ج27.
البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْفَرَجِ بْنِ شُقَيْرٍ أَبُو بَكْرٍ النَّحْوِيُّ
كَانَ عَالِمًا بِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَلَهُ فِيهِ تَصَانِيفُ.
أَحْمَدُ بْنُ مَهْدِيِّ بْنِ رُسْتُمَ
الْعَابِدُ الزَّاهِدُ، أَنْفَقَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ
دِرْهَمٍ، وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يَأْوِي إِلَى فِرَاشٍ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ بِسَنَدِهِ عَنْهُ، أَنَّهُ جَاءَتْهُ
امْرَأَةٌ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَتْ لَهُ: إِنِّي قَدِ امْتُحِنْتُ بِمِحْنَةٍ،
أُكْرِهْتُ عَلَى الزِّنَى وَأَنَا حُبْلَى مِنْهُ، وَقَدْ تَسَتَّرْتُ بِكَ
وَزَعَمْتُ أَنَّكَ زَوْجِي، وَأَنَّ هَذَا الْحَمْلَ مِنْكَ، فَاسْتُرْنِي
سَتَرَكَ اللَّهُ وَلَا تَفْضَحْنِي. فَسَكَتَ عَنْهَا، فَلَمَّا وَضَعَتْ
جَاءَنِي أَهْلُ الْمَحَلَّةِ وَإِمَامُ مَسْجِدِهِمْ يُهَنِّئُونَنِي
بِالْوَلَدِ، فَأَظْهَرْتُ الْبِشْرَ، وَبَعَثْتُ فَاشْتَرَيْتُ بِدِينَارَيْنِ
شَيْئًا حُلْوًا وَجَعَلْتُ أُرْسِلُ إِلَيْهَا مَعَ إِمَامِ الْمَسْجِدِ كُلَّ
شَهْرٍ دِينَارَيْنِ صِفَةَ نَفَقَةِ الْوَلَدِ، وَأَقُولُ: أَقْرِئْهَا مِنِّي
السَّلَامَ، فَإِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي مَا فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا.
فَمَكَثَتْ كَذَلِكَ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلُودُ، فَجَاءُونِي
يُعَزُّونَنِي فِيهِ، فَأَظْهَرْتُ التَّغَمُّمَ وَالْحُزْنَ عَلَيْهِ، ثُمَّ
جَاءَتْنِي الْمَرْأَةُ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي كُنْتُ أُرْسِلُ بِهَا إِلَيْهَا
قَدْ جَعَلَتْهَا عِنْدَهَا، فَقَالَتْ لِي: سَتَرَكَ اللَّهُ وَجَزَاكَ خَيْرًا،
وَهَذِهِ الدَّنَانِيرُ الَّتِي كُنْتَ تُرْسِلُ بِهَا. فَقُلْتُ: يَا هَذِهِ،
إِنِّي إِنَّمَا كُنْتُ
أُرْسِلُ
بِهَا صِلَةً لِلْوَلَدِ، فَخُذِيهَا فَافْعَلِي بِهَا مَا شِئْتِ.
بَدْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ خَلَفِ بْنِ خَالِدِ بْنِ رَاشِدِ بْنِ الضَّحَّاكِ
بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُحَرِّقِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، أَبُو
الْقَاسِمِ اللَّخْمِيُّ الْقَاضِي الْكُوفِيُّ
نَزَلَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ
سَمَاعُهُ لِلْحَدِيثِ بَعْدَ مَا جَاوَزَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ ثِقَةً
نَبِيلًا، عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِالْكُوفَةِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ بْنِ
سَابُورَ بْنِ شَاهِنْشَاهْ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ بِنْتِ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
- وَقِيلَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ - وَمِائَتَيْنِ، وَرَأَى أَبَا عُبَيْدٍ الْقَاسِمَ
بْنَ سَلَّامٍ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَسَمِعَ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ،
وَخَلَفِ بْنِ هِشَامٍ الْبَزَّارِ، وَخَلْقٍ، وَكَانَ مَعَهُ جُزْءٌ فِيهِ
سَمَاعُهُ مِنَ ابْنِ مَعِينٍ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ مُوسَى بْنُ هَارُونَ
الْحَافِظُ، فَرَمَاهُ فِي دِجْلَةَ، وَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ
الثَّلَاثَةِ ؟! وَقَدْ تَفَرَّدَ عَنْ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ شَيْخًا، وَكَانَ
ثِقَةً حَافِظًا ضَابِطًا، رَوَى عَنِ الْحُفَّاظِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ.
قَالَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْحَافِظُ: كَانَ ابْنُ مَنِيعٍ ثِقَةً صَدُوقًا،
فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ
هَاهُنَا
نَاسًا يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَقَالَ: يَحْسُدُونَهُ، ابْنُ مَنِيعٍ لَا يَقُولُ
إِلَّا الْحَقَّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ: يَدْخُلُ فِي الصَّحِيحِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ الْبَغَوِيُّ، قَلَّمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى الْحَدِيثِ،
فَإِذَا تَكَلَّمَ كَانَ كَلَامُهُ كَالْمِسْمَارِ فِي السَّاجِ. وَقَدْ ذَكَرَهُ
ابْنُ عَدِيٍّ فِي " كَامِلِهِ " فَتَكَلَّمَ فِيهِ، وَقَالَ: حَدَّثَ
بِأَشْيَاءَ أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَعَهُ طَرَفٌ مِنْ مَعْرِفَةِ
الْحَدِيثِ وَالتَّصَانِيفِ. وَقَدِ انْتُدِبَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ لِلرَّدِّ عَلَى
ابْنِ عَدِيٍّ فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ عِيدِ
الْفِطْرِ مِنْهَا، وَقَدِ اسْتَكْمَلَ مِائَةَ سَنَةٍ وَثَلَاثَ سِنِينَ
وَشُهُورًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْأَسْنَانِ،
يَطَأُ الْإِمَاءَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ
التِّبْنِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ الشَّهِيدُ
الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ الْهَرَوِيُّ
يُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي سَعْدٍ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، وَحَدَّثَ عَنْهُ ابْنُ الْمُظَفَّرِ
الْحَافِظُ، وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ،
لَهُ مُنَاقَشَاتٌ عَلَى بِضْعَةٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا مِنْ " صَحِيحِ
مُسْلِمٍ
"، قَتَلَتْهُ الْقَرَامِطَةُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَتَلُوا، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ،
وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مُتَقَلَّبَهُ وَمَثْوَاهُ.
الْكَعْبِيُّ الْمُتَكَلِّمُ
هُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْمُودٍ الْبَلْخِيُّ
الْكَعْبِيُّ، نِسْبَةً إِلَى بَنِي كَعْبٍ، وَهُوَ أَحَدُ مَشَايِخِ
الْمُعْتَزِلَةِ، وَتُنْسَبُ إِلَيْهِ الطَّائِفَةُ الْكَعْبِيَّةُ مِنْهُمْ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ مِنْ كِبَارِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَهُ
اخْتِيَارَاتٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ ; مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ
أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى تَقَعُ بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُ وَلَا مَشِيئَةٍ.
هَكَذَا أَوْرَدَهُ عَنْهُ، وَقَدْ خَالَفَ الْكَعْبِيُّ نَصَّ الْقُرْآنِ فِي
غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
وَيَخْتَارُ [ الْقَصَصِ: 68 ] وَقَالَ: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [
الْأَنْعَامِ: 112 ] وَقَالَ: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [
السَّجْدَةِ: 13 ] وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا
تَدْمِيرًا [ الْإِسْرَاءِ: 16 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ
بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ وَزِيرَهُ أَبَا عَلِيِّ بْنِ
مُقْلَةَ، فَكَانَتْ مُدَّةُ وِزَارَتِهِ سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ، وَاسْتَوْزَرَ مَكَانَهُ سُلَيْمَانَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ مَخْلَدٍ،
وَجَعَلَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى نَاظِرًا مَعَهُ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا أُحْرِقَتْ دَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ،
وَكَانَ قَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَانْتَهَبَ النَّاسُ
أَخْشَابَهَا وَمَا وَجَدُوا فِيهَا مِنْ حَدِيدٍ وَرَصَاصٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَصَادَرَهُ الْخَلِيفَةُ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِيهَا طَرَدَ الْخَلِيفَةُ الرَّجَّالَةَ الَّذِينَ كَانُوا بِدَارِ
الْخِلَافَةِ عَنْ بَغْدَادَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَدُّوا الْمُقْتَدِرَ
إِلَى الْخِلَافَةِ شَرَعُوا يُنَفِّسُونَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ عَلَيْهِ ;
يَقُولُونَ: مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سُلِّطَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَصْعَدَ الْحِمَارَ
إِلَى السَّطْحِ يَقْدِرُ يُنْزِلُهُ. فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ عَنْ بَغْدَادَ
وَمَنْ أَقَامَ مِنْهُمْ عُوقِبَ، فَأُحْرِقَتْ دَوْرٌ كَثِيرَةٌ مِنْ
قَرَابَاتِهِمْ، وَاحْتَرَقَ بَعْضُ نِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، فَخَرَجُوا
مِنْهَا فِي غَايَةِ الْإِهَانَةِ، فَنَزَلُوا وَاسِطًا وَتَغَلَّبُوا عَلَيْهَا،
وَأَخْرَجُوا عَامِلَهَا مِنْهَا، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ
فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقَا كَثِيرًا، فَلَمْ
تَقُمْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ رَايَةٌ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ بْنَ
حَمْدَانَ عَنِ الْمَوْصِلِ وَوَلَّى
عَلَيْهَا
عَمَّيْهِ سَعِيدًا وَنَصْرًا ابْنَيْ حَمْدَانَ. وَوَلَّاهُ دِيَارَ رَبِيعَةَ
نَصِيبِينَ وَسِنْجَارَ وَالْخَابُورَ وَرَأْسَ الْعَيْنِ وَمَعَهَا
مَيَّافَارِقِينَ وَأَرْزَنَ، ضَمِنَ ذَلِكَ مِنَ الْخَلِيفَةِ بِمَالٍ يَحْمِلُهُ
فِي كُلِّ سَنَةٍ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى خَرَجَ رَجُلٌ بِبِلَادِ الْبَوَازِيجِ يُقَالُ لَهُ:
صَالِحُ بْنُ مَحْمُودٍ. فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي مَالِكٍ،
ثُمَّ سَارَ إِلَى سِنْجَارَ، فَحَاصَرَهَا، فَدَخَلَهَا، وَأَخَذَ شَيْئًا كَثِيرًا
مِنْ أَمْوَالِهَا، وَخَطَبَ بِهَا خُطْبَةً، وَوَعَظَ فِيهَا وَذَكَّرَ
وَحَذَّرَ، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا قَالَ: نَتَوَلَّى الشَّيْخَيْنِ،
وَنَتَبَرَّأُ مِنَ الْخَبِيثَيْنِ، وَلَا نَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
ثُمَّ سَارَ فَعَاثَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا. فَانْتُدِبَ لَهُ نَصْرُ بْنُ
حَمْدَانَ، فَقَاتَلَهُ، فَأُسِرَ صَالِحُ بْنُ مَحْمُودٍ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ،
فَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا، وَقَدِ اشْتُهِرَ شُهْرَةً فَظِيعَةً.
وَخَرَجَ آخَرُ بِبِلَادِ الْمَوْصِلِ فَاتَّبَعَهُ أَلْفُ رَجُلٍ، فَحَاصَرَ
أَهْلَ نَصِيبِينَ فَخَرَجُوا إِلَيْهِ فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ
مِائَةً وَأَسَرَ أَلْفًا، ثُمَّ بَاعَهُمْ نُفُوسَهُمْ، وَصَادَرَ أَهْلَهَا
بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَانْتُدِبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ
حَمْدَانَ، فَقَاتَلَهُ فَظَفِرَ بِهِ فَأَسَرَهُ، وَسَيَّرَهُ إِلَى بَغْدَادَ
أَيْضًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا خَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى ابْنِهِ هَارُونَ، وَرَكِبَ مَعَهُ الْوَزِيرُ
وَالْجَيْشُ، وَأَعْطَاهُ نِيَابَةَ فَارِسَ وَكَرْمَانَ وَسِجِسْتَانَ
وَمُكْرَانَ، وَخَلَعَ عَلَى ابْنِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ الرَّاضِي، وَجَعَلَهُ
نَائِبَ بِلَادِ الْمَغْرِبِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ، وَيَكُونُ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ
يَسُدُّ عَنْهُ أُمُورَهَا.
وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ السَّمِيعِ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ الْهَاشِمِيُّ، وَخَرَجَ الْحَجِيجُ بِخُفَارَةٍ وَبَذْرَقَةٍ حَتَّى
سَلِمُوا فِي الذَّهَابِ وَالْإِيَابِ مِنَ الْقَرَامِطَةِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ بْنِ حَسَّانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ
أَبُو جَعْفَرَ التَّنُوخِيُّ
الْقَاضِي الْحَنَفِيُّ، الْعَدْلُ الثِّقَةُ الرَّضِيُّ، وَكَانَ فَقِيهًا ثِقَةً
نَبِيلًا، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَرَوَى عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ حَدِيثًا
وَاحِدًا، وَكَانَ عَالِمًا بِالنَّحْوِ، فَصِيحَ الْعِبَارَةِ، جَيِّدَ
الشِّعْرِ، مَحْمُودًا فِي الْأَحْكَامِ. اتَّفَقَ أَنَّ السَّيِّدَةَ أُمَّ
الْمُقْتَدِرِ وَقَفَتْ وَقْفًا، وَجَعَلَ الْحَاكِمُ هَذَا عِنْدَهُ نُسْخَةً
بِهِ فِي سَلَّةِ الْحُكْمِ، ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَنْقُضَ ذَلِكَ الْوَقْفَ،
فَطَلَبَتِ الْحَاكِمَ وَأَنْ يُحْضِرَ مَعَهُ كِتَابَ الْوَقْفِ، لِتَأْخُذَهُ
مِنْهُ فَتَعْدِمَهُ، فَلَمَّا حَضَرَ مِنْ وَرَاءِ السِّتَارَةِ، فَهِمَ
الْمَقْصُودَ، فَقَالَ لَهَا: لَا يُمْكِنُ هَذَا ; لِأَنِّي خَازِنُ
الْمُسْلِمِينَ، فَإِمَّا أَنْ تَعْزِلُونِي عَنِ الْقَضَاءِ وَتُوَلُّوا عَلَى
هَذَا غَيْرِي، وَإِمَّا أَنْ تَتْرُكُوا هَذَا الَّذِي تُرِيدُونَهُ، فَلَا
سَبِيلَ إِلَيْهِ وَأَنَا حَاكِمٌ. فَشَكَتْهُ إِلَى وَلَدِهَا الْمُقْتَدِرِ،
فَشَفَعَ عِنْدَهُ الْمُقْتَدِرُ فِي ذَلِكَ، فَذَكَرَ لَهُ صُورَةَ الْحَالِ
فَرَجَعَ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِمَّنْ يُرْغَبُ
فِيهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى عَزْلِهِ وَلَا التَّلَاعُبِ بِهِ. فَرَضِيَتْ عَنْهُ،
وَبَعَثَتْ تَشْكُرُهُ عَلَى مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَنْ قَدَّمَ
أَمْرَ اللَّهِ عَلَى
أَمْرِ
الْعِبَادِ كَفَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمْ. وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ
مَوْلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَكَتَبَ
وَسَمِعَ وَحَفِظَ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْحِفَّاظِ وَشُيُوخِ الرِّوَايَةِ،
وَكَتَبَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ تَدُلُّ عَلَى
حِفْظِهِ وَفِقْهِهِ وَفَهْمِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً.
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بَشَّارِ بْنِ زِيَادٍ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْعَلَّافِ، الضَّرِيرُ النَّهْرَوَانِيُّ، الشَّاعِرُ
الْمَشْهُورُ، وَكَانَ أَحَدَ سُمَّارِ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ،
وَلَهُ مَرْثَاةٌ طَنَّانَةٌ فِي هِرٍّ لَهُ قَتَلَهُ جِيرَانُهُ ; لِأَكْلِهِ
أَفْرَاخَ الْحَمَامِ مِنْ أَبْرَاجِهِمْ، وَفِيهَا آدَابٌ وَرِقَّةٌ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ أَرَادَ بِهَا رِثَاءَ ابْنِ الْمُعْتَزِّ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَجَاسَرْ
أَنْ يَنْسِبَهَا إِلَيْهِ مِنَ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ حِينَ قَتَلَهُ،
وَأَوَّلُهَا:
يَا هِرُّ فَارَقْتَنَا وَلَمْ تَعُدِ وَكُنْتَ عِنْدِي بِمَنْزِلِ الْوَلَدِ
وَهِيَ خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ بَيْتًا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ الْحَجِيجُ بَغْدَادَ وَقَدْ
خَرَجَ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ إِلَى الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جَيْشٍ
كَثِيفٍ، خَوْفًا مِنَ الْقَرَامِطَةِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ،
وَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ يَوْمَئِذٍ، وَضُرِبَتِ الْخِيَامُ وَالْقِبَابُ لِمُؤْنِسٍ
الْخَادِمِ، وَقَدْ بَلَغَ مُؤْنِسًا فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ أَنَّ
الْقَرَامِطَةَ أَمَامَهُ، فَعَدَلَ بِالنَّاسِ عَنْ جَادَّةِ الطَّرِيقِ،
فَأَخَذَ بِهِمْ فِي شِعَابٍ وَأَوْدِيَةٍ، فَتَاهُوا هُنَالِكَ أَيَّامًا،
فَشَاهَدَ النَّاسُ هُنَالِكَ عَجَائِبَ وَغَرَائِبَ ; رَأَوْا عِظَامًا فِي
غَايَةِ الضَّخَامَةِ، وَشَاهَدُوا نَاسًا قَدْ مُسِخُوا حِجَارَةً، وَرَأَى
بَعْضُهُمُ امْرَأَةً وَاقِفَةً عَلَى تَنُّورٍ قَدْ مُسِخَتْ حَجَرًا
وَالتَّنُّورَ قَدْ صَارَ حَجَرًا، وَحَمَلَ مُؤْنِسٌ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا
كَثِيرًا إِلَى الْحَضْرَةِ لِيُصَدَّقَ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ. ذَكَرَهُ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ ". فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ مِنْ
قَوْمِ عَادٍ أَوْ مِنْ ثَمُودَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمُقْتَدِرُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ الْوَزِيرَ بَعْدَ
سَنَةٍ وَشَهْرَيْنِ وَتِسْعَةِ أَيَّامٍ، وَاسْتَوْزَرَ مَكَانَهُ أَبَا
الْقَاسِمِ عَبِيدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْكَلْوَذَانِيَّ، ثُمَّ عَزَلَهُ
بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَاسْتَوْزَرَ الْحُسَيْنَ بْنَ
الْقَاسِمِ، ثُمَّ عَزَلَهُ أَيْضًا.
وَفِيهَا
وَقَعَتْ وَحْشَةٌ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَمُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، بِسَبَبِ أَنَّ
الْخَلِيفَةَ وَلَّى الْحِسْبَةَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتَ،
وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الشُّرْطَةِ أَيْضًا، فَقَالَ مُؤْنِسٌ: إِنَّ الْحِسْبَةَ
لَا يَتَوَلَّاهَا إِلَّا الْقُضَاةُ وَالْعُدُولُ، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ لَهَا،
وَلَمْ يَزَلْ بِالْخَلِيفَةِ حَتَّى عَزَلَ مُحَمَّدَ بْنَ يَاقُوتَ عَنِ
الْحِسْبَةِ وَالشُّرْطَةِ أَيْضًا، وَانْصَلَحَ الْحَالُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ
تَجَدَّدَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَمَا زَالَتْ تَتَزَايَدُ حَتَّى آلَ الْحَالُ إِلَى قَتْلِ الْمُقْتَدِرِ
بِاللَّهِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْقَعَ ثَمِلٌ مُتَوَلِّي طَرَسُوسَ بِالرُّومِ وَقْعَةً
عَظِيمَةً جِدًّا، قَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ نَحْوًا مِنْ
ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَغَنِمَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالدِّيبَاجِ شَيْئًا
كَثِيرًا جِدًّا، ثُمَّ أَوْقَعَ بِهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً كَذَلِكَ. وَكَتَبَ
ابْنُ الدَّيْرَانِيِّ الْأَرْمَنِيُّ إِلَى الرُّومِ يَحُضُّهُمْ عَلَى
الدُّخُولِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَوَعَدَهُمْ مِنْهُ النَّصْرَ
وَالْإِعَانَةَ، فَدَخَلُوا فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ جِدًّا، وَانْضَافَ
إِلَيْهِمُ الْأَرْمَنُ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ مُفْلِحٌ، غُلَامُ يُوسُفَ بْنِ
أَبِي السَّاجِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ نَائِبُ أَذْرَبِيجَانَ وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ
كَثِيرٌ مِنَ الْمُطَّوِّعَةِ، فَقَصَدَ أَوَّلًا بِلَادَ ابْنِ الدَّيْرَانِيِّ،
فَقَتَلَ مِنَ الْأَرْمَنِ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ، وَأَسَرَ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا، وَتَحَصَّنَ ابْنُ
الدَّيْرَانِيِّ بِقَلْعَةٍ لَهُ هُنَالِكَ، وَجَاءَتِ الرُّومُ، فَوَصَلُوا إِلَى
سُمَيْسَاطَ فَحَاصَرُوهَا، فَبَعَثَ أَهْلُهَا يَسْتَصْرِخُونَ بِسَعِيدِ بْنِ
حَمْدَانَ نَائِبِ الْمَوْصِلِ فَسَارَ إِلَيْهِمْ مُسْرِعًا، فَوَجَدَ الرُّومَ
قَدْ كَادُوا يَفْتَحُونَهَا، فَلَمَّا عَلِمُوا بِقُدُومِهِ أَجْلَوْا عَنْهَا
وَاجْتَازُوا بِمَلَطْيَةَ فَنَهَبُوهَا، وَرَجَعُوا خَاسِئِينَ إِلَى
بِلَادِهِمْ، وَمَعَهُمُ ابْنُ نَفِيسٍ الْمُتَنَصِّرُ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
بَغْدَادَ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. وَرَكِبَ ابْنُ حَمْدَانَ فِي
آثَارِ الرُّومِ، فَدَخَلَ
بِلَادَهُمْ،
فَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَغَنِمَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالٍ جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ
إِلَى تَكْرِيتَ ارْتَفَعَ فِي أَسْوَاقِهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ شِبْرًا، وَغَرِقَ
بِسَبَبِهِ أَرْبَعُمِائَةِ دَارٍ، وَخَلْقٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ،
حَتَّى كَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى يُدْفَنُونَ جَمِيعًا، لَا يُعْرَفُ
هَذَا مِنْ هَذَا.
قَالَ: وَفِيهَا هَاجَتْ بِالْمَوْصِلِ رِيحٌ فِيهَا حُمْرَةٌ، ثُمَّ اسْوَدَّتْ حَتَّى
كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يُبْصِرُ صَاحِبَهُ، وَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ الْقِيَامَةَ
قَدْ قَامَتْ، ثُمَّ انْجَلَى ذَلِكَ بِمَطَرٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحُسَيْنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْأَنْطَاكِيُّ
قَاضِي ثُغُورِ الشَّامِ يُعْرَفُ بِابْنِ الصَّابُونِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً
نَبِيلًا، قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا.
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَرْبِ بْنِ عِيسَى، أَبُو عُبَيْدِ بْنِ
حَرْبُوَيْهِ
الْقَاضِي بِمِصْرَ، تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِمِصْرَ مُدَّةً طَوِيلَةً جِدًّا،
وَكَانَ ثِقَةً عَالِمًا جَلِيلًا، مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ وَأَعْدَلِهِمْ،
وَكَانَ يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي ثَوْرٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي
"
طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ، وَقَدِ
اسْتَعْفَى عَنِ الْقَضَاءِ، فَعُزِلَ عَنْهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ بِهَا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ
الْإِصْطَخْرِيُّ، وَدُفِنَ بِدَارِهِ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ
فِي الصَّحِيحِ، وَلَعَلَّهُ مَاتَ قَبْلَهُ بِعِشْرِينَ سَنَةً، وَذَكَرَ مِنْ
جَلَالَتِهِ وَفَضْلِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيُّ
الزَّاهِدُ
حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَخْطُ فِيهَا خُطْوَةً
لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا نَظَرَ فِي شَيْءٍ فَاسْتَحْسَنَهُ ; حَيَاءً مِنَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ مَكَثَ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَمْ يُمْلِ عَلَى
مَلَكَيْهِ قَبِيحًا.
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَبُو الْحُسَيْنِ الْوَرَّاقُ
صَاحِبُ أَبِي عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيِّ، وَكَانَ فَقِيهًا يَتَكَلَّمُ عَلَى
الْمُعَامَلَاتِ.
وَمِنْ جَيِّدِ كَلَامِهِ قَوْلُهُ: مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ مُحَرَّمٍ،
أَوْرَثَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ حِكْمَةً عَلَى لِسَانِهِ يَهْتَدِي بِهَا
سَامِعُوهُ، وَمَنْ غَضَّ نَفْسَهُ عَنْ شُبْهَةٍ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ نُورًا
يَهْتَدِي بِهِ إِلَى طَرِيقِ مَرْضَاةِ اللَّهِ.
يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، أَبُو زَكَرِيَّا الْفَارِسِيُّ
كَتَبَ بِمِصْرَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا حَسَنَ
الصَّلَاةِ، عَدْلًا عِنْدَ الْحُكَّامِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَكَانَ سَبَبُ
ذَلِكَ أَنَّ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ مُغَاضِبًا لِلْخَلِيفَةِ فِي مَمَالِيكِهِ وَحَشَمِهِ،
مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْمَوْصِلِ وَرَدَّ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ مَوْلَاهُ
بُشْرَى إِلَى الْمُقْتَدِرِ لِيَسْتَعْلِمَ لَهُ، وَبَعَثَ مَعَهُ رِسَالَةً
يُخَاطِبُ بِهَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا وَصَلَ أَمْرُهُ الْوَزِيرَ
الْحُسَيْنَ بْنَ الْقَاسِمِ - وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَعْدَاءِ مُؤْنِسٍ - بِأَنْ
يُؤَدِّيَهَا إِلَيْهِ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا إِلَّا إِلَى الْخَلِيفَةِ،
فَأَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَهَا لِلْوَزِيرِ،
فَامْتَنَعَ، وَقَالَ: مَا أَمَرَنِي صَاحِبِي بِهَذَا. فَشَتَمَهُ الْوَزِيرُ
وَشَتَمَ صَاحِبَهُ، وَأَمَرَ بِضَرْبِهِ وَمُصَادَرَتِهِ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَأَخَذَ خَطَّهُ بِهَا، وَأَمَرَ بِنَهْبِ دَارِهِ، ثُمَّ أَمَرَ
الْوَزِيرُ بِالْقَبْضِ عَلَى أَقْطَاعِ مُؤْنِسٍ وَأَمْلَاكِهِ وَأَمْلَاكِ مَنْ
مَعَهُ، فَحُصِّلَ مِنْ ذَلِكَ مَالٌ عَظِيمٌ، وَارْتَفَعَ أَمْرُ الْوَزِيرِ
عِنْدَ الْمُقْتَدِرِ، وَلَقَّبَهُ عَمِيدَ الدَّوْلَةِ، وَضَرَبَ اسْمَهُ عَلَى
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَتَمَكَّنَ مِنَ الْأُمُورِ جِدًّا، فَعَزَلَ
وَوَلَّى، وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَفَرِحَ بِنَفْسِهِ حِينًا قَلِيلًا. وَأَرْسَلَ
إِلَى هَارُونَ بْنِ غَرِيبٍ فِي الْحَالِ، وَإِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتَ
يَسْتَحْضِرُهُمَا إِلَى الْحَضْرَةِ، عِوَضًا عَنْ مُؤْنِسٍ، فَصَمَّمَ
الْمُظَفَّرُ مُؤْنِسٌ فِي مَسِيرِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ وَجَعَلَ يَقُولُ
لِأُمَرَاءَ الْأَعْرَابِ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ قَدْ وَلَّانِي الْمَوْصِلَ
وَدِيَارَ رَبِيعَةَ. فَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ،
وَجَعَلَ يُنْفِقُ فِيهِمُ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ، وَلَهُ إِلَيْهِمْ قَبْلَ
ذَلِكَ أَيَادٍ سَابِغَةٌ.
وَقَدْ كَتَبَ الْوَزِيرُ إِلَى آلِ حَمْدَانَ - وَهُمْ وَلَاةُ الْمَوْصِلِ
وَتِلْكَ النَّوَاحِي - يَأْمُرُهُمْ بِمُحَارَبَةِ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ
فَرَكِبُوا إِلَيْهِ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَوَاجَهَهُمْ مُؤْنِسٌ فِي
ثَمَانِمِائَةٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ وَخَدَمِهِ، فَهَزَمَهُمْ وَلَمْ يُقْتَلْ
مِنْهُمْ سِوَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُقَالُ لَهُ: دَاوُدُ، كَانَ مِنْ أَشْجَعِهِمْ،
وَقَدْ كَانَ مُؤْنِسٌ رَبَّاهُ وَهُوَ صَغِيرٌ. وَدَخَلَ مُؤْنِسٌ الْمَوْصِلَ
فَقَصَدَتْهُ الْعَسَاكِرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يَدْخُلُونَ فِي طَاعَتِهِ ;
لِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَالشَّامِ
وَمِصْرَ وَمِنَ الْأَعْرَابِ، حَتَّى صَارَ فِي جَحَافِلَ مِنَ الْجُنُودِ.
وَأَمَّا الْوَزِيرُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ، فَإِنَّهُ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ
وَعَجْزُهُ، فَعَزَلَهُ الْمُقْتَدِرُ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَوَلَّى مَكَانَهُ
الْفَضْلَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، فَكَانَ آخِرَ وُزَرَاءِ
الْمُقْتَدِرِ. وَأَقَامَ مُؤْنِسٌ بِالْمَوْصِلِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَكِبَ
فِي الْجُيُوشِ فِي شَوَّالٍ قَاصِدًا بَغْدَادَ ; لِيُطَالِبَ الْمُقْتَدِرَ
بِأَرْزَاقِ الْأَجْنَادِ وَإِنْصَافِهِمْ، فَسَارَ - وَقَدْ بَعَثَ بَيْنَ
يَدَيْهِ الطَّلَائِعَ - حَتَّى جَاءَ فَنَزَلَ بِبَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ مِنْ
بَغْدَادَ وَقَابَلَهُ عِنْدَهُ ابْنُ يَاقُوتَ وَهَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ - عَنْ
كُرْهٍ مِنْهُ - وَأُشِيرَ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِأَنْ يَسْتَدِينَ مِنْ
وَالِدَتِهِ مَا يُنْفِقُ فِي الْأَجْنَادِ، فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ عِنْدَهَا
شَيْءٌ، وَعَزَمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْهَرَبِ إِلَى وَاسِطٍ وَأَنْ يَتْرُكَ
بَغْدَادَ لِمُؤْنِسٍ حَتَّى يَتَرَاجَعَ أَمْرُ النَّاسِ، ثُمَّ يَعُودُ
إِلَيْهَا. فَرَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ ابْنُ يَاقُوتَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمُوَاجَهَةِ
مُؤْنِسٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ مَتَى مَا رَأَوْهُ كَرُّوا كُلُّهُمْ
إِلَيْهِ، وَتَرَكُوا مُؤْنِسًا، فَرَكِبَ وَهُوَ كَارِهٌ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ
الْفُقَهَاءُ، وَمَعَهُمُ
الْمَصَاحِفُ مُنَشَّرَةً، وَعَلَيْهِ الْبُرْدُ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَوَقَفَ عَلَى تَلٍّ عَالٍ بَعِيدٍ مِنَ الْمَعْرَكَةِ وَنُودِيَ فِي جَيْشِهِ: مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَمَنْ جَاءَ بِأَسِيرٍ فَلَهُ عَشْرَةُ دَنَانِيرَ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ أُمَرَاؤُهُ يَعْزِمُونَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ، فَامْتَنَعَ مِنَ التَّقَدُّمِ إِلَى مَحَلَّةِ الْمَعْرَكَةِ، ثُمَّ أَلَحُّوا عَلَيْهِ، فَجَاءَ بَعْدَ تَمَنُّعٍ شَدِيدٍ، فَمَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ حَتَّى انْهَزَمُوا وَفَرُّوا رَاجِعِينَ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَلَا عَطَفُوا عَلَيْهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَهُ مِنْ أُمَرَاءِ مُؤْنِسٍ عَلِيُّ بْنُ يَلْبَقَ، فَلَمَّا رَآهُ تَرَجَّلَ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَشَارَ عَلَيْكَ بِالْخُرُوجِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، ثُمَّ وَكَّلَ بِهِ قَوْمًا مِنَ الْمَغَارِبَةِ الْبَرْبَرِ، فَلَمَّا تَرَكَهُمْ وَإِيَّاهُ شَهَرُوا عَلَيْهِ السِّلَاحَ، فَقَالَ لَهُمْ: وَيْلَكُمْ ! أَنَا الْخَلِيفَةُ. فَقَالُوا: قَدْ عَرَفْنَاكَ يَا سَفِلَةُ، إِنَّمَا أَنْتَ خَلِيفَةُ إِبْلِيسَ، تُنَادِي فِي جَيْشِكَ: مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَمَنْ جَاءَ بِأَسِيرٍ فَلَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ؟! وَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ بِسَيْفِهِ عَلَى عَاتِقِهِ، فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَذَبَحَهُ آخَرُ، وَتَرَكُوا جُثَّتَهُ، وَقَدْ سَلَبُوهُ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ عَلَيْهِ، حَتَّى سَرَاوِيلَهُ، وَبَقِيَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ مُجَدَّلًا عَلَى الْأَرْضِ، حَتَّى جَاءَ رَجُلٌ فَغَطَّى عَوْرَتَهُ بِحَشِيشٍ، ثُمَّ دَفَنَهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَعَفَّا أَثَرَهُ. وَأَخَذَتِ الْمَغَارِبَةُ رَأْسَ الْمُقْتَدِرِ عَلَى خَشَبَةٍ قَدْ رَفَعُوهَا وَهُمْ يَلْعَنُونَهُ، فَلَمَّا انْتَهَوْا بِهِ إِلَى مُؤْنِسٍ - وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا الْوَقْعَةَ - فَحِينَ نَظَرَ إِلَى رَأْسِ الْمُقْتَدِرِ لَطَمَ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ، وَقَالَ: وَيْلَكُمْ ! لَمْ آمُرْكُمْ بِهَذَا، لَعَنَكُمُ اللَّهُ قَتَلْتُمُوهُ ! وَاللَّهِ لَنُقْتَلَنَّ كُلَّنَا. ثُمَّ رَكِبَ وَوَقَفَ عِنْدَ دَارِ الْخِلَافَةِ حَتَّى لَا تُنْهَبَ، وَهَرَبَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ الْمُقْتَدِرِ وَهَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ وَابْنَا رَائِقٍ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَكَانَ صَنِيعُ مُؤْنِسٍ هَذَا سَبَبًا لِطَمَعِ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ فِي الْخُلَفَاءِ، وَضَعْفِ أَمْرِ الْخِلَافَةِ جِدًّا، مَعَ مَا كَانَ الْمُقْتَدِرُ يَعْتَمِدُهُ مِنَ التَّبْذِيرِ وَالتَّفْرِيطِ فِي الْأَمْوَالِ، وَطَاعَةِ النِّسَاءِ، وَعَزْلِ الْوُزَرَاءِ، حَتَّى
قِيلَ
إِنَّ جُمْلَةَ مَا صَرَفَهُ فِي الْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّبْذِيرِ مَا
يُقَارِبُ ثَمَانِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
هُوَ جَعْفَرٌ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ بْنُ الْمُعْتَضِدِ
بِاللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بْنِ جَعْفَرٍ
الْمُتَوَكِّلِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ
مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ يُكَنَّى أَبَا
الْفَضْلِ الْعَبَّاسِيَّ، مَوْلِدُهُ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ لِثَمَانٍ بَقِينَ
مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأُمُّهُ أُمُّ
وَلَدٍ اسْمُهَا شَغَبُ، وَلُقِّبَتْ فِي خِلَافَةِ وَلَدِهَا بِالسَّيِّدَةِ،
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ الْمُكْتَفِي يَوْمَ الْأَحَدِ
لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ وَشَهْرٍ
وَأَيَّامٍ ; وَلِهَذَا أَرَادَ الْجُنْدُ خَلْعَهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ
سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ مُحْتَجِّينَ بِصِغَرِهِ وَعَدَمِ بُلُوغِهِ،
وَتَوْلِيَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ، فَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ،
وَانْتَقَضَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ لَمَّا كَانَ
شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ مِنْ سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
أَحْضَرَهُ مُؤْنِسٌ وَاجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ وَالْقُوَّادُ وَأَلْزَمُوهُ
بِخَلْعِ نَفْسِهِ، وَأَحْضَرُوا أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُعْتَضِدِ،
فَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ وَلَقَّبُوهُ الْقَاهِرَ، فَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ سِوَى
يَوْمَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى الْخِلَافَةِ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ كَانَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ، حَسَنَ
الْوَجْهِ
وَالْعَيْنَيْنِ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، حَسَنَ الشَّعْرِ،
مُدَوَّرَ الْوَجْهِ، مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ، حَسَنَ الْخُلُقِ، قَدْ شَابَ
رَأْسُهُ وَعَارِضَاهُ، وَقَدْ كَانَ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، لَهُ عَقْلٌ
جَيِّدٌ وَفَهْمٌ وَافِرٌ وَذِهْنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ كَانَ كَثِيرَ التَّحَجُّبِ وَالتَّوَسُّعِ فِي النَّفَقَاتِ، وَزَادَ فِي
رُسُومِ الْخِلَافَةِ وَأُمُورِ الرِّيَاسَةِ، وَمَا زَادَ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ.
كَانَ فِي دَارِهِ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفِ خَادِمٍ خَصِيٍّ، غَيْرَ الصَّقَالِبَةِ
وَالرُّومِ وَالسُّودَانِ، وَكَانَ لَهُ دَارٌ يُقَالُ لَهَا: دَارُ الشَّجَرَةِ،
فِيهَا مِنَ الْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، كَمَا ذَكَرْنَا
ذَلِكَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ مَلِكِ الرُّومِ.
وَقَدْ رَكِبَ الْمُقْتَدِرُ يَوْمًا فِي حَرَّاقَةٍ، وَجَعَلَ يَسْتَعْجِلُ
الطَّعَامَ فَأَبْطَئُوا بِهِ، فَقَالَ لِمَلَّاحِ حَرَّاقَتِهِ: وَيْلَكَ !
أَعِنْدَكَ شَيْءٌ نَأْكُلُهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَتَاهُ بِشَيْءٍ مِنْ لَحْمِ
الْجَدْيِ وَخُبْزٍ حَسَنٍ وَمُلُوحَاتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَعْجَبَهُ، ثُمَّ
اسْتَدْعَاهُ، فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ مِنَ الْحَلْوَاءِ ; فَإِنِّي لَا
أُحِسُّ بِالشِّبَعِ حَتَّى آكُلَ شَيْئًا مِنَ الْحَلْوَاءِ ؟ فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا حَلَاوَتُنَا التَّمْرُ وَالْكَسْبُ. فَقَالَ:
هَذَا شَيْءٌ لَا أُطِيقُهُ. ثُمَّ جِيءَ بِطَعَامِهِ، فَأَكَلَ مِنْهُ وَأُتِيَ
بِالْحَلْوَاءِ، فَأَكَلَ وَأَطْعَمَ الْمَلَّاحِينَ، وَأَمَرَ بِتَرْتِيبِ
حَلَاوَةٍ تُعْمَلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَكُونُ فِي الْحَرَّاقَةِ بِنَحْوِ
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، إِذَا اتَّفَقَ رُكُوبُهُ فِيهَا يَأْكُلُ مِنْهَا، فَكَانَ
الْمَلَّاحُ يَأْخُذُ ذَلِكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مُدَّةَ سِنِينَ مُتَعَدِّدَةٍ،
وَلَمْ يَتَّفِقْ رُكُوبُ الْمُقْتَدِرِ فِيهَا مَرَّةً أُخْرَى.
وَقَدْ أَرَادَ بَعْضُ خَوَاصِّهِ أَنْ يُطَهِّرَ وَلَدَهُ، فَعَمِلَ أَشْيَاءَ
هَائِلَةً، ثُمَّ طَلَبَ مِنْ أُمِّ
الْخَلِيفَةِ
أَنْ يُعَارَ الْقَرْيَةَ الَّتِي عُمِلَتْ فِي طُهُورِ الْمُقْتَدِرِ مِنْ
فِضَّةٍ ; لِيَرَاهَا النَّاسُ فِي هَذَا الْمُهِمِّ، فَتَلَطَّفَتْ أُمُّ
الْمُقْتَدِرِ عِنْدَهُ حَتَّى أَطْلَقَهَا لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَانَتْ
صِفَةَ قَرْيَةٍ مِنَ الْقُرَى كُلُّهَا مِنْ فِضَّةٍ، بُيُوتُهَا، وَأَهَالِيهَا،
وَأَبْقَارُهَا، وَأَغْنَامُهَا، وَجِمَالُهَا، وَخُيُولُهَا، وَزُرُوعُهَا،
وَثِمَارُهَا، وَأَنْهَارُهَا، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِي
الْقُرَى، الْجَمِيعُ مِنْ فِضَّةٍ مُصَوَّرٌ، وَأَمَرَ بِنَقْلِ سِمَاطِهِ إِلَى
دَارِ هَذَا الرَّجُلِ، وَأَنْ لَا يُكَلَّفَ شَيْئًا مِنَ الْمَطَاعِمِ سِوَى
سَمَكٍ طَرِيٍّ فَاشْتَرَى الرَّجُلُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ سَمَكًا، وَكَانَ
جُمْلَةُ مَا أُنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى سِمَاطِ الْمُقْتَدِرِ يَوْمَئِذٍ أَلْفًا
وَخَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ.
وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ
وَأَرْبَابِ الْوَظَائِفِ، وَكَانَ كَثِيرَ التَّنَفُّلِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ
وَالْعِبَادَةِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُؤْثِرًا لِشَهَوَاتِهِ، مُطِيعًا
لِحَظِيَّاتِهِ، كَثِيرَ التَّلَوُّنِ وَالْوِلَايَةِ وَالْعَزْلِ، وَمَا زَالَ ذَلِكَ
دَأْبَهُ حَتَّى كَانَ هَلَاكُهُ عَلَى يَدَيْ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ كَمَا
ذَكَرْنَا، فَقُتِلَ عِنْدَ بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ
شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ عِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ -
وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَشَهْرٌ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ،
وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ
شَهْرًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَكَانَ أَكْثَرَ مُدَّةً مِمَّنْ
تَقَدَّمَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ.
خِلَافَةُ الْقَاهِرِ
لَمَّا قُتِلَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ كَمَا ذَكَرْنَا عَزْمَ مُؤْنِسٌ
الْخَادِمُ عَلَى تَوْلِيَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ
الْمُقْتَدِرِ بَعْدَ أَبِيهِ ; لِيُطَيِّبَ قَلْبَ أُمِّ الْمُقْتَدِرِ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ جُمْهُورُ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النُّوبَخْتِيُّ: بَعْدَ التَّعَبِ وَالْكَدِّ نُبَايِعُ لِخَلِيفَةٍ لَهُ أَمٌّ وَخَالَاتٌ يُطِيعُهُنَّ وَيُشَاوِرُهُنَّ ؟! ثُمَّ أَحْضَرَ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُعْتَضِدِ - وَهُوَ أَخُو الْمُقْتَدِرِ - فَبَايَعَهُ الْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ، وَلَقَّبُوهُ الْقَاهِرَ بِاللَّهِ، وَذَلِكَ فِي سَحَرِ يَوْمِ الْخَمِيسِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، سَنَةَ عِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَاسْتُوزِرَ لَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ، ثُمَّ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثُمَّ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْخَصِيبُ وَشَرَعَ الْقَاهِرُ فِي مُصَادَرَةِ أَصْحَابِ الْمُقْتَدِرِ وَتَتَبُّعِ أَوْلَادِهِ، وَاسْتَدْعَى بِأُمِّ الْمُقْتَدِرِ وَهِيَ مَرِيضَةٌ بِالِاسْتِسْقَاءِ، وَقَدْ تَزَايَدَ بِهَا الْوَجَعُ مِنْ شِدَّةِ جَزَعِهَا عَلَى وَلَدِهَا حِينَ بَلَغَهَا قَتْلُهُ، وَكَيْفَ بَقِيَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، فَبَقِيَتْ أَيَّامًا لَا تَأْكُلُ شَيْئًا، ثُمَّ وَعَظَهَا النِّسَاءُ حَتَّى أَكَلَتْ شَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الْخُبْزِ وَالْمِلْحِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ اسْتَدْعَى بِهَا الْقَاهِرُ، فَقَرَّرَهَا عَلَى أَمْوَالِهَا، فَذَكَرَتْ لَهُ مَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْمَصَاغِ وَالثِّيَابِ، وَلَمْ تُقِرَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ، وَقَالَتْ لَهُ: لَوْ كَانَ عِنْدِي مِنْ هَذَا شَيْءٌ مَا سَلَّمْتُ وَلَدِي. فَأَمَرَ بِضَرْبِهَا وَعُلِّقَتْ بِرِجْلَيْهَا وَمَسَّهَا بِعَذَابٍ شَدِيدٍ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَأَشْهَدَتْ عَلَى نَفْسِهَا بِبَيْعِ أَمْلَاكِهَا، فَأَخَذَهُ الْجُنْدُ مِمَّا يُحَاسِبُونَ بِهِ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ، وَأَرَادَهَا عَلَى بَيْعِ أَوْقَافِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ، وَأَبَتْ أَشَدَّ الْإِبَاءِ، وَاسْتَدْعَى الْقَاهِرُ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَوْلَادِ الْمُقْتَدِرِ، مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ الرَّاضِي، وَهَارُونُ، وَالْعَبَّاسُ، وَعَلِيٌّ، وَالْفَضْلُ، وَإِبْرَاهِيمُ، فَأَمَرَ بِمُصَادَرَتِهِمْ وَحَبْسِهِمْ وَسَلَّمَهُمْ إِلَى حَاجِبِهِ عَلِيِّ بْنِ يَلْبَقَ، وَتَمَكَّنَ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ، فَعَزَلَ وَوَلَّى، وَأَخَذَ وَأَعْطَى أَيَّامًا، وَمَنَعَ
بَنِي
الْبَرِيدِيِّ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ جَوْصَاءَ، أَبُو الْحَسَنِ الدِّمَشْقِيُّ
أَحَدُ الْمُحَدِّثِينَ الْحُفَّاظِ، وَالرُّوَاةِ الْأَيْقَاظِ.
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَطْحَاءَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مُقْلَةَ، أَبُو إِسْحَاقَ التَّمِيمِيُّ
الْمُحْتَسِبُ بِبَغْدَادَ، رَوَى عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ
حَرْبٍ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا، مَرَّ يَوْمًا عَلَى بَابِ
الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ وَالْخُصُومُ عُكُوفٌ عَلَى
بَابِهِ، وَالشَّمْسُ قَدِ ارْتَفَعَتْ عَلَيْهِمْ، فَبَعَثَ حَاجِبَهُ إِلَيْهِ
يَقُولُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَخْرُجَ فَتَفْصِلَ بَيْنَهُمْ، وَإِمَّا أَنْ
تَبْعَثَ فَتَعْتَذِرَ إِلَيْهِمْ إِنْ كَانَ لَكَ عُذْرٌ، حَتَّى يَعُودُوا إِلَيْكَ
بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ.
أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ، هُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ
صَالِحِ بْنِ خَيْرَانَ أَبُو عَلِيٍّ، الْفَقِيهُ الْكَبِيرُ الْوَرِعُ
الْبَارِعُ، عُرِضَ عَلَيْهِ مَنْصِبُ
الْقَضَاءِ
فَلَمْ يَقْبَلْ، فَخَتَمَ الْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى عَلَى بَابِهِ،
فَبَقِيَ كَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَمْ يَجِدْ أَهْلُهُ مَاءً إِلَّا
مِنْ بُيُوتِ الْجِيرَانِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ يَتَمَنَّعُ عَلَيْهِ
وَعَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَلِ لَهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ الْوَزِيرُ: إِنَّمَا
أَرَدْنَا أَنْ نُعَلِّمَ النَّاسَ أَنَّ بِبَلَدِنَا وَفِي مَمْلَكَتِنَا مَنْ
عُرِضَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْقُضَاةِ شَرْقًا وَغَرْبًا فَلَمْ يَقْبَلْ. وَقَدْ
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا
تَرْجَمَتَهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَدِيٍّ، الْفَقِيهُ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحُفَّاظِ الْمُحَدِّثِينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ
أَيْضًا فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ الْمَالِكِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ
أَبُو عُمَرَ الْقَاضِي بِبَغْدَادَ وَمُعَامَلَاتِهَا فِي سَائِرِ الْبِلَادِ،
كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَفَصَاحَةً وَبَلَاغَةً
وَعَقْلًا وَرِيَاسَةً، بِحَيْثُ كَانَ يُضْرَبُ بِعَقْلِهِ وَحِلْمِهِ الْمَثَلُ،
وَقَدْ رَوَى الْكَثِيرَ عَنِ الْمَشَايِخِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَحَمَلَ النَّاسُ عَنْهُ عِلْمًا كَثِيرًا مِنَ
الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، وَقَدْ جُمِعَ لَهُ قَضَاءُ الْقُضَاةِ فِي سَنَةِ سَبْعَ
عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَجَمَعَ مُسْنَدًا
حَافِلًا، وَكَانَ إِذَا جَلَسَ لِلْحَدِيثِ، جَلَسَ أَبُو الْقَاسِمِ
الْبَغَوِيُّ عَنْ يَمِينِهِ، وَهُوَ
قَرِيبٌ
مِنْ سِنِّ أَبِيهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ ابْنُ صَاعِدٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ أَبُو
بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، وَسَائِرُ الْحُفَّاظِ حَوْلَ سَرِيرِهِ مِنْ كُلِّ
جَانِبٍ.
قَالُوا: وَلَمْ يُنْتَقَدْ عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِهِ أَخْطَأَ فِيهِ.
قُلْتُ: وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ صَوَابِ أَحْكَامِهِ قَتْلُهُ الْحُسَيْنَ بْنَ
مَنْصُورٍ الْحَلَّاجَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ
تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ كَانَ جَمِيلَ الْأَخْلَاقِ، حَسَنَ الْمُعَاشَرَةِ، اجْتَمَعَ يَوْمًا
عِنْدَ أَصْحَابِهِ، فَجِيءَ بِثَوْبٍ فَاخِرٍ لِيَشْتَرِيَهُ بِنَحْوٍ مَنْ
خَمْسِينَ دِينَارًا، فَاسْتَحْسَنَهُ الْحَاضِرُونَ، فَاسْتَدْعَى
بِالْقَلَانِسِيِّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَ ذَلِكَ الثَّوْبَ قَلَانِسَ بِعَدَدِ
الْحَاضِرِينَ. وَلَهُ مَنَاقِبُ وَمَحَاسِنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ
وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: مَا
فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِدَعْوَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ
إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا أَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ رَجُلًا كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ
بِدِجْلَةَ، فَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَلْفَ سَوْطٍ، ثُمَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ
وَقُطِعَتْ أَيْدِيَ أَصْحَابِهِ وَأَرْجُلُهُمْ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ بِإِبْطَالِ الْخَمْرِ وَالْمَغَانِي
وَالْقِيَانِ، وَأَمَرَ بِبَيْعِ الْجَوَارِي الْمُغَنِّيَاتِ فِي سُوقِ النَّخْسِ
عَلَى أَنَّهُنَّ سَوَاذِجُ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَإِنَّمَا فَعَلَ
الْقَاهِرُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ مُحِبًّا لِلْغِنَاءِ، فَأَرَادَ أَنْ
يَشْتَرِيَ الْجَوَارِيَ الْمُغَنِّيَاتِ بِأَرْخَصِ الْأَثْمَانِ، نُعَوذُ
بِاللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ.
وَفِيهَا أَشَاعَتِ الْعَامَّةُ بَيْنَهُمْ بِأَنَّ الْحَاجِبَ عَلِيَّ بْنِ
يَلْبَقَ يُرِيدُ أَنْ يَلْعَنَ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمَنَابِرِ، فَلَمَّا بَلَغَ
ذَلِكَ الْحَاجِبَ بَعَثَ إِلَى رَئِيسِ الْحَنَابِلَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ
الْبَرْبَهَارِيِّ الْوَاعِظِ لِيُقَابِلَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَهَرَبَ وَاخْتَفَى،
فَأَمَرَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَحُدِرُوا إِلَى الْبَصْرَةِ.
وَفِيهَا عَظَّمَ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ وَخَاطَبَهُ
بِالِاحْتِرَامِ وَالْإِكْرَامِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ وَمُؤْنِسًا الْخَادِمَ
وَعْلَيَّ بْنَ يَلْبَقَ وَجَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ اشْتَوَرُوا فِيمَا
بَيْنَهُمْ عَلَى خَلْعِ الْقَاهِرِ بِاللَّهِ وَتَوْلِيَةِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ
الْمُكْتَفِي، وَبَايَعُوهُ فِيمَا
بَيْنَهُمْ سِرًّا، وَضَيَّقُوا عَلَى الْقَاهِرِ بِاللَّهِ فِي رِزْقِهِ وَمَنْ يَجْتَمِعُ بِهِ، وَأَرَادُوا الْقَبْضَ عَلَيْهِ سَرِيعًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ عَلَى يَدَيْ طَرِيفٍ السُّبْكَرِيِّ، فَسَعَى فِي الْقَبْضِ عَلَيْهِمْ، فَوَقَعَ فِي مَخَالِيبِهِ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ الْمُظَفَّرُ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ وَأَمَرَ بِحَبْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَالِاحْتِيَاطِ عَلَى دُورِهِ وَأَمْلَاكِهِ، وَكَانَتْ فِيهِ عَجَلَةٌ وَجُرْأَةٌ وَهَوَجٌ وَخَرَقٌ شَدِيدٌ، وَجَعَلَ فِي مَنْزِلَتِهِ - إِمْرَةِ الْأُمَرَاءِ وَرِيَاسَةِ الْجَيْشِ - طَرِيفًا السُّبْكَرِيَّ، وَقَدْ كَانَ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ عِنْدَ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَبَضَ عَلَى يَلْبَقَ، وَاخْتَفَى وَلَدُهُ عَلِيُّ بْنُ يَلْبَقَ، وَكَذَا هَرَبَ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ، فَاسْتَوْزَرَ بَدَلَهُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي مُسْتَهَلِّ شَعْبَانَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ بِتَحْرِيقِ دَارِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، وَوَقَعَ النَّهْبُ بِبَغْدَادَ، وَهَاجَتِ الْفِتْنَةُ، وَأَمَرَ الْقَاهِرُ بِأَنْ يُجْعَلَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ الْمُكْتَفِي بَيْنَ حَائِطَيْنِ، وَيُسَدَّ عَلَيْهِ بِالْآجُرِّ وَالْكِلْسِ وَهُوَ حَيٌّ، فَمَاتَ، وَأُرْسِلَ إِلَى الْمُخْتَفِينَ فَنَادَى: إِنَّ مَنْ أَخْفَاهُمْ خُرِّبَتْ دَارُهُ. فَوَقَعَ بِعَلِيِّ بْنِ يَلْبَقَ فَقَتَلَهُ، ذُبِحَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ، فَأُخِذَ رَأْسُهُ فِي طَسْتٍ، وَدَخَلَ الْقَاهِرُ بِنَفْسِهِ عَلَى أَبِيهِ يَلْبَقَ، فَوَضَعَ الرَّأْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ بَكَى، وَأَخَذَ يُقَبِّلُهُ وَيَتَرَشَّفُهُ، فَأَمَرَ بِذَبْحِهِ أَيْضًا فَذُبِحَ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّأْسَيْنِ فِي طَسْتَيْنِ، فَدَخَلَ بِهِمَا عَلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ فَلَمَّا رَآهُمَا تَشَهَّدَ وَلَعَنَ قَاتِلَهُمَا، فَقَالَ الْقَاهِرُ عِنْدَ ذَلِكَ: جُرُّوا بِرِجْلِ الْكَلْبِ. فَأُخِذَ فَذُبِحَ أَيْضًا، وَأُخِذَ رَأْسُهُ فَوُضِعَ فِي طَسْتٍ، وَطِيفَ بِالرُّءُوسِ فِي بَغْدَادَ وَنُودِيَ عَلَيْهِمْ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَخُونُ الْإِمَامَ، وَيَسْعَى فِي الدَّوْلَةِ فَسَادًا. ثُمَّ أُعِيدَتِ الرُّءُوسُ إِلَى خَزَائِنِ السِّلَاحِ.
وَفِي
ذِي الْقَعْدَةِ قَبَضَ الْقَاهِرُ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ
بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَسَجَنَهُ، وَكَانَ مَرِيضًا
بِالْقُولَنْجِ، فَبَقِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَمَاتَ، فَكَانَتْ
وِزَارَتُهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَاسْتَوْزَرَ
مَكَانَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ
الْخَصِيبِيَّ، ثُمَّ قَبَضَ عَلَى طَرِيفٍ السَّبْكَرِيِّ وَسَجَنَهُ، فَلَمْ
يَزَلِ السَّبْكَرِيُّ فِيهِ حَتَّى خُلِعَ الْقَاهِرُ.
وَفِيهَا جَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ تِكِينِ الْخَاصَّةِ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَأَنَّ
ابْنَهُ مُحَمَّدًا قَدْ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ فِيهَا، وَسَارَتِ الْخِلَعُ
إِلَيْهِ مِنَ الْقَاهِرِ بِاللَّهِ تَنْفِيذًا لِوِلَايَتِهِ وَاسْتِقْرَارِهَا.
ذِكْرُ ابْتِدَاءِ أَمْرِ بَنِي بُوَيْهِ وَظُهُورِ دَوْلَتِهِمْ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ
وَهُمْ ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ ; عِمَادُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ،
وَرُكْنُ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ، وَمُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو
الْحَسَنِ أَحْمَدُ، أَوْلَادُ أَبِي شُجَاعٍ بُوَيْهِ بْنِ فَنَّاخُسْرُو بْنِ
تَمَّامِ بْنِ كُوهَى بْنِ شِيرِزِيلَ الْأَصْغَرِ بْنِ شِيرِكِنْدَةَ بْنِ شِيرِزِيلَ
الْأَكْبَرِ بْنِ شِيرَانَ شَاهِ بْنِ شِيرَفَنَّهِ بْنِ سَسْتَانَ شَاهَ بْنِ
سِيسَ بْنِ فَيْرُوزَ بْنِ
شَرْوَزِيلَ بْنِ سَسْنَاذَرَ بْنِ بَهْرَامَ جُورَ الْمَلِكِ بْنِ يَزْدَجِرْدَ الْمَلِكِ بْنِ سَابُورَ الْمَلِكِ بْنِ سَابُورَ ذِي الْأَكْتَافِ الْفَارِسِيِّ. كَذَا نَسَبَهُمُ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا فِي " كِتَابِهِ ". وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُمُ: الدَّيَالِمَةُ ; لِأَنَّهُمْ جَاوَرُوا الدَّيْلَمَ، وَكَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مُدَّةً، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُمْ أَبُو شُجَاعٍ بُوَيْهِ فَقِيرًا مُدْقِعًا، يَصْطَادُ السَّمَكَ وَيَحْتَطِبُ بَنُوهُ الْحَطَبَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَمَاتَتِ امْرَأَتُهُ، وَخَلَّفَتْ لَهُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادَ الثَّلَاثَةَ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ شَهْرِيَارُ بْنُ رُسْتُمَ الدَّيْلَمِيُّ، إِذْ مَرَّ مُنَجِّمٌ فَاسْتَدْعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ مَنَامًا غَرِيبًا ; رَأَيْتُ كَأَنِّي أَبُولُ فَخَرَجَ مِنْ ذَكَرِي نَارٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى كَادَتْ تَبْلُغُ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ انْفَرَقَتْ ثَلَاثَ شُعَبٍ، ثُمَّ انْتَشَرَتْ كُلُّ شُعْبَةٍ إِلَى شُعَبٍ كَثِيرَةٍ، فَأَضَاءَتِ الدُّنْيَا بِتِلْكَ النَّارِ، وَرَأَيْتُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ قَدْ خَضَعَتْ لِهَذِهِ النَّارِ. فَقَالَ لَهُ الْمُنَجِّمُ: هَذَا مَنَامٌ عَظِيمٌ لَا أُفَسِّرُهُ لَكَ إِلَّا بِمَالٍ جَزِيلٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا شَيْءَ عِنْدِي أُعْطِيكَ، وَلَا أَمْلِكُ غَيْرَ فَرَسِي هَذِهِ. فَقَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ مِنْ صُلْبِكَ ثَلَاثَةُ مُلُوكٍ، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ سُلَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُلُوكٌ عِدَّةٌ. فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ ! أَتَسْخَرُ بِي ؟ وَأَمَرَ بَنِيهِ فَصَفَعُوهُ، ثُمَّ أَعْطَاهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ لَهُمُ الْمُنَجِّمُ: اذْكُرُوا هَذَا إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ مُلُوكٌ. وَخَرَجَ وَتَرَكَهُمْ. وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةَ الثَّلَاثَةَ كَانُوا عِنْدَ مَلِكٍ يُقَالُ لَهُ: مَاكَانُ بْنُ كَالِي. فِي بِلَادِ
طَبَرِسْتَانَ
فَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ مَرْدَاوِيجُ، فَضَعُفَ أَمْرُ مَاكَانَ، فَشَاوَرُوهُ فِي
مُفَارَقَتِهِ حَتَّى يَكُونَ مِنْ أَمْرِهِ خَيْرٌ، فَخَرَجُوا عَنْهُ وَمَعَهُمْ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَصَارُوا إِلَى مَرْدَاوِيجَ، فَأَكْرَمَهُمْ
وَاسْتَعْمَلَهُمْ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الْبُلْدَانِ، فَأَعْطَى عِمَادَ
الدَّوْلَةِ عَلِيَّ بْنَ بُوَيْهِ نِيَابَةَ الْكَرَجِ، فَأَحْسَنَ فِيهَا
السِّيرَةَ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ النَّاسُ وَأَحَبُّوهُ، فَحَسَدَهُ مَرْدَاوِيجُ،
وَبَعَثَ إِلَيْهِ يَعْزِلُهُ عَنْهَا، وَيَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ، فَامْتَنَعَ
مِنَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَصَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ فَحَارَبَهُ نَائِبُهَا،
فَقَهَرَهُ عِمَادُ الدَّوْلَةِ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ مَعَهُ
تِسْعُمِائَةِ فَارِسٍ، فَرَدَّ بِهَا عَشْرَةَ آلَافٍ، وَعَظُمَ فِي أَعْيُنِ
النَّاسِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مَرْدَاوِيجَ قَلِقَ مِنْهُ، وَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ جَيْشًا، فَأَخْرَجُوهُ مِنْ أَصْبَهَانَ وَقَصَدَ أَرَّجَانَ
فَأَخَذَهَا مِنْ نَائِبِهَا، وَحُصِّلَ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ
جِدًّا، ثُمَّ أَخَذَ بُلْدَانًا كَثِيرَةً، وَاشْتُهِرَ أَمْرُهُ وَبَعُدَ
صِيتُهُ وَحَسُنَتْ سِيرَتُهُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنَ الْجُنْدِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَقَدْ آلَ بِهِمُ الْحَالُ إِلَى أَنْ مَلَكُوا
بَغْدَادَ مِنْ أَيْدِي الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ، لَهُمُ الْقَطْعُ
وَالْوَصْلُ، وَالْوِلَايَةُ وَالْعَزْلُ، وَإِلَيْهِمْ تُجْبَى الْأَمْوَالُ،
وَيُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ وَالْأَحْوَالِ، عَلَى مَا
سَنَذْكُرُ ذَلِكَ مَبْسُوطًا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَالْمَحْمُودُ عَلَى
كُلِّ حَالٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الطَّحَاوِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ، أَبُو جَعْفَرٍ
الطَّحَاوِيُّ
نِسْبَةً إِلَى طَحَا وَهِيَ قَرْيَةٌ بِصَعِيدِ مِصْرَ، الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ،
صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفِيدَةِ وَالْفَوَائِدِ، وَهُوَ أَحَدُ الثِّقَاتِ
الْأَثْبَاتِ، وَالْحُفَّاظِ الْجَهَابِذَةِ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ الْمُزَنِيِّ -
رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَذَكَرَ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ أَنَّهُ وُلِدَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " أَنَّ سَبَبَ
انْتِقَالِهِ إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَرُجُوعِهِ عَنْ مَذْهَبِ خَالِهِ
الْمُزَنِيِّ، أَنَّ خَالَهُ قَالَ لَهُ يَوْمًا: وَاللَّهِ لَا يَجِيءُ مِنْكَ
شَيْءٌ. فَغَضِبَ وَاشْتَغَلَ عَلَى أَبِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ
الْحَنَفِيِّ، حَتَّى بَرَعَ وَفَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَصَنَّفَ كُتُبًا
كَثِيرَةً مِنْهَا " أَحْكَامُ الْقُرْآنِ " وَ " اخْتِلَافُ
الْعُلَمَاءِ " وَ " مَعَانِي الْآثَارِ " وَ " التَّارِيخُ
الْكَبِيرُ " وَلَهُ فِي الشُّرُوطِ كِتَابٌ، وَكَانَ بَارِعًا فِيهَا.
وَقَدْ كَتَبَ لِلْقَاضِي أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدَةَ،
وَعَدَّلَهُ الْقَاضِي أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ. وَكَانَ يَقُولُ: رَحِمَ
اللَّهُ الْمُزَنِيَّ، لَوْ كَانَ حَيًّا لَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ،
وَقَبْرُهُ مَشْهُورٌ بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَرْجَمَهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدِمَ دِمَشْقَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ
وَمِائَتَيْنِ،
وَأَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ قَاضِيهَا أَبِي خَازِمٍ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ النَّضْرِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ زَرْبِيٍّ، أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي حَامِدٍ
صَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ، سَمِعَ عَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَخَلْقًا، وَعَنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا جَوَادًا مُمَدَّحًا،
اتَّفَقَ فِي أَيَّامِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَانَتْ لَهُ
جَارِيَةٌ يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا، فَرَكِبَتْهُ دُيُونٌ كَثِيرَةٌ اقْتَضَى الْحَالُ
أَنْ بَاعَ تِلْكَ الْجَارِيَةَ فِي الدَّيْنِ، فَلَمَّا قَبَضَ ثَمَنَهَا نَدِمَ
نَدَامَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَبَقِيَ مُتَحَيِّرًا فِي أَمْرِهِ، فَبَاعَهَا
الَّذِي كَانَتْ عِنْدَهُ، فَبَلَغَ سَيِّدَهَا أَنَّ الْجَارِيَةَ قَدِ
اشْتَرَاهَا ابْنُ أَبِي حَامِدٍ صَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ، فَتَشَفَّعَ إِلَيْهِ
بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ فِي أَنْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ بِثَمَنِهَا، فَلَمَّا قَالَ
لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شُعُورٌ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ امْرَأَتَهُ
كَانَتِ اشْتَرَتْهَا لَهُ، وَلَمْ تُعْلِمْهُ بَعْدُ بِأَمْرِهَا حَتَّى تَحِلَّ
مِنَ اسْتِبْرَائِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ آخِرَهُ، فَلَبَّسُوهَا
الْحُلِيَّ وَالْمَصَاغَ، وَصَنَعُوهَا لَهُ، وَحِينَ شُفِعَ عِنْدَهُ فِي
أَمْرِهَا بُهِتَ ; لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهَا، ثُمَّ دَخَلَ يَسْتَكْشِفُ خَبَرَهَا
مِنْ مَنْزِلِهِ، فَإِذَا بِهَا قَدْ هُيِّئَتْ لَهُ وَزُخْرِفَتْ، فَفَرِحَ
فَرَحًا شَدِيدًا إِذْ وَجَدَهَا، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَأَخْرَجَهَا
مَعَهُ وَهُوَ يُظْهِرُ السُّرُورَ، فَقَالَ لِسَيِّدِهَا: هَذِهِ جَارِيَتُكَ ؟
فَلَمَّا رَآهَا اضْطَرَبَ كَلَامُهُ، وَاخْتَلَطَ فِي عَقْلِهِ مِمَّا رَأَى مِنْ
حُسْنِ مَنْظَرِهَا وَهَيْئَتِهَا، وَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: خُذْهَا، بَارَكَ
اللَّهُ لَكَ فِيهَا. فَفَرِحَ الْفَتَى فَرَحًا شَدِيدًا، وَقَالَ: يَا سَيِّدِي،
تَأْمُرُ مَنْ يَحْمِلُ مَعِي الْمَالَ ؟ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِ، وَأَنْتَ
فِي حِلٍّ مِنْهُ، فَإِنِّي
أَخْشَى
إِنْ لَمْ يَبْقَ مَعَكَ شَيْءٌ أَنْ تَبِيعَهَا ثَانِيَةً مِمَّنْ لَا يَرُدُّهَا
عَلَيْكَ. فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، فَهَذَا الْحُلِيُّ وَالْمَصَاغُ الَّذِي
عَلَيْهَا ؟ فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ وَهَبْنَاهُ لَهَا لَا نَعُودُ فِيهِ أَبَدًا.
فَاشْتَدَّ فَرَحُ الْفَتَى، وَأَخَذَهَا مَعَهُ، فَلَمَّا وَدَّعَ ابْنُ أَبِي
حَامِدٍ قَالَ لِلْجَارِيَةِ: أَيُّمَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكِ ; نَحْنُ أَوْ
سَيِّدُكِ هَذَا ؟ فَقَالَتْ: أَمَّا أَنْتُمْ فَأَغْنَيْتُمُونِي، فَجَزَاكُمُ
اللَّهُ خَيْرًا، وَأَمَّا سَيِّدِي هَذَا، فَلَوْ أَنِّي مَلَكْتُ مِنْهُ مَا
مَلَكَ مِنِّي لَمْ أَبِعْهُ بِالْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ. فَاسْتَحْسَنَ
الْحَاضِرُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهَا مَعَ صِغَرِ سِنِّهَا.
شَغَبُ أُمُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ الْمُلَقَّبَةُ
بِالسَّيِّدَةِ
كَانَ دَخْلُ أَمْلَاكِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَتْ
تَتَصَدَّقُ بِأَكْثَرِ ذَلِكَ عَلَى الْحَجِيجِ فِي أَشْرِبَةٍ وَأَزْوَادٍ
وَأَطِبَّاءَ يَكُونُونَ مَعَهُمْ، وَتَسْهِيلِ الطُّرُقَاتِ وَالْمَوَارِدِ.
وَكَانَتْ فِي غَايَةِ الْحِشْمَةِ وَالرِّيَاسَةِ وَنُفُوذِ الْكَلِمَةِ أَيَّامَ
خِلَافَةِ وَلَدِهَا، فَلَمَّا قُتِلَ كَانَتْ مَرِيضَةً فَزَادَهَا مَرَضًا إِلَى
مَرَضِهَا، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْقَاهِرِ فِي الْخِلَافَةِ - وَهُوَ ابْنُ
زَوْجِهَا الْمُعْتَضِدِ وَأَخُو ابْنِهَا، وَقَدْ كَانَتْ حَضَنَتْهُ حِينَ
تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ، وَخَلَّصَتْهُ مِنَ ابْنِهَا لَمَّا كَانَ مُؤْنِسٌ قَدْ
بَايَعَهُ وَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ - عَاقَبَهَا الْقَاهِرُ عُقُوبَةً عَظِيمَةً
جِدًّا، حَتَّى كَانَ يُعَلِّقُهَا بِرِجْلِهَا وَرَأْسُهَا مَنْكُوسٌ، فَرُبَّمَا
بَالَتْ، فَيَنْحَدِرُ عَلَى وَجْهِهَا ; لِيُقَرِّرَهَا عَلَى الْأَمْوَالِ
الَّتِي فِي يَدِهَا، فَلَمْ يَجِدْ لَهَا شَيْئًا سِوَى ثِيَابِهَا وَمَصَاغِهَا
وَحُلِيِّهَا فِي صَنَادِيقَ لَهَا، قِيمَتُهَا مِائَةُ أَلْفٍ وَثَلَاثُونَ
أَلْفَ دِينَارٍ، وَجَمِيعُ مَا كَانَ يَدْخُلُهَا تَتَصَدَّقُ بِهِ، وَوَقَفَتْ
شَيْئًا كَثِيرًا، وَلَكِنْ كَانَ لَهَا
أَمَلَاكٌ
أَمَرَ بِبَيْعِهَا، وَأَتَى بِالشُّهُودِ لِيَشْهَدُوا عَلَيْهَا بِالتَّوْكِيلِ
فِي بَيْعِهَا، فَامْتَنَعَ الشُّهُودُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حَتَّى
يُحَلُّوهَا، فَرُفِعَ السِّتْرُ بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ، فَقَالُوا لَهَا: أَنْتِ
شَغَبُ جَارِيَةُ الْمُعْتَضِدِ أُمُّ جَعْفَرٍ الْمُقْتَدِرِ ؟ فَبَكَتْ بُكَاءً
طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَتْ: نَعَمْ. وَكَتَبُوا حِلْيَتَهَا، عَجُوزٌ، سَمْرَاءُ
اللَّوْنِ، دَقِيقَةُ الْجَبِينِ. وَبَكَى الشُّهُودُ وَتَفَكَّرُوا فِي تَقَلُّبِ
الزَّمَانِ، وَتَنَقُّلِ الْحَدَثَانِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهَا فِي جُمَادَى
الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَتْ بِالرُّصَافَةِ. رَحِمَهَا اللَّهُ.
عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ سَلَامِ بْنِ
خَالِدِ بْنِ حُمْرَانَ بْنِ أَبَانٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَهُوَ
أَبُو هَاشِمِ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْجَبَائِيُّ
الْمُتَكَلِّمُ ابْنُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعْتَزِلِيُّ ابْنُ الْمُعْتَزِلِيِّ،
وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْبَهْشَمِيَّةُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةُ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ
فِي الِاعْتِزَالِ كَمَا لِأَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَكَانَ لَهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو
عَلِيٍّ. دَخَلَ يَوْمًا عَلَى الصَّاحِبِ بْنِ عَبَّادَ فَأَكْرَمَهُ
وَاحْتَرَمَهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: ( لَا أَعْرِفُ ) نِصْفُ
الْعِلْمِ. فَقَالَ: صَدَقْتَ وَسَبَقَكَ أَبُوكَ إِلَى النِّصْفِ الْآخَرِ !
مُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنِ بْنِ دُرَيْدِ بْنِ عَتَاهِيَةَ أَبُو بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ
الْأَزْدِيُّ
اللُّغَوِيُّ النَّحْوِيُّ الشَّاعِرُ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ، وُلِدَ
بِالْبَصْرَةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتَنَقَّلَ فِي
الْبِلَادِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ ذَوِي
الْيَسَارِ وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَقَدْ أَسَنَّ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ
تُوُفِّيَ. رَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَخِي الْأَصْمَعِيِّ، وَأَبِي
حَاتِمٍ، وَالرِّيَاشِيِّ. وَعَنْهُ أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ وَأَبُو بَكْرِ
بْنُ شَاذَانَ وَأَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَرْزُبَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَيُقَالُ: كَانَ أَعْلَمَ الشُّعَرَاءِ وَأَشْعَرَ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ كَانَ
مُتَهَتِّكًا فِي الشَّرَابِ، قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيُّ: دَخَلْتُ
عَلَيْهِ فَوَجَدْتُهُ سَكْرَانَ، فَلَمْ أَعُدْ إِلَيْهِ.
وَسُئِلَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، فَقَالَ: تَكَلَّمُوا فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ
شَاهِينَ: كُنَّا نَدْخُلُ عَلَيْهِ، فَنَسْتَحِي مِمَّا نَرَى مِنَ الْعِيدَانِ
الْمُعَلَّقَةِ وَالشَّرَابِ الْمُصَفَّى، وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ وَقَارَبَ
الْمِائَةَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ
بَقِيَتْ مِنْ شَعْبَانَ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي هَاشِمِ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ،
فَصُلِّيَ عَلَيْهِمَا مَعًا، وَدُفِنَا فِي مَقْبَرَةِ الْخَيْزُرَانِيَّةِ،
وَقَالَ النَّاسُ: مَاتَ الْيَوْمَ عِلْمُ اللُّغَةِ، وَعِلْمُ الْكَلَامِ.
وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا مَطِيرًا. وَمِنْ مُصَنَّفَاتِ ابْنِ دُرَيْدٍ "
الْجَمْهَرَةُ " فِي اللُّغَةِ، فِي نَحْوِ عَشْرِ مُجَلَّدَاتٍ، وَكِتَابُ
" الْمَطَرِ " وَالْمَقْصُورَةُ وَالْقَصِيدَةُ الْأُخْرَى فِي
الْمَقْصُورِ وَالْمَمْدُودِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، سَامِحَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا قَصَدَ مَلِكُ الرُّومِ مَلَطْيَةَ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا، فَحَاصَرَهَا،
ثُمَّ أَعْطَاهُمُ الْأَمَانَ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْهُمْ، فَقَتَلَ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَأَسَرَ مَا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ مَرْدَاوِيجَ قَدْ تَسَلَّمَ أَصْبَهَانَ
وَانْتَزَعَهَا مِنْ عَلِيِّ بْنِ بُوَيْهِ، وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ بُوَيْهِ
تَوَجَّهَ إِلَى أَرَّجَانَ فَأَخَذَهَا، وَقَدْ أَرْسَلَ ابْنُ بُوَيْهِ إِلَى
الْحَضْرَةِ الْخَلِيفِيَّةِ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعُونَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ
يُقَبِّلَ الْعَتَبَةَ الشَّرِيفَةَ وَيَحْضُرَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ إِنْ
رَسَمَ، أَوْ يَذْهَبَ إِلَى شِيرَازَ فَيَكُونَ مَعَ يَاقُوتَ. ثُمَّ اتَّفَقَ
الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ صَارَ إِلَى شِيرَازَ وَأَخَذَهَا مِنْ نَائِبِهَا
يَاقُوتَ بَعْدَ قِتَالٍ عَظِيمٍ ظَفِرَ فِيهِ ابْنُ بُوَيْهِ بِيَاقُوتَ
وَأَصْحَابِهِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَأَسَرَ جَمَاعَةً، فَلَمَّا
تَمَكَّنَ أَطْلَقَهُمْ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَعَدَلَ
فِي النَّاسِ.
وَكَانَتْ مَعَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ قَدِ اسْتَفَادَهَا مِنْ أَصْبَهَانَ
وَقَبْلَهَا مِنَ الْكَرَجِ وَمِنْ هَمَذَانَ وَغَيْرِهَا. إِلَّا أَنَّهُ كَانَ
كَرِيمًا جَوَادًا مِعْطَاءً لِلْجُيُوشِ الَّذِينَ قَدِ الْتَفُّوا عَلَيْهِ،
ثُمَّ
إِنَّهُ
أَمْلَقَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَهُوَ بِشِيرَازَ، وَطَالَبَهُ الْجُنْدُ بِأَرْزَاقِهِمْ،
وَخَافَ أَنْ يَنْحَلَّ نِظَامُ أَمْرِهِ، فَاسْتَلْقَى يَوْمًا عَلَى قَفَاهُ
مُفَكِّرًا فِي أَمْرِهِ، وَإِذَا حَيَّةٌ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ سَقْفِ الْمَكَانِ
الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَدَخَلَتْ فِي آخَرَ، فَأَمَرَ بِنَزْعِ تِلْكَ السُّقُوفِ،
فَوَجَدَ هُنَاكَ مَكَانًا فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا نَحْوٌ
مِنْ خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَنْفَقَ فِي جَيْشِهِ مَا أَرَادَ،
وَبَقِيَ عِنْدَهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ.
وَرَكِبَ ذَاتَ يَوْمٍ يَتَفَرَّجُ فِي خَرَابِ الْبَلَدِ، وَيَنْظُرُ إِلَى
أَبْنِيَةِ الْأَوَائِلِ، وَيَتَّعِظُ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ، فَانْخَسَفَتِ
الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِ قَائِمَةِ جَوَادِهِ، فَأَمَرَ فَحُفِرَ هُنَالِكَ فَوَجَدَ
مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا أَيْضًا.
وَاسْتَعْمَلَ عِنْدَ رَجُلٍ خَيَّاطٍ قُمَاشًا لِيَلْبَسَهُ، فَاسْتَبْطَأَهُ
فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ تَهَدَّدَهُ، وَكَانَ
الرَّجُلُ أَصَمَّ لَا يَسْمَعُ جَيِّدًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا لِابْنِ
يَاقُوتَ عِنْدِي سِوَى اثْنَيْ عَشَرَ صُنْدُوقًا، لَا أَدْرِي مَا فِيهَا.
فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهَا فَإِذَا فِيهَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ تُقَارِبُ
ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَاطَّلَعَ عَلَى وَدَائِعَ كَانَتْ لِيَعْقُوبَ وَعَمْرٍو ابْنَيِ اللَّيْثِ،
فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ كَثْرَةً، فَقَوِيَ
أَمْرُهُ، وَعَظُمَ سُلْطَانُهُ جِدًّا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْأُمُورِ
الْمُقَدَّرَةِ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ السَّعَادَةِ
الدُّنْيَوِيَّةِ. وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [ الْقَصَصِ: 68 ]
وَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [ الرُّومِ: 4 ].
وَكَتَبَ إِلَى الرَّاضِي وَوَزِيرِهِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ يَطْلُبُ أَنْ
يُقَاطَعَ عَلَى مَا قِبَلَهُ مِنَ الْبِلَادِ عَلَى أَلْفِ أَلْفٍ فِي كُلِّ
سَنَةٍ، فَأَجَابَهُ الرَّاضِي إِلَى ذَلِكَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ
وَاللِّوَاءِ
وَأُبَّهَةِ الْمُلْكِ.
وَفِيهَا قَتَلَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ أَمِيرَيْنِ كَبِيرَيْنِ ; وَهَمَا
إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النُّوبَخْتِيُّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ أَشَارَ
عَلَى الْأُمَرَاءِ بِخِلَافَةِ الْقَاهِرِ، وَأَبُو السَّرَايَا بْنُ حَمْدَانَ
أَصْغَرُ وَلَدِ أَبِيهِ، وَكَانَ فِي نَفْسِ الْقَاهِرِ مِنْهُمَا ; بِسَبَبِ
أَنَّهُمَا زَايَدَاهُ مَرَّةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ فِي
جَارِيَتَيْنِ مُغَنِّيَتَيْنِ، فَاسْتَدْعَاهُمَا إِلَى الْمُسَامَرَةِ
فَتَطَيَّبَا وَحَضَرَا، فَأَمَرَ بِإِلْقَائِهِمَا فِي بِئْرٍ هُنَالِكَ،
فَتَضَرَّعَا إِلَيْهِ فَلَمْ يَرْحَمْهُمَا، بَلْ أُلْقِيَا فِيهَا، وَطَيَّنَهَا
عَلَيْهِمَا.
ذِكْرُ خَلْعِ الْقَاهِرِ وَسَمْلِ عَيْنَيْهِ
وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْوَزِيرَ أَبَا عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ كَانَ قَدْ
هَرَبَ مِنَ الْقَاهِرِ حِينَ قَبَضَ عَلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، وَاخْتَفَى فِي
دَارِهِ، وَكَانَ يُرَاسِلُ الْجُنْدَ وَيُكَاتِبُهُمْ وَيُغْرِيهِمْ
بِالْقَاهِرِ، وَيُخَوِّفُهُمْ سَطْوَتَهُ وَإِقْدَامَهُ وَسُرْعَةَ بَطْشِهِ،
وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقَاهِرَ قَدْ أَعَدَّ لِأَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ أَمَاكِنَ
يَسْجِنُهُمْ فِيهَا، فَهَيَّجَهُمْ ذَلِكَ، وَأَشَبَهُمْ عَلَى الْقَبْضِ عَلَى
الْقَاهِرِ، فَاجْتَمَعُوا، وَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى مُنَاجَزَتِهِ فِي
هَذِهِ السَّاعَةِ، وَرَكِبُوا مَعَ الْأَمِيرِ الْمَعْرُوفِ بِسِيمَا، وَقَصَدُوا
دَارَ الْخِلَافَةِ فَأَحَاطُوا بِهَا، ثُمَّ هَجَمُوا عَلَى الْقَاهِرِ مِنْ
سَائِرِ أَبْوَابِهَا، فَخَرَجَ الْوَزِيرُ الْخَصِيبِيُّ مُسْتَتِرًا فِي زِيِّ
امْرَأَةٍ، وَانْهَزَمَ الْقَاهِرُ وَهُوَ مَخْمُورٌ، فَاخْتَفَى فِي سَطْحِ
حَمَّامٍ، فَظَهَرُوا عَلَيْهِ فَقَبَضُوهُ وَحَبَسُوهُ فِي مَكَانِ طَرِيفٍ
السُّبْكَرِيِّ، وَأَخْرَجُوا طَرِيفًا، وَاضْطَرَبَتْ بَغْدَادُ وَنُهِبَتْ،
وَذَلِكَ يَوْمَ
السَّبْتِ
لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ
أَحْضَرُوهُ، فَسَمَلُوا عَيْنَيْهِ حَتَّى سَالَتَا عَلَى خَدَّيْهِ، وَارْتُكِبَ
مِنْهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ
أَرْسَلُوهُ، فَكَانَ تَارَةً يُحْبَسُ، وَتَارَةً يُخَلَّى سَبِيلُهُ، وَقَدْ
تَأَخَّرَ مَوْتُهُ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَافْتَقَرَ
حَتَّى قَامَ يَوْمًا بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، فَسَأَلَ فَأَعْطَاهُ رَجُلٌ
خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا الصَّنِيعِ
التَّشْنِيعَ عَلَى الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَتَأْتِي
تَرْجَمَتُهُ إِذَا ذَكَرْنَا وَفَاتَهُ.
خِلَافَةُ الرَّاضِي بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ
بِاللَّهِ
لَمَّا خَلَعَتِ الْجُنْدُ الْقَاهِرَ وَسَمَلُوهُ، أَحْضَرُوا أَبَا الْعَبَّاسِ
مُحَمَّدَ بْنَ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الْخِلَافَةِ،
وَلَقَّبُوهُ الرَّاضِي بِاللَّهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ قَدْ أَشَارَ
بِأَنْ يُلَقَّبَ بِالْمَرْضِيِّ بِاللَّهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ وَعَدَلَ إِلَى هَذَا
اللَّقَبِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لَسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ - وَجَاءُوا بِالْقَاهِرِ وَهُوَ أَعْمَى قَدْ سُمِلَتْ
عَيْنَاهُ، فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ،
وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، فَقَامَ الرَّاضِي بِأَعْبَائِهَا، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ
الْخُلَفَاءِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ
مُقْلَةَ، فَوَلَّاهُ الْوِزَارَةَ، وَجَعَلَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى
نَاظِرًا
عَلَيْهِ، وَأَطْلَقَ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي حَبْسِ الْقَاهِرِ، وَاسْتَدْعَى
عِيسَى طَبِيبَ الْقَاهِرِ، فَصَادَرَهُ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَتَسَلَّمَ
مِنْهُ الْوَدِيعَةَ الَّتِي كَانَ الْقَاهِرُ أَوْدَعَهَا عِنْدَهُ، وَكَانَتْ
جُمْلَةً مُسْتَكْثِرَةً مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنَّفَائِسِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَظُمَ أَمْرُ مَرْدَاوِيجَ بِأَصْبَهَانَ، وَتَحَدَّثَ
النَّاسُ أَنَّهُ يُرِيدُ قَصْدَ بَغْدَادَ وَأَنَّهُ مُمَالِئٌ لِصَاحِبِ
الْبَحْرَيْنِ وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى رَدِّ الدَّوْلَةِ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى
الْعَجَمِ، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي رَعِيَّتِهِ، لَا سِيَّمَا فِي خَوَاصِّهِ
مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَتَمَالَئُوا عَلَى قَتْلِهِ فَقَتَلُوهُ - قَبَّحَهُ اللَّهُ
- وَكَانَ الْقَائِمُ بِأَعْبَاءِ ذَلِكَ أَخَصَّ مَمَالِيكِهِ وَأَحْظَاهُمْ
عِنْدَهُ، وَهُوَ بَجْكَمُ - بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَهَذَا الْأَمِيرُ هُوَ
الَّذِي اسْتَنْقَذَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنْ أَيْدِي الْقَرَامِطَةِ،
وَافْتَدَاهُ مِنْهُمْ بِخَمْسِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، بَذَلَهَا لَهُمْ حَتَّى
رَدُّوهُ إِلَى مَكَّةَ كَمَا سَيَأْتِي. وَلَمَّا قُتِلَ مَرْدَاوِيجُ بْنُ
زَيَّارٍ الدَّيْلَمِيُّ، عَظُمَ أَمْرُ عَلِيِّ بْنِ بُوَيْهِ، وَارْتَفَعَ
قَدْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَعَلَا شَأْنُهُ فِي الْمُلُوكِ، وَسَيَأْتِي مَا آلَ
إِلَيْهِ حَالُهُ.
وَلَمَّا خُلِعَ الْقَاهِرُ وَوَلِّيَ الرَّاضِي، طَمِعَ هَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ
فِي الْخِلَافَةِ ; لِكَوْنِهِ ابْنَ خَالِ الْمُقْتَدِرِ، وَكَانَ نَائِبًا عَلَى
مَاهِ الْكُوفَةِ الدِّينَوَرِ وَمَاسَبَذَانَ، فَدَعَا إِلَى ذَلِكَ وَاتَّبَعَهُ
خَلْقٌ مِنَ الْجُنْدِ وَالْأُمَرَاءِ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ، وَاسْتَفْحَلَ
أَمْرُهُ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَقَصَدَ بَغْدَادَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ
بْنُ يَاقُوتَ رَأْسُ الْحَجَبَةِ فِي جَمِيعِ جَيْشِ بَغْدَادَ فَاقْتَتَلُوا
هُنَالِكَ، فَخَرَجَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ هَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ يَتَقَصَّدُ
لَعَلَّهُ
يَعْمَلُ حِيلَةً فِي أَسْرِ مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتَ، فَتَقَنْطَرَ بِهِ
فَرَسُهُ، فَسَقَطَ فِي نَهْرٍ، فَضَرَبَهُ غُلَامٌ لَهُ حَتَّى قَتَلَهُ،
وَأَخَذَ رَأْسَهُ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتَ، فَانْهَزَمَ
أَصْحَابُ هَارُونَ، وَرَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتَ، فَدَخَلَ بَغْدَادَ
وَرَأْسُ هَارُونَ بْنِ غَرِيبٍ يُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى رُمْحٍ، فَفَرِحَ
النَّاسُ بِذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ بِبَغْدَادَ يُعَرَفُ بِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ الشَّلْمَغَانِيِّ، وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ أَبِي الْعَزَاقِرِ. فَذُكِرَ
عَنْهُ أَنَّهُ يَدَّعِي مَا كَانَ يَدَّعِيهِ الْحَلَّاجُ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ،
وَكَانَ قَدْ مُسِكَ فِي دَوْلَةِ الْمُقْتَدِرِ عِنْدَ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ،
وَاتُّهِمَ بِأَنَّهُ يَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ. وَلَمَّا
كَانَتْ هَذِهِ الْمَرَّةُ أَحْضَرَهُ الرَّاضِي، وَادَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ
عَنْهُ، فَأَنْكَرَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَشْيَاءَ، فَأَفْتَى قَوْمٌ أَنَّ دَمَهُ
حَلَالٌ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، فَضُرِبَ ثَمَانِينَ
سَوْطًا، ثُمَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَصُلِبَ، وَأُلْحِقَ بِالْحَلَّاجِ -
قَبَّحَهُمَا اللَّهُ - وَقُتِلَ مَعَهُ صَاحِبُهُ ابْنُ أَبِي عَوْنٍ لَعَنَهُ
اللَّهُ، وَكَانَ هَذَا اللَّعِينُ مِنْ جُمْلَةِ طَائِفَةٍ قَدِ اتَّبَعُوهُ
وَصَدَّقُوهُ فِيمَا يَزْعُمُهُ مِنَ الْكُفْرِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ " مَذْهَبَ هَؤُلَاءِ
الْكَفَرَةِ بَسْطًا جَيِّدًا، وَشَبَّهَ مَذْهَبَهُمْ بِمَذْهَبِ
النَّصِيرِيَّةِ، لَعَنَهُمَا اللَّهُ أَجْمَعِينَ.
وَادَّعَى رَجُلٌ بِبِلَادِ الشَّاشِ النُّبُوَّةَ، وَأَظْهَرَ مَخَارِيقَ
وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنَ الْحِيَلِ،
فَجَاءَتْهُ
الْجُيُوشُ فَقَاتَلُوهُ، فَقَتَلُوهُ، وَانْطَفَأَ خَبَرُهُ وَاضْمَحَلَّ
أَمْرُهُ.
وَفَاةُ الْمَهْدِيِّ صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، أَوَّلُ خُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ
فِيمَا زَعَمُوا
وَفِيهَا مَاتَ أَبُو مُحَمَّدٍ عُبَيْدُ اللَّهِ، الْمُدَّعِي أَنَّهُ عَلَوِيٌّ
- الْمُلَقَّبُ بِالْمَهْدِيِّ - بَانِي الْمَهْدِيَّةِ بِمَدِينَتِهِ
الْمَهْدِيَّةِ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ، مُنْذُ
دَخَلَ رَقَّادَةَ وَادَّعَى الْإِمَامَةَ، أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً
وَشَهْرًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَهُوَ أَوَّلُ الْخُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ.
وَقَدْ كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، ظَفِرَ بِجَمَاعَةٍ مِمَّنْ خَالَفَهُ وَنَاوَأَهُ
وَقَاتَلَهُ وَعَادَاهُ، وَقَدْ قَامَ بِأَمْرِ الْخِلَافَةِ مِنْ بَعْدِهِ
وَلَدُهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْمُلَقَّبُ بِالْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ
اللَّهِ وَحِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهُ، كَتَمَ مَوْتَهُ سَنَةً حَتَّى دَبَّرَ مَا
أَرَادَهُ مِنَ الْأُمُورِ، ثُمَّ أَظْهَرَ ذَلِكَ، وَعَزَّاهُ النَّاسُ فِيهِ،
وَقَدْ كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا كَأَبِيهِ، فَتَحَ الْبِلَادَ، وَأَرْسَلَ
السَّرَايَا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَرَامَ أَخْذَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا جَرَى ذَلِكَ عَلَى يَدَيِ ابْنِ
ابْنِهِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ الَّذِي بَنَى الْقَاهِرَةَ الْمُعِزِّيَةَ،
كَمَا سَنَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ
الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ ": وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي
نَسَبِ الْمَهْدِيِّ هَذَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا جِدًّا ; فَقَالَ صَاحِبُ "
تَارِيخِ الْقَيْرَوَانِ ": هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ التَّقِيِّ، وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَفِيِّ، أَحْمَدَ
بْنِ الرَّضِيِّ عَبْدِ اللَّهِ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ يُقَالُ لَهُمُ: الْمَسْتُورُونَ
; لِخَوْفِهِمْ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَالرَّضِيُّ عَبْدُ اللَّهِ
هَذَا هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، وَقِيلَ
غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَالْمُحَقِّقُونَ يُنْكِرُونَ دَعْوَاهُ فِي
النَّسَبِ.
قُلْتُ: قَدْ كَتَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَالْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْقُدُورِيُّ
أَنَّ هَؤُلَاءِ أَدْعِيَاءُ، لَيْسَ لَهُمْ نَسَبٌ صَحِيحٌ فِيمَا يَزْعُمُونَهُ،
وَأَنَّ وَالِدَ عُبَيْدِ اللَّهِ هَذَا كَانَ يَهُودِيًّا صَبَّاغًا
بِسَلَمْيَةَ، وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهُ سَعِيدًا، وَإِنَّمَا لُقِّبَ بِعُبَيْدِ
اللَّهِ. وَكَانَ زَوْجُ أُمِّهِ الْحُسَيْنَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحَ، وَسُمِّي الْقَدَّاحَ ; لِأَنَّهُ
كَانَ كَحَّالًا يَقْدَحُ الْعُيُونَ، وَكَانَ الَّذِي وَطَّأَ لَهُ الْأَمْرَ
بِتِلْكَ الْبِلَادِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ،
ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ فَلَمَّا قَدِمَ مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ وَقَعَ فِي يَدِ
صَاحِبِ سِجِلْمَاسَةَ
فَسَجَنَهُ،
فَلَمْ يَزَلِ الشِّيعِيُّ حَتَّى اسْتَنْقَذَهُ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْأَمْرَ،
ثُمَّ نَدِمَ الشِّيعِيُّ وَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَفَطِنَ عُبَيْدُ اللَّهِ لَهُ
فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ مَعَهُ أَخَاهُ. وَيُقَالُ: إِنَّ الشِّيعِيَّ لَمَّا دَخَلَ
السِّجْنَ وَجَدَ صَاحِبَ سِجِلْمَاسَةَ قَدْ قَتَلَهُ، وَوَجَدَ فِي السَّجْنِ
رَجُلًا مَجْهُولًا، فَأَخْرَجَهُ لِلنَّاسِ، وَقَالَ: هَذَا هُوَ الْمَهْدِيُّ،
وَرَوَّجَ بِهِ الْأَمْرَ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ سُلَالَتِهِ. حَكَاهُ الْقَاضِي ابْنُ
خَلِّكَانَ
وَكَانَ مَوْلِدُ الْمُهْدِيِّ هَذَا فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقِيلَ:
قَبْلَهَا، وَقِيلَ: بَعْدَهَا. بِسَلَمْيَةَ، وَقِيلَ: بِالْكُوفَةِ. وَأَوَّلُ
مَا دُعِيَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ رَقَّادَةَ وَالْقَيْرَوَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ،
بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ سِجِلْمَاسَةَ وَكَانَ ظُهُورُهُ بِهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ
مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ، وَزَالَتْ دَوْلَةُ بَنِي
الْعَبَّاسِ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ مِنْ هَذَا الْحِينِ إِلَى أَنْ هَلَكَ
الْعَاضِدُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَهْدِيَّةِ - الَّتِي بَنَاهَا فِي أَيَّامِهِ -
لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِلنِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ السِّتِّينَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِلَى اللَّهِ
عَاقِبَةُ الْأُمُورِ، وَسَيَفْصِلُ بَيْنَ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ، يَوْمَ
الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ
قَاضِي مِصْرَ، حَدَّثَ
عَنْ
أَبِيهِ بِكُتُبِهِ الْمَشْهُورَةِ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ عَلَى قَضَاءِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ
وَقِيلَ: اسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَيُقَالُ: الْحَسَنُ بْنُ هَمَّامٍ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، أَصْلُهُ مِنْ بَغْدَادَ وَسَكَنَ مِصْرَ، وَكَانَ مِنْ
أَبْنَاءِ الرُّؤَسَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْكَتَبَةِ، وَصَحِبَ الْجُنَيْدَ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَحَفِظَ مِنْهُ كَثِيرًا، وَتَفَقَّهَ بِإِبْرَاهِيمَ
الْحَرْبِيِّ، وَأَخَذَ النَّحْوَ عَنْ ثَعْلَبٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ
وَالْبِرِّ لِلْفُقَرَاءِ، وَكَانَ إِذَا أَعْطَى الْفَقِيرَ شَيْئًا جَعَلَهُ فِي
كَفِّهِ، ثُمَّ يَتَنَاوَلُهُ الْفَقِيرُ، يُرِيدُ أَنْ لَا تَكُونَ يَدُ
الْفَقِيرِ تَحْتَ يَدِهِ.
