ج29. البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر
بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
بِإِقَامَةِ
الْخُطْبَةِ بِمَكَّةَ لِلْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَلِلسُّلْطَانِ بِمَكَّةَ،
وَقَطْعِ الْخُطْبَةِ لِلْمِصْرِيِّينَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ وَخِلْعَةً سَنِيَّةً، وَأَجْرَى لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَشْرَةَ آلَافِ
دِينَارٍ.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ ابْنُ جَهِيرٍ بِابْنَةِ نِظَامِ
الْمُلْكِ بِالرَّيِّ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو الْغَنَائِمِ الْعَلَوِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْمَشَاهِيرِ:
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَارِّي أَبُو الْجَوَائِزِ
الْوَاسِطِيُّ سَكَنَ بَغْدَادَ دَهْرًا طَوِيلًا، وَكَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا
ظَرِيفًا وُلِدَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَمَاتَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ مِائَةٍ وَعَشْرِ سِنِينَ وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ
قَوْلُهُ:
وَا حَزَنِي مِنْ قَوْلِهَا خَانَ عُهُودِي وَلَهَا وَحَقِّ مَنْ صَيَّرَنِي
وَقْفًا عَلَيْهَا وَلَهَا مَا خَطَرَتْ بِخَاطِرِي
إِلَّا كَسَتْنِي وَلَهَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَهْلٍ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بِشْرَانَ النَّحْوِيُّ الْوَاسِطِيُّ وُلِدَ سَنَةَ
ثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَدَبِ وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ
الرِّحْلَةُ فِي اللُّغَةِ وَلَهُ
شِعْرٌ
حَسَنٌ فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
يَا شَائِدًا لِلْقُصُورِ مَهْلًا أَقْصِرْ فَقَصْرُ الْفَتَى الْمَمَاتُ
لَمْ يَجْتَمِعْ شَمْلُ أَهْلِ قَصْرٍ إِلَّا وَقُصْرَاهُمُ الشَّتَاتُ
وَإِنَّمَا الْعَيْشُ مِثْلُ ظِلٍّ مُنْتَقِلٍ مَا لَهُ ثَبَاتُ
وَقَوْلُهُ:
وَدَّعْتُهُمْ وَلِيَ الدُّنْيَا مُوَدِّعَةٌ وَرُحْتُ مَا لِي سِوَى ذِكْرَاهُمُ
وَطَرُ
وَقُلْتُ يَا لَذَّتِي بِينِي لِبَيْنِهِمُ فَإِنَّ صَفْوَ حَيَاتِي بَعْدَهُمْ
كَدَرُ
لَوْلَا تَعَلُّلُ قَلْبِي بِالرَّجَاءِ لَهُمْ أَلْفَيْتُهُ إِنْ حَدَوْا
بِالْعِيسِ يَنْفَطِرُ
يَا لَيْتَ عِيسَهُمُ يَوْمَ النَّوَى نُحِرَتْ أَوْ لَيْتَهَا لِلضَّوَارِي
بِالْفَلَا جَزَرُ
يَا سَاعَةَ الْبَيْنِ أَنْتِ السَّاعَةُ اقْتَرَبَتْ يَا لَوْعَةَ الْبَيْنِ
أَنْتِ النَّارُ تَسْتَعِرُ
وَقَوْلُهُ:
طَلَبْتُ صَدِيقًا فِي الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا فَأَعْيَا طِلَابِي أَنْ أُصِيبَ
صَدِيقَا
بَلَى مَنْ تَسَمَّى بِالصَّدِيقِ مَجَازَةً وَلَمْ يَكُ فِي مَعْنَى الْوِدَادِ
صَدُوقَا
فَطَلَّقْتُ وُدَّ الْعَالَمِينَ صَرِيمَةً وَأَصْبَحْتُ مِنْ أَسْرِ الْحِفَاظِ
طَلِيقَا
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
وَفِيهَا أَقْبَلُ مَلِكُ الرُّومِ أَرْمَانُوسُ فِي جَحَافِلَ أَمْثَالِ
الْجِبَالِ مِنَ الرُّومِ وَالْكُرْجِ وَالْفِرِنْجِ وَعُدَدٍ عَظِيمَةٍ
وَتَجَمُّلٍ هَائِلٍ، وَمَعَهُ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا مِنَ الْبَطَارِقَةِ
مَعَ كُلِّ بِطْرِيقٍ مَا بَيْنَ أَلْفَيْ فَارِسٍ إِلَى خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ،
وَمَعَهُ مِنَ الْفِرِنْجِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَمِنَ الْغُزِّ
الَّذِينَ يَكُونُونَ وَرَاءَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا،
وَمَعَهُ مِائَةُ أَلْفِ نَقَّابٍ وَحَفَّارٍ، وَأَلْفُ رَوَزْجَارِيٍّ، وَمَعَهُ
أَرْبَعُمِائَةِ عَجَلَةٍ تَحْمِلُ النِّعَالَ وَالْمَسَامِيرَ، وَأَلْفَا
عَجَلَةٍ تَحْمِلُ السِّلَاحَ وَالسُّرُوجَ وَالْعَرَّادَاتِ وَالْمَجَانِيقَ،
مِنْهَا مَنْجَنِيقٌ يُمِدُّهُ أَلْفٌ وَمِائَتَا رَجُلٍ وَمِنْ عَزْمِهِ -
قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنْ يَجْتَثَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَقَدْ
أَقْطَعَ بَطَارِقَتَهُ الْبِلَادَ حَتَّى بَغْدَادَ وَاسْتَوْصَى نَائِبَهَا
بِالْخَلِيفَةِ خَيْرًا فَقَالَ لَهُ: ارْفُقْ بِذَلِكَ الشَّيْخِ فَإِنَّهُ
صَاحِبُنَا، ثُمَّ إِذَا اسْتَوْسَقَتْ مَمَالِكُ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ لَهُمْ
مَالُوا عَلَى الشَّامِ وَأَهْلِهِ مَيْلَةً وَاحِدَةً فَاسْتَعَادُوهُ مِنْ
أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَنْقَذُوهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ، وَالْقَدَرُ
يَقُولُ:
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَالْتَقَاهُ السُّلْطَانُ
أَلْبُ أَرْسَلَانَ فِي جَيْشِهِ وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا بِمَكَانٍ
يُقَالُ لَهُ الرَّهْوَةُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ، وَخَافَ مِنْ كَثْرَةِ الْمُشْرِكِينَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ
الْفَقِيهُ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْبُخَارِيُّ بِأَنْ
يَكُونَ وَقْتُ الْوَقْعَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ، حِينَ يَكُونُ
الْخُطَبَاءُ يَدْعُونَ لِلْمُجَاهِدِينَ، فَلَمَّا تَوَاجَهَ الْفِئَتَانِ نَزَلَ
السُّلْطَانُ عَنْ فَرَسِهِ، وَسَجَدَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَرَّغَ وَجْهَهُ
فِي التُّرَابِ وَدَعَا اللَّهَ وَاسْتَنْصَرَهُ، فَأَنْزَلَ نَصْرَهُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ وَمَنَحَهُمْ أَكْتَافَ الْمُشْرِكِينَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ
خَلْقًا كَثِيرًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَأُسِرَ مَلِكُهُمْ أَرْمَانُوسُ،
أَسَرَهُ غُلَامٌ رُومِيٌّ، فَأَمَّرَهُ السُّلْطَانُ، وَأَعْطَاهُ شَيْئًا
كَثِيرًا وَقَدْ كَانَ هَذَا الْغُلَامُ عُرِضَ عَلَى نِظَامِ الْمُلْكِ
الْوَزِيرِ فِي جُمْلَةِ تَقْدِمَةٍ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ:
إِنَّهُ... وَإِنَّهُ... يُثْنِي عَلَيْهِ فَرَدَّهُ، وَقَالَ كَهَيْئَةِ
الْمُسْتَهْزِئِ بِهِ: لَعَلَّهُ يَجِيئُنَا بِمَلِكِ الرُّومِ أَرْمَانُوسَ
أَسِيرًا، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
فَلَمَّا أُوقِفَ أَرْمَانُوسُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ ضَرَبَهُ
بِيَدِهِ ثَلَاثَ مَقَارِعَ، وَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا الْأَسِيرُ بَيْنَ
يَدَيْكَ مَاذَا كُنْتَ تَفْعَلُ؟ قَالَ: كُلَّ قَبِيحٍ. قَالَ فَمَا ظَنُّكَ بِي؟
قَالَ: تَقْتُلُنِي أَوْ تُشَهِّرُنِي فِي بِلَادِكَ، فَأَمَّا الْعَفْوُ وَأَخْذُ
الْفِدَاءِ فَبَعِيدٌ، فَقَالَ: مَا عَزَمْتُ عَلَى غَيْرِ الْعَفْوِ
وَالْفِدَاءِ، فَافْتَدَى نَفْسَهُ مِنْهُ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ
وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنْ يُطْلِقَ كُلَّ أَسِيرٍ فِي بِلَادِ
الرُّومِ، وَعَلَى هُدْنَةٍ خَمْسِينَ سَنَةً، يَحْمِلُ فِيهَا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ
أَلْفَ دِينَارٍ، وَقَامَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ فَسَقَاهُ شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ،
وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِلَى نَحْوِ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ
إِجْلَالًا وَإِكْرَامًا،
فَأَطْلَقَ
لَهُ الْمَلِكُ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ لِيَتَجَهَّزَ بِهَا، وَأَطْلَقَ مَعَهُ
جَمَاعَةً مِنَ الْبَطَارِقَةِ وَمِنْ أَصْحَابِهِ، وَشَيَّعَهُ فَرْسَخًا،
وَأَرْسَلَ مَعَهُ جَيْشًا يَخْدُمُونَهُ وَيُحِيطُونَهُ وَيَحْفَظُونَهُ إِلَى
بِلَادِهِ، وَمَعَهُمْ رَايَةٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ.
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بِلَادِهِ وَجَدَ الرُّومَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ
غَيْرَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، وَبَعَثَ مِنَ
الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ مَا يُقَارِبُ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَتَزَهَّدَ وَلَبِسَ الصُّوفَ، ثُمَّ اسْتَضَافَ مَلِكَ الْأَرْمَنِ فَأَخَذَهُ
فَكَحَلَهُ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى السُّلْطَانِ فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ يَتَقَرَّبُ
إِلَيْهِ بِهِ.
وَفِيهَا خَطَبَ صَاحِبُ حَلَبَ مَحْمُودُ بْنُ مِرْدَاسٍ لِلْقَائِمِ بِأَمْرِ
اللَّهِ وَلِلسُّلْطَانِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ مَعَهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ بِالْخِلَعِ، وَالْعَهْدِ مَعَ الشَّرِيفِ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيِّ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ نُورُ الْهُدَى أَبُو طَالِبٍ الزَّيْنَبِيُّ، وَخُطِبَ
بِمَكَّةَ لِلْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ
الْمِصْرِيِّينَ مِنْهَا، وَكَانَ يُخْطَبُ لَهُمْ فِيهَا مِائَةَ سَنَةٍ
فَانْقَطَعَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
ثَابِتِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَهْدِيٍّ، أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْحُفَّاظِ وَصَاحِبُ
" تَارِيخِ بَغْدَادَ " وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ
الْعَدِيدَةِ
الْمُفِيدَةِ نَحْوٌ مِنْ سِتِّينَ مُصَنَّفًا وَيُقَالُ بَلْ مِائَةُ مُصَنَّفٍ
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقِيلَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَتِسْعِينَ، وَأَوَّلُ سَمَاعِهِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَنَشَأَ
بِبَغْدَادَ وَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَغَيْرِهِ
مِنْ أَصْحَابِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَرَحَلَ
إِلَى الْبَصْرَةِ وَنَيْسَابُورَ وَأَصْبَهَانَ وَهَمَذَانَ وَالشَّامِ
وَالْحِجَازِ، وَسُمِّيَ الْخَطِيبُ لِأَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ بِدَرْزِيجَانَ
وَسَمِعَ بِمَكَّةَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ
سَلَامَةَ الْقُضَاعِيِّ، وَقَرَأَ " صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ " عَلَى
كَرِيمَةَ بِنْتِ أَحْمَدَ فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ.
وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ فَحَظِيَ عِنْدَ الْوَزِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ
الْمُسْلِمَةِ. وَلَمَّا ادَّعَى الْيَهُودُ الْخَيَابِرَةُ أَنَّ مَعَهُمْ
كِتَابًا نَبَوِيًّا فِيهِ إِسْقَاطُ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ أَوْقَفَ ابْنُ
الْمُسْلِمَةِ الْخَطِيبَ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ فَقَالَ: هَذَا كَذِبٌ. فَقِيلَ
لَهُ: وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ فِيهِ شَهَادَةَ
مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَقَدْ
كَانَتْ خَيْبَرُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ
مُعَاوِيَةُ يَوْمَ الْفَتْحِ وَفِيهِ شَهَادَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَقَدْ كَانَ
تُوُفِّيَ عَامَ الْخَنْدَقِ سَنَةَ خَمْسٍ. فَأَعْجَبَ النَّاسَ ذَلِكَ. وَقَدْ
سُبِقَ الْخَطِيبُ إِلَى هَذَا النَّقْدِ كَمَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي مُصَنَّفٍ
مُفْرَدٍ.
وَلَمَّا وَقَعَتْ فِتْنَةُ الْبَسَاسِيرِيِّ بِبَغْدَادَ سَنَةَ خَمْسِينَ،
خَرَجَ مِنْهَا إِلَى الشَّامِ فَأَقَامَ
بِدِمَشْقَ
بِالْمِئْذَنَةِ الشَّرْقِيَّةِ مِنْ جَامِعِهَا وَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى النَّاسِ
الْحَدِيثَ النَّبَوِيَّ، وَكَانَ جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ، يُسْمَعُ صَوْتُهُ مِنْ
أَرْجَاءِ الْجَامِعِ كُلِّهَا، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ قَرَأَ يَوْمًا عَلَى النَّاسِ
فَضَائِلَ الْعَبَّاسِ، فَثَارَ عَلَيْهِ الرَّوَافِضُ وَأَتْبَاعُ
الْفَاطِمِيِّينَ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَتَشَفَّعَ بِالشَّرِيفِ الزَّيْنَبِيِّ،
فَأَجَارَهُ، وَكَانَ مَسْكَنُهُ بِدَارِ الْعَقِيقِيِّ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ
دِمَشْقَ فَأَقَامَ بِمَدِينَةِ صُورَ، فَكَتَبَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ
مُصَنَّفَاتِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيِّ بِخَطِّهِ، كَانَ يَسْتَعِيرُهَا
مِنْ زَوْجَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِالشَّامِ إِلَى سَنَةِ ثِنْتَيْنِ
وَسِتِّينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِأَشْيَاءَ مِنْ
مَسْمُوعَاتِهِ وَقَدْ كَانَ سَأَلَ اللَّهَ بِمَكَّةَ، أَنْ يَمْلِكَ أَلْفَ
دِينَارٍ وَأَنْ يُحَدِّثَ بِ " التَّارِيخِ " بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ،
وَأَنْ يَمُوتَ بِبَغْدَادَ فَيُدْفَنَ إِلَى جَانِبِ بِشْرٍ الْحَافِي، فَيُقَالُ
إِنَّهُ حَدَّثَ بِ " التَّارِيخِ " بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، وَإِنَّهُ
مَلَكَ ذَهَبًا يُقَارِبُ أَلْفَ دِينَارٍ. وَحِينَ احْتُضِرَ كَانَ عِنْدَهُ
قَرِيبٌ مِنْ مِائَتَيْ دِينَارٍ، فَأَوْصَى بِهَا لِأَهْلِ الْحَدِيثِ، وَسَأَلَ
السُّلْطَانَ أَنْ يُمْضِيَ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا،
فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ.
وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ مُفِيدَةٌ، مِنْهَا كِتَابُ " التَّارِيخِ
"، وَكِتَابُ " الْكِفَايَةِ " وَ " الْجَامِعِ "، وَ
" شَرَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ "، وَ " الْمُتَّفِقِ
وَالْمُفْتَرِقِ "، وَ " السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ "، وَ "
تَلْخِيصِ الْمُتَشَابِهِ فِي الرَّسْمِ "، " وَ " فَضْلِ
الْوَصْلِ "، وَ " رِوَايَةِ الْآبَاءِ عَنِ الْأَبْنَاءِ "،
" وَ " رِوَايَةِ الصَّحَابَةِ عَنِ التَّابِعِينَ "، وَ "
اقْتِضَاءِ الْعِلْمِ الْعَمَلَ " وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ سَرَدَهَا الشَّيْخُ
أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " قَالَ:
وَيُقَالُ إِنَّ هَذِهِ الْمُصَنَّفَاتِ أَكْثَرُهَا ابْتَدَأَهَا أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الصُّورِيُّ فَتَمَّمَهَا الْخَطِيبُ.
وَقَدْ
كَانَ حَسَنَ الْقِرَاءَةِ فَصِيحَ اللَّفْظِ، عَارِفًا بِالْأَدَبِ يَقُولُ
الشِّعْرَ، وَكَانَ أَوَّلًا عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَانْتَقَلَ
إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، ثُمَّ صَارَ يَتَكَلَّمُ فِي أَصْحَابِ أَحْمَدَ
وَيَقْدَحُ فِيهِمْ مَا أَمْكَنَهُ، وَلَهُ دَسَائِسُ عَجِيبَةٌ فِي ذَمِّهِمْ،
ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ يَنْتَصِرُ لِأَصْحَابِهِ بِمَا يَطُولُ
ذِكْرُهُ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ شِعْرِ الْخَطِيبِ قَصِيدَةً -
مِنْ خَطِّهِ - جَيِّدَةَ الْمَطْلِعِ حَسَنَةَ الْمَنْزَعِ أَوَّلُهَا:
لَعَمْرُكَ مَا شَجَانِي رَسْمُ دَارٍ وَقَفْتُ بِهِ وَلَا ذِكْرُ الْمَغَانِي
وَلَا أَثَرُ الْخِيَامِ أَرَاقَ دَمْعِي
لِأَجْلِ تَذَكُّرِي عَهْدَ الْغَوَانِي وَلَا مَلَكَ الْهَوَى يَوْمًا قِيَادِي
وَلَا عَاصَيْتُهُ فَثَنَى عِنَانِي عَرَفْتُ فِعَالَهُ بِذَوِي التَّصَابِي
وَمَا يَلْقَوْنَ مِنْ ذُلِّ الْهَوَانِ فَلَمْ أُطْمِعْهُ فِيَّ وَكَمْ قَتِيلٍ
لَهُ فِي النَّاسِ مَا يُحْصَى وَعَانِ طَلَبْتُ أَخًا صَحِيحَ الْوُدِّ مَحْضًا
سَلِيمَ الْغَيْبِ مَحْفُوظَ اللِّسَانِ فَلَمْ أَعْرِفْ مِنَ الْإِخْوَانِ إِلَّا
نِفَاقًا فِي التَّبَاعُدِ وَالتَّدَانِي وَعَالَمُ دَهْرِنَا لَا خَيْرَ فِيْهِمْ
تَرَى صُوَرًا تَرُوقُ بِلَا مَعَانِي وَوَصْفُ جَمِيعِهِمْ هَذَا فَمَا أَنْ
أَقُولُ سِوَى فُلَانٍ أَوْ فُلَانِ وَلَمَّا لَمْ أَجِدْ حُرًّا يُوَاتِي
عَلَى مَا نَابَ مِنْ صَرْفِ الزَّمَانِ صَبَرْتُ تَكَرُّمًا لِقِرَاعِ دَهْرِي
وَلَمْ أَجْزَعْ لِمَا مِنْهُ دَهَانِي وَلَمْ أَكُ فِي الشَّدَائِدِ مُسْتَكِينًا
أَقُولُ لَهَا أَلَا كُفِّي كَفَانِي وَلَكِنِّي صَلِيبُ الْعُودِ عَوْدٌ
رَبِيطُ الْجَأْشِ مُجْتَمِعُ الْجَنَانِ
أَبِيُّ
النَّفْسِ لَا أَخْتَارُ رِزْقًا
يَجِيءُ بِغَيْرِ سَيْفِي أَوْ سِنَانِي فَعِزٌّ فِي لَظَى بَاغِيهِ يُشْوَى
أَلَذُّ مِنَ الْمَذَلَّةِ فِي الْجِنَانِ
وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ "
تَرْجَمَةً حَسَنَةً كَعَادَتِهِ، وَأَوْرَدَ لَهُ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلَهُ:
لَا تَغْبِطَنَّ أَخَا الدُّنْيَا لِزُخْرُفِهَا وَلَا لِلَذَّةِ وَقْتٍ عَجَّلَتْ
فَرَحًا
فَالدَّهْرُ أَسْرَعُ شَيْءٍ فِي تَقَلُّبِهِ وَفِعْلُهُ بَيِّنٌ لِلْخَلْقِ قَدْ
وَضَحَا
كَمْ شَارِبٍ عَسَلًا فِيهِ مَنِيَّتُهُ وَكَمْ تَقَلَّدَ سَيْفًا مَنْ بِهِ
ذُبِحَا
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ ضُحَى السَّابِعِ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً فِي
حُجْرَةٍ كَانَ يَسْكُنُهَا بِدَرْبِ السِّلْسِلَةِ جِوَارَ الْمَدْرَسَةِ
النِّظَامِيَّةِ وَاحْتَفَلَ النَّاسُ بِجِنَازَتِهِ، وَحَمَلَهَا فِيمَنْ حَمَلَ
الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ قَبْرِ بِشْرٍ
الْحَافِي فِي قَبْرِ رَجُلٍ كَانَ قَدْ أَعَدَّهُ لِنَفْسِهِ فَسُئِلَ أَنْ
يَتْرُكَهُ لِلْخَطِيبِ فَشَحَّتْ بِهِ نَفْسُهُ، حَتَّى قَالَ لَهُ بَعْضُ
النَّاسِ: بِاللَّهِ عَلَيْكَ لَوْ قَدِمْتَ أَنْتَ وَالْخَطِيبُ إِلَى بِشْرٍ
أَيُّكُمَا كَانَ يُجْلِسُهُ إِلَى جَانِبِهِ؟ فَقَالَ: الْخَطِيبَ. فَقِيلَ:
فَاسْمَحْ لَهُ بِهِ، فَوَهَبَهُ لَهُ فَدُفِنَ فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ
مَثْوَاهُ، وَهُوَ مِمَّنْ يُنْشَدُ لَهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
مَا زِلْتَ تَدْأَبُ فِي التَّارِيخِ مُجْتَهِدًا حَتَّى رَأَيْتُكَ فِي
التَّارِيخِ مَكْتُوبَا
وَحَكَى ابْنُ خَلِّكَانَ عَنِ السَّمْعَانِيِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ
وَأَنَّهُ تَصَدَّقَ
بِجَمِيعِ
مَالِهِ وَوَقَفَ كُتُبَهُ.
حَسَّانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَسَّانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَنِيعِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيُّ الْمَنِيعِيُّ، كَانَ فِي شَبَابِهِ
يَجْمَعُ بَيْنَ الزُّهْدِ وَالتِّجَارَةِ حَتَّى سَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ ثُمَّ
تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ وَالْبِرِّ وَالصِّلَةِ
وَالصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ
وَالرِّبَاطَاتِ وَكَانَ السُّلْطَانُ يَأْتِي إِلَيْهِ وَيَتَبَرَّكُ بِهِ وَلَمَّا
وَقَعَ الْغَلَاءُ كَانَ يَعْمَلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ
الْخُبْزِ وَالطَّعَامِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، وَيَكْسُو فِي كُلِّ سَنَةٍ قَرِيبًا
مِنْ أَلْفِ نَفْسٍ ثِيَابًا وَجِبَابًا وَافِرَةً، وَكَذَلِكَ النِّسَاءَ،
وَيُجَهِّزُ بَنَاتِ الْفُقَرَاءِ الْأَيْتَامِ وَأَسْقَطَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ
الْمُكُوسِ وَالْوَظَائِفِ السُّلْطَانِيَّةِ عَنْ بِلَادِ نَيْسَابُورَ
وَقُرَاهَا، وَهُوَ فِي غَايَةِ التَّبَذُّلِ وَالثِّيَابِ الْأَطْمَارِ وَتَرْكِ
الشَّهَوَاتِ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَلَدِهِ
مَرْوِالرُّوذِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ. آمِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمْزَةَ أَبُو يَعْلَى الْجَعْفَرِيُّ فَقِيهُ
الشِّيعَةِ فِي زَمَانِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ وِشَاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَلِيٍّ مَوْلَى أَبِي
تَمَّامٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الزَّيْنَبِيِّ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ وَكَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا وَكَتَبَ لِنَقِيبِ النُّقَبَاءِ
الْكَامِلِ،
وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى الِاعْتِزَالِ وَالرَّفْضِ. وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
حَمَلْتُ الْعَصَا لَا الضَّعْفُ أَوْجَبَ حَمْلَهَا عَلَيَّ وَلَا أَنِّي
تَحَنَّيْتُ مِنْ كِبَرْ
وَلَكِنَّنِي أَلْزَمْتُ نَفْسِي بِحَمْلِهَا لِأُعْلِمَهَا أَنَّ الْمُقِيمَ
عَلَى سَفَرْ
الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمَرِيُّ. الْحَافِظُ صَاحِبُ
التَّصَانِيفِ، مِنْهَا " التَّمْهِيدُ " و " الِاسْتِذْكَارُ
" و " الِاسْتِيعَابُ "، وَغَيْرُهَا.
ابْنُ زَيْدُونَ الشَّاعِرُ، أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
غَالِبِ بْنِ زَيْدُونَ أَبُو الْوَلِيدِ الشَّاعِرُ الْمَاهِرُ الْأَنْدَلُسِيُّ
الْقُرْطُبِيُّ اتَّصَلَ بِالْأَمِيرِ الْمُعْتَضِدِ عَبَّادٍ صَاحِبِ
إِشْبِيلِيَّةَ، فَحَظِيَ عِنْدَهُ وَصَارَ عِنْدَهُ مُشَاوَرًا فِي مَنْزِلَةِ
الْوَزِيرِ، وَوَزَرَ لَهُ وَلَدُهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ وَهُوَ
صَاحِبُ الْقَصِيدَةِ الْفِرَاقِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
بِنْتُمْ وَبِنَّا فَمَا ابْتَلَّتْ جَوَانِحُنَا شَوْقًا إِلَيْكُمْ وَلَا
جَفَّتْ مَآقِينَا
نَكَادُ حِينَ تُنَاجِيكُمْ ضَمَائِرُنَا يَقْضِي عَلَيْنَا الْأَسَى لَوْلَا
تَأَسِّينَا
حَالَتْ لِبُعْدِكُمُ أَيَّامُنَا فَغَدَتْ سُودًا وَكَانَتْ بِكُمْ بِيضًا
لَيَالِينَا
بِالْأَمْسِ
كُنَّا وَلَا يُخْشَى تَفَرُّقُنَا وَالْيَوْمَ نَحْنُ وَلَا يُرْجَى تَلَاقِينَا
وَهِيَ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ، وَفِيهَا صَنْعَةٌ قَوِيَّةٌ مُهَيِّجَةٌ عَلَى
الْبُكَاءِ لِكُلِّ مَنْ قَرَأَهَا، أَوْ سَمِعَهَا لِأَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ
مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا إِلَّا وَقَدْ فَقَدَ خِلًّا أَوْ حَبِيبًا أَوْ
نَسِيبًا، وَمِنْ شِعْرِهِ:
بَيْنِي وَبَيْنَكَ مَا لَوْ شِئْتَ لَمْ يَضِعِ سِرٌّ إِذَا ذَاعَتِ الْأَسْرَارُ
لَمْ يَذِعِ
يَا بَائِعًا حَظَّهُ مِنِّي وَلَوْ بُذِلَتْ لِيَ الْحَيَاةُ بِحَظِّي مِنْهُ
لَمْ أَبِعِ
يَكْفِيكَ أَنَّكَ إِنْ حَمَّلْتَ قَلْبِي مَا لَا تَسْتَطِيعُ قُلُوبُ النَّاسِ
يَسْتَطِعِ
تِهْ أَحْتَمِلْ وَاسْتَطِلْ أَصْبِرْ وَعِزَّ أَهُنْ وَوَلِّ أُقْبِلْ وَقُلْ
أَسْمَعْ وَمُرْ أُطِعْ
تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَاسْتَمَرَّ وَلَدُهُ أَبُو بَكْرٍ
وَزِيرًا لِلْمُعْتَمِدِ بْنِ عَبَّادٍ، حَتَّى أَخَذَ ابْنُ تَاشُفِينَ
قُرْطُبَةَ مِنْ يَدِهِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ.
قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفِيَّاتِ.
كَرِيمَةُ بِنْتُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ الْمَرْوَزِيَّةُ
كَانَتْ عَالِمَةً صَالِحَةً سَمِعَتْ " صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ " عَلَى
الْكُشْمِيهَنِيِّ وَقَرَأَ عَلَيْهَا الْأَئِمَّةُ كَالْخَطِيبِ وَأَبِي
الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا قَامَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مَعَ الْحَنَابِلَةِ فِي
الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُفْسِدِينَ، وَالَّذِينَ يَبِيعُونَ الْخُمُورَ، وَفِي
إِبْطَالِ الْمُؤَاجِرَاتِ وَهُنَّ الْبَغَايَا وَكُوتِبَ السُّلْطَانُ فِي ذَلِكَ
فَجَاءَتْ كُتُبُهُ بِالْإِنْكَارِ، وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ
بِبَغْدَادَ ارْتَجَّتْ لَهَا الْأَرْضُ سِتَّ مَرَّاتٍ.
وَفِيهَا كَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ وَمَوَتَانٌ ذَرِيعٌ فِي الْحَيَوَانَاتِ،
بِحَيْثُ إِنَّ بَعْضَ الرُّعَاةِ بِخُرَاسَانَ قَامَ وَقْتَ الصَّبَاحِ
لِيَسْرَحَ بِغَنَمِهِ، فَإِذَا هُنَّ قَدْ مِتْنَ كُلُّهُنَّ. وَجَاءَ سَيْلٌ
عَظِيمٌ وَبَرَدٌ كِبَارٌ أَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ
بِخُرَاسَانَ.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ الْأَمِيرُ عُدَّةُ الدِّينِ وَلَدُ الْخَلِيفَةِ بِابْنَةِ
السُّلْطَانِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ مِنْ سِفْرَى خَاتُونَ وَذَلِكَ بِنَيْسَابُورَ،
وَكَانَ وَكِيلُ السُّلْطَانِ نِظَامَ الْمُلْكِ وَوَكِيلُ الزَّوْجِ عَمِيدَ
الدَّوْلَةِ ابْنَ جَهِيرٍ وَحِينَ عُقِدَ الْعَقْدُ نُثِرَ عَلَى النَّاسِ
جَوَاهِرُ نَفِيسَةٌ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا زُيِّنَتِ الْأَفْيِلَةُ
وَالْخُيُولُ، وَضُرِبَتِ الدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حِيدٍ، أَبُو مَنْصُورٍ النَّيْسَابُورِيُّ كَانَ
يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ
سُلَالَةِ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُذْهِبِ،
وَكَانَ ثِقَةً تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ
الثَّمَانِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ أَبُو الْحَسَنِ الْهَاشِمِيُّ خَطِيبُ
جَامِعِ الْمَنْصُورِ كَانَ مِمَّنْ يَلْبَسُ الْقَلَانِسَ الطِّوَالَ حَدَّثَ
عَنِ ابْنِ رِزْقَوَيْهِ وَغَيْرِهِ، وَرَوَى عَنْهُ الْخَطِيبُ وَكَانَ ثِقَةً عَدْلًا،
شَهِدَ عِنْدَ ابْنِ مَاكُولَا وَابْنِ الدَّامَغَانِيِّ فَقَبِلَاهُ، تُوُفِّيَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً وَدُفِنَ بِقُرْبِ قَبْرِ بِشْرٍ
الْحَافِي، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَادَهْ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْأَصْفَهَانِيُّ، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِدُجَيْلٍ، وَكَانَ شَافِعِيًّا، وَرَوَى
الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي عُمَرَ بْنِ مَهْدِيِّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ
وَنُقِلَ إِلَى دُجَيْلٍ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ حَادِي عَشَرَ الْمُحَرَّمِ حَضَرَ إِلَى الدِّيوَانِ أَبُو
الْوَفَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ الْعَقِيلِيُّ الْحَنْبَلِيُّ،
وَقَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ كِتَابًا يَتَضَمَّنُ تَوْبَتَهُ مِنَ الِاعْتِزَالِ
وَمُخَالَطَةِ أَهْلِهِ، وَأَنَّهُ رَجَعَ عَنِ اعْتِقَادِ كَوْنِ الْحَلَّاجِ
مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ، وَقَدْ رَجَعَ عَنِ الْجُزْءِ الَّذِي عَمِلَهُ فِي
ذَلِكَ، وَأَنَّهُ قَدْ قُتِلَ بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَقَدْ
كَانُوا مُصِيبِينَ وَهُوَ مُخْطِئٌ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فِي الْكِتَابِ،
وَرَجَعَ مِنَ الدِّيوَانِ إِلَى دَارِ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ، فَسَلَّمَ
عَلَيْهِ وَصَالَحَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، وَعَظَّمَهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَفَاةُ السُّلْطَانِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ وَمُلْكُ وَلَدِهِ مَلِكْشَاهْ
كَانَ السُّلْطَانُ قَدْ سَارَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ فِي مِائَتَيْ أَلْفِ
مُقَاتِلٍ يُرِيدُ غَزَاةَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَاتَّفَقَ فِي بَعْضِ
الْمَنَازِلِ أَنَّهُ غَضِبَ عَلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ
الْخُوَارَزْمِيُّ، فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَشَرَعَ يُعَاتِبُهُ فِي أَشْيَاءَ
صَدَرَتْ مِنْهُ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُضْرَبَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَوْتَادٍ
وَيُصْلَبَ بَيْنَهَا، فَقَالَ لِلسُّلْطَانِ: يَا مُخَنَّثٌ أَمِثْلِي يُقْتَلُ
هَكَذَا؟ فَاحْتَدَّ السُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِإِرْسَالِهِ، وَأَخَذَ
الْقَوْسَ فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ فَأَخْطَأَهُ، وَأَقْبَلَ يُوسُفُ نَحْوَ
السُّلْطَانِ فَنَهَضَ السُّلْطَانُ عَنِ السَّرِيرِ، فَنَزَلَ فَعَثَرَ، فَوَقَعَ
فَأَدْرَكَهُ يُوسُفُ فَضَرَبَهُ بِخَنْجَرٍ كَانَ فِي يَدِهِ فِي خَاصِرَتِهِ،
وَأَدْرَكَهُ الْجَيْشُ فَقَتَلُوهُ، وَقَدْ جُرِحَ السُّلْطَانُ جُرْحًا
مُنْكَرًا، فَتُوُفِّيَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ عَاشِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ وَيُقَالُ إِنَّ أَهْلَ بُخَارَا
لَمَّا
اجْتَازَ بِهِمْ، وَنَهَبَ عَسْكَرُهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَهُمْ دَعَوْا عَلَيْهِ
فَهَلَكَ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ جَلَسَ وَلَدُهُ مَلِكْشَاهْ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ وَقَامَ
الْأُمَرَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ:
تَكَلَّمْ أَيُّهَا السُّلْطَانُ فَقَالَ: الْأَكْبَرُ مِنْكُمْ أَبِي
وَالْأَوْسَطُ أَخِي، وَالْأَصْغَرُ ابْنِي وَسَأَفْعَلُ مَعَكُمْ مَا لَمْ
أُسْبَقْ إِلَيْهِ فَأَمْسَكُوا، فَأَعَادَ الْقَوْلَ فَأَجَابُوهُ بِالسَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ وَقَامَ بِأَعْبَاءِ أَمْرِهِ الْوَزِيرُ لِأَبِيهِ نِظَامُ
الْمُلْكِ، فَزَادَ فِي أَرْزَاقِ الْجُنْدِ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ
وَسَارُوا إِلَى مَرْوَ فَدَفَنُوا بِهَا السُّلْطَانَ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ شَيْءٍ
مِنْ تَرْجَمَتِهِ فِي الْوَفِيَّاتِ. وَلَمَّا بَلَغَ مَوْتُهُ أَهْلَ بَغْدَادَ
أَقَامَ النَّاسُ لَهُ الْعَزَاءَ، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَأَظْهَرَ الْخَلِيفَةُ
الْجَزَعَ عَلَيْهِ، وَتَسَلَّبَتِ ابْنَتُهُ الْخَاتُونُ زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ
ثِيَابَهَا وَجَلَسَتْ عَلَى التُّرَابِ. وَجَاءَتِ الْكُتُبُ مِنَ السُّلْطَانِ
فِي رَجَبٍ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَتَأَسَّفُ فِيهَا عَلَى وَالِدِهِ وَيَسْأَلُ
أَنْ تُقَامَ لَهُ الْخُطْبَةُ فَفَعَلَ ذَلِكَ.
