَنَةٍ يَقُولُ فِيهَا:
يَا دَهْرُ وَيْحَكَ مَا أَبْقَيْتَ لِي أَحَدًا وَأْنَتَ وَالِدُ سُوءٍ تَأْكُلُ الْوَلَدَا
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بَلْ ذَا كُلُّهُ قَدَرٌ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَاحِدًا صَمَدًا
يَا سَاكِنَ الْقَبْرِ فِي غَبْرَاءَ مِظْلِةٍ بِالظَّاهِرِيَّةِ مُقْصَى الدَّارِ مُنْفَرِدَا
أَيْنَ الْجُيُوشُ الَّتِي قَدْ كُنْتَ تَسْحَبُهَا أَيْنَ الْكُنُوزُ الَّتِي أَحْصَيْتَهَا عَدَدَا
أَيْنَ السَّرِيرُ الَّذِي قَدْ كُنْتَ تَمْلَؤُهُ مَهَابَةً مَنْ رَأَتْهُ عَيْنُهُ ارْتَعَدَا
أَيْنَ الْأَعَادِي الْأُلَى ذَلَّلْتَ صَعْبَهُمُ أَيْنَ اللُّيُوثُ الَّتِي صَيَّرْتَهَا نَقَدًا
أَيْنَ الْوُفُودُ عَلَى الْأَبْوَابِ عَاكِفَةً وِرْدَ الْقَطَا صَفْوَ مَاءٍ جَالَ وَاطَّرَدَا
أَيْنَ الرِّجَالُ قِيَامًا فِي مَرَاتِبِهِمْ مَنْ رَاحَ مِنْهُمْ وَلَمْ يُطْمَرْ فَقَدْ سَعِدَا

أَيْنَ الْجِيَادُ الَّتِي حَجَّلْتَهَا بِدَمٍ وَكُنَّ يَحْمِلْنَ مِنْكَ الضَّيْغَمَ الْأَسَدَا
أَيْنَ الرِّمَاحُ الَّتِي غَذَّيْتَهَا مُهَجًا مُذْ مِتَّ مَا وَرَدَتْ قَلْبًا وَلَا كَبِدًا
أَيْنَ السُّيُوفُ وَأَيْنَ النَّبْلُ مُرْسَلَةً يُصِبْنَ مَنْ شِئْتَ مِنْ قِرْنٍ وَإِنْ بَعُدَا
أَيْنَ الْمَجَانِيقُ أَمْثَالُ الْفِيُولِ إِذَا رَمَيْنَ حَائِطَ حِصْنٍ قَائِمٍ قَعَدَا
أَيْنَ الْقُصُورُ الَّتِي شَيَّدْتَهَا فَعَلَتْ وَلَاحَ فِيهَا سَنَا الْإِبْرِيزِ فَاتَّقَدَا
أَيْنَ الْجِنَانُ الَّتِي تَجْرِي جَدَاوِلُهَا وَتَسْتَجِيبُ إِلَيْهَا الطَّائِرَ الْغَرِدَا
أَيْنَ الْوَصَائِفُ كَالْغِزْلَانِ رَائِحَةً يَسْحَبْنَ مَنْ حُلَلٍ مَوْشِيَّةٍ جُدُدًا
أَيْنَ الْمَلَاهِي وَأَيْنَ الرَّاحُ تَحْسَبُهَا يَاقُوتَةً كُسِيَتْ مِنْ فِضَّةٍ زَرَدًا
أَيْنَ الْوُثُوبُ إِلَى الْأَعْدَاءِ مُبْتَغِيًا صَلَاحَ مُلْكِ بَنِي الْعَبَّاسِ إِذْ فَسَدَا
مَا زِلْتَ تَقْسِرُ مْنِهُمْ كُلَّ قَسْوَرَةٍ وَتَحْطِمُ الْعَاتِيَ الْجَبَّارَ مُعْتَمِدَا
ثُمَّ انْقَضَيْتَ فَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ حَتَّى كَأَنَّكَ يَوْمًا لَمْ تكُنْ أَحَدَا
لَا شَيْءَ يَبْقَى سُوَى خَيْرٍ تُقَدِّمُهُ مَا دَامَ مُلْكٌ لِإِنْسَانٍ وَلَا خَلَدَا
ذَكَرَهَا ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ ".
خِلَافَةُ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ أَبِي مُحَمَّدٍ
عَلِيِّ ابْنِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ

فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَيْسَ فِي الْخُلَفَاءِ مَنِ اسْمُهُ عَلِيٌّ سِوَى هَذَا وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ إِلَّا هَذَا، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْهَادِي وَالْمُسْتَضِيءُ بِأَمْرِ بِاللَّهِ.
وَحِينَ وَلِيَ الْمُكْتَفِي كَثُرَتِ الْفِتَنُ وَانْتَشَرَتْ فِي الْبِلَادِ وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زَلْزَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا وَفِي رَمَضَانَ تَسَاقَطَ وَقْتَ السَّحَرِ مِنَ السَّمَاءِ نُجُومٌ كَثِيرَةٌ وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَمَّا أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ كَانَ بِالرَّقَّةِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ وَأَعْيَانُ الْأُمَرَاءِ فَرَكِبَ فَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي يَوْمٍ مَشْهُودٍ وَذَلِكَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ أَمَرَ بِقَتْلِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ الصَّفَّارِ وَكَانَ مُعْتَقَلًا فِي سِجْنِ أَبِيهِ وَأَمَرَ بِتَخْرِيبَ الْمَطَامِيرَ الَّتِي كَانَ اتَّخَذَهَا أَبُوهُ لِلسِّجْنِ وَأَمَرَ بِبِنَاءِ جَامِعٍ مَكَانَهَا وَخَلَعَ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى الْوَزِيرِ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ سِتَّ خِلَعٍ وَقَلَّدَهُ سَيْفًا وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ وَلِيَ الْخِلَافَةَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَبَعْضَ شَهْرٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ انْتَشَرَتِ الْقَرَامِطَةُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُعْتَضِدِ فِي الْآفَاقِ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى الْحَجِيجِ وَتَسَمَّى بَعْضُهُمْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَبَعَثَ الْمُكْتَفِي إِلَيْهِمْ جُيُوشًا كَثِيرَةً وَأَنْفَقَ أَمْوَالًا غَزِيرَةً حَتَّى أَطْفَأَ اللَّهُ بَعْضَ شَرِّهِمْ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ طَاعَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ وَكَاتَبَهُ أَهْلُ الرَّىِّ بَعْدَ قَتْلِهِ مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدٍ الطَّالِبِيَّ فَصَارَ إِلَيْهِمْ فَسَلَّمُوا

إِلَيْهِ الْبَلَدَ فَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا فَقَصَدَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بِالْجُيُوشِ فَقَهَرَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": وَفِي يَوْمِ التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا صَلَّى النَّاسُ الْعَصْرَ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ وَعَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصَّيْفِ فَهَبَّتْ رِيحٌ بَارِدَةٌ جِدًّا حَتَّى احْتَاجَ النَّاسُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى الِاصْطِلَاءِ بِالنَّارِ وَلَبِسُوا الْفِرَاءَ والْمَحْشُوَّاتِ وَجَمَدَ الْمَاءُ كَفَصْلِ الشِّتَاءِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَكَذَا وَقَعَ بِمَدِينَةِ حِمْصَ قَالَ: وَهَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ بِالْبَصْرَةِ فَاقْتَلَعَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ نَخِيلِهَا وَخُسِفَ بِمَوْضِعٍ مِنْهَا فَمَاتَ تَحْتَهُ سِتَّةُ آلَافِ نَسَمَةٍ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَزُلْزِلَتْ بَغْدَادُ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً ثُمَّ سَكَنَتْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَحَدُ الصُّوفِيَّةِ الْكِبَارِ.

قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ سَرِيٍّ السَّقَطِيِّ.
وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ غَلَبَ عَلَيْهِ سُوءُ الْمِزَاجِ وَالْجَفَافُ لِكَثْرَةِ الْجِمَاعِ وَكَانَ الْأَطِبَّاءُ يَصِفُونَ لَهُ مَا يُرَطِّبُ بَدَنَهُ لَهُ فَيَسْتَعْمِلُ ضِدَّ ذَلِكَ حَتَّى سَقَطَتْ قُوَّتُهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ وَفَاتِهِ فِي تَرْجَمَتِهِ آنِفًا.
بَدْرٌ غُلَامُ الْمُعْتَضِدِ وَرَأْسُ الْجَيْشِ
كَانَ الْقَاسِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْوَزِيرُ قَدْ عَزَمَ فِي حَيَاةِ الْمُعْتَضِدِ عَلَى أَنْ يَصْرِفَ الْخِلَافَةَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُعْتَضِدِ وَفَاوَضَ بِذَلِكَ بَدْرًا هَذَا فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ وَأَبَى إِلَّا الْبَيْعَةَ لِأَوْلَادِ مَوْلَاهُ، فَلَمَّا وَلِيَ الْمُكْتَفِي خَافَ الْوَزِيرُ مِنْ غَائِلَةِ مَا كَانَ أَسَرَّ بِهِ إِلَى بَدْرٍ فَعَمِلَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُكْتَفِي، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى احْتَاطَ الْخَلِيفَةُ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ وَهُوَ بِوَاسِطَ ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ، فَقَدِمَ، فَأَمَرَ الْوَزِيرُ مَنْ قَتَلَهُ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ثُمَّ قَطَعَ رَأْسَهُ وَبَقِيَتْ جُثَّتُهُ أَخَذَهَا أَهْلُهُ ثُمَّ بَعَثُوهَا فِي تَابُوتٍ إِلَى مَكَّةَ فَدُفِنَ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوْصَى بِذَلِكَ وَكَانَ قَدْ أَعْتَقَ كُلَّ مَمْلُوكٍ لَهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ، وَحِينَ أُرِيدُ قَتْلُهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَتَلُوهُ.
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ فَهْمِ بْنِ مُحْرِزِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ خَلَفَ بْنَ هِشَامٍ وَيَحْيَى بْنَ مَعِينٍ وَمُحَمَّدَ

بْنَ سَعْدٍ وَغَيْرَهُمْ وَعَنْهُ الْخُطَبِيُّ والطُّومَارِيُّ وَكَانَ عَسِرًا فِي التَّحْدِيثِ إِلَّا لِمَنْ لَازَمَهُ وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْأَخْبَارِ وَالنَّسَبِ وَالشِّعْرِ وَأَسْمَاءِ الرِّجَالِ يَمِيلُ إِلَى مَذْهَبِ الْعِرَاقِيِّينَ فِي الْفِقْهِ، تُوُفِّيَ عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
وَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
عُمَارَةُ بْنُ وَثِيمَةَ بْنِ مُوسَى أَبُو رِفَاعَةَ الْفَارِسِيُّ صَاحِبُ التَّارِيخِ عَلَى السِّنِينَ، وُلِدَ بِمِصْرَ وَحَدَّثَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ وَغَيْرِهِ.
عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ الصَّفَّارُ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ قُتِلَ فِي السِّجْنِ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمُكْتَفِي بَغْدَادَ.

سَنَةُ تِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا أَقْبَلَ يَحْيَى بْنُ زَكْرَوَيْهِ بْنِ مَهْرَوَيْهِ أَبُو قَاسِمٍ الْقِرْمِطِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالشَّيْخِ فِي جَحَافِلَ عَظِيمَةٍ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، فَعَاثَ بِنَاحِيَةِ الرَّقَّةِ فَسَادًا فَجَهَّزَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ جَيْشًا كَثِيفًا فِي نَحْوِ عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ.
وَفِيهَا رَكِبَ الْخَلِيفَةُ الْمُكْتَفِي مِنْ بَغْدَادَ إِلَى سَامَرَّا يُرِيدُ الْإِقَامَةَ بِهَا فَثَنَى رَأْيَهُ عَنْ ذَلِكَ الْوَزِيرُ الْقَاسِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ زَكْرَوَيْهِ بْنِ مَهْرَوَيْهِ عَلَى بَابِ دِمَشْقَ قَتَلَهُ جَيْشُ الْمِصْرِيِّينَ زَرَقَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمَغَارِبَةِ بِمِزْرَاقٍ مِنْ نَارٍ فَحَرَقَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا كَانَ قَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ جَيْشِهَا مِنْ أَصْحَابِ طُغْجِ بْنِ جُفٍّ نَائِبِهَا، ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ بِقَتْلِهِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، فَقَامَ بِأَمْرِ الْقَرَامِطَةِ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ الْحُسَيْنُ، وَتَسَمَّى بِأَحْمَدَ وَتَكَنَّى بِأَبِي الْعَبَّاسِ وَتَلَقَّبَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَطَاعَتْهُ الْقَرَامِطَةُ، كَمَا كَانُوا يُطِيعُونَ أَخَاهُ، فَحَاصَرَ دِمَشْقَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى مَالٍ ثُمَّ سَارَ إِلَى حِمْصَ فَافْتَتَحَهَا وَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِهَا ثُمَّ سَارَ إِلَى حَمَاةَ وَمَعَرَّةِ النُّعْمَانِ فَقَهَرَ أَهْلَ تِلْكَ النَّوَاحِي وَاسْتَبَاحَ أَمْوَالَهُمْ وَحَرِيمَهُمْ وَكَانَ يَقْتُلُ الدَّوَابَّ وَالصِّبْيَانَ فِي الْمَكَاتِبِ وَيُبِيحُ لِمَنْ مَعَهُ وَطْءَ النِّسَاءِ، فَرُبَّمَا وَطِئَ الْوَاحِدَةَ

الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الرِّجَالِ فَإِذَا وَلَدَتْ وَلَدًا هَنَأَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْآخَرَ فَكَتَبَ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَشْكُونَ إِلَيْهِ مَا يَلْقُونَ مِنْ هَذَا اللَّعِينِ فَجَهَّزَ الْمُكْتَفِي جُيُوشًا كَثِيفَةً وَأَنْفَقَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً لِحَرْبِهِ، وَرَكِبَ فِي رَمَضَانَ فَنَزَلَ الرَّقَّةَ وَبَثَّ الْجُيُوشَ فِي كُلِّ جَانِبٍ لِقِتَالِ الْقِرْمِطِيِّ وَكَانَ الْقِرْمِطِيُّ يَكْتُبُ إِلَى أَصْحَابِهِ:
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيِّ الْمَنْصُورِ بِاللَّهِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْحَاكِمِ بِحُكْمِ اللَّهِ الدَّاعِي إِلَى كِتَابِ اللَّهِ الذَّابِّ عَنْ حَرِيمِ اللَّهِ الْمُخْتَارِ مِنْ وَلَدِ رَسُولِ اللَّهِ. وَكَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ فَاطِمَةَ وَهُوَ كَاذِبٌ أَفَّاكٌ أَثِيمٌ قَبَّحَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِقُرَيْشٍ ثُمَّ لِبَنِيِّ هَاشِمٍ، ثُمَّ دَخَلَ سُلَمْيَةَ فَلَمْ يَدَعْ بِهَا أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ حَتَّى قَتَلَهُ وَقَتَلَ أَوْلَادَهُ وَاسْتَبَاحَ نِسَاءَهُ.
وَفِيهَا وَلِيَ ثَغْرَ طَرَسُوسَ أَبُو الْعَشَائِرِ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ عِوَضًا عَنْ مُظَفَّرِ بْنِ حَاجٍّ ; لِشَكْوَى أَهْلِ الثَّغْرِ مِنْهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبَّاسِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّيْبَانِيُّ كَانَ إِمَامًا

ثِقَةً حَافِظًا ثَبْتًا مُكْثِرًا عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنَادِي: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَرَوَى عَنْ أَبِيهِ مِنْهُ، سَمِعَ مِنْهُ " الْمُسْنَدَ " ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَ " التَّفْسِيرَ " مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، مِنْ ذَلِكَ سَمَاعٌ وَمِنْ ذَلِكَ وِجَادَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ " النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ " وَ " الْمُقَدَّمُ وَالْمُؤَخَّرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ " وَ " التَّارِيخُ " وَ " حَدِيثُ شُعْبَةَ " وَ " جَوَابَاتُ الْقُرْآنِ " وَ " الْمَنَاسِكُ الْكَبِيرُ " وَ " الصَّغِيرُ " وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَانِيفِ وَحَدِيثُ الشُّيُوخِ.
قَالَ: وَمَا زِلْنَا نَرَى أَكَابِرَ شُيُوخِنَا يَشْهَدُونَ لَهُ بِمَعْرِفَةِ الرِّجَالِ وَعِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ فِي الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا وَيَذْكُرُونَ عَنْ أَسْلَافِهِمُ الْإِقْرَارَ لَهُ بِذَلِكَ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ أَسْرَفَ فِي تَقْرِيظِهِ لَهُ بِالْمَعْرِفَةِ وَزِيَادَةِ السَّمَاعِ لِلْحَدِيثِ عَنْ أَبِيهِ.
وَلَمَّا مَرِضَ قِيلَ لَهُ: أَيْنَ تُدْفَنُ ؟ فَقَالَ: صَحَّ عِنْدِي أَنَّ بِالْقَطِيعَةِ نَبِيًّا مَدْفُونًا وَلَأَنْ أَكُونَ فِي جِوَارِ نَبِيٍّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ فِي جِوَارِ أَبِي. فَمَاتَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً كَمَا مَاتَ لَهَا أَبُوهُ،

وَكَانَ الْجَمْعُ كَثِيرًا جِدًّا، وَصَلَّى عَلَيْهِ زُهَيْرٌ ابْنُ أَخِيهِ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ بَابِ التِّبْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الرِّبَاطِيُّ الْمَرْوَزِيُّ صَحِبَ أَبَا تُرَابٍ النَّخْشَبِيَّ وَكَانَ الْجُنَيْدُ يَمْدَحُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ. عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي الْآذَانِ كَانَ ثِقَةً ثَبْتًا. مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ أَبُو مَيْسَرَةَ الْهَمْدَانِيُّ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ "، وَكَانَ أَحَدَ الثِّقَاتِ الْمَشْهُورِينَ وَالْمُصَنِّفِينَ الْمُنْصِفِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ الزَّقَّاقُ.
أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ وَعُبَّادِهِمْ رَوَى عَنِ الْجُنَيْدِ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ إِبْلِيسَ فِي الْمَنَامِ وَكَأَنَّهُ عُرْيَانٌ، فَقُلْتُ: أَلَا تَسْتَحِي مِنَ النَّاسِ ؟ فَقَالَ: هَؤلَاءِ أُنَاسٌ وَأَنَا أَتَلَعَّبُ بِهِمْ كَمَا يَلْعَبُ الصِّبْيَانُ بِالْكُرَةِ إِنَّمَا النَّاسُ جَمَاعَةٌ غَيْرُ هَؤُلَاءِ. فَقُلْتُ: مَنْ هُمْ ؟ فَقَالَ: قَوْمٌ فِي مَسْجِدِ

الشُّونِيزِيِّ فَقَدْ أَضْنَوْا قَلْبِي وَأَنْحَلُوا جَسَدِي كُلَّمَا هَمَمْتُ بِهِمْ أَشَارُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَكَادُ أَحْتَرِقُ.
قَالَ: فَانْتَبَهْتُ وَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَقَصَدْتُ مَسْجِدَ الشُّونِيزِيِّ، فَإِذَا فِيهِ ثَلَاثَةٌ جُلُوسٌ وَرُءُوسُهُمْ فِي مُرَقَّعَاتِهِمْ، فَرَفَعَ أَحَدُهُمْ رَأْسَهُ مِنْ جَيْبِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَنْتَ كُلَّمَا قِيلَ لَكَ شَيْءٌ تُقْبِلُ ؟ فَإِذَا هُمْ أَبُو بَكْرٍ الزَّقَّاقُ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ النُّورِيُّ، وَأَبُو حَمْزَةَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُلْوِيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ تِلْمِيذُ الْمُزَنِيِّ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَرَتْ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ بَيْنَ الْقَرَامِطَةِ وَجُنْدِ الْخَلِيفَةِ فَهُزِمَتِ الْقَرَامِطَةُ هَزِيمَةً عَظِيمَةً، وَأَسِرَ رَئِيسُهُمُ الْحُسَيْنُ بْنُ زَكْرَوَيْهِ، الْمُلَقَّبُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ذُو الشَّامَةِ، وَقَدْ تَسَمَّى كَمَا ذَكَرْنَا بِأَحْمَدَ، وَتَكَنَّى بِأَبِي الْعَبَّاسِ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ جَدَّا، فَلَمَّا أُسِرَ حُمِلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فِي جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ، أُدْخِلَ بَغْدَادَ عَلَى فِيلٍ مَشْهُورٍ لِلنَّاسِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِعَمَلِ دَكَّةٍ مُرْتَفِعَةٍ فَأُجْلِسَ عَلَيْهَا الْقِرْمِطِيُّ، وَجِيءَ بِأَصْحَابِهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَنْظُرُ، وَقَدْ جَعَلَ فِي فَمِهِ خَشَبَةً مُعْتَرِضَةً مَشْدُودَةً إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ أُنْزِلَ فَضُرِبَ مِائَتَيْ سَوْطٍ ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرَجْلَاهُ وَكُوِيَ ثُمَّ أُحْرِقَ وَحُمِلَ رَأْسُهُ عَلَى خَشَبَةٍ وَطِيفَ بِهِ فِي أَرْجَاءِ بَغْدَادَ وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
وَفِيهَا قَصَدَتِ الْأَتْرَاكُ بِلَادَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي جَحَافِلَ عَظِيمَةٍ فَبَيَّتَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا مَا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [ الْأَحْزَابِ: 25 ].
وَفِيهَا بَعَثَ مِلْكُ الرُّومِ عَشَرَةَ صُلْبَانٍ مَعَ كُلِّ صَلِيبٍ عَشَرَةُ آلَافٍ فَأَغَارُوا

عَلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَبَوْا أُنَاسًا مِنَ الذُّرِّيَّةِ.
وَفِيهَا دَخَلَ نَائِبُ طَرَسُوسَ بِلَادَ الرُّومِ فَفَتَحَ مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ تُعَادِلُ عِنْدَهُمُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَخَلَّصَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَمْسَةَ آلَافِ أَسِيرٍ وَأَخَذَ مِنَ الرُّومِ سِتِّينَ مَرْكَبًا وَغَنِمَ شَيْئًا عَظِيمًا جِدًّا، فَبَلَغَ نَصِيبُ كُلٍّ مِنَ الْغُزَاةِ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زَيْدِ بْنِ سَيَّارٍ.
أَبُو الْعَبَّاسِ الشَّيْبَانِيُّ مَوْلَاهُمُ الْمُلَقَّبُ بِثَعْلَبٍ إِمَامُ الْكُوفِيِّينَ فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، مَوْلِدُهُ سَنَةَ مِائَتَيْنِ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ زِيَادِ بْنِ الْأَعْرَابِيِّ وَالزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ وَالْقَوَارِيرِيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ ابْنُ الْأَنْبَارِي وَابْنُ عَرَفَةَ وَأَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ، وَكَانَ ثِقَةً حُجَّةً دَيِّنًا صَالِحًا مَشْهُورًا بِالصِّدْقِ وَالْحِفْظِ وَذُكِرَ أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ الْقَوَارِيرِيِّ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ سَنَةً.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجَامِعِ وَفِي يَدِهِ كِتَابٌ يَنْظُرُ فِيهِ وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُ صَمَمٌ شَدِيدٌ فَصَدَمَتْهُ فَرَسٌ فَأَلْقَتْهُ فِي هُوَّةٍ

فَاضْطَرَبَ دِمَاغُهُ فَمَاتَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ: وَهُوَ مُصَنِّفُ كِتَابِ " الْفَصِيحِ " وَهُوَ صَغِيرُ الْحَجْمِ كَثِيرُ الْفَائِدَةِ وَلَهُ كِتَابُ " الْمَصُونِ " وَ " اخْتِلَافُ النَّحْوِيِّينَ " وَ " مَعَانِي الْقُرْآنِ " وَكِتَابُ " الْقِرَاءَاتِ " وَ " مَعَانِي الشِّعْرِ " وَ " مَا يَلْحَنُ فِيهِ الْعَامَّةُ " وَذَكَرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَيْضًا، وَمِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الشِّعْرِ:
إِذَا كُنْتَ قُوتَ النَّفْسِ ثُمَّ هَجَرْتَهَا فَكَمْ تَلْبَثُ النَّفْسُ الَّتِي أَنْتَ قُوتُهَا سَتَبْقَى بَقَاءَ الضَّبِّ فِي الْمَاءِ أَوْ كَمَا
يَعِيشُ بِبَيْدَاءِ الْمَهَامِهِ حُوتُهَا أَغَرَّكَ مِنِّي أَنْ تَصَبَّرْتُ جَاهِدًا
وفي النَّفْسِ مِنِّي مِنْكَ مَا سَيُمِيتُهَا فَلَوْ كَانَ مَا بِي بِالصُّخُورِ لَهَدَّهَا
وَبِالرِّيحِ مَا هَبَّتْ وَطَالَ خُفُوتُهَا فَصَبْرًا لَعَلَّ اللَّهَ يَجْمَعُ بَيْنَنَا
فَأَشْكُو هُمُومًا مِنْكَ فِيكَ لَقِيتُهَا
الْقَاسِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ الْوَزِيرُ، تَوَلَّى بَعْدَ أَبِيهِ الْوِزَارَةَ فِي آخِرِ أَيَّامِ الْمُعْتَضِدِ ثُمَّ وَزَرَ لِوَلَدِهِ الْمُكْتَفِي مِنْ بَعْدِهِ. فَلَمَّا كَانَ رَمَضَانُ مِنْ

هَذِهِ السَّنَةِ مَرِضَ فَبَعَثَ إِلَى السُّجُونِ فَأَطْلَقَ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَظْلُومِينَ ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا وَقَدْ قَارَبَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ كَانَ حَظِيًّا عِنْدَ الْخَلِيفَةِ جِدًّا، وَخَلَّفَ مِنَ الْأَمْلَاكِ مَا يَعْدِلُ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ شَدَّادٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ الْقَاضِي بِوَاسِطَ الْمَعْرُوفُ بِالْجُذُوعِيِّ.
حَدَّثَ عَنْ مُسَدَّدٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَابْنِ نُمَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ الْقُضَاةِ الْأَجْوَادِ الْعُدُولِ الْأُمَنَاءِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّائِغُ، وَقُنْبُلٌ أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْقُرَّاءِ وَأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي نَحْوٍ مَنْ عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُكْتَفِي إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِقِتَالِ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ فَبَرَزَ إِلَيْهِ هَارُونُ فَاقْتَتَلَا فَقَهَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَجَمَعَ آلَ طُولُونَ وَكَانُوا سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَقَتَلَهُمْ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ وَانْقَضَتْ دَوْلَةُ الطُّولُونِيَّةِ عَنِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَكَتَبَ بِالْفَتْحِ إِلَى الْمُكْتَفِي.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ أَمِيرُ الْحَاجِّ فِي السِّنِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ.
أَحَدُ الْمَشَايِخِ الْمُعَمَّرِينَ كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ خَمْسُونَ أَلْفًا مِمَّنْ مَعَهُ مِحْبَرَةٌ سِوَى النَّظَّارَةِ وَيَسْتَمْلِي عَلَيْهِ سَبْعَةُ مُسْتَمْلِينَ كَلٌّ يُبَلِّغُ صَاحِبَهُ وَيَكْتُبُ بَعْضُ النَّاسِ وَهُمْ قِيَامٌ وَكَانَ كُلَّمَا حَدَّثَ بِعَشَرَةِ آلَافِ حَدِيثٍ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ وَلَمَّا فُرِغَ مِنْ قِرَاءَةِ السُّنَنِ عَلَيْهِ عَمِلَ مَأْدُبَةً غَرِمَ عَلَيْهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَقَالَ: شَهِدْتُ الْيَوْمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُبِلَتْ شَهَادَتِي وَحْدِي أَفَلَا أَعْمَلُ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَى ابْنُ

الْجَوْزِيِّ وَالْخَطِيبُ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ.
قَالَ: خَرَجْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْمَنْزِلِ بِلَيْلٍ فَمَرَرْتُ بِحَمَّامٍ وَعَلَيَّ جَنَابَةٌ فَدَخَلْتُهُ، فَقُلْتُ لِلْحَمَّامِيِّ: أَدَخَلَ حَمَّامَكَ أَحَدٌ بَعْدُ ؟ فَقَالَ: لَا، فَدَخَلْتُ، فَلَمَّا فَتَحْتُ بَابَ الْحَمَّامِ الدَّاخِلَ إِذَا قَائِلٌ يَقُولُ: أَبَا مُسْلِمٍ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
لَكَ الْحَمْدُ إِمَّا عَلَى نِعْمَةٍ وَإِمَّا عَلَى نِقْمَةٍ تَدْفَعُ تَشَاءُ فَتَفْعَلُ مَا شِئْتَهُ
وَتَسْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَا تُسْمَعُ
قَالَ: فَبَادَرْتُ فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ لِلْحَمَّامِيِّ: أَنْتَ زَعَمْتَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ حَمَّامَكَ أَحَدٌ، فَقَالَ: نَعَمْ وَمَا ذَاكَ ؟ فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ كَذَا.
قَالَ: أَوَسَمِعْتَهُ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: يَا سَيِّدِي هَذَا رَجُلٌ مِنَ الْجَانِّ يَتَبَدَّى لَنَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَيُنْشِدُ الْأَشْعَارَ وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ حَسَنٍ فِيهِ مَوَاعِظُ، فَقُلْتُ: هَلْ حَفِظْتَ مِنْ شِعْرِهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ أَنْشَدَنِي مِنْ شِعْرِهِ:
أَيُّهَا الْمُذْنِبُ الْمُفَرِّطُ مَهْلًا كَمْ تَمَادَى وَتَرْكَبُ الذَّنْبَ جَهْلًا
كَمْ وَكَمْ تُسْخِطُ الْجَلِيلَ بِفِعْلٍ سَمِجٍ وَهْوَ يُحْسِنُ الصُّنْعَ فِعْلًا
كَيْفَ تَهْدَا جُفُونُ مَنْ لَيْسَ يَدْرِي أَرَضِيَ عَنْهُ مَنْ عَلَى الْعَرْشِ أَمْ لَا
عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبُو حَازِمٍ الْقَاضِي الْحَنَفِيُّ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ وَأَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ وَمِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَرِعًا نَزِهَا كَثِيرَ الصِّيَانَةِ وَالدِّيَانَةِ

وَالْأَمَانَةِ وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " آثَارًا حَسَنَةً وَأَفْعَالًا جَمِيلَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا الْتَفَّ عَلَى أَخِي الْحُسَيْنِ الْقِرْمِطِيِّ الْمَعْرُوفِ بِذِي الشَّامَةِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَ مَقْتَلِهِ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ - خَلَائِقُ مِنَ الْقَرَامِطَةِ وَالْأَعْرَابِ وَاللُّصُوصِ بِطَرِيقِ الْفُرَاتِ فَعَاثَ بِهِمْ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ثُمَّ قَصَدَ طَبَرِيَّةَ فَامْتَنَعُوا مِنْ إِيوَائِهِ فَدَخَلَهَا قَهْرًا وَقَتَلَ بِهَا خَلْقًا مِنَ الرِّجَالِ وَأَخَذَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى الْبَادِيَةِ وَدَخَلَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ إِلَى هِيتَ فَقَتَلُوا أَهْلَهَا إِلَّا الْقَلِيلَ وَأَخَذُوا مِنْهَا أَمْوَالًا جَزِيلَةً حَمَلُوهَا عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ بَعِيرٍ فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْخَلِيفَةُ الْمُكْتَفِي جَيْشًا فَقَاتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا رَئِيسَهُمْ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَنَبَغَ رَجُلٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ يُقَالُ لَهُ الدَّاعِيَةُ بِالْيَمَنِ فَحَاصَرَ صَنْعَاءَ فَدَخَلَهَا قَهْرًا وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا ثُمَّ سَارَ إِلَى بَقِيَّةِ مُدُنِ الْيَمَنِ فَأَكْثَرَ فِيهَا الْفَسَادَ وَقَتَلَ خَلْقًا مِنَ الْعُبَّادِ ثُمَّ قَاتَلَهُ أَهْلُ صَنْعَاءَ فَظَفِرُوا بِهِ وَهَزَمُوهُ فَانْحَازَ إِلَى بَعْضِ مُدُنِهَا وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهَا الْمُظَفَّرَ بْنَ حَاجٍّ نَائِبًا وَخَلَعَ عَلَيْهِ، فَسَارَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ.
وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى دَخَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانِمِائَةٍ إِلَى الْكُوفَةِ وَالنَّاسُ فِي عِيدِهِمْ، فَنَادَوْا: يَا ثَارَاتِ الْحُسَيْنِ، يَعْنُونَ الْمَصْلُوبَ بِبَغْدَادَ، وَشِعَارُهُمْ: يَا أَحْمَدُ يَا مُحَمَّدُ، يَعْنُونَ الَّذِينَ قُتِلُوا مَعَهُ، فَبَادَرَ النَّاسُ الدُّخُولَ إِلَى الْكُوفَةِ فَوَلَجَ خَلْفَهُمُ الْقَرَامِطَةُ فَرَمَتْهُمُ الْعَامَّةُ بِالْحِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ

فَقَتَلُوا مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ، وَرَجَعَ الْبَاقُونَ خَاسِئِينَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ بِمِصْرَ يُقَالُ لَهُ الْخَلَنْجِيُّ فَخَلَعَ الطَّاعَةَ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْجُنْدِ فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَحْمَدَ بْنَ كَيْغَلَغَ نَائِبَ دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا فَرَكِبَ إِلَيْهِ فَاقْتَتَلَا بِظَاهِرِ مِصْرَ فَهَزَمَهُ الْخَلَنْجِيُّ هَزِيمَةً مُنْكَرَةً فَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ جَيْشًا آخَرَ فَهَزَمُوا الْخَلَنْجِيَّ وَهَرَبَ فَاسْتَتَرَ بِمِصْرَ، فَأُحْضِرَ، وَسُلِّمَ إِلَى الْأَمِيرِ الْخَلِيفَةِ وَانْطَفَأَ خَبَرُهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا اشْتَغَلَ الْجَيْشُ بِأَمْرِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعَثَ زَكْرَوَيْهِ بْنُ مَهْرَوَيْهِ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِهِ الْحُسَيْنِ بِبَغْدَادَ - جَيْشًا صُحْبَةَ رَجُلٍ كَانَ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ، يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، فَقَصَدَ بُصْرَى وَأَذْرِعَاتَ وَالْبَثْنِيَّةَ، فَحَارَبَهُ أَهْلُهَا، ثُمَّ أَمَّنَهُمْ، فَلَمَّا أَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُمْ قَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ، وَرَامَ الدُّخُولَ إِلَى دِمَشْقَ فَقَاتَلَهُ نَائِبُ أَحْمَدَ بْنِ كَيْغَلَغَ بِدِمَشْقَ وَهُوَ صَالِحُ بْنُ الْفَضْلِ فَهَزَمَهُ الْقِرْمِطِيُّ وَقُتِلَ صَالِحٌ فِيمَنْ قُتِلَ وَحَاصَرَ دِمَشْقَ فِلْمْ يُمْكِنْهُ فَتْحُهَا فَانْصَرَفَ إِلَى طَبَرِيَّةَ فَقَتَلُوا أَكْثَرَ أَهْلِهَا كَمَا ذَكَرْنَا وَنَهَبُوا مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا، ثُمَّ سَارُوا إِلَى هِيتَ فَفَعَلُوا كَذَلِكَ، ثُمَّ جَهَّزَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَأَخَذَ رَئِيسَهُمْ مِنْ بَيْنِهِمْ وَنَجَا بَقِيَّتُهُمْ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى الْكُوفَةِ فِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَمْ يَنْتَجِ لَهُمْ أَمْرٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ زَكْرَوَيْهِ بْنِ مَهْرُوَيْهِ وَهُوَ مُخْتَفٍ فِي بَلَدِهِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، إِذَا أُلِحَّ فِي طَلَبِهِ نَزَلَ بِئْرًا قَدِ اتَّخَذَهَا، وَعَلَى بَابِهِ تَنُّورٌ فَتَقُومُ امْرَأَةٌ تَسْجُرُهُ وَتَخْبِزُ فِيهِ فَلَا يَشْعُرُ أَحَدٌ بِأَمْرِهِ أَصْلًا، فَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا فَقَاتَلَهُمْ زَكْرَوَيْهِ بِنَفْسِهِ

وَمَنْ أَطَاعَهُ فَهَزَمَ جَيْشَ الْخَلِيفَةِ وَغَنِمَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا فَتَقَوَّى بِهِ وَاشْتَدَّ أَمْرُهُ فَنَدَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا آخَرَ فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِيهَا افْتَتَحَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ نَائِبُ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ طَائِفَةً كَبِيرَةً مِنْ بِلَادِ الْأَتْرَاكِ.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى بَعْضِ أَعْمَالِ حَلَبَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَبُو الْعَبَّاسِ النَّاشِي الشَّاعِرُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُعْتَزِلِيُّ أَصْلُهُ مِنَ الْأَنْبَارِ وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ مُدَّةً ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مِصْرَ فَمَاتَ بِهَا وَكَانَ يُعَاكِسُ الشُّعَرَاءَ وَيَرُدُّ عَلَى الْمَنْطِقِيِّينَ وَالْعَرُوضِيِّينَ وَكَانَ شَاعِرًا مُطْبِقًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِيهِ هَوَسٌ وَلَهُ قَصِيدَةٌ حَسَنَةٌ فِي نَسَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي " السِّيرَةِ ".
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ مُتَبَحِّرًا فِي عِدَّةِ عُلُومٍ مِنْ جُمْلَتِهَا عِلْمُ الْمَنْطِقِ، وَكَانَ ذَكِيًّا فَطِنًا، وَلَهُ قَصِيدَةٌ فِي فُنُونٍ مِنَ الْعُلُومِ عَلَى رَوِيٍّ وَاحِدٍ تَبْلُغُ أَرْبَعَةَ آلَافِ بَيْتٍ وَلَهُ عِدَّةُ تَصَانِيفَ جَمِيلَةٌ وَأَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ. قَالَ: وَأَمَّا النَّاشِي الْأَصْغَرُ فَسَيَأْتِي.

عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَزَّارُ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي ثَوْرٍ، كَانَ عِنْدَهُ فِقْهُ أَبِي ثَوْرٍ وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ النُّبَلَاءِ.
نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْكِنْدِيُّ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِنَصْرَكَ كَانَ أَحَدَ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِينَ، وَكَانَ الْأَمِيرُ خَالِدُ بْنُ أَحْمَدَ الذُّهْلِيُّ نَائِبُ بخُاَرَى قَدْ ضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَصَنَّفَ لَهُ " الْمُسْنَدَ "، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبُخَارَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اعْتَرَضَ زَكْرَوَيْهِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَأَصْحَابُهُ الْحُجَّاجَ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَهَمْ قَافِلُونَ مِنْ مَكَّةَ فَقَتَلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَسَبَى نِسَاءَهُمْ فَكَانَ قِيمَةُ مَا أَخَذَهُ مِنْهُمْ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعِدَّةُ مَنْ قُتِلَ عِشْرِينَ أَلْفَ إِنْسَانٍ وَكَانَتْ نِسَاءُ الْقَرَامِطَةِ يَطُفْنَ بَيْنَ الْقَتْلَى مِنَ الْحُجَّاجِ بِالْمَاءِ صِفَةَ أَنَّهُنَّ يَسْقِينَ الْجَرْحَى فَمَنْ كَلَّمَهُنَّ مِنَ الْجَرْحَى قَتَلْنَهُ وَأَجْهَزْنَ عَلَيْهِ لَعَنَهُنَّ اللَّهُ وَقَبَّحَ أَزْوَاجَهُنَّ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ زَكْرَوَيْهِ لَعَنَهُ اللَّهُ
لَمَّا بَلَغَ الْخَلِيفَةَ خَبَرُ الْحَجِيجِ وَمَا أَوْقَعَ بِهِمُ الْخَبِيثُ زَكْرَوَيْهِ جَهَّزَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا فَالْتَقَوْا مَعَهُ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا جِدًّا قُتِلَ مِنَ الْقَرَامِطَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، وَضُرِبَ زَكْرَوَيْهِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - بِالسَّيْفِ فِي رَأْسِهِ فَوَصَلَتِ الضَّرْبَةُ إِلَى دِمَاغِهِ وَأُخِذَ أَسِيرًا فَمَاتَ بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ فَفَتَحُوا عَنْ بَطْنِهِ وَصَبَّرُوهُ وَحَمَلُوهُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ إِلَى بَغْدَادَ وَاحْتَوَى الْعَسْكَرُ عَلَى مَا كَانَ بِأَيْدِي الْقَرَامِطَةِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ

وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِقَتْلِ أَصْحَابِ الْقِرْمِطِيِّ وَأَنْ يُطَافَ بِرَأْسِ الْقِرْمِطِيِّ فِي سَائِرِ بِلَادِ خُرَاسَانَ لِئَلَّا يَمْتَنِعَ النَّاسُ عَنِ الْحَجِّ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ، وَأَطْلَقَ مَنْ كَانَ بِأَيْدِي الْقَرَامِطَةِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الَّذِينَ أَسَرُوهُمْ.
وَفِيهَا غَزَا أَحْمَدُ بْنُ كَيْغَلَغَ نَائِبُ دِمَشْقَ بِلَادَ الرُّومِ مِنْ نَاحِيَةِ طَرَسُوسَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ وَأَسَرَ مِنْ ذَرَارِيهِمْ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَأَسْلَمَ بَعْضُ الْبَطَارِقَةِ مِنَ الرُّومِ، وَجَاءَ مَعَهُ بِنَحْوٍ مَنْ مِائَتَيْ أَسِيرٍ كَانُوا فِي حِصْنِهِ، فَأَرْسَلَ مِلْكُ الرُّومِ جَيْشًا فِي طَلَبِهِ، فَرَكِبَ هُوَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَبَسَ الرُّومَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَغَنِمَ مِنْهُمْ غَنِيمَةً كَثِيرَةً جِدًّا، وَلَمَّا قَدِمَ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مَا تَمَنَّاهُ.
وَفِيهَا ظَهَرَ بِالشَّامِ رَجُلٌ فَادَّعَى أَنَّهُ السُّفْيَانِيُّ فَأُخِذَ وَبُعِثَ بِهِ إِلَى بَغْدَادَ فَادَّعَى أَنَّهُ مُوَسْوَسٌ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَرْوَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِعُبَيْدٍ الْعِجْلِ، كَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا مُتْقِنًا ثِقَةً مُقَدَّمًا فِي حِفْظِ

الْمُسْنَدَاتِ تُوُفِّيَ فِي صِفْرٍ مِنْهَا.
صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَبِيبٍ أَبُو عَلِيٍّ الْأَسَدِيُّ أَسَدُ خُزَيْمَةَ الْمَعْرُوفُ بِجَزَرَةَ ; لِأَنَّهُ قَرَأَ عَلَى بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ كَانَتْ لَهُ خَرَزَةٌ يَرْقِي بِهَا الْمَرِيضَ، فَقَرَأَهَا هُوَ جَزَرَةً تَصْحِيفًا مِنْهُ فَلُقِّبَ بِذَلِكَ لِذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا جَوَّالًا رَحَّالًا طَافَ الشَّامَ وَمِصْرَ وَخُرَاسَانَ وَانْتَقَلَ مِنْ بَغْدَادَ فَسَكَنَ بُخَارَى، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا أَمِينًا وَلَهُ رِوَايَةٌ كَثِيرَةٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَسُؤَالَاتٌ كَثِيرَةٌ، كَانَ مَوْلِدُهُ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ.
وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْمَعْرُوفُ بِالْبَيَاضِيِّ لِأَنَّهُ حَضَرَ مَجْلِسَ الْخَلِيفَةِ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ الْبَيَاضِ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: مَنْ ذَاكَ الْبَيَاضِيُّ ؟ فَعُرِفَ بِهِ وَكَانَ ثِقَةً رَوَى عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنِ مِقْسَمٍ قَتَلَتْهُ الْقَرَامِطَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدٌ ابْنُ الْإِمَامِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ سَمِعَ أَبَاهُ وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْرَهُمَا وَكَانَ عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ جَمِيلَ الطَّرِيقَةِ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ

بِهَا، وَقَتَلَتْهُ الْقَرَامِطَةُ هَذِهِ السَّنَةَ فِيمَنْ قَتَلُوا مِنَ الْحَجِيجِ.
مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيُّ.
الْفَقِيهُ، وُلِدَ بِبَغْدَادَ وَنَشَأَ بِنَيْسَابُورَ وَاسْتَوْطَنَ سَمَرْقَنْدَ وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَحْكَامِ، وَقَدْ رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ وَسَمِعَ مِنَ الْمَشَايِخِ الْكَثِيرَ النَّافِعَ وَصَنَّفَ الْكُتُبَ الْمُفِيدَةَ الْحَافِلَةَ النَّافِعَةَ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَلَاةً وَأَكْثَرِهِمْ فِيهَا خُشُوعًا، وَقَدْ صَنَّفَ كِتَابًا عَظِيمًا فِي الصَّلَاةِ.
رَوَى عَنْهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مِنْ مِصْرَ قَاصِدًا مَكَّةَ فَرَكِبْتُ الْبَحْرَ وَمَعِي جَارِيَةٌ فَغَرِقَتِ السَّفِينَةُ فَذَهَبَ لِي فِي الْمَاءِ أَلْفَا جُزْءٍ وَسَلِمْتُ أَنَا وَالْجَارِيَةُ فَلَجَأْنَا إِلَى جَزِيرَةٍ فَطَلَبْنَا بِهَا مَاءً فَلَمْ نَجِدْ فَوَضَعْتُ رَأْسِي عَلَى فَخِذِ الْجَارِيَةِ وَيَئِسْتُ مِنَ الْحَيَاةِ فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذَا رَجُلٌ قَدْ أَقْبَلَ وَفِي يَدِهِ كُوزٌ، فَقَالَ: هَاهَ، فَأَخَذْتُهُ فَشَرِبْتُ مِنْهُ وَسَقَيْتُ الْجَارِيَةَ ثُمَّ ذَهَبَ فَلَمْ أَدْرِ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَ وَلَا إِلَى أَيْنَ ذَهَبَ. وَقَدْ كَانَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ وَأَسْخَاهُمْ نَفْسًا، وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ يَصِلُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ وَيَصِلُهُ أَخُوهُ إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ أَيْضًا، وَيَصِلُهُ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَيُنْفِقُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَقِيلَ لَهُ: لَوِ ادَّخَرْتَ شَيْئًا لِنَائِبَةٍ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَنَا كُنْتُ بِمِصْرَ أُنْفِقُ فِي كُلِّ سَنَةٍ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، فَرَأَيْتُ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ لِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا يَتَهَيَّأُ لِي فِي السَّنَةِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ إِذَا دَخَلَ عَلَى

إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ يَنْهَضُ لَهُ وَيُكْرِمُهُ فَعَاتَبَهُ يَوْمًا أَخُوهُ إِسْحَاقُ، فَقَالَ لَهُ: تَقُومُ لِرَجُلٍ فِي مَجْلِسِ حُكْمِكَ وَأَنْتَ مَلِكُ خُرَاسَانَ.
قَالَ إِسْمَاعِيلُ: فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَأَنَا مُشَتَّتُ الْقَلْبِ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ: " يَا إِسْمَاعِيلُ ثَبِّتْ مُلْكَكَ وَمُلْكَ بَنِيكَ بِتَعْظِيمِكَ مُحَمَّدَ بْنَ نَصْرٍ وَذَهَبَ مُلْكُ أَخِيكَ بِاسْتِخْفَافِهِ بِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ ".
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَجَلَسُوا فِي بَيْتٍ يَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ شَيْءٌ يَقْتَاتُونَهُ فَاقْتَرَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ مَنْ يَسْعَى لَهُمْ فِي شَيْءٍ يَأْكُلُونَهُ، لِيَدْفَعُوا عَنْهُمْ ضَرُورَتَهُمْ فَجَاءَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى أَحَدِهِمْ، فَنَهَضَ إِلَى الصَّلَاةِ فَجَعَلَ يُصَلِّي وَيَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ وَقْتَ الْقَيْلُولَةِ، فَرَأَى نَائِبُ مِصْرَ - وَأَظُنُّهُ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ - فِي مَنَامِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: " أَنْتَ هَاهُنَا وَالْمُحَمَّدُونَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ يَقْتَاتُونَهُ "

فَانْتَبَهَ الْأَمِيرُ مِنْ مَنَامِهِ فَسَأَلَ: مَنْ هَاهُنَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ ؟ فَذُكِرَ لَهُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَدَخَلَ بِهَا عَلَيْهِمْ وَأَزَالَ اللَّهُ ضَرُورَتَهُمْ وَيَسَّرَ لَهُمْ.
وَقَدْ بَلَغَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ سِنًّا عَالِيَةً وَكَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ وَلَدًا فَأَتَاهُ يَوْمًا إِنْسَانٌ فَبَشَّرَهُ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ قَدْ وُلِدَ لَهُ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ [ إِبْرَاهِيمَ: 39 ] فَاسْتَفَادَ الْحَاضِرُونَ مِنْ ذَلِكَ فَوَائِدَ، مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ لَهُ عَلَى كِبَرِ السِّنِّ وَلَدٌ ذَكَرٌ بَعْدَمَا كَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ سَمَّاهُ يَوْمَ مَوْلِدِهِ كَمَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَدَهُ إِبْرَاهِيمَ قَبْلَ السَّابِعِ، وَمِنْهَا اقْتِدَاؤُهُ بِالْخَلِيلِ فِي تَسْمِيَتِهِ أَوَّلَ وَلَدٍ لَهُ إِسْمَاعِيلَ.
مُوسَى بْنُ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عِمْرَانَ الْمَعْرُوفُ وَالِدُهُ بِالْحَمَّالِ.
وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ وَسَمِعَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنَ مَعِينٍ وَغَيْرَهُمَا وَكَانَ إِمَامَ أَهْلِ عَصْرِهِ فِي حِفْظِ الْحَدِيثِ وَمَعْرِفَةِ الرِّجَالِ وَالْإِتْقَانِ، وَكَانَ ثِقَةً شَدِيدَ الْوَرَعِ عَظِيمَ الْهَيْبَةِ.
قَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ الْمِصْرِيُّ: كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ كَلَامًا عَلَى الْحَدِيثِ: عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ ثُمَّ مُوسَى بْنُ هَارُونَ ثُمَّ الدَّارَقُطْنِيُّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتِ الْمُفَادَاةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنِ اسْتُنْقِذَ مِنْ أَيْدِي الرُّومِ مِنْ نِسَاءٍ وَرِجَالٍ نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ نَسَمَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي الْمُنْتَصَفِ مِنْ صِفْرٍ مِنْهَا كَانَتْ وَفَاةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ أَمِيرِ خُرَاسَانَ وَقَدْ كَانَ عَاقِلًا عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ فِي رَعِيَّتِهِ حَلِيمًا كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُحْسِنُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرً الْمَرْوَزِيِّ وَيُعَظِّمُهُ وَيُكْرِمُهُ وَيَحْتَرِمُهُ وَيَقُومُ لَهُ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ، وَقَدْ وَلِيَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ بِالْوِلَايَةِ وَالتَّشْرِيفِ. وَقَدْ تَذَاكَرَ النَّاسُ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ ذَاتَ لَيْلَةٍ الْفَخْرَ بِالْأَنْسَابِ، فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عِصَامِيًّا لَا عِظَامِيًّا، أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يَفْتَخِرَ بِنَفْسِهِ لَا بِنَسَبِهِ وَبَلَدِهِ وَجَدِّهِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَبِجِدِّي سَمَوْتُ لَا بِجُدُودِي
وَقَالَ آخَرُ:
حَسْبِي فَخَارًا وَشِيمَتِي أَدَبِي وَلَسْتُ مِنْ هَاشِمٍ وَلَا الْعَرَبِ

إِنَّ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ هَأَنَذَا لَيْسَ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ كَانَ أَبِي
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا كَانَتْ:
وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَلِيِّ بْنُ الْمُعْتَضِدِ. وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ، وَذِكْرُ وَفَاتِهِ:
أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيٌّ ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ ابْنِ الْأَمِيرِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ هَارُونَ بْنِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ مَنِ اسْمُهُ عَلِيٌّ سِوَاهُ بَعْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْخُلَفَاءِ مَنْ يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ سِوَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمُوسَى الْهَادِي، وَالْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَانَ مُوْلِدُهُ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَبِيهِ - فِي حَيَاتِهِ - فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَعُمُرُهُ نَحْوٌ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ جَمِيلًا رَقِيقَ اللَّوْنِ حَسَنَ الشِّعْرِ وَافِرَ اللِّحْيَةِ عَرِيضَهَا وَلَمَّا مَاتَ أَبُوهُ الْمُعْتَضِدُ وَبَاشَرَ هُوَ مَنْصِبَ الْخِلَافَةِ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَأَنْشَدَهُ:
أَجَلُّ الرَّزَايَا أَنْ يَمُوتَ إِمَامٌ وَأَسْنَى الْعَطَايَا أَنْ يَقُومَ إِمَ‍امُ
فَأَسْقَى الَّذِي مَاتَ الْغَمَامُ وَجَادَهُ وَدَامَتْ تَحِيَّاتٌ لَهُ وَسَلَامُ
وَأَبْقَى الَّذِي قَامَ الْإِلَهُ وَزَادَهُ مَوَاهِبَ لَا يَفْنَى لَهُنَّ دَوَامُ
وَتَمَّتْ لَهُ الْآمَالُ وَاتَّصَلَتْ بِهَا فَوَائِدُ مَوْصُولٌ بِهِنَّ تَمَامُ
هُوَ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ يَكْفِيهِ كُلَّمَا عَنَاهُ بِرُكْنٍ مِنْهُ لَيْسَ يُرَامُ

فَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ.
وَقَدْ كَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
مَنْ لِي بَأَنْ يَعْلَمَ مَا أَلْقَى فَيَعْرِفَ الصَّبْوَةَ وَالْعِشْقَا
مَا زَالَ لِي عَبْدًا وَحُبِّي لَهُ صَيَّرَنِي عَبْدًا لَهُ رِقَّا
الْعِتْقُ مِنْ شَأْنِي وَلَكِنَّنِي مِنْ حُبِّهِ لَا أَمْلِكُ الْعِتْقَا
وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: عَلَيٌّ مُتَوَكِّلٌ عَلَى رَبِّهِ وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ مُحَمَّدٌ وَجَعْفَرٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ وَمُوسَى وَعَبْدُ اللَّهِ وَهَارُونُ وَالْفَضْلُ وَعِيسَى وَالْعَبَّاسُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ.
وَفِي أَيَّامِهِ فُتِحَتْ أَنْطَاكِيَةُ وَاسْتُنْقِذَتْ مِنْ أَيْدِي الرُّومِ وَكَانَ فِيهَا مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ بَشَرٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ غَنَائِمِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ سَأَلَ عَنْ أَخِيهِ أَبِي الْفَضْلِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ فَصَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ بَالِغٌ فَأَحْضَرَهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَحْضَرَ الْقُضَاةَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ الْخِلَافَةَ إِلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَقَّبَهُ بِالْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ. وَتُوُفِّيَ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: فِي آخِرِ يَوْمِ السَّبْتِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. وَقِيلَ: بَعْدَ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَدُفِنَ فِي دَارِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ عَنْ ثِنْتَيْنِ، وَقِيلَ: عَنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سِتَّ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَكَانَ قَدْ أَوْصَى بِصَدَقَةٍ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ سِتِّمِائَةِ

أَلْفِ دِينَارٍ كَانَ قَدْ جَمَعَهَا وَهُوَ صَغِيرٌ، وَكَانَ مَرَضُهُ بِدَاءِ الْخَنَازِيرِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
خِلَافَةُ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي الْفَضْلِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ
جُدِّدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ وَقْتَ السَّحَرِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ - وَعُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرٌ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ أَحَدٌ قَبْلَهُ أَصْغَرَ سِنًّا مِنْهُ، وَلَمَّا أُجْلِسَ فِي مَنْصِبِ الْخِلَافَةِ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ سَلَّمَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِخَارَةِ ثُمَّ بَايَعَهُ النَّاسُ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ وَكُتِبَ اسْمُهُ عَلَى الرُّقُومِ وَغَيْرِهَا: الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ. وَكَانَ فِي بَيْتِ مَالِ الْخَاصَّةِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفِي بَيْتِ مَالِ الْعَامَّةِ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَنَيِّفٌ، وَكَانَتِ الْجَوَاهِرُ الثَّمِينَةُ فِي الْحَوَاصِلِ مِنْ لَدُنْ بَنَى أُمَيَّةَ وَأَيَّامِ بَنِي الْعَبَّاسِ قَدْ تَنَاهَى جَمْعُهَا فَمَا زَالَ يُفَرِّقُهَا فِي حَظَايَاهُ وَأَصْحَابِهِ حَتَّى أَنْفَدَهَا، وَقَدِ اسْتَوْزَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْكُتَّابِ يَكْثُرُ تَعْدَادُهُمْ، مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَلَّاهُ ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِهِ ثُمَّ أَعَادَهُ ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِهِ ثُمَّ أَعَادَهُ ثُمَّ عَزَلَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ وَقَدْ تَقَصَّى ذِكْرَهُمْ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْخَدَمِ وَالْحُجَّابِ وَالْحُشْمَةِ التَّامَّةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ

جَدًّا وَكَانَ كَرِيمًا جِدًّا، وَفِيهِ عِبَادَةٌ مَعَ هَذَا كُلِّهِ، وَكَثْرَةُ صَلَاةٍ وَصِيَامِ تَطَوُّعٍ.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ أَوَّلَ وِلَايَتِهِ فَرَّقَ مِنَ الْأَغْنَامِ وَالْأَبْقَارِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ رَأْسٍ وَمِنَ الْإِبِلِ أَلْفَيْ بَعِيرٍ، وَرَدَّ الرُّسُومَ وَالْكُلَفَ وَالْأَرْزَاقَ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي أَوَائِلِ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَأَطْلَقَ أَهْلَ الْحُبُوسِ الَّذِينَ يَجُوزُ إِطْلَاقُهُمْ، وَوَكَلَ أَمْرَ ذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، وَكَانَ قَدْ بُنِيَتْ أَبْنِيَةٌ فِي الرَّحْبَةِ دَخْلُهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ أَلْفُ دِينَارٍ فَأَمَرَ بِهَدْمِهَا لِيُوسِّعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الطُّرُقَاتِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَيَّامِهِ وَتَرْجَمِتِهِ فِيمَا بَعْدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُوحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي الْحَافِظُ الزَّاهِدُ إِمَامُ أَهْلِ عَصْرِهِ بِنَيْسَابُورَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ وَالْعِلَلِ، وَقَدْ سَمِعَ خَلْقًا مِنَ الْمَشَايِخِ الْكِبَارِ وَدَخَلَ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَذَاكَرَهُ وَكَانَ مَجْلِسُهُ مَهِيبًا وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ وَكَانَ لَا يَمْلِكُ إِلَّا دَارَهُ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا وَحَانُوتًا يَسْتَغِلُّهُ كُلَّ شَهْرٍ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا يُنْفِقُهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَكَانَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَكَانَ يُطْبَخُ لَهُ الْجَزَرُ بِالْخَلِّ فَيَتَأَدَّمُ بِهِ طُولَ الشِّتَاءِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَافِظُ النَّيْسَابُورِيُّ: لَمْ تَرَ عَيْنَايَ مِثْلَهُ.

أَبُو الْحُسَيْنِ النُّورِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَيُقَالُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، أَبُو الْحُسَيْنِ النُّورِيُّ، وَيُعْرَ فُ بِابْنِ الْبَغَوِيِّ أَصْلُهُ مِنْ خُرَاسَانَ وَحَدَّثَ عَنْ سَرِيٍّ السَّقَطِيِّ ثُمَّ صَارَ هُوَ مِنْ أَكَابِرِ أَئِمَّةِ الْقَوْمِ.
قَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْمَغَازِلِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ أَعْبَدَ مِنْ أَبِي الْحُسَيْنِ النُّورِيِّ. قِيلَ لَهُ: وَلَا الْجُنَيْدُ ؟ قَالَ: وَلَا الْجُنَيْدُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: صَامَ عِشْرِينَ سَنَةً لَا يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ لَا مِنْ أَهْلِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ. وَتُوُفِّيَ فِي مَسْجِدٍ وَهُوَ مُقَنَّعٌ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَامَانَ السَّامَانِيُّ.
أَحَدُ مُلُوكِ خُرَاسَانَ لِلْخُلَفَاءِ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ الصَّفَّارَ الْخَارِجِيَّ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ فَوَلَّاهُ خُرَاسَانَ ثُمَّ وَلَّاهُ الْمُكْتَفِي الرَّىَّ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَبِلَادَ التُّرْكِ فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا وَبَنَى الرُّبُطَ فِي الطُّرُقَاتِ، يَسَعُ الرِّبَاطُ مِنْهَا أَلْفَ فَارِسٍ وَأَوْقَفَ عَلَيْهِمْ أَوْقَافًا جَزِيلَةً وَقَدْ أَهْدَى إِلَيْهِ طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ هَدَايَا عَظِيمَةً، مِنْهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ جَوْهَرَةً زِنَةُ كُلِّ جَوْهَرَةٍ مِنْهَا مَا بَيْنَ السَّبْعَةِ مَثَاقِيلَ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَبَعْضُهَا أَحْمَرُ وَبَعْضُهَا أَزْرَقُ قِيمَتُهَا مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ،

فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ وَشَفَعَ فِي طَاهِرٍ فَشَفَّعَهُ فِيهِ، وَلَمَّا مَاتَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَبَلَغَ الْمُكْتَفِيَ مَوْتُهُ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ:
لَنْ يَخْلُفَ الدَّهْرُ مِثْلَهُمْ أَبَدًا هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ شَأْنُهُمْ عَجَبُ
الْمَعْمَرِيُّ الْحَافِظُ.
صَاحِبُ " عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ " وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَبِيبٍ أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْمَرِيُّ الْحَافِظُ رَحَلَ وَسَمِعَ مِنَ الشُّيُوخِ وَأَدْرَكَ خَلْقًا، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالنَّجَّادُ وَالْخُلْدِيُّ وَكَانَ مِنْ بُحُورِ الْعِلْمِ وَحُفَّاظِ الْحَدِيثِ صَدُوقًا ثَبْتًا وَقَدْ كَانَ يُشَبِّكُ أَسْنَانَهُ بِالذَّهَبِ مِنَ الْكِبَرِ لِأَنَّهُ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ وَكَانَ يُكَنَّى أَوَّلًا بِأَبِي الْقَاسِمِ ثُمَّ بِأَبِي عَلِيٍّ وَقَدْ وَلِيَ الْقَضَاءَ لِلْبَرْتِيِّ عَلَى الْقَصْرِ وَأَعْمَالِهَا وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْمَعْمَرِيُّ بِأُمِّهِ أُمِّ الْحَسَنِ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ صَاحِبِ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنَ الْمُحَرَّمِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ، وَاسْمُ أَبِي شُعَيْبٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو شُعَيْبٍ الْأُمَوِيُّ الْحَرَّانِيُّ الْمُؤَدِّبُ الْمُحَدِّثُ ابْنُ الْمُحَدِّثِ وُلِدَ سَنَةَ

سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ أَبَاهُ وَجَدَّهُ وَعَفَّانَ بْنَ مُسْلِمٍ وَأَبَا خَيْثَمَةَ، كَانَ صَدُوقًا ثِقَةً مَأْمُونًا، تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمُكْتَفِي ابْنُ الْمُعْتَضِدِ، تَقَدَّمَ ذِكْرُ تَرْجَمَتِهِ قَرِيبًا مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ ثِقَةٌ، كَانَ مَأْمُونًا نَاسِكًا وَقَالَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ: لَمْ يَكُنْ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِالْعِرَاقِ أَرْأَسُ مِنْهُ وَلَا أَشَدُّ وَرَعًا، وَكَانَ مِنَ التَّقَلُّلِ فِي الْمَطْعَمِ عَلَى حَالَةٍ عَظِيمَةٍ فَقْرًا وَوَرَعًا وَصَبْرًا وَكَانَ يُنْفِقُ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَكَانَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا وَكَانَ قَدِ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ وَالْجُنْدِ عَلَى خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ وَتَوْلِيَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ الْخِلَافَةَ عِوَضًا عَنْهُ، فَأَجَابَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْفَكُ بِسَبَبِهِ دَمٌ، وَكَانَ الْمُقْتَدِرُ قَدْ خَرَجَ لِلَّعِبِ بِالصَّوَالِجَةِ فَقَصَدَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ، يُرِيدُ أَنْ يَفْتِكَ بِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُقْتَدِرُ الضَّجَّةَ بَادَرَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ فَأَغْلَقَهَا دُونَ الْجَيْشِ، وَاجْتَمَعَ الْقُوَّادُ وَالْأَعْيَانُ وَالْقُضَاةُ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، فَبَايَعُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُعْتَزِّ وَخُوطِبَ بِالْخِلَافَةِ وَلُقِّبَ بِالْمُرْتَضِي بِاللَّهِ، وَقَالَ الصُّولِيُّ: إِنَّمَا لَقَّبُوهُ الْمُنْتَصِفَ بِاللَّهِ وَاسْتَوْزَرَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ دَاوُدَ وَبَعَثَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ يَأْمُرُهُ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ لِيَنْتَقِلَ هُوَ إِلَيْهَا، فَأُجِيبَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَرَكِبَ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ مِنَ الْغَدِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ لِيَتَسَلَّمَهَا فَقَاتَلَهُ الْخَدَمُ وَمَنْ فِيهَا وَلَمْ يُسَلِّمُوهَا إِلَيْهِ وَهَزَمُوهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَخْلِيصِ أَهْلِهِ وَبَعْضِ مَالِهِ إِلَّا بِالْجَهْدِ الْجَهِيدِ، فَلَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِمُ ارْتَحَلَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ فَتَفَرَّقَ نِظَامُ ابْنِ الْمُعْتَزِّ وَجَمَاعَتِهِ فَأَرَادَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى سَامَرَّا

لِيَنْزِلَهَا فَلَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ فَدَخَلَ دَارَ ابْنِ الْجَصَّاصِ فَاسْتَجَارَ بِهِ، وَوَقَعَ النَّهْبُ فِي الْبَلَدِ وَاخْتَبَطَ النَّاسُ وَبَعَثَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى أَصْحَابِ ابْنِ الْمُعْتَزِّ فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ وَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ وَأَعَادَ ابْنَ الْفُرَاتِ إِلَى الْوِزَارَةِ فَجَدَّدَ الْبَيْعَةَ لِلْمُقْتَدِرِ وَأَرْسَلَ إِلَى دَارِ ابْنِ الْجَصَّاصِ فَكَبَسهَا وَأَحْضَرَ ابْنَ الْمُعْتَزِّ وَابْنَ الْجَصَّاصِ فَصَادَرَ ابْنَ الْجَصَّاصِ بِمَالٍ جَزِيلٍ جِدًّا، يُقَالُ: إِنَّهُ وَزَنَ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَاعْتَقَلَ ابْنَ الْمُعْتَزِّ فَلَمَّا دَخَلَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ لَيْلَتَانِ ظَهَرَ لِلنَّاسِ مَوْتُهُ وَأُخْرِجَتْ جُثَّتُهُ فَسُلِّمَتْ إِلَى أَهْلِهِ فَدُفِنَ، وَصَفَحَ الْمُقْتَدِرُ عَنْ بَقِيَّةِ مَنْ بَقِيَ فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ حَتَّى لَا تَفْسَدَ نِيَّاتُ النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا يُعْرَفُ خَلِيفَةٌ خُلِعَ ثُمَّ أُعِيدَ سِوَى الْأَمِينِ وَالْمُقْتَدِرِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَقَطَ بِبَغْدَادَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى الْأَسْطِحَةِ مِنْهُ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ وَهَذَا يُسْتَغْرَبُ فِي بَغْدَادَ جِدًّا وَلَمْ تَخْرُجِ السَّنَةُ حَتَّى خَرَجَ النَّاسُ لِلِاسْتِسْقَاءِ مِنْ تَأَخُّرِ الْمَطَرِ عَنْ أَيَّامِهِ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا خُلِعَ عَلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ وَأُمِرَ بِالْمَسِيرِ إِلَى طَرَسُوسَ لِغَزْوِ الرُّومِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِأَنْ لَا يُسْتَخْدَمَ أَحَدٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الدَّوَاوِينِ وَأُلْزِمُوا بُيُوتَهُمْ وَأُمِرُوا بِلُبْسِ الْعَسَلِيِّ وَجَعْلِ الرِّقَاعِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ

لِيُعْرَفُوا بِهَا وَأَلْزِمُوا بِالذُّلِّ حَيْثُ كَانُوا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ وَرَجَعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ قِلَّةِ الْمَاءِ بِالطَّرِيقِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي عَتَّابٍ أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيُّ الْحَافِظُ.
وَيُعَرَفُ بِأَخِي مَيْمُونٍ رَوَى عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ وَغَيْرِهِ وَرَوَى عَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ وَكَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ أَنْ يُحَدِّثَ وَإِنَّمَا يُسْمَعُ مِنْهُ فِي الْمُذَاكَرَاتِ، تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَانِئٍ أَبُو بَكْرٍ الطَّائِيُّ الْأَثْرَمُ، تِلْمِيذُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، سَمِعَ عَفَّانَ وَأَبَا الْوَلِيدِ وَالْقَعْنَبِيَّ وَأَبَا نُعَيْمٍ وَخَلْقًا كَثِيرًا وَكَانَ حَاذِقًا صَادِقًا قَوِيَّ الذَّاكِرَةِ، كَانَ ابْنُ مَعِينٍ يَقُولُ عَنْهُ: كَانَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ جِنِّيًّا. لِسُرْعَةِ فَهْمِهِ وَحِفْظِهِ وَحِذْقِهِ، وَلَهُ كُتُبٌ مُصَنَّفَةٌ فِي الْعِلَلِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَكَانَ مِنْ بُحُورِ الْعِلْمِ.

خَلَفُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عِيسَى.
أَبُو مُحَمَّدٍ الْعُكْبَرِيُّ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ ظَرِيفًا، لَهُ ثَلَاثُونَ خَاتَمًا وَثَلَاثُونَ عُكَّازًا يَلْبَسُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ خَاتَمًا وَيَأْخُذُ فِي يَدِهِ عُكَّازًا ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ ذَلِكَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَكَانَ لَهُ سَوْطٌ مُعَلَّقٌ فِي مَنْزِلِهِ فَإِذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، يَقُولُ: لِيَرْهَبَ الْعِيَالُ مِنْهُ
ابْنُ الْمُعْتَزِّ الشَّاعِرُ الَّذِي بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بِاللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الرَّشِيدِ هَارُونَ، يُكَنَّى ابْنَ الْمُعْتَزِّ أَبَا الْعَبَّاسِ، الشَّاعِرُ الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ الْفَصِيحُ الْبَلِيغُ الْمُطْبِقُ، وَقُرَيْشٌ قَادَةُ النَّاسِ فِي الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ، وَقَدْ سَمِعَ الْمُبَرِّدَ وَثَعْلَبًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْحَكَمِ وَالْآدَابِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنْفَاسُ الْحَيِّ خُطَاهُ. أَهْلُ الدُّنْيَا رَكْبٌ يُسَارُ بِهِمْ وَهُمْ نِيَامٌ. رُبَّمَا أَوْرَدَ الطَّمَعُ وَلَمْ يُصْدِرْ. رُبَّمَا شَرِقَ شَارِبُ الْمَاءِ قَبْلَ رِيِّهِ. مَنْ تَجَاوَزَ الْكَفَافَ لَمْ يُغْنِهِ الْإِكْثَارُ، كُلَّمَا عَظُمَ قَدْرُ الْمُنَافَسِ فِيهِ عَظُمَتِ الْفَجِيعَةُ بِهِ. مَنِ ارْتَحَلَهُ الْحِرْصُ أَضْنَاهُ الطَّلَبُ. الْحِرْصُ يُنْقِصُ مِنْ قَدْرِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَزِيدُ فِي حَظِّهِ. أَشْقَى النَّاسِ أَقْرَبُهُمْ مِنَ

السُّلْطَانِ كَمَا أَنَّ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ إِلَى النَّارِ أَسْرَعُهَا احْتِرَاقًا. مَنْ شَارَكَ السُّلْطَانَ فِي عِزِّ الدُّنْيَا شَارَكَهُ فِي ذُلِّ الْآخِرَةِ. يَكْفِيكَ مِنَ الْحَاسِدِ أَنَّهُ يَغْتَمُّ وَقْتَ سُرُورِكَ. الْفُرْصَةُ سَرِيعَةُ الْفَوْتِ بَعِيدَةُ الْعَوْدِ. الْأَسْرَارُ إِذَا كَثُرَ خُزَّانُهَا ازْدَادَتْ ضَيَاعًا. الْعَزْلُ يَضْحَكُ مِنْ تِيهِ الْوِلَايَةِ. الْجَزَعُ أَتَعَبُ مِنَ الصَّبْرِ. لَا تَشِنْ وَجْهَ الْعَفْوِ بِالتَّقْرِيعِ. تَرِكَةُ الْمَيِّتِ عِزٌّ لِلْوَرَثَةِ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ وَحِكَمِهِ.
وَمِنْ شِعْرِهِ فِي الْحِكَمِ مِمَّا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرَ قَوْلُهُ
سَابِقْ إِلَى مَالِكَ وُرَّاثَّهُ مَا الْمَرْءُ فِي الدُّنْيَا بِلَبَّاثِ كَمْ صَامِتٍ يَخْنُقُ أَكْيَاسَهُ
قَدْ صَاحَ فِي مِيزَانِ مِيرَاثِ
وَلَهُ أَيْضًا:
يا ذَا الْغِنَى وَالسَّطْوَةِ الْقَاهِرَهْ وَالدَّوْلَةِ النَّاهِيَةِ الْآمِرَهْ
وَيَا شَيَاطِينَ بَنِي آدَمَ وَيَا عَبِيدَ الشَّهْوَةِ الْفَاجِرَهْ
انْتَظِرُوا الدُّنْيَا فَقَدِ أَقْرَبَتْ وَعَنْ قَلِيلٍ تَلِدُ الْآخِرَهْ
وَلَهُ أَيْضًا:

ابْكِ يا نَفْسُ وَهَاتِي تَوْبَةً قَبْلَ الْمَمَاتِ
قَبْلَ أَنْ يَفْجَعَنَا الدَّهْ رُ بِبَيْنٍ وَشَتَاتِ
لَا تَخُونِينِي إِذَا مِ تُّ وَقَامَتْ بِي نُعَاتِي
إِنَّمَا الْوَافِي بِعَهْدِي مَنْ وَفَى بَعْدَ وَفَاتِي
قَالَ الصُّولِيُّ: نَظَرَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ الْخَلِيفَةِ إِلَى جَارِيَةٍ فَأَعْجَبَتْهُ فَمَرِضَ مِنْ حُبِّهَا فَدَخَلَ أَبُوهُ عَلَيْهِ عَائِدًا، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَيُّهَا الْعَاذِلُونَ لَا تَعْذِلُونِي وَانْظُرُوا حُسْنَ وَجْهِهَا تَعْذُرُونِي
وَانْظُرُوا هَلْ تَرَوُنَ أَحْسَنَ مِنْهَا إِنْ رَأَيْتُمْ شَبِيهَهَا فَاعْذِلُونِي
قَالَ: فَفَحَصَ أَبُوهُ عَنِ الْقَضِيَّةِ وَاسْتَعْلَمَ خَبَرَ الْجَارِيَةِ ثُمَّ بَعَثَ إِلَى سَيِّدِهَا فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ بِسَبْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ وَبَعَثَهَا إِلَيْهِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَ الْقُوَّادُ وَالْأَعْيَانُ وَالْقُضَاةُ عَلَى خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ وَتَوْلِيَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ هَذَا، وَلُقِّبَ بِالْمُرْتَضِي وَالْمُنْتَصِفِ بِاللَّهِ فَمَا مَكَثَ فِي الْخِلَافَةِ إِلَّا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ثُمَّ غَالَبَ الْمُقْتَدِرُ وَقَتَلَ عَامَّةَ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ وَاعْتَقَلَهُ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، وَوَكَلَ بِهِ يُونُسَ الْخَادِمَ، فَقُتِلَ فِي أَوَائِلِ رَبِيعٍ الْآخَرِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَنْشَدَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ حَيَاتِهِ:

يَا نَفْسُ صَبْرًا لَعَلَّ الْخَيْرَ عُقْبَاكِ خَانَتْكَ مِنْ بَعْدِ طُولِ الْأَمْنِ دُنْيَاكِ
مَرَّتْ بِنَا سَحَرًا طَيْرٌ فَقُلْتُ لَهَا طُوبَاكِ يَا لَيْتَنِي إِيَّاكِ طُوبَاكِ
إِنْ كَانَ قَصْدُكِ شَرْقًا فَالسَّلَامُ عَلَى شَاطِي الصَّرَاةِ ابْلِغِي إِنْ كَانَ مَسْرَاكِ
مِنْ مُوثَقٍ بِالْمَنَايَا لَا فِكَاكَ لَهُ يَبْكِي الدِّمَاءَ عَلَى إِلْفٍ لَهُ بَاكِي
فَرُبَّ آمِنَةٍ جَاءَتْ مَنِيَّتُهَا وَرُبَّ مُفْلِتَةٍ مِنْ بَيْنِ أَشْرَاكِ
أَظُنُّهُ آخِرَ الْأَيَّامِ مِنْ عُمُرِي وَأَوْشَكَ الْيَوْمَ أَنْ يَبْكِي لِيَ الْبَاكِي
وَلَمَّا قُدِّمَ لِيُقْتَلَ أَنْشَأَ يَقُولُ:
فَقُلْ لْلشَّامِتِينَ بِنَا رُوَيْدًا أَمَامَكُمُ الْمَصَائِبُ وَالْخُطُوبُ
هُوَ الدَّهْرُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ إِلَيْكُمُ مِنْهُ ذُنُوبُ
ثُمَّ كَانَ ظُهُورُ قَتْلِهِ لِلَيْلَتَيْنِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً، مِنْهَا: " طَبَقَاتُ الشُّعَرَاءِ " وَكِتَابُ " أَشْعَارِ الْمُلُوكِ " وَكِتَابُ " الْآدَابِ " وَكِتَابُ " الْبَدِيعِ " وَكِتَابٌ فِي الْغِنَاءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ خَلَعُوا الْمُقْتَدِرَ وَبَايَعُوهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً ثُمَّ تَمَزَّقَ شَمْلُهُ وَاخْتَفَى فِي بَيْتِ ابْنِ الْجَصَّاصِ الْجَوْهَرِىِّ ثُمَّ ظُهِرَ عَلَيْهِ فَقُتِلَ وَصُودِرَ ابْنُ الْجَصَّاصِ بِأَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ وَبَقِيَ مَعَهُ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
قِيلَ: وَكَانَ أَسْمَرَ اللَّوْنِ مَسْنُونَ الْوَجْهِ يَخْضِبُ بِالسَّوَادِ عَاشَ خَمْسِينَ

سَنَةً وَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ كَلَامِهِ وَأَشْعَارِهِ رَحِمَهُ اللِّهُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَبِيبٍ.
أَبُو حُصَيْنٍ الْوَادِعِيُّ الْقَاضِي صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ " مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ الْيَرْبُوعِيِّ وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَجَنْدَلِ بْنِ وَالِقٍ، وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالنَّجَّادُ وَالْمَحَامِلِيُّ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ ثِقَةً تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَاتِبُ عَمُّ الْوَزِيرِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْأَخْبَارِ وَأَيَّامِ الْخُلَفَاءِ، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي ذَلِكَ رَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ وَغَيْرِهِ. كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا عَنْ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا غَزَا الْقَاسِمُ بْنُ سِيمَا الصَّائِفَةَ وَفَادَى مُؤْنِسٌ الْخَادِمٌ الْأُسَارَى الَّذِينَ بِأَيْدِي الرُّومِ.
وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ ثَابِتِ بْنِ سِنَانٍ أَنَّهُ رَأَى فِي أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ بِبَغْدَادَ امْرَأَةً بِلَا ذِرَاعَيْنِ وَلَا عَضُدَيْنِ وَإِنَّمَا كَفَّاهَا مُلْصَقَانِ بِكَتِفَيْهَا لَكِنْ لَا تَعْمَلُ بِهِمَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَعْمَلُ بِرِجْلَيْهَا مَا تَعْمَلُهُ النِّسَاءُ بِأَيْدِيهنَّ مِنَ الْغَزَلِ وَمَشْطِ الرَّأْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَتَأَخَّرَتِ الْأَمْطَارُ عَنْ بَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَارْتَفَعَتِ الْأَسْعَارُ بِهَا وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى جَاءَهَا سَيْلٌ عَظِيمٌ بِحَيْثُ إِنَّ أَرْكَانَ الْبَيْتِ غَرِقَتْ مِنَ السُّيُولِ، وَإِنَّ زَمْزَمَ فَاضَتْ وَلَمْ يُرَ ذَلِكَ قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفَّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ.
أَبُو بَكْرٍ الْفَقِيهُ ابْنُ الْفَقِيهِ الظَّاهِرِيُّ ابْنُ

الظَّاهِرِيِّ كَانَ عَالِمًا بَارِعًا أَدِيبًا شَاعِرًا فَقِيهًا مَاهِرًا، وَهُوَ مُصَنِّفُ كِتَابِ " الزُّهَرَةِ " اشْتَغَلَ عَلَى أَبِيهِ وَتَبِعَهُ فِي مَذْهَبِهِ وَمَا كَانَ يَسْلُكُهُ يَخْتَارُهُ مِنَ الطَّرِيقِ وَيَرْتَضِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ يُحِبُّهُ وَيُقَرِّبُهُ وَيُدْنِيهِ.
قَالَ رُوَيْمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: كُنَّا يَوْمًا عِنْدَ دَاوُدَ إِذْ دَخَلَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ بَاكِيًا، فَقَالَ: مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ الصِّبْيَانَ يُلَقِّبُونَنِي عُصْفُورَ الشَّوْكِ، فَضَحِكَ أَبُوهُ فَاشْتَدَّ غَضَبُ وَلَدِهِ، وَقَالَ: أَنْتَ أَضَرُّ عَلَيَّ مِنْهُمْ، فَضَمَّهُ أَبَوْهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَا الْأَلْقَابُ إِلَّا مِنَ السَّمَاءِ مَا أَنْتَ يَا بُنَيَّ إِلَّا عُصْفُورُ الشَّوْكِ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ أُجْلِسَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ هَذَا فِي مَكَانِهِ فِي الْحَلْقَةِ فَاسْتَصْغَرَهُ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ، فَسَأَلَهُ سَائِلٌ يَوْمًا عَنْ حَدِّ السُّكْرِ فَقَالَ: إِذَا عَزَبَتْ عَنْهُ الْهُمُومُ وَبَاحَ بِسِرِّهِ الْمَكْتُومِ. فَاسْتُحْسِنَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَعَظُمَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": وَقَدِ ابْتُلِيَ بِحُبِّ صَبِيٍّ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَامِعٍ وَيُقَالُ مُحَمَّدُ بْنُ زُخْرُفٍ، فَاسْتَعْمَلَ الْعَفَافَ وَالدِّينَ فِي حُبِّهِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ فِيهِ حَتَّى كَانَ سَبَبُ وَفَاتِهِ فِي ذَلِكَ.
قُلْتُ: فَدَخَلَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا عَنْهُ:

" مَنْ عَشِقَ فَكَتَمَ فَعَفَّ فَمَاتَ مَاتَ شَهِيدًا " وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ إِنَّهُ كَانَ يُبِيحُ الْعِشْقَ بِشَرْطِ الْعَفَافِ.
وَحَكَى هُوَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَعَشَّقُ مُنْذُ كَانَ فِي الْكُتَّابِ وَأَنَّهُ صَنَّفَ كِتَابَ " الزُّهَرَةِ " فِي ذَلِكَ مِنْ صِغَرِهِ، وَرُبَّمَا وَقَفَ أَبُوهُ دَاوُدُ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ، وَكَانَ يَتَنَاظَرُ هُوَ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ كَثِيرًا بِحَضْرَةِ الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ فَيَعْجَبُ النَّاسُ مِنْ مُنَاظَرَتِهِمَا وَحُسْنِهَا. وَقَدْ قَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ يَوْمًا فِي مُنَاظَرَتِهِ: أَنْتَ بِكِتَابِ " الزُّهَرَةِ " أَشْهَرُ مِنْكَ بِهَذَا. فَقَالَ لَهُ: تُعَيِّرُنِي بِكِتَابِ " الزُّهَرَةِ " وَأَنْتَ لَا تُحْسِنُ تَسْتَتِمُّ قِرَاءَتَهُ وَهُوَ كِتَابٌ جَمَعْنَاهُ هَزْلًا فَاجْمَعْ أَنْتَ مِثْلَهُ جِدًّا.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: كُنْتُ يَوْمًا أَنَا وَأَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ رَاكِبَيْنَ: فَإِذَا جَارِيَةٌ تُغَنِّي بِشَيْءٍ مِنْ شِعْرِهِ:
أَشْكُو عَلِيلَ فُؤَادٍ أَنْتَ مُتْلِفَهُ شَكْوَى عَلِيلٍ إِلَى إِلْفٍ يُعَلِّلُهُ سُقْمِي تَزِيدُ عَلَى الْأَيَّامِ كَثْرَتُهُ
وَأَنْتَ فِي عُظْمِ مَا أَلْقَى تُقَلِّلُهُ اللَّهُ حَرَّمَ قَتْلِي فِي الْهَوَى أَسَفًا
وَأَنْتَ يَا قَاتِلِي ظُلْمًا تُحَلِّلُهُ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ: كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى اسْتِرْجَاعِ هَذَا ؟ فَقُلْتُ:

هَيْهَاتَ سَارَتْ بِهِ الرُّكْبَانُ.
كَانَتْ وَفَاةُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَجَلَسَ ابْنُ سُرَيْجٍ لَعَزَاهُ وَقَالَ: مَا آسَى إِلَّا عَلَى التُّرَابِ الَّذِي أَكَلَ لِسَانَ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ
أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَخَلْقٍ وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالْخُلْدِيُّ وَالْبَاغَنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَلَهُ كِتَابٌ فِي التَّارِيخِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ وَقَدْ وَثَّقَهُ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةُ وَغَيْرُهُ وَكَذَّبَهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَقَالَ: هُوَ كَذَّابٌ بَيِّنُ الْأَمْرِ. وَتَعَجَّبَ مِمَّنْ يَرْوِي عَنْهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ مِنْ بَيْتِ الْإِمَارَةِ وَالْحِشْمَةِ، بَاشَرَ نِيَابَةَ الْعِرَاقِ مُدَّةً ثُمَّ خُرَاسَانَ ثُمَّ ظَفِرَ بِهِ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ فَأَسَرَهُ، وَبَقِيَ مَعَهُ يَطُوفُ بِهِ فِي الْآفَاقِ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ نَجَا فِي بَعْضِ الْوَقَعَاتِ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِبَغْدَادَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.

مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْصَارِىُّ الْخَطْمِىُّ مَوْلِدُهُ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ سَمِعَ أَبَاهُ وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَعَلِيَّ بْنَ الْجَعْدِ وَغَيْرَهُمْ وَحَدَّثَ عَنْهُ النَّاسُ وَهُوَ شَابٌّ، وَقَرَءُوا عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَكَانَ يَنْتَحِلُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَوَلِيَ قَضَاءَ الرَّيِّ وَالْأَهْوَازِ، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا نَبِيلًا عَفِيفًا فَصِيحًا كَثِيرَ الْحَدِيثِ، تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَالِدُ الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ، مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، قَاتِلِ الْحَلَّاجِ وَكَانَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ هَذَا مِنْ أَكَابِرِ الْقُضَاةِ وَأَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَمِائَتَيْنِ وَسَمِعَ سُلَيْمَانَ بْنَ حَرْبٍ وَعَمْرَو بْنَ مَرْزُوقٍ وَهُدْبَةَ وَمُسَدَّدًا، وَغَيْرَهُمْ. وَكَانَ ثِقَةً، وَقَدْ وَلِيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَوَاسِطَ وَالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ وَكَانَ ثِقَةً نَزِهًا عَفِيفًا شَدِيدَ الْحُرْمَةِ جَاءَهُ يَوْمًا بَعْضُ خَدَمِ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ فَرُفِعَ فِي الْمَجْلِسِ، فَأَمَرَهُ حَاجِبُ الْقَاضِي أَنْ يُسَاوِيَ خَصْمَهُ، فَامْتَنَعَ إِدْلَالًا بِجَاهِهِ عِنْدَهُ فَنَهَرَهُ الْقَاضِي وَقَالَ: ائْتُونِي بِدَلَّالِ النَّخْسِ حَتَّى أَبِيعَ هَذَا الْعَبْدَ وَأَبْعَثَ بِثَمَنِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، وَجَاءَ حَاجِبُ الْقَاضِي، فَأَخْذَهُ بِيَدِهِ وَأَجْلَسَهُ مَعَ خَصْمِهِ، فَلَمَّا انْقَضَتِ الْحُكُومَةُ

رَجَعَ الْخَادِمُ إِلَى الْمُعْتَضِدِ فَبَكَى بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ الْقَاضِي فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ بَاعَكَ لَأَجَزْتُ بَيْعَهُ وَلَمَا اسْتَرْجَعْتُكَ أَبَدًا، فَلَيْسَ خُصُوصِيَّتُكَ عِنْدِي تُزِيلُ مَرْتَبَةَ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ عَمُودُ السُّلْطَانِ وَقِوَامُ الْأَدْيَانِ. كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا قَدِمَ الْقَاسِمُ بْنُ سِيمَا مِنْ بِلَادِ الرُّومِ فَدَخَلَ بَغْدَادَ وَمَعَهُ الْأُسَارَى وَالْعُلُوجُ بِأَيْدِيهِمْ أَعْلَامٌ عَلَيْهَا صُلْبَانٌ مِنْ ذَهَبٍ وَخَلْقٌ مِنَ الْأُسَارَى.
وَفِيهَا قَدِمَتْ هَدَايَا مِنْ نَائِبِ خُرَاسَانَ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِىِّ مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ غُلَامًا بِمَرَاكِبِهِمْ وَأَسْلِحَتِهِمْ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَخَمْسُونَ بَازِيًّا وَخَمْسُونَ جَمَلًا تَحْمِلُ مِنْ مُرْتَفِعِ الثِّيَابَ وَخَمْسُونَ رِطْلًا مِنْ مِسْكٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا فُلِجَ الْقَاضِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، فَقُلِّدَ مَكَانَهُ عَلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ وَالْكَرْخِ ابْنَهُ مُحَمَّدٌ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا أُخِذَ رَجُلَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا أَبُو كَثِيرَةَ وَالْآخَرُ يُعْرَفُ بِالشِّمْرِيِّ فَذَكَرَا أَنَّهُمَا مِنْ أَصْحَابِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ وَأَنَّهُ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ.
وَفِيهَا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ الرُّومَ قَصَدَتِ اللَّاذِقِيَّةَ.

وَفِيهَا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ رِيحًا صَفْرَاءَ هَبَّتْ بِحَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ فَمَاتَ مِنْ حَرِّهَا بِشَرٌ كَثِيرٌ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ الْهَاشِمِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ.
الزِّنْدِيقُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ، أَحَدُ مَشَاهِيرِ الزَّنَادِقَةِ الْمُلْحِدِينَ - عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ - كَانَ أَبُوهُ يَهُودِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ حَرَّفَ فِي التَّوْرَاةِ كَمَا عَادَى ابْنُهُ الْقُرْآنَ بِالْقُرْآنِ وَأَلْحَدَ فِيهِ، وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى الْقُرْآنِ سَمَّاهُ " الدَّامِغَ " وَكِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهَا سَمَّاهُ " الزُّمُرُّدَ " وَلَهُ كِتَابُ " التَّاجِ " فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَلَهُ كِتَابُ " الْفَرِيدِ " وَكِتَابُ " إِمَامَةِ الْمَفْضُولِ ".
وَقَدِ انْتَصَبَ لِلرَّدِّ عَلَى كُتُبِهِ هَذِهِ جَمَاعَةٌ: مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْجُبَّائِيُّ شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي زَمَانِهِ وَقَدْ أَجَادَ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ

أَبُو هَاشِمٍ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: قَرَأْتُ كِتَابَ الْمُلْحِدِ الْجَاهِلِ السَّفِيهِ ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ فِلْمْ أَجِدْ فِيهِ إِلَّا السَّفَهَ وَالْكَذِبَ وَالِافْتِرَاءَ.
قَالَ: وَقَدْ وَضَعَ كِتَابًا فِي قِدَمِ الْعَالَمِ وَنَفْيِ الصَّانِعِ وَتَصْحِيحِ مَذْهَبِ الدَّهْرِيَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَوَضَعَ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِهِ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْكَذِبِ، وَطَعَنَ عَلَى الْقُرْآنِ وَوَضَعَ كِتَابًا لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَفَضَّلَ دِينَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، يَحْتَجُّ لَهُمْ فِيهَا عَلَى إِبْطَالِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي تُبَيِّنُ خُرُوجَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ، نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ " طَرَفًا مِنْ كَلَامِهِ وَزَنْدَقَتِهِ وَطَعْنِهِ عَلَى الْآيَاتِ وَالشَّرِيعَةِ وَرَدَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَقَلُّ وَأَخَسُّ وَأَذَلُّ مِنْ أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ وَإِلَى جَهْلِهِ وَكَلَامِهِ وَهَذَيَانِهِ وَسَفَهِهِ وَخِذْلَانِهِ وَتَمْوِيهِهِ وَتَرْوِيجِهِ وَطُغْيَانِهِ.
وَقَدْ أَسْنَدَ إِلَيْهِ حِكَايَاتٍ مِنَ الْمَسْخَرَةِ وَالِاسْتِهْتَارِ وَالْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ، مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ عَنْهُ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُفْتَعَلٌ عَلَيْهِ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ وَعَلَى طَرِيقِهِ وَمَسْلَكِهِ

فِي الْكُفْرِ وَالتَّسَتُّرِ بِالْمَسْخَرَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [ التَّوْبَةِ: 65، 66 ].
وَقَدْ كَانَ أَبُو عِيسَى الْوَرَّاقُ مُصَاحِبًا لِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ - قَبَّحَهُمَا اللَّهُ - فَلَمَّا عَلِمَ النَّاسُ بِأَمْرِهِمَا طَلَبَ السُّلْطَانُ أَبَا عِيسَى، فَأُودِعَ السِّجْنَ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَأَمَّا ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ فَهَرَبَ وَلَجَأَ إِلَى ابْنِ لَاوِي الْيَهُودِيِّ وَصَنَّفَ لَهُ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ عَنْهُ كِتَابَهُ الَّذِي سَمَّاهُ " الدَّامِغَ لِلْقُرْآنِ " فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَهُ إِلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً حَتَّى مَاتَ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أُخِذَ وَصُلِبَ.
قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ: وَرَأَيْتُ فِي كِتَابٍ مُحَقَّقٍ أَنَّهُ عَاشَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً مَعَ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ مِنَ التَّوَغُّلِ فِي الْمَخَازِي، لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ وَلَا رَحِمَ عِظَامَهُ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " وَدَلَّسَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجْرَحْهُ بِشَيْءٍ وَلَا كَأَنَّ الْكَلْبَ أَكَلَ لَهُ عَجِينًا عَلَى عَادَتِهِ فِي الْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ، فَالشُّعَرَاءُ يُطِيلُ تَرَاجِمَهُمْ، وَالْعُلَمَاءُ يَذْكُرُ لَهُمْ تَرْجَمَةً يَسِيرَةً،

وَالزَّنَادِقَةُ يَتْرُكُ ذِكْرَ زَنْدَقَتِهِمْ وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَقَدْ وَهِمَ وَهْمًا فَاحِشًا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَوَفَّى فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا أَرَّخَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ.
الْجُنَيْدُ شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجُنَيْدِ أَبُو الْقَاسِمِ الْخَزَّازُ وَيُقَالُ الْقَوَارِيرِيُّ أَصْلُهُ مِنْ نَهَاوَنْدَ وُلِدَ بِبَغْدَادَ وَنَشَأَ بِهَا وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَتَفَقَّهَ بِأَبَى ثَوْرٍ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ الْكَلْبِيٍّ وَكَانَ يُفْتِي بِحَضْرَتِهِ وَعُمُرُهُ عِشْرُونَ سَنَةً وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " وَاشْتُهِرَ بِصُحْبَةِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيِّ وَخَالِهِ سَرِيٍّ السَّقَطِيِّ وَلَازَمَ التَّعَبُّدَ، وَتَكَلَّمَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ وَكَانَ وِرْدُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَمِائَةِ رَكْعَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يَأْوِي إِلَى فِرَاشٍ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَعْرِفُ سَائِرَ فُنُونِ الْعِلْمِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَعَلَ يَتْلُو الْقُرْآنَ فَقِيلَ لَهُ: لَوْ رَفَقْتَ بِنَفْسِكَ، فَقَالَ: مَا أَحَدٌ أَحْوَجَ إِلَى ذَلِكَ مِنِّي الْآنَ وَهَذَا أَوَانُ طَيِّ صَحِيفَتِي.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ، وَيُقَالُ: كَانَ يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَكَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ يَصْحَبُهُ وَيُلَازِمُهُ.
قَالَ: وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنِ الْعَارِفِ، فَقَالَ: مِنْ نَطَقَ عَنْ سِرِّكَ وَأَنْتَ سَاكِتٌ وَكَانَ يَقُولُ: مَذْهَبُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي مَذْهَبِنَا وَطَرِيقَتِنَا. وَرَأَى بَعْضُهُمْ مَعَهُ سُبْحَةً، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مَعَ شَرَفِكَ تَتَّخِذُ سُبْحَةً ؟ فَقَالَ: طَرِيقٌ وَصَلْتُ بِهِ إِلَى اللَّهِ لَا أُفَارِقُهُ.

وَقَالَ لَهُ خَالُهُ السِّرِيُّ السَّقَطِيُّ: تَكَلَّمْ عَلَى النَّاسِ فَلَمْ يَرَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ مَوْضِعًا، فَرَأَى فِي الْمَنَامِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: تَكَلَّمْ عَلَى النَّاسِ، فَغَدَا عَلَى خَالِهِ فَقَالَ لَهُ خَالُهُ: لَمْ تُصَدِّقْنَا حَتَّى قِيلَ لَكَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ عَلَى النَّاسِ، فَجَاءَهُ يَوْمًا شَابٌّ نَصْرَانِيٌّ فِي صُورَةِ مُسْلِمٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَاتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ؟ قَالَ: فَأَطْرَقْتُ ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي إِلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: أَسْلِمْ فَقَدْ آنَ وَقْتُ إِسْلَامِكَ. قَالَ: فَأَسْلَمَ الْغُلَامُ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: مَا انْتَفَعْتُ بِشَيْءٍ انْتِفَاعِي بِأَبْيَاتٍ سَمِعْتُهَا مِنْ جَارِيَةٍ تُغَنِّي بِهَا فِي غُرْفَةٍ وَهِيَ تَقُولُ:
إِذَا قُلْتُ أَهْدَى الْهَجْرُ لِي حُلَلَ الْبِلَى تَقُولِينَ لَوْلَا الْهَجْرُ لَمْ يَطِبِ الْحُبُّ وَإِنْ قُلْتُ هَذَا الْقَلْبُ أَحْرَقَهُ الْجَوَى
تَقُولِي بِنِيرَانِ الْجَوَى شَرُفَ الْقَلْبُ وَإِنْ قُلْتُ مَا أَذْنَبْتُ قَالَتْ مُجِيبَةً
حَيَاتُكَ ذَنْبٌ لَا يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ
قَالَ: فَصُعِقْتُ وَصِحْتُ فَخَرَجَ صَاحِبُ الدَّارِ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي مَا لَكَ ؟ قُلْتُ: مِمَّا سَمِعْتُ.
فَقَالَ: هِيَ هِبَةٌ مِنِّي إِلَيْكَ، فَقُلْتُ: قَدْ قَبِلْتُهَا وَهِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ، ثُمَّ زَوَّجْتُهَا لِرَجُلٍ، فَأَوْلَدَهَا وَلَدًا صَالِحًا حَجَّ عَلَى قَدَمَيْهِ ثَلَاثِينَ حِجَّةً.

سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَبُو عُثْمَانَ الْوَاعِظُ.
وُلِدَ بِالرَّيِّ وَنَشَأَ بِهَا ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى نَيْسَابُورَ فَسَكَنَهَا إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا وَقَدْ دَخَلَ بَغْدَادَ وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْكَرِيمَ بْنُ هَوَازِنَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الشَّعْرَانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ يَقُولُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا أَقَامَنِي اللَّهُ فِي حَالٍ فَكَرِهْتُهُ وَلَا نَقَلَنِي إِلَى غَيْرِهَا فَسَخِطْتُهُ.
وَكَانَ أَبُو عُثْمَانَ يُنْشِدُ:
أَسَأْتُ وَلَمْ أُحْسِنْ وَجِئْتُكَ هَارِبًا وَأَيْنَ لِعَبْدٍ عَنْ مَوَالِيهِ مَهْرَبُ
يُؤَمِّلُ غُفْرَانًا فَإِنْ خَابَ ظَنُّهُ فَمَا أَحَدٌ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ أَخْيَبُ
وَرَوَى الْخَطِيبُ أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ أَعْمَالِكَ أَرْجَى عِنْدَكَ ؟ فَقَالَ: إِنِّي لَمَّا تَرَعْرَعْتُ وَأَنَا بِالرَّيِّ وَكَانُوا يُرِيدُونَنِي عَلَى التَّزْوِيجِ فَأَمْتَنِعُ فَجَاءَتْنِي امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا عُثْمَانَ قَدْ أَحْبَبْتُكَ حُبًّا أَذْهَبَ نَوْمِي وَقَرَارِي وَأَنَا أَسْأَلُكَ بِمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَأَتَوَسَّلُ بِهِ إِلَيْكَ لَمَا تَزَوَّجْتَنِي، فَقُلْتُ: أَلِكِ وَالِدٌ ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ.

فَأَحْضَرَتْهُ فَاسْتَدْعَى بِالشُّهُودِ فَتَزَوَّجْتُهَا فَلَمَّا خَلَوْتُ بِهَا إِذَا هِيَ عَوْرَاءُ عَرْجَاءُ مُشَوَّهَةُ الْخَلْقِ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا قَدَّرْتَهُ لِي، وَكَانَ أَهْلُ بَيْتِي يَلُومُونَنِي عَلَى تَزْوِيجِي بِهَا فَكُنْتُ أَزِيدُهَا بِرًّا وَإِكْرَامًا وَرُبَّمَا احْتَبَسَتْنِي عِنْدَهَا وَمَنَعَتْنِي مِنَ الْحُضُورِ إِلَى بَعْضِ الْمَجَالِسِ وَكَأَنِّي فِي بَعْضِ أَوْقَاتِي عَلَى الْجَمْرِ وَأَنَا لَا أُبْدِي لَهَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَمَكَثْتُ كَذَلِكَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَمَا شَيْءٌ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ حِفْظِي عَلَيْهَا مَا كَانَ فِي قَلْبِهَا مِنْ جِهَتِي.
سَمْنُونُ بْنُ حَمْزَةَ
وَيُقَالُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ كَانَ وِرْدُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَمِائَةِ رَكْعَةٍ وَسَمَّى نَفْسَهُ سُمْنُونًا الْكَذَّابَ لِدَعْوَاهُ فِي قَوْلِهِ:
فَلَيْسَ لِي فِي سِوَاكَ حَظٌّ فَكَيْفَمَا شِئْتَ فَامْتَحِنِّي
فَابْتُلِيَ بِعِسَارِ الْبَوْلِ فَكَانَ يَطُوفُ عَلَى الْمَكَاتِبِ، وَيَقُولُ لِلصِّبْيَانِ: ادْعُوا لِعَمِّكُمُ الْكَذَّابِ، وَلَهُ كَلَامٌ مَتِينٌ فِي الْمَحَبَّةِ وَوُسْوِسَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَلَهُ كَلَامٌ فِي الْمَحَبَّةِ مُسْتَقِيمٌ.

صَافِي الْحُرَمِيُّ.
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ وَرُءُوسِ الدَّوْلَةِ الْمُقْتَدِرِيَّةِ، أَوْصَى فِي مَرَضِهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ غُلَامِهِ الْقَاسِمِ شَيْءٌ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ حَمَلَ غُلَامُهُ الْقَاسِمُ إِلَى الْوَزِيرِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَسَبْعَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْطَقَةً مِنَ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةً فَاسْتَمَرَّ غُلَامُهُ عَلَى إِمْرَتِهِ وَمَنْزِلَتِهِ
إِسْحَاقُ بْنُ حُنَيْنِ بْنِ إِسْحَاقَ.
أَبُو يَعْقُوبَ الْعِبَادِيُّ نِسْبَةً إِلَى قَبَائِلَ الْحِيرَةِ الطَّبِيبُ ابْنُ الطَّبِيبِ، لَهُ وَلِأَبِيهِ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْفَنِّ وَكَانَ أَبُوهُ يُعَرِّبُ كَلَامَ أَرُسْطَاطَالِيسَ وَغَيْرِهِ مِنْ حُكَمَاءِ الْيُونَانِ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ الَّذِي أَقَامَ الدَّعْوَةَ لِلْمَهْدِيِّ وَهُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونٍ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ وَقَدْ زَعَمَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ التَّارِيخِ أَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا صَبَّاغًا بِسَلَمْيَةَ، وَالْمَقْصُودُ الْآنَ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيَّ هَذَا دَخَلَ بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ وَحْدَهُ لَا مَالَ مَعَهُ وَلَا رِجَالَ فَلَمْ يَزَلْ يَعْمَلُ الْحِيلَةَ حَتَّى انْتَزَعَ الْمُلْكَ مِنْ يَدِ أَبِي مُضَرَ زِيَادَةِ اللَّهِ آخَرِ مُلُوكِ بَنِي الْأَغْلَبِ عَلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ وَاسْتَدْعَى حِينَئِذٍ مَخْدُومَهُ الْمَهْدِيَّ مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ

فَقَدِمَ فَلَمْ يَخْلُصْ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ شَدَائِدَ طِوَالٍ وَحُبِسَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَاسْتَنْقَذَهُ الشِّيعِيُّ وَسَلَّمَهُ الْمَمْلَكَةَ فَنَدَّمَهُ أَخُوهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ لَهُ: مَاذَا صَنَعْتَ ؟ وَهَلَّا كُنْتَ اسْتَبْدَدْتَ بِالْأَمْرِ دُونَ هَذَا ؟ فَنَدِمَ وَشَرَعَ يَعْمَلُ الْحِيلَةَ فِي الْمَهْدِيِّ، فَاسْتَشْعَرَ الْمَهْدِيُّ بِذَلِكَ فَدَسَّ إِلَيْهِمَا مَنْ قَتَلَهُمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِمَدِينَةِ رَقَّادَةَ مِنْ بِلَادِ الْقَيْرَوَانِ مِنْ إِقْلِيمِ إِفْرِيقِيَّةَ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِيهَا ظَهَرَتْ ثَلَاثَةُ كَوَاكِبَ مُذَنَّبَةٍ أَحَدُهَا فِي رَمَضَانَ وَاثْنَانِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ تَبْقَى أَيَّامًا ثُمَّ تَضْمَحِلُّ.
وَفِيهَا وَقَعَ طَاعُونٌ بِأَرْضِ فَارِسَ مَاتَ بِسَبَبِهِ سَبْعَةُ آلَافِ إِنْسَانٍ.
وَفِيهَا غَضِبَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْوَزِيرِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ وَعَزَلَهُ عَنِ الْوِزَارَةِ وَأَمَرَ بِنَهْبِ دَارِهِ فَنُهِبَتْ أَقْبَحَ نَهْبٍ وَاسْتَوْزَرَ أَبَا عَلِيٍّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ وَكَانَ قَدِ الْتَزَمَ لِأُمِّ وَلَدِ الْمُعْتَضِدِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ حَتَّى سَعَتْ فِي وِلَايَتِهِ.
وَفِيهَا وَرَدَتْ هَدَايَا كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَقَالِيمِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا، مِنْ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ اسْتُخْرِجَتْ مَنْ كَنْزٍ وُجِدَ هُنَاكَ مِنْ غَيْرِ مَوَانِعَ كَمَا يَدَّعِيهِ كَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ بَنِي آدَمَ حِيلَةً وَمَكْرًا وَخَدِيعَةً لِيَأْكُلُوا أَمْوَالَ الْأَغْشَامِ وَالْجَهَلَةِ الطَّغَامِ مِنْ قَلِيلِي الْعُقُولِ وَالْأَحْلَامِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي هَذَا الْكَنْزِ ضِلْعُ إِنْسَانٍ طُولُهُ أَرْبَعَةُ أَشْبَارِ وَعَرْضُهُ شِبْرٌ وَذُكِرَ أَنَّهُ مِنْ قَوْمِ عَادٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ هَدِيَّةِ مِصْرَ تَيْسٌ لَهُ ضَرْعٌ يَحْلُبُ لَبَنًا وَمِنْ

ذَلِكَ بِسَاطٌ أَرْسَلَهُ ابْنُ أَبِي السَّاجِ فِي جُمْلَةِ هَدَايَاهُ طُولُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا عُمِلَ فِي عَشْرِ سِنِينَ لَا قِيمَةَ لَهُ وَهَدَايَا فَاخِرَةٌ أَرْسَلَهَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْعَبَّاسِيُّ أَمِيرُ الْحَجِيجِ مِنْ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو عَمْرٍو الْخَفَّافُ.
الْحَافِظُ، كَانَ يُذَاكِرُ بِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، سَمِعَ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ وَطَبَقَتَهُ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، سَرَدَهُ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، سَأَلَهُ سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ دِرْهَمَيْنِ فَحَمِدَ اللَّهَ فَجَعَلَهَا خَمْسَةً فَحَمِدَ اللَّهَ فَجَعَلَهَا عَشْرَةً ثُمَّ مَا زَالَ يَزِيدُهُ وَيَحْمَدُ السَّائِلُ اللَّهَ حَتَّى جَعَلَهَا مِائَةً، فَقَالَ: جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَاقِيَةً بَاقِيَةً، فَقَالَ لِلسَّائِلِ: وَاللَّهِ لَوْ لَزِمْتَ الْحَمْدَ لَأَزِيدَنَّكَ وَلَوْ إِلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.
الْبُهْلُولُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ.
ابْنِ حَسَّانَ بْنِ سِنَانٍ أَبُو مُحَمَّدٍ التَّنُوخِيُّ سَمِعَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ وَسَعِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ وَمُصْعَبًا الزُّبَيْرِيَّ وَغَيْرَهُمْ وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ آخِرُهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْجُرْجَانِيُّ الْحَافِظُ وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا ضَابِطًا بَلِيغًا فَصِيحًا فِي خُطَبِهِ تُوُفِّيَ فِيهَا عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ. آمِينَ.

الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو عَلِيٍّ الْخِرَقِيُّ.
صَاحِبُ " الْمُخْتَصَرِ " فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، كَانَ خَلِيفَةً لِلْمَرُّوذِيِّ تُوُفِّيَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيُّ.
حَجَّ عَلَى قَدَمَيْهِ سَبْعًا وَتِسْعِينَ حَجَّةً وَكَانَ يَمْشِي فِي اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ حَافِيًا كَمَا يَمْشِي الرَّجُلُ فِي ضَوْءِ النَّهَارِ وَكَانَ الْمُشَاةُ يَأْتَمُّونَ بِهِ فَيُرْشِدُهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ مَا رَأَيْتُ ظُلْمَةً مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ وَكَانَتْ قَدَمَاهُ مَعَ كَثْرَةِ مَشْيِهِ كَأَنَّهُمَا قَدَمَا عَرُوسٍ مُتْرَفَةٍ وَلَهُ كَلَامٌ مَلِيحٌ نَافِعٌ وَلَمَّا مَاتَ أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ إِلَى جَانِبِ شَيْخِهِ عَلِيِّ بْنِ رَزِينٍ فَهُمَا عَلَى جَبَلِ الطُّورِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْحَافِظُ ابْنُ الْحَافِظِ، كَانَ أَبُوهُ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي جَمْعِ التَّارِيخِ وَكَانَ فَهِمًا حَاذِقًا حَافِظًا تُوُفِّيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ كَيْسَانَ النَّحْوِيُّ.
أَحَدُ حُفِّاظِهِ وَالْمُكْثِرِينَ مِنْهُ كَانَ يَحْفَظُ طَرِيقَةَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ مَعًا.
قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ كَانَ ابْنُ كَيْسَانَ أَنْحَى مِنَ الشَّيْخَيْنِ الْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ.

مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى.
أَبُو سَعِيدٍ سَكَنَ دِمَشْقَ رَوَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ الْجَوْهَرِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِمْ رَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى هَذَا يُدْعَى بِحَامِلِ كَفَنِهِ وَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ.
قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ تُوُفِّيَ فَغُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَ نَبَّاشٌ لِيَسْرِقَ كَفَنَهُ فَفَتَحَ عَلَيْهِ قَبْرَهُ فَلَمَّا حَلَّ عَنْهُ كَفَنُهُ اسْتَوَى جَالِسًا وَفَرَّ النَّبَّاشُ هَارِبًا مِنَ الْفَزَعِ وَنَهَضَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى هَذَا فَأَخَذَ كَفَنَهُ مَعَهُ وَخَرَجَ مِنَ الْقَبْرِ وَقَصَدَ مَنْزِلَهُ فَوَجَدَ أَهْلَهُ يَبْكُونَ عَلَيْهِ فَدَقَّ عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَقَالُوا: مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: أَنَا فُلَانٌ. فَقَالُوا: يَا هَذَا لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَزِيدَنَا حُزْنًا إِلَى حُزْنِنَا. فَقَالَ: افْتَحُوا وَاللَّهِ أَنَا فُلَانٌ، فَعَرَفُوا صَوْتَهُ فَلَمَّا رَأَوْهُ فَرِحُوا بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا وَأَبْدَلَ اللَّهُ حُزْنَهُمْ سُرُورًا ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ النَّبَّاشِ.
وَكَأَنَّهُ قَدْ أَصَابَتْهُ سَكْتَةٌ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ مَاتَ حَقِيقَةً فَقَدَّرَ اللَّهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَنْ بَعَثَ لَهُ هَذَا النَّبَّاشَ فَفَتَحَ عَلَيْهِ قَبْرَهُ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ حَيَاتِهِ فَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ عِدَّةَ سِنِينَ ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
فَاطِمَةُ الْقَهْرَمَانِيَّةُ.
غَضَبَ عَلَيْهَا الْمُقْتَدِرُ مَرَّةً فَصَادَرَهَا وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا أَخَذَ مِنْهَا مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ ثُمَّ غَرِقَتْ فِي طَيَّارَةٍ لَهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا كَثُرَ مَاءُ دِجْلَةَ وَتَرَاكَمَتِ الْأَمْطَارُ بِبَغْدَادَ وَتَنَاثَرَتْ نُجُومٌ كَثِيرَةٌ فِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ.
وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ بِبَغْدَادَ وَالْأَسْقَامُ وَالْآلَامُ وَكَلِبَتِ الْكِلَابُ حَتَّى الذِّئَابُ بِالْبَادِيَةِ وَكَانَتْ تَقْصِدُ النَّاسَ وَالْبَهَائِمَ بِالنَّهَارِ فَمَنْ عَضَّتْهُ أَهْلَكَتْهُ.
وَفِيهَا انْحَسَرَ جَبَلٌ بِالدِّينَوَرِ يُعْرَفُ بِالتَّلِّ فَخَرَجَ مِنْ تَحْتِهِ مَاءٌ عَظِيمٌ غَرَّقَ عِدَّةً مِنَ الْقُرَى.
وَفِيهَا سَقَطَتْ شِرْذِمَةٌ مِنْ جَبَلِ لُبْنَانَ إِلَى الْبَحْرِ.
وَفِيهَا حَمَلَتْ بَغْلَةٌ وَوَضَعَتْ مُهْرَةً.
وَفِيهَا صُلِبَ الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجُ وَهُوَ حَيٌّ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، يَوْمَيْنِ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَيَوْمَيْنِ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْحَجِيجِ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ فِي السِّنِينَ قَبْلَهَا، وَهُوَ الْفَضْلُ بْنُ

عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ أَثَابَهُ اللَّهُ وَتَقَبَّلَ مِنْهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَحْوَصُ بْنُ الْمُفَضَّلِ.
ابْنِ غَسَّانَ بْنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ خَالِدِ بْنِ غَلَّابٍ، أَبُو أُمَيَّةَ الْغَلَّابِيُّ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا. رَوَى عَنْ أَبِيهِ التَّارِيخَ اسْتَتَرَ عِنْدَهُ مَرَّةً ابْنُ الْفُرَاتِ فَلَمَّا أُعِيدَ إِلَى الْوِزَارَةِ وَلَّاهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَالْأَهْوَازِ وَوَاسِطَ وَكَانَ عَفِيفًا نَزِهًا فَلَمَّا نُكِبَ ابْنُ الْفُرَاتِ قَبَضَ عَلَيْهِ نَائِبُ الْبَصْرَةِ فَأَوْدَعَهُ السِّجْنَ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى مَاتَ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا نَعْلَمُ قَاضِيًا مَاتَ فِي السِّجْنِ سِوَاهُ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ.
ابْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ أَبُو أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ وَلِيَ إِمْرَةَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ وَعَنْهُ الصُّولِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَكَانَ أَدِيبًا فَاضِلًا شَاعِرًا، وَمِنْ شِعْرِهِ:
حَقُّ التَّنَائِي بِيَنَ أَهْلِ الْهَوَى تَكَاتَبٌ يُسْخِنُ عَيْنَ النَّوَى وَفِي التَّدَانِي لَا انْقَضَى عُمْرُهُ
تَزَاوُرٌ يَشْفِي غَلِيلَ الْجَوَى

وَاتَّفَقَ لَهُ مَرَّةً أَنَّ جَارِيَةً لَهُ مَرِضَتْ فَاشْتَهَتْ ثَلْجًا وَكَانَ حَظِيَّةً عِنْدَهُ جِدًّا فَلَمْ يُوجَدْ إِلَّا عِنْدَ رَجُلٍ، فَسَاوَمَهُ الْوَكِيلُ عَلَى رِطْلٍ مِنْهُ فَامْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ إِلَّا كُلُّ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ لِعِلْمِ صَاحِبِ الثَّلْجِ بِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فَرَجَعَ الْوَكِيلُ لِيُشَاوِرَهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ اشْتَرِ وَلَوْ بِمَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ، فَرَجَعَ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الثَّلْجِ: لَا أَبِيعُهُ إِلَّا بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَاشْتَرَاهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ ثُمَّ اشْتَهَتِ الْجَارِيَةُ ثَلْجًا أَيْضًا - وَذَلِكَ لِمُوَافَقَتِهِ لَهَا - فَرَجَعَ فَاشْتَرِي مِنْهُ رِطْلًا آخَرَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ ثُمَّ آخَرَ بِعَشَرَةٍ أُخْرَى، وَبَقِيَ عِنْدَ صَاحِبِ الثَّلْجِ رِطْلَانِ فَنَطَفَتْ نَفْسُهُ إِلَى أَكْلِ رِطْلٍ مِنْهُ لِيَقُولَ أَكَلْتُ رِطْلًا مِنَ الثَّلْجِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَكَلَهُ وَبَقِيَ عِنْدَهُ رِطْلٌ، فَجَاءَهُ الْوَكِيلُ فَامْتَنَعَ أَنْ يَبِيعَهُ الرِّطْلَ إِلَّا بِثَلَاثِينَ أَلْفًا فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ، فَشُفِيَتِ الْجَارِيَةُ وَتَصَدَّقَتْ بِمَالٍ جَزِيلٍ فَاسْتَدْعَى سَيِّدُهَا صَاحِبَ الثَّلْجِ فَأَعْطَاهُ مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ مَالًا جَزِيلًا جِدًّا، فَصَارَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَكْثَرِهِمْ مَالًا، وَاسْتَخْدَمَهُ ابْنُ طَاهِرٍ عِنْدَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي حُدُودِ الثَّلَاثِمِائَةِ تَقْرِيبًا:
الصَّنَوْبَرِيُّ الشَّاعِرُ.
وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مَرَّارٍ أَبُو بَكْرٍ الضَّبِّيُّ الصَّنَوْبَرِيُّ الْحَنْبَلِيُّ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَانَ شَاعِرًا مُحْسِنًا

وَقَدْ حَكَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ لَطَائِفِ أَشْعَارِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
لَا النَّوْمُ أَدْرِي بِهِ وَلَا الْأَرَقُ يَدْرِي بِهَذَيْنِ مَنْ بِهِ رَمَقُ
إِنَّ دُمُوعِي مِنْ طُولِ مَا اسْتَبَقَتْ كَلَّتْ فَمَا تَسْتَطِيعُ تَسْتَبِقُ
وَلِي مَلِيكٌ لَمْ تَبْدُ صُورَتُهُ مُذْ كَانَ إِلَّا صَلَّتْ لَهُ الْحَدَقُ
نَوَيْتُ تَقْبِيلَ نَارِ وَجْنَتِهِ وَخِفْتُ أَدْنُو مِنْهَا فَأَحْتَرِقُ
وَلَهُ أَيْضًا:
شَمْسٌ غَدَا يُشْبِهُ شَمْسًا غَدَتْ وَحَدُّهَا فِي النُّورِ مِنْ حَدِّهِ
تَغِيبُ فِي فِيهِ وَلَكِنَّهَا مِنْ بَعْدِ ذَا تَطْلُعُ فِي خَدِّهِ
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي الْفَضْلِ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيِّ، قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو بَكْرٍ الصَّنَوْبَرِيُّ فَقَالَ:
هَدَمَ الشَّيْبُ مَا بَنَاهُ الشَّبَابُ وَالْغَوَانِي وَمَا عُضِبْنَ غِضَابُ
قَلَبَ الْآبِنُوسَ عَاجًا فَلِلْأَعْ يُنِ مِنْهُ وَلِلْقُلُوبِ انْقِلَابُ
وَضَلَالٌ فِي الرَّأْيِ أَنْ يُشْنَأَ الْبَا زِي عَلَى حُسْنِهِ وَيُهْوَى الْغُرَابُ
وَلَهُ أَيْضًا، وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي ابْنٍ لَهُ فُطِمَ، فَجَعَلَ يَبْكِي عَلَى ثَدْيِهِ:

مَنَعُوهُ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْوَرَى وَمِنْ وَالِدَيْهِ
مَنَعُوهُ غِذَاءَهُ وَلَقَدْ كَا نَ مُبَاحًا لَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ
عَجَبًا مِنْهُ ذَا عَلَى صِغَرِ السِّ نِّ هَوَى فَاهْتَدَى الْفِرَاقُ إِلَيْهِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ.
بْنِ الْمُوَلَّدِ أَبُو إِسْحَاقَ الصُّوفِيُّ الْوَاعِظُ الرَّقِّيُّ أَحَدُ مَشَايِخِهَا رَوَى الْحَدِيثَ وَصَحِبَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْجَلَّاءِ الدِّمَشْقِيَّ وَالْجُنَيْدَ وَغَيْرَ وَاحِدٍ، وَرَوَى عَنْهُ تَمَّامُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلَهُ:
لَكَ مِنِّي عَلَى الْبِعَادِ نَصِيبُ لَمْ يَنَلْهُ عَلَى الدُّنُوِّ حَبِيبُ
وَعَلَى الطَّرْفِ مِنْ سِوَاكَ حِجَابٌ وَعَلَى الْقَلْبِ مِنْ هَوَاكَ رَقِيبُ
زِينَ فِي نَاظِرِي هَوَاكَ وَقَلْبِي وَالْهَوَى فِيهِ زَائِغٌ وَمَشُوبُ
كَيْفَ يُغْنِي قُرْبُ الطَّبِيبِ عَلِيلًا أَنْتَ أَسْقَمْتَهُ وَأَنْتَ الطَّبِيبُ
وَقَوْلَهُ:
الصَّمْتُ أَمْنٌ مِنْ كُلِّ نَازِلَةٍ مَنْ نَالَهُ نَالَ أَفْضَلَ الْقِسَمِ
مَا نَزَلَتْ بِالرِّجَالِ نَازِلَةٌ أَعْظَمُ ضُرًّا مِنْ لَفْظَةٍ بِفَمِ
عَثْرَةُ هَذَا اللِّسَانِ مُهْلِكَةٌ لَيْسَتْ لَدَيْنَا كَعَثْرَةِ الْقَدَمِ