وَمِنْ
شِعْرِهِ:
وَلَوْ مَضَى الْكُلُّ مِنِّي لَمْ يَكُنْ عَجَبًا وَإِنَّمَا عَجَبِي فِي
الْبَعْضِ كَيْفَ بَقِي أَدْرِكْ بَقِيَّةَ رُوحٍ مَنْكَ قَدْ تَلِفَتْ
قَبْلَ الْفِرَاقِ فَهَذَا آخِرُ الرَّمَقِ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَعْرُوفُ بِخَيْرٍ النَّسَّاجِ أَبُو الْحَسَنِ
الصُّوفِيُّ
مِنْ كِبَارِ الْمَشَايِخِ ذَوِي الْأَحْوَالِ الصَّالِحَةِ وَالْكَرَامَاتِ
الْمَشْهُورَةِ، أَدْرَكَ سَرِيًّا السَّقَطِيَّ وَغَيْرَهُ مِنْ مَشَايِخِ
الْقَوْمِ، وَعَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ
نَظَرَ إِلَى زَاوِيَةِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: قِفْ رَحِمَكَ اللَّهُ، فَإِنَّكَ
عَبْدٌ مَأْمُورٌ، وَأَنَا عَبْدٌ مَأْمُورٌ، وَمَا أُمِرْتَ بِهِ لَا يَفُوتُ،
وَمَا أُمِرْتُ بِهِ يَفُوتُ. ثُمَّ قَامَ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى وَتَمَدَّدَ
فَمَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ:
مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: اسْتَرَحْنَا مِنْ دُنْيَاكُمُ الْوَضِرَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا أُحْضِرَ ابْنُ شَنَبُوذَ الْمُقْرِئُ، فَأَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ عَلَيْهِ حُرُوفًا انْفَرَدَ بِهَا، فَاعْتَرَفَ
بِبَعْضِهَا، وَأَنْكَرَ بَعْضَهَا، فَاسْتُتِيبَ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتُكْتِبَ
بِخَطِّهِ بِالرُّجُوعِ عَمَّا نُقِمَ عَلَيْهِ، وَضُرِبَ سَبْعَ دُرَرٍ
بِإِشَارَةِ الْوَزِيرِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، وَنُفِيَ إِلَى الْبَصْرَةِ
أَوْ غَيْرِهَا، فَدَعَا عَلَى الْوَزِيرِ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ وَيُشَتَّتَ
شَمْلُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ عَمَّا قَرِيبٍ.
وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ نَادَى بَدْرٌ الْخَرْشَنِيُّ صَاحِبُ
الشُّرْطَةِ فِي الْجَانِبَيْنِ مِنْ بَغْدَادَ أَنْ لَا يَجْتَمِعُ اثْنَانِ مِنْ
أَصْحَابِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْبَرْبَهَارِيِّ الْوَاعِظِ الْحَنْبَلِيِّ، وَحَبَسَ
مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَاسْتَتَرَ الْبَرْبَهَارِيُّ، فَلَمْ يَظْهَرْ مُدَّةً.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": وَفِي شَهْرِ أَيَّارَ
تَكَاثَفَتِ الْغُيُومُ، وَاشْتَدَّ الْحَرُّ جِدًّا، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ يَوْمٍ
مِنْهُ - وَهُوَ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ - هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ جِدًّا، وَأَظْلَمَتْ وَاسْوَدَّتْ إِلَى
بَعْدِ الْعَصْرِ،
ثُمَّ
خَفَّتْ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى بَعْدِ عَشَاءِ الْآخِرَةِ.
وَفِيهَا اسْتَبْطَأَ الْأَجْنَادُ أَرْزَاقَهُمْ، فَقَصَدُوا دَارَ الْوَزِيرِ
أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، فَنَقَبُوهَا وَأَخَذُوا مَا فِيهَا.
وَوَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ فِي طَرِيقِ الْبَزَّازِينَ، فَاحْتَرَقَ بِسَبَبِهِ
لِلنَّاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَعَوَّضَ عَلَيْهِمُ الرَّاضِي بِاللَّهِ بَعْضَ مَا
كَانَ ذَهَبَ لَهُمْ.
وَفِي رَمَضَانَ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى بَيْعَةِ جَعْفَرِ
بْنِ الْمُكْتَفِي وَظَهَرَ الْوَزِيرُ عَلَى أَمْرِهِمْ، فَحَبَسَ جَعْفَرًا،
وَنُهِبَتْ دَارُهُ، وَحَبَسَ جَمَاعَةً مِمَّنْ كَانَ بَايَعَهُ، وَانْطَفَأَتْ
نَارُهُ.
وَخَرَجَ الْحُجَّاجُ فِي خُفَارَةِ الْأَمِيرِ لُؤْلُؤٍ، فَاعْتَرَضَهُمْ أَبُو
طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ - لَعَنَهُ اللَّهُ -
فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَرَجَعَ مَنِ انْهَزَمَ مِنْهُمْ إِلَى بَغْدَادَ
وَبَطَلَ الْحَجُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ، وَكَانَ قَتْلُهُ
لَهُمْ فِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بِعَيْنِهَا تَسَاقَطَتْ
كَوَاكِبُ كَثِيرَةٌ بِبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ عَلَى صِفَةٍ لَمْ يُرَ مَثْلُهَا
وَلَا مَا يُقَارِبُهَا. قَالَ: وَغَلَا السِّعْرُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، حَتَّى
بِيعَ الْكُرُّ مِنَ الْحِنْطَةِ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا.
وَفِيهَا
عَلَى الصَّحِيحِ كَانَ مَقْتَلُ مَرْدَاوِيجَ بْنِ زِيَّارَ الدَّيْلَمِيِّ،
وَكَانَ قَبَّحَهُ اللَّهُ سَيِّئَ السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ، يَزْعُمُ أَنَّ
رُوحَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ حَلَّتْ فِيهِ، وَلَهُ سَرِيرٌ مِنْ ذَهَبٍ
يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَالْأَتْرَاكُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُمُ الْجِنُّ
الَّذِينَ سُخِّرُوا لِسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَكَانَ يُسِيءُ الْمُعَامَلَةَ
لَهُمْ، وَيَحْتَقِرُهُمْ غَايَةَ الِاحْتِقَارِ، فَمَا زَالَ ذَلِكَ دَأْبُهُ
حَتَّى أَمْكَنَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، فَقَتَلُوهُ فِي حَمَّامٍ، وَكَانَ الَّذِي
مَالَأَ عَلَى قَتْلِهِ غُلَامُهُ بَجْكَمُ التُّرْكِيُّ - جَزَاهُ اللَّهُ عَنِ
الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ خَيْرًا - وَكَانَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ
رَهِينَةً عِنْدَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ أُطْلِقَ مِنَ السِّجْنِ وَالْقَيْدِ،
فَذَهَبَ إِلَى أَخِيهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ
الْأَتْرَاكِ مَعَهُ إِلَى أَخِيهِ، وَالْتَفَّتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مَنَ
الْأَتْرَاكِ عَلَى بَجْكَمَ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى بَغْدَادَ بِإِذْنِ
الْخَلِيفَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ صُرِفُوا إِلَى الْبَصْرَةِ فَكَانُوا بِهَا.
وَأَمَّا الدَّيْلَمُ فَإِنَّهُمْ بَعَثُوا إِلَى أَخِي مَرْدَاوِيجَ، وَهُوَ
وُشْمَكِيرُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ تَلَقَّوْهُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ
حُفَاةً مُشَاةً، فَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَذْهَبَ مُلْكُهُمْ،
فَانْتُدِبَ لِمُحَارَبَتِهِ السَّعِيدُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ
نَائِبُ خُرَاسَانَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ،
فَانْتَزَعَ مِنْهُ بُلْدَانًا هَائِلَةً.
وَفِيهَا بَعَثَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الْفَاطِمِيُّ جَيْشًا مِنْ
إِفْرِيقِيَّةَ فِي الْبَحْرِ إِلَى نَاحِيَةِ الْفِرِنْجِ، فَافْتَتَحُوا
مَدِينَةَ جَنَوَةَ وَغَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً وَثَرْوَةً، وَرَجَعُوا
سَالِمِينَ غَانِمِينَ.
وَفِيهَا بَعَثَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ أَخَاهُ رُكْنَ الدَّوْلَةِ
إِلَى أَصْبَهَانَ فَاسْتَوْلَى
عَلَيْهَا
وَعَلَى بِلَادِ الْجَبَلِ، وَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَةُ عِمَادِ الدَّوْلَةِ،
وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَعَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ.
وَفِيهَا كَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِخُرَاسَانَ، وَفِنَاءٌ كَثِيرٌ، بِحَيْثُ كَانَ
يَهُمُّهُمْ أَمْرُ دَفْنِ الْمَوْتَى.
وَفِيهَا قَتَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ نَائِبُ الْمَوْصِلِ عَمَّهُ أَبَا الْعَلَاءِ سَعِيدَ
بْنَ حَمْدَانَ ; لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ فِي جُيُوشٍ، فَهَرَبَ مِنْهُ
نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا طَالَ مُقَامُ ابْنِ مُقْلَةَ بِالْمَوْصِلِ رَجَعَ
إِلَى بَغْدَادَ فَاسْتَقَرَّتْ يَدُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْمَوْصِلِ
وَبَعَثَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْأَلُ أَنْ يَضْمَنَ تِلْكَ النَّاحِيَةَ،
فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَى مَا كَانَ.
وَخَرَجَ الْحَجِيجُ، فَلَقِيَهُمُ الْقُرْمُطَيْ فِي الْقَادِسِيَّةِ
فَقَاتَلُوهُ، فَظَفِرَ بِهِمْ، فَسَأَلُوهُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ عَلَى أَنْ
يَرْجِعُوا إِلَى بَغْدَادَ فَرَجَعُوا، وَتَعَطَّلَ عَلَيْهِمُ الْحَجُّ
عَامَهُمْ ذَلِكَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
نِفْطَوَيْهِ النَّحْوِيُّ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ بْنِ
سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي
صُفْرَةَ الْأَزْدِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَتَكِيُّ الْمَعْرُوفُ
بِنِفْطَوَيْهِ
النَّحْوِيِّ، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَرَوَى عَنِ
الْمَشَايِخِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ الثِّقَاتُ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ صَدُوقًا،
وَلَهُ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ نِفْطَوَيْهِ أَنَّهُ مَرَّ يَوْمًا عَلَى بَقَّالٍ،
فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى دَرْبِ الرَّءَّاسِينَ
- يَعْنِي دَرْبَ الرَّوَّاسِينَ - فَالْتَفَتَ الْبَقَّالُ إِلَى جَارِهِ،
فَقَالَ لَهُ: قَبَّحَ اللَّهُ غُلَامِي، أَبْطَأَ عَلَيَّ بِالسِّلْقِ، وَلَوْ
كَانَ عِنْدِي لَصَفَعْتُ هَذَا بِجُرْزَةٍ مِنْهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ
نِفْطَوَيْهِ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ.
تُوُفِّيَ نِفْطَوَيْهِ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْبَرْبَهَارِيُّ رَئِيسُ
الْحَنَابِلَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الْكُوفَةِ.
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ لَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْقَالِي فِي " الْأَمَالِي ":
قَلْبِي أَرَقُّ عَلَيْهِ مِنْ خَدَّيْكَا وَقُوَايَ أَوْهَى مِنْ قُوَى
جَفْنَيْكَا لِمَ لَا تَرِقُّ لِمَنْ يُعَذِّبُ نَفْسَهُ
ظُلْمًا وَيَعْطِفُهُ هَوَاهُ عَلَيْكَا
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وُفِي نِفْطَوَيْهِ يَقُولُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْوَاسِطِيُّ،
الْمُتَكَلِّمُ الْمَشْهُورُ، صَاحِبُ " الْإِمَامَةِ " وَ "
إِعْجَازِ الْقُرْآنِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ:
مَنْ
سَرَّهُ أَنْ لَا يَرَى فَاسِقًا فَلْيَجْتَهِدْ أَنْ لَا يَرَى نِفْطَوَيْهْ
أَحْرَقَهُ اللَّهُ بِنِصْفِ اسْمِهِ وَصَيَّرَ الْبَاقِي صُرَاخًا عَلَيْهْ
قَالَ الثَّعَالِبِيُّ: إِنَّمَا سُمِّيَ نِفْطَوَيْهِ لِدَمَامَتِهِ
وَأُدْمَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: لَا يُعْرَفُ مَنِ اسْمُهُ إِبْرَاهِيمُ،
وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سِوَاهُ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ، أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ
حَدَّثَ عَنْ سَيَّارِ بْنِ نَصْرٍ الْحَلَبِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا فَقِيهًا شَافِعِيًّا.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَدِيٍّ، أَبُو نُعَيْمٍ
الْإِسْتِرَابَاذِيُّ
الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا، تُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً.
عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو الْحَسَنِ
الْبَلْخِيُّ
كَانَ مِنَ الْجَوَّالِينَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا،
سَمِعَ أَبَا حَاتِمٍ الرَّازِيَّ وَغَيْرَهُ، وَعَنْهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ
وَغَيْرُهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدٍ، أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْبُسْتُنْبَانِ، سَمِعَ الزُّبَيْرَ بْنَ بِكَارٍ
وَغَيْرَهُ، وَعَنْهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. جَاوَزَ الثَّمَانِينَ
سَنَةً.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا جَاءَتِ الْجُنْدُ، فَأَحْدَقُوا بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَقَالُوا:
لِيَخْرُجْ إِلَيْنَا الْخَلِيفَةُ الرَّاضِي بِنَفْسِهِ فَيُصَلِّ بِالنَّاسِ.
فَخَرَجَ فَصَلَّى بِهِمْ وَخَطَبَهُمْ، وَقَبَضَ الْغِلْمَانُ عَلَى الْوَزِيرِ
أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، وَسَأَلُوا مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يَسْتَوْزِرَ
غَيْرَهُ، فَرَدَّ الْخِيَرَةَ إِلَيْهِمْ، فَاخْتَارُوا عَلِيَّ بْنَ عِيسَى،
فَلَمْ يَقْبَلْ، وَأَشَارَ بِأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عِيسَى
فَاسْتَوْزَرَهُ، وَأُحْرِقَتْ دَارُ ابْنِ مُقْلَةَ، وَسُلِّمَ هُوَ إِلَى عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عِيسَى، فَضُرِبَ ضَرْبًا عَنِيفًا، وَأُخِذَ خَطُّهُ بِأَلْفِ
أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ عَجَزَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عِيسَى، فَعُزِلَ بَعْدَ
خَمْسِينَ يَوْمًا، وَقُلِّدَ الْوِزَارَةَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
الْقَاسِمِ الْكَرْخِيُّ، فَصَادَرَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بِمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَصَادَرَ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عِيسَى بِسَبْعِينَ أَلْفِ
دِينَارٍ، ثُمَّ عُزِلَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ، وَقُلِّدَ
سُلَيْمَانُ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ عُزِلَ بِأَبِي الْفَتْحِ الْفَضْلِ بْنِ
جَعْفَرِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَلَكِنْ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَأُحْرِقَتْ
دَارُهُ كَمَا أُحْرِقَتْ دَارُ ابْنِ مُقْلَةَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أُحْرِقَتْ
تِلْكَ فِيهِ، بَيْنَهُمَا سَنَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَخْبِيطِ
الْأَتْرَاكِ وَالْغِلْمَانِ. وَلَمَّا أُحْرِقَتْ دَارُ ابْنِ مُقْلَةَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى بَعْضِ جُدْرَانِهَا:
أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي
بِهِ الْقَدَرُ
وَسَالَمَتْكَ
اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا
وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الْكَدَرُ
وَضَعُفَ أَمْرُ الْخِلَافَةِ جِدًّا، وَبَعَثَ الرَّاضِي إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ
رَائِقٍ - وَكَانَ بِوَاسِطٍ - يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ ; لِيُوَلِّيَهُ إِمْرَةَ
الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ، وَأَمْرَ الْخَرَاجِ وَالْمُعَاوِنِ فِي جَمِيعِ
الْبِلَادِ وَالدَّوَاوِينِ، وَأَمَرَ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ عَلَى جَمِيعِ
الْمَنَابِرِ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ، فَقَدِمَ ابْنُ رَائِقٍ إِلَى
بَغْدَادَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ بَجْكَمُ التُّرْكِيُّ
غُلَامُ مَرْدَاوِيجَ، وَهُوَ الَّذِي سَاعَدَ عَلَى قَتْلِهِ وَأَرَاحَ
الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ، وَاسْتَحْوَذَ ابْنُ رَائِقٍ عَلَى أَمْرِ الْعِرَاقِ
بِكَمَالِهِ، وَنَقَلَ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى دَارِهِ، وَلَمْ يَبْقَ
لِلْوَزِيرِ تَصَرُّفٌ فِي شَيْءٍ بِالْكُلِّيَّةِ، وَوَهَى أَمْرُ الْخِلَافَةِ
جِدًّا، وَاسْتَقَلَّ نُوَّابُ الْأَطْرَافِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا، وَلَمْ يَبْقَ
لِلْخَلِيفَةِ حَكْمٌ فِي غَيْرِ بَغْدَادَ وَمُعَامَلَاتِهَا، وَمَعَ هَذَا
لَيْسَ لَهُ مَعَ ابْنِ رَائِقٍ نُفُوذٌ فِي شَيْءٍ، وَلَا كَلِمَةٌ تُطَاعُ،
وَإِنَّمَا يَحْمِلُ إِلَيْهِ ابْنُ رَائِقٍ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالنَّفَقَاتِ وَغَيْرِهَا، وَهَكَذَا صَارَ أَمْرُ مَنْ جَاءَ
بَعْدَهُ مِنْ أُمَرَاءِ الْأُمَرَاءِ. وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَطْرَافِ،
فَالْبَصْرَةُ مَعَ ابْنِ رَائِقٍ هَذَا، وَأَمْرُ خُوزِسْتَانَ فِي يَدَيْ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، وَقَدْ غَلَبَ يَاقُوتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى
مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ مَمْلَكَةِ تُسْتَرَ وَغَيْرِهَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى
حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَأَمْرُ فَارِسَ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ أَبِي
الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ بُوَيْهِ، وَالرَّيُّ وَأَصْبَهَانُ وَالْجَبَلُ بِيَدِ
أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ ابْنِ بُوَيْهِ، وَمُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ وُشْمَكِيرُ
أَخُو مَرْدَاوِيجَ، وَكَرْمَانُ بِيَدِ أَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ إِلْيَاسَ
بْنِ الْيَسَعَ، وَبِلَادُ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةُ وَدِيَارُ بَكْرٍ وَمُضَرُ
وَرَبِيعَةُ مَعَ بَنِي حَمْدَانَ، وَمِصْرُ وَالشَّامُ فِي يَدِ مُحَمَّدِ بْنِ
طُغْجٍ، وَبِلَادُ إِفْرِيقِيَّةَ وَالْمَغْرِبُ فِي يَدِ
الْقَائِمِ
بِأَمْرِ اللَّهِ بْنِ الْمَهْدِيِّ الْمُدَّعِي أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ، وَقَدْ
تَلَقَّبَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَنْدَلُسُ فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ مُحَمَّدٍ، الْمُلَقَّبِ بِالنَّاصِرِ الْأُمَوِيِّ، وَخُرَاسَانُ وَمَا
وَرَاءَ النَّهْرِ فِي يَدِ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ،
وَطَبَرِسْتَانُ وَجُرْجَانُ فِي يَدِ الدَّيْلَمِ، وَالْبَحْرَيْنِ
وَالْيَمَامَةُ وَهَجَرُ فِي يَدِ أَبِي طَاهِرٍ سُلَيْمَانِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ
الْجَنَّابِيِّ الْقِرْمِطِيِّ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا وَقَعَ بِبَغْدَادَ غَلَاءٌ عَظِيمٌ وَفَنَاءٌ كَثِيرٌ، بِحَيْثُ عُدِمَ
الْخُبْزُ مِنْهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَمَاتَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ كَانَ فِي الضُّعَفَاءِ، وَكَانَ الْمَوْتَى
يُلْقَوْنَ فِي الطُّرُقَاتِ لَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهِمْ، وَيُحْمَلُ
عَلَى الْجِنَازَةِ الْوَاحِدَةِ الِاثْنَانُ مِنَ الْمَوْتَى، وَرُبَّمَا يُوضَعُ
بَيْنَهُمْ صَبِيٌّ، وَرُبَّمَا حُفِرَتِ الْحُفْرَةُ الْوَاحِدَةُ فَتُوَسَّعُ
حَتَّى يُوضَعَ فِيهَا جَمَاعَةٌ، وَمَاتَ مِنْ أَصْبَهَانَ نَحْوُ مِائَتَيْ
أَلْفِ إِنْسَانٍ.
وَوَقَعَ فِيهَا حَرِيقٌ بِعُمَانَ احْتَرَقَ فِيهِ مِنَ السُّودَانِ أَلْفٌ،
وَمِنَ الْبِيضَانِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا احْتَرَقَ فِيهِ
أَرْبَعُمِائَةِ حِمْلِ كَافُورٍ.
وَعَزَلَ الْخَلِيفَةُ أَحْمَدَ بْنَ كَيْغَلَغَ عَنْ نِيَابَةِ الشَّامِ وَأَضَافَ
ذَلِكَ إِلَى ابْنِ طُغْجٍ نَائِبِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِيهَا وُلِدَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَبُو شُجَاعٍ فَنَّاخُسْرُو بْنُ رُكْنِ
الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ بأَصْبَهَانَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
ابْنُ مُجَاهِدٍ الْمُقْرِئُ
أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُجَاهِدٍ
الْمُقْرِئُ،
أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ. حَدَّثَ عَنْ خَلْقٍ كَثِيرٍ، وَرَوَى
عَنْهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا، سَكَنَ
الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ مَنْ بَغْدَادَ وَكَانَ ثَعْلَبٌ يَقُولُ: مَا بَقِيَ فِي
عَصْرِنَا أَحَدٌ أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنْهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ، وَأُخْرِجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقْرَأُ،
فَقَالَ لَهُ: أَمَا مُتَّ ؟ فَقَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَدْعُو اللَّهَ
عَقِبَ كُلِّ خَتْمَةٍ أَنْ أَكُونَ مِمَّنْ يَقْرَأُ فِي قَبْرِهِ، فَأَنَا
مِمَّنْ يَقْرَأُ فِي قَبْرِهِ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
جَحْظَةُ، الشَّاعِرُ الْبَرْمَكِيُّ
أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُوسَى بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ
الْبَرْمَكِيُّ، أَبُو الْحَسَنِ النَّدِيمُ الْمَعْرُوفُ بِجَحْظَةَ، الشَّاعِرُ
الْمَاهِرُ الْأَدِيبُ الْأَخْبَارِيُّ، ذُو الْفُنُونِ فِي الْعُلُومِ
وَالنَّوَادِرِ الْحَاضِرَةِ، وَكَانَ جَيِّدَ الْغِنَاءِ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
قَدْ نَادَتِ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا لَوْ كَانَ فِي الْعَالَمِ مَنْ يَسْمَعُ
كَمْ وَاثِقٍ فِي الْعُمْرِ وَارَيْتُهُ
وَجَامِعٍ بَدَّدْتُ مَا يَجْمَعُ
وَكَتَبَ لَهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ رُقْعَةً عَلَى صَيْرَفِيٍّ بِمَالٍ أَطْلَقَهُ
لَهُ، فَلَمْ يَتَحَصَّلْ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ قَبَضُهَا،
فَكَتَبَ إِلَى الْمَلِكِ يَذْكُرُ لَهُ صُورَةَ الْحَالِ:
إِذَا
كَانَتْ صِلَاتُكُمْ رِقَاعًا تُخَطَّطُ بِالْأَنَامِلِ وَالْأَكُفِّ
وَلَمْ تُجْدِ الرُّقَاعُ عَلَيَّ نَفْعًا فَهَا خَطِّي خُذُوهُ بِأَلْفِ أَلْفِ
وَمِنْ شَعْرِهِ يَهْجُو صَدِيقًا لَهُ، وَيَذُمُّهُ عَلَى شِدَّةِ بُخْلِهِ
وَحِرْصِهِ:
لَنَا صَاحِبٌ مِنْ أَبْرَعِ النَّاسِ فِي الْبُخْلِ وَأَفْضَلِهِمْ فِيهِ
وَلَيْسَ بِذِي فَضْلِ
دَعَانِي كَمَا يَدْعُو الصَّدِيقُ صَدِيقَهُ فَجِئْتُ كَمَا يَأْتِي إِلَى
مِثْلِهِ مِثْلِي
فَلَمَّا جَلَسْنَا لِلْغَدَاءِ رَأَيْتُهُ يَرَى أَنَّمَا مِنْ بَعْضِ
أَعْضَائِهِ أَكْلِي
وَيَغْتَاظُ أَحْيَانًا وَيَشْتِمُ عَبْدَهُ وَأَعْلَمُ أَنَّ الْغَيْظَ
وَالشَّتْمَ مِنْ أَجْلِي
أَمُدُّ يَدِي سِرًّا لِآكُلَ لُقْمَةً فَيَلْحَظُنِي شَزْرًا فَأَعْبَثُ
بِالْبَقْلِ
إِلَى أَنْ جَنَتْ كَفِّي لِحِينِي جِنَايَةً وَذَلِكَ أَنَّ الْجُوعَ أَعْدَمَنِي
عَقْلِي
فَأَهْوَتْ يَمِينِي نَحْوَ رِجْلِ دَجَاجَةٍ فَجُرَّتْ كَمَا جَرَّتْ يَدِي
رِجْلَهَا رِجْلِي
وَمِنْ قَوِيِّ شِعْرِهِ وَجِيدِهِ قَوْلُهُ:
رَحَلْتُمْ فَكَمْ مِنْ أَنَّةٍ بَعْدَ حَنَّةٍ مُبَيِّنَةٍ لِلنَّاسِ حُزْنِي
عَلَيْكُمُ
وَقَدْ كُنْتُ أَعْتَقْتُ الْجُفُونَ مِنَ الْبُكَا فَقَدْ رَدَّهَا فِي الرِّقِّ
شَوْقِي إِلَيْكُمُ
وَمِمَّا أَوْرَدَهُ لَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ مِنَ الشَّعْرِ الرَّائِقِ
قَوْلُهُ:
فَقُلْتُ لَهَا بَخِلْتِ عَلَيَّ يَقْظَى فَجُودِي فِي الْمَنَامِ لِمُسْتَهَامِ
فَقَالَتْ
لِي وَصِرْتَ تَنَامُ أَيْضًا وَتَطْمَعُ أَنْ أَزُورَكَ فِي الْمَنَامِ
قَالَ: وَإِنَّمَا لَقَّبَهُ بِجَحْظَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ.
وَذَلِكَ لِسُوءِ مَنْظَرِهِ، كَمَا قَالَ فِيهِ بَعْضُ مَنْ هَجَاهُ:
نُبِّئْتُ جَحْظَةَ يَسْتَعِيرُ جُحُوظَهُ مِنْ فِيلِ شِطْرَنْجَ وَمِنْ سَرَطَانِ
وَارَحْمَتَا لِمُنَادِمِيهِ تَحَمَّلُوا أَلَمَ الْعُيُونِ لِلَذَّةِ الْآذَانِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ.
وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، بِوَاسِطٍ، وَحُمِلَ
إِلَى بَغْدَادَ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ.
ابْنُ الْمُغَلِّسِ الْفَقِيهُ الظَّاهِرِيُّ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغَلِّسِ أَبُو الْحَسَنِ،
الْفَقِيهُ الظَّاهِرِيُّ، الْمَشْهُورُ، لَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمُفِيدَةُ فِي
مَذْهَبِهِ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُدَ، وَرَوَى عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَعَلِيِّ بْنِ دَاوُدَ
الْقَنْطَرِيِّ، وَأَبِي قِلَابَةَ الرَّقَاشِيِّ، وَآخَرِينَ. وَكَانَ فَقِيهًا
ثِقَةً فَاضِلًا، وَهُوَ الَّذِي نَشَرَ عِلْمَ دَاوُدَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ.
تُوفِّيَ بِالسَّكْتَةِ.
أَبُو
بَكْرِ بْنُ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيُّ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادِ بْنِ وَاصِلِ بْنِ مَيْمُونٍ أَبُو
بَكْرٍ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، مَوْلَى أَبَانِ بْنِ
عُثْمَانَ، رَحَلَ إِلَى الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ
وَحَدَّثَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ وَعَبَّاسٍ الدُّورِيِّ،
وَخَلْقٍ، وَعَنْهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ.
قَالَ الدَّرَاقُطْنِيُّ: لَمْ نَرَ فِي مَشَايِخِنَا أَحْفَظَ مِنْهُ لِلْأَسَانِيدِ
وَالْمُتُونِ، وَكَانَ أَفْقَهَ الْمَشَايِخِ، جَالَسَ الْمُزَنِيَّ وَالرَّبِيعَ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ: كُنَّا نَحْضُرُ مَجْلِسَ ابْنِ
زِيَادٍ، وَكَانَ يُحْزَرُ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْمَحَابِرِ
ثَلَاثِينَ أَلْفًا.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِيُّ، أَنَا يُوسُفُ بْنُ
عُمَرَ بْنِ مَسْرُورٍ، سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيَّ،
يَقُولُ: أَعْرِفُ مَنْ قَامَ اللَّيْلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَمْ يَنَمْ إِلَّا
جَاثِيًا، وَيَتَقَوَّتْ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ حَبَّاتٍ، وَيُصَلِّي صَلَاةَ
الْغَدَاةِ بِطَهَارَةِ الْعِشَاءِ. ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا هُوَ، هَذَا كُلُّهُ
قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ أُمَّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَيْشِ أَقُولُ لِمَنْ زَوَّجَنِي
! ثُمَّ قَالَ فِي إِثْرِ هَذَا: مَا أَرَادَ إِلَّا الْخَيْرَ. تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
عَفَّانُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ أَبُو الْحَسَنِ
التَّاجِرُ، أَقَامَ بِمِصْرَ، وَأَوْقَفَ بِهَا
أَوْقَافًا
دَارَّةً عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَعَلَى سُلَالَةِ الْعَشَرَةِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ. وَكَانَ تَاجِرًا مُوَسَّعًا عَلَيْهِ، مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ
الْحُكَّامِ، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ
عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي بِشْرٍ إِسْحَاقُ بْنُ سَالِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ مُوسَى بْنِ بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ، قِدَمَ بَغْدَادَ وَأَخَذَ الْحَدِيثَ عَنْ
زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى السَّاجِيِّ، وَتَفَقَّهَ بِابْنِ سُرَيْجٍ. وَقَدْ
ذَكَرْنَا تَرَجَمَتَهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " أَنَّهُ
كَانَ يَجْلِسُ فِي حَلْقَةِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَقَدْ
كَانَ مُعْتَزِلِيًّا قَبْلَ ذَلِكَ، فَتَابَ مِنْهُ بِالْبَصْرَةِ فَوْقَ الْمِنْبَرِ،
ثُمَّ أَظْهَرَ فَضَائِحَهُمْ وَقَبَائِحَهُمْ، وَذُكِرَ لَهُ مِنَ التَّصَانِيفِ
" الْمُوجَزُ " وَغَيْرُهُ. وَحَكَى عَنِ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّهُ صَنَّفَ
خَمْسَةً وَخَمْسِينَ تَصْنِيفًا، وَذَكَرَ أَنَّ مُغَلَّهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ
كَانَ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ
دُعَابَةً، وَأَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقِيلَ: سَنَةَ
سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ
ثَلَاثِينَ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو ذَرٍّ التَّمِيمِيُّ
كَانَ رَئِيسَ جُرْجَانَ
سَمِعَ
الْكَثِيرَ، وَتَفَقَّهَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَتْ دَارُهُ مَجْمَعَ
الْعُلَمَاءِ، وَلَهُ إِفْضَالٌ كَثِيرٌ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ
زَمَانِهِ. هَارُونُ بْنُ الْمُقْتَدِرِ
أَخُو الْخَلِيفَةِ الرَّاضِي، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا،
فَحَزِنَ عَلَيْهِ أَخُوهُ الرَّاضِي، وَأَمَرَ بِنَفْيِ بَخْتَيْشُوعَ بْنِ
يَحْيَى الْمُتَطَبِّبَ إِلَى الْأَنْبَارِ ; لِأَنَّهُ اتُّهِمَ فِي عِلَاجِهِ،
ثُمَّ شَفَعَتْ فِيهِ أُمُّ الرَّاضِي، فَرَدَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خَرَجَ الْخَلِيفَةُ الرَّاضِي وَأَمِيرُ الْأُمَرَاءِ
مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ مِنْ بَغْدَادَ قَاصِدِينَ وَاسِطًا ; لِقِتَالِ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ نَائِبِ الْأَهْوَازِ، الَّذِي قَدْ تَجَبَّرَ
بِهَا، وَمَنَعَ الْخَرَاجَ، فَلَمَّا سَارَ ابْنُ رَائِقٍ إِلَى وَاسِطٍ خَرَجَ
عَلَيْهِ الْحُجَرِيَّةُ وَقَاتَلُوهُ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بَجْكَمَ
فَطَحَنَهُمْ، وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى بَغْدَادَ فَتَلَقَّاهُمْ لُؤْلُؤُ
أَمِيرُ الشُّرْطَةِ، فَاحْتَاطَ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، وَنُهِبَتْ دَوْرُهُمْ،
وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ رَأْسٌ يَرْتَفِعُ، وَقُطِعَتْ أَرْزَاقُهُمْ مِنْ بَيْتِ
الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ وَابْنُ رَائِقٍ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ
يَتَهَدَّدَانِهِ، فَأَجَابَ إِلَى حَمْلِ كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ
وَسِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ، يَقُومُ بِحَمْلِ كُلِّ شَهْرٍ عَلَى حِدَتِهِ،
وَإِلَى أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا إِلَى قِتَالِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ،
فَلَمَّا رَجَعَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَادَ لَمْ يَحْمِلْ شَيْئًا، وَلَمْ
يَبْعَثْ أَحَدًا، ثُمَّ بَعَثَ ابْنُ رَائِقٍ بَجْكَمَ وَبَدْرًا الْخَرْشَنِيَّ
لِقِتَالِ الْبَرِيدِيِّ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ وَخُطُوبٌ، وَأُمُورٌ
يَطُولُ ذِكْرُهَا. ثُمَّ لَجَأَ الْبَرِيدِيُّ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ
وَاسْتَجَارَ بِهِ، وَاسْتَحْوَذَ بَجْكَمُ عَلَى بِلَادِ الْأَهْوَازِ، وَجَعَلَ
إِلَيْهِ ابْنُ رَائِقٍ خَرَاجَهَا، وَكَانَ بَجْكَمُ هَذَا شُجَاعًا فَاتِكًا.
وَفِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ خَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى بَجْكَمَ، وَعَقَدَ لَهُ
الْإِمَارَةَ بِبَغْدَادَ، وَوَلَّاهُ نِيَابَةَ الْمَشْرِقِ إِلَى خُرَاسَانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو حَامِدِ بْنُ الشَّرْقِيِّ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، أَبُو
حَامِدِ بْنُ الشَّرْقِيِّ
مُوَلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ حَافِظًا، كَبِيرَ
الْقَدْرِ، كَثِيرَ الْحِفْظِ، كَثِيرَ الْحَجِّ، رَحَلَ إِلَى الْأَمْصَارِ،
وَجَابَ الْأَقْطَارَ، وَسَمِعَ مِنَ الْكِبَارِ. نَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ
يَوْمًا فَقَالَ: حَيَاةُ أَبِي حَامِدٍ تَحْجُزُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ
الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْخَزَّازُ
النَّحْوِيُّ
حَدَّثَ عَنِ الْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ، وَكَانَ ثِقَةً، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي
عُلُومِ الْقُرْآنِ غَزِيرَةُ الْفَوَائِدِ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى، أَبُو الطِّيبِ النَّحْوِيُّ
ابْنُ الْوَشَّاءِ، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ مَلِيحَةٌ فِي الْأَخْبَارِ، وَقَدْ حَدَّثَ
عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ وَالْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ وَغَيْرِهِمْ.
مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ أَبُو بَكْرٍ الْعَسْكَرِيُّ
الْفَقِيهُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي ثَوْرٍ، رَوَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ
وَعَبَّاسٍ الدُّورِيِّ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ والْآجُرِّيُّ وَغَيْرُهُمَا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى الْخَلِيفَةِ الرَّاضِي
مَكْتُوبٌ بِالرُّومِيَّةِ وَالتَّفْسِيرُ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَأَمَّا الرُّومِيُّ
فَبِالذَّهَبِ وَالْعَرَبِيُّ بِالْفِضَّةِ، وَحَاصِلُهُ طَلَبُ الْهُدْنَةِ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَوَجَّهَ مَعَ الْكِتَابِ بِهَدَايَا وَأَلْطَافٍ كَثِيرَةٍ
فَاخِرَةٍ، فَأَجَابَهُ الْخَلِيفَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَفُودِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
سِتَّةُ آلَافِ أَسِيرٍ، مَا بَيْنَ ذِكَرٍ وَأُنْثَى عَلَى نَهْرِ
الْبَدَنْدُونِ.
وَفِيهَا ارْتَحَلَ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ الْفُرَاتِ مِنْ بَغْدَادَ
إِلَى الشَّامِ وَتَرَكَ الْوِزَارَةَ، فَوَلِيَهَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ،
وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ضَعِيفَةً جِدًّا، لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَعَ
ابْنِ رَائِقٍ وَطَلَبَ مِنَ ابْنِ رَائِقٍ أَنْ يَفْرُغَ لَهُ عَنْ أَمْلَاكِهِ،
فَجَعَلَ يُمَاطِلُهُ، فَكَتَبَ إِلَى بَجْكَمَ يُطْمِعُهُ فِي بَغْدَادَ وَأَنْ
يَكُونَ عِوَضًا عَنِ ابْنِ رَائِقٍ، وَكَتَبَ ابْنُ مُقْلَةَ أَيْضًا إِلَى الْخَلِيفَةِ
يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ ابْنَ رَائِقٍ وَابْنَ مُقَاتِلٍ،
وَيَضْمَنَهُمْ بِأَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ رَائِقٍ،
فَأَخَذَهُ، فَقَطَعَ يَدَهُ، وَقَالَ: هَذَا أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ
جَعَلَ يُحَسِنُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَسْتَوْزِرَهُ، وَأَنَّ قَطْعَ يَدِهِ لَا
يَمْنَعُهُ مِنَ الْكِتَابَةِ، وَأَنَّهُ يَشُدُّ الْقَلَمَ عَلَى يَدِهِ
الْيُمْنَى الْمَقْطُوعَةِ
فَيَكْتُبُ
بِهَا. ثُمَّ بَلَغَ ابْنَ رَائِقٍ أَنَّهُ قَدْ كَتَبَ إِلَى بَجْكَمَ بِمَا
تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ فَقَطَعَ لِسَانَهُ،
وَسَجَنَهُ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ، فَكَانَ
يَسْتَقِي الْمَاءَ بِنَفْسِهِ ; يَتَنَاوَلُ الْحَبْلَ مِنَ الْبِئْرِ بِيَدِهِ
الْيُسْرَى، ثُمَّ يُمْسِكُهُ بِفِيهِ، وَلَقِيَ شِدَّةً وَعَنَاءً، وَمَاتَ فِي
مَحْبِسِهِ هَذَا وَحِيدًا، فَدُفِنَ هُنَاكَ، ثُمَّ سَأَلَ أَهْلَهُ نَقْلَهُ
فَدُفِنَ فِي دَارِهِ، ثُمَّ نُقِلَ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَاتَّفَقَ لَهُ
أَشْيَاءُ غَرِيبَةٌ ; مِنْهَا أَنَّهُ وَزَرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَعُزِلَ ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ، وَوَلِيَ لِثَلَاثَةٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَدُفِنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ،
وَسَافَرَ فِي عُمْرِهِ ثَلَاثَ سَفْرَاتٍ ; مَرَّتَيْنِ مَنْفِيًّا، وَمَرَّةً
فِي وِزَارَتِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِيهَا دَخَلَ بَجْكَمُ بَغْدَادَ فَقَلَّدَهُ الرَّاضِي إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ
مَكَانَ ابْنِ رَائِقٍ، وَقَدْ كَانَ بَجْكَمُ هَذَا مِنْ غِلْمَانِ أَبِي عَلِيٍّ
الْعَارِضِ وَزِيرِ مَاكَانَ بْنِ كَالِي الدَّيْلَمِيِّ، فَاسْتَوْهَبَهُ مَا
كَانُ مِنَ الْوَزِيرِ، فَوَهَبَهُ لَهُ، ثُمَّ فَارَقَ مَا كَانَ، وَلَحِقَ بِمَرْدَاوِيجَ،
وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَتَلَهُ فِي الْحَمَّامِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَسَكَنَ بَجْكَمُ بِدَارِ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ وَعَظُمَ أَمَرُهُ جِدًّا،
وَانْفَصَلَ ابْنُ رَائِقٍ وَكَانَتْ أَيَّامُهُ سَنَةً وَعَشْرَةَ أَشْهُرٍ
وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَفِيهَا بَعَثَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ أَخَاهُ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ،
فَأَخَذَ بِلَادَ الْأَهْوَازِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ،
وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ بَجْكَمَ، وَأَعَادَهَا إِلَيْهِ.
وَفِيهَا اسْتَوْلَى لَشْكَرَى أَحَدُ أُمَرَاءِ وُشْمَكِيرَ الدَّيْلَمَيِّ عَلَى
بِلَادِ
أَذْرَبِيجَانَ
وَانْتَزَعَهَا مِنْ رُسْتُمَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْكُرْدِيِّ، أَحَدِ أَصْحَابِ
ابْنِ أَبِي السَّاجِ، بَعْدَ قِتَالٍ طَوِيلٍ.
وَفِيهَا اضْطَرَبَ أَمْرُ الْقَرَامِطَةِ جِدًّا، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَانْكَفُّوا
بِسَبَبِ قِلَّتِهِمْ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلَزِمُوا
بَلَدَهُمْ هَجَرَ لَا يَرُومُونَ مِنْهُ انْتِقَالًا إِلَى غَيْرِهِ. وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْدَلُسِيُّ
كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ
أَدْخَلَ فِقْهَ مَالِكٍ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ
بِهَا فَلَمْ يَقْبَلْ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خَرَجَ الرَّاضِي بِاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ
بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ لِمُحَارَبَةِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ الْحَسَنِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ نَائِبِهَا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ بَجْكَمُ أَمِيرُ
الْأُمَرَاءِ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحُسَيْنِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
يُوسُفَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ وَلَدَهُ الْقَاضِي أَبَا نَصْرٍ
يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ، عَنْ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ لَهُ بِذَلِكَ. وَكَانَ عَالِمًا
وَفَاضِلًا، وَلَمَّا انْتَهَى بَجْكَمُ إِلَى الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ وَاقَعَ
الْحَسَنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ، فَهَزَمَ بَجْكَمُ الْحَسَنَ بْنَ
حَمْدَانَ، وَقَرَّرَ الْخَلِيفَةُ أَمْرَ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ.
وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ فَإِنَّهُ اغْتَنَمَ غَيْبَةَ الْخَلِيفَةِ عَنْ
بَغْدَادَ وَاسْتَجَاشَ بِأَلْفٍ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، وَجَاءَ فَدَخَلَ بِهِمْ
بَغْدَادَ فَأَكْثَرَ فِيهَا الْفَسَادَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِدَارِ
الْخِلَافَةِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُصَالَحَةَ
وَالْعَفْوَ عَمَّا جَنَى، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ قَاضِي
الْقُضَاةِ أَبَا الْحُسَيْنِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، وَتَرَحَّلَ
ابْنُ رَائِقٍ عَنْ بَغْدَادَ وَدَخَلَهَا الْخَلِيفَةُ فِي جُمَادَى الْأُولَى
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ.
وَنَزَلَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ آذَارَ -
وَذَلِكَ فِي جُمَادَى
الْأُولَى
- مَطَرٌ عَظِيمٌ وَبَرَدٌ كِبَارٌ، كُلُّ وَاحِدَةٍ نَحْوُ الْأُوقِيَّتَيْنِ،
وَاسْتَمَرَّ فَسَقَطَ بِسَبَبِهِ دُورٌ كَثِيرَةٌ مِنْ بَغْدَادَ. وَظَهَرَ
جَرَادٌ كَثِيرٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ الْحَجُّ مِنْ جِهَةِ دَرْبِ
الْعِرَاقِ قَدْ تَعَطَّلَ مِنْ سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى
هَذِهِ السَّنَةِ، فَشَفَعَ الشَّرِيفُ أَبُو عَلِيٍّ عُمَرُ بْنُ يَحْيَى
الْعَلَوِيُّ عِنْدَ الْقَرَامِطَةِ، وَكَانُوا يُحِبُّونَهُ لِشَجَاعَتِهِ
وَكَرَمِهِ، فِي أَنْ يُمَكِّنُوا الْحَجِيجَ مِنَ الْحَجِّ، وَأَنْ يَكُونَ
لَهُمْ عَلَى كُلِّ جَمَلٍ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَعَلَى الْمَحْمَلِ سَبْعَةُ
دَنَانِيرَ، فَخَرَجَ النَّاسُ لِلْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى هَذَا
الشَّرْطِ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ خَرَجَ الشَّيْخُأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِمْ
طَالَبُوهُ بِالْخُفَارَةِ، فَثَنَى رَأْسَ رَاحِلَتِهِ وَرَجَعَ، وَقَالَ: مَا
رَجَعْتُ شُحًّا، وَلَكِنْ سَقَطَ عَنِّي وُجُوبُ الْحَجِّ بِطَلَبِ هَذِهِ
الْخُفَارَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِالْأَنْدَلُسِ، وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيَّ، صَاحِبَ الْأَنْدَلُسِ، الْمُلَقَّبَ بِالنَّاصِرِ
لِدِينِ اللَّهِ، قَتَلَ وَزِيرَهُ أَحْمَدَ، فَغَضِبَ لَهُ أَخُوهُ أُمَيَّةُ
بْنُ إِسْحَاقَ - وَكَانَ نَائِبًا عَلَى مَدِينَةِ شَنْتَرِينَ - فَارْتَدَّ
وَدَخَلَ بِلَادِ النَّصَارَى، وَاجْتَمَعَ بِمَلِكِهِمْ رُدْمِيرَ، وَدَلَّهُ
عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فِي
الْجَلَالِقَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْأُمَوِيُّ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسًا
شَدِيدًا، وَقَتَلَ مِنَ الْجَلَالِقَةِ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ كَرَّ
الْفِرِنْجُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا قَرِيبًا
مِمَّنْ قُتِلُوا مِنْهُمْ، ثُمَّ وَالَى الْمُسْلِمُونَ الْغَارَاتِ عَلَى
بِلَادِ الْجَلَالِقَةِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ أُمَمًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً،
ثُمَّ نَدِمَأُمَيَّةُ بْنُ إِسْحَاقَ عَلَى مَا صَنَعَ، وَطَلَبَ الْأَمَانَ مِنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ
قَبَّلَهُ وَاحْتَرَمَهُ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ دُحَيْمٍ، أَبُو عَلِيٍّ الدِّمَشْقِيُّ
مِنْ أَبْنَاءِ الْمُحَدِّثِينَ، وَكَانَ أَخْبَارِيًّا، لَهُ فِي ذَلِكَ
مُصَنَّفَاتٌ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ الْبَيْرُوتِيِّ
وَغَيْرِهِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ
أَنَافَ عَلَى الثَّمَانِينَ سَنَةً.
الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ
بِشْرٍ، أَبُو عَلِيٍّ الْكَوْكَبِيُّ الْكَاتِبُ
صَاحِبُ الْأَخْبَارِ وَالْآدَابِ، رَوَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ
وَأَبِي الْعَيْنَاءِ وَابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَرَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَغَيْرُهُ.
عُثْمَانُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَمْرٍو الْبَلَوِيُّ
الْمَغْرِبِيُّ الْأَشَجُّ
وَيُعْرَفُ بِأَبِي الدُّنْيَا، قَدِمَ هَذَا الرَّجُلُ بَغْدَادَ بَعْدَ
الثَّلَاثِمِائَةٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ وُلِدَ أَوَّلَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ
الصَّدِيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَأَنَّهُ وَفَدَ هُوَ
وَأَبَوْهُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
فَأَصَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ عَطَشٌ شَدِيدٌ فَذَهَبَ
يَرْتَادُ
لِأَبِيهِ مَاءً، فَرَأَى عَيْنًا، فَشَرِبَ مِنْهَا وَاغْتَسَلَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى
أَبِيهِ لِيَسْقِيَهُ، فَمَاتَ أَبُوهُ، وَقَدِمَ هُوَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُقَبِّلَ رُكْبَتَهُ، فَصَدَمَهُ الرِّكَابُ، فَشَجَّ
رَأْسَهُ، فَكَانَ يُعْرَفُ بِالْأَشَجِّ.
وَصَدَّقَهُ فِي هَذَا الزَّعْمِ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَرَوَوْا عَنْهُ
نُسْخَةً فِيهَا أَحَادِيثُ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عَلِيٍّ ; مِمَّنْ صَدَّقَهُ
فِي ذَلِكَ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُفِيدِ، وَرَوَاهَا
عَنْهُ، وَلَكِنْ كَانَ الْمُفِيدُ مُتَّهَمًا بِالتَّشَيُّعِ، فَسُمِحَ لَهُ فِي
ذَلِكَ لِانْتِسَابِهِ إِلَى عَلِيٍّ، وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ
قَدِيمًا وَحَدِيثًا فَكَذَّبُوهُ فِي ذَلِكَ، وَرَدُّوا عَلَيْهِ كَذِبَهُ،
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ النُّسْخَةَ الَّتِي رَوَاهَا مَوْضُوعَةٌ، مِنْهُمُ
الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّلَفِيُّ، وَأَشْيَاخُنَا
الَّذِينَ أَدْرَكْنَاهُمْ ; شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ،
وَالْجَهْبَذُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ، وَالْحَافِظُ مُؤَرِّخُ
الْإِسْلَامِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ، وَقَدْ حَرَّرْتُ ذَلِكَ فِي
كِتَابِي " التَّكْمِيلِ ". وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ الْمُفِيدُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْأَشَجَّ هَذَا مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ
وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى بَلَدِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ، أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ
صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ، أَصَّلُهُ مِنْ أَهْلِ سُرَّ مَنْ رَأَى، وَسَكَنَ
الشَّامَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنِ الْحَسَنِ
بْنِ
عَرَفَةَ وَغَيْرِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ ابْنُ الْحَافِظِ الْكَبِيرِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الرَّازِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ " الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ " وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ
الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَلَهُ التَّفْسِيرُ الْحَافِلُ
الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَى النَّقْلِ الْكَامِلِ، الَّذِي يُرْبِي فِيهِ عَلَى
تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَهُ كِتَابُ "
الْعِلَلِ " الْمُصَنَّفَةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ،
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ النَّافِعَةِ، وَكَانَ مِنَ الْعِبَادَةِ
وَالزَّهَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْحِفْظِ وَالْكَرَامَاتِ الْكَثِيرَةِ
الْمَشْهُورَةِ عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَكْرَمَ
مَثْوَاهُ.
وَقَدْ صَلَّى مَرَّةً، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ مَنْ
صَلَّى مَعَهُ: لَقَدْ أَطَلْتَ عَلَيْنَا، وَقَدْ سَبَّحْتُ فِي سُجُودِي
سَبْعِينَ مَرَّةً، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَكِنِّي وَاللَّهِ مَا سَبَّحْتُ
إِلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَتَهَدَّمَ سُورُ بَعْضِ بِلَادِ الثُّغُورِ
فَتَكَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ يَوْمًا عَلَى النَّاسِ وَحَثَّهُمْ
عَلَى عِمَارَتِهِ ; فَقَالَ: مَنْ يَعْمُرُهُ وَأَضْمَنُ لَهُ عَلَى اللَّهِ
الْجَنَّةَ ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ التُّجَّارِ، فَقَالَ: اكْتُبْ لِي بِخَطِّكَ
هَذَا الضَّمَانَ، وَهَذِهِ أَلْفُ دِينَارٍ لِعِمَارَتِهِ. فَكَتَبَ لَهُ
رُقْعَةً بِذَلِكَ، وَعَمَرَ ذَلِكَ السُّورَ. ثُمَّ اتَّفَقَ مَوْتُ ذَلِكَ
الرَّجُلِ عَمَّا قَرِيبٍ، فَلَمَّا حَضَرَ النَّاسُ جِنَازَتَهُ طَارَتْ مِنْ
كَفَنِهِ رُقْعَةٌ، وَهِيَ
الَّتِي كَانَ كَتَبَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَإِذَا فِي ظَهْرِهَا مَكْتُوبٌ: قَدْ أَمْضَيْنَا لَكَ هَذَا الضَّمَانَ، وَلَا تَعُدْ إِلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ ": فِي غُرَّةِ
الْمُحَرَّمِ مِنْهَا ظَهَرَتْ فِي الْجَوِّ حُمْرَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ نَاحِيَةِ
الشَّمَالِ وَالْمَغْرِبِ، وَفِيهَا أَعْمِدَةٌ بِيضٌ عَظِيمَةٌ كَثِيرَةُ
الْعَدَدِ.
وَفِيهَا وَصَلَ الْخَبَرُ بِأَنَّ رُكْنَ الدَّوْلَةِ أَبَا عَلِيٍّ الْحَسَنَ
بْنَ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيَّ وَصَلَ إِلَى وَاسِطٍ فَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ
وبَجْكَمُ لِقِتَالِهِ فَانْصَرَفَ رَاجِعًا، وَرَجَعَا إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ مَدِينَةَ
أَصْبَهَانَ أَخَذَهَا مِنْ وُشْمَكِيرَ أَخِي مَرْدَاوِيجَ ; لِقِلَّةِ جَيْشِهِ
فِي ذَلِكَ الْحِينِ.
وَفِي شَعْبَانَ زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً، وَانْتَشَرَتْ فِي
الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَسَقَطَتْ دَوْرٌ كَثِيرَةٌ، وَانْبَثَقَ بَثْقٌ مِنْ
نَوَاحِي الْأَنْبَارِ فَغَرَّقَ قُرًى كَثِيرَةً، وَهَلَكَ بِسَبَبِهِ
حَيَوَانَاتٌ وَسِبَاعٌ كَثِيرَةٌ فِي الْبَرِّيَّةِ.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ بَجْكَمُ بِسَارَةَ بِنْتِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْبَرِيدِيِّ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْوَزِيرُ
يَوْمَئِذٍ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ صُرِفَ عَنِ الْوِزَارَةِ بِسُلَيْمَانَ بْنِ
الْحَسَنِ، وَضَمِنَ الْبَرِيدِيُّ بِلَادَ وَاسِطٍ وَأَعْمَالَهَا بِسِتِّمِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِيهَا
تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحُسَيْنِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
يُوسُفَ، وَتَوَلَّى مَكَانَهُ وَلَدُهُ أَبُو نَصْرٍ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ الرَّاضِي يَوْمَ الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ
بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْهَا. وَلَمَّا خَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْبَرِيدِيُّ إِلَى وَاسِطٍ كَتَبَ إِلَى بَجْكَمَ يَحُثُّهُ عَلَى الْخُرُوجِ
إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ ; لِيَفْتَحَهَا وَيُسَاعِدُهُ هُوَ عَلَى أَخْذِ
الْأَهْوَازِ مِنْ يَدِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ
مَقْصُودُهُ أَنْ يَسْتَغْيِبَهُ عَنْ بَغْدَادَ لِيَأْخُذَهَا، فَلَمَّا
انْفَصَلَ بَجْكَمُ بِالْجُنُودِ بَلَغَهُ مَا يُؤَمِّلُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْبَرِيدِيُّ مِنَ الْمَكِيدَةِ، فَرَجَعَ سَرِيعًا إِلَى بَغْدَادَ وَرَكِبَ فِي
جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَيْهِ، وَأَخَذَ الطُّرُقَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ; لِئَلَّا
يَشْعُرَ بِهِ إِلَّا وَهُوَ عِنْدَهُ عَلَى حَافَّةِ السَّفِينَةِ، فَاتَّفَقَ
أَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا فِي زَوْرَقٍ، وَعِنْدَهُ كَاتِبٌ لَهُ، إِذْ سَقَطَتْ
حَمَامَةٌ عَلَى جَانِبِ السَّفِينَةِ فِي ذَنَبِهَا كِتَابٌ، فَأَخَذَهُ
بَجْكَمُ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ كِتَابٌ مِنْ هَذَا الْكَاتِبِ إِلَى بَعْضِ
أَصْحَابِ الْبَرِيدِيِّ يُعْلِمُهُمْ بِخَبَرِ بَجْكَمَ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ
! أَهَذَا خَطُّكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِنْكَارِ، فَأَمَرَ
بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ، وَأُلْقِيَ فِي دِجْلَةَ، وَحِينَ أَحَسَّ الْبَرِيدِيُّ
بِقُدُومِ بَجْكَمَ هَرَبَ إِلَى الْبَصْرَةِ وَلَمْ يُقِمْ بِهَا أَيْضًا،
فَاسْتَوْلَى بَجْكَمُ عَلَى بِلَادِ وَاسِطٍ وَتَسَلَّطَ الدَّيْلَمُ عَلَى جَيْشِهِ
الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ بِالْجَبَلِ، فَفَرُّوا سِرَاعًا إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ
فَدَخَلَ حِمْصَ أَوَّلًا
فَأَخَذَهَا،
ثُمَّ جَاءَ إِلَى دِمَشْقَ وَعَلَيْهَا بَدْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْإِخْشِيدِيُّ الْمَعْرُوفُ بِبُدَيْرٍ، مِنْ جِهَةِ الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ
بْنِ طُغْجٍ، فَأَخْرَجَهُ ابْنُ رَائِقٍ مِنْهَا قَهْرًا، وَاسْتَوْلَى
عَلَيْهَا.
ثُمَّ رَكِبَ فِي جَيْشٍ إِلَى الرَّمْلَةِ فَأَخَذَهَا، ثُمَّ قَصَدَ عَرِيشَ
مِصْرَ ; لِيَدْخُلَهَا، فَلَقِيَهُ مُحَمَّدُ بْنُ طُغْجٍ، فَاقْتَتَلَا هُنَاكَ،
فَهَزَمَهُ ابْنُ رَائِقٍ وَاشْتَغَلَ أَصْحَابُهُ بِالنَّهْبِ، وَنَزَلُوا فِي
خِيَامِ الْمِصْرِيِّينَ، فَكَرَّ عَلَيْهِمُ الْمِصْرِيُّونَ، فَقَتَلُوهُمْ
قَتْلًا عَظِيمًا، وَهَرَبَ مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ
أَصْحَابِهِ، فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي أَسْوَأِ حَالَةٍ وَشَرِّهَا، وَسَيَّرَ
إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ طُغْجٍ أَخَاهُ نَصْرَ بْنَ طُغْجٍ فِي جَيْشٍ،
فَاقْتَتَلُوا عِنْدَ اللَّجُّونِ فِي رَابِعِ ذِي الْحِجَّةِ، فَهُزِمَ الْمِصْرِيُّونَ
وَقُتِلَ أَخُو الْإِخْشِيدِ فِيمَنْ قُتِلَ، فَغَسَّلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ
وَكَفَّنَهُ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى أَخِيهِ بِمِصْرَ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ وَلَدَهُ،
وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَحْلِفُ لَهُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ قَتْلَهُ، وَهَذَا وَلَدِي
فَاقْتَدْ مِنْهُ. فَأَكْرَمَ الْإِخْشِيدُ وَلَدَ مُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ،
وَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الرَّمْلَةُ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى دِيَارِ
مِصْرَ لِلْإِخْشِيدِ، وَيَحْمِلَ إِلَيْهِ الْإِخْشِيدُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ
أَلْفِ دِينَارٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَا بَعْدَ الرَّمْلَةِ يَكُونُ
لِمُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ:
جَعْفَرُ الْمُرْتَعِشُ أَبُو مُحَمَّدٍ
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ،
وَقَالَ
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
أَبُو مُحَمَّدٍ النَّيْسَابُورِيُّ كَانَ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ، فَتَخَلَّى
عَنْهَا، وَصَحِبَ الْجُنَيْدَ وَأَبَا حَفْصٍ وَأَبَا عُثْمَانَ، وَأَقَامَ
بِبَغْدَادَ حَتَّى صَارَ شَيْخَ الصُّوفِيَّةِ، فَكَانَ يُقَالُ: عَجَائِبُ
بَغْدَادَ ثَلَاثٌ: إِشَارَاتُ الشِّبْلِيِّ، وَنُكَتُ الْمُرْتَعِشِ،
وَحِكَايَاتُ جَعْفَرٍ الْخَوَّاصِ
سَمِعْتُ أَبَا الْفَرَجِ الصَّائِغِ يَقُولُ: قَالَ الْمُرْتَعِشُ: مَنْ ظَنَّ
أَنَّ أَفْعَالَهُ تُنْجِيهِ مِنَ النَّارِ أَوْ تُبَلِّغُهُ الرِّضْوَانَ، فَقَدْ
جَعَلَ لِنَفْسِهِ وَلِفِعْلِهِ خَطَرًا، وَمَنِ اعْتَمَدَ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ
بَلَّغَهُ اللَّهُ أَقْصَى مَنَازِلِ الرِّضْوَانِ.
وَقِيلَ لِلْمُرْتَعِشِ: إِنْ فُلَانًا يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ. فَقَالَ: إِنَّ
مُخَالَفَةَ الْهَوَى أَعْظَمُ مِنَ الْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَهُوَ بِمَسْجِدِ الشُّونِيزِيَّةِ، حَسِبُوا مَا
عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَإِذَا عَلَيْهِ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَقَالَ:
بِيعُوا خُرَيْقَاتِي هَذِهِ وَاقْضُوا بِهَا دَيْنِي، وَأَرْجُو أَنْ يَرْزُقَنِي
اللَّهُ كَفَنًا، وَقَدْ سَأَلْتُ اللَّهَ ثَلَاثًا ; سَأَلْتُهُ أَنْ يُمِيتَنِي
وَأَنَا فَقِيرٌ، وَأَنْ يَجْعَلَ وَفَاتِي فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، فَإِنِّي
صَحِبْتُ فِيهِ أَقْوَامًا، وَأَنْ يَجْعَلَ عِنْدِي مَنْ آنَسُ بِهِ وَأُحِبُّهُ.
ثُمَّ غَمَّضَ عَيْنَيْهِ وَمَاتَ.
أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
عِيسَى بْنِ الْفَضْلِ بْنِ بَشَّارٍ
أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَانَ
زَاهِدًا
وَرِعًا
نَاسِكًا عَابِدًا، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِقُمَّ، ثُمَّ حِسْبَةَ بَغْدَادَ فَكَانَ
يَدُورُ بِهَا وَيُصَلِّي عَلَى بَغْلَتِهِ وَهُوَ سَائِرٌ بَيْنَ الْأَزِقَّةِ،
وَكَانَ مُتَقَلِّلًا جِدًّا. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي " طَبَقَاتِ
الشَّافِعِيَّةِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلَهُ كِتَابُ " الْقَضَاءِ
" لَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُهُ فِي بَابِهِ. تُوُفِّيَ وَقَدْ قَارَبَ
التِّسْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْمُزَيِّنُ الصَّغِيرُ
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، أَصْلُهُ مِنْ بَغْدَادَ وَصَحِبَ الْجُنَيْدَ
وَسَهْلًا التُّسْتَرِيَّ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ حَتَّى تُوفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَالَ، وَيَحْكِي عَنْ نَفْسِهِ: وَرَدْتُ بِئْرًا فِي أَرْضِ
تَبُوكَ فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهَا زَلِقْتُ فَسَقَطْتُ فِي الْبِئْرِ، وَلَيْسَ
أَحَدٌ يَرَانِي، فَلَمَّا كُنْتُ فِي أَسْفَلِهِ إِذَا فِيهَا مِصْطَبَةٌ
فَعَلَوْتُهَا، وَقُلْتُ: إِنْ مُتُّ لَا أُفْسِدُ عَلَى النَّاسِ الْمَاءَ،
وَسَكَنَتْ نَفْسِي وَطَابَتْ لِلْمَوْتِ، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذَا أَفْعَى
قَدْ تَدَلَّتْ عَلَيَّ فَلَفَّتْ عَلَيَّ ذَنَبَهَا، ثُمَّ رَفَعَتْنِي حَتَّى
أَخْرَجَتْنِي إِلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَانْسَابَتْ فَلَمْ أَدْرِ أَيْنَ
ذَهَبَتْ، وَلَا مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ.
وَفِي مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ آخَرُ يُقَالُ لَهُ: أَبُو جَعْفَرٍ الْمُزَيِّنُ
الْكَبِيرُ، جَاوَرَ بِمَكَّةَ، وَمَاتَ بِهَا أَيْضًا، وَكَانَ مِنَ الْعُبَّادِ.
رَوَى
الْخَطِيبُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ
الطَّبَرِيَّ، عَنْ جَعْفَرٍ الْخُلْدِيِّ، قَالَ: وَدَّعْتُ فِي بَعْضِ حَجَّاتِي
الْمُزَيِّنَ الْكَبِيرَ، فَقُلْتُ لَهُ: زَوِّدْنِي. فَقَالَ لِي: إِذَا فَقَدْتَ
شَيْئًا، فَقُلْ: يَا جَامِعَ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، إِنَّ اللَّهَ
لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، اجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَ كَذَا. فَإِنَّ اللَّهَ
يَجْمَعُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، قَالَ: فَجِئْتُ إِلَى
الْكَتَّانِيِّ، فَوَدَّعْتُهُ، وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُزَوِّدَنِي، فَأَعْطَانِي
خَاتَمًا عَلَى فَصِّهِ نَقْشٌ، فَقَالَ: إِذَا اغْتَمَمْتَ فَانْظُرْ إِلَى هَذَا
الْفَصِّ يَزُلْ غَمُّكَ، قَالَ: فَكُنْتُ لَا أَدْعُو بِذَلِكَ الدُّعَاءِ إِلَّا
اسْتُجِيبَ لِي وَلَا أَنْظُرُ إِلَى ذَلِكَ الْفَصِّ إِلَّا زَالَ عَنِّي مَا
أَجِدُهُ، فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ فِي سُمَيْرِيَّةٍ إِذْ هَبَّتْ رِيحٌ
شَدِيدَةٌ، فَأَخْرَجْتُ الْخَاتَمَ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمْ أَدْرِ كَيْفَ
ذَهَبَ، فَجَعَلْتُ أَدْعُو بِذَلِكَ الدُّعَاءِ يَوْمِي كُلَّهُ، فَلَمَّا
رَجَعْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَتَّشْتُ الْمَتَاعَ الَّذِي فِي الْمَنْزِلِ،
فَإِذَا الْخَاتَمُ فِي بَعْضِ ثِيَابِي الَّتِي كَانَتْ بِالْمَنْزِلِ.
صَاحِبُ كِتَابِ " الْعِقْدِ الْفَرِيدِ " أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ
بْنِ حَبِيبِ بْنِ حُدَيْرِ بْنِ سَالِمٍ، أَبُو عُمَرُ الْقُرْطُبِيُّ
مَوْلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ الْأُمَوِيِّ، كَانَ مِنَ
الْفُضَلَاءِ الْمُكْثِرِينَ، وَالْعُلَمَاءِ بِأَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ
وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَكِتَابُهُ " الْعِقْدُ " يَدُلُّ عَلَى
فَضَائِلَ جَمَّةٍ،
وَعُلُومٍ
كَثِيرَةٍ مُهِمَّةٍ، وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ كَثِيرٌ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى تَشَيُّعٍ
فِيهِ، وَمَيْلٍ إِلَى الْحَطِّ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَهَذَا عَجِيبٌ مِنْهُ ;
لِأَنَّهُ أَحَدُ مَوَالِيهِمْ، وَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ
يُوَالِيهِمْ لَا مِمَّنْ يُعَادِيهِمْ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ حَسَنٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ
مِنْهُ أَشْعَارًا فِي التَّغَزُّلِ فِي الْمُرْدَانِ وَالنِّسْوَانِ أَيْضًا، وَكَانَ
مَوْلِدُهُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ
بِقُرْطُبَةَ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَامِنَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
عُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، أَبُو الْحُسَيْنِ
الْأَزْدِيُّ
الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ الْقَاضِي ابْنُ الْقَاضِي، نَابَ عَنْ أَبِيهِ
وَعُمْرُهُ عِشْرُونَ سَنَةً، وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ
وَالْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ وَاللُّغَةِ
وَالنَّحْوِ وَالشِّعْرِ. وَصَنَّفَ مُسْنَدًا، وَرُزِقَ قُوَّةَ الْفَهْمِ
وَجَوْدَةَ الْقَرِيحَةِ، وَشَرَفَ الْأَخْلَاقِ، وَلَهُ الشِّعْرُ الرَّائِقُ
الْحَسَنُ، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ فِي الْقَضَاءِ، عَدْلًا ثِقَةً إِمَامًا.
قَالَ الْخَطِيبُ: أَخْبَرْنَا أَبُو الطِّيبِ الطَّبَرَيُّ: سَمِعْتُ الْمُعَافَى
بْنَ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نَجْلِسُ فِي حَضْرَةِ الْقَاضِي
أَبِي الْحُسَيْنِ، فَجِئْنَا يَوْمًا نَنْتَظِرُهُ عَلَى الْعَادَةِ، فَجَلَسْنَا
عِنْدَ بَابِهِ، وَإِذَا أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ كَأَنَّ لَهُ حَاجَةً، إِذْ وَقَعَ
غُرَابٌ عَلَى نَخْلَةٍ فِي الدَّارِ، فَصَرَخَ ثُمَّ طَارَ. فَقَالَ
الْأَعْرَابِيُّ: هَذَا الْغُرَابُ يَقُولُ إِنَّ
صَاحِبَ
هَذِهِ الدَّارِ يَمُوتُ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ. قَالَ: فَزَبَرْنَاهُ، فَقَامَ
وَانْصَرَفَ، ثُمَّ خَرَجَ الْإِذْنُ مِنَ الْقَاضِي إِلَيْنَا أَنْ هَلُمُّوا
فَادْخُلُوا، فَدَخَلْنَا، فَإِذَا بِهِ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ مُغْتَمٌّ،
فَقُلْنَا: مَا الْخَبَرُ ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ فِي الْمَنَامِ
شَخْصًا يَقُولُ:
مَنَازِلَ آلِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى أَهْلِيكِ وَالنِّعَمِ السَّلَامُ
وَقَدْ ضَاقَ لِذَلِكَ صَدْرِي. قَالَ: فَدَعَوْنَا لَهُ وَانْصَرَفْنَا. فَلَمَّا
كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ دُفِنَ.
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ لِيَوْمِ الْخَمِيسِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ
سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ أَبُو نَصْرٍ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْقَضَاءَ.
قَالَ الصُّولِيُّ: بَلَغَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ مِنَ الْعِلْمِ مَبْلَغًا
عَظِيمًا مَعَ حَدَاثَةِ السِّنِّ، وَحِينَ تُوُفِّيَ كَانَ الرَّاضِي يَبْكِي
عَلَيْهِ بِحَضْرَتِنَا وَيَقُولُ: كُنْتُ أَضِيقُ بِالشَّيْءِ ذَرْعًا
فَيُوَسِّعُهُ عَلَيَّ. ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا بَقِيتُ بَعْدَهُ.
ابْنُ شَنَبُوذَ الْمُقْرِئُ، مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ
الصَّلْتِ، أَبُو الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ شَنَبُوذَ، رَوَى عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ، وَبِشْرِ
بْنِ مُوسَى وَخَلْقٍ، وَكَانَ يَخْتَارُ حُرُوفًا أَنْكَرَهَا أَهْلُ زَمَانِهِ
عَلَيْهِ، وَصَنَّفَ أَبُو بَكْرِ بْنُ
الْأَنْبَارِيِّ
كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، كَيْفَ
أَنَّهُ عُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ فِي دَارِ الْوَزِيرِ أَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، وَأَنَّهُ ضُرِبَ حَتَّى رَجَعَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ
الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْقُرَّاءُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ
عَلَيْهِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي صَفَرٍ مِنْهَا، وَقَدْ دَعَا ابْنُ شَنَبُوذَ
عَلَى ابْنِ مُقْلَةَ حِينَ أَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَلَمْ يُفْلِحِ ابْنُ مُقْلَةَ
بَعْدَهَا.
ابْنُ مُقْلَةَ الْوَزِيرُ أَحَدُ الْكُتَّابِ الْمَشَاهِيرِ، مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَلِيٍّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
مُقْلَةَ الْوَزِيرِ
وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ عُمْرِهِ ضَعِيفَ الْحَالِ، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ
إِلَى أَنْ وَلِيَ الْوِزَارَةَ لِثَلَاثَةٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَهُمُ
الْمُقْتَدِرُ، وَالْقَاهِرُ، وَالرَّاضِي، وَعُزِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقُطِعَتْ
يَدُهُ وَلِسَانُهُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ وَحُبِسَ، فَكَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ
بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَأَسْنَانِهِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَكْتُبُ بِيَدِهِ
الْيُمْنَى بَعْدَ قَطْعِهَا، كَمَا كَانَ يَكْتُبُ وَهِيَ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ
كَانَ خَطُّهُ مِنْ أَقْوَى الْخُطُوطِ، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ، وَقَدْ
بَنَى لَهُ دَارًا فِي زَمَانِ وِزَارَتِهِ، فَجَمَعَ عِنْدَ بِنَائِهَا خَلْقًا مِنَ
الْمُنَجِّمِينَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ تُبْنَى فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ،
فَأَسَّسَ جُدْرَانَهَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، كَمَا أَشَارُوا، فَمَا لَبِثَ
بَعْدَ اسْتِتْمَامِهَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى خُرِّبَتْ وَصَارَتْ كَوْمًا،
كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ وَذَكَرْنَا مَا كَتَبُوا عَلَى جُدْرَانِهَا، وَقَدْ
كَانَ
لَهُ بُسْتَانٌ كَبِيرٌ جِدًّا، فِيهِ عِدَّةُ أَجْرِبَةٍ - أَيْ فَدَادِينَ -
وَعَلَيْهِ جَمِيعِهِ شَبَكَةٌ مِنْ إِبْرَيْسَمٍ، وَفِيهِ مِنَ الطُّيُورِ
الْقَمَارِيِّ وَالْهَزَارِ وَالْبَبْغِ وَالْبَلَابِلِ وَالطَّوَاوِيسِ
وَالْقَبْجِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَفِي أَرْضِهِ مِنَ الْغِزْلَانِ، وَبَقَرِ
الْوَحْشِ وَحَمِيرِهِ، وَالنَّعَامِ وَالْإِبِلِ شَيْءٌ كَثِيرٌ أَيْضًا. ثُمَّ
صَارَ هَذَا كُلُّهُ عَمَّا قَرِيبٍ بَعْدَ النُّضْرَةِ وَالْبَهَاءِ إِلَى
الْهَلَاكِ وَالْفَنَاءِ. وَقَدْ أَنْشَدَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ حِينَ بَنَى
دَارَهُ:
قُلْ لِابْنِ مُقْلَةَ مَهْلًا لَا تَكُنْ عَجِلًا وَاصْبِرْ فَإِنَّكَ فِي
أَضْغَاثِ أَحْلَامِ
تَبْنِي بِأَنْقَاضِ دُورِ النَّاسِ مُجْتَهِدًا دَارًا سَتُنْقَضُ أَيْضًا بَعْدَ
أَيَّامِ
مَا زِلْتَ تَخْتَارُ سَعْدَ الْمُشْتَرِيِّ لَهَا فَلَمْ تُوَقَّ بِهِ مِنْ
نَحْسِ بَهْرَامِ
إِنَّ الْقُرَانَ وَبَطْلَيْمُوسَ مَا اجْتَمَعَا فِي حَالِ نَقْضٍ وَلَا فِي
حَالِ إِبْرَامِ
فَعُزِلَ ابْنُ مُقْلَةَ عَنْ وِزَارَتِهِ، وَخُرِّبَتْ دَارُهُ، وَأُتْلِفَتْ
أَشْجَارُهُ، وَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ قُطِعَ لِسَانُهُ، وَأُغْرِمَ بِأَلْفِ
أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ سُجِنَ وَحْدَهُ، مَعَ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ
وَالضَّرُورَةِ، فَكَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ لِنَفْسِهِ مِنْ بِئْرٍ عَمِيقٍ،
فَكَانَ يَمُدُّ الْحَبْلَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، وَيُمْسِكُهُ بِفِيهِ. وَقَاسَى
جَهْدًا جَهِيدًا، بَعْدَمَا ذَاقَ عَيْشًا رَغِيدًا، وَمِنْ شِعْرِهِ حِينَ
قُطِعَتْ يَدُهُ:
مَا سَئمْتُ الْحَيَاةَ لَكَنْ تَوَثَّقْتُ بِأَيْمَانِهِمْ فَبَانَتْ يَمِينِي
بِعْتُ دِينِي لَهُمْ بِدُنْيَايَ حَتَّى حَرَمُونِي دُنْيَاهُمْ بَعْدَ دِينِي
وَلَقَدْ
حُطْتُ مَا اسْتَطَعْتُ بِجَهْدِي حِفْظَ أَرْوَاحِهِمْ فَمَا حَفَظُونِي
لَيْسَ بَعْدَ الْيَمِينِ لَذَّةُ عَيْشٍ يَا حَيَاتِي بَانَتْ يَمِينِي فَبِينِي
وَكَانَ يَبْكِي عَلَى يَدِهِ كَثِيرًا، وَيَقُولُ: بَعْدَمَا خَدَمْتُ بِهَا
ثَلَاثَةً مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَكَتَبْتُ بِهَا الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ، تُقْطَعُ
كَمَا تُقْطَعُ أَيْدِيَ اللُّصُوصِ ! ثُمَّ يُنْشِدُ:
إِذَا مَا مَاتَ بَعْضُكَ فَابْكِ بَعْضًا فَإِنَّ الْبَعْضَ مِنْ بَعْضٍ قَرِيبُ
وَقَدْ مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَحْبِسِهِ هَذَا، وَدُفِنَ فِي دَارِ
السُّلْطَانِ، ثُمَّ سَأَلَ وَلَدَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَنْ يُحَوَّلَ فَأُجِيبَ،
فَنَبَشُوهُ وَدَفَنَهُ وَلَدُهُ عِنْدَهُ فِي دَارِهِ، ثُمَّ سَأَلَتْ زَوْجَتُهُ
الْمَعْرُوفَةُ بِالدِّينَارِيَّةِ أَنْ يُدْفَنَ فِي دَارِهَا، فَنُبِشَ وَدُفِنَ
عِنْدَهَا، فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ أَيْضًا. مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَهُ
مِنَ الْعُمُرِ سِتٌّ وَخَمْسُونَ سَنَةً.
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
بَشَّارِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ بَيَانِ بْنِ سَمَاعَةَ بْنِ فَرْوَةَ بْنِ قَطَنِ
بْنِ دِعَامَةَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ " الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْمُصَنَّفَاتِ، وَكَانَ مِنْ بُحُورِ الْعِلْمِ فِي اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ. سَمِعَ الْكَدِيمِيَّ وَإِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي وَثَعْلَبًا
وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا أَدِيبًا، دَيِّنًا فَاضِلًا، مِنْ أَهْلِ
السُّنَّةِ، مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالنَّحْوِ وَالْأَدَبِ وَأَكْثَرِهِمْ
حِفْظًا لَهُ، وَكَانَتْ لَهُ مِنَ الْمَحَافِيظِ مُجَلَّدَاتٌ عَظِيمَةٌ
كَثِيرَةٌ
أَحْمَالُ
أَجْمَالٍ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا التَّقَالِيَ، وَلَا يَشْرَبُ مَاءً إِلَى
قَرِيبِ الْعَصْرِ ; مُرَاعَاةً لِحِفْظِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ
مِائَةً وَعِشْرِينَ تَفْسِيرًا. وَحَفِظَ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا فِي لَيْلَةٍ،
وَكَانَ يَحْفَظُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ عَشْرَةَ آلَافِ وَرَقَةٍ. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ لَيْلَةَ عِيدِ النَّحْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أُمُّ عِيسَى بِنْتُ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ
كَانَتْ عَالِمَةً فَاضِلَةً، تُفْتِي فِي الْفِقْهِ. تُوُفِّيَتْ فِي رَجَبٍ
مِنْهَا، وَدُفِنَتْ إِلَى جَانِبِ أَبِيهَا، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُنْتَصَفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ
الرَّاضِي بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ
الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ
الْمُوَفَّقِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ بْنِ
الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ
الْعَبَّاسِيِّ، اسْتُخْلِفَ بَعْدَ عَمِّهِ الْقَاهِرِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ
جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأُمُّهُ
أُمُّ وَلَدٍ رُومِيَّةٌ تُسَمَّى ظَلُومَ، كَانَ مَوْلِدُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ
سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سِتَّ سِنِينَ
وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَعُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ إِحْدَى
وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ.
وَكَانَ أَسْمَرَ رَقِيقَ السُّمْرَةِ، دُرِّيَّ اللَّوْنِ، أَسْوَدَ الشَّعْرِ
سَبْطَهُ، قَصِيرَ الْقَامَةِ، نَحِيفَ الْجِسْمِ، فِي وَجْهِهِ طُولٌ، وَفِي
مُقَدَّمِ لِحْيَتِهِ تَمَامٌ، وَفِي شَعْرِهَا رِقَّةٌ. هَكَذَا وَصَفَهُ مَنْ
شَاهَدَهُ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: كَانَ لِلرَّاضِي فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ وَخَتَمَ
الْخُلَفَاءَ فِي أُمُورٍ عِدَّةٍ ; فَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ آخِرَ خَلِيفَةٍ لَهُ
شِعْرٌ مُدَوَّنٌ، وَآخِرَ خَلِيفَةٍ انْفَرَدَ بِتَدْبِيرِ
الْجُيُوشِ
وَالْأَمْوَالِ، وَآخِرَ خَلِيفَةٍ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ،
وَآخِرَ خَلِيفَةٍ جَالَسَ الْجُلَسَاءَ وَوَصَلَ إِلَيْهِ النُّدَمَاءُ، وَآخِرَ
خَلِيفَةٍ كَانَتْ نَفَقَتُهُ وَجَوَائِزُهُ وَعَطَايَاهُ وَجِرَايَاتُهُ
وَخَزَائِنُهُ وَمَطَابِخُهُ وَمَجَالِسُهُ وَخَدَمُهُ وَحُجَّابُهُ وَأُمُورُهُ،
كُلُّ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى تَرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْخُلَفَاءِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا.
وَمِنْ جِيدِ كَلَامِهِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
الصُّولِيُّ: لِلَّهِ أَقْوَامٌ هُمْ مَفَاتِيحُ الْخَيْرِ، وَأَقْوَامٌ
مَفَاتِيحُ الشَّرِّ، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا قَصَدَ بِهِ أَهْلَ
الْخَيْرِ، وَجَعَلَهُ الْوَسِيلَةَ إِلَيْنَا، فَنَقْضِي حَاجَتَهُ، فَهُوَ
الشَّرِيكُ فِي الثَّوَابِ وَالشُّكْرِ، وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ شَرًّا
عَدَلَ بِهِ إِلَى غَيْرِنَا، فَهُوَ الشَّرِيكُ فِي الْوِزْرِ وَالْإِثْمِ،
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَمِنْ أَلْطَفِ الِاعْتِذَارَاتِ مَا كَتَبَ بِهِ الرَّاضِي إِلَى أَخِيهِ
الْمُتَّقِي، وَهُمَا فِي الْمَكْتَبِ - وَكَانَ الْمُتَّقِي قَدِ اعْتَدَى عَلَى
الرَّاضِي، وَالرَّاضِي هُوَ الْكَبِيرُ مِنْهُمَا - فَكَتَبَ إِلَيْهِ الرَّاضِي:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَنَا مُعْتَرِفٌ لَكَ بِالْعُبُودِيَّةِ
فَرْضًا، وَأَنْتَ مُعْتَرِفٌ لِي بِالْأُخُوَّةِ فَضْلًا، وَالْعَبْدُ يُذْنِبُ
وَالْمَوْلَى يَعْفُو، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرَ:
يَا ذَا الَّذِي يَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ شَيْ اعْتِبْ فَعُتْبَاكَ حَبِيبٌ إِلَيْ
أَنْتَ عَلَى أَنَّكَ لِي ظَالِمٌ
أَعَزُّ خَلْقِ اللَّهِ طُرًّا عَلَيْ
قَالَ: فَجَاءَ إِلَيْهِ أَخُوهُ الْمُتَّقِي، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ يُقَبِّلُ
يَدَيْهِ، وَتَعَانَقَا وَاصْطَلَحَا.
وَمِنْ
لَطِيفِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي "
الْكَامِلِ ":
يَصْفَرُّ وَجْهِي إِذَا تَأَمَّلَهُ طَرْفِي وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ خَجَلَا
حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي بِوَجْنَتِهِ مِنْ دَمِ جِسْمِي إِلَيْهِ قَدْ نُقِلَا
قَالَ: وَمِمَّا رَثَى بِهِ أَبَاهُ الْمُقْتَدِرَ:
وَلَوْ أَنَّ حَيًّا كَانَ قَبْرًا لِمَيِّتٍ لَصَيَّرْتُ أَحْشَائِي لِأَعْظُمِهِ
قَبْرَا
وَلَوْ أَنَّ عُمْرِي كَانَ طَوْعَ مَشِيئَتِي وَسَاعَدَنِي الْمَقْدُورُ
قَاسَمْتُهُ الْعُمْرَا
بِنَفْسِي ثَرًى ضَاجَعْتُ فِي تُرْبِهِ الْبِلَى لَقَدْ ضَمَّ مِنْكَ الْغَيْثَ
وَاللَّيْثَ وَالْبَدْرَا
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ لَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ":
لَا تَعْذِلِي كَرَمِي عَلَى الْإِسْرَافِ رِبْحُ الْمَحَامِدِ مَتْجَرُ
الْأَشْرَافِ
أَجْرِي كَآبَائِي الْخَلَائِفِ سَابِقًا وَأَشِيدُ مَا قَدْ أَسَّسَتْ أَسْلَافِي
إِنِّي مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَكُفُّهُمْ مُعْتَادَةُ الْإِخْلَافِ
وَالْإِتْلَافِ
وَمِنْ شِعْرِهِ الَّذِي رَوَاهُ الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ
بْنِ يَحْيَى الصُّولِيِّ النَّدِيمِ عَنْهُ قَوْلُهُ:
كُلُّ
صَفْوٍ إِلَى كَدَرْ كُلُّ أَمْنٍ إِلَى حَذَرْ
وَمَصِيرُ الشَّبَابِ لِلْ مَوْتِ فِيهِ أَوِ الْكِبَرْ
دَرَّ دَرُّ الْمَشِيبِ مِنْ وَاعِظٍ يُنْذِرُ الْبَشَرْ
أَيُّهَا الْآمِلُ الَّذِي تَاهَ فِي لُجَّةِ الْغَرَرْ
أَيْنَ مَنُ كَانَ قَبْلَنَا دَرَسَ الْعَيْنُ وَالْأَثَرْ
سَيَرُدُّ الْمُعَارَ مَنْ عُمْرُهُ كُلُّهُ خَطَرْ
رَبِّ إِنِّي ذَخَرْتُ عِنْ دَكَ أَرْجُوكَ مُدَّخَرْ
إِنَّنِي مُؤْمِنُّ بِمَا بَيَّنَ الْوَحْيِ فِي السُّوَرْ
وَاعْتِرَافِي بِتَرْكِ نَفْ عِي وَإِيثَارِيَ الضَّرَرْ
رَبِّ فَاغْفِرْ لِيَ الْخَطِي ئَةَ يَا خَيْرَ مَنْ غَفَرْ
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِعِلَّةِ الِاسْتِسْقَاءِ فِي لَيْلَةِ السَّادِسِ
عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ
إِلَى بَجْكَمَ وَهُوَ بِوَاسِطٍ ; لِيَعْهَدَ إِلَى وَلَدِهِ الْأَصْغَرِ أَبِي
الْفَضْلِ، فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ ذَلِكَ، وَبَايَعَ النَّاسُ أَخَاهُ الْمُتَّقِي
لِلَّهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُقْتَدِرِ. وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا
مَقْدُورًا.
ذِكْرُ
خِلَافَةِ الْمُتَّقِي أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ
لَمَّا مَاتَ أَخُوهُ الرَّاضِي اجْتَمَعَ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ بِدَارِ
بَجْكَمَ، وَاشْتَوَرُوا فِيمَنْ يُوَلُّونَ عَلَيْهِمْ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ
كُلُّهُمْ عَلَى الْمُتَّقِي لِلَّهِ إِبْرَاهِيمَ هَذَا، فَأَحْضَرُوهُ إِلَى
دَارِ الْخِلَافَةِ، وَأَرَادُوا بَيْعَتَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ صَلَاةَ الِاسْتِخَارَةِ،
وَهُوَ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَصْعَدْ إِلَى الْكُرْسِيِّ بَعْدُ، ثُمَّ صَعِدَ
إِلَى السَّرِيرِ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ
لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ
تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا،
وَلَا غَدَرَ بِأَحَدٍ، حَتَّى وَلَا عَلَى سُرِّيَّتِهِ لَمْ يُغَيِّرْهَا،
وَلَمْ يَتَسَرَّ عَلَيْهَا.
وَكَانَ كَمَا سُمِّيَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ ; كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ
وَالتَّعَبُّدِ، وَقَالَ: لَا أُرِيدُ أَحَدًا مِنَ الْجُلَسَاءِ، حَسْبِيَ
الْمُصْحَفُ نَدِيمِي، لَا أُرِيدُ نَدِيمًا غَيْرَهُ، فَقَعَدَ عَنْهُ
الْجُلَسَاءُ وَالنُّدَمَاءُ وَالْتَفُّوا عَلَى بَجْكَمَ، وَكَانَ يُجَالِسُهُمْ
فَيُحَادِثُونَهُ وَيَتَنَاشَدُونَ عِنْدَهُ الْأَشْعَارَ، فَكَانَ لَا يَفْهَمُ
كَثِيرَ شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُونَ ; لِعُجْمَتِهِ، وَكَانَ فِي جُمْلَتِهِمْ
سِنَانُ بْنُ ثَابِتٍ الصَّابِئُ الْمُتَطَبِّبُ، وَكَانَ بَجْكَمُ يَشْكُو
إِلَيْهِ قُوَّةَ النَّفْسِ الْغَضَبِيَّةَ فِيهِ، فَكَانَ سِنَانٌ يُهَذِّبُ مِنْ
أَخْلَاقِهِ وَيُسَكِّنُ جَأْشَهُ، وَيُرَوِّضُ نَفْسَهُ حَتَّى
يَسْكُنَ
عَنْ بَعْضِ مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَكَانَ الْمُتَّقِي
لِلَّهِ حَسَنَ الْوَجْهِ، مُعْتَدِلَ الْخُلُقِ، قَصِيرَ الْأَنْفِ، أَبْيَضَ
مُشْرَبًا حُمْرَةً، وَفِي شِعْرِهِ شُقْرَةٌ وَجُعُودَةٌ، كَثُّ اللِّحْيَةِ،
أَشْهَلُ الْعَيْنَيْنِ، أَبِيُّ النَّفْسِ، لَمْ يَشْرَبِ النَّبِيذَ قَطُّ،
فَالْتَقَى فِيهِ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُتَّقِي فِي الْخِلَافَةِ أَنْفَذَ الرُّسُلَ وَالْخِلَعَ
إِلَى بَجْكَمَ وَهُوَ بِوَاسِطٍ، وَنَفَذَتِ الْمُكَاتَبَاتُ إِلَى الْآفَاقِ
بِوِلَايَةِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَحَارَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ وبَجْكَمُ
بِنَاحِيَةِ الْأَهْوَازِ، فَقُتِلَ بَجْكَمُ فِي الْحَرْبِ، وَاسْتَظْهَرَ
الْبَرِيدِيُّ عَلَيْهِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، فَاحْتَاطَ الْخَلِيفَةُ عَلَى
حَوَاصِلِ بَجْكَمَ، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِ أَلْفُ
أَلْفِ دِينَارٍ وَمِائَتَا أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَتْ أَيَّامُ بَجْكَمَ عَلَى
بَغْدَادَ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ.
ثُمَّ إِنَّ الْبَرِيدِيَّ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِبَغْدَادَ، فَأَنْفَقَ
الْخَلِيفَةُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً فِي الْجُنْدِ لِيَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ،
وَرَكِبَ بِنَفْسِهِ، فَخَرَجَ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ لِيَمْنَعَهُ مِنْ
ذَلِكَ، فَخَالَفَهُ الْبَرِيدِيُّ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي ثَانِي رَمَضَانَ،
وَنَزَلَ بِالشُّفَيْعِيِّ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْمُتَّقِي ذَلِكَ بَعْثَ
إِلَيْهِ يُهَنِّئُهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْأَطْعِمَةِ، وَخُوطِبَ
بِالْوَزِيرِ، وَلَمْ يُخَاطَبْ بِإِمْرَةِ الْأُمَرَاءِ، فَأَرْسَلَ
الْبَرِيدِيُّ يَطْلُبُ مِنَ الْخَلِيفَةِ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ،
فَامْتَنَعَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ، فَبَعَثَ يَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ
وَيُذَكِّرُهُ مَا حَلَّ بِالْمُعْتَزِّ وَالْمُسْتَعِينِ وَالْمُهْتَدِي،
وَاخْتَلَفَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ كَانَ آخِرَ ذَلِكَ أَنْ بَعَثَ
إِلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ
بِذَلِكَ قَهْرًا، وَلَمْ يَتَّفِقِ اجْتِمَاعُ الْخَلِيفَةِ وَالْبَرِيدِيِّ
بِبَغْدَادَ حَتَّى خَرَجَ الْبَرِيدِيُّ مِنْهَا إِلَى وَاسِطٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ
ثَارَتْ عَلَيْهِ الدَّيَالِمَةُ، وَالْتَفُّوا عَلَى كَبِيرِهِمْ كُورْتَكِينَ،
وَرَامُوا حَرِيقَ دَارِ الْبَرِيدِيِّ حِينَ قَبَضَ الْمَالَ مِنَ الْخَلِيفَةِ
وَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا، وَكَانَتِ الْبَجْكَمِيَّةُ طَائِفَةً أُخْرَى قَدِ
اخْتَلَفَتْ مَعَهُ أَيْضًا، وَهُمْ وَالدَّيَالِمُ قَدْ صَارُوا حِزْبَيْنِ،
فَانْهَزَمَ الْبَرِيدِيُّ مِنْ بَغْدَادَ يَوْمَ سَلْخِ رَمَضَانَ، فَاسْتَوْلَى
كُورْتَكِينُ عَلَى الْأُمُورِ بِبَغْدَادَ، وَدَخَلَ إِلَى الْمُتَّقِي،
فَقَلَّدَهُ إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدْعَى الْمُتَّقِي
لِلَّهِ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى وَأَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَفَوَّضَ إِلَى
عَبْدِ الرَّحْمَنِ تَدْبِيرَ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ بِوِزَارَةٍ،
ثُمَّ قَبَضَ كُورْتَكِينُ عَلَى رَئِيسِ الْأَتْرَاكِ تَكِينَكَ غُلَامِ بَجْكَمَ
وَغَرَّقَهُ. ثُمَّ تَظَلَّمَتِ الْعَامَّةُ مِنَ الدَّيْلَمِ ; أَنَّهُمْ
يَأْخُذُونَ مِنْهُمْ دُورَهُمْ، فَشَكَوَا ذَلِكَ إِلَى كُورْتَكِينَ، فَلَمْ
يُشْكِهِمْ، فَمَنَعَتِ الْعَامَّةُ الْخُطَبَاءَ أَنْ يُصَلُّوا فِي
الْجَوَامِعِ، وَاقْتَتَلَ الدَّيْلَمُ وَالْعَامَّةُ، فَقُتِلَ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ.