وَخَلَعَ مَلِكْشَاهْ عَلَى الْوَزِيرِ نِظَامِ الْمُلْكِ خِلَعًا سِنِيَّةً
وَأَعْطَاهُ تُحَفًا كَثِيرَةً، مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ عِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ
وَلَقَّبَهُ أَتَابِكَ، وَمَعْنَاهُ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ الْوَالِدُ، فَسَارَ
سِيرَةً حَسَنَةً وَلَمَّا بَلَغَ قَاوُرْتَ بَكَ مَوْتُ أَخِيهِ أَلْبِ
أَرْسَلَانَ رَكِبَ فِي جُيُوشٍ كَثِيرَةٍ قَاصِدًا قِتَالَ ابْنِ أَخِيهِ
مَلِكْشَاهْ فَالْتَقَيَا فَاقْتَتَلَا، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ قَاوُرْتَ وَأُسِرَ
هُوَ فَأَنَّبَهُ ابْنُ أَخِيهِ ثُمَّ اعْتَقَلَهُ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ
قَتَلَهُ.
وَفِيهَا جَرَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَبَابِ الْبَصْرَةِ
وَالْقَلَّائِينَ فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَاحْتَرَقَ
جَانِبٌ كَبِيرٌ مِنَ الْكَرْخِ فَانْتَقَمَ الْمُتَوَلِّي لِأَهْلِ الْكَرْخِ
مِنْ أَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ فَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا
جِنَايَةً لَهُمْ عَلَى مَا
صَنَعُوا.
وَفِيهَا أُقِيمَتِ الدَّعْوَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَفِيهَا
مَلَكَ صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ وَهُوَ أَلْتِكِينُ مَدِينَةَ تِرْمِذْ، وَفِيهَا
حَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو الْغَنَائِمِ الْعَلَوِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ الْمُلَقَّبُ بِسُلْطَانِ الْعَالَمِ، ابْنُ
جَغْرِي بَكَ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ بْنِ تُقَاقَ التُّرْكِيُّ
صَاحِبُ الْمَمَالِكِ الْمُتَّسِعَةِ، وَقَدْ مَلَكَ بَعْدَ عَمِّهِ طُغْرُلْبَكَ
سَبْعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَكَانَ عَادِلًا يَسِيرُ فِي
النَّاسِ سِيرَةً حَسَنَةً كَرِيمًا رَحِيمًا شَفُوقًا عَلَى الرَّعِيَّةِ،
رَفِيقًا عَلَى الْفُقَرَاءِ بَارًّا بِأَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَمَالِيكِهِ
كَثِيرَ الدُّعَاءِ بِدَوَامِ مَا أُنْعِمَ بِهِ عَلَيْهِ، كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ،
يَتَصَدَّقُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَلَا
يُعْرَفُ فِي زَمَانِهِ جِنَايَةٌ وَلَا مُصَادَرَةٌ بَلْ يَقْنَعُ مِنَ
الرَّعَايَا بِالْخَرَاجِ فِي قِسْطَيْنِ ; رِفْقًا بِهِمْ.
كَتَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ السُّعَاةِ فِي نِظَامِ الْمُلْكِ فَاسْتَدْعَاهُ وَقَالَ
لَهُ: إِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا، فَهَذِّبْ أَخْلَاقَكَ وَأَصْلِحْ أَحْوَالَكَ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فَاغْفِرْ لَهُمْ زَلَّتَهُمْ بِمُهِمٍّ يَشْغَلُهُمْ
عَنِ السِّعَايَةِ بِالنَّاسِ. وَكَانَ شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى حِفْظِ مَالِ
الرَّعَايَا، بَلَغَهُ أَنَّ غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِهِ أَخَذَ إِزَارًا لِبَعْضِ
التُّجَّارِ فَصَلَبَهُ، فَارْتَدَعَ سَائِرُ الْمَمَالِيكِ بِهِ خَوْفًا مِنْ
سَطْوَتِهِ.
وَتَرَكَ مِنَ الْأَوْلَادِ مَلِكْشَاهْ الَّذِي قَامَ مِنْ بَعْدِهِ وَإِيَازَ
وَتَكِشَ وَبُورِي بَرَسَ
وَأَرْسَلَانَ
أَرْغُونَ وَسَارَّةَ وَعَائِشَةَ وَبِنْتًا أُخْرَى. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ
بِالرَّيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ طَلْحَةَ
وَأُمُّهُ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، تُوُفِّيَ أَبُوهُ وَهُوَ طِفْلٌ فَقَرَأَ
الْأَدَبَ وَالْعَرَبِيَّةَ، وَصَحِبَ الشَّيْخَ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ
وَأَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيِّ وَالْكَلَامَ
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ فُورَكَ، وَصَنَّفَ الْكَثِيرَ فَلَهُ " التَّفْسِيرُ
الْكَبِيرُ "، و " الرِّسَالَةُ " الَّتِي تَرْجَمَ فِيهَا
جَمَاعَةً مِنَ الْمَشَايِخِ وَالصَّالِحِينَ وَحَجَّ صُحْبَةَ إِمَامِ
الْحَرَمَيْنِ وَأَبِي بَكْرٍ الْبَيْهَقِيِّ وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ.
تُوُفِّيَ بِنَيْسَابُورَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ
إِلَى جَانِبِ شَيْخِهِ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ، وَلَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ بَيْتِهِ بَيْتَ كُتُبِهِ إِلَّا بَعْدَ سِنِينَ احْتِرَامًا لَهُ، وَكَانَ
لَهُ فَرَسٌ يَرْكَبُهَا قَدْ أُهْدِيَتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ لَمْ
تَأْكُلْ عَلَفًا حَتَّى نَفَقَتْ بَعْدَهُ بِيَسِيرٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ.
وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفِيَّاتِ
" ثَنَاءً كَثِيرًا وَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ الرَّائِقِ. فَمِنْ
ذَلِكَ قَوْلُهُ:
سَقَى
اللَّهُ وَقْتًا كُنْتُ أَخْلُو بِوَجْهِكُمُ وَثَغْرُ الْهَوَى فِي رَوْضَةِ
الْأُنْسِ ضَاحِكُ أَقَمْنَا زَمَانًا وَالْعُيُونُ قَرِيرَةٌ
وَأَصْبَحْتُ يَوْمًا وَالْجُفُونُ سَوَافِكُ
وَقَوْلُهُ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
لَوْ كُنْتَ سَاعَةَ بَيْنِنَا مَا بَيْنَنَا وَشَهِدْتَ حِينَ نُكَرِّرُ
التَّوْدِيعَا
أَيْقَنْتَ أَنَّ مِنَ الدُّمُوعِ مُحَدِّثًا وَعَلِمْتَ أَنَّ مِنَ الْحَدِيثِ
دُمُوعَا
وَقَوْلُهُ أَيْضًا:
وَمَنْ كَانَ فِي طُولِ الْهَوَى ذَاقَ سَلْوَةً فَإِنِّيَ مِنْ لَيْلَى لَهَا
غَيْرُ ذَائِقِ
وَأَكْثَرُ شَيْءٍ نِلْتُهُ مِنْ وِصَالِهَا أَمَانِيُّ لَمْ تَصْدُقْ كَخَطْفَةِ
بَارِقِ
ابْنُ صُرَّبَعْرَ الشَّاعِرُ اسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
الْفَضْلِ أَبُو مَنْصُورٍ الْكَاتِبُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ صُرَّبَعْرُ، وَكَانَ
نِظَامُ الْمُلْكِ يَقُولُ لَهُ: أَنْتَ صُرَّدُرُّ لَا صُرَّبَعْرُ وَقَدْ
هَجَاهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ:
لَئِنْ نَبَزَ النَّاسُ قِدَمًا أَبَاكَ وَسَمَّوْهُ مِنْ شُحِّهِ صُرَّبَعْرَا
فَإِنَّكَ تَنْثُرُ مَا صَرَّهُ عُقُوقًا لَهُ وَتُسَمِّيهِ شِعْرًا
قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا ظُلْمٌ فَاحِشٌ فَإِنَّ شِعْرَهُ فِي غَايَةِ
الْحُسْنِ ثُمَّ أَوْرَدَ لَهُ قِطَعًا حِسَانًا مِنْ شِعْرِهِ فَمِنْ ذَلِكَ
قَوْلُهُ:
إِيهِ أَحَادِيثَ نَعْمَانٍ وَسَاكِنِهِ إِنَّ الْحَدِيثَ عَنِ الْأَحْبَابِ
أَسْمَارُ
أُفَتِّشُ الرِّيحَ عَنْكُمُ كُلَّمَا نَفَحَتْ مِنْ نَحْوِ أَرْضِكُمُ نَكْبَاءُ
مِعْطَارُ
قَالَ: وَقَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنِ ابْنِ بِشْرَانَ
وَغَيْرِهِ وَحَدَّثَ كَثِيرًا، وَرَكِبَ يَوْمًا دَابَّةً فَتَرَدَّى هُوَ
وَالدَّابَّةُ فِي بِئْرٍ فَمَاتَا وَدُفِنَ بِبَابِ أَبْرَزَ، وَذَلِكَ فِي
صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قَرَأْتُ بِخَطِّ ابْنِ
عَقِيلٍ كَانَ صُرَّبَعْرُ خَازِنًا بِالرُّصَافَةِ وَكَانَ يُنْبَزُ
بِالْإِلْحَادِ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ شَيْئًا مِنْ أَشْعَارِهِ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي فَنِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي
بِاللَّهِ أَبُو الْحُسَيْنِ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْغَرِيقِ وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَسَمِعَ الدَّارَقُطْنِيَّ وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَابْنَ شَاهِينَ، وَتَفَرَّدَ عَنْهُ وَسَمِعَ خَلْقًا آخَرِينَ وَكَانَ ثِقَةً دَيِّنًا كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ رَاهِبُ بَنِي هَاشِمٍ، وَكَانَ غَزِيرَ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ رَقِيقَ الْقَلْبِ غَزِيرَ الدَّمْعَةِ، رَحَلَ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ مِنَ الْآفَاقِ، ثُمَّ ثَقُلَ سَمْعُهُ فَكَانَ يَقْرَأُ عَلَى النَّاسِ، وَذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، وَخَطَبَ وَلَهُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهِدَ عِنْدَ الْحُكَّامِ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَوَلِيَ الْحُكْمَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَقَامَ خَطِيبًا بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ وَجَامِعِ الرُّصَافَةِ سِتًّا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَحَكَمَ سِتًّا وَخَمْسِينَ سَنَةً وَتُوُفِّيَ فِي سَلْخِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ تِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَوْمُ جِنَازَتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا وَرُئِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ جَلَسَ الْخَلِيفَةُ جُلُوسًا عَامًّا وَعَلَى رَأْسِهِ حَفِيدُهُ
الْأَمِيرُ عُدَّةُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ الْمُقْتَدِي
بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ فِي
غَايَةِ الْحُسْنِ، وَحَضَرَ الْأُمَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ، فَعَقَدَ الْخَلِيفَةُ
بِيَدِهِ لِوَاءَ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَكَثُرَ
الزِّحَامُ يَوْمَهَا حَتَّى هَنَّأَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامَةِ.
غَرَقُ بَغْدَادَ
فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ جَاءَ مَطَرٌ عَظِيمٌ وَسَيْلٌ قَوِيٌّ كَثِيرٌ،
وَزَادَتْ دِجْلَةُ حَتَّى غَرَّقَتْ جَانِبًا كَبِيرًا مِنْ بَغْدَادَ حَتَّى
خَلَصَ ذَلِكَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَخَرَجَ الْجَوَارِي حَاسِرَاتٍ حَتَّى
صِرْنَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ وَهَرَبَ الْخَلِيفَةُ مِنْ مَجْلِسِهِ،
فَلَمْ يَجِدْ طَرِيقًا يَسْلُكُهُ، فَحَمَلَهُ بَعْضُ الْخَدَمِ إِلَى التَّاجِ،
وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا عَظِيمًا وَأَمْرًا هَائِلًا وَهَلَكَ لِلنَّاسِ أَمْوَالٌ
عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ تَحْتَ الرَّدْمِ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ
وَالْقَرَايَا، وَجَاءَ عَلَى وَجْهِ السَّيْلِ مِنَ الْأَخْشَابِ وَالْوُحُوشِ
وَالْحَيَّاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، وَسَقَطَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ فِي
الْجَانِبَيْنِ وَغَرِقَتْ قُبُورٌ كَثِيرَةٌ ; مِنْ ذَلِكَ قَبْرُ
الْخَيْزُرَانِ، وَمَقْبَرَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَدَخَلَ
الْمَاءُ مِنْ
شَبَابِيكِ
الْمَارَسْتَانِ الْعَضُدِيِّ، وَأَتْلَفَ السَّيْلُ فِي الْمَوْصِلِ شَيْئًا
كَثِيرًا، وَصَدَمَ سُورَ سِنْجَارَ فَهَدَمَهُ، وَأَخَذَ بَابَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ
إِلَى مَسِيرَةِ أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا جَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بِأَرْضِ الْبَصْرَةِ
فَانْجَعَفَ مِنْهَا نَحْوٌ مِنْ خَمْسَةِ آلَافِ نَخْلَةٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ السِّمْنَانِيُّ الْحَنَفِيُّ
الْأَشْعَرِيُّ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا مِنَ الْغَرِيبِ. تَزَوَّجَ
قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيُّ ابْنَتَهُ وَوَلَّاهُ
نِيَابَةَ الْقَضَاءِ، وَكَانَ ثِقَةً نَبِيلًا مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ جَاوَزَ
الثَّمَانِينَ.
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ
الْكَتَّانِيُّ الْحَافِظُ الدِّمَشْقِيُّ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَتَبَ كَثِيرًا
وَصَنَّفَ فَأَجَادَ وَأَفَادَ، وَلَهُ فِي الْفَضَائِلِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ
غَرِيبَةٌ، وَبَعْضُ مَا يَرْوِيهِ مَوْضُوعٌ، وَلَا يُنَبَّهُ عَلَيْهِ مَعَ
أَنَّهُ كَانَ ثِقَةً ضَابِطًا حَافِظًا صَدُوقًا مُسْتَقِيمَ الطَّرِيقَةِ
وَالِاعْتِقَادِ،
سَلَفِيَّ
الْمَذْهَبِ، وَقَدْ كَتَبَ عَنْهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ. رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو
بَكْرٍ الْعَطَّارُ الْأَصْبَهَانِيُّ الْحَافِظُ مُسْتَمْلِي أَبِي نُعَيْمٍ،
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ يُمْلِي مِنْ حِفْظِهِ، وَكَتَبَ عَنْهُ الْخَطِيبُ
حَدِيثًا وَاحِدًا، وَكَانَ عَظِيمًا فِي بَلَدِهِ ثِقَةً نَبِيلًا جَلِيلًا،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَاوَرْدِيَّةُ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهَا كَانَتْ عَجُوزًا صَالِحَةً
مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ تَعِظُ النِّسَاءَ بِهَا، وَكَانَتْ تَكْتُبُ وَتَقْرَأُ
وَمَكَثَتْ خَمْسِينَ سَنَةً مِنْ عُمْرِهَا لَا تُفْطِرُ نَهَارًا وَلَا تَنَامُ
لَيْلًا، وَتَقْتَاتُ بِخُبْزِ الْبَاقِلَّاءِ، وَتَأْكُلُ مِنَ التِّينِ
الْيَابِسِ لَا الرَّطْبِ، وَشَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الْعِنَبِ وَالزَّيْتِ،
وَرُبَّمَا أَكَلَتْ مِنَ اللَّحْمِ الْيَسِيرَ، وَحِينَ تُوُفِّيَتْ تَبِعَ
أَكْثَرُ أَهْلِ الْبَلَدِ جِنَازَتَهَا، وَدُفِنَتْ فِي مَقَابِرِ الصَّالِحِينَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا مَرِضَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ مَرَضًا شَدِيدًا
انْتَفَخَ مِنْهُ حَلْقُهُ وَامْتَنَعَ مِنَ الْفَصْدِ، فَلَمْ يَزَلِ الْوَزِيرُ
فَخْرُ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِ حَتَّى افْتَصَدَ فَصَلَحَ الْحَالُ، وَكَانَ
النَّاسُ قَدِ انْزَعَجُوا فَفَرِحُوا بِعَافِيَتِهِ.
وَجَاءَ فِي هَذَا الشَّهْرِ سَيْلٌ عَظِيمٌ، قَاسَى النَّاسُ مِنْهُ شِدَّةً
عَظِيمَةً، وَلَمْ تَكُنْ أَكْثَرُ أَبْنِيَةِ بَغْدَادَ تَكَامَلَتْ مِنَ
الْغَرَقِ الْأَوَّلِ فَخَرَجَ النَّاسُ إِلَى الصَّحْرَاءِ فَجَلَسُوا عَلَى
رُءُوسِ التُّلُولِ تَحْتَ الْمَطَرِ.
وَوَقَعَ وَبَاءٌ عَظِيمٌ بِالرَّحْبَةِ، فَمَاتَ مِنْ أَهْلِهَا قَرِيبٌ مِنْ
عَشَرَةِ آلَافٍ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ بِوَاسِطٍ وَالْبَصْرَةِ وَخُوزِسْتَانَ
وَأَرْضِ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
صِفَةُ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ:
افْتَصَدَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ
مَاشَرَا كَانَتْ تَعْتَادُهُ مِنْ عَامِ الْغَرَقِ، ثُمَّ نَامَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَانْفَجَرَ فِصَادُهُ، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ سَقَطَتْ قُوَّتُهُ وَحَصَلَ
الْإِيَاسُ مِنْهُ، فَاسْتَدْعَي بِحَفِيدِهِ وَوَلِيِّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ
عُدَّةِ الدِّينِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَائِمِ
وَأَحْضَرَ إِلَيْهِ الْقَاضِيَ وَالنُّقَبَاءَ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيْهِ ثَانِيًا
بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَشَهِدُوا، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ
لَيْلَةَ
الْخَمِيسِ
الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ عَنْ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً وَثَمَانِيَةِ
أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ أَرْبَعًا
وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا،
وَلَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ قَبْلَهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَقَدْ
جَاوَزَتْ خِلَافَةُ أَبِيهِ قَبْلَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَكَانَ مَجْمُوعُ
أَيَّامِهِمَا خَمْسًا وَثَمَانِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَذَلِكَ مُقَارِبٌ
لِدَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ كُلِّهَا، وَقَدْ كَانَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ
جَمِيلًا مَلِيحَ الْوَجْهِ أَبْيَضَ مُشْرَبًا حُمْرَةً، فَصِيحًا وَرِعًا
زَاهِدًا أَدِيبًا كَاتِبًا بَلِيغًا شَاعِرًا، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ
مِنْ شِعْرِهِ وَهُوَ بِحَدِيثَةِ عَانَةَ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَكَانَ عَادِلًا
كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَغَسَّلَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْحَنْبَلِيُّ عَنْ
وَصِيَّةِ الْخَلِيفَةِ بِذَلِكَ، فَعُرِضَ عَلَى الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ مَا
هُنَالِكَ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْأَمْوَالِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا،
وَصُلِّيَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ الْمَذْكُورِ
وَدُفِنَ عِنْدَ أَجْدَادِهِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الرُّصَافَةِ فَقَبْرُهُ يُزَارُ
إِلَى الْآنِ، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ لِمَوْتِهِ، وَعُلِّقَتِ الْمُسُوحُ
وَنَاحَتْ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْهَاشِمِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ، وَجَلَسَ الْوَزِيرُ
ابْنُ جَهِيرٍ وَابْنُهُ لِلْعَزَاءِ عَلَى الْأَرْضِ، وَخَرَقَ النَّاسُ
ثِيَابَهُمْ، وَكَانَ يَوْمًا عَصِيبًا، وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ، وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ بَنِي الْعَبَّاسِ دِينًا وَاعْتِقَادًا
وَدَوْلَةً، وَقَدِ امْتُحِنَ مِنْ بَيْنِهِمْ بِفِتْنَةِ الْبَسَاسِيرِيِّ
الَّتِي اقْتَضَتْ إِخْرَاجَهُ مِنْ دَارِهِ وَمُفَارَقَتَهُ أَهْلَهُ
وَأَوْلَادَهُ وَوَطَنَهُ، فَأَقَامَ بِحَدِيثَةِ عَانَةَ سَنَةً كَامِلَةً، ثُمَّ
أَعَادَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ نِعْمَتَهُ وَخِلَافَتَهُ. كَمَا قَالَ
الشَّاعِرُ:
فَأَصْبَحُوا
قَدْ أَعَادَ اللَّهُ نِعْمَتَهُمْ إِذْ هُمْ قُرَيْشٌ وَإِذْ مَا مِثْلُهُمْ
بَشَرُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ فِي ذَلِكَ سَلَفٌ صَالِحٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ
فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ
وَقَدْ ذَكَرْنَا مُلَخَّصَ مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي سُورَةِ " ص
" وَبَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَبَّاسِيَّةِ
وَالْفِتْنَةِ الْبَسَاسِيرِيَّةِ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ وَإِحْدَى وَخَمْسِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
خِلَافَةُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ
وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عُدَّةُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَمِيرِ
ذَخِيرَةِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ بْنِ
الْقَادِرِ الْعَبَّاسِيُّ، وَأُمُّهُ أَرْمِنِيَّةٌ تُسَمَّى أُرْجُوانَ وَتُدْعَى
قُرَّةَ الْعَيْنِ، وَأَدْرَكَتْ خِلَافَتَهُ وَخِلَافَةَ وَلَدَيْهِ
الْمُسْتَظْهِرِ وَالْمُسْتَرْشِدِ. وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ تُوُفِّيَ وَهُوَ
حَمْلٌ، فَحِينَ وُلِدَ ذَكَرًا فَرِحَ بِهِ جَدُّهُ وَالْمُسْلِمُونَ فَرَحًا
شَدِيدًا، إِذْ حَفِظَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَقَاءَ الْخِلَافَةِ فِي
الْبَيْتِ الْقَادِرِيِّ ; لِأَنَّ مَنْ عَدَاهُمْ يَبْتَذِلُونَ فِي الْأَسْوَاقِ
مَعَ الْعَوَامِّ وَكَانَتِ الْقُلُوبُ تَنْفِرُ مِنْ تَوْلِيَةِ مِثْلِ أُولَئِكَ
الْخِلَافَةَ عَلَى النَّاسِ، وَنَشَأَ هَذَا فِي حِجْرِ جَدِّهِ الْقَائِمِ
بِأَمْرِ اللَّهِ يُرَبِّيهِ بِمَا يَلِيقُ بِأَمْثَالِهِ، وَيُدَرِّبُهُ عَلَى
أَحْسَنِ السَّجَايَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَكَانَ عُمْرُ الْمُقْتَدِي حِينَ وَلِيَ الْخِلَافَةَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ
فِي غَايَةِ الْجَمَالِ خَلْقًا، وَخُلُقًا وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَجَلَسَ
فِي دَارِ الشَّجَرَةِ بِقَمِيصٍ أَبْيَضَ وَعِمَامَةٍ بَيْضَاءَ لَطِيفَةٍ
وَطَرْحَةِ قَصَبٍ دُرِّيَّةٍ، وَجَاءَ الْوُزَرَاءُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْأَشْرَافُ
وَوُجُوهُ النَّاسِ فَبَايَعُوهُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ الشَّرِيفُ
أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْحَنْبَلِيُّ
وَأَنْشَدَهُ
قَوْلَ الشَّاعِرِ:
إِذَا سَيِّدٌ مِنَّا مَضَى قَامَ سَيِّدٌ
ثُمَّ أُرْتِجَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَدْرِ مَا بَعْدَهُ فَقَالَ الْخَلِيفَةُ:
قَئُولٌ لِمَا قَالَ الْكِرَامُ فَعُولُ
وَبَايَعَهُ مِنْ شُيُوخِ الْعِلْمِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ،
وَالشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ الشَّافِعِيَّانِ، وَالشَّيْخُ أَبُو
مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وَبَرَزَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْعَصْرَ
ثُمَّ بَعْدَ سَاعَةٍ أُخْرِجَ تَابُوتُ جَدِّهِ بِسُكُونٍ وَوَقَارٍ مِنْ غَيْرِ
صُرَاخٍ وَلَا نَوْحٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ وَحُمِلَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ الْمُقْتَدِي بِاللَّهِ شَهْمًا شُجَاعًا، أَيَّامُهُ
كُلُّهَا مُبَارَكَةٌ وَالرِّزْقُ دَارٌّ، وَالْخِلَافَةُ مُعَظَّمَةٌ جِدًّا،
وَتَصَاغَرَتِ الْمُلُوكُ لَهُ وَتَضَاءَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَخُطِبَ لَهُ
بِالْحَرَمَيْنِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالشَّامَاتِ كُلِّهَا، وَاسْتَرْجَعَ
الْمُسْلِمُونَ الرُّهَا وَأَنْطَاكِيَةَ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ، وَعُمِّرَتْ
بَغْدَادُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْبِلَادِ وَاسْتَوْزَرَ ابْنَ جَهِيرٍ ثُمَّ أَبَا
شُجَاعٍ ثُمَّ أَعَادَ ابْنَ جَهِيرٍ وَقَاضِيَهُ الدَّامَغَانِيُّ ثُمَّ أَبُو
بَكْرٍ الشَّامِيُّ وَهَؤُلَاءِ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ وَالْوُزَرَاءِ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
وَفِي شَعْبَانَ أَخْرَجَ الْمُفْسِدَاتِ مِنَ الْخَوَاطِئِ مِنْ بَغْدَادَ عَلَى
حُمُرَاتٍ يُنَادِينَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ بِالْعَارِ وَالْفَضِيحَةِ، وَخَرَّبَ
دُورَهُنَّ وَأَسْكَنَهُنَّ الْجَانِبَ الْغَرْبِيَّ، وَخَرَّبَ أَبْرِجَةَ
الْحَمَامِ وَمَنَعَ مِنَ اللَّعِبِ بِهَا، وَأَلْزَمَ النَّاسَ بِالْمَآزِرِ فِي
الْحَمَّامَاتِ،
وَمَنَعَ
أَصْحَابَ الْحَمَّامَاتِ أَنْ يَصْرِفُوا فَضَلَاتِهَا إِلَى دِجْلَةَ،
وَأَلْزَمَهُمْ بِحَفْرِ آبَارٍ لِتِلْكَ الْمِيَاهِ الْقَذِرَةِ صِيَانَةً
لِمَاءِ الشُّرْبِ.
وَفِي شَوَّالٍ وَقَعَتْ نَارٌ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ فِي بَغْدَادَ، حَتَّى
فِي دَارِ الْخِلَافَةِ فَأَحْرَقَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الدُّورِ
وَالدَّكَاكِينِ.
وَوَقَعَ بِوَاسِطٍ حَرِيقٌ فِي تِسْعَةِ أَمَاكِنَ، وَاحْتَرَقَ فِيهَا
أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ دَارًا وَسِتَّةُ خَانَاتٍ، وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ
ذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا عُمِلَ الرَّصْدُ لِلسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْمُنَجِّمِينَ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ أَمْوَالًا
كَثِيرَةً وَبَقِيَ الرَّصْدُ دَائِرًا حَتَّى مَاتَ السُّلْطَانُ فَبَطَلَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ أُعِيدَتِ الْخُطْبَةُ بِمَكَّةَ لِلْمِصْرِيِّينَ
وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَذَلِكَ لَمَّا قَوِيَ أَمْرُ صَاحِبِ
مِصْرَ بَعْدَمَا كَانَ ضَعِيفًا بِسَبَبِ غَلَاءِ بَلَدِهِ، فَلَمَّا أَرْخَصَتْ
تَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَيْهَا وَطَابَ الْعَيْشُ بِهَا، وَقَدْ كَانَتِ
الْخُطْبَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ بِمَكَّةَ أَرْبَعَ سِنِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ،
وَسَتَعُودُ كَمَا كَانَتْ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ انْجَفَلَ أَهْلُ السَّوَادِ مِنْ شِدَّةِ الْوَبَاءِ
وَقِلَّةِ مَاءِ دِجْلَةَ وَنَقْصِهَا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الشَّرِيفُ أَبُو
طَالِبٍ الْحُسَيْنِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ
لِلْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا
شَيْئًا مِنْ تَرْجَمَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ
وَفَاتِهِ.
رَحِمَهُ اللَّهُ.
الدَّاوُدِيُّ
رَاوِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي
طَلْحَةَ الدَّاوُدِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
سَمِعَ الْكَثِيرَ وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ، وَصَحِبَ أَبَا عَلِيٍّ
الدَّقَّاقَ وَأَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ، وَكَتَبَ الْكَثِيرَ
وَدَرَّسَ وَأَفْتَى وَصَنَّفَ وَوَعَظَ النَّاسَ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي
النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ كَثِيرَ الذِّكْرِ لَا يَفْتُرُ
لِسَانُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، دَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا الْوَزِيرُ
نِظَامُ الْمُلْكِ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: إِنَّ
اللَّهَ قَدْ سَلَّطَكَ عَلَى عِبَادِهِ فَانْظُرْ كَيْفَ تُجِيبُهُ إِذَا
سَأَلَكَ عَنْهُمْ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبُوشَنْجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ
جَاوَزَ التِّسْعِينَ. وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
كَانَ فِي الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ نُورٌ فَمَضَى النُّورُ وَادْلَهَمَّ
الظَّلَامُ فَسَدَ النَّاسُ وَالزَّمَانُ جَمِيعًا
فَعَلَى النَّاسِ وَالزَّمَانِ السَّلَامُ
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الطَّيِّبِ
الْبَاخَرْزِيُّ الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، اشْتَغَلَ أَوَّلًا عَلَى الشَّيْخِ
أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ ثُمَّ عَدَلَ إِلَى الْكِتَابَةِ
وَالشِّعْرِ
فَفَاقَ أَقْرَانَهُ وَلَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ فِيهِ:
وَإِنِّي لَأَشْكُو لَسْعَ أَصْدَاغِكِ الَّتِي عَقَارِبُهَا فِي وَجْنَتَيْكِ
تَحُومُ
وَأَبْكِي لِدُرِّ الثَّغْرِ مِنْكِ وَلِي أَبٌ فَكَيْفَ يُدِيمُ الضَّحِكَ وَهْوَ
يَتِيمُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: جَاءَ جَرَادٌ فِي شَعْبَانَ بِعَدَدِ الرَّمْلِ
وَالْحَصَى فَأَكَلَ الْغَلَّاتِ وَأَكْدَى أَكْثَرُ النَّاسِ وَجَاعُوا فَطُحِنَ
الْخَرُّوبُ بِدَقِيقِ الدُّخْنِ فَأَكَلُوهُ، وَوَقَعَ الْوَبَاءُ ثُمَّ مَنَعَ
اللَّهُ الْجَرَادَ مِنَ الْفَسَادِ، وَكَانَ يَمُرُّ وَلَا يَضُرُّ، فَرَخُصَتِ
الْأَسْعَارُ. قَالَ: وَوَقَعَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِدِمَشْقَ وَاسْتَمَرَّ ثَلَاثَ
سِنِينَ.
وَفِيهَا مَلَكَ نَصْرُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ مَدِينَةَ مَنْبِجَ
وَأَجْلَى عَنْهَا الرُّومَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ الْأَقْسِيسُ مَدِينَةَ
دِمَشْقَ وَهُزِمَ عَنْهَا الْمُعَلَّى بْنُ حَيْدَرَةَ نَائِبُ الْمُسْتَنْصِرِ
الْعُبَيْدِيُّ إِلَى مَدِينَةِ بَانْيَاسَ، وَخُطِبَ فِيهَا لِلْمُقْتَدِي
وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ الْمِصْرِيِّينَ عَنْهَا إِلَى الْآنِ، فَاسْتَدْعَى
الْمُسْتَنْصِرُ نَائِبَهُ فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي السِّجْنِ.
وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُقْطَعُ الْكُوفَةِ وَهُوَ الْأَمِيرُ خُتْلُغُ
بْنُ كَنْتِكِينَ التُّرْكِيُّ وَيُعْرَفُ بِالطَّوِيلِ. وَكَانَ قَدْ شَرَّدَ
خَفَاجَةَ فِي الْبِلَادِ وَقَهَرَهُمْ، وَلَمْ يَصْحَبْ مَعَهُ سِوَى سِتَّةَ
عَشَرَ تُرْكِيًّا، فَوَصَلَ سَالِمًا إِلَى مَكَّةَ، وَلَمَّا نَزَلَ بِبَعْضِ
دُورِهَا كَبَسَهُ بَعْضُ الْعَبِيدِ فَقَتَلَ فِيهِمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً،
وَهَزَمَهُمْ هَزِيمَةً شَنِيعَةً، ثُمَّ إِنَّمَا كَانَ يَنْزِلُ بَعْدَ ذَلِكَ
بِالزَّاهِرِ قَالَهُ ابْنُ السَّاعِي فِي " تَارِيخِهِ " وَأُعِيدَتِ
الْخُطْبَةُ فِي ذِي الْحِجَّةِ بِمَكَّةَ لِلْعَبَّاسِيِّينَ، وَقُطِعَتْ
خُطْبَةُ الْمِصْرِيِّينَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ أَبِي
مُوسَى أَبُو تَمَّامِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ ابْنُ الْقَاضِي أَبِي عَلِيٍّ
الْهَاشِمِيُّ نَقِيبُ الْهَاشِمِيِّينَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الشَّرِيفِ أَبِي
جَعْفَرِ بْنِ أَبِي مُوسَى الْفَقِيهِ الْحَنْبَلِيِّ، رَوَى الْحَدِيثَ وَسَمِعَ
مِنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدُوسٍ أَبُو بَكْرٍ الصَّفَّارُ
مِنْ أَهْلِ
نَيْسَابُورَ
سَمِعَ الْحَاكِمَ وَأَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ وَخَلْقًا وَتَفَقَّهَ
عَلَى الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ وَكَانَ يَخْلُفُهُ فِي
حَلْقَتِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَيْضَاوِيُّ الشَّافِعِيُّ خَتَنُ أَبِي الطَّيِّبِ
الطَّبَرِيِّ عَلَى ابْنَتِهِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ ثِقَةً خَيِّرًا،
تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا وَتَقَدَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ الشَّيْخُ
أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الدَّامَغَانِيُّ مَأْمُومًا، وَدُفِنَ بِدَارِهِ فِي قَطِيعَةِ الْكَرْخِ.
مُحْمُودُ بْنُ نَصْرِ بْنِ صَالِحٍ
أَمِيرُ حَلَبَ وَكَانَ قَدْ مَلَكَهَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَكَانَ
مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ شَكْلًا وَفِعْلًا.
مَسْعُودُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُحْسِنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ
أَبُو جَعْفَرٍ الْبَيَاضِيُّ الشَّاعِرُ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
لَيْسَ لِي صَاحِبٌ مُعِينٌ سِوَى اللَّيْ لِ إِذَا طَالَ بِالصُّدُودِ عَلَيَّا
أَنَا أَشْكُو بُعْدَ الْحَبِيبِ إِلَيْهِ
وَهْوَ يَشْكُو بُعْدَ الصَّبَاحِ إِلَيَّا
وَلَهُ
أَيْضًا:
يَا مَنْ لَبِسْتُ لِهَجْرِهِ ثَوْبَ الضَّنَا حَتَّى خَفِيتُ بِهِ عَنِ
الْعُوَّادِ
وَأَنِسْتُ بِالسَّهَرِ الطَّوِيلِ فَأُنْسِيَتْ أَجْفَانُ عَيْنِي كَيْفَ كَانَ
رُقَادِي
إِنْ كَانَ يُوسُفُ بِالْجَمَالِ مُقَطِّعَ الْ أَيْدِي فَأَنْتَ مُفَتِّتُ
الْأَكْبَادِ
الْوَاحِدِيُّ الْمُفَسِّرُ
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مَتُّويَهِ الْوَاحِدِيُّ، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَا أَدْرِي هَذِهِ
النِّسْبَةُ إِلَى مَاذَا وَهُوَ صَاحِبُ التَّفَاسِيرِ الثَّلَاثَةِ: "
الْبَسِيطِ " و " الْوَسِيطِ " و " الْوَجِيزِ " قَالَ:
وَمِنْهُ أَخَذَ الْغَزَّالِيُّ أَسْمَاءَ كُتُبِهِ، قَالَ: وَلَهُ " أَسْبَابُ
النُّزُولِ " و " التَّحْبِيرُ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى
" وَقَدْ شَرَحَ " دِيوَانَ الْمُتَنَبِّي " وَلَيْسَ فِي
شُرُوحِهِ مَعَ كَثْرَتِهَا مِثْلُهُ، قَالَ: وَقَدْ رُزِقَ السَّعَادَةَ فِي
تَصَانِيفِهِ وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى حُسْنِهَا، وَذَكَرَهَا الْمُدَرِّسُونَ
فِي دُرُوسِهِمْ، وَقَدْ أَخَذَ التَّفْسِيرَ عَنِ الثَّعَالِبِيِّ وَقَدْ مَرِضَ
مُدَّةً ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِنَيْسَابُورَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
نَاصِرُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
أَبُو مَنْصُورٍ التُّرْكِيُّ الْمُضَافِرِيُّ وَهُوَ وَالِدُ الْحَافِظِ
مُحَمَّدِ بْنِ نَاصِرٍ قَرَأَ الْقِرَاءَاتِ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَهُوَ الَّذِي
تَوَلَّى قِرَاءَةَ " التَّارِيخِ " عَلَى الْخَطِيبِ بِجَامِعِ
الْمَنْصُورِ وَكَانَ ظَرِيفًا صَبِيحًا مَاتَ شَابًّا دُونَ الثَّلَاثِينَ سَنَةً
فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا وَقَدْ رَثَاهُ بَعْضُهُمْ بِقَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ
أَوْرَدَهَا كُلَّهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ".
يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو الْقَاسِمِ
الْهَمَذَانِيُّ، سَمِعَ وَجَمَعَ وَصَنَّفَ وَانْتَشَرَتْ عَنْهُ الرِّوَايَةُ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مَرِضَ الْخَلِيفَةُ مَرَضًا شَدِيدًا فَأَرْجَفَ النَّاسُ بِهِ،
فَرَكِبَ حَتَّى رَآهُ النَّاسُ جَهْرَةً فَسَكَنُوا.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً كَثِيرَةً إِحْدَى
وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا وَنِصْفًا فَنَقَلَ النَّاسُ أَمْوَالَهُمْ، وَخِيفَ عَلَى
دَارِ الْخِلَافَةِ فَنُقِلَ تَابُوتُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْلًا إِلَى
التُّرَبِ بِالرُّصَافَةِ.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ
وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ ابْنَ الْقُشَيْرِيِّ قَدِمَ بَغْدَادَ
فَجَلَسَ يَتَكَلَّمُ فِي النِّظَامِيَّةِ، وَأَخَذَ يَذُمُّ الْحَنَابِلَةَ
وَيَنْسُبُهُمْ إِلَى التَّجْسِيمِ وَسَاعَدَهُ أَبُو سَعْدٍ الصُّوفِيُّ وَمَالَ
مَعَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَكَتَبَ إِلَى نِظَامِ
الْمُلْكِ يَشْكُو إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةَ وَيَسْأَلُهُ الْمَعُونَةَ، وَذَهَبَ
جَمَاعَةٌ إِلَى
الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي مُوسَى شَيْخِ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ فَدَافَعَ عَنْهُ آخَرُونَ، وَقُتِلَ رَجُلٌ خَيَّاطٌ مِنْ سُوقِ الثُّلَاثَاءِ، وَجُرِحَ آخَرُونَ وَثَارَتِ الْفِتْنَةُ، وَكَتَبَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ فَجَاءَ كِتَابُهُ إِلَى فَخْرِ الدَّوْلَةِ يُنْكِرُ مَا وَقَعَ وَيَكْرَهُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْمَدْرَسَةِ الَّتِي بَنَاهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَعَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَلَى الرِّحْلَةِ مِنْ بَغْدَادَ غَضَبًا مِمَّا وَقَعَ مِنَ الشَّرِّ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يُسَكِّنُهُ ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي سَعْدٍ الصُّوفِيِّ وَأَبِي نَصْرِ بْنِ الْقُشَيْرِيِّ عِنْدَ الْوَزِيرِ، فَأَقْبَلَ الْوَزِيرُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ يُعَظِّمُهُ فِي الْفِعَالِ وَالْمَقَالِ، وَقَامَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فَقَالَ: أَنَا ذَلِكَ الَّذِي كُنْتَ تَعْرِفُهُ وَأَنَا شَابٌّ وَهَذِهِ كُتُبِي فِي الْأُصُولِ، أَقُولُ فِيهَا خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيَّةِ ثُمَّ قَبَّلَ رَأْسَهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ: صَدَقْتَ، إِلَّا أَنَّكَ لَمَّا كُنْتَ فَقِيرًا لَمْ تُظْهِرْ لَنَا مَا فِي نَفْسِكِ، فَلَمَّا جَاءَ الْأَعْوَانُ وَالسُّلْطَانُ وَخَوَاجَا بُزُرْكُ يَعْنِي نِظَامَ الْمُلْكِ أَبْدَيْتَ مَا كَانَ مُخْتَفِيًا فِي نَفْسِكَ، وَقَامَ الشَّيْخُ أَبُو سَعْدٍ الصُّوفِيُّ فَقَبَّلَ رَأْسَ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ أَيْضًا، وَتَلَطَّفَ بِهِ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ مُغْضَبًا وَقَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ أَمَّا الْفُقَهَاءُ إِذَا تَكَلَّمُوا فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَلَهُمْ فِيهَا مَدْخَلٌ، وَأَمَّا أَنْتَ فَصَاحِبُ لَهْوٍ وَسَمَاعٍ وَتَعْبِيرٍ فَمَنْ زَاحَمَكَ مِنَّا عَلَى بَاطِلِكَ؟ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الْوَزِيرُ: أَيُّ صُلْحٍ بَيْنَنَا، وَنَحْنُ نُوجِبُ مَا نَعْتَقِدُهُ وَهُمْ يُحَرِّمُونَ؟! وَهَذَا جَدُّ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمُ، وَالْقَادِرُ قَدْ أَظْهَرَا اعْتِقَادَهُمَا لِلنَّاسِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالسَّلَفِ وَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا وَافَقَ عَلَيْهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَالْخُرَاسَانِيُّونَ وَقُرِئَ عَلَى النَّاسِ فِي الدَّوَاوِينِ
كُلِّهَا،
فَأَرْسَلَ الْوَزِيرُ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعْلِمُهُ بِمَا جَرَى فَجَاءَ
الْجَوَابُ بِشُكْرِ الْجَمَاعَةِ وَخُصُوصًا الشَّرِيفَ أَبَا جَعْفَرٍ، ثُمَّ
اسْتُدْعِيَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ وَالتَّبَرُّكِ
بِدُعَائِهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفَى ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ
فِي النَّاسِ بِبَغْدَادَ وَوَاسِطٍ وَالسَّوَادِ وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ
الشَّامَ كَذَلِكَ
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أُزِيلَتِ الْمُنْكَرَاتُ وَالْبَغَايَا بِبَغْدَادَ
وَهَرَبَ الْفُسَّاقُ مِنْهَا، وَفِيهَا مَلَكَ حَلَبَ نَصْرُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ
مِرْدَاسٍ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ
وَفِيهَا تَزَوَّجَ الْأَمِيرُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ فَرَامَرْزَ
بْنِ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ كَالَوَيْهِ السِّتَّ أَرْسَلَانَ خَاتُونَ بِنْتَ
دَاوُدَ عَمَّةَ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، وَكَانَتْ زَوْجَةَ الْقَائِمِ
بِأَمْرِ اللَّهِ
وَفِيهَا حَاصَرَ الْأَقْسِيسُ صَاحِبُ دِمَشْقَ مِصْرَ وَضَيَّقَ عَلَى
صَاحِبِهَا الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى دِمَشْقَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْأَمِيرُ خُتْلُغُ التُّرْكِيُّ مُقْطَعُ الْكُوفَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَسْبَهْدُوسِتُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو مَنْصُورٍ الدَّيْلَمِيُّ
الشَّاعِرُ، لَقِيَ
أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْحَجَّاجِ وَعَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ نُبَاتَةَ
وَغَيْرَهُمَا مِنَ الشُّعَرَاءِ، وَكَانَ شِيعِيًّا فَتَابَ وَقَالَ قَصِيدَةً
فِي ذَلِكَ مِنْهَا:
وَإِذَا سُئِلْتُ عِنِ اعْتِقَادِي قُلْتُ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مَذَاهِبُ
الْأَبْرَارِ وَأَقُولُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ
صِدِّيقُهُ وَأَنِيسُهُ فِي الْغَارِ ثُمَّ الثَّلَاثَةُ بَعْدَهُ خَيْرُ الْوَرَى
أَكْرِمْ بِهِمْ مِنْ سَادَةٍ أَطْهَارِ هَذَا اعْتِقَادِي وَالَّذِي أَرْجُو بِهِ
فَوْزِي وَعِتْقِي مِنْ عَذَابِ النَّارِ
طَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَابَشَاذَ أَبُو الْحَسَنِ الْمِصْرِيُّ النَّحْوِيُّ
سَقَطَ مِنْ سَطْحِ جَامِعِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِمِصْرَ فَمَاتَ مِنْ
سَاعَتِهِ وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ:
كَانَ بِمِصْرَ إِمَامُ عَصْرِهِ فِي النَّحْوِ وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ
الْمُفِيدَةُ مِنْ ذَلِكَ " مُقَدِّمَتُهُ "، وَ " شَرْحُهَا
"، وَ " شَرْحُ الْجُمَلِ " لِلزَّجَّاجِىِّ. قَالَ: وَكَانَتْ
وَظِيفَتُهُ بِمِصْرَ أَنَّهُ لَا تُكْتَبُ الرَّسَائِلُ فِي دِيوَانِ
الْإِنْشَاءِ إِلَّا عُرِضَتْ عَلَيْهِ فَيُصْلِحُ مِنْهَا مَا فِيهِ خَلَلٌ ثُمَّ
تُنْفَذُ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي عُيِّنَتْ لَهَا، وَكَانَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ
مَعْلُومٌ وَرَاتِبٌ جَيِّدٌ.
قَالَ: فَاتَّفَقَ أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ يَوْمًا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ
طَعَامًا، فَجَاءَهُ قِطٌّ فَرَمَوْا لَهُ شَيْئًا فَأَخَذَهُ وَذَهَبَ سَرِيعًا
ثُمَّ أَقْبَلَ فَرَمَوْا لَهُ شَيْئًا أَيْضًا فَانْطَلَقَ بِهِ سَرِيعًا ثُمَّ
جَاءَ فَرَمَوْا لَهُ شَيْئًا أَيْضًا فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَا
يَأْكُلُ
هَذَا كُلَّهُ، فَتَتَبَّعُوهُ فَإِذَا هُوَ يَذْهَبُ بِهِ إِلَى قِطٍّ آخَرَ
أَعْمَى فِي سَطْحٍ هُنَاكَ، فَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ الشَّيْخُ: يَا
سُبْحَانَ اللَّهِ! هَذَا حَيَوَانٌ بَهِيمٌ قَدْ سَاقَ اللَّهُ إِلَيْهِ رِزْقَهُ
عَلَى يَدِ غَيْرِهِ أَفَلَا يَرْزُقُنِي وَأَنَا عَبْدُهُ؟! ثُمَّ تَرَكَ مَا
كَانَ لَهُ مِنَ الرَّاتِبِ وَجَمَعَ حَوَاشِيَهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ
وَالِاشْتِغَالِ وَالْمُلَازَمَةِ فِي غُرْفَةٍ فِي جَامِعِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ
إِلَى أَنْ مَاتَ، وَقَدْ جَمَعَ تَعْلِيقَةً فِي النَّحْوِ قَرِيبًا مِنْ
خَمْسَةَ عَشَرَ مُجَلَّدًا، فَأَصْحَابُهُ كَابْنِ بَرِيٍّ وَغَيْرِهِ
يَنْقُلُونَ مِنْهَا وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا وَيُسَمُّونَهَا " تَعْلِيقَ
الْغُرْفَةِ ".
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ الْمُجَمِّعِ بْنِ مُجِيبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ هَزَارْمَرْدَ،
أَبُو مُحَمَّدٍ الصَّرِيفِينِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْمُعَلِّمِ، أَحَدُ
مَشَايِخِ الْحَدِيثِ الْمُسْنِدِينَ الْمَشْهُورِينَ تَفَرَّدَ عَنْ جَمَاعَةٍ
مِنَ الْمَشَايِخِ لِطُولِ عُمْرِهِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ بِالْجَعْدِيَّاتِ
عَنِ ابْنِ حَبَابَةَ عَنْ أَبَى الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
الْجَعْدِ وَهُوَ سَمَاعُنَا، وَرَحَلَ إِلَيْهِ النَّاسُ بِسَبَبِهِ، وَسَمِعَ
عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ، مِنْهُمُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ
الْخَطِيبُ، وَكَانَ ثِقَةً مَحْمُودَ الطَّرِيقَةِ صَافِيَ الطَّوِيَّةِ
تُوُفِّيَ بِصَرِيفِينَ، فِي جُمَادَى الْأُولَى عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
حَيَّانُ
بْنُ خَلَفِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ
وَهْبِ بْنِ حَيَّانَ أَبُو مَرْوَانَ الْقُرْطُبِىُّ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ
صَاحِبُ " تَارِيخِ الْمَغْرِبِ " فِي سِتِّينَ مُجَلَّدًا، أَثْنَى
عَلَيْهِ الْحَافِظُ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ فِي فَصَاحَتِهِ وَصِدْقِهِ
وَبَلَاغَتِهِ. وَقَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: التَّهْنِئَةُ بَعْدَ ثَلَاثٍ
اسْتِخْفَافٌ بِالْمَوَدَّةِ وَالتَّعْزِيَةُ بَعْدَ ثَلَاثٍ إِغْرَاءٌ
بِالْمُصِيبَةِ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا
وَرَآهُ بَعْضُهُمْ فِي النَّوْمِ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ
اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي وَأَمَّا " التَّارِيخُ " فَنَدِمْتُ
عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بِلُطْفِهِ أَقَالَنِي وَعَفَا عَنِّي.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَاتِمٍ أَبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ
الْوَائِلِيُّ نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا وَائِلُ، مِنْ قُرَى
سِجِسْتَانَ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَجَمَعَ وَصَنَّفَ وَخَرَّجَ وَأَقَامَ
بِالْحَرَمِ، وَلَهُ كِتَابُ " الْإِبَانَةِ " فِي الْأُصُولِ وَلَهُ
يَدٌ فِي الْفُرُوعِ أَيْضًا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ كَانَ يُفَضِّلُهُ فِي
الْحِفْظِ عَلَى الصُّورِيِّ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْمَاطِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ سِكِّينَةَ وُلِدَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وَكَانَ كَثِيرَ السَّمَاعِ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعٍ
وَسَبْعِينَ سَنَةً.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَقَعَتْ صَاعِقَةٌ بِمَحَلَّةِ
التُّوثَةِ مِنَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ عَلَى نَخْلَتَيْنِ فِي مَسْجِدٍ
فَأَحْرَقَتْ أَعَالِيَهُمَا، وَصَعِدَ النَّاسُ فَأَطْفَئُوا النَّارَ وَنَزَلُوا
بِالسَّعَفِ وَهُوَ يَشْتَعِلُ نَارًا. قَالَ: وَوَرَدَ كِتَابٌ مِنْ نِظَامِ
الْمُلْكِ إِلَى الشَّيْخِ أَبَى إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ فِي جَوَابِ كِتَابِهِ
إِلَيْهِ فِي شَأْنِ الْحَنَابِلَةِ، ثُمَّ سَرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
وَمَضْمُونُهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُ الْمَذَاهِبِ وَلَا نَقْلُ
أَهْلِهَا عَنْهَا، وَالْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ هُوَ مَذْهَبُ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَمَحَلُّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، وَقَدْرُهُ
مَعْلُومٌ فِي السُّنَّةِ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ.
قَالَ: وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ وَبَيْنَ
فُقَهَاءِ النِّظَامِيَّةِ، وَحَمِيَ لِكُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ طَائِفَةٌ مِنَ
الْعَوَامِّ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ قَتِيلًا، ثُمَّ سَكَنَتِ
الْفِتْنَةُ.
قَالَ:
وَفِي تَاسِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ وُلِدَ لِلْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي وَلَدُهُ
الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ، وَزُيِّنَ الْبَلَدُ
وَجَلَسَ الْوَزِيرُ لِلْهَنَاءِ، ثُمَّ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ السَّادِسِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ آخَرُ وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ
هَارُونُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِيهَا وَلِيَ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشُ بْنُ أَلْبِ
أَرْسَلَانَ الشَّامَ وَحَاصَرَ حَلَبَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُقْطَعُ الْكُوفَةِ خُتْلُغُ، وَذَكَرَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْوَزِيرَ ابْنَ جَهِيرٍ كَانَ قَدْ عَمِلَ مِنْبَرًا
هَائِلًا ; لِتُقَامَ عَلَيْهِ الْخُطْبَةُ بِمَكَّةَ، فَحِينَ وَصَلَ إِلَيْهَا
إِذِ الْخُطْبَةُ قَدْ أُعِيدَتْ لِلْمِصْرِيِّينَ فَكُسِرَ ذَلِكَ الْمِنْبَرُ
وَأُحْرِقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ ابْنُ حُمَّدُوهْ أَبُو
بَكْرٍ الرَّزَّازُ الْمُقْرِئُ، آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ
سَمْعُونَ، وَقَدْ كَانَ ثِقَةً مُتَعَبِّدًا حَسَنَ الطَّرِيقَةِ، كَتَبَ عَنْهُ
الْخَطِيبُ وَقَالَ كَانَ صَدُوقًا تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
تِسْعٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ
النَّقُورِ الْبَزَّازُّ، أَحَدُ الْمُسْنِدِينَ الْمُعَمَّرِينَ، تَفَرَّدَ
بِنُسَخٍ كَثِيرَةٍ عَنِ ابْنِ حَبَابَةَ عَنِ الْبَغَوِيِّ عَنْ أَشْيَاخِهِ ;
كَنُسْخَةِ هُدْبَةَ وَكَامِلِ بْنِ طَلْحَةَ وَعُمَرَ بْنِ زُرَارَةَ وَأَبِي
السَّكَنِ الْبَلَدِيِّ، وَكَانَ مُكْثِرًا مُتَحَرِّيًا، وَكَانَ يَأْخُذُ عَلَى
إِسْمَاعِ حَدِيثِ طَالُوتَ بْنِ عَبَّادٍ دِينَارًا، وَقَدْ أَفْتَاهُ الشَّيْخُ
أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِىُّ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى إِسْمَاعِ
الْحَدِيثِ ; لِاشْتِغَالِهِ بِهِ عَنِ الْكَسْبِ تُوُفِّيَ عَنْ تِسْعٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو صَالِحٍ
الْمُؤَذِّنُ النَّيْسَابُورِىُّ الْحَافِظُ كَتَبَ الْكَثِيرَ وَجَمَعَ
وَصَنَّفَ، وكَتَبَ عَنْ أَلْفِ شَيْخٍ أَلْفَ حَدِيثٍ وَكَانَ يَعِظُ وَيُؤَذِّنُ
مَاتَ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو
الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْ أَبِي
حَفْصٍ الْكَتَّانِيِّ وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَوَى عَنْهُ الْخَطِيبُ
وَوَثَّقَهُ، تُوُفِّيَ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ
حَرْبٍ. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ - ابْنُ مَنْدَهْ - بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَي بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي عَبْدِ
اللَّهِ، الْإِمَامُ ابْنُ الْإِمَامِ، سَمِعَ أَبَاهُ وَابْنَ مَرْدَوَيْهِ
وَخَلْقًا فِي أَقَالِيمَ شَتَّى، سَافَرَ إِلَيْهَا وَجَمَعَ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَكَانَ ذَا وَقَارٍ وَسَمْتٍ حَسَنٍ وَاتِّبَاعٍ لِلسُّنَّةِ وَفَهْمٍ جَيِّدٍ،
كَثِيرَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يَخَافُ فِي
اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّنْجَانِيُّ
يَقُولُ: حَفِظَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ بِهِ، وَبِعَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ
الْهَرَوِيِّ، تُوُفِّيَ ابْنُ مَنْدَهْ هَذَا بِأَصْبَهَانَ عَنْ سَبْعٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يَعْلَمُهُمْ
إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ عَلِيٍّ
أَبُو الْقَاسِمِ الْهَمَذَانِيُّ، أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْفُقَهَاءِ
الْأَوْلِيَاءِ كَانَ يُلَقَّبُ بُنْجِيرَ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ
يَكْتُبُ لِلطَّلَبَةِ وَيَقْرَأُ لَهُمْ، تُوُفِّيَ بِالرَّيِّ فِي الْمُحَرَّمِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ إِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ.
الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ الْحَنْبَلِيُّ عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ عِيسَى بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَعْبِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ،
ابْنُ أَبِي مُوسَى الْحَنْبَلِيُّ الْعَبَّاسِيُّ، كَانَ أَحَدَ الْفُقَهَاءِ
الْعُلَمَاءِ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ الْمَشْهُورِينَ بِالدِّيَانَةِ وَالْفَضْلِ
وَالْعِبَادَةِ وَالْقِيَامِ فِي اللَّهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ
عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وُلِدَ سَنَةَ
إِحْدَى عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى
بْنِ الْفَرَّاءِ وَزَكَّاهُ شَيْخُهُ عِنْدَ ابْنِ الدَّامَغَانِيِّ فَقَبِلَهُ،
ثُمَّ تَرَكَ الشَّهَادَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ
وَالدِّيَانَةِ وَحِينَ احْتُضِرَ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ
أَوْصَى أَنْ يُغَسِّلَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ هَذَا، وَأَوْصَى لَهُ
بِشَيْءٍ كَثِيرٍ وَمَالٍ جَزِيلٍ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.
وَحِينَ
وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ بِسَبَبِ ابْنِ
الْقُشَيْرِيِّ اعْتُقِلَ هُوَ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا
يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ وَغَيْرُهُمْ وَيُقَبِّلُونَ يَدَهُ وَرَأْسَهُ،
وَلَمْ يَزَلْ هُنَاكَ حَتَّى اشْتَكَى، فَأُذِنَ لَهُ فِي الْمَسِيرِ إِلَى
أَهْلِهِ، فَتُوُفِّيَ عِنْدَهُمْ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ النِّصْفَ مِنْ صَفَرٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَاتَّخَذَتِ
الْعَامَّةُ قَبْرَهُ سُوقًا كُلَّ لَيْلَةِ أَرْبِعَاءَ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ
وَيَقْرَءُونَ الْخَتَمَاتِ عِنْدَهُ حَتَّى جَاءَ الشِّتَاءُ، وَكَانَ جُمْلَةُ
مَا قُرِئَ عِنْدَهُ عَشَرَةَ آلَافِ خَتْمَةٍ مِنْ كَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ
عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْحَسَنِ
الْبَيْضَاوِيُّ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيِّينَ، وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ
بِرَبْعِ الْكَرْخِ وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ تَاجُ الْمُلُوكِ تُتُشُ بْنُ
أَلْبِ أَرَسَلَانَ السَّلْجُوقِيُّ دِمَشْقَ وَقَتَلَ مَلِكَهَا أَقْسِيسَ،
وَذَلِكَ أَنَّ أَقْسِيسَ بَعَثَ إِلَيْهِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ،
فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ لَمْ يَرْكَبْ لِتَلَقِّيهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ
فَقُتِلَ لِسَاعَتِهِ.
وَفِيهَا عُزِلَ الْوَزِيرُ ابْنُ جَهِيرٍ بِإِشَارَةِ نِظَامِ الْمُلْكِ ;
بِسَبَبِ مُمَالَأَتِهِ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ، ثُمَّ كَاتَبَ الْمُقْتَدِي
نِظَامَ الْمُلْكِ فِي إِعَادَتِهِ فَأُعِيدَ وَلَدُهُ وَأُطْلِقَ هُوَ.
وَفِيهَا قَدِمَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوَهْرَائِينُ أَمِيرًا إِلَى بَغْدَادَ،
وَضُرِبَتِ الطُّبُولُ عَلَى بَابِهِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، وَأَسَاءَ
الْأَدَبَ عَلَى الْخِلَافَةِ، وَضَرَبَ طُوَالَاتِ الْخُيُولِ عَلَى بَابِ
الْفِرْدَوْسِ فَكُوتِبَ السُّلْطَانُ فِي أَمْرِهِ فَجَاءَ الْكِتَابُ مِنَ
السُّلْطَانِ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ.
وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ مُقْطَعُ الْكُوفَةِ خُتْلُغُ
التُّرْكِيُّ أَثَابَهُ اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَعْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَبُو
الْقَاسِمِ الزَّنْجَانِيُّ، رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَانَ
إِمَامًا حَافِظًا مُتَعَبِّدًا، ثُمَّ انْقَطَعَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ بِمَكَّةَ
وَكَانَ النَّاسُ يَتَبَرَّكُونَ بِهِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَيُقَبِّلُونَ
يَدَهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُقَبِّلُونَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ.
سَلِيمٌ الْحَوْرِيُّ نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى دُجَيْلٍ كَانَ عَابِدًا
زَاهِدًا يُقَالُ: إِنَّهُ مَكَثَ مُدَّةً يَتَقَوَّتُ كُلَّ يَوْمٍ بِزَبِيبَةٍ
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَقُرِئَ عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبْعُونَ أَبُو أَحْمَدَ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ
الْقَيْرَوَانِيُّ، تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ، وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا مَلَكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ -
صَاحِبُ غَزْنَةَ - قِلَاعًا كَثِيرَةً حَصِينَةً مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ، ثُمَّ
عَادَ إِلَى بِلَادِهِ سَالِمًا غَانِمًا.
وَفِيهَا وُلِدَ الْأَمِيرُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ،
وَزُيِّنَتْ لَهُ بَغْدَادُ،.
وَفِيهَا مَلَكَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ الْأَمِيرُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ
قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ الْعَقِيلِيُّ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ
وَفِيهَا مَلَكَ مَنْصُورُ بْنُ مَرْوَانَ دِيَارَ بَكْرٍ بَعْدَ أَبِيهِ
وَفِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِتَغْرِيقِ ابْنِ عَلَّانَ الْيَهُودِيِّ ضَامِنِ
الْبَصْرَةِ وَأَخَذَ مِنْ ذَخَائِرِهِ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَضَمِنَ
خُمَارْتِكِينَ الْبَصْرَةَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَمِائَةِ فَرَسٍ فِي كُلِّ
سَنَةٍ.
وَفِيهَا فَتَحَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ تَكْرِيتَ وَحَجَّ
بِالنَّاسِ خُتْلُغُ التُّرْكِيُّ،
وَقُطِعَتْ
خُطْبَةُ الْمِصْرِيِّينَ بِمَكَّةَ وَخُطِبَ لِلْمُقْتَدِي وَلِلسُّلْطَانِ
مَلِكْشَاهْ السَّلْجُوقِيِّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَيْرُونَ أَبُو نَصْرٍ
سَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا يَسْرُدُ الصَّوْمَ وَيَخْتِمُ فِي
كُلِّ لَيْلَةٍ خَتْمَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بْنِ مِهْرَانَ الْعُكْبَرِيُّ، سَمِعَ هِلَالًا الْحَفَّارَ وَابْنَ رَزْقُوَيْهِ
وَالْحَمَّامِيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ فَاضِلًا جَيِّدَ الشِّعْرِ، فَمِنْ
شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
أُطِيلُ تَفَكُّرِي فِي أَيِّ نَاسٍ مَضَوْا قِدْمًا وَفِيمَنْ خَلَّفُونَا هُمُ
الْأَحْيَاءُ بَعْدَ الْمَوْتِ ذِكْرًا
وَنَحْنُ مِنَ الْخُمُولِ الْمَيِّتُونَا
تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً.
هَيَّاجُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِطِّينِيُّ الشَّامِيُّ سَمِعَ الْحَدِيثَ
وَكَانَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ
زُهْدًا وَفِقْهًا وَاجْتِهَادًا فِي الْعِبَادَةِ، أَقَامَ بِمَكَّةَ مُدَّةً يُفْتِي أَهْلَهَا وَيَعْتَمِرُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَلَمْ يَلْبَسْ نَعْلًا مُذْ أَقَامَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَزُورُ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ مَاشِيًا حَافِيًا، وَكَذَلِكَ كَانَ يَزُورُ قَبْرَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ، وَكَانَ لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا وَلَا يَلْبَسُ إِلَّا قَمِيصًا وَاحِدًا، ضَرَبَهُ بَعْضُ أُمَرَاءِ مَكَّةَ فِي بَعْضِ فِتَنِ الرَّوَافِضِ فَاشْتَكَى أَيَّامًا، وَمَاتَ وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى الثَّمَانِينَ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا اسْتَوْلَى تُكَشُ أَخُو السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ عَلَى بَعْضِ
خُرَاسَانَ. وَفِيهَا أُذِنَ لِلْوُعَّاظِ فِي الْجُلُوسِ لِلْوَعْظِ ; وَكَانُوا
قَدْ مُنِعُوا مِنْ وَقْتِ فِتْنَةِ ابْنِ الْقُشَيْرِيِّ، وَفِيهَا قُبِضَ عَلَى
جَمَاعَةٍ مِنَ الْفِتْيَانِ ; كَانُوا قَدْ جَعَلُوا عَلَيْهِمْ رَئِيسًا يُقَالُ
لَهُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْهَاشِمِيُّ، وَقَدْ كَاتَبُوهُ مِنَ الْأَقْطَارِ
وَكَانَ السَّاعِي لَهُ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: ابْنُ رَسُولٍ، وَكَانُوا
يَجْتَمِعُونَ عِنْدَ جَامِعِ بَرَاثَا فَخِيفَ مِنْ أَمْرِهِمْ أَنْ يَكُونُوا
مُمَالِئِينَ لِلْمِصْرِيِّينَ فَأُمِرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمْ. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ خُتْلُغُ التُّرْكِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْأَخْضَرِ الْمُحَدِّثُ، سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ شَاذَانَ
وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَكَانَ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ حَسَنَ
السِّيرَةِ مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا قَنُوعًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الصُّلَيْحِيُّ الْمُتَغَلِّبُ عَلَى الْيَمَنِ، أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُلَقَّبُ
بِالصُّلَيْحِيِّ،
كَانَ أَبُوهُ قَاضِيًا بِالْيَمَنِ وَكَانَ سُنِّيًّا، وَنَشَأَ هَذَا
فَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَبَرَعَ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَكَانَ
شِيعِيًّا عَلَى مَذْهَبِ الْقَرَامِطَةِ، ثُمَّ كَانَ يَدُلُّ بِالْحَجِيجِ
مُدَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ قَدِ اشْتَهَرَ أَمْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ
أَنَّهُ سَيَمْلِكُ الْيَمَنَ، فَنَجَمَ بِبِلَادِ الْيَمَنِ بَعْدَ قَتْلِهِ
نَجَاحًا صَاحِبَ تِهَامَةَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادِ الْيَمَنِ بِكَمَالِهَا،
فِي أَقْصَرِ مُدَّةٍ وَاسْتَوْثَقَ لَهُ الْمُلْكُ بِهَا سَنَةَ خَمْسٍ
وَخَمْسِينَ وَخَطَبَ لِلْمُسْتَنْصِرِ الْعُبَيْدِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ فَلَمَّا
كَانَ فِي هَذَا الْعَامِ خَرَجَ إِلَى الْحَجِّ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ
فَاعْتَرَضَهُ سَعِيدُ بْنُ نَجَاحٍ بِالْمَوْسِمِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ
فَقَاتَلَهُمْ فَقُتِلَ هُوَ وَأَخُوهُ وَاسْتَحْوَذَ سَعِيدُ بْنُ نَجَاحٍ عَلَى
مَمْلَكَتِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَمِنْ شِعْرِ الصُّلَيْحِيِّ هَذَا قَوْلُهُ:
أَنْكَحْتُ بِيضَ الْهِنْدِ سُمْرَ رِمَاحِهِمْ فَرُءُوسُهُمْ عِوَضُ النِّثَارِ
نِثَارُ وَكَذَا الْعُلَا لَا يُسْتَبَاحُ نِكَاحُهَا
إِلَّا بِحَيْثُ تُطَلَّقُ الْأَعْمَارُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ
الشِّبْلِ، أَبُو عَلِيٍّ الشَّاعِرُ الْبَغْدَادِيُّ، أَسْنَدَ الْحَدِيثَ وَلَهُ
الشِّعْرُ الرَّائِقُ فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
لَا تُظْهِرَنَّ لِعَاذِلٍ أَوْ عَاذِرٍ حَالَيْكَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
فَلِرَحْمَةِ الْمُتَوَجِّعِينَ مَرَارَةٌ فِي الْقَلْبِ مِثْلُ شَمَاتَةِ
الْأَعْدَاءِ
وَلَهُ
أَيْضًا:
يُفنِي الْبَخِيلُ بِجَمْعِ الْمَالِ مُدَّتَهُ وَلِلْحَوَادِثِ وَالْوُرَّاثِ مَا
يَدَعُ
كَدُودَةِ الْقَزِّ مَا تَبْنِيهِ يَخْنُقُهَا وَغَيْرُهَا بِالَّذِي تَبْنِيهِ
يَنْتَفِعُ
يُوسُفُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، أَبُو الْقَاسِمِ
التَّفَكُّرِيُّ، مِنْ أَهْلِ زَنْجَانَ وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ وَتَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَدَرَسَ الْفِقْهَ
عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ
تَلَامِذَتِهِ، وَكَانَ عَابِدًا وَرِعًا خَاشِعًا، كَثِيرَ الْبُكَاءِ عِنْدَ
الذِّكْرِ مُقْبِلًا عَلَى الْعِبَادَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا وَلِيَ أَبُو كَامِلٍ مَنْصُورُ بْنُ نُورِ الدَّوْلَةِ دُبَيْسٍ مَا كَانَ
يَلِيهِ أَبُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ
وَالْخَلِيفَةُ. وَفِيهَا مَلَكَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشٍ
حَرَّانَ وَصَالَحَ صَاحِبَ الرُّهَا 72.
وَفِيهَا فَتَحَ تُتُشُ بْنُ أَلْبِ أَرْسَلَانَ صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ
أَنْطَرْطُوسَ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ ابْنَ جَهِيرٍ إِلَى السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ
يَخْطُبُ ابْنَتَهُ عَنْهُ، فَأَجَابَتْ أُمُّهَا إِلَى ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا
يَكُونَ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَا سُرِّيَّةٌ سِوَاهَا، وَأَنْ يَكُونَ مَبِيتُهُ
عِنْدَهَا فَوَقَعَ الشَّرْطُ عَلَى ذَلِكَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
دَاوُدُ بْنُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ، فَوَجَدَ عَلَيْهِ أَبُوهُ وَجْدًا
عَظِيمًا، بِحَيْثُ إِنَّهُ كَادَ - أَوْ هَمَّ - أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ
فَمَنَعَهُ الْأُمَرَاءُ مِنْ ذَلِكَ، وَانْتَقَلَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْبَلَدِ،
وَأَمَرَ النِّسَاءَ بِالنَّوْحِ عَلَيْهِ وَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَادَ
جَلَسَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ لِلْعَزَاءِ.
الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ، سُلَيْمَانُ بْنُ خَلَفِ بْنِ سَعْدِ
بْنِ أَيُّوبَ التُّجِيبِيُّ
الْأَنْدَلُسِيُّ
الْبَاجِيُّ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ فِي
الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَرَحَلَ فِيهِ إِلَى بِلَادِ
الْمَشْرِقِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَسَمِعَ هُنَاكَ
الْكَثِيرَ، وَاجْتَمَعَ بِأَئِمَّةِ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَالْقَاضِي أَبِي
الطِّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ
ثَلَاثَ سِنِينَ مَعَ الشَّيْخِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيِّ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ
ثَلَاثَ سِنِينَ أَيْضًا وَبِالْمَوْصِلِ سَنَةً عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ
السِّمْنَانِيُّ قَاضِيهَا فَأَخَذَ عَنْهُ الْفِقْهَ وَالْأُصُولَ وَسَمِعَ
الْخَطِيبَ الْبَغْدَادِيَّ وَسَمِعَ مِنْهُ الْخَطِيبُ أَيْضًا وَرَوَى عَنْهُ
هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ الْحَسَنَيْنِ:
إِذَا كُنْتُ أَعْلَمُ عِلْمًا يِقِينًا بِأَنَّ جَمِيعَ حَيَاتِي كَسَاعَهْ
فَلِمْ لَا أَكُونُ ضَنِينًا بِهَا
وَأَجْعَلُهَا فِي صَلَاحٍ وَطَاعَهْ
ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ بَعْدَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَتَوَلَّى
الْقَضَاءَ هُنَاكَ وَيُقَالُ: إِنَّهُ تَوَلَّى قَضَاءَ حَلَبَ أَيْضًا، قَالَهُ
ابْنُ خَلِّكَانَ قَالَ: وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا "
الْمُنْتَقَى فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ " وَ " إِحْكَامُ الْفُصُولِ فِي
أَحْكَامِ الْأُصُولِ " وَ " الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ " وَغَيْرُ
ذَلِكَ وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ
بِالْمَرِيَّةِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ بَيْنَ العِشَاءَيْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ
رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو
الْأَغَرِّ دُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ، الْمُلَقَّبُ نُورَ الدَّوْلَةِ،
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً، مَكَثَ فِيهَا أَمِيرًا
نَيِّفًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ أَبُو
كَامِلٍ وَلُقِّبَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رِضْوَانَ، أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغْدَادِيُّ،
كَانَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَمَرِضَ بِالشَّقِيقَةِ ثَلَاثَ سِنِينَ، فَمَكَثَ فِي
بَيْتٍ مُظْلِمٍ لَا يَرَى ضَوْءًا وَلَا يَسْمَعُ صَوْتًا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ فَنَزَلَ فِي
مَدْرَسَةِ أَبِيهِ، وَضُرِبَتِ الطُّبُولُ عَلَى بَابِهِ فِي أَوْقَاتِ
الصَّلَوَاتِ الثَّلَاثِ.
وَفِيهَا نَفَذَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ رَسُولًا إِلَى
السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ وَالْوَزِيرِ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَكَانَ أَبُو
إِسْحَاقَ كُلَّمَا مَرَّ عَلَى بَلْدَةٍ خَرَجَ أَهْلُهَا يَتَلَقَّوْنَهُ
بِأَوْلَادِهِمْ وَنِسَائِهِمْ يَتَبَرَّكُونَ بِهِ وَيَتَمَسَّحُونَ بِرِكَابِهِ
; وَرُبَّمَا أَخَذُوا مِنْ تُرَابِ حَافِرِ بَغْلَتِهِ، وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى
سَاوَةَ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا، وَمَا مَرَّ بِسُوقٍ مِنْهَا إِلَّا نَثَرُوا
عَلَيْهِ مِنْ لَطِيفِ مَا عِنْدَهُمْ حَتَّى اجْتَازَ بِسُوقِ الْأَسَاكِفَةِ،
فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إِلَّا مَدَاسَاتُ الصِّغَارِ فَنَثَرُوهَا عَلَيْهِ،
فَجَعَلَ الشَّيْخُ يَتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِيهَا جُدِّدَتِ الْخِطْبَةُ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ لِبِنْتِ السُّلْطَانِ
مَلِكْشَاهْ ; فَطَلَبَتْ أُمُّهَا أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ ثُمَّ
اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ لِلرَّضَاعِ وَأَنْ يَكُونَ
الصَّدَاقُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِيهَا حَارَبَ السُّلْطَانُ أَخَاهُ تُتُشَ فَأَسَرَهُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ
وَاسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا وَحَجَّ بِالنَّاسِ
خُتْلُغُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ
الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ
مَنْدَهْ أَبُو عَمْرٍو الْحَافِظُ، مِنْ بَيْتِ الْحَدِيثِ، رَحَلَ إِلَى
الْآفَاقِ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَتُوُفِّيَ بِأَصْبَهَانَ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ابْنُ مَاكُولَا الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرٍ، عَلِيُّ بْنُ الْوَزِيرِ أَبِي
الْقَاسِمِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَلِّكَانَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ دُلَفَ بْنِ أَبِي دُلَفَ التَّمِيمِيُّ، الْأَمِيرُ سَعْدُ
الْمُلْكِ، أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَسَادَاتِ
الْأُمَرَاءِ، رَحَلَ وَطَافَ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ " الْإِكْمَالَ
" فِي الْمُشْتَبَهِ مِنْ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ لَمْ
يُسْبَقْ إِلَيْهِ وَلَا يُلْحَقُ فِيهِ، إِلَّا مَا اسْتَدْرَكَهُ عَلَيْهِ ابْنُ
نُقْطَةَ فِي كِتَابٍ سَمَّاهُ " الِاسْتِدْرَاكَ "،
قَتَلَهُ مَمَالِيكُهُ فِي كَرْمَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي
سَنَةِ عِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَعَاشَ خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً قَالَ
ابْنُ خَلِّكَانَ وَقِيلَ: إِنَّهُ قُتِلَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَقِيلَ:
فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ قَالَ: وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ
وَزِيرَ
الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَمُّهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيٍّ وَلِيَ قَضَاءَ بَغْدَادَ، قَالَ: وَلَمْ أَدْرِ لِمَ سُمِّيَ الْأَمِيرَ،
إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إِلَى جَدِّهِ الْأَمِيرِ أَبِي دُلَفَ،
وَأَصْلُهُ مِنْ جَرْبَاذَقَانَ وَوُلِدَ فِي عُكْبَرَا فِي شَعْبَانَ سَنَةَ
إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، قَالَ: وَقَدْ كَانَ الْخَطِيبُ
الْبَغْدَادِيُّ صَنَّفَ كِتَابَ " الْمُؤْتَنِفِ "، جَمَعَ فِيهِ
بَيْنَ كِتَابَيِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَعَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ فِي "
الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ " فَجَاءَ ابْنُ مَاكُولَا وَزَادَ عَلَى الْخَطِيبِ
وَسَمَّاهُ " الْإِكْمَالَ " وَهُوَ فِي غَايَةِ الْإِفَادَةِ وَرَفْعِ
الِالْتِبَاسِ وَالضَّبْطِ، وَلَمْ يُوضَعْ مِثْلُهُ وَلَا يَحْتَاجُ هَذَا
الْأَمِيرُ بَعْدَهُ إِلَى فَضِيلَةٍ أُخْرَى، فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى كَثْرَةِ
اطِّلَاعِهِ وَضَبْطِهِ وَتَحْرِيرِهِ وَإِتْقَانِهِ، وَمِنْ شِعْرِهِ
الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ قَوْلُهُ:
قَوِّضْ خِيَامَكَ عَنْ أَرْضٍ تُهَانُ بِهَا وَجَانِبِ الذُّلَّ إِنَّ الذُّلَّ
يُجْتَنَبُ وَارْحَلْ إِذَا كَانَ فِي الْأَوْطَانِ مَنْقَصَةٌ
فَالْمَنْدَلُ الرَّطْبُ فِي أَوْطَانِهِ حَطَبُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا عُزِلَ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ ابْنُ جَهِيرٍ عَنْ وَزَارَةِ الْخِلَافَةِ
فَسَارَ بِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ إِلَى السُّلْطَانِ وَقَصَدُوا نِظَامَ
الْمُلْكِ وَزِيرَ السُّلْطَانِ فَعَقَدَ لِوَلَدِهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ عَلَى
بِلَادِ بَكْرٍ فَسَارَ إِلَيْهَا بِالْخِلَعِ وَالْكُوسَاتِ وَالْعَسَاكِرِ
وَأَمَرَ أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنِ ابْنِ مَرْوَانَ وَأَنْ يُخْطَبَ لِنَفْسِهِ،
وَأَنْ يُكْتَبَ اسْمُهُ عَلَى السِّكَّةِ فَمَا زَالَ حَتَّى انْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِيهِمْ،
وَبَادَ مُلْكُهُمْ عَلَى يَدَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَسَدَّ وَزَارَةَ
الْخِلَافَةِ أَبُو الْفَتْحِ مُظَفَّرٌ ابْنُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، ثُمَّ عُزِلَ
فِي شَعْبَانَ وَاسْتُوْزِرَ أَبُو شُجَاعٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَلُقِّبَ
ظَهِيرَ الدِّينِ
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ وَلَّى مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ أَبَا سَعِدٍ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ الْمَأْمُونِ الْمُتَوَلِّي تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بَعْدَ
وَفَاةِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا عَصَى أَهْلُ حَرَّانَ عَلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمِ بْنِ قُرَيْشٍ،
فَجَاءَ فَحَاصَرَهَا فَفَتَحَهَا وَهَدَمَ سُورَهَا وَصَلَبَ قَاضِيَهَا ابْنَ
جَلَبَةَ وَابْنَيْهِ عَلَىالسُّورِ.
وَفِي
شَوَّالٍ مِنْهَا قُتِلَ أَبُو الْمَحَاسِنِ ابْنُ أَبِي الرِّضَا ; وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ وَشَى إِلَى السُّلْطَانِ فِي نِظَامِ الْمُلْكِ وَقَالَ لَهُ:
سَلِّمْهُمْ إِلَيَّ حَتَّى أَسْتَخْلِصَ لَكَ مِنْهُمْ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ،
فَعَمِلَ نِظَامُ الْمُلْكِ سِمَاطًا هَائِلًا وَاسْتَحْضَرَ غِلْمَانَهُ -
وَكَانُوا أُلُوفًا - مِنَ الْأَتْرَاكِ وَشَرَعَ يَقُولُ لِلسُّلْطَانِ: هَذَا
كُلُّهُ مِنْ أَمْوَالِكَ، وَمَا وَقَفْتُهُ مِنَ الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ،
فَكُلُّهُ شُكْرُهُ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَأَجْرُهُ لَكَ فِي الْآخِرَةِ
وَأَمْوَالِي وَجَمِيعُ مَا أَمْلِكُهُ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَأَنَا أَقْنَعُ بِمُرَقَّعَةٍ
وَزَاوِيَةٍ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِقَتْلِ أَبِي الْمَحَاسِنِ -
وَقَدْ كَانَ حَظِيٍّا عِنْدَهُ، وَخِصِّيصًا بِهِ، وَجِيهًا لَدَيْهِ - وَعَزَلَ
أَبَاهُ عَنْ كِتَابَةِ الطُّغْرَاءِ وَوَلَّاهَا مُؤَيِّدَ الْمُلْكِ بْنَ
نِظَامِ الْمُلْكِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ خُتْلُغُ التُّرْكِيُّ مُقْطَعُ الْكُوفَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ
الْفِيرُوزَابَاذِيُّ - وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى فَارِسَ وَقِيلَ: هِيَ
مَدِينَةُ جُورَ - شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ وَمُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ
بِبَغْدَادَ وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَقِيلَ: خَمْسٍ وَقِيلَ:
سِتٍّ
وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتَفَقَّهَ بِفَارِسَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْبَيْضَاوِيِّ ثُمَّ قَدِمَ بَغْدَادَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنِ ابْنِ شَاذَانَ وَالْبَرْقَانِيِّ، وَكَانَ زَاهِدًا
عَابِدًا وَرِعًا كَبِيرَ الْقَدْرِ مُعَظَّمًا مُحْتَرَمًا إِمَامًا فِي
الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَالْحَدِيثِ وَفُنُونٍ كَثِيرَةٍ وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ
الْكَثِيرَةُ النَّافِعَةُ، كَ " الْمُهَذَّبِ " فِي الْمَذْهَبِ وَ
" التَّنْبِيهِ " وَ " النُّكَتِ " فِي الْخِلَافِ و "
اللُّمَعِ " فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَ " التَّبْصِرَةِ " وَ "
الْمَعُونَةِ " وَ " طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ،
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرْتُ تَرْجَمَتُهُ مُسْتَقْصَاةً وَمُطَوَّلَةً فِي أَوَّلِ
شَرْحِ " التَّنْبِيهِ ".
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
فِي دَارِ أَبِي الْمُظَفَّرِ ابْنِ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ وَغَسَّلَهُ أَبُو
الْوَفَا بْنُ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِبَابِ الْفِرْدَوْسِ
مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ وَشَهِدَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ
اللَّهِ وَتَقَدَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَبُو الْفَتْحِ الْمُظَفَّرُ ابْنُ
رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ وَكَانَ نَائِبَ الْوَزَارَةِ ثُمَّ صُلِّيَ عَلَيْهِ
مَرَّةً ثَانِيَةً بِجَامِعِ الْقَصْرِ وَدُفِنَ بِبَابِ أَبْرَزَ فِي تُرْبَةٍ
مُجَاوِرَةٍ لِلنَّاحِيَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدِ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ، وَكَانَ هُوَ
نَفْسُهُ لَهُ شِعْرٌ رَائِقٌ فَمِمَّا أَنْشَدَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ مِنْ شَعْرِهِ
قَوْلُهُ:
سَأَلْتُ النَّاسَ عَنْ خِلٍّ وَفِيٍّ فَقَالُوا مَا إِلَى هَذَا سَبِيلُ
تَمَسَّكْ إِنْ ظَفِرْتَ بِذَيْلِ حُرٍّ
فَإِنَّ الْحُرَّ فِي الدُّنْيَا قَلِيلُ
قَالَ
ابْنُ خَلِّكَانَ وَلَمَّا تُوُفِّيَ عَمِلَ الْفُقَهَاءُ عَزَاءَهُ
بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ وَعَيَّنَ مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ أَبَا سَعْدٍ
الْمُتَوَلِّيَ مَكَانَهُ فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى نِظَامِ الْمُلْكِ
كَتَبَ يَقُولُ: كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ تُغْلَقَ الْمَدْرَسَةُ سَنَةً
لِأَجْلِهِ، وَأَمَرَ أَنْ يُدَرِّسَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ فِي
مَكَانِهِ.
طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَوَّاسُ قَرَأَ
الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ
الطَّبَرِيِّ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ وَكَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ
لِلْمُنَاظَرَةِ وَالْفَتْوَى وَكَانَ ثِقَةً وَرِعًا زَاهِدًا مُلَازِمًا
لِمَسْجِدِهِ خَمْسِينَ سَنَةً. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَإِيَّانَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو طَاهِرٍ
الْأَنْبَارِيُّ الْخَطِيبُ وَيُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي الصَّقْرِ، طَافَ الْبِلَادَ
وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا فَاضِلًا عَابِدًا وَقَدْ سَمِعَ
مِنْهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَرَوَى عَنْهُ مُصَنَّفَاتِهِ تُوُفِّيَ
بِالْأَنْبَارِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ عَنْ نَحْوٍ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ جَرْدَةَ، أَحَدُ كُبَرَاءِ
الرُّؤَسَاءِ
بِبَغْدَادَ وَهُوَ مِنْ ذَوِي الثَّرْوَةِ وَالْمُرُوءَةِ كَانَ يُحْزَرُ مَالُهُ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ عُكْبَرَا فَسَكَنَ بَغْدَادَ وَكَانَتْ لَهُ بِهَا دَارٌ عَظِيمَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِينَ مَسْكَنًا مُسْتَقِلًّا وَفِيهَا حَمَّامٌ وَبُسْتَانٌ وَلَهَا بَابَانِ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَسْجِدٌ إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فِي أَحَدِهِمَا لَا يُسْمَعُ الْآخَرُ مِنِ اتِّسَاعِهَا. وَقَدْ كَانَتْ زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ - حِينَ وَقَعَتْ فِتْنَةُ الْبَسَاسِيرِيِّ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ - نَزَلَتْ عِنْدَهُ فِي جِوَارِهِ، فَبَعَثَ إِلَى الْأَمِيرِ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ أَمِيرِ الْعَرَبِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ لِيَحْمِيَ لَهُ دَارَهُ وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ الْمَعْرُوفَ بِهِ بِبَغْدَادَ وَقَدْ خَتَمَ فِيهِ الْقُرْآنَ أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ وَكَانَ لَا يُفَارِقُ زِيَّ التُّجَّارِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي عَاشِرِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي التُّرْبَةِ الْمُجَاوِرَةِ لِتُرْبَةِ الْقَزْوِينِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا، آمِينَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ فَخْرِ الدَّوْلَةِ ابْنِ جَهِيرٍ وَبَيْنَ ابْنِ
مَرْوَانَ صَاحِبِ دِيَارِ بِكْرٍ فَاسْتَوْلَى ابْنُ جَهِيرٍ عَلَى مُلْكِ
الْعَرَبِ وَسَبَى حَرِيمَهُمْ وَأَخَذَ الْبِلَادَ وَمَعَهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ
صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ،
فَافْتَدَى خَلْقًا مِنَ الْعَرَبِ فَشَكَرَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ وَمَدَحَهُ
الشُّعَرَاءُ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا بَعَثَ السُّلْطَانُ عَمِيدَ الدَّوْلَةِ ابْنَ جَهِيرٍ فِي جَيْشٍ
كَثِيفٍ وَمَعَهُ قَسِيمُ الدَّوْلَةِ آقْ سَنْقُرُ جَدُّ بَنِي أَتَابِكَ مُلُوكِ
الشَّامِ وَالْمَوْصِلِ فَسَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَمَلَكُوهَا.
وَفِي شَعْبَانَ مَلَكَ سُلَيْمَانُ بْنُ قُتْلُمُشَ أَنْطَاكِيَةَ فَأَرَادَ
شَرَفُ الدَّوْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ قُرَيْشٍ أَنْ يَسْتَنْقِذَهَا مِنْهُ،
فَهَزَمَهُ سُلَيْمَانُ وَقَتَلَهُ، وَكَانَ مُسْلِمٌ هَذَا مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ
سِيرَةً، لَهُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ وَالٍ وَقَاضٍ وَصَاحِبُ خَبَرٍ، وَكَانَ
يَمْلِكُ مِنَ السِّنْدِيَّةِ إِلَى مَنْبِجَ وَوَلِيَ بَعْدَهُ أَخُوهُ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ قُرَيْشٍ، وَكَانَ مَسْجُونًا مِنْ سِنِينَ فَأُطْلِقَ
وَمُلِّكَ.
وَفِيهَا وُلِدَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ بْنُ مَلِكْشَاهْ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ
رَجَبٍ بِسِنْجَارَ.
وَفِيهَا
عَصَى تُكَشُ أَخُو السُّلْطَانِ، فَأَخَذَهُ السُّلْطَانُ فَسَمَلَهُ وَسَجَنَهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ خُمَارْتِكِينُ
الْحَسَنَانِيُّ وَذَلِكَ لِشَكْوَى النَّاسِ مِنْ شِدَّةِ سَيْرِ خُتْلُغَ
بِهِمْ، وَأَخْذِهِ الْمُكُوسَاتِ مِنْهُمْ. سَارَ مَرَّةً مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى
مَكَّةَ فِي تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دُوسْتَ أَبُو سَعْدٍ النَّيْسَابُورِيُّ شَيْخُ
الصُّوفِيَّةِ لَهُ رِبَاطٌ بِمَدِينَةِ نَيْسَابُورَ يَدْخُلُ مِنْ بَابِهِ
الْجَمَلُ بِرَاكِبِهِ، وَحَجَّ مَرَّاتٍ عَلَى التَّجْرِيدِ، حِينَ انْقَطَعَتْ
طَرِيقُ مَكَّةَ فَكَانَ يَأْخُذُ جَمَاعَةً مِنَ الْفُقَرَاءِ وَيَتَوَصَّلُ مِنْ
قَبَائِلِ الْعَرَبِ حَتَّى يَصِلَ مَكَّةَ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ
جَاوَزَ التِّسْعِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَوْصَى أَنْ يَخْلُفَهُ
وَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ فَأُجْلِسَ فِي مَشْيَخَةِ الرِّبَاطِ وَلَهُ ثِنْتَا
عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ الَّذِي وَقَفَ الْأَوْقَافَ عَلَى الرِّبَاطِ.
ابْنُ الصَّبَّاغِ صَاحِبُ " الشَّامِلِ " عَبْدُ السَّيِّدِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْإِمَامُ أَبُو
نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ وَتَفَقَّّهَ بِبَغْدَادَ
عَلَى أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ حَتَّى فَاقَ الشَّافِعِيَّةَ بِالْعِرَاقِ
وَصَنَّفَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفِيدَةَ ;
مِنْهَا
كِتَابُ " الشَّامِلِ " فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَرَّسَ
بِالنِّظَامِيَّةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ بِدَارِهِ
فِي الْكَرْخِ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى بَابِ حَرْبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ فَقِيهَ الْعِرَاقَيْنِ، وَكَانَ
يُضَاهَى بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَكَانَ ابْنُ الصَّبَّاغِ أَعْلَمَ مِنْهُ
بِالْمَذْهَبِ، وَإِلَيْهِ الرِّحْلَةُ فِيهِ، وَقَدْ صَنَّفَ الشَّامِلَ فِي
الْفِقْهِ وَالْعُمْدَةَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَتَوَلَّى تَدْرِيسَ
النِّظَامِيَّةِ أَوَّلًا، ثُمَّ عُزِلَ بَعْدَ عِشْرِينَ يَوْمًا بِالشَّيْخِ
أَبِي إِسْحَاقَ، فَلَمَّا مَاتَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ تَوَلَّاهَا أَبُو
سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي، ثُمَّ عُزِلَ بِابْنِ الصَّبَّاغِ ثُمَّ عُزِلَ ابْنُ
الصَّبَّاغِ بِابْنِ الْمُتَوَلِّي، وَكَانَ ثِقَةً حُجَّةً صَالِحًا وُلِدَ
سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ وَأُضَرَّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مَسْعُودُ بْنُ نَاصِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
أَبُو سَعِيدٍ السِّجْزِيُّ الْحَافِظُ رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ وَجَمَعَ الْكُتُبَ النَّفِيسَةَ وَكَانَ حَسَنَ الْخَطِّ صَحِيحَ
النَّقْلِ حَافِظًا ضَابِطًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا زُلْزِلَتْ أَرَّجَانُ فَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
الرُّومِ وَمَوَاشِيهِمْ، وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ بِالْحُمَّى
وَالطَّاعُونِ بِالْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ، وَأَعْقَبَ ذَلِكَ مَوْتُ
الْفَجْأَةِ، ثُمَّ مَاتَتِ الْوُحُوشُ فِي الْبَرِيَّةِ، ثُمَّ تَلَاهُ مَوْتُ
الْبَهَائِمِ حَتَّى عَزَّتِ الْأَلْبَانُ وَاللُّحْمَانُ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ
وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ فَقُتِلَ خَلْقٌ
كَثِيرٌ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ هَاجَتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ وَسَفَتْ رَمْلًا وَتَسَاقَطَتْ
أَشْجَارٌ كَثِيرَةٌ مِنَ النَّخِيلِ وَغَيْرِهَا، وَوَقَعَتْ صَوَاعِقُ فِي
الْبِلَادِ حَتَّى ظَنَّ النَّاسُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ ثُمَّ انْجَلَى
ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا وُلِدَ لِلْخَلِيفَةِ وَلَدُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ
وَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ وَضُرِبَتِ الطُّبُولُ وَالْبُوقَاتُ وَكَثُرَتِ
الصَّدَقَاتُ
وَفِيهَا اسْتَوْلَى فَخْرُ الدَّوْلَةِ ابْنُ جَهِيرٍ عَلَى بِلَادٍ كَثِيرَةٍ
مِنْهَا آمِدُ وَمَيَّافَارِقِينُ وَجَزِيرَةُ ابْنِ عُمَرَ وَانْقَرَضَتْ
دَوْلَةُ بَنِي مَرْوَانَ عَلَى يَدِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَفِي ثَانِي عَشَرَ
شَعْبَانَ مِنْهَا قُلِّدَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُظَفَّرٍ الشَّامِيُّ
قَضَاءَ
الْقُضَاةِ
بِبَغْدَادَ، بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيِّ وَخُلِعَ
عَلَيْهِ فِي الدِّيوَانِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ خُتْلُغُ التُّرْكِيُّ،
وَزَارَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاهِبًا وَآيِبًا قَالَ
أَظُنُّ أَنَّهَا آخِرُ حِجَجِي فَكَانَ كَذَلِكَ
وَفِيهَا خَرَجَ تَوْقِيعُ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ
بِتَجْدِيدِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي كُلِّ
مَحَلَّةٍ وَالْأَمْرُ بِإِلْزَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْغِيَارِ وَكَسْرِ الْمَلَاهِي
وَإِرَاقَةِ الْخُمُورِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِ الْفَسَادِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
أَبِي أَيُّوبَ، أَبُو بَكْرٍ الْفُورَكِيُّ، سِبْطُ الْأُسْتَاذِ أَبِي بَكْرِ
بْنِ فُورَكَ اسْتَوْطَنَ بَغْدَادَ، وَكَانَ مُتَكَلِّمًا يَعِظُ النَّاسَ فِي
النِّظَامِيَّةِ فَوَقَعَتْ بِسَبَبِهِ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ مُؤْثِرًا لِلدُّنْيَا لَا يَتَحَاشَى مِنْ لُبْسِ
الْحَرِيرِ، وَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مَكْسَ الْفَحْمِ وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَهُ نَيِّفٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وَدُفِنَ إِلَى
جَانِبِ قَبْرِ الْأَشْعَرِيِّ بِمَشْرَعَةِ الرَّوَايَا.
الْحَسَنُ
بْنُ عَلِيٍّ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْدُوسِيُّ كَانَ رَئِيسَ أَهْلِ زَمَانِهِ
وَأَكْمَلَهُمْ مُرُوءَةً، كَانَ قَدْ خَدَمَ فِي أَيَّامِ بَنِي بُوَيْهِ
وَتَأَخَّرَ إِلَى هَذَا الْحِينِ وَكَانَتِ الْمُلُوكُ تُعَظِّمُهُ وَتُكَاتِبُهُ
بِعَبْدِهِ وَخَادِمِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ وَالْبِرِّ،
وَبَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ خَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَأَعَدَّ لِنَفْسِهِ
قَبْرًا وَكَفَنًا قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسِ سِنِينَ.
أَبُو سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمَأْمُونِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي
مُصَنِّفُ " التَّتِمَّةِ " وَمُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بَعْدَ أَبِي
إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا مَاهِرًا بِعُلُومٍ
كَثِيرَةٍ، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ
وَخَمْسِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ
الشَّامِيُّ. وَدُفِنَ بِبَابِ أَبْرَزَ.
إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَيُّوَيَهِ، أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ،
وَجُوَيْنُ مِنْ قُرَى نَيْسَابُورَ، الْمُلَقَّبُ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ
لِمُجَاوَرَتِهِ بِمَكَّةَ أَرْبَعَ سِنِينَ، كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ تِسْعَ
عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى وَالِدِهِ
الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ، وَدَرَّسَ
بَعْدَهُ
فِي حَلْقَتِهِ وَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَدَخَلَ بَغْدَادَ
وَتَفَقَّهَ بِهَا وَرَوَى بِهَا الْحَدِيثَ، وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَجَاوَرَ
فِيهَا أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ فَسُلِّمَ إِلَيْهِ
التَّدْرِيسُ وَالْخَطَابَةُ وَالْوَعْظُ، وَصَنَّفَ " نِهَايَةَ الْمَطْلَبِ
فِي دِرَايَةِ الْمَذْهَبِ "، وَالْبُرْهَانَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرَ
ذَلِكَ مِنْ عُلُومٍ شَتَّى، وَاشْتَغَلَ عَلَيْهِ الطَّلَبَةُ وَرَحَلُوا
إِلَيْهِ مِنَ الْأَقْطَارِ، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ ثَلَاثُمِائَةِ مُتَفَقِّهٍ
وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ تَرْجَمَتَهُ فِي " الطَّبَقَاتِ ".
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِدَارِهِ ثُمَّ
نُقِلَ إِلَى جَانِبِ وَالِدِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ كَانَتْ أُمُّهُ جَارِيَةً اشْتَرَاهَا وَالِدُهُ مِنْ
كَسْبِ يَدِهِ مِنَ النَّسْخِ وَأَمَرَهَا أَلَّا يُرْضِعَهُ غَيْرُهَا فَاتَّفَقَ
أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَأَرْضَعَتْهُ مَرَّةً فَأَخَذَهُ الشَّيْخُ
أَبُو مُحَمَّدٍ فَنَكَسَهُ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى بَطْنِهِ وَوَضَعَ أُصْبُعَهُ
فِي حَلْقِهِ وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى اسْتَقَاءَ كُلَّ مَا كَانَ فِي بَطْنِهِ
مِنْ لَبَنِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، قَالَ: فَرُبَّمَا حَصَلَ لِإِمَامِ
الْحَرَمَيْنِ فِي بَعْضِ مَجَالِسِ الْمُنَاظَرَةِ فُتُورٌ فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ
آثَارِ تِلْكَ الرَّضْعَةِ، قَالَ: وَلَمَّا عَادَ مِنَ الْحِجَازِ إِلَى بَلَدِهِ
نَيْسَابُورَ سُلِّمَ إِلَيْهِ الْمِحْرَابُ وَالْمِنْبَرُ وَالْخَطَابَةُ
وَالتَّدْرِيسُ وَمَجْلِسُ التَّذْكِيرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَبَقِيَ ثَلَاثِينَ
سَنَةً غَيْرَ مُزَاحَمٍ وَلَا مُدَافَعٍ وَصَنَّفَ فِي كُلِّ فَنٍّ، مِنْ ذَلِكَ
" النِّهَايَةُ " الَّذِي مَا صُنِّفَ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ
قَالَ
الْحَافِظُ أَبُو جَعْفَرٍ سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ
يَقُولُ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ: يَا مُفِيدَ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
أَنْتَ الْيَوْمَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ.
وَمِنْ تَصَانِيفِهِ " الشَّامِلُ " فِي أُصُولِ الدِّينِ وَ "
الْبُرْهَانُ " فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَ " تَلْخِيصُ التَّقْرِيبِ
" وَ " الْإِرْشَادُ " وَ " الْعَقِيدَةُ النِّظَامِيَّةُ
" و " غِيَاثُ الْأُمَمِ " وَ " غِيَاثُ الْخَلْقِ "
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا أَتَمَّهُ وَمِمَّا لَمْ يُتِمَّهُ، قَالَ وَلَمَّا مَاتَ
فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ صَلَّى
عَلَيْهِ وَلَدُهُ أَبُو الْقَاسِمِ وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَكَسَرَ
تَلَامِيذُهُ أَقْلَامَهُمْ وَمَحَابِرَهُمْ وَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ وَمَكَثُوا
كَذَلِكَ سَنَةً وَقَدْ رُثِيَ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ
بَعْضِهِمْ:
قُلُوبُ الْعَالَمِينَ عَلَى الْمَقَالِي وَأَيَّامُ الْوَرَى شِبْهُ اللَّيَالِي
أَيُثْمِرُ غُصْنُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَوْمًا
وَقَدْ مَاتَ الْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْوَلِيدِ
أَبُو عَلِيٍّ شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ، كَانَ يُدَرِّسُ لَهُمْ فَأَنْكَرَ أَهْلُ
السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ، فَلَزِمَ بَيْتَهُ خَمْسِينَ سَنَةً، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ
فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ
الشُّونِيْزِيَّةِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَنَاظَرَ هُوَ وَالشَّيْخُ أَبُو يُوسُفَ
الْقَزْوِينِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ الْمُفَسِّرُ
فِي
إِبَاحَةِ الْوِلْدَانِ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا حَكَى ذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ
عَنْهُمَا وَكَانَ حَاضِرَهُمَا فَمَالَ هَذَا إِلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ
مَأْمُونَ الْمَفْسَدَةِ هُنَالِكَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إِنَّ هَذَا لَا
يَكُونُ، وَمِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّهُمْ يَكُونُ لَهُمْ أَدْبَارٌ؟ وَهَذَا
الْعُضْوُ إِنَّمَا خُلِقَ فِي الدُّنْيَا مَخْرَجًا لِلْأَذَى، وَلَيْسَ فِي
الْجَنَّةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ
لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صُورَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الرَّجُلُ حَدِيثًا وَاحِدًا عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْحُسَيْنِ
الْبَصْرِيِّ بِسَنَدِهِ الْمُتَقَدِّمِ، مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ
عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ
مَا شِئْتَ وَقَدْ رَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ عَنْ شُعْبَةَ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ
سِوَاهُ، فَقِيلَ لِأَنَّهُ لَمَّا رَحَلَ إِلَيْهِ دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ
يَبُولُ عَلَى الْبَالُوعَةِ فَسَأَلَهُ أَنَّ يُحَدِّثَهُ، فَرَوَى لَهُ هَذَا
الْحَدِيثَ كَالْوَاعِظِ لَهُ، وَالْتَزَمَ أَلَّا يُحَدِّثَهُ بِغَيْرِهِ،
وَقِيلَ: لِأَنَّ شُعْبَةَ مَرَّ عَلَى الْقَعْنَبِيِّ قَبْلَ أَنْ يَشْتَغِلَ
بِعِلْمِ الْحَدِيثِ وَكَانَ إِذْ ذَاكَ يُعَانِي الشَّرَابَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُحَدِّثَهُ
فَامْتَنَعَ فَسَلَّ سِكِّينًا وَقَالَ إِنْ لَمْ تُحَدِّثْنِي وَإِلَّا
قَتَلْتُكَ فَرَوَى لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ، فَتَابَ وَأَنَابَ وَلَزِمَ مَالِكًا
ثُمَّ فَاتَهُ السَّمَاعُ مِنْ شُعْبَةَ فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ غَيْرُ هَذَا،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ
عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ حَمُّوَيَهِ الدَّامَغَانِيُّ الْحَنَفِيُّ، قَاضِي
الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ، مَوْلِدُهُ فِي سِنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
وَتَفَقَّهَ بِبَلَدِهِ ثُمَّ قَدِمَ بَغْدَادَ فِي سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَتَفَقَّهَ بِهَا عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيِّ
وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيِّ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْهُمَا وَمِنِ ابْنِ
النَّقُورِ وَالْخَطِيبِ وَغَيْرِهِمْ، وَبَرَعَ فِي الْفِقْهِ وَكَانَ لَهُ
عَقْلٌ وَافِرٌ وَتَوَاضُعٌ زَائِدٌ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ
الْفُقَهَاءِ، وَكَانَ فَصِيحَ الْعِبَارَةِ، وَكَانَ فَقِيرًا فِي ابْتِدَاءِ
طَلَبِهِ، عَلَيْهِ أَطْمَارٌ رَثَّةٌ ثُمَّ صَارَتْ إِلَيْهِ الرِّيَاسَةُ
وَالْقَضَاءُ بَعْدَ ابْنِ مَاكُولَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَكَانَ
الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ يُكْرِمُهُ وَالسُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ يُعَظِّمُهُ
وَبَاشَرَ الْحُكْمَ ثَلَاثِينَ سَنَةً فِي غَايَةِ السِّيرَةِ الْحَسَنَةِ
وَالْأَمَانَةِ وَالدِّيَانَةِ وَالصِّيَانَةِ، مَرِضَ أَيَّامًا يَسِيرَةً ثُمَّ
تُوُفِّيَ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
وَقَدْ نَاهَزَ الثَّمَانِينَ وَدُفِنَ بِدَارِهِ بِدَرْبِ الْقَلَّائِينَ ثُمَّ
نُقِلَ إِلَى مَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُطَّلِبِ
أَبُو سَعْدٍ الْأَدِيبُ كَانَ قَدْ قَرَأَ النَّحْوَ وَالْأَدَبَ وَاللُّغَةَ
وَالسِّيَرَ وَأَخْبَارَ النَّاسِ ثُمَّ أَقْلَعَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَقْبَلَ
عَلَى كَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالصَّوْمِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ
بْنُ أَبِي طَاهِرٍ الْعَبَّاسِيُّ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ الرَّجَحِيِّ تَفَقَّهَ عَلَى ابْنِ الصَّبَّاغِ وَنَابَ فِي
الْحُكْمِ وَكَانَ مَحْمُودَ الطَّرِيقَةِ وَشَهِدَ عِنْدَ ابْنِ الدَّامَغَانِيِّ
فَقَبِلَهُ.