احْفَظْ لِسَانًا يُلْقِيكَ فِي تَلَفٍ فَرُبَّ قَوْلٍ أَذَلَّ ذَا كَرَمِ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا غَزَا الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ الصَّائِفَةَ فَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً مِنْ بِلَادِ الرُّومِ وَقَتَلَ أُمَمًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمُقْتَدِرُ مُحَمَّدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ وِزَارَتِهِ وَقَلَّدَهَا عَلِيَّ بْنَ عِيسَى، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ وَأَقْصَدِهِمْ لِلْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ.
وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ الدَّمَوِيَّةُ بِبَغْدَادَ فِي تَمُّوزَ وَآبَ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا.
وَفِيهَا وَصَلَتْ هَدَايَا صَاحِبِ عُمَانَ وَفِيهَا بَبَّغَةٌ بَيْضَاءُ وَغَزَالٌ أَسْوَدُ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا رَكِبَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى بَابَ الشَّمَّاسِيَّةِ عَلَى الْخَيْلِ ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى دَارِهِ فِي دِجْلَةَ، وَكَانَتْ أَوَّلَ رَكْبَةٍ رَكِبَهَا جَهْرَةً لِلْعَامَّةِ.
وَفِيهَا اسْتَأْذَنَ الْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْخَلِيفَةَ الْمُقْتَدِرَ فِي مُكَاتَبَةِ رَأْسِ الْقَرَامِطَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْحَسَنِ بْنِ بَهْرَامَ الْجَنَّابِيِّ، فَأَذِنَ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا طَوِيلًا يَدْعُوهُ فِيهِ إِلَى

السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَيُوَبِّخُهُ عَلَى مَا يَتَعَاطَاهُ أَصْحَابُهُ مِنْ تَرْكِ الصَّلَوَاتِ وَالزِّكْوَاتِ وَارْتِكَابِ الْمُنْكِرَاتِ وَإِنْكَارِهِمْ عَلَى مَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ وَيُسَبِّحُهُ وَيَحْمَدُهُ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِالدِّينِ وَاسْتِرْقَاقِهِمُ الْحَرَائِرَ ثُمَّ تُوعَّدَهُ بِالْحَرْبِ وَتَهَدَّدَهُ بِالْقَتْلِ، فَلَمَّا سَارَ بِالْكِتَابِ نَحْوَهُ، قُتِلَ أَبُو سَعِيدٍ قَبْلَ أَنْ يَصِلَهُ، قَتَلَهُ بَعْضُ خَدَمِهِ وَعَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ سَعِيدٍ، فَغَلَبَهُ عَلَى ذَلِكَ أَخُوهُ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبَى سَعِيدٍ، فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَ الْوَزِيرِ إِلَيْهِمْ أَجَابَهُ بِمَا حَاصِلُهُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَنْسِبُ إِلَيْنَا مِمَّا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَكُمْ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ مَنْ يُشَنِّعُ عَلَيْنَا، وَإِذَا كَانَ الْخَلِيفَةُ يَنْسِبُنَا إِلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ فَكَيْفَ يَدْعُونَا إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ ؟
وَفِيهَا جِيءَ بِالْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجِ إِلَى بَغْدَادَ وَهُوَ مَشْهُورٌ عَلَى جَمَلٍ وَغُلَامٌ لَهُ رَاكِبٌ جَمَلًا آخَرَ يُنَادِي عَلَيْهِ: هَذَا أَحَدُ دُعَاةِ الْقَرَامِطَةِ فَاعْرِفُوهُ. ثُمَّ حُبِسَ ثُمَّ أُحْضِرَ إِلَى مَجْلِسِ الْوَزِيرِ فَنَاظَرَهُ فَإِذَا هُوَ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَلَا يَعْرِفُ مِنَ الْحَدِيثِ وَلَا الْفِقْهِ وَلَا اللُّغَةِ وَلَا الْأَخْبَارِ وَلَا الشِّعْرِ شَيْئًا، وَكَانَ الَّذِي نُقِمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ وُجِدَتْ لَهُ رِقَاعٌ يَدْعُو فِيهَا النَّاسَ إِلَى الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الرُّمُوزِ، يَقُولُ فِي مُكَاتَبَاتِهِ كَثِيرًا: تَبَارَكَ ذُو النُّورِ الشَّعْشَعَانِيِّ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: تَعَلُّمُكَ الطُّهُورَ وَالْفُرُوضَ أَجْدَى عَلَيْكَ مِنْ رَسَائِلَ لَا تَدْرِي مَا تَقُولُ فِيهَا وَمَا أَحْوَجَكَ إِلَى الْأَدَبِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ حَيًّا صَلْبَ الِاشْتِهَارِ لَا الْقَتْلِ، ثُمَّ أُنْزِلَ فَأُجْلِسَ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، فَجَعَلَ يُظْهِرُ لَهُمْ أَنَّهُ عَلَى السُّنَّةِ وَأَنَّهُ زَاهِدٌ حَتَّى اغْتَرَّ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْخُدَّامِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْخِلَافَةِ مِنَ الْجَهَلَةِ وَالطَّغَامِ حَتَّى صَارُوا يَتَبَرَّكُونَ بِهِ وَيَتَمَسَّحُونَ بِثِيَابِهِ. وَسَيَأْتِي مَا صَارَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ

حَتَّى قُتِلَ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ.
وَوَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي آخِرِهَا بِبَغْدَادَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ جِدًّا مَاتَ بِسَبَبِهِ بِشْرٌ كَثِيرٌ وَلَا سِيَّمَا بِالْحَرْبِيَّةِ، غُلِّقَتْ عَامَّةُ دُورِهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئِ بْنِ خَالِدٍ الشَّافِعِيُّ.
جَمَعَ الْعِلْمَ وَالزُّهْدَ، مِنْ تَلَامِيذِهِ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ.
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ.
بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْمُسْتَفَاضِ أَبُو بَكْرٍ الْفِرْيَابِيُّ قَاضِي الدِّينَوَرِ طَافَ الْبِلَادَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَشَايِخِ الْكَثِيرِينَ، مِثْلِ قُتَيْبَةَ وَأَبِي كُرَيْبٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَعَنْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي وَالنَّجَّادُ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَخَلْقٌ. وَاسْتَوْطَنَ بَغْدَادَ وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا حُجَّةً، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَالْمُسْتَمْلُونَ عَنْهُ فَوْقَ الثَّلَاثِمِائَةِ

وَأَصْحَابُ الْمَحَابِرِ نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ قَدْ حَفَرَ لِنَفْسِهِ قَبْرًا قَبْلَ وَفَاتِهِ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَكَانَ يَأْتِيهِ فَيَقِفُ عِنْدَهُ، ثُمَّ لَمْ يُقَضَ لَهُ الدَّفْنُ فِيهِ، بَلْ دُفِنَ فِي مَكَانٍ آخَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ كَانَ.
أَبُو سَعِيدٍ الْجَنَّابِىُّ الْقِرْمِطَيُّ.
وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ بَهْرَامَ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - وَهُوَ رَأْسُ الْقَرَامِطَةِ وَالَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي بِلَادِ الْبَحْرَيْنِ وَمَا وَالَاهَا.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الرَّاسِبِيُّ كَانَ يَلِي بِلَادَ وَاسِطَ إِلَى شَهْرَزُورَ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ خَلَّفَ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَمِنْ ذَلِكَ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ نَحْوُ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الْخَزِّ أَلْفُ ثَوْبٍ، وَمِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْجِمَالِ أَلْفُ رَأْسٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ.
يُعْرَفُ بِالْأَحْنَفِ كَانَ قَدْ وَلِيَ قَضَاءَ مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ نِيَابَةً عَنْ أَبِيهِ حِينَ فُلِجَ فَمَاتَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَتُوُفِّيَ أَبُوهُ فِي رَجَبٍ مِنْهَا، بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ يَوْمًا، وَدُفِنَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.

أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ الْبَرْدَعِيُّ الْحَافِظُ، وَابْنُ نَاجِيَةَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَ كِتَابُ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ بِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ بِالرُّومِ بَأْسًا شَدِيدًا وَقَدْ أَسَرَ مِنْهُمْ مِائَةً وَخَمْسِينَ بِطْرِيقًا، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ.
وَفِيهَا خَتَنَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِرُ خَمْسَةً مِنْ أَوْلَادِهِ، فَغَرِمَ عَلَى هَذَا الْخِتَانِ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةُ آلَافٍ نِثَارًا وَمِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَدْ خَتَنَ قَبْلَهُمْ وَمَعَهُمْ خَلْقًا مِنَ الْيَتَامَى وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ بِالْمَالِ وَالْكَسَاوِي، وَهَذَا صَنِيعٌ حَسَنٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا صَادَرَ الْخَلِيفَةُ أَبَا عَلِيٍّ ابْنَ الْجَصَّاصِ بِسِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ غَيْرَ الْآنِيَةِ وَالثِّيَابِ الثَّمِينَةِ.
وَفِيهَا أَدْخَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِرُ أَوْلَادَهُ إِلَى الْمَكْتَبِ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا بَنَى الْوَزِيرُ الْمَارَسْتَانَ بِالْحَرْبِيَّةِ مِنْ بَغْدَادَ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً

جِدًّا، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ، وَقَطَعَتِ الْأَعْرَابُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ الطَّرِيقَ عَلَى الرَّاجِعِينَ مِنَ الْحَجِيجِ وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرُوا أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيِ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

بِشْرُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ.
أَبُو الْقَاسِمِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يُعْرَفُ بِغُلَامِ عِرْقٍ وَعِرْقٌ خَادِمٌ مِنْ خُدَّامِ السُّلْطَانِ، كَانَ يَلِي الْبَرِيدَ فَقَدِمَ مَعَهُ بِهَذَا الرَّجُلِ مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِيهَا.
بِدْعَةُ جَارِيَةُ عُرَيْبَ الْمُغَنِّيَةِ بُذِلَ لِسَيِّدَتِهَا فِيهَا مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ وَعِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ مِنْ بَعْضِ مَنْ رَغِبَ فِيهَا فَعَرَضَتْ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَكَرِهَتْ مُفَارَقَةَ سَيِّدَتِهَا فَأَعْتَقَتْهَا سَيِّدَتُهَا فِي يَوْمِهَا ذَلِكَ. وَتَأَخَّرَتْ وَفَاتُهَا إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ تَرَكَتْ مِنَ الْعَيْنِ وَالْأَمْلَاكِ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ رَجُلٌ.
الْقَاضِي أَبُو زُرْعَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الشَّافِعِيُّ.
قَاضِي مِصْرَ ثُمَّ دِمَشْقَ

وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِالشَّامِ، وَأَشَاعَهُ بِهَا، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ مِنْ حِينِ مَاتَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، وَثَبَتَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ بَقَايَا كَثِيرُونَ لَمْ يُفَارِقُوهُ، وَكَانَ ثِقَةً عَدْلًا مِنْ سَادَاتِ الْقُضَاةِ، وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ، ثُمَّ أَسَلَمَ، وَصَارَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَفَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً وَضِيَاعًا عَلَى الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَاسْتَدْعَى بِالْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا وَقَفَهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِيهَا قُدِمَ إِلَيْهِ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأُسَارَى مِنَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَدَوْا عَلَى الْحَجِيجِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، فَلَمْ تَتَمَالَكِ الْعَامَّةُ أَنْ عَدَتْ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ، فَأُخِذَ بَعْضُهُمْ فَعُوقِبَ لِكَوْنِهِ افْتَاتَ عَلَى السُّلْطَانِ.
وَفِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ شَدِيدٌ فِي سُوقِ النَّجَّارِينَ بِبَغْدَادَ فَأَحْرَقَ السُّوقَ بِكَمَالِهِ وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَرِضَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَمْ يَمْرَضْ فِي خِلَافَتِهِ مَعَ طُولِهَا إِلَّا هَذِهِ الْمَرْضَةَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ وَلَمَّا خَافَ الْوَزِيرُ عَلَى الْحُجَّاجِ مِنْ شَأْنِ الْقَرَامِطَةِ كَتَبَ إِلَيْهِمْ رِسَالَةً لِيَشْغَلَهُمْ بِهَا عَنْ أَمْرِ الْحَجِّ، فَاتَّهَمَهُ بَعْضُ الْكُتَّابِ بِمُرَاسِلَتِهِ الْقَرَامِطَةَ، فَلَمَّا انْكَشَفَ أَمْرُهُ وَمَا قَصَدَهُ حَظِيَ عِنْدَ النَّاسِ بِذَلِكَ جِدًّا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
النَّسَائِيُّ أَحْمَدُ.
بْنُ شُعَيْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سِنَانِ بْنِ بَحْرِ بْنِ دِينَارٍ أَبُو

عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ صَاحِبُ " السُّنَنِ "، الْإِمَامُ فِي عَصْرِهِ وَالْمُقَدَّمُ عَلَى أَضْرَابِهِ وَأَشْكَالِهِ وَفُضَلَاءِ دَهْرِهِ رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ وَاشْتَغَلَ بِسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَالِاجْتِمَاعِ بِالْأَئِمَّةِ الْحُذَّاقِ، وَمَشَايِخُهُ الَّذِينَ رَوَى عَنْهُمْ مُشَافَهَةً قَدْ ذَكَرْنَاهُمْ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَتَرْجَمْنَاهُ أَيْضًا هُنَالِكَ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَقَدْ جَمَعَ السُّنَنَ الْكَبِيرَ وَانْتَخَبَ مِنْهُ مَا هُوَ أَقَلُّ حَجْمًا مِنْهُ بِمَرَّاتٍ، وَقَدْ وَقَعَ لِي سَمَاعُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَقَدْ أَبَانَ فِي تَصْنِيفِهِ عَنْ حِفْظٍ وَإِتْقَانٍ وَصِدْقٍ وَإِيمَانٍ وَتَوْفِيقٍ وَعَلَمٍ وَعِرْفَانٍ.
قَالَ الْحَاكِمُ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يُذْكَرُ بِهَذَا الْعِلْمِ مَنْ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَكَانَ يُسَمِّي كِتَابَهُ الصَّحِيحَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ: إِنَّ لِلنِّسَائِيِّ شَرْطًا فِي الرِّجَالِ أَشَدَّ مِنْ شَرْطِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ الْإِمَامُ فِي الْحَدِيثِ بِلَا مُدَافَعَةٍ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ الْحَافِظُ: سَمِعْتُ مَشَايِخَنَا بِمِصْرَ يَعْتَرِفُونَ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ وَالْإِمَامَةِ وَيَصِفُونَ مِنَ اجْتِهَادِهِ فِي الْعِبَادَةِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَى الْحَجِّ وَالِاجْتِهَادِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَكَانَتْ لَهُ

أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَسُرِّيَّتَانِ وَكَانَ كَثِيرَ الْجِمَاعِ حَسَنَ الْوَجْهِ مُشْرِقَ اللَّوْنِ، قَالُوا: وَكَانَ يَقْسِمُ لِلْإِمَاءِ كَمَا يَقْسِمُ لِلْحَرَائِرِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَلَمْ يُحَدِّثْ عَنْ أَحَدٍ سِوَى النَّسَائِيِّ. وَقَالَ: رَضِيتُ بِهِ حُجَّةً بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ كَانَ النَّسَائِيُّ إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ ثِقَةً ثَبْتًا حَافِظًا. وَكَانَ خُرُوجُهُ مِنْ مِصْرَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ سَمِعْتُ مَنْصُورًا الْفَقِيهَ وَأَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ الطَّحَاوِيَّ يَقُولَانِ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَشَهِدُوا لَهُ بِالْفَضْلِ وَالتَّقَدُّمِ فِي هَذَا الشَّأْنِ وَالْحِفْظِ وَالْمَعْرِفَةِ.
وَقَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ بِمَدِينَةِ حِمْصَ سَمِعْتُهُ مِنْ شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - عَنْ رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ فِي " مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ " حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ الْحَاكِمُ بِحِمْصَ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَكَانَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَجْهُهُ كَأَنَّهُ قِنْدِيلٌ، وَكَانَ يَأْكُلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِيكًا، وَيَشْرَبُ عَلَيْهِ نَقِيعَ الزَّبِيبِ الْحَلَالَ، وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ: إِنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ التَّشَيُّعِ. قَالُوا: وَدَخَلَ إِلَى دِمَشْقَ فَسَأَلَهُ أَهْلُهَا أَنْ يُحَدِّثَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: أَمَا يَكْفِي مُعَاوِيَةَ أَنْ يَذْهَبَ رَأْسًا بِرَأْسٍ حَتَّى يُرْوَى لَهُ فَضَائِلُ ؟ فَقَامُوا إِلَيْهِ فَجَعَلُوا يَطْعَنُونَ فِي

حِضْنَيْهِ حَتَّى أُخْرِجَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَسَارَ مِنْ عِنْدِهِمْ، فَقَصَدَ مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَبْرُهُ بِهَا. هَكَذَا حَكَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ مَشَايِخِهِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ أَفْقَهَ مَشَايِخِ مِصْرَ فِي عَصْرِهِ وَأَعْرَفَهُمْ بِالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ مِنَ الْآثَارِ وَأَعْرَفَهُمْ بِالرِّجَالِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ حَسَدُوهُ فَخَرَجَ إِلَى الرَّمْلَةِ فَسُئِلَ عَنْ فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ فَأَمْسَكَ عَنْهُ فَضَرَبُوهُ فِي الْجَامِعِ، فَقَالَ: أَخْرِجُونِي إِلَى مَكَّةَ فَأَخْرَجُوهُ وَهُوَ عَلِيلٌ فَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ مَقْتُولًا شَهِيدًا. قَالَ الْحَاكِمُ: مَعَ مَا رُزِقَ النَّسَائِيُّ مِنَ الْفَضَائِلِ رُزِقَ الشَّهَادَةَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، مَاتَ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ نُقْطَةَ فِي " تَقْيِيدِهِ ": نَقَلْتُ مِنْ خَطِّ أَبِي عَامِرٍ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدُونَ الْعَبْدَرِيِّ الْحَافِظِ: مَاتَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ بِالرَّمْلَةِ مَدِينَةِ فِلَسْطِينَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَدُفِنَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَحَكَى ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا صَنَّفَ " الْخَصَائِصَ " فِي فَضْلِ عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ رَأَى أَهْلَ دِمَشْقَ حِينَ قَدِمَهَا فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ عِنْدَهُمْ نُفْرَةٌ مِنْ عَلِيٍّ وَسَأَلُوهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ مَا قَالَ، فَدَفَعُوهُ فِي حِضْنَيْهِ فَمَاتَ، وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ يُونُسَ وَأَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ

أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِفِلَسْطِينَ فِي صِفْرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ مَوْلِدُ النَّسَائِيِّ فِي سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ أَوْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ تَقْرِيبًا عَنْ قَوْلِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَكَانَ عُمُرُهُ ثَمَانِيًا وَثَمَانِينَ سَنَةً.
الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ.
بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَطَاءٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الشَّيْبَانِيُّ النِّسْوِيُّ مُحَدِّثُ خُرَاسَانَ وَقَدْ كَانَ يُضْرَبُ آبَاطُ الْإِبِلِ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي ثَوْرٍ وَكَانَ يُفْتِي بِمَذْهَبِهِ وَأَخَذَ الْأَدَبَ عَنْ أَصْحَابِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ وَكَانَتْ إِلَيْهِ الرِّحْلَةُ بِخُرَاسَانَ، وَمِنْ غَرِيبِ مَا اتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِمِصْرَ فِي رِحْلَتِهِمْ لِطَلَبِ الْحَدِيثِ فَضَاقَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ حَتَّى مَكَثُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَأْكُلُونَ فِيهَا شَيْئًا وَلَا يَجِدُونَ مَا يَبِيعُونَهُ لِلْقُوتِ وَاضْطَرَّهُمُ الْحَالُ إِلَى تَجَشُّمِ السُّؤَالِ وَأَنِفَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَعَزَّتْ عَلَيْهِمْ وَامْتَنَعَتْ كُلَّ الِامْتِنَاعِ وَالْحَاجَةُ تَضْطَرُّهُمْ إِلَى تَعَاطِي ذَلِكَ فَاقْتَرَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَيَهُمْ يَقُومُ بِأَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ فَوَقَعَتِ الْقَرْعَةُ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ هَذَا فَقَامَ عَنْهُمْ فَاخْتَلَى فِي زَاوِيَةِ الْمَسْجِدِ الَّذِي هُمْ فِيهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا وَاسْتَغَاثَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسَأَلَهُ بِأَسْمَائِهِ الْعِظَامِ فَمَا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْمَسْجِدَ شَابٌّ حَسَنُ الْهَيْئَةِ مَلِيحُ

الْوَجْهِ، فَقَالَ: أَيْنَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ ؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: الْأَمِيرُ طُولُونَ يَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلَامَ وَيَعْتَذِرُ إِلَيْكُمْ فِي تَقْصِيرِهِ عَنْكُمْ وَهَذِهِ مِائَةُ دِينَارٍ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، فَقُلْنَا لَهُ: مَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَخْتَلِيَ الْيَوْمَ بِنَفْسِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ الْآنَ نَائِمٌ إِذْ جَاءَهُ فَارِسٌ فِي الْهَوَاءِ بِيَدِهِ رُمْحٌ فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْمَنْزِلَ وَوَضَعَ عَقِبَ الرُّمْحِ فِي خَاصِرَتِهِ فَوَكَزَهُ وَقَالَ: قُمْ فَأَدْرِكِ الْحَسَنَ بْنَ سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ، قُمْ فَأَدْرِكْهُمْ، قُمْ فَأَدْرِكْهُمْ فَإِنَّهُمْ مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ جِيَاعٌ فِي الْمَسْجِدِ الْفُلَانِيِّ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ: أَنَا رِضْوَانٌ خَازِنُ الْجَنَّةِ. فَاسْتَيْقَظَ الْأَمِيرُ وَخَاصِرَتُهُ تُؤْلِمُهُ أَلَمًا شَدِيدًا، فَبَعَثَ بِالنَّفَقَةِ فِي الْحَالِ إِلَيْكُمْ. ثُمَّ جَاءَ لِزِيَارَتِهِمْ وَاشْتَرَى مَا حَوْلَ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَوَقَفَهُ عَلَى الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ وَفُرْسَانِهِ وَحُفَّاظِهِ وَقَدِ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ مِنْهُمُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ، فَقَرَءُوا عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ وَجَعَلُوا يَقْلِبُونَ الْأَسَانِيدَ لِيَسْتَعْلِمُوا مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ، فَمَا قَلَبُوا شَيْئًا إِلَّا رَدَّهُمْ فِيهِ إِلَى الصَّوَابِ وَعُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ تِسْعُونَ سَنَةً، وَهُوَ فِي هَذَا السِّنِّ حَافِظٌ ضَابِطٌ لَا يَشِذُّ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ حَدِيثِهِ، وَمِنْ فَوَائِدِهِ: الْعَبْسِيُّ كُوفِيٌّ وَالْعَيْشِيُّ بَصْرِيٌّ وَالْعَنْسِيُّ مِصْرِيٌّ.
رُوَيْمُ بْنُ أَحْمَدَ.
وَيُقَالُ: ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُوَيْمِ بْنِ يَزِيدَ

أَبُو الْحَسَنِ، وَيُقَالُ: أَبُو الْحُسَيْنِ، وَيُقَالُ: أَبُو مُحَمَّدٍ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ كَانَ عَالِمًا بِالْقُرَآنِ وَمَعَانِيهِ، وَكَانَ مُتَفَقِّهًا عَلَى مَذْهَبِ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ رُوَيْمٌ يَكْتُمُ حُبَّ الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَصَوَّفَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ لَمَّا وَلِيَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَضَاءَ بِبَغْدَادَ جَعَلَهُ وَكِيلًا فِي بَابِهِ، فَتَرَكَ التَّصَوُّفَ وَلَبِسَ الْخَزَّ وَالْقَصَبَ وَالدَّبِيقِيَّ وَرَكِبَ الْخَيْلَ وَأَكَلَ الطَّيِّبَاتِ وَبَنَى الدُّورَ.
زُهَيْرُ بْنُ صَالِحٍ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَعَنْهُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّجَّادُ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ ثِقَةً مَاتَ وَهُوَ شَابٌّ.
أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ.
شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ شَيْخُ الطَّائِفَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي زَمَانِهِ، وَعَلَيْهِ اشْتَغَلَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَلِلْجُبَّائِيِّ تَفْسِيرٌ حَافِلٌ مُطَوَّلٌ، لَهُ فِيهِ اخْتِيَارَاتٌ غَرِيبَةٌ فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِيهِ، وَقَالَ: كَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ أَهْلِ جُبَّاءَ. كَانَ مَوْلِدُ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ابْنُ بَسَّامٍ الشَّاعِرُ.
أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ نَصْرِ بْنِ بَسَّامٍ

الْبَسَّامِيُّ الشَّاعِرُ الْمُطْبِقُ لِلْهِجَاءِ فَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا حَتَّى هَجَاهُ حَتَّى أَبَاهُ وَأُمَّهُ أُمَامَةَ بِنْتَ حَمْدُونَ النَّدِيمِ وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ شِعْرِهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي تَخْرِيبِ الْمُتَوَكِّلِ قَبْرَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَمْرِهِ بِأَنْ يُزْرَعَ وَيُمْحَى رَسْمُهُ، وَكَانَ شَدِيدَ التَّحَامُلِ عَلَى عَلِيٍّ وَوَلَدِهِ، فَلَمَّا وَقَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ قَالَ ابْنُ بَسَّامٍ هَذَا فِي ذَلِكَ:
تَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ أُمَيَّةُ قَدْ أَتَتْ قَتْلَ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهَا مَظْلُومًا فَلَقَدْ أَتَاهُ بَنُو أَبِيهِ بِمِثْلِهِ
هَذَا لَعَمْرُكَ قَبْرُهُ مَهْدُومًا أَسِفُوا عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا شَارَكُوا
فِي قَتْلِهِ فَتَتَبَّعُوهُ رَمِيمَا

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ وَزِيرَهُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بْنِ الْجَرَّاحِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّ مُوسَى الْقَهْرَمَانَةِ نُفْرَةٌ شَدِيدَةٌ فَسَأَلَ الْوَزِيرُ أَنْ يُعْفَى مِنَ الْوِزَارَةِ فَعُزِلَ وَلَمْ يُتَعَرَّضْ لِشَيْءٍ مِنْ أَمْلَاكِهِ.
وَطُلِبَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ فَأُعِيدَ إِلَى الْوِزَارَةِ بَعْدَ عَزْلِهِ عَنْهَا خَمْسَ سِنِينَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ سَبْعَ خِلَعٍ وَأَطْلَقَ إِلَيْهِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةَ تُخُوتِ ثِيَابٍ وَمِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْجِمَالِ شَيْئًا كَثِيرًا وَأُقْطِعَ الدَّارَ الَّتِي بِالْمُخَرِّمِ فَسَكَنَهَا فَعَمِلَ فِيهَا ضِيَافَةً تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَسَقَى فِيهَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ رِطْلٍ مِنَ الثَّلْجِ.
وَفِي الصَّيْفِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اشْتُهِرَ بِبَغْدَادَ أَنَّ حَيَوَانًا عَجِيبًا يُقَالُ لَهُ الزَّبْزَبُ يَطُوفُ بِاللَّيْلِ يَأْكُلُ الْأَطْفَالَ مِنَ الْأَسِرَّةِ وَيَعْدُو عَلَى النَّائِمِ فَرُبَّمَا قَطَعَ يَدَ الرَّجُلِ وَثَدْيَ الْمَرْأَةِ وَهُوَ نَائِمٌ فَجَعَلَ النَّاسُ يَضْرِبُونَ عَلَى أَسْطِحَتِهِمْ بِالنُّحَاسِ مِنَ الْهَوَاوِينِ وَالطُّسُوتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يُنَفِّرُونَهُ عَنْهُمْ حَتَّى كَانَتْ بَغْدَادُ

تَرْتَجُّ مِنْ شَرْقِهَا وَغَرْبِهَا وَاصْطَنَعَ النَّاسُ لِأَوْلَادِهِمْ مِكَبَّاتٍ مِنَ السَّعَفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَاغْتَنَمَتِ اللُّصُوصُ هَذِهِ الشَّوْشَةَ فَكَثُرَ النُّقُوبُ وَأَخْذُ الْأَمْوَالِ فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِأَنْ يُؤْخَذَ حَيَوَانٌ مِنْ كِلَابِ الْمَاءِ فَيُصْلَبَ عَلَى الْجِسْرِ لِيَسْكُنَ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ فَفَعَلَ فَسَكَنَ النَّاسُ وَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَاسْتَرَاحَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقُلِّدَ ثَابِتُ بْنُ سِنَانٍ الطَّبِيبُ الْمُؤَرِّخُ أَمْرَ الْمَارَسْتَانَاتِ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَتْ خَمْسَةً.
وَرَدَ كِتَابٌ مِنَ خُرَاسَانَ بِأَنَّهُمْ وَجَدُوا قُبُورَ شُهَدَاءَ قُتِلُوا فِي سَنَةِ سَبْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ مَكْتُوبَةٌ أَسْمَاؤُهُمْ فِي رِقَاعٍ مَرْبُوطَةٍ بِآذَانِهِمْ وَأَجْسَادُهُمْ طَرِيَّةٌ كَمَا هِيَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ لَبِيدِ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ عُطَارِدَ بْنِ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ الْمُلَقَّبُ فَرُّوْجَةَ قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا.
يُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ.
أَبُو يَعْقُوبَ الرَّازِيُّ سَمِعَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَصَحِبَ ذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ. رَوَى الْخَطِيبُ بِسَنَدِهِ

إِلَيْهِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ ذَا النُّونِ يَحْفَظُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ فَقَصَدَهُ لِيُعَلِّمَهُ إِيَّاهُ.
قَالَ: فَلَمَّا وَرَدْتُ عَلَيْهِ اسْتَهَانَ بِي وَكَانَ لِي لِحْيَةٌ طَوِيلَةٌ وَمَعِي رِكْوَةٌ طَوِيلَةٌ فَجَاءَ رَجُلٌ يَوْمًا فَنَاظَرَ ذَا النُّونِ فَأَسْكَتَ ذَا النُّونِ، فَنَاظَرْتُ أَنَا الرَّجُلَ فَأَسْكَتُّهُ، فَقَامَ ذُو النُّونِ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيَّ وَهُوَ شَيْخٌ وَأَنَا شَابٌّ، وَاعْتَذَرَ إِلَيَّ فَخَدَمْتُهُ سَنَةً ثُمَّ سَأَلْتُهُ أَنْ يُعَلِّمَنِي الِاسْمَ الْأَعْظَمَ فَلَمْ يَبْعُدْ مِنِّي وَوَعَدَنِي، فَمَكَثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ أَخْرَجَ إِلَيَّ طَبَقًا عَلَيْهِ مِكَبَّةٌ مَشْدُودًا بِمَنْدِيلٍ، وَقَالَ لِيَ: اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى صَاحِبِنَا فَلَانٍ.
قَالَ: فَجَعَلْتُ أُفَكِّرُ فِي الطَّرِيقِ مَا هَذَا الَّذِي أَرْسَلَنِي بِهِ، فَلَمَّا وَصَلْتُ الْجِسْرَ فَتَحْتُهُ فَإِذَا فِيهِ فَأْرَةٌ فَقَفَزَتْ وَذَهَبَتْ، فَاغْتَظْتُ غَيْظًا شَدِيدًا، وَقُلْتُ: ذُو النُّونِ يَسْخَرُ بِي فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا حَنِقٌ، فَقَالَ لِي: وَيْحَكَ إِنَّمَا اخْتَبَرْتُكَ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ أَمِينًا عَلَى فَأْرَةٍ فَأَنْ لَا تَكُونُ أَمِينًا عَلَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، اذْهَبْ عَنِّي فَلَا أَرَاكَ بَعْدَهَا.
وَقَدْ رُئِيَ أَبُو الْحُسَيْنِ الرَّازِيُّ هَذَا فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِقَوْلِي عِنْدَ الْمَوْتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي نَصَحْتُ لِلنَّاسَ قَوْلًا وَخُنْتُ نَفْسِي فِعْلًا فَهَبْ لِي خِيَانَةَ فِعْلِي لِنُصْحِ قَوْلِي.
يَمُوتُ بْنُ الْمُزَرَّعِ بْنِ يَمُوتَ.
أَبُو بَكْرٍ الْعَبْدِيُّ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ وَهُوَ ثَوْرِيٌّ، كَانَ ابْنَ أُخْتِ الْجَاحِظِ قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْمَازِنِيِّ وَأَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ وَأَبِي الْفَضْلِ الرِّيَاشِيِّ وَكَانَ صَاحِبَ أَخْبَارٍ وَآدَابٍ وَمُلَحٍ

وَقَدْ كَانَ غَيَّرَ اسْمَهُ بِمُحَمَّدٍ، فِلْمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ إِلَّا الْأَوَّلُ، وَكَانَ إِذَا ذَهَبَ يَعُودُ مَرِيضًا فَدَقَّ الْبَابَ، فَقِيلَ: مَنْ ؟ فَيَقُولُ: ابْنُ الْمُزَرَّعِ وَلَا يَذْكُرُ اسْمَهُ لِئَلَّا يَتَفَاءَلُ أَهْلُ الْمَرِيضِ بِسَمَاعِ ذَلِكَ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ رَسُولُ مَلِكِ الرُّومِ فِي طَلَبِ الْمُفَادَاةِ وَالْهُدْنَةِ وَهُوَ شَابٌّ حَدَثُ السِّنِّ وَمَعَهُ شَيْخٌ مِنْهُمْ وَعِشْرُونَ غُلَامًا، فَلَمَّا وَرَدَ بَغْدَادَ شَاهَدَ أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا وَذَلِكَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمُقْتَدِرَ بِاللَّهِ أَمَرَ بِالِاحْتِفَالِ بِذَلِكَ لِيُشَاهَدَ مَا فِيهِ إِرْهَابُ الْأَعْدَاءِ، فَرَكِبَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ مِائَةَ أَلْفٍ وَسِتِّينَ أَلْفًا مَا بَيْنَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ فِي الْأَسْلِحَةِ التَّامَّةِ، وَغِلْمَانُ الْخَلِيفَةِ سَبْعَةُ آلَافٍ، أَرْبَعَةُ آلَافٍ بِيضٌ وَثَلَاثَةُ آلَافٍ سُودٌ، وَهُمْ فِي غَايَةِ الْمَلَابِسِ وَالْعُدَدِ، وَالْحَجَبَةُ يَوْمَئِذٍ سَبْعُمِائَةِ حَاجِبٍ وَأَمَّا الطَّيَّارَاتُ الَّتِي بِدِجْلَةَ والزِّبَارِبُ وَالْسُّمَيْرِيَّاتُ فَشَيْءٌ كَثِيرٌ مُزَيَّنَةٌ، فَحِينَ دَخَلَ الرَّسُولُ دَارَ الْخِلَافَةِ شَاهَدَ أَمْرًا أَدْهَشَهُ وَرَأَى مِنَ الْحِشْمَةِ وَالزِّينَةِ وَالْحُرْمَةِ مَا يُبْهِرُ الْأَبْصَارَ وَحِينَ اجْتَازَ بِالْحَاجِبِ ظَنَّ أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ فَقِيلَ لَهُ هَذَا الْحَاجِبُ الْكَبِيرُ، فَمَرَّ بِالْوَزِيرِ فِي أُبَّهَتِهِ فَظَنَّهُ الْخَلِيفَةُ، فَقِيلَ لَهُ هَذَا الْوَزِيرُ، وَقَدْ زُيِّنَتْ دَارُ الْخِلَافَةِ بِزِينَةٍ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، كَانَ فِيهَا مِنَ السُّتُورِ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ سِتْرٍ، مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ سِتْرٍ وَخَمْسُمِائَةِ مُذَهَّبَةٍ، وَقَدْ بُسِطَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ أَلْفَ بِسَاطٍ، وَفِيهَا مِنَ الْوُحُوشِ قُطْعَانٌ مُتَآنِسَةٌ بِالنَّاسِ، بِحَيْثُ تَأْكُلُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَمِائَةُ سَبُعٍ مَعَ

السَّبَّاعَةِ ثُمَّ أُدْخِلَ إِلَى دَارِ الشَّجَرَةِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ بِرْكَةٍ فِيهَا مَاءٌ صَافٍ، وَفِي وَسَطِ ذَلِكَ الْمَاءِ شَجَرَةٌ مَنْ ذَهَبَ وَفِضَّةٍ لَهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ غُصْنًا أَكْثَرُهَا مِنْ ذَهَبٍ وَفِيَ الشَّمَارِيخِ وَالْأَوْرَاقِ الْمُلَوَّنَةِ عَلَيْهَا طُيُورٌ مَصْبُوغَةٌ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَاللَّآلِئِ، وَهِيَ تُصَوِّتُ بِأَنْوَاعِ الْأَصْوَاتِ مِنَ الْمَاءِ الْمُسَلَّطِ عَلَيْهَا، وَالشَّجَرَةُ بِكَمَالِهَا تَتَمَايَلُ كَمَا تَتَمَايَلُ الْأَشْجَارُ بِحَرَكَاتٍ عَجِيبَةٍ تُدْهِشُ مَنْ يَرَاهَا، ثُمَّ أُدْخِلَ إِلَى مَكَانٍ يُسَمُّونَهُ الْفِرْدَوْسَ، فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَارِشِ وَالْآلَاتِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ كَثْرَةً وَحُسْنًا وَفِي دَهَالِيزِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ جَوْشَنٍ مُذَهَّبَةٍ، فَمَا زَالَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَى مَكَانٍ أَدْهَشَهُ وَأَخَذَ بِبَصَرِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ آبِنُوسَ قَدْ فُرِشَ بالدَّيْبَقِيِّ الْمُطَرَّزِ بِالذَّهَبِ وَعَنْ يَمِينِ السَّرِيرِ تِسْعَةُ عُقُودٍ مُعَلَّقَةٍ وَعَنْ يَسَارِهِ تِسْعَةٌ أُخْرَى مِنْ أَفْخَرِ الْجَوَاهِرِ يَعْلُو ضَوْؤُهَا عَلَى ضَوْءِ النَّهَارِ، فَأُوقِفَ الرَّسُولُ وَالَّذِي مَعَهُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ عَلَى نَحْوٍ مَنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ وَالْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ وَالتُّرْجُمَانُ دُونَ الْوَزِيرِ، فَجَعَلَ الْخَلِيفَةُ يُخَاطِبُ الْوَزِيرَ، وَالْوَزِيرُ يُخَاطِبُ التُّرْجُمَانَ وَالتُّرْجُمَانُ يُخَاطِبُهُمَا، ثُمَّ خَلَعَ عَلَيْهِمَا وَأَطْلَقَ لَهُمَا خَمْسِينَ سَقْرَقًا فِي كُلِّ سَقْرَقٍ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأُخْرِجَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَطِيفَ بِهِمَا فِي بَقِيَّةِ دَارِ الْخِلَافَةِ وَعَلَى حَافَّاتِ دِجْلَةَ الْفِيَلَةُ وَالزَّرَافَاتُ وَالسِّبَاعُ وَالْفُهُودُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ مَا وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ الْهَاشِمِيُّ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

سُلَيْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو مُوسَى.
النَّحْوِيُّ الْكُوفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْحَامِضِ، صَحِبَ ثَعْلَبًا أَرْبَعِينَ سَنَةً وَخَلَفَهُ فِي حَلْقَتِهِ وَصَنَّفَ " غَرِيبَ الْحَدِيثِ " وَ " خَلْقَ الْإِنْسَانِ " وَ " الْوُحُوشَ " وَ " النَّبَاتَ " وَكَانَ دَيِّنًا صَالِحًا رَوَى عَنْهُ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا وَدُفِنَ بِبَابِ التِّبْنِ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شِيرَوَيْهِ الْحَافِظُ. وَعِمْرَانُ بْنُ مُجَاشِعٍ. وَأَبُو خَلِيفَةَ الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ. وَقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الْمُطَرِّزُ الْمُقْرِئُ أَحَدُ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ سَمِعَ أَبَا كُرَيْبٍ وَسُوَيْدَ بْنَ سَعِيدٍ، وَعَنْهُ الْخُلْدِيُّ وَابْنُ الْجَعَّابِيِّ، تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ مُسْتَهَلُّ هَذِهِ السَّنَةِ - فُتِحَ الْمَارَسْتَانُ الَّذِي بَنَتْهُ السَّيِّدَةُ أُمُّ الْمُقْتَدِرِ، وَجَلَسَ فِيهِ سِنَانُ بْنُ ثَابِتٍ الطَّبِيبُ وَرُتِّبَتْ فِيهِ الْأَطِبَّاءُ وَالْخَدَمُ وَالْقَوْمَةُ وَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ سِتَّمِائَةَ دِينَارٍ، وَأَشَارَ سِنَانُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِبِنَاءِ مَارَسْتَانَ فَقَبِلَ مِنْهُ وبُنِيَ وَسُمِّيَ الْمُقْتَدِرِيَّ.
وَفِيهَا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ أُمَرَاءِ الصَّوَائِفِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُصُونِ فِي بِلَادِ الرُّومِ.
وَفِيهَا شَغَبَ الْعَامَّةُ وَأَرْجَفُوا بِمَوْتِ الْمُقْتَدِرِ، فَرَكِبَ فِي الْجَحَافِلِ حَتَّى بَلَغَ الثُّرَيَّا وَرَجَعَ مِنْ بَابِ الْعَامَّةِ وَوَقَفَ طَوِيلًا لِيَرَاهُ النَّاسُ ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الشَّمَّاسِيَّةِ وَانْحَدَرَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ فِي دِجْلَةَ فَسَكَنَتِ الْفِتَنُ.
وَفِيهَا قَلَّدَ الْمُقْتَدِرُ حَامِدَ بْنَ الْعَبَّاسِ الْوِزَارَةَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَخَلْفَهُ أَرْبَعُمِائَةِ غُلَامٍ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ عَجْزُهُ، فَأَخْرَجَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى وَجَعَلَهُ مَعَهُ لِيُنْفِذَ الْأُمُورَ وَيَنْظُرَ مَعَهُ فِي الْأَعْمَالِ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ مِمَّنْ يَكْتُبُ أَيْضًا بِحَضْرَةِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْوَزِيرِ، ثُمَّ صَارَتِ الْمُنْزِلَةُ كُلُّهَا لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى وَاسْتَقَلَّ بِالْوِزَارَةِ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ.
وَفِيهَا أَمَرَتِ السَّيِّدَةُ أُمُّ الْمُقْتَدِرِ قَهْرَمَانَةً لَهَا تُعْرَفُ بِثَمِلَ أَنْ تَجْلِسَ فِي التُّرْبَةِ الَّتِي بَنَتْهَا بِالرُّصَافَةِ فِي كُلِّ يَوْمِ جُمْعَةٍ، وَأَنْ تَنْظُرَ فِي الْمَظَالِمِ الَّتِي تُرْفَعُ إِلَيْهَا فِي الْقِصَصِ، وَحَضَرَ فِي مَجْلِسِهَا

الْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ.
أَبُو الْقَاسِمِ الْكِلَابِيُّ الشَّافِعِيُّ سَمِعَ الْحَارِثَ بْنَ مِسْكِينٍ وَغَيْرَهُ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا ثِقَةً، عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَكَانَ يُحِبُّ الْخَلْوَةَ وَالِانْقِبَاضَ، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا.
أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ الْمُكْثِرِينَ الْمُعَمَّرِينَ.
أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سُرَيْجٍ.
أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَاضِي بِشِيرَازَ صَنَّفَ نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةِ مُصَنَّفٍ وَكَانَ أَحَدَ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالْبَازِ الْأَشْهَبِ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ، وَعَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَالْمُزَنِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ انْتَشَرَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْآفَاقِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ. تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا عَنْ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ الْخَامِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَعُمُرُهُ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَقَبْرُهُ يُزَارُ.
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَلَّاءُ بَغْدَادِيٌّ سَكَنَ الشَّامَ وَصَحِبَ أَبَا

التُّرَابِ النَّخْشَبِيَّ وَذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ بِسَنَدِهِ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبَوَيَّ وَأَنَا شَابٌّ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَهِبَانِي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَا: قَدْ وَهَبْنَاكَ لِلَّهِ، فَغِبْتُ عَنْهُمَا مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى بَلَدِنَا عِشَاءً فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى الْبَابِ فَدَقَقْتُهُ، فَقَالَا: مَنْ هَذَا ؟ فَقُلْتُ: أَنَا وَلَدُكُمَا فُلَانٌ، فَقَالَا: إِنَّهُ قَدْ كَانَ لَنَا وَلَدٌ وَوَهَبْنَاهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَحْنُ مِنَ الْعَرَبِ لَا نَرْجِعُ فِيمَا وَهَبْنَا. وَلَمْ يَفْتَحَا لِيَ الْبَابَ.
الْحُسَيْنُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ.
الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَهُوَ أَخُو الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ كَانَ إِلَيْهِ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ بِالْأُرْدُنِّ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى بْنِ زِيَادٍ.
أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوَالِيقِيُّ الْقَاضِي الْمَعْرُوفُ بِعَبْدَانَ، الْأَهْوَازِيُّ وُلِدَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، كَانَ أَحَدَ الْحُفَّاظِ الْأَثْبَاتِ، يَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ، جَمَعَ الْمَشَايِخَ وَالْأَبْوَابَ، رَوَى عَنْ هُدْبَةَ وَكَامِلِ بْنِ طَلْحَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
مُحَمَّدُ بْنُ بَابْشَاذَ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ.
سَكَنَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ

عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيِّ وَبِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَقَدِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَفِي حَدِيثِهِ غَرَائِبُ وَمَنَاكِيرُ تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
مُحْمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ شَهْرَيَارَ.
أَبُو بَكْرٍ الْقَطَّانُ الْبَلْخِيُّ الْأَصْلِ رَوَى عَنِ الْفَلَّاسِ وَبِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ وَعَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْجِعَابِيِّ، كَذَّبَهُ ابْنُ نَاجِيَةَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.
مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ صَدَقَةَ بْنِ زِيَادٍ.
أَبُو بَكْرٍ الضَّبِّيُّ الْقَاضِي الْمَعْرُوفُ بِوَكِيعٍ كَانَ عَالِمًا فَاضِلًا عَارِفًا بِأَيَّامِ النَّاسِ فَقِيهًا قَارِئًا نَحْوِيًّا لَهُ مُصَنَّفَاتٌ مِنْهَا كِتَابُ " الْعَدَدِ " وَلِيَ الْقَضَاءَ بِالْأَهْوَازِ وَحَدَّثَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَالزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ وَأَبُو عَلِيٍّ الصَّوَّافُ وَغَيْرُهُمَا، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
إِذَا مَا غَدَتْ طَلَّابَةُ الْعِلْمِ تَبْتَغِي مِنَ الْعِلْمِ يَوْمًا مَا يُخَلَّدُ فِي الْكُتْبِ غَدَوْتُ بِتَشْمِيرٍ وَجِدٍّ عَلَيْهِمْ
وَمِحْبَرَتِي أُذْنِي وَدَفْتَرُهَا قَلْبِي
مَنْصُورُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْفَقِيهُ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْمَذْهَبِ وَلَهُ الشِّعْرُ الْحَسَنُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَيَظْهَرُ فِي

شِعْرِهِ التَّشَيُّعُ وَكَانَ جُنْدِيًّا كُفَّ بَصَرُهُ وَسَكَنَ الرَّمْلَةَ ثُمَّ قَدِمَ مِصْرَ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَا.
أَبُو نَصْرٍ الْمُحِبُّ.
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ كَانَ لَهُ كَرَمٌ وَسَخَاءٌ وَمُرُوءَةٌ، وَمَرَّ بِسَائِلٍ سَأَلَ وَهُوَ يَقُولُ: شَفِيعِي إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَقَّ أَبُو نَصْرٍ إِزَارَهُ وَأَعْطَاهُ نِصْفَهُ ثُمَّ مَشَى خُطْوَتَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَأَعْطَاهُ النِّصْفَ الْآخَرَ، وَقَالَ: هَذَا نَذَالَةٌ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا وَقَعَ حَرِيقٌ بِالْكَرْخِ فِي الْبَاقِلَّانِيِّينَ هَلَكَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا دُخِلَ بِأُسَارَى مِنَ الْكَرْخِ نَحْوٍ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ أَسِيرًا أَنْقَذَهُمُ الْأَمِيرُ بَدْرٌ الْحَمَامِيُّ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ غَالِبُ الضَّوْءِ وَتَقَطَّعَ ثَلَاثَ قِطَعٍ وَسُمِعَ بَعْدَ انْقِضَاضِهِ صَوْتُ رَعْدٍ شَدِيدٍ هَائِلٍ مِنْ غَيْرِ غَيْمٍ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
وَفِيهَا دَخَلَتِ الْقَرَامِطَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ.
وَفِيهَا عُزِلَ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ عَنِ الْوِزَارَةِ وَأُعِيدَ إِلَيْهَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْفُرَاتِ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ.
وَفِيهَا كَسَرَتِ الْعَامَّةُ أَبْوَابَ السُّجُونِ فَأَخْرَجُوا مَنْ كَانَ بِهَا، فَأَدْرَكَتِ الشُّرْطَةُ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنَ السِّجْنِ فَلَمْ يَفُتْهُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، بَلْ رُدُّوا إِلَى السُّجُونِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ أَخُو أُمِّ مُوسَى الْقَهْرَمَانَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى.
أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ " الْمَشْهُورِ، سَمِعَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَطَبَقَتَهُ وَكَانَ حَافِظًا خَيِّرًا حَسَنَ

التَّصْنِيفِ عَدْلًا فِيمَا يَرْوِيهِ ضَابِطًا لِمَا يُحَدِّثُ بِهِ.
إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ.
أَبُو يَعْقُوبَ الْبَزَّازُ الْكُوفِيُّ، رَحَلَ إِلَى الشَّامِ وَمِصْرَ وَكَتَبَ الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ " الْمُسْنَدَ " وَاسْتَوْطَنَ بَغْدَادَ وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْمُظَفَّرِ الْحَافِظُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَعْرَجُ النَّيْسَابُورِيُّ الْحَافِظُ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَرَوَى عَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْأَزْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا عَارِفًا، تُوُفِّيَ بِحَلَبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ.
الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ شَيْخُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ.
عَلِيُّ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْأَزْهَرِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَصْبَهَانِيُّ، كَانَ أَوَّلًا مُتْرَفًا ثُمَّ كَانَ زَاهِدًا عَابِدًا يَبْقَى الْأَيَّامَ لَا يَأْكُلُ فِيهَا شَيْئًا، وَكَانَ يَقُولُ: أَلْهَانِي الشَّوْقُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا لَا أَمُوتُ بِمَا يَمُوتُونَ، بِالْأَعْلَالِ وَالْأَسْقَامِ إِنَّمَا هُوَ

دُعَاءٌ وَإِجَابَةٌ، أُدْعَى فَأُجِيبُ، فَكَانَ كَمَا قَالَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي جَمَاعَةٍ إِذْ قَالَ: لَبَّيْكَ، وَوَقَعَ مَيِّتًا.
ومُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ " وَابْنُ ذَرِيحٍ الْعُكْبَرِيُّ وَالْهَيْثَمُ بْنُ خَلَفٍ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ
غَلَتِ الْأَسْعَارُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِبَغْدَادَ فَاضْطَرَبَتِ الْعَامَّةُ وَقَصَدُوا دَارَ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الَّذِي ضَمِنَ قَرَايَا مِنَ الْخَلِيفَةِ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَعَدَوْا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْخَطِيبِ، فَمَنَعُوهُ الْخُطْبَةَ وَكَسَرُوا الْمَنَابِرَ وَدِكَكَ الشُّرَطِ وَحَرَقُوا جُسُورًا كَثِيرَةً، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِقِتَالِ الْعَامَّةِ ثُمَّ نَقَضَ الضَّمَانَ الَّذِي كَانَ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ ضَمِنَهُ فَانْحَطَّتِ الْأَسْعَارُ وَبِيعَ الْكُرُّ بِنَاقِصِ خَمْسَةِ دَنَانِيرَ فَطَابَتْ أَنْفُسُ النَّاسِ بِذَلِكَ وَسَكَنُوا.
وَفِي تَمُّوزَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ بَرْدٌ شَدِيدٌ جِدًّا حَتَّى نَزَلَ النَّاسُ عَنِ الْأَسْطِحَةِ وَتَدَثَّرُوا بِاللُّحُفِ وَالْأَكْسِيَةِ وَوَقَعَ فِي شِتَاءِ هَذِهِ السَّنَةِ ثَلْجٌ عَظِيمٌ وَكَانَ فِيهَا بَرْدٌ شَدِيدٌ جِدًّا بِحَيْثُ أَضَرَّ ذَلِكَ بِبَعْضِ النَّخِيلِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ أَخُو الْقَهْرَمَانَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ الْفَقِيهُ.
رَاوِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْهُ

أَحْمَدُ بْنُ الصَّلْتِ.
بْنِ الْمُغَلِّسِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْحِمَّانِيُّ أَحَدُ الْوَضَّاعِينَ لِلْأَحَادِيثِ رَوَى عَنْ خَالِهِ جُبَارَةَ بْنِ الْمُغَلِّسِ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَمُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ وَغَيْرِهِمْ أَحَادِيثَ، كُلُّهَا وَضَعَهَا هُوَ فِي مَنَاقِبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَحَكَى عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَارًا كُلُّهَا كَذِبٌ.
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ الصَّلْتِ يَضَعُ الْحَدِيثَ.
إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ وَالْمُفَضَّلُ الْجَنَدِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ وَهْبٍ الدِّينَوَرِيُّ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ يَعْقُوبَ.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِئُ النَّحْوِيُّ التَّوَّزِيُّ سَكَنَ بَغْدَادَ وَرَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ، وَعَنْهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ، وَمِنْ شِعْرِهِ:

إِذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظًا وَاعِيًا فَعِلْمُكَ فِي الْبَيْتِ لَا يَنْفَعُ وَتَحْضُرُ بِالْجَهْلِ فِي مَجْلِسٍ
وَعِلْمُكَ فِي الْكُتْبِ مُسْتَوْدَعُ وَمَنْ يَكُ فِي دَهْرِهِ هَكَذَا
يَكُنْ دَهْرَهُ الْقَهْقَرَى يَرْجِعُ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ كَثِيرٌ فِي نُوَاحِي بَغْدَادَ بِسَبَبِ زِنْدِيقٍ قُتِلَ فَأَلْقَى مَنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ الْحَرِيقَ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ فَهَلَكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا قَلَّدَ الْمُقْتَدِرُ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ بِلَادَ مِصْرَ وَالشَّامِ وَلَقَبَّهُ الْمُظَفَّرَ وَكَتَبَ بِذَلِكَ فِي الْمُرَاسَلَاتِ إِلَى الْآفَاقِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا أُحْضِرَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَى دَارِ الْوَزِيرِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ لِمُنَاظَرَةِ الْحَنَابِلَةِ فِي أَشْيَاءَ نَقَمُوهَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَحْضُرُوا وَلَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ.
وَقَدَّمَ الْوَزِيرُ حَامِدُ بْنِ الْعَبَّاسِ لِلْخَلِيفَةِ بُسْتَانًا بَنَاهُ وَسَمَّاهُ النَّاعُورَةَ قِيمَتُهُ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ وَفَرَشَ مَسَاكِنَهُ بِأَنْوَاعِ الْمَفَارِشِ الْمُفْتَخِرَةِ.
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجِ وَلِنَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ تَرْجَمَتِهِ وَسِيرَتِهِ وَكَيْفِيَّةِ قَتْلِهِ، عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ وَبَيَانِ الْمَقْصُودِ بِطَرِيقِ الْإِنْصَافِ وَالْعَدْلِ.
وَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ سِيرَتِهِ وَأَحْوَالِهِ وَكَشْفِ سَرِيرَتِهِ وَأَقْوَالِهِ
الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ مَحْمِيٍّ الْحَلَّاجُ أَبُو مُغِيثٍ، وَيُقَالُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ،

كَانَ جَدُّهُ مَجُوسِيًّا اسْمُهُ مَحْمِيٌّ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ نَشَأَ بِوَاسِطَ، وَيُقَالُ بِتُسْتَرَ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ وَتَرَدَّدَ إِلَى مَكَّةَ مِرَارًا لِلْحَجِّ وَجَاوَرَ بِهَا سَنَوَاتٍ مُتَفَرِّقَةً، وَكَانَ يُصَابِرُ نَفْسَهُ وَيُجَاهِدُهَا فَلَا يَجْلِسُ إِلَّا تَحْتَ السَّمَاءِ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا بَعْضَ قُرْصٍ وَيَشْرَبُ قَلِيلًا مِنَ الْمَاءِ مَعَهُ وَذَلِكَ وَقْتَ الْفُطُورِ مُدَّةَ سَنَةٍ كَامِلَةٍ وَيَجْلِسُ عَلَى صَخْرَةٍ فِي قُبَالَةِ الْحَرَمِ فِي جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ وَقَدْ صَحِبَ جَمَاعَةً مِنْ سَادَاتِ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ كَالْجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ النُّورِيِّ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَالصُّوفِيَّةُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ فَأَكْثَرَهُمْ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْحَلَّاجُ مِنْهُمْ وَأَبَى أَنْ يَعُدَّهُ فِيهِمْ، وَقَبِلَهُ مِنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَطَاءٍ الْبَغْدَادِيُّ ومُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ الشِّيرَازِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّصْرَابَاذِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ وَصَحَّحُوا لَهُ حَالَهُ وَدَوَّنُوا كَلَامَهُ حَتَّى قَالَ ابْنُ خَفِيفٍ: الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدٍ النَّصْرَابَاذِيَّ وَعُوتِبَ فِي شَيْءٍ حُكِيَ عَنِ الْحَلَّاجِ فِي الرُّوحِ،

فَقَالَ لِمَنْ عَاتَبَهُ: إِنْ كَانَ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ مُوَحِّدٌ فَهُوَ الْحَلَّاجُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَسَمِعْتُ مَنْصُورَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ الشِّبْلِيَّ، يَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَالْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ شَيْئًا وَاحِدًا إِلَّا أَنَّهُ أَظْهَرَ وَكَتَمْتُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشِّبْلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ وَقَدْ رَأَى الْحَلَّاجَ مَصْلُوبًا: أَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ؟
قَالَ الْخَطِيبُ: وَالَّذِينَ نَفَوْهُ مِنَ الصُّوفِيَّةِ نَسَبُوهُ إِلَى الشَّعْبَذَةِ فِي فِعْلِهِ وَإِلَى الزَّنْدَقَةِ فِي عَقْدِهِ.
قَالَ: وَلَهُ إِلَى الْآنِ أَصْحَابٌ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ وَيَغْلُونَ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ الْحَلَّاجُ حَسَنَ الْعِبَارَةِ حُلْوَ الْمَنْطِقِ وَلَهُ شِعْرٌ عَلَى طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ.
قُلْتُ: لَمْ يَزَلِ النَّاسُ مُنْذُ قُتِلَ الْحَلَّاجُ مُخْتَلِفِينَ فِي أَمْرِهِ. فَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَحُكِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ وَأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا مُمَخْرِقًا مُمَوِّهًا مُشَعْبِذًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصُّوفِيَّةِ مِنْهُمْ. وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ أَجْمَلُوا الْقَوْلَ فِيهِ وَغَرَّهُمْ ظَاهِرُهُ وَلَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى بَاطِنِهِ، وَقَدْ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ فِيهِ تَعْبُدٌ وَتَأَلُّهٌ وَسُلُوكٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ يَسْلُكُ بِهِ فِي عِبَادَتِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الدَّاخِلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ

قَالَ: مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مَنَ الْيَهُودِ وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى. وَلِهَذَا دَخَلَ عَلَى الْحَلَّاجِ بَابُ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فَصَارَ مِنْ أَهْلِ الِانْحِلَالِ وَالْإِلْحَادِ.
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ تَقَلَّبَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ وَتَرَدَّدَ إِلَى الْبُلْدَانِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَحَّ أَنَّهُ دَخَلَ إِلَى الْهِنْدِ لِتَعَلُّمِ السِّحْرِ، وَقَالَ: أَدْعُو بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَانَأَهْلُ الْهِنْدِ يُكَاتِبُونَهُ بِالْمُغِيثِ. وَيُكَاتِبُهُ أَهْلُ تُرْكِسْتَانَ بِالْمُقِيتِ. وَيُكَاتِبُهُ أَهْلُ خُرَاسَانَ بِالْمُمَيِّزِ. وَأَهْلُ فَارِسَ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّاهِدِ. وَأَهْلُ خُوزَسْتَانَ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّاهِدِ حَلَّاجِ الْأَسْرَارِ. وَكَانَ بَعْضُ الْبَغَادِدَةِ حِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ يَقُولُونَ لَهُ: الْمُصْطَلِمُ. وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ يَقُولُونَ لَهُ الْمُحَيِّرُ.
وَيُقَالُ: إِنَّمَا سَمَّاهُ الْحَلَّاجَ أَهْلُ الْأَهْوَازِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُكَاشِفُهُمْ عَنْ مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ قَالَ لِحَلَّاجٍ: اذْهَبْ لِي فِي حَاجَةِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: إِنِّي مَشْغُولٌ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأَنَا أَسُدُّ عَنْكَ، فَذَهَبَ وَرَجَعَ سَرِيعًا فَإِذَا جَمِيعُ مَا فِي ذَلِكَ الْمَخْزَنِ قَدْ حَلَجَهُ، يُقَالُ: إِنَّهُ أَشَارَ بِالْمِرْوَدِ فَامْتَازَ الْحَبُّ عَنِ الْقُطْنِ، وَفِي صِحَّةِ هَذَا نَظَرٌ. وَقِيلَ: لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ حَلَّاجًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَا حُلُولٍ

فِي بَدْءِ أَمْرِهِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا شِعْرُهُ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
جُبِلَتْ رُوحُكَ فِي رُوحِي كَمَا يُجْبَلُ الْعَنْبَرُ بِالْمِسْكِ الْفَتِقْ فَإِذَا مَسَّكَ شَيْءٌ مَسَّنِي
فَإِذَا أَنْتَ أَنَا لَا نَفْتَرِقْ
وَقَوْلُهُ أَيْضًا:
مُزِجَتْ رُوحُكَ فِي رُوحِي كَمَا تُمْزَجُ الْخَمْرَةُ بِالْمَاءِ الزُّلَالْ
فَإِذَا مَسَّكَ شَيْءٌ مَسَّنِي فَإِذَا أَنْتَ أَنَا فِي كُلِّ حَالْ
وَلَهُ أَيْضًا:
قَدْ تَحَقَّقْتُكَ فِي سِرِّ ي فَخَاطَبَكَ لِسَانِي
فَاجْتَمَعْنَا لِمَعَانٍ وَافْتَرَقْنَا لِمَعَانِ
إِنْ يَكُنْ غَيَّبَكَ التَّعْ ظِيمُ عَنْ لَحْظِ الْعَيَانِ
فَلَقَدْ صَيَّرَكَ الْوَجْ دُ مِنَ الْأَحْشَاءِ دَانِ
وَقَدْ أُنْشِدَ لِابْنِ عَطَاءٍ قَوْلُ الْحَلَّاجِ:
أُرِيدُكَ لَا أُرِيدُكَ لِلثَّوَابِ وَلَكِنِّي أُرِيدُكَ لِلْعِقَابِ
وَكُلُّ مَآرِبِي قَدْ نِلْتُ مِنْهَا سِوَى مَلْذُوذِ وَجْدِي بِالْعَذَابِ
فَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: هَذَا مِمَّا يَتَزَايَدُ بِهِ عَذَابُ الشَّغَفِ وَهُيَامُ الْكَلَفِ وَاحْتِرَاقُ الْأَسَفِ فَإِذَا صَفَا وَوَفَا عَلَا إِلَى مَشْرَبٍ عَذْبٍ وَهَطْلٍ مِنَ الْحَقِّ دَائِمٍ سَكِبٍ.
وَقَدْ أُنْشِدَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَفِيفٍ قَوْلُ الْحَلَّاجِ:

سُبْحَانَ مَنْ أَظْهَرَ نَاسُوتُهُ سِرَّ سَنَا لَاهُوتِهِ الثَّاقِبِ
ثُمَّ بَدَا فِي خَلْقِهِ ظَاهِرًا فِي صُورَةِ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ
حَتَّى لَقَدْ عَايَنَهُ خَلْقُهُ كَلَحْظَةِ الْحَاجِبِ بِالْحَاجِبِ
فَقَالَ ابْنُ خَفِيفٍ: عَلَى مَنْ يَقُولُ هَذَا لَعْنَةُ اللَّهِ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَذَا مِنْ شِعْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ، فَقَالَ: رُبَّمَا يَكُونُ مَقُولًا عَلَيْهِ.
وَمِمَّا يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنَ الشِّعْرِ قَوْلُهُ:
أَرْسَلْتَ تَسْأَلُ عَنِّي كَيْفَ كُنْتُ وَمَا لَاقَيْتُ بَعْدَكَ مِنْ هَمٍّ وَمِنْ حَزَنِ
لَا كُنْتُ إِنْ كُنْتُ أَدْرِي كَيْفَ كُنْتُ وَلَا لَا كُنْتُ إِنْ كُنْتُ أَدْرِي كَيْفَ لَمْ أَكُنِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَيُرْوَى لِسَمْنُونٍ لَا لِلْحَلَّاجِ.
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:
مَتَى سَهِرَتْ عَيْنِي لِغَيْرِكَ أَوْ بَكَتْ فَلَا أُعْطِيَتْ مَا أَمَّلَتْ وَتَمَنَّتِ
وَإِنْ أَضْمَرَتْ نَفْسِي سِوَاكَ فَلَا رَعَتْ رِيَاضَ الْمُنَى مِنْ وَجْنَتَيْكَ وَجُنَّتِ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:

دُنْيَا تُغَالِطُنِي كَأَنِّ ي لَسْتُ أَعْرِفُ حَالَهَا
حَظَرَ الْمَلِيكُ حَرَامَهَا وَأَنَا احْتَمَيْتُ حَلَالَهَا
فَوَجَدْتُهَا مُحْتَاجَةً فَوَهَبْتُ لَذَّتَهَا لَهَا
وَقَدْ كَانَ الْحَلَّاجُ يَتَلَوَّنُ فِي مَلَابِسِهِ، فَتَارَةً يَلْبَسُ لِبَاسَ الصُّوفِيَّةِ، وَتَارَةً يَتَجَرَّدُ فِي مَلَابِسَ زَرِيَّةٍ، وَتَارَةً يَلْبَسُ لِبَاسَ الْأَجْنَادِ وَيُعَاشِرُ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا، وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي ثِيَابٍ رَثٍّ وَبِيَدِهِ رِكْوَةٌ وَعُكَّازٌ وَهُوَ سَائِحٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذِهِ الْحَالَةُ يَا حَلَّاجُ ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَئِنْ أَمْسَيْتُ فِي ثَوْبَيْ عَدِيمٍ لَقَدْ بَلِيَا عَلَى حُرٍّ كَرِيمِ
فَلَا يَغْرُرْكَ أَنْ أَبْصَرْتَ حَالًا مُغَيَّرَةً عَنِ الْحَالِ الْقَدِيمِ
فَلِي نَفْسٌ سَتَتْلَفُ أَوْ سَتَرْقَى لَعَمْرُكَ بِي إِلَى أَمْرٍ جَسِيمِ
وَمِنْ مُسْتَجَادِ كَلَامِهِ، وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ أَنْ يُوصِيَهُ بِشَيْءٍ يَنْفَعُهُ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ شَغَلَتْكَ عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: عِظْنِي. فَقَالَ: كُنْ مَعَ الْحَقِّ بِحُكْمِ مَا أَوْجَبَ.

وَرَوَى الْخَطِيبُ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: عِلْمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ مَرْجِعُهُ إِلَى أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: حُبُّ الْجَلِيلِ، وَبُغْضُ الْقَلِيلِ، وَاتِّبَاعُ التَّنْزِيلِ، وَخَوْفُ التَّحْوِيلِ. قُلْتُ: وَقَدْ أُصِيبَ الْحَلَّاجُ فِي الْمَقَامَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ فَلَمْ يَتَّبِعِ التَّنْزِيلَ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى

الِاسْتِقَامَةِ، بَلْ تَحَوَّلَ مِنْهَا إِلَى الِاعْوِجَاجِ وَالْبِدْعَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: حُكِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أُمَاشِي الْحَلَّاجَ فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ مَكَّةَ وَكُنْتُ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَسَمِعَ قِرَاءَتِي، فَقَالَ: يُمْكِنُنِي أَنْ أَقُولَ مِثْلَ هَذَا. فَفَارَقَتْهُ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَحَدَّثَنِي مَسْعُودُ بْنُ نَاصِرٍ أَنْبَأَنَا ابْنُ بَاكُوَيْهِ الشِّيرَازِيُّ سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ الطَّبَرِيَّ، يَقُولُ: النَّاسُ فِيهِ - يَعْنِي حُسَيْنَ بْنَ مَنْصُورٍ - بَيْنَ قَبُولٍ وَرَدٍّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الرَّازِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ يَلْعَنُهُ وَيَقُولُ: لَوْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ لَقَتَلْتُهُ بِيَدِي، فَقُلْتُ: أَيْشِ الَّذِي وَجَدَ الشَّيْخُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ: قَرَأْتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ: يُمْكِنُنِي أَنْ أُؤَلِّفَ مِثْلَهُ وَأَتَكَلَّمَ بِهِ.
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الطَّبَرِيُّ: وَسَمِعْتُ أَبَا يَعْقُوبَ الْأَقْطَعَ، يَقُولُ: زَوَّجْتُ ابْنَتِي مِنَ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حُسْنِ طَرِيقَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ، فَبَانَ لِي بَعْدَ مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ أَنَّهُ سَاحِرٌ مُحْتَالٌ خَبِيثٌ كَافِرٌ.
قُلْتُ: كَانَ تَزْوِيجُهُ بِهَا بِمَكَّةَ وَهِيَ أُمُّ الْحُسَيْنِ بِنْتُ أَبِي يَعْقُوبَ الْأَقْطَعِ، فَأَوْلَدَهَا وَلَدَهُ أَحْمَدَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَقَدْ ذَكَرَ سِيرَةَ أَبِيهِ كَمَا سَاقَهَا مِنْ طَرِيقِهِ الْخَطِيبُ.
وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " فِي بَابِ " حِفْظِ قُلُوبِ الْمَشَايِخِ " أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ دَخَلَ عَلَى الْحَلَّاجِ وَهُوَ بِمَكَّةَ وَهُوَ يَكْتُبُ شَيْئًا فِي

أَوْرَاقٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا ؟ فَقَالَ: هُوَ ذَا أُعَارِضُ الْقُرْآنَ. قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِ فَلَمْ يُفْلِحْ بَعْدَهَا، وَأَنْكَرَ عَلَى أَبِي يَعْقُوبَ الْأَقْطَعِ تَزْوِيجَهُ إِيَّاهُ ابْنَتَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ كُتُبًا كَثِيرَةً يَلْعَنُهُ فِيهَا وَيُحَذِّرُ النَّاسَ مِنْهُ، فَشَرَدَ الْحَلَّاجُ فِي الْبِلَادِ فَعَاثَ يَمِينًا وَشِمَالًا وَجَعَلَ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيَسْتَعِينُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِيَلِ وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَشَأْنَهُ حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ بِهِ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فَقَتَلَهُ بِسَيْفِ الشَّرْعِ الَّذِي لَا يَقَعُ إِلَّا بَيْنَ كَتِفَيْ زِنْدِيقٍ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُسَلِّطَهُ عَلَى صِدِّيقٍ كَيْفَ وَقَدْ تَهَجَّمَ عَلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَأَرَادَ مُعَارَضَتَهُ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ الْكَرِيمِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [ الْحَجِّ: 25 ] وَلَا إِلْحَادَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا، وَقَدْ أَشْبَهَ فِي حَالِهِ هَذَا كَفَّارَ قُرَيْشٍ فِي مُعَانَدَتِهِمُ، الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [ الْأَنْفَالِ: 31 ].
ذِكْرُ أَشْيَاءَ مِنْ حِيَلِ الْحَلَّاجِ
رَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ الْحَلَّاجَ أَنْفَذَ رَجُلًا بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى بَعْضِ بِلَادِ الْجَبَلِ، فَأَقَامَ بِتِلْكَ الْبَلْدَةِ يُظْهِرُ لَهُمُ الصَّلَاحَ وَالنُّسُكَ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَقَامَ فِيهِمْ مُدَّةً عَلَى

ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ قَدْ عَمِيَ، فَمَكَثَ حِينًا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَ أَنَّهُ قَدْ زَمِنَ، وَكَانَ أَوَّلًا يُقَادُ إِلَى الْمَسْجِدِ ثُمَّ صَارَ يُحْمَلُ، فَمَكَثَ سَنَةً كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: سَيَرِدُ عَلَى هَذِهِ الْبَلْدَةِ رَجُلٌ صَالِحٌ يَكُونُ شِفَاؤُكَ عَلَى يَدَيْهِ، فَمَا كَانَ مِنْ قَرِيبٍ حَتَّى كَانَ الْوَقْتُ الَّذِي وَاعَدَهُ فِيهِ الْحَلَّاجُ، وَدَخَلَ الْحَلَّاجُ الْبَلْدَةَ مُخْتَفِيًا وَعَلَيْهِ ثِيَابُ صُوفٍ بِيضٌ فَلَزِمَ سَارِيَةً مِنَ الْمَسْجِدِ يَتَعَبَّدُ فِيهِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى أَحَدٍ، فَابْتَدَرَ النَّاسُ إِلَى ذَلِكَ الْمُتَعَامِي الْمُتَزَامِنِ، فَقِيلَ لَهُ: قَدِمَ رَجُلٌ صَالِحٌ فَهَلُمَّ إِلَيْهِ، فَحَمَلُوهُ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَكَلَّمَهُ فَعَرَفَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ لِي كَذَا وَكَذَا، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ أَنْتَ إِيَّاهُ. فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَالنَّاسُ حُضُورٌ مُتَكَاثِرُونَ يَنْظُرُونَ مَاذَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ، فَفَتَحَ الرَّجُلُ عَيْنَيْهِ وَقَامَ قَائِمًا عَلَى قَدَمَيْهِ، فَضَجَّ النَّاسُ وَعَظَّمُوا الْحَلَّاجَ تَعْظِيمًا زَائِدًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَقٍّ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ مُدَّةً ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَبَقِيَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عِنْدَهُمْ عِدَّةَ شُهُورٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيَّ أَنْ رَدَّ عَلَيَّ بَصَرِي وَشَفَانِي وَيَنْبَغِي أَنْ أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِهِ بِثَغْرِ طَرَسُوسَ فَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ فَجَمَعُوا لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ مَالًا جَزِيلًا أُلُوفًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، ثُمَّ وَدَّعَهُمْ وَوَدَّعُوهُ، فَذَهَبَ إِلَى الْحَلَّاجِ فَاقْتَسَمَا ذَلِكَ الْمَالَ.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّ الْحَلَّاجَ لَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَخْتَبِرَهُ فَجِئْتُهُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ لِي: تَشَهَّ عَلَيَّ السَّاعَةَ شَيْئًا، فَقُلْتُ: أَشْتَهِي سَمَكًا طَرِيًّا، فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَغَابَ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَ وَمَعَهُ سَمَكَةٌ تَضْطَرِبُ

وَرِجْلَاهُ عَلَيْهِمَا الطِّينُ، فَقَالَ: دَعَوْتُ اللَّهَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ بِالْبَطَائِحِ لِآتِيَكَ بِهَذِهِ، فَخُصْتُ الْأَهْوَازَ وَهَذَا الطِّينُ مِنْهَا. فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ أَدْخَلْتَنِي مَنْزِلَكَ لِأَكْشِفَ أَمْرَكَ فَإِنْ ظَهَرْتُ عَلَى شَيْءٍ وَإِلَّا آمَنْتُ بِكَ، فَقَالَ: ادْخُلْ، فَدَخَلْتُ فَلَمْ أَجِدْ فِي الْبَيْتِ مَنْفَذًا إِلَى غَيْرِهِ فَتَحَيَّرْتُ فِي أَمْرِهِ ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا تَأْزِيرٌ فَكَشَفْتُهُ فَإِذَا مِنَ وَرَائِهِ بَابٌ فَدَخَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْهُ إِلَى بُسْتَانٍ هَائِلٍ فِيهِ مِنْ سَائِرِ الثِّمَارِ الْجَدِيدَةِ وَالْمُعَتَّقَةِ قَدْ أُحْسِنُ إِبْقَاؤُهَا وَإِذَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مُعَدَّةٌ لِلْأَكْلِ وَإِذَا هُنَاكَ بِرْكَةٌ كَبِيرَةٌ فِيهَا سَمَكٌ كَثِيرٌ كِبَارٌ فَدَخَلْتُهَا فَأَخْرَجْتُ مِنْهَا وَاحِدَةً، فَنَالَ رِجْلِي مِنَ الطِّينِ كَمَا نَالَ رَجْلَيْهِ وَجِئْتُ إِلَى الْبَابِ فَقُلْتُ لَهُ: افْتَحْ قَدْ آمَنْتُ بِكَ، فَلَمَّا خَرَجْتُ وَرَآنِي عَلَى مِثْلِ حَالِهِ جَرَى وَرَائِي لِيَقْتُلَنِي فَضَرَبْتُهُ بِالسَّمَكَةِ فِي وَجْهِهِ، وَقُلْتُ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ أَتْعَبْتَنِي فِي هَذَا الْيَوْمِ. وَلَمَّا خَلَصْتُ مِنْهُ لَقِيَنِي بَعْدَ ذَلِكَ فَضَاحَكَنِي، وَقَالَ: لَا تُفْشِ هَذَا لِأَحَدٍ أَبْعَثْ إِلَيْكَ مَنْ يَقْتُلُكَ عَلَى فِرَاشِكَ.
قَالَ: فَلَمْ أُحَدِّثْ بِهِ أَحَدًا حَتَّى صُلِبَ. وَقَدْ قَالَ يَوْمًا لِرَجُلٍ: آمِنْ بِي حَتَّى أَبْعَثَ لَكَ بِعُصْفُورَةٍ تَأْخُذُ مِنْ ذَرْقِهَا وَزْنَ حَبَّةٍ فَتَضَعُهُ عَلَى كَذَا وَكَذَا رِطْلًا مِنْ نُحَاسٍ، فَيَصِيرُ ذَهَبًا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: آمِنْ بِي أَنْتَ حَتَّى أَبْعَثَ إِلَيْكَ بِفِيلٍ إِذَا اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ بَلَغَتْ قَوَائِمُهُ السَّمَاءَ وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُخْفِيَهُ وَضَعْتَهُ فِي إِحْدَى عَيْنَيْكَ. قَالَ: فَبُهِتَ وَسَكَتَ.