وَكَانَ الْخَلِيفَةُ قَدْ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ
صَاحِبِ الشَّامِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ لِيُخَلِّصَهُ مِنَ الدَّيْلَمِ
وَالْبَرِيدِيِّ، فَرَكِبَ إِلَى بَغْدَادَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ،
وَمَعَهُ جَيْشٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ صَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَتْرَاكِ
الْبَجْكَمِيَّةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَحِينَ وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ حَادَ عَنْ
طَرِيقِهِ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ، فَتَرَاسَلَا ثُمَّ اصْطَلَحَا، وَحَمَلَ
ابْنُ حَمْدَانَ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ
ابْنُ رَائِقٍ مِنْ بَغْدَادَ خَرَجَ كُورْتَكِينُ فِي جَيْشِهِ لِيُقَاتِلَهُ،
فَدَخَلَ ابْنُ رَائِقٍ بَغْدَادَ مِنْ غَرْبِيِّهَا، وَرَجَعَ كُورْتَكِينُ
بِجَيْشِهِ مِنْ شَرْقِيِّهَا، ثُمَّ تَصَافُّوا بِبَغْدَادَ لِلْقِتَالِ،
فَسَاعَدَتِ الْعَامَّةُ ابْنَ رَائِقٍ عَلَى كُورْتَكِينَ، فَانْهَزَمَ
الدَّيْلَمُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَهَرَبَ
كُورْتَكِينُ
فَاخْتَفَى، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ ابْنِ رَائِقٍ عَلَى بَغْدَادَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ، وَرَكِبَ هُوَ وَإِيَّاهُ فِي دِجْلَةَ، وَظَفِرَ ابْنُ رَائِقٍ
بِكُورْتَكِينَ، فَأَوْدَعَهُ السِّجْنَ الَّذِي فِي دَارِ الْخِلَافَةِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ
جُمَادَى الْأُولَى حَضَرَ النَّاسُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِجَامِعِ بَرَاثَا،
وَقَدْ كَانَ الْمُقْتَدِرُ أَحْرَقَ هَذَا الْمَسْجِدَ ; لِأَنَّهُ كُبِسَ
فَوُجِدَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِلسَّبِّ
وَالشَّتْمِ، فَلَمْ يَزَلْ خَرَابًا حَتَّى عَمَّرَهُ بَجْكَمُ فِي أَيَّامِ
الرَّاضِي، ثُمَّ أَمَرَ الْمُتَّقِي بِوَضْعِ مِنْبَرٍ فِيهِ كَانَ عَلَيْهِ
اسْمُ الرَّشِيدِ، وَصَلَّى النَّاسُ فِيهِ هَذِهِ الْجُمُعَةَ، قَالَ: فَلَمْ
يَزَلْ تُقَامُ فِيهِ إِلَى مَا بَعْدَ سَنَةِ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فِي لَيْلَةِ سَابِعِهِ
كَانَتْ لَيْلَةُ بَرْدٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ، فَسَقَطَتِ الْقُبَّةُ الْخَضْرَاءُ
مِنْ قَصْرِ الْمَنْصُورِ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْقُبَّةُ تَاجَ بَغْدَادَ
وَعَلَمَ الْبَلَدِ، وَمَأْثُرَةً مِنْ مَآثِرِ بَنِي الْعَبَّاسِ عَظِيمَةً،
بُنِيَتْ أَوَّلَ مُلْكِهِمْ، وَكَانَ بَيْنَ بِنَائِهَا وَسُقُوطِهَا مِائَةٌ
وَسَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَخَرَجَ التَّشْرِينَانِ وَالْكَانُونَانِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ وَلَمْ تُمْطَرْ بَغْدَادُ فِيهَا بِشَيْءٍ سِوَى مَطَرَةٍ
وَاحِدَةٍ لَمْ يَسِلْ مِنْهَا مِيزَابٌ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ
حَتَّى
بِيعَ الْكُرُّ بِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ دِينَارًا، وَوَقَعَ الْفَنَاءُ فِي
النَّاسِ حَتَّى كَانَ الْجَمَاعَةُ يُدْفَنُونَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ مِنْ
غَيْرِ غُسْلٍ وَلَا صَلَاةٍ، وَبِيعَ الْعَقَارُ وَالْأَثَاثُ بِأَرْخَصِ
الْأَسْعَارِ، وَاشْتُرِيَ بِالدِّرْهَمِ مَا كَانَ يُسَاوِي الدِّينَارَ،
وَرَأَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
مَنَامِهَا، وَهُوَ يَأْمُرُهَا بِخُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّحْرَاءِ لِصَلَاةِ
الِاسْتِسْقَاءِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِامْتِثَالِ ذَلِكَ، فَصَلَّى النَّاسُ
وَاسْتَسْقَوْا، فَجَاءَتِ الْأَمْطَارُ، فَزَادَتِ الْفُرَاتَ شَيْئًا لَمْ يُرَ
مِثْلُهُ، وَغَرِقَتِ الْعَبَّاسِيَّةُ، وَدَخَلَ الْمَاءُ شَوَارِعَ بِبَغْدَادَ،
فَسَقَطَتِ الْقَنْطَرَةُ الْعَتِيقَةُ وَالْجَدِيدَةُ، وَقَطَعَتِ الْأَكْرَادُ
عَلَى قَافِلَةٍ مَنْ خُرَاسَانَ الطَّرِيقَ، فَأَخَذُوا مِنْهُمْ مَا قِيمَتُهُ
ثَلَاثَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَكَانَ أَكْثَرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ بَجْكَمَ
التُّرْكِيِّ.
وَخَرَجَ النَّاسُ لِلْحَجِّ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ رَجَعُوا مِنْ
أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، بِسَبَبِ رَجُلٍ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ قَدْ ظَهَرَ
بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَخَرَجَ عَنِ
الطَّاعَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَوْمَرْدَ
الْفَقِيهُ، أَحَدُ أَصْحَابِ ابْنِ سُرَيْجٍ، خَرَجَ مِنَ الْحَمَّامِ، فَسَقَطَ
عَلَيْهِ، فَمَاتَ مِنْ فَوْرِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
بَجْكَمُ التُّرْكِيُّ
الَّذِي تَوَلَّى إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ قَبْلَ بَنِي بُوَيْهِ،
وَكَانَ عَاقِلًا يَفْهَمُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِهَا، يَقُولُ:
أَخَافُ أَنْ أُخْطِئَ، وَالْخَطَأُ مِنَ الرَّئِيسِ قَبِيحٌ.
وَكَانَ
مَعَ ذَلِكَ يُحِبُّ الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ، وَكَانَ كَثِيرَ الْأَمْوَالِ
وَالصَّدَقَاتِ، ابْتَدَأَ بِعَمَلِ مَارَسْتَانَ بِبَغْدَادَ فَلَمْ يَتِمَّ،
فَجَدَّدَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ.
وَكَانَ يَقُولُ: الْعَدْلُ أَرْبَحُ لِلسُّلْطَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَكَانَ يَدْفِنُ أَمْوَالًا كَثِيرَةً فِي الصَّحَارِي، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ
يُدْرَ أَيْنَ هِيَ.
وَكَانَ نُدَمَاءُ الرَّاضِي قَدِ انْحَدَرُوا إِلَى بَجْكَمَ وَهُوَ بِوَاسِطٍ،
وَكَانَ قَدْ ضَمِنَهَا بِثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَكَانُوا
يُسَامِرُونَهُ كَالْخَلِيفَةِ، فَكَانَ لَا يَفْهَمُ أَكْثَرَ مَا يَقُولُونَ،
وَرَاضَ لَهُ مِزَاجَهُ الطَّبِيبُ سِنَانُ بْنُ ثَابِتٍ الصَّابِئُ حَتَّى لَانَ
خُلُقُهُ، وَحَسُنَتْ سِيرَتُهُ، وَقَلَّتْ سَطْوَتُهُ، وَلَكِنْ لَمْ يُعَمَّرْ
إِلَّا قَلِيلًا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ مَرَّةً رَجُلٌ فَوَعَظَهُ فَأَبْكَاهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ
دِرْهَمٍ، فَلَحِقَهُ بِهَا الْغُلَامُ، فَقَالَ بَجْكَمُ لِجُلَسَائِهِ: مَا
أَظُنُّهُ يَقْبَلُهَا وَلَا يُرِيدُهَا، وَمَا يَصْنَعُ هَذَا بِالدُّنْيَا ؟
هَذَا مُحَرَّقٌ بِالْعِبَادَةِ. فَرَجَعَ الْغُلَامُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ، فَقَالَ:
قَبِلَهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ بَجْكَمُ: كُلُّنَا صَيَّادُونَ وَلَكِنَّ
الشِّبَاكَ تَخْتَلِفُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَسَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ خَرَجَ يَتَصَيَّدُ، فَلَقِيَ طَائِفَةً مِنَ الْأَكْرَادِ،
فَاسْتَهَانَ بِهِمْ، فَقَاتَلُوهُ فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَتَلَهُ.
وَكَانَتْ إِمْرَتُهُ عَلَى بَغْدَادَ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ
وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ، وَخَلَّفَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ مَا يُنَيِّفُ
عَلَى أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، أَخَذَهَا الْمُتَّقِي لِلَّهِ كُلَّهَا.
أَبُو
مُحَمَّدٍ الْبَرْبَهَارِيُّ الْوَاعِظُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ أَبُو
مُحَمَّدٍ الْبَرْبَهَارِيُّ
الْعَالَمُ الزَّاهِدُ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الْوَاعِظُ، صَاحَبُ
الْمَرُّوذِيَّ وَسَهْلًا التُّسْتَرِيَّ، وَتَنَزَّهَ عَنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ -
وَكَانَ سَبْعِينَ أَلْفًا - لِأَمَرٍ كَرِهَهُ. وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى أَهْلِ
الْبِدَعِ وَالْمَعَاصِي، وَكَانَ كَبِيرَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ
وَالْعَامَّةِ، وَقَدْ عَطَسَ يَوْمًا وَهُوَ يَعِظُ النَّاسَ، فَشَمَّتَهُ
الْحَاضِرُونَ، ثُمَّ شَمَّتَهُ مَنْ سَمِعَهُمْ، حَتَّى شَمَّتَهُ أَهْلُ
بَغْدَادَ فَانْتَهَتِ الضَّجَّةُ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَغَارَ الْخَلِيفَةُ
مِنْ ذَلِكَ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَرْبَابِ الدَّوْلَةِ فَطُلِبَ
فَاسْتَتَرَ عِنْدَ أُخْتِ تُوزُونَ شَهْرًا، ثُمَّ أَخَذَهُ الْقِيَامُ فَمَاتَ
عِنْدَهَا، فَأَمَرَتْ خَادِمَهَا أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ،
فَامْتَلَأَتِ الدَّارُ رِجَالًا عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ بِيضٌ، فَدَفَنَتْهُ
عِنْدَهَا، ثُمَّ أَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ عِنْدَهُ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ
سِتًّا وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ أَبُو بَكْرٍ
الْأَزْرَقُ
لِأَنَّهُ كَانَ أَزْرَقَ الْعَيْنَيْنِ، التَّنُوخِيُّ الْكَاتِبُ، سَمِعَ
جَدَّهُ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ
وَالْحَسَنَ بْنَ عَرَفَةَ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ خَشِنَ الْعَيْشِ، كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، يُقَالُ: إِنَّهُ تَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَ أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ نِهَّاءً عَنِ الْمُنْكَرِ، رَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ ثِقَةً عَدْلًا. تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا ظَهَرَ كَوْكَبٌ بِذَنَبٍ،
رَأْسُهُ إِلَى الْغَرْبِ، وَذَنَبُهُ إِلَى الشَّرْقِ، وَكَانَ عَظِيمًا جِدًّا،
وَذَنَبُهُ مُنْتَشِرٌ، وَبَقِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا إِلَى أَنِ اضْمَحَلَّ.
قَالَ: وَفِي نِصْفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَلَغَ الْكُرُّ مِنَ الْحِنْطَةِ
مِائَتَيْ دِينَارٍ وَعَشَرَةَ دَنَانِيرَ، وَمِنَ الشَّعِيرِ مِائَةً وَعِشْرِينَ
دِينَارًا، ثُمَّ بَلَغَ كُرُّ الْحِنْطَةِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ
دِينَارًا، وَأَكَلَ الضُّعَفَاءُ الْمَيْتَةَ، وَدَامَ الْغَلَاءُ وَكَثُرَ
الْمَوْتُ، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، وَشُغِلَ النَّاسُ بِالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ،
وَتُرِكَ دَفْنُ الْمَوْتَى، وَشُغِلَ النَّاسُ عَنِ الْمَلَاهِي وَاللَّعِبِ.
قَالَ: ثُمَّ جَاءَ مَطَرٌ كَأَفْوَاهِ الْقِرَبِ وَبَلَغَتْ زِيَادَةُ دِجْلَةَ
عِشْرِينَ ذِرَاعًا وَثُلُثًا.
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ " أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ
رَائِقٍ - الَّذِي هُوَ أَمِيرُ الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ حِينَئِذٍ - وَقَعَتْ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ الَّذِي بِوَاسِطٍ وَحْشَةٌ
بِسَبَبِ مَنْعِ الْبَرِيدِيِّ الْخَرَاجَ الَّذِي عِنْدَهُ، فَرَكَّبَ إِلَيْهِ
ابْنُ رَائِقٍ لِيَتَسَلَّمَ مَا عِنْدَهُ مِنَ
الْمَالِ،
فَوَقَعَتْ مُصَالَحَةٌ، وَرَجَعَ ابْنُ رَائِقٍ فَطَالَبَهُ الْجُنْدُ
بِأَرْزَاقِهِمْ، وَضَاقَ عَلَيْهِ حَالُهُ، وَتَحَيَّزَ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْأَتْرَاكِ إِلَى الْبَرِيدِيِّ، فَضَعُفَ جَانِبُ ابْنِ رَائِقٍ فَكَاتَبَ
الْبَرِيدِيَّ بِالْوِزَارَةِ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ قَطَعَ اسْمَ الْوِزَارَةِ
عَنْهُ، فَاشْتَدَّ حَنَقُ الْبَرِيدِيِّ، وَعَزَمَ عَلَى أَخْذِ بَغْدَادَ
فَبَعَثَ أَخَاهُ أَبَا الْحُسَيْنِ فِي جَيْشٍ، فَتَحَصَّنَ ابْنُ رَائِقٍ مَعَ
الْخَلِيفَةِ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَنَصَبَ فِيهَا الْمَجَانِيقَ
وَالْعَرَّادَاتِ، وَعَلَى دِجْلَةَ أَيْضًا، فَاضْطَرَبَتْ بَغْدَادُ وَنَهَبَ
النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَجَاءَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَخُو
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ بِمَنْ مَعَهُ، فَقَاتَلَهُمُ النَّاسُ فِي
الْبَرِّ وَفِي دِجْلَةَ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ، وَاشْتَدَّ الْخَطْبُ جِدًّا،
مَعَ الْغَلَاءِ وَالْوَبَاءِ وَالْفِنَاءِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ وَابْنَ رَائِقٍ انْهَزَمَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ -
وَمَعَ الْخَلِيفَةِ ابْنُهُ أَبُو مَنْصُورٍ - فِي عِشْرِينَ فَارِسًا،
فَقَصَدُوا نَحْوَ الْمَوْصِلِ وَاسْتَحْوَذَ أَبُو الْحُسَيْنِ عَلَى دَارِ
الْخِلَافَةِ، فَقَتَلَ أَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ مَنْ وَجَدُوا بِدَارِ
الْخِلَافَةِ مِنَ الْحَاشِيَةِ، وَنَهَبُوهَا حَتَّى وَصَلَ النَّهْبُ إِلَى
الْحَرِيمِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْقَاهِرِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ أَعْمَى
مَكْفُوفٌ، وَأَخْرَجُوا كُورْتَكِينَ مِنَ الْحَبْسِ، فَبَعَثَهُ أَبُو
الْحُسَيْنِ إِلَى أَخِيهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، فَكَانَ آخِرَ
الْعَهْدِ بِهِ وَنَهَبُوا بَغْدَادَ جِهَارًا عَلَانِيَةً، وَنَزَلَ أَبُو
الْحُسَيْنِ بِدَارِ مُؤْنِسٍ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا ابْنُ رَائِقٍ وَكَانُوا
يَكْبِسُونَ الدُّورَ وَيَأْخُذُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، فَكَثُرَ
الْجَوْرُ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ جِدًّا، وَضَرَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمَكْسَ
عَلَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَذَاقَ أَهْلُ بَغْدَادَ لِبَاسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ. وَكَانَ مَعَ أَبِي الْحُسَيْنِ فِي الْجَيْشِ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ
مِنَ الْقَرَامِطَةِ، فَأَفْسَدُوا فِي الْبَلَدِ فَسَادًا عَظِيمًا، فَوَقَعَتْ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَتْرَاكِ حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ شَدِيدَةٌ، فَغَلَبَتْهُمُ
التُّرْكُ،
وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ بَغْدَادَ وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْعَامَّةِ
وَالدَّيْلَمِ أَيْضًا.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّ الْحَالُ أَيْضًا، وَنُهِبَتِ
الْمَسَاكِنُ، وَكُبِسَ أَهْلُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَخَرَجَتِ الْجُنْدُ مِنْ
أَصْحَابِ الْبَرِيدِيِّ، فَنَهَبُوا الْغَلَّاتِ مِنَ الْقُرَى
وَالْحَيَوَانَاتِ، وَجَرَى ظُلْمٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا ; لِيَعْلَمَ الظَّلَمَةُ
أَنَّ أَخْبَارَهُمْ تُنْقَلُ وَتَبْقَى بَعْدَهُمْ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ،
فَرُبَّمَا تَرَكُوا الظُّلْمَ لِهَذَا إِنْ لَمْ يَتْرُكُوهُ لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
وَقَدْ كَانَ الْخَلِيفَةُ أَرْسَلَ وَهُوَ بِبَغْدَادَ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ
بْنِ حَمْدَانَ نَائِبِ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ يَسْتَمِدُّهُ، وَيَسْتَجِيشُ
بِهِ عَلَى الْبَرِيدِيِّ، فَأَرْسَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَخَاهُ سَيْفَ
الدَّوْلَةِ عَلِيًّا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَلَمَّا كَانَ بِتَكْرِيتَ إِذَا
الْخَلِيفَةُ وَابْنُ رَائِقٍ قَدْ هَرَبَا، فَرَجَعَ مَعَهُمَا سَيْفُ
الدَّوْلَةِ إِلَى أَخِيهِ، وَقَدَّمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ لِلْخَلِيفَةِ
الْمُتَّقِي لِلَّهِ خِدْمَةً عَظِيمَةً فِي مَسِيرِهِ هَذَا، وَلَمَّا وَصَلُوا
إِلَى الْمَوْصِلِ خَرَجَ عَنْهَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، فَنَزَلَ شَرْقِيَّهَا،
وَأَرْسَلَ التُّحَفَ وَالضِّيَافَاتِ، وَلَمْ يَجِئْ خَوْفًا مِنَ الْغَائِلَةِ
مِنْ جِهَةِ ابْنِ رَائِقٍ نَائِبِ الْعِرَاقِ وَصَاحِبِ الشَّامِ فَأَرْسَلَ
الْخَلِيفَةُ وَلَدَهُ أَبَا مَنْصُورٍ وَمَعَهُ ابْنُ رَائِقٍ لِلسَّلَامِ عَلَى
نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَأَمَرَ أَنْ يُنْثَرَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ عَلَى رَأْسِ
وَلَدِ الْخَلِيفَةِ، وَجَلَسَا عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَا لِيَرْجِعَا، فَرَكِبَ
ابْنُ الْخَلِيفَةِ، وَأَرَادَ ابْنُ رَائِقٍ أَنْ يَرْكَبَ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ
نَاصِرُ الدَّوْلَةِ: اجْلِسِ الْيَوْمَ عِنْدِي حَتَّى نُفَكِّرَ فِيمَا نَصْنَعُ
فِي
أَمْرِنَا هَذَا. فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِابْنِ الْخَلِيفَةِ، وَاسْتَرَابَ
الْأَمْرَ، فَقَبَضَ ابْنُ حَمْدَانَ بِكُمِّهِ، فَجَبَذَهُ ابْنُ رَائِقٍ مِنْهُ،
فَانْقَطَعَ كُمُّهُ، وَرَكِبَ سَرِيعًا، فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَأَمَرَ
نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِسَبْعٍ
بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى ابْنِ
حَمْدَانَ فَاسْتَحْضَرَهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَلَقَّبَهُ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ
يَوْمَئِذٍ، وَجَعَلَهُ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَخَلَعَ عَلَى أَخِيهِ أَبِي
الْحَسَنِ عَلِيٍّ، وَلَقَّبَهُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ يَوْمَئِذٍ أَيْضًا، وَلَمَّا
قُتِلَ ابْنُ رَائِقٍ، وَبَلَغَ خَبَرُ قَتْلِهِ إِلَى صَاحِبِ مِصْرَ
الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجٍ، رَكِبَ إِلَى دِمَشْقَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ
مُحَمَّدِ بْنِ يَزْدَادَ نَائِبِ ابْنِ رَائِقٍ وَلَمْ يَنْتَطِحْ فِيهَا
عَنْزَانِ.
وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ مَقْتَلِهِ إِلَى بَغْدَادَ فَارَقَ أَكْثَرُ الْأَتْرَاكِ
أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيَّ لِسُوءِ سِيرَتِهِ، وَخُبْثِ سَرِيرَتِهِ،
قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَقَصَدُوا الْخَلِيفَةَ وَابْنَ حَمْدَانَ فِي الْمَوْصِلِ
فَقَوِيَ بِهِمْ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، وَرَكِبَ هُوَ وَالْخَلِيفَةُ الْمُتَّقِي
لِلَّهِ إِلَى بَغْدَادَ فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْهَا، هَرَبَ عَنْهَا أَبُو
الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيُّ، وَدَخَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ إِلَى
بَغْدَادَ وَمَعَهُ بَنُو حَمْدَانَ فِي جُيُوشٍ كَثِيرَةٍ، وَذَلِكَ فِي شَوَّالٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَبَعَثَ
إِلَى أَهْلِهِ - وَقَدْ كَانَ أَخْرَجَهُمْ إِلَى سَامَرَّاءَ - فَرَدَّهُمْ،
وَتَرَاجَعَ أَعْيَانُ النَّاسِ إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَمَا كَانُوا قَدْ رَحَلُوا
عَنْهَا، وَرَدَّ الْخَلِيفَةُ أَبَا إِسْحَاقَ الْقَرَارِيطِيَّ إِلَى
الْوِزَارَةِ وَوَلَّى تُوزُونَ شُرْطَةَ جَانِبَيْ بَغْدَادَ وَبَعَثَ نَاصِرُ
الدَّوْلَةِ
أَخَاهُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ فِي جَيْشٍ وَرَاءَ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيِّ،
فَلَقِيَهُ عِنْدَ الْمَدَائِنِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فِي أَيَّامٍ
نَحِسَاتٍ، ثُمَّ كَانَ آخِرَ الْأَمْرِ أَنِ انْهَزَمَ أَبُو الْحُسَيْنِ إِلَى
أَخِيهِ بِوَاسِطٍ، وَقَدْ رَكِبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِنَفْسِهِ، فَنَزَلَ
الْمَدَائِنَ قُوَّةً لِأَخِيهِ.
وَقَدِ انْهَزَمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ مَرَّةً مِنْ أَبِي الْحُسَيْنِ فَرَدَّهُ
أَخُوهُ، وَزَادَهُ جَيْشًا آخَرَ حَتَّى كَسَرَ الْبَرِيدِيَّ، وَأَسَرَ
جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ
غَفِيرٌ، ثُمَّ أَرْسَلَ أَخَاهُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطٍ لِقِتَالِ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، فَانْهَزَمَ مِنْهُ الْبَرِيدِيُّ وَأَخُوهُ
إِلَى الْبَصْرَةِ وَتَسَلَّمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ وَاسِطًا، وَسَيَأْتِي مَا
كَانَ مِنْ خَبَرِهِ مَعَ الْبَرِيدِيِّ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَأَمَّا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، فَإِنَّهُ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا فِي
ثَالِثِ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْأَسَارَى عَلَى الْجِمَالِ،
فَفَرِحَ النَّاسُ وَاطْمَأَنُّوا، وَنَظَرَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ،
وَأَصْلَحَ مِعْيَارَ الدِّينَارِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَهُ قَدْ غُيِّرَ عَمَّا
كَانَ عَلَيْهِ، فَضَرَبَ دَنَانِيرَ سَمَّاهَا الْإِبْرِيزِيَّةَ، فَكَانَتْ
تُبَاعُ كُلُّ دِينَارٍ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا كَانَ يُبَاعُ
الَّتِي قَبْلَهَا بِعَشْرَةٍ.
وَعَزَلَ الْخَلِيفَةُ بَدْرًا الْخَرْشَنِيَّ عَنِ الْحِجَابَةِ، وَوَلَّاهَا
سَلَامَةَ الطُّولُونِيَّ، وَجَعَلَ بَدْرًا عَلَى طَرِيقِ الْفُرَاتِ، فَسَارَ
إِلَى الْإِخْشِيدِ فَأَكْرَمَهُ وَاسْتَنَابَهُ عَلَى دِمَشْقَ فَمَاتَ بِهَا.
وَفِيهَا وَصَلَتِ الرُّومُ إِلَى قَرِيبِ حَلَبَ، فَقَتَلُوا خَلْقًا، وَأَسَرُوا
نَحْوًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفِ إِنْسَانٍ. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا دَخَلَ الثَّمِلِيُّ مِنْ طَرَسُوسَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَقَتَلَ
وَسَبَى وَغَنِمَ وَسَلِمَ، وَأَسَرَ مِنْ بَطَارِقَتِهِمُ الْمَشْهُورِينَ
فِيهِمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، صَحِبَ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَغَيْرَهُ
مِنْ أَئِمَّةِ الْقَوْمِ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ حَتَّى مَاتَ بِهَا.
وَمِنْ كَلَامِهِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ: مَفَاوِزُ الدُّنْيَا تُقْطَعُ
بِالْأَقْدَامِ، وَمَفَاوِزُ الْآخِرَةِ تُقْطَعُ بِالْقُلُوبِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدِ
بْنِ أَبَانٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ الْقَاضِي الْمَحَامِلِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْمُحَدِّثُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَأَدْرَكَ خَلْقًا
مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَرَوَى عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَخَلْقٌ، وَكَانَ
يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ نَحْوٌ مِنْ عَشْرَةِ آلَافٍ، وَكَانَ صَدُوقًا دَيِّنًا
فَقِيهًا مُحَدِّثًا، وَلِيَ قَضَاءَ الْكُوفَةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَأُضِيفَ
إِلَيْهِ قَضَاءُ فَارِسَ وَأَعْمَالُهَا، ثُمَّ اسْتَعْفَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ،
وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَاقْتَصَرَ عَلَى إِسْمَاعِ الْحَدِيثِ. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ
سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ تَنَاظَرَ هُوَ وَبَعْضُ الشِّيعَةِ بِحَضْرَةِ بَعْضِ الْأَكَابِرِ،
فَجَعَلَ الشِّيعِيُّ يَذْكُرُ مَوَاقِفَ عَلَيٍّ يَوْمَ بِدْرٍ وَأُحُدٍ
وَالْخَنْدَقِ وَخَيْبَرَ وَحُنَيْنٍ وَشَجَاعَتَهُ، ثُمَّ قَالَ
لِلْمَحَامِلِيِّ: أَتَعْرِفُهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ أَتَعْرِفُ أَيْنَ
كَانَ الصَّدِّيقُ يَوْمَ بِدْرٍ ؟ كَانَ
مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ بِمَنْزِلَةِ
الرَّئِيسِ الَّذِي يُحَامَى عَنْهُ كَمَا يُحَامَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيٌّ فِي مَقَامِ الْمُبَارَزَةِ، وَلَوْ فُرِضَ
أَنَّهُ انْهَزَمَ أَوْ قُتِلَ، لَمْ يُهْزَمِ الْجَيْشُ بِسَبَبِهِ، فَأُفْحِمَ
الشِّيعِيُّ. وَقَالَ لَهُ الْمَحَامِلِيُّ: وَقَدْ قَدَّمَهُ الَّذِينَ رَوَوْا
لَنَا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، حَيْثُ لَا مَالَ لَهُ وَلَا عَبِيدَ وَلَا عَشِيرَةَ تَمْنَعُهُ
وَتُحَاجِفُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَدَّمُوهُ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ خَيْرُهُمْ،
فَأُفْحِمَ أَيْضًا.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ أَبُو الْحَسَنِ الصَّائِغُ
أَحَدُ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ أَصْحَابِ الْكَرَامَاتِ. رُوِيَ عَنْ مُمْشَادَ
الدِّينَوَرِيِّ أَنَّهُ شَاهَدَ أَبَا الْحَسَنِ الصَّائِغَ يُصَلِّي فِي
الصَّحْرَاءِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، وَنَسْرٌ قَدْ نَشَرَ جَنَاحَيْهِ يُظِلُّهُ
مِنَ الْحَرِّ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْأَشْعَرِيُّ الْمُتَكَلِّمُ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ، وَكَانَ
مُوَلِدُهُ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ.
قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَعِشْرِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ النَّضْرِ الْهَرَوِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ،
وَكَانَ
مَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَخَذَ عَنِ الرَّبِيعِ
بْنِ سُلَيْمَانَ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ.
قُلْتُ: وَقَدْ تُوُفِّيَ فِيهَا أَبُو حَامِدِ بْنُ بِلَالٍ، وَزَكَرِيَّا بْنُ
أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ، وَعَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ سَلَامَةَ الْحَافِظُ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ الْأَمِيرُ، وَالشَّيْخُ أَبُو صَالِحٍ مُفْلِحٌ
الْحَنْبَلِيُّ، وَاقِفُ مَسْجِدِ أَبِي صَالِحٍ ظَاهِرَ بَابِ شَرْقِيٍّ مِنْ
دِمَشْقَ وَكَانَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ وَأَحْوَالٌ وَمَقَامَاتٌ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَبِي صَالِحٍ الدِّمَشْقِيِّ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ
الْمَسْجِدُ ظَاهِرَ بَابِ شَرْقِيٍّ بِدِمَشْقَ:
مُفْلِحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو صَالِحٍ الْمُتَعَبِّدُ، صَحِبَ الشَّيْخَ
أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ سَيِّدٍ حَمْدَوَيْهِ الدِّمَشْقِيَّ، وَتَأَدَّبَ
بِهِ، وَرَوَى عَنْهُ الْمُوَحِّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُرِّيِّ، وَأَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْقُجَّةِ قَيِّمُ الْمَسْجِدِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ
دَاوُدَ الدِّينَوَرِيُّ الدُّقِّيُّ.
رَوَى
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الدُّقِّيِّ، عَنِ الشَّيْخِ أَبِي
صَالِحٍ قَالَ: كُنْتُ أَطُوفُ بِجَبَلِ اللُّكَّامِ ; أَطْلُبُ الزُّهَّادَ،
فَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى صَخْرَةٍ مُطْرِقًا، فَقُلْتُ لَهُ: مَا
تَصْنَعُ هَاهُنَا ؟ فَقَالَ: أَنْظُرُ وَأَرْعَى. فَقُلْتُ لَهُ: لَا أَرَى
بَيْنَ يَدَيْكَ إِلَّا الْحِجَارَةَ. فَقَالَ: أَنْظُرُ خَوَاطِرَ قَلْبِي،
وَأَرْعَى أَوَامِرَ رَبِّي، وَبِحَقِّ الَّذِي أَظْهَرَكَ عَلَيَّ إِلَّا جُزْتَ
عَنِّي. فَقُلْتُ لَهُ: كَلِّمْنِي بِشَيْءٍ أَنْتَفِعُ بِهِ حَتَّى أَمْضِيَ.
فَقَالَ لِي: مَنْ لَزِمَ الْبَابَ أُثْبِتَ فِي الْخَدَمِ، وَمَنْ أَكْثَرَ
ذِكْرَ الذُّنُوبِ أَكْثَرَ النَّدَمَ، وَمَنِ اسْتَغْنَى بِاللَّهِ أَمِنَ
الْعَدَمَ. ثُمَّ تَرَكَنِي وَمَضَى.
وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: مَكَثْتُ سِتَّةَ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ
لَمْ آكُلْ وَلَمْ أَشْرَبْ، وَلَحِقَنِي عَطَشٌ عَظِيمٌ، فَجِئْتُ النَّهْرَ
الَّذِي وَرَاءَ الْمَسْجِدِ، فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ، فَتَذَكَّرْتُ
قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [ هُودٍ: 7 ] فَذَهَبَ عَنِّي
الْعَطَشُ، فَمَكَثْتُ تَمَامَ الْعَشْرَةِ أَيَّامٍ.
وَعَنْهُ قَالَ: مَكَثْتُ مَرَّةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَمْ أَشْرَبْ مَاءً،
فَلَقِيَنِي الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَيِّدٍ حَمْدَوَيْهِ،
فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَدْخَلَنِي مَنْزِلَهُ، وَجَاءَنِي بِمَاءٍ، وَقَالَ لِي:
اشْرَبْ، فَشَرِبْتُ، فَأَخَذَ فَضْلَتِي وَذَهَبَ إِلَى امْرَأَتِهِ، وَقَالَ
لَهَا: اشْرَبِي فَضْلَ رَجُلٍ قَدْ مَكَثَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَمْ يَشْرَبِ
الْمَاءَ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: وَلَمْ يَكُنِ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مِنِّي
أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَمِنْ
كَلَامِ أَبِي صَالِحٍ: الدُّنْيَا حَرَامٌ عَلَى الْقُلُوبِ، حَلَالٌ عَلَى
النُّفُوسِ ; لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ
رَأْسِكَ، فَيَحْرُمُ عَلَيْكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ قَلْبِكَ.
وَكَانَ يَقُولُ: الْبَدَنُ لِبَاسُ الْقَلْبِ، وَالْقَلْبُ لِبَاسُ الْفُؤَادِ،
وَالْفُؤَادُ لِبَاسُ الضَّمِيرِ، وَالضَّمِيرُ لِبَاسُ السِّرِّ، وَالسِّرُّ
لِبَاسُ الْمَعْرِفَةِ.
وَلِأَبِي صَالِحٍ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطٍ وَقَدِ انْهَزَمَ
عَنْهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ وَأَخُوهُ أَبُو الْحُسَيْنِ، ثُمَّ
اخْتَلَفَ التُّرْكُ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَمَالُوا إِلَى تُوزُونَ وَهُمَّ
بِالْقَبْضِ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ قَاصِدًا إِلَى
بَغْدَادَ وَبَلَغَ أَخَاهُ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ الْمُلَقَّبَ بِأَمِيرِ الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ
الْخَبَرُ، فَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَنُهِبَتْ دَارُهُ
بِبَغْدَادَ، وَكَانَتْ إِمَارَةُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ عَلَى بَغْدَادَ ثَلَاثَةَ
عَشَرَ شَهْرًا وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَجَاءَ أَخُوهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بَعْدَ
خُرُوجِهِ مِنْهَا، فَنَزَلَ بِبَابِ حَرْبٍ، وَطَلَبَ مِنَ الْخَلِيفَةِ
الْمُتَّقِي لِلَّهِ أَنْ يَمُدَّهُ بِمَالٍ يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى حَرْبِ تُوزُونَ
فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَفَرَّقَهَا فِي
أَصْحَابِهِ. وَحِينَ سَمِعَ بِقُدُومِ تُوزُونَ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ
وَدَخَلَهَا تُوزُونُ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَخَلَعَ
عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ، وَجَعَلَهُ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ
بِبَغْدَادَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ رَجَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ إِلَى
وَاسِطٍ وَأَخْرَجَ مَنْ كَانَ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ تُوزُونَ وَكَانَ فِي أَسْرِ
تُوزُونَ غُلَامٌ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ يُقَالُ لَهُ: ثِمَالٌ. فَأَرْسَلَهُ إِلَى
مَوْلَاهُ، فَحَسُنَ مُوقِعُ ذَلِكَ عِنْدَ آلِ حَمْدَانَ.
وَفِيهَا
كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِبِلَادِ نَسَا سَقَطَ مِنْهَا عِمَارَاتٌ
كَثِيرَةٌ، وَهَلَكَ بِسَبَبِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ بِبَغْدَادَ فِي أَيْلُولَ وَتِشْرِينَ حَرٌّ
شَدِيدٌ يَأْخُذُ بِالْأَنْفَاسِ، وَفِي صَفَرٍ وَرَدَ الْخَبَرُ بِوُرُودِ
الرُّومِ إِلَى أَرْزَنَ وَمَيَّافَارِقِينَ، وَأَنَّهُمْ سَبَوْا وَأَحْرَقُوا.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عُقِدَ عَقْدُ أَبِي مَنْصُورٍ إِسْحَاقِ
بْنِ الْخَلِيفَةِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ عَلَى عُلْوِيَّةَ بِنْتِ نَاصِرِ
الدَّوْلَةِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ، عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ وَأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَوَلِيَ الْعَقْدَ عَلَى الْجَارِيَةِ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيُّ، وَلَمْ يَحْضُرْ
نَاصِرُ الدَّوْلَةِ. وَضَرَبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ سِكَّةً، زَادَ فِي
الْكِتَابَةِ عَلَيْهَا: عَبْدُ آلِ مُحَمَّدٍ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي آذَارَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ غَلَتِ
الْأَسْعَارُ حَتَّى أَكَلَ النَّاسُ الْكِلَابَ، وَوَقَعَ الْوَبَاءُ فِي
النَّاسِ، وَوَافَى مِنَ الْجَرَادِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، حَتَّى بِيعَ مِنْهُ
كُلُّ خَمْسِينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ، فَارْتَفَقَ النَّاسُ بِهِ فِي الْغَلَاءِ.
وَفِيهَا وَرَدَ كِتَابُ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ فِيهِ
مِنْدِيلًا بِكَنِيسَةِ الرُّهَا كَانَ الْمَسِيحُ قَدْ مَسَحَ وَجْهَهُ بِهِ،
فَصَارَتْ صُورَةُ وَجْهِهِ فِيهِ، وَيَعِدُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إِذَا
أُرْسِلَ إِلَيْهِ يَبْعَثُ مِنْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ خَلْقًا كَثِيرًا،
فَأَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ الْعُلَمَاءَ فَاسْتَشَارَهُمْ فِي ذَلِكَ ; فَمِنْ
قَائِلٍ: نَحْنُ أَحَقُّ بِعِيسَى مِنْهُمْ، وَفِي بَعْثِهِ إِلَيْهِمْ
غَضَاضَةٌ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَوَهْنٌ. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْوَزِيرُ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْقَاذُ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي
الْكُفَّارِ خَيْرٌ وَأَنْفَعُ لِلنَّاسِ مِنْ بَقَاءِ ذَلِكَ الْمِنْدِيلِ
بِتِلْكَ الْكَنِيسَةِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِرْسَالِ ذَلِكَ الْمِنْدِيلِ
إِلَيْهِمْ، وَتَخْلِيصِ الْأَسَارَى مِنْ أَيْدِيهِمْ.
قَالَ الصُّولِيُّ: وَوَصَلَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْقِرْمِطِيَّ وُلِدَ لَهُ
مَوْلُودٌ، فَأَهْدَى إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ هَدَايَا
عَظِيمَةً، مِنْهَا مَهْدٌ مِنْ ذَهَبٍ، مُرَصَّعٌ بِالْجَوْهَرِ. وَكَثُرَ
الرَّفْضُ بِبَغْدَادَ، فَنُودِيَ بِهَا: مَنْ ذَكَرَ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ
بِسُوءٍ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ.
وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ خِلَعًا،
فَقَبِلَهَا وَلَبِسَهَا بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
السَّامَانِيِّ صَاحِبِ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَقَدْ مَرِضَ قَبْلَ
مَوْتِهِ بِالسِّلِّ سَنَةً وَشَهْرًا، وَاتَّخَذَ فِي دَارِهِ بَيْتًا سَمَّاهُ
بَيْتَ الْعِبَادَةِ، فَكَانَ يَلْبَسُ ثِيَابًا نِظَافًا، وَيَمْشِي إِلَيْهِ
حَافِيًا، وَيُصَلِّي فِيهِ، وَيَتَضَرَّعُ وَيُكْثِرُ الصَّلَاةَ، وَكَانَ
يَجْتَنِبُ الْمُنْكِرَاتِ وَالْآثَامَ إِلَى أَنْ مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ نُوحُ بْنُ نَصْرٍ السَّامَانِيُّ
وَلُقِّبَ بِالْأَمِيرِ الْحَمِيدِ، فَقَتَلَ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ
النَّسَفِيَّ - وَكَانَ قَدْ طُعِنَ فِيهِ عِنْدَهُ - وَصَلَبَهُ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سِنَانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ قُرَّةَ الصَّابِئُ
أَبُو سَعِيدٍ الْمُتَطَبِّبُ، أَسْلَمَ عَلَى يَدِ الْقَاهِرِ بِاللَّهِ، وَلَمْ
يُسْلِمْ وَلَدُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَقَدْ كَانَ مُقَدَّمًا
فِي الطِّبِّ وَفِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِعِلَّةِ الذَّرَبِ، فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُ صِنَاعَتُهُ
شَيْئًا حِينَ جَاءَهُ الْمَوْتُ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ
فِي هَذَا الْمَعْنَى:
قُلْ لِلَّذِي صَنَعَ الدَّوَاءَ بِكَفِّهِ أَتَرُدُّ مَقْدُورًا عَلَيْكَ قَدْ
جَرَى مَاتَ الْمُدَاوَى وَالْمُدَاوِي وَالَّذِي
صَنَعَ الدَّوَاءَ بِكَفِّهِ وَمَنِ اشْتَرَى
أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ
ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " وَفَاةَ
الْأَشْعَرِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ، وَحَطَّ عَلَيْهِ كَمَا
جَرَتِ عَادَةُ الْحَنَابِلَةِ، يَتَكَلَّمُونَ فِي الْأَشْعَرِيَّةِ قَدِيمًا
وَحَدِيثًا. وَذَكَرَ أَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَنَّهُ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَنَّهُ صَحِبَ الْجُبَّائِيَّ أَرْبَعِينَ
سَنَةً، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ، وَدُفِنَ
بِمَشْرَعَةِ الرَّوَايَا.
مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ بْنِ الصَّلْتِ السَّدُوسَيُّ
مَوْلَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ
سَمِعَ جَدَّهُ وَعَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَغَيْرَهُمَا، وَعَنْهُ أَبُو عُمَرَ
بْنُ مَهْدِيٍّ، وَكَانَ ثِقَةً.
وَرَوَى الْخَطِيبُ أَنَّ وَالِدَ مُحَمَّدٍ هَذَا حِينَ وُلِدَ أَخَذَ طَالَعَ
مَوْلِدِهِ الْمُنَجِّمُونَ، فَحَسَبُوا عُمْرَهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَعِيشُ
كَذَا وَكَذَا. فَأَرْصَدَ لَهُ أَبُوهُ حُبًّا، فِيهِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ
عُمْرِهِ دِينَارٌ، ثُمَّ أَرْصَدَ لَهُ حُبًّا آخَرَ كَذَلِكَ، ثُمَّ آخَرَ
كَذَلِكَ، فَكَانَ يَعْدِلُ كُلَّ يَوْمٍ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ، وَمَعَ هَذَا
مَا أَفَادَهُ شَيْئًا، بَلِ افْتَقَرَ حَتَّى صَارَ يَسْتَعْطِي مِنَ النَّاسِ،
وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَ السَّمَاعِ عَلَيْهِ بِلَا إِزَارٍ، يَتَصَدَّقُ
عَلَيْهِ أَهِلُ الْمَجْلِسِ بِشَيْءٍ يَقُومُ بِأَوَدِهِ. وَالسَّعِيدُ مَنْ
أَسْعَدَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ حَفْصٍ أَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ الْعَطَّارُ
كَانَ يَسْكُنُ الدُّورَ، وَهِيَ مَحَلَّةٌ بِطَرَفِ بَغْدَادَ سَمِعَ الْحَسَنَ
بْنَ عَرَفَةَ وَالزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ وَمُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ
وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ
ثِقَةً، فَهِمًا، وَاسِعَ الرِّوَايَةِ، مَشْكُورَ الدِّيَانَةِ، مَشْهُورًا
بِالْعِبَادَةِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدِ اسْتَكْمَلَ سَبْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ
وَأَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
الْمَجْنُونُ
الْبَغْدَادِيُّ
رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ الشَّبْلِيِّ، قَالَ:
رَأَيْتُ مَجْنُونًا عِنْدَ جَامِعِ الرُّصَافَةِ وَهُوَ عُرْيَانٌ، وَهُوَ
يَقُولُ: أَنَا مَجْنُونُ اللَّهِ، أَنَا مَجْنُونُ اللَّهِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا
لَكَ ؟ أَلَا تَسْتَتِرُ وَتَدْخُلُ الْجَامِعَ وَتُصَلِّي ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَقُولُونَ زُرْنَا وَاقْضِ وَاجِبَ حَقِّنَا وَقَدْ أَسْقَطَتْ حَالِي
حُقُوقَهُمْ عَنِّي
إِذَا هُمْ رَأَوْا حَالِي وَلَمْ يَأْنَفُوا لَهَا وَلَمْ يَأْنَفُوا مِنْهَا
أَنِفْتُ لَهُمْ مِنِّي
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ مُغَاضِبًا
لِتُوزُونَ أَمِيرِ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ بِوَاسِطٍ، وَقَدْ زَوَّجَ
ابْنَتَهُ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، وَصَارَا يَدًا وَاحِدَةً
عَلَى الْخَلِيفَةِ، وَأَرْسَلَ ابْنُ شِيرَزَادَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى
بَغْدَادَ فَأَفْسَدَ فِيهَا وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَاسْتَقَلَّ بِالْأُمُورِ مِنْ
غَيْرِ مُرَاجَعَةِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ فَغَضِبَ الْمُتَّقِي، وَخَرَجَ مِنْهَا
مُغَاضِبًا بِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ وَوَزِيرِهِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَأَعْيَانِ أَهْلِ بَغْدَادَ قَاصِدًا بَنِي حَمْدَانَ، فَتَلَقَّاهُ
سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى تَكْرِيتَ ثُمَّ جَاءَهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ وَهُوَ
بِتَكْرِيتَ أَيْضًا، وَحِينَ خَرَجَ الْمُتَّقِي مِنْ بَغْدَادَ أَكْثَرَ ابْنُ
شِيرَزَادَ الْفَسَادَ، وَظَلَمَ أَهْلَهَا وَصَادَرَهُمْ، وَأَرْسَلَ يُعْلِمُ
تُوزُونَ فَأَقْبَلَ مُسْرِعًا نَحْوَ تَكْرِيتَ فَتَوَاقَعَ هُوَ وَسَيْفُ
الدَّوْلَةِ، فَهَزَمَ تُوزُونُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ، وَأَخَذَ مُعَسْكَرَهُ
وَمُعَسْكَرَ أَخِيهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ كَرَّ إِلَيْهِ سَيْفُ
الدَّوْلَةِ، فَهَزَمَهُ تُوزُونُ أَيْضًا، وَانْهَزَمَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَّقِي
وَنَاصِرُ الدَّوْلَةِ وَسَيْفُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَى نَصِيبِينَ
وَجَاءَ تُوزُونُ، فَدَخَلَ الْمَوْصِلَ وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ
رِضَاهُ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ، يَقُولُ: لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنْ
تُصَالِحَ بَنِي حَمْدَانَ. فَاصْطَلَحُوا، وَضَمِنَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِلَادَ
الْمَوْصِلِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ، وَرَجَعَ تُوزُونُ
إِلَى بَغْدَادَ وَأَقَامَ الْخَلِيفَةُ عِنْدَ بَنِي حَمْدَانَ.
وَفِي غَيْبَةِ تُوزُونَ عَنْ وَاسِطٍ أَقْبَلَ إِلَيْهَا مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
بْنُ بُوَيْهِ فِي خَلْقٍ مِنَ الدَّيْلَمِ
كَثِيرِينَ،
فَانْحَدَرَ تُوزُونُ مُسْرِعًا إِلَى وَاسِطٍ فَاقْتَتَلَ مَعَ مُعِزِّ
الدَّوْلَةِ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَكَانَ آخِرَ الْأَمْرِ أَنِ انْهَزَمَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، وَنُهِبَتْ حَوَاصِلُهُ، وَقُتِلَ مِنْ جَيْشِهِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ عَاوَدَ تُوزُونَ
مَا كَانَ يَعْتَرِيهِ مِنْ مَرَضِ الصَّرَعِ، فَشُغِلَ بِنَفْسِهِ، فَرَجَعَ
إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا قَتَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ أَخَاهُ أَبَا يُوسُفَ،
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَلَّ مَا فِي يَدِهِ مِنَ
الْأَمْوَالِ، فَكَانَ يَسْتَقْرِضُ مِنْ أَخِيهِ أَبِي يُوسُفَ، فَيُقْرِضُهُ
الْقَلِيلَ ثُمَّ يُشَنِّعُ عَلَيْهِ وَيَذُمُّ تَصَرُّفَهُ، فَمَالَ الْجُنْدُ
إِلَى أَبِي يُوسُفَ، وَأَعْرَضُوا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَخَشِيَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يُبَايِعُوهُ وَيَتْرُكُوهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ طَائِفَةً
مِنْ غِلْمَانِهِ فَقَتَلُوهُ غِيلَةً، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى دَارِهِ، وَأَخَذَ
جَمِيعَ حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ فَكَانَ قِيمَةُ مَا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ مِنَ
الْأَمْوَالِ يُقَارِبُ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَلَمْ يُمَتَّعْ
بَعْدَهُ إِلَّا ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، مَرِضَ فِيهَا مَرَضًا شَدِيدًا
بِالْحُمَّى الْحَادَّةِ، حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، فَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ أَخُوهُ أَبُو الْحُسَيْنِ، قَبَّحَهُ
اللَّهُ، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَصْحَابِهِ، فَثَارُوا بِهِ فَلَجَأَ إِلَى
الْقَرَامِطَةِ، فَاسْتَجَارَ بِهِمْ، فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَبُو
الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ فِي بِلَادِ وَاسِطٍ
وَالْبَصْرَةِ وَتِلْكَ النَّوَاحِي مِنَ الْأَهْوَازِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا الْخَلِيفَةُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَقَامَ عِنْدَ آلِ
حَمْدَانَ بِالْمَوْصِلِ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُمْ تَضَجُّرٌ، وَأَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ
فِي مُفَارَقَتِهِ، فَكَتَبَ إِلَى تُوزُونَ فِي الصُّلْحِ فَاجْتَمَعَ تُوزُونُ
مَعَ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ بِبَغْدَادَ، وَقَرَأُوا كِتَابَ الْخَلِيفَةِ،
وَقَابَلَهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَحَلَفَ لَهُ وَوَضَعَ خَطَّهُ
بِالْإِقْرَارِ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ بِالْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ
وَالْخُضُوعِ،
فَكَانَ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَدُخُولِهِ إِلَى بَغْدَادَ مَا سَيَأْتِي فِي
السَّنَةِ الْآتِيَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الرُّوسِ فِي الْبَحْرِ إِلَى
نُوَاحِي أَذْرَبِيجَانَ فَقَصَدُوا بَرْدَعَةَ فَحَاصَرُوهَا، فَلَمَّا ظَفِرُوا
بِأَهْلِهَا قَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ، وَسَبَوْا
مَنِ اسْتَحْسَنُوا مِنْ نِسَائِهِمْ، ثُمَّ مَالُوا إِلَى مَرَاغَةَ فَوَجَدُوا
بِهَا ثِمَارًا كَثِيرَةً، فَأَكَلُوا مِنْهَا، فَأَصَابَهُمْ وَبَاءٌ شَدِيدٌ،
فَمَاتَ أَكْثَرُهُمْ، فَكَانَ إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمْ دَفَنُوا مَعَهُ سِلَاحَهُ
وَمَالَهُ، فَيَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِمُ الْمَرْزُبَانُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا أَيْضًا، مَعَ
مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْوَبَاءِ الشَّدِيدِ، وَطَهَّرَ اللَّهُ تِلْكَ الْبِلَادَ
مِنْهُمْ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ جَاءَ الدُّمُسْتُقُ مَلِكُ
الرُّومِ إِلَى رَأْسِ الْعَيْنِ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا، فَدَخَلَهَا وَنَهَبَ
مَا فِيهَا، وَقَتَلَ أَهْلَهَا وَسَبَى مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ
أَلْفًا، وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَصَدَتْهُ الْأَعْرَابُ مِنْ
كُلِّ وَجْهٍ، فَقَاتَلُوهُ قِتَالًا عَظِيمًا حَتَّى انْجَلَى عَنْهَا.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ جِدًّا،
وَكَثُرَتِ الْأَمْطَارُ جِدًّا حَتَّى تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ، وَمَاتَ كَثِيرٌ
مِنَ النَّاسِ تَحْتَ الْهَدْمِ، وَتَعَطَّلَتْ كَثِيرٌ مِنَ الْحَمَّامَاتِ
وَالْمَسَاجِدِ مِنْ قِلَّةِ النَّاسِ، وَنَقَصَتْ قِيمَةُ الْعَقَارِ حَتَّى
كَانَ يُبَاعُ بِالدِّرْهَمِ مَا كَانَ يُسَاوِي الدِّينَارَ، وَخَلَتْ أَكْثَرُ
الدُّورِ، فَكَانَ الْمُلَّاكُ يُعْطُونَ مَنْ يَسْكُنُهَا أُجْرَةً لِيَحْفَظَهَا
عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّاخِلِينَ إِلَيْهَا لِتَخْرِيبِهَا. وَكَثُرَتِ الْكَبَسَاتُ
مِنَ اللُّصُوصِ بِاللَّيْلِ، حَتَّى كَانَ النَّاسُ يَتَحَارَسُونَ بِالْبُوقَاتِ
وَالطُّبُولِ، وَكَثُرَتِ الْفِتَنُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنَا.
وَفِي
رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي طَاهِرٍ سُلَيْمَانَ بْنِ
أَبِي سَعِيدٍ الْحَسَنِ الْجَنَّابِيِّ الْهَجَرِيِّ الْقِرْمِطِيِّ رَئِيسِ
الْقَرَامِطَةِ، لَعَنَهُ اللَّهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْحَجِيجَ حَوْلَ
الْكَعْبَةِ وَفِيهَا، وَسَلَبَهَا سُتُورَهَا وَبَابَهَا وَحِلْيَتَهَا،
وَاقْتَلَعَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنْ رُكْنِهَا، وَحَمَلَهُ إِلَى بَلَدِهِ
هَجَرَ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلِّهَا عِنْدَهُ مِنْ سَنَةِ سَبْعَ
عَشْرَةَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَمْ يَرُدَّهُ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا سَيَأْتِي. وَلَمَّا مَاتَ أَبُو طَاهِرٍ هَذَا قَامَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ فِي الْقَرَامِطَةِ إِخْوَتُهُ الثَّلَاثَةُ ; وَهُمْ
أَبُو الْعَبَّاسِ الْفَضْلُ، وَأَبُو الْقَاسِمِ سَعِيدٌ، وَأَبُو يَعْقُوبَ
يُوسُفُ، بَنُو أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَكَانَ أَبُو
الْعَبَّاسِ ضَعِيفَ الْبَدَنِ، مُقْبِلًا عَلَى قِرَاءَةِ الْكُتُبِ، وَكَانَ
أَبُو يَعْقُوبَ مُقْبِلًا عَلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَمَعَ هَذَا كَلِمَةُ
الثَّلَاثَةِ وَاحِدَةٌ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي شَيْءٍ، وَكَانَ لَهُمْ سَبْعَةٌ
مِنَ الْوُزَرَاءِ مُتَّفِقُونَ أَيْضًا، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ كَمَا
ذَكَرْنَا، فَاسْتَرَاحَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذَا وَهَذَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عُقْدَةَ الْحَافِظُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو الْعَبَّاسِ الْكُوفِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُقْدَةَ، لُقِّبَ أَبُوهُ بِذَلِكَ مِنْ أَجْلِ تَعْقِيدِهِ
فِي التَّصْرِيفِ وَالنَّحْوِ، وَكَانَ عُقْدَةُ وَرِعًا نَاسِكًا، وَكَانَ أَبُو
الْعَبَّاسِ بْنُ عُقْدَةَ مِنَ الْحُفَّاظِ الْكِبَارِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ
الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ فَسَمِعَ مِنْ خَلَائِقَ مِنَ الْمَشَايِخِ،
وَسَمِعَ
مِنْهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ الْجِعَابِيِّ وَابْنُ
عَدِيٍّ وَابْنُ الْمُظَفَّرِ وَابْنُ شَاهِينَ.
قَالَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنَّهُ لَمْ يُرَ مِنْ
زَمَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَى زَمَانِ ابْنِ عُقْدَةَ أَحْفَظُ مِنْهُ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ نَحْوًا مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ،
مِنْهَا ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ فِي فَضَائِلِ أَهْلِ الْبَيْتِ، بِمَا فِيهَا مِنَ
الصِّحَاحِ وَالضِّعَافِ، وَكَانَتْ كُتُبُهُ سِتَّمِائَةِ حِمْلِ جَمَلٍ، وَكَانَ
يُنْسَبُ مَعَ هَذَا كُلِّهِ إِلَى التَّشَيُّعِ.
قَالَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ رَجُلَ سُوءٍ.
وَنَسَبَهُ ابْنُ عَدِيٍّ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي النَّسْخَ لِأَشْيَاخٍ،
وَيَأْمُرُهُمْ بِرِوَايَتِهَا.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ يُوسُفَ، سَمِعْتُ أَبَا عُمَرَ بْنَ حَيُّوَيْهِ يَقُولُ:
كَانَ ابْنُ عُقْدَةَ يَجْلِسُ فِي جَامِعِ بَرَاثَا يُمْلِي مَثَالِبَ
الصَّحَابَةِ - أَوْ قَالَ: الشَّيْخَيْنِ - فَتَرَكْتُ حَدِيثَهُ لَا أُحَدِّثُ
عَنْهُ بِشَيْءٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ حَرَّرْتُ الْكَلَامَ فِيهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي كِتَابِي
" التَّكْمِيلِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
أَحْمَدُ
بْنُ عَامِرِ بْنِ بِشْرِ بْنِ حَامِدٍ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَرُّوذِيُّ
نِسْبَةً إِلَى مَرْوِالرُّوذِ - وَالرُّوذُ النَّهْرُ - الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ
تِلْمِيذُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، نِسْبَةً إِلَى مَرْوِ
الشَّاهِجَانِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ. شَرَحَ " مُخْتَصَرَ
الْمُزَنِيِّ " وَلَهُ كِتَابُ " الْجَامِعِ " فِي الْمَذْهَبِ،
وَصَنَّفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَكَانَ إِمَامًا لَا يُشَقُّ غُبَارُهُ.
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا رَجَعَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَّقِي إِلَى بَغْدَادَ وَخُلِعَ مِنَ
الْخِلَافَةِ وَسُمِلَتْ عَيْنَاهُ. كَانَ الْمُتَّقِي وَهُوَ مُقِيمٌ
بِالْمَوْصِلِ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجٍ صَاحِبِ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ
وَقَدِمَ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَصَفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَخَضَعَ لِلْخَلِيفَةِ غَايَةَ الْخُضُوعِ، وَكَانَ يَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ
كَمَا يَقُومُ الْغِلْمَانُ، وَيَمْشِي وَالْخَلِيفَةُ رَاكِبٌ، ثُمَّ عَرَضَ
عَلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ مَعَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، أَوْ يُقِيمَ
بِبِلَادِ الشَّامِ فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمُقَامِ
بِمَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَلَا يَذْهَبُ إِلَى تُوزُونَ بِبَغْدَادَ،
وَحَذَّرَهُ مِنْ تُوزُونَ وَمَكْرِهِ وَخَدِيعَتِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَكَذَلِكَ
أَشَارَ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي حُسَيْنِ بْنِ مُقْلَةَ فَلَمْ يَسْمَعْ،
فَأَهْدَى ابْنُ طُغْجٍ لِلْخَلِيفَةِ هَدَايَا كَثِيرَةً فَاخِرَةً، وَكَذَلِكَ
إِلَى الْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ وَالْوَزِيرِ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى بِلَادِهِ.
وَقَدِ اجْتَازَ بِحَلَبَ، فَانْحَازَ عَنْهَا صَاحِبُهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ، وَكَانَ ابْنُ مُقَاتِلٍ بِهَا، فَأَرْسَلَهُ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ نَائِبًا عَنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهَا.
وَأَمَّا
الْخَلِيفَةُ فَإِنَّهُ رَكِبَ مِنَ الرَّقَّةِ فِي دِجْلَةَ إِلَى بَغْدَادَ
وَأَرْسَلَ إِلَى تُوزُونَ فَاسْتَوْثَقَ مِنْهُ مَا كَانَ حَلَفَ لَهُ مِنَ
الْأَيْمَانِ، فَأَكَّدَهَا وَقَرَّرَهَا، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا خَرَجَ
إِلَيْهِ تُوزُونُ وَمَعَهُ الْعَسَاكِرُ، فَلَمَّا رَأَى الْخَلِيفَةَ قَبَّلَ
الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ وَفَّى لَهُ بِمَا كَانَ
حَلَفَ عَلَيْهِ، وَأَنْزَلَهُ فِي مَضْرِبِهِ، ثُمَّ جَاءَ فَاحْتَاطَ عَلَى مَنْ
مَعَهُ مِنَ الْكُبَرَاءِ، وَأَمَرَ بِسَمْلِ عَيْنَيِ الْخَلِيفَةِ فَسُمِلَتْ
عَيْنَاهُ، فَصَاحَ صَيْحَةً عَظِيمَةً سَمِعَهَا الْحُرَمُ، فَضَجَّتِ
الْأَصْوَاتُ بِالْبُكَاءِ، فَأَمَرَ تُوزُونُ بِضَرْبِ الدَّبَادِبِ ; حَتَّى لَا
تُسْمَعَ أَصْوَاتُ الْحُرَمِ، ثُمَّ انْحَدَرَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى بَغْدَادَ
فَبَايَعَ لِلْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ، فَكَانَتْ خِلَافَةُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ
ثَلَاثَ سِنِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: وَأَحَدَ
عَشَرَ شَهْرًا. وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ.
خِلَافَةُ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُكْتَفِي بْنِ الْمُعْتَضِدِ
لَمَّا رَجَعَ تُوزُونُ إِلَى بَغْدَادَ وَقَدْ خَلَعَ الْمُتَّقِيَ لِلَّهِ
وَسَمَلَهُ، اسْتَدْعَى بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُكْتَفِي، فَبَايَعَهُ عَلَى
الْخِلَافَةِ، وَلُقِّبَ بِالْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ، وَذَلِكَ فِي الْعَشْرِ
الْأَوَاخِرِ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَجَلَسَ تُوزُونُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْمُسْتَكْفِي خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَكَانَ
الْمُسْتَكْفِي مَلِيحَ الشَّكْلِ رَبْعَةً، حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْوَجْهِ،
أَبْيَضَ اللَّوْنِ
مُشْرَبًا
حُمْرَةً، أَكْحَلَ، أَقْنَى الْأَنْفِ، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ، وَكَانَ عُمْرُهُ
يَوْمَ بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَحْضَرَ
الْمُتَّقِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَايَعَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ الْبُرْدَةَ
وَالْقَضِيبَ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا الْفَرَجِ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ
السَّامَرِّيَّ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا
الَّذِي يَتَوَلَّى الْأُمُورَ ابْنُ شِيرَزَادَ، وَحَبَسَ الْمُتَّقِي فِي
السِّجْنِ، وَطَلَبَ الْمُسْتَكْفِي أَبَا الْقَاسِمِ الْفَضْلَ بْنَ الْمُقْتَدِرِ
- وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلُقِّبَ الْمُطِيعَ
لِلَّهِ - فَاخْتَفَى مِنْهُ، وَلَمْ يَظْهَرْ مُدَّةَ خِلَافَةِ الْمُسْتَكْفِي،
فَأَمَرَ الْمُسْتَكْفِي بِهَدْمِ دَارِهِ الَّتِي عِنْدَ دِجْلَةَ.
مَوْتُ الْقَائِمِ الْفَاطِمِيِّ وَوِلَايَةُ وَلَدِهِ الْمَنْصُورِ
وَفِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - وَالصَّحِيحُ فِي شَوَّالٍ مِنَ الَّتِي
بَعْدَهَا - تُوُفِّيَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الْقَاسِمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ،
وَقَدْ عَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْمَنْصُورِ إِسْمَاعِيلَ،
فَكَتَمَ مَوْتَ أَبِيهِ مُدَّةً حَتَّى اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ، ثُمَّ أَظْهَرَهُ.
وَقَدْ كَانَ أَبُو يَزِيدَ الْخَارِجِيُّ قَدْ حَارَبَهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَأَخَذَ مِنْهُمْ مُدُنًا كِبَارًا، وَكَسَرُوهُ مِرَارًا مُتَعَدِّدَةً، ثُمَّ يَثُورُ
عَلَيْهِمْ، وَيَجْمَعُ الرِّجَالَ وَيُقَاتِلُهُمْ بِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ،
فَانْتَدَبَ الْمَنْصُورُ لِقِتَالِ أَبِي يَزِيدَ بِنَفْسِهِ، وَرَكِبَ فِي
الْجُيُوشِ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ بَسَطَهَا
ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ ". وَقَدِ انْهَزَمَ فِي بَعْضِ
الْأَحْيَانِ جَيْشُ الْمَنْصُورِ عَنْهُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا فِي عِشْرِينَ
نَفْسًا، فَقَاتَلَ بِنَفْسِهِ قِتَالًا عَظِيمًا، فَهَزَمَ أَبَا يَزِيدَ
بَعْدَمَا كَادَ يَقْتُلُهُ، وَثَبَتَ الْمَنْصُورُ ثَبَاتًا عَظِيمًا، فَعَظُمَ
فِي أَعْيُنِ
النَّاسِ،
وَزَادَتْ حُرْمَتُهُ وَهَيْبَتُهُ، وَاسْتَنْقَذَ بِلَادَ الْقَيْرَوَانِ مِنْهُ،
وَمَا زَالَ يُحَارِبُهُ الْمَنْصُورُ حَتَّى ظَفِرَ بِهِ وَقَتَلَهُ. وَلَمَّا
جِيءَ بِرَأْسِهِ سَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ أَبُو يَزِيدَ
هَذَا قَبِيحَ الشَّكْلِ، أَعْرَجَ، قَصِيرًا، خَارِجِيًّا شَدِيدًا، يَرَى
تَكْفِيرَ أَهْلِ الْمِلَّةِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ أَبُو الْحُسَيْنِ
الْبَرِيدِيُّ وَصُلِبَ ثُمَّ أُحْرِقَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدِمَ بَغْدَادَ
يَسْتَنْجِدُ بَتُوزُونَ وَأَبِي جَعْفَرِ بْنِ شِيرَزَادَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ،
فَوَعَدُوهُ النَّصْرَ، ثُمَّ شَرَعَ يُفْسِدُ مَا بَيْنَ تُوزُونَ وَابْنِ
شِيرَزَادَ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ ابْنُ شِيرَزَادَ، فَأَمَرَ بِسَجْنِهِ وَضَرْبِهِ،
وَأَحْضَرَ لَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فُتْيَا عَلَيْهَا خُطُوطُ الْفُقَهَاءِ
بِإِبَاحَةِ دَمِهِ، فَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ
وَصَلْبِهِ، ثُمَّ أَحْرَقَهُ، وَانْقَضَتْ أَيَّامُ الْبَرِيدِيِّينَ وَزَالَتْ
دَوْلَتُهُمْ، لَا جَمَعَ اللَّهُ بِهِمْ شَمَلًا.
وَفِيهَا أَخْرَجَ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ الْقَاهِرَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ -
الَّذِي كَانَ خَلِيفَةً، ثُمَّ سُمِلَتْ عَيْنَاهُ - وَأَنْزَلَهُ بِدَارِ ابْنِ
طَاهِرٍ، وَقَدِ افْتَقَرَ الْقَاهِرُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ مِنَ اللِّبَاسِ
سِوَى قُطْنِ جُبَّةٍ يَلْتَفُّ بِهَا، وَفِي رِجْلِهِ قَبْقَابٌ مِنْ خَشَبٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ رَكِبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ فِي رَجَبٍ مِنْهَا إِلَى
وَاسِطٍ لِيُحَاصِرَهَا، فَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى تُوزُونَ فَرَكِبَ هُوَ
وَالْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ رَجَعَ
عَنْهَا إِلَى بِلَادِهِ، وَتَسَلَّمَهَا الْخَلِيفَةُ، وَضَمِنَهَا أَبُو
الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
فَضَمَّنَهُ
تُوزُونُ ثُمَّ رَجَعَ هُوَ وَالْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَادَ فِي شَوَّالٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا رَكِبَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْهَيْجَاءِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ إِلَى حَلَبَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ يَأْنَسَ
الْمُؤْنِسِيِّ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حِمْصَ لِيَأْخُذَهَا، فَجَاءَتْهُ جُيُوشُ
الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجٍ مَعَ مَوْلَاهُ كَافُورٍ، فَاقْتَتَلُوا،
فَانْهَزَمَ كَافُورٌ الْإِخْشِيدِيُّ، وَاسْتَوْلَى سَيْفُ الدَّوْلَةِ عَلَى
حِمْصَ ثُمَّ رَكِبَ إِلَى دِمَشْقَ فَحَاصَرَهَا، فَلَمْ يَفْتَحْهَا أَهْلُهَا
لَهُ، فَرَجَعَ عَنْهَا، وَقَصَدَهُ الْإِخْشِيدُ بِجُيُوشٍ كَثِيفَةٍ،
فَالْتَقَيَا بِقِنَّسْرِينَ، فَلَمْ يَظْفَرْ أَحَدٌ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ،
وَرَجَعَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْجَزِيرَةِ ثُمَّ عَادَ إِلَى حَلَبَ
فَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ بِهَا، فَقَصَدَتْهُ الرُّومُ فِي جَحَافِلَ عَظِيمَةٍ،
فَالْتَقَى مَعَهُمْ، فَظَفِرَ بِهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا زَادَ الْخَلِيفَةُ فِي لَقَبِهِ إِمَامَ الْحَقِّ،
وَكَتَبَ ذَلِكَ عَلَى سِكَّةِ الْمُعَامَلَةِ، وَقَالَهُ الْخُطَبَاءُ عَلَى
الْمَنَابِرِ أَيَّامَ الْجُمَعِ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ تُوزُونُ التُّرْكِيُّ فِي
دَارِهِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ ابْنُ شِيرَزَادَ كَاتِبُهُ، وَكَانَ بِهِيتَ
لِتَخْلِيصِ الْمَالِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَرَادَ أَنْ يَعْقِدَ
الْبَيْعَةَ لِنَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَاضْطَرَبَتِ الْأَجْنَادُ،
وَعُقِدَتِ الرِّيَاسَةُ لِنَفْسِهِ وَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ،
وَخَرَجَ إِلَيْهِ الْأَجْنَادُ كُلُّهُمْ وَحَلَفُوا لَهُ، وَحَلَفَ لَهُ
الْخَلِيفَةُ وَالْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَدَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ،
فَخَاطَبَهُ بِأَمِيرِ الْأُمَرَاءِ، فَزَادَ فِي أَرْزَاقِ الْأَجْنَادِ،
وَبَعَثَ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ يُطَالِبُهُ بِالْخَرَاجِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
بِخَمْسمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَبِطَعَامٍ فَفَرَّقَهُ فِي النَّاسِ، وَأَمَرَ
وَنَهَى وَوَلَّى وَعَزَلَ وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَفَرِحَ بِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ
أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ
بْنَ بُوَيْهِ قَدْ أَقْبَلَ فِي الْجُيُوشِ قَاصِدًا إِلَى بَغْدَادَ فَاخْتَفَى
ابْنُ شِيرَزَادَ وَالْخَلِيفَةُ أَيْضًا، وَخَرَجَ أَكْثَرُ الْأَتْرَاكِ
قَاصِدِينَ إِلَى الْمَوْصِلِ لِيَكُونُوا مَعَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ
حَمْدَانَ.
ذِكْرُ
أَوَّلِ دَوْلَةِ بَنِي بُوَيْهِ وَحُكْمِهِمْ بِبَغْدَادَ
أَقْبَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ فِي
جَحَافِلَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ بَغْدَادَ بَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ
الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ الْهَدَايَا وَالْإِنْزَالَاتِ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ:
أَخْبِرْهُ أَنِّي مَسْرُورٌ بِهِ، وَأَنِّي إِنَّمَا اخْتَفَيْتُ مِنْ شَرِّ
الْأَتْرَاكِ الَّذِينَ انْصَرَفُوا إِلَى الْمَوْصِلِ وَبَعَثَ إِلَيْهِ
بِالْخِلَعِ وَالتُّحَفِ، وَدَخَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ بَغْدَادَ
فِي حَادِي عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَنَزَلَ بِبَابِ
الشَّمَّاسِيَّةِ، وَدَخَلَ مِنَ الْغَدِ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَبَايَعَهُ،
وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْمُسْتَكْفِي، وَلَقَّبَهُ بِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَلَقَّبَ
أَخَاهُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيًّا بِعِمَادِ الدَّوْلَةِ، وَأَخَاهُ أَبَا عَلِيٍّ
الْحَسَنَ بِرُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَكَتَبَ أَلْقَابَهُمْ عَلَى الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ.
وَنَزَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِدَارِ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ وَنَزَلَ أَصْحَابُهُ
مِنَ الدَّيْلَمِ فِي دُورِ النَّاسِ، فَلَقِيَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ كُلْفَةً
شَدِيدَةً، وَأَمَّنَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ ابْنَ شِيرَزَادَ، فَلَمَّا ظَهَرَ
اسْتَكْتَبَهُ عَلَى الْخَرَاجِ، وَرَتَّبَ لِلْخَلِيفَةِ بِسَبَبِ نَفَقَاتِهِ
خَمْسَةَ آلَافٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَاسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ عَلَى هَذَا النِّظَامِ
ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَكْفِي وَخَلْعِهِ
لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ حَضَرَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى
الْحَضْرَةِ،
فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَجَاءَ رَجُلَانِ مِنَ
الدَّيْلَمِ، فَمَدَّا أَيْدِيَهُمَا إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَنْزَلَاهُ عَنْ
كُرْسِيِّهِ وَسَحَبَاهُ، فَتَحَزَّبَتْ عِمَامَتُهُ فِي حَلْقِهِ، وَنَهَضَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، وَاضْطَرَبَتْ دَارُ الْخِلَافَةِ حَتَّى خُلِصَ إِلَى
الْحَرِيمِ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ، وَسِيقَ الْخَلِيفَةُ مَاشِيًا إِلَى دَارِ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَاعْتُقِلَ بِهَا، وَأُحْضِرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْفَضْلُ
بْنُ الْمُقْتَدِرِ، فَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ، وَسُمِلَتْ عَيْنَا
الْمُسْتَكْفِي، وَأَودِعَ السِّجْنَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ مَسْجُونًا حَتَّى
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَذِكْرُ تَرْجَمَتِهِ هُنَالِكَ.
خِلَافَةُ الْمُطِيعِ لِلَّهِ
لَمَّا قَدِمَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بَغْدَادَ وَقَبَضَ عَلَى الْمُسْتَكْفِي
وَسُمِلَتْ عَيْنَاهُ، اسْتَدْعَى بِأَبِي الْقَاسِمِ الْفَضْلِ بْنِ
الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَقَدْ كَانَ مُخْتَفِيًا مِنَ الْمُسْتَكْفِي، وَهُوَ
يَحُثُّ فِي طَلَبِهِ وَيَجْتَهِدُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ
اجْتَمَعَ بِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ سِرًّا، فَحَرَّضَهُ عَلَى الْمُسْتَكْفِي حَتَّى
كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، فَأُحْضِرَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْمُقْتَدِرِ
فَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ وَلُقِّبَ بِالْمُطِيعِ لِلَّهِ، وَبَايَعَهُ
الْأُمَرَاءُ وَالْأَعْيَانُ وَمُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَالْعَامَّةُ، وَضَعُفَ أَمْرُ
الْخِلَافَةِ جِدًّا حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلْخَلِيفَةِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَلَا
وَزِيرٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ كَاتِبٌ عَلَى أَقْطَاعِهِ فَقَطْ،
وَإِنَّمَا مَوْرِدُ أُمُورِ الْمَمْلَكَةِ وَمَصْدَرُهَا رَاجِعٌ إِلَى مُعِزِّ
الدَّوْلَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ بَنِي بُوَيْهِ وَمِنْ مَعَهُمْ
مِنَ الدَّيْلَمِ فِيهِمْ تَشَيُّعٌ شَدِيدٌ، فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ بَنِي
الْعَبَّاسِ قَدْ غَصَبُوا الْأَمْرَ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ، حَتَّى عَزَمَ مُعِزُّ
الدَّوْلَةِ
عَلَى
تَحْوِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهُمْ إِلَى الْعَلَوِيِّينَ، وَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ
فِي ذَلِكَ، فَكُلُّهُمْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، إِلَّا رَجُلًا مِنْ
أَصْحَابِهِ، كَانَ سَدِيدَ الرَّأْيِ فِيهِمْ، فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ: لَا أَرَى
لَكَ هَذَا. قَالَ: وَلِمَ ذَاكَ ؟ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا خَلِيفَةٌ تَرَى أَنْتَ
وَأَصْحَابُكَ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحِ الْإِمَارَةِ، فَمَتَى أَمَرْتَ بِقَتْلِهِ
قَتَلَهُ أَصْحَابُكَ، وَلَوْ وَلَّيْتَ رَجُلًا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ لَكُنْتَ
أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ وِلَايَتِهِ، فَلَوْ أَمَرَ بِقَتْلِكَ
لَقَتَلَكَ أَصْحَابُكَ. فَلَمَّا فَهِمَ ذَلِكَ صَرَفَهُ عَنْ رَأْيِهِ
الْأَوَّلِ، لِلدُّنْيَا لَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ نَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَبَيْنَ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، فَرَكِبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بَعْدَمَا
خَرَجَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَالْخَلِيفَةُ الْمُطِيعُ إِلَى عُكْبَرَا فَدَخَلَ
بَغْدَادَ فَأَخَذَ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ ثُمَّ الْغَرْبِيَّ، وَضَعُفَ أَمْرُ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَالدَّيَالِمَةِ الَّذِينَ مَعَهُ، ثُمَّ مَكَرَ بِهِ مُعِزُّ
الدَّوْلَةِ وَخَدَعَهُ حَتَّى اسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ، وَانْتَصَرَ أَصْحَابُهُ،
فَنَهَبُوا بَغْدَادَ وَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ التُّجَّارُ
وَغَيْرِهِمْ، فَكَانَ قِيمَةُ مَا أَخَذَ أَصْحَابُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مِنَ
النَّاسِ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَ نَاصِرِ
الدَّوْلَةِ وَمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَرَجَعَ ابْنُ حَمْدَانَ إِلَى بَلَدِهِ
الْمَوْصِلِ وَاسْتَقَرَّ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ بَغْدَادَ
ثُمَّ شَرَعَ فِي اسْتِعْمَالِ السُّعَاةِ لِيُبَلِّغُوا أَخَاهُ رُكْنَ
الدَّوْلَةِ أَخْبَارَهُ، فَغَوَى الْعَامَّةُ فِي ذَلِكَ، وَعَلَّمُوا
أَبْنَاءَهُمْ ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقْطَعُ نَيِّفًا
وَثَلَاثِينَ فَرْسَخًا فِي يَوْمٍ، وَأَعْجَبَهُ الْمُصَارِعُونَ
وَالْمُلَاكِمُونَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَرْبَابِ هَذِهِ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي
لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إِلَّا قَلِيلًا ; كَالسِّبَاحَةِ وَنَحْوِهَا، وَكَانَتْ
تُضْرَبُ الطُّبُولُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيُصَارَعُ بَيْنَ الرِّجَالِ،
وَالْكُوسَاتُ
تُدَقُّ
حَوْلَ سُورِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَهَذِهِ رُعُونَةٌ شَدِيدَةٌ
وَسَخَافَةُ عَقْلٍ مِنْهُ وَمِمَّنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ احْتَاجَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى صَرْفِ أَمْوَالٍ فِي أَرْزَاقِ الْأَجْنَادِ،
فَأَقْطَعَهُمُ الْبِلَادَ عِوَضًا عَنْ أَرْزَاقِهِمْ، فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَخْرِيبِهَا
وَتَرْكِ عِمَارَتِهَا، إِلَّا الْأَرَاضِيَ الَّتِي بِأَيْدِي أَصْحَابِ
الْجَاهَاتِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِبَغْدَادَ حَتَّى أَكَلُوا
الْمَيْتَةَ وَالْكِلَابَ وَالسَّنَانِيرَ، وَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْرِقُ
الْأَوْلَادَ فَيَشْوِيهِمْ وَيَأْكُلُهُمْ، وَكَثُرَ الْمَوْتُ فِي النَّاسِ
حَتَّى كَانَ لَا يَدْفِنُ أَحَدٌ أَحَدًا، بَلْ يُتْرَكُونَ عَلَى الطُّرُقَاتِ،
فَيَأْكُلُ كَثِيرًا مِنْهُمُ الْكِلَابُ، وَبِيعَتِ الدُّورُ وَالْعَقَارُ
بِالْخُبْزِ، وَانْتَجَعَ النَّاسُ الْبَصْرَةَ فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ فِي
الطَّرِيقِ، وَمَنْ وَصَلَ مِنْهُمْ مَاتَ بَعْدَ مُدَيْدَةٍ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيِّ، وَوَلِيَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ
الْمَنْصُورُ إِسْمَاعِيلُ، وَكَانَ حَازِمَ الرَّأْيِ شَدِيدًا شُجَاعًا، كَمَا
ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْإِخْشِيدُ مُحَمَّدُ بْنُ طُغْجٍ صَاحِبُ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ
وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ بِضْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَأُقِيمَ وَلَدُهُ أَبُو
الْقَاسِمِ أَنُوجُورُ - وَكَانَ صَغِيرًا - وَأُقِيمَ كَافُورٌ الْإِخْشِيدِيُّ
أَتَابِكَهُ، فَكَانَ
يُدَبِّرُ
الْمَمَالِكَ بِالْبِلَادِ كُلِّهَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْأُمُورِ كُلِّهَا،
وَسَارَ إِلَى مِصْرَ، فَقَصَدَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ دِمَشْقَ
فَأَخَذَهَا مِنْ أَصْحَابِ الْإِخْشِيدِ فَفَرِحَ بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا،
وَاجْتَمَعَ بِمُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْفَارَابِيِّ التُّرْكِيِّ
الْفَيْلَسُوفِ بِهَا، وَرَكِبَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ يَوْمًا مَعَ الشَّرِيفِ
الْعَقِيقِيِّ فِي بَعْضِ نَوَاحِي دِمَشْقَ فَنَظَرَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى
الْغُوطَةِ فَأَعْجَبَتْهُ، وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ كُلُّهَا
لِدِيوَانِ السُّلْطَانِ، كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِأَخْذِهَا مِنْ مُلَّاكِهَا،
فَأَوْغَرَ ذَلِكَ الْعَقِيقِيَّ إِلَى أَهْلِ دِمَشْقَ فَكَتَبُوا إِلَى كَافُورٍ
الْإِخْشِيدِيِّ يَسْتَنْجِدُونَهُ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ فِي جُيُوشٍ كَثِيرَةٍ
كَثِيفَةٍ، فَأَجْلَى عَنْهُمْ سَيْفَ الدَّوْلَةِ وَطَرَدَهُ عَنْ حَلَبَ
أَيْضًا، وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا فَاسْتَنَابَ عَلَى
دِمَشْقَ بَدْرًا الْإِخْشِيدِيَّ - وَيُعْرَفُ بِبُدَيْرٍ - فَلَمَّا صَارَ
كَافُورٌ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ رَجَعَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ
فَأَخَذَهَا كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا لَهُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي دِمَشْقَ
شَيْءٌ. وَكَافُورٌ هَذَا هُوَ الَّذِي هَجَاهُ الْمُتَنَبِّي، وَمَدَحَهُ
أَيْضًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخِرَقِيُّ صَاحِبُ " الْمُخْتَصَرِ " الْمَشْهُورِ فِي الْفِقْهِ،
عُمَرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيُّ
صَاحِبُ " الْمُخْتَصَرِ " فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَدْ شَرَحَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بْنُ
الْفَرَّاءِ، وَالشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ،
وَقَدْ كَانَ الْخِرَقِيُّ هَذَا مِنْ سَادَاتِ الْفُقَهَاءِ وَالْعُبَّادِ،
كَثِيرَ الْفَضَائِلِ
وَالْعِبَادَةِ،
خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ لَمَّا كَثُرَ بِهَا السَّبُّ لِلصَّحَابَةِ، وَأَوْدَعَ
كُتُبَهُ بِبَغْدَادَ، فَاحْتَرَقَتِ الدَّارُ الَّتِي هِيَ فِيهَا، وَعُدِمَتْ
مُصَنَّفَاتُهُ، وَقَصَدَ دِمَشْقَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَبْرُهُ بِبَابِ الصَّغِيرِ يُزَارُ قَرِيبًا مِنْ قُبُورِ الشُّهَدَاءِ.
وَفِي مُصَنَّفِهِ هَذَا " الْمُخْتَصَرِ " فِي كِتَابِ الْحَجِّ:
وَيَأْتِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَيُقَبِّلُهُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ. وَإِنَّمَا
قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَصْنِيفَهُ لِهَذَا الْكِتَابِ كَانَ حَالَ كَوْنِ
الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ بِأَيْدِي الْقَرَامِطَةِ حِينَ أَخَذُوهُ مِنْ مَكَانِهِ
فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَمْ يَرُدُّوهُ
إِلَّا سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
فِي مَوْضِعِهِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: قَالَ لِي الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: كَانَتْ لَهُ مُصَنَّفَاتٌ
كَثِيرَةٌ وَتَخْرِيجَاتٌ عَلَى الْمَذْهَبِ لَمْ تَظْهَرْ; لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ
مَدِينَةِ السَّلَامِ لَمَّا ظَهَرَ سَبُّ الصَّحَابَةِ، وَأَوْدَعَ كُتُبَهُ،
فَاحْتَرَقَتِ الدَّارُ الَّتِي هِيَ فِيهَا، وَاحْتَرَقَتِ الْكُتُبُ فِيهَا
وَلَمْ تَكُنْ قَدِ انْتَشَرَتْ ; لِبُعْدِهِ عَنِ الْبَلَدِ.
ثُمَّ رَوَى الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِهِ، عَنْ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ
السَّمِيعِ الْهَاشِمِيِّ، عَنِ الْفَتْحِ بْنِ شُخْرُفٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
فِي
الْمَنَامِ فَقَالَ لِي: مَا أَحْسَنَ تَوَاضُعَ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ !
قَالَ: قُلْتُ: زِدْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَأَحْسَنُ مِنْ
ذَلِكَ تِيهُ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ. قَالَ: وَرَفَعَ لِي كَفَّهُ
فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ:
قَدْ كُنْتَ مَيْتًا فَصِرْتَ حَيًّا وَعَنْ قَلِيلٍ تَصِيرُ مَيْتَا فَابْنِ
بِدَارِ الْبَقَاءِ بَيْتًا
وَدَعْ بِدَارِ الْفَنَاءِ بَيْتَا
قَالَ ابْنُ بَطَّةَ: مَاتَ الْخِرَقِيُّ بِدِمَشْقَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَزُرْتُ قَبْرَهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُوسَى
الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْعِرَاقِيِّينَ فِي زَمَانِهِ،
وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِبَغْدَادَ لِلْمُتَّقِي، ثُمَّ لِلْمُسْتَكْفِي، وَكَانَ
ثِقَةً فَاضِلًا، كَبَسَتِ اللُّصُوصُ دَارَهُ فَظَنُّوهُ أَنَّهُ ذُو مَالٍ،
فَضَرَبَهُ بَعْضُهُمْ ضَرْبَةً أَثْخَنَتْهُ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ إِلَى
السُّطُوحِ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ إِلَى الْأَرْضِ، فَمَاتَ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْفَضْلِ
السُّلَمِيُّ، الْوَزِيرُ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ الشَّاعِرُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ
وَجَمَعَ وَصَنَّفَ، وَكَانَ يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ وَلَا يَدَعُ
صَلَاةَ اللَّيْلِ وَالتَّصْنِيفَ، وَكَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ الشَّهَادَةَ
كَثِيرًا،
فَوَلِيَ
الْوِزَارَةَ لِلسُّلْطَانِ، فَقَصَدَهُ الْأَجْنَادُ يُطَالِبُونَهُ
بِأَرْزَاقِهِمْ، وَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ بِبَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَاسْتَدْعَى
بِحَلَّاقٍ فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَتَنَوَّرَ وَتَطَيَّبَ وَلَبِسَ كَفَنَهُ،
وَقَامَ يُصَلِّي، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ سَاجِدٌ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ.
الْإِخْشِيدُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طُغْجِ بْنِ جُفَّ أَبُو بَكْرٍ
الْمُلَقَّبَ بِالْإِخْشِيدِ، وَمَعْنَاهُ مَلِكُ الْمُلُوكِ، لَقَّبَهُ بِذَلِكَ
الرَّاضِي ; لِأَنَّهُ كَانَ مَلِكَ فَرْغَانَةَ وَكُلُّ مَنْ مَلَكَهَا كَانَ
يُسَمَّى الْإِخْشِيدَ كَمَا أَنَّ مَنْ مَلَكَ أُشْرُوسَنَةَ يُسَمَّى
الْإِفْشِينَ، وَمَنْ مَلَكَ خُوَارِزْمَ يُسَمَّى خَوَارِزْمَ شَاهَ، وَمَنْ
مَلَكَ جُرْجَانَ يُسَمَّى صُولَ، وَمَنْ مَلَكَ أَذْرَبِيجَانَ يُسَمَّى
إِصْبَهْبَذَ، وَمَنْ مَلَكَ طَبَرِسْتَانَ يُسَمَّى سَالَارَ. قَالَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ".
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي مَنْ مَلَكَ الشَّامَ مَعَ
الْجَزِيرَةِ كَافِرًا قَيْصَرَ، وَمَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ يُسَمَّى كِسْرَى،
وَمَنْ مَلَكَ الْيَمَنَ يُسَمَّى تُبَّعًا، وَمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ
النَّجَاشِيَّ وَمَنْ مَلَكَ الْهِنْدَ بَطْلَيْمُوسَ، وَمَنْ مَلَكَ
مِصْرَ
كَافِرًا يُسَمَّى فِرْعَوْنُ، وَمَنْ مَلَكَ إِسْكَنْدَرِيَّةَ يُسَمَّى
الْمُقَوْقِسَ وَذَكَرَ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ، وَنُقِلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَدُفِنَ
هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو بَكْرٍ الشَّبْلِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، اخْتَلَفُوا فِي اسْمِهِ عَلَى أَقْوَالٍ،
فَقِيلَ: دُلَفُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَيُقَالُ: دُلَفُ بْنُ جَحْدَرٍ، وَقِيلَ:
جَعْفَرُ بْنُ يُونُسَ. أَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: شِبْلِيَّةُ. مِنْ
بِلَادِ أُشْرُوسَنَةَ مِنْ خُرَاسَانَ وَوُلِدَ بِسَامَرَّاءَ، وَكَانَ أَبُوهُ
حَاجِبَ الْحُجَّابِ لِلْمُوَفَّقِ، وَكَانَ خَالُهُ نَائِبَ إِسْكَنْدَرِيَّةَ،
وَكَانَتْ تَوْبَةُ الشِّبْلِيِّ عَلَى يَدَيْ خَيْرٍ النَّسَّاجِ، سَمِعَهُ
يَعِظُ، فَوَقَعَ كَلَامُهُ فِي قَلْبِهِ، فَتَابَ مِنْ فَوْرِهِ، ثُمَّ صَحِبَ
الْفُقَرَاءَ وَالْمَشَايِخَ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَئِمَّةِ
الْقَوْمِ.
قَالَ
الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: كَانَ الشِّبْلِيُّ تَاجَ هَؤُلَاءِ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَحْمُودٍ
الزَّوْزَنِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمُثَنَّى التَّمِيمِيَّ يَقُولُ:
دَخَلْتُ عَلَى الشِّبْلِيِّ فِي دَارِهِ، وَهُوَ يَهِيجُ وَيَقُولُ:
عَلَى بُعْدِكَ لَا يَصْبِ رُ مَنْ عَادَتُهُ الْقُرْبُ
وَلَا يَقْوَى عَلَى حَجْبِ كَ مَنْ تَيَّمَهُ الْحُبُّ
فَإِنْ لَمْ تَرَكَ الْعَيْنُ فَقَدْ يُبْصِرُكَ الْقَلْبُ
وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِمَّنِ
اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَلَّاجِ وَوَافَقَهُ فِي بَعْضِ مَا نُسِبَ
إِلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ لِمَا تَحْتَهَا، مِمَّا كَانَ
الْحَلَّاجُ يُحَاوِلُهُ مِنَ الْإِلْحَادِ وَالِاتِّحَادِ.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِخَادِمِهِ: قَدْ كَانَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ
مِنْ مَظْلِمَةٍ، فَتَصَدَّقْتُ عَنْ صَاحِبِهِ بِأُلُوفٍ، وَمَعَ هَذَا مَا عَلَى
قَلْبِي شُغُلٌ أَعْظَمَ مِنْهُ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يُوَضِّئَهُ، فَوَضَّأَهُ
وَتَرَكَ تَخْلِيلَ لِحْيَتِهِ، فَرَفَعَ يَدَهُ - وَكَانَ قَدِ اعْتُقِلَ
لِسَانُهُ
- فَجَعَلَ يُخَلِّلُ لِحْيَةَ نَفْسِهِ.
وَذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " وَحَكَى
عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ يَوْمًا عَلَى الْجُنَيْدِ، فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَصَفَّقَ وَأَنْشَدَ:
عَوَّدُونِي الْوِصَالَ وَالْوَصْلُ عَذْبٌ وَرَمَوْنِي بِالصَّدِّ وَالصَّدُّ
صَعْبُ
زَعَمُوا حِينَ أَزْمَعُوا أَنَّ ذَنْبِي فَرْطُ حُبِّي لَهُمْ وَمَا ذَاكَ ذَنْبُ
لَا وَحَقِّ الْخُضُوعِ عِنْدَ التَّلَاقِي مَا جَزَا مَنْ يُحِبُّ إِلَّا يُحَبُّ
وَمِمَّا كَانَ يُنْشِدُهُ الشِّبْلِيُّ مِنَ الْأَشْعَارِ الرَّقِيقَةِ، وَقَدْ
أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ " تَارِيخِهِ ":
أُسَائِلُكُمْ عَنْهَا فَهَلْ مِنْ مُخَبِّرٍ فَمَا لِي بِنُعْمَى بَعْدَ
مُكْثَتِنَا عِلْمُ
فَلَوْ كُنْتُ أَدْرِي أَيْنَ خَيَّمَ أَهْلُهَا وَأَيَّ بِلَادِ اللَّهِ إِذْ
ظَعَنُوا أَمُّوا
إِذًا لَسَلَكْنَا مَسْلَكَ الرِّيحِ خَلْفَهَا وَلَوْ أَصْبَحَتْ نُعْمَى وَمِنْ
دُونِهَا النَّجْمُ
وَمِنْ ذَلِكَ:
أُسَائِلُ عَنْ سَلْمَى فَهَلْ مِنْ مُخَبِّرٍ بِأَنَّ لَهُ عِلْمًا بِهَا أَيْنَ
تَنْزِلُ
ثُمَّ يَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، وَمَا فِي الدَّارَيْنِ عَنْكَ مُخْبِرٌ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا شَطْحٌ ; فَقَدْ خَبَّرَتْ عَنْهُ تَعَالَى الرُّسُلُ
بِالْحَقِّ وَنَطَقُوا
بِالصِّدْقِ.
وَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ لِعَارِفٍ عَلَامَةٌ، وَلَا لِمُحِبٍّ شَكْوَى، وَلَا
لِعَبْدٍ دَعْوَى، وَلَا لِخَائِفٍ قَرَارٌ، وَلَا مِنَ اللَّهِ فِرَارٌ.
وَكَانَ الشِّبْلِيُّ يَقُولُ: الْعَارِفُ صَدْرُهُ مَشْرُوحٌ، وَقَلْبُهُ
مَجْرُوحٌ، وَجَسَدُهُ مَطْرُوحٌ، وَالْعَارِفُ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ، وَعَرَفَ
مُرَادَ اللَّهِ، وَعَمِلَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ، وَأَعْرَضَ عَمَّا نَهَى
اللَّهُ، وَدَعَا عِبَادَ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَالصُّوفِيُّ مَنْ صَفَّى
قَلْبَهُ مِنَ الْكَدَرِ فَصَفَا، وَسَلَكَ طَرِيقَ الْمُصْطَفَى، وَرَمَى الدُّنْيَا
خَلْفَ الْقَفَا، وَأَذَاقَ الْهَوَى طَعْمَ الْجَفَا.
وَقَالَ أَيْضًا: الصُّوفِيُّ مَنْ صَفَا مِنَ الْكَدَرِ، وَخَلَصَ مِنَ
الْغِيَرِ، وَامْتَلَأَ مِنَ الْفِكَرِ، وَتَسَاوَى عِنْدَهُ الذَّهَبُ
وَالْمَدَرُ.
وَمِمَّا كَانَ يُنْشِدُهُ:
أَظَلَّتْ عَلَيْنَا مِنْكِ يَوْمًا سَحَابَةٌ أَضَاءَتْ لَنَا بَرْقًا وَأَبْطَا
رَشَاشُهَا
فَلَا غَيْمُهَا يَجْلُو فَيَيْأَسَ طَامِعٌ وَلَا غَيْثُهَا يَأْتِي فَيَرْوَى
عِطَاشُهَا
وَسُئِلَ: هَلْ يَتَحَقَّقُ الْعَارِفُ بِمَا يَبْدُو لَهُ مِنَ الْآثَارِ ؟
فَقَالَ: كَيْفَ يَتَحَقَّقُ بِمَا لَا يَثْبُتُ ؟ وَكَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَى مَا
لَا يَظْهَرُ ؟ وَكَيْفَ يَأْنَسُ بِمَا يَخْفَى ؟ فَهُوَ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ.
ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
فَمَنْ كَانَ فِي طُولِ الْهَوَى ذَاقَ سَلْوَةً فَإِنِّي مَنْ لَيْلَى لَهَا
غَيْرُ ذَائِقِ
وَأَكْثَرُ
شَيْءٍ نِلْتُهُ مِنْ وِصَالِهَا أَمَانِيُّ لَمْ تَصْدُقْ كَلَمْحَةِ بَارِقِ
وَكَانَ يَقُولُ: الدُّنْيَا خَيَالٌ، وَظِلُّهَا وَبَالٌ، وَتَرْكُهَا جَمَالٌ،
وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا كَمَالٌ، وَالْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ اتِّصَالٌ:
لَتُحْشَرَنَّ عِظَامِي بَعْدَ إِذْ بَلِيتُ يَوْمَ الْحِسَابِ وَفِيهَا حُبُّكُمْ
عَلِقُ
وَسُئِلَ الشِّبْلِيُّ: هَلْ يَتَسَلَّى الْحَبِيبُ بِشَيْءٍ مِنْ حَبِيبِهِ دُونَ
مُشَاهَدَتِهِ ؟ فَأَنْشَدَ:
وَاللَّهِ لَوْ أَنَّكَ تَوَّجْتَنِي بِتَاجِ كِسْرَى مَلِكِ الْمَشْرِقِ
وَلَوْ بِأَمْوَالِ الْوَرَى جُدْتَ لِي أَمْوَالِ مَنْ بَادَ وَمَنْ قَدْ بَقِي
وَقُلْتَ لَا نَلْتَقِي سَاعَةً اخْتَرْتُ يَا مَوُلَايَ أَنْ نَلْتَقِي
وَكَانَ يُنْشِدُ أَيْضًا:
إِذَا نَحْنُ أَدْلَجْنَا وَأَنْتَ أَمَامَنَا كَفَى لِمَطَايَانَا بِذِكْرِكَ
هَادِيًا
وَكَانَ يُنْشِدُ أَيْضًا:
وَلَوْ أَنَّ رَكْبًا أَمَّمُوكَ لَقَادَهُمْ نَسِيمُكَ حَتَّى يَسْتَدِلَّ بِكَ
الرَّكْبُ
إِذَا أَبْصَرَتْكَ الْعَيْنُ مِنْ بَعْدِ غَايَةٍ وَعَارَضَ فِيكَ الشَّكُّ
أَثْبَتَكَ الْقَلْبُ
وَكَانَ
يُنْشِدُ أَيْضًا:
لَيْسَ تَخْلُو جَوَارِحِي مِنْكَ وَقْتًا هِيَ مَشْغُولَةٌ بِحَمْلِ هَوَاكَا
لَيْسَ يَجْرِي عَلَى لِسَانِي شَيْءٌ عَلِمَ اللَّهُ ذَا سِوَى ذِكْرَاكَا
وَتَمَثَّلْتَ حَيْثُ كُنْتَ بِعَيْنِي فَهِيَ إِنْ غِبْتَ أَوْ حَضَرْتَ تَرَاكَا
وَكَانَ يُنْشِدُ أَيْضًا:
عَجِبْتُ لِمَنْ يَقُولُ نَسِيتُ إِلْفِي وَهَلْ أَنْسَى فَأَذْكُرُ مَنْ هَوِيتُ
أَمُوتُ إِذَا ذَكَرْتُكَ ثُمَّ أَحْيَا وَلَوْلَا مَا أُؤَمِّلُ مَا حَيِيتُ
فَأَحْيَا بِالْمُنَى وَأَمُوتُ شَوْقًا فَكَمْ أَحْيَا عَلَيْكَ وَكَمْ أَمُوتُ
جَعَلْتُ الصَّمْتَ سِتْرَ الْحُبِّ حَتَّى تَكَلَّمَتِ الْجُفُونُ بِمَا لَقِيتُ
شَرِبْتُ الْحُبَّ كَأْسًا بَعْدَ كَأْسٍ فَمَا نَفِدَ الشَّرَابُ وَمَا رَوِيتُ
وَقَالَ أَيْضًا: التَّصَوُّفُ تَرْوِيحُ الْقَلْبِ بِمَرَاوِحِ الصَّفَاءِ،
وَتَجْلِيلُ الْخَوَاطِرِ بِأَرْدِيَةِ الْوَفَاءِ، وَالتَّخَلُّقُ بِالسَّخَاءِ،
وَالْبِشْرُ فِي اللِّقَاءِ.
وَنَظَرَ يَوْمًا إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ فَأَنْشَأَ:
أَمَّا الْخِيَامُ فَإِنَّهَا كَخِيَامِهِمْ وَأَرَى نِسَاءَ الْحَيِّ غَيْرَ
نِسَائِهَا
وَقَالَ أَيْضًا:
إِذَا
أَرَدْتَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا، فَانْظُرْ إِلَى
الْمَزْبَلَةِ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى نَفْسِكَ فَخُذْ كَفًّا مِنْ
تُرَابٍ ; فَإِنَّكَ مِنْهَا خُلِقْتَ، وَفِيهَا تَعَودُ، وَمِنْهَا تَخْرُجُ،
وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَا أَنْتَ، فَانْظُرْ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْكَ
عِنْدَ الْخَلَاءِ، فَلَا تَتَطَاوَلْ وَلَا تَتَكَبَّرْ عَلَى مَنْ هُوَ
مِثْلُكَ.
وَكَانَ يُنْشِدُ:
وَتَحْسَبُنِي حَيًّا وَإِنِّي لَمَيِّتٌ وَبَعْضِي مِنَ الْهِجْرَانِ يَبْكِي
عَلَى بَعْضِ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
وَكَذَّبْتُ طَرَفِي فِيكَ وَالطَّرْفُ صَادِقٌ وَأَسْمَعْتُ أُذْنِي فِيكَ مَا
لَيْسَ تَسَمَعُ
وَلَمْ أَسْكُنِ الْأَرْضَ الَّتِي تَسْكُنُونَهَا لِكَيْ لَا يَقُولُوا إِنَّنِي
بِكَ مُولَعُ
فَلَا كَبِدِي تَهْدَا وَلَا فِيكَ رَحْمَةٌ وَلَا عَنْكَ إِقْصَارٌ وَلَا فِيكَ
مَطْمَعُ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
فَيَا سَاقِيَ الْقَوْمِ لَا تَنْسَنِي وَيَا رَبَّةَ الْخِدْرِ غَنِّي رَمَلْ
خَلِيلَيَّ إِنْ دَامَ هَذَا الصُّدُودُ عَلَى مَا أَرَاهُ سَرِيعًا قَتَلْ
وَقَدْ كَانَ شَيْئًا يُسَمَّى السُّرُورَ قَدِيمًا سَمِعْنَا بِهِ مَا فَعَلْ
وَسُئِلَ الشِّبْلِيُّ عَنِ الرَّجُلِ يَسْمَعُ الشَّيْءَ فَلَا يَفْهَمُهُ،
وَيَتَوَاجَدُ مَعَ ذَلِكَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
رُبَّ
وَرْقَاءَ هَتُوفٍ بِالضُّحَى ذَاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ فِي فَنَنِ
ذَكَرَتْ إِلْفًا وَدَهْرًا صَالِحًا فَبَكَتْ حُزْنًا فَهَاجَتْ حَزَنِي
فَبُكَائِي رُبَّمَا أَرَّقَهَا وَبُكَاهَا رُبَّمَا أَرَّقَنِي
وَلَقَدْ أَشْكُو فَمَا أُفْهِمُهَا وَلَقَدْ تَشْكُو فَمَا تُفْهِمُنِي
غَيْرَ أَنِّي بِالْجَوَى أَعْرِفُهَا وَهِيَ أَيْضًا بِالْجَوَى تَعْرِفُنِي
وَوُجِدَ فِي كَلَامِ الشِّبْلِيِّ: مَا ظَنُّكَ بِمَعَانٍ هِيَ شُمُوسٌ كُلُّهَا
; بَلِ الشُّمُوسُ فِيهَا ظُلْمَةٌ.
وَقَالَ أَيْضًا: الْوَجْدُ اصْطِلَامٌ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
الْوَجْدُ عَنِّي جُحُودٌ مَا لَمْ يَكُنْ عَنْ شُهُودِ
وَشَاهِدُ الْحَقِّ عِنْدِي يُفْنِي شُهُودَ الْوُجُودِ
وَكَانَ يُنْشِدُ:
الْكُلُّ مِنِّي بَلَائِي وَرَاحَتِي فِي فَنَائِي
وَسَمِعَ الْقَوَّالَ يَوْمًا، فَتَوَاجَدَ كَثِيرًا وَالْمَشَايِخُ سُكُوتٌ لَمْ
يَتَوَاجَدْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَعَاتَبَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ فِي ذَلِكَ،
فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ حَدِيثَهَا خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وَسُجُودًا
وَأَنْشَأَ
يَقُولُ:
لِي سَكْرَتَانِ وَلِلنَّدْمَانِ وَاحِدَةٌ شَيْءٌ خُصِصْتُ بِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ
وَحْدِي
وَكَانَ يَقُولُ:
وَكُنْتُ إِذَا مَا جِئْتُ جِئْتُ لِعِلَّةٍ فَأَفْنَيْتُ عِلَّاتِي فَكَيْفَ
أَقُولُ
إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مُرْسَلٌ فَرِيحُ الصَّبَا مِنِّي إِلَيْكَ
رَسُولُ
وَمِنْهُ أَيْضًا:
وَكَمْ كِذْبَةٍ لِي فِيكَ لَا أَسْتَقِيلُهَا أَقُولُ لِمَنْ أَلْقَاهُ إِنِّيَ
صَالِحُ
فَأَيُّ صَلَاحٍ لِي وَجِسْمِيَ نَاحِلٌ وَقَلْبِيَ مَشْغُوفٌ وَدَمْعِيَ سَافِحُ
وَأَنْشَدَ يَوْمًا، وَجَلَسَ عِنْدَهُ شَابٌّ أَمَرَدُ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ
حِسَانٌ، فَطَرَدَهُ مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ قَالَ:
طَرَحُوا اللَّحْمَ لِلْبُزَا ةِ عَلَى ذِرْوَتَيْ عَدَنْ
ثُمَّ لَامُوا الْبُزَاةَ كَمْ طَوَّلُوا فِيهِمُ الرَّسَنْ
لَوْ أَرَادُوا صَلَاحَنَا سَرُّوا وَجْهَهُ الْحَسَنْ
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ الْكَاتِبِ،
أَنَّهُ أَنْشَدَ لَهُ فِي مَعْنَى هَذَا بَيْتَيْنِ أَخْطَأَ فِيهِمَا:
يَا رَبِّ تَخْلُقُ أَقْمَارَ لَيْلٍ وَأَغْصَانَ بَانٍ وَكُثْبَانَ رَمْلِ
وَتُبْدِعُ فِي كُلِّ طَرَفٍ بِسِحْرٍ وَفِي كُلِّ قَدٍّ رَشِيقٍ بِكَلِّ
وَتَنْهَى عِبَادَكَ أَنْ يَعْشَقُوا أَيَا حَكَمَ الْعَدْلِ أَحْكُمْ بِعَدْلِ
قُلْتُ:
نَعَمْ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا يَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ، وَهُوَ الْحَكَمُ
بِالْعَدْلِ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَكُلِّ مَا يَنْهَى عَنْهُ.
وَلِلشِّبْلِيِّ:
فَيَوْمًا تَرَانَا فِي الْخُزُوزِ نَجُرُّهَا وَيَوْمًا تَرَانَا فِي الْحَدِيدِ
عَوَابِسَا
وَيَوْمًا تَرَانَا لِلثَّرِيدِ نَبُسُّهُ وَيَوْمًا تَرَانَا نَأْكُلُ الْخُبْزَ
يَابِسَا
وَسَافَرَ الشِّبْلِيُّ مَرَّةً إِلَى الْبَصْرَةِ فَلَمَّا عَادَ إِلَى بَغْدَادَ
سَمِعَ جَارَةً لِلْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ تُغَنِّيهِ وَهُوَ فِي التَّاجِ مِنْ
دَارِ الْخِلَافَةِ:
أَيَا قَادِمًا مِنْ سَفْرَةِ الْهَجْرِ مَرْحَبًا أَيَا ذَاكَ لَا أَنْسَاكَ مَا
هَبَّتِ الصَّبَا
قَدِمْتَ عَلَى قَلْبِي كَمَا قَدْ تَرَكْتَهُ كَئِيبًا حَزِينًا بِالصَّبَابَةِ
مُتْعَبَا
فَصَاحَ الشِّبْلِيُّ صَيْحَةً، وَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فِي دِجْلَةَ،
فَتَدَارَكَهُ النَّاسُ، فَأَخْرَجُوهُ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِحْضَارِهِ،
فَقَالَ: أَنْتَ مَجْنُونٌ. قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي قَدِمْتُ مِنْ سَفَرٍ،
فَسَمِعْتُ هَذِهِ تُغَنِّيكَ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، فَحَصَلَ لِي مَا حَصَلَ،
فَبَكَى الْخَلِيفَةُ.
وَكَانَ الشِّبْلِيُّ يُنْشِدُ، وَسَمِعْتُهُ كَثِيرًا مِنْ شَيْخِنَا
الْعَلَّامَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُنْشِدُ:
عَوَى الذِّئْبُ فَاسْتَأْنَسْتُ لِلذِّئْبِ إِذْ عَوَى وَصَوَّتَ إِنْسَانٌ
فَكِدْتُ أَطِيرُ
وَلَهُ أَيْضًا:
النَّاسُ
بِالْعِيدِ قَدْ سُرُّوا وَقَدْ فَرِحُوا وَمَا سُرِرْتُ بِهِ وَالْوَاحِدِ
الصَّمَدِ
لَمَّا تَيَقَّنْتُ أَنِّي لَا أُعَايِنُكُمْ غَمَّضْتُ عَيْنِي فَلَا أَنْظُرْ
إِلَى أَحَدِ
وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانًا مَاتَ فُجَاءَةً. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
قَضَى اللَّهُ فِي الْقَتْلَى قِصَاصَ دِمَائِهِمْ وَلَكِنْ دِمَاءُ الْعَاشِقِينَ
جُبَارُ
وَلَهُ أَيْضًا:
جُنِنَّا عَلَى لَيْلَى وَجُنَّتْ بِغَيْرِنَا وَأُخْرَى بِنَا مَجْنُونَةٌ مَا
نُرِيدُهَا
وَلَهُ أَيْضًا:
يَا رَاحَتِي وَعَذَابِي مِنْ عَذَابِي أَنْتِ مَا بِي فَكَيْفَ أَكْتُمُ مَا بِي
وَلَهُ أَيْضًا:
فَلَوْ قُلْتَ طَأْ فِي النَّارِ بَادَرْتُ نَحْوَهَا سُرُورًا لِأَنِّي قَدْ
خَطَرْتُ بِبَالِكَا
وَلَمَّا مَرِضَ الشِّبْلِيُّ بَعَثَ إِلَيْهِ الْمُقْتَدِرُ طَبِيبًا
نَصْرَانِيًّا، فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ: فَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّ قَطْعَ بَعْضِ
جَسَدِي يَشْفِيكَ لَقَطَعْتُهُ. فَقَالَ لَهُ: يَشْفِينِي قَطْعُ مَا هُوَ
أَيْسَرُ عَلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: قَطْعُ زُنَّارِكَ.
فَقَطَعَهُ وَأَسْلَمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ، فَقَالَ: بَعَثْنَا
طَبِيبًا إِلَى عَلِيلٍ، فَإِذَا هُوَ عَلِيلٌ إِلَى طَبِيبٍ.
قَالُوا: وَلَمَّا احْتُضِرَ جَعَلَ مَنْ عِنْدَهُ يَقُولُونَ: قُلْ: لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ:
إِنَّ بَيْتًا أَنْتَ سَاكِنُهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى السُّرُجِ
وَجْهُكَ
الْمَأْمُولُ حُجَّتُنَا يَوْمَ يَأْتِي النَّاسُ بِالْحُجَجِ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَخْشَى أَنْ أَمُوتَ
بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنَّمَا كَانَ
ذِكْرُهُ: اللَّهَ اللَّهَ، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ [ الْأَنْعَامِ:
91 ]
وَفِيمَا نَحَاهُ نَظَرٌ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [ مُحَمَّدٍ: 19 ] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ قَبْلِي: لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ مَجْنُونًا عَلَى بَابِ جَامِعِ
الرُّصَافَةِ يَوْمَ جُمْعَةٍ وَهُوَ عُرْيَانٌ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا مَجْنُونُ
اللَّهِ، أَنَا مَجْنُونُ اللَّهِ. فَقُلْتُ: أَلَا تَسْتَتِرُ وَتَدْخُلُ مَعَ
النَّاسِ فَتُصَلِّي، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَقُولُونَ زُرْنَا وَاقْضِ وَاجِبَ حَقِّنَا وَقَدْ أَسْقَطَتْ حَالِي
حُقُوقَهُمْ عَنِّي
إِذَا أَبْصَرُوا حَالِي وَلَمْ يَأْنَفُوا لَهَا وَلَمْ يَأْنَفُوا مِنْهَا
أَنِفْتُ لَهُمْ مِنِّي
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ فِي " تَارِيخِهِ " عَنْهُ أَنَّهُ أَنْشَدَ
لِنَفْسِهِ:
مَضَتِ الشَّبِيبَةُ وَالْحَبِيبَةُ فَانْبَرَى دَمْعَانِ فِي الْأَجْفَانِ
يَزْدَحِمَانِ
مَا أَنْصَفَتْنِي الْحَادِثَاتُ رَمَيْنَنِي بِمُوَدِّعَيْنِ وَلَيْسَ لِي
قَلْبَانِ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِلَيْلَتَيْنِ
بَقِيَتَا مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ
فِي مَقْبَرَةِ الْخَيْزُرَانِ بِبَغْدَادَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ فِي
دَارِ الْخِلَافَةِ، وَاصْطَلَحَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ وَنَاصِرُ
الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ حَارَبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ
تَكِينَ التُّرْكِيَّ، فَاقْتَتَلَا مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً، ثُمَّ ظَفِرَ نَاصِرُ
الدَّوْلَةِ بِتَكِينَ، فَسَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ
بِالْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ.
وَفِيهَا اسْتَحْوَذَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ عَلَى الرَّيِّ
وَانْتَزَعَهَا مِنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ، فَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَةُ بَنِي بُوَيْهِ
; فَإِنَّهُ صَارَ بِأَيْدِيهِمْ أَعْمَالُ الرَّيِّ وَالْجَبَلِ وَأَصْبَهَانَ
وَفَارِسَ وَالْأَهْوَازِ وَالْعِرَاقِ، وَيُحْمَلُ إِلَيْهِمْ ضَمَانُ
الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ مِنَ الْجَزِيرَةِ.
ثُمَّ اقْتَتَلَ جَيْشُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَجَيْشُ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ
الْبَرِيدِيِّ، فَهُزِمَ أَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ، وَأُسِرَ مِنْ أَعْيَانِهِمْ
جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ.
وَفِيهَا وَقَعَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الرُّومِ وَالْمُسْلِمِينَ عَلَى يَدِ نَصْرٍ
الثَّمِلِيِّ أَمِيرِ الثُّغُورِ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَكَانَ
عِدَّةُ الْأَسَارَى نَحْوًا مِنْ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةِ مُسْلِمٍ. وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ حَمُّوَيْهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، الْقَاضِي الْإِسْتِرَابَاذِيُّ
رَوَى الْكَثِيرَ، وَحَدَّثَ، وَكَانَ لَهُ مَجْلِسٌ لِلْإِمْلَاءِ، وَحَكَمَ
بِبَلَدِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَكَانَ مِنَ الْمُتَهَجِّدِينَ بِالْأَسْحَارِ،
وَيُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي مُرُوءَتِهِ وَوَجَاهَتِهِ، وَقَدْ مَاتَ فَجْأَةً
عَلَى صَدْرِ جَارِيَتِهِ عِنْدَ إِنْزَالِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْخُتُّلِيُّ
سَمِعَ ابْنَ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرَهُ، وَحَدَّثَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَخَلْقٌ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا حَافِظًا، حَدَّثَ مِنْ حَفِظِهِ بِخَمْسِينَ
أَلْفِ حَدِيثٍ.
عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ رَغْبَانَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَغْبَانَ بْنِ زَيْدِ بْنِ تَمِيمٍ أَبُو مُحَمَّدٍ
الْكَلْبِيُّ
الْمُلَقَّبُ بِدِيكِ الْجِنِّ، الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ الشِّيعِيُّ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ مِنْ مَوَالِي بَنِي تَمِيمٍ. وَكَانَتْ لَهُ أَشْعَارٌ قَوِيَّةٌ
خُمَارِيَّةٌ وَغَيْرُ خُمَارِيَّةٍ، وَقَدِ اسْتَجَادَ أَبُو نُوَاسٍ مِنْ
شَعْرِهِ فِي الْخُمَارِيَّاتِ.
عَلِيُّ
بْنُ عِيسَى بْنِ دَاوُدَ بْنِ الْجِرَّاحِ، أَبُو الْحَسَنِ الْوَزِيرُ
وَزِرَ لِلْمُقْتَدِرِ وَالْقَاهِرِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَعَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ،
وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا فَاضِلًا عَفِيفًا، كَثِيرَ التِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ
وَالصِّيَامِ، يُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَيُكْثِرُ مُجَالَسَتَهُمْ، وَكَانَ
أَصْلُهُ مِنَ الْفُرْسِ وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْقَائِمِينَ عَلَى الْحَلَّاجِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَلَكْتُ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ،
أَنْفَقْتُ مِنْهَا فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَثَمَانِينَ
أَلْفًا.
وَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ حِينَ نُفِيَ مِنْ بَغْدَادَ طَافَ بِالْبَيْتِ
وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانَ حَرٌّ شَدِيدٌ، فَجَاءَ الْمَنْزِلَ،
فَأَلْقَى نَفْسَهُ كَالْمَيِّتِ، وَقَالَ: أَشْتَهِي عَلَى اللَّهِ شَرْبَةً
بِثَلْجٍ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَتَهَيَّأُ
هَاهُنَا. فَقَالَ: أَعْرِفُ، وَلَكِنِّي اسْتَرْوَحْتُ إِلَى الْمُنَى. فَلَمَّا
كَانَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَأَمْطَرَتْ، ثُمَّ سَقَطَ
بَرَدٌ شَدِيدٌ كَثِيرٌ، فَجَمَعَ لَهُ صَاحِبُهُ ذَاكَ مِنَ الْبَرَدِ شَيْئًا
كَثِيرًا وَخَبَّأَهُ لَهُ، وَكَانَ الْوَزِيرُ صَائِمًا، فَلَمَّا أَمْسَى جَاءَ
الْمَسْجِدَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ صَاحِبُهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْأَشْرِبَةِ
كُلُّهَا بِثَلْجٍ، فَجَعَلَ يُسْقِيهِ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الصُّوفِيَّةِ
وَالْمُجَاوِرِينَ وَلَمْ يَشْرَبْ هُوَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعَ
إِلَى الْمَنْزِلِ، جِئْتُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّرَابِ كُنَّا قَدْ
خَبَّأْنَاهُ
لَهُ، وَأَقْسَمْتُ عَلَيْهِ لَيَشْرَبَنَّهُ، فَشَرِبَهُ بَعْدَ جَهْدٍ، وَقَالَ:
كُنْتُ أَشْتَهِي لَوْ كُنْتُ تَمَنَّيْتُ الْمَغْفِرَةَ. رَحِمَهُ اللَّهُ
وَغَفَرَ لَهُ.
وَمِنْ شِعْرِ الْوَزِيرِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى قَوْلُهُ:
فَمَنْ كَانَ عَنِّي سَائِلًا بِشَمَاتَةٍ لِمَا نَابَنِي أَوْ شَامِتًا غَيْرَ
سَائِلِ فَقَدْ أَبْرَزَتْ مِنِّي الْخُطُوبُ ابْنَ حُرَّةٍ
صَبُورًا عَلَى أَهْوَالِ تِلْكَ الزَّلَازِلِ
وَقَدْ رَوَى أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْمُحْسِنِ التَّنُوخِيُّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَمَاعَةٍ، أَنَّ عَطَّارًا مَنْ أَهْلِ الْكَرْخِ كَانَ مَشْهُورًا
بِالسُّنَّةِ، رَكِبَهُ سِتُّمِائَةِ دِينَارٍ دَيْنًا، فَغَلَّقَ دُكَّانَهُ،
وَانْكَسَرَ عَنْ كَسْبِهِ، وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الدُّعَاءِ
وَالتَّضَرُّعِ وَالصَّلَاةِ لَيَالِيَ كَثِيرَةً، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ
تِلْكَ اللَّيَالِي رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: اقْصِدْ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى الْوَزِيرَ، فَقَدْ
أَمَرْتُهُ لَكَ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ. فَلَمَّا أَصْبَحَ الرَّجُلُ قَصَدَ
بَابَ الْوَزِيرِ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ، فَجَلَسَ لَعَلَّ أَحَدًا
يَسْتَأْذِنُ لَهُ عَلَيْهِ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِ الْمَجْلِسُ، وَهَمَّ
بِالِانْصِرَافِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ الْحَجَبَةِ: قُلْ لِلْوَزِيرِ:
إِنِّي رَجُلٌ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمَنَامِ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقُصَّهُ عَلَى الْوَزِيرِ، فَقَالَ لَهُ
الْحَاجِبُ: وَأَنْتَ الرَّائِي ؟ إِنَّ الْوَزِيرَ قَدْ أَنْفَذَ فِي طَلَبِكَ
رُسُلًا مُتَعَدِّدَةً. ثُمَّ دَخَلَ، فَمَا كَانَ بِأَسْرَعِ مِنْ أَنْ
أَدْخَلَنِي عَلَيْهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ يَسْتَعْلِمُ عَنِ اسْمِهِ
وَصِفَتِهِ وَمَنْزِلِهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: إِنِّي
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَأْمُرُنِي
بِإِعْطَائِكَ
أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، فَأَصْبَحْتُ لَا أَدْرِي مَنْ أَسْأَلُ عَنْكَ، وَقَدْ
أَرْسَلْتُ فِي طَلَبِكَ إِلَى الْآنِ عِدَّةً مِنَ الرُّسُلِ، فَجَزَاكَ اللَّهُ
خَيْرًا فِي قَصْدِكَ إِيَّايَ. ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْضَارِ أَلْفِ دِينَارٍ،
فَقَالَ: هَذِهِ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسِتُّمِائَةٍ هِبَةٌ مِنْ عِنْدِي. فَقَالَ
الرَّجُلُ: لَا وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى مَا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنِّي أَرْجُو الْخَيْرَ وَالْبَرَكَةَ
فِيهِ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهَا أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ الْوَزِيرُ: هَذَا
هُوَ الصِّدْقُ وَالْيَقِينُ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ، فَعَرَضَ عَلَى أَرْبَابِ
الدُّيُونِ أَمْوَالَهُمْ، فَقَالُوا: نَحْنُ نَصْبِرُ عَلَيْكَ ثَلَاثَ سِنِينَ،
وَافْتَحْ بِهَذَا الذَّهَبِ دُكَّانَكَ، وَدُمْ عَلَى كَسْبِكَ. فَأَبَى إِلَّا
أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الثُّلُثَ، فَدَفَعَ إِلَيْهِمْ مِائَتَيْ
دِينَارٍ، وَفَتَحَ الدُّكَّانَ بِالْمِائَتَيْنِ الْأُخْرَى، فَمَا حَالَ
الْحَوْلُ حَتَّى كَسَبَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَلِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ صَالِحَةٌ. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً، وَيُقَالُ: فِي الَّتِي
قَبْلَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ بَحْرٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْفَارِسِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، كَانَ ثِقَةً ثَبْتًا فَاضِلًا، سَمِعَ أَبَا زُرْعَةَ
الدِّمَشْقِيَّ وَغَيْرَهُ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَآخِرُ مَنْ
حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ مَهْدِيٍّ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ عَمْرِو
بْنِ جَابِرِ بْنِ
يَزِيدَ
بْنِ جَابِرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ صُبْحِ بْنِ ذُهْلِ
بْنِ مَالِكِ بْنِ بَكْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ضَبَّةَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَالِدُ
الْقَاضِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ هَارُونَ.
كَانَ أَسْلَافُهُ مُلُوكَ عُمَانَ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَيَزِيدُ بْنُ
جَابِرٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ
هَارُونُ هَذَا أَوَّلَ مَنِ انْتَقَلَ مِنْ أَهْلِهِ مِنْ عُمَانَ فَنَزَلَ
بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ، وَكَانَ فَاضِلًا مُتَضَلِّعًا
مِنْ كُلِّ فَنٍّ، وَكَانَتْ دَارُهُ مَجْمَعَ الْعُلَمَاءِ فِي سَائِرِ
الْفُنُونِ، وَنَفَقَاتُهُ دَارَّةً عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ
عَالِيَةٌ، وَمَهَابَةٌ وَافِرَةٌ بِبَغْدَادَ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ
الدَّارَقُطْنِيُّ ثَنَاءً كَثِيرًا، وَقَالَ: كَانَ مُبَرِّزًا فِي النَّحْوِ
وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْكَلَامِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ صُولٍ الصُّولِيُّ، وَكَانَ عَالِمًا
بِفُنُونِ الْآدَابِ وَالْأَخْبَارِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي
الَّتِي بَعْدَهَا، كَمَا سَيَأْتِي.
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي أَحْمَدَ الطَّبَرِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ،
تِلْمِيذُ ابْنِ سُرَيْجٍ، لَهُ كِتَابُ " التَّلْخِيصِ "، وَكِتَابُ " الْمِفْتَاحِ " وَهُوَ مُخْتَصَرٌ، شَرَحَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْخَتَنُ وَأَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ أَيْضًا، وَكَانَ أَبُوهُ يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ الْأَخْبَارَ وَالْآثَارَ، وَأَمَّا هُوَ فَتَوَلَّى قَضَاءَ طَرَسُوسَ وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ أَيْضًا، فَحَصَلَ لَهُ خُشُوعٌ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَاتَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَالْمُطِيعُ لِلَّهِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى
الْبَصْرَةِ فَاسْتَنْقَذَاهَا مِنْ يَدِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْبَرِيدِيِّ،
وَهَرَبَ هُوَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَوْلَى مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى
الْبَصْرَةِ وَبَعَثَ يَتَهَدَّدُ الْقَرَامِطَةَ وَيَتَوَعَّدُهُمْ بِأَخْذِ
بِلَادِهِمْ، وَزَادَ فِي أَقَطَاعِ الْخَلِيفَةِ ضِيَاعًا تَعْمَلُ فِي السَّنَةِ
مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ سَارَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ لِتَلَقِّي أَخِيهِ
عِمَادِ الدَّوْلَةِ بِالْأَهْوَازِ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْ أَخِيهِ،
وَقَامَ مَاثِلًا أَيْضًا، وَيَأْمُرُهُ بِالْجُلُوسِ فَلَا يَفْعَلُ. ثُمَّ عَادَ
إِلَى بَغْدَادَ وَرَجَعَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهَا أَيْضًا وَقَدْ تَمَهَّدَتْ
أُمُورٌ جَيِّدَةٌ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَحْوَذَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ عَلَى بِلَادِ
طَبَرِسْتَانَ وَجُرْجَانَ وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ وُشْمَكِيرَ أَخِي
مَرْدَاوِيجَ مَلِكِ الدَّيْلَمِ، فَذَهَبَ وُشْمَكِيرُ إِلَى خُرَاسَانَ
يَسْتَنْجِدُ بِصَاحِبِهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي، أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ
سَمِعَ
جَدَّهُ وَعَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيَّ.
وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا حُجَّةً صَادِقًا، صَنَّفَ كَثِيرًا، وَجَمَعَ عُلُومًا
جَمَّةً، وَلَمْ يَسْمَعِ النَّاسُ مِنْهَا إِلَّا الْيَسِيرَ، وَذَلِكَ
لِشَرَاسَةِ أَخْلَاقِهِ، وَآخِرُ مَنْ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ فَارِسٍ
الْغُورِيُّ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَزْوِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
صَنَّفَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ
أَرْبَعَمِائَةِ كِتَابٍ وَنَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ كِتَابًا، وَلَا يُوجَدُ فِي
كَلَامِهِ حَشْوٌ، بَلْ هُوَ نَقِيُّ الْكَلَامِ، جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَةِ
وَالدِّرَايَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مُصَنَّفَاتِهِ، عَلِمَ فَضْلَهُ
وَاطِّلَاعَهُ، وَوَقَفَ عَلَى فَوَائِدَ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ كُتُبِهِ.
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي مُحَرَّمٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً.
الصُّولِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ صُولٍ أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ
كَانَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ بِفُنُونِ الْأَدَبِ، حَسَنَ الْمَعْرِفَةِ بِأَخْبَارِ
الْمُلُوكِ وَأَيَّامِ الْخُلَفَاءِ وَمَآثِرِ الْأَشْرَافِ وَطَبَقَاتِ
الشُّعَرَاءِ. رَوَى عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ وَالْمُبَرِّدِ
وَثَعْلَبٍ وَأَبِي الْعَيْنَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ وَاسِعَ الرِّوَايَةِ،
جَيِّدَ الْحِفْظِ، حَاذِقًا بِتَصْنِيفِ الْكُتُبِ. وَلَهُ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ
هَائِلَةٌ، وَنَادَمَ جَمَاعَةً مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَحَظِيَ عِنْدَهُمْ. وَكَانَ
جَدُّهُ صُولٌ وَأَهْلُهُ مُلُوكًا بِجُرْجَانَ، ثُمَّ كَانَ أَوْلَادُهُ مِنْ
أَكَابِرِ
الْكُتَّابِ.
وَكَانَ الصُّولِيُّ هَذَا جَيِّدَ الِاعْتِقَادِ، حَسَنَ الطَّرِيقَةِ، وَلَهُ
شِعْرٌ حَسَنٌ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ
الْحُفَّاظِ.
وَمِنْ شَعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَحْبَبْتُ مِنْ أَجْلِهِ مَنْ كَانَ يُشْبِهُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْمَعْشُوقِ
مَعْشُوقُ حَتَّى حَكَيْتُ بِجِسْمِي مَا بِمُقْلَتِهِ
كَأَنَّ سُقْمِي مِنْ عَيْنَيْهِ مَسْرُوقُ
خَرَجَ الصُّولِيُّ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ لِحَاجَةٍ لَحِقَتْهُ،
فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ ابْنَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الزَّاهِدِ
الْمَكِّيِّ
وَكَانَتْ مِنَ الْعَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ الْمُقِيمَاتِ بِمَكَّةَ، وَإِنَّمَا
كَانَتْ تَقْتَاتُ مِنْ كَسْبِ أَبِيهَا، مِمَّا كَانَ يَكْتَسِبُهُ مِنْ عَمِلِ
الْخُوصِ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا يُرْسِلُهَا إِلَيْهَا،
فَاتَّفَقَ أَنْ أَرْسَلَهَا مَرَّةً مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَزَادَ عَلَيْهَا
ذَلِكَ الرَّجُلُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا - يُرِيدُ بِذَلِكَ بِرَّهَا وَزِيَادَةً
فِي نَفَقَتِهَا - فَلَمَّا اخْتَبَرَتْهَا قَالَتْ: هَلْ وَضَعْتَ عَلَى هَذِهِ شَيْئًا
؟ اصْدُقْنِي بِحَقِّ الَّذِي حَجَجْتَ لَهُ. فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَتِ: ارْجِعْ
بِهَا، فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، وَلَوْلَا أَنَّكَ قَصَدْتَ الْخَيْرَ
لَدَعَوْتُ عَلَيْكَ ; فَإِنَّكَ قَدْ أَجَعْتَنِي عَامِي هَذَا، وَلَمْ يَبْقَ
لِي رِزْقٌ إِلَّا مِنَ الْمَزَابِلِ إِلَى قَابِلٍ. فَقُلْتُ: أَلَا تَأْخُذِي
مِنْهَا الثَّلَاثِينَ دِرْهَمًا. فَقَالَتْ: إِنَّهَا قَدِ اخْتَلَطَتْ
بِمَالِكَ، وَلَا أَدْرِي مَا هُوَ. قَالَ الرَّجُلُ: فَرَجَعْتُ بِهَا إِلَى
أَبِيهَا، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: شَقَقْتَ يَا هَذَا عَلَيَّ،
وَضَيَّقْتَ عَلَيْهَا، وَلَكِنِ اذْهَبْ فَتَصَدَّقْ بِهَا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا رَكِبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَانْهَزَمَ
مِنْهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى نَصِيبِينَ فَتَمَلَّكَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
بْنُ بُوَيْهِ الْمَوْصِلَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَعَسَفَ
أَهْلَهَا، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، وَكَثُرَ الدُّعَاءُ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَزَمَ
عَلَى أَخْذِ الْبِلَادِ كُلِّهَا مِنْ يَدِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ،
فَجَاءَهُ خَبَرٌ مِنْ أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى مَنْ
قِبَلَهُ مِنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ، فَاحْتَاجَ إِلَى مُصَالَحَةِ نَاصِرِ
الدَّوْلَةِ عَلَى أَنْ يُحْمَلَ عَمًّا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ
وَالشَّامِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنْ يُخْطَبَ
لَهُ وَلِأَخَوَيْهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ وَرُكْنِ الدَّوْلَةِ عَلَى مَنَابِرَ
بِلَادِهِ كُلِّهَا، فَفَعَلَ وَعَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ
وَبَعَثَ إِلَى أَخِيهِ بِجَيْشٍ هَائِلٍ، وَأَخَذَ لَهُ عَهْدَ الْخَلِيفَةِ
بِوِلَايَةِ خُرَاسَانَ.
وَفِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ صَاحِبُ حَلَبَ إِلَى بِلَادِ
الرُّومِ، فَلَقِيَهُ جَمْعٌ كَثِيفٌ مِنَ الرُّومِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا
شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، وَأَخَذَتِ الرُّومُ مَرْعَشَ
وَأَوْقَعُوا بِأَهْلِ طَرَسُوسَ بَأْسًا شَدِيدًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَمَضَانَ انْتَهَتْ زِيَادَةُ دِجْلَةَ إِلَى
إِحْدَى وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا وَثُلُثٍ، فَغَرِقَتِ الضِّيَاعُ وَالدُّورُ الَّتِي
عَلَيْهَا، وَأَشْرَفَ الْجَانِبُ الشَّرْقِيُّ عَلَى الْغَرَقِ، وَهَمَّ النَّاسُ
بِالْهَرَبِ مِنْهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَوَيْهِ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ الْحَكَمِ، أَبُو
مُحَمَّدٍ الْبَيِّعُ
وَهُوَ وَالِدُ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيِّ أَذَّنَ
ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَغَزَا اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ غَزْوَةً،
وَأَنْفَقَ عَلَى الْعُلَمَاءِ مِائَةَ أَلْفٍ، وَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ،
كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، أَدْرَكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمَ بْنَ
الْحَجَّاجِ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِ، وَتُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثٍ
وَتِسْعِينَ سَنَةً.
قُدَامَةُ الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ
هُوَ قُدَامَةُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ قُدَامَةَ، أَبُو الْفَرَجِ الْكَاتِبُ، لَهُ
مُصَنَّفٌ فِي الْخَرَاجِ وَصِنَاعَةِ الْكِتَابَةِ، وَبِهِ يَقْتَدِي عُلَمَاءُ
هَذَا الشَّأْنِ، وَقَدْ سَأَلَ ثَعْلَبًا عَنْ أَشْيَاءَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ، أَبُو عَلِيٍّ
الْمُذَكِّرُ الْوَاعِظُ بِنَيْسَابُورَ، كَانَ كَثِيرَ التَّدْلِيسِ عَنِ
الْمَشَايِخِ الَّذِينَ لَمْ يَلْقَهُمْ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
مِائَةٍ وَسَبْعِ سِنِينَ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُطَهِّرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو النَّجَاءِ
الْفَقِيهُ الْفَرَضِيُّ الضَّرِيرُ الْمَالِكِيُّ، لَهُ كِتَابٌ فِي الْفِقْهِ
عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْفَرَائِضِ قَلِيلَةُ
النَّظِيرِ، وَكَانَ أَدِيبًا فَهِمًا فَاضِلًا صَادِقًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الشِّيعَةِ وَأَهْلِ
السُّنَّةِ، وَنُهِبَتِ الْكَرْخُ. وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ تَقَلَّدَ الْقَاضِي
أَبُو السَّائِبِ عُتْبَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْهَمْدَانِيُّ قَضَاءَ
الْقُضَاةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عِمْرَانُ بْنُ شَاهِينَ كَانَ قَدِ
اسْتَوْجَبَ بَعْضَ الْعُقُوبَاتِ، فَهَرَبَ مِنَ السُّلْطَانِ إِلَى نَاحِيَةِ
الْبَطَائِحِ، فَكَانَ يَقْتَاتُ مِمَّا يَصِيدُهُ مِنَ السَّمَكِ وَالطُّيُورِ،
وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الصَّيَّادِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ،
فَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَاسْتَعْمَلَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْبَرِيدِيِّ
عَلَى جِبَايَةِ بَعْضِ تِلْكَ النَّوَاحِي، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعِزُّ
الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ جَيْشًا مَعَ وَزِيرِهِ أَبِي جَعْفَرِ الصَّيْمَرِيِّ،
فَهُزِمَ الْوَزِيرُ لَكِنَّهُ دَهَمَهُ أَمْرٌ، اشْتَغَلَ بِهِ عَنْهُ، وَذَلِكَ
وَفَاةُ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ. وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
بُوَيْهِ
أَكْبَرُ أَوْلَادِ بُوَيْهِ، وَأَوَّلُ مَنْ تَمَلَّكَ مِنْهُمْ، وَكَانَ
عَاقِلًا حَازِمًا، حَمِيدَ السِّيرَةِ، رَئِيسًا فِي نَفْسِهِ، كَانَ أَوَّلُ
ظُهُورِهِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا.
فَلَمَّا
كَانَ فِي هَذَا الْعَامِ قَوِيَتْ عَلَيْهِ الْأَسْقَامُ وَتَوَاتَرَتْ لَدَيْهِ
الْآلَامُ، فَأَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ بِالْهَلَاكِ، وَلَمْ يُعَادِلْ مَا هُوَ فِيهِ
مِنَ الْمُلْكِ وَكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالرِّجَالِ مِنَ الدَّيَالِمِ
وَالْأَتْرَاكِ، وَلَمْ يُحَصِّلُوا لَهُ الْفِكَاكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ
ذَكَرٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَسْتَدْعِي وَلَدَهُ عَضُدَ
الدَّوْلَةِ، لِيَجْعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ
عَلَيْهِ فَرِحَ بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا، وَخَرَجَ بِنَفْسِهِ فِي جَمِيعِ جَيْشِهِ
لِتَلَقِّيهِ، فَلَمَّا دَخَلَ بِهِ دَارَ الْمَمْلَكَةِ أَجْلَسَهُ عَلَى
السَّرِيرِ، وَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَحَدِ الْأُمَرَاءِ ; لِيَرْفَعَ مِنْ
شَأْنِهِ عِنْدَ أُمَرَائِهِ وَوُزَرَائِهِ وَأَعْوَانِهِ، ثُمَّ عَقَدَ لَهُ
الْبَيْعَةَ عَلَى مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْأَمْوَالِ وَتَدْبِيرِ
الْمُلْكِ وَالرِّجَالِ، وَفَهِمَ مِنْ بَعْضِ رُءُوسِ الْأُمَرَاءِ كَرَاهِيَةً لِذَلِكَ،
فَشَرَعَ فِي الْقَبْضِ عَلَيْهِمْ، وَقَتَلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَسَجَنَ
آخَرِينَ، حَتَّى تَمَهَّدَتِ الْأُمُورُ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ كَانَتْ
وَفَاةُ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بِشِيرَازَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ
وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ
مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ فِي زَمَانِهِ، وَمِمَّنْ حَازَ قَصَبَ السَّبْقِ دُونَ
أَقْرَانِهِ، وَكَانَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَبِذَلِكَ
كَانَ يُكَاتِبُهُ الْخُلَفَاءُ، وَلَكِنْ أَخُوهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ كَانَ
يَنُوبُ عَنْهُ بِبَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ وَالسَّوَادِ.
وَلَمَّا مَاتَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ اشْتَغَلَ الْوَزِيرُ أَبُو جَعْفَرٍ
الصَّيْمَرِيُّ عَنْ مُحَارَبَةِ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى شِيرَازَ وَيَضْبِطَ أُمُورَهَا، فَقَوِيَ
أَمْرُ عِمْرَانَ بَعْدَ ضَعْفِهِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
فِي مَوْضِعِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ النَّحْوِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ يُونُسَ
أَبُو
جَعْفَرٍ الْمُرَادِيُّ الْمِصْرِيُّ النَّحْوِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالنَّحَّاسِ، اللُّغَوِيِّ الْمُفَسِّرِ الْأَدِيبِ، لَهُ
مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ
وَلَقِيَ أَصْحَابَ الْمُبَرِّدِ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانَ
سَبَبُ وَفَاتِهِ أَنَّهُ جَلَسَ عِنْدَ الْمِقْيَاسِ يُقَطِّعُ شَيْئًا مِنَ
الْعَرُوضِ، فَظَنَّهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ يَسْحَرُ النِّيلَ ; لِئَلَّا يُوفِيَ،
فَرَفَسَهُ بِرِجْلِهِ فَسَقَطَ، فَغَرِقَ وَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ ذَهَبَ. رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَ قَدْ أَخَذَ النَّحْوَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشِ،
وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ
وَنَفْطَوَيْهِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ مُفِيدَةٌ ; مِنْهَا
" تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ " وَ " النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ "
وَ " شَرْحُ أَبْيَاتِ سِيبَوَيْهِ "، وَلَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُهُ، وَ
" شَرْحُ الْمُعَلَّقَاتِ "، وَ " الدَّوَاوِينُ الْعَشَرَةُ
"، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنِ النَّسَائِيِّ، وَكَانَ
بَخِيلًا جِدًّا، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ
وَقَدْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَيَوْمَيْنِ،
ثُمَّ
خُلِعَ وَسُمِلَتْ عَيْنَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ مُعْتَقَلٌ فِي دَارِهِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ
سَنَةً وَشَهْرَانِ.
عَلِيُّ بْنُ حَمْشَاذَ بْنِ سَخْتَوَيْهِ بْنِ نَصْرٍ، أَبُو الْحَسَنِ
الْمُعَدَّلُ
مُحَدِّثُ عَصْرِهِ بِنَيْسَابُورَ، رَحَلَ إِلَى الْبُلْدَانِ، وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ، وَحَدَّثَ وَصَنَّفَ مُسْنَدًا فِي أَرْبَعِمِائَةِ جُزْءٍ، وَلَهُ
غَيْرُ ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ الْإِتْقَانِ وَالْحِفْظِ وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ
وَالصِّيَانَةِ وَالْخَشْيَةِ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: صَحِبْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَمَا أَعْلَمُ أَنَّ
الْمَلَائِكَةَ كَتَبَتْ عَلَيْهِ خَطِيئَةً.
وَلَهُ تَفْسِيرٌ فِي مِائَتَيْ جُزْءٍ وَنَيِّفٍ، دَخَلَ الْحَمَّامَ مِنْ غَيْرِ
مَرَضٍ فَتُوُفِّيَ فِيهِ فَجْأَةً، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الرَّابِعِ
عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ، أَبُو الْحَسَنِ الْوَاعِظُ
الْبَغْدَادِيُّ
ارْتَحَلَ إِلَى مِصْرَ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى عُرِفَ بِالْمِصْرِيِّ، ثُمَّ
رَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَوَى عَنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ لَهُ مَجْلِسُ وَعْظٍ يَحْضُرُ فِيهِ
الرِّجَالُ
وَالنِّسَاءُ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ وَهُوَ مُتَبَرْقِعٌ ; لِئَلَّا يَرَى
النِّسَاءُ حُسْنَهُ وَجَمَالَهُ، وَقَدْ حَضَرَ وَعْظَهُ أَبُو بَكْرٍ
النَّقَّاشُ مُسْتَخْفِيًا، فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُ قَامَ قَائِمًا وَشَهَرَ
نَفْسَهُ، وَقَالَ لَهُ: الْقَصَصُ بَعْدَكَ حَرَامٌ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا عَارِفًا، جَمَعَ حَدِيثَ اللَّيْثِ
وَابْنِ لَهِيعَةَ، وَلَهُ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ فِي الزُّهْدِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا وَلَهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمُبَارَكَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا رُدَّ الْحَجَرُ
الْأَسْوَدُ الْمَكِّيُّ إِلَى مَكَانِهِ، وَكَانَتِ الْقَرَامِطَةُ قَدْ
أَخَذُوهُ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ
مَلِكُهُمْ إِذْ ذَاكَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْحَسَنُ
الْجَنَّابِيُّ، وَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ، أَعْظَمَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ جِدًّا،
وَقَدْ بَذَلَ لَهُمُ الْأَمِيرُ بَجْكَمُ التُّرْكِيُّ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ
; لِيَرُدُّوهُ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَقَالُوا: نَحْنُ
أَخَذْنَاهُ بِأَمْرٍ، وَلَا نَرُدُّهُ إِلَّا بِأَمْرِ مَنْ أَخَذْنَاهُ
بِأَمْرِهِ.
فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْعَامِ حَمَلُوهُ إِلَى الْكُوفَةِ وَعَلَّقُوهُ عَلَى
الْأُسْطُوَانَةِ السَّابِعَةِ مِنْ جَامِعِهَا ; لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَكَتَبَ
إِخْوَةُ أَبِي طَاهِرٍ كِتَابًا فِيهِ: إِنَّا أَخَذْنَا هَذَا الْحَجَرَ
بِأَمْرٍ، وَقَدْ رَدَدْنَاهُ بِأَمْرِ مَنْ أَمَرَنَا بِأَخْذِهِ ; لِيَتِمَّ
حَجُّ النَّاسِ وَمَنَاسِكُهُمْ. ثُمَّ أَرْسَلُوهُ إِلَى مَكَّةَ بِغَيْرِ شَيْءٍ
عَلَى قَعُودٍ، فَوَصَلَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَكَانَ مُدَّةُ مُقَامِهِ عِنْدَهُمْ ثِنْتَيْنِ
وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْقَرَامِطَةَ حِينَ أَخَذُوهُ حَمَلُوهُ
عَلَى عِدَّةِ جِمَالٍ،
فَعَطِبَتْ
تَحْتَهُ، وَاعْتَرَى أَسْنِمَتَهَا الْعَقْرُ، وَلَمَّا رَدُّوهُ حَمَلَهُ
قَعُودٌ وَاحِدٌ لَمْ يُصِبْهُ بِأْسٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بِجَيْشٍ كَثِيفٍ نَحْوٍ مِنْ
ثَلَاثِينَ أَلْفًا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَوَغَلَ فِيهَا، وَفَتَحَ حُصُونًا،
وَقَتَلَ خَلْقًا، وَأَسَرَ أُمَمًا، وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا ثُمَّ رَجَعَ
فَأَخَذَتِ الرُّومُ عَلَيْهِ الدَّرْبَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ، فَقَتَلُوا
عَامَّةَ مَنْ مَعَهُ، وَأَسَرُوا بَقِيَّتَهُمْ، وَاسْتَرَدُّوا مَا كَانَ
أَخَذَهُ لَهُمْ، وَنَجَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا مَاتَ الْوَزِيرُ أَبُو جَعْفَرٍ الصَّيْمَرِيُّ، فَاسْتَوْزَرَ مُعِزُّ
الدَّوْلَةِ مَكَانَهُ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيَّ
فِي جُمَادَى الْأُولَى، فَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ
الصَّيَّادِ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ بِهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
جَيْشًا بَعْدَ جَيْشٍ، يَهْزِمُهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، ثُمَّ عَدَلَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى مُصَالَحَتِهِ، وَاسْتِعْمَالِهِ لَهُ عَلَى بَعْضِ
تِلْكَ النَّوَاحِي.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ بَابْشَاذَ أَبُو سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ، قَدِمَ
بَغْدَادَ وَكَانَ مِنْ
أَفَاضِلِ
النَّاسِ وَعُلَمَائِهِمْ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، مُفْرِطَ الذَّكَاءِ،
قَوِيَّ الْفَهْمِ، كَتَبَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ ثِقَةً.
مَاتَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الشُّونِيزِيَّةِ،
وَلَمْ يَبْلُغْ مِنَ الْعُمُرِ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدٌ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
ابْنُ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ، وَلِيَ الْخِلَافَةَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ
أَيَّامٍ، وَكَانَ بِطَّاشًا سَرِيعَ الِانْتِقَامِ، فَخَافَ مِنْهُ وَزِيرُهُ
أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ، فَاسْتَتَرَ وَشَرَعَ فِي الْعَمَلِ عَلَيْهِ عِنْدَ
الْأَتْرَاكِ، فَخَلَعُوهُ وَسَمَلُوا عَيْنَيْهِ، وَأُودِعَ دَارَ الْخِلَافَةِ
بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ أُخْرِجَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ إِلَى
دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ، وَقَدْ نَالَتْهُ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، وَسَأَلَ فِي
بَعْضِ الْأَيَّامِ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْعَامِ وَلَهُ ثِنْتَانِ
وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ أَبِيهِ الْمُعْتَضِدِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ
الْأَصْبَهَانِيُّ، مُحَدِّثُ عَصْرِهِ بِخُرَاسَانَ، سَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَحَدَّثَ عَنِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا بِبَعْضِ كُتُبِهِ، وَكَانَ مُجَابَ
الدَّعْوَةِ، وَمَكَثَ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ نَيِّفًا
وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَكَانَ يَقُولُ: اسْمِي مُحَمَّدٌ، وَاسْمُ أَبِي عَبْدُ اللَّهِ، وَاسْمُ أُمِّي
آمِنَةُ. يَفْرَحُ بِهَذِهِ الْمُوَافَقَةِ فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ
وَالْأُمِّ.
أَبُو
نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ
التُّرْكِيُّ الْفَيْلَسُوفُ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْمُوسِيقَى،
بِحَيْثُ كَانَ يَتَوَسَّلُ بِصِنَاعَتِهِ إِلَى التَّأْثِيرِ فِي الْحَاضِرِينَ
مِنْ مُسْتَمِعِيهِ، إِنْ شَاءَ حَرَّكَ مَا يُبْكِي أَوْ مَا يُضْحِكُ أَوْ مَا
يُنَوِّمُ.
وَكَانَ حَاذِقًا فِي الْفَلْسَفَةِ، وَمِنْ كُتُبِهِ تَفَقَّهَ ابْنُ سِينَا
وَكَانَ يَقُولُ بِالْمَعَادِ الرُّوحَانِيِّ لَا الْجُثْمَانِيِّ، وَيُخَصِّصُ
بِالْمَعَادِ الْأَرْوَاحَ الْعَالِمَةَ لَا الْجَاهِلَةَ، وَلَهُ مَذَاهِبُ فِي
ذَلِكَ يُخَالِفُ الْمُسْلِمِينَ وَالْفَلَاسِفَةَ مِنْ سَلَفِهِ الْأَقْدَمِينَ،
فَعَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ لَعْنَةُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
مَاتَ بِدِمَشْقَ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ "
وَلَمْ أَرَ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ ذَكَرَهُ فِي تَارِيخِهِ ; لِنَتَنِهِ
وَقَبَاحَتِهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سَنَةُ
أَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا قَصَدَ صَاحِبُ عُمَانَ الْبَصْرَةَ لِيَأْخُذَهَا فِي مَرَاكِبَ
كَثِيرَةٍ، وَجَاءَ لِنَصْرِهِ أَبُو يَعْقُوبَ الْهَجَرِيُّ، فَمَانَعَهُ عَنْهَا
الْوَزِيرُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ وَصَدَّهُ عَنْهَا، وَأَسَرَ
جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَسَبَى كَثِيرًا مِنْ مَرَاكِبِهِ، فَسَاقَهَا مَعَهُ
فِي دِجْلَةَ، وَدَخَلَ بِهَا إِلَى بَغْدَادَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
وَفِيهَا رُفِعَ إِلَى الْوَزِيرِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيِّ رَجُلٌ مِنْ
أَتْبَاعِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْعَزَاقِرِ الَّذِي
كَانَ قُتِلَ عَلَى الزَّنْدَقَةِ، كَمَا قُتِلَ الْحَلَّاجُ وَأَنَّ هَذَا
الرَّجُلَ يَدَّعِي مَا كَانَ يَدَّعِيهِ ابْنُ أَبِي الْعَزَاقِرِ، وَقَدِ
اتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجَهَلَةِ بِبَغْدَادَ، وَصَدَّقُوهُ فِي دَعْوَاهُ
الرُّبُوبِيَّةَ، وَأَنَّ أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّدِّيقِينَ انْتَقَلَتْ
إِلَيْهِمْ، وَوُجِدَ فِي مَنْزِلِهِ كُتُبٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
فَلَمَّا تَحَقَّقَ أَنَّهُ هَالِكٌ ادَّعَى أَنَّهُ شِيعِيٌّ لِيَحْظَى عِنْدَ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَقَدْ كَانَ يُحِبُّ الرَّافِضَةَ -
قَبَّحَهُ اللَّهُ - فَلَمَّا اشْتُهِرَ ذَلِكَ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْوَزِيرُ
مِنْهُ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَأَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ
الشِّيعَةُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، غَيْرَ أَنَّهُ
احْتَاطَ
عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَكَانَ يُسَمِّيهَا أَمْوَالَ الزَّنَادِقَةِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَمَضَانَ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِسَبَبِ
الْمَذْهَبِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دَلَّالِ
بْنِ دَلْهَمٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ الْمَشْهُورِينَ، وُلِدَ سَنَةَ سِتِّينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ وَدَرَسَ بِهَا فِقْهَ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِئَاسَةُ أَصْحَابِهِ، وَانْتَشَرَ أَصْحَابُهُ
بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مُتَعَبِّدًا، كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، صَبُورًا
عَلَى الْفَقْرِ، عَزُوفًا عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ
رَأْسًا فِي الِاعْتِزَالِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
إِسْحَاقَ الْقَاضِي، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ حَيُّوَيْهِ وَابْنُ شَاهِينَ.
وَأَصَابَهُ الْفَالِجُ فِي آخِرِ عُمُرهِ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ بَعْضُ
أَصْحَابِهِ، وَاشْتَوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا إِلَى سَيْفِ
الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ ; لِيُسَاعِدَهُ بِشَيْءٍ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي
مَرَضِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ رَفَعَ رَأَسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ:
اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ
رِزْقِي
إِلَّا مِنْ حَيْثُ عَوَّدْتَنِي. فَمَاتَ عَقِبَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ
إِلَيْهِ مَا أَرْسَلَ بِهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ،
فَتُصُدِّقَ بِهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو تَمَّامٍ
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ، وَكَانَ صَاحِبَهُ، وَدُفِنَ فِي دَرْبِ
أَبِي زَيْدٍ عَلَى نَهْرِ الْوَاسِطِيِّينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ زَيْدٍ، أَبُو جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ، سَمِعَ
الْكَثِيرَ، وَكَانَ يَفْهَمُ وَيَحْفَظُ، وَكَانَ ثِقَةً زَاهِدًا، لَا يَأْكُلُ
إِلَّا مِنْ كَسْبِ يَدِهِ، وَلَا يَقْطَعُ صَلَاةَ اللَّيْلِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَحِبْتُهُ سِنِينَ كَثِيرَةً، فَمَا رَأَيْتُهُ فَعَلَ
إِلَّا مَا يُرْضِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا قَالَ إِلَّا مَا يُسْأَلُ
عَنْهُ، وَكَانَ يَقُومُ أَكْثَرَ اللَّيْلِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ مَنْصُورِ بْنِ قَرَاتَكِينَ
صَاحِبِ الْجُيُوشِ الْخُرَاسَانِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْأَمِيرِ نُوحٍ السَّامَانِيِّ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِمَرَضٍ حَصَلَ لَهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَدْمَنَ شُرْبَ
الْخَمْرِ أَيَّامًا مُتَتَابِعَةً، فَهَلَكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَأُقِيمَ بَعْدَهُ
فِي الْجُيُوشِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُحْتَاجٍ.
الزَّجَّاجِيُّ مُصَنِّفُ " الْجُمَلِ "، وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ النَّحْوِيُّ الْبَغْدَادِيُّ الْأَصْلِ، ثُمَّ
الدِّمَشْقِيُّ
مُصَنِّفُ " الْجُمَلِ " فِي النَّحْوِ، وَهُوَ كِتَابٌ نَافِعٌ،
كَثِيرُ الْفَائِدَةِ، صَنَّفَهُ بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَطُوفُ بَعْدَ كُلِّ بَابٍ
مِنْهُ، وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْفَعَ بِهِ.
أَخَذَ
النَّحْوَ أَوَّلًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْيَزِيدِيِّ، وَأَبِي
بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ، وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ سَبْعٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ.
وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعِينَ. تُوَفِّيَ فِي دِمَشْقَ وَقِيلَ: بِطَبَرِيَّةَ.
وَقَدْ شُرِحَتِ " الْجُمَلُ " بِشُرُوحٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ أَحْسَنِهَا
وَأَجْمَعِهَا مَا وَضَعَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا مَلَكَتِ الرُّومُ سَرُوجَ وَقَتَلُوا أَهْلَهَا وَخَرَّبُوا مَسَاجِدَهَا.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا قَصَدَ صَاحِبُ عُمَانَ الْبَصْرَةَ فَمَنَعَهُ
مِنْهَا الْمُهَلَّبِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ: وَفِيهَا نَقِمَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى وَزِيرِهِ، فَضَرَبَهُ مِائَةً
وَخَمْسِينَ مِقْرَعَةً وَلَمْ يَعْزِلْهُ، بَلْ رَسَمَ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا اخْتَصَمَ الْمِصْرِيُّونَ وَالْعِرَاقِيُّونَ بِمَكَّةَ، فَخُطِبَ
لِصَاحِبِ مِصْرَ، ثُمَّ غَلَبَهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ، فَخَطَبُوا لِرُكْنِ
الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَنْصُورِ الْفَاطِمِيِّ وَهُوَ أَبُو طَاهِرٍ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيِّ صَاحِبِ الْمَغْرِبِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ تِسْعٌ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَبْعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ عَشَرَ
يَوْمًا، وَكَانَ عَاقِلًا شُجَاعًا فَاتِكًا، قَهَرَ أَبَا يَزِيدَ الْخَارِجِيَّ
الَّذِي كَانَ لَا يُطَاقُ شَجَاعَةً وَإِقْدَامًا وَصَبْرًا، وَكَانَ
فَصِيحًا
بَلِيغًا، يَرْتَجِلُ الْخُطْبَةَ عَلَى الْبَدِيهَةِ فِي السَّاعَةِ
الرَّاهِنَةِ.
وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ ضَعْفُ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، كَمَا أَوْرَدَهُ
ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ "، فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ
الْأَطِبَّاءُ، وَقَدْ عُهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْمُعِزِّ
الْفَاطِمِيِّ، وَهُوَ بَانِي الْقَاهِرَةِ الْمُعِزِّيَةِ، كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُ ذَلِكَ وَاسْمُهُ مَعَدٌّ، وَكَانَ عُمُرُهُ إِذْ ذَلِكَ أَرْبَعًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ شُجَاعًا عَاقِلًا أَيْضًا، حَازِمَ الرَّأْيِ،
أَطَاعَهُ مِنَ الْبَرْبَرِ وَأَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَبَعَثَ مَوْلَاهُ جَوْهَرًا الْقَائِدَ فَبَنَى لَهُ الْقَاهِرَةَ
الْمُتَاخِمَةَ لِمِصْرَ، وَاتَّخَذَ لَهُ فِيهَا دَارَ الْمُلْكِ، وَهُمَا
الْقَصْرَانِ اللَّذَانِ هُنَالِكَ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادِ بْنِ بِشْرِ بْنِ دِرْهَمٍ، أَبُو سَعِيدِ
بْنُ الْأَعْرَابِيِّ الْبَصَرِيُّ
سَكَنَ مَكَّةَ وَصَارَ شَيْخَ الْحَرَمِ، وَصَحِبَ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ
وَالنُّورِيَّ وَغَيْرَهُمَا، وَأَسْنَدَ الْحَدِيثَ وَصَنَّفَ كُتُبًا
لِلصُّوفِيَّةِ.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ صَالِحٍ، أَبُو عَلِيٍّ
الصَّفَّارُ النَّحْوِيُّ
أَحَدُ الْمُحَدِّثِينَ، لَقِيَ الْمُبَرِّدَ وَاشْتَهَرَ بِصُحْبَتِهِ، وَكَانَ
مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ
وَمِائَتَيْنِ،
وَسَمِعَ الْحَسَنَ بْنَ عَرَفَةَ وَعَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَغَيْرَهُمَا، وَرَوَى
عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ.
وَقَالَ: صَامَ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ رَمَضَانًا، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَائِمِ بْنِ الْمَهْدِيِّ، الْمُلَقَّبِ بِالْمَنْصُورِ
الْعُبَيْدِيِّ
الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ، صَاحِبُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَهُوَ
وَالِدُ الْمُعِزِّ بَانِي الْقَاهِرَةِ وَهُوَ بَانِي الْمَنْصُورِيَّةِ
بِالْمَغْرِبِ.
كَانَ شُجَاعًا فَصِيحًا بَلِيغًا، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَرْوَرُّوذِيُّ:
خَرَجْتُ مَعَهُ لَمَّا كَسَرَ أَبَا يَزِيدَ الْخَارِجِيَّ، فَبَيْنَمَا أَنَا
أَسِيرُ مَعَهُ إِذْ سَقَطَ رُمْحُهُ، فَنَزَلْتُ فَنَاوَلْتُهُ إِيَّاهُ،
وَذَهَبْتُ أُفَاكِهُهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى كَمَا قَرَّ عَيْنًا
بَالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ
فَقَالَ: هَلَّا قُلْتَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا
يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا
هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 119 ] قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ:
أَنْتَ ابْنُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتَ
كَمَا عَلِمْتَ، وَأَنَا قُلْتُ بِمَا بَلَغَ إِلَيْهِ عِلْمِي.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذَا كَمَا جَرَى لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
حِينَ أَمَرَ الْحَجَّاجَ
أَنْ يَبْنِيَ بَابًا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَيَكْتُبَ عَلَيْهِ اسْمَهُ، فَبَنَى لَهُ بَابًا، وَبَنَى لِنَفْسِهِ بَابًا آخَرَ، فَوَقَعَتْ صَاعِقَةٌ عَلَى بَابِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَحْرَقَتْهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ مِنَ الْعِرَاقِ يُسَلِّيهِ عَمَّا أَهَمَّهُ مِنْ ذَلِكَ ; يَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَنَا وَأَنْتَ إِلَّا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ [ الْمَائِدَةِ: 27 ] قَالَ: فَسُرِّيَ عَنِ الْخَلِيفَةِ. كَانَتْ وَفَاةُ الْمَنْصُورِ هَذَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَمَّا أَصَابَهُ بَرْدٌ شَدِيدٌ فَمَاتَ بِهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ صَاحِبُ حَلَبَ إِلَى بِلَادِ
الرُّومِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ آخَرِينَ، وَغَنِمَ
أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَرَجَعَ سَالِمًا غَانِمًا.
وَفِيهَا اخْتَلَفَ الْحَجِيجُ بِمَكَّةَ، وَوَقَعَتْ حَرْبٌ بَيْنَ أَصْحَابِ
ابْنِ طُغْجٍ وَأَصْحَابِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَغَلَبَهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ،
وَخَطَبُوا لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَجِّ اخْتَلَفُوا،
فَغَلَبَهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ أَيْضًا، وَجَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ وَخُطُوبٌ
كَبِيرَةٌ بَيْنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ والسَّامَانِيَّةِ، تَقَصَّى ذِكْرَهَا ابْنُ
الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ ". وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَهْمِ، أَبُو الْقَاسِمِ التَّنُوخِيُّ
جَدُّ الْقَاضِي أَبِي الْقَاسِمِ التَّنُوخِيُّ شَيْخُ الْخَطِيبِ، وُلِدَ بِأَنْطَاكِيَّةَ،
وَقَدِمَ بَغْدَادَ فَتَفَقَّهَ بِهَا عَلَى
مَذْهَبِ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ يَعْرِفُ الْكَلَامَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ،
وَيَعَرِفُ النُّجُومَ، وَيَقُولُ الشِّعْرَ، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِالْأَهْوَازِ
وَغَيْرِهَا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ
فَهِمًا ذَكِيًّا، حَفِظَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةٍ قَصِيدَةً
لِدِعْبِلٍ الشَّاعِرِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ سِتُّمِائَةِ بَيْتٍ،
وَعَرَضَهَا عَلَى أَبِيهِ صَبِيحَتَهَا، فَقَامَ إِلَيْهِ وَضَمَّهُ وَقَبَّلَ
بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ، لَا تُخْبِرْ بِهَذَا أَحَدًا لِئَلَّا
تُصِيبَكَ الْعَيْنُ.
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ كَانَ نَدِيمًا لِلْوَزِيرِ الْمُهَلَّبِيِّ،
وَوَفَدَ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ
إِلَيْهِ، وَأَوْرَدَ لَهُ مِنْ شِعْرِهِ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، فَمِنْ ذَلِكَ
قَوْلُهُ فِي الْخَمْرِ:
وَرَاحٍ مِنَ الشَّمْسِ مَخْلُوقَةٌ بَدَتْ لَكَ فِي قَدَحٍ مِنْ نَهَارِ هَوَاءٌ
وَلَكِنَّهُ جَامِدٌ
وَمَاءٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ جَارِ كَأَنَّ الْمُدِيرَ لَهُ بِالْيَمِينِ
إِذَا مَالَ لِلسَّقْيِ أَوْ بِالْيَسَارِ تَدَرَّعَ ثَوْبًا مِنَ الْيَاسَمِينِ
لَهُ فَرْدُ كُمٍّ مِنَ الْجُلَّنَارِ
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ
الْخَالِقِ، أَبُو الْفَرَجِ الْبَغْدَادِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، يُعْرَفُ
بِابْنِ سُكَّرَةَ، سَكَنَ مِصْرَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَسَمِعَ مِنْهُ أَبُو
الْفَتْحِ بْنُ مَسْرُورٍ، وَذَكَرَ أَنَّ فِيهِ لِينًا.
مُحَمَّدُ
بْنُ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ الْمَأْمُونِ بْنِ الرَّشِيدِ هَارُونَ، أَبُو
بَكْرٍ
وَلِيَ إِمْرَةَ مَكَّةَ فِي سِنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقِدِمَ
مِصْرَ، فَحَدَّثَ بِهَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيِّ
بِمُوَطَّأِ مَالِكٍ، وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا. تُوُفِّيَ بِمِصْرَ فِي ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَبَيْنَ
الدُّمُسْتُقِ، فَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِ الدُّمُسْتُقِ، وَأَسَرَ
جَمَاعَةً مِنْ رُؤَسَاءِ بِطَارِقَتِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَكَانَ فِي
جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ قُسْطَنْطِينُ بْنُ الدُّمُسْتُقِ، وَسَبَى خَلْقًا كَثِيرًا
وَأَسَرَ آخَرِينَ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ
جَمَعَ الدُّمُسْتُقُ خَلْقًا كَثِيرًا، فَالْتَقَوْا مَعَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ فِي
شَعْبَانَ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ عَظِيمَةٌ وَقِتَالٌ شَدِيدٌ، فَكَانَتِ
الدَّائِرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَخَذَلَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ
خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّءُوسِ، وَكَانَ مِنْهُمْ صِهْرُ
الدُّمُسْتُقِ وَابْنُ بِنْتِهِ أَيْضًا.
وَفِيهَا حَصَلَ لِلنَّاسِ أَمْرَاضٌ كَثِيرَةٌ وَحُمَّيَاتٌ وَأَوْجَاعٌ فِي
الْحَلْقِ.
وَفِيهَا مَاتَ الْأَمِيرُ الْحَمِيدُ نُوحُ بْنُ نَصْرٍ السَّامَانِيُّ، صَاحِبُ
خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ
عَبْدُ الْمَلِكِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، أَبُو عَلِيٍّ الْكَاتِبُ الْمِصْرِيُّ، صَحِبَ أَبَا
عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيَّ وَغَيْرَهُ، وَكَانَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ
يُعَظِّمُ أَمْرَهُ، وَيَقُولُ: أَبُو عَلِيٍّ الْكَاتِبُ
مِنَ
السَّالِكِينَ.
وَمِنْ كَلَامِهِ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
قَوْلُهُ: رَوَائِحُ نَسِيمِ الْمَحَبَّةِ تَفُوحُ مِنَ الْمُحِبِّينَ وَإِنْ
كَتَمُوهَا، وَتَظْهَرُ عَلَيْهِمْ دَلَائِلُهَا وَإِنْ أَخْفَوْهَا، وَتَبْدُو
عَلَيْهِمْ وَإِنْ سَتَرُوهَا. وَأَنْشَدَ:
إِذَا مَا أَسَرَّتْ أَنْفُسُ النَّاسِ ذِكْرَهُ تَبَيَّنْتَهُ فِيهِمْ وَإِنْ
لَمْ يَتَكَلَّمُوا تَطِيبُ بِهِ أَنْفَاسُهُمْ فَيُذِيعُهَا
وَهَلْ سِرُّ مِسْكٍ أُودِعَ الرِّيحَ يُكْتَمُ
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ هَمَّامٍ، أَبُو
الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ الْكُوفِيُّ
قَدِمَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِهَا عَنْ جَمَاعَةٍ، وَرَوَى عَنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَكَانَ ثِقَةً عَدْلًا، كَثِيرَ التِّلَاوَةِ فَقِيهًا، وَمَكَثَ يَشْهَدُ عَلَى
الْحُكَّامِ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، مَقْبُولًا عِنْدَهُمْ، وَأَذَّنَ فِي
مَسْجِدِ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَكَذَلِكَ أَبَوْهُ
مِنْ قَبْلِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْكَرْخِيُّ الْأَدِيبُ
كَانَ عَالِمًا زَاهِدًا
وَرِعًا،
يَخْتِمُ الْقُرْآنَ كُلَّ يَوْمٍ، وَيُدِيمُ الصَّوْمَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ
عَبْدَانَ وَأَقْرَانِهِ.
أَبُو الْخَيْرِ التِّينَاتِيُّ
الْعَابِدُ الزَّاهِدُ، أَصِلُهُ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ مُقِيمًا بِقَرْيَةٍ،
يُقَالُ لَهَا: تِينَاتُ. مِنْ عَمَلِ أَنْطَاكِيَةَ وَيُعَرَفُ بِالْأَقْطَعِ ;
لِأَنَّهُ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدِ، كَانَ قَدْ عَاهَدَ اللَّهَ عَهْدًا، ثُمَّ
نَكَثَهُ، فَاتَّفَقَ أَنْ مُسِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ اللُّصُوصِ فِي الصَّحْرَاءِ
وَهُوَ هُنَاكَ، فَأُخِذَ مَعَهُمْ فَقُطِعَتْ يَدُهُ مَعَهُمْ، وَكَانَتْ لَهُ
أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ، وَكَانَ يَنْسِجُ الْخُوصَ بِيَدِهِ الْوَاحِدَةِ،
وَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَشَاهَدَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ
الْعَهْدَ أَنْ لَا يُخْبِرَ بِهِ أَحَدًا مَا دَامَ حَيًّا، فَوَفَّى لَهُ
بِذَلِكَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِيهَا شَمِلَ النَّاسَ، بِبَغْدَادَ وَوَاسِطٍ
وَأَصْبَهَانَ وَالْأَهْوَازِ، دَاءٌ مُرَكَّبٌ مِنْ دَمٍ وَصَفْرَاءَ وَوَبَاءٍ،
مَاتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، بِحَيْثُ كَانَ يَمُوتُ فِي كُلِّ يَوْمٍ
قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ نَفْسٍ، وَجَاءَ فِيهَا جَرَادٌ عَظِيمٌ أَكَلَ
الْخُضْرَاوَاتِ وَالْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ عَقَدَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ لِابْنِهِ أَبِي مَنْصُورٍ
بَخْتِيَارَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ بِإِمْرَةِ الْأُمَرَاءِ.
وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ بِأَذْرَبِيجَانَ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ،
وَكَانَ يُحَرِّمُ اللَّحْمَ وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، فَأَضَافَهُ
مَرَّةً رَجُلٌ، فَجَاءَهُ بِطَعَامٍ كَشْكِيَّةٍ بِشَحْمٍ فَأَكَلَهُ، فَقَالَ
لَهُ الرَّجُلُ بِحَضْرَةِ مَنْ مَعَهُ: إِنَّكَ تَدَّعِي أَنَّكَ تَعْلَمُ
الْغَيْبَ، وَهَذَا طَعَامٌ فِيهِ شَحْمٌ، وَأَنْتَ تُحَرِّمُهُ فَلِمَ لَا
عَلِمْتَهُ ؟! قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ.
وَفِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ وَبَيْنَ
صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الْأُمَوِيِّ، اسْتَقْصَاهَا
ابْنُ الْأَثِيرِ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، أَبُو عَمْرٍو
الدَّقَّاقُ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ، رَوَى عَنْ حَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ
وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا،
كَتَبَ الْمُصَنَّفَاتِ الْكَثِيرَةَ بِخَطِّهِ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ التِّبْنِ، وَحَضَرَ
جِنَازَتَهُ خَمْسُونَ أَلْفًا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو جَعْفَرٍ الْقَاضِي
السَّمَنَانِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَكَنَ
بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَكَانَ ثِقَةً عَالِمًا سَخِيًّا حَسَنَ الْكَلَامِ،
عِرَاقِيَّ الْمَذْهَبِ، وَكَانَتْ دَارُهُ مَجْمَعًا لِلْعُلَمَاءِ، ثُمَّ وَلِيَ
قَضَاءَالْمَوْصِلِ وَتُوُفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْهَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بُطَّةَ بْنِ إِسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ
سَكَنَ نَيْسَابُورَ ثُمَّ عَادَ إِلَى أَصْبَهَانَ وَلَيْسَ هَذَا بِأَبِي عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ
الْعُكْبَرِيِّ،
وَهَذَا بِضَمِّ الْبَاءِ مِنْ بَطَّةَ، وَالْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ بِفَتْحِهَا.
وَقَدْ كَانَ جَدُّ هَذَا، وَهُوَ بُطَّةُ بْنُ إِسْحَاقَ أَبُو سَعِيدٍ، مِنَ
الْمُحَدِّثِينَ أَيْضًا. ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ
".
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْحَجَّاجِ أَبُو النَّضْرِ
الْفَقِيهُ الطُّوسِيُّ
كَانَ فَقِيهًا عَالِمًا ثِقَةً عَابِدًا، يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ
اللَّيْلَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَاضِلِ مِنْ قُوتِهِ، وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى
الْأَقَالِيمِ النَّائِيَةِ وَالْبُلْدَانِ الْمُتَبَايِنَةِ، وَكَانَ قَدْ
جَزَّأَ اللَّيْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَثُلُثٌ لِلنَّوْمِ، وَثُلُثٌ
لِلتَّصْنِيفِ، وَثُلُثٌ لِلْقِرَاءَةِ.
وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: وَصَلْتَ
إِلَى مَا طَلَبْتَهُ ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ، نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ عَرَضْتُ مُصَنَّفَاتِي فِي الْحَدِيثِ
عَلَيْهِ، فَقَبِلَهَا.
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، رَوَى عَنِ النَّسَائِيِّ، وَقَالَ: رَضِيتُ
بِهِ حُجَّةً بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ الْحَدَّادِ فَقِيهًا فُرُوعِيًّا، وَمُحَدِّثًا وَنَحْوِيًّا،
وَفَصِيحًا فِي الْعِبَارَةِ،
دَقِيقَ
النَّظَرِ فِي الْفُرُوعِ، لَهُ كِتَابٌ فِي ذَلِكَ غَرِيبُ الشَّكْلِ، وَقَدْ
وَلِيَ الْقَضَاءَ بِمِصْرَ نِيَابَةً عَنْ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ حَرْبُوَيْهِ،
وَذَكَرْنَاهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
أَبُو يَعْقُوبَ الْأَذْرَعِيُّ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ
يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ النَّهْدِيُّ
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: مِنْ أَهْلِ أَذْرِعَاتٍ ; مَدِينَةٍ بِالْبَلْقَاءِ،
أَحَدُ الثِّقَاتِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، رَحَلَ وَحَدَّثَ عَنْ
جَمَاعَةٍ، وَعَنْهُ آخَرُونَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ مِنْ أَجِلَّةِ أَهْلِ
دِمَشْقَ وَعُبَّادِهَا وَعُلَمَائِهَا.
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَشْيَاءَ تَدُلُّ عَلَى صَلَاحِهِ وَخَرْقِ
الْعَادَةِ لَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ
يَقْبِضَ بَصَرِي فَعَمِيتُ، فَلَمَّا اسْتَضْرَرْتُ بِالطَّهَارَةِ سَأَلْتُ
اللَّهَ عَوْدَهُ، فَرَدَّهُ عَلَيَّ.
تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى
التِّسْعِينَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا عَصَى الرُّوزْبَهَانُ عَلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَانْحَازَ إِلَى
الْأَهْوَازِ، وَلَحِقَ بِهِ عَامَّةُ مَنْ كَانَ مَعَ الْمُهَلَّبِيِّ الَّذِي
كَانَ يُحَارِبُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ لَمْ يُصَدِّقْ ;
لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَرَفَعَ مِنْ قَدْرِهِ بَعْدَ الضَّعَةِ
وَالْخُمُولِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَيْهِ لِقِتَالِهِ، فَاتَّبَعَهُ الْخَلِيفَةُ
الْمُطِيعُ لِلَّهِ خَوْفًا مِنْ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَإِنَّهُ
بَلَغَهُ أَنَّهُ قَدْ جَهَّزَ جَيْشًا مَعَ وَلَدِهِ أَبِي الْمُرَجَّى جَابِرٍ
إِلَى بَغْدَادَ لِيَأْخُذَهَا حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ قَدْ
خَرَجَ مِنْهَا، فَأَرْسَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ حَاجِبَهُ سُبُكْتِكِينَ إِلَى
بَغْدَادَ لِيَحْفَظَهَا، وَقَصَدَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الرُّوزْبَهَانِ،
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا، فَهَزَمَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، وَفَرَّقَ
أَصْحَابَهُ، وَأَخَذَهُ أَسِيرًا إِلَى بَغْدَادَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ
فَسَجَنَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ لَيْلًا وَغَرَّقَهُ ; لِأَنَّ الدَّيْلَمَ أَرَادُوا
إِخْرَاجَهُ مِنَ السَّجْنِ قَهْرًا، وَانْطَوَى ذِكْرُ رُوزْبَهَانَ
وَإِخْوَتِهِ، وَكَانَ قَدِ اشْتَعَلَ اشْتِعَالَ النَّارِ، وَحَظِيَتِ
الْأَتْرَاكُ عِنْدَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَانْحَطَّتِ الدَّيْلَمُ عِنْدَهُ ;
لِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ خِيَانَتُهُمْ فِي أَمْرِ الرُّوزْبَهَانِ وَإِخْوَتِهِ.
وَفِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَقَتَلَ وَسَبَى،
وَرَجَعَ إِلَى أَذَنَةَ ثُمَّ عَادَ إِلَى حَلَبَ فَحَمِيَتِ الرُّومُ،
فَجَمَعُوا وَأَقْبَلُوا إِلَى مَيَّافَارِقِينَ فَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَحَرَقُوا
وَرَجَعُوا، وَرَكِبُوا فِي الْبَحْرِ إِلَى طَرَسُوسَ فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا
أَلْفًا وَثَمَانِمِائَةٍ،
وَسَبَوْا
وَحَرَقُوا قُرًى كَثِيرَةً.
وَفِيهَا زُلْزِلَتْ هَمَذَانُ زِلْزَالًا شَدِيدًا، انْهَدَمَتِ الْبُيُوتُ،
وَانْشَقَّ قَصْرُ شِيرِينَ بِصَاعِقَةٍ، وَمَاتَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَلْقٌ كَثِيرٌ
لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ أَهْلِ أَصْبَهَانَ وَأَهْلِ قُمَّ بِسَبَبِ
سَبِّ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ قُمَّ فَثَارَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ أَصْبَهَانَ
فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَنَهَبُوا أَمْوَالَ التُّجَّارِ،
فَغَضِبَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ لِأَهْلِ قُمَّ ; لِأَنَّهُ كَانَ شِيعِيًّا،
فَصَادَرَ أَهْلَ أَصْبَهَانَ بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
غُلَامُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ أَبُو
عُمَرَ
الزَّاهِدُ غُلَامُ ثَعْلَبٍ رَوَى عَنِ الْكُدَيْمِيِّ وَمُوسَى بْنِ سَهْلٍ
الْوَشَّاءِ وَغَيْرِهِمَا، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَآخِرُ مَنْ حَدَّثَ
عَنْهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ.
وَكَانَ كَثِيرَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ، حَافِظًا مُطَبِّقًا، يُمْلِي مِنْ
حِفْظِهِ شَيْئًا كَثِيرًا، ضَابِطًا لِمَا يَحْفَظُهُ.
وَلِكَثْرَةِ إِغْرَابِهِ اتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ وَرَمَاهُ بِالْكَذِبِ، وَقَدِ
اتَّفَقَ لَهُ مَعَ الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ - وَكَانَ يُؤَدِّبُ وَلَدَهُ -
أَنَّهُ أَمْلَى مِنْ حِفْظِهِ ثَلَاثِينَ مَسْأَلَةً بِشَوَاهِدِهَا
وَأَدِلَّتِهَا
مِنْ
لُغَةِ الْعَرَبِ، وَاسْتُشْهِدَ عَلَى بَعْضِهَا بِبَيْتَيْنِ غَرِيبَيْنِ
جِدَّا، فَعَرَضَهَا الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ عَلَى ابْنِ دُرَيْدٍ وَابْنِ
الْأَنْبَارِيِّ وَابْنِ مِقْسَمٍ، فَلَمْ يَعْرِفُوا مِنْهَا شَيْئًا، حَتَّى
قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ هَذَا مَا وَضَعَهُ أَبُو عُمَرَ مِنْ عِنْدِهِ. فَلَمَّا
جَاءَ أَبُو عُمَرَ ذَكَرَ لَهُ الْقَاضِي مَا قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْهُ،
فَطَلَبَ أَبُو عُمَرَ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يُحْضِرَ لَهُ مِنْ كُتُبِهِ
دَوَاوِينَ الْعَرَبِ. فَلَمْ يَزَلْ يَأْتِيهِ بِشَاهِدٍ لِمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ
شَاهِدٍ، حَتَّى خَرَجَ مِنَ الثَّلَاثِينَ مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا
الْبَيْتَانِ فَإِنَّ ثَعْلَبًا أَنْشَدَنَاهُمَا وَأَنْتَ حَاضِرٌ،
فَكَتَبْتَهُمَا فِي دَفْتَرِكَ. فَطَلَبَ الْقَاضِي دَفْتَرَهُ، فَإِذَا هُمَا
فِيهِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ دُرَيْدٍ كَفَّ لِسَانَهُ عَنْ أَبِي عُمَرَ
الزَّاهِدِ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى مَاتَ.
وَتُوُفِّيَ أَبُو عُمَرَ هَذَا يَوْمَ الْأَحَدِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ
الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ فِي الصُّفَّةِ الْمُقَابِلَةِ
لِقَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ بِبَغْدَادَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رُسْتُمَ أَبُو بَكْرٍ
الْمَادَرَائِيُّ الْكَاتِبُ
كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ بِالْعِرَاقِ،
ثُمَّ صَارَ إِلَى مِصْرَ هُوَ وَأَخُوهُ أَحْمَدُ مَعَ أَبِيهِمَا، وَكَانَ عَلَى
الْخَرَاجِ لِخُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ ثُمَّ صَارَ هَذَا
الرَّجُلُ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّاسِ وَأَكَابِرِهِمْ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ
مِنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَطَبَقَتِهِ.
وَقَدْ
رَوَى الْخَطِيبُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بِبَابَيْ شَيْخٌ كَبِيرٌ مِنَ
الْكُتَّابِ قَدْ بَطَلَ عَنْ وَظِيفَتِهِ، فَرَأَيْتُ وَالِدِي فِي الْمَنَامِ
وَهُوَ يَقُولُ: يَا بُنَيَّ، أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ ؟ أَنْتَ مَشْغُولٌ
بِلَذَّاتِكَ، وَالنَّاسُ بِبَابِكَ يَهْلَكُونَ مِنَ الْعُرْيِ وَالْجُوعِ، هَذَا
فُلَانٌ قَدْ تَقَطَّعَ سَرَاوِيلُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِبْدَالِهِ، فَلَا
تُهْمِلْ أَمْرَهُ. فَاسْتَيْقَظْتُ مَذْعُورًا، وَأَنَا نَاوٍ لَهُ الْإِحْسَانَ،
فَنِمْتُ ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ وَقَدْ أُنْسِيتُ الْمَنَامَ، فَبَيْنَا أَنَا
أَسِيرُ إِلَى دَارِ الْمَلِكِ، إِذَا بِذَلِكَ الشَّيْخِ عَلَى دَابَّةٍ
ضَعِيفَةٍ، فَلَمَّا رَآنِي أَرَادَ أَنْ يَتَرَجَّلَ فَبَدَا لِي فَخِذُهُ،
وَقَدْ لَبِسَ الْخُفَّ بِلَا سَرَاوِيلَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ ذَكَرْتُ
الْمَنَامَ. فَاسْتَدْعَى بِهِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَأَطْلَقَ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ
وَثِيَابًا، وَرَتَّبَ لَهُ عَلَى وَظِيفَتِهِ مِائَتَيْ دِينَارٍ كُلَّ شَهْرٍ،
وَوَعَدَهُ بِخَيْرٍ فِي الْآجِلِ أَيْضًا.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ طَبَاطَبَا بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ
الشَّرِيفُ الْحَسَنِيُّ الرَّسِّيُّ - قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَشْرَافِ - أَبُو
الْقَاسِمِ الْمِصْرِيُّ الشَّاعِرُ، كَانَ نَقِيبَ الطَّالِبِيِّينَ بِمِصْرَ.
وَمِنْ شَعْرِهِ قَوْلُهُ:
قَالَتْ لِطَيْفِ خَيَالٍ زَارَنِي وَمَضَى بِاللَّهِ صِفْهُ وَلَا تَنْقُصْ وَلَا
تَزِدِ فَقَالَ أَبْصَرْتُهُ لَوْ مَاتَ مِنْ ظَمَأٍ
وَقُلْتُ قِفْ لَا تَرِدْ لِلْمَاءِ لَمْ يَرِدِ
قَالَتْ
صَدَقْتَ وَفَاءُ الْحُبِّ عَادَتُهُ
يَا بَرْدَ ذَاكَ الَّذِي قَالَتْ عَلَى كَبِدِي
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي
الْمَذْهَبِ، بِسَبَبِ السَّبِّ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَفِيهَا نَقَصَ الْبَحْرُ ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، وَيُقَالُ: بَاعًا. فَبَدَتْ
فِيهِ جِبَالٌ وَجَزَائِرُ لَمْ تَكُنْ تُرَى قَبْلَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا كَانَتْ بِالْعِرَاقِ وَبِلَادِ الرَّيِّ وَالْجَبَلِ وَقُمَّ
وَنَحْوِهَا زَلَازِلُ كَثِيرَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ، نَحْوَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا،
تَسْكُنُ ثُمَّ تَعُودُ، فَتَهَدَّمَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَبْنِيَةٌ كَثِيرَةٌ،
وَغَارَتْ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ، وَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا تَجَهَّزَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ لِقِتَالِ نَاصِرِ
الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ الَّذِي بِالْمَوْصِلِ، فَرَاسَلَهُ نَاصِرُ
الدَّوْلَةِ، وَالْتَزَمَ لَهُ بِأَمْوَالٍ يَحْمِلُهَا إِلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ،
ثُمَّ إِنَّهُ مَنَعَ حَمْلَ مَا اشْتَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ، فَقَصَدَهُ مُعِزُّ
الدَّوْلَةِ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا فِي تِشْرِينَ مِنْهَا كَثُرَتْ فِي النَّاسِ أَوْجَاعٌ فِي الْحَلْقِ،
وَالْمَاشَرَا، وَكَثُرَ مَوْتُ الْفَجْأَةِ، حَتَّى إِنَّ لِصًّا نَقَبَ دَارًا
لِيَدْخُلَهَا، فَمَاتَ وَهُوَ فِي النَّقْبِ، وَلَبِسَ
الْقَاضِي
خِلْعَةَ الْقَضَاءِ ; لِيَخْرُجَ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَبِسَ إِحْدَى
خُفَّيْهِ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَلْبَسَ الْأُخْرَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو هُرَيْرَةَ الْعَدَوِيُّ
الْمُسْتَمْلِي عَلَى الْمَشَايِخِ، كَتَبَ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ
وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً. تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا.
الْحَسَنُ بْنُ خَلَفِ بْنِ شَاذَانَ، أَبُو عَلِيٍّ الْوَاسِطِيُّ
رَوَى عَنْ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَغَيْرِهِمَا، وَرَوَى
عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ". تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ. هَكَذَا رَأَيْتُ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ
" الْمُنْتَظَمِ " لِأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ
مَعْقِلِ بْنِ
سِنَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأُمَوِيِّ، مَوْلَاهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَرَأَى الذُّهْلِيَّ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَرَحَلَ بِهِ أَبُوهُ إِلَى أَصْبَهَانَ وَمَكَّةَ وَمِصْرَ وَالشَّامَ وَالْجَزِيرَةِ وَبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، فَسَمِعَ الْكَثِيرَ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خُرَاسَانَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ صَارَ مُحَدِّثًا كَبِيرًا، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الصَّمَمُ وَاسْتَحْكَمَ حَتَّى كَانَ لَا يَسْمَعُ نَهِيقَ الْحِمَارِ، وَكَانَ مُؤَذِّنًا فِي مَسْجِدِهِ سَبْعِينَ سَنَةً، وَحَدَّثَ سِتًّا وَسَبْعِينَ سَنَةً، فَأَلْحَقَ الْأَحْفَادَ بِالْأَجْدَادِ، وَكَانَ ثِقَةً صَادِقًا ضَابِطًا لِمَا سَمِعَهُ وَيَسْمَعُهُ، ثُمَّ كُفَّ بَصَرُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ، وَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْ حِفْظِهِ بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَسَبْعِ حِكَايَاتٍ، وَمَاتَ وَقَدْ بَقِيَ لَهُ سَنَةٌ مِنَ الْمِائَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ بِبَغْدَادَ فِي شَهْرِ نِيسَانَ وَفِي غَيْرِهَا مِنَ
الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ، فَمَاتَ بِسَبَبِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَخَرِبَتْ
دَوْرٌ كَثِيرَةٌ، وَظَهَرَ فِي آخِرِ نِيسَانَ وَشَهْرِ أَيَّارَ جَرَادٌ كَثِيرٌ
أَتْلَفَ الْغَلَّاتِ الصَّيْفِيَّةَ وَالثِّمَارَ. وَدَخَلَتِ الرُّومُ آمِدَ
وَمَيَّافَارِقِينَ، فَقَتَلُوا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ إِنْسَانٍ، وَأَخَذُوا
مَدِينَةَ سُمَيْسَاطَ وَأَخْرَبُوهَا. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا رَكِبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الْمَوْصِلِ
فَأَخَذَهَا مِنْ يَدِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ وَهَرَبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى
نَصِيبِينَ ثُمَّ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ ثُمَّ لَحِقَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ،
فَصَارَ إِلَى أَخِيهِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِحَلَبَ، ثُمَّ رَاسَلَ سَيْفُ
الدَّوْلَةِ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ فِي الْمُصَالَحَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ
نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَوَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى حَمْلِ كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَيْ
أَلْفٍ وَتِسْعِمِائَةِ أَلْفٍ، وَرَجَعَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ
بَعْدَ انْعِقَادِ الصُّلْحِ.
وَفِيهَا بَعَثَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ مَوْلَاهُ أَبَا الْحَسَنِ جَوْهَرًا
الْقَائِدَ فِي جُيُوشٍ، وَمَعَهُ زِيرِي بْنُ مَنَادٍ الصَّنْهَاجِيُّ،
فَفَتَحُوا بِلَادًا كَثِيرَةً مِنْ أَقْصَى الْمَغْرِبِ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى
الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، فَأَمَرَ جَوْهَرُ بِأَنْ يُصْطَادَ لَهُ مِنْهُ سَمَكٌ،
فَأَرْسَلَ بِهِ فِي قِلَالِ الْمَاءِ إِلَى
الْمُعِزِّ
الْفَاطِمِيِّ، وَحَظِيَ جَوْهَرُ عِنْدَهُ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ حَتَّى صَارَ لَهُ
بِمَنْزِلَةِ الْوَزِيرِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ صَالِحِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَسْدَابَاذِيُّ
رَحَلَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَطَوَّفَ الْأَقَالِيمَ، سَمِعَ الْحَسَنَ بْنَ
سُفْيَانَ وَابْنَ خُزَيْمَةَ وَأَبَا يَعْلَى وَخَلْقًا، وَكَانَ حَافِظًا
مُتْقِنًا صَدُوقًا، صَنَّفَ الشُّرُوحَ وَالْأَبْوَابَ.
أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ، صَاحِبُ " تَارِيخِ مِصْرَ ": هُوَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ
الْمِصْرِيُّ الْمُؤَرِّخُ، كَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا خَبِيرًا بِأَيَّامِ
النَّاسِ وَتَوَارِيخِهِمْ، لَهُ تَارِيخٌ مُفِيدٌ جِدًّا لِأَهْلِ مِصْرَ وَمَنْ
وَرَدَ إِلَيْهَا.