مَنْصُورُ بْنُ دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ أَبُو كَامِلٍ الْأَمِيرُ
بَعْدَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ، تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَدْ كَانَ لَهُ شِعْرٌ وَأَدَبٌ، وَفِيهِ فَضْلٌ. فَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
فَإِنْ أَنَا لَمْ أَحْمِلْ عَظِيمًا وَلَمْ أَقُدْ لُهَامًا وَلَمْ أَصْبِرْ
عَلَى كُلِّ مُعْظِمِ
وَلَمْ أُجِرِ الْجَانِي وَأَمْنَعْ حَوْزَهُ غَدَاةَ أُنَادَى لِلْفَخَارِ
فَأَنْتَمِي
فَلَا نَهَضَتْ بِي هِمَّةٌ عَرَبِيَّةٌ إِلَى الْمَجْدِ تُدْلِي لِي ذُرَى كُلِّ
مَحْرَمِ
هِبَةُ
اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، السِّيبِيُّ
قَاضِي الْحَرِيمِ بِنَهْرِ مُعَلَّى، وَمُؤَدِّبُ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي
بِأَمْرِ اللَّهِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتُوُفِّيَ فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ
وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ. فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
رَجَوْتُ الثَّمَانِينَ مِنْ خَالِقِي لِمَا جَاءَ فِيهَا عَنِ الْمُصْطَفَى
فَبَلَّغَنِيهَا فَشُكْرًا لَهُ وَزَادَ ثَلَاثًا بِهَا أَرْدَفَا
وَإِنِّي لَمُنْتَظِرٌ وَعْدَهُ لِيُنْجِزَهُ فَهْوَ أَهْلُ الْوَفَا
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
وَفِيهَا كَانَتِ الْوَقْعَةُ بَيْنَ تُتُشَ صَاحِبِ دِمَشْقَ وَبَيْنَ
سُلَيْمَانَ بْنِ قُتْلُمِشَ صَاحِبِ حَلَبَ وَأَنْطَاكِيَةَ وَتِلْكَ
النَّاحِيَةِ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ وَقَتَلَ هُوَ نَفْسَهُ
بِخَنْجَرٍ كَانَتْ مَعَهُ فَسَارَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ مِنْ أَصْبَهَانَ
إِلَى حَلَبَ فَمَلَكَهَا، وَمَلَكَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي
مَرَّ بِهَا وَهِيَ حَرَّانُ وَالرُّهَا وَقَلْعَةُ جَعْبَرٍ، وَكَانَ جَعْبَرٌ
شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ وَلَهُ وَلَدَانِ، وَكَانَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ
يَلْجَئُونَ إِلَيْهَا فَيَتَحَصَّنُونَ بِهَا فَرَاسَلَ السُّلْطَانُ جَعْبَرَ
بْنَ سَابِقٍ فِي تَسْلِيمِهَا فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ، فَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ
وَالْعَرَّادَاتِ فَفَتَحَهَا وَأَمَرَ بِقَتْلِ صَاحِبِهَا سَابِقٍ، فَقَالَتْ
زَوْجَتُهُ لَا تَقْتُلْهُ حَتَّى تَقْتُلَنِي مَعَهُ فَأَلْقَاهُ مِنْ وَرَائِهَا
فَتَكَسَّرَ، ثُمَّ أَمَرَ بِتَوْسِيطِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَلْقَتِ الْمَرْأَةُ
نَفْسَهَا وَرَاءَهُ فَسَلِمَتْ، فَلَامَهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ
فَقَالَتْ: كَرِهْتُ أَنْ يَصِلَ إِلَيَّ التُّرْكِيُّ فَيَبْقَى ذَلِكَ عَارًا
عَلَيَّ. فَاسْتَحْسَنَ مِنْهَا ذَلِكَ وَاسْتَنَابَ السُّلْطَانُ عَلَى حَلَبَ
قَسِيمَ الدَّوْلَةِ آقْ سُنْقُرَ التُّرْكِيَّ وَهُوَ جَدُّ نُورِ الدِّينِ
الشَّهِيدِ وَاسْتَنَابَ عَلَى الرَّحْبَةِ وَحَرَّانَ
وَالرَّقَّةِ
وَسَرُوجَ وَالْخَابُورِ مُحَمَّدَ بْنَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمٍ، وَزَوَّجَهُ
بِأُخْتِهِ زُلَيْخَا خَاتُونَ.
وَعَزَلَ فَخْرَ الدَّوْلَةِ بْنَ جَهِيرٍ عَنْ دِيَارِ بَكْرٍ وَسَلَّمَهَا إِلَى
الْعَمِيدِ أَبِي عَلِيٍّ الْبَلْخِيِّ، وَخَلَعَ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ
صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورِ بِنِ دُبَيْسٍ الْأَسَدِيِّ وَأَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِ
أَبِيهِ. وَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَهِيَ أَوَّلُ
دَخْلَةٍ دَخَلَهَا، فَزَارَ الْمَشَاهِدَ وَالْقُبُورَ وَدَخَلَ عَلَى
الْخَلِيفَةِ فَقَبَّلَ يَدَهُ وَوَضَعَهَا عَلَى عَيْنَيْهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ أُمُورَ النَّاسِ،
وَاسْتَعْرَضَ الْخَلِيفَةُ أُمَرَاءَهُ، وَنِظَامُ الْمُلْكِ وَاقِفٌ بَيْنَ
يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، يُعَرِّفُهُ بِالْأُمَرَاءِ وَاحِدًا وَاحِدًا بِاسْمِهِ،
وَكَمْ جَيْشُهُ وَأَقْطَاعُهُ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ خِلْعَةً
سَنِيَّةً، وَخَرَجَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَنَزَلَ بِمَدْرَسَتِهِ
النِّظَامِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ رَآهَا قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ، فَاسْتَحْسَنَهَا
إِلَّا أَنَّهُ اسْتَصْغَرَهَا وَاسْتَحْسَنَ أَهْلَهَا وَمَنْ بِهَا مِنَ
الْجَمَاعَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ
ذَلِكَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَنَزَلَ بِخِزَانَةِ كُتُبِهَا وَأَمْلَى
جُزْءًا مِنْ مَسْمُوعَاتِهِ فَسَمِعَهُ الْمُحَدِّثُونَ مِنْهُ.
وَوَرَدَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي يَعْلَى الْحُسَيْنِيُّ
الدَّبُّوسِيُّ إِلَى بَغْدَادَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، فَرَتَّبَهُ مُدَرِّسًا
بِالنِّظَامِيَّةِ بَعْدَ أَبِي سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ فُرِغَتِ الْمَنَارَةُ بِجَامِعِ الْقَصْرِ وَأُذِّنَ
فِيهَا، وَفِيهَا كَانَتْ زَلَازِلُ هَائِلَةٌ بِالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ
وَالشَّامِ، فَهَدَمَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْعُمْرَانِ، وَخَرَجَ أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلَى الصَّحْرَاءِ ثُمَّ عَادُوا.
وَحَجَّ
بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ خُمَارْتِكِينُ الْحَسَنَانِيُّ، وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ
الْمِصْرِيِّينَ مِنْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَقُلِعَتِ الصَّفَائِحُ الَّتِي
عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ الَّتِي عَلَيْهَا ذِكْرُ الْمِصْرِيِّ وَجُدِّدَ
غَيْرُهَا عَلَيْهَا اسْمُ الْمُقْتَدِي.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَظَهَرَ رَجُلٌ بَيْنَ السِّنْدِيَّةِ وَوَاسِطٍ
يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَهُوَ مَقْطُوعُ الْيَدِ الْيُسْرَى يَفْتَحُ الْقُفْلَ فِي
أَسْرَعِ مُدَّةٍ وَيَغُوصُ دِجْلَةَ فِي غَوْصَتَيْنِ وَيَقْفِزُ الْقَفْزَةَ
خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا وَيَتَسَلَّقُ الْحِيطَانَ الْمُلْسَ وَلَا
يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَخَرَجَ مِنَ الْعِرَاقِ سَالِمًا. قَالَ وَفِيهَا
تُوُفِّيَ فَقِيرٌ يَسْأَلُ النَّاسَ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ فَوُجِدَ فِي
مُرَقَّعَتِهِ سِتُّمِائَةِ دِينَارٍ مَغْرِبِيَّةٍ. قَالَ وَفِيهَا عَمِلَ سَيْفُ
الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ سِمَاطًا لِلسُّلْطَانِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ أَبِي الْفَتْحِ
مَلِكْشَاهْ اشْتَمَلَ عَلَى أَلْفِ رَأْسٍ مِنَ الْغَنَمِ وَمِائَةٍ مِنَ
الْجِمَالِ، وَغَيْرِهَا، وَدَخَلَهُ عِشْرُونَ أَلْفًا مَنًّا مِنَ السُّكَّرِ،
وَقَدْ عَلَّقَ عَلَيْهِ مِنْ أَصْنَافِ الطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ الْمَنْفُوخَةِ
مِنَ السُّكَّرِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَتَنَاوَلَ السُّلْطَانُ مِنْهُ شَيْئًا
يَسِيرًا، ثُمَّ أَشَارَ فَانْتُهِبَ عَنْ آخِرِهِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ
الْمَكَانِ إِلَى سُرَادِقٍ عَظِيمٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ مِنَ الْحَرِيرِ، وَفِيهِ
خَمْسُمِائَةِ قِطْعَةٍ مِنَ الْفِضَّةِ وَأَلْوَانٌ مِنْ تَمَاثِيلِ النَّدِّ
وَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَدَّ فِيهِ سِمَاطًا خَاصًّا
فَأَكَلَ السُّلْطَانُ حِينَئِذٍ وَحَمَلَ إِلَيْهِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ
وَقَدَّمَ لَهُ ذَلِكَ السُّرَادِقَ بِكَمَالِهِ، وَانْصَرَفَ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْأَمِيرُ جَعْبَرُ بْنُ سَابِقٍ الْقُشَيْرِيُّ الْمُلَقَّبُ سَابِقَ الدِّينِ،
كَانَ قَدْ تَمَلَّكَ قَلْعَةَ جَعْبَرٍ مُدَّةً طَوِيلَةً فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ،
وَإِنَّمَا كَانَ يُقَالُ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ الدَّوْسَرِيَّةُ، نِسْبَةً إِلَى
غُلَامِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْأَمِيرَ كَبِرَ
وَعَمِيَ، وَكَانَ لَهُ وَلَدَانِ يَقْطَعَانِ الطَّرِيقَ، فَاجْتَازَ بِهِ
السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ بْنُ أَلْبِ أَرْسَلَانَ السَّلْجُوقِيُّ وَهُوَ ذَاهِبٌ
إِلَى حَلَبَ لِيَأْخُذَهَا فَاسْتَنْزَلَهُ مِنْهَا وَقَتَلَهُ، وَأَخَذَهَا مِنْهُمْ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
الْأَمِيرُ خُتْلُعُ
أَمِيرُ الْحَاجِّ، كَانَ مُقْطَعًا لِلْكُوفَةِ وَلَهُ وَقَعَاتٌ مَعَ الْعَرَبِ
أَعْرَبَتْ عَنْ شَجَاعَتِهِ وَأَرْعَبَتْ قُلُوبَهُمْ وَشَرَّدَتْهُمْ فِي
الْبِلَادِ شَذَرَ مَذَرَ، وَقَدْ كَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ مُحَافِظًا عَلَى
الصَّلَوَاتِ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ، وَلَهُ آثَارٌ حَسَنَةٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فِي
إِصْلَاحِ الْمَصَانِعِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي يُحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَلَهُ
مَدْرَسَةٌ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ بِمَشْهَدِ يُونُسَ بِالْكُوفَةِ، وَبَنَى
مَسْجِدًا بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ عَلَى دِجْلَةَ بِمَشْرَعَةِ
الْكَرْخِ. تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَلَمَّا بَلَغَ نِظَامَ الْمُلْكِ وَفَاتُهُ قَالَ مَاتَ أَلْفُ رَجُلٍ.
عَلِيُّ بْنُ فَضَّالٍ الْمُجَاشِعِيُّ
أَبُو الْحَسَنِ النَّحْوِيُّ الْمَغْرِبِيُّ لَهُ الْمُصَنَّفَاتُ
الدَّالَّةُ
عَلَى عِلْمِهِ وَغَزَارَةِ فَهْمِهِ، وَأَسْنَدَ الْحَدِيثَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ أَبْرَزَ.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ التُّسْتَرِيُّ
كَانَ مُقَدَّمَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي الْمَالِ وَالْجِدَةِ، وَلَهُ مَرَاكِبُ
تَعْمَلُ فِي الْبَحْرِ، قَرَأَ الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَرَّدَ
بِرِوَايَةِ " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
يَحْيَى بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْحُسَيْنِيُّ
كَانَ فَقِيهًا عَلَى مَذْهَبِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَعِنْدَهُ
مَعْرِفَةٌ بِالْأُصُولِ وَالْحَدِيثِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا نُقِلَ جَهَازُ ابْنَةِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ إِلَى
دَارِ الْخِلَافَةِ عَلَى مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ جَمَلًا مُجَلَّلَةً بِالدِّيبَاجِ
الرُّومِيِّ غَالِبُهَا أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعَلَى أَرْبَعٍ
وَسَبْعِينَ بَغْلَةً مُجَلَّلَةً بِأَنْوَاعِ الدِّيبَاجِ الْمَلَكِيِّ وَكَانَ
عَلَى سِتَّةٍ مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ صُنْدُوقًا مِنْ فِضَّةٍ فِيهَا جَوَاهِرُ
وَحُلِيٌّ، وَبَيْنَ يَدَيِ الْبِغَالِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ فَرَسًا عَلَيْهَا
مَرَاكِبُ الذَّهَبِ مُرَصَّعَةٌ بِأَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ وَمَهْدٌ عَظِيمٌ مُجَلَّلٌ
بِالدِّيبَاجِ الْمَلَكِيِّ عَلَيْهِ صَفَائِحُ الذَّهَبِ مُرَصَّعٌ
بِالْجَوْهَرِ، وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ لِتَلَقِّيهِمْ الْوَزِيرَ أَبَا شُجَاعٍ
وَبَيْنَ يَدَيْهِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ مَوْكَبِيَّةٍ غَيْرَ الْمَشَاعِلِ
لِخِدْمَةِ السِّتِّ خَاتُونَ امْرَأَةِ السُّلْطَانِ تُرْكَانَ خَاتُونَ حَمَاةِ
الْخَلِيفَةِ، وَسَأَلَهَا أَنْ تَحْمِلَ الْوَدِيعَةَ الشَّرِيفَةَ إِلَى دَارِ
الْخِلَافَةِ فَأَجَابَتْ إِلَى ذَلِكَ، فَحَضَرَ الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ
وَأَعْيَانُ الْأُمَرَاءِ وَبَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الشُّمُوعِ وَالْمَشَاعِلِ
مَا لَا يُحْصَى، وَجَاءَتِ نِسَاءُ الْأُمَرَاءِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي
جَمَاعَتِهَا وَجَوَارِيهَا وَبَيْنَ أَيْدِيهِنَّ الشُّمُوعُ وَالْمَشَاعِلُ،
ثُمَّ جَاءَتِ الْخَاتُونَ ابْنَةُ السُّلْطَانِ زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ - بَعْدَ
الْجَمِيعِ - فِي مِحَفَّةٍ مُجَلَّلَةٍ، وَعَلَيْهَا مِنَ الذَّهَبِ
وَالْجَوَاهِرِ مَا لَا تُحْصَى قِيمَتُهُ، وَقَدْ أَحَاطَ بِالْمِحَفَّةِ
مِائَتَا جَارِيَةٍ تُرْكِيَّةٍ بِالْمَرَاكِبِ الْمُزَيَّنَةِ يَبْهَرْنَ
الْأَبْصَارَ، فَدَخَلَتْ دَارَ الْخِلَافَةِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَقَدْ
زُيِّنَ الْحَرِيمُ الطَّاهِرُ، وَأُشْعِلَتْ فِيهِ الشُّمُوعُ، وَكَانَتْ
لَيْلَةً مَشْهُودَةً لِلْخَلِيفَةِ، هَائِلَةً جِدًّا فَلَمَّا كَانَ مِنَ
الْغَدِ أَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ أُمَرَاءَ السُّلْطَانِ، وَمَدَّ سِمَاطًا لَمْ يُرَ
مِثْلُهُ عَمَّ الْحَاضِرِينَ
وَالْغَائِبِينَ،
وَخَلَعَ عَلَى الْخَاتُونَ زَوْجَةِ السُّلْطَانِ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا،
وَكَانَ السُّلْطَانُ مُتَغَيِّبًا فِي الصَّيْدِ، ثُمَّ قَدِمَ بَعْدَ أَيَّامٍ،
وَكَانَ الدُّخُولُ بِهَا فِي أَوَّلِ السَّنَةِ، فَوَلَدَتْ مِنَ الْخَلِيفَةِ
فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَلَدًا ذَكَرًا زُيِّنَتْ لَهُ بَغْدَادُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ لِلسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ وَلَدٌ سَمَّاهُ
مَحْمُودًا، وَهُوَ الَّذِي مَلَكَ بَعْدَهُ، وَفِيهَا جَعَلَ السُّلْطَانُ
وَلَدَهُ أَبَا شُجَاعٍ أَحْمَدَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَقَّبُهُ
مَلِكَ الْمُلُوكِ عَضُدَ الدَّوْلَةِ وَتَاجَ الْمِلَّةِ عُدَّةَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، وَخُطِبَ لَهُ بِذَلِكَ عَلَى مَنَابِرِ بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا،
وَنُثِرَ الذَّهَبُ عَلَى الْخُطَبَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ اسْمِهِ.
وَفِيهَا شُرِعَ فِي بِنَاءِ التَّاجِيَّةِ بِبَابِ أَبْرَزَ، وَعُمِلَتْ
مُسَنَّاةٌ، وَغُرِسَتِ النَّخِيلُ وَالْفَوَاكِهُ هُنَالِكَ، وَعُمِلَ سُورٌ
بِأَمْرِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَجْمُ الدَّوْلَةِ خُمَارْتِكِينُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بْنِ سَعِيدٍ أَبُو الْقَاسِمِ
السَّاوِيُّ، رَحَلَ فِي الْحَدِيثِ إِلَى الْآفَاقِ حَتَّى جَاوَزَ مَا وَرَاءَ
النَّهْرِ، وَكَانَ لَهُ حَظٌّ وَافِرٌ فِي الْأَدَبِ وَمَعْرِفَةِ الْعَرَبِيَّةِ
تُوُفِّيَ بِنَيْسَابُورَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
طَاهِرُ
بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَنْدَنِيجِيُّ
أَبُو الْوَفَا الشَّاعِرُ الْمُبَرَّزُ، لَهُ قَصِيدَتَانِ فِي مَدْحِ نِظَامِ
الْمُلْكِ إِحْدَاهُمَا مُعْجَمَةٌ وَالْأُخْرَى غَيْرُ مَنْقُوطَةٍ، أَوَّلُهَا:
لَامُوا وَلَوْ عَلِمُوا مَا اللَّوْمُ مَا لَامُوا وَرَدَّ لَوْمَهُمُ هَمٌّ
وَآلَامُ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَلَدِهِ فِي رَمَضَانَ عَنْ نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ
عَرَضَ لَهُ جُدَرِيٌّ فَمَاتَ فِيهَا، وَلَهُ تِسْعُ سِنِينَ فَحَزِنَ عَلَيْهِ
وَالِدُهُ وَالنَّاسُ وَجَلَسُوا لِلْعَزَاءِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَقُولُ:
إِنَّ لَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةً حَسَنَةً حِينَ تُوُفِّيَ ابْنُهُ
إِبْرَاهِيمُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ثُمَّ عَزَمَ عَلَى النَّاسِ
فَانْصَرَفُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
أَبُو الْحَسَنِ الْحُسَيْنِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالْمُرْتَضَى ذِي الشَّرَفَيْنِ،
وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَقَرَأَ
بِنَفْسِهِ عَلَى الشُّيُوخِ وَصَحِبَ الْحَافِظَ أَبَا بَكْرٍ الْخَطِيبَ
فَصَارَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْحَدِيثِ، وَسَمِعَ عَلَيْهِ الْخَطِيبُ
شَيْئًا مِنْ مَرْوِيَّاتِهِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى سَمَرْقَنْدَ وَأَمْلَى
الْحَدِيثَ بِأَصْبَهَانَ، وَغَيْرِهَا، وَكَانَ يَرْجِعُ إِلَى عَقْلٍ كَامِلٍ
وَفَضْلٍ وَمُرُوءَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ وَأَمْلَاكٌ
مُتَّسِعَةٌ وَنِعْمَةٌ وَافِرَةٌ، يُقَالُ: إِنَّهُ مَلَكَ
أَرْبَعِينَ
قَرْيَةً، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْبِرِّ وَالصِّلَةِ لِلْعُلَمَاءِ
وَالْفُقَرَاءِ، وَبَلَغَتْ زَكَاةُ مَالِهِ الصَّامِتِ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ
غَيْرَ زَكَاةِ الْعُشُورِ وَكَانَ لَهُ بُسْتَانٌ لَيْسَ لِمَلِكٍ مِثْلُهُ،
فَطَلَبَهُ مِنْهُ مَلِكُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، - وَاسْمُهُ الْخَضِرُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ - عَارِيَةً لِيَتَنَزَّهَ فِيهِ فَأَبَى عَلَيْهِ، وَقَالَ
أُعِيرُهُ إِيَّاهُ لِيَشْرَبَ فِيهِ الْخَمْرَ بَعْدَ مَا كَانَ مَأْوَى أَهْلِ
الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ وَالدِّينِ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَحَقَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ
اسْتَدْعَاهُ إِلَيْهِ لِيَسْتَشِيرَهُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ عَلَى الْعَادَةِ،
فَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَهُ قَبَضَ عَلَيْهِ وَسَجَنَهُ فِي قَلْعَتِهِ
وَاسْتَحْوَذَ عَلَى جَمِيعِ أَمْلَاكِهِ وَحَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَكَانَ
يَقُولُ: مَا تَحَقَّقْتُ صِحَّةَ نَسَبِي إِلَّا بِهَذِهِ الْمُصَادَرَةِ،
فَإِنِّي رُبِّيتُ فِي النَّعِيمِ فَكُنْتُ أَقُولُ: إِنَّ مِثْلِي لَا بُدَّ أَنْ
يُبْتَلَى، ثُمَّ مَنَعُوهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ حَتَّى مَاتَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - فِي الْقَلْعَةِ، فَأَخْرَجُوهُ وَدَفَنُوهُ هُنَاكَ فَقَبْرُهُ
يُزَارُ، أَكْرَمَ اللَّهُ مَثْوَاهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ هِلَالِ بْنِ الْمُحَسِّنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الصَّابِئِ الْمُلَقَّبُ بِغَرْسِ النِّعْمَةِ سَمِعَ
أَبَاهُ وَأَبَا عَلِيِّ بْنَ شَاذَانَ، وَكَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ كَثِيرَةٌ
وَمَعْرُوفٌ، وَقَدْ ذَيَّلَ عَلَى تَارِيخِ أَبِيهِ الَّذِي ذَيَّلَهُ عَلَى تَارِيخِ
أَبِيهِ الَّذِي ذَيَّلَهُ عَلَى تَارِيخِ ثَابِتِ بْنِ سِنَانٍ الَّذِي ذَيَّلَهُ
عَلَى تَارِيخِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَقَدْ أَنْشَأَ دَارًا بِبَغْدَادَ
وَوَقَفَ فِيهَا أَرْبَعَةَ آلَافِ مُجَلَّدٍ فِي فُنُونٍ مِنَ الْعُلُومِ
وَتَرَكَ حِينَ مَاتَ سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَدُفِنَ بِمَشْهَدِ عَلِيٍّ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرَحِمَهُ.
هِبَةُ
اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُحَلَّى
أَبُو نَصْرٍ، جَمَعَ خُطَبًا وَوَعْظًا وَسَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى مَشَايِخَ
عَدِيدَةٍ، وَتُوُفِّيَ شَابًّا قَبْلَ أَوَانِ الرِّوَايَةِ.
أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ أَمِيرُ الْمُلَثَّمِينَ
كَانَ فِي أَرْضِ فَرْغَانَةَ اتَّفَقَ لَهُ مِنَ النَّامُوسِ مَا لَمْ يَتَّفِقْ
لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُلُوكِ، كَانَ يَرْكَبُ مَعَهُ إِذَا سَارَ لِقِتَالِ عَدُوٍّ
خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، كَلٌّ يَعْتَقِدُ طَاعَتَهُ، وَكَانَ يُقِيمُ
الْحُدُودَ وَيَحْفَظُ مَحَارِمَ الْإِسْلَامِ، وَيَسِيرُ فِي النَّاسِ سِيرَةً
شَرْعِيَّةً مَعَ صِحَّةِ مُعْتَقَدِهِ وَمُوَالَاةِ الدَّوْلَةِ
الْعَبَّاسِيَّةِ، أَصَابَتْهُ نُشَّابَةٌ فِي بَعْضِ حُرُوبِهِ، فَجَاءَتْهُ فِي
حَلْقِهِ فَقَتَلَتْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
فَاطِمَةُ بِنْتُ عَلِيٍّ
الْمُؤَدِّبَةُ الْكَاتِبَةُ، وَتُعْرَفُ بِبِنْتِ الْأَقْرَعِ، سَمِعَتِ
الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَتْ تَكْتُبُ
الْمَنْسُوبَ عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ الْبَوَّابِ، وَيَكْتُبُ النَّاسُ عَلَيْهَا،
وَبِخَطِّهَا كَانَتِ الْهُدْنَةُ مِنَ الدِّيوَانِ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ،
وَكَتَبَتْ مَرَّةً إِلَى عَمِيدِ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيِّ رُقْعَةً فَأَعْطَاهَا
أَلْفَ دِينَارٍ. تُوُفِّيَتْ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِبَغْدَادَ
وَدُفِنَتْ بِبَابِ أَبْرَزَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ فِتَنٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ بِبَغْدَادَ،
وَجَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أُخْرِجَتِ الْأَتْرَاكُ مِنْ حَرِيمِ الْخِلَافَةِ،
وَهَذَا فِيهِ قُوَّةٌ لِلْخِلَافَةِ، وَفِيهَا مَلَكَ مَسْعُودُ بْنُ الْمَلِكِ
الْمُؤَيَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ
بِلَادَ غَزْنَةَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَفِيهَا فَتَحَ مَلِكْشَاهْ مَدِينَةَ
سَمَرْقَنْدَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ خُمَارْتِكِينُ، وَمِمَّنْ حَجَّ
فِيهَا الْوَزِيرُ أَبُو شُجَاعٍ وَاسْتَنَابَ وَلَدَهُ أَبَا مَنْصُورٍ وَطِرَادَ
بْنَ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيَّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِ أَبِيهِ تُوُفِّيَ
وَعُمْرُهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً فَمَكَثَ النَّاسُ فِي الْعَزَاءِ سَبْعَةَ
أَيَّامٍ لَمْ يَرْكَبْ أَحَدٌ فَرَسًا، وَالنِّسَاءُ يَنُحْنَ عَلَيْهِ فِي
الْأَسْوَاقِ، وَسَوَّدَ أَهْلُ الْبِلَادِ الَّتِي لِأَبِيهِ أَبْوَابَهُمْ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
جَعْفَرٍ
أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ الْهَرَوِيُّ، رَوَى الْحَدِيثَ وَصَنَّفَ
وَكَانَ كَثِيرَ السَّهَرِ بِاللَّيْلِ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَرَاةَ فِي ذِي
الْحِجَّةِ عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ دَرَّسَ أَبُو بَكْرٍ الشَّامِيُّ بِالْمَدْرَسَةِ التَّاجِيَّةِ
بِبَابِ أَبْرَزَ، وَكَانَ قَدْ أَنْشَأَهَا الصَّاحِبُ تَاجُ الْمُلْكِ أَبُو
الْغَنَائِمِ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ. وَفِيهَا كَانَتْ فِتَنٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ
الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ، وَرَفَعُوا الْمَصَاحِفَ وَجَرَتْ حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ،
وَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، نَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ
" مِنْ خَطِّ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ قُتِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَرِيبٌ
مِنْ مِائَتَيْ رَجُلٍ، قَالَ: وَسَبَّ أَهْلُ الْكَرْخِ الصَّحَابَةَ وَأَزْوَاجَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَارْتَفَعُوا إِلَى سَبِّ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ
الْكَرْخِ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ. وَإِنَّمَا حَكَيْتُ هَذَا لِيَعْلَمَ
الْوَاقِفُ عَلَيْهِ مَا فِي طَوَايَا الرَّوَافِضِ مِنَ الْخُبْثِ وَالْبُغْضِ
لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَالْعَدَاوَةِ الْبَاطِنَةِ الْكَامِنَةِ فِي
قُلُوبِهِمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَشَرِيعَتِهِ.
وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَطَائِفَةً
كَثِيرَةً مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ بَعْدَ حُرُوبٍ عَظِيمَةٍ وَوَقَعَاتٍ
هَائِلَةٍ وَفِيهَا اسْتَوْلَى جَيْشُ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى عِدَّةٍ مِنْ بِلَادِ
الشَّامِ وَفِيهَا عُمِّرَتْ مَنَارَةُ جَامِعِ حَلَبَ وَفِيهَا أَرْسَلَتِ
الْخَاتُونُ بِنْتُ السُّلْطَانِ تَشْكُو إِلَى أَبِيهَا إِعْرَاضَ الْخَلِيفَةِ
عَنْهَا فَبَعَثَ إِلَيْهَا أَبُوهَا الطَّوَاشِيَّ صَوَابًا وَالْأَمِيرَ
بَزَّانَ لِيُرْجِعَهَا إِلَيْهِ فَأَجَابَ الْخَلِيفَةُ إِلَى ذَلِكَ وَبَعَثَ
مَعَهَا
بِالنَّقِيبِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ وَخَرَجَ ابْنُ
الْخَلِيفَةِ أَبُو الْفَضْلِ وَالْوَزِيرُ فَشَيَّعَاهَا إِلَى النَّهْرَوَانِ
وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى عِنْدِ أَبِيهَا
تُوُفِّيَتْ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِأَصْبَهَانَ فَعُمِلَ
عَزَاؤُهَا بِبَغْدَادَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى
السُّلْطَانِ أَمِيرَيْنِ لِتَعْزِيَتِهِ فِيهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ خُمَارْتِكِينُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ، الْمَعْرُوفُ بِظَاهِرٍ
النَّيْسَابُورِيُّ الْحَافِظُ رَحَلَ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَخَرَجَ وَعَاجَلَهُ
الْمَوْتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِهَمَذَانَ وَهُوَ شَابٌّ.
عَلِيُّ بْنُ أَبِي يَعْلَى بْنِ زَيْدٍ
أَبُو الْقَاسِمِ الدَّبُوسِىُّ مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بَعْدَ الْمُتَوَلِّي
سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ وَكَانَ فَقِيهًا مَاهِرًا وَجَدَلِيًّا بَاهِرًا.
عَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمِ بْنِ مِهْرَانَ
أَبُو الْحُسَيْنِ الْعَاصِمِيُّ مِنْ أَهْلِ الْكَرْخِ سَكَنَ بَابَ الشَّعِيرِ
وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ
وَالْأَدَبِ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْخَطِيبِ وَغَيْرِهِ وَكَانَ ثِقَةً
حَافِظًا،
وَمِنْ
شِعْرِهِ الْجَيِّدِ قَوْلُهُ:
لَهَفِي عَلَى قَوْمٍ بِكَاظِمَةٍ وَدَّعْتُهُمْ وَالرَّكْبُ مُعْتَرِضُ لَمْ
تَتْرُكِ الْعَبَرَاتُ مُذْ بَعُدُوا
لِي مُقْلَةً تَرْنُو وَتَغْتَمِضُ رَحَلُوا فَدَمْعِي وَاكِفٌ هَطِلٌ
جَارٍ وَقَلْبِي حَشْوُهُ مَرَضُ وَتَعَوَّضُوا لَا ذُقْتُ فَقْدَهُمُ
عَنِّي وَمَالِي عَنْهُمُ عِوَضُ أَقْرَضْتُهُمْ قَلْبِي عَلَى ثِقَةٍ
مِنْهُمْ فَمَا رَدُّوا الَّذِي اقْتَرَضُوا
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَامِدِ بْنِ عُبَيْدٍ
أَبُو جَعْفَرٍ الْبُخَارِيُّ الْمُتَكَلِّمُ الْمُعْتَزِلِيُّ أَقَامَ
بِبَغْدَادَ وَيُعْرَفُ بِقَاضِي حَلَبَ وَكَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ فِي
الْفُرُوعِ مُعْتَزِلِيًّا فِي الْأُصُولِ مَاتَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
الْأَصْبَهَانِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِسَمْكُويَهِ أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْجَوَّالِينَ الرَّحَّالِينَ
سَمِعَ الْكَثِيرَ وَجَمَعَ الْكُتُبَ وَأَقَامَ بِهَرَاةَ وَكَانَ صَالِحًا
كَثِيرَ الْعِبَادَةِ تُوُفِّيَ بِنَيْسَابُورَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ وَرَدَ الْفَقِيهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ
بِمَنْشُورِ نِظَامِ الْمُلْكِ بِالتَّدْرِيسِ بِالنِّظَامِيَّةِ فَدَرَّسَ بِهَا
ثُمَّ قَدِمَ الْفَقِيهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ الشِّيرَازِيُّ
بِمَنْشُورٍ آخَرَ مِنْهُ بِالتَّدْرِيسِ بِهَا. فَاتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ
يُدَرِّسَ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى دَهَمَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ تِلْيَا
كَانَ يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ فَاسْتَغْوَى خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا وَزَعَمَ
أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ وَأَحْرَقَ مِنَ الْبَصْرَةِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ
دَارُ كُتُبٍ كَانَتْ أَوَّلَ دَارِ كُتُبٍ وُقِفَتْ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَتْلَفَ
شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الدَّوَالِيبِ وَالْمَصَانِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيِّ
بِنِقَابَةِ الْعَبَّاسِيِّينَ بَعْدَ أَبِيهِ. وَفِيهَا اسْتُفْتِيَ عَلَى
مُعَلِّمِي الصِّبْيَانِ أَنْ يُمْنَعُوا مِنَ الْمَسَاجِدِ صِيَانَةً لَهَا،
وَلَمْ يُسْتَثْنَ مِنْهُمْ سِوَى رَجُلٍ كَانَ فَقِيهًا شَافِعِيًّا يَدْرِي
كَيْفَ تُصَانُ الْمَسَاجِدُ، وَاسْتَدَلَّ الْمُفْتِي بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُسُدُّوا كُلَّ خَوْخَةٍ إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ
وَحَجَّ بِالنَّاسِ خُمَارْتِكِينُ عَلَى الْعَادَةِ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْوَزِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ جَهِيرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَهِيرٍ
فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْوُزَرَاءِ، وَزَرَ لِلْقَائِمِ ثُمَّ
لِوَلَدِهِ الْمُقْتَدِي ثُمَّ عَزَلَهُ مَلِكْشَاهْ السُّلْطَانُ وَوَلَّاهُ
دِيَارَ بَكْرٍ وَغَيْرَهَا، فَمَاتَ بِالْمَوْصِلِ وَهِيَ الْبَلَدُ الَّتِي
وُلِدَ بِهَا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا كَتَبَ الْمُنَجِّمُ الَّذِي أَحْرَقَ الْبَصْرَةَ إِلَى
أَهْلِ وَاسِطٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَيَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ
الْمَهْدِيُّ صَاحِبُ الزَّمَانِ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيَهْدِي الْخَلْقَ إِلَى الْحَقِّ فَإِنْ أَطَعْتُمْ أَمِنْتُمْ
مِنَ الْعَذَابِ وَإِنْ عَدَلْتُمْ عَنِ الْحَقِّ خُسِفَ بِكُمْ فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَبِالْإِمَامِ الْمَهْدِيِّ.