وَلَمَّا وَرَدَ بَغْدَادَ جَعَلَ يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ وَيُظْهِرُ أَشْيَاءَ مِنَ الْمَخَارِيقِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يُرَوِّجُ عَلَى الرَّافِضَةِ لِقِلَّةِ عُقُولِهِمْ وَضِعْفِ تَمْيِيزِهِمْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَاسْتَدْعَى يَوْمًا بِرَئِيسٍ مِنَ الرَّافِضَةِ فَدَعَاهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنِّي رِجْلٌ أُحِبُّ النِّسَاءَ وَإِنِّي أَصْلَعُ الرَّأْسِ وَقَدْ شِبْتُ فَإِنْ أَنْتَ أَذْهَبْتَ عَنِّي هَذَا وَهَذَا آمَنْتُ أَنَّكَ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ أَنَّكَ نَبِيٌّ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ.
قَالَ: فَبُهِتَ الْحَلَّاجُ وَلَمْ يُحِرْ إِلَيْهِ جَوَابًا.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: كَانَ الْحَلَّاجُ مُتَلَوِّنًا كَثِيرَ التَّلَوُّنِ، تَارَةً يَلْبَسُ الْمُسُوحَ وَتَارَةً يَلْبَسُ الدُّرَّاعَةَ وَتَارَةً يَلْبَسُ الْقَبَاءَ وَهُوَ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ عَلَى مَذْهَبِهِمْ، إِنْ كَانُوا أَهْلَ سُنَّةٍ أَوْ رَافِضَةً أَوْ مُعْتَزِلَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا أَقَامَ بِالْأَهْوَازِ جَعَلَ يُنْفِقُ مِنْ دَرَاهِمَ يُخْرِجُهَا يُسَمِّيهَا دَرَاهِمَ الْقُدْرَةِ، فَسُئِلَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا يُنَالُ بِالْحِيلَةِ وَلَكِنْ أَدْخِلُوهُ بَيْتًا لَا مَنْفَذَ لَهُ ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُخْرِجَ لَكُمْ جَوْزَتَيْنِ مِنْ شَوْكٍ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحَلَّاجَ كَلَامُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ تَحَوَّلَ مِنَ الْأَهْوَازِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَخْلَدٍ أَنْبَأَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُطَبِيُّ

فِي " تَارِيخِهِ " قَالَ: وَظَهَرَ أَمْرُ رَجُلٍ يُعْرَفُ بِالْحَلَّاجِ يُقَالُ لَهُ: الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَكَانَ فِي حَبْسِ السُّلْطَانِ بِسِعَايَةٍ وَقَعَتْ بِهِ، وَذَلِكَ فِي وِزَارَةِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْأُولَى وَذُكِرَ عَنْهُ ضُرُوبٌ مِنَ الزَّنْدَقَةِ وَوَضْعِ الْحِيَلِ عَلَى تَضْلِيلِ النَّاسِ مِنْ جِهَاتٍ تُشْبِهُ الشَّعْوَذَةَ وَالسِّحْرَ وَادِّعَاءَ النُّبُوَّةِ فَكَشَفَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى عِنْدَ قَبْضِهِ عَلَيْهِ وَانْتَهَى خَبَرُهُ إِلَى السُّلْطَانِ - يَعْنِي الْمُقْتَدِرَ بِاللَّهِ - فَلَمْ يُقِرَّ بِمَا رُمِيَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَعَاقَبَهُ وَصَلَبَهُ حَيًّا أَيَّامًا مُتَوَالِيَةً فِي رَحْبَةِ الْجِسْرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ غُدْوَةً وَيُنَادَى عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ عَنْهُ ثُمَّ يُنْزَلُ بِهِ ثُمَّ يُحْبَسُ فَأَقَامَ فِي الْحَبْسِ سِنِينَ كَثِيرَةً يُنْقَلُ مِنْ حَبْسٍ إِلَى حَبْسٍ حَتَّى حُبِسَ بِأَخَرَةٍ فِي دَارِ السُّلْطَانِ فَاسْتَغْوَى جَمَاعَةً مِنْ غِلْمَانِ السُّلْطَانِ وَمَوَّهَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَمَالَهُمْ بِضُرُوبٍ مِنْ حِيَلِهِ حَتَّى صَارُوا يَحْمُونَهُ وَيَدْفَعُونَ عَنْهُ وَيُرَفِّهُونَهُ، ثُمَّ رَاسَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْكُتَّابِ وَغَيْرِهِمْ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا فَاسْتَجَابُوا لَهُ وَتَراقَى بِهِ الْأَمْرُ حَتَّى ذُكِرَ أَنَّهُ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَسُعِيَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى السُّلْطَانِ فَقُبِضَ عَلَيْهِمْ وَوُجِدَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ كُتُبٌ تَدُلُّ عَلَى تَصْدِيقِ مَا ذُكِرَ عَنْهُ وَأَقَرَّ بَعْضُهُمْ بِلِسَانِهِ بِذَلِكَ وَانْتَشَرَ خَبَرُهُ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي قَتْلِهِ فَأَمَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَسْلِيمِهِ إِلَى حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَأَمَرَ أَنْ يَكْشِفَهُ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ وَيَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ فَجَرَى فِي ذَلِكَ خُطُوبٌ طِوَالٌ، ثُمَّ اسْتَيْقَنَ السُّلْطَانُ أَمْرَهُ وَوَقَفَ عَلَى مَا ذُكِرَ لَهُ عَنْهُ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَإِحْرَاقِهِ بِالنَّارِ، فَأُحْضِرَ مَجْلِسَ الشُّرْطَةِ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ فَضُرِبَ بِالسِّيَاطِ نَحْوًا مِنْ أَلْفِ سَوْطٍ وَقُطِعَتْ يَدَاهُ

وَرِجْلَاهُ وَضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَأُحْرِقَتْ جُثَّتُهُ بِالنَّارِ وَنُصِبَ رَأْسُهُ لِلنَّاسِ عَلَى سُورِ الْجِسْرِ الْجَدِيدِ وَعُلِّقَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ إِلَى جَانِبِ رَأْسِهِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ السُّلَمِيُّ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْوَاعِظَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّازِيُّ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُمْشَاذٍ: حَضَرَ عِنْدَنَا بِالدِّينَوَرِ رَجُلٌ وَمَعَهُ مِخْلَاةٌ، فَمَا كَانَ يُفَارِقُهَا بِاللَّيْلِ وَلَا بِالنَّهَارِ، فَفَتَّشُوا الْمِخْلَاةَ فَوَجَدُوا فِيهَا كِتَابًا لِلْحَلَّاجِ عُنْوَانُهُ: مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ. فَبُعِثَ بِهِ إِلَى بَغْدَادَ فَسُئِلَ الْحَلَّاجُ عَنْ ذَلِكَ فَأَقَرَّ أَنَّهُ كَتَبَهُ فَقَالُوا لَهُ كُنْتَ تَدَّعِي النُّبُوَّةَ فَصِرْتَ تَدَّعِي الْأُلُوهِيَّةَ وَالرُّبُوبِيَّةَ ؟! فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّ هَذَا عَيْنُ الْجَمْعِ عِنْدَنَا، هَلِ الْكَاتِبُ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَا وَالْيَدُ آلَةٌ ؟ فَقِيلَ لَهُ: مَعَكَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ، ابْنُ عَطَاءٍ وَأَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الشِّبْلِيُّ، فَسُئِلَ الْجَرِيرِيُّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَنْ يَقُولُ بِهَذَا كَافِرٌ. وَسُئِلَ الشِّبْلِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا يُمْنَعُ. وَسُئِلَ ابْنُ عَطَاءٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ بِقَوْلِ الْحَلَّاجِ فِي ذَلِكَ، فَعُوقِبَ حَتَّى كَانَ سَبَبَ هَلَاكِهِ.
ثُمَّ رَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ أنَّ الْوَزِيرَ حَامِدَ بْنَ الْعَبَّاسِ لَمَّا حَضَرَ الْحَلَّاجُ سَأَلَهُ عَنِ اعْتِقَادِهِ فَأَقَرَّ بِهِ فَكَتَبَهُ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فُقَهَاءَ بَغْدَادَ فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَقِيلَ لِلْوَزِيرِ: إِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ عَطَاءٍ يَقُولُ

بِهَذَا. فَطَلَبَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَجَاءَ فَجَلَسَ فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَنْ لَا يَقُولُ بِهَذَا فَهُوَ بِلَا اعْتِقَادٍ. فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: وَيْحَكَ تُصَوِّبُ مِثْلَ هَذَا الِاعْتِقَادِ ؟ فَقَالَ: مَا لَكَ وَلِهَذَا، عَلَيْكَ بِمَا نُصِّبْتَ لَهُ مَنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ وَقَتْلِهِمْ، فَمَا لَكَ وَلِكَلَامِ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ ؟ فَأَمَرَ الْوَزِيرُ بِضَرْبِ شِدْقَيْهِ وَنَزْعِ خُفَّيْهِ وَأَنْ يُضْرَبَ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ، فَمَا زَالَ يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ حَتَّى سَالَ الدَّمُ مِنْ مَنْخَرَيْهِ وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَيُّهَا الْوَزِيرُ إِنَّ الْعَامَّةَ تَتَشَوَّشُ بِهَذَا. فَحُمِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: اللَّهُمَّ اقْتُلْهُ أَخْبَثَ قِتْلَةٍ وَاقْطَعْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. ثُمَّ مَاتَ ابْنُ عَطَاءٍ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَقُتِلَ الْوَزِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ شَرَّ قِتْلَةٍ، وَقُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَأَحْرِقَتْ دَارُهُ. وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ بَغْدَادَ عَلَى كُفْرِ الْحَلَّاجِ وَزَنْدَقَتِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الظَّاهِرِيُّ: حِينَ أُحْضِرَ الْحَلَّاجُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى قَبْلَ وَفَاةِ أَبِي بَكْرٍ هَذَا وَسُئِلَ عَنْهُ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا وَمَا جَاءَ بِهِ حَقًّا فَمَا يَقُولُهُالْحَلَّاجُ بَاطِلٌ وَكَانَ شَدِيدًا عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ قَدْ رَأَيْتُ الْحَلَّاجَ وَخَاطَبْتُهُ فَرَأَيْتُهُ جَاهِلًا يَتَعَاقَلُ

وَغَبِيًّا يَتَبَالَغُ وَفَاجِرًا يَتَعَبَّدُ.
وَلَمَّا صُلِبَ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ وَنُودِيَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ سَمِعَهُ بَعْضُهُمْ وَقَدْ جِيءَ بِهِ لِيُصْلَبَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ يَقُولُ: مَا أَنَا بِالْحَلَّاجِ وَلَكِنْ أُلْقِيَ عَلَيَّ شَبَهُهُ وَغَابَ. فَلَمَّا أُدْنِيَ إِلَى الْخَشَبَةِ لِيُصْلَبَ عَلَيْهَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَا مُعِينُ الضَّنَا عَلَيَّ أَعِنِّي عَلَى الضَّنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمِعْتُهُ وَهُوَ مَصْلُوبٌ يَقُولُ: إِلَهِي أَصْبَحْتُ فِي دَارِ الرَّغَائِبِ أَنْظُرُ إِلَى الْعَجَائِبِ إِلَهِي إِنَّكَ تَتَوَدَّدُ إِلَى مَنْ يُؤْذِيكَ فَكَيْفَ بِمَنْ يُؤْذَى فِيكَ.
ذِكْرُ صِفَةِ مَقْتَلِ الْحَلَّاجِ
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ الْحَلَّاجُ قَدْ قَدِمَ آخِرَ قَدْمَةٍ إِلَى بَغْدَادَ فَصَحِبَ الصُّوفِيَّةَ وَانْتَسَبَ إِلَيْهِمْ وَكَانَ الْوَزِيرَ إِذْ ذَاكَ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ فَبَلَغَهُ أَنَّ الْحَلَّاجَ قَدْ أَضَلَّ خَلْقًا مِنَ الْحَشَمِ وَالْحُجَّابِ فِي دَارِ السُّلْطَانِ وَمِنْ غِلْمَانِ نَصْرٍ الْقُشُورِيِّ الْحَاجِبِ، وَجَعَلَ لَهُمْ فِي جُمْلَةِ مَا ادَّعَاهُ أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّ الْجِنَّ يَخْدِمُونَهُ

وَيُحْضِرُونَ لَهُ مَا يَخْتَارُهُ وَيَشْتَهِيهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ أَحْيَا عِدَّةً مِنَ الطَّيْرِ. وَذُكِرَ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقُنَّائِيُّ الْكَاتِبُ يَعْبُدُ الْحَلَّاجَ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، فَطَلَبَهُ وَكَبَسَ مَنْزِلَهُ فَأَقَرَّ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلَّاجِ وَوَجَدَ فِي مَنْزِلِهِ أَشْيَاءَ بِخَطِّ الْحَلَّاجِ مُكْتَتَبَةً بِمَاءِ الذَّهَبِ فِي وَرَقِ الْحَرِيرِ مُجَلَّدَةً بِأَفْخَرِ الْجُلُودِ، وَوَجَدَ عِنْدَهُ سَفَطًا فِيهِ مِنْ رَجِيعِ الْحَلَّاجِ وَبَوْلِهِ وَأَشْيَاءَ مِنْ آثَارِهِ وَبَقِيَّةِ خُبْزٍ مِنْ زَادِهِ، فَطَلَبَ الْوَزِيرُ مِنَ الْمُقْتَدِرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَمْرِ الْحَلَّاجِ فَفَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ فَاسْتَدْعَى بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلَّاجِ فَتَهَدَّدَهُمْ فَاعْتَرَفُوا لَهُ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِلَهٌ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَأَنَّهُمْ كَاشَفُوا الْحَلَّاجَ فَجَحَدَ ذَلِكَ وَكَذَّبَهُمْ، وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَدَّعِيَ الرُّبُوبِيَّةَ أَوِ النُّبُوَّةَ وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ أَعْبُدُ اللَّهَ وَأُكْثِرُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ وَفِعْلَ الْخَيْرِ، وَلَا أَعْرِفُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَجَعَلَ لَا يَزِيدُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَالتَّوْحِيدِ، وَيُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. وَكَانَتْ عَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ سَوْدَاءُ وَفِي رِجْلَيْهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَيْدًا وَهِيَ وَاصِلَةٌ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ.
وَكَانَ قَبْلَ احْتِيَاطِ الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَلَيْهِ فِي حُجْرَةٍ مِنْ دَارِ نَصْرٍ الْقُشُورَيِّ الْحَاجِبِ مَأْذُونًا لِمَنْ يَدْخُلُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ تَارَةً بِالْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَتَارَةً مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الْفَارِسِيَّ، وَكَانَ نَصْرٌ الْحَاجِبُ هَذَا قَدِ افْتُتِنَ بِهِ،

وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ وَكَانَ قَدْ أَدْخَلَهُ عَلَى الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ فَرَقَاهُ مِنْ وَجَعٍ حَصَلَ فَاتَّفَقَ زَوَالُهُ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ لِوَالِدَتِهِ السَّيِّدَةِ أُمِّ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ فَزَالَتْ عِلَّتُهَا فَنَفَقَ سُوقُهُ وَحَظِيَ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، فَلَمَّا انْتَشَرَ الْكَلَامُ فِيهِ سُلِّمَ إِلَى الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَحَبَسَهُ فِي قُيُودٍ كَثِيرَةٍ فِي رِجْلَيْهِ وَجَمَعَ لَهُ الْفُقَهَاءَ، فَأَجْمَعُوا عَلَى كُفْرِهِ وَزَنْدَقَتِهِ وَأَنَّهُ سَاحِرٌ مُمَخْرِقٌ، وَرَجَعَ عَنْهُ رَجُلَانِ صَالِحَانِ مِمَّنْ كَانَ اتَّبَعَهُ، أَحَدُهُمَا أَبُو عَلِيٍّ هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُورَاجِيُّ، وَالْآخَرُ يُقَالُ لَهُ الدَّبَّاسُ فَذَكَرَا مِنْ فَضَائِحِهِ وَمَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ النَّاسَ مِنَ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ وَالْمَخْرَقَةِ وَالسِّحْرِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ أُحْضِرَتْ زَوْجَةُ ابْنِهِ سُلَيْمَانَ فَذَكَرَتْ عَنْهُ فَضَائِحَ كَثِيرَةً، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَغْشَاهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ، فَانْتَبَهَتْ، فَقَالَ: قُومِي إِلَى الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَطَأَهَا وَأَمَرَتْهَا ابْنَتُهُ بِالسُّجُودِ لَهُ، فَقَالَتْ: أَوَيَسْجُدُ بِشَرٌ لِبَشَرٍ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ تَحْتِ بَارِيَةٍ هُنَالِكَ مَا أَحَبَّتْ، فَوَجَدَتْ تَحْتَهَا دَنَانِيرَ كَثِيرَةً مَبْدُورَةً.
وَلَمَّا كَانَ مُعْتَقَلًا فِي دَارِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْغِلْمَانِ وَمَعَهُ طَبَقُ فِيهِ طَعَامٌ لِيَأْكُلَ مِنْهُ، فَوَجَدَهُ قَدْ مَلَأَ الْبَيْتَ مِنْ سَقْفِهِ إِلَى أَرْضِهِ، فَذُعِرَ ذَلِكَ الْغُلَامُ، وَأَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ ذَلِكَ الطَّبَقِ وَالطَّعَامِ وَرَجَعَ مَحْمُومًا فَمَرِضَ عِدَّةَ أَيَّامٍ.
وَلَمَّا كَانَ آخِرُ مَجْلِسٍ أُحْضِرَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ وَجِيءَ بِالْحَلَّاجِ وَقَدْ أُحْضِرَ لَهُ كِتَابٌ مِنْ دُورِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِ: مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ

وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَلْيَبْنِ فِي دَارِهِ بَيْتًا لَا يَنَالُهُ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْ دُخُولِهِ فَإِذَا كَانَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلْيَطُفْ بِهِ كَمَا يُطَافُ بِالْكَعْبَةِ ثُمَّ يَفْعَلُ فِي دَارِهِ مَا يَفْعَلُهُ الْحَجِيجُ بِمَكَّةَ ثُمَّ يَسْتَدْعِي بِثَلَاثِينَ يَتِيمًا فَيُطْعِمُهُمْ مِنْ طَعَامِهِ وَيَتَوَلَّى خِدْمَتَهُمْ بِنَفْسِهِ ثُمَّ يَكْسُوهُمْ قَمِيصًا قَمِيصًا وَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ - أَوْ قَالَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ - فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ قَامَ لَهُ مَقَامَ الْحَجِّ، وَإِنَّ مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ عَلَى وَرَقَاتِ هِنْدَبَا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ.
وَمَنْ صَلَّى فِي لَيْلَةٍ رَكْعَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ جَاوَرَ بِمَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ يُصَلِّي وَيَدْعُو وَيَصُومُ ثُمَّ لَا يُفْطِرُ إِلَّا عَلَى شَيْءٍ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ الْجَرِيشِ أَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنِ الْعِبَادَةِ فِي بَقِيَّةِ عُمُرِهِ.
فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا ؟ فَقَالَ مِنْ كِتَابِ " الْإِخْلَاصِ " لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. فَقَالَ لَهُ: كَذَبْتَ يَا حَلَالَ الدَّمِ قَدْ سَمِعْنَا كِتَابَ " الْإِخْلَاصِ " لِلْحَسَنِ بِمَكَّةَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا. فَأَقْبَلَ الْوَزِيرُ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ عَلَى الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ قُلْتَ: يَا حَلَالَ الدَّمِ فَاكْتُبْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْوَرَقَةِ. وَأَلَحَّ عَلَيْهِ وَقَدَّمَ لَهُ الدَّوَاةَ فَكَتَبَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْوَرَقَةِ، وَكَتَبَ مَنْ حَضَرَ خُطُوطَهُمْ فِيهَا، وَأَنْفَذَهَا الْوَزِيرُ إِلَى الْمُقْتَدِرِ، وَجَعَلَ الْحَلَّاجُ يَقُولُ لَهُمْ: ظَهْرِي حِمًى وَدَمِي حَرَامٌ وَمَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَتَأَوَّلُوا عَلَيَّ وَاعْتِقَادِي الْإِسْلَامُ وَمَذْهَبِي السُّنَّةُ، وَتَفْضِيلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلَيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ وَسَعِيدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ

الْجَرَّاحِ وَلِي كُتُبٌ فِي السُّنَّةِ مَوْجُودَةٌ فِي الْوَرَّاقِينَ فَاللَّهَ اللَّهَ فِي دَمِي. فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ، وَجَعَلَ يُكَرِّرُ ذَلِكَ وَهُمْ يَكْتُبُونَ خُطُوطَهُمْ بِمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ وَرُدَّ الْحَلَّاجُ إِلَى مَحْبِسِهِ وَتَأَخَّرَ جَوَابُ الْمُقْتَدِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى سَاءَ ظَنُّ الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ أَمْرَ الْحَلَّاجِ قَدِ اشْتَهَرَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ اثْنَانِ وَقَدِ افْتَتَنَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِهِ. فَجَاءَ الْجَوَابُ بِأَنْ يُسَلَّمَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ فَلْيَضْرِبْهُ أَلْفَ سَوْطٍ فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا ضُرِبَتُ عُنُقُهُ. فَفَرِحَ الْوَزِيرُ بِذَلِكَ وَطَلَبَ صَاحِبَ الشُّرْطَةِ فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ وَبَعَثَ مَعَهُ طَائِفَةً مِنْ غِلْمَانِهِ يُوَصِّلُونَهُ مَعَهُ إِلَى مَحَلِّ الشُّرْطَةِ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُسْتَنْقَذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَذَلِكَ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ فِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَغْلٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ وَحَوْلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْوَانِ السِّيَاسَةِ عَلَى مِثْلِ شَكْلِهِ، فَاسْتَقَرَّ مَنْزِلُهُ بِدَارِ الشُّرْطَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَذُكِرَ أَنَّهُ بَاتَ يُصَلِّي فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَيَدْعُو دُعَاءً كَثِيرًا.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْحَدِيدِ - يَعْنِي - الْمِصْرِيَّ: لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي قُتِلَ فِي صَبِيحَتِهَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ فَلَمَّا كَانَ آخِرَ اللَّيْلِ قَامَ قَائِمًا فَتَغَطَّى بِكِسَائِهِ وَمَدَّ يَدَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ فَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ جَائِزِ الْحِفْظِ، فَكَانَ مِمَّا حَفِظْتُ أَنْ قَالَ: نَحْنُ شَوَاهِدُكَ فَلَوْ دَلَّتْنَا عِزَّتُكَ لَتَبَدَّى مَا شِئْتَ مِنْ شَأْنِكَ وَمَشِيئَتِكَ، وَأَنْتَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ، تَتَجَلَّى لِمَا تَشَاءُ مِثْلَ تَجَلِّيكَ فِي مَشِيئَتِكَ

كَأَحْسَنِ الصُّورَةِ، وَالصُّورَةُ فِيهَا الرُّوحُ النَّاطِقَةُ بِالْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْقُدْرَةِ، ثُمَّ أَوْعَزْتَ إِلَيَّ شَاهِدَكَ لِأَنِّي فِي ذَاتِكَ الْهُوِيُّ، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا مَثَلْتَ بِذَاتِي عِنْدَ عَقِيبِ كَرَاتِي، وَدَعَوْتَ إِلَى ذَاتِي بِذَاتِي، وَأَبْدَيْتَ حَقَائِقَ عُلُومِي وَمُعْجِزَاتِي، صَاعِدًا فِي مَعَارِجِي إِلَى عُرُوشِ أَزَلِيَّاتِي عِنْدَ الْقَوْلِ مِنْ بِرِيَّاتِي، إِنِّي احْتُضِرْتُ وَقُتِلْتُ وَصُلِبْتُ وَأُحْرِقْتُ وَاحْتُمِلْتُ سَافِيَاتِي الذَّارِيَاتِ، وَلَجَجْتُ فِي الْجَارِيَاتِ وَإِنَّ ذَرَّةً مِنْ يَنْجُوجٍ مَكَانَ هَالُوكِ مُتَجَلَّيَاتِي لَأَعْظَمُ مِنَ الرَّاسِيَاتِ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
أَنْعَى إِلَيْكَ نُفُوسًا طَاحَ شَاهِدُهَا فِيمَا وَرَا الْحَيْثِ أَوْ فِي شَاهِدِ الْقِدَمِ أَنْعَى إِلَيْكَ قُلُوبًا طَالَمَا هَطَلَتْ
سَحَائِبُ الْوَحْيِ فِيهَا أَبْحُرُ الْحِكَمِ أَنْعَى إِلَيْكَ لِسَانَ الْحَقِّ مِنْكَ وَمَنْ
أَوْدَى وَتَذْكَارُهُ فِي الْوَهْمِ كَالْعَدَمِ أَنْعَى إِلَيْكَ بَيَانًا تَسْتَكِينُ لَهُ
أَقْوَالُ كُلِّ فَصِيحٍ مِقْوَلٍ فَهِمِ أَنْعَى إِلَيْكَ إِشَارَاتِ الْعُقُولِ مَعًا
لَمْ يَبْقَ مِنْهُنَّ إِلَّا دَارِسُ الْعِلْمِ أَنْعَى وَحُبِّكَ أَخْلَاقًا لِطَائِفَةٍ
كَانَتْ مَطَايَاهُمْ مِنْ مَكْمَدِ الْكِظَمِ مَضَى الْجَمِيعُ فَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ
مُضِيَّ عَادٍ وَفِقْدَانَ الْأُلَى إِرَمِ وَخَلَّفُوا مَعْشَرًا يَحْذُونَ لِبْسَتَهُمْ
أَعْمَى مِنَ الْبُهْمِ بَلْ أَعْمَى مِنَ النَّعَمِ
قَالُوا: وَلَمَّا أُخْرِجَ الْحَلَّاجُ مِنَ الْمَنْزِلِ الَّذِي بَاتَ فِيهِ لِيُذْهَبَ بِهِ إِلَى الْقَتْلِ أَنْشَدَ:

طَلَبْتُ الْمُسْتَقَرَّ بِكُلِّ أَرْضٍ فَلَمْ أَرَ لِي بِأَرْضٍ مُسْتَقَرَّا
أَطَعْتُ مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي وَلَوْ أَنِّي قَنَعْتُ لَعِشْتُ حُرَّا
وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَهَا حِينَ قَدِمَ إِلَى الْجِذْعِ لِيُصْلَبَ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ مَشَى وَهُوَ يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ وَفِي رِجْلَيْهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَيْدًا، وَجَعَلَ يُنْشِدُ وَيَتَمَايَلُ:
نَدِيمِي غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَيْفِ
سَقَانِي مِثْلَ مَا يَشْرَ بُ فِعْلَ الضَّيْفِ بِالضَّيْفِ
فَلَمَّا دَارَتِ الْكَأْسُ دَعَا بِالنِّطْعِ وَالسَّيْفِ
كَذَا مَنْ يَشْرَبُ الرَّاحَ مَعَ التِّنِّينِ فِي الصَّيْفِ
ثُمَّ قَالَ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [ الشُّورَى: 18 ] ثُمَّ لَمْ يَنْطِقْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى فُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ، قَالُوا: ثُمَّ قُدِّمَ فَضُرِبَ أَلْفَ سَوْطٍ ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سَاكِتٌ مَا نَطَقَ بِكَلِمَةٍ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ جَعَلَ يَقُولُ مَعَ كُلِّ سَوْطٍ أَحَدٌ أَحَدٌ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عِيسَى الْقَصَّارَ يَقُولُ: آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا الْحَلَّاجُ حِينَ قُتِلَ أَنْ قَالَ: حَسْبُ الْوَاحِدِ إِفْرَادُ الْوَاحِدِ لَهُ. فَمَا سَمِعَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَحَدٌ مِنَ الْمَشَايِخِ إِلَّا رَقَّ لَهُ وَاسْتَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْهُ.
وَقَالَ السُّلَمِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْبَجَلِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْفَاتِكِ الْبَغْدَادِيَّ وَكَانَ صَاحِبَ الْحَلَّاجِ قَالَ: رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ بَعْدَ ثَلَاثٍ مِنْ قَتْلِ الْحَلَّاجِ كَأَنِّي وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَا أَقُولُ: يَا رَبِّ مَا فَعَلَ الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ ؟ فَقَالَ: كَاشَفْتُهُ بِمَعْنًى فَدَعَا الْخَلْقَ إِلَى نَفْسِهِ، فَأَنْزَلْتُ بِهِ مَا رَأَيْتَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ جَزِعَ عِنْدَ ذَلِكَ جَزَعًا شَدِيدًا وَبَكَى بُكَاءً كَثِيرًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ الصَّيْرَفِيُّ قَالَ: قَالَ لَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ حَيَّوَيْهِ: لَمَّا أُخْرِجَ الْحُسَيْنُ الْحَلَّاجُ لِيُقْتَلَ مَضَيْتُ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ وَلَمْ أَزَلْ أُزَاحِمُ حَتَّى رَأَيْتُهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا يَهُولَنَّكُمْ هَذَا الْأَمْرُ فَإِنِّي عَائِدٌ إِلَيْكُمْ بَعْدَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ قُتِلَ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يُضْرَبُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ وَالِي الشُّرْطَةِ: ادْعُ بِي إِلَيْكَ فَإِنَّ عِنْدِي نَصِيحَةً تَعْدِلُ فَتْحَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. فَقَالَ لَهُ: قَدْ قِيلَ لِي

إِنَّكَ سَتَقُولُ مِثْلَ هَذَا وَلَيْسَ إِلَى رَفْعِ الضَّرْبِ عَنْكَ سَبِيلٌ، ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، وَحُزَّ رَأْسُهُ، وَأُحْرِقَتْ جُثَّتُهُ، وَأُلْقِيَ بِرَمَادِهَا فِي دِجْلَةَ وَنُصِبَ الرَّأْسُ يَوْمَيْنِ بِبَغْدَادَ عَلَى الْجِسْرِ ثُمَّ حُمِلَ إِلَى خُرَاسَانَ وَطِيفَ بِهِ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، وَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَعِدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِرُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رَأَى الْحَلَّاجَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ فِي طَرِيقِ النَّهْرَوَانِ فَقَالَ: لَعَلَّكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْبَقَرِ الَّذِينَ ظَنُّوا أَنِّي أَنَا هُوَ الْمَضْرُوبُ الْمَقْتُولُ إِنِّي لَسْتُ بِهِ وَإِنَّمَا أُلْقِيَ شَبَهِي عَلَى رَجُلٍ فَفُعِلَ بِهِ مَا رَأَيْتُمْ. وَكَانُوا بِجَهْلِهِمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا قُتِلَ عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ الْحَلَّاجِ وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ: إِنْ كَانَ هَذَا الرَّأْيُ صَادِقًا فَلَعَلَّ دَابَّةً - يَعْنِي مِنَ الشَّيَاطِينِ - تَبَدَّى عَلَى صُورَتِهِ لِيُضِلَّ بِهِ النَّاسَ كَمَا ضَلَّتْ فِرْقَةُ النَّصَارَى بِالْمَصْلُوبِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَاتَّفَقَ أَنَّ دِجْلَةَ زَادَتْ فِي هَذَا الْعَامِ زِيَادَةً كَثِيرَةً، فَقَالُوا: إِنَّمَا زَادَتْ لِأَنَّ رَمَادَ الْحَلَّاجِ خَالَطَهَا، وَنُودِيَ بِبَغْدَادَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ أَحَدٌ مِنْ كُتُبِ الْحَلَّاجِ شَيْئًا وَلَا يَبِيعُهُ. وَكَانَ قَتْلُ الْحَلَّاجِ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ بِبَغْدَادَ، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " وَحَكَى اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ، وَنَقَلَ عَنِ الْغَزَالِيِّ فِي " مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ " أَنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ كَلَامَهُ وَيَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ

كَانَ يَذُمُّهُ وَيَقُولُ إِنَّهُ اتَّفَقَ هُوَ وَالْجَنَّابِيُّ وَابْنُ الْمُقَفَّعِ عَلَى إِفْسَادِ عَقَائِدِ النَّاسِ وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، فَكَانَ الْجَنَّابِيُّ فِي هَجَرَ وَالْبَحْرَيْنِ وَابْنُ الْمُقَفَّعِ بِبِلَادِ التُّرْكِ وَدَخَلَ الْحَلَّاجُ الْعِرَاقَ فَحَكَمَ صَاحِبَاهُ عَلَيْهِ بِالْهَلَكَةِ لِعَدَمِ انْخِدَاعِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِالْبَاطِلِ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ وَهَذَا لَا يَنْتَظِمُ فَإِنَّ ابْنَ الْمُقَفَّعِ كَانَ قَبْلَ الْحَلَّاجِ بِدَهْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي أَيَّامِ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ أَوْ قَبْلَهَا وَلَعَلَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ أَرَادَ ابْنَ الْمُقَفَّعِ الْخُرَاسَانِيَّ الَّذِي ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَأَدْنَى الْقَمَرَ وَاسْمُهُ عَطَاءٌ، وَقَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِالسُّمِّ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْحَلَّاجِ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُصَحِّحَ كَلَامَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَنَذْكُرَ ثَلَاثَةً قَدِ اجْتَمَعُوا فِي وَقْتٍ عَلَى مَا ذَكَرَ، فَيَكُونُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْحَلَّاجَ، وَابْنَ الشَّلْمَغَانِيِّ - يَعْنِي أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ - وَالْقِرْمِطِيَّ الْجَنَّابِيَّ، وَهُوَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْحَسَنِ بْنِ بَهْرَامَ، الَّذِي قَتَلَ الْحُجَّاجَ وَأَخَذَ الْحَجَرَ، وَرَدَمَ زَمْزَمَ بِالْقَتْلَى وَنَهَبَ أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ، كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ مَبْسُوطًا، ذَكَرَهُ الْقَاضِي مُلَخَّصًا هَاهُنَا.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَطَاءٍ أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ.
وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءٍ الْأَدَمِيُّ حَدَّثَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى الْقَطَّانِ وَالْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ وَغَيْرِهِمَا. وَكَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَتْمَةً، وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَلَاثَ خَتَمَاتٍ، وَكَانَ لَهُ خَتْمَةٌ يَتَدَبَّرُ فِيهَا مَعَانِيَ الْقُرْآنِ، يَتْلُوهَا مِنْ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَمَاتَ وَلَمْ يَخْتِمْهَا، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ قَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَلَّاجِ وَأَظْهَرَ مُوَافَقَتَهُ، فَعَاقَبَهُ الْوَزِيرُ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بِالضَّرْبِ عَلَى شِدْقَيْهِ وَأَمَرَ بِنَزْعِ خُفَّيْهِ وَضَرْبِهِ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى سَالَ الدَّمُ مِنْ مَنْخِرَيْهِ، وَمَاتَ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ دَعَا عَلَى الْوَزِيرِ أَنْ تُقْطَعَ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَيُقْتَلَ شَرَّ قِتْلَةٍ، فَمَا مَاتَ الْوَزِيرُ إِلَّا كَذَلِكَ.
وَأَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَارُونَ الطَّبِيبُ الْحَرَّانِيُّ. وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدُونَ النَّدِيمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا أُطْلِقَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ مِنَ الضِّيقِ وَكَانَ مُعْتَقَلًا وَرُدَّتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ وَأُعِيدَ إِلَى عَمَلِهِ وَأُضِيفَ إِلَيْهِ بُلْدَانٌ أُخْرَى وَوُظِّفَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ يَحْمِلُهَا إِلَى الْحَضْرَةِ فَبَعَثَ حِينَئِذٍ إِلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْأَدَمِيِّ الْقَارِئَ وَكَانَ قَدْ قَرَأَ بَيْنَ يَدَيْهِ حِينَ اعْتُقِلَ وَأُشْهِرَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هُودٍ: 102 ] فَخَافَ الْقَارِئُ سَطْوَتَهُ وَاسْتَعْفَى مِنْ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ فَقَالَ لَهُ مُؤْنِسٌ: اذْهَبْ وَأَنَا شَرِيكُكَ فِي الْجَائِزَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَرَأَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي [ يُوسُفَ: 54 ] فَقَالَ: بَلْ أُحِبُّ أَنْ تَقْرَأَ ذَلِكَ الْعُشْرَ الَّذِي قَرَأَتْهُ عِنْدَ إِشْهَارِي وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبَ تَوْبَتِي إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا مَرِضَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْوَزِيرُ فَجَاءَهُ هَارُونُ ابْنُ الْمُقْتَدِرِ لِيَعُودَهُ، فَبَسَطَ لَهُ الطَّرِيقَ فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ دَارِهِ تَحَامَلَ وَخَرَجَ إِلَيْهِ فَبَلَّغَهُ سَلَامَ الْخَلِيفَةِ، وَجَاءَ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ مَعَهُ ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ قَدْ عَزَمَ عَلَى عِيَادَتِهِ فَاسْتَعْفَى مِنْ

مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، وَرَكِبَ عَلَى جُهْدٍ عَظِيمٍ حَتَّى سَلَّمَ عَلَى الْخَلِيفَةِ حَتَّى لَا يُكَلِّفَهُ الرُّكُوبَ إِلَيْهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُبِضَ عَلَى الْقَهْرَمَانَةِ أُمِّ مُوسَى وَمَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهَا، فَكَانَ حَاصِلُ مَا حُمِلَ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مِنْ جِهَتِهَا أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَلَّى الْمُقْتَدِرُ مَنْصِبَ الْقَضَاءِ أَبَا الْحُسَيْنِ عُمَرَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّيْبَانِيَّ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْأُشْنَانِيِّ وَكَانَ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَفُقَهَاءِ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ عُزِلَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْتَسِبًا بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا عُزِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ عنْ شُرْطَةِ بَغْدَادَ وَوَلِيَهَا نَازُوكُ وَخُلِعَ عَلَيْهِ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ ظَهَرَ كَوْكَبٌ لَهُ ذَنَبٌ طُولُهُ ذِرَاعَانِ، وَذَلِكَ فِي بُرْجِ السُّنْبُلَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا وَصَلَتْ هَدَايَا نَائِبِ مِصْرَ وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْمَاذَرَائِيِّ، وَفِيهَا بَغْلَةٌ مَعَهَا فُلُوُّهَا وَغُلَامٌ يَصِلُ لِسَانُهُ إِلَى طَرَفِ أَنْفِهِ، وَفِي هَذِا الشَّهْرِ قُرِئَتِ الْكُتُبُ عَلَى الْمَنَابِرِ بِمَا كَانَ مِنَ الْفُتُوحِ بِبِلَادِ الرُّومِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ انْشَقَّ بِأَرْضِ وَاسِطَ فُلُوعٌ مِنَ الْأَرْضِ سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا أَكْبَرُهَا طُولُهُ أَلْفُ ذِرَاعٍ وَأَقَلُّهَا مِائَتَا ذِرَاعٍ وَأَنَّهُ غَرِقَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْقُرَى أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةِ قَرْيَةٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

أَبُو بِشْرٍ الدُّولَابِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ سَعِيدٍ أَبُو بِشْرٍ الدُّولَابِيُّ مَوْلَى الْأَنْصَارِ، وَيُعْرَفُ بِالْوَرَّاقِ، أَحَدُ أَئِمَّةِ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ، وَلَهُ

تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ فِي التَّارِيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ.
قَالَ ابْنُ يُونُسَ: وَكَانَ يُضَعَّفُ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ قَاصِدٌ إِلَى الْحَجِّ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ بِالْعَرْجِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ غَالِبٍ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ أَسْمَرَ أَعْيَنَ مَلِيحَ الْجِسْمِ مَدِيدَ الْقَامَةِ فَصِيحَ اللِّسَانِ، رَوَى الْكَثِيرَ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ وَرَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَلَهُ " التَّارِيخُ " الْحَافِلُ، وَ " التَّفْسِيرُ " الْكَامِلُ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ النَّافِعَةِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَمِنْ ذَلِكَ " تَهْذِيبُ الْآثَارِ " لَكِنْ لَمْ يُتِمَّهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَكْتُبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَرْبَعِينَ وَرَقَةً.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: اسْتَوْطَنَ ابْنُ جَرِيرٍ بَغْدَادَ وَأَقَامَ بِهَا إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ وَكَانَ أَحَدَ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، يُحْكَمُ بِقَوْلِهِ وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ لِمَعْرِفَتِهِ وَفَضْلِهِ وَكَانَ قَدْ جَمَعَ مِنَ الْعُلُومِ مَا لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ وَكَانَ حَافِظًا لِكِتَابِ اللَّهِ عَارِفًا بِالْقِرَاءَاتِ، بَصِيرًا بِالْمَعَانِي، فَقِيهًا فِي الْأَحْكَامِ عَالِمًا بِالسُّنَنِ وَطُرُقِهَا وَصَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا وَنَاسِخِهَا وَمَنْسُوخِهَا عَارِفًا بِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ

وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، عَارِفًا بِأَيَّامِ النَّاسِ وَأَخْبَارِهِمْ، وَلَهُ الْكِتَابُ الْمَشْهُورُ فِي تَارِيخِ الْأُمَمِ وَالْمُلُوكِ، وَكِتَابٌ فِي التَّفْسِيرِ لَمْ يُصَنِّفْ أَحَدٌ مِثْلَهُ وَكِتَابٌ سَمَّاهُ " تَهْذِيبَ الْآثَارِ " لَمْ أَرَ سِوَاهُ فِي مَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّهُ، وَلَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ وَاخْتِيَارَاتٌ، وَتَفَرَّدَ بِمَسَائِلَ حُفِظَتْ عَنْهُ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَبَلَغَنِي عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي طَاهِرٍ الْفَقِيهِ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ سَافَرَ رَجُلٌ إِلَى الصِّينِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ كِتَابُ تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ. وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ إِمَامِ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ طَالَعَ " التَّفْسِيرَ " لِابْنِ جَرِيرٍ فِي سِنِينَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ ثُمَّ قَالَ: مَا أَعْلَمُ عَلَى أَدِيمِ الْأَرْضِ أَعْلَمَ مِنِ ابْنِ جَرِيرٍ وَلَقَدْ ظَلَمَتْهُ الْحَنَابِلَةُ. وَقَالَ لِرَجُلٍ رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ عَنِ الْمَشَايِخِ، وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ سَمَاعٌ مِنِ ابْنِ جَرِيرٍ لِأَنَّ الْحَنَابِلَةَ كَانُوا يَمْنَعُونَ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ أَحَدٌ فَقَالَ: لَوْ كَتَبْتَ عَنْهُ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ مِنْ كُلِّ مَنْ كَتَبْتَ عَنْهُ.
قُلْتُ: وَكَانَ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْقِيَامِ فِي الْحَقِّ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَحُسْنِ الْقِرَاءَةِ عَلَى أَحْسَنِ الصِّفَاتِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ أَحَدُ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا بِمِصْرَ فِي أَيَّامِ الْأَمِيرِ طُولُونَ، وَهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، ومُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ هَذَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ

الْمَرْوَزِيِّ وَكَانَ الَّذِي قَامَ يُصَلِّي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَقِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، فَرَزَقَهُمُ اللَّهُ بِبَرَكَةِ صَلَاتِهِ. وَقَدْ أَرَادَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابَ وَقْفٍ تَكُونُ شُرُوطُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَقِيلَ لَهُ: لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِحْضَارِ ذَلِكَ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ. وَطَلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ فَكَتَبَهَا، فَاسْتَدْعَاهُ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: سَلْ حَاجَتَكَ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي، فَقَالَ: لَا بُدَّ أَنْ تَسْأَلَنِي شَيْئًا، فَقَالَ: أَسْأَلُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَمْرُهُ إِلَى الشُّرْطَةِ حَتَّى يَمْنَعُوا السُّؤَّالَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْ يَدْخُلُوا إِلَى مَقْصُورَةِ الْجَامِعِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِذَلِكَ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ مَنْ مَغَلِّ قَرْيَةٍ تَرَكَهَا لَهُ أَبُوهُ بِطَبَرِسْتَانَ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
إِذَا أَعْسَرْتُ لَمْ يَعْلَمْ رَفِيقِي وَأَسْتَغْنِي فَيَسْتَغِنِي صَدِيقِي حَيَائِي حَافِظٌ لِي مَاءَ وَجْهِي
وَرِفْقِي فِي مُطَالَبَتِي رَفِيقِي وَلَوْ أَنِّي سَمَحْتُ بِبَذْلِ وَجْهِي
لَكُنْتُ إِلَى الْغِنَى سَهْل َ الطَّرِيقِ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
خُلُقَانِ لَا أَرْضَى طَرِيقَهُمَا بَطَرُ الْغِنَى وَمَذَلَّةُ الْفَقْرِ
فَإِذَا غَنِيتَ فَلَا تَكُنْ بَطِرًا وَإِذَا افْتَقَرْتَ فَتِهْ عَلَى الدَّهْرِ
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ وَقْتَ الْمَغْرِبِ مِنْ عَشِيَّةِ يَوْمِ الْأَحَدِ لِيَوْمَيْنِ بَقِيَا مِنْ شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ بِخَمْسٍ أَوْ سِتِّ سِنِينَ وَفِي

شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ سَوَادٌ كَثِيرٌ، وَدُفِنَ فِي دَارِهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الرَّعَاعِ مِنْ عَوَامِّ الْحَنَابِلَةِ مَنَعُوا مِنْ دَفَنِهِ نَهَارًا وَنَسَبُوهُ إِلَى الرَّفْضِ، وَمِنَ الْجَهَلَةِ مَنْ رَمَاهُ بِالْإِلْحَادِ، وَحَاشَاهُ مِنْ هَذَا وَمِنْ ذَاكَ أَيْضًا. بَلْ كَانَ أَحَدَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الْعِلْمِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَإِنَّمَا تَقَلَّدُوا ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ حَيْثُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيهِ وَيَرْمِيهِ بِالْعَظَائِمِ وَيَرْمِيهِ بِالرَّفْضِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ اجْتَمَعَ النَّاسُ مِنْ سَائِرِ الْبَلَدِ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ بِدَارِهِ وَدُفِنَ بِهَا، وَمَكَثَ النَّاسُ يَتَرَدَّدُونَ إِلَى قَبْرِهِ شُهُورًا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، رُحِمَهُ اللَّهُ.
قُلْتُ: وَقَدْ رَأَيْتُ لَهُ كِتَابًا جَمَعَ فِيهِ أَحَادِيثَ غَدِيرِ خُمٍّ فِي مُجَلَّدَيْنِ ضَخْمَيْنِ، وَكِتَابًا جَمَعَ فِيهِ طُرُقَ حَدِيثِ الطَّيْرِ، وَنُسِبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَقُولُ بِجَوَازِ مَسْحِ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوُضُوءِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْغَسْلَ، وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنْهُ هَذَا، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ اثْنَانِ، أَحَدُهُمَا شِيعِيٌّ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ ذَلِكَ، وَيُنَزِّهُونَ أَبَا جَعْفَرٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَالَّذِي عُوِّلَ عَلَيْهِ كَلَامُهُ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ يُوجِبُ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ وَيُوجِبُ مَعَ الْغَسْلِ دَلْكَهُمَا، وَلَكِنَّهُ عَبَّرَ عَنِ الدَّلْكِ بِالْمَسْحِ فَلَمْ يَفْهَمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مُرَادَهُ جَيِّدًا، فَنَقَلُوا عَنْهُ أَنَّهُ يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَثَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ حَيْثُ يَقُولُ:
حَدَثٌ مُفْظِعٌ وَخَطْبٌ جَلِيلٌ دَقَّ عَنِ مِثْلِهِ اصْطِبَارُ الصَّبُورِ
قَامَ نَاعِي الْعُلُومِ أَجْمَعِ لَمَّا قَامَ نَاعِي مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرِ
فَهَوَتْ أَنْجُمٌ لَهَا زَاهِرَاتٌ مُؤْذِنَاتٌ رُسُومُهَا بِالدُّثُورِ
وَتَغَشَّى ضَيَاءَهَا النَّيِّرَ الْإِشْ رَاقِ ثَوْبُ الدُّجُنَّةِ الدَّيْجُورِ

وَغَدَا رَوْضُهَا الْأَنِيقُ هَشِيمًا ثُمَّ عَادَتْ سُهُولُهَا كَالْوُعُورِ
يَا أَبَا جَعْفَرٍ مَضَيْتَ حَمِيدًا غَيْرَ وَانٍ فِي الْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ
بَيْنَ أَجْرٍ عَلَى اجْتِهَادِكَ مَوْفُو رٍ وَسَعْيٍ إِلَى التُّقَى مَشْكُورِ
مُسْتَحِقًّا بِهِ الْخُلُودَ لَدَى جَنَّ ةِ عَدْنٍ فِي غِبْطَةٍ وَسُرُورِ
وَلِأَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ مَرْثَاةٌ طَوِيلَةٌ طَنَّانَةٌ، أَوْرَدَهَا الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ بِتَمَامِهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ أَمِيرُ الْقَرَامِطَةِ فِي أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةِ فَارِسٍ إِلَى الْبَصْرَةِ لَيْلًا، نَصَبَ السَّلَالِمَ الشَّعْرَ فِي سُورِهَا، فَدَخَلَهَا قَوْمُهُ وَفَتَحُوا أَبْوَابَهَا، وَقَتَلُوا مَنْ لَقُوهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَهَرَبَ أَكْثَرُ النَّاسِ، فَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ، فَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَمَكَثَ بِهَا سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ مَنْ شَاءَ مِنْ نِسَائِهَا وَذَرَارِيِّهَا، وَيَغْنَمُ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ هَجَرَ وَذَلِكَ لَمَّا بَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ جُنْدًا مِنْ قِبَلِهِ فَرَّ وَتَرَكَ الْبَلَدَ يَبَابًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْمُقْتَدِرُ عَنِ الْوِزَارَةِ حَامِدَ بْنَ الْعَبَّاسِ وَعَلِيَّ بْنَ عِيسَى، وَرَدَّ إِلَى الْوِزَارَةِ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ الْفُرَاتِ الْوِلَايَةَ الثَّالِثَةَ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ حَامِدَ بْنَ الْعَبَّاسِ، وَعَلِيَّ بْنَ عِيسَى، فَأَمَّا حَامِدٌ فَإِنَّ الْمُحَسِّنَ بْنَ الْوَزِيرِ ضَمِنَهُ مِنَ الْمُقْتَدِرِ بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَتَسَلَّمَهُ فَعَاقَبَهُ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَأَخَذَ مِنْهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً لَا تُحْصَى

كَثْرَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهِ مَعَ مُوَكَّلِينَ عَلَيْهِ إِلَى وَاسِطٍ لِيَحْتَاطُوا عَلَى أَمْوَالِهِ هُنَاكَ وَحَوَاصِلِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْقُوهُ سُمًّا فِي الطَّرِيقِ، فَسَقَوْهُ ذَلِكَ فِي بَيْضٍ مَشْوِيٍّ، كَانَ قَدْ طَلَبَهُ مِنْهُمْ، فَمَاتَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى فَإِنَّهُ صُودِرَ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَصُودِرَ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنْ كُتَّابِهِ، فَكَانَ جُمْلَةُ مَا أُخِذَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَعَ مَا كَانَ صُودِرَتْ بِهِ الْقَهْرَمَانَةُ مِنَ الذَّهَبِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، آلَافَ أَلْفٍ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَأَشَارَ الْوَزِيرُ ابْنُ الْفُرَاتِ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَنْ يُبْعِدَ عَنْهُ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ وَيَأْمُرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى الشَّامِ - وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَقَدْ فَتَحَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ بُلْدَانِهِمْ، وَغَنِمَ مَغَانِمَ كَثِيرَةً جِدًّا - فَسَأَلَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى سَلْخِ رَمَضَانَ، وَكَانَ قَدْ أَعْلَمَ الْخَلِيفَةَ بِمَا كَانَ يَعْتَمِدُهُ ابْنُ الْوَزِيرِ مِنْ تَعْذِيبِ النَّاسِ وَمُصَادَرَتِهِمُ الْأَمْوَالَ، فَأَجَابَ الْخَلِيفَةُ الْوَزِيرَ إِلَى إِبْعَادِ مُؤْنِسٍ فَأَخْرَجَهُ إِلَى الشَّامِ.
وَفِيهَا كَثُرَ الْجَرَادُ، وَأَفْسَدَ كَثِيرًا مِنَ الْغَلَّاتِ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا أُمِرَ بِرَدِّ بَقِيَّةِ الْمَوَارِيثِ إِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَفِيهَا فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ أُحْرِقَ عَلَى بَابِ الْعَامَّةِ صُورَةُ مَانِي وَأَرْبَعَةُ أَعْدَالٍ مِنْ كُتُبِ الزَّنَادِقَةِ، فَسَقَطَ مِنْهَا ذَهَبٌ كَثِيرٌ كَانَتْ مُحَلَّاةً بِهِ.

وَفِيهَا اتَّخَذَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْفُرَاتِ الْوَزِيرُ مَارَسْتَانًا فِي دَرْبِ الْفَضْلِ، يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِائَتَيْ دِينَارٍ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

الْخَلَّالُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ، أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ
صَاحِبُ كِتَابِ " الْجَامِعِ لِعُلُومِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " وَلَمْ يُصَنَّفْ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَثْلُ هَذَا الْكِتَابِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَسَعْدَانَ بْنِ نَصْرٍ وَغَيْرِهِمَا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِيَوْمَيْنِ مَضَيَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ
أَحَدُ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ، صَحِبَ سَرِيًّا السَّقَطِيَّ، وَكَانَ الْجُنَيْدُ يُكْرِمُهُ وَيَحْتَرِمُهُ، وَلَمَّا حَضَرَتِ الْجُنَيْدَ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَنْ يُجَالَسَ الْجَرِيرِيُّ، وَقَدِ اشْتَبَهَ عَلَى الْجَرِيرِيِّ هَذَا شَأْنُ الْحَلَّاجِ، فَكَانَ مِمَّنْ أَجْمَلَ الْقَوْلَ فِيهِ، عَلَى أَنَّ الْجَرِيرِيَّ هَذَا مَذْكُورٌ بِالصَّلَاحِ وَالدِّيَانَةِ وَحُسْنِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
الزَّجَّاجُ صَاحِبُ " مَعَانِي الْقُرْآنِ " إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ بْنِ سَهْلٍ، أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ
كَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْحَسَنَةُ،

مِنْهَا كِتَابُ " مَعَانِي الْقُرْآنِ " وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْعَدِيدَةِ الْمُفِيدَةِ، وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ يَخْرُطُ الزُّجَاجَ، فَأَحَبَّ عِلْمَ النَّحْوِ، فَذَهَبَ إِلَى الْمُبَرِّدِ، فَكَانَ يُعْطِي الْمُبَرِّدَ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا، ثُمَّ اسْتَغْنَى الزَّجَّاجُ وَكَثُرَ مَالُهُ، وَلَمْ يَقْطَعْ عَنِ الْمُبَرِّدِ ذَلِكَ الدِّرْهَمَ حَتَّى مَاتَ الْمُبَرِّدُ وَقَدْ كَانَ الزَّجَّاجُ مُؤَدِّبًا لِلْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا وَلِيَ الْوِزَارَةَ كَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ بِالرِّقَاعِ لِيُقَدِّمَهَا إِلَى الْوَزِيرِ، فَحَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا يَزِيدُ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَعَنْهُ أَخَذَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ النَّحْوِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِيُّ، نُسِبَ إِلَيْهِ ; لِأَخْذِهِ عَنْهُ، وَهُوَ صَاحِبُ كِتَابِ " الْجُمَلِ " فِي النَّحْوِ.
بَدْرٌ مَوْلَى الْمُعْتَضِدِ
وَهُوَ بَدْرٌ الْحَمَامِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ: بَدْرٌ الْكَبِيرُ. كَانَ فِي آخِرِ وَقْتٍ عَلَى نِيَابَةِ فَارِسَ وَوَلِيَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ.
حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ
اسْتَوْزَرَهُ الْمُقْتَدِرُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ وَالْغِلْمَانِ، كَثِيرَ النَّفَقَاتِ، كَرِيمًا سَخِيًّا، كَثِيرَ الْمُرُوءَةِ، وَلَهُ حِكَايَاتٌ تَدُلُّ عَلَى بَذْلِهِ وَإِعْطَائِهِ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ، وَمَعَ هَذَا كَانَ يَجْمَعُ شَيْئًا كَثِيرًا، وُجِدَ لَهُ فِي مَطْمُورَةٍ أُلُوفٌ مِنَ الذَّهَبِ، كَانَ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِذَا دَخَلَ إِلَيْهَا أَلْقَى فِيهَا أَلْفَ

دِينَارٍ، فَلَمَّا امْتَلَأَتْ، طَمَّهَا، فَلَمَّا صُودِرَ، دَلَّ عَلَيْهَا، فَاسْتُخْرِجَ مِنْهَا مَالٌ جَزِيلٌ جِدًّا، وَمَنْ أَكْبَرِ مَنَاقِبِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْبَرِ السُّعَاةِ فِي الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجِ حَتَّى قُتِلَ، كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاةُ الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَسْمُومًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُجَيْرٍ الْبُجَيْرِيُّ صَاحِبُ " الصَّحِيحِ ".
ابْنُ خُزَيْمَةَ، مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ صَالِحِ بْنِ بَكْرٍ السُّلَمِيُّ، مَوْلَى مُجَشِّرِ بْنِ مُزَاحِمٍ، الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ، الْمُلَقَّبُ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ، كَانَ مِنْ أَوْعِيَةِ الْعِلْمِ وَبُحُورِهِ، وَمِمَّنْ طَافَ الْبُلْدَانَ، وَرَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَسَمَاعِ الْحَدِيثِ، وَكَتَبَ الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ وَجَمَعَ، وَلَهُ كِتَابُ " الصَّحِيحِ " مِنْ أَنْفَعِ الْكُتُبِ وَأَجَلِّهَا، وَهُوَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: مَا قَلَّدْتُ أَحَدًا مُنْذُ بَلَغْتُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ مُطَوَّلَةً فِي كِتَابِنَا " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَهُوَ الَّذِي قَامَ يُصَلِّي حِينَ وَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِ لِيَسْتَرْزِقَ اللَّهَ فِي صَلَاتِهِ حِينَ أَرْمَلَ هُوَ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وَمُحَمَّدُ

بْنُ جَرِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ، وَقَدْ أَوْرَدَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ طَرِيقَيْنِ فِي تَرْجَمَتِهِ، وَذَلِكَ بِبَلَدِ مِصْرَ فِي دَوْلَةِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، فَرَزَقَهُمُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا نَحْوَ ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الطَّبِيبُ
صَاحِبُ الْمُصَنَّفِ الْكَبِيرِ فِي الطِّبِّ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا اعْتَرَضَ الْقِرْمِطِيُّ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ - لَعَنَهُ اللَّهُ، وَلَعَنَ مَعَهُ أَبَاهُ - لِلْحَجِيجِ وَهُمْ رَاجِعُونَ مِنْ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ قَدْ أَدَّوْا فَرْضَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَطَعَ عَلَيْهِمُ الطَّرِيقَ، فَقَاتَلُوهُ دَفْعًا عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَأَسَرَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ مَا اخْتَارَهُ، وَاصْطَفَى مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا أَرَادَ، فَكَانَ مَبْلَغُ مَا أَخَذَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا يُقَاوِمُ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْمَتَاجِرِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَتَرَكَ بَقِيَّةَ النَّاسِ - بَعْدَمَا أَخَذَ جِمَالَهُمْ وَزَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ عَلَى بُعْدِ الدِّيَارِ فِي الْبَرِّيَّةِ - بِلَا زَادٍ وَلَا مَاءٍ وَلَا مَحْمَلٍ. وَقَدْ حَاجَفَ عَنِ النَّاسِ نَائِبُ الْكُوفَةِ أَبُو الْهَيْجَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ، فَقَهَرَهُ وَأَسَرَهُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ مَعَ الْقِرْمِطِيِّ ثَمَانِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، قَصَمَهُ اللَّهُ.
وَلَمَّا انْتَهَى خَبَرُهُمْ إِلَى بَغْدَادَ قَامَ نِسَاؤُهُمْ وَأَهَالِيهِمْ فِي النِّيَاحَةِ، وَنَشَرْنَ شُعُورَهُنَّ وَلَطَمْنَ وُجُوهَهُنَّ، وَانْضَافَ إِلَيْهِنَّ نِسَاءُ الَّذِينَ نُكِبُوا عَلَى يَدَيِ

الْوَزِيرِ ابْنِ الْفُرَاتِ، فَكَانَ بِبَغْدَادَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْفَظَاعَةِ وَالشَّنَاعَةِ، وَلَمَّا سَأَلَ الْخَلِيفَةُ عَنِ الْخَبَرِ، ذُكِرَ لَهُ أَنَّ هَذِهِ نِسْوَةُ الْحَجِيجِ، وَمَعَهُنَّ نِسَاءُ الَّذِينَ صَادَرَهُمُ ابْنُ الْفُرَاتِ، وَجَاءَتْ عَلَى يَدِ الْحَاجِبِ نَصْرٍ الْقُشُورِيِّ الْمَشُورَةُ عَلَى الْوَزِيرِ، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا اسْتَوْلَى هَذَا الْقِرْمِطِيُّ بِسَبَبِ إِبْعَادِكَ الْمُظَفَّرَ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ، فَطَمِعَ هَؤُلَاءِ فِي الْأَطْرَافِ، وَمَا أَشَارَ عَلَيْكَ بِإِبْعَادِهِ إِلَّا ابْنُ الْفُرَاتِ. وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِرُ إِلَى الْوَزِيرِ ابْنِ الْفُرَاتِ، يَقُولُ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ يَتَكَلَّمُونَ فِيكَ لِنُصْحِكَ إِيَّايَ. وَأَرْسَلَ يُطَيِّبُ قَلْبَهُ، فَرَكِبَ هُوَ وَوَلَدُهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَدَخَلَا عَلَيْهِ، فَأَكْرَمَهُمَا وَطَيَّبَ قُلُوبَهُمَا، وَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ، فَنَالَهُ أَذًى كَثِيرٌ مِنْ نَصْرٍ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِ مِنْ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ، وَجَلَسَ الْوَزِيرُ فِي دَسْتِهِ، فَحَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى عَادَتِهِ، وَبَاتَ لَيْلَتَهُ تِلْكَ مُفَكِّرًا فِي أَمْرِهِ، وَأَصْبَحَ كَذَلِكَ وَهُوَ يَنْشُدُ:
فَأَصْبَحَ لَا يَدْرِي وَإِنْ كَانَ حَازِمًا أَقُدَّامَهُ خَيْرٌ لَهُ أَمْ وَرَاءَهُ
ثُمَّ جَاءَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَمِيرَانِ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ فَدَخَلَا عَلَيْهِ دَارَهُ إِلَى بَيْنِ حَرَمِهِ، وَأَخْرَجُوهُ مَكْشُوفًا رَأْسُهُ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْمَذَلَّةِ وَالْإِهَانَةِ، فَأَرْكَبُوهُ فِي حَرَّاقَةٍ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ. وَفَهِمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَرَجَمُوا ابْنَ الْفُرَاتِ

بِالْآجُرِّ، وَتَعَطَّلَتِ الْجَوَامِعُ، وَسَخَّمَتِ الْعَامَّةُ الْمَحَارِيبَ، وَلَمْ يُصَلِّ النَّاسُ الْجُمُعَةَ فِيهَا، وَأُخِذَ خَطُّهُ بِأَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأُخِذَ خَطُّ ابْنِهِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَسُلِّمَا إِلَى نَازُوكَ أَمِيرِ الشُّرْطَةِ، فَاعْتُقِلَا حِينًا، وَخَلَّصَ مِنْهُمَا الْأَمْوَالَ، فَلَمَّا قَدِمَ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ سُلِّمَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ ابْنُ الْفُرَاتِ، فَأَهَانَهُ غَايَةَ الْإِهَانَةِ بِالضَّرْبِ وَالتَّقْرِيعِ لَهُ وَلِوَلَدِهِ الْمُحَسِّنِ الْمُجْرِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُحَسِّنٍ، ثُمَّ قُتِلَا بَعْدَ ذَلِكَ. فَكَانَتْ وِزَارَتُهُ هَذِهِ الثَّالِثَةُ ; عَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا. وَاسْتُوزِرَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ، وَذَلِكَ فِي تَاسِعِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَكَانَ الْخَلِيفَةُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ لِيَحْضُرَ، فَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، وَسُلِّمَ إِلَيْهِ ابْنُ الْفُرَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَعَاقَبَهُ، وَشَفَعَ إِلَى الْخَاقَانِيِّ فِي أَنْ يُرْسِلَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ عِيسَى - وَكَانَ قَدْ صَارَ إِلَى صَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ مَطْرُودًا - فَعَادَ إِلَى مَكَّةَ وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ بِالْمَسِيرِ إِلَى نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ لِأَجْلِ الْقَرَامِطَةِ، وَأَنْفَقَ عَلَى خُرُوجِهِ إِلَى هُنَالِكَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَطْلَقَ الْقِرْمِطِيُّ مَنْ كَانَ أَسَرَهُ مِنَ الْحَجِيجِ وَكَانُوا أَلْفَيْ رَجُلٍ وَخَمْسَمِائَةِ امْرَأَةٍ، وَأَطْلَقَ أَبَا الْهَيْجَاءِ نَائِبَ الْكُوفَةِ مَعَهُمْ أَيْضًا، وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْأَلُ مِنْهُ الْبَصْرَةَ وَالْأَهْوَازَ، فَلَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ، وَرَكِبَ الْمُظَفَّرُ مُؤْنِسٌ

الْخَادِمُ فِي جَحَافِلَ إِلَى بِلَادِ الْكُوفَةِ فَسَكَنَ أَمْرُهَا، ثُمَّ انْحَدَرَ مِنْهَا إِلَى وَاسِطٍ ; خَوْفًا عَلَيْهَا مِنَ الْقَرَامِطَةِ، وَاسْتَنَابَ عَلَى الْكُوفَةِ يَاقُوتَ الْخَادِمَ، فَتَمَهَّدَتِ الْأُمُورُ وَانْصَلَحَتْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ رَجُلٌ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ، فَادَّعَى أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَصَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَعْرَابِ وَالطَّغَامِ، وَالْتَفُّوا عَلَيْهِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ فِي شَوَّالٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ جَيْشًا فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمُوهُ، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَتَفَرَّقَ بَقِيَّتُهُمْ. وَهَذَا الْمُدَّعِي الْمَذْكُورُ هُوَ رَئِيسُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَأَوَّلُهُمْ. وَظَفِرَ نَازُوكُ نَائِبُ الشُّرْطَةِ بِثَلَاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلَّاجِ وَهُمْ حَيْدَرَةُ، وَالشَّعْرَانِيُّ، وَابْنُ مَنْصُورٍ، فَطَالَبَهُمْ بِالرُّجُوعِ، فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَصَلَبَهُمْ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ. وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ ; لِكَثْرَةِ خَوْفِ النَّاسِ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْشٍ، أَبُو إِسْحَاقَ الْوَاعِظُ الزَّاهِدُ النَّيْسَابُورِيُّ، كَانَ يَعِظُ النَّاسَ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ: يَضْحَكُ الْقَضَاءُ مِنَ الْحَذَرِ، وَيَضْحَكُ الْأَجَلُ مِنَ الْأَمَلِ، وَيَضْحَكُ التَّقْدِيرُ مِنَ التَّدْبِيرِ، وَتَضْحَكُ الْقِسْمَةُ مِنَ الْجَهْدِ وَالْعَنَاءِ.

عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، أَبُو الْحَسَنِ الْوَزِيرُ
وَلَّاهُ الْمُقْتَدِرُ الْوِزَارَةَ، ثُمَّ عَزَلَهُ، ثُمَّ وَلَّاهُ، ثُمَّ عَزَلَهُ، ثُمَّ وَلَّاهُ، ثُمَّ عَزَلَهُ هَذِهِ السَّنَةَ وَقَتَلَهُ، وَكَانَ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ جِدًّا، مَلَكَ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ يَدْخُلُهُ مِنْ ضِيَاعِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَا أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ وَيُجْرِي عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ فِي كُلِّ شَهْرٍ، أَثَابَهُ اللَّهُ، وَكَانَ فِيهِ كِفَايَةٌ وَنَهْضَةٌ وَمَعْرِفَةٌ بِالْوِزَارَةِ وَالْحِسَابِ، يُقَالُ: إِنَّهُ نَظَرَ يَوْمًا فِي أَلْفِ كِتَابٍ، وَوَقَّعَ عَلَى أَلْفِ رُقْعَةٍ، فَتَعَجَّبَ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَتْ فِيهِ مُرُوءَةٌ وَكَرَمٌ وَحُسْنُ سِيرَةٍ فِي وِلَايَاتِهِ، غَيْرَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ ; فَإِنَّهُ ظَلَمَ وَغَشَمَ وَصَادَرَ النَّاسَ عَنْ أَمْوَالِهِمْ، فَأَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. وَقَدْ كَانَ فِيهِ كَرَمٌ وَسَعَةٌ فِي النَّفَقَةِ، ذُكِرَ عِنْدَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةُ وَأَهْلُ الْأَدَبِ وَالشُّعَرَاءُ وَالْفُقَهَاءُ، فَأَطْلَقَ مِنْ مَالِهِ لِكُلِّ طَائِفَةٍ عِشْرِينَ أَلْفًا.
وَكَتَبَ رَجُلٌ عَلَى لِسَانِهِ إِلَى نَائِبِ مِصْرَ كِتَابًا فِيهِ الْوَصِيَّةُ بِهِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ اسْتَرَابَ بِهِ، وَقَالَ: مَا هَذَا خَطُّهُ، وَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى الْوَزِيرِ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ عَرَفَ أَنَّهُ كَذِبٌ وَزُورٌ، وَاسْتَشَارَ الْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ فِي الَّذِي زَوَّرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقْطَعُ إِبْهَامُهُ، وَقَالَ الْآخَرُ: يُضْرَبُ ضَرْبًا عَنِيفًا. فَقَالَ الْوَزِيرُ: أَوْ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَأَخَذَ الْكِتَابَ،

وَكَتَبَ عَلَيْهِ: نَعَمْ هَذَا خَطِّي، وَهُوَ مِنْ أَخَصِّ أَصْحَابِي، فَلَا تَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَّا وَصَلْتَهُ بِهِ. فَلَمَّا عَادَ الْكِتَابُ أَحْسَنَ نَائِبُ مِصْرَ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَوَصَلَهُ بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَاسْتَدْعَى ابْنُ الْفُرَاتِ يَوْمًا بِبَعْضِ الْكُتَّابِ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ ! إِنَّ نِيَّتِي فِيكَ سَيِّئَةٌ، وَإِنِّي فِي كُلِّ وَقْتٍ أُرِيدُ أَنْ أَقْبِضَ عَلَيْكَ وَأُصَادِرَكَ مَالَكَ، فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ مِنْ لَيَالٍ أَنِّي قَدْ أَمَرْتُ بِالْقَبْضِ عَلَيْكَ، فَجَعَلْتَ تَمْتَنِعُ مِنِّي، فَأَمَرْتُ جُنْدِي أَنْ تُقَاتِلَ، فَجَعَلُوا كُلَّمَا ضَرَبُوكَ بِشَيْءٍ مِنْ سِهَامٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ السِّلَاحِ تَتَّقِي الضَّرْبَ بِرَغِيفٍ فِي يَدِكَ، فَلَا يَصِلُ إِلَيْكَ بِسَبَبِهِ شَيْءٌ، فَأَعْلِمْنِي مَا قِصَّةُ هَذَا الرَّغِيفِ ؟ فَقَالَ: أَيُّهَا الْوَزِيرُ، إِنَّ أُمِّي مُنْذُ كُنْتُ صَغِيرًا كَانَتْ تَضَعُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ تَحْتَ وِسَادَتِي رَغِيفًا، ثُمَّ تُصْبِحُ فَتَتَصَدَّقُ بِهِ عَنِّي، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهَا حَتَّى مَاتَتْ. فَفَعَلْتُهُ بَعْدَهَا، فَأَنَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ أُبَيِّتُ تَحْتَ وِسَادَتِي رَغِيفًا، ثُمَّ أُصْبِحُ فَأَتَصَدَّقُ بِهِ، فَعَجِبَ الْوَزِيرُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَنَالُكَ مِنِّي سُوءٌ أَبَدًا، وَلَقَدْ حَسُنَتْ نِيَّتِي فِيكَ وَأَحْبَبْتُكَ. وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ تَرْجَمَتَهُ وَذَكَرَ بَعْضَ مَا أَوْرَدْنَاهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
أَبُو بَكْرٍ الْأَزْدِيُّ الْوَاسِطِيُّ، الْمَعْرُوفُ بَالْبَاغَنْدِيِّ، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَابْنَ أَبِي شَيْبَةَ، وَشَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، وَعَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ، وَخَلْقًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ، وَرَحَلَ إِلَى الْأَمْصَارِ الْبَعِيدَةِ، وَعُنِيَ

بِهَذَا الشَّأْنِ، وَاشْتَغَلَ فِيهِ فَأَفْرَطَ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ رُبَّمَا سَرَدَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ بِأَسَانِيدِهَا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَيُسَبِّحُ بِهِ حَتَّى يَتَذَكَّرَ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ. وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا أُجِيبُ فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ. وَقَدْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّمَا أَثْبَتُ فِي الْحَدِيثِ مَنْصُورٌ أَوِ الْأَعْمَشُ ؟ فَقَالَ لَهُ: مَنْصُورٌ، مَنْصُورٌ. وَقَدْ كَانَ يُعَابُ بِالتَّدْلِيسِ، حَتَّى قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ كَثِيرُ التَّدْلِيسِ، يُحَدِّثُ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ، وَرُبَّمَا سَرَقَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنَ الْمُحَرَّمِ انْقَضَّ كَوْكَبٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ إِلَى الشَّمَالِ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ، فَأَضَاءَتِ الدُّنْيَا مِنْهُ، وَسُمِعَ لَهُ صَوْتٌ كَصَوْتِ الرَّعْدِ الشَّدِيدِ.
وَفِي صَفَرٍ بَلَغَ الْخَلِيفَةَ الْمُقْتَدِرَ بِاللَّهِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الرَّافِضَةِ يَجْتَمِعُونَ فِي مَسْجِدِ بَرَاثَا، فَيَنَالُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ، وَيُكَاتِبُونَ الْقَرَامِطَةَ، وَيَدْعُونَ إِلَى وِلَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الَّذِي ظَهَرَ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ، وَيَتَبَرَّءُونَ مِنَ الْمُقْتَدِرِ وَمِمَّنْ يَتَّبِعُهُ، فَأَمَرَ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ فِي الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ، فَأَفْتَوْا بِأَنَّهُ مَسْجِدٌ ضِرَارٌ يُهْدَمُ كَمَا هُدِمَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ، فَضَرَبَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمُ الضَّرْبَ الْمُبَرِّحَ، وَنُودِيَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِهَدْمِ الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ، فَهَدَمَهُ نَازُوكُ وَأَمَرَ الْوَزِيرَ الْخَاقَانِيَّ، فَجَعَلَ مَكَانَهُ مَقْبَرَةً، فَدُفِنَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَوْتَى.
وَخَرَجَ النَّاسُ لِلْحَجِّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَاعْتَرَضَهُمْ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ

الْجَنَّابِيُّ الْقِرْمِطِيُّ - لَعَنَهُمَا اللَّهُ - فَرَجَعَ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَى بُلْدَانِهِمْ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْحَجُّ عَامَهُمْ هَذَا، وَيُقَالُ: إِنَّ بَعْضَهُمْ سَأَلَ مِنْهُ الْأَمَانَ لِيَذْهَبُوا فَأَمَّنَهُمْ. وَقَدْ قَاتَلَهُ جُنْدُ الْخَلِيفَةِ، فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ فِيهِ شَيْئًا ; لِتَمَرُّدِهِ وَشِدَّةِ بَأْسِ مَنْ مَعَهُ، وَانْزَعَجَ أَهْلُ بَغْدَادَ مِنْ ذَلِكَ وَتَرَحَّلَ أَهْلُ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ خَوْفًا مِنَ الْقَرَامِطَةِ، وَدَخَلَ الْقِرْمِطِيُّ إِلَى الْكُوفَةَ فَأَقَامَ بِهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ يَأْخُذُ مِنْ أَمْوَالِهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَثُرَ الرُّطَبُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِبَغْدَادَ، حَتَّى بِيعَ كُلُّ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ بِحَبَّةٍ، وَعُمِلَ مِنْهُ تَمْرٌ وَحُمِلَ إِلَى الْبَصْرَةِ.
وَعَزَلَ الْمُقْتَدِرُ وَزِيرَهُ الْخَاقَانِيَّ عَنِ الْوِزَارَةِ بَعْدَ سَنَةٍ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَيَوْمَيْنِ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْخَصِيبِ الْخَصِيبِيُّ ; لِأَجْلِ مَالٍ بَذَلَهُ مِنْ جِهَةِ زَوْجَةِ الْمُحَسِّنِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَالُ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَقَرَّ الْخَصِيبِيُّ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى عَلَى الْإِشْرَافِ عَلَى دِيَارِ مِصْرَ وَبِلَادِ الشَّامِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ يَسِيرُ إِلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَيَعْمَلُ مَا يَنْبَغِي عَمَلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَكَّةَ، شَرَّفَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ
أَبُو الْحَسَنِ الْغَضَائِرِيُّ،

سَمِعَ الْقَوَارِيرِيَّ وَعَبَّاسًا الْعَنْبَرِيَّ، وَكَانَ مِنَ الْعُبَّادِ الثِّقَاتِ. قَالَ: جِئْتُ يَوْمًا إِلَى السَّرِيِّ السَّقَطِيِّ، فَدَقَقْتُ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَخَرَجَ إِلَيَّ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى عِضَادَتَيِ الْبَابِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْغَلْ مَنْ شَغَلَنِي عَنْكَ بِكَ. قَالَ: فَنَالَتْنِي بَرَكَةُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ، فَحَجَجْتُ عَلَى قَدَمِي مِنْ حَلَبَ إِلَى مَكَّةَ أَرْبَعِينَ حَجَّةً ذَاهِبًا وَآيِبًا.
أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ الْحَافِظُ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِهْرَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ مَوْلَاهُمْ، أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ، أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الثِّقَاتِ الْحُفَّاظِ، مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، سَمِعَ قُتَيْبَةَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَخَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْحِجَازِ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَهُمَا أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَقْدَمُ مِيلَادًا وَوَفَاةً، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ نَافِعَةٌ جِدًّا، وَكَانَ يُعَدُّ مِنْ مُجَابِي الدَّعْوَةِ.
وَقَدْ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّهُ يَرْقَى فِي سُلَّمٍ، فَصَعِدَ فِيهِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ دَرَجَةً، فَمَا أَوَّلَهَا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا قَالَ لَهُ: تَعِيشُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً. فَكَانَ كَذَلِكَ. وَقَدْ وُلِدَ لَهُ ابْنُهُ أَبُو عَمْرٍو، وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً. قَالَ الْحَاكِمُ: فَسَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو يَقُولُ: فَكُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ عَلَى أَبِي وَالنَّاسُ عِنْدَهُ يَقُولُ لَهُمْ: هَذَا عَمِلْتُهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلِي مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
كَتَبَ مَلِكُ الرُّومِ، وَهُوَ الدُّمُسْتُقُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - إِلَى أَهْلِ السَّوَاحِلِ أَنَّ يَحْمِلُوا إِلَيْهِ الْخَرَاجَ وَإِلَّا قَاتَلَهُمْ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ، فَعَاثَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَدَخَلَ مَلَطْيَةَ فَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا كَثِيرًا وَأَسَرَ، وَأَقَامَ بِهَا سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَجَاءَ أَهْلُهَا إِلَى بَغْدَادَ يَسْتَنْجِدُونَ الْخَلِيفَةَ عَلَيْهِ.
وَوَقَعَ بِبَغْدَادَ حَرِيقٌ فِي مَكَانَيْنِ، مَاتَ بِسَبَبِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَاحْتَرَقَ بِأَحَدِهِمَا أَلْفُ دَارٍ وَدُكَّانٍ، وَجَاءَتِ الْكُتُبُ بِمَوْتِ الدُّمُسْتُقِ مَلِكِ النَّصَارَى - لَعَنَهُ اللَّهُ - فَقُرِئَتِ الْكُتُبُ عَلَى الْمَنَابِرِ بِذَلِكَ، وَجَاءَتِ الْكُتُبُ مِنْ مَكَّةَ أَنَّ أَهْلَهَا فِي غَايَةِ الِانْزِعَاجِ بِسَبَبِ اقْتِرَابِ الْقِرْمِطِيِّ إِلَيْهِمْ وَقَصْدِهِ إِيَّاهُمْ، فَرَحَلُوا مِنْهَا إِلَى الطَّائِفِ وَتِلْكَ النَّوَاحِي، وَهَبَّتْ رِيحٌ عَظِيمَةٌ بِنَصِيبِينَ اقْتَلَعَتِ الْأَشْجَارَ وَهَدَمَتِ الْبُيُوتَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ لِثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْهَا - وَهُوَ سَابِعُ كَانُونَ الْأَوَّلِ - سَقَطَ بِبَغْدَادَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ جِدًّا وَحَصَلَ بِسَبَبِهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ، بِحَيْثُ أَتْلَفَ كَثِيرًا مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ، وَجَمَدَتِ الْأَدْهَانُ حَتَّى الْأَشْرِبَةُ، وَمَاءُ الْوَرْدِ، وَالْخَلُّ، وَالْخِلْجَانُ الْكِبَارُ، وَدِجْلَةُ.
وَعَقَدَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ

مَجْلِسَ التَّحْدِيثِ عَلَى مَتْنِ دِجْلَةَ مِنْ فَوْقِ الْجَمْدِ، وَكُتِبَ عَنْهُ الْحَدِيثُ هُنَالِكَ، ثُمَّ انْكَسَرَ الْبَرْدُ بِمَطَرٍ وَقَعَ، فَأَزَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدِمَ الْحُجَّاجُ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى بَغْدَادَ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ بِأَنَّ الْقَرَامِطَةَ قَدْ قَصَدُوا مَكَّةَ فَرَجَعُوا، وَلَمْ يَتَهَيَّأِ الْحَجُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ عَزَلَ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْخَصِيبِيَّ بَعْدَ سَنَةٍ وَشَهْرَيْنِ، وَأَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ وَحَبْسِهِ، وَذَلِكَ لِإِهْمَالِهِ أَمْرَ الْوِزَارَةِ وَالنَّظَرِ فِي الْمَصَالِحِ ; لِاشْتِغَالِهِ بِالْخَمْرِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَيُصْبِحُ مَخْمُورًا لَا عَقْلَ لَهُ، وَقَدْ وَكَلَ الْأُمُورَ إِلَى نُوَّابِهِ، فَخَانُوا وَعَمِلُوا مَصَالِحَهُمْ، وَوَلَّى مَكَانَهُ أَبَا الْقَاسِمِ عَبِيدَ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَلْوَذَانِيَّ نِيَابَةً عَنْ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى حَتَّى يَقْدَمَ، ثُمَّ أَرْسَلَ فِي طَلَبِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، وَهُوَ فِي دِمَشْقَ فَقَدِمَ بَغْدَادَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، فَنَظَرَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَرَدَّ الْأُمُورَ إِلَى السَّدَادِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَتَمَهَّدَتِ الْقَوَاعِدُ، وَاسْتَدْعَى بِالْخَصِيبِيِّ، فَتَهَدَّدَهُ وَلَامَهُ وَنَاقَشَهُ عَلَى مَا كَانَ يَعْتَمِدُهُ وَيَفْعَلُهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَفِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى السِّجْنِ.
وَفِيهَا أَخَذَ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالسَّعِيدِ بِلَادَ الرَّيِّ وَسَكَنَهَا إِلَى سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ.
وَفِيهَا غَزَتِ الصَّائِفَةُ مِنْ بِلَادِ طَرَسُوسَ بِلَادَ الرُّومِ، فَغَنِمُوا وَسَلِمُوا. وَلَمْ

يَحُجَّ رَكْبُ الْعِرَاقِ ; خَوْفًا مِنَ الْقَرَامِطَةِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

سَعْدٌ النُّوبِيُّ
صَاحِبُ بَابِ النُّوبِيِّ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ بِبَغْدَادَ، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأُقِيمَ أَخُوهُ مَكَانَهُ فِي حِفْظِ هَذَا الْبَابِ الَّذِي صَارَ يُنْسَبُ بَعْدَهُ إِلَيْهِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لُبَابَةَ الْقُرْطُبِيُّ. وَنَصْرُ بْنُ الْقَاسِمِ الْفَرَائِضِيُّ الْحَنَفِيُّ أَبُو اللَّيْثِ. سَمِعَ الْقَوَارِيرِيَّ وَكَانَ ثِقَةً عَالِمًا بِالْفَرَائِضِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، مُقْرِئًا جَلِيلًا.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا كَانَ قُدُومُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ الْوَزِيرِ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى بَغْدَادَ وَقَدْ تَلَقَّاهُ النَّاسُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَقِيَهُ إِلَى الْأَنْبَارِ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ. وَحِينَ دَخَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ خَاطَبَهُ الْخَلِيفَةُ فَأَحْسَنَ مُخَاطَبَتَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَبَعَثَ وَرَاءَهُ بِالْفَرْشِ وَالْقُمَاشِ وَعِشْرِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَدْعَاهُ مِنَ الْغَدِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ، فَأَنْشَدَ وَهُوَ فِي الْخِلْعَةِ:
مَا النَّاسُ إِلَّا مَعَ الدُّنْيَا وَصَاحِبِهَا فَكَيْفَمَا انْقَلَبَتْ يَوْمًا بِهِ انْقَلَبُوا يُعَظِّمُونَ أَخَا الدُّنْيَا فَإِنْ وَثَبَتْ
يَوْمًا عَلَيْهِ بِمَا لَا يَشْتَهِي وَثَبُوا
وَجَاءَتِ الْكُتُبُ بِأَنَّ الرُّومَ دَخَلُوا سُمَيْسَاطَ وَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا فِيهَا، وَنَصَبُوا فِيهَا خَيْمَةَ الْمُلْكِ، وَضَرَبُوا النَّاقُوسَ فِي الْجَامِعِ بِهَا، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ بِالتَّجْهِيزِ لِلْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً، ثُمَّ جَاءَتِ الْكُتُبُ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَثَبُوا عَلَى الرُّومِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَغَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً جِدًّا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.