وَلَهُ وَلَدٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ. كَانَ مُنَجِّمًا، لَهُ
زِيجٌ مُفِيدٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ أَصْحَابُ هَذَا الْفَنِّ، كَمَا يَرْجِعُ
الْمُحَدِّثُونَ إِلَى أَقْوَالِ أَبِيهِ وَمَا يُؤَرِّخُهُ وَيَنْقُلُهُ
وَيَحْكِيهِ. وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ السَّادِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ بِالْقَاهِرَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ النَّحْوِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ
دَرَسْتَوَيْهِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ،
أَبُو
مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ النَّحْوِيُّ
سَكَنَ بَغْدَادَ وَسَمِعَ عَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَابْنَ قُتَيْبَةَ
وَالْمُبَرِّدَ، وَسَمِعَ مِنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ،
وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَذَكَرَ لَهُ الْقَاضِي
ابْنُ خَلِّكَانَ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً مُفِيدَةً، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ
وَالنَّحْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، أَبُو الْحَسَنِ الْقُرَشِيُّ
الْأُمَوِيُّ
قَاضِي بَغْدَادَ كَانَ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، طَلَّابَةً لِلْحَدِيثِ، وَمَعَ
هَذَا نُسِبَ إِلَى أَخْذِ الرِّشْوَةِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْوِلَايَاتِ،
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ، الْخَاطِبُ
الدِّمَشْقِيُّ
وَأَظُنُّهُ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ حَارَةُ الْخَاطِبِ مِنْ نَوَاحِي بَابِ
الصَّغِيرِ، كَانَ خَطِيبَ دِمَشْقَ فِي أَيَّامِ الْإِخْشِيدِ وَكَانَ شَابًّا
حَسَنَ الْوَجْهِ، مَلِيحَ الشَّكْلِ، كَامِلَ الْخُلُقِ
تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَخَلْقٌ
كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، هَكَذَا أَرَّخَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَدُفِنَ
بِبَابِ الصَّغِيرِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ، قُتِلَ فِيهَا
خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَوَقَعَ حَرِيقٌ بِبَابِ الطَّاقِ، وَغَرِقَ فِي دِجْلَةَ خَلْقٌ
كَثِيرٌ مِنَ الْحُجَّاجِ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ نَحْوٌ مِنْ سِتِّمِائَةِ
نَفْسٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا دَخَلَتِ الرُّومُ طَرَسُوسَ وَالرُّهَا فَقَتَلُوا وَسَبَوْا،
وَغَنِمُوا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا قَلَّتِ الْأَمْطَارُ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ، وَاسْتَسْقَى النَّاسُ
فَلَمْ يُسْقَوْا، وَظَهَرَ جَرَادٌ عَظِيمٌ فِي آذَارَ، فَأَكَلَ مَا نَبَتَ مِنَ
الْخُضْرَاوَاتِ، فَاشْتَدَّ الْأَمْرُ جِدًّا، فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا
لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
وَفِيهَا عَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ مِنَ الْمَوْصِلِ وَزَوَّجَ
ابْنَتَهُ مِنَ ابْنِ أَخِيهِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ بْنِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ،
وَسَيَّرَهَا مَعَهُ إِلَى الرَّيِّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَيْبَانَ، أَبُو إِسْحَاقَ الْقِرْمِيسِينِيُّ
شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ بِالْجَبَلِ،
صَحِبَ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيَّ، وَمِنْ جَيِّدِ كَلَامِهِ قَوْلُهُ: إِذَا
سَكَنَ الْخَوْفُ الْقَلْبَ أَحْرَقَ مَوَاضِعَ الشَّهَوَاتِ مِنْهُ، وَطَرَدَ
عَنْهُ الرَّغْبَةَ فِي الدُّنْيَا.
أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
إِسْرَائِيلَ بْنِ يُونُسَ، أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ الْفَقِيهُ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ
وَمِائَتَيْنِ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ وَأَبَا دَاوُدَ
وَالْبَاغَنْدِيَّ وَابْنَ أَبِي الدُّنْيَا وَخَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ يَطْلُبُ
الْحَدِيثَ مَاشِيًا حَافِيًا، وَقَدْ جَمَعَ الْمُسْنَدَ، وَصَنَّفَ فِي
السُّنَنِ كِتَابًا كَبِيرًا، وَكَانَتْ لَهُ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ حَلْقَتَانِ
; وَاحِدَةٌ لِلْفِقْهِ وَأُخْرَى لِإِمْلَاءِ الْحَدِيثِ.
وَحَدَّثَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ رِزْقَوَيْهِ وَابْنُ شَاهِينَ
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ يَصُومُ
الدَّهْرَ، وَيُفْطِرُ كُلَّ لَيْلَةٍ عَلَى رَغِيفٍ، وَيَعْزِلُ مِنْهُ لُقْمَةً،
فَإِذَا كَانَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَكَلَ تِلْكَ اللُّقَمَ، وَتَصَدَّقَ
بِرَغِيفِ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ بِشْرِ بْنِ
الْحَارِثِ الْحَافِي، رَحِمَهُ اللَّهُ.
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرِ بْنِ الْقَاسِمِ، أَبُو مُحَمَّدٍ
الْخَوَّاصُ الْمَعْرُوفُ
بِالْخُلْدِيِّ
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَحَدَّثَ كَثِيرًا، وَحَجَّ سِتِّينَ حِجَّةً، وَكَانَ ثِقَةً
صَدُوقًا دَيِّنًا.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو عَمْرٍو
الزَّجَّاجِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ
صَحِبَ أَبَا عُثْمَانَ وَالْجُنَيْدَ وَالنُّورِيَّ وَالْخَوَّاصَ وَغَيْرَهُمْ،
وَأَقَامَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ شَيْخَ الصُّوفِيَّةِ بِهَا، وَحَجَّ سِتِّينَ
حِجَّةً، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَتَغَوَّطْ وَلَمْ
يَبُلْ إِلَّا خَارِجَ الْحَرَمِ بِالْكُلِّيَّةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ، أَبُو بَكْرٍ الْأَدَمِيُّ
صَاحِبُ الْأَلْحَانِ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا بِتِلَاوَةِ
الْقُرْآنِ، وَرُبَّمَا سَمِعَ أَهْلُ كَلْوَاذَا صَوْتَهُ مِنْ بَغْدَادَ فِي
اللَّيْلِ.
وَحَجَّ مَرَّةً مَعَ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ، فَلَمَّا كَانُوا
بِالْمَدِينَةِ رَأَوْا شَيْخًا أَعْمَى يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ أَخْبَارًا
مَوْضُوعَةً، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْبَغِي الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ، فَقَالَ
لَهُ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِبَغْدَادَ يَعْرِفُكَ النَّاسُ،
وَالْجَمْعُ كَثِيرٌ هَاهُنَا، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تَأْمُرَ أَبَا بَكْرٍ
الْأَدَمِيَّ فَيَقْرَأَ لَنَا. فَاسْتَفْتَحَ، فَقَرَأَ، فَانْجَفَلَ النَّاسُ
إِلَيْهِ وَتَرَكُوا
الْأَعْمَى
فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ أَحَدٌ فَأَخَذَ الْأَعْمَى بِيَدِ قَائِدِهِ، وَقَالَ
لَهُ: اذْهَبْ بِي، هَكَذَا تَزُولُ النِّعَمُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمُدَّةٍ، فَقَالَ لَهُ:
مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ: أَوْقَفَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَاسَيْتُ
شَدَائِدَ. فَقُلْتُ لَهُ: فَتِلْكَ اللَّيَالِي وَالْمَوَاقِفُ وَالْقِرَاءَةُ ؟
فَقَالَ: مَا كَانَ شَيْءٌ أَضَرَّ عَلَيَّ مِنْهَا ; لِأَنَّهَا كَانَتْ
لِلدُّنْيَا، فَقُلْتُ: فَإِلَى أَيِّ شَيْءٍ انْتَهِي أَمْرُكَ. فَقَالَ: قَالَ
لِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أُعَذِّبَ أَبْنَاءَ
الثَّمَانِينَ.
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ طَبَاطَبَا بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيُّ الْمِصْرِيُّ، كَانَ
مِنْ سَادَاتِهَا وَكُرَمَائِهَا وَأَجْوَادِهَا، لَا تَزَالُ الْحَلْوَاءُ
تُعْقَدُ بِدَارِهِ، وَلَا يَزَالُ رَجُلٌ يَكْسِرُ اللَّوْزَ بِسَبَبِهَا كُلَّ
يَوْمٍ بِبَابِهِ، وَلِلنَّاسِ عَلَيْهِ رَوَاتِبُ الْحَلْوَاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ
يُهْدَى إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ، وَمِنْهُمْ فِي الْجُمُعَةِ، وَفِي الشَّهْرِ.
وَكَانَ لِكَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ فِي كُلِّ يَوْمٍ جَامَانِ وَرَغِيفٌ مِنَ الْحُوَّارَى، وَلَمَّا قَدِمَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ إِلَى الْقَاهِرَةِ تَلَقَّاهُ وَسَأَلَهُ: إِلَى مَنْ يَنْتَسِبُ مَوْلَانَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ ؟ فَقَالَ: الْجَوَابُ إِلَى أَهْلِ الْبَلَدِ. فَلَمَّا دَخَلَ الْقَصْرَ جَمَعَ الْأَشْرَافَ، وَسَلَّ نِصْفَ سَيْفِهِ، وَقَالَ: هَذَا نَسَبِي، ثُمَّ نَثَرَ عَلَيْهِمُ الذَّهَبَ، وَقَالَ: هَذَا حَسَبِي، فَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْقَائِلَ لِلْمُعِزِّ هَذَا الْكَلَامَ ابْنُ هَذَا أَوْ شَرِيفٌ آخَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ; فَإِنَّ وَفَاةَ هَذَا كَانَتْ فِي هَذَا الْعَامِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَالْمُعِزُّ إِنَّمَا قَدِمَ مِصْرَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ بِأَذْرَبِيجَانَ مِنْ أَوْلَادِ عِيسَى بْنِ الْمُكْتَفِي
بِاللَّهِ، فَتَلَقَّبَ بِالْمُسْتَجِيرِ بِاللَّهِ، وَدَعَا إِلَى الرِّضَا مِنْ
آلِ مُحَمَّدٍ، وَذَلِكَ لِفَسَادِ دَوْلَةِ الْمَرْزُبَانِ فِي ذَلِكَ
الزَّمَانِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا كَثِيرًا، ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ
الْمُسْتَجِيرِ، وَأُخِذَ أَسِيرًا فَمَاتَ، وَاضْمَحَلَّ أَمْرُهُ. وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
وَفِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَتَلَ
مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَفَتَحَ حُصُونًا، وَأَحْرَقَ بِلَادًا
كَثِيرَةً، وَسَبَى وَغَنِمَ، وَكَرَّ رَاجِعًا، فَأَخَذَتْ عَلَيْهِ الرُّومُ
الدَّرْبَ فَمَنَعُوهُ مِنَ الرُّجُوعِ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِي أَصْحَابِهِ،
فَمَا نَجَا فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ إِلَّا بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ.
وَفِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ بَيْنَ الرَّافِضَةِ
وَالسُّنَّةِ، قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَفِيهَا فِي آخِرِهَا تُوُفِّيَ أَنُوجُورُ بْنُ الْإِخْشِيدِ صَاحِبُ مِصْرَ،
وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ أَخُوهُ عَلِيٌّ.
وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْبَرِيدِيُّ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْأَهْوَازِ وَوَاسِطٍ.
وَفِيهَا رَجَعَ حَجِيجُ مِصْرَ مِنْ مَكَّةَ فَنَزَلُوا وَادِيًا، فَجَاءَهُمْ
سَيْلٌ فَأَخَذَهُمْ
كُلَّهُمْ،
فَأَلْقَاهُمْ فِي الْبَحْرِ عَنْ آخِرِهِمْ.
وَفِيهَا أَسْلَمَ مِنَ التُّرْكِ مِائَتَا أَلْفِ خَرْكَاهْ، فَسُمُّوا تُرْكَ
إِيمَانٍ، ثُمَّ خُفِّفَ اللَّفْظُ بِذَلِكَ، فَقِيلَ: تُرْكُمَانُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
جَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ الْكَاتِبُ
كَانَتْ لَهُ نِعْمَةٌ وَثَرْوَةٌ عَظِيمَةٌ تُقَارِبُ أُبَّهَةَ الْوُزَرَاءِ،
فَاجْتَازَ يَوْمًا وَهُوَ رَاكِبٌ فِي مَوْكِبٍ لَهُ عَظِيمٍ، فَسَمِعَ رَجُلًا
يَقْرَأُ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ
اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [ الْحَدِيدِ: 16 ] فَصَاحَ: اللَّهُمَّ
بَلَى. وَكَرَّرَهَا دَفَعَاتٍ، ثُمَّ بَكَى، ثُمَّ نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ،
نَزَعَ ثِيَابَهُ، وَدَخَلَ إِلَى دِجْلَةَ، فَاسْتَتَرَ بِالْمَاءِ، وَلَمْ
يَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى فَرَّقَ جَمِيعَ مَالِهِ فِي الْمَظَالِمِ الَّتِي كَانَتْ
عَلَيْهِ، وَرَدَّهَا إِلَى أَهْلِهَا، وَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي، وَلَمْ يَبْقَ
لَهُ شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ، فَاجْتَازَ بِهِ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ
بِثَوْبَيْنِ، فَلَبِسَهُمَا وَخَرَجَ، فَانْقَطَعَ إِلَى الْعِلْمِ
وَالْعِبَادَةِ حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ دَاوُدَ،
أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ النَّيْسَابُورِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ
الْمُتْقِنِينَ الْمُكْثِرِينَ الْمُصَنِّفِينَ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ إِمَامًا مُهَذَّبًا.
وَكَانَ
ابْنُ عُقْدَةَ لَا يَتَوَاضَعُ لِأَحَدٍ كَتَوَاضُعِهِ لَهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ
سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
حَسَّانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ، أَبُو الْوَلِيدِ
الْقُرَشِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، إِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِخُرَاسَانَ
فِي زَمَانِهِ، وَأَزْهَدُهُمْ وَأَعْبَدُهُمْ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنِ ابْنِ
سُرَيْجٍ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ، وَلَهُ
التَّصَانِيفُ الْمُفِيدَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي طَبَقَاتِ
الشَّافِعِيِّينَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
حَمْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَبُو سُلَيْمَانَ
الْخَطَّابِيُّ
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَصَنَّفَ التَّصَانِيفَ، مِنْهَا: " الْمَعَالِمُ "
شَرَحَ فِيهَا سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ،
وَ
" الْأَعْلَامُ " شَرَحَ فِيهِ الْبُخَارِيَّ وَ " غَرِيبُ
الْحَدِيثِ ". وَلَهُ فَهْمٌ مَلِيحٌ، وَعِلْمٌ غَزِيرٌ، وَمَعْرِفَةٌ
بِاللُّغَةِ وَالْمَعَانِي وَالْفِقْهِ.
وَمِنْ أَشْعَارِهِ:
مَا دُمْتَ حَيًّا فَدَارِ النَّاسَ كُلَّهُمُ فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي دَارِ
الْمُدَارَاةِ مَنْ يَدْرِ دَارَى وَمَنْ لَمْ يَدْرِ سَوْفَ يُرَى
عَمَّا قَلِيلٍ نَدِيمًا لِلنَّدَامَاتِ
هَكَذَا تَرْجَمَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَظَمِهِ حَرْفًا
بِحَرْفٍ.
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ
كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحُرُوفِ الْقُرْآنِ وَوُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ،
وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ، وَكَانَ مِنَ الْأُمَنَاءِ الثِّقَاتِ، رَوَى
عَنِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، وَعَنْهُ أَبُو
الْحَسَنِ الْحَمَّامِيُّ. تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ
الْخَيْزُرَانِ.
أَبُو أَحْمَدَ الْعَسَّالُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو أَحْمَدَ الْعَسَّالُ الْأَصْبَهَانِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ وَأَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَحَدَّثَ
بِهِ.
قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: كَتَبْتُ عَنْ أَلْفِ شَيْخٍ لَمْ أَرَ فِيهِمْ أَتْقَنَ مِنْ أَبِي أَحْمَدَ الْعَسَّالِ. تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا مَرِضَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ بِانْحِصَارِ
الْبَوْلِ، فَقَلِقَ مِنْ ذَلِكَ، وَجَمَعَ بَيْنَ حَاجِبِهِ سُبُكْتِكِينَ
وَوَزِيرِهِ الْمُهَلَّبِيِّ، وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا وَوَصَّاهُمَا بِوَلَدِهِ
بَخْتِيَارَ خَيْرًا، ثُمَّ عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ، فَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ إِلَى
الْأَهْوَازِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ مِنْ هَوَاءِ بَغْدَادَ
وَمَائِهَا، فَأُشِيرَ عَلَيْهِ بِالْمُقَامِ بِهَا، وَأَنْ يَبْنِيَ بِهَا دَارًا
فِي أَعْلَاهَا حَيْثُ الْهَوَاءُ أَرَقُّ وَالْمَاءُ أَصْفَى، فَبَنَى لَهُ
دَارًا غَرِمَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَاحْتَاجَ
لِذَلِكَ أَنْ يُصَادِرَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ وَيُقَالُ: أَنْفَقَ عَلَى هَذِهِ
الدَّارِ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمَاتَ وَهُوَ يَبْنِي فِيهَا، وَقَدْ
خَرَّبَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ مَعَالِمِ بَغْدَادَ فِي بِنَائِهَا، وَكَانَ
مِمَّا خَرَّبَ فِيهَا الْمَعْشُوقُ مِنْ سُرَّ مَنْ رَأَى، وَقَلَعَ الْأَبْوَابَ
الْحَدِيدَ الَّتِي عَلَى مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ وَالرُّصَافَةِ وَقَصْرِهَا،
وَحَوَّلَهَا إِلَى دَارِهِ هَذِهِ لَا تَمَّتْ فَرْحَتُهُ بِهَا.
وَفِيهَا مَاتَ الْقَاضِي أَبُو السَّائِبِ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
وَقُبِضَتْ أَمْلَاكُهُ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْقَضَاءَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، وَضَمِنَ أَنْ يُؤَدِّيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ
إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ مُعِزُّ
الدَّوْلَةِ، وَسَارَ وَمَعَهُ الدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ إِلَى مَنْزِلِهِ،
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ضَمِنَ الْقَضَاءَ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْخَلِيفَةُ
الْمُطِيعُ لِلَّهِ
فِي
الْحُضُورِ عِنْدَهُ وَلَا فِي حُضُورِ الْمَوْكِبِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ ضَمِنَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ الشُّرْطَةَ وَضَمِنَ الْحِسْبَةَ أَيْضًا.
وَفِيهَا سَارَ قَفَلٌ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ يُرِيدُونَ طَرَسُوسَ وَفِيهِمْ نَائِبُ
أَنْطَاكِيَةَ فَثَارَ عَلَيْهِمُ الْفِرِنْجُ، فَأَخَذُوهُمْ عَنْ بَكْرَةِ
أَبِيهِمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ سِوَى النَّائِبِ جَرِيحًا فِي مَوَاضِعَ
مِنْ بَدَنِهِ.
وَفِيهَا دَخَلَ نَجَا غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَتَلَ
وَسَبَى وَغَنِمَ، وَرَجَعَ سَالِمًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نُوحٍ
صَاحِبُ خُرَاسَانَ سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَمَاتَ، فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ
بَعْدِهِ أَخُوهُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ السَّامَانِيُّ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ
صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ خَمْسِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ
أَشْهُرٍ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ يَوْمَ مَاتَ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً،
وَتَرَكَ أَحَدَ عَشَرَ وَلَدًا، وَكَانَ أَبْيَضَ حَسَنَ الْوَجْهِ، عَظِيمَ
الْجِسْمِ، طَوِيلَ الظَّهْرِ، قَصِيرَ السَّاقَيْنِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ
تَلَقَّبَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَوْلَادِ الْأُمَوِيِّينَ الدَّاخِلِينَ
إِلَى الْمَغْرِبِ، وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهُ ضَعْفُ الْخُلَفَاءِ بِالْعِرَاقِ،
وَتَغَلُّبُ الْفَاطِمِيِّينَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَتَلَقَّبَ بِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَلَمَّا تُوُفِّيَ
قَامَ
بِالْأَمْرِ
مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الْحَكَمُ، وَتَلَقَّبَ بِالْمُسْتَنْصِرِ، وَمِنْ
جُمْلَةِ أَوْلَادِ النَّاصِرِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ
نَاسِكًا شَاعِرًا، وَلَا يُعْرَفُ فِي الْخُلَفَاءِ أَطْوَلَ مُدَّةً مِنَ
النَّاصِرِ الْأُمَوِيِّ - فَإِنَّهُ مَكَثَ خَمْسِينَ سَنَةً - سِوَى
الْمُسْتَنْصِرِ بْنِ الْحَاكِمِ الْفَاطِمِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ، فَإِنَّهُ مَكَثَ
سِتِّينَ سَنَةً، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو سَهْلِ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَّانُ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، أَبُو سَهْلٍ الْقَطَّانُ
كَانَ ثِقَةً حَافِظًا كَثِيرَ التِّلَاوَةِ لِلْقُرْآنِ، حَسَنَ الِانْتِزَاعِ
لِلْمَعَانِي مِنْهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى تَكْفِيرِ
الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي
الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا
[ آلِ عِمْرَانَ: 156 ]
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَيَانٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ
الْخُطَبِيُّ، سَمِعَ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي أُسَامَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ
أَحْمَدَ الْكُدَيْمِيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ
مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا فَاضِلًا نَبِيلًا عَارِفًا بِأَيَّامِ
النَّاسِ وَالْخُلَفَاءِ، وَلَهُ تَارِيخٌ مُرَتَّبٌ عَلَى السِّنِينَ، وَكَانَ
أَدِيبًا لَبِيبًا عَاقِلًا صَدُوقًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ الْوَرَّاقُ،
وَيُعْرَفُ بِابْنِ فُطَيْسٍ، وَكَانَ حَسَنَ الْكِتَابَةِ مَشْهُورًا بِهَا،
وَكَانَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ لِابْنِ جَوْصَا تَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ،
وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ بِثَانِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
تَمَّامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَبُو بَكْرٍ
الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ
حَدَّثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، وَعَنْهُ ابْنُ رِزْقَوَيْهِ،
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً أَيْضًا،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، أَحَدُ الْأَئِمَّةِ، لَهُ " الْمُحَرَّرُ "
فِي الْخِلَافِ، وَهُوَ أَوَّلُ مُصَنِّفٍ فِيهِ، وَلَهُ " الْإِفْصَاحُ
" فِي الْمَذْهَبِ، وَكِتَابٌ فِي الْجَدَلِ، وَكِتَابٌ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي "
الطَّبَقَاتِ ".
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عِيسَى بْنِ جَعْفَرِ
بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورُ،
أَبُو جَعْفَرٍ الْهَاشِمِيُّ الْإِمَامُ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ بُرَيْهٍ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ،
رَوَى عَنِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ ابْنُ رِزْقَوَيْهِ،
وَكَانَ خَطِيبًا بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَقَدْ خَطَبَ فِيهِ
سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَبْلَهَا بِمِائَةِ سَنَةٍ خَطَبَ فِيهِ
الْوَاثِقُ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُمَا فِي النَّسَبِ إِلَى
الْمَنْصُورِ سَوَاءٌ. تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَبُو السَّائِبِ
الْهَمَذَانِيُّ
الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ، كَانَ فَاضِلًا بَارِعًا، تَقَدَّمَ. وَوَلِيَ
الْقَضَاءَ، وَكَانَ فِيهِ تَخْلِيطٌ فِي الْأُمُورِ، وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي
الْمَنَامِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي، وَأَمَرَ بِي
إِلَى الْجَنَّةِ عَلَى مَا كَانَ مِنِّي مِنَ التَّخْلِيطِ، وَقَالَ لِي: إِنِّي
آلَيْتُ أَنْ لَا أُعَذِّبَ أَبْنَاءَ الثَّمَانِينَ.
وَهَذَا الرَّجُلُ أَوَّلُ مَنْ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَنْبِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رَاجِيَانَ
أَبُو بَكْرٍ الدِّهْقَانُ،
بَغْدَادِيٌّ،
سَكَنَ بُخَارَى، وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنِ
بْنِ مُكْرَمٍ وَغَيْرِهِمَا، وَتُوُفِّيَ عَنْ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
أَبُو عَلِيٍّ الْخَازِنُ
تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا، فَوُجِدَ فِي دَارِهِ مِنَ الدَّفَائِنِ
وَعِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْوَدَائِعِ مَا يُقَارِبُ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
دُخُولُ الرُّومِ إِلَى حَلَبَ
فِيهَا دَخَلَ الدُّمُسْتُقُ مَلِكُ الرُّومِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - إِلَى حَلَبَ
فِي مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَيْهَا
بَغْتَةً، فَنَهَضَ إِلَيْهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بِمَنْ حَضَرَ
مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَاتَلَهُ فَلَمْ يَقْوَ بِهِ لِكَثْرَةِ جُنُودِهِ، وَقَتَلَ
مِنْ أَصْحَابِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ
قَلِيلَ الصَّبْرِ، فَفَرَّ مُنْهَزِمًا فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَكَانَ
أَوَّلَ مَا اسْتَفْتَحَ بِهِ أَنِ اسْتَحْوَذَ عَلَى دَارِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ
ظَاهِرَ الْبَلَدِ، فَأَخَذَ مِنْهَا أَمْوَالًا عَظِيمَةً وَحَوَاصِلَ، وَعُدَدًا
لِلْحَرْبِ لَا تُحْصَى كَثْرَةً، ثُمَّ تَدَنَّى فَحَاصَرَ السُّورَ، فَقَاتَلَ
أَهْلَ الْبَلَدِ دُونَهُ قِتَالًا عَظِيمًا، وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ
الرُّومِ، وَثَلَمَتِ الرُّومُ فِي السُّورِ ثُلْمَةً عَظِيمَةً، فَوَقَفَ فِيهَا
الرُّومُ، فَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، فَأَزَاحُوهُمْ عَنْهَا، فَلَمَّا
جَنَّ اللَّيْلُ جَدَّ الْمُسْلِمُونَ فِي عِمَارَتِهَا، فَمَا أَصْبَحَ
الصَّبَاحُ إِلَّا وَهِيَ كَمَا كَانَتْ، وَحَفِظُوا السُّورَ حِفْظًا عَظِيمًا،
ثُمَّ بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ رَجَّالَةَ الشُّرَطِ قَدْ عَاثُوا فِي
الْبَلَدِ يَنْهَبُونَ الدُّورَ، فَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى مَنَازِلِهِمْ يَمْنَعُونَهَا
مِنْهُمْ، وَغَلَبَتِ الرُّومُ عَلَى السُّورِ، فَعَلَوْهُ وَدَخَلُوا الْبَلَدَ
يَقْتُلُونَ مَنْ لَقُوهُ، فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقًا كَثِيرًا،
وَانْتَهَبُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَالنِّسَاءَ، وَخَلَّصُوا مَنْ كَانَ
بِأَيْدِي
الْمُسْلِمِينَ مِنْ أُسَارَى الرُّومِ، وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ،
فَأَخَذُوا السُّيُوفَ فَقَاتَلُوا مَعَ قَوْمِهِمْ، وَكَانُوا أَضْرَى عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، وَأَسَرُوا نَحْوًا مِنْ بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مَا بَيْنَ
صَبِيٍّ وَصَبِيَّةٍ، وَمِنَ النِّسَاءِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَمِنَ الرِّجَالِ
أَلْفَيْنِ، وَخَرَّبُوا الْمَسَاجِدَ وَأَحْرَقُوهَا، وَصَبُّوا فِي جِبَابِ
الزَّيْتِ الْمَاءَ حَتَّى فَاضَ الزَّيْتُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَهَلَكَ،
وَكُلُّ شَيْءٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حَمْلِهِ أَحْرَقُوهُ، وَأَقَامُوا فِي
الْبَلَدِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ الْعَظِيمَةَ، ثُمَّ
عَزَمَ الدُّمُسْتُقُ عَلَى الِانْصِرَافِ خَوْفًا مِنْ رُجُوعِ سَيْفِ
الدَّوْلَةِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أُخْتِهِ: أَتَذْهَبُ وَتَتْرُكُ الْقَلْعَةَ
وَرَاءَكَ ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّا قَدْ بَلَغْنَا فَوْقَ مَا كُنَّا نُؤَمِّلُهُ،
وَإِنَّ بِهَا مُقَاتِلَةً وَرِجَالًا غُزَاةً، فَقَالَ: لَا بُدَّ لَنَا مِنْهَا.
فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَيْهَا. فَصَمَدَ إِلَيْهَا لِيُحَاصِرَهَا فَرَمَوْهُ
بِحَجَرٍ، فَقَتَلَهُ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ مِنْ بَيْنِ الْجَيْشِ كُلِّهِ،
فَغَضِبَ الدُّمُسْتُقُ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ مَنْ كَانَ فِي
أَيْدِيهِمْ مِنْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْنِ،
فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا، قَبَّحَهُ
اللَّهُ وَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ دَخَلُوا عَيْنَ زَرْبَةَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، فَاسْتَأْمَنَهُمْ أَهْلُهَا فَأَمَّنَهُمُ الْمَلِكُ، وَأَمَرَ بِأَنْ
يَدْخُلُوا كُلُّهُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَمَنْ بَقِيَ فِي مَنْزِلِهِ قُتِلَ،
فَصَارَ أَهْلُهَا كُلُّهُمْ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ مِنْهُمْ قُتِلَ،
ثُمَّ قَالَ: لَا يَبْقَيْنَ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْيَوْمَ إِلَّا ذَهَبَ حَيْثُ
شَاءَ، وَمَنْ تَأَخَّرَ قُتِلَ، فَازْدَحَمُوا فِي خُرُوجِهِمْ مِنَ
الْمَسْجِدِ،
فَمَاتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَخَرَجُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ لَا يَدْرُونَ أَيْنَ
يَذْهَبُونَ، فَمَاتَ فِي الطُّرُقَاتِ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ هَدَمَ
الْجَامِعَ، وَكَسَرَ الْمِنْبَرَ، وَقَطَعَ مِنْ حَوْلِ الْبَلَدِ أَرْبَعِينَ
أَلْفَ نَخْلَةٍ، وَهَدَمَ سُورَ الْبَلَدِ وَالْمَنَازِلَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا
مِنْهَا، وَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً، وَفَتَحَ حَوْلَهَا أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ
حِصْنًا، بَعْضُهَا بِالسَّيْفِ وَبَعْضُهَا بِالْأَمَانِ، وَقَتَلَ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَأَسَرَتِ الرُّومُ أَبَا فِرَاسِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ نَائِبَ
مَنْبِجَ مِنْ جِهَةِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ شَاعِرًا مُطْبِقًا، لَهُ
دِيوَانٌ حَسَنٌ. وَكَانَ مُدَّةُ مُقَامِهِ بِعَيْنِ زَرْبَةَ أَحَدًا
وَعِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى قَيْسَارِيَّةَ فَلَقِيَهُ أَرْبَعَةُ
آلَافٍ مِنْ أَهْلِ طَرَسُوسَ مَعَ نَائِبِهَا ابْنِ الزَّيَّاتِ فَقَتَلَ
أَكْثَرَهُمْ، وَأَدْرَكَهُ صَوْمُ النَّصَارَى فَاشْتَغَلَ بِهِ حَتَّى فَرَغَ
مِنْهُ، ثُمَّ هَجَمَ عَلَى حَلَبَ بَغْتَةً، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا
ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَتِ الْعَامَّةُ مِنَ الرَّوَافِضِ عَلَى أَبْوَابِ
الْمَسَاجِدِ بِبَغْدَادَ: لَعَنَ اللَّهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ
وَلَعَنَ مَنْ غَصَبَ فَاطِمَةَ فَدَكَ - يَعْنُونَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - وَمَنْ أَخْرَجَ الْعَبَّاسَ مِنَ الشُّورَى - يَعْنُونَ عُمَرَ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ نَفَى أَبَا ذَرٍّ - يَعْنُونَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - وَمَنْ مَنَعَ دَفْنَ الْحَسَنِ عِنْدَ جَدِّهِ - يَعْنُونَ مَرْوَانَ
بْنَ الْحَكَمِ -، وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ لَمْ يُنْكِرْهُ
وَلَمْ يُغَيِّرْهُ، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مَحَوْا ذَلِكَ،
فَأَمَرَ بِأَنْ يُكْتَبَ: لَعَنَ اللَّهُ الظَّالِمِينَ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَالتَّصْرِيحِ بِاسْمِ مُعَاوِيَةَ فِي اللَّعْنِ،
فَكُتِبَ ذَلِكَ. قَبَّحَ اللَّهُ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ وَشِيعَتَهُ مِنَ
الرَّوَافِضِ، وَكَذَلِكَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بِحَلَبَ فِيهِ
تَشَيُّعٌ وَمَيْلٌ إِلَى الرَّوَافِضِ، وَلَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْصُرُ
أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ، وَيُدِيلُ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ ; لِمُتَابَعَتِهِمْ
أَهْوَاءَهُمْ، وَتَقْلِيدِهِمْ سَادَتَهُمْ وَكُبَرَاءَهُمْ وَآبَاءَهُمْ،
وَتَرْكِ
مُتَابَعَتِهِمْ
أَنْبِيَاءَهُمْ وَعُلَمَاءَهُمْ، وَلِهَذَا لَمَّا مَلَكَتِ الْفَاطِمِيَّةُ
بِلَادَ الشَّامِ ; اسْتَحْوَذَ عَلَى سَوَاحِلِهَا كُلِّهَا حَتَّى بَيْتِ
الْمَقْدِسِ الْفِرِنْجُ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى حَلَبَ
وَحِمْصَ وَحَمَاةَ وَدِمَشْقَ وَبَعْضِ أَعْمَالِهَا، وَجَمِيعُ السَّوَاحِلِ
مَعَ الْفِرِنْجِ وَالنَّوَاقِيسُ النَّصْرَانِيَّةُ وَالْقُسُوسُ
الْإِنْجِيلِيَّةُ تَنْعَرُ فِي الشَّوَاهِقِ مِنَ الْحُصُونِ وَالْقِلَاعِ،
وَتَكْنُو فِي أَمَاكِنِ الْمَسَاجِدِ وَشَرِيفِ الْبِقَاعِ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِسَبَبِ
الْمَذَاهِبِ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ.
وَفِيهَا أَعَادَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بِنَاءَ عَيْنِ زَرْبَةَ وَبَعَثَ مَوْلَاهُ
نَجَا، فَدَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَتَلَ مِنْهَا خَلْقًا كَثِيرًا وَسَبَى
جَمًّا غَفِيرًا، وَغَنِمَ وَسَلِمَ، وَبَعَثَ حَاجِبَهُ مَعَ جَيْشِ طَرَسُوسَ
فَدَخَلُوا بِلَادَ الرُّومِ فَغَنِمُوا وَسَبَوْا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا فَتَحَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ حِصْنَ طَبَرْمِينَ مِنْ بِلَادِ
الْمَغْرِبِ - وَكَانَ مِنْ أَحْصَنِ بِلَادِ الْفِرِنْجِ - افْتَتَحَهُ قَسْرًا
بَعْدَ مُحَاصَرَةٍ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفَ شَهْرٍ. وَقَصَدَتِ الْفِرِنْجُ
جَزِيرَةَ أَقْرِيطِشَ فَاسْتَنْجَدَ أَهْلُهَا بِالْمُعِزِّ، فَسَيَّرَ
إِلَيْهِمْ جَيْشًا، فَانْتَصَرُوا عَلَى الْفِرِنْجِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ
الْوَزِيرُ لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، مَكَثَ وَزِيرًا فِي وِزَارَتِهِ
ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ فِيهِ حِلْمٌ وَكَرَمٌ وَأَنَاةٌ.
حَكَى أَبُو إِسْحَاقَ الصَّابِئُ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَهُ وَقَدْ جِيءَ
بِدَوَاةٍ قَدْ صُنِعَتْ لَهُ وَمِرْفَعٍ قَدْ حُلِّيَا بِحِلْيَةٍ كَثِيرَةٍ،
فَقَالَ لِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشِّيرَازِيُّ -
سِرًّا بَيْنِي وَبَيْنَهُ -: مَا كَانَ أَحْوَجَنِي إِلَيْهَا لِأَبِيعَهَا
وَأَنْتَفِعَ بِهَا، فَقُلْتُ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَفْعَلُ الْوَزِيرُ ؟ فَقَالَ:
يَدْخُلُ فِي حِرِ أُمِّهِ، فَسَمِعَهَا الْوَزِيرُ وَهُوَ مُصْغٍ إِلَيْنَا وَلَا
نَشْعُرُ، فَلَمَّا أَمْسَى بَعَثَ بِالدَّوَاةِ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ
الشِّيرَازِيِّ وَمِرْفَعِهَا وَعَشْرَةِ ثِيَابٍ وَخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ،
وَاصْطَنَعَ لَهُ غَيْرَهَا، فَاجْتَمَعْنَا يَوْمًا آخَرَ عِنْدَهُ، وَهُوَ
يُوَقِّعُ مِنْ تِلْكَ الدَّوَاةِ الْجَدِيدَةِ، فَنَظَرَ إِلَيْنَا، فَقَالَ:
هِيهِ، مَنْ مِنْكُمَا يُرِيدُهَا مَعَ الْإِعْفَاءِ مِنَ الدُّخُولِ ؟ قَالَ:
فَاسْتَحْيَيْنَا، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ سَمِعَ كَلَامَنَا يَوْمَئِذٍ،
وَقُلْنَا: بَلْ يُمَتِّعُ اللَّهُ الْوَزِيرَ بِهَا، وَيُبْقِيهِ لِيَهَبَ
أَلْفًا مِثْلَهَا.
تُوُفِّيَ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ
سَنَةً.
دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ دَعْلَجَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو مُحَمَّدٍ
السِّجِسْتَانِيُّ الْمُعَدِّلُ، سَمِعَ بِخُرَاسَانَ وَحُلْوَانَ وَبَغْدَادَ
وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَمَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ ذَوِي الْيَسَارِ
وَالْمَشْهُورِينَ بِالْبِرِّ وَالْإِفْضَالِ، وَلَهُ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ،
وَأَوْقَافٌ دَارَّةٌ عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ بِبَغْدَادَ وَمَكَّةَ
وَسِجِسْتَانَ.
وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ، فَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ فِي
الدُّنْيَا مِثْلُهَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ بَغْدَادَ وَلَا
فِي بَغْدَادَ مِثْلُ الْقَطِيعَةِ، وَلَا فِي الْقَطِيعَةِ مِثْلُ دَرْبِ أَبِي
خَلَفٍ، وَلَيْسَ فِي دَرْبِ أَبِي خَلَفٍ مَثَلُ دَارِي.
وَصَنَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ لَهُ مُسْنَدًا، وَكَانَ إِذَا شَكَّ فِي حَدِيثٍ
تَرَكَهُ، فَكَانَ الدَّارَقُطْنِيُّ يَقُولُ: لَمْ أَرَ فِي مَشَايِخِنَا
أَثْبَتَ مِنْهُ.
وَقَدْ أَنْفَقَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَذَوِي الْحَاجَاتِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً
كَثِيرَةً جِدًّا، اقْتَرَضَ مِنْهُ بَعْضُ التُّجَّارِ عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ
فَضَمِنَ بِهَا ضِيَاعًا، فَرَبَحَ فِي مُدَّةِ ثَلَاثِ سِنِينَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ، فَعَزَلَ مِنْهَا عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَجَاءَهُ بِهَا،
فَأَضَافَهُ دَعْلَجُ ضِيَافَةً حَسَنَةً، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ شَأْنِهَا قَالَ:
مَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ لَهُ: هَذِهِ الدَّنَانِيرُ الَّتِي تَفَضَّلْتَ بِهَا قَدْ
حَضَرَتْ. فَقَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ ! إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا
لِتَرُدَّهَا،
فَحَلِّ
بِهَا الْأَهْلَ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَبِحْتُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ،
فَهَذِهِ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ دَعْلَجُ: اذْهَبْ بِهَا، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ.
فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ يَتَّسِعُ مَالُكَ لِهَذَا ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَفَدْتَ هَذَا
الْمَالَ ؟ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ فِي حَدَاثَةِ سِنِّي أَطْلُبُ الْحَدِيثَ،
فَجَاءَنِي رِجُلٌ تَاجِرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرِ، فَدَفَعَ إِلَيَّ أَلْفَ أَلْفِ
دِرْهَمٍ، وَقَالَ: اتَّجِرْ فِي هَذِهِ، فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَبَيْنِي
وَبَيْنَكَ، وَمَا كَانَ مِنْ خَسَارَةٍ فَعَلَيَّ دُونَكَ، وَعَلَيْكَ عَهْدُ
اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ إِنْ وَجَدْتَ حَاجَةً أَوْ خَلَّةً فَسُدَّهَا مِنْ مَالِي
هَذَا. ثُمَّ جَاءَنِي فَقَالَ: إِنِّي سَأَرْكَبُ فِي الْبَحْرِ، فَإِنْ
هَلَكْتُ، فَالْمَالُ فِي يَدِكَ عَلَى مَا شَرَطْتُ عَلَيْكَ. فَهُوَ فِي يَدِي
عَلَى مَا قَالَ. ثُمَّ قَالَ لِي: لَا تُخْبِرْ بِهَذَا أَحَدًا مُدَّةَ
حَيَاتِي. فَلَمْ أُخْبِرْ بِهِ أَحَدًا حَتَّى مَاتَ.
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعِ بْنِ مَرْزُوقٍ أَبُو الْحُسَيْنِ الْأُمَوِيُّ
مَوْلَاهُمْ، سَمِعَ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي أُسَامَةَ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَغَيْرُهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ وَالْحِفْظِ،
وَلَكِنَّهُ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ يُخْطِئُ وَيُصِرُّ عَلَى الْخَطَأِ. تُوُفِّيَ
فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ الْمُفَسِّرُ، مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ زِيَادِ بْنِ هَارُونَ
بْنِ
جَعْفَرٍ، أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ
الْمُفَسِّرُ الْمُقْرِئُ، مَوْلَى أَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ بْنِ خَرَشَةَ،
وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَوْصِلِ وَكَانَ عَالِمًا بِالتَّفْسِيرِ وَالْقِرَاءَاتِ،
وَسَمِعَ الْكَثِيرَ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى عَنْ خَلْقٍ مِنَ الْمَشَايِخِ،
وَحَدَّثَ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ وَالْخُلْدِيُّ وَابْنُ شَاهِينَ
وَابْنُ رِزْقَوَيْهِ وَخَلْقٌ، وَآخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ
شَاذَانَ، وَتَفَرَّدَ بِأَشْيَاءَ مُنْكَرَةٍ، وَقَدْ وَقَفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَخْطَائِهِ، فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ
بِتَكْذِيبِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَهُ كِتَابُ التَّفْسِيرِ الَّذِي سَمَّاهُ
" شِفَاءَ الصُّدُورِ " فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ إِشْفَاءُ
الصُّدُورِ.
وَقَدْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا فِي نَفْسِهِ، عَابِدًا نَاسِكًا، حَكَى مَنْ
حَضَرَهُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ يَدْعُو بِدُعَاءٍ، ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ
يَقُولُ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [ الصَّافَّاتِ: 61 ] يُرَدِّدُهَا
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ خَرَجَتْ رُوحُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ مِنْهَا، وَدُفِنَ فِي دَارِهِ
بِدَارِ الْقُطْنِ.
مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو بَكْرٍ الْحَرْبِيُّ
الزَّاهِدُ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الضَّرِيرِ، كَانَ ثِقَةً عَابِدًا. وَمِنْ
قَوْلِهِ: دَافَعْتُ الشَّهَوَاتِ حَتَّى صَارَتْ شَهْوَتِي الْمُدَافَعَةُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ
بُوَيْهِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - أَنْ تُغْلَقَ الْأَسْوَاقُ وَأَنْ يَلْبَسَ
النَّاسُ الْمُسُوحَ مِنَ الشَّعْرِ، وَأَنْ تَخْرُجَ النِّسَاءُ حَاسِرَاتٍ عَنْ
وُجُوهِهِنَّ، نَاشِرَاتٍ شُعُورَهُنَّ فِي الْأَسْوَاقِ، يَلْطُمْنَ
وُجُوهَهُنَّ، يَنُحْنَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فَفُعِلَ ذَلِكَ، وَلَمْ
يُمْكِنْ أَهْلَ السُّنَّةِ مَنْعُ ذَلِكَ ; لِكَثْرَةِ الشِّيعَةِ، وَكَوْنِ
السُّلْطَانِ مَعَهُمْ.
وَفِي ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا أَمَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
بِإِظْهَارِ الزِّينَةِ بِبَغْدَادَ وَأَنْ تُفْتَحَ الْأَسْوَاقُ بِاللَّيْلِ
كَمَا فِي الْأَعْيَادِ، وَأَنْ تُضْرَبَ الدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ، وَأَنْ
تُشْعَلَ النِّيرَانُ بِأَبْوَابِ الْأُمَرَاءِ وَعِنْدَ الشُّرَطِ ; فَرَحًا
بَعِيدِ الْغَدِيرِ - غَدِيرِ خُمٍّ - فَكَانَ وَقْتًا عَجِيبًا وَيَوْمًا
مَشْهُودًا، وَبِدْعَةً ظَاهِرَةً مُنْكَرَةً.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الْأَرْمَنُ عَلَى الرُّهَا فَقَتَلُوا وَأَسَرُوا، وَرَجَعُوا
مُوقَرِينَ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - وَثَارَتِ الرُّومُ بِمَلِكِهِمْ فَقَتَلُوهُ،
وَوَلَّوْا غَيْرَهُ، وَمَاتَ الدُّمُسْتُقُ مَلِكُ الْأَرْمَنِ، وَاسْمُهُ
النِّقْفُورُ، وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ حَلَبَ وَلِتُكْتَبَ تَرْجَمَتُهُ فِي آخِرِ
الْجُزْءِ.
وَفِيهَا
عُزِلَ ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ عَنِ الْقَضَاءِ، وَنُقِضَتْ سِجِلَّاتُهُ،
وَأُبْطِلَتْ أَحْكَامُهُ مُدَّةَ أَيَّامِهِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ أَبُو بِشْرٍ
عُمَرُ بْنُ أَكْثَمَ بِلَا رِزْقٍ، وَرُفِعَ عَنْهُ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ ابْنُ
أَبِي الشَّوَارِبِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ اسْتَسْقَى النَّاسُ لِتَأَخُّرِ الْمَطَرِ وَذَلِكَ فِي
كَانُونَ الثَّانِي.
وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " عَنْ ثَابِتِ بْنِ
سِنَانٍ الْمُؤَرِّخِ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ
مِمَّنْ أَثِقُ بِهِمْ أَنَّ بَعْضَ بَطَارِقَةِ الْأَرْمَنِ أَنْفَذَ فِي سَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ
حَمْدَانَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْأَرْمَنِ مُلْتَصِقَيْنِ، سِنُّهُمَا خَمْسٌ
وَعِشْرُونَ سَنَةً، مُلْتَحِمَيْنِ وَمَعَهُمَا أَبُوهُمَا، وَلَهُمَا سُرَّتَانِ
وَبِطَنَّانِ وَمَعِدَتَانِ، وَجُوعُهُمَا يَخْتَلِفُ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا
يَمِيلُ إِلَى النِّسَاءِ، وَالْآخَرُ يَمِيلُ إِلَى الْغِلْمَانِ، وَكَانَ يَقَعُ
بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ وَتَشَاجُرٌ، وَرُبَّمَا حَلَفَ أَحَدُهُمَا لَا يُكَلِّمُ
الْآخَرَ، فَيَمْكُثُ كَذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ يَصْطَلِحَانِ، فَوَهَبَهُمَا
نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمَا، وَدَعَاهُمَا إِلَى
الْإِسْلَامِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمَا أَسْلَمَا. وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَهُمَا
إِلَى بَغْدَادَ لِيَرَاهُمَا النَّاسُ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ
إِنَّهُمَا رَجَعَا إِلَى بَلَدِهِمَا
مَعَ
أَبِيهِمَا، فَاعْتَلَّ أَحَدُهُمَا، وَمَاتَ وَأَنْتَنَ رِيحُهُ، وَبَقِيَ
الْآخَرُ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ اتِّصَالُ مَا
بَيْنَهُمَا مِنَ الْخَاصِرَتَيْنِ، وَقَدْ كَانَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَرَادَ
فَصْلَ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، وَجَمَعَ الْأَطِبَّاءَ لِذَلِكَ فَلَمْ
يُمْكِنْ، فَلَمَّا مَاتَ أَحَدُهُمَا حَارَ أَبُوهُمَا فِي فَصْلِهِ عَنْ
أَخِيهِ، فَاتَّفَقَ اعْتِلَالُ الْآخَرِ مِنْ غَمِّهِ وَنَتْنِ رَائِحَةِ
أَخِيهِ، فَمَاتَ غَمًّا، فَدُفِنَا جَمِيعًا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عُمَرُ بْنُ أَكْثَمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَيَّانَ بْنِ بِشْرٍ، أَبُو بِشْرٍ
الْأَسَدِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ،
وَوَلِيَ الْقَضَاءَ فِي زَمَنِ الْمُطِيعِ نِيَابَةً عَنْ أَبِي السَّائِبِ
عُتْبَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَهُوَ أَوَّلُ
مَنْ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ سِوَى أَبِي السَّائِبِ،
وَكَانَ مَحْمُودَ السِّيرَةِ فِي الْقَضَاءِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَمِلَتِ الرَّافِضَةُ عَزَاءَ الْحُسَيْنِ
كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَاقْتَتَلَ الرَّوَافِضُ وَأَهْلُ
السُّنَّةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْتُهِبَتِ الْأَمْوَالُ.
وَفِيهَا عَصَى نَجَا غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
كَانَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي قَدْ صَادَرَ أَهْلَ حَرَّانِ وَأَخَذَ مِنْهُمْ
أَمْوَالًا كَثِيرَةً فَتَمَرَّدَ بِهَا، وَذَهَبَ إِلَى بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ
فَأَخَذَ طَائِفَةً مِنْهَا مِنْ يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ يُقَالُ لَهُ:
أَبُو الْوَرْدِ، فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَيْهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ
فَأَخَذَهُ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأُلْقِيَتْ جِيفَتُهُ
فِي الْأَقْذَارِ وَمَحَلِّ الْجِيَفِ وَالنَّتَنِ.
وَفِيهَا جَاءَ الدُّمُسْتُقُ إِلَى الْمِصِّيصَةِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ
فَحَاصَرَهَا وَنَقَبَ سُورَهَا، فَدَافَعَهُ أَهْلُهَا، فَأَحْرَقَ رُسْتَاقَهَا،
وَقَتَلَ مِمَّنْ حَوْلَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ
إِنْسَانٍ،
وَعَاثُوا فَسَادًا فِي بِلَادِ أَذَنَةَ وَطَرَسُوسَ، وَكَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى
بِلَادِهِمْ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا قَصَدَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ الْمَوْصِلَ وَجَزِيرَةَ ابْنِ عُمَرَ
فَأَخْذَهَا مِنْ يَدِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، ثُمَّ سَارَ فِي
طَلَبِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَكَرَّ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ فِي جَيْشٍ قَدْ
هَيَّأَهُ، فَاسْتَرْجَعَ الْمُلْكَ مِنْ يَدِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَعَادَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ فَأَخَذَ الْمَوْصِلَ وَأَقَامَ بِهَا، فَرَاسَلَهُ فِي
الصُّلْحِ صَاحِبُهَا، فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحِمْلُ فِي كُلِّ
سَنَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ وَلِيَّ عَهْدِ
أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَجَابَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَكَرَّ
رَاجِعًا إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ مَا جَرَتْ لَهُ خُطُوبٌ عَظِيمَةٌ طَوِيلَةٌ
قَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ " وَبَسَطَهَا.
وَفِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ بِبِلَادِ الدَّيْلَمِ، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ مِنْ أَوْلَادِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَيُعْرَفُ
بِابْنِ الدَّاعِي، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ،
وَتَسَمَّى بِالْمَهْدِيِّ، وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ بَغْدَادَ وَعَظُمَ شَأْنُهُ
بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَهَرَبَ مِنْهُ ابْنُ النَّاصِرِ الْعَلَوِيُّ.
وَفِيهَا قَصَدَ مَلِكُ الرُّومِ، وَفِي صُحْبَتِهِ الدُّمُسْتُقُ مَلِكُ
الْأَرْمَنِ بِلَادَ طَرَسُوسَ فَحَاصَرُوهَا مُدَّةً، ثُمَّ غَلَتْ عَلَيْهِمُ
الْأَسْعَارُ، وَأَخَذَ فِيهِمُ الْوَبَاءُ، فَمَاتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَكَّرُوا رَاجِعِينَ،
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَرَدَّ
اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [ الْأَحْزَابِ: 25
]. وَكَانَ مِنْ عَزْمِهِمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَحْوِذُونَ عَلَى الْبِلَادِ
كُلِّهَا، فَرَجَعُوا خَاسِئِينَ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الْمَجَازِ بِبِلَادِ صِقِلِّيَّةَ وَذَلِكَ أَنَّهُ
أَقْبَلَ مِنَ الرُّومِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَمِنَ الْفِرِنْجِ مَا يُقَارِبُ
الْمِائَةَ أَلْفٍ، فَبَعَثَ أَهْلُ صِقِلِّيَّةَ إِلَى الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ
يَسْتَنْجِدُونَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِجُيُوشٍ كَثِيرَةٍ فِي الْأُسْطُولِ،
فَكَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ صَبَرَ
فِيهَا الْفَرِيقَانِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ قُتِلَ
أَمِيرُ الرُّومِ مَنْوِيلُ وَفَّرَتِ الرُّومُ وَانْهَزَمُوا هَزِيمَةً
قَبِيحَةً، فَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَقَطَ
الْفِرِنْجُ فِي وَادٍ مِنَ الْمَاءِ عَمِيقٍ فَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ، وَرَكِبَ
الْبَاقُونَ فِي الْمَرَاكِبِ، فَبَعَثَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ صَاحِبُ صِقِلِّيَّةَ
فِي آثَارِهِمْ مَرَاكِبَ أُخَرَ، فَقَتَلُوا أَكْثَرَ الْمُشْرِكِينَ فِي
الْبَحْرِ أَيْضًا، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ شَيْئًا
كَثِيرًا، مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْأَسْلِحَةِ،
فَكَانَ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ سَيْفٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: هَذَا سَيْفٌ هِنْدِيٌّ
زِنَتُهُ مِائَةٌ وَسَبْعُونَ مِثْقَالًا، طَالَمَا قُوتِلَ بِهِ بَيْنَ يَدَيْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبُعِثَ فِي جُمْلَةِ تُحَفٍ
إِلَى الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ.
وَفِيهَا قَصَدَتِ الْقَرَامِطَةُ مَدِينَةَ طَبَرِيَّةَ لِيَأْخُذُوهَا مِنْ يَدِ
الْإِخْشِيدِ صَاحِبِ مِصْرَ وَالشَّامِ، وَطَلَبُوا مِنْ سَيْفِ الدَّوْلَةِ أَنْ
يَمُدَّهُمْ بِحَدِيدٍ يَتَّخِذُونَ مِنْهُ سِلَاحًا، فَقَلَعَ لَهُمْ أَبْوَابَ
الرَّقَّةِ - وَكَانَتْ مِنْ حَدِيدٍ - حَتَّى أَخَذَ أَوَاقِيَّ الْبَاعَةِ،
وَأَرْسَلَ
بِذَلِكَ
كُلِّهِ إِلَيْهِمْ حَتَّى قَالُوا: اكْتَفَيْنَا.
وَفِيهَا طَلَبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنَ الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ أَنْ
يَأْذَنَ لَهُ فِي دُخُولِ دَارِ الْخِلَافَةِ لِيَتَفَرَّجَ فِيهَا، فَأَذِنَ
لَهُ فَدَخَلَهَا، فَبَعَثَ خَادِمَهُ وَحَاجِبَهُ مَعَهُ، فَطَافُوا مَعَهُ
فِيهَا، وَهُوَ مُسْرِعٌ خَائِفٌ، ثُمَّ خَرَجَ وَقَدْ خَافَ مِنْ غَائِلَةِ
ذَلِكَ، وَخَشِيَ أَنْ يُقْتَلَ فِي بَعْضِ الدَّهَالِيزِ، فَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ
آلَافٍ لَمَّا خَرَجَ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى سَلَامَتِهِ، وَازْدَادَ حُبًّا فِي
الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ مِنْ يَوْمِئِذٍ، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا رَأَى
مِنَ الْعَجَائِبِ بِهَا صَنَمٌ مِنْ نُحَاسٍ عَلَى صُورَةِ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ
جِدًّا، وَحَوْلَهَا أَصْنَامٌ صِغَارٌ فِي هَيْئَةِ الْخَدَمِ لَهَا، كَانَ قَدْ
أُتِيَ بِهِ فِي زَمَنِ الْمُقْتَدِرِ، فَأُقِيمَ هُنَاكَ لِيَتَفَرَّجَ عَلَيْهِ
الْجَوَارِي وَالنِّسَاءُ، فَهَمَّ الْمُعِزُّ أَنْ يَطْلُبَهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ،
ثُمَّ ارْتَأَى فَتَرَكَ ذَلِكَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا خَرَجَ رَجُلٌ بِالْكُوفَةِ، فَادَّعَى أَنَّهُ
عَلَوِيٌّ، وَكَانَ يَتَبَرْقَعُ فَسُمِّي الْمُبَرْقَعَ، وَغَلُظَتْ قَضِيَّتُهُ
وَبَعُدَ صِيتُهُ، وَذَلِكَ فِي غَيْبَةِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عَنْ بَغْدَادَ
وَاشْتِغَالِهِ بِأَمْرِ الْمَوْصِلِ وَنَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ،
فَلَمَّا تَوَطَّدَتِ الْأُمُورُ وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ اخْتَفَى الْمُبَرْقَعُ،
وَذَهَبَ فِي الْبِلَادِ، فَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ أَمْرٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بَكَّارُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَكَّارِ بْنِ بُنَانِ بْنِ بَكَّارِ بْنِ زِيَادِ
بْنِ دَرَسْتَوَيْهِ،
أَبُو
عِيسَى الْمُقْرِئُ
رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، وَعَنْهُ أَبُو الْحَسَنِ
الْحَمَّامِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً، أَقْرَأَ الْقُرْآنَ أَزْيَدَ مِنْ سِتِّينَ
سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا
وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ وَقَارَبَ الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ
الْخَيْزُرَانِ عِنْدَ قَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ.
أَبُو إِسْحَاقَ الْهُجَيْمِيُّ
وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ إِذَا
سُئِلَ أَنْ يُحَدِّثَ يُقْسِمُ أَنْ لَا يُحَدِّثَ حَتَّى يُجَاوِزَ الْمِائَةَ،
فَأَبِرَّ اللَّهُ قَسَمَهُ، وَجَاوَزَهَا فَأَسْمَعَ. تُوُفِّيَ عَنْ مِائَةِ
سَنَةٍ وَثَلَاثِ سِنِينَ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَمِلَتِ الشِّيعَةُ الْمَآتِمَ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ فِي السَّنَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ
وَعُلِّقَتِ الْمُسُوحُ، وَخَرَجَتِ النِّسَاءُ سَافِرَاتٍ نَاشِرَاتٍ، يَنُحْنَ
وَيَلْطُمْنَ وُجُوهَهُنَّ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْأَزِقَّةِ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ
لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا
أَمْرًا مَحْمُودًا لَكَانَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَخِيرَتُهَا أَوْلَى بِهِ ;
إِذْ لَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إِلَيْهِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقْتَدُونَ
وَلَا يَبْتَدِعُونَ، وَتَسَلَّطَتْ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى الرَّوَافِضِ،
فَكَبَسُوا مَسْجِدَ بَرَاثَا الَّذِي هُوَ عُشُّ الرَّوَافِضِ، وَقَتَلُوا بَعْضَ
مَنْ كَانَ فِيهِ مِنَ الْقَوَمَةِ.
وَفِيهَا فِي رَجَبٍ مِنْهَا جَاءَ مَلِكُ الرُّومِ بِجُيُوشٍ كَثِيفَةٍ إِلَى
الْمِصِّيصَةِ فَفَتَحَهَا قَسْرًا، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا، وَاسْتَاقَ
بَقِيَّتَهُمْ مَعَهُ أُسَارَى، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ
إِنْسَانٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَجَاءَ إِلَى طَرَسُوسَ فَسَأَلَ أَهْلُهَا مِنْهُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ،
وَأَمَرَهُمْ بِالْجَلَاءِ عَنْهَا وَالِانْتِقَالِ مِنْهَا، فَاتَّخَذَ
الْجَامِعَ إِسْطَبْلًا لِخُيُولِهِ، وَحَرَّقَ الْمِنْبَرَ، وَنَقَلَ
قَنَادِيلَهُ إِلَى كَنَائِسِ بَلَدِهِ، وَتَنَصَّرَ بَعْضُ أَهْلِهَا مَعَهُ،
لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ أَهْلُ طَرَسُوسَ وَالْمِصِّيصَةِ قَدْ أَصَابَهُمْ قَبْلَ هَذَا
الْبَلَاءِ غَلَاءٌ عَظِيمٌ وَوَبَاءٌ
شَدِيدٌ
بِحَيْثُ كَانَ يَمُوتُ مِنْهُمْ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثُمِائَةِ نَفَرٍ،
ثُمَّ دَهَمَهُمْ هَذَا الْأَمْرُ الشَّدِيدُ، فَانْتَقَلُوا مِنْ شَهَادَةٍ إِلَى
شَهَادَةٍ أَعْظَمَ مِنْهَا.
وَعَزَمَ مَلِكُ الرُّومِ عَلَى الْمُقَامِ بِطَرَسُوسَ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى
بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ عَنَّ لَهُ، فَسَارَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
وَفِي خِدْمَتِهِ الدُّمُسْتُقُ مَلِكُ الْأَرْمَنِ، لَعَنَهُمَا اللَّهُ.
وَفِيهَا جُعِلَ أَمْرُ تَسْفِيرِ الْحَجِيجِ إِلَى نَقِيبِ الطَّالِبِيِّينَ،
وَكُتِبَ لَهُ مَنْشُورٌ بِالنِّقَابَةِ وَالْحَجِيجِ، وَهُوَ أَبُو أَحْمَدَ
الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى الْمُوسَوِيُّ وَهُوَ وَالِدُ الرَّضِيِّ وَالْمُرْتَضَى.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ أُخْتُ مُعَزِّ الدَّوْلَةِ، فَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ فِي
طَيَّارَةٍ، وَجَاءَ إِلَيْهِ فَعَزَّاهُ، فَقَبَّلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَشَكَرَ لَهُ سَعْيَهُ إِلَيْهِ، وَصَدَقَاتِهِ
عَلَيْهِ.
وَفِي ثَامِنِ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ عِيدَ غَدِيرِ خُمٍّ
عَلَى الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
وَفِيهَا تَغَلَّبَ عَلَى أَنْطَاكِيَةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: رَشِيقٌ
النُّسَيْمِيُّ، بِمُسَاعَدَةِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْأَهْوَازِيِّ.
وَكَانَ يَضْمَنُ الطَّوَاحِينَ، فَأَعْطَاهُ أَمْوَالًا، وَأَطْمَعَهُ فِي أَخْذِ
أَنْطَاكِيَةَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ سَيْفَ الدَّوْلَةِ قَدِ اشْتَغَلَ
بِمَيَّافَارِقِينَ، وَعَجَزَ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى حَلَبَ فَتَمَّ لَهُمَا مَا
رَامَاهُ مِنْ أَخْذِ أَنْطَاكِيَةَ ثُمَّ رَكِبَا مِنْهَا فِي جُيُوشٍ إِلَى
حَلَبَ فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ نَائِبِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ حُرُوبٌ
عَظِيمَةٌ، ثُمَّ أَخَذَ الْبَلَدَ،
وَتَحَصَّنَ
النَّائِبُ بِالْقَلْعَةِ، وَجَاءَتِ النَّجْدَةُ مِنْ سَيْفِ الدَّوْلَةِ إِلَى
حَلَبَ مَعَ غُلَامٍ لَهُ اسْمُهُ بِشَارَةُ، فَانْهَزَمَ رَشِيقٌ، فَسَقَطَ عَنْ
فَرَسِهِ، فَابْتَدَرَهُ بَعْضُ الْأَعْرَابِ، فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ رَأْسَهُ،
فَجَاءَ بِهِ إِلَى حَلَبَ وَاسْتَقَلَّ ابْنُ الْأَهْوَازِيِّ سَائِرًا إِلَى
أَنْطَاكِيَةَ فَأَقَامَ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ اسْمُهُ دَزْبَرُ، فَسَمَّاهُ
الْأَمِيرَ، وَأَقَامَ آخَرَ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ لِيَجْعَلَهُ خَلِيفَةً،
وَسَمَّاهُ الْأُسْتَاذَ، فَقَصَدَهُ نَائِبُ حَلَبَ وَهُوَ قَرْعُوَيْهِ،
فَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا، فَهَزَمَهُ ابْنُ الْأَهْوَازِيِّ وَاسْتَقَرَّ
بِأَنْطَاكِيَةَ، فَلَمَّا عَادَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ لَمْ يَبِتْ
بِهَا إِلَّا لَيْلَةً وَاحِدَةً حَتَّى سَارَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ فَاقْتَتَلُوا
قِتَالًا عَظِيمًا، ثُمَّ انْهَزَمَ دَزْبَرُ وَابْنُ الْأَهْوَازِيِّ وَأُسِرَا،
فَقَتَلَهُمَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ.
وَفِيهَا ثَارَ رَجُلٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ اسْمُهُ مَرْوَانُ، كَانَ يَحْفَظُ
الطُّرُقَاتِ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ بِحِمْصَ، فَمَلَكَهَا وَمَا حَوْلَهَا،
فَقَصَدَهُ جَيْشٌ مِنْ حَلَبَ مَعَ الْأَمِيرِ بَدْرٍ فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ،
فَرَمَاهُ بَدْرٌ بِسَهْمٍ مَسْمُومٍ فَأَصَابَهُ، وَاتَّفَقَ أَنْ أَسَرَ
أَصْحَابُ مَرْوَانَ بَدْرًا، فَقَتَلَهُ مَرْوَانُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا، وَمَاتَ
مَرْوَانُ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا عَصَى أَهْلُ سِجِسْتَانَ أَمِيرَهُمْ خَلَفَ بْنَ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ حَجَّ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ طَاهِرَ
بْنَ الْحُسَيْنِ فَطَمِعَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ، وَاسْتَمَالَ أَهْلَ
الْبَلَدِ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْحَجِّ لَمْ يُسَلِّمْهُ الْبَلَدَ، وَعَصَى
عَلَيْهِ، فَذَهَبَ
إِلَى
بُخَارَى إِلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورِ بْنِ نُوحٍ السَّامَانِيِّ فَاسْتَنْجَدَهُ،
فَبَعَثَ مَعَهُ جَيْشًا، فَاسْتَنْقَذَ الْبَلَدَ مِنْ طَاهِرٍ، وَسَلَّمَهَا
إِلَى الْأَمِيرِ خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ - وَقَدْ كَانَ خَلَفٌ عَالِمًا مُحِبًّا
لِلْعُلَمَاءِ - فَذَهَبَ طَاهِرٌ، فَجَمَعَ جُمُوعًا، ثُمَّ جَاءَ فَحَاصَرَ
خَلَفًا، وَأَخَذَ مِنْهُ الْبَلَدَ، فَرَجَعَ خَلَفٌ إِلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورٍ
السَّامَانِيِّ فَبَعَثَ مَعَهُ مَنِ اسْتَرْجَعَ لَهُ الْبَلَدَ ثَانِيَةً،
وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ خَلَفٌ بِهَا وَتَمَكَّنَ مِنْهَا،
مَنَعَ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ مِنَ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ وَالْخِلَعِ إِلَى الْأَمِيرِ
مَنْصُورٍ السَّامَانِيِّ بِبُخَارَى، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَتَحَصَّنَ
خَلْفٌ فِي حِصْنٍ يُقَالُ لَهُ: حِصْنُ أَرْكَ. فَنَازَلَهُ الْجَيْشُ فِيهِ
تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِمَنَاعَةِ هَذَا الْحِصْنِ
وَصُعُوبَتِهِ وَعُمْقِ خَنْدَقِهِ وَارْتِفَاعِهِ، وَسَيَأْتِي مَا آلَ إِلَيْهِ
أَمْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا قَصَدَتْ طَائِفَةٌ مِنَ التُّرْكِ بِلَادَ الْخَزَرِ، فَاسْتَنْجَدَ
الْخَزَرُ بِأَهْلِ خُوَارِزْمَ فَقَالُوا: لَوْ أَسْلَمْتُمْ لَنَصَرْنَاكُمْ.
فَأَسْلَمُوا إِلَّا مَلِكُهُمْ، فَقَاتَلُوا مَعَهُمُ التُّرْكَ، فَأَجْلَوْهُمْ
عَنْهُمْ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَلِكُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْمُتَنَبِّي الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ
بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ أَبُو الطَّيِّبِ الْجُعْفِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ بِالْمُتَنَبِّي، كَانَ أَبُوهُ يُعَرَفُ بِعِيدَانَ
السَّقَّاءِ،
وَكَانَ
يَسْتَقِي الْمَاءَ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ وَهُوَ شَيْخٌ
كَبِيرٌ.
وَعِيدَانُ هَذَا، قَالَ ابْنُ مَاكُولَا وَالْخَطِيبُ: هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ
وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتُ. وَقِيلَ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَا
كَسْرِهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
كَانَ مَوْلِدُ الْمُتَنَبِّي بِالْكُوفَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وَنَشَأَ بِالشَّامِ بِالْبَادِيَةِ، وَطَلَبَ الْأَدَبَ، فَفَاقَ أَهْلَ
زَمَانِهِ فِيهِ، وَلَزِمَ جَنَابَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ
وَامْتَدَحَهُ وَحَظِيَ عِنْدَهُ، ثُمَّ صَارَ إِلَى مِصْرَ، فَامْتَدَحَ
كَافُورًا الْإِخْشِيدِيَّ ثُمَّ هَجَاهُ، وَهَرَبَ مِنْهُ، وَوَرَدَ بَغْدَادَ
فَامْتَدَحَ بَعْضَ أَهْلِهَا، وَقُرِئَ عَلَيْهِ دِيوَانُهُ فِيهَا.
وَقَدِمَ الْكُوفَةَ فَامْتَدَحَ ابْنَ الْعَمِيدِ، فَوَصَلَهُ مِنْ جِهَتِهِ
ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى فَارِسَ فَامْتَدَحَ عَضُدَ
الدَّوْلَةِ بْنَ بُوَيْهِ، فَأَطْلَقَ لَهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً تُقَارِبُ
مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ: بَلْ حَصَلَ لَهُ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ دَسَّ إِلَيْهِ مَنْ يَسْأَلُهُ: أَيُّمَا أَحْسَنُ ;
عَطَايَا عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، أَوْ عَطَايَا سَيْفِ الدَّوْلَةِ
بْنِ حَمْدَانَ ؟ فَقَالَ: هَذِهِ أَجْزَلُ وَلَكِنَّ فِيهَا تَكَلُّفٌ، وَتِلْكَ
أَقَلُّ وَلَكِنْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْ مُعْطِيهَا ; لِأَنَّهَا عَنْ طَبِيعَةٍ
وَهَذِهِ عَنْ تَكَلُّفٍ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ،
وَدَسَّ إِلَيْهِ طَائِفَةً مِنَ الْأَعْرَابِ، فَوَقَفُوا لَهُ فِي أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى بَغْدَادَ وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ هَجَا
مُقَدِّمَهُمُ ابْنَ فَاتَكٍ الْأَسَدِيَّ - وَقَدْ كَانُوا يَقْطَعُونَ
الطَّرِيقَ - فَلِهَذَا أَوْعَزَ إِلَيْهِمْ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَنْ
يَتَعَرَّضُوا لَهُ فَيَقْتُلُوهُ، وَيَأْخُذُوا مَا مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ،
فَانْتَهَوْا إِلَيْهِ وَهُمْ سِتُّونَ رَاكِبًا فِي يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ
وَقَدْ بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ فِي
يَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ. وَيُقَالُ: بَلْ كَانَ
ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ. وَقَدْ نَزَلَ عِنْدَ عَيْنٍ تَحْتَ شَجَرَةِ إِنْجَاصٍ،
وَقَدْ وُضِعَتْ سُفْرَتُهُ لِيَتَغَدَّى وَمَعَهُ وَلَدُهُ مُحَسَّدٌ وَخَمْسَةَ
عَشَرَ غُلَامًا لَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: هَلُمُّوا يَا وُجُوهَ الْعَرَبِ.
فَلَمَّا لَمْ يُكَلِّمُوهُ أَحَسَّ بِالشَّرِّ، فَنَهَضَ إِلَى سِلَاحِهِ
وَخَيْلِهِ، فَتَوَاقَفُوا سَاعَةً، فَقُتِلَ ابْنُهُ مُحَسَّدٌ وَبَعْضُ
غِلْمَانِهِ، وَأَرَادَ هُوَ أَنْ يَنْهَزِمَ، فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: أَيْنَ
تَذْهَبُ، وَأَنْتَ الْقَائِلُ:
فَالْخَيْلُ وَاللَّيْلُ وَالْبَيْدَاءُ تَعْرِفُنِي وَالْحَرْبُ وَالضَّرْبُ
وَالْقِرْطَاسُ وَالْقَلَمُ
فَقَالَ: وَيْحَكَ ! قَتَلْتَنِي. ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا، فَطَعَنَ زَعِيمَ
الْقَوْمِ بِرُمْحٍ فِي عُنُقِهِ فَقَتَلَهُ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَشَجَرُوهُ
بِالرِّمَاحِ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ
الْأَمْوَالِ، وَذَلِكَ بِالْقُرْبِ مِنَ النُّعْمَانِيَّةِ، وَهُوَ آيِبٌ إِلَى
بَغْدَادَ وَدُفِنَ هُنَالِكَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعُونَ
سَنَةً.
وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ فِي الْمَنْزِلَةِ الَّتِي
كَانَتْ قَبْلَ مَنْزِلَتِهِ هَذِهِ ; سَأَلَهُ بَعْضُ الْأَعْرَابِ أَنْ
يُعْطِيَهُمْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَيَخْفِرُونَهُ، فَمَنَعَهُ الشُّحُّ وَالْكِبْرُ
وَدَعْوَى
الشَّجَاعَةِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ كَانَ الْمُتَنَبِّي جُعْفِيَّ النَّسَبِ، صُلْبُهُ مِنْهُمْ، وَقَدِ
ادَّعَى حِينَ كَانَ مَعَ بَنِي كَلْبٍ بِأَرْضِ السَّمَاوَةِ قَرِيبًا مِنْ
حِمْصَ أَنَّهُ عَلَوِيٌّ ثُمَّ حَسَنِيُّ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ نَبِيٌّ،
فَاتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ جَهَلَتِهِمْ وَسَفِلَتِهِمُ، وَزَعَمَ أَنَّهُ
أُنْزِلَ عَلَيْهِ قُرْآنٌ، فَمِنْ ذَلِكَ: وَالنَّجْمِ السَّيَّارِ، وَالْفَلَكِ
الدَّوَّارِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، إِنَّ الْكَافِرَ لَفِي أَخْطَارٍ، امْضِ
عَلَى سُنَّتِكِ وَاقْفُ أَثَرَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَإِنَّ
اللَّهَ قَامِعٌ بِكَ مَنْ أَلْحَدَ فِي دِينِهِ، وَضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. وَهَذَا
مِنْ خِذْلَانِهِ، وَكَثْرَةِ هَذَيَانِهِ فِي قُرْآنِهِ، وَلَوْ لَزِمَ قَافِيَةَ
مَدْحِهِ، وَالْهِجَاءِ لَكَانَ أَشْعَرَ الشُّعَرَاءِ وَأَفْصَحَ الْفُصَحَاءِ،
وَلَكِنْ أَرَادَ بِجَهْلِهِ وَقِلَّةِ عَقْلِهِ أَنْ يَقُولَ مَا يُشْبِهُ
كَلَامَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنَ
الْأَشْيَاءِ، لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ
وَأَحْوَالِهِ، تَعَالَى اللَّهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ.
وَلَمَّا اشْتَهَرَ خَبَرُهُ بِأَرْضِ السَّمَاوَةِ، وَأَنَّهُ قَدِ الْتَفَّ
عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ، خَرَجَ إِلَيْهِ نَائِبُ حِمْصَ
مِنْ جِهَةِ بَنِي الْإِخْشِيدِ وَهُوَ الْأَمِيرُ لُؤْلُؤٌ - بَيَّضَ اللَّهُ
وَجْهَهُ - فَقَاتَلَهُ وَشَرَّدَ شَمْلَهُ، وَأَسَرَهُ وَسَجَنَهُ دَهْرًا
طَوِيلًا، فَمَرِضَ فِي السِّجْنِ، وَأَشْرَفَ عَلَى التَّلَفِ، فَاسْتَحْضَرَهُ
وَاسْتَتَابَهُ، وَكَتَبَ عَلَيْهِ كِتَابًا اعْتَرَفَ فِيهِ بِبُطْلَانِ
مَا
ادَّعَاهُ، وَأَنَّهُ قَدْ تَابَ مِنْ ذَلِكَ، وَرَجَعَ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ،
وَأَطْلَقَ سَرَاحَهُ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا ذُكِّرَ بِهَذَا يَجْحَدُهُ
إِنْ أَمْكَنَهُ جَحْدُهُ وَإِلَّا اعْتَذَرَ مِنْهُ وَاسْتَحْيَا، وَقَدِ
اشْتُهِرَ بِلَفْظَةٍ تَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ فِيمَا كَانَ ادَّعَاهُ مِنَ
الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَهِيَ لَفْظَةُ " الْمُتَنَبِّي "
الدَّالَّةُ عَلَى الْكَذِبِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ يَهْجُوهُ:
أَيُّ فَضْلٍ لِشَاعِرٍ يَطْلُبُ الْفَضْ لَ مِنَ النَّاسِ بُكْرَةً وَعَشِيَّا
عَاشَ حِينًا يَبِيعُ فِي الْكُوفَةِ الْمَا ءَ وَحِينًا يَبِيعُ مَاءَ
الْمُحَيَّا
وَلِلْمُتَنَبِّي دِيوَانٌ مَشْهُورٌ فِي الشِّعْرِ، فِيهِ أَشْعَارٌ رَائِقَةٌ
وَمَعَانٍ لَيْسَتْ بِمَسْبُوقَةٍ، بَلْ مُبْتَكَرَةٌ سَابِقَةٌ، وَهُوَ فِي
الشُّعَرَاءِ الْمُحْدَثِينَ كَامْرِئِ الْقَيْسِ فِي الشُّعَرَاءِ
الْمُتَقَدِّمِينَ - وَهُوَ عِنْدِي بِخَطِّ يَدِهِ - فِيمَا ذَكَرَ مَنْ لَهُ
خِبْرَةٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، مَعَ تَقَدُّمِ أَمْرِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ "
قِطَعًا رَائِقَةً اسْتَحْسَنَهَا مِنْ دِيوَانِهِ، وَكَذَلِكَ الْحَافِظُ
الْكَبِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ شَيْخُ إِقْلِيمِهِ وَحَافِظُ
زَمَانِهِ.
فَمِمَّا اسْتَمْلَحَهُ أُسْتَاذُ الْوُعَّاظِ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ
الْجَوْزِيِّ قَوْلُ الْمُتَنَبِّي:
عَزِيزُ أَسًى مَنْ دَاؤُهُ الْحَدَقُ النُّجْلُ عَيَاءٌ بِهِ مَاتَ الْمُحِبُّونَ
مِنْ قَبْلُ
فَمَنْ شَاءَ فَلْيَنْظُرْ إِلَيَّ فَمَنْظَرِي نَذِيرٌ إِلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ
الْهَوَى سَهْلُ
جَرَى
حُبُّهَا مَجْرَى دَمِي فِي مَفَاصِلِي فَأَصْبَحَ لِي عَنْ كُلِّ شُغْلٍ بِهَا
شُغْلُ
وَمِنْ جَسَدِي لَمْ يَتْرُكِ السُّقْمُ شَعْرَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا وَفِيهِ
لَهُ فِعْلُ
كَأَنَّ رَقِيبًا مِنْكَ سَدَّ مَسَامِعِي عَنِ الْعَذْلِ حَتَّى لَيْسَ
يَدْخُلُهَا الْعَذْلُ
كَأَنَّ سُهَادَ اللَّيْلِ يَعْشَقُ مُقْلَتِي فَبَيْنَهُمَا فِي كُلِّ هَجْرٍ
لَنَا وَصْلُ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
كَشَفَتْ ثَلَاثَ ذَوَائِبٍ مِنْ شَعْرِهَا فِي لَيْلَةٍ فَأَرَتْ لَيَالِيَ
أَرْبَعَا
وَاسْتَقْبَلَتْ قَمَرَ السَّمَاءِ بِوَجْهِهَا فَأَرَتْنِيَ الْقَمَرَيْنِ فِي
وَقْتٍ مَعَا
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
مَا نَالَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كُلُّهُمْ شِعْرِي وَلَا سَمِعَتْ بِسِحْرِيَ
بَابِلُ
وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ فَهِيَ الشَّهَادَةُ لِي بِأَنِّيَ
فَاضِلُ
مَنْ لِي بِفَهْمِ أُهِيلِ عَصْرٍ يَدَّعِي أَنْ يَحْسُبَ الْهِنْدِيَّ مِنْهُمْ
بَاقِلُ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا عَلَى الْحُرِّ أَنْ يَرَى عَدُوًّا لَهُ مَا مِنْ
صَدَاقَتِهِ بُدُّ
وَقَوْلُهُ:
وَإِذَا
كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الْأَجْسَامُ
وَقَوْلُهُ:
وَمَنْ صَحِبَ الدُّنْيَا طَوِيلًا تَقَلَّبَتْ عَلَى عَيْنِهِ حَتَّى يَرَى
صِدْقَهَا كِذْبَا
وَلَهُ أَيْضًا:
خُذْ مَا تَرَاهُ وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ فِي طَلْعَةِ الشَّمْسِ مَا
يُغْنِيكَ عَنْ زُحَلِ
وَلَهُ فِي مَدْحِ بَعْضِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَمْنَحُ مِنْهُمُ
الْعَطَاءُ:
تَمْضِي الْمَوَاكِبُ وَالْأَبْصَارُ شَاخِصَةٌ مِنْهَا إِلَى الْمَلِكِ
الْمَيْمُونِ طَائِرُهُ
قَدْ حِرْنَ فِي بِشْرٍ فِي تَاجِهِ قَمَرُ فِي دِرْعِهِ أَسَدٌ تَدْمَى
أَظَافِرُهُ
حُلْوٍ خَلَائِقُهُ شُوسٍ حَقَائِقُهُ يُحْصَى الْحَصَى قَبْلَ أَنْ تُحْصَى
مَآثِرُهُ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ:
يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أُحَاذِرُهُ
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسَرُهُ وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ
جَابِرُهُ
وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ
تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ
كَانَ
يُنْكِرُ عَلَى الْمُتَنَبِّي هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا
يَصْلُحُ هَذَا لِجَنَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَخْبَرَنِي الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ
- أَنَّهُ سَمِعَ الشَّيْخَ يَقُولُ: رُبَّمَا قُلْتُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فِي
السُّجُودِ.
وَمِمَّا أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ مِنْ شِعْرِ
الْمُتَنَبِّي فِي تَرْجَمَتِهِ قَوْلُهُ:
وَبِعَيْنِ مُفْتَقِرٍ إِلَيْكَ رَأَيْتَنِي فَهَجَرْتَنِي وَنَزَلْتَ بِي مِنْ
حَالِقِ
لَسْتَ الْمَلُومَ أَنَا الْمَلُومُ لِأَنَّنِي أَنْزَلْتُ حَاجَاتِي بِغَيْرِ
الْخَالِقِ
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ لَيْسَا فِي
دِيوَانِهِ، وَقَدْ عَزَاهُمَا الْحَافِظُ الْكِنْدِيُّ إِلَيْهِ بِسَنَدٍ
صَحِيحٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومٍ فَلَا تَقْنَعْ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
فَطَعْمُ
الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَمَا أَنَا بِالْبَاغِي عَلَى الْحُبِّ رِشْوَةً قَبِيحٌ هَوًى يُرْجَى عَلَيْهِ
ثَوَابُ
إِذَا نِلْتُ مِنْكَ الْوُدَّ فَالْمَالُ هَيِّنٌ وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ
التُّرَابِ تُرَابُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ وُلِدَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وَأَنَّهُ قُتِلَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
قَالَ ابْنَ خَلِّكَانَ: وَقَدْ فَارَقَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ بْنَ حَمْدَانَ سَنَةَ
سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ ; لَمَّا كَانَ مِنَ ابْنِ خَالَوَيْهِ مَا كَانَ مِنْ
ضَرْبِهِ إِيَّاهُ بِمِفْتَاحٍ فِي وَجْهِهِ فَأَدْمَاهُ، فَصَارَ إِلَى مِصْرَ،
فَامْتَدَحَ كَافُورًا الْإِخْشِيدِيَّ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ أَرْبَعَ سِنِينَ،
وَكَانَ الْمُتَنَبِّي يَرْكَبُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ، فَتَوَهَّمَ
مِنْهُ كَافُورٌ فَجْأَةً، فَخَافَ مِنْهُ الْمُتَنَبِّي فَهَرَبَ، فَأَرْسَلَ فِي
إِثْرِهِ فَأَعْجَزَهُ، فَقِيلَ لِكَافُورٍ: مَا قِيمَةُ هَذَا حَتَّى تَتَوَهَّمَ
مِنْهُ ؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا بَعْدَ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَفَلَا يَرُومُ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا
بِدِيَارِ مِصْرَ ؟
ثُمَّ صَارَ الْمُتَنَبِّي إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَامْتَدَحَهُ فَأَعْطَاهُ
مَالًا كَثِيرًا، ثُمَّ رَجَعَ مِنْ عِنْدِهِ، فَعَرَضَ لَهُ فَاتَكُ بْنُ أَبِي
الْجَهْلِ الْأَسَدِيُّ، فَقَتَلَهُ وَابْنَهُ مُحَسَّدًا وَغُلَامَهُ
مُفْلِحًا
يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لَسِتٍّ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ
بَقِيَتَا مِنْ رَمَضَانَ. وَقِيلَ: يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثَمَانٍ - وَقِيلَ:
لِخَمْسٍ - بَقِينَ مِنْهُ. وَذَلِكَ بِسَوَادِ بَغْدَادَ.
وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ، وَقَدْ شَرَحَ دِيوَانَهُ الْعُلَمَاءُ بِالشِّعْرِ
وَاللُّغَةِ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ شَرْحًا وَجِيزًا وَبَسِيطًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ أَيْضًا:
أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ بْنُ حِبَّانَ، صَاحِبُ الصَّحِيحِ.
مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حِبَّانَ بْنِ مُعَاذِ بْنِ مَعْبَدٍ
أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ
صَاحِبُ " الْأَنْوَاعِ وَالتَّقَاسِيمِ "، وَأَحَدُ الْحُفَّاظِ
الْكِبَارِ الْمُصَنِّفِينَ الْمُجْتَهِدِينَ، رَحَلَ إِلَى الْبُلْدَانِ وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ مِنَ الْمَشَايِخِ، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ بَلَدِهِ، وَمَاتَ بِهَا فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُهُمُ الْكَلَامَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ
مُعْتَقَدِهِ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ،
وَهِيَ نَزْعَةٌ فَلْسَفِيَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا عَنْهُ. وَقَدْ
ذَكَرْتُهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
مِقْسَمٍ، أَبُو بَكْرِ بْنُ مِقْسَمٍ
الْعَطَّارُ الْمُقْرِئُ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ،
وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ
الْمَشَايِخِ،
وَرَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ مِنْ أَعْرَفِ النَّاسِ
بِالْقِرَاءَاتِ، وَلَهُ كِتَابٌ فِي النَّحْوِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكُوفِيِّينَ،
سَمَّاهُ كِتَابَ " الْأَنْوَارِ ".
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ، وَلَهُ تَصَانِيفُ أُخْرَى،
وَلَكِنْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ بِسَبَبِ تَفَرُّدِهِ بِقِرَاءَاتٍ لَا تَجُوزُ
عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُخَالِفُ
الرَّسْمَ وَيَسُوغُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ، تَصِحُّ الْقِرَاءَةُ
بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [
يُوسُفُ: 80 ] أَيْ يَتَنَاجَوْنَ، قَالَ: لَوْ قُرِئَ نَجِيبًا مِنَ النَّجَابَةِ
لَكَانَ قَوِيًّا. وَقَدِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ، وَكُتِبَ عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ
قَدْ رَجَعَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَنْتَهِ عَمَّا كَانَ
يَذْهَبُ إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ. قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدُوَيْهِ بْنِ مُوسَى،
أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ
وُلِدَ بِجَبُّلَ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَسَكَنَ
بَغْدَادَ وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا كَثِيرَ الرِّوَايَةِ، سَمِعَ مِنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ يُحَدِّثُ بِفَضَائِلِ
الصَّحَابَةِ حِينَ مَنَعَتِ الدَّيْلَمُ مِنْ ذَلِكَ جَهْرَةً فِي الْجَامِعِ
بِمَدِينَةِ الْمَنْصُورِ مُخَالَفَةً لَهُمْ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْجِدِهِ بِبَابِ
الشَّامِ. وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ بِبَغْدَادَ بِدْعَتَهُمُ
الشَّنْعَاءَ وَفِتْنَتَهُمُ الصَّلْعَاءَ. وَفِيهَا أَخَذَتِ الْقَرَامِطَةُ
الْهَجَرِيُّونَ عُمَانَ.
وَفِيهَا قَصَدَتِ الرُّومُ آمِدَ فَحَاصَرُوهَا، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا،
وَلَكِنْ قَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَأَسَرُوا مِنْهُمْ
أَرْبَعَمِائَةٍ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى نَصِيبِينَ وَفِيهَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ،
فَهَمَّ بِالْهَرَبِ مَعَ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَأَخَّرَ مَجِيءُ الرُّومِ، فَثَبَتَ
مَكَانَهُ، وَقَدْ كَادُوا يُزِيلُونَ أَرْكَانَهُ.
وَفِيهَا وَرَدَتْ طَائِفَةٌ مِنْ جَيْشِ خُرَاسَانَ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا،
يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ غَزْوَ الرُّومِ، فَأَكْرَمَهُمْ رُكْنُ
الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ، وَأَمِنُوا إِلَيْهِمْ، فَنَهَضُوا إِلَيْهِمْ،
لِيَأْخُذُوا الدَّيْلَمَ عَلَى غِرَّةٍ، فَقَاتَلَهُمْ رُكْنُ الدَّوْلَةِ،
فَظَفِرَ بِهِمْ - لِأَنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعَةٌ - وَهَرَبَ أَكْثَرُهُمْ.
وَفِيهَا خَرَجَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى وَاسِطٍ لِقِتَالِ
عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ حِينَ تَفَاقَمَ الْحَالُ بِأَمْرِهِ، وَاشْتَهَرَ فِي
تِلْكَ النَّوَاحِي صِيتُ ذِكْرِهِ، فَقَوِيَ الْمَرَضُ بِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ،
فَاسْتَنَابَ عَلَى الْحَرْبِ، وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ فَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
السَّنَةِ الْآتِيَةِ
كَمًّا
سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا قَوِيَ أَمْرُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّاعِي بِبِلَادِ
الدَّيْلَمِ، وَأَظْهَرَ النُّسُكَ وَالْعِبَادَةَ، وَلَبِسَ الصُّوفَ، وَكَتَبَ
إِلَى الْآفَاقِ - حَتَّى إِلَى بَغْدَادَ - يَدْعُو إِلَى الْجِهَادِ.
وَفِيهَا تَمَّ الْفِدَاءُ بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ الرُّومِ،
فَاسْتَنْقَذَ مِنْهُمْ أُسَارَى كَثِيرَةً، مِنْهُمُ ابْنُ عَمِّهِ أَبُو فِرَاسِ
بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ حِصْنٍ الْقَاضِيَ،
وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ نُودِيَ بِرَفْعِ الْمَوَارِيثِ الْحَشْرِيَّةِ، وَأَنْ
تُرَدَّ إِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَفِيهَا ابْتَدَأَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ فِي بِنَاءِ مَارَسْتَانٍ،
وَأَرْصَدَ لَهُ أَوْقَافًا جَزِيلَةً.
وَفِيهَا قَطَعَتْ بَنُو سُلَيْمٍ السَّابِلَةَ عَلَى الْحَجِيجِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ
وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ عِشْرِينَ أَلْفَ بَعِيرٍ
بِأَحْمَالِهَا، وَكَانَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ مَا لَا
يُقَوَّمُ كَثْرَةً، وَكَانَ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْخَوَاتِيمِيِّ،
قَاضِي طَرَسُوسَ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ عَيْنًا،
وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّحَوُّلَ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ
بَعْدَ الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَحِينَ أُخِذَتِ
الْجِمَالُ تَرَكُوهُمْ عَلَى بَرْدِ الدِّيَارِ لَا شَيْءَ لَهُمْ، فَقَلَّ
مِنْهُمْ مَنْ سَلِمَ، وَمَا أَكْثَرَ مَنْ عَطِبَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ نَقِيبُ
الطَّالِبِيِّينَ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ دُوَادَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ
بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْعَلَوِيُّ الْحَسَنِيُّ
قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ: كَانَ شَيْخَ آلِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَصْرِهِ بِخُرَاسَانَ،
وَسَيِّدَ الْعَلَوِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ صَلَاةً
وَصَدَقَةً وَمَحَبَّةً لِلصَّحَابَةِ، وَصَحِبْتُهُ مُدَّةً، فَمَا سَمِعْتُهُ
ذَكَرَ عُثْمَانَ إِلَّا قَالَ: الشَّهِيدُ، وَبَكَى، وَمَا سَمِعْتُهُ ذَكَرَ
عَائِشَةَ إِلَّا قَالَ: الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، حَبِيبَةُ حَبِيبِ
اللَّهِ، وَبَكَى.
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَطَبَقَتِهِ، وَكَانَ آبَاؤُهُ
بِخُرَاسَانَ وَفِي سَائِرِ بُلْدَانِهِمْ سَادَاتٍ نُجَبَاءَ، حَيْثُ كَانُوا
مِنْ آلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمْ،
لَهُمْ دَانَتْ رِقَابُ بَنِي مَعَدٍّ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ
حَسَّانِ بْنِ الْوَضَّاحِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْبَارِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ بِالْوَضَّاحِيِّ، كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنَ الْمَحَامِلِيِّ وَابْنِ مَخْلَدٍ وَأَبِي رَوْقٍ، وَرَوَى عَنْهُ
الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ، وَكَانَ أَشْعَرَ مَنْ
فِي وَقْتِهِ.
وَمِنْ شَعْرِهِ:
سَقَى
اللَّهُ بَابَ الْكَرْخِ رَبْعًا وَمَنْزِلًا وَمَنْ حَلَّهُ صَوْبَ السَّحَابِ
الْمُجَلْجِلِ فَلَوْ أَنَّ بَاكِي دِمْنَةِ الدَّارِ بِاللِّوَى
وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ رَأَى عَرَصَاتِ الْكَرْخِ أَوْ حَلَّ
أَرْضَهَا
لَأَمْسَكَ عَنْ ذِكْرِ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْجَعَّابِيِّ: مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
سَلْمِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ سَبْرَةَ بْنِ سَيَّارٍ، أَبُو بَكْرِ بْنُ الْجَعَّابِيِّ
قَاضِي الْمَوْصِلِ وُلِدَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ
وَمِائَتَيْنِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَتَخَرَّجَ بِأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ
عُقْدَةَ، وَأَخَذَ عَنْهُ عِلْمَ الْحَدِيثِ وَشَيْئًا مِنَ التَّشَيُّعِ
أَيْضًا، وَكَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا مُطَبِّقًا، يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ
أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ بِأَسَانِيدِهَا وَمُتُونِهَا، وَيُذَاكِرُ
بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، وَيَحْفَظُ مِنَ الْمَرَاسِيلِ وَالْمَقَاطِيعِ
وَالْحِكَايَاتِ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، وَيَحْفَظُ أَسْمَاءَ الرِّجَالِ
وَجَرْحَهُمْ وَتَعْدِيلَهُمْ وَأَوْقَاتَ وَفَيَاتِهِمْ وَمَذَاهِبَهُمْ، حَتَّى
تَقَدَّمَ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ، وَفَاقَ سَائِرَ أَقْرَانِهِ.
وَكَانَ يَجْلِسُ لِلْإِمْلَاءِ فَيَزْدَحِمُ النَّاسُ عِنْدَ مَنْزِلِهِ،
وَإِنَّمَا كَانَ يُمْلِي مِنْ حَفِظَهُ
إِسْنَادَ
الْحَدِيثِ وَمَتْنَهُ مُحَرَّرًا جَيِّدًا صَحِيحًا. وَقَدْ نُسِبَ إِلَى
التَّشَيُّعِ كَأُسْتَاذِهِ ابْنِ عُقْدَةَ، وَكَانَ يَسْكُنُ بَابَ الْبَصْرَةِ
عِنْدَهُمْ.
وَقَدْ سُئِلَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ، فَقَالَ: خَلَّطَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ: كَانَ صَاحِبَ غَرَائِبَ، وَمَذْهَبُهُ
مَعْرُوفٌ فِي التَّشَيُّعِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ قِلَّةُ دِينٍ وَشُرْبُ خَمْرٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا احْتُضِرَ أَوْصَى أَنْ تُحْرَقَ كُتُبُهُ فَحُرِقَتْ، وَحُرِقَ مَعَهَا
كُتُبٌ كَثِيرَةٌ مِنَ النَّاسِ كَانَتْ عِنْدَهُ. فَبِئْسَ مَا عَمِلَ. وَحِينَ
أَخْرَجَ جِنَازَتَهُ كَانَتْ سُكَيْنَةُ نَائِحَةُ الرَّافِضَةِ تَنَوحُ عَلَيْهِ
فِي جِنَازَتِهِ.