وَفِيهَا أُلْزِمَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِلُبْسِ الْغِيَارِ وَشَدِّ الزُّنَّارِ
وَكَذَلِكَ نِسَاؤُهُمْ فِي الْحَمَّامَاتِ وَغَيْرِهَا وَفِي جُمَادَى الْأُولَى
قَدِمَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْغَزَّالِيُّ
الطُّوسِيُّ مِنْ أَصْبَهَانَ إِلَى بَغْدَادَ عَلَى تَدْرِيسِ النِّظَامِيَّةِ
بِهَا، وَلَقَّبَهُ نِظَامُ الْمُلْكِ زَيْنَ الدِّينِ شَرَفَ الْأَئِمَّةِ قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ كَلَامُهُ مَعْسُولًا وَذَكَاؤُهُ شَدِيدًا وَفِي
رَمَضَانَ مِنْهَا عُزِلَ الْوَزِيرُ أَبُو شُجَاعٍ عَنْ وَزَارَةِ الْخِلَافَةِ،
فَأَنْشَدَ عِنْدَ عَزْلِهِ:
تَوَلَّاهَا وَلَيْسَ لَهُ عَدُوٌّ وَفَارَقَهَا وَلَيْسَ لَهُ صَدِيقُ
ثُمَّ جَاءَهُ كِتَابُ نِظَامِ الْمُلْكِ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَغْدَادَ فَخَرَجَ
مِنْهَا إِلَى عِدَّةِ أَمَاكِنَ فَلَمْ تَطِبْ لَهُ فَعَزَمَ عَلَى الْحَجِّ
ثُمَّ طَابَتْ نَفْسُ النِّظَامِ عَلَيْهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ
يَسْأَلُهُ
أَنْ يَكُونَ عَدِيلَهُ فِي ذَلِكَ وَنَابَ ابْنُ الْمُوصَلَايَا فِي
الْوَزَارَةِ، وَقَدْ كَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ هَذِهِ الْمُبَاشَرَةِ فِي أَوَّلِ
هَذِهِ السَّنَةِ. وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ
بَغْدَادَ وَمَعَهُ الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ وَقَدْ خَرَجَ لِتَلَقِّيهِ
قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو بَكْرٍ الشَّامِيُّ وَابْنُ الْمُوصَلَايَا
الْمُسْلِمَانِيُّ وَجَاءَتْ مُلُوكُ الْأَطْرَافِ إِلَيْهِ ; لِلسَّلَامِ
عَلَيْهِ، مِنْهُمْ أَخُوهُ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشُ صَاحِبُ دِمَشْقَ وَأَتَابِكُهُ
قَسِيمُ الدَّوْلَةِ آقَ سُنْقُرُ صَاحِبُ حَلَبَ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ خَرَجَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ وَابْنُهُ وَابْنُ
ابْنَتِهِ مِنَ الْخَلِيفَةِ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ إِلَى الْكُوفَةِ وَفِيهَا
اسْتُوْزِرَ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ جَهِيرٍ وَهِيَ النَّوْبَةُ الثَّانِيَةُ
لِوَزَارَتِهِ لِلْمُقْتَدِي، وَخُلِعَ عَلَيْهِ وَرَكِبَ إِلَيْهِ نِظَامُ
الْمُلْكِ فَهَنَّأَهُ فِي دَارِهِ بِبَابِ الْعَامَّةِ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ عَمِلَ السُّلْطَانُ الْمِيلَادَ فِي دِجْلَةَ، وَأُشْعِلَتْ
نِيرَانٌ عَظِيمَةٌ، وَأُوْقِدَتْ شُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَتْ لَيْلَةً
مَشْهُودَةً عَجِيبَةً جِدًّا، وَقَدْ نَظَمَ فِيهَا الشُّعَرَاءُ الشِّعْرَ،
فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّهَارُ مِنْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ طِيفَ بِالْخَبِيثِ
الدَّاعِيَةِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ تِلْيَا الْمُنَجِّمُ، عَلَى
جَمَلٍ بِبَغْدَادَ وَهُوَ يَسُبُّ النَّاسَ وَالنَّاسُ يَلْعَنُونَهُ وَعَلَى
رَأْسِهِ طُرْطُورٌ بِوَدَعٍ وَالدِّرَّةُ تَأْخُذُهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ثُمَّ
صُلِبَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ جَلَالُ الدَّوْلَةِ بِعِمَارَةِ
جَامِعِهِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ بِظَاهِرِ السُّورِ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ
مَلَكَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ يُوسُفُ بْنُ تَاشُفِينَ صَاحِبُ بِلَادِ
الْمَغْرِبِ كَثِيرًا مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَأَسَرَ صَاحِبَهَا
الْمُعْتَمِدَ بْنَ عَبَّادٍ، وَسَجَنَهُ وَأَهْلَهُ بِأَغْمَاتَ، وَقَدْ كَانَ
الْمُعْتَمِدُ هَذَا مَوْصُوفًا بِالْكَرَمِ وَالْأَدَبِ وَالْحِلْمِ وَحُسْنِ
السِّيرَةِ
وَالْعِشْرَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الرَّعِيَّةِ وَالرِّفْقِ بِهِمْ فَحَزِنَ
النَّاسُ عَلَيْهِ وَقَالَ فِي مُصَابِهِ الشُّعَرَاءُ فَأَكْثَرُوا.
وَفِيهَا مَلَكَتِ الْفِرَنْجُ مَدِينَةَ صِقِلِّيَةَ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ
وَمَاتَ مَلِكُهُمْ فَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ، فَسَارَ فِي النَّاسِ سِيرَةَ
مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ كَأَنَّهُ مِنْهُمْ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلَازِلُ كَثِيرَةٌ بِالشَّامِ وَغَيْرِهَا فَهَدَّمَتْ
بُنْيَانًا كَثِيرًا وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تِسْعُونَ بُرْجًا مِنْ سُورِ
أَنْطَاكِيَةَ وَهَلَكَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَحَجَّ بِالنَّاسِ
خُمَارْتِكِينُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلَّكَ، أَبُو طَاهِرٍ وُلِدَ
بِأَصْبَهَانَ وَتَفَقَّهَ بِسَمَرْقَنْدَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ فَتْحِهَا
عَلَى يَدِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ الشَّافِعِيَّةِ
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ. قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مَنْدَهْ:
لَمْ نَرَ فَقِيهًا فِي وَقْتِنَا أَنْصَفَ مِنْهُ وَلَا أَعْلَمَ، وَكَانَ
فَصِيحَ اللَّهْجَةِ، كَثِيرَ الْمُرُوءَةِ غَزِيرَ النِّعْمَةِ، تُوُفِّيَ
بِبَغْدَادَ وَمَشَى الْوُزَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ فِي جِنَازَتِهِ غَيْرَ أَنَّ
نِظَامَ الْمُلْكِ رَكِبَ وَاعْتَذَرَ بِكِبَرِ السِّنِّ وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ
الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَجَاءَ
السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ إِلَى التُّرْبَةِ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: جَلَسْتُ
بُكْرَةَ الْعَزَاءِ إِلَى جَانِبِ نِظَامِ الْمُلْكِ وَالْمُلُوكُ قِيَامٌ بَيْنَ
يَدَيْهِ
اجْتَرَأْتُ
عَلَى ذَلِكَ بِالْعِلْمِ. حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَامِدٍ
أَبُو نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، كَانَ إِمَامًا فِي الْقِرَاءَاتِ وَلَهُ فِيهَا
الْمُصَنَّفَاتُ، وَسَافَرَ فِي ذَلِكَ كَثِيرًا، وَاتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ غَرِقَ
فِي الْبَحْرِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ ; فَبَيْنَمَا الْمَوْجُ يَرْفَعُهُ
وَيَضَعُهُ إِذْ نَظَرَ إِلَى الشَّمْسِ قَدْ زَالَتْ فَنَوَى الْوُضُوءَ وَانْغَمَسَ
فِي الْمَاءِ، ثُمَّ صَعِدَ فَإِذَا خَشَبَةٌ فَرَكِبَهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا
وَرَزَقَهُ اللَّهُ السَّلَامَةَ بِبَرَكَةِ الصَّلَاةِ وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ
دَهْرًا وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَهُ نَيِّفٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ
أَبُو بَكْرٍ النَّاصِحُ، الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ الْمُنَاظِرُ الْمُتَكَلِّمُ
الْمُعْتَزِلِيُّ، وَقَدْ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِنَيْسَابُورَ ثُمَّ عُزِلَ مِنْهَا
بِخِيَانَةِ وُكَلَائِهِ وَأَخْذِهِمُ الرُّشَا، وَوَلِيَ قَضَاءَ الرَّيِّ وَقَدْ
سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ
مِنْهَا.
أَرْتُقُ بْنُ أَكْسَبَ التُّرْكُمَانِيُّ
جَدُّ الْمُلُوكِ الْأَرْتُقِيَّةِ الَّذِينَ هُمُ الْيَوْمَ مُلُوكُ مَارْدِينَ،
كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا عَالِيَ الْهِمَّةَ، تَغَلَّبَ عَلَى بِلَادٍ كَثِيرَةٍ
وَقَدْ تَرْجَمَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ بِهَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ بِبِنَاءِ سُوقِ الْمَدِينَةِ
الْمَعْرُوفَةِ بِطُغْرُلْبَكَ إِلَى جَانِبِ دَارِ الْمُلْكِ وَجَدَّدَ
خَانَاتِهَا وَأَسْوَاقَهَا وَدُورَهَا وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ الْجَامِعِ الَّذِي
تَمَّ عَلَى يَدِ هَارُونَ الْخَادِمِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ. وَوَقَفَ عَلَى نَصْبِ قِبْلَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَمُنَجِّمُهُ
إِبْرَاهِيمُ حَاضِرٌ وَنُقِلَتْ إِلَيْهِ أَخْشَابُ جَامِعِ سَامَرَّا وَشَرَعَ
نِظَامُ الْمُلْكِ فِي بِنَاءِ دَارٍ هَائِلَةٍ لَهُ، وَكَذَلِكَ تَاجُ الْمُلُوكِ
أَبُو الْغَنَائِمِ، شَرَعَ فِي بِنَاءِ دَارٍ هَائِلَةٍ أَيْضًا وَاسْتَوْطَنُوا الْبَلَدَ
وَطَابَتْ لَهُمْ بَغْدَادُ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ فِي أَمَاكِنَ
شَتَّى، فَمَا أُطْفِئَ حَتَّى هَلَكَ لِلنَّاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَمَا عَمَّرُوا
بِقَدْرِ مَا حُرِقَ وَمَا غَرِمُوا.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ خَرَجَ السُّلْطَانُ إِلَى أَصْبَهَانَ وَفِي صُحْبَتِهِ
وَلَدُ الْخَلِيفَةِ أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فِي
رَمَضَانَ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطَّرِيقِ يَوْمَ عَاشِرِهِ عَدَا صَبِيٌّ مِنَ
الدَّيْلَمِ عَلَى الْوَزِيرِ نِظَامِ الْمُلْكِ، بَعْدَ أَنْ أَفْطَرَ فَضَرَبَهُ
بِسِكِّينٍ فَقَضَى عَلَيْهِ، وَأُخِذَ الصَّبِيُّ الدَّيْلَمِيُّ فَقُتِلَ،
وَقَدْ كَانَ مِنْ كِبَارِ الْوُزَرَاءِ وَخِيَارِ الْأُمَرَاءِ، وَسَنَذْكُرُ
شَيْئًا مِنْ سِيرَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ تَرْجَمَتِهِ.
وَقَدِمَ السُّلْطَانُ بَغْدَادَ فِي رَمَضَانَ بِنِيَّةٍ غَيْرِ صَالِحَةٍ
فَلَقَّاهُ اللَّهُ فِي نَفْسِهِ
مَا
تَمَنَّاهُ لِأَعْدَائِهِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ رِكَابُهُ
بِبَغْدَادَ وَجَاءَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ وَالتَّهْنِئَةِ بِقُدُومِهِ
وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يُهَنِّئُهُ فَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ
يَقُولُ لَهُ: لَا بُدَّ أَنْ تَتْرُكَ لِي بَغْدَادَ وَتَتَحَوَّلَ إِلَى أَيِّ
الْبِلَادِ شِئْتَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ يَسْتَنْظِرُهُ شَهْرًا
فَرَدَّ عَلَيْهِ: وَلَا سَاعَةً وَاحِدَةً، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَتَوَسَّلُ فِي
إِنْظَارِهِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَمَنُّعٍ شَدِيدٍ،
فَمَا اسْتَتَمَّ الْأَجَلُ حَتَّى خَرَجَ السُّلْطَانُ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ
إِلَى الصَّيْدِ فَأَصَابَتْهُ حُمَّى شَدِيدَةٌ فَافْتَصَدَ فَمَا قَامَ مِنْهَا
حَتَّى مَاتَ قَبْلَ الْعَشَرَةِ أَيَّامٍ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
فَاسْتَحْوَذَتْ زَوْجَتُهُ زُبَيْدَةُ خَاتُونُ عَلَى الْجَيْشِ، وَضَبَطَتِ
الْأَحْوَالَ جَيِّدًا وَأَرْسَلَتْ إِلَى الْخَلِيفَةِ تَسْأَلُ مِنْهُ أَنْ
يَكُونَ وَلَدُهَا مَحْمُودٌ مَلِكًا بَعْدَ أَبِيهِ وَأَنْ يُخْطَبَ لَهُ عَلَى
الْمَنَابِرِ، فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ
وَبَعَثَ يُعَزِّيهَا وَيُهَنِّئُهَا مَعَ وَزِيرِهِ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ ابْنِ
جَهِيرٍ وَكَانَ عُمُرُ الْمَلِكِ مَحْمُودٍ هَذَا يَوْمَئِذٍ خَمْسَ سِنِينَ،
ثُمَّ أَخَذَتْهُ وَالِدَتُهُ فِي الْجُيُوشِ وَسَارَتْ بِهِ نَحْوَ أَصْبَهَانَ
لِتُوَطِّدِ لَهُ الْمُلْكَ فَدَخَلُوهَا وَتَمَّ لَهُمْ مُرَادُهُمْ وَخُطِبَ
لَهُ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ حَتَّى فِي الْحَرَمَيْنِ، وَاسْتُوْزِرَ لَهُ تَاجُ
الْمُلْكِ أَبُو الْغَنَائِمِ الْمَرْزُبَانُ بْنُ خِسْرُو، وَأَرْسَلَتْ أُمُّ
الْمَلِكِ مَحْمُودٍ تَسْأَلُ لَهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يُوَلِّيَهُ الْمُلْكَ
وَأَنْ يَجْعَلَ وِلَايَاتِ الْعُمَّالِ إِلَيْهِ فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: هَذَا لَا
يُسِيغُهُ الشَّرْعُ. وَوَافَقَهُ الْغَزَّالِيُّ، عَلَى ذَلِكَ وَأَفْتَى
الْمُشَطَّبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَنَفِيُّ بِجَوَازِ ذَلِكَ، فَلَمْ يُعْمَلْ
إِلَّا بِقَوْلِ الْغَزَّالِيِّ وَانْحَازَ أَكْثَرُ جَيْشِ السُّلْطَانِ إِلَى
ابْنِهِ الْآخَرِ بَرْكْيَارُوقَ، فَبَايَعُوهُ وَخَطَبُوا لَهُ بِالرَّيِّ
وَانْفَرَدَتِ الْخَاتُونُ وَوَلَدُهَا وَمَعَهُمْ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنَ
الْجَيْشِ وَالْخَاصِّكِيَّةِ فَأَنْفَقَتْ فِيهِمْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ
أَلْفِ
دِينَارٍ لِقِتَالِ بَرْكْيَارُوقَ بْنِ مَلِكْشَاهْ فَالْتَقَوْا فِي ذِي
الْحِجَّةِ فَكَانَتْ خَاتُونُ هِيَ الْمُنْهَزِمَةَ وَمَعَهَا وَلَدُهَا وَقَدْ
ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا
أَمْرَهُمُ امْرَأَةً.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ اعْتَرَضَتْ بَنُو خَفَاجَةَ لِلْحَجِيجِ فَقَاتَلَهُمْ
مَنْ فِي الْحَجِيجِ مِنَ الْجُنْدِ مَعَ الْأَمِيرِ خُمَارْتِكِينَ فَهَزَمُوهُمْ
وَنُهِبَتْ أَمْوَالُ الْأَعْرَابِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا جَاءَ بَرَدٌ شَدِيدٌ عَظِيمٌ بِالْبَصْرَةِ وَزْنُ الْبَرَدَةِ
الْوَاحِدَةِ مِنْهُ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ رِطْلًا،
فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ، وَجَاءَ رِيحٌ
عَاصِفٌ قَاصِفٌ فَأَلْقَى عَشَرَاتِ الْأُلُوفِ مِنَ النَّخِيلِ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ تَاجُ الدَّوْلَةِ تُتُشُ صَاحِبُ دِمَشْقَ
مَدِينَةَ حِمْصَ وَقَلْعَةَ عِرْقَةَ وَقَلْعَةَ أَفَامِيَةَ، وَمَعَهُ قَسِيمُ
الدَّوْلَةِ آقْ سُنْقُرُ، وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ جَهَّزَ سَرِيَّةً إِلَى
الْيَمَنِ صُحْبَةَ سَعْدِ الدَّوْلَةِ كُوَهْرَائِينَ وَأَمِيرٍ آخَرَ مِنَ
التُّرْكُمَانِ، فَدَخَلَاهَا وَأَسَاءَا فِيهَا السِّيرَةَ، فَتُوُفِّيَ
كُوَهْرَائِينُ يَوْمَ دُخُولِهِ إِلَيْهَا فِي مَدِينَةِ عَدَنَ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَي بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو
الْفَضْلِ التَّمِيمِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَكَّاكِ الْمَكِّيِّ، رَحَلَ
فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَأَصْبَهَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِنَ الْبِلَادِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَخَرَّجَ الْأَجْزَاءَ، وَكَانَ حَافِظًا
مُتْقِنًا وَضَابِطًا أَدِيبًا صَدُوقًا خَيِّرًا، وَكَانَ يَتَرَاسَلُ عَنْ
صَاحِبِ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَالْمُرُوءَاتِ قَارَبَ
الثَّمَانِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
نِظَامُ الْمُلْكِ الْوَزِيرُ
هُوَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الْعَبَّاسِ، أَبُو عَلِيٍّ
الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ وَزَرَ لِلْمَلِكِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ وَوَلَدِهِ
مَلِكْشَاهْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ وُلِدَ
بِطُوسَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ يَخْدِمُ
أَصْحَابَ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، وَكَانَ مِنَ الدَّهَاقِينِ فَأَشْغَلَ
وَلَدَهُ هَذَا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَشْغَلَهُ
بِعِلْمِ الْقِرَاءَاتِ وَالتَّفَقُّهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَسَمَاعِ
الْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، وَكَانَ عَالِيَ الْهِمَّةِ، فَحَصَّلَ مِنْ
ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا ثُمَّ تَرَقَّى فِي الْمَرَاتِبِ حَتَّى وَزَرَ
لِلسُّلْطَانِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ
ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ مَلِكْشَاهْ لَمْ يُنْكَبْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا.
وَبَنَى
الْمَدَارِسَ النِّظَامِيَّاتِ بِبَغْدَادَ وَنَيْسَابُورَ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ
مَجْلِسُهُ عَامِرًا بِالْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ بِحَيْثُ يَقْضِي مَعَهُمْ
عَامَّةَ أَوْقَاتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ شَغَلُوكَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ
الْمَصَالِحِ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ جَمَالُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَوْ
أَجْلَسْتُهُمْ عَلَى رَأْسِي مَا اسْتَكْثَرْتُ ذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ
عَلَيْهِ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ وَأَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ
قَامَ لَهُمَا وَأَجْلَسَهُمَا فِي الْمَسْنَدِ، فَإِذَا دَخَلَ أَبُو عَلِيٍّ
الْفَارْمَذِيُّ قَامَ وَأَجْلَسَهُ مَكَانَهُ وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهُمَا إِذَا دَخَلَا عَلَيَّ قَالَا: أَنْتَ
وَأَنْتَ فَأَزْدَادُ تِيهًا، وَأَمَّا الْفَارْمَذِيُّ يَذْكُرُ لِي عُيُوبِي
وَظُلْمِي، فَأَنْكَسِرُ وَأَرْجِعُ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الَّذِي أَنَا فِيهِ.
وَكَانَ مُحَافِظًا عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا لَا يَشْغَلُهُ بَعْدَ
الْأَذَانِ شُغْلٌ عَنْهَا، وَكَانَ يُوَاظِبُ عَلَى صِيَامِ الْاثْنَيْنِ
وَالْخَمِيسِ وَلَهُ الْأَوْقَافُ الدَّارَّةُ وَالصَّدَقَاتُ الْبَارَّةُ.
وَكَانَ يُعَظِّمُ الصُّوفِيَّةَ تَعْظِيمًا زَائِدًا فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ
فَقَالَ إِنِّي كُنْتُ أَخْدُمُ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ فَجَاءَنِي يَوْمًا إِنْسَانٌ
فَقَالَ لِي: اخْدُمْ مَنْ تَنْفَعُكَ خِدْمَتُهُ وَلَا تَخْدُمْ مَنْ تَأْكُلُهُ
الْكِلَابُ غَدًا، فَلَمْ أَفْهَمْ مَا يَقُولُ فَاتَّفَقَ أَنَّ ذَلِكَ
الْأَمِيرَ سَكِرَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَخَرَجَ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ وَهُوَ
ثَمِلٌ، وَكَانَتْ لَهُ كِلَابٌ تَفْتَرِسُ الْغُرَبَاءَ بِاللَّيْلِ فَلَمْ
تَعْرِفْهُ وَمَزَّقَتْهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ أَكَلَتْهُ الْكِلَابُ قَالَ: فَأَنَا
أَطْلُبُ مِثْلَ ذَلِكَ الشَّيْخِ.
وَقَدْ
أَسْمَعَ الْحَدِيثَ فِي أَمَاكِنَ شَتَّى بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا وَكَانَ
يَقُولُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ بِأَنِّي لَسْتُ أَهْلًا لِلرِّوَايَةِ وَلَكِنِّي
أُحِبُّ أَنْ أُرْبَطَ فِي قِطَارِ نَقَلَةِ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَيْضًا: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ إِبْلِيسَ
فَقُلْتُ لَهُ وَيْحَكَ خَلَقَكَ اللَّهُ وَأَمَرَكَ بِالسُّجُودِ لَهُ
مُشَافَهَةً فَأَبَيْتَ وَأَنَا لَمْ يَأْمُرْنِي بِالسُّجُودِ لَهُ مُشَافَهَةً
وَأَنَا أَسْجُدُ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْوِصَالِ أَهْلًا فَكُلُّ إِحْسَانِهِ ذُنُوبُ
وَقَدْ أَجْلَسَهُ الْمُقْتَدِي مَرَّةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ لَهُ: يَا حَسَنُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ بِرِضَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْكَ. وَقَدْ مَلَكَ
أُلُوفًا مِنَ التُّرْكِ.
وَكَانَ لَهُ بَنُونَ كَثِيرَةٌ، وَزَرَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ وَزَرَ ابْنُهُ
أَحْمَدُ لِلسُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ وَلِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ
خَرَجَ نِظَامُ الْمُلْكِ مَعَ السُّلْطَانِ مِنْ أَصْبَهَانَ قَاصِدًا بَغْدَادَ
فِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ
الْعَاشِرُ اجْتَازَ فِي بَعْضِ طَرِيقِهِ بِقَرْيَةٍ بِالْقُرْبِ مِنْ
نَهَاوَنْدَ وَهُوَ يُسَايِرُهُ فِي مِحَفَّةٍ فَقَالَ: قَدْ قُتِلَ هَاهُنَا
خَلْقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ زَمَنَ عُمَرَ فَطُوبَى لِمَنْ يَكُونُ عِنْدَهُمْ،
فَاتَّفَقَ أَنَّهُ لَمَّا أَفْطَرَ جَاءَهُ صَبِيٌّ فِي هَيْئَةِ مُسْتَغِيثٍ
بِهِ وَمَعَهُ قِصَّةٌ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ ضَرَبَهُ بِسِكِّينٍ فِي
فُؤَادِهِ، وَهَرَبَ فَعَثَرَ بِطُنُبِ الْخَيْمَةِ، فَأُخِذَ فَقُتِلَ، وَمَكَثَ
الْوَزِيرُ سَاعَةً وَجَاءَهُ السُّلْطَانُ يَعُودُهُ فَمَاتَ
وَهُوَ
عِنْدَهُ، وَقَدِ اتُّهِمَ السُّلْطَانُ فِي أَمْرِهِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي
مَالَأَ عَلَيْهِ فَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ بَعْدَهُ سِوَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ
يَوْمًا وَكَانَ فِي ذَلِكَ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ.
وَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ بَغْدَادَ مَوْتُ النِّظَامِ حَزِنُوا عَلَيْهِ وَجَلَسَ
الْوَزِيرُ وَالرُّؤَسَاءُ لِلْعَزَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَرَثَاهُ
الشُّعَرَاءُ مِنْهُمْ مُقَاتِلُ بْنُ عَطِيَّةَ فَقَالَ
كَانَ الْوَزِيرُ نِظَامُ الْمُلْكِ لُؤْلُؤَةً يَتِيمَةً صَاغَهَا الرَّحْمَنُ
مِنْ شَرَفِ
عَزَّتْ فَلَمْ تَعْرِفِ الْأَيَّامُ قِيمَتَهَا فَرَدَّهَا غَيْرَةً مِنْهُ إِلَى
الصَّدَفِ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمَا رَحِمَهُ
اللَّهُ.
عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ نَاقَيَا
أَبُو الْقَاسِمِ الشَّاعِرُ مِنْ أَهْلِ الْحَرِيمِ الطَّاهِرِيِّ وُلِدَ سَنَةَ
عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ مَاهِرًا وَقَدْ رَمَاهُ
بَعْضُهُمْ بِرَأْيِ الْأَوَائِلِ وَأَنَّهُ قَالَ: فِي السَّمَاءِ نَهْرٌ مِنْ
مَاءٍ وَنَهْرٌ مِنْ لَبَنٍ وَنَهْرٌ مِنْ خَمْرٍ وَنَهْرٌ مِنْ عَسَلٍ وَمَا
يَسْقُطُ مِنْ ذَلِكَ قَطْرَةٌ إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا هَذَا الَّذِي هُوَ
يُخَرِّبُ الْبُيُوتَ وَيَهْدِمُ السُّقُوفَ وَهَذَا الْكَلَامُ كُفْرٌ مِنْ
قَائِلِهِ لَعَنَهُ اللَّهُ نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي "
الْمُنْتَظَمِ ".
وَحُكِيَ
عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ وَجَدَ فِي كَفِّهِ مَكْتُوبًا حِينَ مَاتَ هَذَيْنِ
الْبَيْتَيْنِ:
نَزَلْتُ بِجَارٍ لَا يُخَيِّبُ ضَيْفَهُ أُرَجِّي نَجَاتِي مِنْ عَذَابِ
جَهَنَّمِ
وَإِنِّي عَلَى خَوْفِي مِنَ اللَّهِ وَاثِقٌ بِإِنْعَامِهِ وَاللَّهُ أَكْرَمُ
مُنْعِمِ
مَالِكُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَانِيَاسِيُّ الشَّامِيُّ وَقَدْ كَانَ لَهُ اسْمٌ آخَرُ
سَمَّتْهُ بِهِ أُمُّهُ: عَلِيٌّ أَبُو الْحَسَنِ فَغَلَبَ عَلَيْهِ مَا سَمَّاهُ
بِهِ أَبُوهُ، وَمَا كَنَّاهُ بِهِ سَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى مَشَايِخَ كَثِيرَةٍ
وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الصَّلْتِ هَلَكَ فِي
حَرِيقِ سُوقِ الرَّيْحَانِيِّينَ وَلَهُ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَكَانَ ثِقَةً
عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ.
السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ
السُّلْطَانُ الْكَبِيرُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ، أَبُو الْفَتْحِ مَلِكْشَاهْ بْنُ
أَبِي شُجَاعٍ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ
بْنِ تُقَاقَ التُّرْكِيُّ مَلَكَ بَغْدَادَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَامْتَدَّتْ
مَمْلَكَتُهُ مِنْ أَقْصَى بِلَادِ التُّرْكِ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ الْيَمَنِ
وَرَاسَلَهُ
الْمُلُوكُ
مِنْ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْأَقْطَارِ حَتَّى مَلَكَ الرُّومَ وَالْخَزَرَ
وَالَّانَ وَكَانَتْ دَوْلَتُهُ صَارِمَةً وَالطُّرُقَاتُ فِي أَيَّامِهِ آمِنَةً،
وَ مَعَ عَظَمَتِهِ يَقِفُ لِلْمِسْكِينِ وَالْمَرْأَةِ وَالضَّعِيفِ، فَيَقْضِي
حَوَائِجَهُمْ.
وَقَدْ عَمَّرَ الْعِمَارَاتِ الْهَائِلَةَ، وَبَنَى الْقَنَاطِرَ وَأَسْقَطَ
الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ الْكِبَارَ الْخَرَابَ، وَبَنَى
مَدْرَسَةَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالسُّوقَ وَبَنَى الْجَامِعَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ
جَامِعُ السُّلْطَانِ بِبَغْدَادَ، وَبَنَى مَنَارَةَ الْقُرُونِ مِنْ صُيُودِهِ
بِالْكُوفَةِ، وَمِثْلَهَا فِيمَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَضَبَطَ مَا صَادَهُ
بِنَفْسِهِ فِي صُيُودِهِ فَكَانَ ذَلِكَ نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ صَيْدٍ
فَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَال: إِنِّي خَائِفٌ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى أَنْ أَكُونَ أَزْهَقْتُ نَفْسَ حَيَوَانٍ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ.
وَقَدْ كَانَتْ لَهُ أَفْعَالٌ حَسَنَةٌ وَسِيرَةٌ صَالِحَةٌ ; مِنْ ذَلِكَ أَنَّ
فَلَّاحًا أَنْهَى إِلَيْهِ أَنَّ غِلْمَانًا لَهُ أَخَذُوا لَهُ حِمْلَ بِطِّيخٍ،
هُوَ رَأْسُ مَالِهِ. فَقَالَ الْيَوْمَ أَرُدُّ عَلَيْكَ حِمْلَكَ. ثُمَّ قَالَ
لِقَيِّمِهِ: أُرِيدُ أَنْ تَأْتُونِي الْيَوْمَ بِبِطِّيخٍ. فَفَتَّشُوا فَإِذَا
فِي خَيْمَةِ الْحَاجِبِ بِطِّيخٌ فَحَمَلُوهُ إِلَيْهِ، فَاسْتَدْعَى الْحَاجِبَ
فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا الْبِطِّيخُ؟ قَالَ: جَاءَ بِهِ الْغِلْمَانُ
فَقَالَ أَحْضِرْهُمْ فَذَهَبَ فَهَرَّبَهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأَحْضَرَهُ
وَسَلَّمَهُ إِلَى الْفَلَّاحِ، وَقَالَ خُذْ بِيَدِهِ فَإِنَّهُ مَمْلُوكِي
وَمَمْلُوكُ أَبِي، وَإِيَّاكَ أَنْ تُفَارِقَهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ حِمْلَهُ
فَخَرَجَ الْفَلَّاحُ يَحْمِلُهُ وَفِي يَدِهِ الْحَاجِبُ فَاسْتَفْدَى نَفْسَهُ
مِنْهُ
بِثَلَاثِمِائَةِ
دِينَارٍ.
وَلَمَّا تَوَجَّهَ لِقِتَالِ أَخِيهِ تَكِشَ اجْتَازَ بِطُوسَ فَدَخَلَ
لِزِيَارَةِ قَبْرِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا وَمَعَهُ نِظَامُ الْمُلْكِ،
فَلَمَّا خَرَجَا قَالَ لِلنِّظَامِ: بِمَ دَعَوْتَ؟ قَالَ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ
يُظَفِّرَكَ عَلَى أَخِيكَ فَقَالَ لَكِنِّي قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَخِي
أَصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ فَظَفِّرْهُ بِي، وَإِنْ كُنْتُ أَصْلَحَ لَهُمْ
فَظَفِّرْنِي بِهِ.
وَقَدْ سَارَ مَلِكْشَاهْ هَذَا بِعَسْكَرِهِ مِنْ أَصْبَهَانَ إِلَى
أَنْطَاكِيَةَ فَمَا عُرِفَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ جَيْشِهِ ظَلَمَ أَحَدًا مِنْ
رَعِيَّتِهِ.
وَاسْتَعْدَى إِلَيْهِ تُرْكُمَانِيُّ أَنَّ رَجُلًا افْتَضَّ بَكَارَةَ ابْنَتِهِ
وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ قَتْلِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا إِنَّ
ابْنَتَكَ لَوْ شَاءَتْ مَا مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَإِنْ كُنْتَ لَابُدَ
فَاعِلًا فَاقْتُلْهَا مَعَهُ فَسَكَتَ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَوَ
خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: فَإِنَّ بَكَارَتَهَا قَدْ
ذَهَبَتْ فَزَوِّجْهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ وَأَنَا أَمْهَرُهَا مِنْ بَيْتِ
الْمَالِ كِفَايَتَهَا فَفَعَلَ.
وَحَكَى لَهُ بَعْضُ الْوُعَّاظِ أَنَّ كِسْرَى اجْتَازَ يَوْمًا فِي بَعْضِ
أَسْفَارِهِ بِقَرْيَةٍ مُنْفَرِدًا مِنْ جَيْشِهِ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ دَارٍ
فَاسْتَسْقَى فَأَخْرَجَتْ إِلَيْهِ جَارِيَةٌ إِنَاءً فِيهِ مَاءُ قَصَبِ
السُّكَّرِ بِالثَّلْجِ فَشَرِبَ مِنْهُ فَأَعْجَبَهُ فَقَالَ: كَيْفَ تَصْنَعُونَ
هَذَا؟ فَقَالَتْ إِنَّهُ سَهْلٌ عَلَيْنَا اعْتِصَارُهُ عَلَى أَيْدِينَا
فَطَلَبَ مِنْهَا شَرْبَةً أُخْرَى فَذَهَبَتْ لِتَأْتِيَهُ بِهَا فَوَقَعَ فِي
نَفْسِهِ أَنْ يَأْخُذَ هَذَا الْمَكَانَ مِنْهُمْ وَيُعَوِّضَهُمْ عَنْهُ،
فَأَبْطَأَتْ عَلَيْهِ
ثُمَّ
خَرَجَتْ وَلَيْسَ مَعَهَا شَيْءٌ، فَقَالَ: مَا لَكِ؟ فَقَالَتْ كَأَنَّ نِيَّةَ
سُلْطَانِنَا تَغَيَّرَتْ عَلَيْنَا فَتَعَسَّرَ عَلَيَّ اعْتِصَارُهُ - وَهِيَ
لَا تَعْرِفُ أَنَّهُ السُّلْطَانُ - فَقَالَ: اذْهَبِي فَإِنَّكِ الْآنَ
تَقْدِرِينَ عَلَيْهِ وَغَيَّرَ نِيَّتَهُ إِلَى غَيْرِهَا فَذَهَبَتْ وَجَاءَتْهُ
بِشَرْبَةٍ أُخْرَى سَرِيعًا فَشَرِبَهَا وَانْصَرَفَ، فَقَالَ لَهُ السُّلْطَانُ
مَلِكْشَاهْ: هَذِهِ تَصْلُحُ لِي وَلَكِنْ قُصَّ عَلَى الرَّعِيَّةِ حِكَايَةَ
كِسْرَى الْأُخْرَى حِينَ اجْتَازَ بِبُسْتَانٍ فَطَلَبَ مِنْ نَاطُورِهِ
عُنْقُودًا مِنْ حِصْرَمٍ فَإِنَّهُ قَدْ أَصَابَتْهُ صَفْرَاءُ وَعَطَشٌ فَقَالَ
لَهُ النَّاطُورُ: إِنَّ السُّلْطَانَ لَمْ يَأْخُذْ حَقَّهُ مِنْهُ، فَلَا
أَقْدِرُ أَنْ أُعْطِيَكَ مِنْهُ شَيْئًا، قَالَ: فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ ذَكَاءِ
الْمَلِكِ وَحُسْنِ اسْتِحْضَارِهِ هَذِهِ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ.