وَلَمَّا تَجَهَّزَ مُؤْنِسٌ لِلْمَسِيرِ جَاءَهُ بَعْضُ الْخَدَمِ، فَأَعْلَمَهُ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ يُرِيدُ أَنْ يَقْبِضَ عَلَيْهِ إِذَا دَخَلَ لِوَدَاعِهِ، وَقَدْ حُفِرَتْ لَهُ زُبْيَةٌ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ مُغَطَّاةٌ ; لِيَتَرَدَّى فِيهَا، فَأَحْجَمَ عَنِ الذَّهَابِ، وَجَاءَتِ الْأُمَرَاءُ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِيَكُونُوا مَعَهُ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُقْتَدِرُ رُقْعَةً بِخَطِّهِ يَحْلِفُ لَهُ فِيهَا أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي بَلَغَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَرَكِبَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ فِي غِلْمَانٍ قَلَائِلَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ خَاطَبَهُ مُخَاطَبَةً عَظِيمَةً، وَحَلَفَ لَهُ أَنَّهُ طَيِّبُ الْقَلْبِ عَلَيْهِ، وَلَهُ عِنْدَهُ الصَّفَاءُ الَّذِي يَعْرِفُهُ، وَخَرَجَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا، وَرَكِبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْمُقْتَدِرِ، وَالْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى وَنَصْرٌ الْحَاجِبُ فِي خِدْمَتِهِ لِتَوْدِيعِهِ، وَكِبَارُ الْأُمَرَاءِ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ الْحَجَبَةِ، وَكَانَ خُرُوجُهُ يَوْمًا مَشْهُودًا، قَاصِدًا بِلَادَ الثُّغُورِ لِقِتَالِ الرُّومِ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى قُبِضَ عَلَى رَجُلٍ خَنَّاقٍ، قَدْ قَتَلَ خَلْقًا مِنَ النِّسَاءِ ; لِأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْرِفُ الْعَطْفَ وَالتَّنْجِيمَ، فَقَصَدَهُ النِّسَاءُ لِذَلِكَ، فَإِذَا انْفَرَدَ بِالْمَرْأَةِ قَامَ إِلَيْهَا، فَخَنَقَهَا بِوَتَرٍ، وَأَعَانَتْهُ امْرَأَتُهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ حَفَرَ لَهَا فِي دَارِهِ فَدَفَنَهَا، فَإِذَا امْتَلَأَتْ تِلْكَ الدَّارُ انْتَقَلَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا. وَلَمَّا ظُهِرَ عَلَيْهِ وُجِدَ فِي دَارِهِ سَبْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً قَدْ خَنَقَهُنَّ، ثُمَّ تُتُبِّعَتِ الدُّورُ الَّتِي سَكَنَهَا، فَوَجَدُوا شَيْئًا كَثِيرًا قَدْ قُتِلَ مِنَ النِّسَاءِ، فَضُرِبَ أَلْفَ سَوْطٍ، ثُمَّ صُلِبَ حَيًّا حَتَّى مَاتَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ ظُهُورُ الدَّيْلَمِ بِبِلَادِ الرَّيِّ فَكَانَ فِيهِمْ مَلِكٌ غَلَبَ عَلَى أَمْرِهِمْ، يُقَالُ لَهُ: مَرْدَاوِيجُ، يَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيرٌ مِنْ

فِضَّةٍ، وَيَقُولُ: أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ. وَقَدْ سَارَ فِي أَهْلِ الرَّيِّ وَقَزْوِينَ وَأَصْبَهَانَ سِيرَةً قَبِيحَةً جِدًّا، فَكَانَ يَقْتُلُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فِي الْمُهُودِ، وَيَأْخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْجَبَرُوتِ وَالشِّدَّةِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى مَحَارِمِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَتَلَهُ الْأَتْرَاكُ، وَأَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ يُوسُفَ بْنِ أَبِي السَّاجِ وَبَيْنَ أَبِي طَاهِرٍ الْقِرْمِطِيِّ عِنْدَ الْكُوفَةِ ; سَبَقَهُ إِلَيْهَا أَبُو طَاهِرٍ، فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ: اسْمَعْ وَأَطِعْ، وَإِلَّا فَاسْتَعِدَّ لِلْقِتَالِ يَوْمَ السَّبْتِ تَاسِعَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فَقَالَ: هَلُمَّ. فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ، اسْتَقَلَّ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ، وَكَانَ مَعَهُ عِشْرُونَ أَلْفًا جَيْشُ الْقِرْمِطِيِّ، وَكَانَ مَعَهُ أَلْفُ فَارِسٍ وَخَمْسُمِائَةِ رَاجِلٍ، فَقَالَ: وَمَا قِيمَةُ هَؤُلَاءِ الْكِلَابِ ؟ وَأَمَرَ الْكَاتِبَ أَنْ يَكْتُبَ بِالْفَتْحِ قَبْلَ اللِّقَاءِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا اقْتَتَلُوا ثَبَتَتِ الْقَرَامِطَةُ ثَبَاتًا عَظِيمًا، وَنَزَلَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَحَرَّضَ أَصْحَابَهُ، وَحَمَلَ بِهِمْ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَهَزَمُوا جُنْدَ الْخَلِيفَةِ، وَأَسَرُوا يُوسُفَ بْنَ أَبِي السَّاجِ وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ جُنْدِ الْخَلِيفَةِ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْكُوفَةِ وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ إِلَى بَغْدَادَ وَشَاعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الْقِرْمِطِيَّ يُرِيدُ أَنْ يَقْصِدَ بَغْدَادَ لِيَأْخُذَهَا، فَانْزَعَجَ الْمُسْلِمُونَ لِذَلِكَ، وَظَنُّوا صِدْقَهُ، فَاجْتَمَعَ الْوَزِيرُ بِالْخَلِيفَةِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْأَمْوَالَ إِنَّمَا تُدَّخَرُ لِتَكَوُّنَ عَوْنًا عَلَى قِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَقَعْ بَعْدَ زَمَنِ الصَّحَابَةِ أَفْظَعُ مِنْهُ، قَدْ قَطَعَ هَذَا الْكَافِرُ طَرِيقَ الْحَجِّ عَلَى النَّاسِ، وَفَتَكَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَإِنَّ بَيْتَ الْمَالِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَاطِبِ السَّيِّدَةَ - يَعْنِي أُمَّهُ - فَإِنْ كَانَ عِنْدَهَا مَالٌ قَدِ ادَّخَرَتْهُ لِشِدَّةٍ، فَهَذَا وَقْتُهُ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّهِ فَكَانَتْ هِيَ الَّتِي ابْتَدَأَتْهُ بِذَلِكَ، وَبَذَلَتْ لَهُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ

دِينَارٍ، وَكَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِثْلُهَا فَسَلَّمَهَا الْخَلِيفَةُ إِلَى الْوَزِيرِ لِيَصْرِفَهَا فِي تَنْفِيذِ الْجُيُوشِ نَحْوَ الْقَرَامِطَةِ، فَجَهَّزَ الْوَزِيرُ جَيْشًا ; أَرْبَعِينَ أَلْفًا مَعَ أَمِيرٍ، يُقَالُ لَهُ: يَلْبَقُ، فَأَخَذُوا عَلَيْهِ الطُّرُقَاتِ وَكَانَ يُرِيدُ دُخُولَ بَغْدَادَ ثُمَّ الْتَقَوْا مَعَهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ جَيْشُ الْخَلِيفَةِ أَنِ انْهَزَمَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَكَانَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ مَعَهُمْ مُقَيَّدًا فِي خَيْمَةٍ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى مَحَلِّ الْوَقْعَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ الْقِرْمِطِيُّ قَالَ: أَرَدْتَ أَنْ تَهْرُبَ ؟! ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَرَجَعَ الْقِرْمِطِيُّ مِنْ نَاحِيَةِ بَغْدَادَ إِلَى الْأَنْبَارِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى هِيتَ فَأَكْثَرَ أَهْلُ بَغْدَادَ الصَّدَقَةَ، وَكَذَلِكَ الْخَلِيفَةُ وَأُمُّهُ وَالْوَزِيرُ ; شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى صَرْفِهِ عَنْهُمْ هَذَا الْخَبِيثَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ الْمَهْدِيُّ الْمُدَّعِي أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ - الَّذِي ظَهَرَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ - وَلَدَهُ أَبَا الْقَاسِمِ فِي جَيْشٍ، فَانْهَزَمَ جَيْشُهُ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ خُلْقٌ كَثِيرٌ.
وَاخْتُطَّتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمَدِينَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ.
وَفِيهَا حَاصَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الدَّاخِلِ الْأُمَوِيُّ مَدِينَةَ طُلَيْطُلَةَ وَكَانُوا مُسْلِمِينَ، لَكِنَّهُمْ نَقَضُوا مَا كَانُوا عَاهَدُوهُ عَلَيْهِ، فَفَتَحَهَا قَهْرًا، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

ابْنُ الْجَصَّاصِ الْجَوْهَرِيُّ
الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَصَّاصِ الْجَوْهَرِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ، كَانَ ذَا مَالٍ عَظِيمٍ وَثَرْوَةٍ مُتَّسِعَةٍ جِدًّا، وَكَانَ أَصْلُ نِعْمَتِهِ مِنْ بَيْتِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ كَانَ قَدْ جَعَلَهُ جَوْهَرِيًّا لَهُ يَتَسَوَّقُ لَهُ مَا يَقَعُ مِنْ نَفَائِسِ

الْجَوَاهِرِ بِمِصْرَ، فَاكْتَسَبَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا.
قَالَ ابْنُ الْجَصَّاصِ: كُنْتُ يَوْمًا بِبَابِ ابْنِ طُولُونَ إِذْ خَرَجَتِ الْقَهْرَمَانَةُ، وَبِيَدِهَا عِقْدٌ فِيهِ مِائَةُ حَبَّةٍ مِنَ الْجَوْهَرِ، تُسَاوِي كُلُّ وَاحِدَةٍ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَتْ: أُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ هَذَا فَتَخْرُطَهُ حَتَّى يَكُونَ أَصْغَرَ مِنْ هَذَا الْحَجْمِ، فَإِنَّ هَذَا نَافِرٌ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ. فَأَخَذْتُهُ مِنْهَا، وَذَهَبْتُ بِهِ إِلَى الْمَنْزِلِ وَحَصَّلْتُ جَوَاهِرَ أَصْغَرَ مِنْهَا تُسَاوِي أَقَلَّ مِنْ عُشْرِ قِيمَةِ تِلْكَ الْجَوَاهِرِ بِكَثِيرٍ، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا، وَفُزْتُ أَنَا بِذَلِكَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ، فَكَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ. وَقَدِ اتَّفَقَ أَنَّهُ صُودِرَ فِي زَمَانِ الْمُقْتَدِرِ مُصَادَرَةً عَظِيمَةً، أُخِذَ مِنْهُ مَا يُقَاوِمُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَبَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَتَرَدَّدُ فِي مَنْزِلِهِ كَأَنَّهُ مَجْنُونٌ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ ؟! فَقَالَ: وَيْحَكَ ! أُخِذَ مِنِّي كَذَا وَكَذَا، فَأَنَا أُحِسُّ أَنَّ رُوحِي سَتَخْرُجُ. فَعَذَرْتُهُ ثُمَّ أَخَذْتُ فِي تَسْلِيَتِهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ دَارَكَ وَبَسَاتِينَكَ وَضِيَاعَكَ الْبَاقِيَةَ لَكَ تُسَاوِي سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاصْدُقْنِي كَمْ بَقِيَ عِنْدَكَ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْمَتَاعِ، فَإِذَا هُوَ يُسَاوِي ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُشَارِكُكَ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ التُّجَّارِ بِبَغْدَادَ، مَعَ مَا لَكَ مِنَ الْوَجَاهَةِ عِنْدَ الدَّوْلَةِ وَالنَّاسِ. قَالَ: فَسُرِّيَ عَنْهُ، وَتَسَلَّى عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَأَكَلَ، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا، وَلَمَّا خَلَصَ مِنْ مُصَادَرَةِ الْمُقْتَدِرِ بِشَفَاعَةِ أُمِّهِ السَّيِّدَةِ فِيهِ، حَكَى عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: نَظَرْتُ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى مِائَةِ خَيْشَةٍ، فِيهَا مَتَاعٌ رَثٌّ مِمَّا حُمِلَ إِلَيَّ مِنْ مِصْرَ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ بِدَارِ

مَضِيعَةٍ، وَكَانَ لِي فِي كُلِّ حِمْلِ أَلْفُ دِينَارٍ مَوْضُوعَةٌ فِيهِ مِنْ مِصْرَ لَا يَشْعُرُ بِهَا أَحَدٌ، فَاسْتَوْهَبْتُ ذَلِكَ مِنْ أُمِّ الْمُقْتَدِرِ، فَكَلَّمَتْ فِي ذَلِكَ وَلَدَهَا، فَأَطْلَقَهُ لِي فَتَسَلَّمْتُهُ، فَإِذَا الذَّهَبُ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَقَدْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ مُغَفَّلًا شَدِيدَ التَّغَفُّلِ فِي كَلَامِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ أَشْيَاءُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيُظْهِرَ أَنَّهُ مُغَفَّلٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْبَسْطِ وَالدُّعَابَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَزْوِينِيُّ
وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْفَضْلِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ، رَوَى عَنِ الْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ وَالْيَزِيدِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ الْمَرْزُبَانِيُّ وَالْمُعَافَى وَغَيْرُهُمَا، وَكَانَ ثِقَةً فِي نَقْلِهِ فَقِيرًا فِي ذَاتِ يَدِهِ، تَوَصَّلَ إِلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ حَتَّى كَلَّمَ فِيهِ الْوَزِيرَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى فِي أَنْ يُرَتَّبَ لَهُ شَيْءٌ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَضَاقَ بِهِ الْحَالُ حَتَّى كَانَ يَأْكُلُ اللِّفْتَ النَّيِّئَ، فَمَاتَ فَجْأَةً مِنْ كَثْرَةِ أَكْلِهِ، وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَخْفَشُ الصَّغِيرُ، وَالْأَوْسَطُ هُوَ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ تِلْمِيذُ

سِيبَوَيْهِ، وَأَمَّا الْأَكْبَرُ فَهُوَ أَبُو الْخَطَّابِ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، مِنْ أَهْلِ هَجَرَ وَهُوَ شَيْخُ سِيبَوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِمَا.
وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ السَّرِيِّ السَّرَّاجُ النَّحْوِيُّ
صَاحِبُ " الْأُصُولِ " فِي النَّحْوِ. قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْأَرْغِيَانِيُّ

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا عَاثَ الْقِرْمِطِيُّ - لَعَنَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ - فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، حَاصَرَ الرَّحْبَةَ، فَدَخَلَهَا قَهْرًا، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَطَلَبَ مِنْهُ أَهْلُ قِرْقِيسِيَا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَبَعَثَ سَرَايَا إِلَى مَا حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا أَيْضًا، حَتَّى صَارَ النَّاسُ إِذَا سَمِعُوا بِذِكْرِهِ يَهْرُبُونَ مِنْ سَمَاعِ اسْمِهِ، وَقَرَّرَ عَلَى الْأَعْرَابِ إِتَاوَةً يَحْمِلُونَهَا إِلَى هَجَرَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، عَنْ كُلِّ رَأْسٍ دِينَارَانِ، وَعَاثَ فِي نُوَاحِي الْمَوْصِلِ وَسِنْجَارَ وَتِلْكَ الدِّيَارِ، وَقَتَلَ وَسَلَبَ وَنَهَبَ، فَقَصَدَهُ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ فَلَمْ يَتَوَاجَهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ فَابْتَنَى بِهَا دَارًا سَمَّاهَا دَارَ الْهِجْرَةِ، وَدَعَا إِلَى الْمَهْدِيِّ الَّذِي بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ بَانِي الْمَهْدِيَّةِ وَتَفَاقَمَ أَمَرُهُ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، وَصَارُوا يَكْبِسُونَ الْقَرْيَةَ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ، فَيَقْتُلُونَ أَهْلَهَا، وَيَنْهَبُونَ أَمْوَالَهَا، وَرَامَ فِي نَفْسِهِ دُخُولَ الْكُوفَةِ وَأَخْذَهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ وَعَصَمَهَا اللَّهُ مِنْهُ. وَلَمَّا رَأَى الْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى مَا يَفْعَلُ هَذَا الْهَجَرِيُّ الْقِرْمِطِيُّ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَالْخَلِيفَةُ وَجَيْشُهُ ضُعَفَاءُ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ، اسْتَعْفَى مِنَ الْوِزَارَةِ وَعَزَلَ نَفْسَهُ عَنْهَا، فَسَعَى فِيهَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ، فَوَلِيَهَا بِسِفَارَةِ نَصْرٍ

الْحَاجِبِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ - بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْبَرِيدِ - وَيُقَالُ: الْيَزِيدِيُّ. لِخِدْمَةِ جَدِّهِ يَزِيدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْحِمْيَرِيِّ. ثُمَّ جَهَّزَ الْخَلِيفَةُ جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْقَرَامِطَةِ، فَقَتَلُوا مِنَ الْقَرَامِطَةِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرُوا مِنْهُمْ طَائِفَةً كَثِيرَةً مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَدَخَلُوا مَعَ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ إِلَى بَغْدَادَ وَالْأَسَارَى بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَعْلَامٌ مِنْ أَعْلَامِهِمْ بِيضٌ مُنَكَّسَةٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [ الْقَصَصِ: 5 ] فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا وَطَابَتْ أَنْفُسُ أَهْلِ بَغْدَادَ وَانْكَسَرَ شَرُّ الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ نَشَأُوا وَكَثُرُوا وَأَظْهَرُوا رُءُوسَهُمْ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، وَنَهَبُوا كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى، وَفَوَّضُوا أَمْرَهُمْ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: حُرَيْثُ بْنُ مَسْعُودٍ - لَا أَسْعَدَهُ اللَّهُ - وَدَعَوْا إِلَى الْمَهْدِيِّ الَّذِي ظَهَرَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ وَبَنَى الْمَهْدِيَّةَ جَدِّ الْخُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ وَهُمْ أَدْعِيَاءُ فِيمَا ذَكَرُوا لَهُمْ مِنَ النَّسَبِ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ وَبَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ وَحْشَةٌ بَيْنَ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ وَالْمُقْتَدِرِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ نَازُوكَ أَمِيرَ الشُّرْطَةِ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَارُونَ بْنِ غَرِيبٍ - وَهُوَ ابْنُ خَالِ الْمُقْتَدِرِ - فَانْتَصَرَ هَارُونُ عَلَى نَازُوكَ، وَشَاعَ بَيْنَ الْعَامَّةِ أَنَّ هَارُونَ سَيَصِيرُ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ وَهُوَ بِالرَّقَّةِ، فَأَسْرَعَ الْأَوْبَةَ إِلَى بَغْدَادَ وَاجْتَمَعَ بِالْخَلِيفَةِ فَتَصَالَحَا، ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ نَقَلَ هَارُونَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَقَوِيَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا، وَانْضَمَّ إِلَى مُؤْنِسٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، وَانْقَضَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ ضَعْفِ الْأُمُورِ وَاضْطِرَابِهَا، وَكَثْرَةِ الْفِتَنِ

وَانْتِشَارِهَا.
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الْحَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ الدَّاعِي الْعَلَوِيِّ صَاحِبِ الرَّيِّ عَلَى يَدِ صَاحِبِ الدَّيْلَمِ وَسُلْطَانِهِمْ مَرْدَاوِيجَ الْمُجْرِمِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.

وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:

بُنَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ سَعِيدٍ أَبُو الْحَسَنِ الزَّاهِدِ
وَيُعْرَفُ بِالْحَمَّالِ، رَوَى الْحَدِيثَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ، وَكَانَ يُضْرَبُ بِزُهْدِهِ الْمَثَلُ، وَكَانَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَمَنْزِلَةٌ كَبِيرَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ مِنَ السُّلْطَانِ شَيْئًا، وَقَدْ أَنْكَرَ يَوْمًا عَلَى ابْنِ طُولُونَ شَيْئًا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، وَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُلْقِي بَيْنَ يَدَيِ الْأَسَدِ، فَكَانَ الْأَسَدُ يَشُمُّهُ وَيُحْجِمُ عَنْهُ، فَرُفِعَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَعَظَّمَهُ النَّاسُ جِدًّا.
وَقَدْ سَأَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ: كَيْفَ كَانَ حَالُكَ وَأَنْتَ بَيْنَ يَدَيِ الْأَسَدِ ؟ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ عَلَيَّ بَأْسٌ، قَدْ كُنْتُ أُفَكِّرُ فِي سُؤْرِ السِّبَاعِ، أَهْوَ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ ؟
قَالُوا: وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي عَلَى رَجُلٍ مِائَةَ دِينَارٍ، وَقَدْ ذَهَبَتِ

الْوَثِيقَةُ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ يُنْكِرَ الرَّجُلُ، فَأَسْأَلُكَ الدُّعَاءَ. فَقَالَ لَهُ: إِنِّي رَجُلٌ قَدْ كَبُرْتُ، وَأَنَا أُحِبُّ الْحَلْوَاءَ، فَاذْهَبْ فَاشْتَرِ لِي مِنْهَا رَطْلًا، وَأْتِنِي بِهِ حَتَّى أَدْعُوَ لَكَ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَاشْتَرَى، ثُمَّ جَاءَ فَفَتَحَ الْوَرَقَةَ الَّتِي فِيهَا الْحَلْوَاءَ، فَإِذَا هِيَ حُجَّتُهُ بِالْمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: أَهَذِهِ حُجَّتُكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: خُذْهَا وَخُذِ الْحَلْوَاءَ فَأَطْعِمْهَا صِبْيَانَكَ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ خَرَجَ أَهْلُ مِصْرَ فِي جِنَازَتِهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ وَإِكْرَامًا لَهُ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ خُرَيْمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَقِيلٍ الْبَلْخِيُّ. وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ الْحَافِظُ ابْنُ الْحَافِظِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَأَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، صَاحِبُ " الصَّحِيحِ " الْمُخَرَّجِ عَلَى " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَقَدْ كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ. وَنَصْرٌ الْحَاجِبُ لِلْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ، دَيِّنًا عَاقِلًا، أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ فِي حَرْبِ الْقَرَامِطَةِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَخَرَجَ بِنَفْسِهِ مُحْتَسِبًا، فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.

ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ خَلْعُ الْمُقْتَدِرِ وَتَوْلِيَةُ الْقَاهِرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَخِي الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ.
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ وَالْخَلِيفَةِ، فَالْتَفَّ الْأُمَرَاءُ عَلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ وَتَفَاقَمَ الْحَالُ وَآلَ إِلَى أَنِ اجْتَمَعُوا عَلَى خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ وَتَوْلِيَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ، فَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِهَا، وَلَقَّبُوهُ الْقَاهِرَ بِاللَّهِ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقُلِّدَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ وِزَارَتَهُ، وَنُهِبَتْ دَارُ الْمُقْتَدِرِ، وَأَخَذُوا مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَوُجِدَ لِأُمِّ الْمُقْتَدِرِ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ قَدْ دَفَنَتْهَا فِي قَبْرٍ بِتُرْبَتِهَا، فَحُمِلَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَأُخْرِجَ الْمُقْتَدِرُ وَأُمُّهُ وَخَالَتُهُ وَخَوَاصُّ جَوَارِيهِ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُحَاصَرَةِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَهَرَبِ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْحَجَبَةِ وَالْخَدَمِ مِنْهَا، وَوَلِيَ نَازُوكُ الْحُجُوبَةَ مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الشُّرْطَةِ، وَأُلْزِمَ الْمُقْتَدِرَ بِأَنْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ كِتَابًا بِالْخَلْعِ مِنَ الْخِلَافَةِ، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ إِلَى الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، فَقَالَ لِوَلَدِهِ أَبِي الْحُسَيْنِ: احْتَفِظْ بِهَذَا الْكِتَابِ، فَلَا يَرَيَنَّهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. فَلَمَّا أُعِيدَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى الْخِلَافَةِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ رَدَّهُ إِلَيْهِ، فَشَكَرَهُ عَلَى ذَلِكَ جِدًّا وَوَلَّاهُ قَضَاءَ الْقُضَاةِ. وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ جَلَسَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ فِي مَنْصِبِ الْخِلَافَةِ، وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ

بْنُ مُقْلَةَ، وَكَتَبَ إِلَى الْعُمَّالِ بِالْآفَاقِ يُخْبِرُهُمْ بِوِلَايَةِ الْقَاهِرِ بِالْخِلَافَةِ عِوَضًا عَنِ الْمُقْتَدِرِ، وَأَطْلَقَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى مِنَ السِّجْنِ، وَزَادَ فِي أَقْطَاعِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ قَامُوا بِنَصْرِهِ، مِنْهُمْ أَبُو الْهَيْجَاءِ بْنُ حَمْدَانَ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ جَاءَ الْجُنْدُ فَطَلَبُوا أَرْزَاقَهُمْ وَشَغَبُوا، وَسَارَعُوا إِلَى نَازُوكَ فَقَتَلُوهُ - وَكَانَ مَخْمُورًا - ثُمَّ صَلَبُوهُ، وَهَرَبَ الْوَزِيرُ ابْنُ مُقْلَةَ وَالْحَجَبَةُ، وَنَادَوْا: يَا مُقْتَدِرُ يَا مَنْصُورُ. وَلَمْ يَكُنْ مُؤْنِسٌ يَوْمَئِذٍ حَاضِرًا، وَجَاءَتِ الْجُنُودُ إِلَى بَابِهِ يُطَالِبُونَهُ بِالْمُقْتَدِرِ، فَأَغْلَقَ بَابَهُ، وَحَاجَفَ دُونَهُ خَدَمُهُ، فَلَمَّا رَأَى مُؤْنِسٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِ الْمُقْتَدِرِ إِلَيْهِمْ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ، فَخَافَ أَنْ يَكُونَ حِيلَةً عَلَيْهِ، ثُمَّ تَجَاسَرَ فَخَرَجَ، فَحَمَلَهُ الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُ دَارَ الْخِلَافَةِ، فَسَأَلَ عَنْ أَخِيهِ الْقَاهِرِ وَأَبِي الْهَيْجَاءِ بْنِ حَمْدَانَ لِيَكْتُبَ لَهُمَا أَمَانًا، فَمَا كَانَ عَنْ قَرِيبٍ حَتَّى جَاءَهُ خَادِمٌ وَمَعَهُ رَأْسُ أَبِي الْهَيْجَاءِ قَدِ احْتَزَّهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، وَجَاءَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ فَجَلَسَ فِي الدَّسْتِ، وَاسْتَدْعَى بِالْقَاهِرِ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَدْنَاهُ إِلَيْهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: يَا أَخِي، أَنْتَ لَا ذَنْبَ لَكَ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ قُهِرْتَ. وَالْقَاهِرُ يَقُولُ: اللَّهَ اللَّهَ، نَفْسِي نَفْسِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: وَحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا جَرَى عَلَيْكَ مِنِّي سُوءٌ أَبَدًا. وَعَادَ ابْنُ مُقْلَةَ، فَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ يُعْلِمُهُمْ بِعَوْدِ الْمُقْتَدِرِ، وَتَرَاجَعَتِ الْأُمُورُ إِلَى حَالِهَا الْأَوَّلِ بِبَغْدَادَ، وَاسْتَقَرَّ الْمُقْتَدِرُ فِي الْخِلَافَةِ كَمَا كَانَ، وَحُمِلَ رَأْسُ نَازُوكَ وَأَبِي الْهَيْجَاءِ بْنِ حَمْدَانَ، فَنُودِيَ عَلَيْهِمَا: هَذَا جَزَاءُ مَنْ عَصَى مَوْلَاهُ. وَهَرَبَ أَبُو السَّرَايَا بْنُ حَمْدَانَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَكَانَ ابْنُ نَفِيسٍ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى الْمُقْتَدِرِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى الْخِلَافَةِ خَرَجَ

مِنْ بَغْدَادَ مُتَنَكِّرًا، فَدَخَلَ الْمَوْصِلَ ثُمَّ صَارَ إِلَى أَرْمِينِيَةَ ثُمَّ لَحِقَ بِمَدِينَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَتَنَصَّرَ مَعَ أَهْلِهَا، لَعَنَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ. وَأَمَّا مُؤْنِسٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْمُقْتَدِرِ وَإِنَّمَا وَافَقَ جَمَاعَةَ الْأُمَرَاءِ مُكْرَهًا، وَلِهَذَا لَمَّا أُودِعَ الْمُقْتَدِرُ فِي دَارِهِ لَمْ يَنَلْهُ مِنْهُ سُوءٌ، بَلْ كَانَ يُطَيِّبُ قَلْبَهُ، وَلَوْ شَاءَ لَقَتَلَهُ لَمَّا طُلِبَ مِنْ دَارِهِ، فَلِهَذَا لَمَّا عَادَ إِلَى الْخِلَافَةِ رَجَعَ إِلَى دَارِ مُؤْنِسٍ، فَبَاتَ بِهَا عِنْدَهُ لِثِقَتِهِ بِهِ. وَقَرَّرَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ عَلَى الْوِزَارَةِ، وَوَلَّى مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ أَبَا عُمَرَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَجَعَلَ مُحَمَّدًا أَخَاهُ - وَهُوَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ - عِنْدَ وَالِدَتِهِ بِصِفَةِ مُحْتَبَسٍ عِنْدَهَا، فَكَانَتْ تُحْسِنُ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ، وَتَشْتَرِي لَهُ السَّرَارِي وَتُكْرِمُهُ غَايَةَ الْإِكْرَامِ.

ذِكْرُ أَخْذِ الْقَرَامِطَةِ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَى الْحَجِيجِ، لَعَنَ اللَّهُ الْقَرَامِطَةَ
فِيهَا خَرَجَ رَكْبُ الْعِرَاقِ وَأَمِيرُهُمْ مَنْصُورٌ الدَّيْلَمِيُّ، فَوَصَلُوا إِلَى مَكَّةَ سَالِمِينَ، وَتَوَافَتِ الرُّكُوبُ هُنَاكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَمَا شَعَرُوا إِلَّا بِالْقِرْمِطِيِّ قَدْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي جَمَاعَتِهِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَانْتَهَبَ أَمْوَالَهُمْ، وَاسْتَبَاحَ قِتَالَهُمْ، فَقَتَلَ النَّاسَ فِي رِحَابِ مَكَّةَ وَشِعَابِهَا حَتَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَفِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَجَلَسَ أَمِيرُهُمْ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ - لَعَنَهُ اللَّهُ - عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، وَالرِّجَالُ تُصْرَعُ حَوْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، ثُمَّ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْرَفِ الْأَيَّامِ، وَهُوَ

يَقُولُ:
أَنَا بِاللَّهِ وَبِاللَّهِ أَنَا يَخْلُقُ الْخَلْقَ وَأُفْنِيهِمْ أَنَا
فَكَانَ النَّاسُ يَفِرُّونَ فَيَتَعَلَّقُونَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَلَا يُجْدِي ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا، بَلْ يُقْتَلُونَ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَيَطُوفُونَ فَيُقْتَلُونَ فِي الطَّوَافِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَوْمَئِذٍ يَطُوفُ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ أَخَذَتْهُ السُّيُوفُ، فَلَمَّا وَجَبَ، أَنْشَدَ وَهُوَ كَذَلِكَ:
تَرَى الْمُحِبِّينَ صَرْعَى فِي دِيَارِهِمُ كَفِتْيَةِ الْكَهْفِ لَا يَدْرُونَ كَمْ لَبِثُوا
ثُمَّ أَمَرَ الْقِرْمِطِيُّ - لَعَنَهُ اللَّهُ - أَنْ تُدْفَنَ الْقَتْلَى بِبِئْرِ زَمْزَمَ، وَدَفَنَ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي أَمَاكِنِهِمْ وَحَتَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - وَيَا حَبَّذَا تِلْكَ الْقِتْلَةُ وَتِلْكَ الضِّجْعَةُ - وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُكَفَّنُوا، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ مِنْ خِيَارِ الشُّهَدَاءِ، وَهَدَمَ قُبَّةَ زَمْزَمَ، وَأَمَرَ بِقَلْعِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَنَزَعَ كُسْوَتَهَا عَنْهَا، وَشَقَّقَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَصْعَدَ إِلَى مِيزَابِ الْكَعْبَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَقْتَلِعَهُ، فَسَقَطَ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَمَاتَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَصَارَ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، فَانْكَفَّ اللَّعِينُ عِنْدَ ذَلِكَ عَنِ الْمِيزَابِ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَنْ يُقْلَعَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَضَرَبَ الْحَجَرَ بِمُثْقَلٍ فِي يَدِهِ، وَقَالَ: أَيْنَ الطَّيْرُ الْأَبَابِيلُ ؟

أَيْنَ الْحِجَارَةُ مِنْ سِجِّيلٍ ؟ ثُمَّ قَلَعَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ - شَرَّفَهُ اللَّهُ وَكَرَّمَهُ وَعَظَّمَهُ - وَأَخَذُوهُ مَعَهُمْ حِينَ رَاحُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَكَانَ عِنْدَهُمْ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى رَدُّوهُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَلَمَّا رَجَعَ الْقِرْمِطِيُّ إِلَى بِلَادِهِ، تَبِعَهُ أَمِيرُ مَكَّةَ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَجُنْدُهُ وَسَأَلَهُ وَتَشَفَّعَ إِلَيْهِ فِي أَنْ يَرُدَّ الْحَجَرَ لِيُوضَعَ فِي مَكَانِهِ، وَبَذَلَ لَهُ جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَلَمْ يَفْعَلْ - لَعَنَهُ اللَّهُ - فَقَاتَلَهُ أَمِيرُ مَكَّةَ فَقَتَلَهُ الْقِرْمِطِيُّ، وَقَتَلَ أَكْثَرَ أَهْلِهِ وَجُنْدِهِ، وَاسْتَمَرَّ ذَاهِبًا إِلَى بِلَادِهِ وَمَعَهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَأَمْوَالُ الْحَجِيجِ.
وَقَدْ أَلْحَدَ هَذَا اللَّعِينُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلْحَادًا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا يَلْحَقُهُ فِيهِ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلَا يَوْثِقُ وِثَاقَهُ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا حَمَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ ; أَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا زَنَادِقَةً، وَقَدْ كَانُوا مُمَالِئِينِ لِلْفَاطِمِيِّينَ الَّذِينَ نَبَغُوا فِي هَذِهِ السِّنِينَ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ مِنْ أَرْضِ الْمَغْرِبِ، وَيُلَقَّبُ أَمِيرُهُمْ بِالْمَهْدِيِّ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبِيدُ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحُ، وَقَدْ كَانَ صَبَّاغًا بِسَلَمْيَةَ يَهُودِيًّا، فَادَّعَى أَنَّهُ أَسْلَمَ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَادَّعَى أَنَّهُ شَرِيفٌ فَاطِمِيٌّ، فَصَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْجَهَلَةِ، وَصَارَتْ لَهُ دَوْلَةٌ فَمَلَكَ مَدِينَةَ سِجِلْمَاسَةَ ثُمَّ ابْتَنَى مَدِينَةً وَسَمَّاهَا الْمَهْدِيَّةَ وَكَانَ قَرَارُ مُلْكِهِ بِهَا، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْقَرَامِطَةُ يُرَاسِلُونَهُ وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ وَيَتَرَامَوْنَ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ: إِنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ سِيَاسَةً وَدَوْلَةً لَا حَقِيقَةَ لَهُ.

وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ الْمَهْدِيَّ هَذَا كَتَبَ إِلَى أَبِي طَاهِرٍ الْقِرْمِطِيِّ يَلُومُهُ عَلَى فِعْلِهِ بِمَكَّةَ، حَيْثُ سَلَّطَ النَّاسَ عَلَى الْكَلَامِ فِي عِرْضِهِمْ، وَانْكَشَفَتْ أَسْرَارُهُمُ الَّتِي كَانُوا يُبْطِنُونَهَا بِمَا ظَهَرَ مِنْ صَنِيعِهِمْ هَذَا الْقَبِيحَ، وَأَمَرَهُ بِرَدِّ مَا أَخَذَهُ مِنْهَا، وَعَوْدِهِ إِلَيْهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ قَبِلَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ أُسِرَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي أَيْدِي الْقَرَامِطَةِ، فَمَكَثَ فِي أَيْدِيهِمْ مُدَّةً، ثُمَّ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ يَحْكِي أَنَّ الَّذِي أَسَرَهُ كَانَ يَسْتَخْدِمُهُ فِي أَشَقِّ الْخِدْمَةِ وَأَشَدِّهَا، وَكَانَ يُعَرْبِدُ عَلَيْهِ إِذَا سَكِرَ، فَقَالَ لِي ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ سَكْرَانُ: مَا تَقَولُ فِي مُحَمَّدِكُمْ ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ: كَانَ رَجُلًا سَائِسًا. ثُمَّ قَالَ: مَا تَقَولُ فِي أَبِي بَكْرٍ ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي، فَقَالَ: كَانَ ضَعِيفًا مَهِينًا، وَكَانَ عُمَرُ فَظًّا غَلِيظًا، وَكَانَ عُثْمَانُ جَاهِلًا أَحْمَقَ، وَكَانَ عَلِيٌّ مُمَخْرَقًا، أَلَيْسَ كَانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ يُعَلِّمُهُ مَا ادَّعَى أَنَّهُ فِي صَدْرِهِ مِنَ الْعِلْمِ ؟ أَمَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَلِّمَ هَذَا كَلِمَةً وَهَذَا كَلِمَةً ؟ ثُمَّ قَالَ: هَذَا كُلُّهُ مَخْرَقَةٌ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَ لِي: لَا تُخْبِرْ بِهَذَا الَّذِي قُلْتُهُ لَكَ أَحَدًا. رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ ".
وَرَوَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَوْمَ اقْتُلِعَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ وَهُوَ سَكْرَانُ، رَاكِبٌ عَلَى فَرَسِهِ، فَصَفَّرَ لَهَا حَتَّى بَالَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي مَكَانِ الطَّوَافِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى رَجُلٍ كَانَ إِلَى جَانِبِي فَقَتَلَهُ

ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا حَمِيرُ، أَلَيْسَ قُلْتُمْ فِي بَيْتِكُمْ هَذَا وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [ آلُ عِمْرَانَ: 97 ] فَأَيْنَ الْأَمْنُ ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَتَسْمَعُ جَوَابًا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: إِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ: فَأَمِّنُوهُ. قَالَ: فَثَنَى رَأْسَ فَرَسِهِ وَانْصَرَفَ.
وَقَدْ سَأَلَ بَعْضُهُمْ هَاهُنَا سُؤَالًا فَقَالَ: قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ - وَكَانُوا نَصَارَى، وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْهُمْ - مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ حَيْثُ يَقُولُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَرَامِطَةَ شَرٌّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، بَلْ وَمِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ، فَهَلَّا عُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ، كَمَا عُوجِلَ أَصْحَابُ الْفِيلِ ؟ وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ أَصْحَابَ الْفِيلِ إِنَّمَا عُوقِبُوا إِظْهَارًا لِشَرَفِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَلِمَا يُرَادُ بِهِ مِنَ التَّشْرِيفِ وَالتَّعْظِيمِ بِإِرْسَالِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ هَذَا الْبَيْتُ فِيهِ ; لِيُعْلَمَ شَرَفُ هَذَا الرَّسُولِ الْكَرِيمِ الَّذِي هُوَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَمَّا أَرَادَ هَؤُلَاءِ إِهَانَةَ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الَّتِي يُرَادُ تَشْرِيفُهَا عَمَّا قَرِيبٍ، أَهْلَكَهُمْ سَرِيعًا عَاجِلًا، غَيْرَ آجِلٍ، كَمَا ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا كَانَ بَعْدَ تَقْرِيرِ الشَّرَائِعِ وَتَمْهِيدِ الْقَوَاعِدِ، وَالْعِلْمِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ اللَّهِ بِشَرَفِ مَكَّةَ وَالْكَعْبَةِ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَكْبَرِ الْمُلْحِدِينَ الْكَافِرِينَ ; بِمَا تَبَيَّنَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ

رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجِ الْحَالُ إِلَى مُعَاجَلَتِهِمْ بِالْعُقُوبَةِ، بَلْ أَخَّرَهُمُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُمْهِلُ وَيُمْلِي وَيَسْتَدْرِجُ، ثُمَّ يَأْخُذُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لِيُمْلِيَ لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ثُمَّ قَرَأَ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هُودٌ: 102 ]
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ ; إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [ إِبْرَاهِيمُ: 42 ] وَقَالَ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [ آلِ عِمْرَانَ: 196، 197 ] وَقَالَ تَعَالَى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [ لُقْمَانَ: 24 ] وَقَالَ: مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [ يُونُسَ: 70 ].
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ بَيْنَ أَصْحَابِ أَبِي بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ الْحَنْبَلِيِّ وَبَيْنَ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَامَّةِ، اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [ الْإِسْرَاءِ: 79 ] فَقَالَتِ الْحَنَابِلَةُ: يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْعَرْشِ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى، فَاقْتَتَلُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ

قَتْلَى، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى، يُشَفَّعُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَنْ يَأْتِيَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْمَقَامُ الَّذِي يَرْغَبُ إِلَيْهِ فِيهِ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَيَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِالْمَوْصِلِ بَيْنَ الْعَامَّةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْمَعَاشِ، وَانْتَشَرَتْ، وَكَثُرَ أَهْلُ الشَّرِّ فِيهَا وَاسْتَظْهَرُوا، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ شُرُورٌ، ثُمَّ سَكَنَتْ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِبِلَادِ خُرَاسَانَ بَيْنَ بَنِي سَامَانَ وَأَمِيرِهِمْ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُلَقَّبِ بِالسَّعِيدِ.
وَخَرَجَ فِي شَعْبَانَ خَارِجِيٌّ بِالْمَوْصِلِ، وَخَرَجَ آخَرُ بِالْبَوَازِيجِ، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ حَتَّى سَكَنَ شَرُّهُمْ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُمْ.
وَفِيهَا الْتَقَى مُفْلِحٌ السَّاجِيُّ وَمَلِكُ الرُّومِ الدُّمُسْتُقُ، فَهَزَمَهُ مُفْلِحٌ وَطَرَدَ وَرَاءَهُ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بِبَغْدَادَ، تَحْمِلُ رَمْلًا أَحْمَرَ يُشْبِهُ رَمْلَ أَرْضِ الْحِجَازِ، فَامْتَلَأَتْ مِنْهُ الْبُيُوتُ.

 

ج1.صحيح مسلم مقدمة محمد فؤاد عبد الباقي ومقدمة الإمام مسلم رحمه الله

    مقدمة محمد فؤاد عبد الباقي     مقدمة الإمام مسلم رحمه الله كِتَابُ الْإِيمَانَ كِتَابِ الطَّهَارَةِ كِتَابُ الْحَيْضِ كِتَابُ الص...