تَرْجَمَةُ النِّقْفُورِ مِلْكِ الْأَرْمَنِ، وَاسْمُهُ الدُّمُسْتُقُ
الَّذِي تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ - وَقِيلَ: سِتٍّ - وَخَمْسِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ. لَا رَحِمَهُ اللَّهُ.
كَانَ
هَذَا الْمَلْعُونُ مِنْ أَغْلَظِ الْمُلُوكِ قَلْبًا، وَأَشَدِّهِمْ كُفْرًا،
وَأَقْوَاهُمْ بَأْسًا، وَأَحَدِّهِمْ شَوْكَةً، وَأَكْثَرِهِمْ قِتَالًا
لِلْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِهِ، اسْتَحْوَذَ فِي أَيَّامِهِ - لَعَنَهُ اللَّهُ -
عَلَى كَثِيرٍ مِنَ السَّوَاحِلِ، أَوْ أَكْثَرِهَا، وَانْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِي
الْمُسْلِمِينَ قَسْرًا، وَاسْتَمَرَّتْ فِي يَدِهِ قَهْرًا، وَأُضِيفَتْ إِلَى
مَمْلَكَةِ الرُّومِ قَدَرًا، وَذَلِكَ لِتَقْصِيرِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ،
وَظُهُورِ الْبِدَعِ الشَّنِيعَةِ فِيهِمْ وَكَثْرَةِ الْعِصْيَانِ.
وَقَدْ وَرَدَ حَلَبَ فِي مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ بَغْتَةً فِي سَنَةِ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ، وَجَالَ فِيهَا جَوْلَةً، فَفَرَّ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ صَاحِبُهَا
سَيْفُ الدَّوْلَةِ، فَفَتَحَهَا اللَّعِينُ عَنْوَةً، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا
مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَخَرَّبَ دَارَ
سَيْفِ الدَّوْلَةِ الَّتِي كَانَتْ ظَاهِرَ حَلَبَ وَأَخَذَ أَمْوَالَهَا
وَحَوَاصِلَهَا وَعُدَدَهَا، وَبَدَّدَ شَمْلَهَا، وَفَرَّقَ عَدَدَهَا،
وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ الْمَلْعُونِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ. وَبَالَغَ فِي الِاجْتِهَادِ فِي قِتَالِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ،
وَجَدَّ فِي التَّشْمِيرِ، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.
وَقَدْ كَانَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - لَا يَدْخُلُ فِي بَلْدَةٍ إِلَّا قَتَلَ
الْمُقَاتِلَةَ وَبَقِيَّةَ الرِّجَالِ، وَسَبَى النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ،
وَجَعَلَ جَامِعَهَا إِصْطَبْلًا لِخُيُولِهِ، وَكَسَرَ مِنْبَرَهَا، وَأَسْكَتَ
مُؤَذِّنِيهَا بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ وَطُبُولِهِ. وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مِنْ
دَأْبِهِ وَدَيْدَنِهِ حَتَّى سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ
زَوْجَتَهُ،
فَقَتَلَتْهُ بِجَوَارِيهَا فِي وَسَطِ مَسْكَنِهِ، وَأَرَاحَ اللَّهُ مِنْهُ
الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَأَزَاحَ عَنْهُمْ قَتَامَ ذَلِكَ الْغَمَامِ، وَمَزَّقَ
شَمْلَهُ، فَلِلَّهِ النِّعْمَةُ وَالْإِفْضَالُ، وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ
حَالٍ.
وَاتَّفَقَ فِي سَنَةِ وَفَاتِهِ مَوْتُ صَاحِبِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
فَتَكَامَلَتِ الْمَسَرَّاتُ، وَحَصَلَتِ الْأُمْنِيَّةُ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ وَتَذْهَبُ السَّيِّئَاتُ،
وَبِرَحْمَتِهِ تُغْفَرُ الزَّلَّاتُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا اللَّعِينَ - أَعْنِي النِّقْفُورَ الْمُلَقَّبَ
بِالدُّمُسْتُقِ مَلِكَ الْأَرْمَنِ - كَانَ قَدْ أَرْسَلَ قَصِيدَةً إِلَى
الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ نَظَمَهَا لَهُ بَعْضُ كُتَّابِهِ - مِمَّنْ
كَانَ قَدْ خَذَلَهُ اللَّهُ وَأَذَلَّهُ، وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ،
وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً، وَصَرَفَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَأَصْلِهِ -
يَفْتَخِرُ فِيهَا لِهَذَا اللَّعِينِ، وَيَتَعَرَّضُ لِسَبِّ الْإِسْلَامِ
وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَتَوَعَّدُ فِيهَا أَهْلَ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ
سَيَمْلِكُهَا كُلَّهَا حَتَّى الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، عَمَّا قَرِيبٍ مِنَ
الْأَعْوَامِ، وَهُوَ أَقَلُّ وَأَذَلُّ وَأَخَسُّ وَأَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ،
وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْتَصِرُ لِدِينِ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ابْنِ
الْبَتُولِ. وَرُبَّمَا يُعَرِّضُ فِيهَا بِجَنَابِ الرَّسُولِ، عَلَيْهِ مِنْ
رَبِّهِ التَّحِيَّةُ وَالْإِكْرَامُ وَدَوَامُ الصَّلَاةِ مَدَى الْأَيَّامِ،
وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ أَنَّهُ رَدَّ
عَلَيْهِ جَوَابَهُ، رُبَّمَا أَنَّهَا لَمْ تَشْتَهِرْ، أَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْا
أَنَّهُ
أَقَلُّ
مِنْ أَنْ يَرُدُّوا خِطَابَهُ ; لِأَنَّهُ كَالْمُعَانِدِ الْجَاحِدِ، وَنَفَسُ
نَاظِمِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ شَيْطَانٌ مَارِدٌ. وَقَدِ انْتَخَى لِلْجَوَابِ
عَنْهَا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ،
فَأَفَادَ وَأَجَادَ، وَأَجَابَ عَنْ كُلِّ فَصْلٍ بَاطِلٍ بِالصَّوَابِ
وَالسَّدَادِ، فَبَلَّ اللَّهُ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ، وَجَعَلَ الْجَنَّةَ
مُنْقَلَبَهُ وَمَثْوَاهُ.
وَهَا أَنَا أَذْكُرُ الْقَصِيدَةَ الْأَرْمَنِيَّةَ الْمَخْذُولَةَ
الْمَلْعُونَةَ، وَأُتْبِعُهَا بِالْفَرِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمَنْصُورَةِ
الْمَيْمُونَةِ.
قَالَ الْمُرْتَدُّ الْكَافِرُ الْأَرْمَنِيُّ عَلَى لِسَانِ مَلِكِهِ،
لَعَنَهُمَا اللَّهُ وَأَهْلَ مِلَّتِهِمْ أَجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ أَبْتَعِينَ
أَبْصَعِينَ، آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَمِنْ خَطِّ ابْنِ عَسَاكِرَ
كَتَبْتُهَا، وَقَدْ نَقَلُوهَا مِنْ كِتَابِ " صِلَةِ الصِّلَةِ "
لِلْفَرْغَانِيِّ:
مِنَ الْمَلِكِ الطُّهْرِ الْمَسِيحِيِّ مَالِكٍ إِلَى خَلَفِ الْأَمْلَاكِ مِنْ
آلِ هَاشِمِ إِلَى الْمَلِكِ الْفَضْلِ الْمُطِيعِ أَخِي الْعُلَا
وَمَنْ يُرْتَجَى لِلْمُعْضِلَاتِ الْعَظَائِمِ أَمَا سَمِعَتْ أُذْنَاكَ مَا
أَنَا صَانِعٌ
بَلَى فَدَهَاكَ الْوَهْنُ عَنْ فِعْلِ حَازِمِ
فَإِنْ
تَكُ عَمَّا قَدْ تَقَلَّدْتَ نَائِمًا
فَإِنِّيَ عَمَّا هَمَّنِي غَيْرُ نَائِمِ ثُغُورُكُمُ لَمْ يَبْقَ فِيهَا
لِوَهْنِكُمْ
وَضَعْفِكُمُ إِلَّا رُسُومُ الْمَعَالِمِ فَتَحْنَا الثُّغُورَ الْأَرْمَنِيَّةَ
كُلَّهَا
بِفِتْيَانِ صِدْقٍ كَاللُّيُوثِ الضَّرَاغِمِ وَنَحْنُ جَلَبْنَا الْخَيْلَ
تَعْلُكُ لُجْمَهَا
وَيَبْلُغُ مِنْهَا قَضْمُهَا لِلشَّكَائِمِ إِلَى كُلِّ ثَغْرٍ بِالْجَزِيرَةِ
آهِلٍ
إِلَى جُنْدِ قِنَّسْرِينِكُمْ فَالْعَوَاصِمِ مَلَطْيَهْ مَعَ سْمَيْسَاطَ مِنْ
بَعْدِ كَرْكَرٍ
وَفِي الْبَحْرِ أَضْعَافُ الْفُتُوحِ التَّوَاخِمِ وَبِالْحَدَثِ الْحَمْرَاءِ
جَالَتْ عَسَاكِرِي
وَكَيْسُومَ بَعْدَ الْجَعْفَرِيِّ الْمَعَالِمِ وَكَمْ قَدْ ذَلَلْنَا مِنْ
أَعِزَّةِ أَهْلِهَا
فَصَارُوا لَنَا مِنْ بَيْنِ عَبْدٍ وَخَادِمِ وَسَدِّ سَرُوجٍ إِذْ خَرَبْنَا
بِجَمْعِنَا
لِمِئْذَنَةٍ تَعْلُو عَلَى كُلِّ قَائِمِ وَأَهْلُ الرُّهَا لَاذُوا بِنَا
وَتَحَزَّمُوا
بِمِنْدِيلِ مَوْلًى جَلَّ عَنْ وَصْفِ آدَمِ وَصَبَّحَ رَأْسَ الْعَيْنِ مِنَّا
بَطَارِقٌ
بِبَيْضٍ غَذَوْنَاهَا بِضَرْبِ الْجَمَاجِمِ وَدَارَا وَمَيَّافَارِقِينَ
وَأَرْزَنَا
صَبَحْنَاهُمُ بِالْخَيْلِ مِثْلِ الضَّرَاغِمِ وَأَقْرِيطِشٌ جَرَتْ إِلَيْهَا
مَرَاكِبِي
عَلَى ظَهْرِ بِحَرٍ مُزْبِدٍ مُتَلَاطِمِ
فَحُزْتُهُمُ
أَسْرَى وَسِيقَتْ نِسَاؤُهُمْ
ذَوَاتُ الشُّعُورِ الْمُسْبِلَاتِ الْفَوَاحِمِ هُنَاكَ فَتَحْنَا عَيْنَ
زَرْبَةَ عَنْوَةً
نَعَمْ وَأَبَدْنَا كُلَّ طَاغٍ وَظَالِمِ إِلَى حَلَبٍ حَتَّى اسْتَبَحْنَا
حَرِيمَهَا
وَهَدَّمَ مِنْهَا سُورَهَا كُلُّ هَادِمِ أَخَذْنَا النِّسَا ثُمَّ الْبَنَاتِ
نَسُوقُهُمْ
وَصِبْيَانَهُمْ مِثْلَ الْمَمَالِيكِ خَادِمِ وَقَدْ فَرَّ عَنْهَا سَيْفُ دَوْلَةِ
دِينِكُمْ
وَنَاصِرُهَا مِنَّا عَلَى رَغْمِ رَاغِمِ وَمِلْنَا عَلَى طَرَسُوسَ مَيْلَةَ
هَائِلٍ
أَذَقْنَا لِمَنْ فِيهَا لِحَزِّ الْحَلَاقِمِ فَكَمْ ذَاتِ عِزٍّ حُرَّةٍ
عَلَوِيَّةٍ
مُنَعَّمَةِ الْأَطْرَافِ رَيَّا الْمَعَاصِمِ سَبَيْنَا فَسُقْنَا خَاضِعَاتٍ
حَوَاسِرًا
بِغَيْرِ مُهُورٍ لَا وَلَا حُكْمِ حَاكِمِ وَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ قَدْ تَرَكْنَا
مُجَدَّلًا
يَصُبُّ دَمًا بَيْنَ اللَّهَا وَاللَّهَازِمِ وَكَمْ وَقْعَةٍ فِي الدَّرْبِ
أَفْنَتْ كُمَاتَكُمْ
وَسُقْنَاهُمُ قَسْرًا كَسَوْقِ الْبَهَائِمِ وَمِلْنَا عَلَى أَرْتَاحِكُمْ
وَحَرِيمُهَا
مُدَوَّخَةٌ تَحْتَ الْعَجَاجِ السَّوَاهِمِ فَأَهْوَتْ أَعَالِيهَا وَبُدِّلَ
رَسْمُهَا
مِنَ الْأُنْسِ وَحْشًا بَعْدَ بِيضٍ نَوَاعِمِ إِذَا صَاحَ فِيهَا الْبُومُ
جَاوَبَهُ الصَّدَى
وَأَتْبَعَهُ فِي الرَّبْعِ نَوْحُ الْحَمَائِمِ وَأَنْطَاكُ لَمْ تَبْعُدْ
عَلَيَّ وَإِنَّنِي
سَأَفْتَحُهَا يَوْمًا بِهَتْكِ الْمَحَارِمِ وَمَسْكَنُ آبَائِي دِمَشْقُ
فَإِنَّنِي
سَأُرْجِعُ فِيهَا مُلْكَنَا تَحْتَ خَاتَمِي
وَمِصْرُ
سَأَفْتَحْهَا بِسَيْفِيَ عَنْوَةً
وَآخُذُ أَمْوَالًا بِهَا لِبَهَائِمِي وَأَجْزِيَ كَافُورًا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ
بِمُشْطٍ وَمِقْرَاضٍ وَمَصِّ مَحَاجِمِ أَلَا شَمِّرُوا يَا أَهْلَ حَرَّانَ
شَمِّرُوا
أَتَتْكُمْ جُيُوشُ الرُّومِ مَثْلَ الْغَمَائِمِ فَإِنْ تَهْرُبُوا تَنْجُوا
كِرَامًا وَتَسْلَمُوا
مِنَ الْمَلِكِ الضَّارِي بِقَتْلِ الْمُسَالِمِ هُنَاكَ نَصِيبِينٌ وَمَوْصِلُهَا
إِلَى
جَزِيرَةِ آبَائِي وَمُلْكِ الْأَقَادِمِ سَأَفْتَحُ سَامَرَّا وَكُوثَى
وَعُكْبَرَا
وَتَكْرِيتَهَا مَعْ مَارِدِينَ الْعَوَاصِمِ وَأَقْتُلُ أَهْلِيهَا الرِّجَالَ
بِأَسْرِهِمْ
وَأَغْنَمُ أَمْوَالًا بِهَا لِكَتَايِمِ أَلَا شَمِّرُوا يَا أَهْلَ بَغْدَادَ
وَيْلَكُمْ
فَكُلُّكُمُ مُسْتَضْعَفٌ غَيْرُ رَائِمِ رَضِيتُمْ بِحُكْمِ الدَّيْلَمِيِّ
خَلِيفَةً
فَصِرْتُمْ عَبِيدًا لِلْعَبِيدِ الدَّيَالِمِ وَيَا قَاطِنِي الرَّمْلَاتِ
وَيْلَكُمُ ارْجِعُوا
إِلَى أَرْضِ صَنْعَاءَ وَأَرْضِ التَّهَائِمِ وَعُودُوا إِلَى أَرْضِ الْحِجَازِ
أَذِلَّةً
وَخَلُّوا بِلَادَ الرُّومِ أَهْلِ الْمَكَارِمِ سَأُلْقِي جُيُوشِي نَحْوَ
بَغْدَادَ سَائِرًا
إِلَى بَابِ طَاقٍ حَيْثُ دَارُ الْقَمَاقِمِ وَأَحْرِقُ أَعْلَاهَا وَأَهْدِمُ
سُورَهَا
وَأَسْبِي ذَرَارِيهَا عَلَى رَغْمِ رَاغِمِ وَأُحْرِزُ أَمْوَالًا بِهَا
وَأَسِرَّةً
وَأَقْتُلُ مَنْ فِيهَا بِسَيْفِ النَّقَائِمِ وَأَسْرِي بِجَيْشِي نَحْوَ
الَاهْوَازِ مُسْرِعًا
لِإِحْرَازِ دِيبَاجٍ وَخَزِّ السَّوَاسِمِ
وَأُشْعِلُهَا
نَهْبًا وَأُخَرِبْ قُصُورَهَا
وَأَسْبِي ذَرَارِيهَا كَفِعْلِ الْأَقَادِمِ وَمِنْهَا إِلَى شِيرَازَ وَالرَّيِّ
فَاعْلَمُوا
خُرَاسَانُ قَصْدِي وَالْجُيُوشُ لِخَادِمِ إِلَى شَاسِ بَلْخٍ بَعْدَهَا
وَخَوَاتِهَا
وَفَرْغَانَةٍ مَعْ مَرْوِهَا وَالْمَخَازِمِ فَسَابُورُ أُخْرِبُهَا وَأَهْدِمُ
حِصْنَهَا
وَأُورِدُهَا يَوْمًا كَيَوْمِ الْمَسَارِمِ إِلَى السُّوسِ أَقْصَاهَا أُدَمِّرُ
مُلْكَهَا
إِلَى أَصْبَهَانَ الْأَرْضِ شَرْقَ الْأَعَاجِمِ وَكَرْمَانُ لَا أَنْسَى
سِجِسْتَانَ كُلَّهَا
وَكَابُلَهَا الثَّانِي وَمُلْكَ الْأَعَاجِمِ مِنَ الْمَشْرِقِ الْأَقْصَى إِلَى
الْمَغْرِبِ انْثَنَى
إِلَى قَيْرَوَانِ الْأَرْضِ عُرْبِ الْكَتَائِمِ أَسِيرُ بِجُنْدِي نَحْوَ
بَصْرَتِهَا الَّتِي
لَهَا بَحُرُ عَاجٍ رَائِعٍ مُتَلَازِمِ إِلَى وَاسِطٍ وَسْطَ الْعِرَاقِ
وَكُوفَةٍ
بِمَا كَانَ يَوْمًا جَدُّنَا ذُو الْعَزَائِمِ وَأُسْرِعُ مِنْهَا نَحْوَ مَكَّةَ
سَائِرًا
أَجُرُّ جُيُوشًا كَاللَّيَالِي السَّوَاجِمِ فَأَمْلِكُهَا دَهْرًا عَزِيزًا
مُسَلَّمًا
أُقِيمُ بِهَا لِلْحَقِّ كُرْسِيَّ عَالِمِ وَأَحْوِيَ نَجْدًا كُلَّهَا
وَتِهَامَهَا
وَسَرْوَاتِهَا مِنْ مَذْحِجٍ وَقَحَاطِمِ وَأَغْزُو يَمَانًا كُلَّهَا
وَزَبِيدَهَا
وَصَنْعَاءَهَا مَعْ صَعْدَةٍ وَالتَّهَائِمِ إِلَى حَضْرَمَوْتٍ سَهْلِهَا
وَجِبَالِهَا
إِلَى هَجَرٍ أَحْسَائِهَا وَالتَّهَائِمِ
.
فَأَتْرُكُهَا أَيْضًا يَبَابًا بَلَاقِعًا
خَلَاءً مِنَ الْأَهْلِينَ أَرْضَ نَعَائِمِ وَأَحْوِيَ أَمْوَالَ الْيَمَانِينَ
كُلَّهَا
وَمَا جَمَعَ الْقِرْمَاطُ يَوْمَ مَحَارِمِ أَعُودُ إِلَى الْقُدْسِ الَّتِي
شَرُفَتْ لَنَا
بِعِزٍّ مَكِينٍ ثَابِتِ الْأَصْلِ قَائِمِ وَأَعْلُو سَرِيرِي لِلسُّجُودِ
فَيَشْتَفِي
مُلُوكُ بَنِيَ حَوَّا بِحَمْلِ الدَّرَاهِمِ هُنَالِكَ تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ
كُلِّ مُسْلِمٍ
لِكُلِّ نَقِيِّ الدِّينِ أَغْلَفَ نَاعِمِ نُصِرْنَا عَلَيْكُمْ حِينَ جَارَ
وُلَاتُكُمْ
وَأَعْلَنْتُمُ بِالْمُنْكَرَاتِ الْعَظَائِمِ قُضَاتُكُمُ بَاعُوا الْقَضَاءَ
بِدِينِهِمْ
كَبَيْعِ ابْنِ يَعْقُوبَ بِبَخْسِ الدَّرَاهِمِ عُدُولُكُمُ بِالزُّورِ يَشْهَدُ
كُلُّهُمْ
وَبِالْبُرِّ وَالْبِرْطِيلِ مَعْ كُلِّ قَائِمِ سَأَفْتَحُ أَرْضَ اللَّهِ
شَرْقًا وَمَغْرِبًا
وَأَنْشُرُ دِينَ الصَّلْبِ نَشْرَ الْعَمَائِمِ فَعِيسَى عَلَا فَوْقَ
السَّمَاوَاتِ عَرْشُهُ
فَفَازَ الَّذِي وَالَاهُ يَوْمَ الْخَصَائِمِ وَصَاحِبُكُمْ فِي التُّرْبِ
أَوْدَى بِهِ الثَّرَى
فَصَارَ رُفَاتًا بَيْنَ تِلْكَ الرَّمَائِمِ تَنَاوَلْتُمُ أَصْحَابَهُ بَعْدَ
مَوْتِهِ
بِسَبٍّ وَقَذْفٍ وَانْتِهَاكِ مَحَارِمِ
هَذَا آخِرُهَا، لَعَنَ اللَّهُ نَاظِمَهَا وَأَسْكَنَهُ النَّارَ يَوْمَ لَا
يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ
الدَّارِ [ غَافِرٍ: 52 ] يَوْمَ يَدْعُو نَاظِمُهَا ثُبُورًا، وَيَصْلَى
سَعِيرًا، وَيُبَاشِرُ ذُلًّا طَوِيلًا وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى
يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا
وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ
الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا.
وَهَذَا
جَوَابُهَا لِأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ الْفَقِيهِ الظَّاهِرِيِّ
الْأَنْدَلُسِيِّ، قَالَهَا ارْتِجَالًا حِينَ بَلَغَتْهُ هَذِهِ الْمَلْعُونَةُ ;
غَضَبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، كَمَا شَاهَدَهُ مَنْ رَآهُ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَغَفَرَ لَهُ زَلَلَهُ وَخَطَايَاهُ:
مِنَ الْمُحْتَمِي بِاللَّهِ رَبِّ الْعَوَالِمِ وَدِينِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ آلِ
هَاشِمِ
مُحَمَّدٍ الْهَادِي إِلَى اللَّهِ بِالتُّقَى وَبِالرُّشْدِ وَالْإِسْلَامِ
أَفْضَلِ قَائِمِ
عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ السَّلَامُ مُرَدَّدًا إِلَى أَنْ يُوَافِي الْبَعْثَ كُلُّ
الْعَوَالِمِ
إِلَى قَائِلٍ بِالْإِفْكِ جَهْلًا وَضِلَّةً عَنِ النِّقْفُورِ الْمُفْتَرِي فِي
الْأَعَاجِمِ
دَعَوْتَ إِمَامًا لَيْسَ مِنْ أَمْرِ آلِهِ بِكَفَّيْهِ إِلَّا كَالرُّسُومِ
الطَّوَاسِمِ
دَهَتْهُ الدَّوَاهِي فِي خِلَافَتِهِ كَمَا دَهَتْ قَبْلَهُ الْأَمْلَاكَ دُهْمُ
الدَّوَاهِمِ
وَلَا عَجَبٌ مِنْ نَكْبَةٍ أَوْ مُلِمَّةٍ تُصِيبُ الْكَرِيمَ الْحُرَّ وَابْنَ
الْأَكَارِمِ
وَلَوْ أَنَّهُ فِي حَالِ مَاضِي جُدُودِهِ لَجُرِّعْتُمُ مِنْهُ سُمُومَ
الْأَرَاقِمِ
عَسَى عَطْفَةٌ لِلَّهِ فِي أَهْلِ دِينِهِ تُجَدِّدُ مِنْهُمْ دَارِسَاتِ
الْمَعَالِمِ
فَخَرْتُمْ بِمَا لَوْ كَانَ فَهْمٌ يُرِيكُمُ حَقَائِقَ حُكْمِ اللَّهِ أَحْكَمِ
حَاكِمِ
إِذَنْ لَعَرَتْكُمْ خَجْلَةٌ عِنْدَ ذِكْرِهِ وَأُخْرِسَ مِنْكُمْ كُلُّ فَاهٍ
مُخَاصِمِ
سَلَبْنَاكُمُ
كَرًّا فَفُزْتُمْ بِغِرَّةٍ مِنَ الْكَرِّ أَفْعَالَ الضِّعَافِ الْعَزَائِمِ
فَطِرْتُمْ سُرُورًا عِنْدَ ذَاكَ وَنَخْوَةً كَفِعْلِ الْمَهِينِ النَّاقِصِ
الْمُتَعَاظِمِ
وَمَا ذَاكَ إِلَّا فِي تَضَاعِيفِ غَفْلَةٍ عَرَتْنَا وَصَرْفُ الدَّهْرِ جَمُّ
الْمَلَاحِمِ
وَلَمَّا تَنَازَعْنَا الْأُمُورَ تَخَاذُلًا وَدَالَتْ لِأَهْلِ الْجَهْلِ
دَوْلَةُ ظَالِمِ
وَقَدْ شَغَلَتْ فِينَا الْخَلَائِفَ فِتْنَةٌ لِعُبْدَانِهِمْ مِنْ تُرْكِهِمْ
وَالدَّيَالِمِ
بِكُفْرِ أَيَادِيهِمْ وَجَحْدِ حُقُوقِهِمْ بِمَنْ رَفَعُوهُ مِنْ حَضِيضِ
الْبَهَائِمِ
وَثَبْتُمْ عَلَى أَطْرَافِنَا عِنْدَ ذَاكُمُ وُثُوبَ لُصُوصٍ عِنْدَ غَفْلَةِ
نَائِمِ
أَلَمْ نَنْتَزِعْ مِنْكُمْ بِأَيْدٍ وَقُوَّةٍ جَمِيعَ بِلَادِ الشَّامِ ضَرْبَةَ
لَازِمِ
وَمِصْرَ وَأَرْضَ الْقَيْرَوَانِ بِأَسْرِهَا وَأَنْدَلُسًا قَسْرًا بِضَرْبِ
الْجَمَاجِمِ
أَلَمْ تَنْتَصِفُ مِنْكُمْ عَلَى ضَعْفِ حَالِهَا صِقِلِّيَّةٌ فِي بَحْرِهَا
الْمُتَلَاطِمِ
. أَحَلَّتْ بِقُسْطَنْطِينَةٍ كُلُّ نَكْبَةٍ وَسَامَتْكُمُ سُوءَ الْعَذَابِ
الْمُلَازِمِ
مَشَاهِدُ تَقْدِيسَاتِكُمْ وَبُيُوتُهَا لَنَا وَبِأَيْدِينَا عَلَى رَغْمِ
رَاغِمِ
أَمَا بَيْتُ لَحْمٍ وَالْقُمَامَةُ بَعْدَهَا بِأَيْدِي رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ
الْأَعَاظِمِ
وَكُرْسِيُّكُمْ فِي أَرْضِ إِسْكَنْدَرِيَّةٍ وَكُرْسِيُّكُمْ فِي الْقُدْسِ فِي
أُورَشَالِمِ
ضَمَمْنَاهُمُ
قَسْرًا بِرَغْمِ أُنُوفِكُمْ كَمَا ضَمَّتِ السَّاقَيْنِ سُودُ الْأَدَاهِمِ
وَكُرْسِيُّ أَنْطَاكِيَّةٍ كَانَ بُرْهَةً وَدَهْرًا بِأَيْدِينَا بَذُلِّ
الْمَلَاغِمِ
فَلَيْسَ سِوَى كُرْسِيِّ رُومَةَ فِيكُمُ وَكُرْسِيِّ قُسْطَنْطِينَةٍ فِي
الْمَقَادِمِ
وَلَا بُدَّ مِنْ عَوْدِ الْجَمِيعِ بِأَسْرِهِ إِلَيْنَا بِعِزٍّ قَاهِرٍ
مُتَعَاظِمِ
أَلَيْسَ يَزِيدٌ حَلَّ وَسْطَ دِيَارِكُمْ عَلَى بَابِ قُسْطَنْطِينَةٍ
بِالصَّوَارِمِ
وَمَسْلَمَةٌ قَدْ دَاسَهَا بَعْدَ ذَاكُمُ بِجَيْشٍ لُهَامٍ كَاللُّيُوثِ
الضَّرَاغِمِ
وَأَخْدَمَكُمْ بِالذُّلِّ مَسْجِدَنَا الَّذِي بُنِي فِيكُمُ فِي عَصْرِهِ
الْمُتَقَادِمِ
إِلَى جَنْبِ قَصْرِ الْمُلْكِ مِنْ دَارِ مُلْكِكُمْ أَلَا هَذِهِ حَقًّا
صَرِيمَةُ صَارِمِ
وَأَدَّى لِهَارُونَ الرَّشْيدِ مَلِيكُكُمْ إِتَاوَةَ مَغْلُوبٍ وَجِزْيَةَ
غَارِمِ
سَلَبْنَاكُمُ مَسْرَى شُهُورًا بِقُوَّةٍ حَبَانَا بِهَا الرَّحْمَنُ أَرْحَمُ
رَاحِمِ
إِلَى بَيْتِ يَعْقُوبٍ وَأَرْيَافِ دُومَةٍ إِلَى لُجَّةِ الْبَحْرِ الْبَعِيدِ
الْمَحَارِمِ
فَهَلْ سِرْتُمُ فِي أَرْضِنَا قَطُّ جُمْعَةً أَبَى اللَّهُ ذَاكُمْ يَا بَقَايَا
الْهَزَائِمِ
فَمَا لَكُمُ إِلَّا الْأَمَانِيُّ وَحْدَهَا بَضَائِعَ نَوْكَى تِلْكَ أَحْلَامُ
نَائِمِ
رُوَيْدًا يَعُدْ نَحْوَ الْخِلَافَةِ نُورُهَا وَيُسْفِرُ مُغْبَرُّ الْوُجُوهِ
السَّوَاهِمِ
وَحِينَئِذٍ
تَدْرُونَ كَيْفَ فِرَارُكُمْ إِذَا صَدَمَتْكُمْ خَيْلُ جَيْشٍ مُصَادِمِ
عَلَى سَالِفِ الْعَادَاتِ مِنَّا وَمِنْكُمُ لَيَالِيَ أَنْتُمْ فِي عِدَادِ
الْغَنَائِمِ
سُبِيتُمْ سَبَايَا يَحْصَرُ الْعَدُّ دُونَهَا وَسَبْيُكُمْ فِينَا كَقَطْرِ
الْغَمَائِمِ
فَلَوْ رَامَ خَلْقٌ عَدَّهَا رَامَ مُعْجِزًا وَأَنَّى بِتَعْدَادٍ لِرِيشِ
الْحَمَائِمِ
بِأَبْنَاءِ حَمْدَانَ وَكَافُورَ صُلْتُمُ أَرَاذِلَ أَنْجَاسٍ قِصَارِ
الْمَعَاصِمِ
دَعِيُّ وَحَجَّامٌ سَطَوْتُمْ عَلَيْهِمَا وَمَا قَدْرُ مَصَّاصٍ دِمَاءَ
الْمَحَاجِمِ
فَهَلَّا عَلَى دِمْيَانَةٍ قَبْلَ ذَاكَ أَوْ عَلَى مَحَلٍ أَرْبَا رُمَاةُ
الضَّرَاغِمِ
لَيَالِيَ قَادُوكُمْ كَمَا اقْتَادَ جَازِرٌ حَلَائِبَ أَتْيَاسٍ لَحَزِّ
الْحَلَاقِمِ
وَسَاقُوا عَلَى رِسْلٍ بَنَاتِ مُلُوكِكُمْ سَبَايَا كَمَا سِيقَتْ ظِبَاءُ
الصَّرَائِمِ
وَلَكِنْ سَلُوا عَنَّا هِرَقْلًا وَمَنْ خَلَا لَكُمْ مِنْ مُلُوكٍ مُكْرَمِينَ
قُمَاقِمِ
يُخَبِّرْكُمُ عَنَّا الْمُتَوَّجُ مِنْكُمُ وَقَيْصَرُكُمْ عَنْ سَبْيِنَا
لِلْكَرَائِمِ
وَعَمَّا فَتَحْنَا مِنْ مَنِيعِ بِلَادِكُمْ وَعَمَّا أَقَمْنَا فِيكُمُ مِنْ
مَآتِمِ
وَدَعْ كُلَّ نَذْلٍ مُفْتَرٍ لَا تَعُدَّهُ إِمَامًا وَلَا مِنْ مُحْكَمَاتِ
الدَّعَائِمِ
فَهَيْهَاتَ سَامَرَّا وَتَكْرِيتُ مِنْكُمُ إِلَى جَبَلٍ تِلْكُمْ أَمَانِيُّ
هَائِمِ
مَتَى يَتَمَنَّاهَا الضَّعِيفُ وَدُونَهَا تَطَايُرُ هَامَاتٍ وَحَزُّ
الْغَلَاصِمِ
وَمِنْ
دُونِ بَغْدَادٍ سُيُوفٌ حَدِيدَةٌ مَسِيرَةَ شَهْرٍ لِلْفَنِيقِ الْقَوَاصِمِ
مَحَلَّةُ أَهْلِ الزُّهْدِ وَالْخَيْرِ وَالتُّقَى وَمَنْزِلَةٌ مُحْتَلُّهَا
كُلُّ عَالِمِ
دَعُوا الرَّمْلَةَ الصَّهْبَاءَ عَنْكُمْ فَدُونَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
الصِّيدِ كُلُّ مُقَاوِمِ
وَدُونَ دِمَشْقٍ جَمْعُ جَيْشٍ كَأَنَّهُ سَحَائِبُ طَيْرٍ تَنْتَحِي
بِالْقَوَادِمِ
وَضَرْبٌ يُلَقِّي الْكُفْرَ كُلَّ مَذَلَّةٍ كَمَا ضَرَبَ السَّكِّيُّ بِيضَ
الدَّرَاهِمِ
وَمِنْ دُونِ أَكْنَافِ الْحِجَازِ جَحَافِلٌ كَقَطْرِ الْغُيُوثِ الْهَامِلَاتِ
السَّوَاجِمِ
بِهَا مِنْ بَنِي عَدْنَانَ كُلُّ سَمَيْدَعٍ وَمِنْ حَيِّ قَحْطَانٍ كِرَامُ
الْعَمَائِمِ
وَأَمْوَالُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَدِمَاؤُكُمْ بِهَا يُشْتَفَى حَرُّ النُّفُوسِ
الْحَوَائِمِ
وَلَوْ قَدْ لَقِيتُمْ مِنْ قُضَاعَةَ كُبَّةً لَقِيتُمْ ضِرَامًا فِي يَبِيسِ
الْهَشَائِمِ
. إِذَا صَبَّحُوكُمْ ذَكَّرُوكُمْ بِمَا خَلَا لَهُمْ مَعَكُمْ مِنْ مَأْزِقٍ
مُتَلَاحِمِ
زَمَانَ يَقُودُونَ الصَّوَافِنَ نَحْوَكُمْ فَجِئْتُمْ ضَمَانًا أَنَّكُمْ فِي
الْمَغَانِمِ
سَيَأْتِيكُمُ مِنْهُمْ قَرِيبًا عَصَائِبٌ تُنَسِّيكُمُ تَذْكَارَ أَخْذِ
الْعَوَاصِمِ
وَأَرْضُكُمُ حَقًّا سَيَقْتَسِمُونَهَا كَمَا فَعَلُوا دَهْرًا بِعَدْلِ
الْمُقَاسِمِ
وَلَوْ طَرَقَتْكُمُ مِنْ خُرَاسَانَ عُصْبَةٌ وَشِيرَازَ وَالرَّيِّ الْقِلَاعِ
الْقَوَائِمِ
لَمَا كَانَ مِنْكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ غَيْرُ مَا عَهِدْنَا لَكُمْ ذُلٌّ وَعَضُّ
الْأَبَاهِمِ
فَقَدْ
طَالَ مَا زَارُوكُمُ فِي دِيَارِكُمْ مَسِيرَةَ عبَامٍ بِالْخُيُولِ الصَّلَادِمِ
وَأَمَّا سِجِسْتَانُ وَكَرْمَانُ وَالْأُلَى بِكَابُلَ حَلُّوا فِي بِلَادِ
الْبَرَاهِمِ
وَفِي فَارِسٍ وَالسُّوسِ جَمْعٌ عَرَمْرَمٌ وَفِي أَصْبَهَانَ كُلُّ أَرْوَعَ
عَازِمِ
فَلَوْ قَدْ أَتَاكُمْ جَمْعُهُمْ لَغَدَوْتُمُ فَرَائِسَ لِلْآسَادِ مِثْلَ
الْبَهَائِمِ
وَبِالْبَصْرَةِ الزَّهْرَاءِ وَالْكُوفَةِ الَّتِي سَمَتْ وَبِأَدْنَى وَاسِطٍ
كَالْكَظَائِمِ
جُمُوعٌ تُسَامِي الرَّمْلَ جَمٌّ عَدِيدُهَا فَمَا أَحَدٌ يَنْوِي لِقَاهُمْ
بِسَالِمِ
وَمِنْ دُونِ بَيْتِ اللَّهِ فِي مَكَّةَ الَّتِي حَبَاهَا بِمَجْدٍ لِلثُّرَيَّا
مُزَاحِمِ
مَحَلُّ جَمِيعِ الْأَرْضِ مِنْهَا تَيَقُّنًا مَحَلَّةُ سُفْلِ الْخُفِّ مِنْ
فَصِّ خَاتَمِ
دِفَاعٌ مِنَ الرَّحْمَنِ عَنْهَا بِحَقِّهَا فَمَا هُوَ عَنْهَا كَرَّ طَرْفٍ
بِرَائِمِ
بِهَا دَفَعَ الْأُحْبُوشَ عَنْهَا وَقَبْلَهُمْ بِحَصْبَاءِ طَيْرٍ فِي ذُرَا
الْجَوِّ حَائِمِ
وَجَمْعٍ كَمَوْجِ الْبَحْرِ مَاضٍ عَرَمْرَمٍ حَمَى سُرَّةَ الْبَطْحَاءِ ذَاتِ
الْمَحَارِمِ
وَمِنْ دُونِ قَبْرِ الْمُصْطَفَى وَسْطَ طِيبَةٍ جُمُوعٌ كَمُسْوَدٍّ مِنَ
اللَّيْلِ فَاحِمِ
يَقُودُهُمْ جَيْشُ الْمَلَائِكَةِ الْعُلَا كِفَاحًا وَدَفْعًا عَنْ مُصَلٍّ
وَصَائِمِ
فَلَوْ قَدْ لَقِينَاكُمْ لَعُدْتُمْ رَمَائِمًا بِمَنْ فِي أَعَالِي نَجْدِنَا
وَالتَّهَائِمِ
وَبِالْيَمَنِ الْمَمْنُوعِ فِتْيَانُ غَارَةٍ. إِذَا مَا لَقُوكُمْ كُنْتُمْ
كَالْمَطَاعِمِ
وَفِي حِلَّتَيْ أَرْضِ الْيَمَامَةِ عُصْبَةٌ مَغَاوِرُ أَنْجَادٍ طِوَالُ
الْبَرَاجِمِ
سَتُفْنِيكُمْ وَالْقِرْمِطِيِّينَ دَوْلَةٌ تَعُودُ لِمَيْمُونِ النَّقِيبَةِ
حَازِمِ
خَلِيفَةُ
حَقٍّ يَنْصُرُ الدِّينَ حُكْمُهُ وَلَا يَتَّقِي فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمِ
إِلَى وَلَدِ الْعَبَّاسِ تُنْمَى جُدُودُهُ بِفَخْرٍ عَمِيمٍ أَوْ لِزُهْرِ
الْعَبَاشِمِ
مُلُوكٌ جَرَى بِالنَّصْرِ طَائِرُ سَعْدِهِمْ فَأَهْلًا بِمَاضٍ مِنْهُمُ
وَبِقَادِمِ
مَحَلَّتُهُمْ فِي مَسْجِدِ الْقُدْسِ أَوْ لَدَى مَنَازِلِ بَغْدَادَ مَحَلُّ
الْمَكَارِمِ
وَإِنْ كَانَ مِنْ عُلْيَا عَدِيٍّ وَتَيْمِهَا وَمِنْ أَسَدٍ أَهْلِ الصَّلَاحِ
الْحَضَارِمِ
فَأَهْلًا وَسَهْلًا ثُمَّ نُعْمَى وَمَرْحَبًا بِهِمْ مِنْ خِيَارٍ سَالِفِينَ
أَقَادِمِ
هُمُ نَصَرُوا الْإِسْلَامَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا وَهُمْ فَتَحُوا الْبُلْدَانَ
فَتْحَ الْمُرَاغِمِ
رُوَيْدًا فَوَعْدُ اللَّهِ بِالصِّدْقِ وَارِدٌ بِتَجْرِيعِ أَهْلِ الْكُفْرِ
طَعْمَ الْعَلَاقِمِ
سَنَفْتَحُ قُسْطَنْطِينَةَ وَذَوَاتِهَا وَنَجْعَلُكُمْ قُوتَ النُّسُورِ
الْقَشَاعِمِ
وَنَمْلِكُ أَقْصَى أَرْضِكُمْ وَبِلَادِكُمْ وَنُلْزِمُكُمْ ذُلَّ الْجِزَى
وَالْمَغَارِمِ
وَنَفْتَحُ أَرْضَ الصِّينِ وَالْهِنْدِ عَنْوَةً بِجَيْشٍ لِأَرْضِ التُّرْكِ
وَالْخَزْرِ حَاطِمِ
مَوَاعِيدُ لِلرَّحْمَنِ فِينَا صَحِيحَةٌ وَلَيْسَتْ كَأَمْثَالِ الْعُقُولِ
السَّقَائِمِ
إِلَى أَنْ يُرَى الْإِسْلَامُ قَدْ عَمَّ حُكْمُهُ جَمِيعَ الْبِلَادِ
بِالْجُيُوشِ الصَّوَارِمِ
أَتَقْرِنُ يَا مَخْذُولُ دِينَ مُثَلِّثٍ بَعِيدًا عَنِ الْمَعْقُولِ بَادِي
الْمَآثِمِ
تَدِينُ لِمَخْلُوقٍ يَدِينُ عِبَادَهُ فَيَا لَكَ سُحْقًا لَيْسَ يَخْفَى
لِكَاتِمِ
أَنَاجِيلُكُمْ مَصْنُوعَةٌ بِتَكَاذُبٍ كَلَامِ الْأُلَى فِيهَا أَتَوْا بِالْعَظَائِمِ
وُعُودُ
صَلِيبٍ مَا تَزَالُونَ سُجَّدًا لَهُ يَا عُقُولَ الْهَامِلَاتِ السَّوَائِمِ
تَدِينُونَ تَضْلَالًا بِصَلْبِ إِلَهِكُمْ بِأَيْدِي يَهُودٍ أَرْذَلِينَ
أَلَائِمِ
إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ تَوْحِيدِ رَبِّنَا. فَمَا دِينُ ذِي دِينٍ لَنَا
بِمُقَاوِمِ
وَصِدْقِ رِسَالَاتِ الَّذِي جَاءَ بِالْهُدَى مُحَمَّدٍ الْآتِي بِدَفْعِ
الْمَظَالِمِ
وَأَذْعَنَتِ الْأَمْلَاكُ طَوْعًا لِدِينِهِ بِبُرْهَانِ صِدْقٍ ظَاهِرٍ فِي
الْمَوَاسِمِ
كَمَا دَانَ فِي صَنْعَاءَ مَالِكُ دَوْلَةٍ وَأَهْلُ عُمَانٍ حَيْثُ رَهْطِ الْجَهَاضِمِ
وَسَائِرُ أَمْلَاكِ الْيَمَانِينَ أَسْلَمُوا وَمِنْ بَلَدِ الْبَحْرَيْنِ قَوْمُ
اللَّهَازِمِ
أَجَابُوا لِدِينِ اللَّهِ دُونَ مَخَافَةٍ وَلَا رَغْبَةٍ تَحْظَى بِهَا كَفُّ
عَادِمِ
فَحَلُّوا عُرَى التِّيجَانِ طَوْعًا وَرَغْبَةً بِحَقٍّ يَقِينٍ بِالْبَرَاهِينِ
نَاجِمِ
وَحَابَاهُ بِالنَّصْرِ الْمَكِينِ إِلَهُهُ وَصَيَّرَ مَنْ عَادَاهُ تَحْتَ
الْمَنَاسِمِ
فَقِيرٌ وَحِيدٌ لَمْ تُعِنْهُ عَشِيرَةٌ وَلَا دَفَعُوا عَنْهُ شَتِيمَةَ شَاتِمِ
وَلَا عِنْدَهُ مَالٌ عَتِيدٌ لِنَاصِرٍ وَلَا دَفْعِ مَرْهُوبٍ وَلَا لِمُسَالِمِ
وَلَا وَعَدَ الْأَنْصَارَ مَالًا يَخُصُّهُمْ بَلَى كَانَ مَعْصُومًا لِأَقْدَرِ
عَاصِمِ
فَلَمْ تَمْتَهِنْهُ قَطُّ قُوَّةُ آسِرٍ وَلَا مُكِّنَتْ مِنْ جِسْمِهِ يَدُ
لَاطِمِ
كَمَا يَفْتَرِي إِفْكًا وَزُورًا وَضِلَّةً عَلَى وَجْهِ عِيسَى مِنْكُمُ كُلُّ آثِمِ
عَلَى أَنَّكُمْ قَدْ قُلْتُمُ هُوَ رَبُّكُمْ فَيَا لَضَلَالٍ فِي الْحَمَاقَةِ
عَائِمِ
أَبَى اللَّهُ أَنْ يُدْعَى لَهُ ابْنٌ وَصَاحِبٌ سَتَلْقَى دُعَاةُ الْكُفْرِ
حَالَةَ نَادِمِ
وَلَكِنَّهُ
عَبْدٌ نَبِيٌّ مُكَرَّمٌ مِنَ النَّاسِ مَخْلُوقٌ وَلَا قَوْلَ زَاعِمِ
أَيُلْطَمُ وَجْهُ الرَّبِّ تَبًّا لِنَوْكِكُمْ لَقَدْ فُقْتُمْ فِي ظُلْمِكُمْ
كُلَّ ظَالِمِ
وَكَمْ آيَةٍ أَبْدَى النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ وَكَمْ عِلْمٍ أَبْدَاهُ لِلشِّرْكِ
حَاطِمِ
تَسَاوَى جَمِيعُ النَّاسِ فِي نَصْرِ حَقِّهِ فَلِلْكُلِّ فِي إِعْظَامِهِ حَالُ
خَادِمِ
فَعُرْبٌ وَأُحْبُوشٌ وَفُرْسٌ وَبَرْبَرٌ وَكُرْدِيُّهُمْ قَدْ فَازَ قِدْحُ
الْمَرَاحِمِ
وَقِبْطٌ وَأَنْبَاطٌ وَخَزْرٌ وَدَيْلَمٌ وَرُومٌ رَمَوْكُمْ دُونَهُ
بِالْقَوَاصِمِ
أَبَوْا كُفْرَ أَسْلَافٍ لَهُمْ فَتَحَنَّفُوا فَآبُوا بِحَظٍّ فِي السَّعَادَةِ
جَاثِمِ
بِهِ دَخَلُوا فِي مِلَّةِ الْحَقِّ كُلُّهُمْ وَدَانُوا لِأَحْكَامِ الْإِلَهِ
اللَّوَازِمِ
بِهِ صَحَّ تَفْسِيرُ الْمَنَامِ الَّذِي أَتَى بِهِ دَانِيَالُ قَبْلَهُ خَتْمِ
خَاتِمِ
وَسِنْدٌ وَهِنْدٌ أَسْلَمُوا وَتَدَيَّنُوا بِدِينِ الْهُدَى فِي رَفْضِ دِينِ
الْأَعَاجِمِ
وَشَقَّ لَنَا بَدْرَ السَّمَوَاتِ آيَةً وَأَشْبَعَ مِنْ صَاعٍ لَهُ كُلَّ
طَاعِمِ
وَسَالَتْ عُيُونُ الْمَاءِ فِي وَسْطِ كَفِّهِ فَأَرْوَى بِهِ جَيْشًا كَثِيرَ
الْهَمَاهِمِ
وَجَاءَ بِمَا تَقْضِي الْعُقُولُ بِصِدْقِهِ وَلَا كَدَعَاوٍ غَيْرِ ذَاتِ
قَوَائِمِ
عَلَيْهِ سَلَامُ اللَّهِ مَا ذَرَّ شَارِقٌ تَعَاقَبَهُ ظَلْمَاءُ أَسْحَمَ
قَاتِمِ
بَرَاهِينُهُ كَالشَّمْسِ لَا مِثْلُ قَوْلِكُمْ وَتَخْلِيطِكُمْ فِي جَوْهَرٍ
وَأَقَانِمِ
لَنَا كُلُّ عِلْمٍ مِنْ قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَأَنْتُمْ حَمِيرٌ دَامِيَاتُ
الْمَحَازِمِ
أَتَيْتُمْ بِشِعْرٍ بَارِدٍ مُتَخَاذِلٍ ضَعِيفِ مَعَانِي النَّظْمِ جَمِّ
الْبَلَاغِمِ
فَدُونَكَهَا كَالْعِقْدِ فِيهِ زُمُرُّدٌ وَدُرٌّ وَيَاقُوتٌ بِإِحْكَامِ حَاكِمِ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْخَلِيفَةُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَالسُّلْطَانُ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ.
وَعَمِلَتِ الرَّوَافِضُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ عَزَاءَ الْحُسَيْنِ، عَلَى مَا
ابْتَدَعُوهُ مِنَ النَّوْحِ.
وَلَمَّا كَانَ ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
تُوَفِّيَ:
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ
الَّذِي أَظْهَرَ الرَّفْضَ، وَيُقَالُ لَهُ: مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، بِعِلَّةِ
الذَّرَبِ، فَصَارَ لَا يَثْبُتُ فِي مَعِدَتِهِ شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمَّا
أَحَسَّ بِالْمَوْتِ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ، وَأَنَابَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَرَدَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَظَالِمِ، وَتَصَدَّقَ بِكَثِيرٍ مِنْ
أَمْوَالِهِ، وَأَعْتَقَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ مَمَالِيكِهِ، وَعَهِدَ إِلَى
ابْنِهِ بَخْتِيَارَ عِزِّ الدَّوْلَةِ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ بِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ، فَكَلَّمَهُ فِي السُّنَّةِ،
وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا زَوَّجَ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ مِنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ بِهَذَا قَطُّ. وَرَجَعَ إِلَى السُّنَّةِ
وَمُتَابَعَتِهَا، وَلَمَّا حَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، خَرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ
إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا
تُصَلِّي
هَاهُنَا ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّ دَارَكَ مَغْصُوبَةٌ.
فَاسْتَحْسَنَ مِنْهُ ذَلِكَ.
وَكَانَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ حَلِيمًا كَرِيمًا عَاقِلًا، وَكَانَتْ إِحْدَى
يَدَيْهِ مَقْطُوعَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ السُّعَاةَ بَيْنَ يَدَيِ
الْمُلُوكِ ; لِيَبْعَثَ بِأَخْبَارِهِ إِلَى أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ إِلَى
شِيرَازَ سَرِيعًا، وَحَظِيَ عِنْدَهُ أَهْلُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ، وَتَعَلَّمَ
أَهْلُ بَغْدَادَ ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يَجْرِي فِي الْيَوْمِ
الْوَاحِدِ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ فَرْسَخًا، وَكَانَ فِي الْبَلَدِ سَاعِيَانِ
مَاهِرَانِ، وَهُمَا فَضْلٌ وَمَرْعُوشٌ، يَتَعَصَّبُ لِهَذَا عَوَامُّ أَهْلِ السُّنَّةِ،
وَلِهَذَا عَوَامُّ أَهْلِ الشِّيعَةِ، وَجَرَتْ لَهُمَا مَنَاصِفُ وَمَوَاقِفُ.
وَلَمَّا مَاتَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ دُفِنَ بِبَابِ التِّبْنِ فِي مَقَابِرِ
قُرَيْشٍ، وَجَلَسَ ابْنُهُ لِلْعَزَاءِ، وَأَصَابَ النَّاسَ مَطَرٌ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ تِبَاعًا، فَبَعَثَ عِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى رُءُوسِ الدَّوْلَةِ فِي
هَذِهِ الْأَيَّامِ بِمَالٍ جَزِيلٍ ; لِئَلَّا تَجْتَمِعَ الدَّوْلَةُ عَلَى
مُخَالَفَتِهِ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ مُبَايَعَتِهِ، وَهَذَا مِنْ عَقْلِهِ
وَدَهَائِهِ.
وَكَانَ عُمُرُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ
وِلَايَتِهِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا وَيَوْمَيْنِ،
وَكَانَ قَدْ نَادَى فِي أَيَّامِهِ بِرَدِّ الْمَوَارِيثِ إِلَى ذَوِي
الْأَرْحَامِ قَبْلَ بَيْتِ الْمَالِ.
وَقَدْ سَمِعَ بَعْضُ النَّاسِ لَيْلَةَ تُوُفِّيَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ هَاتِفًا
يَقُولُ:
لَمَّا بَلَغْتَ أَبَا الْحُسَيْ نِ مُرَادَ نَفْسِكَ فِي الطَّلَبْ
وَأَمِنْتَ
مِنْ حَدَثِ اللَّيَا
لِي وَاحْتَجَبْتَ عَنِ النُّوَبْ مُدَّتْ إِلَيْكَ يَدُ الرَّدَى
وَأُخِذْتَ مِنْ بَيْتِ الذَّهَبْ
وَلَمَّا مَاتَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ عِزُّ
الدَّوْلَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالِاشْتِغَالِ بِأَمْرِ
النِّسَاءِ، فَتَفَرَّقَ شَمْلُهُ، وَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ، وَطَمِعَ
الْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ السَّامَانِيُّ صَاحِبُ بِلَادِ خُرَاسَانَ فِي
مُلْكِ بَنِي بُوَيْهِ، وَأَرْسَلَ الْجُيُوشَ الْكَثِيفَةَ صُحْبَةَ الْمَلِكِ
وُشْمَكِيرَ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ أَرْسَلَ
إِلَى ابْنِهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَابْنِ أَخِيهِ عِزِّ الدَّوْلَةِ
يَسْتَنْجِدُهُمَا، فَأَرْسَلَا إِلَيْهِ بِجُنُودٍ كَثِيرَةٍ، فَرَكِبَ فِيهَا
رُكْنُ الدَّوْلَةِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ وُشْمَكِيرُ يَتَهَدَّدُهُ
وَيَتَوَعَّدُهُ، وَيَقُولُ: لَئِنْ قَدَرْتُ عَلَيْكَ لَأَفْعَلَنَّ بِكَ
وَلَأَفْعَلَنَّ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ رُكْنُ الدَّوْلَةِ: لَكِنِّي إِنْ قَدَرْتُ
عَلَيْكَ لَأُحْسِنَنَّ إِلَيْكَ وَلَأَصْفَحَنَّ عَنْكَ. فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ
لِهَذَا، فَدَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ شَرَّهُ ; وَذَلِكَ أَنَّوُشْمَكِيرَ رَكِبَ
فَرَسًا صَعْبَةً فَتَصَيَّدَ عَلَيْهَا، فَحَمَلَ عَلَيْهِ خِنْزِيرٌ، فَنَفَرَتِ
الْفَرَسُ، فَأَلْقَتْهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَخَرَجَ الدَّمُ مِنْ أُذُنَيْهِ،
فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ.
وَبَعَثَ ابْنُ وُشْمَكِيرَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ مِنْ رُكْنِ الدَّوْلَةِ،
فَأَمَّنَهُ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْمَالِ وَالرِّجَالِ، وَوَفَى بِمَا قَالَ،
وَصَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ كَيْدَ السَّامَانِيَّةِ، وَذَلِكَ بِصِدْقِ النِّيَّةِ
وَحُسْنِ الطَّوِيَّةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْفَرَجِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
الْهَيْثَمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ الْأُمَوِيُّ
الْأَصْبِهَانِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ " الْأَغَانِي " وَكِتَابِ " أَيَّامِ الْعَرَبِ
" ذَكَرَ فِيهِ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِمْ
وَوَقَائِعِهِمْ، وَكَانَ شَاعِرًا أَدِيبًا كَاتِبًا، عَالِمًا بِالْأَخْبَارِ
وَأَيَّامِ النَّاسِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَتَشَيَّعُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمِثْلُهُ لَا يُوثَقُ بِهِ ; فَإِنَّهُ يُصَرِّحُ فِي
كُتُبِهِ بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْفِسْقَ، وَيُهَوِّنُ شُرْبَ الْخَمْرِ،
وَرُبَّمَا حَكَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ كِتَابَ "
الْأَغَانِي " رَأَى كُلَّ قَبِيحٍ وَمُنْكَرٍ. وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مُطَيَّنٍ وَخَلْقٍ، وَرَوَى عَنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.
تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ
وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، الَّتِي تُوَفِّيَ فِيهَا الْبُحْتُرِيُّ الشَّاعِرُ.
وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ مُصَنَّفَاتٍ عَدِيدَةً ; مِنْهَا " الْأَغَانِي "
" وَالدِّيَارَاتُ "، وَ " أَيَّامُ الْعَرَبِ "، وَغَيْرُ
ذَلِكَ.
سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ، صَاحِبُ حَلَبَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي الْهَيْجَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ حَمْدُونَ التَّغْلِبِيُّ
الرَّبَعِيُّ
الْمُلَقَّبُ بِسَيْفِ
الدَّوْلَةِ،
أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الشُّجْعَانِ، وَالْمُلُوكِ الْكَثِيرِي الْإِحْسَانِ، عَلَى
مَا كَانَ فِيهِ مِنْ تَشَيُّعٍ، وَقَدْ مَلَكَ دِمَشْقَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ،
وَاتَّفَقَ لَهُ أَشْيَاءُ غَرِيبَةٌ ; مِنْهَا أَنَّ خَطِيبَهُ كَانَ مُصَنِّفَ
" الْخُطَبِ النَّبَاتِيَّةِ " أَحَدَ الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاءِ،
وَشَاعِرَهُ الْمُتَنَبِّي، وَمُطْرِبَهُ أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ. وَكَانَ
كَرِيمًا جَوَّادًا مُعْطِيًا لِلْجَزِيلِ.
وَمِنْ شَعْرِهِ فِي أَخِيهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ:
رَضِيتُ لَكَ الْعَلْيَا وَقَدْ كُنْتَ أَهْلَهَا وَقُلْتُ لَهُمْ بَيْنِي
وَبَيْنَ أَخِي فَرْقُ وَمَا كَانَ لِي عَنْهَا نُكُولٌ وَإِنَّمَا
تَجَاوَزْتُ عَنْ حَقِّي فَتَمَّ لَكَ الْحَقُّ أَمَا كُنْتَ تَرْضَى أَنْ أَكُونَ
مُصَلِّيًا
إِذَا كُنْتُ أَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ السَّبْقُ
وَلَهُ أَيْضًا:
قَدْ جَرَى فِي دَمْعِهِ دَمُهُ فَإِلَى كَمْ أَنْتَ تَظْلِمُهُ
رُدَّ عَنْهُ الطَّرْفَ مِنْكَ فَقَدْ جَرَحَتْهُ مِنْكَ أَسْهُمُهُ
كَيْفَ يَسْتَطِيعُ التَّجَلُّدَ مَنْ خَطَرَاتُ الْوَهْمِ تُؤْلِمُهُ
وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ الْفَالِجُ، وَقِيلَ: عُسْرُ الْبَوْلِ. وَتُوفِّيَ
بِحَلَبَ، وَحُمِلَ تَابُوتُهُ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ فَدُفِنَ بِهَا وَعُمُرُهُ
ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَقَامَ بِمُلْكِ حَلَبَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ
سَعْدُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْمَعَالِي شَرِيفٌ، ثُمَّ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ مَوْلَى
أَبِيهِ قَرْعُوَيْهِ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ حَلَبَ إِلَى أُمِّهِ
بِمَيَّافَارِقِينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَذَكَرَ
ابْنُ خِلِّكَانَ شَيْئًا كَثِيرًا مِمَّا قَالَهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ وَقِيلَ
فِيهِ، قَالَ: وَلَمْ يَجْتَمِعْ بِبَابِ أَحَدٍ مِنَ الْمُلُوكِ بَعْدَ
الْخُلَفَاءِ مَا اجْتَمَعَ بِبَابِهِ مِنَ الشُّعَرَاءِ. وَقَدْ أَجَازَ
لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْكِبَارِ مِنْهُمْ ; كَالْمُتَنَبِّي وَالْخَالِدِيَّيْنِ،
وَالسَّرِيِّ الرَّفَّاءِ، وَالنَّامِي، وَالْبَبْغَاءِ، وَالْوَأْوَاءِ،
وَغَيْرِهِمْ. وَذَكَرَ ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ -
وَقِيلَ: إِحْدَى - وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَنَّهُ مَلَكَ حَلَبَ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَمْلِكُ وَاسِطًا وَنَوَاحِيهَا، ثُمَّ
تَنَقَّلَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ حَتَّى مَلَكَ حَلَبَ - انْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ
أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الْكِلَابِيِّ صَاحِبِ الْإِخْشِيدِ - وَمَلَكَ دِمَشْقَ
فِي وَقْتٍ. وَقَدْ قَالَ يَوْمًا لِنُدَمَائِهِ: أَيُّكُمْ يُجِيزُ قَوْلِي،
وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا مِنْكُمْ يُجِيزُهُ:
لَكَ جَسْمِي تُعِلُّهُ فَدَمِي لَمْ تُحِلُّهُ
فَقَالَ أَبُو فِرَاسٍ أَخُوهُ بَدِيهَةً:
قَالَ إِنْ كُنْتُ مَالِكًا فَلِيَ الْأَمْرُ كُلُّهُ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
كَافُورُ الْإِخْشِيدِيُّ
مَوْلَى مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجٍ الْإِخْشِيدِ وَقَدْ قَامَ
بِالْأَمْرِ
مِنْ بَعْدِهِ مَوْلَاهُ لِصِغَرِ أَوْلَادِهِ، فَمَلَكَ كَافُورٌ مِصْرَ
وَدِمَشْقَ، وَنَاوَأَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ وَغَيْرَهُ.
وَقَدْ كُتِبَ عَلَى قَبْرِهِ:
انْظُرْ إِلَى غِيَرِ الْأَيَّامِ مَا صَنَعَتْ أَفْنَتْ أُنَاسًا بِهَا كَانُوا
وَمَا فَنِيَتْ
دُنْيَاهُمُ ضَحِكَتْ أَيَّامَ دَوْلَتِهِمْ حَتَّى إِذَا فَنِيَتْ نَاحَتْ لَهُمْ
وَبَكَتْ
أَبُو عَلِيٍّ الْقَالِيُّ، صَاحِبُ " الْأَمَالِي " إِسْمَاعِيلُ بْنُ
الْقَاسِمِ بْنِ عَيْذُونَ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
سُلَيْمَانَ، أَبُو عَلِيٍّ الْقَالِيُّ
اللُّغَوِيُّ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمْ ; لِأَنَّ سُلَيْمَانَ هَذَا كَانَ مَوْلًى
لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَالْقَالِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى قَالِيقِلَا وَيُقَالُ:
إِنَّهَا أَرْزَنُ الرُّومِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِمَنَازِجِرْدَ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَخَذَ
النَّحْوَ وَاللُّغَةَ عَنِ ابْنِ دُرَيْدٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ
وَنِفْطَوَيْهِ وَغَيْرِهِمْ، وَصَنَّفَ " الْأَمَالِيَ " وَهُوَ
مَشْهُورٌ، وَكِتَابَ " الْبَارِعِ " عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، فِي
خَمْسَةِ آلَافِ وَرَقَةٍ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ فِي اللُّغَةِ.
وَدَخَلَ بَغْدَادَ وَسَمِعَ بِهَا، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى قُرْطُبَةَ فَدَخَلَهَا
فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وَاسْتَوْطَنَهَا، وَصَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً فِيهَا، إِلَى أَنْ تُوفِّيَ بِهَا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. قَالَهُ ابْنُ خِلِّكَانَ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ إِلْيَاسَ
صَاحِبُ بِلَادِ كَرْمَانَ وَمُعَامَلَاتِهَا، فَأَخَذَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بْنُ
رُكْنِ الدَّوْلَةِ بِلَادَ كَرْمَانَ مِنْ أَوْلَادِ مُحَمَّدِ بْنِ إِلْيَاسَ،
وَهُمْ ثَلَاثَةٌ ; الْيَسَعُ، وَإِلْيَاسُ، وَسُلَيْمَانُ.
وَالْمَلِكُ الْكَبِيرُ وُشْمَكِيرُ، كَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْمُلُوكِ:
الْحَسَنُ بْنُ الْفِيرَزَانِ صَاحِبُ بِلَادِ جُرْجَانَ
وَمُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
وَسَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ
صَاحِبُ حَلَبَ كَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا هَلَكَ النِّقْفُورُ مَلِكُ الرُّومِ، يَعْنِي
الدُّمُسْتُقْ، صَاحِبُ بِلَادِ الْأَرْمَنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ وَمَا
وَرَدَ عَنْهُ مِنَ الشِّعْرِ، وَأَوْرَدْنَا جَوَابَهَا لِلْإِمَامِ
الْعَلَّامَةِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ الْفَقِيهِ الظَّاهِرِيِّ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ بِهَا كَافُورٌ الْإِخْشِيدِيُّ فِي قَوْلِ ابْنِ خَلِّكَانَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا شَاعَ الْخَبَرُ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ أَنَّ رَجُلًا
ظَهَرَ، يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَتَلَقَّبَ
بِالْمَهْدِيِّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ الْمَوْعُودُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْوَارِدِ
فِي الْمَهْدِيِّ، وَأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ وَيَنْهَى عَنِ الشَّرِّ،
وَدَعَا إِلَيْهِ نَاسٌ بِبَغْدَادَ ; فَإِنْ دَعَوْا سُنِّيًّا قَالُوا: هُوَ
مِنْ سُلَالَةِ الْعَبَّاسِ. وَإِنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ شِيعِيًّا قَالُوا لَهُ:
عَلَوِيٌّ. وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ إِذْ ذَاكَ مُقِيمًا بِمِصْرَ عِنْدَ كَافُورٍ
الْإِخْشِيدِيِّ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَكَانَ يُكْرِمُهُ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ
الْمُسْتَحْسِنِينَ لَهُ سُبُكْتِكِينُ الْحَاجِبُ، وَكَانَ شِيعِيًّا، فَظَنَّهُ
عَلَوِيًّا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُقْدِمَ إِلَى بَغْدَادَ لِيَأْخُذَ لَهُ
الْبِلَادَ، فَتَرَحَّلَ مِنْ مِصْرَ، فَلَقِيَهُ سُبُكْتِكِينُ إِلَى قَرِيبِ
الْأَنْبَارِ فَلَمَّا رَآهُ عَرَفَهُ، وَإِذَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ الْعَبَّاسِيُّ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ أَنَّهُ عَبَّاسِيٌّ
وَلَيْسَ بِعَلَوِيٍّ، انْثَنَى رَأْيُهُ عَنْهُ، فَتَفَرَّقَ شَمْلُهُ،
وَتَمَزَّقَ أَصْحَابُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَحُمِلَ إِلَى عِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ فَأَمَّنَهُ، وَتَسَلَّمَهُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ فَجَدَعَ
أَنْفَهُ، وَاخْتَفَى أَمْرُهُ، فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ خَبَرٌ بِالْكُلِّيَّةِ
بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا وَرَدَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الرُّومِ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - إِلَى بِلَادِ
أَنْطَاكِيَةَ فَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْ حَوَاضِرِهَا، وَسَبَوُا اثْنَيْ عَشَرَ
أَلْفًا مِنْ أَهْلِهَا، وَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ
أَحَدٌ.
وَعَمِلَتِ
الرَّوَافِضُ فِي عَشُورَاءَ الْمَأْتَمَ، وَفِي يَوْمِ غَدِيرِ خُمٍّ الْهَنَاءَ
وَالسُّرُورَ.
وَفِيهَا عَرَضَ لِلنَّاسِ فِي تِشْرِينَ دَاءُ الْمَاشَرَا، فَمَاتَ بِهِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ فَجْأَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا مَاتَ أَكْثَرُ جِمَالِ الْحَجِيجِ فِي الطَّرِيقِ مِنَ الْعَطَشِ،
وَلَمْ يَصِلْ مِنْهُمْ إِلَى مَكَّةَ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَمَاتَ أَكْثَرُ مَنْ
وَصَلَ مِنْهُمْ عَامَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا اقْتَتَلَ أَبُو الْمَعَالِي شَرِيفُ بْنُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ هُوَ
وَخَالُهُ وَابْنُ عَمِّ أَبِيهِ أَبُو فِرَاسِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ
الشَّاعِرُ، عِنْدَ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: صَدَرُ. فَقُتِلَ أَبُو فِرَاسٍ فِي الْمَعْرَكَةِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ.
وَفِيهَا أَظْهَرَتِ الشِّيعَةُ الْحُزْنَ الشَّدِيدَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنَ
الْمُحَرَّمِ وَعَمِلُوا عِيدَ غَدِيرِ خُمٍّ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنَ عَشَرَ
مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَأَظْهَرُوا الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا أَيْضًا:
إِبْرَاهِيمُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُقْتَدِرُ
وَكَانَ قَدْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ، ثُمَّ أُلْجِئَ إِلَى أَنَّهُ خُلِعَ عَنْهَا
فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَزِمَ
بَيْتَهُ،
فَمَاتَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِدَارِهِ عَنْ سِتِّينَ سَنَةً.
عُمَرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّرِيِّ، أَبُو جَعْفَرٍ
الْبَصَرِيُّ الْحَافِظُ
وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ يَنْتَخِبُ عَلَى الْمَشَايِخِ،
حَدَّثَ عَنْ أَبِي خَلِيفَةَ الْفَضْلِ بْنِ الْحُبَابِ وَغَيْرِهِ، وَقَدِ
انْتَقَدَ عَلَيْهِ مِائَةَ مَوْضِعٍ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: فَنَظَرْتُ
فِيهَا، فَإِذَا الصَّوَابُ مَعَ عُمَرَ بْنِ جَعْفَرٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُخَلَّدٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْجَوْهَرِيُّ
الْمُحْتَسِبُ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْمُحْرِمِ، كَانَ أَحَدَ أَصْحَابِ ابْنِ
جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَقَدْ رَوَى عَنِ الْكُدَيْمِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدِ
اتَّفَقَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ جَلَسَ
يَكْتُبُ الْحَدِيثَ، فَجَاءَتْ أُمُّهَا، فَأَخَذَتِ الدَّوَاةَ، فَرَمَتْ بِهَا
وَقَالَتْ: هَذِهِ أَضَرُّ عَلَى ابْنَتِي مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ ضَرَّةٍ. وَقَدْ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ
يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ.
كَافُورُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْإِخْشِيدِيُّ
كَانَ مَوْلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجٍ الْإِخْشِيدِيِّ، اشْتَرَاهُ
مِنْ بَعْضِ أَهْلِ مِصْرَ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِينَارًا، وَقَرَّبَهُ
وَأَدْنَاهُ، وَاخْتَصَّهُ مِنْ بَيْنِ الْمَوَالِي وَاصْطَفَاهُ، ثُمَّ جَعَلَهُ
أَتَابِكًا حِينَ مَلَّكَ وَلَدَاهُ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِالْأُمُورِ بَعْدَ
مَوْتِهِمَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ، وَاسْتَقَرَّتِ الْمَمْلَكَةُ
بِاسْمِهِ، يُدْعَى لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَالشَّامِيَّةِ وَبِلَادِ الْحِجَازِ جَمِيعًا، وَكَانَ شَهْمًا ذَكِيًّا
فَاتِكًا جَيِّدَ السِّيرَةِ، مَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ، وَوَفَدَ إِلَيْهِ
الْمُتَنَبِّي، حِينَ ذَهَبَ مُغَاضِبًا عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ،
فَآوَى إِلَى كَافُورٍ وَحَصَلَ لَهُ مِنْهُ رِفْدٌ، ثُمَّ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ
فَأَبْعَدَهُ كَافُورٌ، فَهَجَاهُ وَرَحَلَ عَنْهُ، وَصَارَ إِلَى عَضُدِ
الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، فَكَانَ هُنَاكَ حَتْفُهُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَأَمَّا كَافُورٌ فَإِنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ دُفِنَ بِتُرْبَتِهِ الْمَشْهُورَةِ
بِهِ، وَقَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْإِخْشِيدِ
وَمِنْهُ أَخَذَ الْفَاطِمِيُّونَ الْأَدْعِيَاءُ بِلَادَ مِصْرَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَكَانَتْ مَمْلَكَةُ كَافُورٍ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشُورَاءَ عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ بِدْعَتَهِمْ، وَفِي يَوْمِ غَدِيرِ خُمٍّ
عَمِلُوا الْفَرَحَ الْمُبْتَدَعَ.
وَحَصَلَ بِالْعِرَاقِ غَلَاءٌ عَظِيمٌ، كَانَ يُعْدَمُ الْخُبْزُ بِالْكُلِّيَّةِ،
وَعَاثَتِ الرُّومُ فِي الْبِلَادِ فَسَادًا، وَحَرَقُوا حِمْصَ وَأَفْسَدُوا
فِيهَا فَسَادًا عَرِيضًا، وَسَبَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحَوًا مِنْ مِائَةِ
أَلْفِ إِنْسَانٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
دُخُولُ جَوْهَرٍ الْقَائِدِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَدَخَلَ أَبُو الْحَسَنِ جَوْهَرٌ الْقَائِدُ الرُّومِيُّ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ،
مِنْ جِهَةِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ شَعْبَانَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ خُطِبَ لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ عَلَى مَنَابِرِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَسَائِرِ أَعْمَالِهَا، وَأَمَرَ جَوْهَرٌ الْمُؤَذِّنِينَ
بِالْجَامِعِ الْعَتِيقِ وَبِجَامِعِ ابْنِ طُولُونَ أَنْ يُؤَذِّنُوا بِحَيَّ
عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَأَنْ يَجْهَرَ الْأَئِمَّةُ بِالْبَسْمَلَةِ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ كَافُورٌ
الْإِخْشِيدِيُّ
لَمْ يَبْقَ بِمِصْرَ مَنْ تَجْتَمِعُ الْقُلُوبُ عَلَيْهِ، وَأَصَابَهُمْ غَلَاءٌ
شَدِيدٌ أَضْعَفَهُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُعِزَّ وَهُوَ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ
بَعَثَ جَوْهَرًا الْقَائِدَ الرُّومِيَّ مَوْلَى أَبِيهِ الْمَنْصُورِ فِي جَيْشٍ
كَثِيفٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَصْحَابَ
كَافُورٍ هَرَبُوا مِنْهَا قَبْلَ وُصُولِ جَوْهَرٍ إِلَيْهَا، فَدَخَلَهَا
فَأَخَذَهَا بِلَا ضَرْبَةٍ وَلَا طَعْنَةٍ وَلَا مُمَانَعَةٍ، فَفَعَلَ مَا
ذَكَرْنَا مِنَ الْأُمُورِ، وَاسْتَقَرَّتْ أَيْدِيهِمْ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ
بَعْدَ كَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ شَرَعَ جَوْهَرٌ الْقَائِدُ فِي بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ
الْمُعِزِّيَّةِ، وَبِنَاءِ الْقَصْرَيْنِ عِنْدَهَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَهَيَّأَ الْإِقَامَاتِ لِمَوْلَاهُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ.
وَأَرْسَلَ جَوْهَرٌ جَعْفَرَ بْنَ فَلَاحٍ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى الشَّامِ
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَ بِدِمَشْقَ الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ
بْنُ أَبِي يَعْلَى الْهَاشِمِيُّ، وَكَانَ مُطَاعًا فِيهِمْ، فَحَاجَفَ عَنِ
الْعَبَّاسِيِّينَ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ آلَ الْحَالُ إِلَى أَنْ خُطِبَ
لِلْمُعِزِّ بِدِمَشْقَ، وَحُمِلَ الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَأُسِرَ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طُغْجٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ
الْأُمَرَاءِ فَحُمِلُوا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَحَمَلَهُمْ جَوْهَرٌ
إِلَى الْمُعِزِّ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُ الْفَاطِمِيِّينَ عَلَى
دِمَشْقَ فِي سَنَةِ سِتِّينَ، كَمَا سَيَأْتِي، وَأُذِّنَ فِيهَا: حَيَّ عَلَى
خَيْرِ الْعَمَلِ، أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَكُتِبَتْ لَعْنَةُ
الشَّيْخَيْنِ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَعْنُ مَنْ لَعَنَهُمَا - عَلَى أَبْوَابِ
الْجَوَامِعِ بِهَا وَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَتَّى أَزَالَتْ ذَلِكَ دَوْلَةُ الْأَتْرَاكِ،
عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَفِيهَا دَخَلَتِ الرُّومُ إِلَى حِمْصَ فَوَجَدُوا أَكْثَرَ أَهْلِهَا قَدْ
جَلَوْا عَنْهَا وَانْتَقَلُوا مِنْهَا، فَحَرَّقُوهَا وَأَسَرُوا مِمَّنْ بَقِيَ
فِيهَا وَمِنْ حَوْلِهَا نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ نَقَلَ عِزُّ الدَّوْلَةِ وَالِدَهُ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ
بْنَ بُوَيْهِ مِنْ دَارِهِ إِلَى تُرْبَتِهِ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ " كَافُورٌ الْإِخْشِيدِيُّ ; قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ رَأَيْتُ مِدَحَ الْمُتَنَبِّي لِكَافُورٍ تَحْمِلُ
الذَّمَّ وَالْمَدْحَ، وَكَأَنَّهُ تَلَعَّبَ بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ بِدْعَتَهُمُ
الشَّنْعَاءَ، فَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ، وَتَعَطَّلَتِ الْمَعَايِشُ، وَدَارَتِ
النِّسَاءُ سَافِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ يَنُحْنَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ
وَيَلْطِمْنَ وُجُوهَهُنَّ، وَالْمُسُوحُ مُعَلَّقَةٌ فِي الْأَسْوَاقِ، وَالتِّبْنُ
مَذْرُورٌ فِيهَا.
وَفِيهَا دَخَلَتِ الرُّومُ الْمَلَاعِينُ أَنْطَاكِيَةَ فَنَفَوْا مِنْ أَهْلِهَا
الشُّيُوخَ وَالْعَجَائِزَ، وَسَبَوْا مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ نَحَوًا
مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا ; وَذَلِكَ كُلُّهُ بِتَدْبِيرِ مَلِكِ الْأَرْمَنِ نُقْفُورَ،
لَعَنَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ قَدْ قَهَرَ وَطَغَا وَتَمَرَّدَ، وَقَدْ
تَزَوَّجَ مَعَ ذَلِكَ بِامْرَأَةِ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَلَهَا
مِنْهُ ابْنَانِ، فَأَرَادَ أَنْ يَخْصِيَهُمَا وَيَجْعَلَهُمَا فِي الْكَنِيسَةِ
; لِئَلَّا يَصْلُحَا بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمُلْكِ، فَلَمَّا فَهِمَتْ ذَلِكَ
أُمُّهُمَا عَمِلَتْ عَلَيْهِ، وَسَلَّلَتْ عَلَيْهِ الْأُمَرَاءَ، فَقَتَلُوهُ
وَهُوَ نَائِمٌ، وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ أَكْبَرَ وَلَدَيْهَا.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ صُرِفَ عَنِ الْقَضَاءِ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ
سَيَّارٍ، وَأُعِيدَ إِلَيْهِ أَبُو
مُحَمَّدِ
بْنُ مَعْرُوفٍ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ نَقَصَتْ دِجْلَةُ حَتَّى
غَارَتِ الْآبَارُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ النَّقِيبُ.
قَالَ: وَانْقَضَّ كَوْكَبٌ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَأَضَاءَتْ مِنْهُ الدُّنْيَا
حَتَّى بَقِيَ لَهُ شُعَاعٌ كَالشَّمْسِ، ثُمَّ سُمِعَ لَهُ صَوْتٌ كَالرَّعْدِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خُطِبَ
لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ بِدِمَشْقَ عَنْ أَمْرِ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ الَّذِي
سَيَّرَهُ جَوْهَرٌ الْقَائِدُ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ فَقَاتَلَهُ أَبُو
مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طُغْجٍ بِالرَّمْلَةِ، فَغَلَبَهُ
ابْنُ فَلَاحٍ، وَأَسَرَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى جَوْهَرٍ، فَأَرْسَلَهُ جَوْهَرٌ
إِلَى الْمُعِزِّ وَهُوَ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُ الْفَاطِمِيِّينَ
عَلَى دِمَشْقَ أَيْضًا بَعْدَ حُرُوبٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا، تَطَاوَلَ أَمْرُهَا
إِلَى آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتِ الْمُنَافَرَةُ بَيْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ
حَمْدَانَ وَبَيْنَ ابْنِهِ أَبِي تَغْلِبَ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ بِبَغْدَادَ، عَزَمَ أَبُو تَغْلِبَ وَمَنْ
وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى بَغْدَادَ وَأَخْذِ
مَمْلَكَةِ الْعِرَاقِ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُوهُمْ: إِنَّ
مُعِزَّ
الدَّوْلَةِ قَدْ تَرَكَ لِابْنِهِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، لَا تَقْدِرُونَ
عَلَيْهِ مَا دَامَتْ فِي يَدِهِ، وَلَكِنِ اصْبِرُوا حَتَّى يُنْفِقَهَا
فَإِنَّهُ مُبَذِّرٌ، فَإِذَا أَفْلَسَ فَثُورُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّكُمْ تَغْلِبُونَهُ
لَا مَحَالَةَ. فَحَقَدَ عَلَيْهِ وَلَدُهُ أَبُو تَغْلِبَ بِسَبَبِ ذَلِكَ،
وَلَمْ يَزَلْ بِأَبِيهِ حَتَّى سَجَنَهُ بِالْقَلْعَةِ، فَاخْتَلَفَ أَوْلَادُهُ
بَيْنَهُمْ، وَصَارُوا أَحْزَابًا، وَضَعُفُوا عَنْ حِفْظِ مَا بِأَيْدِيهِمْ
حَتَّى بَعَثَ أَبُو تَغْلِبَ إِلَى عِزِّ الدَّوْلَةِ فَضَمِنَ مِنْهُ بِلَادَ
الْمَوْصِلِ بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ كُلَّ سَنَةٍ يَحْمِلُهَا إِلَيْهِ،
وَاتَّفَقَ مَوْتُ أَبِيهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَاسْتَقَرَّ أَبُو تَغْلِبَ بِالْمَوْصِلِ وَمَلَكَهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ فِيمَا
بَيْنَهُمْ مُخْتَلِفُونَ مُتَحَارِبُونَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى طَرَابُلُسَ فَأَحْرَقَ
كَثِيرًا مِنْهَا، وَمَلَكَ قَلْعَةَ عِرْقَةَ وَنَهَبَهَا وَسَبَى أَهْلَهَا
وَكَانَ فِي قَلْعَتِهَا صَاحِبُ طَرَابُلُسَ كَانَ لَجَأَ إِلَيْهَا حِينَ
أَخْرَجَهُ أَهْلُ طَرَابُلُسَ مِنْهَا لِشِدَّةِ ظُلْمِهِ، فَأَسَرَتْهُ
الرُّومُ، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى جَمِيعِ أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَكَانَتْ
كَثِيرَةً جِدًّا، ثُمَّ مَالُوا عَلَى السَّوَاحِلِ، فَمَلَكُوا ثَمَانِيَةَ
عَشَرَ مِنْبَرًا سِوَى الْقُرَى، وَتَنَصَّرَ خَلْقٌ كَثِيرٌ عَلَى أَيْدِيهِمْ،
لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَجَاءُوا إِلَى حِمْصَ فَحَرَقُوا وَنَهَبُوا. وَمَكَثَ مَلِكُ الرُّومِ
شَهْرَيْنِ يَأْخُذُ مَا شَاءَ مِنَ الْبِلَادِ، وَيَأْسِرُ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ
مِنَ الْعِبَادِ، وَصَارَتْ لَهُ مَهَابَةٌ عَظِيمَةٌ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، ثُمَّ
عَادَ إِلَى بِلَادِهِ وَمَعَهُ مِنَ السَّبْيِ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ
صَبِيٍّ وَصَبْيَةٍ، وَكَانَ سَبَبَ عَوْدِهِ إِلَى بِلَادِهِ كَثْرَةُ
الْأَمْرَاضِ فِي جَيْشِهِ وَاشْتِيَاقُهُمْ إِلَى أَوْلَادِهِمْ
وَأَهْلِيهِمْ
وَأَوْطَانِهِمْ.
وَبَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى الْجَزِيرَةِ فَنَهَبُوا وَسَبَوْا، وَكَانَ
قَرْعُوَيْهِ غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى حَلَبَ
وَأَخْرَجَ مِنْهَا ابْنَ أُسْتَاذِهِ أَبَا الْمَعَالِي شَرِيفَ بْنَ سَيْفِ
الدَّوْلَةِ، فَسَارَ إِلَى حُرَّانَ وَهِيَ تَحْتَ حُكْمِهِ، فَأَبَوْا أَنْ
يُدْخِلُوهُ إِلَيْهِمْ، فَذَهَبَ إِلَى أُمِّهِ بِمَيَّافَارِقِينَ، وَهِيَ
ابْنَةُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ، فَمَكَثَ عِنْدَهَا حِينًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى
حُمَاةَ فَمَلَكَهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى حَلَبَ بَعْدَ سَنَتَيْنِ كَمَا
سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ.
وَلَمَّا عَاثَتِ الرُّومُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالشَّامِ صَانَعَهُمْ
قَرْعُوَيْهِ عَنْ حَلَبَ وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِأَمْوَالٍ وَتُحَفٍ، ثُمَّ
عَادُوا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ فَمَلَكُوهَا وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْهَا،
وَسَبَوْا عَامَّةَ أَهْلِهَا، وَرَكِبُوا إِلَى حَلَبَ وَأَبُو الْمَعَالِي
شَرِيفٌ مُحَاصِرٌ غُلَامَهُمْ قَرْعُوَيْهِ بِهَا، فَخَافَهُمْ أَبُو
الْمَعَالِي، فَهَرَبَ عَنْهَا، وَحَاصَرَهَا الرُّومُ، فَأَخَذُوا الْبَلَدَ،
وَامْتَنَعَتِ الْقَلْعَةُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا مَعَ قَرْعُوَيْهِ عَلَى
هُدْنَةٍ مُؤَبَّدَةٍ وَمَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِمْ كُلَّ سَنَةٍ، وَسَلَّمُوا
إِلَيْهِ الْبَلَدَ، وَرَجَعُوا عَنْهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ عَلَى الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ وَهُوَ
بِإِفْرِيقِيَّةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو خَزْرٍ، فَنَهَضَ إِلَيْهِ
الْمُعِزُّ بِنَفْسِهِ وَجُنُودِهِ، فَهَرَبَ مِنْهُ فَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهِ
يُوسُفَ بْنَ بُلُكِّينَ بْنِ زِيرِي، فَشَرَّدَهُ، وَطَرَدَهُ، ثُمَّ عَادَ
فَاسْتَأْمَنَ، فَقَبِلَ مِنْهُ الْمُعِزُّ ذَلِكَ وَصَفَحَ عَنْهُ، وَجَاءَ
الرَّسُولُ مِنْ جَوْهَرٍ الْقَائِدِ إِلَى الْمُعِزِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
يُبَشِّرُهُ بِفَتْحِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ
وَإِقَامَةِ الدَّعْوَةِ لَهُ بِهَا، وَطَلَبَهُ إِلَيْهَا، فَفَرِحَ بِذَلِكَ
الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ فَرَحًا شَدِيدًا، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ، فَكَانَ
مِمَّنِ امْتَدَحَهُ شَاعِرُهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَانِئٍ فِي قَصِيدَةٍ أَوَّلُهَا:
يَقُولُ بَنُو الْعَبَّاسِ هَلْ فُتِحَتْ مِصْرُ فَقُلْ لِبَنِي الْعَبَّاسِ قَدْ
قُضِيَ الْأَمْرُ
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ النِّقْفُورُ
الَّذِي كَانَ دُمُسْتُقًا، ثُمَّ صَارَ مَلِكَ الرُّومِ، وَأَرَادَ قَتْلَ
ابْنَيِ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، فَغَارَتْ أُمُّهُمَا لَهُمَا،
فَقَتَلَتْهُ غِيلَةً. قَالَ: وَقَدْ كَانَ هَذَا اللَّعِينُ مِنْ أَبْنَاءِ
الْمُسْلِمِينَ، كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ طَرَسُوسَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ
يُعْرَفُ بِابْنِ الْفَقَّاسِ، فَتَنَصَّرَ وَلَدُهُ هَذَا وَحَظِيَ عِنْدَ
النَّصَارَى حَتَّى صَارَ مِنْ أَمْرِهِ مَا صَارَ، وَكَانَ مِنْ أُشِدِّ النَّاسِ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَخَذَ بِلَادًا كَثِيرَةً عَنْوَةً، مِنْ ذَلِكَ
طَرَسُوسُ وَأَذَنَةُ، وَعَيْنُ زَرْبَةَ، وَالْمِصِّيصَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ
الْبِلَادِ، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ، وَسَبَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ مَا لَا يَعْلَمُ
عَدَدَهُمْ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ. وَهَذَا اللَّعِينُ هُوَ الَّذِي بَعَثَ
تِلْكَ الْقَصِيدَةَ إِلَى الْمُطِيعِ لِلَّهِ وَقَدْ أَوْرَدْنَاهَا فِي آخِرِ
الْجُزْءِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
ثُمَّ انْتُدِبَ لَهَا فِيمَا بَعْدُ ذَلِكَ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ أَبُو
مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ، فَأَجَابَ عَنْهَا جَوَابًا شَافِيًا
كَافِيًا، فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا.
وَفِيهَا
رَامَ عِزُّ الدَّوْلَةِ صَاحِبُ بَغْدَادَ مُحَاصَرَةَ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ
فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَصَالَحَهُ وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا اصْطَلَحَ قَرْعُوَيْهِ وَأَبُو الْمَعَالِي شَرِيفٌ، فَخَطَبَ لَهُ
قَرْعُوَيْهِ بِحَلَبَ، وَخَطَبَا جَمِيعًا فِي مُعَامَلَتَيْهَا لِلْمُعِزِّ
الْفَاطِمِيِّ بِحَلَبَ وَحِمْصَ، وَخُطِبَ بِمَكَّةَ لِلْمُطِيعِ لِلَّهِ
وَلِلْقَرَامِطَةِ أَيْضًا، وَبِالْمَدِينَةِ لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ، وَخَطَبَ
أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ بِظَاهِرِهَا لِلْمُطِيعِ لِلَّهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَلِيٍّ الصَّوَّافُ
رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ وَطَبَقَتِهِ، وَعَنْهُ خَلْقٌ ;
مِنْهُمُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مِثْلَهُ فِي
تَحَرُّزِهِ وَدِينِهِ. وَقَدْ بَلَغَ تِسْعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَارِبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَارِبٍ، أَبُو الْعَلَاءِ
الْقَاضِي الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، مِنْ ذُرِّيَّةِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ،
وَكَانَ ثِقَةً عَالِمًا فَاضِلًا، رَوَى عَنْ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ
وَغَيْرِهِ.
أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقَطَّانِ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ،
تَفَقَّهَ بِابْنِ سُرَيْجٍ، ثُمَّ بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَتَفَرَّدَ بِرِيَاسَةِ الْمَذْهَبِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ، وَصَنَّفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ، وَكَانَتِ الرِّحْلَةُ إِلَيْهِ بِبَغْدَادَ، وَدَرَّسَ بِهَا، وَكَتَبَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ مُحَرَّمٍ مِنْهَا عَمِلَتِ الرَّافِضَةُ بِدْعَتَهُمُ الْمُحَرَّمَةَ
عَلَى عَادَتِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرِهَا.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا أَخَذَتِ الْقَرَامِطَةُ دِمَشْقَ وَقَتَلُوا
نَائِبَهَا جَعْفَرَ بْنَ فَلَاحٍ مِنْ جِهَةِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ، وَكَانَ
رَئِيسَ الْقَرَامِطَةِ وَأَمِيرَهُمُ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَهْرَامٍ،
وَقَدْ أَمَدَّهُ عِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَادَ بِسِلَاحٍ وَعُدَدٍ كَثِيرَةٍ،
ثُمَّ سَارُوا إِلَى الرَّمْلَةِ فَأَخَذُوهَا، وَتَحَصَّنَ مَنْ كَانَ فِيهَا
مِنَ الْمَغَارِبَةِ بِيَافَا، فَتَرَكُوا عَلَيْهَا مَنْ يَحْصُرُهَا، ثُمَّ
سَارُوا نَحْوَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْرَابِ
وَالْإِخْشِيدِيَّةِ وَالْكَافُورِيَّةِ، فَوَصَلُوا عَيْنَ شَمْسٍ فَاقْتَتَلُوا
هُمْ وَجُنُودُ جَوْهَرٍ قِتَالًا شَدِيدًا، وَالظَّفَرُ لِلْقَرَامِطَةِ،
وَحَصَرُوا الْمَغَارِبَةَ حَصْرًا عَظِيمًا.
ثُمَّ حَمَلَتِ الْمَغَارِبَةُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ عَلَى مَيْمَنَةِ
الْقَرَامِطَةِ فَهَزَمَتْهَا، وَرَجَعَتِ الْقَرَامِطَةُ إِلَى الشَّامِ
فَجَدُّوا فِي حِصَارِ يَافَا فَأَرْسَلَ جَوْهَرٌ إِلَى أَصْحَابِهِ خَمْسَةَ
عَشَرَ مَرْكَبًا، مِيرَةً لِأَصْحَابِهِ، فَأَخَذَتْهَا مَرَاكِبُ الْقَرَامِطَةِ،
سِوَى مَرْكَبَيْنِ أَخَذَتْهَا الْفِرِنْجُ. وَجَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ.
وَمِنْ
شَعْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بَهْرَامٍ أَمِيرِ الْقَرَامِطَةِ:
زَعَمَتْ رِجَالُ الْغَرْبِ أَنِّي هِبْتُهَا فَدَمِي إِذَنْ مَا بَيْنَهُمْ
مَطْلُولُ يَا مِصْرُ إِنْ لَمْ أَسْقِ أَرْضَكِ مِنْ دَمٍ
يَرْوِي ثَرَاكِ فَلَا سَقَانِي النِّيلُ
وَفِيهَا تَزَوَّجَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ ابْنَةَ بَخْتِيَارَ عِزِّ
الدَّوْلَةِ، وَعُمُرُهَا ثَلَاثُ سِنِينَ، عَلَى صَدَاقٍ مِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَوَقَعَ الْعَقْدُ فِي صَفَرٍ.
وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ الصَّاحِبَ
أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ عَبَّادٍ، فَأَصْلَحَ أُمُورَهُ كُلَّهَا وَسَاسَ
دَوْلَتَهُ جَيِّدًا.
وَفِيهَا أُذِّنَ بِدِمَشْقَ وَسَائِرِ الشَّامِ بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ نَائِبِ
دِمَشْقَ: أَوَّلُ مَنْ تَأَمَّرَ بِهَا عَنِ الْفَاطِمِيِّينَ وَهُوَ الَّذِي
أَمَرَ بِذَلِكَ نِيَابَةً عَنِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ صَاحِبِ الْقَاهِرَةِ
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْأَلْهَانِيِّ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِرَامٍ: وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ
مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ أَعْلَنَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي
الْجَامِعِ بِدِمَشْقَ وَسَائِرِ مَآذِنِ الْبَلَدِ، وَمَآذِنِ الْمَسَاجِدِ
بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، بَعْدَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، أَمَرَهُمْ
بِذَلِكَ جَعْفَرُ بْنُ فَلَاحٍ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَلَا
وَجَدُوا مِنَ الْمُسَارَعَةِ إِلَى طَاعَتِهِ بُدًّا.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، الثَّامِنِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا أُمِرَ
الْمُؤَذِّنُونَ أَنْ يُثَنُّوا الْأَذَانَ
وَالتَّكْبِيرَ
فِي الْإِقَامَةِ مَثْنَى مَثْنَى، وَأَنْ يَقُولُوا فِي الْإِقَامَةِ: حَيَّ
عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ. فَاسْتَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَصَبَرُوا عَلَى حُكْمِ
اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الرَّفَّاءُ الشَّاعِرُ، السَّرِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ السَّرِيِّ، أَبُو
الْحَسَنِ الْكِنْدِيُّ الرَّفَّاءُ الشَّاعِرُ الْمَوْصِلِيُّ
أَرَّخَ وَفَاتَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ
سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ - وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ، ذَكَرَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
كَمَا سَيَأْتِي.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ
يَزِيدَ، أَبُو بَكْرٍ الْبُنْدَارُ
أَصْلُهُ أَنْبَارِيٌّ، سَمِعَ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ الْخَلِيلِ الْبُرْجُلَانِيِّ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْعَوَّامِ الرِّيَاحِيِّ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الصَّائِغِ، وَأَبِي إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيِّ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى عَنْهُمْ. قَالُوا: وَكَانَتْ
أُصُولُهُ جِيَادًا بِخَطِّ أَبِيهِ، وَسَمَاعُهُ صَحِيحًا، وَقَدِ انْتَقَى
عَلَيْهِ عُمَرُ الْبَصْرِيُّ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فَجْأَةً يَوْمَ عَاشُورَاءَ
وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ.
مُحَمَّدُ
بْنُ الْحُسَيْنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو بَكْرٍ الْآجِرِيُّ
سَمِعَ جَعْفَرًا الْفِرْيَابِيَّ، وَأَبَا شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيَّ، وَأَبَا
مُسْلِمٍ الْكَجِّيَّ وَخَلْقًا، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا دَيِّنًا، وَلَهُ
تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ مُفِيدَةٌ، مِنْهَا " الْأَرْبَعُونَ الْآجِرِيَّةُ
"، وَقَدْ حَدَّثَ بِبَغْدَادَ قَبْلَ سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ بَعْدَ إِقَامَتِهِ
بِهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُظَفَّرٍ، أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ الْمُتَنَائِيَةِ، وَسَمِعَ مِنْهُ
الْحُفَّاظُ الْكِبَارُ، وَكَانَ فَقِيرًا مُتَقَلِّلًا، يَضْرِبُ اللَّبَنَ
لِقُبُورِ الْفُقَرَاءِ، وَيَتَقَوَّتُ بِرَغِيفٍ بِجَزَرَةٍ أَوْ بَصَلَةٍ،
وَيَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ، أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ
وَيُعْرَفُ بِالدُّقِّيِّ، أَصْلُهُ مِنَ الدِّينَوَرِ وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ،
ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ قَرَأَ عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْخَرَائِطِيِّ، وَصَحِبَ ابْنَ
الْجَلَاءِ وَالدَّقَّاقَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ
جَاوَزَ الْمِائَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ
بْنُ الْفَرُّخَانِ بْنِ رُوزْبَهْ، أَبُو الطِّيبِ الدُّورِيُّ
دَخَلَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِيهِ بِأَحَادِيثَ مُنْكَرَةٍ، وَرَوَى
عَنِ الْجُنَيْدِ وَابْنِ مَسْرُوقٍ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ فِيهِ
ظُرْفٌ وَلَبَاقَةٌ، غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَّهِمُونَهُ بِوَضْعِ
الْحَدِيثِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الطَّبَرَانِيُّ، سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ، أَبُو الْقَاسِمِ
الطَّبَرَانِيُّ اللَّخْمِيُّ
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ، صَاحِبُ الْمَعَاجِمِ الثَّلَاثَةِ ; " الْكَبِيرِ
" وَ " الْأَوْسَطِ "، وَ " الصَّغِيرِ "، وَكِتَابِ
" السُّنَّةِ "، وَكِتَابِ " مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ "،
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفِيدَةِ.
عَمَّرَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَصْبَهَانَ،
وَدُفِنَ عَلَى بَابِهَا عِنْدَ قَبْرِ حُمَمَةَ الدَّوْسِيِّ الصَّحَابِيِّ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي "
الْمُنْتَظَمِ ".
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَسَمِعَ مِنْ أَلْفِ شَيْخٍ. قَالَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي يَوْمِ السَّبْتَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَتْحِ - وَيُقَالُ: ابْنُ أَبِي الْفَتْحِ -
بْنُ خَاقَانَ، أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ النِّجَادِ، إِمَامُ جَامِعِ دِمَشْقَ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَانَ عَابِدًا صَالِحًا. وَذَكَرَ أَنَّ جَمَاعَةً جَاءُوا لِزِيَارَتِهِ، فَسَمِعُوهُ يَتَأَوَّهُ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ، فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِمْ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ آهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ يَسْتَرْوِحُ إِلَيْهِ الْأَعِلَّاءُ. قَالَ: فَزَادَ فِي أَعْيُنِهِمْ وَعَظَّمُوهُ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا يُؤْخَذُ عَنْهُ مُسَلَّمًا بِلَا دَلِيلٍ، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ عَنِ الْمَعْصُومِ، فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ، عَلَى الصَّحِيحِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ بِبَغْدَادَ الْبِدْعَةَ
الَّتِي تَقَرَّرَتْ مِنَ النَّوْحِ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَقَبَّحَهُمْ. وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا أَغَارَتِ الرُّومُ
عَلَى الْجَزِيرَةِ وَدِيَارِ بَكْرٍ، فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ
الرَّهَا وَسَارُوا فِي الْبِلَادِ كَذَلِكَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ
وَيَغْنَمُونَ، إِلَى أَنْ وَصَلُوا نَصِيبِينَ وَفَعَلُوا كَذَلِكَ بِبِلَادِ
بَكْرٍ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّوَاحِي أَبُو تَغْلِبَ بْنُ
حَمْدَانَ مُتَوَلِّيهَا شَيْئًا، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ دِفَاعٌ وَلَا لَهُ
قُوَّةٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ذَهَبَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ إِلَى بَغْدَادَ
يَسْتَنْصِرُونَ وَيَسْتَصْرِخُونَ، فَرَثَى لَهُمْ أَهْلُ بَغْدَادَ وَأَرَادُوا
إِدْخَالَهُمْ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ فَلَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ،
وَكَانَ بَخْتِيَارُ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مَشْغُولًا بِالصَّيْدِ، فَذَهَبَتِ
الرُّسُلُ وَرَاءَهُ، فَبَعَثَ الْحَاجِبَ سُبُكْتِكِينَ يَسْتَنْفِرُ النَّاسَ،
فَتَجَهَّزَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي تَغْلِبَ أَنْ
يُعِدَّ الْمِيرَةَ وَالْإِقَامَاتِ، فَأَظْهَرَ السُّرُورَ بِذَلِكَ وَالْفَرَحَ
وَالِابْتِهَاجَ، وَلَمَّا تَجَهَّزَتِ الْعَامَّةُ لِلْغَزَاةِ، وَقَعَتْ
بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ شَدِيدَةٌ ; بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ، فَأَحْرَقَتِ
السُّنَّةُ دُورَ الرَّوَافِضِ بِالْكَرْخِ، وَقَالُوا: الشَّرُّ كُلُّهُ
مِنْكُمْ. وَصَارَتِ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ يَأْخُذُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ،
وَتَنَاقَضَ النَّقِيبُ أَبُو أَحْمَدَ
الْمُوسَوِيُّ
وَالْوَزِيرُ أَبُو الْفَضْلِ الشِّيرَازِيُّ، وَأَرْسَلَ بَخْتِيَارُ بْنُ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَمْوَالًا يَسْتَعِينُ
بِهَا فِي هَذِهِ الْغَزَوَاتِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ يَقُولُ: لَوْ كَانَ الْخَرَاجُ
يُجْبَى إِلَيَّ لَدَفَعْتُ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِ،
وَلَكِنْ أَنْتَ تَصْرِفُ مِنْهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ ضَرُورَةٌ، وَأَمَّا
أَنَا فَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ أَبْعَثُ بِهِ إِلَيْكَ، فَتَرَدَّدَتِ الْبُرُدُ
بَيْنَهُمَا، وَأَغْلَظَ بَخْتِيَارُ لِلْخَلِيفَةِ فِي ذَلِكَ وَتَهَدَّدَهُ،
فَاحْتَاجَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يُحَصِّلَ لَهُ شَيْئًا، فَبَاعَ بَعْضَ ثِيَابِ
بَدَنِهِ وَشَيْئًا مِنْ أَثَاثِهِ، وَنَقَضَ بَعْضَ سُقُوفِ دَارِهِ، وَحَصَّلَ
أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَصَرَفَهَا بَخْتِيَارُ فِي مَصَالِحِ
نَفْسِهِ، وَأَبْطَلَ تِلْكَ الْغَزَاةَ، فَتَغَمَّمَ النَّاسُ لِلْخَلِيفَةِ،
وَسَاءَهُمْ مَا فَعَلَ ابْنُ بُوَيْهِ مِنْ أَخْذِهِ مَالَ الْخَلِيفَةِ
وَتَرَكِهِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا عَنِ
الْمُسْلِمِينَ، وَلَا عَنْ إِمَامِهِمْ.
وَفِيهَا تَسَلَّمَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ قَلْعَةَ مَارِدِينَ فَنَقَلَ
حَوَاصِلَهَا وَمَا فِيهَا إِلَى الْمَوْصِلِ.
وَفِيهَا اصْطَلَحَ الْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ السَّامَانِيُّ صَاحِبُ
خُرَاسَانَ هُوَ وَرُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ وَابْنُهُ عَضُدُ
الدَّوْلَةِ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَا إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ
دِينَارٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَتَزَوَّجَ بِابْنَةِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ،
فَحَمَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا خَرَجَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ بِأَهْلِهِ وَحَاشِيَتِهِ
وَجُنُودِهِ مِنْ مَدِينَةِ
الْمَنْصُورَةِ
مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ قَاصِدًا الْبِلَادَ الْمِصْرِيَّةَ، بَعْدَمَا مَهَّدَ
لَهُ مَوْلَاهُ جَوْهَرٌ الْقَائِدُ أَمْرَهَا، وَأَطَّدَهَا لَهُ وَبَنَى لَهُ
بِهَا الْقَصْرَيْنِ، وَاسْتَخْلَفَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ عَلَى بِلَادِ
الْمَغْرِبِ وَنَوَاحِيهَا وَصِقِلِّيَةَ وَأَعْمَالِهَا نُوَّابًا مِنْ حِزْبِهِ
وَأَنْصَارِهِ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ شَاعِرَهُ
مُحَمَّدَ بْنَ هَانِئٍ الْأَنْدَلُسِيَّ، فَتُوُفِّيَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ،
عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَكَانَ قُدُومُ الْمُعِزِّ إِلَى الْقَاهِرَةِ فِي
رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ النَّقِيبُ
عَلَى الطَّالِبِيِّينَ كُلِّهِمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ، أَبُو الْقَاسِمِ الْقِرْمِطِيُّ
الْهَجَرِيُّ
وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ، وَلَمْ
يَبْقَ مِنْ سُلَالَةِ أَبِي سَعِيدٍ سِوَاهُ.
عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ خَفِيفٍ، أَبُو عَمْرٍو
الْمُقْرِئُ الْمَعْرُوفُ بِالدَّرَّاجِ، حَدَّثَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي
دَاوُدَ، وَعَنْهُ ابْنُ رَزْقَوَيْهِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ
وَالْفِقْهِ وَالدِّرَايَةِ وَالدِّيَانَةِ وَالسِّتْرِ، جَمِيلَ الْمَذْهَبِ،
وَكَانَ يُعَدُّ مِنَ الْأَبْدَالِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي
رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَلِيُّ
بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خَلَفٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْقَطَّانُ، الشَّاعِرُ
الْمَعْرُوفُ بِالزَّاهِي. وَمِنْ شِعْرِهِ:
قُمْ نُهَنِّئُ عَاشِقَيْنِ أَصْبَحَا مُصْطَحِبَيْنَ جَمْعًا بَعْدَ فِرَاقٍ
فُجِعَا مِنْهُ وَبَيْنِ ثُمَّ عَادَا فِي سُرُورٍ
مِنْ صُدُودٍ آمِنَيْنَ فَهُمَا رُوحٌ وَلَكِنْ
رُكِّبَتْ فِي بَدَنَيْنِ
مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ شَدَّادٍ، أَبُو
بَكْرٍ الْمُخَرِّمِيُّ
سَمِعَ أَبَا خَلِيفَةَ وَجَعْفَرًا الْفِرْيَابِيَّ وَ ابْنَ جَرِيرٍ
وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ رَزْقَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ،
وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبَرْقَانِيُّ وَابْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ وَغَيْرُهُمَا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ بِدْعَتَهُمْ فِي عَاشُورَاءَ مِنَ النِّيَاحَةِ
وَتَعْلِيقِ الْمُسُوحِ وَغَلْقِ الْأَسْوَاقِ.
وَفِيهَا اجْتَمَعَ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ الْحَنَفِيُّ وَأَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الرُّمَّانِيُّ وَابْنُ الدَّقَّاقِ الْحَنْبَلِيُّ
بِعِزِّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ بْنِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ،
وَحَرَّضُوهُ عَلَى غَزْوِ الرُّومِ، فَبَعَثَ جَيْشًا لِقِتَالِهِمْ،
فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَبَعَثُوا
بِرُءُوسِهِمْ إِلَى بَغْدَادَ فَسَكَنَتْ أَنْفُسُ النَّاسِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا سَارَتِ الرُّومُ مَعَ الدُّمُسْتُقِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - إِلَى حِصَارِ
آمِدَ وَعَلَيْهَا هَزَارِمَرْدُ غُلَامُ أَبِي الْهَيْجَاءِ بْنِ حَمْدَانَ،
فَكَتَبَ إِلَى أَبِي تَغْلِبَ يَسْتَصْرِخُهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَخَاهُ أَبَا
الْقَاسِمِ هِبَةَ اللَّهِ بْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَاجْتَمَعَا
لِقِتَالِهِ، فَلَقِيَاهُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ
لَا مَجَالَ لِلْخَيْلِ فِيهِ، فَاقْتَتَلُوا مَعَ الرُّومِ قِتَالًا شَدِيدًا،
فَعَزَمَتِ الرُّومُ عَلَى الْفِرَارِ، فَلَمْ تَقْدِرْ، فَاسْتَحَرَّ فِيهِمُ
الْقَتْلُ، وَأُخِذَ الدُّمُسْتُقُ أَسِيرًا، فَأُودِعَ فِي السِّجْنِ، فَلَمْ
يَزَلْ فِيهِ حَتَّى مَرِضَ، وَمَاتَ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، وَقَدْ جَمَعَ
لَهُ أَبُو تَغْلِبَ الْأَطِبَّاءَ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ شَيْءٌ.
وَفِيهَا
احْتَرَقَ الْكَرْخُ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَعُونَةِ
ضَرَبَ رَجُلًا مِنَ الْعَامَّةِ فَمَاتَ، فَثَارَ بِهِ الْعَامَّةُ وَجَمَاعَةٌ
مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ فَدَخَلَ دَارًا، فَأَخْرَجُوهُ مَسْحُوبًا،
وَقَتَلُوهُ وَحَرَقُوهُ، فَرَكِبَ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَضْلِ الشِّيرَازِيُّ -
وَكَانَ شَدِيدَ التَّعَصُّبِ لِلسُّنَّةِ - وَبَعَثَ حَاجِبَهُ إِلَى أَهْلِ
الْكَرْخِ، فَأَلْقَى فِي دُورِهِمُ النَّارَ، فَاحْتَرَقَتْ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ
مِنَ الدُّورِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةِ دُكَّانٍ وَثَلَاثَةٌ
وَثَلَاثُونَ مَسْجِدًا، وَسَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ إِنْسَانٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ
عَزَلَ عِزُّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارُ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَزِيرَهُ هَذَا
عَنِ الْوِزَارَةِ، وَوَلَّاهَا مُحَمَّدَ بْنَ بَقِيَّةَ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ
مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ وَضِيعًا عِنْدَ
النَّاسِ لَا حُرْمَةَ لَهُ، كَانَ أَبُوهُ فَلَّاحًا بِقَرْيَةِ أَوَانَا وَكَانَ
هُوَ مِمَّنْ يَخْدِمُ عِزَّ الدَّوْلَةِ، يُقَدِّمُ لَهُ الطَّعَامَ، وَيَحْمِلُ
مِنْدِيلَ الزَّفَرِ عَلَى كَتِفِهِ إِلَى أَنْ وَلِيَ الْوِزَارَةَ، وَمَعَ هَذَا
كَانَ أَشَدَّ ظُلْمًا لِلرَّعِيَّةِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَكَثُرَ فِي
زَمَانِهِ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ، وَفَسَدَتِ الْأُمُورُ بِبَغْدَادَ،
وَوَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ عِزِّ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ حَاجِبِهِ سُبُكْتِكِينَ
ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى دَخَنٍ.
وَفِيهَا كَانَ دُخُولُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَصَحِبَتْهُ تَوَابِيتُ آبَائِهِ فَوَصَلَ إِلَى
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا، وَقَدْ تَلَقَّاهُ أَعْيَانُ مِصْرَ
إِلَيْهَا، فَخَطَبَ النَّاسَ هُنَالِكَ خُطْبَةً بَلِيغَةً ارْتِجَالًا، ذَكَرَ
فِيهَا فَضْلَهُمْ وَشَرَفَهُمْ، وَقَدْ كَذَبَ فَقَالَ فِيهَا: إِنَّ اللَّهَ
أَغَاثَ الرَّعَايَا بِهِمْ وَبِدَوْلَتِهِمْ، وَحَكَى ذَلِكَ عَنْهُ قَاضِي
بِلَادِ
مِصْرَ، وَكَانَ جَالِسًا إِلَى جَنْبِهِ، فَسَأَلَهُ: هَلْ رَأَيْتَ خَلِيفَةً
أَفْضَلَ مِنِّي ؟ فَقَالَ لَهُ: لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْخَلَائِفِ سِوَى
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ: أَحَجَجْتَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:
وَزُرْتَ قَبْرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ: نَعَمْ،
قَالَ: وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ؟ قَالَ: فَتَحَيَّرْتُ مَاذَا أَقُولُ،
ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا ابْنُهُ قَائِمٌ مَعَ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ، فَقُلْتُ:
شَغَلَنِي عَنْهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا
شَغَلَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ السَّلَامِ عَلَى وَلِيِّ الْعَهْدِ،
وَنَهَضْتُ إِلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَرَجَعْتُ، فَانْفَسَحَ الْمَجْلِسُ
إِلَى غَيْرِي.
ثُمَّ سَارَ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ إِلَى مِصْرَ، فَدَخَلَهَا فِي الْخَامِسِ
مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَنَزَلَ الْقَصْرَيْنِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ
أَوَّلُ مَا دَخَلَ إِلَى مَحَلِّ مُلْكِهِ خَرَّ سَاجِدًا شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ حُكُومَةٍ انْتَهَتْ إِلَيْهِ أَنَّ امْرَأَةَ كَافُورٍ
الْإِخْشِيدِيِّ تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ، فَذَكَرَتْ أَنَّهَا كَانَتْ أَوْدَعَتْ
رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ الصُّوَّاغِ قَبَاءً مِنْ لُؤْلُؤٍ مَنْسُوجٍ
بِالذَّهَبِ، وَأَنَّهُ جَحَدَ ذَلِكَ، فَاسْتَحْضَرَهُ وَقَرَّرَهُ، فَجَحَدَ
الْيَهُودِيُّ ذَلِكَ وَأَنْكَرَهُ، فَأَمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُعِزُّ، بِأَنْ
تُحْفَرَ دَارُهُ، وَيُسْتَخْرَجُ مَا فِيهَا، فَوَجَدُوا الْقَبَاءَ بِعَيْنِهِ
قَدْ جَعَلَهُ فِي جَرَّةٍ وَدَفَنَهَا فِيهَا، فَسَلَّمَهُ الْمُعِزُّ إِلَيْهَا،
فَقَدَّمَتْهُ إِلَيْهِ وَعَرَضَتْهُ عَلَيْهِ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهَا
وَرَدَّهُ عَلَيْهَا، فَاسْتَحْسَنَ مِنْهُ ذَلِكَ الْحَاضِرُونَ مِنْ مُؤْمِنٍ
وَكَافِرٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
السَّرِيُّ الرَّفَّاءُ الشَّاعِرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ السَّرِيِّ، أَبُو
الْحَسَنِ الْكِنْدِيُّ الْمَوْصِلِيُّ
الشَّاعِرُ، لَهُ مَدَائِحُ فِي سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَغَيْرِهِ
مِنَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، وَقَدْ قَدِمَ بَغْدَادَ فَاتَّفَقَ مَوْتُهُ
بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَقِيلَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ - وَقِيلَ خَمْسٍ -
وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، قَالَ: وَكَانَتْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَسَعِيدٍ ابْنَيْ هَاشِمٍ الْخَالِدِيَّيْنِ
الْمَوْصِلِيَّيْنِ مُعَادَاةٌ، وَادَّعَى عَلَيْهِمَا سَرِقَةَ شِعْرِهِ، وَكَانَ
مُعْتَنِيًا بِنَسْخِ دِيوَانِ كُشَاجِمَ الشَّاعِرِ، وَرُبَّمَا زَادَ فِيهِ مِنْ
شِعْرِ الْخَالِدِيَّيْنِ لِيَكْثُرَ حَجْمُهُ وَيَزُنَّهُمَا بِالْكَذِبِ.
وَكَانَ قَدِ امْتَدَحَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ فَأَجْرَى لَهُ رِزْقًا فَلَمْ يَزَلْ
بِهِ الْخَالِدِيَّانِ حَتَّى قَطَعَا رَسْمَهُ مِنْ عِنْدِهِ، فَدَخَلَ بَغْدَادَ
وَامْتَدَحَ الْوَزِيرَ الْمُهَلَّبِيَّ، فَرَحَلَا وَرَاءَهُ فَلَمْ يَزَالَا فِي
ثَلْبِهِ عِنْدَهُ حَتَّى هَجَرَهُ وَقَلَاهُ، فَرَكِبَهُ الدَّيْنُ وَمَاتَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلِلسَّرِيِّ الرَّفَّاءِ هَذَا دِيوَانُ شِعْرٍ كَبِيرٌ
جَيِّدٌ، فَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
يَلْقَى النَّدَى بِرَقِيقِ وَجْهٍ مُسْفِرٍ فَإِذَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ عَادَ
صَفِيقَا
رَحْبُ
الْمَنَازِلِ مَا أَقَامَ فَإِنْ سَرَى
فِي جَحْفَلٍ تَرَكَ الْفَضَاءَ مَضِيقًا
وَقَوْلُهُ:
أَلْبَسْتَنِي نِعَمًا رَأَيْتُ بِهَا الدُّجَى صُبْحًا وَكُنْتُ أَرَى الصَّبَاحَ
بَهِيمَا
فَغَدَوْتُ يَحْسُدُنِي الصَّدِيقُ وَقَبْلَهَا قَدْ كَانَ يَلْقَانِي الْعَدُوُّ
رَحِيمَا
وَقَوْلُهُ:
بِنَفْسِي مَنْ أَجُودُ لَهُ بِنَفْسِي وَيَبْخَلُ بِالتَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ
وَحَتْفِي كَامِنٌ فِي مُقْلَتَيْهِ كُمُونَ الْمَوْتِ فِي حَدِّ الْحُسَامِ
مُحَمَّدُ بْنُ هَانِئٍ الْأَنْدَلُسِيُّ الشَّاعِرُ
كَانَ قَدِ اسْتَصْحَبَهُ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ مِنْ بِلَادِ الْقَيْرَوَانِ
وَتِلْكَ النَّوَاحِي حِينَ تَوَجَّهَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَلَمَّا
كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وَجَدَ مُحَمَّدَ بْنَ هَانِئٍ مَقْتُولًا مُجَدَّلًا
عَلَى حَافَّةِ الْبَحْرِ، وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ شَاعِرًا
مُطَبِّقًا قَوِيَّ النَّظْمِ، إِلَّا أَنَّهُ كَفَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْعُلَمَاءِ فِي مُبَالَغَاتِهِ فِي مَدَائِحِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ
يَمْدَحُ الْمُعِزَّ قَبَّحَهُمَا اللَّهُ
مَا شِئْتَ لَا مَا شَاءَتِ الْأَقْدَارُ فَاحْكُمْ فَأَنْتَ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ
وَهَذَا خَطَأٌ كَبِيرٌ، وَكُفْرٌ كَثِيرٌ.
وَقَالَ
أَيْضًا، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، وَفَضَّ فَاهُ:
وَلَطَالَمَا زَاحَمْتُ تَحْ تَ رِكَابِهِ جِبْرِيلَا
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَلَمْ أَجِدْ ذَلِكَ فِي
دِيوَانِهِ -:
حَلَّ بِرَقَّادَةَ الْمَسِيحُ حَلَّ بِهَا آدَمٌ وَنُوحُ
حَلَّ بِهَا اللَّهُ ذُو الْمَعَالِي فَكُلُّ شَيْءٍ سِوَاهُ رِيحُ
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَقَدْ شَرَعَ بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ فِي
الِاعْتِذَارِ عَنْهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: هَذَا الشِّعْرُ إِنْ صَحَّ
عَنْهُ، فَلَيْسَ عَنْهُ اعْتِذَارٌ، لَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلَا فِي
هَذِهِ الدَّارِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَخْتَوَيْهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَكِّي
أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْمُبَرَّزِينَ، أَنْفَقَ عَلَى الْحَدِيثِ وَأَهْلِهُ
أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَسَمِعَ النَّاسُ بِتَخْرِيجِهِ، وَعُقِدَ لَهُ مَجْلِسُ
الْإِمْلَاءِ بِنَيْسَابُورَ، وَرَحَلَ وَسَمِعَ مِنَ الْمَشَايِخِ شَرْقًا
وَغَرْبًا، وَمِنْ مَشَايِخِهِ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَكَانَ
يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ كِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ، مِنْهُمْ أَبُو
الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ وَأَضْرَابُهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
عَنْ سَبْعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
سَعِيدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ خَالِدٍ أَبُو عَمْرٍو
الْبَرْذَعِيُّ
أَحَدُ
الْحُفَّاظِ، رَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ كَوْثَرِ بْنِ عَلِيٍّ، أَبُو بَحْرٍ
الْبَرْبَهَارِيُّ
رَوَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَتِمْتَامٍ وَالْبَاغَنْدِيِّ
وَالْكُدَيْمِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ رَزْقَوَيْهِ وَأَبُو
نُعَيْمٍ، وَانْتَخَبَ عَلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: اقْتَصِرُوا عَلَى
مَا خَرَّجْتُهُ لَهُ، فَقَدِ اخْتَلَطَ صَحِيحُ سَمَاعِهِ بِفَاسِدِهِ، وَقَدْ
تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ حُفَّاظِ زَمَانِهِ بِسَبَبِ تَخْلِيطِهِ
وَغَفْلَتِهِ، وَاتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ بِالْكَذِبِ أَيْضًا.
الْقَاضِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو عَلِيٍّ
الْمَرْوَرُّوذِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الْمَذْهَبِ فِي زَمَانِهِ، وَلَهُ التَّعْلِيقَةُ
الْمَشْهُورَةُ، تَفَقَّهَ بِأَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ الْمَرْوَزِيَّ وَأَخَذَ
عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ صَاحِبُ " التَّهْذِيبِ " وَ
" التَّفْسِيرِ " وَ " شَرَحِ السُّنَّةِ " وَ "
الْمَصَابِيحِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي الطَّبَقَاتِ بِمَا
فِيهِ كِفَايَةٌ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ
وَالْغَزَّالِيُّ: قَالَ الْقَاضِي. فَهُوَ هَذَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا عُمِلَتِ الْبِدْعَةُ الشَّنْعَاءُ عَلَى عَادَةِ الرَّوَافِضِ، وَوَقَعَتْ
فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالرَّافِضَةِ، وَكِلَا
الْفَرِيقَيْنِ قَلِيلُ عَقَلٍ، بَعِيدٌ عَنِ السَّدَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ
جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَرْكَبُوا امْرَأَةً وَسَمَّوْهَا عَائِشَةَ،
وَتَسَمَّى بَعْضُهُمْ بِطَلْحَةَ، وَبَعْضُهُمْ بِالزُّبَيْرِ وَقَالُوا:
نُقَاتِلُ أَصْحَابَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ
خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَعَاثَتِ الْعَيَّارُونَ فِي الْبَلَدِ بِالْفَسَادِ وَنَهْبِ
الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ الرِّجَالِ، ثُمَّ أَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَقُتِلُوا
وَصُلِبُوا، فَسَكَنَتِ النُّفُوسُ.
وَفِيهَا أَخَذَ عِزُّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارُ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ
الْمَوْصِلَ وَزَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ.
وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِالْبَصْرَةِ بَيْنَ الدَّيَالِمِ وَالْأَتْرَاكِ،
فَقَوِيَتِ الدَّيْلَمُ عَلَى التُّرْكِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُلْكَ فِيهِمْ،
فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَحَبَسُوا رُءُوسَهُمْ، وَنَهَبُوا
كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَكَتَبَ عِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى أَهْلِهِ: إِنِّي
سَأَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَنِّي قَدْ مُتُّ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ
فَأَظْهِرُوا النَّوْحَ، وَاجْلِسُوا لِلْعَزَاءِ، فَإِذَا جَاءَ سُبُكْتِكِينُ
لِلتَّعْزِيَةِ فَاقْبِضُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ رُكْنُ الْأَتْرَاكِ
وَرَأْسُهُمْ. فَلَمَّا جَاءَ الْبَرِيدُ إِلَى بَغْدَادَ بِذَلِكَ أَظْهَرُوا
النَّوْحَ وَالصُّرَاخَ، فَفَهِمَ سُبُكْتِكِينُ أَنَّ هَذِهِ مَكِيدَةٌ فَلَمْ
يَقَرَبْهُمْ،
وَتَحَقَّقَ
الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِزِّ الدَّوْلَةِ، وَرَكِبَ مِنْ فَوْرِهِ فِي
الْأَتْرَاكِ، فَحَاصَرُوا دَارَ عِزِّ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَادَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ
أَنْزَلَ أَهْلَهُ مِنْهَا، وَنَهَبَ مَا فِيهَا وَأَحْدَرَهُمْ مِنْ دِجْلَةَ
إِلَى وَاسِطٍ مَنْفِيِّينَ، وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى بَعْثِ الْخَلِيفَةِ
إِلَيْهِ، فَعَفَا عَنْهُ وَأَقَرَّهُ بِدَارِهِ وَقَوِيَتْ شَوْكَةُ
سُبُكْتِكِينَ وَالْأَتْرَاكِ بِبَغْدَادَ، وَنَهَبَتِ الْأَتْرَاكُ دُورَ
الدَّيْلَمِ، وَخَلَعَ سُبُكْتِكِينُ عَلَى رُؤَسَاءِ الْعَامَّةِ ; لِأَنَّهُمْ
كَانُوا مَعَهُ عَلَى الدَّيْلَمِ، وَقَوِيَتِ السُّنَّةُ عَلَى الشِّيعَةِ،
وَأَحْرَقُوا الْكَرْخَ حَرِيقًا ثَانِيًا، وَظَهَرَتِ السُّنَّةُ عَلَى أَيْدِي
الْأَتْرَاكِ، وَخُلِعَ الْمُطِيعُ، وَوُلِّيَ وَلَدُهُ الطَّائِعُ لِلَّهِ عَلَى
مَا سَنَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
خِلَافَةُ الطَّائِعِ وَخَلْعُ أَبِيهِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ
ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ
ذِي الْقَعْدَةِ - وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ ": كَانَ
ذَلِكَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ - خُلِعَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَذَلِكَ لِفَالِجٍ أَصَابَهُ، فَثَقُلَ
لِسَانُهُ، فَسَأَلَهُ سُبُكْتِكِينُ أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ، وَيُوَلِّيَ مِنْ
بَعْدِهِ وَلَدَهُ الطَّائِعَ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ فَعُقِدَتِ الْبَيْعَةُ
لِلطَّائِعِ بِدَارِ الْخِلَافَةِ عَلَى يَدَيِ الْحَاجِبِ سُبُكْتِكِينَ،
وَخُلِعَ أَبُوهُ الْمُطِيعُ بَعْدَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً كَانَتْ لَهُ فِي
الْخِلَافَةِ، وَلَكِنْ تَعَوَّضَ بِوِلَايَةِ وَلَدِهِ.
وَاسْمُ الطَّائِعِ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْمُطِيعِ لِلَّهِ أَبِي
الْقَاسِمِ الْفَضْلِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ
بِاللَّهِ
جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَمِيرِ أَبِي
أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ
الرَّشِيدِ، وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ مَنِ اسْمُهُ عَبْدُ الْكَرِيمِ سِوَاهُ،
وَلَا مَنْ أَبَوْهُ حَيٌّ سِوَاهُ وَسِوَى أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ أَسَنَّ مِنْهُ
حَالَ الْوِلَايَةِ، كَانَ عُمُرُهُ ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ
أُمُّهُ أَمَّ وَلَدٍ اسْمُهَا عُتْبُ، وَكَانَتْ تَعِيشُ أَيْضًا يَوْمَ بُويِعَ
بِالْخِلَافَةِ، وَلَمَّا بُويِعَ الطَّائِعُ رَكِبَ وَعَلَيْهِ الْبُرْدَةُ،
وَبَيْنَ يَدَيْهِ سُبُكْتِكِينُ وَالْجَيْشُ، ثُمَّ خَلَعَ مِنَ الْغَدِ عَلَى
سُبُكْتِكِينَ خِلَعَ الْمُلُوكِ، وَلَقَّبَهُ نَصْرَ الدَّوْلَةِ، وَعَقَدَ لَهُ
لِوَاءَ الْإِمَارَةِ. وَلَمَّا حَضَرَ الْأَضْحَى رَكِبَ الطَّائِعُ وَعَلَيْهِ
السَّوَادُ، فَخَطَبَ النَّاسَ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَةً خَفِيفَةً حَسَنَةً.
وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " أَنَّ الْمُطِيعَ
لِلَّهِ كَانَ يُسَمَّى بَعْدَ خَلْعِهِ بِالشَّيْخِ الْفَاضِلِ.
ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ
الْقِرْمِطِيِّ
لَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَابْتَنَى فِيهَا الْقَاهِرَةَ وَالْقَصْرَيْنِ،
وَتَأَطَّدَ
مُلْكُهُ، سَارَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْقِرْمِطِيُّ مِنَ
الْأَحْسَاءِ فِي جَمْعٍ كَثِيفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَالْتَفَّ مَعَهُ أَمِيرُ
الْعَرَبِ بِبِلَادِ الشَّامِ وَهُوَ حَسَّانُ بْنُ الْجَرَّاحِ الطَّائِيُّ، فِي
عَرَبِ الشَّامِ بِكَمَالِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمُ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ
أُسْقِطَ فِي يَدِهِ لِكَثْرَتِهِمْ، وَكَتَبَ إِلَى الْقِرْمِطِيُّ يَسْتَمِيلُهُ،
وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ دَعْوَةَ آبَائِكَ إِنَّمَا كَانَتْ إِلَى آبَائِي
قَدِيمًا، فَدَعْوَتُنَا وَاحِدَةٌ. وَيَذْكُرُ فِيهِ فَضْلَهُ وَفَضْلَ آبَائِهِ،
فَرَدَّ الْجَوَابَ: وَصَلَ كِتَابُكَ الَّذِي كَثُرَ تَفْضِيلُهُ، وَقَلَّ
تَحْصِيلُهُ، وَنَحْنُ سَائِرُونَ إِلَيْكَ عَلَى إِثْرِهِ، وَالسَّلَامُ.
فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى دِيَارِ مِصْرَ عَاثُوا فِيهَا قَتْلًا وَنَهْبًا
وَإِفْسَادًا، وَحَارَ الْمُعِزُّ مَاذَا يَصْنَعُ ; لِكَثْرَةِ مَنْ مَعَ
الْقِرْمِطِيِّ، وَضَعُفَ جَيْشُهُ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ، فَعَدَلَ إِلَى
الْمَكِيدَةِ وَالْخَدِيعَةِ، فَرَاسَلَ حَسَّانَ بْنَ الْجَرَّاحِ أَمِيرَ
الْعَرَبِ، وَوَعَدَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ إِنْ هُوَ خَذَّلَ بَيْنَ
النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِمَا الْتَزَمْتَ،
وَتَعَالَ بِمَنْ مَعَكَ، فَإِذَا الْتَقَيْنَا انْهَزَمْتُ بِمَنْ مَعِي،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُعِزُّ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ فِي أَكْيَاسٍ،
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهَا زَغَلٌ، ضَرَبَ النُّحَاسَ وَلَبَّسَهُ الذَّهَبَ،
وَجَعْلَهُ فِي أَسْفَلِ الْأَكْيَاسِ، وَوَضَعَ فِي رُءُوسِ الْأَكْيَاسِ الدَّنَانِيرَ
الْخَالِصَةَ، وَلَمَّا بَعَثَهَا إِلَيْهِ رَكِبَ فِي إِثْرِهَا بِجَيْشِهِ،
فَالْتَقَى النَّاسُ، وَلَمَّا تَوَاجَهَ الْفَرِيقَانِ وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ
بَيْنَهُمْ، انْهَزَمَ حَسَّانُ بْنُ الْجَرَّاحِ بِالْعَرَبِ، فَضَعُفَ جَانِبُ
الْقِرْمِطِيِّ، وَقَوِيَ عَلَيْهِ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ فَكَسَرَهُ،
وَانْهَزَمَتِ الْقَرَامِطَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَرَجَعُوا إِلَى أَذْرِعَاتَ فِي
أَذَلِّ حَالٍ وَأَفَلِّهِ، وَبَعَثَ الْمُعِزُّ فِي آثَارِهِمُ الْقَائِدَ أَبَا
مَحْمُودٍ إِبْرَاهِيمَ بْنَ جَعْفَرٍ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ ; لِيَحْسِمَ
مَادَّةَ الْقَرَامِطَةِ.
مُلْكُ
الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ دِمَشْقَ، وَانْتِزَاعُهُ إِيَّاهَا مِنْ يَدِ
الْقَرَامِطَةِ
لَمَّا انْهَزَمَ الْقِرْمِطِيُّ وَأَصْحَابُهُ، بَعَثَ الْمُعِزُّ سَرِيَّةً،
عَلَيْهِمْ ظَالِمُ بْنُ مَوْهُوبٍ الْعُقَيْلِيُّ أَمِيرًا عَلَى دِمَشْقَ
فَتَسَلَّمَهَا مِنَ الْقَرَامِطَةِ بَعْدَ حِصَارٍ شَدِيدٍ، وَاعْتَقَلَ
مُتَوَلِّيَهَا أَبَا الْمُنَجَّا الْقِرْمِطِيَّ وَابْنَهُ، وَاعْتَقَلَ رَجُلًا
يُقَالُ لَهُ: أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَهْلِ نَابُلُسَ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي
الْفَاطِمِيِّينَ، وَيَقُولُ: لَوْ كَانَ مَعِي عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لَرَمَيْتُ
الرُّومَ بِسَهْمٍ وَرَمَيْتُ الْمَغَارِبَةَ - يَعْنِي الْفَاطِمِيِّينَ -
بِتِسْعَةٍ. فَسُلِخَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعِزِّ، وَحُشِيَ جِلْدُهُ تِبْنًا،
وَصُلِبَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا تَفَرَّغَ أَبُو مَحْمُودٍ الْقَائِدُ مِنْ قِتَالِ الْقَرَامِطَةِ
أَقْبَلَ نَحْوَ دِمَشْقَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ ظَالِمُ بْنُ مَوْهُوبٍ، فَتَلَقَّاهُ
إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَأَكْرَمَهُ وَأَنْزَلَهُ ظَاهِرَ دِمَشْقَ فَأَفْسَدَ
أَصْحَابُهُ فِي الْغُوطَةِ وَالْمَرْجِ وَنَهَبُوا الْفَلَّاحِينَ، وَقَطَعُوا
الطُّرُقَاتِ عَلَى النَّاسِ، وَتَحَوَّلَ أَهْلُ الْغُوطَةِ إِلَى الْبَلَدِ مِنْ
كَثْرَةِ النَّهْبِ، وَجِيءَ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْقَتْلَى فَأُلْقُوا فِي
الْجَامِعِ، فَكَثُرَ الضَّجِيجُ، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ، وَاجْتَمَعَتِ
الْعَامَّةُ لِلْقِتَالِ، وَالْتَقَوْا مَعَ الْمَغَارِبَةِ، فَقُتِلَ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ، وَانْهَزَمَتِ الْعَامَّةُ غَيْرَ مَرَّةٍ،
وَأَحْرَقَتِ الْمَغَارِبَةُ
نَاحِيَةَ
بَابِ الْفَرَادِيسِ، فَاحْتَرَقَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالدُّورِ
وَلَبِثَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَأُحْرِقَ
الْبَلَدُ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ عَزْلِ ظَالِمِ بْنِ مَوْهُوبٍ وَتَوْلِيَةِ
جَيْشِ بْنِ صَمْصَامَةَ ابْنِ أُخْتِ أَبِي مَحْمُودٍ، قَبَّحَهُ اللَّهُ،
وَقُطِّعَتِ الْقَنَوَاتُ وَسَائِرُ الْمِيَاهِ عَنِ الْبَلَدِ، وَمَاتَ كَثِيرٌ
مِنَ الْفُقَرَاءِ فِي الطُّرُقَاتِ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلَمْ يَزَلِ
الْحَالُ كَذَلِكَ حَتَّى وَلِيَ عَلَيْهِمُ الطَّوَاشِيُّ رَيَّانُ الْخَادِمُ،
مِنْ جِهَةِ الْمُعِزِّ، فَسَكَنَتِ الْأُمُورُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا قَوِيَتِ الْأَتْرَاكُ بِبَغْدَادَ تَحَيَّرَ عِزُّ الدَّوْلَةِ
بَخْتِيَارُ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ فِي أَمْرِهِ، وَمَا يَصْنَعُ، وَهُوَ
بِالْأَهْوَازِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَمِّهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَسْتَنْجِدُهُ، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ بِعَسْكَرٍ مَعَ وَزِيرِهِ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ الْعَمِيدِ، وَأَرْسَلَ
إِلَى ابْنِ عَمِّهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، فَتَبَاطَأَ
عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ فَلَمْ يُجِبْهُ، وَأَرْسَلَ
إِلَى أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ، فَأَظْهَرَ نَصْرَهُ وَإِنَّمَا يُرِيدُ فِي
الْبَاطِنِ أَخْذَ بَغْدَادَ وَخَرَجَتِ الْأَتْرَاكُ مِنْ بَغْدَادَ فِي جَحْفَلٍ
كَثِيرٍ، وَمَعَهُمُ الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ وَأَبُوهُ الْمُطِيعُ، فَلَمَّا
انْتَهَوْا إِلَى وَاسِطٍ تُوُفِّيَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَبَعْدَ أَيَّامٍ
تُوُفِّيَ سُبُكْتِكِينُ أَيْضًا، فَحُمِلَا إِلَى بَغْدَادَ فَالْتَفَّتِ
التُّرْكُ عَلَى أَمِيرٍ يُقَالُ لَهُ: أَفْتُكِينُ، فَاجْتَمَعَ شَمْلُهُمْ،
وَالْتَقَوْا مَعَ بَخْتِيَارَ فَضَعُفَ أَمْرُهُ جِدًّا، وَقَوِيَ عَلَيْهِ ابْنُ
عَمِّهِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُ مُلْكَ الْعِرَاقِ، وَتَمَزَّقَ
شَمْلُهُ، وَتَفَرَّقَ أَمْرُهُ.
وَفِيهَا خُطِبَ لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ بِالْحَرَمَيْنِ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ.
وَفِيهَا
خَرَجَ جَمْعٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى الْحُجَّاجِ،
فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَعَطَّلُوا عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمُ
الْحَجَّ فِي هَذَا الْعَامِ.
وَفِيهَا انْتَهَى تَارِيخُ ثَابِتِ بْنِ سِنَانِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ قُرَّةَ
وَأَوَّلُهُ مِنْ أَوَّلِ دَوْلَةِ الْمُقْتَدِرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ بِوَاسِطٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ
الْمُوسَوِيُّ، وَلَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ حَجٌّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سِوَى مَنْ
كَانَ مَعَهُ عَلَى دَرْبِ الْعِرَاقِ، وَقَدْ أَخَذَ بِالنَّاسِ عَلَى طَرِيقِ
الْمَدِينَةِ فَتَمَّ حَجُّهُمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْعَبَّاسُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَبُو الْفَضْلِ الشِّيرَازِيُّ
الْوَزِيرُ لِعِزِّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ بْنِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ
بُوَيْهِ، وَكَانَ مِنَ الْمُتَعَصِّبِينَ لِلسُّنَّةِ، عَكْسَ مَخْدُومِهِ،
فَعَزَلَهُ، وَوَلَّى مُحَمَّدَ بْنَ بَقِيَّةَ الْبَابَا كَمَا تَقَدَّمَ،
وَحَبَسَ هَذَا، فَقُتِلَ فِي مَحْبِسِهِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا، عَنْ تِسْعٍ
وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ فِيهِ ظُلْمٌ وَحَيْفٌ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ
الْحَنْبَلِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِغُلَامِ
الْخَلَّالِ،
أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْحَنَابِلَةِ الْأَعْيَانِ، وَمِمَّنْ صَنَّفَ وَجَمَعَ
وَنَاظَرَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ وَطَبَقَتِهِ،
وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ فَوْقَ الثَّمَانِينَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَهُ " الْمُقْنِعُ " فِي مِائَةِ جُزْءٍ،
وَ " الشَّافِي " فِي ثَمَانِينَ جُزْءًا، وَ " زَادُ الْمُسَافِرِ
"، وَ " الْخِلَافُ مَعَ الشَّافِعِيِّ " وَكِتَابُ "
الْقَوْلَيْنِ " وَ " مُخْتَصَرُ السُّنَّةِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ فِي
التَّفْسِيرِ وَالْأُصُولِ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو الْفَتْحِ الْبُسْتِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، لَهُ دِيوَانٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، لَهُ فِي الْمُطَابَقَةِ
وَالْمُجَانَسَةِ يَدٌ طُولَى، وَمُبْتَكَرَاتٌ أُولَى، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " مِنْ ذَلِكَ قِطْعَةً كَبِيرَةً
مُرَتَّبَةً عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا قَنِعْتُ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقُوتِ بَقِيتُ فِي النَّاسِ حُرًّا غَيْرَ
مَمْقُوتِ يَا قُوتَ يَوْمِي إِذَا مَا دَرَّ خَلْفُكَ لِي
فَلَسْتُ آسَى عَلَى دُرٍّ وَيَاقُوتِ
وَلَهُ:
يَا
أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ مَذْهَبِي لِيُقْتَدَى فِيهِ بِمِنْهَاجِي
مِنْهَاجِيَ الْعَدْلُ وَقَمْعُ الْهَوَى فَهَلْ لِمِنْهَاجِيَ مِنْ هَاجِي
وَلَهُ:
أَفِدْ طَبْعَكَ الْمَكْدُودَ بِالْجِدِّ رَاحَةً تَجُمَّ وَعَلِّلْهُ بِشَيْءٍ
مِنَ الْمَزْحِ
وَلَكِنْ إِذَا أَعْطَيْتَ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ بِمِقْدَارِ مَا تُعْطِي الطَّعَامَ
مِنَ الْمِلْحِ
وَلَهُ:
إِذَا خَدَمْتَ الْمُلُوكَ فَالْبَسْ مِنَ التَّوَقِّي أَعَزَّ مَلْبَسْ
وَادْخُلْ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ أَعْمَى وَاخْرُجْ إِذَا مَا خَرَجْتَ أَخْرَسْ
وَلَهُ:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَلْقَى عَدُوَّكَ رَاغِمًا وَتَقْتُلَهُ هَمًّا وَتَحْرِقَهُ
غَمَّا
فَسَامِ الْعُلَا وَازْدَدْ مِنَ الْفَضْلِ إِنَّهُ مَنِ ازْدَادَ فَضْلًا زَادَ
حَاسِدُهُ غَمَّا
وَلَهُ:
إِنَّ أَسْيَافَنَا الْعِضَابَ الدَّوَامِي صَيَّرَتْ مُلْكَنَا طَوِيلَ
الدَّوَامِ
لَمْ نَزَلْ نَحْنُ فِي سَدَادِ ثُغُورٍ وَاصْطِلَامِ الْأَعْدَاءِ مِنْ وَسْطِ
لَامِ
وَاقْتِحَامِ
الْأَهْوَالِ مِنْ وَقْتِ حَامٍ وَاقْتِسَامِ الْأَمْوَالِ مَنْ وَقْتِ سَامِ
وَلَهُ:
يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ أَتَطْلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا
فِيهِ خُسْرَانُ
أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا
بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ
أَبُو فِرَاسِ بْنُ حَمْدَانَ الشَّاعِرُ
لَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ، اسْتَنَابَهُ أَخُوهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ عَلَى حَرَّانَ
وَمَنْبِجَ، فَقَاتَلَ مَرَّةً الرُّومَ فَأُسِرَ، ثُمَّ اسْتَنْقَذَهُ سَيْفُ
الدَّوْلَةِ، وَاتَّفَقَ مَوْتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ
وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَهُ شِعْرٌ رَائِقٌ وَمَعَانٍ حَسَنَةٌ. وَقَدْ رَثَاهُ
أَخُوهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ:
الْمَرْءُ نَصْبُ مَصَائِبٍ لَا تَنْقَضِي حَتَّى يُوَارَى جِسْمُهُ فِي رَمْسِهِ
فَمُؤَجَّلٌ يَلْقَى الرَّدَى فِي غَيْرِهِ وَمُعَجَّلٌ يَلْقَى الرَّدَى فِي
نَفْسِهِ
وَاتَّفَقَ
أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ: قُلْ
فِي مَعْنَاهُمَا، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ:
مَنْ يَتَمَنَّ الْعُمُرَ فَلْيَتَّخِذْ صَبْرًا عَلَى فَقْدِ أَحِبَّائِهِ
وَمَنْ يُعَمَّرْ يَلْقَ فِي نَفْسِهِ مَا يَتَمَنَّاهُ لِأَعْدَائِهِ
كَذَا ذَكَرَ ابْنُ السَّاعِي هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ مِنْ شِعْرِ سَيْفِ
الدَّوْلَةِ فِي أَخِيهِ أَبِي فِرَاسٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ
فِي " الْمُنْتَظَمِ " مِنْ شِعْرِ أَبِي فِرَاسٍ نَفْسِهِ، وَأَنَّ
الْأَعْرَابِيَّ أَجَازَهُمَا بِالْبَيْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بَعْدَهُمَا.
وَذَكَرَ مِنْ شِعْرِ أَبِي فِرَاسٍ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ
فِي قَصِيدَةٍ:
سَيَفْقِدُنِي قَوْمِي إِذَا جَدَّ جَدُّهُمْ وَفِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ
يُفْتَقَدُ الْبَدْرُ
وَلَوْ سَدَّ غَيْرِي مَا سَدَدْتُ اكْتَفَوْا بِهِ وَمَا كَانَ يَغْلُو التِّبْرُ
لَوْ نَفَقَ الصُّفْرُ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي قَصِيدَةٍ:
إِلَى اللَّهِ أَشْكُو أَنَّنَا فِي مَنَازِلٍ تَحَكَّمُ فِي آسَادِهِنَّ كِلَابُ
فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةٌ وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَامُ
غِضَابُ
وَلَيْتَ الْذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ
خَرَابُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا جَاءَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ إِلَى
وَاسِطٍ وَمَعَهُ وَزِيرُ أَبِيهِ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ الْعَمِيدِ، فَهَرَبَ
مِنْهُ أَفْتِكِينُ فِي جَمَاعَةِ الْأَتْرَاكِ إِلَى بَغْدَادَ فَسَارَ
وَرَاءَهُمْ، فَنَزَلَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَأَمَرَ بَخْتِيَارَ أَنْ
يَنْزِلَ عَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَحَصَرَ التُّرْكَ حَصْرًا شَدِيدًا،
وَأَمَرَ أُمَرَاءَ الْأَعْرَابِ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى الْأَطْرَافِ، وَيَقْطَعُوا
الْمِيرَةَ الْوَاصِلَةَ إِلَى بَغْدَادَ فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ
جِدًّا، وَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الْمَعَاشِ مِنْ كَثْرَةِ الْعَيَّارِينَ
وَالنَّهْبِ، وَكَبَسَ أَفْتِكِينُ الْبُيُوتَ لِطَلَبِ الطَّعَامِ، وَاشْتَدَّ
الْحَالُ جِدًّا، ثُمَّ الْتَقَتِ الْأَتْرَاكُ وَعَضُدُ الدَّوْلَةِ،
فَكَسَرَهُمْ وَهَرَبُوا إِلَى تِكْرِيتَ وَاسْتَحْوَذَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى
بَغْدَادَ وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَتِ التُّرْكُ قَدْ أَخْرَجُوا
مَعَهُمُ الْخَلِيفَةَ، فَرَدَّهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ
مُكَرَّمًا، وَنَزَلَ هُوَ بِدَارِ الْمُلْكِ، فَضَعُفَ أَمْرُ بَخْتِيَارَ جِدًّا،
وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ، فَأَغْلَقَ بَابَهُ وَطَرَدَ
الْحَجَبَةَ وَالْكَتَبَةَ عَنْ بَابِهِ، وَاسْتَعْفَى عَنِ الْإِمَارَةِ وَكَانَ
ذَلِكَ بِمَشُورَةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَاسْتَعْطَفَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فِي
الظَّاهِرِ، وَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ أَنْ لَا يَقْبَلَ، فَلَمْ
يَقْبَلْ.
وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، فَصَمَّمَ بَخْتِيَارُ عَلَى الِامْتِنَاعِ
ظَاهِرًا، فَأَلْزَمَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بِذَلِكَ، وَأَظْهَرَ لِلنَّاسِ
أَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا عَجْزًا مِنْهُ عَنِ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ
الْمُلْكِ
فَأَمَرَ
بِالْقَبْضِ عَلَى بَخْتِيَارَ وَعَلَى أَهْلِهِ وَإِخْوَتِهِ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ
الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ لِلَّهِ وَسُرَّ بِهِ، وَأَظْهَرَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ
مِنْ تَعْظِيمِ الْخِلَافَةِ مَا كَانَ دَارِسًا، وَجَدَّدَ دَارَ الْخِلَافَةِ
حَتَّى صَارَ كُلُّ مَحَلٍّ مِنْهَا آنِسًا، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ
بِالْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ وَالْأَمْتِعَةِ الْحَسَنَةِ، وَقَتَلَ جَمَاعَةَ
الْمُفْسِدِينَ مِنْ مَرَدَةِ التُّرْكِ وَشُطَّارِ الْعَيَّارِينَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَظُمَ الْبَلَاءُ
بِالْعَيَّارِينَ بِبَغْدَادَ، وَأَحْرَقُوا سُوقَ بَابِ الشَّعِيرِ، وَأَخَذُوا
أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَرَكِبُوا الْخُيُولَ، وَتَلَقَّبُوا بِالْقُوَّادِ،
وَأَخَذُوا الْخَفَرَ مِنَ الْأَسْوَاقِ وَالدُّرُوبِ، وَعَظُمَتِ الْمِحْنَةُ
بِهِمْ جِدًّا، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ كَثِيرًا، حَتَّى إِنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ
أَسْوَدَ كَانَ مُسْتَضْعَفًا نَجَمَ فِيهِمْ وَكَثُرَ مَالُهُ حَتَّى اشْتَرَى
جَارِيَةً بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمَّا حَصَلَتْ عِنْدَهُ حَاوَلَهَا عَنْ
نَفْسِهَا فَأَبَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: مَاذَا تَكْرَهِينَ مِنِّي ؟
قَالَتْ: أَكْرَهُكَ كُلَّكَ، فَقَالَ: فَمَا تُحِبِّينَ ؟ فَقَالَتْ: تَبِيعُنِي،
فَقَالَ: أَوَخَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَحَمَلَهَا إِلَى الْقَاضِي، فَأَعْتَقَهَا،
وَأَعْطَاهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَأَطْلَقَهَا، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ حِلْمِهِ
وَكَرَمِهِ مَعَ فِسْقِهِ وَتَمَرُّدِهِ.
قَالَ: وَوَرَدَ الْخَبَرُ فِي الْمُحَرَّمِ بِأَنَّهُ خُطِبَ لِلْمُعِزِّ
الْفَاطِمِيِّ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي الْمَوْسِمِ، وَلَمْ يُخْطَبْ
لِلطَّائِعِ.
قَالَ: وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ جِدًّا حَتَّى بِيعَ
الْكُرُّ الدَّقِيقُ الْحُوَّارَى بِمِائَةٍ وَنَيِّفٍ وَسَبْعِينَ دِينَارًا.
قَالَ:
وَفِيهَا اضْمَحَلَّ أَمْرُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ
بُوَيْهِ، وَتَفَرَّقَ جُنْدُهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى بَغْدَادَ
وَحْدَهَا، فَبَعَثَ إِلَى أَبِيهِ يَشْكُو لَهُ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ يَلُومُهُ
عَلَى الْغَدْرِ بِابْنِ عَمِّهِ عِزِّ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ
خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى فَارِسَ بَعْدَمَا أَخْرَجَ ابْنَ عَمِّهِ
بَخْتِيَارَ مِنَ السِّجْنِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَعَادَهُ إِلَى مَا كَانَ
عَلَيْهِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا لَهُ بِالْعِرَاقِ يَخْطُبُ
لَهُ بِهَا، وَجَعَلَ مَعَهُ أَخَاهُ أَبَا إِسْحَاقَ أَمِيرَ الْجُيُوشِ لِضَعْفِ
بَخْتِيَارَ عَنْ تَدْبِيرِ الْأُمُورِ، وَاسْتَمَرَّ ذَاهِبًا إِلَى بِلَادِ
فَارِسَ وَذَلِكَ كُلُّهُ عَنْ أَمْرِ أَبِيهِ لَهُ بِذَلِكَ، وَغَضَبِهِ عَلَيْهِ
بِسَبَبِ غَدْرِهِ بِابْنِ عَمِّهِ، وَتَكْرَارِ مُكَاتَبَاتِهِ إِلَيْهِ فِي
ذَلِكَ.
وَلَمَّا سَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ تَرَكَ بَعْدَهُ وَزِيرَ أَبِيهِ أَبَا
الْفَتْحِ بْنَ الْعَمِيدِ لِيَلْحَقَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَتَشَاغَلَ بِالْقَصْفِ
مَعَ عِزِّ الدَّوْلَةِ وَاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ وَحْشَةً
بَيْنَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ ابْنِ الْعَمِيدِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ
هَلَاكِ ابْنِ الْعَمِيدِ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِزُّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارُ
بِبَغْدَادَ وَمَلَكَ الْعِرَاقَ لَمْ يَفِ لِابْنِ عَمِّهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ
بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ عَاهَدَهُ عَلَيْهِ، وَلَا مَا كَانَ الْتَزَمَ لَهُ بِهِ
بَيْنَ يَدَيْهِ، بَلْ تَمَادَى فِي ضَلَالِهِ الْقَدِيمِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى
سَنَنِهِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ.
قَالَ: وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ تَزَوَّجَ
الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ لِلَّهِ شَاهْ نَازَ بِنْتَ عِزِّ الدَّوْلَةِ عَلَى
صَدَاقٍ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِي
سَلْخِ ذِي الْقَعْدَةِ عُزِلَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ
بْنِ أُمِّ شَيْبَانَ، وَقَلَّدَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مَعْرُوفٍ.
وَأَقَامَ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَصْحَابُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ،
وَخُطِبَ لَهُ بِالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ دُونَ الْخَلِيفَةِ الطَّائِعِ،
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ أَخْذِ دِمَشْقَ مِنْ أَيْدِي الْفَاطِمِيِّينَ
ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ " أَنَّ أَفْتِكِينَ غُلَامَ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ الَّذِي كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ،
وَالْتَفَّ عَلَيْهِ عَسَاكِرُ وَجُيُوشٌ مِنَ الدَّيْلَمِ وَالتُّرْكِ
وَالْأَعْرَابِ، نَزَلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى دِمَشْقَ لِيَأْخُذَهَا مِنْ
أَيْدِي الْفَاطِمِيِّينَ، وَكَانَ عَلَيْهَا رَيَّانُ الْخَادِمُ مِنْ جِهَةِ
الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ، فَلَمَّا نَزَلَ بِظَاهِرِهَا خَرَجَ إِلَيْهِ
كُبَرَاؤُهَا وَشُيُوخُهَا، فَذَكَرُوا مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ
وَمُخَالَفَةِ الِاعْتِقَادِ بِسَبَبِ مُلْكِ الْفَاطِمِيِّينَ عَلَيْهِمْ،
وَسَأَلُوهُ أَنْ يُصَمِّمَ عَلَى أَخْذِ الْبَلَدِ لِيَسْتَنْقِذَهَا مِنْهُمْ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ صَمَّمَ عَلَى أَخْذِهَا، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى أَخَذَهَا،
وَأَخْرَجَ رَيَّانَ الْخَادِمَ مِنْهَا، وَاسْتَقَلَّ بِأَمْرِهَا، وَكَسَرَ
أَهْلَ الشَّرِّ بِهَا، وَرَفَعَ أَهْلَ الْخَيْرِ، وَوَضَعَ الْعَدْلَ فِيهِمْ،
وَقَمَعَ أَهْلَ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، وَكَفَّ أَيْدِيَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ
كَانُوا قَدْ عَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَأَخَذُوا عَامَّةَ الْمَرْجِ
وَالْغُوطَةِ، وَنَهَبُوا أَهْلَهَا.
وَلَمَّا
اسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ عَلَى يَدَيْهِ، وَصَلُحَ أَمْرُ أَهْلِ الشَّامِ
عَلَيْهِ، كَتَبَ إِلَيْهِ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ مِنْ مِصْرَ يَشْكُرُ
سَعْيَهُ وَيَطْلُبُهُ إِلَيْهِ ; لِيَخْلَعَ عَلَيْهِ وَيَجْعَلَهُ نَائِبًا مِنْ
جِهَتِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ وَخَافَ غَائِلَتَهُ، وَقَطَعَ خُطْبَتَهُ
مِنَ الشَّامِ وَخَطَبَ لِلطَّائِعِ الْعَبَّاسِيِّ، ثُمَّ قَصَدَ صَيْدَا وَبِهَا
خَلْقٌ مِنَ الْمَغَارِبَةِ عَلَيْهِمُ ابْنُ الشَّيْخِ، وَفِيهِمْ ظَالِمُ بْنُ
مَوْهُوبٍ الْعُقَيْلِيُّ - الَّذِي كَانَ نَائِبًا عَلَى دِمَشْقَ لِلْمُعِزِّ
الْفَاطِمِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ، فَأَسَاءَ بِهِمُ السِّيرَةَ - فَحَاصَرَهُمْ،
وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى أَخَذَ الْبَلَدَ مِنْهُمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ
أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنْ سَرَاتِهِمْ، ثُمَّ قَصَدَ طَبَرِيَّةَ فَفَعَلَ بِأَهْلِهَا
مِثْلَ ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَزَمَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ عَلَى الْمَسِيرِ
إِلَيْهِ وَقِتَالِهِ.
فَبَيْنَمَا هُوَ يَجْمَعُ لَهُ وَيُرَتِّبُ الْجُيُوشَ إِذْ تُوفِّيَ الْمُعِزُّ
بِمِصْرَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَامَ بَعْدَهُ
وَلَدُهُ الْعَزِيزُ، فَاطْمَأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ أَفْتِكِينُ بِالشَّامِ،
وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، فَتَشَاوَرَ الْمِصْرِيُّونَ فِي
أَمْرِهِ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ بَعَثُوا جَوْهَرًا الْقَائِدَ
إِلَيْهِ، وَذَلِكَ عَنْ رَأْيِ الْوَزِيرِ يَعْقُوبَ بْنِ كِلِّسٍ، فَلَمَّا
تَجَهَّزَ جَوْهَرٌ الْقَائِدُ لِقَصْدِ الشَّامِ حَلَّفَ أَفْتِكِينُ أَهْلَ
دِمَشْقَ عَلَى مُنَاصَرَتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ، فَحَلَفُوا لَهُ بِذَلِكَ.
وَجَاءَ جَوْهَرٌ فَحَصَرَ دِمَشْقَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ حَصْرًا شَدِيدًا، وَرَأَى
مِنْ شَجَاعَةِ أَفْتِكِينَ مَا بَهَرَهُ، وَحِينَ طَالَ الْحَالُ أَشَارَ مَنْ
أَشَارَ مِنَ الدَّمَاشِقَةِ عَلَى أَفْتِكِينَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْحَسَنِ
بْنِ أَحْمَدَ الْقِرْمِطِيِّ وَهُوَ بِالْأَحْسَاءِ ; لِيَجِيءَ إِلَيْهِ،
فَلَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ أَقْبَلَ لِنَصْرِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ جَوْهَرٌ
بِقُدُومِهِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَبْقَى بَيْنَ عَدُوَّيْنِ مِنْ دَاخِلِ
الْبَلَدِ وَمِنْ خَارِجِهَا، فَارْتَحَلَ قَاصِدًا الرَّمْلَةَ فَتَبِعَهُ
أَفْتِكِينُ وَالْقِرْمِطِيُّ فِي نَحْوٍ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا، فَتَوَاقَعُوا
عِنْدَ نَهْرِ الطَّوَاحِينِ عَلَى ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ مِنَ الرَّمَلَةِ
وَحَصَرُوا جَوْهَرًا بِالرَّمْلَةِ، فَضَاقَ حَالُهُ جِدًّا مِنْ قِلَّةِ
الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى أَشْرَفَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْهَلَاكِ، فَسَأَلَ
أَنْ يَجْتَمِعَ هُوَ وَأَفْتِكِينُ عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ، فَأَجَابَهُ إِلَى
ذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَرَفَّقُ
لَهُ
أَنْ يُطْلِقَهُ، لِيَرْجِعَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أُسْتَاذِهِ
شَاكِرًا لَهُ مُثْنِيًا عَلَيْهِ الْخَيْرَ، وَلَا يَسْمَعُ مِنَ الْقِرْمِطِيِّ
رَأْيَهُ فِيهِ - وَكَانَ جَوْهَرٌ دَاهِيَةً - فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ،
فَنَدَّمَهُ الْقِرْمِطِيُّ، وَقَالَ: الرَّأْيُ أَنَّا كُنَّا نَحْصُرُهُمْ
حَتَّى يَمُوتُوا عَنْ آخِرِهِمْ، فَإِنَّهُ الْآنَ سَيَذْهَبُ إِلَى سَيِّدِهِ
فَيُخْبِرُهُ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ إِلَيْنَا، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، فَكَانَ
الْأَمْرُ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَهُ أَفْتِكِينُ مِنَ الْحَصْرِ
لَمْ يَكُنْ لَهُ دَأْبٌ إِلَّا أَنَّهُ حَثَّ الْعَزِيزَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى
أَفْتِكِينَ بِنَفْسِهِ وَجُيُوشِهِ، فَأَقْبَلَ فِي جَحَافِلَ أَمْثَالِ
الْجِبَالِ وَكَثْرَةٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالْعُدَدِ وَالْأَثْقَالِ
وَالْأَمْوَالِ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ جَوْهَرٌ الْقَائِدُ، وَجَمَعَ أَفْتِكِينُ
وَالْقِرْمِطِيُّ الْجُيُوشَ وَالْأَعْرَابَ وَسَارُوا إِلَى الرَّمْلَةِ فَاقْتَتَلُوا
فِي مُحَرَّمٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ.
وَلَمَّا تَوَاجَهُوا رَأَى الْعَزِيزُ مِنْ شَجَاعَةِ أَفْتِكِينَ مَا بَهَرَهُ
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَعْرِضُ عَلَيْهِ إِنْ أَطَاعَهُ وَرَجَعَ إِلَيْهِ أَنْ
يَجْعَلَهُ مُقَدَّمَ عَسَاكِرِهِ وَأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ،
فَتَرَجَّلَ أَفْتِكِينُ عَنْ فَرَسِهِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ
نَحْوَ الْعَزِيزِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا قَبْلَ هَذَا
الْحَالِ لَأَمْكَنَنِي وَسَارَعْتُ وَأَطَعْتُ، وَأَمَّا الْآنَ فَلَا، ثُمَّ
رَكِبَ فَرَسَهُ وَحَمَلَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ، فَفَرَّقَ شَمْلَهَا، وَبَدَّدَ
خَيْلَهَا وَرَجِلَهَا، فَبَرَزَ عِنْدَ ذَلِكَ الْعَزِيزُ مِنَ الْقَلْبِ،
وَأَمَرَ الْمَيْمَنَةَ، فَحَمَلَتْ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَانْهَزَمَ
الْقِرْمِطِيُّ وَتَبِعَهُ بَقِيَّةُ الشَّامِيِّينَ، وَرَكِبَتِ الْمَغَارِبَةُ
أَقَفِيَتَهُمْ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ مَنْ شَاءُوا، وَتَحَوَّلَ الْعَزِيزُ
فَنَزَلَ خِيَامَ الشَّامِيِّينَ بِمَنْ مَعَهُ، وَأَرْسَلَ السَّرَايَا
وَرَاءَهُمْ، وَجَعَلَ الْعَزِيزُ لَا يُؤْتَى بِأَسِيرٍ إِلَّا خَلَعَ عَلَى مَنْ
جَاءَ بِهِ، وَجَعَلَ لِمَنْ جَاءَهُ بِأَفْتِكِينَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ.
فَاتَّفَقَ أَنَّ أَفْتِكِينَ عَطِشَ وَهُوَ مُنْهَزِمٌ عَطَشًا شَدِيدًا،
فَاجْتَازَ بِمُفَرِّجِ بْنِ دَغْفَلٍ، وَكَانَ صَاحِبَهُ، فَاسْتَسْقَاهُ
فَسَقَاهُ مَاءً وَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ فِي
بُيُوتِهِ،
وَأَرْسَلَ إِلَى الْعَزِيزِ يُخْبِرُهُ بِأَنَّ الَّذِي يَطْلُبُ عِنْدَهُ،
فَلْيَحْمِلْ إِلَيْهِ الذَّهَبَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ
وَجَاءَ مَنْ تَسَلَّمَهُ مِنْهُ، فَلَمَّا أُحِيطَ بِأَفْتِكِينَ لَمْ يَشُكَّ
أَنَّهُ مَقْتُولٌ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ حَضَرَ عِنْدَ الْعَزِيزِ أَكْرَمَهُ
غَايَةَ الْإِكْرَامِ وَاحْتَرَمَهُ غَايَةَ الِاحْتِرَامِ، وَرَدَّ إِلَيْهِ
حَوَاصِلَهُ وَأَمْوَالَهُ لَمْ يَفْقِدْ مِنْهَا شَيْئًا، وَجَعَلَهُ مِنْ
أَخَصِّ أَصْحَابِهِ وَأُمَرَائِهِ، وَأَنْزَلَهُ إِلَى جَانِبِ مَنْزِلِهِ،
وَرَجَعَ بِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا،
وَأَقْطَعَهُ هُنَالِكَ إَقْطَاعَاتٍ جَزِيلَةً، وَأَرْسَلَ إِلَى الْقِرْمِطِيِّ
يَعْرِضُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ وَيُكْرِمَهُ كَمَا أَكْرَمَ
أَفْتِكِينَ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَجَعَلَهَا لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَكُفُّ بِهَا
شَرَّهُ، وَلَمْ يَزَلْ أَفْتِكِينُ مُكَرَّمًا عِنْدَ الْعَزِيرِ، حَتَّى وَقَعَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَزِيرِ يَعْقُوبَ بْنِ كِلِّسٍ، فَعَمِلَ عَلَيْهِ حَتَّى
سَقَاهُ سُمًّا فَمَاتَ، وَحِينَ عَلِمَ الْخَلِيفَةُ بِذَلِكَ غَضِبَ عَلَى
الْوَزِيرِ، وَحَبَسَهُ بِضْعًا وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَخَذَ مِنْهُ
خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ رَأَى أَنَّ لَا غِنَى بِهِ عَنِ
الْوَزِيرِ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ السِّجْنِ وَأَعَادَهُ إِلَى الْوِزَارَةِ،
وَذَهَبَ أَفْتِكِينُ فِي حَالِ سَبِيلِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا
ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
سُبُكْتِكِينُ الْحَاجِبُ التُّرْكِيُّ، مَوْلَى الْمُعِزِّ الدَّيْلَمِيِّ
وَحَاجِبُهُ
وَقَدْ تَرَقَّى فِي الْمَرَاتِبِ حَتَّى آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ قَلَّدَهُ
الطَّائِعُ الْإِمَارَةَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ اللِّوَاءَ، وَلَقَّبَهُ
بِنُورِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ دَوْلَتِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ
شَهْرَيْنِ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَدُفِنَ بِبَغْدَادَ، وَدَارُهُ هِيَ
دَارُ الْمُلْكِ بِبَغْدَادَ، وَهِيَ دَارٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَقَدِ اتَّفَقَ
لَهُ
أَنَّهُ
سَقَطَ يَوْمًا عَنْ فَرَسِهِ فَانْكَسَرَ ضِلْعُهُ، فَدَاوَاهُ الطَّبِيبُ حَتَّى
اسْتَقَامَ ظَهْرُهُ وَقَدَرَ عَلَى الصَّلَاةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعِ
الرُّكُوعَ، فَأَعْطَاهُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ يَقُولُ
لِلطَّبِيبِ: إِذَا ذَكَرْتُ مَرَضِي وَمُدَاوَاتَكَ لِي لَا أَقْدِرُ عَلَى
مُكَافَأَتِكَ، وَلَكِنْ إِذَا تَذَكَّرْتُ وَضْعَكَ قَدَمَيْكَ عَلَى ظَهْرِي
اشْتَدَّ غَيْظِي مِنْكَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ،
وَقَدْ تَرَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، مِنْ ذَلِكَ أَلْفُ
أَلْفِ دِينَارٍ وَعَشَرَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَصُنْدُوقَانِ مِنْ
جَوْهَرٍ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ صُنْدُوقًا مِنَ الْبَلُّورِ، وَخَمْسَةٌ
وَأَرْبَعُونَ صُنْدُوقًا مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ، وَمِائَةٌ وَثَلَاثُونَ مَرْكَبًا
مِنْ ذَهَبٍ، مِنْهَا خَمْسُونَ وَزْنُ كُلِّ وَاحِدٍ أَلْفُ دِينَارٍ،
وَسِتُّمِائَةِ مَرْكَبٍ فِضَّةً، وَأَرْبَعَةُ آلَافِ ثَوْبٍ دِيبَاجًا،
وَعَشَرَةُ آلَافِ دَبِيقِيٍّ وَعِتَّابِيٍّ، وَثَلَاثُمِائَةِ عِدْلٍ مَعْكُومَةٍ
مِنَ الْفُرُشِ، وَثَلَاثَةُ آلَافِ فَرَسٍ وَبَغْلٍ، وَأَلْفُ جَمَلٍ،
وَثَلَاثُمِائَةِ غُلَامٍ وَأَرْبَعُونَ خَادِمًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَا أَوْدَعَ
عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ صَاحِبِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا قَسَّمَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ مَمَالِكَهُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ
عِنْدَمَا كَبِرَتْ سِنُّهُ، فَجَعَلَ لِوَلَدِهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِلَادَ
فَارِسَ وَكَرْمَانَ وَأَرَّجَانَ، وَلِوَلَدِهِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ الرَّيَّ
وَأَصْبَهَانَ، وَلِفَخْرِ الدَّوْلَةِ هَمْدَانَ وَالدِّينَوَرَ، وَجَعَلَ
وَلَدَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ فِي كَنَفِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَأَوْصَاهُ بِهِ.
وَفِيهَا جَلَسَ قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مَعْرُوفٍ
فِي دَارِ عِزِّ الدَّوْلَةِ وَفِي مَجْلِسِهِ عَنْ أَمْرِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ
لِفَصْلِ الْحُكُومَاتِ، وَحَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ جِهَةِ الْعَزِيزِ بْنِ
الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ بَعْدَمَا حُوصِرَ أَهْلُ مَكَّةَ وَلَقُوا شِدَّةً
عَظِيمَةً، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ عِنْدَهُمْ جِدًّا.
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ذَهَبَ يُوسُفُ بُلُكِّينُ
- نَائِبُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ عَلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ - إِلَى
سَبْتَةَ فَأَشْرَفَ عَلَيْهَا مِنْ جَبَلٍ مُطِلٍّ عَلَيْهَا، فَجَعَلَ
يَتَأَمَّلُ مِنْ أَيْنَ يُحَاصِرُهَا ؟ نِصْفَ يَوْمٍ، فَخَافَهُ أَهْلُهَا
خَوْفًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهَا إِلَى مَدِينَةٍ هُنَالِكَ يُقَالُ
لَهَا: بَصْرَةُ، فِي الْمَغْرِبِ، فَأَمَرَ بِهَدْمِهَا
وَنَهْبِهَا،
ثُمَّ سَارَ إِلَى مَدِينَةِ بَرْغَوَاطَةَ، وَبِهَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عِيسَى
ابْنُ أُمِّ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ مَلِكُهَا، وَقَدِ اشْتَدَّتِ الْمِحْنَةُ بِهِ
لِسِحْرِهِ وَشَعْبَذَتِهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَطَاعُوهُ، وَوَضَعَ
لَهُمْ شَرِيعَةً يَقْتَدُونَ بِهِ فِيهَا، فَقَاتَلَهُمْ بُلُكِّينُ، فَهَزَمَهُمْ،
وَقَتَلَ هَذَا الْفَاجِرَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَنَهَبَ
أَمْوَالَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، فَلَمْ يُرَ سَبْيٌ أَحْسَنُ أَشْكَالًا
مِنْهُمْ، فِيمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلْمٍ أَبُو بَكْرٍ الْخُتُّلِيُّ
لَهُ مُسْنَدٌ كَبِيرٌ، رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
وَأَبِي مُحَمَّدٍ الْكَجِّيِّ وَخَلْقٍ، وَرَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ،
وَكَانَ ثِقَةً، قَارَبَ التِّسْعِينَ.
ثَابِتُ بْنُ سِنَانِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ قُرَّةَ الصَّابِئُ
الْمُؤَرِّخُ، فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْكَامِلِ ".
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو عَلِيٍّ الْمَاسَرْجَسِيُّ
الْحَافِظُ، رَحَلَ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَصَنَّفَ مُسْنَدًا فِي أَلْفٍ
وَثَلَاثِمِائَةِ جُزْءٍ بِطُرُقِهِ وَعِلَلِهِ، وَلَهُ
"
الْمَغَازِي " وَ " الْقَبَائِلُ "، وَخَرَّجَ عَلَى
الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي بَيْتِهِ وَسَلَفِهِ تِسْعَةَ عَشَرَ مُحَدِّثًا.
تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْحَافِظُ أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَدِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيُّ
الْكَبِيرُ الْمُفِيدُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْجَوَّالُ النَّقَّالُ
الرَّحَّالُ، لَهُ كِتَابُ " الْكَامِلِ " فِي الْجَرْحِ
وَالتَّعْدِيلِ، لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ، وَلَا يُلْحَقُ فِي شَكْلِهِ.
قَالَ حَمْزَةُ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ: فِيهِ كِفَايَةٌ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ.
وُلِدَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهِيَ
السَّنَةُ الَّتِي تُوَفِّيَ فِيهَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَتُوُفِّيَ ابْنُ
عَدِيٍّ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ
بَانِي الْقَاهِرَةِ الْمُعِزِّيَّةِ، مَعَدُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدِ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَبُو تَمِيمٍ
الْمُدَّعِي
أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ، صَاحِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ
مَلَكَهَا مِنَ الْفَاطِمِيِّينَ، وَكَانَ مُلْكُهُمْ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ
وَمَا وَالَاهَا مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ جَوْهَرًا الْقَائِدَ،
فَأَخَذَ لَهُ الْبِلَادَ الْمِصْرِيَّةَ مِنْ كَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ بَعْدَ
حُرُوبٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُ جَوْهَرٍ الْقَائِدِ عَلَيْهَا،
فَبَنَى بِهَا الْقَاهِرَةَ الْمُعِزِّيَّةَ، وَنَزَلَ الْمَلِكُ الْمَكَانَ
الْمُسَمَّى بِالْقَصْرَيْنِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْخُطْبَةُ لِلْمُعِزِّ فِي سِنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَدِمَ الْمُعِزُّ كَمَا ذَكَرْنَا فِي
جَحَافِلَ عَظِيمَةٍ، وَمَعَهُ الْأُمَرَاءُ مِنَ الْمَغَارِبَةِ وَالْأَكَابِرُ
وَالْقُوَّادُ، وَحِينَ نَزَلَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ تَلَقَّاهُ وُجُوهُ النَّاسِ
إِلَيْهَا، فَخَطَبَهُمْ بِهَا خُطْبَةً بَلِيغَةً افْتَخَرَ فِيهَا بِنَسَبِهِ
وَمُلْكِهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ يَعْدِلُ وَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ،
وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ رَحِمَ الْأُمَّةَ بِهِمْ، وَاسْتَنْقَذَهُمْ مِنْ أَيْدِي
الظَّلَمَةِ إِلَى عَدْلِهِمْ وَإِنْصَافِهِمْ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَدَّعِي
ظَاهِرَ الرَّفْضِ وَيُبْطِنُ - كَمَا قَالَ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ -
الْكُفْرَ الْمَحْضَ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ طَاعَتِهِ وَمَنْ نَصَرَهُ وَوَالَاهُ،
وَاتَّبَعَهُ فِي مَذْهَبِهِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَإِيَّاهُ.
وَقَدْ أُحْضِرَ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ الزَّاهِدُ الْعَابِدُ التَّقِيُّ أَبُو بَكْرٍ
النَّابُلُسِيُّ فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمُعِزُّ: بَلَغَنِي
أَنَّكَ قُلْتَ: لَوْ أَنَّ مَعِي عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لَرَمَيْتُ الرُّومَ
بِسَهْمٍ، وَرَمَيْتُ الْمُعِزِّيِّينَ بِتِسْعَةٍ، فَقَالَ: مَا قُلْتُ هَذَا،
فَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ،
وَقَالَ:
كَيْفَ قُلْتَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَرْمِيَكُمْ بِتِسْعَةٍ، ثُمَّ
يَرْمِيَكُمْ بِالْعَاشِرِ، قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّكُمْ غَيَّرْتُمْ دِينَ
الْأُمَّةِ، وَقَتَلْتُمُ الصَّالِحِينَ، وَادَّعَيْتُمْ نُورَ الْإِلَهِيَّةِ،
فَأَمَرَ بَإِشْهَارِهِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ، ثُمَّ ضُرِبَ بِالسِّيَاطِ فِي
الْيَوْمِ الثَّانِي ضَرْبًا شَدِيدًا مُبَرِّحًا، ثُمَّ أَمَرَ بِسَلْخِهِ فِي
الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَجِيءَ بِيَهُودِيٍّ فَجَعَلَ يَسْلُخُهُ، وَهُوَ يَقْرَأُ
الْقُرْآنَ، قَالَ الْيَهُودِيُّ: فَأَخَذَتْنِي رِقَّةٌ عَلَيْهِ، فَلَمَّا
بَلَغْتُ تِلْقَاءَ قَلْبِهِ طَعَنْتُهُ بِالسِّكِّينِ، فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى، فَقِيلَ لَهُ: الشَّهِيدُ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ بَنُو الشَّهِيدِ مِنْ
أَهْلِ نَابُلُسَ إِلَى الْيَوْمِ.
وَقَدْ كَانَ الْمُعِزُّ ذَا شَهَامَةٍ وَقُوَّةٍ وَشِدَّةِ عَزْمٍ، وَلَهُ
سِيَاسَةٌ، وَيُظْهِرُ أَنَّهُ يَعْدِلُ وَيَنْصُرُ الْحَقَّ، وَلَكِنَّهُ مَعَ
ذَلِكَ مُنَجِّمًا يَعْتَمِدُ مَا يُرْصَدُ مِنْ حَرَكَاتِ النُّجُومِ، قَالَ لَهُ
مُنَجِّمُهُ: إِنَّ عَلَيْكَ قُطْعًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَتَوَارَ عَنْ وَجْهِ
الْأَرْضِ حَتَّى تَنْقَضِيَ هَذِهِ الْمُدَّةُ. فَعَمِلَ لَهُ سِرْدَابًا،
وَأَحْضَرَ الْأُمَرَاءَ، وَأَوْصَاهُمْ بِوَلَدِهِ نِزَارٍ، وَلَقَّبَهُ
بِالْعَزِيزِ، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ الْأَمْرَ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِمْ،
فَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَدَخَلَ ذَلِكَ السِّرْدَابَ، فَتَوَارَى فِيهِ
سَنَةً، فَكَانَتِ الْمَغَارِبَةُ إِذَا رَأَى الْفَارِسُ مِنْهُمْ سَحَابًا
سَارِيًا تَرَجَّلَ عَنْ فَرَسِهِ، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِالسَّلَامِ ظَانِّينَ
أَنَّ الْمُعِزَّ فِي ذَلِكَ الْغَمَامِفَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [
الزُّخْرُفِ: 54 ] ثُمَّ بَرَزَ إِلَى النَّاسِ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ، وَجَلَسَ
فِي مَقَامِ الْمُلْكِ، وَحَكَمَ عَلَى عَادَتِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ تَطُلْ
مُدَّتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ عَاجَلَهُ الْقَضَاءُ الْمَحْتُومُ، وَالْحِينُ
الْمَقْسُومُ، فَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ
أَيَّامِهِ فِي الْمُلْكِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، مِنْهَا بِمِصْرَ سَنَتَانِ وَتِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَجُمْلَةُ عُمُرِهِ كُلِّهِ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ ; لِأَنَّهُ وُلِدَ بِإِفْرِيقِيَّةَ فِي حَادِي عَشَرَ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهِيَ هَذِهِ السَّنَةُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا تُوُفِّيَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ بُوَيْهِ، وَقَدْ جَاوَزَ
السَّبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ أَيَّامُ وِلَايَتِهِ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ
سَنَةً، وَقَبْلَ مَوْتِهِ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ قَسَّمَ مُلْكَهُ بَيْنَ
أَوْلَادِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ عُمِلَتْ ضِيَافَةٌ فِي دَارِ ابْنِ
الْعَمِيدِ بِأَصْبَهَانَ حَافِلَةٌ، حَضَرَهَا رُكْنُ الدَّوْلَةِ وَبَنُوهُ
وَأَعْيَانُ دَوْلَتِهِ، فَعَهِدَ فِي هَذَا الْيَوْمِ إِلَى ابْنِهِ عَضُدِ
الدَّوْلَةِ، وَخَلَعَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى إِخْوَتِهِ وَسَائِرِ
الْأُمَرَاءِ الْأَقْبِيَةَ وَالْأَكْسِيَةَ عَلَى عَادَةِ الدَّيْلَمِ،
وَحَيَّوْهُ بِالرَّيْحَانِ عَلَى عَادَتِهِمْ أَيْضًا، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا، ثُمَّ تُوُفِّيَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَ سَائِسًا حَلِيمًا وَقُورًا، كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ،
مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ، فِيهِ إِيثَارٌ وَكَرَمٌ كَثِيرٌ، وَحُسْنُ عِشْرَةٍ
وَرِيَاسَةٍ عَلَى أَقَارِبِهِ وَدَوْلَتِهِ وَرَعِيَّتِهِ.
وَحِينَ تَمَكَّنَ ابْنُهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ قَصَدَ الْعِرَاقَ لِيَأْخُذَهَا
مِنِ ابْنِ عَمِّهِ عِزِّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ لِسُوءِ سِيرَتِهِ وَرَدَاءَةِ
سَرِيرَتِهِ، فَالْتَقَوْا فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَرْضِ الْأَهْوَازِ،
فَهَزَمَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ، وَأَخَذَ أَثْقَالَهُ وَأَمْوَالَهُ، وَبَعَثَ
إِلَى الْبَصْرَةِ فَأَخَذَهَا، وَأَصْلَحَ بَيْنَ أَهْلِهَا حَيَّيْ رَبِيعَةَ
وَمُضَرَ، وَقَدْ كَانَ بَيْنَهُمَا خُلْفٌ مُتَقَادِمٌ مِنْ نَحْوِ مِائَةٍ
وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُضَرُ تَمِيلُ إِلَيْهِ، وَرَبِيعَةُ عَلَيْهِ،
ثُمَّ اتَّفَقَ
الْحَيَّانِ
وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْفَرِيقَانِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَةُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ
فَعَزَلَ عِزَّ الدَّوْلَةِ، وَقَبَضَ عَلَى وَزِيرِهِ ابْنِ بَقِيَّةَ ;
لِأَنَّهُ اسْتَحْوَذَ عَلَى الْأُمُورِ دُونَهُ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ إِلَى
خَزَائِنِهِ، فَاسْتَظْهَرَ عِزُّ الدَّوْلَةِ بِمَا وَجَدَهُ مِنَ الْحَوَاصِلِ
لِابْنِ بَقِيَّةَ، وَلَمْ يُبْقِ لَهُ مِنْهَا بَقِيَّةً.
وَكَذَلِكَ أَمَرَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بِالْقَبْضِ عَلَى وَزِيرِ أَبِيهِ أَبِي
الْفَتْحِ بْنِ الْعَمِيدِ لِمَوْجِدَةٍ تَقَدَّمَتْ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ
سَلَفَ ذِكْرُهَا، وَلَمْ يَبْقَ لِبَنِي الْعَمِيدِ أَيْضًا فِي الْأَرْضِ
بَقِيَّةٌ، وَقَدْ كَانَتِ الْأَكَابِرُ تَتَّقِي مِنْهُمُ التَّقِيَّةَ، وَقَدْ
كَانَ ابْنُ الْعَمِيدِ مِنَ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ بِأَوْفَرَ مَكَانٍ،
فَخَانَتْهُ الْمَقَادِيرُ وَعَاجَلَهُ غَضَبُ السُّلْطَانِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ
مِنْ غَضَبِ الرَّحْمَنِ.
وَفِي مُنْتَصَفِ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ مَنْصُورُ
بْنُ نُوحٍ السَّامَانِيُّ - صَاحِبُ بِلَادِ خُرَاسَانَ - بِبُخَارَى، وَكَانَتْ
وِلَايَتُهُ خَمْسَ عَشْرةَ سَنَةً، وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ أَبُو
الْقَاسِمِ نُوحٌ، وَكَانَ عُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً،
وَلُقِّبَ بِالْمَنْصُورِ.
وَفِيهَا
تُوَفِّيَ الْحَكَمُ، وَلَقَبُهُ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ بْنُ النَّاصِرِ
لِدِينِ اللَّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ، وَقَدْ كَانَ هَذَا مِنْ
خِيَارِ الْمُلُوكِ وَعُلَمَائِهِمْ، عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالْخِلَافِ
وَالتَّوَارِيخِ، مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ، مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وَسَبْعَةُ أَشْهُرٍ، مُدَّةُ
خِلَافَتِهِ مِنْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً وَخَمْسَةُ أَشْهُرٍ، وَقَامَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ هِشَامٌ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ، وَلُقِّبَ
بِالْمُؤَيَّدِ بِاللَّهِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي أَيَّامِهِ،
وَاضْطَرَبَتِ الرَّعَايَا عَلَيْهِ، وَحُبِسَ مُدَّةً، ثُمَّ أُخْرِجَ وَأُعِيدَ
إِلَى الْخِلَافَةِ، وَقَامَ بِأَعْبَاءِ أَمْرِهِ حَاجِبُهُ الْمَنْصُورُ أَبُو
عَامِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الْمُعَافِرِيُّ، وَابْنَاهُ الْمُظَفَّرُ
وَالنَّاصِرُ، فَسَاسَ الرَّعَايَا جَيِّدًا، وَعَدَلَ فِيهِمْ، وَغَزَا
الْأَعْدَاءَ، وَاسْتَقَرَّ لَهُمُ الْحَالُ كَذَلِكَ نَحْوًا مِنْ سِتٍّ
وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقَدْ سَاقَ ابْنُ الْأَثِيرِ هَاهُنَا قِطْعَةً مِنْ
أَخْبَارِهِمْ وَأَطَالَ شَرْحَهَا.
وَفِيهَا رَجَعَ مُلْكُ حَلَبَ إِلَى أَبِي الْمَعَالِي شَرِيفِ بْنِ سَيْفِ
الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ وَقَامَ هُوَ
مِنْ بَعْدِهِ تَغَلَّبَ مَوْلَاهُمْ قَرْعُوَيْهِ عَلَيْهِمْ، وَأَخْرَجَهُ
مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، فَسَارَ إِلَى أُمِّهِ بِمَيَّافَارِقِينَ فِي
سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ،
ثُمَّ
جَاءَ فَنَزَلَ حُمَاةَ، وَكَانَتِ الرُّومُ قَدْ خَرَّبَتْ حِمْصَ فَسَعَى فِي
عِمَارَتِهَا وَتَرْمِيمِهَا وَسَكَنَهَا، ثُمَّ إِنَّ قَرْعُوَيْهِ اسْتَنَابَ
فِي حَلَبَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ: بَكْجُورُ، فَتَغَلَّبَ عَلَيْهِ وَسَجَنَ
مَوْلَاهُ قَرْعُوَيْهِ بِقَلْعَتِهَا نَحْوًا مِنْ سِتِّ سِنِينَ، فَكَتَبَ
أَهْلُ حَلَبَ إِلَى أَبِي الْمَعَالِي وَهُوَ بِحِمْصَ يَسْأَلُونَهُ أَنْ
يَأْتِيَ إِلَيْهِمْ، فَسَارَ فَحَاصَرَ حَلَبَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ،
فَافْتَتَحَهَا وَامْتَنَعَتِ الْقَلْعَةُ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَحَصَّنَ بِهَا
بَكْجُورُ ثُمَّ اصْطَلَحَ مَعَ أَبِي الْمَعَالِي عَلَى أَنْ يُؤَمِّنَهُ عَلَى
نَفْسِهِ وَيَسْتَنِيبَهُ بِحِمْصَ، فَفَعَلَ، فَنَابَ لَهُ بَكْجُورُ بِحِمْصَ، ثُمَّ
انْتَقَلَ فِي وَقْتٍ إِلَى نِيَابَةِ دِمَشْقَ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ هَذِهِ
الْمَزْرَعَةُ ظَاهِرَ دِمَشْقَ مِنْ غَرْبِهَا، الَّتِي تُعْرَفُ بِالْقَصْرِ
الْبَكْجُورِيِّ.
ابْتِدَاءُ مُلْكِ سُبُكْتِكِينَ، وَالِدِ مَحْمُودٍ صَاحِبِ غَزْنَةَ
وَقَدْ كَانَ سُبُكْتِكِينَ مَوْلًى لِلْأَمِيرِ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ
أَلِبْتِكِينَ صَاحِبِ جَيْشِ غَزْنَةَ وَأَعْمَالِهَا لِلسَّامَانِيَّةِ،
وَلَيْسَ هَذَا بِحَاجِبِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ ذَاكَ، تُوُفِّيَ قَبْلَ هَذِهِ
السَّنَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا هَذَا فَإِنَّهُ لَمَّا مَاتَ مَوْلَاهُ لَمْ
يَتْرُكْ أَحَدًا يَصْلُحُ لِلْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ لَا مِنْ وَلَدِهِ وَلَا مِنْ
قَوْمِهِ، فَاصْطَلَحَ الْجَيْشُ عَلَى مُبَايَعَةِ سُبُكْتِكِينَ هَذَا ;
لِخَيْرِهِ فِيهِمْ، وَحُسْنِ سِيرَتِهِ، وَكَمَالِ عَقْلِهِ، وَشَجَاعَتِهِ، وَدِيَانَتِهِ،
فَاسْتَقَرَّ الْمُلْكُ بِيَدِهِ، وَاسْتَمَرَّ مِنْ بَعْدِهِ فِي وَلَدِهِ
السَّعِيدِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، وَقَدْ غَزَا سُبُكْتِكِينُ هَذَا
بِلَادَ
الْهِنْدِ، فَفَتَحَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ حُصُونِهِمْ، وَغَنِمَ شَيْئًا
كَثِيرًا وَكَسَرَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ وَنُذُورِهِمْ أَمْرًا هَائِلًا وَبَاشَرَ
مَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ حُرُوبًا تُشَيِّبُ الْوَلَدَانَ، وَقَدْ قَصَدَهُ
جِيبَالُ مَلِكُ الْهِنْدِ بِنَفْسِهِ وَجُنُودِهِ الَّتِي تَعُمُّ السُّهُولَ
وَالْجِبَالَ، فَكَسَرَهُ مَرَّتَيْنِ، وَرَدَّهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ فِي
أَسْوَإِ حَالٍ وَأَرْدَإِ بَالٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ أَنَّ سُبُكْتِكِينَ لَمَّا الْتَقَى
مَعَ جِيبَالَ مَلِكِ الْهِنْدِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ كَانَ بِالْقُرْبِ
مِنْهُمْ عَيْنٌ فِي عَقَبَةِ غُورَكَ، مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّهُ إِذَا وُضِعَتْ
فِيهَا نَجَاسَةٌ أَوْ قَذَرٌ، اكْفَهَرَّتِ السَّمَاءُ وَأَرْعَدَتْ وَأَبْرَقَتْ
وَأَمْطَرَتْ، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى تُطَهَّرَ تِلْكَ الْعَيْنُ مِنْ
ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي أُلْقِيَ فِيهَا، وَأَنَّ سُبُكْتِكِينَ أَمَرَ
بِإِلْقَاءِ نَجَاسَةٍ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ عِنْدَ ذَلِكَ - وَكَانَتْ قَرِيبَةً
مِنْ نَحْرِ الْعَدُوِّ - فَلَمْ يَزَالُوا فِي رُعُودٍ وَبَرْوَقٍ وَأَمْطَارٍ
وَصَوَاعِقَ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ ذَلِكَ الْحَالُ إِلَى الْهَرَبِ وَالرُّجُوعِ
إِلَى بِلَادِهِمْ خَائِبِينَ هَارِبِينَ، وَأَرْسَلَ مَلِكُ الْهِنْدِ يَطْلُبُ
مِنْ سُبُكْتِكِينَ الصُّلْحَ، فَأَجَابَهُ بَعْدَ امْتِنَاعٍ مِنْ وَلَدِهِ
مَحْمُودٍ، عَلَى مَالٍ جَزِيلٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ، وَبِلَادٍ كَثِيرَةٍ
يُسَلِّمُهَا إِلَيْهِ، وَخَمْسِينَ فِيلًا وَرَهَائِنَ مِنْ رُءُوسِ قَوْمِهِ
يَتْرُكُهَا عِنْدَهُ حَتَّى يَقُومَ بِمَا الْتَزَمَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ الْحَسَنِ الْجَنَّابِيُّ
صَاحِبُ هَجَرَ
وَمُقَدَّمُ
الْقَرَامِطَةِ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سِتَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ،
وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ بِالسَّادَةِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى تَدْبِيرِ الْأَمْرِ
مِنْ بَعْدِهِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا، فَمَشَى حَالُهُمْ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ:
الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ
الْقِرْمِطِيُّ
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَاسْمُ أَبِي سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ بَهْرَامٍ،
وَيُقَالُ: الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ كُوذْكَارَ.
يُقَالُ: أَصْلُهُ مِنَ الْفُرْسِ. قَالَ: وَيُعْرَفُ أَبُو مُحَمَّدٍ هَذَا
بِالْأَعْصَمِ. قَالَ: وَوُلِدَ بِالْأَحْسَاءِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَقَدْ تَغَلَّبَ عَلَى الشَّامِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْأَحْسَاءِ بَعْدَ سَنَةٍ، ثُمَّ عَادَ
إِلَى دِمَشْقَ فِي سَنَةِ سِتِّينَ، وَكَسَرَ جَيْشَ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ
أَوَّلِ مَنْ نَابَ بِالشَّامِ عَنِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ وَقَتَلَهُ، ثُمَّ
تَوَجَّهَ إِلَى مِصْرَ، فَحَاصَرَهَا فِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ
سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَاسْتَمَرَّ مُحَاصِرُهَا شُهُورًا، وَقَدْ كَانَ اسْتَخْلَفَ
عَلَى دِمَشْقَ ظَالِمَ بْنَ مَوْهُوبٍ الْعُقَيْلِيَّ،
ثُمَّ
عَادَ إِلَى الْأَحْسَاءِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرَّمْلَةِ فَتُوفِّيَ بِهَا فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ، وَهُوَ يُظْهِرُ طَاعَةَ عَبْدِ
الْكَرِيمِ الطَّائِعِ لِلَّهِ بْنِ الْمُطِيعِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَشْعَارًا حَسَنَةً رَائِقَةً فَائِقَةً،
مِنْ ذَلِكَ مَا كَتَبَ بِهِ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ قَبْلَ الْحَرْبِ
بَيْنَهُمَا:
الْكُتْبُ مُعْذِرَةٌ وَالرُّسْلُ مُخْبِرَةٌ وَالْحُقُّ مُتَّبَعٌ وَالْخَيْرُ
مَوْجُودُ وَالْحَرْبُ سَاكِنَةٌ وَالْخَيْلُ صَافِنَةٌ
وَالسِّلْمُ مُبْتَذَلٌ وَالظِّلُّ مَمْدُودُ فَإِنْ أَنَبْتُمْ فَمَقْبُولٌ
إِنَابَتُكُمْ
وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَهَذَا الْكُورُ مَشْدُودُ عَلَى ظُهُورِ الْمَطَايَا أَوْ
تَرِدْنَ بِنَا
دِمَشْقَ وَالْبَابُ مَهْدُومٌ وَمَرْدُودُ إِنِّي امْرُؤٌ لَيْسَ مِنْ شَأْنِي
وَلَا أَرَبِي
طَبْلٌ يَرِنُّ وَلَا نَايٌ وَلَا عُودُ وَلَا اعْتِكَافٌ عَلَى خَمْرٍ
وَمِجْمَرَةٍ
وَذَاتِ دَلٍّ لَهَا دَلٌّ وَتَفْنِيدُ وَلَا أَبِيتُ بَطِينَ الْبَطْنِ مِنْ
شِبَعٍ
وَلِي رَفِيقٌ خَمِيصُ الْبَطْنِ مَجْهُودُ وَلَا تَسَامَتْ بِيَ الدُّنْيَا إِلَى
طَمَعٍ
يَوْمًا وَلَا غَرَّنِي فِيهَا الْمَوَاعِيدُ
وَمِنْ شَعْرِهِ أَيْضًا:
يَا
سَاكِنَ الْبَلَدِ الْمُنِيفِ تَعُزُّزًا بِقِلَاعِهِ وَحُصُونِهِ وَكُهُوفِهِ
لَا عِزَّ إِلَّا لِلْعَزِيزِ بِنَفْسِهِ وَبِخَيْلِهِ وَبِرَجْلِهِ وَسُيُوفِهِ
وَبِقُبَّةٍ بَيْضَاءَ قَدْ ضُرِبَتْ عَلَى شَرَفِ الْخِيَامِ بِجَارِهِ
وَحَلِيفِهِ
قَوْمٌ إِذَا اشْتَدَّ الْوَغَى أَرْدَى الْعِدَا وَشَفَى النُّفُوسَ بِضَرْبِهِ
وَوُقُوفِهِ
لَمْ يَرْضَ بِالشَّرَفِ التَّلِيدِ لِنَفْسِهِ حَتَّى أَشَادَ تَلِيدُهُ
بِطَرِيفِهِ
وَفِيهَا تَمَلَّكَ قَابُوسُ بْنُ وُشْمَكِيرَ بِلَادَ جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ
وَتِلْكَ النَّوَاحِي.
وَفِيهَا دَخَلَ الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ بِشَاهْ نَازَ بِنْتِ عِزِّ الدَّوْلَةِ
بْنِ بُوَيْهِ، وَكَانَ عُرْسًا حَافِلًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّتْ جَمِيلَةُ بِنْتُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ
حَمْدَانَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، كَانَ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِحَجِّهَا، وَذَلِكَ
أَنَّهَا عَمِلَتْ أَرْبَعَمِائَةِ مَحْمَلٍ، فَلَا يُدْرَى فِي أَيِّهَا هِيَ،
وَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ، نَثَرَتْ عَلَيْهَا عَشْرَةَ آلَافِ
دِينَارٍ، وَكَسَتِ الْمُجَاوِرِينَ بِالْحَرَمَيْنِ كُلَّهُمْ، وَأَنْفَقَتْ
أَمْوَالًا جَزِيلَةً فِي ذَهَابِهَا وَإِيَابِهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ مِنَ الْعِرَاقِ الشَّرِيفُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ
بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعُلْوِيُّ،
وَكَذَلِكَ حَجَّ بِالنَّاسِ إِلَى سَنَةِ ثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وَكَانَتِ
الْخُطْبَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْحَرَمَيْنِ لِلْفَاطِمِيِّينَ أَصْحَابِ
مِصْرَ دُونَ الْعَبَّاسِيِّينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ سَالِمٍ، أَبُو
عَمْرٍو السُّلَمِيُّ
صَحِبَ الْجُنَيْدَ وَغَيْرَهُ، وَرَوَى الْحَدِيثَ، وَكَانَ ثِقَةً.
وَمِنْ جِيِّدِ كَلَامِهِ: مَنْ لَمْ تُهَذِّبْكَ رُؤْيَتُهُ، فَلَيْسَ
بِمُهَذَّبٍ.
وَقَدِ احْتَاجَ شَيْخُهُ أَبُو عُثْمَانَ مَرَّةً إِلَى شَيْءٍ، فَسَأَلَ
أَصْحَابَهُ فِيهِ، فَجَاءَهُ ابْنُ نُجَيْدٍ بِكِيسٍ فِيهِ أَلْفَا دِرْهَمٍ،
فَقَبَضَهُ مِنْهُ، وَجَعَلَ يَشْكُرُهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ نُجَيْدٍ:
يَا سَيِّدِي إِنَّ الْمَالَ الَّذِي دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ كَانَ مِنْ مَالِ
أُمِّي، وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَأُحِبُّ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيْهَا، فَأَعْطَاهُ
تِلْكَ الدَّرَاهِمَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَهُ بِهَا، وَقَالَ: أُحِبُّ
أَنْ تَصْرِفَهَا فِي أَمْرِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ أَحَدٌ،
فَكَانَ أَبُو عُثْمَانَ يَقُولُ: أَنَا أَخْشَى مِنْ هِمَّةِ أَبِي عَمْرِو بْنِ
نُجَيْدٍ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَسَنُ
بْنُ بُوَيْهِ، أَبُو عَلِيٍّ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ
عَرَضَ لَهُ قُولَنْجٌ، فَمَاتَ لَيْلَةَ السَّبْتِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ
مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، وَكَانَتْ مُدَّةُ إِمَارَتِهِ أَرْبَعًا
وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَشَهْرًا وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ، وَمُدَّةُ عُمُرِهِ ثَمَانٌ
وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَكَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَفْلَحَ بْنِ رَافِعِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَفْلَحَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ
بْنِ رَافِعٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْأَنْصَارِيُّ الزُّرَقِيُّ
كَانَ نَقِيبَ الْأَنْصَارِ بِبَغْدَادَ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي
الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً، يَعْرِفُ أَيَّامَ
الْأَنْصَارِ وَمَنَاقِبَهُمْ وَأُمُورَهُمْ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَبُو الْحَسَنِ
السَّرَّاجُ
سَمِعَ يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ الْقَاضِي وَغَيْرَهُ، وَكَانَ شَدِيدَ
الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، صَلَّى حَتَّى أُقْعِدَ، وَبَكَى حَتَّى عَمِيَ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْقَاضِي
مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ، أَبُو الْحَكَمِ الْبَلُّوطِيُّ
الظَّاهِرِيُّ مَذْهَبًا، قَاضِي قُضَاةِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ إِمَامًا
فَقِيهًا عَالِمًا فَصِيحًا خَطِيبًا شَاعِرًا دَيِّنًا كَثِيرَ الْفَضْلِ، وَلَهُ
مُصَنَّفَاتٌ وَاخْتِيَارَاتٌ، مِنْهَا أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي أُدْخِلَهَا
آدَمُ وَأُخْرِجَ مِنْهَا كَانَتْ فِي الْأَرْضِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفٌ
مُفْرَدٌ، لَهُ وَقْعٌ فِي النُّفُوسِ، وَلَهُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَغَيْرُ
ذَلِكَ.
دَخَلَ يَوْمًا عَلَى النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْأُمَوِيِّ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَدِينَةِ الزَّهْرَاءِ
وَقُصُورِهَا، وَقَدْ بُنِيَ لَهُ فِيهَا قَصْرٌ عَظِيمٌ مُنِيفٌ وَزُخُرِفَ
بِأَنْوَاعِ الدِّهَانَاتِ وَالسُّتُورِ، وَجَلَسَ عِنْدَهُ رُءُوسُ دَوْلَتِهِ
وَأُمَرَاؤُهُ، وَجَاءَ الْقَاضِي فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِهِ، وَجَعَلَ
الْحَاضِرُونَ يُثْنُونَ عَلَى هَذَا الْبِنَاءِ، وَالْقَاضِي سَاكِتٌ لَا
يَتَكَلَّمُ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ، وَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا
الْحَكَمِ ؟ فَبَكَى الْقَاضِي، وَانْحَدَرَتْ دُمُوعُهُ عَلَى لِحْيَتِهِ، وَقَالَ:
مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الشَّيْطَانَ - أَخْزَاهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَبْلُغُ
مِنْكَ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلَا أَنَّكَ تُمَكِّنُهُ مِنْ قِيَادِكَ هَذَا
التَّمْكِينَ، مَعَ مَا آتَاكَ اللَّهُ، وَفَضَّلَكَ بِهِ، حَتَّى أَنْزَلَكَ
مَنَازِلَ الْكَافِرِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَلَوْلَا
أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا
يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ
وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [ الزُّخْرُفِ: 33 - 35 ] قَالَ:
فَوَجَمَ الْمَلِكُ عِنْدَ ذَلِكَ وَبَكَى، وَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا،
وَأَكْثَرَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِثْلَكَ.
وَقَدْ قَحَطَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ، فَأَمَرَ الْمَلِكُ الْقَاضِيَ مُنْذِرَ
بْنَ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيَّ أَنْ يَسْتَسْقِيَ بِالنَّاسِ، فَلَمَّا جَاءَتْهُ
الرِّسَالَةُ بِذَلِكَ لِيَخْرُجَ مِنَ الْغَدِ، قَالَ لِلرَّسُولِ: كَيْفَ
تَرَكْتَ الْمَلِكَ وَمَا حَالُهُ ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ أَخْشَعَ مَا يَكُونُ
وَأَكْثَرَهُ دُعَاءً، فَقَالَ الْقَاضِي: رُحِمْتُمْ وَسُقِيتُمْ وَاللَّهِ،
إِذَا خَشَعَ جَبَّارُ الْأَرْضِ، رَحِمَ جَبَّارُ السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ
لِغُلَامِهِ: اخْرُجْ بِالْمِمْطَرِ مَعَكَ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ، وَجَاءَ
الْقَاضِي صَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَسْتَمِعُونَ
لِمَا يَقُولُ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ كَانَ أَوَّلَ مَا خَاطَبَهُمْ بِهِ
أَنْ قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةِ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْأَنْعَامِ: 54 ] ثُمَّ أَعَادَهَا،
فَأَخَذَ النَّاسُ فِي الْبُكَاءِ وَالنَّحِيبِ وَالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ،
فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى سُقُوا، وَرَجَعُوا يَخُوضُونَ الْمَاءَ. وَقَدْ
صَنَّفَ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مُصَنَّفًا فِي مَنَاقِبِهِ
رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمَرْزُبَانِ الْبَغْدَادِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ بِأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ،
وَأَخَذَ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ كَانَ وَرِعًا زَاهِدًا لَيْسَ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ، وَلَهُ وَجْهٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَانَ لَهُ دَرْسٌ بِبَغْدَادَ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ وَخَرَجَ مِنْهَا
عِزُّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارُ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَاتَّبَعَهُ عَضُدُ
الدَّوْلَةِ لِيُقَاتِلَهُ، وَأَخَذَ مَعَهُ الْخَلِيفَةَ الطَّائِعَ لِلَّهِ
فَاسْتَعْفَاهُ الْخَلِيفَةُ مِنَ الْخُرُوجِ فَأَعْفَاهُ، وَسَارَ عَضُدُ
الدَّوْلَةِ وَرَاءَهُ، فَأَخَذَهُ أَسِيرًا، ثُمَّ قُتِلَ سَرِيعًا،
وَتَصَرَّمَتْ دَوْلَتُهُ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَادَ،
وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْخِلَعَ السَّنِيَّةَ وَالْأَسْوِرَةَ فِي
يَدَيْهِ وَالطَّوْقَ فِي عُنُقِهِ، وَأَعْطَاهُ لِوَاءَيْنِ ; أَحَدُهُمَا
فِضَّةٌ وَالْآخَرُ ذَهَبٌ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الثَّانِي يَصْنَعُهُ إِلَّا
لِأَوْلِيَاءِ الْعَهْدِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ بِتُحَفٍ سَنِيَّةٍ،
وَبَعَثَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْخَلِيفَةِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً مِنَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى بَغْدَادَ وَمَا وَالَاهَا
مِنَ الْبِلَادِ.
وَزُلْزِلَتْ بَغْدَادُ مِرَارًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَزَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَانْبَثَقَتْ بُثُوقٌ كَثِيرَةٌ، غَرِقَ
بِسَبَبِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ.
وَقِيلَ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ: إِنَّ أَهْلَ بَغْدَادَ قَدْ قَلُّوا كَثِيرًا
بِسَبَبِ الطَّاعُونِ وَمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْفِتَنِ بِسَبَبِ الرَّفْضِ
وَالسُّنَّةِ، وَأَصَابَهُمْ حَرِيقٌ وَغَرَقٌ، فَقَالَ: إِنَّمَا يُهَيِّجُ
الشَّرَّ
بَيْنَ النَّاسِ فِي السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ هَؤُلَاءِ الْقُصَّاصُ
وَالْوُعَّاظُ، ثُمَّ رَسَمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُصُّ وَلَا يَعِظُ فِي سَائِرِ
بَغْدَادَ وَلَا يَسْأَلُ سَائِلٌ بَاسِمِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا
يَقْرَأُ السَّائِلُ الْقُرْآنَ، فَمَنْ أَعْطَاهُ أَخَذَ مِنْهُ.
فَعُمِلَ بِذَلِكَ فِي الْبَلَدِ ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ بْنَ
سَمْعُونَ الْوَاعِظَ - وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ - قَدِ اسْتَمَرَّ يَعِظُ
النَّاسَ عَلَى عَادَتِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ جَاءَ بِهِ، فَأُخِذَ مِنْ
مَجْلِسِهِ، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَبِّلِ التُّرَابَ،
وَتَوَاضَعْ فِي الْخِطَابِ وَالْجَوَابِ. فَلَمَّا دَخَلَ دَارَ الْمَلِكِ وَجَدَ
السُّلْطَانَ قَدْ جَلَسَ فِي حُجْرَةٍ وَحْدَهُ، لِئَلَّا يَنْدُرَ مِنِ ابْنِ
سَمْعُونَ فِي حَقِّهِ كَلَامٌ بِحَضْرَةِ النَّاسِ يُؤْثَرُ عَنْهُ، وَدَخَلَ
الْحَاجِبُ بَيْنَ يَدَيْهِ، لِيَسْتَأْذِنَ لَهُ عَلَيْهِ، فَوَجَدَهُ قَدْ
دَخَلَ وَرَاءَهُ، فَإِذَا الْمَلِكُ جَالِسٌ وَحْدَهُ، فَتَنَحَّى ابْنُ
سَمْعُونَ بِوَجْهِهِ نَحْوَ دَارِ عِزِّ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ
الْقِرَاءَةَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ
إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هُودٍ:
102 ] ثُمَّ اسْتَدَارَ نَحْوَ الْمَلِكِ، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ
لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [ يُونُسَ: 14 ] ثُمَّ أَخَذَ فِي مُخَاطَبَةِ
الْمَلِكِ وَوَعْظِهِ، فَبَكَى عَضُدُ الدَّوْلَةِ بُكَاءً كَثِيرًا، وَجَزَاهُ
خَيْرًا.
فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ لِلْحَاجِبِ: اذْهَبْ فَخُذْ ثَلَاثَةَ
آلَافِ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةَ أَثْوَابٍ، وَادْفَعْهَا إِلَيْهِ ; لِنَفْسِهِ أَوْ
لِنَفَقَةِ أَهْلِهِ، فَإِنْ قَبِلَهَا جِئْنِي بِرَأْسِهِ، قَالَ الْحَاجِبُ:
فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ: هَذِهِ أَثْوَابٌ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْكَ الْمَلِكُ
لِتَلْبِسَهَا، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهَا ; هَذِهِ ثِيَابِي مِنْ عَهْدِ
أَبِي مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، كُلَّمَا خَرَجْتُ إِلَى النَّاسِ لَبِسْتُهَا،
فَإِذَا رَجَعْتُ طَوَيْتُهَا. قُلْتُ: وَهَذِهِ نَفَقَةٌ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ
لِي فِيهَا ;
لِي
دَارٌ آكُلُ مِنْ أُجْرَتِهَا، تَرَكَهَا لِي أَبِي فَأَنَا فِي غُنْيَةٍ عَنْهَا.
فَقُلْتُ: فَرِّقْهَا فِي فُقَرَاءِ أَهْلِكَ، فَقَالَ: أَهْلُهُ أَحَقُّ مِنْ
أَهْلِي وَأَفْقَرُ إِلَيْهَا مِنْهُمْ. فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَلِكِ لِأُشَاوِرَهُ
وَأُخْبِرَهُ بِمَا قَالَ، فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي سَلَّمَهُ مِنَّا، وَسَلَّمَنَا مِنْهُ.
ثُمَّ إِنَّ عَضُدَ الدَّوْلَةِ أَخَذَ ابْنَ بَقِيَّةَ الْوَزِيرَ لِعِزِّ
الدَّوْلَةِ، فَأَمَرَ بِهِ، فَوُضِعَ بَيْنَ قَوَائِمِ الْفِيَلَةِ،
فَتَخَبَّطَتْهُ بِأَرْجُلِهَا حَتَّى هَلَكَ، ثُمَّ صُلِبَ عَلَى رَأْسِ
الْجِسْرِ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، فَرَثَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ
الْأَنْبَارِيِّ بِأَبْيَاتٍ يَقُولُ فِيهَا:
عُلُوٌّ فِي الْحَيَاةِ وَفِي الْمَمَاتِ بِحَقٍّ أَنْتَ إِحْدَى الْمُعْجِزَاتِ
كَأَنَّ النَّاسَ حَوْلَكَ حِينَ قَامُوا
وُفُودُ نَدَاكَ أَيَّامَ الصِّلَاتِ كَأَنَّكَ وَاقِفٌ فِيهَمْ خَطِيبًا
وَكُلُّهُمْ وَقُوفٌ لِلصَّلَاةِ مَدَدْتَ يَدَيْكَ نَحْوَهُمُ احْتِفَاءً
كَمَدِّهِمَا إِلَيْهِمْ بِالْهِبَاتِ
وَهِيَ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ، أَوْرَدَ كَثِيرًا مِنْهَا ابْنُ الْأَثِيرِ فِي
كَامِلِهِ.
صِفَةُ مَقْتَلِ عِزِّ الدِّينِ بَخْتِيَارَ بْنِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَأَخْذِ
عَضُدِ الدَّوْلَةِ الْمَوْصِلَ وَأَعْمَالَهَا
لَمَّا دَخَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بَغْدَادَ وَتَسَلَّمَهَا مِنْ عِزِّ
الدَّوْلَةِ وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا ذَلِيلًا طَرِيدًا
فِي
فَلٍّ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْ عَزْمِ عِزِّ الدَّوْلَةِ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى
الشَّامِ فَيَأْخُذَهَا، وَقَدْ حَلَّفَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَنْ لَا
يَتَعَرَّضَ لِأَبِي تَغْلِبَ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ وَذَلِكَ لِمَوَدَّةٍ كَانَتْ
بَيْنَهُمَا وَمُكَاتَبَةٍ وَمُرَاسَلَاتٍ مِنْهُمَا، فَحَلَفَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ،
وَحِينَ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ كَانَ مَعَهُ حَمْدَانُ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ
بْنِ حَمْدَانَ، فَحَسَّنَ لِعِزِّ الدَّوْلَةِ أَخْذَ بِلَادِ الْمَوْصِلِ ;
لِأَنَّهَا أَطْيَبُ وَأَكْثَرُ مَالًا، وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ الْآنَ، وَكَانَ
عِزُّ الدَّوْلَةِ ضَعِيفَ الْعَقْلِ، قَلِيلَ الدِّينِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
أَبَا تَغْلِبَ، أَرْسَلَ إِلَى عِزِّ الدَّوْلَةِ يَقُولُ لَهُ: لَئِنْ بَعَثْتَ
إِلَيَّ بِأَخِي حَمْدَانَ بْنِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ أَعَنْتُكَ بِجَيْشِي
وَبِنَفْسِي حَتَّى أَرُدَّكَ إِلَى مُلْكِ بَغْدَادَ وَأُقَاتِلُ مَعَكَ عَضُدَ
الدَّوْلَةِ. فَأَمْسَكَ حَمْدَانَ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى عَمِّهِ أَبِي تَغْلِبَ،
فَسَجَنَهُ فِي بَعْضِ الْقِلَاعِ.
وَبَلَغَ ذَلِكَ عَضُدَ الدَّوْلَةِ، وَأَنَّهُمَا قَدِ اجْتَمَعَا عَلَى
حَرْبِهِ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمَا بِجَيْشِهِ، وَأَرَادَ إِخْرَاجَ الْخَلِيفَةِ
الطَّائِعِ مَعَهُ، فَاسْتَعْفَاهُ فَأَعْفَاهُ، وَاسْتَمَرَّ هُوَ ذَاهِبًا
إِلَيْهِمَا فَالْتَقَى مَعَهُمَا، فَكَسَرَهُمَا وَهَزَمَهُمَا، وَأَخَذَ عِزَّ
الدَّوْلَةِ أَسِيرًا، فَلَمَّا جِيءَ بِهِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ، بَلْ أَرْسَلَ
إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ فِي الْحَالِ، ثُمَّ سَارَ مِنْ فَوْرِهِ، فَأَخَذَ
الْمَوْصِلَ وَمُعَامَلَتَهَا، وَكَانَ قَدْ حَمَلَ مَعَهُ مِيرَةً كَثِيرَةً،
وَتَشَرَّدَ أَبُو تَغْلِبَ فِي الْبِلَادِ، وَبَعَثَ وَرَاءَهُ السَّرَايَا مِنْ
كُلِّ جِهَةٍ، وَأَقَامَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بِالْمَوْصِلِ وَضَيَّقَ عَلَى أَبِي
تَغْلِبَ تِلْكَ الْبِلَادَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى أَكْثَرِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ
بِصَرَامَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَهِمَّتِهِ وَعَزِيمَتِهِ، وَأَقَامَ بِالْمَوْصِلِ
إِلَى أَوَاخِرِ سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَفَتَحَ مَيَّافَارِقِينَ وَآمِدَ
وَغَيْرَهُمَا مِنْ بِلَادِ بَكْرٍ وَرَبِيعَةَ، وَتَسَلَّمَ بِلَادَ مُضَرَ مِنْ
أَيْدِي نُوَّابِ أَبِي تَغْلِبَ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الرَّحْبَةَ، وَرَدَّ
بَقِيَّتَهَا عَلَى صَاحِبِ
حَلَبَ
سَعْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَتَسَلَّطَ سَعْدُ
الدَّوْلَةِ عَلَى بِلَادِ عَمِّهِ أَبِي تَغْلِبَ يَتَسَلَّمُهَا بَلَدًا
بَلَدًا، وَحِينَ رَجَعَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْمَوْصِلِ اسْتَنَابَ
عَلَيْهَا أَبَا الْوَفَاءِ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَتَلَقَّاهُ الْخَلِيفَةُ
الطَّائِعُ لِلَّهِ وَرُءُوسُ النَّاسِ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا.
وَمِمَّا وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْوَقْعَةُ الَّتِي
كَانَتْ بَيْنَ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ وَبَيْنَ أَفْتِكِينَ
غُلَامِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ صَاحِبِ دِمَشْقَ فَهَزَمَهُ، وَأَسَرَهُ، وَأَخَذَهُ
مَعَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا كَمَا تَقَدَّمَ،
وَتَسَلَّمُ الْعَزِيزُ دِمَشْقَ وَأَعْمَالَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ بَسْطُ هَذِهِ الْكَائِنَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ
الْمُعْتَزِلِيِّ بِقَضَاءِ قُضَاةِ الرَّيِّ وَمَا تَحْتَ حُكْمِ مُؤَيِّدِ
الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ، وَلَهُ
مُصَنَّفَاتٌ حَسَنَةٌ، مِنْهَا دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ، وَعُمُدُ الْأَدِلَّةِ،
وَغَيْرُهُمَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا نَائِبُ الْمِصْرِيِّينَ، وَهُوَ الْأَمِيرُ بَادِيسُ
بْنُ زِيرِي أَخُو يُوسُفَ بْنِ بُلُكِّينَ.
وَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ اللُّصُوصُ، وَسَأَلُوا مِنْهُ أَنْ
يُضَمِّنَهُمُ الْمَوْسِمَ هَذَا الْعَامَ، بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَمْوَالِ،
فَأَظْهَرَ لَهُمُ الْإِجَابَةَ إِلَى مَا سَأَلُوا، وَقَالَ لَهُمْ: اجْتَمَعُوا
كُلُّكُمْ حَتَّى أُضَمِّنَكُمْ كُلَّكُمْ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ بِضْعٌ
وَثَلَاثُونَ حَرَامِيًّا، فَقَالَ: هَلْ بَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدٌ ؟ فَحَلَفُوا
لَهُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِقَطْعِ
أَيْدِيهِمْ
كُلِّهِمْ،
وَنِعْمَ مَا فَعَلَ. وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
لِلْفَاطِمِيِّينَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ دُونَ الْعَبَّاسِيِّينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْمَلِكُ عِزُّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارُ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ أَبِي
الْحُسَيْنِ أَحْمَدَ بْنِ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ
مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ وَعُمُرُهُ فَوْقَ الْعِشْرِينَ سَنَةً بِقَلِيلٍ، وَكَانَ
حَسَنَ الْجِسْمِ، شَدِيدَ الْبَطْشِ، قَوِيَّ الْقَلْبِ جِدًّا، يُقَالُ: إِنَّهُ
كَانَ يَأْخُذُ بِقَوَائِمِ الثَّوْرِ الشَّدِيدِ، فَيُلْقِيهِ إِلَى الْأَرْضِ
مِنْ غَيْرِ أَعْوَانٍ، وَيَتَقَصَّدُ الْأُسُودَ فِي مُتَصَيِّدَاتِهِ،
وَلَكِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى
اللَّذَّاتِ.
وَلَمَّا كَسَرَهُ ابْنُ عَمِّهِ بِبِلَادِ الْأَهْوَازِ، كَانَ فِيمَا أُخِذَ
مِنْ أَمْوَالِهِ غُلَامٌ لَهُ كَانَ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَبَعَثَ
يَتَرَقَّقُ لِابْنِ عَمِّهِ فِيهِ حَتَّى يَرُدَّهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
بِتُحَفٍ كَثِيرَةٍ وَأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ وَجَارِيَتَيْنِ عَوَّادَتَيْنِ، لَا
قِيمَةَ لَهُمَا، وَبَعَثَ نَقِيبَ الْأَشْرَافِ فِي ذَلِكَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ
الْغُلَامَ الْمَذْكُورَ، فَكَثُرَ تَعْنِيفُ النَّاسِ لِعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَسَقَطَ
مِنْ أَعْيُنِ الْمُلُوكِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ذَهَابُ هَذَا الْغُلَامِ
أَشُدُّ عَلَيَّ مِمَّا جَرَى مِنْ أَخْذِ بَغْدَادَ بَلْ وَأَرْضِ الْعِرَاقِ.
ثُمَّ آلَ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ أَسَرَهُ ابْنُ عَمِّهِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ،
كَمَا
ذَكَرْنَا وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ سَرِيعًا، فَكَانَتْ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ سِتًّا
وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ دَوْلَتِهِ مِنْهَا إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً
وَشُهُورٌ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
قُرَيْعَةَ
وَلِيُّ الْقَضَاءِ بِالسِّنْدِيَّةِ، وَكَانَ فَصِيحًا يَأْتِي بِالْكَلَامِ
الْمَسْجُوعِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَرَدُّدٍ، وَكَانَ جَمِيلَ
الْمُعَاشَرَةِ، ظَرِيفَ الْمُحَاضَرَةِ.
وَمِنْ شَعْرِهِ:
لِي حِيلَةٌ فِي مَنْ يَنِمُّ وَلَيْسَ فِي الُكَذَّابِ حِيلَهْ مَنْ كَانَ
يَخْلُقُ مَا يَقُو
لُ فَحِيلَتِي فِيهِ قَلِيلَهْ
وَكَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذَا تَمَاشَيَا: إِذَا تَقَدَّمْتُ
فَحَاجِبٌ، وَإِنْ تَأَخَّرْتُ فَوَاجِبٌ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتَ
لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي شَعْبَانَ مِنْهَا أَمَرَ الطَّائِعُ لِلَّهِ أَنْ يُدْعَى لِعَضُدِ
الدَّوْلَةِ بَعْدَ الْخَلِيفَةِ عَلَى الْمَنَابِرِ بِبَغْدَادَ، وَأَنْ تُضْرَبَ
الدَّبَادِبُ عَلَى بَابِهِ وَقْتَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ وَبَعْدَ
الْعَشَاءِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَتَّفِقْ لِغَيْرِهِ مِنْ بَنِي
بُوَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ سَأَلَ مِنَ الْمُطِيعِ لِلَّهِ أَنْ
يَضْرِبَ الدَّبَادِبَ عَلَى بَابِهِ بِبَغْدَادَ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي
ذَلِكَ.
وَقَدِ افْتَتَحَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - وَهُوَ مُقِيمٌ
بِالْمَوْصِلِ - أَكْثَرَ بِلَادِ أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ، كَآمِدَ
وَمَيَّافَارِقِينَ وَالرَّحْبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُدُنِ الْكِبَارِ
وَالصِّغَارِ، وَحِينَ عَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى بَغْدَادَ اسْتَنَابَ عَلَى
الْمَوْصِلِ أَبَا الْوَفَاءِ الْحَاجِبَ، وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا
فِي سَلْخِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَتَلَقَّاهُ الْخَلِيفَةُ
وَالْأَعْيَانُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
ذِكْرُ مُلْكِ قَسَّامٍ التَّرَّابِ لِدِمَشْقَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، لَمَّا اتَّقَعَ أَفْتِكِينُ مَعَ الْعَزِيزِ بِأَرْضِ
الرَّمْلَةِ وَانْهَزَمَ أَفْتِكِينُ وَالْحَسَنُ الْقِرْمِطِيُّ مَعَهُ، وَأُسِرَ
أَفْتِكِينُ فَذَهَبَ مَعَ
الْعَزِيزِ
إِلَى دِيَارِ مِصْرَ نَهَضَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ يُقَالُ لَهُ: قَسَّامٌ
التَّرَّابُ، كَانَ أَفْتِكِينُ يُقَرِّبُهُ وَيُدْنِيهِ وَيَأْتَمِنُهُ عَلَى
أَسْرَارِهِ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى دِمَشْقَ وَطَاوَعَهُ أَهْلُهَا، وَقَصَدَتْهُ
عَسَاكِرُ الْعَزِيزِ مِنْ مِصْرَ، فَحَاصَرُوهُ فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْهُ
بِشَيْءٍ، وَجَاءَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ،
فَحَاصَرَهُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَدْخُلَ دِمَشْقَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ
خَائِبًا إِلَى طَبَرِيَّةَ فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي عُقَيْلٍ
وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ، آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ
قَتُلِ أَبُو تَغْلِبَ، وَكَانَتْ مَعَهُ أُخْتُهُ جَمِيلَةُ، وَامْرَأَتُهُ
وَهِيَ بِنْتُ عَمِّهِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَرُدَّتَا إِلَى سَعْدِ الدَّوْلَةِ
بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِحَلَبَ، فَأَخَذَ أُخْتَهُ، وَبَعَثَ بِجَمِيلَةَ إِلَى
بَغْدَادَ فَحُبِسَتْ فِي دَارٍ وَأُخِذَ مِنْهَا أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ.
وَأَمَّا قَسَّامٌ - وَهُوَ الْحَارِثِيُّ، وَأَصْلُهُ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ
كَعْبٍ مِنَ الْيَمَنِ - فَأَقَامَ بِالشَّامِ يَسُدُّ خَلَلَهَا، وَيَقُومُ
بِمَصَالِحِهَا مُدَّةَ سِنِينَ عَدِيدَةٍ، وَكَانَ مَجْلِسُهُ بِالْجَامِعِ،
وَيَجْتَمِعُ النَّاسُ عِنْدَهُ فَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ، وَيَقُومُ
فَيَمْتَثِلُونَ مَا يَرْسُمُ بِهِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةِ تَلْفِيتَا وَكَانَ تَرَّابًا.
قُلْتُ: وَالْعَامَّةُ يَقُولُونَ: اسْمُهُ قُسَيْمٌ الزَّبَّالُ، وَإِنَّمَا هُوَ
قَسَّامٌ، وَلَمْ يَكُنْ زَبَّالًا بَلْ تَرَّابًا مِنْ قَرْيَةِ تَلْفِيتَا
بِالْقُرْبِ مِنْ قَرْيَةِ مَنِينَ، وَكَانَ بُدُوَّ أَمْرِهِ أَنَّهُ انْتَمَى
إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَحْدَاثِ دِمَشْقَ يُقَالُ لَهُ: أَحْمَدُ بْنُ الْجَسْطَارِ،
فَكَانَ مِنْ حِزْبِهِ، ثُمَّ
اسْتُحْوِذَ
عَلَى الْأُمُورِ، وَغُلِبَ عَلَى الْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاءِ، وَصَارَتْ إِلَيْهِ
أَزْمَةُ الْأَحْكَامِ، إِلَى أَنْ قَدِمَ بُلُكِّينُ التُّرْكِيُّ مِنْ مِصْرَ
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سِتٍّ
وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ وَدَخَلَهَا، وَاخْتَفَى
قَسَّامٌ التَّرَّابُ مُدَّةً، ثُمَّ ظَهَرَ، فَأَخَذَهُ أَسِيرًا وَأَرْسَلَهُ
مُقَيَّدًا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأُطْلِقَ وَأُحْسِنَ إِلَيْهِ
وَأَقَامَ بِهَا أَيْضًا مُكَرَّمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ مَالِكِ بْنِ شَبِيبِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ
مِنْ قَطِيعَةِ الدَّقِيقِ بِبَغْدَادَ، رَاوِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ "
عَنِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ
مُصَنَّفَاتِ أَحْمَدَ، وَحَدَّثَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَشَايِخِ أَيْضًا،
وَكَانَ ثِقَةً كَثِيرَ الْحَدِيثِ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَابْنُ شَاهِينَ وَالْبَرْقَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْحَاكِمُ، وَلَمْ
يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَلَا الْتَفَتُوا إِلَى مَا شَغَبَ
بِهِ بَعْضُهُمْ مِنَ الْكَلَامِ فِيهِ، بِسَبَبِ غَرَقِ بَعْضِ كُتُبِهِ حِينَ
غَرِقَتِ الْقَطِيعَةُ بِالْمَاءِ الْأَسْوَدِ، فَاسْتَحْدَثَ بَعْضَهَا مِنْ
نُسَخٍ أُخَرَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مُعَارَضَةٌ
عَلَى كُتُبِهِ الَّتِي غَرِقَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ
تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، فَكَانَ لَا يَدْرِي مَا قُرِئَ عَلَيْهِ. وَقَدْ
جَاوَزَ التِّسْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيُّ
وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ دَوْلَةِ أَبِيهِ
وَأَخِيهِ
الْعَزِيزِ، وَفِيهِ كَرَمٌ، وَلَهُ فَضِيلَةٌ، وَقَدِ اتَّفَقَتْ لَهُ كَائِنَةٌ
غَرِيبَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَاشْتُرِيَتْ لَهُ جَارِيَةٌ
مُغَنِّيَةٌ بِمَبْلَغٍ جَزِيلٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْ عِنْدَهُ أَضَافَ أَصْحَابَهُ،
ثُمَّ أَمَرَهَا فَغَنَّتْ - وَكَانَتْ تُحِبُّ شَخْصًا بِبَغْدَادَ -:
وَبَدَا لَهُ مِنْ بَعْدِ مَا انْدَمَلَ الْهَوَى بَرْقٌ تَأَلَّقَ مُوهِنًا
لَمَعَانُهُ يَبْدُو كَحَاشِيَةِ الرِّدَاءِ وَدُونَهُ
صَعْبُ الذَّرَى مُتَمَنِّعٌ أَرْكَانُهُ فَبَدَا لِيَنْظُرَ كَيْفَ لَاحَ فَلَمْ
يُطِقْ
نَظَرًا إِلَيْهِ وَصَدَّهُ أَشْجَانُهُ فَالنَّارُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ
ضُلُوعُهُ
وَالْمَاءُ مَا سَمَحَتْ بِهِ أَجْفَانُهُ
ثُمَّ غَنَّتْهُ بِأَبْيَاتٍ أُخَرَ، فَاشْتَدَّ طَرَبُ تَمِيمٍ هَذَا، وَقَالَ
لَهَا: لَا بُدَّ أَنْ تَسْأَلِينِي حَاجَةً، فَقَالَتْ: عَافِيَتَكَ. فَقَالَ:
وَمَعَ هَذَا، وَأَلَحَّ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: تَرُدُّنِي إِلَى بَغْدَادَ حَتَّى
أُغَنِّيَ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ، فَوَجَمَ، ثُمَّ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ
الْوَفَاءِ، فَأَرْسَلَهَا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ فَأَحَجَّهَا، ثُمَّ سَارَ
بِهَا إِلَى بَغْدَادَ عَلَى طَرِيقِ الْعِرَاقِ، فَلَمَّا أَمْسَوْا فِي
اللَّيْلَةِ الَّتِي يَدْخُلُونَ مِنْ صَبِيحَتِهَا بَغْدَادَ ذَهَبَتْ فِي
اللَّيْلِ، فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ ذَهَبَتْ، فَلَمَّا رَاحَ الْخَبَرُ إِلَى
مَوْلَاهَا تَأَلَّمَ أَلَمًا شَدِيدًا، وَنَدِمَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ
النَّدَمُ.
الْعَقِيقِيُّ
صَاحِبُ الْحَمَّامِ وَالدَّارِ الْمَنْسُوبَتَيْنِ إِلَيْهِ بِمَحَلَّةِ بَابِ
الْبَرِيدِ بِدِمَشْقَ، وَاسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَقِيقِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ
بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَصْغَرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِيُّ الْعَقِيقِيُّ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَانَ مِنْ وُجُوهِ الْأَشْرَافِ بِدِمَشْقَ، وَإِلَيْهِ
تَنْسُبُ الدَّارُ وَالْحَمَّامُ بِمَحَلَّةِ الْبَرِيدِ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ
الْوَأْوَاءُ الدِّمَشْقِيُّ وَذَكَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَنَّهُ
دُفِنَ مِنَ الْغَدِ، وَأُغْلِقَ الْبَلَدُ بِسَبَبِ جِنَازَتِهِ، وَحَضَرَهَا
بَكْجُورُ وَأَصْحَابُهُ - يَعْنِي نَائِبَ دِمَشْقَ - وَدُفِنَ خَارِجَ بَابِ
الصَّغِيرِ.
قُلْتُ: وَقَدِ اشْتَرَى الْمَلِكُ الظَّاهِرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ دَارَهُ،
وَبَنَاهَا مَدْرَسَةً وَدَارَ حَدِيثٍ وَتُرْبَةً، وَبِهَا قَبْرُهُ، وَذَلِكَ
فِي حُدُودِ سَنَةِ سَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ النَّحْوِيُّ: الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمَرْزُبَانِ، أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ النَّحْوِيُّ الْقَاضِي
سَكَنَ بَغْدَادَ وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِهَا نِيَابَةً، وَلَهُ شَرْحُ كِتَابِ
سِيبَوَيْهِ وَطَبَقَاتُ النُّحَاةِ.
وَرَوَى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ أَبُوهُ
مَجُوسِيًّا، وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ هَذَا عَالِمًا بِاللُّغَةِ
وَالْقِرَاءَاتِ وَالنَّحْوِ وَالْعَرُوضِ وَالْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ.
وَكَانَ
زَاهِدًا لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، كَانَ يَنْسَخُ فِي كُلِّ
يَوْمٍ عَشْرَ وَرَقَاتٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، تَكُونُ مِنْهَا نَفَقَتُهُ
وَقُوتُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِنَحْوِ
الْبَصْرِيِّينَ، وَيَنْتَحِلُ مَذْهَبَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي الْفِقْهِ،
وَقَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ وَاللُّغَةَ عَلَى ابْنِ دُرَيْدٍ
وَالنَّحْوَ عَلَى ابْنِ السَّرَّاجِ وَالْمَبْرَمَانِ، وَنَسَبَهُ بَعْضُهُمْ
إِلَى الِاعْتِزَالِ، وَأَنْكَرَهُ آخَرُونَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ
سَنَةً، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْخَيْزُرَانِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الزِّنْجَانِيُّ،
وَيُعْرَفُ بَالْآبَنْدُونِيِّ
رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى الْآفَاقِ، وَرَافَقَ ابْنَ عَدِيٍّ فِي
بَعْضِ ذَلِكَ، ثُمَّ سَكَنَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي يَعْلَى، وَالْحَسَنِ
بْنِ سُفْيَانَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَكَانَ ثِقَةً ثَبَتًا لَهُ مُصَنَّفَاتٌ، زَاهِدًا، رَوَى عَنْهُ
الْبَرْقَانِيُّ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا، وَذَكَرَ أَنَّ أَكْثَرَ أَكْلِهِ
الْخُبْزُ الْمَأْدُومُ بِمَرَقِ الْبَاقِلَّاءِ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ
تَقَلُّلِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ، وَتُوَفِّي عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ وَرْقَاءَ، الْأَمِيرُ أَبُو أَحْمَدَ
الشَّيْبَانِيُّ مِنْ أَهْلِ
الْبُيُوتَاتِ
وَالْحِشْمَةِ، بَلَغَ التِّسْعِينَ، رَوَى عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ
أَنْشَدَ فِي صِفَةِ النِّسَاءِ:
هِيَ الضِّلَعُ الُعَوْجَاءُ لَسْتَ تُقِيمُهَا أَلَا إِنَّ تَقْوِيمَ الضُّلُوعِ
انْكِسَارُهَا
أَيَجْمَعْنَ ضَعْفًا وَاقْتِدَارًا عَلَى الْفَتَى أَلَيْسَ عَجِيبًا ضَعْفُهَا
وَاقْتِدَارُهَا
قُلْتُ: وَهَذَا الشَّاعِرُ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي
الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسْرَتَهُ، وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ
بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ. "
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ الْجُلُودِيُّ
رَاوِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
سُفْيَانَ الْفَقِيهِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَكَانَ مِنَ الزُّهَّادِ،
يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ مِنَ النَّسْخِ، وَبَلَغَ ثَمَانِينَ سَنَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ عِمْرَانُ بْنُ شَاهِينَ صَاحِبُ
بِلَادِ الْبَطِيحَةِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، تَغَلَّبَ عَلَيْهَا، وَعَجَزَ
عَنْهُ الْأُمَرَاءُ وَالْمُلُوكُ وَالْخُلَفَاءُ، وَبُعِثَتْ إِلَيْهِ الْجُنُودُ
وَالسَّرَايَا وَالْجُيُوشُ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَفُلُّهَا وَيَكْسِرُهَا،
وَكُلُّ مَا لَهُ فِي تَمَكُّنٍ وَقُوَّةٍ، وَمَكَثَ كَذَلِكَ هَذِهِ الْمُدَّةَ
كُلَّهَا، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ - فَلَا
نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ - وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ
الْحَسَنُ، فَرَامَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَنْ يَنْتَزِعَ الْمُلْكَ مِنْ يَدِهِ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ سَرِيَّةً فِيهَا خَلْقٌ مِنَ الْجُنُودِ، فَكَسَرَهُمُ
الْحَسَنُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ وَرَدَّهُمْ خَائِبِينَ، وَكَادَ أَنْ
يُتْلِفَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْهِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ،
فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ يُرْسِلُهُ إِلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ، وَأَخَذُوهَا مِنْ
عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ الْغَرِيبَةٍ.
وَفِي صَفَرٍ قُبِضَ عَلَى الشَّرِيفِ أَبِي أَحْمَدَ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى
الْمُوسَوِيِّ نَقِيبِ الطَّالِبِيِّينَ، وَاتُّهِمَ بِأَنَّهُ يُفْشِي
الْأَسْرَارَ، وَأَنَّ عِزَّ الدَّوْلَةِ أَوْدَعَ عِنْدَهُ عِقْدًا ثَمِينًا،
وَأُتِيَ بِكِتَابٍ أَنَّهُ خَطَّهُ فِي إِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ، فَأَنْكَرَ
أَنَّهُ خَطُّهُ، وَكَانَ مُزَوَّرًا عَلَيْهِ،
وَاعْتَرَفَ
بِالْعِقْدِ، فَأُخِذَ مِنْهُ، وَعُزِلَ عَنِ النِّقَابَةِ، وَوُلِّيَ غَيْرُهُ
فِيهَا، وَكَانَ مَظْلُومًا فِي ذَلِكَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أَيْضًا عَزَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ قَاضِيَ الْقُضَاةِ
أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ مَعْرُوفٍ، وَوَلَّى غَيْرَهُ.
وَفِي شَعْبَانَ وَرَدَ الْبَرِيدُ مِنْ مِصْرَ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ
بِمُرَاسَلَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَرَدَّ الْجَوَابَ بِمَا مَضْمُونُهُ صِدْقُ
النِّيَّةِ وَحُسْنُ الطَّوِيَّةِ، ثُمَّ سَأَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مِنَ
الطَّائِعِ أَنْ يُجَدِّدَ عَلَيْهِ الْخِلَعَ وَالْجَوَاهِرَ، وَأَنْ يَزِيدَ فِي
أَلْقَابِهِ تَاجَ الدَّوْلَةِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، فَخَلَعَ
عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَلَابِسِ مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَقْبِيلِ
الْأَرْضِ مِنْ كَثْرَتِهَا، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ مَا وَرَاءَ دَارِهِ مِنَ
الْأُمُورِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا،
وَحَضَرَ ذَلِكَ الرُّؤَسَاءُ وَالْأُمَرَاءُ وَأَعْيَانُ النَّاسِ، وَكَانَ
يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَأَرْسَلَ فِي رَمَضَانَ إِلَى الذُّعَّارِ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ بَنِي
شَيْبَانَ وَغَيْرِهِمْ، فَعَقَرَهُمْ وَكَسَرَهُمْ وَقَهَرَهَمْ، وَكَانَ
أَمِيرُهُمْ ضَبَّةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَسَدِيُّ مُتَحَصِّنًا بِعَيْنِ التَّمْرِ
نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَأُخِذَتْ دِيَارُهُمْ، وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُمْ،
وَحَالَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ تَزَوَّجَ
الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ لِلَّهِ بِنْتَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ الْكُبْرَى، وَعُقِدَ
الْعَقْدُ بِحَضْرَةِ الْأَعْيَانِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَكَانَ عَقْدًا هَائِلًا
حَافِلًا، عَلَى صَدَاقٍ مَبْلَغُهُ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَيُقَالُ: مِائَتَا
أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ وَكِيلَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ
الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَارِسِيُّ النَّحْوِيُّ، صَاحِبُ
"
الْإِيضَاحِ وَالتَّكْمِلَةِ "، وَكَانَ الَّذِي خَطَبَ خُطْبَةَ الْعَقْدِ
الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ الْمُحَسِّنُ بْنُ عَلِيٍّ التَّنُوخِيُّ، وَكَانَ
يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ أَبِي تَغْلِبَ بْنِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ
بِالشَّامِ، قَرِيبًا مِنْ نَوَى وَأَعْمَالِهَا، وَكَانَتْ مَعَهُ أُخْتُهُ
جَمِيلَةُ وَزَوْجَتُهُ بِنْتُ عَمِّهِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَرُدَّتَا إِلَى
ابْنِ عَمِّهِ سَعْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَاحِبِ حَلَبَ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا جَدَّدَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عِمَارَةَ بَغْدَادَ
وَمَحَاسِنَهَا، وَجَدَّدَ الْمَسَاجِدَ وَالْمَشَاهِدَ، وَأَجْرَى عَلَى
الْفُقَهَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْزَاقَ وَالْجِرَايَاتِ، مِنَ الْفُقَهَاءِ
وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْأَطِبَّاءِ وَالْحُسَّابِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَطْلَقَ
الصِّلَاتِ لِأَرْبَابِ الْبُيُوتَاتِ وَالشَّرَفِ، وَأَلْزَمَ أَصْحَابَ
الْأَمْلَاكِ بِبَغْدَادَ بِعِمَارَةِ بُيُوتِهِمْ وَدُورِهِمْ، وَمَهَّدَ
الطُّرُقَاتِ، وَأَطْلَقَ الْمُكُوسَ، وَأَصْلَحَ طَرِيقَ الْحُجَّاجِ مِنْ
بَغْدَادَ إِلَى مَكَّةَ وَأَرْسَلَ الصَّدَقَاتِ لِلْمُجَاوِرِينَ
بِالْحَرَمَيْنِ، قَالَ: فَأَذِنَ لِوَزِيرِهِ نَصْرِ بْنِ هَارُونَ - وَكَانَ
نَصْرَانِيًّا - بِعِمَارَةِ الْبِيَعِ وَالدِّيَرَةِ، وَإِطْلَاقِ الْأَمْوَالِ
لِفُقَرَائِهِمْ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَسْنَوَيْهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْكُرْدِيُّ، وَكَانَ قَدِ
اسْتَحْوَذَ عَلَى نَوَاحِي بِلَادِ الدِّينَوَرِ وَهَمَذَانَ وَنَهَاوَنْدَ
مُدَّةَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ
بِالْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ اخْتَلَفَ أَوْلَادُهُ مِنْ
بَعْدِهِ، وَتَمَزَّقَ شَمْلُهُمْ، وَتَمَكَّنَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مِنْ أَكْثَرِ
بِلَادِهِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ فِي الْأَرْضِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ رَكِبَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فِي جُيُوشٍ كَثِيفَةٍ إِلَى
بِلَادِ أَخِيهِ فَخْرِ
الدَّوْلَةِ،
وَذَلِكَ لِمَا كَانَ بَلَغَهُ مِنْ مُمَالَآتِ عِزِّ الدَّوْلَةِ
وَاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا تَفَرَّغَ مِنْ أَعْدَائِهِ، رَكِبَ،
فَتَسَلَّمَ بِلَادَ أَخِيهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ ; هَمَذَانَ وَالرَّيَّ وَمَا
بَيْنَهُمَا مِنَ الْبِلَادِ، وَسَلَّمَ ذَلِكَ إِلَى أَخِيهِ مُؤَيِّدِ
الدَّوْلَةِ بُوَيْهِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ ; لِيَكُونَ نَائِبَهُ عَلَيْهَا،
ثُمَّ سَارَ إِلَى بِلَادِ حَسْنَوَيْهِ الْكُرْدِيِّ، فَتَسَلَّمَ بِلَادَهُ
وَأَخَذَ حَوَاصِلَهُ وَذَخَائِرَهُ، وَكَانَتْ جَلِيلَةً كَثِيرَةً جِدًّا،
وَحَبَسَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ، وَأَمَّرَ بَعْضَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى
الْأَكْرَادِ الْهَكَّارِيَّةِ، فَأَخَذَ مِنْهُمْ بَعْضَ بِلَادِهِمْ، وَعَظُمَ
شَأْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَارْتَفَعَ صِيتُهُ وَذِكْرُهُ إِلَّا أَنَّهُ
أَصَابَهُ فِي هَذِهِ السَّفْرَةِ دَاءُ الصَّرْعِ، وَقَدْ كَانَ تَقَدَّمَ لَهُ
مِثْلُهُ فِي الْمَوْصِلِ فَكَانَ يَكْتُمُهُ، وَلَكِنَّهُ غَلَبَ بِهِ كَثْرَةُ
النِّسْيَانِ، فَلَا يَذْكُرُ الشَّيْءَ إِلَّا بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ،
وَالدُّنْيَا لَا تَسُرُّ بِقَدْرِ مَا تَضُرُّ:
دَارٌ إِذَا مَا أَضْحَكَتْ فِي يَوْمِهَا أَبْكَتْ غَدًا بُعْدًا لَهَا مَنْ
دَارِ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرُّوذَبَارِيُّ
ابْنُ أُخْتِ أَبِي عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ، أَسْنَدَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ
يَتَكَلَّمُ عَلَى مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ، وَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ بَغْدَادَ
فَأَقَامَ بِصُورَ، فَتُوفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
أَحْمَدُ
بْنُ فَارِسِ بْنِ زَكَرِيَّا، أَبُو الْحُسَيْنِ اللُّغَوِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ " الْمُجْمَلِ " فِي اللُّغَةِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ
شِعْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمَيْنِ:
يَا رَبِّ إِنَّ ذُنُوبِي قَدْ أَحَطْتَ بِهَا عِلْمًا وَبِي وَبِإِعْلَانِي
وَإِسْرَارِي أَنَا الْمُوَحِّدُ لَكِنِّي الْمُقِرُّ بِهَا
فَهَبْ ذُنُوبِي لِتَوْحِيدِي وَإِقْرَارِي
ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ.
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيُعْرَفُ بِالْجُعَلِ، سَكَنَ بَغْدَادَ
وَانْتَحَلَ مَذْهَبَ الْعِرَاقِيِّينَ، فَصَنَّفَ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَكَانَ
اشْتِغَالُهُ فِي الْفُرُوعِ عَلَى أَبِي الْحُسَيْنِ الْكَرْخِيِّ وَعِنْدَهُ
دُفِنَ، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
ثَابِتُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ الصَّابِئُ
الْمُتَطَبِّبُ، الْحَاذِقُ فِي فَنِّهِ. تُوُفِّيَ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
حَسْنَوَيْهِ
بْنُ الْحُسَيْنِ الْكُرْدِيُّ
أَمِيرُ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ كَمَا قَدَّمْنَا،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ مَاسِيٍّ، أَبُو مُحَمَّدٍ
الْبَزَّازُ
أَسْنَدَ الْكَثِيرَ، وَبَلَغَ خَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ ثِقَةً
ثَبْتًا، تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى، أَبُو الْحَسَنِ الْهَاشِمِيُّ
قَاضِي بَغْدَادَ وَيُعْرَفُ بِابْنِ أُمِّ شَيْبَانَ، وَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا،
لَهُ تَصَانِيفُ، وَقَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ بِبَغْدَادَ قَدِيمًا، وَكَانَ جَيِّدَ
السِّيرَةِ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ
وَقَارَبَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ مِنْ جِهَةِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ إِلَى
أَخِيهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَتَلَقَّاهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى ظَاهِرِ
الْبَلَدِ، وَأَكْرَمَهُ، وَأَمَرَ الدَّوْلَةَ بِاحْتِرَامِهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ
وَزَادَهُ فِي أَقْطَاعِهِ، وَرَدَّ مَعَهُ هَدَايَا كَثِيرَةً جِدًّا.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا رَجَعَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ
فَتَلَقَّاهُ الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ، وَضُرِبَتْ لَهُ الْقِبَابُ، وَزُيِّنَتِ
الْأَسْوَاقُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ دَخَلَ الْخَلِيفَةُ بِزَوْجَتِهِ بِنْتِ عَضُدِ
الدَّوْلَةِ وَحُمِلَ مَعَهَا مِنَ الْجِهَازِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. وَفِي هَذَا
الشَّهْرِ أَيْضًا وَصَلَتْ هَدَايَا مِنْ صَاحِبِ الْيَمَنِ إِلَى عَضُدِ
الدَّوْلَةِ وَفِيهَا أَشْيَاءُ حَسَنَةٌ، وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ بِالْحَرَمَيْنِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ لِصَاحِبِ مِصْرَ، وَهُوَ الْعَزِيزُ بْنُ الْمُعِزِّ
الْفَاطِمِيِّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَبُو بَكْرٍ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ الرَّازِيُّ أَحَدُ
أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ،
وَلَهُ
مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفِيدَةِ كِتَابُ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ "،
وَهُوَ تِلْمِيذُ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا
وَرِعًا، انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْحَنَفِيَّةِ فِي وَقْتِهِ، وَرَحَلِ
إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ مِنَ الْآفَاقِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي
الْعَبَّاسِ الْأَصَمِّ وَأَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ
أَرَادَهُ الطَّائِعُ لِلَّهِ عَلَى أَنْ يُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ، فَلَمْ
يَقْبَلْ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذَا الْعَامِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْخُوَارِزْمِيُّ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا، أَبُو
بَكْرٍ الْوَرَّاقُ
وَيُلَقَّبُ بِغُنْدَرٍ أَيْضًا، كَانَ جَوَّالًا رَحَّالًا، سَمِعَ الْحَدِيثَ
الْكَثِيرَ بِبِلَادِ فَارِسَ وَخُرَاسَانَ، وَسَمِعَ الْبَاغَنْدِيَّ وَابْنَ
صَاعِدٍ وَابْنَ دُرَيْدٍ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ
الْأَصْفَهَانِيُّ وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ابْنُ خَالَوَيْهِ: الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَالَوَيْهِ، أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ
صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ، أَصْلُهُ مِنْ هَمَذَانَ ثُمَّ دَخَلَ بَغْدَادَ
فَأَدْرَكَ بِهَا مَشَايِخَ هَذَا الشَّأْنِ، كَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ
وَابْنِ دُرَيْدٍ وَابْنِ مُجَاهِدٍ، وَأَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ، وَاشْتَغَلَ
عَلَى أَبِي سَعِيدٍ السِّيرَافِيِّ، ثُمَّ صَارَ إِلَى حَلَبَ فَعَظُمَتْ مَكَانَتُهُ
عِنْدَ آلِ حَمْدَانَ، وَكَانَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ يُكْرِمُهُ وَهُوَ أَحَدُ
جُلَسَائِهِ، وَلَهُ مَعَ الْمُتَنَبِّي مُنَاظَرَاتٌ.
وَقَدْ سَرَدَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً مِنْهَا " كِتَابُ لَيْسَ " ; لِأَنَّهُ كَانَ يَكْثُرُ أَنْ يَقُولَ فِيهِ: لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَذَا وَكَذَا، وَ " كِتَابُ الْآلِ " تَكَلَّمَ فِيهِ عَلَى أَقْسَامِهِ وَتَرْجَمَ الْأَئِمَّةَ الِاثْنَىْ عَشَرَ، وَإِعْرَابَ ثَلَاثِينَ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، وَشَرَحَ الدُّرَيْدِيَّةَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَكَانَ فَرْدًا فِي زَمَانِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِالْكَرْخِ مِنْ
بَغْدَادَ.
وَفِيهَا سُرِقَ شَيْءٌ نَفِيسٌ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ
ذَلِكَ ; لِشِدَّةِ هَيْبَةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا اجْتَهَدُوا
كُلَّ الِاجْتِهَادِ، فَلَمْ يُعْرَفْ مَنْ أَخَذَهُ. وَيُقَالُ: إِنَّ صَاحِبَ
مِصْرَ بَعَثَ مَنْ فَعَلَ هَذَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، أَبُو بَكْرٍ
الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْجُرْجَانِيُّ
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ الرَّحَّالُ الْجَوَّالُ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَحَدَّثَ
وَخَرَّجَ وَصَنَّفَ، فَأَفَادَ وَأَجَادَ، وَأَحْسَنَ الِانْتِقَادَ
وَالِاعْتِقَادَ، صَنَّفَ كِتَابًا عَلَى " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "
فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ وَعُلُومٌ غَزِيرَةٌ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كُنْتُ عَزَمْتُ غَيْرَ مَرَّةٍ عَلَى الرِّحْلَةِ
إِلَيْهِ، فَلَمْ أُرْزَقْ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتَ عَاشِرَ رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُوَ
ابْنُ
أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ السَّبِيعِيُّ
سَمِعَ ابْنَ جَرِيرٍ وَقَاسِمًا الْمُطَرِّزَ وَغَيْرَهُمَا، وَعَنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَرْقَانِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا مُكْثِرًا، وَكَانَ
عَسِرَ الرِّوَايَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ طَهْمَانَ، أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الشَّاهِدُ، الْمَعْرُوفُ بِالْبَادِي
سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ ثِقَةً، عُمِّرَ سَبْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، مِنْهَا
خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مُقْعَدًا أَعْمَى، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو بَكْرٍ
الضَّبِّيُّ الْقَاضِي
وَلِيَ الْحُكْمَ بِعِدَّةِ بِلَادٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ عَفِيفًا نَزِهًا صَيِّنًا
دَيِّنًا.
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ اللَّيْثِ، أَبُو الْحَسَنِ
التَّمِيمِيُّ
الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ، لَهُ كَلَامٌ وَمُصَنَّفٌ فِي الْخِلَافِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَرَوَى عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّهُ وَضَعَ حَدِيثًا، وَرَدَّ
ذَلِكَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَقَالَ: مَا زَالَ هَذَا دَأْبَ
الْخَطِيبِ فِي أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ:
وَشَيْخُ
الْخَطِيبِ الَّذِي حُكِيَ عَنْهُ هَذَا هُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَاحِدِ
بْنُ أَسَدٍ الْعُكْبَرِيُّ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ
مُعْتَزِلِيًّا، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ يَقُولُ بِأَنَّ
الْكُفَّارَ لَا يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ.
قُلْتُ: وَهَذَا غَرِيبٌ، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ تَخْلِيدِ
أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، فَكَيْفَ لَا يَقُولُ هَذَا بِتَخْلِيدِ الْكُفَّارِ !
قَالَ: وَعَنْهُ حُكِيَ الْكَلَامُ فِي ابْنِ بَطَّةَ أَيْضًا.
عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو الْحَسَنِ الْحُصَرِيُّ الصُّوفِيُّ الْوَاعِظُ
شَيْخُ الْمُتَصَوِّفَةِ بِبَغْدَادَ، أَصْلُهُ مِنَ الْبَصْرَةِ صَحِبَ
الشِّبْلِيَّ وَغَيْرَهُ، وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ بِالْجَامِعِ، ثُمَّ لَمَّا
كَبُرَتْ سِنُّهُ بُنِيَ لَهُ الرِّبَاطُ الْمُقَابِلُ لِجَامِعِ الْمَنْصُورِ،
ثُمَّ عُرِفَ بِصَاحِبِهِ الزَّوْزَنِيِّ، وَكَانَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا مِنَ
الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَلَهُ كَلَامٌ جَيِّدٌ فِي التَّصَوُّفِ عَلَى
طَرِيقَتِهِمْ.
وَمِمَّا نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا عَلَيَّ مِنِّي ؟
وَأَيُّ شَيْءٍ لِي فِيَّ حَتَّى أَخَافَ وَأَرْجُوَ، إِنْ رَحِمَ رَحِمَ مَا
لَهُ، وَإِنَّ عَذَّبَ عَذَّبَ مَا لَهُ.
تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ
بِمَقْبَرَةِ حَرْبٍ مِنْ بَغْدَادَ.
عَلِيُّ
بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَحْدَبُ الْمُزَوِّرُ
كَانَ قَوِيَّ الْخَطِّ، لَهُ مَلَكَةٌ عَلَى التَّزْوِيرِ، لَا يَشَاءُ يَكْتُبُ
عَلَى كِتَابَةِ أَحَدٍ إِلَّا فَعَلَ، فَلَا يَشُكُّ ذَلِكَ الْمُزَوَّرُ
عَلَيْهِ أَنَّهُ خَطُّهُ، وَبَلَا النَّاسَ بِبَلَاءٍ عَظِيمٍ، وَخَتَمَ
السُّلْطَانُ عَلَى يَدِهِ مِرَارًا فَلَمْ يَفِدْ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ الشَّافِعِيُّ
شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَإِمَامُ أَهْلِ عَصْرِهِ فِي الْفِقْهِ
وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ
وَحَدَّثَ بِهَا، فَسَمِعَ مِنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: عَادَلْتُ الشَّيْخَ أَبَا زَيْدٍ فِي طَرِيقِ
الْحَجِّ فَمَا أَعْلَمُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَتَبَتْ عَلَيْهِ خَطِيئَةً.
وَقَدْ ذَكَرْتُ تَرْجَمَتَهُ بِكَمَالِهَا فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ
". قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نُعَيْمٍ: تُوُفِّيَ بِمَرْوَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ
أَحَدُ مَشَاهِيرِ
الصُّوفِيَّةِ،
صَحِبَ الْجَرِيرِيَّ وَابْنَ عَطَاءِ وَغَيْرَهُمَا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى بِ " تَلْبِيسِ
إِبْلِيسَ " عَنْهُ حِكَايَاتٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ
مَذْهَبَ الْإِبَاحِيَّةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي الْمُحَرَّمِ جَرَى الْمَاءُ الَّذِي سَاقَهُ
عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى دَارِهِ وَبُسْتَانِهِ.
وَفِي صَفَرٍ فُتِحَ الْمَارَسْتَانُ الَّذِي أَنْشَأَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فِي
الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ وَقَدْ رَتَّبَ فِيهِ الْأَطِبَّاءَ
وَالْخَدَمَ، وَنُقِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْعَقَاقِيرِ
شَيْءٌ كَثِيرٌ.
وَقَالَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ، فَكَتَمَ أَصْحَابُهُ وَفَاتَهُ،
حَتَّى أَحْضَرُوا وَلَدَهُ صَمْصَامَ الدَّوْلَةِ فَوَلَّوْهُ الْأَمْرَ،
وَرَاسَلُوا الْخَلِيفَةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ وَالْوِلَايَةِ.
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ
أَبُو شُجَاعِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنِ بْنِ بُوَيْهِ
الدَّيْلَمِيُّ، صَاحِبُ الْعِرَاقِ، وَمَلِكُ بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا.
وَهُوَ
أَوَّلُ مَنْ تَسَمَّى " شَاهِنْشَاهْ "، وَمَعْنَاهُ مَلِكُ الْمُلُوكِ،
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ أَوْضَعُ اسْمٍ - وَفِي رِوَايَةٍ: أَخْنَعُ اسْمٍ -
عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ، لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ.
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ضُرِبَتْ لَهُ الدَّبَادِبُ بِبَغْدَادَ، وَأَوَّلُ مَنْ
خُطِبَ لَهُ بِهَا مَعَ الْخَلِيفَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ بِمَدَائِحَ
هَائِلَةٍ كَالْمُتَنَبِّي وَغَيْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَامِيِّ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ:
إِلَيْكَ طَوَى عَرْضَ الْبَسِيطَةِ جَاعِلٌ قُصَارَى الْمَطَايَا أَنْ يَلُوحَ
لَهَا الْقَصْرُ فَكُنْتُ وَعَزْمِي فِي الظَّلَامِ وَصَارِمِي
ثَلَاثَةَ أَشْيَاءٍ كَمَا اجْتَمَعَ النَّسْرُ وَبَشَّرْتُ آمَالِي بِمَلْكٍ هُوَ
الْوَرَى
وَدَارٍ هِيَ الدُّنْيَا وَيَوْمٍ هُوَ الدَّهْرُ
ثُمَّ قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذَا هُوَ السِّحْرُ الْحَلَالُ.
وَقَالَ الْمُتَنَبِّي أَيْضًا:
هِيَ الْغَرَضُ الْأَقْصَى وَرُؤْيَتُكَ الْمُنَى وَمَنْزِلُكَ الدُّنْيَا وَأَنْتَ
الْخَلَائِقُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَيْسَ فِي الطِّلَاوَةِ كَقَوْلِ السَّلَامِيِّ، وَلَا
اسْتَوْفَى الْمَعْنَى كُلَّهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الدَّهْرَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ الْأَرَّجَانِيُّ الْقَاضِي فِي قَصِيدَةٍ لَهُ
بَيْتًا، فَلَمْ يَلْحَقِ السَّلَامِيَّ
أَيْضًا،
وَهُوَ قَوْلُهُ:
لَقِيتُهُ فَرَأَيْتُ النَّاسَ فِي رَجُلٍ وَالدَّهْرَ فِي سَاعَةٍ وَالْأَرْضَ
فِي دَارِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَفْتِكِينُ مَوْلَى أَخِيهِ صَاحِبِ
دِمَشْقَ يَسْتَمِدُّهُ بِجَيْشٍ يُقَاتِلُ بِهِ الْفَاطِمِيِّينَ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ: غَرَّكَ عِزُّكَ، فَصَارَ قُصَارُ ذَلِكَ ذُلَّكَ،
فَاخْشَ فَاحِشَ فِعْلِكَ، فِعَلَّكَ بِهَذَا تُهْدَا. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ:
وَلَقَدْ أَبْدَعَ فِيهَا كُلَّ الْإِبْدَاعِ.
وَقَدْ جَرَى لَهُ مِنَ التَّعْظِيمِ مِنَ الْخَلِيفَةِ مَا لَمْ يَقَعْ لِأَحَدٍ
مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ ذَا هِمَّةٍ وَصَرَامَةٍ
وَعَزْمٍ، اجْتَهَدَ فِي عِمَارَةِ بَغْدَادَ وَالطُّرُقَاتِ، وَأَجْرَى
النَّفَقَاتِ وَالصَّدَقَاتِ عَلَى الْمُجَاوِرِينَ بِالْحَرَمَيْنِ وَأَهْلِ
الْبُيُوتَاتِ، وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ، وَبَنَى الْمَارَسْتَانَ الْعَضُدِيَّ،
وَأَدَارَ السُّورَ عَلَى مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي مُدَّةِ مُلْكِهِ عَلَى الْعِرَاقِ، وَكَانَتْ
خَمْسَ سِنِينَ.
وَقَدْ كَانَ عَاقِلًا فَاضِلًا، حَسَنَ السِّيَاسَةِ، شَدِيدَ الْهَيْبَةِ،
بَعِيدَ الْهِمَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَتَجَاوَزُ فِي سِيَاسَتِهِ الْأُمُورَ
الشَّرْعِيَّةَ، كَانَ يُحِبُّ جَارِيَةً، فَأَلْهَتْهُ عَنْ تَدْبِيرِ
الْمَمْلَكَةِ، فَأَمَرَ بِتَغْرِيقِهَا، وَبَلَغَهُ أَنَّ غُلَامًا لَهُ أَخَذَ
لِرَجُلٍ بِطِّيخَةً، فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَقَطَعَهُ نِصْفَيْنِ، وَهَذِهِ
مُبَالَغَةٌ.
وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ دَاءُ الصَّرْعِ، وَحِينَ أَخَذَتْهُ عِلَّةُ مَوْتِهِ
لَمْ يَكُنْ لَهُ كَلَامٌ سِوَى تِلَاوَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى مَا أَغْنَى عَنِّي
مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [ الْحَاقَّةِ: 28، 29 ].
وَحَكَى
ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْعِلْمَ وَالْفَضِيلَةَ، وَكَانَ
يُقْرَأُ عِنْدَهُ " كِتَابُ إِقْلِيدِسَ " وَكِتَابُ النَّحْوِ لِأَبِي
عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَهُوَ " الْإِيضَاحُ وَالتَّكْمِلَةُ " الَّذِي
صَنَّفَهُ لَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ لَهُ شِعْرًا، فَمِنْهُ قَوْلُهُ، وَقَدْ خَرَجَ مَرَّةً
إِلَى بُسْتَانٍ لَهُ فَقَالَ: أَوَدُّ لَوْ جَاءَ الْمَطَرُ، فَنَزَلَ الْمَطَرُ
فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَيْسَ شُرْبُ الْكَأْسِ إِلَّا فِي الْمَطَرْ وَغِنَاءٌ مِنْ جِوَارٍ فِي
السَّحَرْ
غَانِيَاتٍ سَالِبَاتٍ لِلنُّهَى نَاغِمَاتٍ فِي تَضَاعِيفِ الْوَتَرْ
رَاقِصَاتٍ زَاهِرَاتٍ نُجَّلٍ رَافِلَاتٍ فِي أَفَانِينِ الْحِبَرْ
مُطْرِبَاتٍ مُحْسِنَاتٍ مُجَّنٍ رَافِضَاتِ الْهَمِّ إِبَّانَ الْفِكَرْ
مُبْرِزَاتِ الْكَأْسِ مِنْ مَخْزَنِهَا مُسَقَّيَاتِ الْخَمْرِ مَنْ فَاقَ
الْبَشَرْ
عَضُدُ الدَّوْلَةِ وَابْنُ رُكْنِهَا مَالِكُ الْأَمْلَاكِ غَلَّابُ الْقَدَرْ
سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بُغْيَتَهُ فِي مُلُوكِ الْأَرْضِ مَا دَارَ الْقَمَرْ
وَأَرَاهُ الْخَيْرَ فِي أَوْلَادِهِ لِيُسَاسَ الْمُلْكُ فِيهِمْ بِالْغُرَرْ
قَالَ: فَيُقَالُ: إِنَّهُ مُنْذُ قَالَ: غَلَّابُ الْقَدَرْ، لَمْ يُفْلِحْ
بَعْدَهَا. وَذَكَرَ غَيْرُهُ:
أَنَّ
هَذِهِ الْأَبْيَاتَ آخِرُ مَا أُنْشِدَتْ فِيهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ كَانَتْ
وَفَاتُهُ عَقِبَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، عَنْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَحُمِلَ إِلَى
مَشْهَدِ عَلِيٍّ، فَدُفِنَ فِيهِ.
وَقَدْ كُتِبَ عَلَى قَبْرِهِ فِي التُّرْبَةِ الَّتِي بُنِيَتْ لَهُ عِنْدَ
مَشْهَدِ عَلِيٍّ: هَذَا قَبْرُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَتَاجِ الْمَمْلَكَةِ أَبِي
شُجَاعِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، أَحَبَّ مُجَاوَرَةَ هَذَا الْإِمَامِ
الْمُتَّقِي لِطَمَعِهِ فِي الْخَلَاصِ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ
نَفْسِهَا [ النَّحْلِ: 111 ] وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَصَلَوَاتُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَعِتْرَتِهِ الطَّاهِرَةِ.
وَقَدْ تَمَثَّلَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ، وَهِيَ لِلْقَاسِمِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ:
قَتَلْتُ صَنَادِيدَ الرِّجَالِ فَلَمْ أَدَعْ عَدُوًّا وَلَمْ أُمْهِلْ عَلَى
ظَنِّهِ خَلْقَا
وَأَخْلَيْتُ دُورَ الْمُلْكِ مِنْ كُلِّ نَازِلٍ فَشَرَّدْتُهُمْ غَرْبًا
وَشَرَّدْتُهُمْ شَرْقَا
فَلَمَّا بَلَغْتُ النَّجْمَ عِزًّا وَرِفْعَةً وَصَارَتْ رِقَابُ الْخَلْقِ
أَجْمَعُ لِي رِقَّا
رَمَانِي الرَّدَى سَهْمًا فَأَخْمَدَ جَمْرَتِي فَهَا أَنَا ذَا فِي حُفْرَتِي
عَاطِلًا مُلْقَى
فَأَذْهَبْتُ دُنْيَايَ وَدِينِي سَفَاهَةً فَمَنْ ذَا الَّذِي مِنِّي
بِمَصْرَعِهِ أَشْقَى
ثُمَّ جَعَلَ يُكَرِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ
عَنِّي سُلْطَانِيَهْ إِلَى أَنْ مَاتَ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَأُجْلِسَ ابْنُهُ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَعَلَيْهِ ثِيَابُ
السَّوَادِ، وَجَاءَهُ الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ مُعَزِّيًا، وَنَاحَ النِّسَاءُ
عَلَيْهِ فِي الْأَسْوَاقِ أَيَّامًا كَثِيرَةً، وَلَمَّا انْقَضَى الْعَزَاءُ
رَكِبَ
صَمْصَامَةُ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ سَبْعَ
خِلَعٍ، وَطُوِّقَ وَسُوِّرَ، وَأَلْبَسَهُ التَّاجَ، وَلَقَّبَهُ شَمْسَ
الدَّوْلَةِ، وَوَلَّاهُ مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ أَبُوهُ مِنْ قَبْلِهِ، وَكَانَ
يَوْمًا مَشْهُودًا.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ وَهْبٍ،
أَبُو بَكْرٍ الْحَرِيرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِزَوْجِ الْحُرَّةِ
سَمِعَ ابْنَ جَرِيرٍ وَالْبَغَوِيَّ وَابْنَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرَهُمْ،
وَعَنْهُ ابْنُ رَزْقَوَيْهِ وَابْنُ شَاذَانَ وَالْبَرْقَانِيُّ، وَقَالَ: كَانَ
جَلِيلًا، أَحَدَ الْعُدُولِ الثِّقَاتِ.
قَالَ الْخَطِيبُ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ: سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ بِزَوْجِ الْحُرَّةِ
أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ إِلَى مَطْبَخِ ابْنَةِ بَدْرٍ مَوْلَى الْمُعْتَضِدِ،
الَّتِي كَانَتْ زَوْجَةَ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ
الْمُقْتَدِرُ، وَبَقِيَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ سَالِمَةً مِنَ الْكُتَّابِ
وَالْمُصَادَرَاتِ، كَثِيرَةَ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ هَذَا وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ
حَدَثُ السِّنِّ يَحْمِلُ شَيْئًا مِنْ حَوَائِحِ الطَّعَامِ عَلَى رَأْسِهِ،
فَيَدْخُلُ بِهِ إِلَى مَطْبَخِهَا مَعَ جُمْلَةِ الْخَدَمِ، وَكَانَ شَابًّا
رَشِيقًا حَرِكَا، فَنَفَقَ عَلَى الْقَهْرَمَانَةِ فَقَدَّمَتْهُ حَتَّى
جَعَلَتْهُ كَاتِبًا عَلَى الْمَطْبَخِ، ثُمَّ تَرَقَّتْ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ
صَارَ وَكِيْلًا يَنْظُرُ فِي الضَّيَاعِ وَالْعَقَارِ، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ
حَتَّى صَارَتِ السِّتُّ تُحَدِّثُهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، فَعَلِقَتْ بِهِ
وَأَحَبَّتْهُ، وَسَأَلَتْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا، فَاسْتَصْغَرَ نَفْسَهُ،
وَخَافَ مِنْ غَائِلَةِ ذَلِكَ، فَشَجَّعَتْهُ هِيَ وَأَعْطَتْهُ مَالًا جَزِيلًا
لِيُظْهِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْحِشْمَةِ وَالسَّعَادَةِ مَا يُنَاسِبُهَا ;
لِيَتَأَهَّلَ لِذَلِكَ، ثُمَّ شَرَعَتْ تُهَادِي الْقُضَاةَ وَالْأَكَابِرَ،
ثُمَّ عَزَمَتْ عَلَى
تَزْوِيجِهِ، وَرَضِيَتْ بِهِ عِنْدَ حُضُورِ الْقُضَاةِ، وَاعْتَرَضَ أَوْلِيَاؤُهَا عَلَيْهَا، فَغَلَبَتْهُمْ بِالْمُكَارَمَاتِ وَالْهَدَايَا، وَدَخَلَ عَلَيْهَا فَمَكَثَتْ مَعَهُ دَهْرًا طَوِيلًا، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ قَبْلَهُ، فَوَرِثَ مِنْهَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَطَالَ عُمُرُهُ بَعْدَهَا حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ حَتَّى بَلَغَ الْكَرُّ مِنَ الطَّعَامِ
إِلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ وَثَمَانِمِائَةٍ، وَمَاتَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ
الضَّعْفِ فِي الطُّرُقَاتِ جُوعًا، ثُمَّ تَسَاهَلَ الْحَالُ فِي ذِي الْحِجَّةِ
مِنْهَا. وَجَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ
الدَّوْلَةِ، وَأَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ عَبَّادٍ الْوَزِيرَ بَعَثَ إِلَى
أَخِيهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، فَوَلَّاهُ الْمُلْكَ مَكَانَ أَخِيهِ، فَاسْتَوْزَرَ
ابْنَ عَبَّادٍ أَيْضًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَحْسَنَ
إِلَيْهِ، وَلَمَّا بَلَغَ الْقَرَامِطَةَ مَوْتُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ قَصَدُوا
الْبَصْرَةَ لِيَأْخُذُوهَا مَعَ الْكُوفَةِ فَلَمْ يَتِمَّ لَهُمْ ذَلِكَ،
وَلَكِنْ صُولِحُوا عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ، فَأَخَذُوهُ وَانْصَرَفُوا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بُوَيْهِ مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ
كَانَ مَلِكًا عَلَى بَعْضِ مَا كَانَ أَبُوهُ يَمْلِكُهُ، كَمَا تَقَدَّمَ،
وَكَانَ الصَّاحِبُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبَّادٍ وَزِيرَهُ، وَقَدْ تَزَوَّجَ
مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ هَذَا بِزُبَيْدَةَ بِنْتِ عَمِّهِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ،
فَغَرِمَ عَلَى عُرْسِهِ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَهَذَا سَرَفٌ عَظِيمٌ.
بُلُكِّينُ بْنُ زِيرِي بْنِ مُنَادٍ الْحِمْيَرِيُّ الصِّنْهَاجِيُّ
وَيُسَمَّى أَيْضًا يُوسُفَ،
وَكَانَ
مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ الْمُعِزِّ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى بِلَادِ
إِفْرِيقِيَّةَ حِينَ سَارَ إِلَى الْقَاهِرَةِ وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، لَهُ
أَرْبَعُمِائَةِ حَظِيَّةٍ، وَقَدْ بُشِّرَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِسَبْعَةَ
عَشَرَ وَلَدًا، وَهُوَ جَدُّ بَادِيسَ الْمَغْرِبِيِّ.
سَعِيدُ بْنُ سَلَّامٍ، أَبُو عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ
أَصْلُهُ مِنْ بِلَادِ الْقَيْرَوَانِ وَدَخَلَ الشَّامَ وَصَحِبَ أَبَا الْخَيْرِ
الْأَقْطَعَ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ مُدَّةَ سِنِينَ، وَكَانَ لَا يَظْهَرُ فِي
الْمَوَاسِمِ، وَكَانَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَبُو
سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَرُوِيَ لَهُ أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ
الْمُخْتَارِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيُّ الْوَاسِطِيُّ
يُعْرَفُ بِابْنِ السَّقَّا، سَمِعَ عَبْدَانَ وَأَبَا يَعْلَى الْمَوْصِلِيَّ
وَابْنَ أَبِي دَاوُدَ وَالْبَغَوِيَّ، وَكَانَ فَهِمًا حَافِظًا، دَخَلَ
بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِهَا مَجَالِسَ كَثِيرَةً مِنْ حِفْظِهِ، وَكَانَ يَحْضُرُهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، فَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ
شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ حَدَّثَ مَرَّةً عَنْ أَبِي يَعْلَى بِحَدِيثٍ
أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَجَدُوهُ فِي أَصْلِهِ بِخَطِّ الصِّبَا، كَمَا
حَدَّثَ بِهِ سَوَاءً، فَبَرِئَ مِنْ عُهْدَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا جَرَى الصُّلْحُ بَيْنَ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ الْمُلَقَّبِ بِشَمْسِ
الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ عَمِّهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ
بُوَيْهِ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ لِفَخْرِ الدَّوْلَةِ خِلَعًا سَنِيَّةً وَتُحَفًا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا عُمِلَ عُرْسٌ فِي دَرْبِ
رَبَاحٍ، فَسَقَطَتِ الدَّارُ عَلَى مَنْ فِيهَا، فَهَلَكَ أَكْثَرُ النِّسَاءِ
بِهَا، وَنُبِشَ مِنْ تَحْتِ الرَّدْمِ، فَكَانَتِ الْمُصِيبَةُ عَامَّةً.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةٌ:
الْحَافِظِ أَبِي الْفَتْحِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ الْمَوْصِلِيُّ
الْمُصَنَّفُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي
يَعْلَى وَطَبَقَتِهِ، وَضَعَّفَهُ كَثِيرٌ مِنْ حُفَّاظِ زَمَانِهِ، وَاتَّهَمَهُ
بَعْضُهُمْ بِوَضْعِ حَدِيثٍ رَوَاهُ لِابْنِ بُوَيْهِ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ
بَغْدَادَ فَسَاقَهُ بِإِسْنَادٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ
يَنْزِلُ
عَلَيْهِ فِي مِثْلِ صُورَةِ ذَلِكَ الْأَمِيرِ. فَأَجَازَهُ وَأَعْطَاهُ
دَرَاهِمَ كَثِيرَةً وَالْعَجَبُ - إِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا - كَيْفَ رَاجَ
هَذَا عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ وَعَقْلٍ، وَقَدْ أَرَّخَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ
سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخَطِيبُ أَبُو يَحْيَى عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ نُبَاتَةَ الْحَذَّاءُ - بَطْنٌ مِنْ قُضَاعَةَ، وَقِيلَ: مِنْ إِيَادٍ -
الْفَارِقِيُّ
خَطِيبُ حَلَبَ أَيَّامَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَلِهَذَا أَكْثَرُ
دِيوَانِهِ الْخُطَبُ الْجِهَادِيَّةُ، وَلَمْ يُسْبَقْ إِلَى مَثَلِ دِيوَانِهِ
هَذَا، وَلَا يُلْحَقُ فِيهِ - إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ - لِأَنَّهُ كَانَ
فَصِيحًا بَلِيغًا ذَكِيًّا دَيِّنًا وَرِعًا. رَوَى الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ
الْكِنْدِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ جُمُعَةٍ بِخُطْبَةِ الْمَنَامِ، ثُمَّ
رَأَى لَيْلَةَ السَّبْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بَيْنَ الْمَقَابِرِ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْهِ
قَالَ لَهُ: مَرْحَبًا بِخَطِيبِ الْخُطَبَاءِ. ثُمَّ أَوْمَأَ إِلَى الْقُبُورِ،
فَقَالَ لِابْنِ نُبَاتَةَ: كَيْفَ تَقُولُ ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: كَأَنَّهُمْ لَمْ
يَكُونُوا لِلْعُيُونِ قُرَّةً، وَلَمْ يُعَدُّوا فِي الْأَحْيَاءِ مَرَّةً،
فَتَمَّمَ الْكَلَامَ ابْنُ نُبَاتَةَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: يَوْمَ
تَكُونُونَ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ - وَأَشَارَ إِلَى الصَّحَابَةِ - وَيَكُونُ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، وَأَشَارَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَحْسَنْتَ أَحْسَنْتَ، ادْنُهِ ادْنُهْ، فَقَبَّلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهَهُ، وَتَفَلَ فِي فِيهِ،
وَقَالَ: وَفَّقَكَ اللَّهُ، فَاسْتَيْقَظَ، وَبِهِ مِنَ السُّرُورِ أَمْرٌ
كَبِيرٌ، وَعَلَى وَجْهِهِ نُورٌ وَبَهَاءٌ، وَلَمْ يَعِشْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا
ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، لَمْ يَسْتَطْعِمْ فِيهَا بِطَعَامٍ،
وَيُوجَدُ
مِنْ فِيهِ مِثْلُ رَائِحَةِ الْمِسْكِ حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ الْفَارِقِيُّ: وُلِدَ ابْنُ نُبَاتَةَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ
وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ
وَهِيَ هَذِهِ السَّنَةُ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا. حَكَاهُ ابْنُ
خَلِّكَانَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا خَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ وَسَوَّرَهُ وَطَوَّقَهُ،
وَأُرْكِبَ عَلَى فَرَسٍ بِسَرْجٍ ذَهَبٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ جَنِيبٌ مِثْلُهُ.
وَفِيهَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ اثْنَيْنِ مِنْ سَادَةِ الْقَرَامِطَةِ -
وَهُمَا إِسْحَاقُ وَجَعْفَرٌ - دَخَلَا الْكُوفَةَ فِي جَحْفَلٍ عَظِيمٍ،
فَانْزَعَجَتِ النُّفُوسُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِصَرَامَتِهِمْ
وَشَهَامَتِهِمْ، وَلِأَنَّ عَضُدَ الدَّوْلَةِ مَعَ شَجَاعَتِهِ قَدْ كَانَ
يُصَانِعُهُمْ، وَأَقْطَعَهُمْ أَرَاضِيَ مِنْ وَاسِطٍ وَكَذَلِكَ عِزُّ
الدَّوْلَةِ مِنْ قَبْلِهِ أَيْضًا، فَجُهِّزَ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ بَغْدَادَ
فَطَرَدُوهُمْ عَنْ تِلْكَ النَّوَاحِي الَّتِي قَدْ أَكْثَرُوا فِيهَا
الْفَسَادَ، وَبَطَلَ مَا كَانَ فِي النُّفُوسِ مِنْهُمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا عَزَمَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ عَلَى أَنْ يَضَعَ مَكْسًا عَلَى الثِّيَابِ
الْإِبْرَيْسَمِيَّاتِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، وَهَمُّوا
بِتَبْطِيلِ الْجُمُعَةِ، وَكَادَتِ الْفِتْنَةُ تَقَعُ بَيْنَهُمْ، فَأُعْفُوا
مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ وَرَدَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ ابْنِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ،
فَجَلَسَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ لِلْعَزَاءِ، وَجَاءَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ
الطَّائِعُ فِي ثِيَابِ السَّوَادِ وَالْقُرَّاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ بَيْنَ
يَدَيْهِ فَقَامَ
إِلَيْهِ
صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَخَاطَبَا فِي
الْعَزَاءِ بِأَلْفَاظٍ حَسَنَةٍ، وَانْصَرَفَ الْخَلِيفَةُ رَاجِعًا إِلَى
دَارِهِ، وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
الشَّيْخُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَاسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَحَدُ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَهُ
اخْتِيَارَاتٌ كَثِيرَةٌ غَرِيبَةٌ، وَقَدْ تَرْجَمْنَاهُ فِي " الطَّبَقَاتِ
" بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَبُو أَحْمَدَ
النَّيْسَابُورِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِحُسَيْنَكْ
كَانَتْ تَرْبِيَتُهُ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَتِلْمِيذًا لَهُ، وَكَانَ
يُقَدِّمُهُ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَيَقْرَأُ لَهُ مَا لَا يَقْرَأُهُ لِغَيْرِهِ،
وَإِذَا تَخَلَّفَ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ مَجَالِسِ السُّلْطَانِ بَعَثَ
حُسَيْنَكْ مَكَانَهُ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُ خُزَيْمَةَ كَانَ عُمُرُ حُسَيْنَكْ
ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ عَمَّرَ بَعْدَهُ دَهْرًا طَوِيلًا، وَكَانَ
مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ عِبَادَةً وَقِرَاءَةً، لَا يَتْرُكُ قِيَامَ اللَّيْلِ
فِي حَضَرٍ وَلَا سِفَرٍ، وَلَا صَيْفٍ وَلَا شِتَاءٍ، كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ
وَالْبِرِّ وَالصِّلَاتِ، وَكَانَ يَحْكِي وُضُوءَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَصَلَاتَهُ،
وَلَمْ يُرَ فِي الْأَغْنِيَاءِ أَحْسَنُ صَلَاةً مِنْهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَافِظُ أَبُو أَحْمَدَ
النَّيْسَابُورِيُّ.
أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ: عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، أَبُو الْقَاسِمِ
الدَّارَكِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، نَزَلَ نَيْسَابُورَ ثُمَّ
سَكَنَ بَغْدَادَ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْهُ، وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْهُ
أَنَّهُ كَانَ يُسْأَلُ عَنِ الْفَتْوَى، فَيُجِيبُ بَعْدَ تَفَكُّرٍ طَوِيلٍ،
فَرُبَّمَا كَانَتْ فَتْوَاهُ مُخَالِفَةً لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي
حَنِيفَةَ، فَيُقَالُ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَقُولُ: وَيَلَكُمُ ! رَوَى فَلَانٌ
عَنْ فُلَانٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا
وَكَذَا، فَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمُخَالَفَتُهُمَا أَسْهَلُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَهُ فِي الْمَذْهَبِ وُجُوهٌ جَيِّدَةٌ
دَالَّةٌ عَلَى مَتَانَةِ عِلْمِهِ، وَكَانَ يُتَّهَمُ بِالِاعْتِزَالِ، وَكَانَ
قَدْ أَخَذَ الْفِقْهَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ،
وَالْحَدِيثَ عَنْ جَدِّهِ لِأُمِّهِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّارَكِيِّ،
وَهُوَ أَحَدُ مَشَايِخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَأَخَذَ عَنْهُ
عَامَّةُ شُيُوخِ بَغْدَادَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ - وَقِيلَ: فِي ذِي الْقَعْدَةِ - مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى السَّبْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَسْنَوَيْهِ، أَبُو سَهْلٍ
النَّيْسَابُورِيُّ
وَيُعْرَفُ بِالْحَسْنَوِيِّ، كَانَ فَقِيهًا شَافِعِيًّا أَدِيبًا مُحَدِّثًا،
مُشْتَغِلًا بِنَفْسِهِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ، أَبُو بَكْرٍ
الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ سَمِعَ مِنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ وَالْبَاغَنْدِيِّ
وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ الْبَرْقَانِيُّ،
وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي شَرْحِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ
مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَأَبَاهُ، وَأَشَارَ بِأَبِي
بَكْرٍ الرَّازِيِّ الْحَنَفِيِّ، فَلَمْ يَقْبَلِ الْآخَرُ أَيْضًا، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا كَثُرَتِ الْحُمِّيَّاتُ فِي
بَغْدَادَ فَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَلِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
- وَهُوَ الْعِشْرُونَ مِنْ تَمُّوزَ - وَقَعَ مَطَرٌ كَثِيرٌ بِبَرْقٍ وَرَعْدٍ،
وَفِي رَجَبٍ غَلَتِ الْأَسْعَارُ جِدًّا بِبَغْدَادَ، وَوَرَدَ الْخَبَرُ فِيهِ
بِأَنَّهُ وَقَعَ بِالْمَوْصِلِ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ سَقَطَ مِنْهَا عُمْرَانٌ
كَثِيرٌ، وَمَاتَ مِنْ أَهْلِهَا أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ.
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَرَفِ
الدَّوْلَةِ، فَاقْتَتَلَا، فَغَلَبَهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، وَأَسَرَهُ وَدَخَلَ
بَغْدَادَ فَتَلَقَّاهُ الْخَلِيفَةُ وَهَنَّأَهُ بِالسَّلَامَةِ، ثُمَّ
اسْتَدْعَى شَرَفُ الدَّوْلَةِ بِفَرَّاشٍ لِيُكَحِّلَ صَمْصَامَ الدَّوْلَةِ
فَاتَّفَقَ مَوْتُهُ، فَكُحِّلَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ مَا
وَقَعَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ قَبِلَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مَعْرُوفٍ
شَهَادَةَ الْحَافِظِ أَبِي الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ
عُقْبَةَ، فَذُكِرَ أَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: كَانَ
يُقْبَلُ قَوْلِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَحْدِي، فَصَارَ لَا يُقْبَلُ قَوْلِي عَلَى نَقْلِي إِلَّا مَعَ غَيْرِي، فَلَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا عُقِدَ مَجْلِسٌ بِحَضْرَةِ الْخَلِيفَةِ، فِيهِ الْقُضَاةُ وَأَعْيَانُ
الدَّوْلَةِ، وَجُدِّدَتِ الْبَيْعَةُ بَيْنَ الطَّائِعِ لِلَّهِ وَبَيْنَ شَرَفِ
الدَّوْلَةِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
ثُمَّ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا رَكِبَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مِنْ دَارِهِ فِي
طَيَّارٍ إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ، وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ، وَضُرِبَتِ الطُّبُولُ
وَالدَّبَادِبُ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ وَطَوَّقَهُ وَسَوَّرَهُ،
وَأَعْطَاهُ لِوَاءَيْنِ، وَعَقَدَ لَهُ عَلَى مَا وَرَاءَ دَارِهِ،
وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَدِمَ مَعَ شَرَفِ
الدَّوْلَةِ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
مَعْرُوفٍ، فَلَمَّا رَآهُ الْخَلِيفَةُ قَالَ:
مَرْحَبًا بِالْأَحِبَّةِ الْقَادِمِينَا أَوْحَشُونَا وَطَالَمَا آنَسُونَا
فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَلَمَّا قُضِيَتِ الْبَيْعَةُ،
دَخَلَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ إِلَى عِنْدِ أُخْتِهِ امْرَأَةِ الْخَلِيفَةِ،
فَمَكَثَ عِنْدَهَا إِلَى الْعَصْرِ، وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَهُ، ثُمَّ خَرَجَ
وَسَارَ إِلَى دَارِهِ لِلتَّهْنِئَةِ، وَجَاءَ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ يُهَنِّئُونَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّ الْغَلَاءُ جِدًّا، ثُمَّ لَحِقَهُ فَنَاءٌ
كَثِيرٌ.