وَاسْتَعْدَاهُ رَجُلَانِ مِنَ الْفَلَّاحِينَ عَلَى الْأَمِيرِ خُمَارْتِكِينَ
أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُمَا مَالًا جَزِيلًا وَكَسَرَ ثَنِيَّتَهُمَا، وَقَالَا:
سَمِعْنَا بِعَدْلِكَ فِي الْعَالَمِ، فَإِنْ أَقَدْتَنَا مِنْهُ كَمَا أَمَرَكَ
اللَّهُ وَإِلَّا اسْتَعْدَيْنَا عَلَيْكَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخَذَا
بِرِكَابِهِ فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَقَالَ لَهُمَا خُذَا بِكُمِّي فَاسْحَبَانِي
إِلَى دَارِ نِظَامِ الْمُلْكِ، فَهَابَا ذَلِكَ، فَعَزَمَ عَلَيْهِمَا فَفَعَلَا
مَا أَمَرَهُمَا بِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ النِّظَامَ مَجِيءُ السُّلْطَانِ إِلَيْهِ
خَرَجَ مُسْرِعًا مِنْ خَيْمَتِهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: إِنِّي إِنَّمَا
قَلَّدْتُكَ الْأَمْرَ لِتُنْصِفَ الْمَظْلُومَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ، فَكَتَبَ مِنْ
فَوْرِهِ بِعَزْلِ خُمَارْتِكِينَ وَحَلِّ أَقْطَاعِهِ وَأَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمَا
أَمْوَالَهُمَا وَأَنْ يَقْلَعَا ثَنِيَّتَيْهِ إِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ
الْبَيِّنَةُ وَأَمَرَ لَهُمَا الْمَلِكُ مِنْ عِنْدِهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ.
وَأَسْقَطَ مَرَّةً بَعْضَ الْمُكُوسِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْتَوْفِينَ:
يَا سُلْطَانَ الْعَالَمِ إِنَّ هَذَا يَعْدِلُ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ
وَأَكْثَرَ فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنَّ الْمَالَ مَالُ اللَّهِ وَالْعِبَادَ
عَبِيدُهُ، وَالْبِلَادَ بِلَادُهُ وَإِنَّمَا يَبْقَى هَذَا لِي، وَمَنْ
نَازَعَنِي فِي هَذَا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ.
وَغَنَّتْهُ
امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ فَطَرِبَ وَتَاقَتْ نَفْسُهُ إِلَيْهَا فَهَمَّ بِهَا،
فَقَالَتْ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنِّي أَغَارُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْجَمِيلِ
مِنَ النَّارِ وَبَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ فَاسْتَدْعَى
بِالْقَاضِي فَزَوَّجَهُ بِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّ السُّلْطَانَ
مَلِكْشَاهْ كَانَ قَدْ فَسَدَتْ عَقِيدَتُهُ بِسَبَبِ مُعَاشَرَتِهِ بَعْضَ الْبَاطِنِيَّةِ
ثُمَّ تَنَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ وَرَاجَعَ الْحَقَّ.
وَذُكِرَ أَنَّ ابْنَ عَقِيلٍ كَتَبَ لَهُ شَيْئًا فِي الدَّلِيلِ عَلَى إِثْبَاتِ
الصَّانِعِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ آخِرَ مَرَّةٍ إِلَى
بَغْدَادَ عَزَمَ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا فَاسْتَنْظَرَهُ
عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَمَرِضَ السُّلْطَانُ وَمَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعَشَرَةِ
أَيَّامٍ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ عَنْ
سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ مِنْ
ذَلِكَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَشْهُرًا وَدُفِنَ بِالشُّونِيْزِيَّةِ، وَلَمْ
يُصَلِّ عَلَيْهِ أَحَدٌ لِشِدَّةِ كِتْمَانِ الْأَمْرِ، وَكَانَ مَرَضُهُ
بِالْحُمَّى وَقِيلَ: إِنَّهُ سُمَّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بَانِي التَّاجِيَّةِ بِبَغْدَادَ
الْمَرْزُبَانُ بْنُ خُسْرُو تَاجُ الْمُلْكِ الْوَزِيرُ أَبُو الْغَنَائِمِ
بَانِي التَّاجِيَّةِ الَّتِي دَرَّسَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ وَبَنَى
تُرْبَةَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ
أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْزِرَهُ بَعْدَ نِظَامِ الْمُلْكِ فَمَاتَ سَرِيعًا
فَاسْتَوْزَرَ لِوَلَدِهِ مَحْمُودٍ فَلَمَّا قَهَرَهُ
أَخُوهُ
بَرْكْيَارُوقُ قَتَلَهُ غِلْمَانُ النِّظَامِ وَقَطَّعُوهُ إِرْبًا إِرْبًا فِي
ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بُورِي
أَبُو الْقَاسِمِ الشِّيرَازِيُّ أَحَدُ الرَّحَّالِينَ الْجَوَّالِينَ فِي
الْآفَاقِ، وَكَانَ حَافِظًا ثِقَةً دَيِّنًا وَرِعًا حَسَنَ الِاعْتِقَادِ
وَالسِّيرَةِ لَهُ تَارِيخٌ حَسَنٌ وَرَحَلَ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ مِنْ بَغْدَادَ
وَغَيْرِهَا. رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ إِلَى بَغْدَادَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَرْدَشِيرُ بْنُ مَنْصُورٍ
أَبُو الْحُسَيْنِ الْعَبَّادِيُّ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحَجِّ، فَنَزَلَ
النِّظَامِيَّةَ فَوَعَظَ النَّاسَ، وَحَضَرَ مَجْلِسَهُ الْغَزَّالِيُّ مُدَرِّسُ
الْمَكَانِ وَازْدَحَمَ النَّاسُ فِي مَجْلِسِ وَعْظِهِ وَكَثُرُوا فِي
الْمَجَالِسِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتَرَكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَعَايِشَهُمْ،
وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ
أَلْفًا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَتَابَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَلَزِمُوا
الْمَسَاجِدَ، وَأُرِيقَتِ الْخُمُورُ وَكُسِرَتِ الْمَلَاهِي، وَكَانَ الرَّجُلُ
فِي نَفْسِهِ صَالِحًا لَهُ عِبَادَاتٌ وَفِيهِ زُهْدٌ وَافِرٌ، وَلَهُ أَحْوَالٌ
صَالِحَةٌ، وَكَانَ النَّاسُ يَزْدَحِمُونَ عَلَى فَضْلِ وَضُوئِهِ، وَرُبَّمَا
أَخَذُوا مِنَ الْبِرْكَةِ الَّتِي يَتَوَضَّأُ مِنْهَا لِلْبَرَكَةِ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ اشْتَهَى مَرَّةً عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ
تُوتًا شَامِيًّا وَثَلْجًا، فَطَافَ الْبَلَدَ بِكَمَالِهِ فَلَمْ يَجِدْهُ،
فَرَجَعَ فَوَجَدَ الشَّيْخَ فِي خَلْوَتِهِ، فَسَأَلَ: هَلْ جَاءَ الْيَوْمَ
إِلَى الشَّيْخِ أَحَدٌ؟ فَقِيلَ لَهُ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي
غَزَلْتُ بِيَدَيَّ غَزْلًا وَبِعْتُهُ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَشْتَرِيَ
لِلشَّيْخِ طُرْفَةً، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَبَكَتْ، فَرَحِمَهَا وَقَالَ:
اذْهَبِي فَاشْتَرِي فَقَالَتْ: مَاذَا تَشْتَهِي فَقَالَ مَا شِئْتِ فَذَهَبَتْ
فَأَتَتْهُ بِتُوتٍ شَامِيٍّ وَثَلْجٍ فَأَكَلَهُ.
وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَشْرَبُ مَرَقًا فَقُلْتُ فِي نَفْسِي
لَيْتَهُ أَعْطَانِي فَضْلَهُ لِأَشْرَبَهُ لِحِفْظِ الْقُرْآنِ، فَنَاوَلَنِي
فَضْلَهُ فَقَالَ: اشْرَبْهَا عَلَى تِلْكَ النِّيَّةِ، قَالَ: فَرَزَقَنِي
اللَّهُ حِفْظَ الْقُرْآنِ وَكَانَتْ لَهُ عِبَادَاتٌ وَمُجَاهَدَاتٌ ثُمَّ
اتُّفِقَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي بَيْعِ الْقُرَاضَةِ بِالصَّحِيحِ فَمُنِعَ مِنَ
الْجُلُوسِ وَأُخْرِجَ مِنَ الْبَلَدِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَطَبَ تُتُشُ بْنُ أَلْبِ أَرْسَلَانَ صَاحِبُ دِمَشْقَ
لِنَفْسِهِ بِالسَّلْطَنَةِ، وَطَلَبَ مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ
بِالْعِرَاقِ فَحَصَلَ التَّوَقُّفُ عَنْ ذَلِكَ، بِسَبَبِ ابْنِ أَخِيهِ
بَرْكْيَارُوقَ بْنِ مَلِكْشَاهْ فَسَارَ إِلَى الرَّحْبَةِ وَفِي صُحْبَتِهِ
وَطَاعَتِهِ آقْ سُنْقُرُ قَسِيمُ الدَّوْلَةِ صَاحِبُ حَلَبَ وَبُوزَانُ صَاحِبُ
الرُّهَا، فَفَتَحَ الرَّحْبَةَ ثُمَّ سَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَأَخَذَهَا مِنْ
يَدِ صَاحِبِهَا إِبْرَاهِيمَ بْنِ قُرَيْشٍ بْنِ بَدْرَانَ، وَهَزَمَ جُيُوشَهُ
مِنْ بَنِي عَقِيلٍ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنَ الْأُمَرَاءِ صَبْرًا وَكَذَلِكَ
أَخَذَ دِيَارَ بَكْرٍ، وَاسْتَوْزَرَ الْكَافِيَ بْنَ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ
جَهِيرٍ، وَكَذَلِكَ أَخَذَ هَمَذَانَ وَخِلَاطَ وَفَتَحَ أَذْرَبِيجَانَ،
وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ ثُمَّ فَارَقَهُ الْأَمِيرَانِ آقْ سُنْقُرُ وَبُوزَانُ
فَسَارَا إِلَى الْمَلِكِ بَرْكْيَارُوقَ، وَبَقِيَ تُتُشُ وَحْدَهُ فَطَمِعَ
فِيهِ ابْنُ أَخِيهِ بَرْكْيَارُوقُ فَرَجَعَ تُتُشُ فَلَحِقَ قَسِيمَ الدَّوْلَةِ
آقْ سُنْقُرَ وَبُوزَانَ بِبَابِ حَلَبَ فَكَسَرَهُمَا وَأَسَرَ بُوزَانَ وَآقْ
سُنْقُرَ فَصَلَبَهُمَا وَبَعَثَ بِرَأْسِ بُوزَانَ فَطِيفَ بِهِ حَرَّانَ
وَالرُّهَا وَمَلَكَهَا مِنْ بَعْدِهِ.
وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ وَانْتَشَرَتْ
بَيْنَهُمْ شُرُورٌ كَثِيرَةٌ
وَفِي
ثَانِي شَعْبَانَ وُلِدَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ أَبُو مَنْصُورٍ
الْفَضْلُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ الْمُسْتَظْهِرِ، فَفَرِحَ
الْخَلِيفَةُ بِهِ وَوَلِيُّ عَهْدِهِ بِالْوَلَدِ السَّعِيدِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ دَخَلَ السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ بَغْدَادَ وَخَرَجَ
إِلَيْهِ الْوَزِيرُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ جَهِيرٍ وَهَنَّأَهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ
بِالْقُدُومِ.
وَفِيهَا أَخَذَ الْمُسْتَنْصِرُ الْعُبَيْدِيُّ مَدِينَةَ صُورَ مِنْ أَرْضِ
الشَّامِ. وَلَمْ يَحُجَّ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
جَعْفَرُ بْنُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ مِنَ الْخَاتُونِ بِنْتِ
السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَجَلَسَ الْوَزِيرُ
لِلْعَزَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
سُلَيْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ
أَبُو مَسْعُودٍ الْأَصْبَهَانِيُّ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ وَخَرَّجَ عَلَى
الصَّحِيحَيْنِ وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْحَدِيثِ سَمِعَ ابْنَ
مَرْدَوَيْهِ وَأَبَا نُعَيْمٍ وَالْبَرْقَانِيَّ وَكَتَبَ عَنْهُ الْخَطِيبُ
وَغَيْرُهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَنْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ
سَنَةً.
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُصَيْنِ الدَّسْكَرِيُّ
أَبُو سَعْدٍ الْفَقِيهُ
الشَّافِعِيُّ
صَحِبَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ وَرَوَى الْحَدِيثَ، وَكَانَ يَقُولُ: مَا
عَصَى بَدَنِي هَذَا فِي لَذَّةٍ قَطُّ، تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ جَعْفَرٍ
أَبُو الْحَسَنِ الْهَكَّارِيُّ قَدِمَ بَغْدَادَ وَنَزَلَ فِي رِبَاطِ
الزَّوْزَنِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ أَرْبِطَةٌ قَدِ ابْتَنَاهَا سَمِعَ الْحَدِيثَ
وَرَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ يَقُولُ: رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فِي
الرَّوْضَةِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي فَقَالَ: عَلَيْكَ
بِاعْتِقَادِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِيَّاكَ
وَمُجَالَسَةَ أَهْلِ الْبِدَعِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْحَسَنِ الْخَطِيبُ الْأَنْبَارِيُّ وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْأَخْضَرِ
سَمِعَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْفَرَضِيِّ وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
أَبُو نَصْرٍ، ابْنُ مَاكُولَا عَلِيُّ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ
عَلِّكَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دُلَفَ بْنِ أَبِي دُلَفَ
الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرٍ، وُلِدَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ وَكَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ وَلَهُ كِتَابُ " الْإِكْمَالِ فِي
الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ "
جَمَعَ
بَيْنَ كِتَابِ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ وَكِتَابِ الدَّرَاقُطْنِيِّ
وَغَيْرِهِمَا وَزَادَ عَلَيْهِمَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مُهِمَّةً حَسَنَةً
مُفِيدَةً نَافِعَةً وَكَانَ نَحْوِيًّا مُبَرَّزًا فَصِيحَ الْعِبَارَةَ حَسَنَ
الشِّعْرِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا عَبْدَ الْوَهَّابِ يَطْعَنُ فِي
دِينِهِ وَيَقُولُ: الْعِلْمُ يَحْتَاجُ إِلَى دِينٍ وَقُتِلَ فِي خُوزِسْتَانَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوِ الَّتِي بَعْدَهَا وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، كَذَا
ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي، وَخِلَافَةُ وَلَدِهِ الْمُسْتَظْهِرِ
بِاللَّهِ.
صِفَةُ مَوْتِهِ
لَمَّا قَدِمَ السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ بَغْدَادَ سَأَلَ مِنَ الْخَلِيفَةِ
أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِالسَّلْطَنَةِ كِتَابًا فِيهِ الْعَهْدُ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ
ذَلِكَ وَهُيِّئَتِ الْخِلَعُ وَعُرِضَتْ عَلَى الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ الْكِتَابُ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ ثُمَّ قُدِّمَ إِلَيْهِ
الطَّعَامُ فَتَنَاوَلَ مِنْهُ عَلَى الْعَادَةِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ،
ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ وَجَلَسَ يَنْظُرُ فِي الْعَهْدِ بَعْدَمَا وَقَّعَ عَلَيْهِ،
وَعِنْدَهُ قَهْرَمَانَةٌ تُسَمَّى شَمْسَ النَّهَارِ قَالَتْ: فَنَظَرَ إِلَيَّ
وَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصُ الَّذِينَ قَدْ دَخَلُوا عَلَيْنَا بِغَيْرِ
إِذْنٍ؟ قَالَتْ: فَالْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا وَرَأَيْتُهُ قَدْ تَغَيَّرَتْ
حَالَتُهُ وَاسْتَرْخَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَانْحَلَّتْ قُوَاهُ وَسَقَطَ إِلَى
الْأَرْضِ، قَالَتْ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ فَحَلَلْتُ أَزْرَارَ
ثِيَابِهِ فَإِذَا هُوَ لَا يُجِيبُ دَاعِيًا، فَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِ الْبَابَ
وَخَرَجْتُ فَأَعْلَمْتُ وَلِيَّ الْعَهْدِ بِذَلِكَ وَجَاءَ الْأُمَرَاءُ
وَرُءُوسُ الدَّوْلَةِ يُعَزُّونَهُ بِأَبِيهِ وَيُهَنِّئُونَهُ بِالْخِلَافَةِ
فَبَايَعُوهُ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
شَيْءٌ
مِنْ تَرْجَمَةِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ
هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو الْقَاسِمِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الذَّخِيرَةِ ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَائِمِ
بِأَمْرِ اللَّهِ بْنِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ، أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ
اسْمُهَا أُرْجُوَانُ أَرْمِنِيَّةٌ أَدْرَكَتْ خِلَافَةَ وَلَدِهَا وَخِلَافَةَ
وَلَدِهِ الْمُسْتَظْهِرِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ الْمُسْتَرْشِدِ أَيْضًا، كَانَ
الْمُقْتَدِي أَبْيَضَ تَامَّ الْقَامَةِ حُلْوَ الشَّمَائِلِ، عَمَرَتْ فِي
أَيَّامِهِ مَحَالٌّ كَثِيرَةٌ مِنْ بَغْدَادَ وَنَفَى عَنْهَا الْمُغَنِّيَاتِ
وَأَرْبَابَ الْمَلَاهِي وَالْمَعَاصِي وَكَانَ غَيُورًا عَلَى حَرِيمِ النَّاسِ،
آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ نَاهِيًا عَنِ الْمُنْكَرِ حَسَنَ السِّيرَةِ
وَالسَّرِيرَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ. كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَابِعَ
عَشَرَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانٍ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَثَمَانِيَةُ شُهُورٍ وَتِسْعَةُ أَيَّامٍ، خِلَافَتُهُ مِنْ
ذَلِكَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَمَانِيَةُ شُهُورٍ إِلَّا يَوْمَيْنِ،
وَأُخْفِيَ مَوْتُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى تَوَطَّدَتِ الْبَيْعَةُ لِابْنِهِ
الْمُسْتَظْهِرِ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ وَدُفِنَ فِي تُرْبَتِهِمْ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
خِلَافَةُ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ
لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَحْضَرُوهُ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ
سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرَانِ فَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ، فَكَانَ
أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ الْوَزِيرُ أَبُو مَنْصُورٍ ابْنُ جَهِيرٍ، ثُمَّ أُخِذَتْ
الْبَيْعَةُ
لَهُ مِنَ الْمَلِكِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بَرْكْيَارُوقَ ابْنِ السُّلْطَانِ
مَلِكْشَاهْ ثُمَّ مِنْ بَقِيَّةِ الْأُمَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَصَلَّى عَلَى
الْخَلِيفَةِ الْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَمِنَ الْعُلَمَاءِ حَضَرَ
الْغَزَّالِيُّ وَالشَّاشِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ وَبَايَعُوهُ يَوْمَ ذَلِكَ وَقَدْ
كَانَ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ
فَصِيحًا بَلِيغًا شَاعِرًا مُطَبِّقًا، وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَذَابَ حَرُّ الْجَوَى فِي الْقَلْبِ مَا خَمَدَا يَوْمًا مَدَدْتُ عَلَى رَسْمِ
الْوَدَاعِ يَدَا فَكَيْفَ أَسْلُكُ نَهْجَ الِاصْطِبَارِ وَقَدْ
أَرَى طَرَائِقَ فِي مَهْوَى الْهَوَى قِدَدَا قَدْ أَخْلَفَ الْوَعْدَ بَدْرٌ
قَدْ شَغِفْتُ بِهِ
مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ وَفَى دَهْرًا بِمَا وَعَدَا إِنْ كُنْتُ أَنْقُضُ عَهْدَ
الْحُبِّ فِي خَلَدِي
مِنْ بَعْدِ هَذَا فَلَا عَايَنْتُهُ أَبَدَا
وَفَوَّضَ الْمُسْتَظْهِرُ أُمُورَ الْخِلَافَةِ إِلَى وَزِيرِهِ أَبِي مَنْصُورٍ
عَمِيدِ الدَّوْلَةِ ابْنِ جَهِيرٍ فَدَبَّرَهَا لَهُ أَحْسَنَ تَدْبِيرٍ
وَمَهَّدَ الْأُمُورَ أَتَمَّ تَمْهِيدٍ وَسَاسَ الرَّعَايَا وَكَانَ مِنْ خِيَارِ
الْوُزَرَاءِ.
وَفِي ثَالِثَ عَشَرَ شَعْبَانَ عَزَلَ الْخَلِيفَةُ أَبَا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ
عَنِ الْقَضَاءِ وَفَوَّضَهُ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الدَّامَغَانِيِّ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ فَأُحْرِقَتْ
مَحَالٌّ كَثِيرَةٌ وَقُتِلَ نَاسٌ كَثِيرُونَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لِاخْتِلَافِ السَّلَاطِينِ،
وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ لِلسُّلْطَانِ بَرْكَيَارُوقَ رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي
تُوُفِّيَ فِيهِ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ بَعْدَ مَا عَلَّمَ عَلَى
تَوْقِيعِهِ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
آقْ سُنْقُرُ الْأَتَابِكُ، الْمُلَقَّبُ قَسِيمَ الدَّوْلَةِ السَّلْجُوقِيُّ
وَيُعْرَفُ بِالْحَاجِبِ صَاحِبُ حَلَبَ وَدِيَارِ بَكْرٍ وَالْجَزِيرَةِ، وَهُوَ
جَدُّ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي بْنِ آقْ سُنْقُرَ،
وَكَانَ أَوَّلًا مِنْ أَخَصِّ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبِ
أَرْسَلَانَ السَّلْجُوقِيِّ، ثُمَّ تَرَقَّتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ حَتَّى
أَعْطَاهُ حَلَبَ وَأَعْمَالَهَا بِإِشَارَةِ الْوَزِيرِ نِظَامِ الْمُلْكِ،
وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ الْمُلُوكِ سِيرَةً وَأَجْوَدِهِمْ سَرِيرَةً، وَكَانَتِ
الرَّعِيَّةُ مَعَهُ فِي أَمْنٍ وَرُخْصٍ وَعَدْلٍ، ثُمَّ كَانَ مَوْتُهُ عَلَى
يَدِ السُّلْطَانِ تَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشَ صَاحِبِ دِمَشْقَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
اسْتَعَانَ بِهِ وَبِصَاحِبِ حَرَّانَ وَالرُّهَا عَلَى قِتَالِ ابْنِ أَخِيهِ
بَرْكْيَارُوقَ بْنِ مَلِكْشَاهْ فَفَرَّا عَنْهُ وَتَرَكَاهُ، فَهَرَبَ إِلَى
دِمَشْقَ فَلَمَّا تَمَكَّنَ قَاتَلَهُمَا بِبَابِ حَلَبَ فَقَتَلَهُمَا وَأَخَذَ
بِلَادَهُمَا إِلَّا حَلَبَ فَإِنَّهَا اسْتَقَرَّتْ لِوَلَدِ آقْ سُنْقُرَ
زَنْكِي فِيمَا بَعْدُ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا لِلسُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ
هُوَ وَبُوزَانُ صَاحِبُ الرُّهَا، فَلَمَّا مَلَكَ تُتُشُ حَلَبَ اسْتَنَابَهُ
بِهَا فَعَصَى عَلَيْهِ فَقَصَدَهُ وَكَانَ قَدْ مَلَكَ دِمَشْقَ أَيْضًا
فَقَاتَلَهُ فَقَتَلَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا،
فَلَمَّا قُتِلَ دَفَنَهُ وَلَدُهُ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بِحَلَبَ أَدْخَلَهُ
إِلَيْهَا مِنْ فَوْقِ السُّورِ بِالْمَدْرَسَةِ الزُّجَاجِيَّةِ.
أَمِيرُ الْجُيُوشِ بَدْرٌ الْجَمَالِيُّ
صَاحِبُ جُيُوشِ مِصْرَ وَمُدَبِّرُ الْمَمَالِكِ
الْفَاطِمِيَّةِ،
كَانَ عَاقِلًا كَرِيمًا مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ - وَلَهُمْ عَلَيْهِ رُسُومٌ
دَارَّةٌ - تَمَكَّنَ فِي أَيَّامِ الْمُسْتَنْصِرِ تَمَكُّنًا عَظِيمًا وَدَارَتْ
أَزِمَّةُ الْأُمُورِ عَلَى آرَائِهِ، وَفَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً وَامْتَدَّتْ
أَيَّامُهُ وَحَيَاتُهُ، وَبَعُدَ صِيتُهُ، وَامْتَدَحَتْهُ الشُّعَرَاءُ، ثُمَّ
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ
بَعْدِهِ وَلَدُهُ الْأَفْضَلُ.
الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِي
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِ.
الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَنْصِرُ الْفَاطِمِيُّ
أَبُو تَمِيمٍ، مَعَدُّ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَاكِمِ،
اسْتَمَرَّتْ أَيَّامُهُ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَمْ يَتَّفِقْ هَذَا لِخَلِيفَةٍ
قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَكَانَ قَدْ عَهِدَ بِالْأَمْرِ إِلَى وَلَدِهِ
نِزَارٍ، فَخَلَعَهُ الْأَفْضَلُ بْنُ بَدْرٍ الْجَمَالِيُّ بَعْدَ مَوْتِ
أَبِيهِ، وَبَايَعَ أَبَا الْقَاسِمِ أَحْمَدَ بْنَ الْمُسْتَنْصِرِ أَخَاهُ
وَلَقَّبَهُ بِالْمُسْتَعْلِي، فَهَرَبَ نِزَارٌ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ،
فَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهِ فَبَايَعُوهُ، وَتَوَلَّى أَمْرَهُ قَاضِي
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ جَلَالُ الدَّوْلَةِ بْنُ عَمَّارٍ، فَقَصَدَهُ الْأَفْضَلُ
فَقَاتَلَهُ مِرَارًا فَهَزَمَهُمْ، وَأَسَرَ الْقَاضِي وَنِزَارًا فَقَتَلَ
الْقَاضِي وَحَبَسَ نِزَارًا حَتَّى مَاتَ، وَاسْتَقَرَّ الْمُسْتَعْلِي فِي
الْخِلَافَةِ وَعُمْرُهُ إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَاشِمٍ
أَمِيرُ مَكَّةَ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِيهَا عَنْ نَيِّفٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
مَحْمُودُ
بْنُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ
كَانَتْ أُمُّهُ قَدْ عَقَدَتْ لَهُ الْمُلْكَ، وَأَنْفَقَتْ بِسَبَبِهِ
الْأَمْوَالَ فَنَازَعَهُ أَخُوهُ بَرْكْيَارُوقُ فَقَهَرَهُ، وَلَزِمَ بَلَدَهُ
أَصْبَهَانَ، فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ،
فَدُفِنَ بِهَا بِالتُّرْبَةِ النِّظَامِيَّةِ، كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ
وَجْهًا وَأَظْرَفِهِمْ شَكْلًا، تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، وَقَدْ
تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ الْخَاتُونُ تُرْكَانُ شَاهْ فِي رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَ يُوسُفُ بْنُ أَبْقَ التُّرْكُمَانِيُّ مِنْ جِهَةِ تَاجِ
الدَّوْلَةِ أَبِي سَعِيدٍ تُتُشَ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ صَاحِبُ دِمَشْقَ،
إِلَى بَغْدَادَ لِأَجْلِ إِقَامَةِ الدَّعْوَةِ لَهُ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ تُتُشُ
قَدْ تَوَجَّهَ لِقِتَالِ ابْنِ أَخِيهِ بِنَاحِيَةِ الرَّيِّ، فَلَّمَا دَخَلَ
رَسُولُهُ بَغْدَادَ هَابُوهُ وَخَافُوهُ، وَاسْتَدْعَاهُ الْخَلِيفَةُ
فَقَرَّبَهُ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَتَأَهَّبَ أَهْلُ
بَغْدَادَ لَهُ وَخَافُوا أَنْ يَنْهَبَهُمْ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ
قَدِمَ عَلَيْهِ أَخُوهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ تُتُشَ قُتِلَ فِي أَوَّلِ مَنْ
قُتِلَ فِي الْوَقْعَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، فَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ بَرْكْيَارُوقَ وَاسْتَقَلَّ
بِالْأُمُورِ، وَكَانَ دُقَاقُ بْنُ تُتُشَ مَعَ أَبِيهِ حِينَ قُتِلَ، فَسَارَ
إِلَى دِمَشْقَ فَتَسَلَّمَهَا مِنَ الْأَمِيرِ سَاوْتِكِينَ الَّذِي اسْتَنَابَهُ
أَبُوهُ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا الْقَاسِمِ الْخُوَارَزْمِيَّ، وَمَلَكَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ تُتُشَ مَدِينَةَ حَلَبَ وَدَبَّرَ أَمْرَ مَمْلَكَتِهِ جَنَاحُ
الدَّوْلَةِ الْحُسَيْنُ بْنُ أَيْتِكِينَ وَرِضْوَانُ بْنُ تُتُشَ صَاحِبُ
مَدِينَةِ حَلَبَ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ بَنُو رِضْوَانَ بِهَا، وَفِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ
رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْهَا خُطِبَ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ أَبِي الْمَنْصُورِ الْفَضْلِ بْنِ
الْمُسْتَظْهِرِ وَلُقِّبَ بِذَخِيرَةِ الدِّينِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ خَرَجَ الْوَزِيرُ ابْنُ جَهِيرٍ فَاخْتَطَّ سُورًا عَلَى
الْحَرِيمِ وَأَذِنَ لِلْعَوَامِّ فِي الْعَمَلِ وَالتَّفَرُّجِ، فَأَظْهَرُوا
مُنْكَرَاتٍ كَثِيرَةً وَسَخَافَاتِ عُقُولٍ ضَعِيفَةٍ وَعَمِلُوا أَشْيَاءَ
مُنْكَرَةً، فَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ عَقِيلٍ رُقْعَةً فِيهَا كَلَامٌ غَلِيظٌ
وَإِنْكَارٌ بَغِيضٌ
وَفِي رَمَضَانَ خَرَجَ السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ فَعَدَا عَلَيْهِ فِدَاوِيٌّ
فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ، فَمُسِكَ فَعُوقِبَ فَأَقَرَّ عَلَى آخَرَيْنِ فَلَمْ
يُقِرَّا فَقُتِلَ الثَّلَاثَةُ، وَجَاءَ الطَّوَاشِيُّ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ
مُهَنِّئًا لَهُ بِالسَّلَامَةِ
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا خَرَجَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ مِنْ
بَغْدَادَ مُتَوَجِّهًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ تَارِكًا لِتَدْرِيسِ
النِّظَامِيَّةِ، زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا لَابِسًا خَشِنَ الثِّيَابِ بَعْدَ
نَاعِمِهَا، وَنَابَ عَنْهُ أَخُوهُ فِي التَّدْرِيسِ، وَعَادَ فِي السَّنَةِ
الثَّالِثَةِ مِنْ خُرُوجِهِ ثُمَّ حَجَّ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، وَقَدْ
صَنَّفَ كِتَابَ الْإِحْيَاءِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَكَانَ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ
الْخَلْقُ الْكَثِيرُ كُلَّ يَوْمٍ فِي الرِّبَاطِ فَيَسْمَعُونَهُ.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الْفَرَجِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْبُسْتِيِّ وَلُقِّبَ بِشَرَفِ الْقُضَاةِ، وَرُدَّ
إِلَى وِلَايَةِ الْقَضَاءِ بِالْحَرِيمِ وَغَيْرِهِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اصْطَلَحَ أَهْلُ الْكَرْخِ مِنَ السُّنَّةِ
وَالرَّافِضَةِ مَعَ بَقِيَّةِ
الْمَحَالِّ
وَتَزَاوَرُوا وَتَوَاكَلُوا وَتَشَارَبُوا، وَكَانَ هَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ،
وَفِيهَا قُتِلَ أَحْمَدُ خَانَ صَاحِبُ سَمَرْقَنْدَ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ شُهِدَ
عَلَيْهِ بِالزَّنْدَقَةِ فَخُنِقَ وَوَلِيَ مَكَانَهُ ابْنُ عَمِّهِ مَسْعُودٌ
وَفِيهَا دَخَلَ الْأَتْرَاكُ إِفْرِيقِيَّةَ وَغَدَرُوا بِيَحْيَى بْنِ تَمِيمِ
بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، وَقَبَضُوا عَلَيْهِ وَمَلَكُوا بِلَادَهُ
وَقَتَلُوا خَلْقًا، بَعْدَمَا جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ حُرُوبٌ شَدِيدَةٌ
وَكَانَ مُقَدَّمَهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: شَاهْ مَلِكُ وَكَانَ مِنْ أَوْلَادِ
بَعْضِ أُمَرَاءِ الْمَشْرِقِ، فَقَدِمَ مِصْرَ وَخَدَمَ بِهَا ثُمَّ هَرَبَ إِلَى
الْمَغْرِبِ فَفَعَلَ مَا ذَكَرْنَا، وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خَيْرُونَ، أَبُو الْفَضْلِ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَتَبَ عَنْهُ
الْخَطِيبُ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ وَهُوَ مِنَ الثِّقَاتِ،
وَشَهِدَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيِّ، ثُمَّ صَارَ أَمِينًا
لَهُ، ثُمَّ وَلِيَ إِشْرَافَ خِزَانَةِ الْغَلَّاتِ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ عَنْ
ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
تُتُشُ أَبُو الْمُظَفَّرِ
تَاجُ الدَّوْلَةِ بْنُ أَلْبِ أَرْسَلَانِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ
سَلْجُوقَ، صَاحِبُ دِمَشْقَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَقَدْ كَانَ تَرَوَّجَ
أَمْرُهُ عَلَى ابْنِ
أَخِيهِ
بَرْكْيَارُوقَ بْنِ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ وَلَكِنْ قَدَّرَ
اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، وَقَدْ قَالَ الْمُتَنَبِّي:
وِلِلَّهِ سِرٌّ فِي عُلَاكَ وَإِنَّمَا كَلَامُ الْعِدَا ضَرْبٌ مِنَ
الْهَذَيَانِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ صَاحِبَ الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ فَاسْتَنْجَدَهُ
أَتْسِزُ فِي مُحَارَبَةِ أَمِيرِ الْجُيُوشِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ مِصْرَ،
فَلَمَّا قَدِمَ دِمَشْقَ لِنَجْدَتِهِ وَخَرَجَ إِلَيْهِ أَتْسِزُ أَمَرَ
بِمَسْكِهِ وَقَتْلِهِ وَاسْتَحْوَذَ هُوَ عَلَى دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا فِي
سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ، ثُمَّ تَحَارَبَ هُوَ وَابْنُ أَخِيهِ بَرْكْيَارُوقَ
بِبِلَادِ الرَّيِّ فَكَسَرَهُ ابْنُ أَخِيهِ، وَقُتِلَ هُوَ فِي الْمَعْرَكَةِ،
وَتَمَلَّكَ ابْنُهُ رِضْوَانُ حَلَبَ إِلَى سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ،
سَمَّتْهُ أُمُّهُ فِي عُنْقُودِ عِنَبٍ. فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ
وَلَدُهُ تَاجُ الْمُلْكِ بُورِي أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ ابْنُهُ الْآخَرُ شَمْسُ
الْمُلُوكِ إِسْمَاعِيلُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ قَتَلَتْهُ أُمُّهُ أَيْضًا
وَهِيَ زُمُرُّدُ خَاتُونَ بِنْتُ جَاوْلِي، وَأَجْلَسَتْ أَخَاهُ شِهَابَ
الدِّينِ مَحْمُودَ بْنَ بُورِي، فَمَكَثَ أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ مَلَكَ أَخُوهُ
سَنَةً، ثُمَّ مَلَكَ مُحْيِي الدِّينِ أَبَقُ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ
إِلَى أَنِ انْتَزَعَ الْمُلْكَ مِنْهُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِي
كَمَا سَيَأْتِي. وَكَانَ أَتَابِكُ الْعَسَاكِرِ بِدِمَشْقَ أَيَّامَ أَبَقَ
مُعِينُ الدِّينِ، الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمُعِينِيَّةُ بِالْغَوْرِ،
وَالْمَدْرَسَةُ الْمُعِينِيَّةُ بِدِمَشْقَ.
رِزْقُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، أَحَدُ
أَئِمَّةِ
الْقُرَّاءِ وَالْفُقَهَاءِ - عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ - وَالْحَدِيثِ، وَكَانَ
لَهُ مَجْلِسٌ لِلْوَعْظِ وَحَلْقَةٌ لِلْفَتْوَى بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ ثُمَّ
بِجَامِعِ الْقَصْرِ، وَكَانَ حَسَنَ الشَّكْلِ مُحَبَّبًا إِلَى الْعَامَّةِ،
لَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، فَصِيحَ الْعِبَارَةِ، حَسَنَ
الْمُنَاظَرَةِ، وَقَدْ رَوَى عَنْ آبَائِهِ حَدِيثًا مُسَلْسَلًا إِلَى عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: هَتَفَ الْعِلْمُ
الْعَمَلَ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا رَحَلَ. وَقَدْ كَانَ ذَا وَجَاهَةٍ عِنْدَ
الْخَلِيفَةِ بَعَثَهُ فِي مَهَامِّ الرُّسُلِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ النِّصْفَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِدَارِهِ بِبَابِ
الْمَرَاتِبِ بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ أَبُو الْفَضْلِ.
أَبُو يُوسُفَ الْقَزْوِينِيُّ
عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ بُنْدَارٍ شَيْخُ
الْمُعْتَزِلَةِ قَرَأَ عَلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ الْهَمَذَانِيُّ
وَرَحَلَ إِلَى مِصْرَ وَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَحَصَّلَ كُتُبًا
كَثِيرَةً وَصَنَّفَ تَفْسِيرًا فِي سَبْعِمِائَةِ مُجَلَّدٍ قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: جَمَعَ فِيهِ الْعَجَبَ. وَتَكَلَّمَ فِيهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [ الْبَقَرَةِ:
102 ] فِي مُجَلَّدٍ كَامِلٍ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: كَانَ طَوِيلَ اللِّسَانِ
بِالْعِلْمِ تَارَةً وَبِالشِّعْرِ أُخْرَى، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي
عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ وَغَيْرِهِ، وَمَاتَ بِبَغْدَادَ عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِينَ
سَنَةً، وَمَا تَزَوَّجَ إِلَّا فِي آخِرِ عُمْرِهِ.
أَبُو
شُجَاعٍ الْوَزِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ
أَبُو شُجَاعٍ الْمُلَقَّبُ ظَهِيرَ الدِّينِ الرُّوْذَرَاوِرِيُّ الْأَصْلِ
الْأَهْوَازِيُّ الْمَوْلِدِ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ كَثِيرَ
الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَغَيْرِهِ، وَصَنَّفَ
كُتُبًا مِنْهَا كِتَابُهُ الَّذِي ذَيَّلَهُ عَلَى " تَجَارِبِ الْأُمَمِ
" وَوَزَرَ لِلْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِي، وَكَانَ يَمْلِكُ سِتَّمِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ الْخَيْرَاتِ وَالصَّدَقَاتِ،
وَوَقَفَ الْوُقُوفَ الْحَسَنَةَ، وَبَنَى الْمَشَاهِدَ، وَأَكْثَرَ الْإِنْعَامَ
عَلَى الْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ. قَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِلَى جَانِبِنَا
أَرْمَلَةٌ لَهَا أَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ وَهُمْ عُرَاةٌ وَجِيَاعٌ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِمْ مَعَ رَجُلٍ مِنْ خَاصَّتِهِ نَفَقَةً وَكُسْوَةً وَطَعَامًا، وَنَزَعَ
عَنْهُ ثِيَابَهُ فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَلْبَسُهَا
حَتَّى تَرْجِعَ إِلَيَّ بِخَبَرِهِمْ فَذَهَبَ الرَّجُلُ مُسْرِعًا فَقَضَى
حَاجَتَهُمْ، وَأَوْصَلَهُمْ ذَلِكَ الْإِحْسَانَ، ثُمَّ عَادَ وَالْوَزِيرُ
يَرْكُضُ مِنَ الْبَرْدِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ عَنْهُمْ بِمَا سَرَّهُ لَبِسَ
ثِيَابَهُ. وَجِيءَ إِلَيْهِ مَرَّةً بِقَطَائِفَ سُكَّرٍ فَلَمَّا وُضِعَتْ
بَيْنَ يَدَيْهِ تَنَغَّصَ عَلَيْهِ بِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا، فَأَرْسَلَهَا
كُلَّهَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَكَانَتْ كَثِيرَةً جِدًّا فَأَطْعَمَهَا
الْفُقَرَاءَ وَالْعُمْيَانَ.
وَكَانَ لَا يَجْلِسُ فِي الدِّيوَانِ إِلَّا وَعِنْدَهُ الْفُقَهَاءُ، فَإِذَا
وَقَعَ لَهُ أَمْرٌ مُشْكِلٌ سَأَلَهُمْ عَنْهُ، فَحَكَمَ بِمَا يُفْتُونَهُ،
وَكَانَ كَثِيرَ التَّوَاضُعِ مَعَ النَّاسِ خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ، ثُمَّ
عُزِلَ عَنِ الْوَزَارَةِ فَسَارَ إِلَى الْحَجِّ وَجَاوَرَ بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ
مَرِضَ، فَلَمَّا ثَقُلَ فِي الْمَرَضِ جَاءَ إِلَى الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ
الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [ النِّسَاءِ: 64 ]
وَهَا
أَنَا قَدْ جِئْتُكَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ ذُنُوبِي وَأَرْجُو شَفَاعَتَكَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَدُفِنَ فِي الْبَقِيعِ.
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الشَّامِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ بْنِ بَكْرَانَ
الْحَمَوِيُّ
أَبُو بَكْرٍ الشَّامِيُّ وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ وَتَفَقَّهَ بِبَلَدِهِ،
ثُمَّ حَجَّ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ
فَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَسَمِعَ بِهَا
الْحَدِيثَ، وَشَهِدَ عِنْدَ ابْنِ الدَّامَغَانِيِّ فَقَبِلَهُ وَلَازَمَ
مَسْجِدَهُ خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً يُقْرِئُ النَّاسَ وَيُفَقِّهُهُمْ،
وَلَمَّا مَاتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيُّ أَشَارَ بِهِ أَبُو شُجَاعٍ
الْوَزِيرُ فَوَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِي الْقَضَاءَ، وَكَانَ مِنْ
أَنْزَهِ النَّاسِ وَأَعَفِّهِمْ ; لَمْ يَقْبَلْ مِنْ سُلْطَانٍ عَطِيَّةً وَلَا
مِنْ صَاحِبٍ هَدِيَّةً، وَلَمْ يُغَيِّرْ مَلْبَسَهُ وَلَا مَأْكَلَهُ، وَلَمْ
يَأْخُذْ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا، وَلَمْ يَسْتَنِبْ أَحَدًا بَلْ كَانَ
يُبَاشِرُ الْقَضَاءَ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُحَابِ مَخْلُوقًا، وَقَدْ كَانَ
يَضْرِبُ بَعْضَ الْمُنْكِرِينَ؛ حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ إِذَا قَامَتْ عِنْدَهُ
قَرَائِنُ لِلتُّهْمَةِ حَتَّى يُقِرُّوا، وَيَذْكُرُ أَنَّ فِي كَلَامِ
الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ
كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَنَصَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِيمَا
كَانَ يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ، وَاسْتَشْهَدَ لَهُ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ الْآيَةَ [ يُوسُفَ: 26 ]
وَشَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ كِبَارِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُنَاظِرِينَ يُقَالُ
لَهُ: الْمُشَطَّبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أُسَامَةَ الْفَرْغَانِيُّ فَلَمْ
يَقْبَلْهُ لَمَّا رَأَى عَلَيْهِ مِنَ
الْحَرِيرِ
وَخَاتَمِ الذَّهَبِ، فَقَالَ لَهُ الْمُدَّعِي: إِنَّ السُّلْطَانَ وَوَزِيرَهُ
نِظَامَ الْمُلْكِ يَلْبَسَانِ الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ، فَقَالَ الْقَاضِي
الشَّامِيُّ: وَاللَّهِ لَوْ شَهِدَا عِنْدِي عَلَى بَاقَةِ بَقْلٍ مَا قَبِلْتُ
شَهَادَتَهُمَا.
تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرَ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنَ ابْنِ سُرَيْحٍ.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ فَتُّوحِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَيْدٍ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدٍ الْأَنْدَلُسِيُّ، مِنْ جَزِيرَةٍ؛ يُقَالُ
لَهَا: مَيُورْقَةُ، قَرِيبَةٍ مِنَ الْأَنْدَلُسِ.
قَدِمَ بَغْدَادَ فَسَمِعَ بِهَا الْحَدِيثَ، وَكَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا دَيِّنًا
بَاهِرًا عَفِيفًا نَزِهًا، وَهُوَ " صَاحِبُ الْجَمْعِ بَيْنَ
الصَّحِيحَيْنِ " وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، وَقَدْ كَتَبَ
مِنْ مُصَنَّفَاتِ ابْنِ حَزْمٍ وَالْخَطِيبِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ
الثُّلَاثَاءِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَدْ جَاوَزَ
السَّبْعِينَ، وَقَبْرُهُ قَرِيبٌ مِنْ قَبْرِ بِشْرٍ الْحَافِي بِبَغْدَادَ.
هِبَةُ
اللَّهِ ابْنُ الشَّيْخِ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ
كَانَ قَدْ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَتَفْقَّهَ وَظَهَرَ مِنْهُ نَجَابَةٌ، ثُمَّ
مَرِضَ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ أَبُوهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، فَلَمْ يُفِدْ شَيْئًا فَقَالَ
لَهُ ابْنُهُ ذَاتَ يَوْمٍ: يَا أَبَتِ إِنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ الْأَدْوِيَةَ
وَالْأَدْعِيَةَ، وَلِلَّهِ فِيَّ اخْتِيَارٌ، فَدَعْنِي وَاخْتِيَارُ اللَّهِ.
قَالَ أَبُوهُ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يُوَفَّقْ لِهَذَا الْكَلَامِ إِلَّا
وَقَدِ اخْتِيرَ لِلْحُظْوَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي " الْمُنْتَظَمِ " فِي هَذِهِ السَّنَةِ
حَكَمَ جَهَلَةُ الْمُنَجِّمِينَ بِأَنْ سَيَكُونَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ طُوفَانٌ
قَرِيبٌ مِنْ طُوفَانِ نُوحٍ، وَشَاعَ الْكَلَامُ بِذَلِكَ بَيْنَ الْعَوَامِّ
وَخَافُوا، فَاسْتَدْعَى الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ ابْنَ عَيْشُونَ
الْمُنَجِّمَ، فَسَأَلَهُ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ: إِنَّ طُوفَانَ نُوحٍ
كَانَ فِي زَمَنٍ اجْتَمَعَ فِي بُرْجِ الْحُوتِ الطَّوَالِعُ السَّبْعَةُ،
وَالْآنَ فَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ سِتَّةٌ وَلَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهَا زُحَلُ، فَلَا
بُدَّ مِنْ وُقُوعِ طُوفَانٍ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا
بَغْدَادُ، فَتَقَدَّمَ الْخَلِيفَةُ إِلَى وَزِيرِهِ بِإِصْلَاحِ الْمُسَنِّيَاتِ
وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يُخْشَى انْفِجَارُ الْمَاءِ مِنْهَا، وَجَعَلَ النَّاسُ
يَنْتَظِرُونَ، فَجَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْحَاجَّ حَصَلُوا بِوَادِي
الْمَيَاقِتِ بَعْدَ نَخْلَةَ، فَأَتَاهُمْ سَيْلٌ عَظِيمٌ، فَمَا نَجَا
مِنْهُمْ
إِلَّا مَنْ تَعَلَّقَ بِرُءُوسِ الْجِبَالِ، وَأَخَذَ الْمَاءُ الْجِمَالَ
وَالرِّجَالَ وَالرِّحَالَ، فَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى ذَلِكَ الْمُنَجِّمِ
وَأَجْرَى لَهُ جِرَايَةً.
وَفِيهَا مَلَكَ الْأَمِيرُ قِوَامُ الدَّوْلَةِ أَبُو سَعِيدٍ كَرْبُوقَا
مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ وَقَتَلَ مُحَمَّدَ بْنَ شَرَفِ الدَّوْلَةِ مُسْلِمِ بْنِ
قُرَيْشٍ وَغَرَّقَهُ بَعْدَ حِصَارِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ.
وَفِيهَا مَلَكَ تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ الْمَغْرِبِيُّ مَدِينَةَ قَابِسَ،
وَأَخْرَجَ مِنْهَا أَخَاهُ عُمَرَ فَقَالَ خَطِيبُ سُوسَةَ فِي ذَلِكَ أَبْيَاتًا:
ضَحِكَ الزَّمَانُ وَكَانَ يُلْفَى عَابِسًا لَمَّا فَتَحْتَ بِحَدِّ سَيْفِكَ
قَابِسَا وَأَتَيْتَهَا بِكْرًا وَمَا أَمْهَرْتَهَا
إِلَّا قَنًا وَصَوَارِمًا وَفَوَرِاسَا اللَّهُ يَعْلَمُ مَا جَنَيْتَ ثِمَارَهَا
إِلَّا وَكَانَ أَبُوكَ قَبْلُ الْغَارِسَا مَنْ كَانَ فِي زُرْقِ الْأَسِنَّةِ
خَاطِبًا
كَانَتْ لَهُ قُلَلُ الْبِلَادِ عَرَائِسَا
وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا دَرَّسَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ
بِالنِّظَامِيَّةِ، وَلَّاهُ إِيَّاهَا فَخْرُ الْمُلْكِ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ
وَزِيرُ بَرْكْيَارُوقَ.
وَفِيهَا
أَغَارَتْ خَفَاجَةُ عَلَى بِلَادِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورِ
بْنِ دُبَيْسٍ وَقَصَدُوا مَشْهَدَ الْحُسَيْنِ بِالْحَائِرِ، فَتَظَاهَرُوا فِيهِ
بِالْمُنْكَرَاتِ وَالْفَسَادِ، فَكَبَسَهُمْ فِيهِ الْأَمِيرُ صَدَقَةُ
الْمَذْكُورُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا حَتَّى عِنْدَ الضَّرِيحِ،
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ أَحَدَهُمْ أَلْقَى نَفْسَهُ وَفَرَسَهُ مِنْ فَوْقِ
السُّورِ فَسَلِمَ وَسَلِمَتْ فَرَسُهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ خُمَارْتِكِينُ
الْحَسَنَانِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو حَكِيمٍ
الْخَبْرِيُّ: وَخَبْرُ إِحْدَى بِلَادِ فَارِسَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ
عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ
بِالْفَرَائِضِ وَالْأَدَبِ وَاللُّغَةِ وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ، وَكَانَ مَرْضِيَّ
الطَّرِيقَةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ بِالْأُجْرَةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ
ذَاتَ يَوْمٍ يَكْتُبُ وَضَعَ
الْقَلَمَ
مِنْ يَدِهِ وَاسْتَنَدَ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ هَذَا مَوْتًا إِنَّهُ
لَطَيِّبٌ، ثُمَّ مَاتَ.
عَبْدُ الْمُحْسِنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنَ أَحْمَدَ الشِّيحِيُّ،
التَّاجِرُ وَيُعْرَفُ بِابْنِ شُهْدَانْكَهْ، بَغْدَادِيٌّ سَمِعَ الْحَدِيثَ
الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ وَأَكْثَرَ عَنِ الْخَطِيبِ وَهُوَ بِصُورَ، وَهُوَ الَّذِي
حَمَلَهُ إِلَى الْعِرَاقِ فَلِهَذَا أَهْدَى إِلَيْهِ الْخَطِيبُ " تَارِيخَ
بَغْدَادَ " بِخَطِّهِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ فِي مُصَنَّفَاتِهِ، وَكَانَ
يُسَمِّيهِ عَبْدَ اللَّهِ وَكَانَ ثِقَةً.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ،
أَبُو الْفَضْلِ الْمَعْرُوفُ بِالْهَمَذَانِيِّ تَفَقَّهَ عَلَى الْمَاوَرْدِيِّ،
وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحِسَابِ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَكَانَ يَحْفَظُ " غَرِيبَ الْحَدِيثِ " لِأَبِي عُبَيْدٍ وَ
" الْمُجْمَلَ " لِابْنِ فَارِسَ، وَكَانَ عَفِيفًا زَاهِدًا، طَلَبَهُ
الْمُقْتَدِي لِيُوَلِّيَهُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ، فَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ
وَاعْتَذَرَ لَهُ بِالْعَجْزِ وَعُلُوِّ السِّنِّ، وَكَانَ ظَرِيفًا لَطِيفًا،
كَانَ يَقُولُ: كَانَ أَبِي إِذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَدِّبَنِي أَخَذَ الْعَصَا
بِيَدِهِ ثُمَّ يَقُولُ: نَوَيْتُ أَنْ أَضْرِبَ وَلَدِي تَأْدِيبًا كَمَا أَمَرَ
اللَّهُ ثُمَّ يَضْرِبُنِي، قَالَ: وَإِلَى أَنْ يَنْوِيَ وَيُتَمِّمَ النِّيَّةَ
كُنْتُ أَهْرُبُ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ ابْنِ
سُرَيْجٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ مَنْصُورٍ
أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ وَيُعْرَفُ
بِابْنِ
الْخَاضِبَةِ، كَانَ مَعْرُوفًا بِالْإِفَادَةِ، وَجَوْدَةِ الْقِرَاءَةِ،
وَحُسْنِ الْخَطِّ، وَصِحَّةِ النَّقْلِ، جَمَعَ بَيْنَ عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ وَالْحَدِيثِ،
وَأَكْثَرَ عَنِ الْخَطِيبِ وَأَصْحَابِ الْمُخَلِّصِ، قَالَ: لَمَّا غَرِقَتْ
بَغْدَادُ غَرِقَتْ دَارِي وَكُتُبِي فَلَمْ يَبْقَ لِي شَيْءٌ فَاحْتَجْتُ إِلَى
النَّسْخِ فَكَتَبْتُ " صَحِيحَ مُسْلِمٍ " فِي تِلْكَ السَّنَةِ سَبْعَ
مَرَّاتٍ، فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ
وَقَائِلٌ يَقُولُ: أَيْنَ ابْنُ الْخَاضِبَةِ فَجِئْتُ فَأُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ
فَلَمَّا دَخَلْتُهَا اسْتَلْقَيْتُ عَلَى قَفَايَ وَوَضَعْتُ إِحْدَى رِجْلَيَّ
عَلَى الْأُخْرَى، وَقُلْتُ اسْتَرَحْتُ مِنَ النَّسْخِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ
وَالْقَلَمُ فِي يَدِي وَالنَّسْخُ بَيْنَ يَدَيَّ.
أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ
مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ
أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ الْحَافِظُ، مِنْ أَهْلِ مَرْوَ تَفَقَّهَ
أَوَّلًا عَلَى أَبِيهِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ حِينَ أَخَذَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ،
وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، وَصَنَّفَ
" التَّفْسِيرَ " وَكِتَابَ " الِانْتِصَارِ " فِي
الْحَدِيثِ، وَ " الْبُرْهَانَ " وَ " الْقَوَاطِعَ " فِي
أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالِاصْطِلَامَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَوَعَظَ فِي مَدِينَةِ
نَيْسَابُورَ، وَكَانَ يَقُولُ مَا حَفِظْتُ شَيْئًا فَنَسِيتُهُ، وَسُئِلَ عَنْ
أَخْبَارِ الصِّفَاتِ فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ، وَسُئِلَ عَنِ
الِاسْتِوَاءِ، فَقَالَ:
جِئْتُمَانِي
لِتَعْلَمَا سِرَّ سُعْدَى تَجِدَانِي بِسِرِّ سُعْدَى شَحِيحَا إِنَّ سُعْدَى
لَمُنْيَةُ الْمُتَمَنِّي
جَمَعَتْ عِفَّةً وَوَجْهًا صَبِيحَا
تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ
مَرْوَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّانَا، آمِينَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ ابْتِدَاءُ مُلْكِ الْخُوَارَزْمِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ
بَرْكْيَارُوقَ مَلَكَ فِيهَا بِلَادَ خُرَاسَانَ بَعْدَ مَقْتَلِ عَمِّهِ
أَرْسَلَانَ أَرْغُونَ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ وَسَلَّمَهَا إِلَى أَخِيهِ
أَحْمَدَ الْمَعْرُوفِ بِالْمَلِكِ سَنْجَرَ، وَجَعَلَ أَتَابِكَهُ الْأَمِيرَ
قُمَاجَ وَوَزِيرَهُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ الطُّغْرَائِيَّ، وَاسْتَعْمَلَ
عَلَى خُرَاسَانَ الْأَمِيرَ حَبَشِيَّ بْنَ التُّونْتَاقِ، فَوَلَّى مَدِينَةَ
خُوَارِزْمَ شَابًّا يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ أَنُوشْتِكِينَ، وَكَانَ
أَبُوهُ مِنْ أُمَرَاءِ السَّلْجُوقِيَّةِ، وَنَشَأَ هُوَ فِي أَدَبٍ وَفَضِيلَةٍ
وَحُسْنِ سِيرَةٍ، وَلَمَّا وَلِيَ مَدِينَةَ خُوَارِزْمَ لُقِّبَ خُوَارِزْمَ
شَاهْ، وَكَانَ أَوَّلَ مُلُوكِهِمْ فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، وَعَامَلَ النَّاسَ
بِالْجَمِيلِ، وَحِينَ مَاتَ قَامَ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى خُوَارِزْمَ وَلَدُهُ
أَتْسِزُ، فَجَرَى عَلَى سُنَنِ أَبِيهِ وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ، فَحَظِيَ عِنْدَ
السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَأَحَبَّهُ النَّاسُ، وَارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ.
وَفِيهَا خَطَبَ الْمَلِكُ رِضْوَانُ بْنُ تَاجِ الْمُلْكِ تُتُشَ لِلْخَلِيفَةِ
الْفَاطِمِيِّ الْمُسْتَعْلِي، وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا قُتِلَ بُرْسُقُ أَحَدُ
أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تُوَلَّى شِحْنِكِيَّةَ بَغْدَادَ.
وَفِي شَوَّالٍ قُتِلَ رَجُلٌ بَاطِنِيٌّ عِنْدَ بَابِ النُّوبِيِّ كَانَ قَدْ
شَهِدَ عَلَيْهِ عَدْلَانِ ; أَحَدُهُمَا ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ دَعَاهُمَا إِلَى
مَذْهَبِهِ فَجَعَلَ يَقُولُ أَتَقْتُلُونَنِي وَأَنَا أَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
فَلَمَّا
رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا
بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا
الْآيَةَ [ غَافِرٍ: 84، 85 ]
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا خُمَارْتِكِينُ الْحَسْنَانِيُّ.
وَفِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ كُبِسَتْ دَارُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ أَبِي نَصْرِ بْنِ
جَلَالِ الدَّوْلَةِ أَبِي طَاهِرِ بْنِ بُوَيْهِ؛ لِأُمُورٍ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ
عِنْدَ الْقَاضِي فَأُرِيقَ دَمُهُ، وَنُقِضَتْ دَارُهُ وَعُمِلَ مَكَانَهَا
مَسْجِدَانِ لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ
مَلِكْشَاهْ قَدْ أَقْطَعُهُ الْمَدَائِنَ وَدَيْرَ عَاقُولَ وَغَيْرَهُمَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ
دِينَارٍ أَبُو يَعْلَى، الْعَبْدِيُّ الْبَصْرِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ
الصَّوَّافِ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ
زَاهِدًا مُتَصَوِّفًا، وَفَقِيهًا مُدَرِّسًا، ذَا سَمْتٍ وَوَقَارٍ وَسَكِينَةٍ
وَدِينٍ، وَكَانَ عَلَّامَةً فِي عَشَرَةِ عُلُومٍ، تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ
مِنْهَا عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْمُعَمَّرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعَمَّرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْغَنَائِمِ الْحُسَيْنِيُّ النَّقِيبُ لِلطَّالِبِيِّينَ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ، وَكَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، كَثِيرَ
التَّعَبُّدِ، لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ آذَى مُسْلِمًا وَلَا شَتَمَ صَاحِبًا،
تُوُفِّيَ عَنْ نَيِّفٍ وَسِتِّينَ
سَنَةً
وَكَانَ مِنْهَا نَقِيبًا ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ
قُرَيْشٍ، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ وَلَدُهُ أَبُو الْفُتُوحِ حَيْدَرَةُ وَلُقِّبَ
بِالرَّضِيِّ ذِي الْفَخْرَيْنِ، وَرَثَاهُ الشُّعَرَاءُ بِأَبْيَاتٍ ذَكَرَهَا
ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
يَحْيَى بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ السِّيبِيُّ
سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَحَلَ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ، وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا
صَدُوقًا دَيِّنًا، عُمِّرَ مِائَةَ سَنَةٍ وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً
وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ صَحِيحُ الْحَوَاسِّ يُقْرَأُ عَلَيْهِ
الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا مَلَكَ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ
بَعْدَ حِصَارٍ شَدِيدٍ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْ بَعْضِ الْمُسْتَحْفِظِينَ عَلَى
بَعْضِ الْأَبْرَاجِ، وَهَرَبَ صَاحِبُهَا يَاغِي سِيَانٍ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ،
وَتَرَكَ بِهَا أَهْلَهُ وَمَالَهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ
نَدَمٌ شَدِيدٌ عَلَى مَا فَعَلَ ; بِحَيْثُ إِنَّهُ غُشِيَ عَلَيْهِ وَسَقَطَ
عَنْ فَرَسِهِ، فَذَهَبَ أَصْحَابُهُ وَتَرَكُوهُ، فَجَاءَ رَاعِي غَنَمٍ فَقَطَعَ
رَأْسَهُ وَذَهَبَ بِهِ إِلَى مَلِكِ الْفِرِنْجِ، وَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ
إِلَى الْأَمِيرِ كَرْبُوقَا صَاحِبِ الْمَوْصِلِ جَمَعَ عَسَاكِرَ كَثِيرَةً
وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ دُقَاقُ بْنُ تُتُشَ صَاحِبُ دِمَشْقَ وَجَنَاحُ الدَّوْلَةِ
صَاحِبُ حِمْصَ وَغَيْرُهُمَا وَسَارَ إِلَى الْفِرِنْجِ فَالْتَقَوْا مَعَهُمْ
بِأَرْضِ أَنْطَاكِيَةَ، فَهَزَمَهُمُ الْفِرِنْجُ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ثُمَّ سَارَتِ الْفِرِنْجُ إِلَى مَعَرَّةِ النُّعْمَانِ
فَأَخَذُوهَا بَعْدَ حِصَارٍ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ،
وَلَمَّا بَلَغَ هَذَا الْحَالُ إِلَى الْمَلِكِ بَرْكْيَارُوقَ شَقَّ عَلَيْهِ
ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ أَنْ يَتَجَهَّزُوا هُمْ
وَالْوَزِيرُ ابْنُ جَهِيرٍ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ، فَبَرَزَ بَعْضُ الْجَيْشِ
إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ بِالْجَانِبِ
الْغَرْبِيِّ
ثُمَّ انْفَسَخَتْ هَذِهِ الْعَزِيمَةُ ; لِأَنَّهُمْ بَلَغَهُمْ أَنَّ
الْفِرِنْجَ فِي أَلْفِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا خُمَارْتِكِينُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
طِرَادُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الْوَهَّابِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْإِمَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ، أَبُو الْفَوَارِسِ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ
بْنِ أَبِي تَمَّامٍ، مِنْ وَلَدِ زَيْنَبَ بِنْتِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ أَمُّ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ،
سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَالْكُتُبَ الْكِبَارَ، وَتَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ
عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَرُحِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْآفَاقِ، وَأَمْلَى
الْحَدِيثَ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ الْعُلَمَاءُ
وَالسَّادَةُ، وَحَضَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيُّ مَجْلِسَهُ،
وَبَاشَرَ نِقَابَةَ الْعَبَّاسِيِّينَ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَتُوُفِّيَ عَنْ
نَيِّفٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ؛ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
الْمُظَفَّرُ أَبُو الْفَتْحِ ابْنُ رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ أَبِي الْقَاسِمِ ابْنِ
الْمُسْلِمَةِ
كَانَتْ دَارُهُ مَجْمَعًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْأَدَبِ، وَبِهَا
تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو
الْفَتْحِ دُفِنَ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فِي تُرْبَتِهِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا أَخَذَتِ الْفِرِنْجُ - خَذَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْتَ الْمَقْدِسِ
; لَمَّا كَانَ ضُحَى يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، اسْتَحْوَذَ الْفِرِنْجُ - لَعَنَهُمُ
اللَّهُ - بَيْتَ الْمَقْدِسِ - شَرَّفَهُ اللَّهُ - وَهُمْ فِي نَحْوِ أَلْفِ
أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَقَتَلُوا فِي وَسَطِهِ أَزْيَدَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفَ
قَتِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَكَانَ وَعْدًا
مَفْعُولًا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَأَخَذُوا مِنْ حَوْلِ الصَّخْرَةِ اثْنَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ قِنْدِيلًا مِنْ فِضَّةٍ، زِنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ
آلَافٍ وَسِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخَذُوا تَنُّورًا مِنْ فِضَّةٍ، زِنَتَهُ
أَرْبَعُونَ رِطْلًا بِالشَّامِيِّ وَثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ قِنْدِيلًا مِنْ
ذَهَبٍ، وَذَهَبَ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ هَازِعِينَ مِنَ الشَّامِ إِلَى
الْعِرَاقِ مُسْتَغِيثِينَ عَلَى الْفِرِنْجِ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ،
مِنْهُمُ الْقَاضِي بِدِمَشْقَ أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ، فَلَمَّا سَمِعَ
النَّاسُ بِبَغْدَادَ هَذَا الْأَمْرَ الْفَظِيعَ هَالَهُمْ ذَلِكَ وَتَبَاكَوْا،
وَقَدْ نَظَمَ أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ كَلَامًا قُرِئَ فِي الدِّيوَانِ وَعَلَى
الْمَنَابِرِ، فَجَهَشَ النَّاسُ بِالْبُكَاءِ، وَنَدَبَ الْخَلِيفَةُ
الْفُقَهَاءَ إِلَى الْخُرُوجِ
إِلَى
الْبِلَادِ لِيُحَرِّضُوا الْمُلُوكَ عَلَى الْجِهَادِ، فَخَرَجَ ابْنُ عَقِيلٍ
وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ، فَسَارُوا فِي النَّاسِ فَلَمْ
يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فَقَالَ
فِي ذَلِكَ أَبُو الْمُظَفَّرِ الْأَبِيْوَرْدِيُّ:
مَزَجْنَا دِمَاءً بِالدُّمُوعِ السَّوَاجِمِ فَلَمْ يَبْقَ مِنَّا عُرْضَةٌ
لِلْمَرَاحِمِ وَشَرُّ سِلَاحِ الْمَرْءِ دَمْعٌ يُفِيضُهُ
إِذَا الْحَرْبُ شُبَّتْ نَارُهَا بِالصَّوَارِمِ فَإِيهًا بَنِي الْإِسْلَامِ
إِنَّ وَرَاءَكُمْ
وَقَائِعَ يُلْحِقْنَ الذُّرَى بِالْمَنَاسِمِ وَكَيْفَ تَنَامُ الْعَيْنُ مِلْءَ
جُفُونِهَا
عَلَى هَفَوَاتٍ أَيْقَظَتْ كُلَّ نَائِمِ وَإِخْوَانُكُمْ بِالشَّامِ يُضْحَى
مَقِيلُهُمْ
ظُهُورَ الْمَذَاكِي أَوْ بُطُونَ الْقَشَاعِمِ تَسُومُهُمُ الرُّومُ الْهَوَانَ
وَأَنْتَمْ
تَجُرُّونَ ذَيْلَ الْخَفْضِ فِعْلَ الْمُسَالِمِ وَبَيْنَ اخْتِلَاسِ الطَّعْنِ
وَالضَّرْبِ وَقْفَةٌ
تَظَلُّ لَهَا الْوِلْدَانُ شِيبَ الْقَوَادِمِ وَتَلِكَ حُرُوبٌ مَنْ يَغِبْ عَنْ
غِمَارِهَا
لِيَسْلَمَ يَقْرَعْ بَعْدَهَا سِنَّ نَادِمِ سَلَلْنَ بِأَيْدِي الْمُشْرِكِينَ
قَوَاضِبًا
سَتُغْمَدُ مِنْهُمْ فِي الْطُّلَى وَالْجَمَاجِمِ يَكَادُ لَهُنَّ الْمُسْتَجِنُّ
بِطِيبَةٍ
يُنَادِي بِأَعْلَى الصَّوْتِ يَا آلَ هَاشِمِ أَرَى أُمَّتِي لَا يَشْرَعُونَ
إِلَى الْعِدَا
رِمَاحَهُمْ وَالدِّينُ وَاهِي الدَّعَائِمِ وَيَجْتَنِبُونَ الثَّأْرَ خَوْفًا
مِنَ الرَّدَى
وَلَا يَحْسَبُونَ الْعَارَ ضَرْبَةَ لَازِمِ أَيَرْضَى صَنَادِيدُ الْأَعَارِيبِ
بِالْأَذَى
وَتُغْضِي عَلَى ذُلٍّ كُمَاةُ الْأَعَاجِمِ
فَلَيْتَهُمْ
إِذْ لَمْ يَذُودُوا حَمِيَّةً
عَنِ الدِّينِ ضَنُّوا غَيْرَةً بِالْمَحَارِمِ وَإِنْ زَهِدُوا فِي الْأَجْرِ
إِذْ حَمِيَ الْوَغَى
فَهَلَا أَتَوْهُ رَغْبَةً فِي الْمَغَانِمِ
وَفِيهَا كَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ وَهُوَ
أَخُو السُّلْطَانِ سَنْجَرَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ إِلَى
أَنْ صَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ خُطِبَ لَهُ بِبَغْدَادَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا سَارَ إِلَى الرَّيِّ فَوَجَدَ زُبَيْدَةَ خَاتُونَ أُمَّ أَخِيهِ
بَرْكْيَارُوقَ فَأَمَرَ بِخَنْقِهَا - وَكَانَ عُمْرُهَا إِذْ ذَاكَ ثِنْتَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ - سَنَةً فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَتْ لَهُ
مَعَ بَرْكْيَارُوقَ خَمْسُ وَقَعَاتٍ هَائِلَةٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَلَتِ الْأَسْعَارُ جِدًّا بِبَغْدَادَ حَتَّى مَاتَ
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ جُوعًا وَأَصَابَهُمْ وَبَاءٌ شَدِيدٌ حَتَّى عَجَزُوا عَنْ
دَفْنِ الْمَوْتَى مِنْ كَثْرَتِهِمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ مَسْعُودِ ابْنِ
السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، صَاحِبُ غَزْنَةَ وَأَطْرَافِ
الْهِنْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَانَتْ لَهُ حُرْمَةٌ وَأُبَّهَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا،
حَكَى إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ - حِينَ بَعَثَهُ السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ
إِلَيْهِ - فِي رِسَالَةٍ عَمَّا شَاهَدَهُ عِنْدَهُ مِنْ أُمُورِ السَّلْطَنَةِ
فِي مَلْبَسِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَا عِنْدَهُ مِنْ
السَّعَادَةِ
الدُّنْيَوِيَّةِ، قَالَ: رَأَيْتُ شَيْئًا عَجِيبًا وَقَدْ وَعَظَهُ بِحَدِيثِ:
" لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا "
فَبَكَى قَالَ وَكَانَ لَا يَبْنِي لِنَفْسِهِ مَنْزِلًا إِلَّا بَنَى قَبْلَهُ
مَسْجِدًا أَوْ مَدْرَسَةً أَوْ رِبَاطًا، تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ، وَكَانَتْ
مُدَّةُ مُلْكِهِ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ يُوسُفَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ
أَبُو تُرَابٍ الْمَرَاغِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِمِائَةٍ،
وَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ الطَّبَرِيِّ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَشَايِخِ بِبُلْدَانٍ شَتَّى، ثُمَّ أَقَامَ
بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ يَحْفَظُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ،
نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ مَسْأَلَةٍ بِأَدِلَّتِهَا وَالْمُنَاظَرَةِ
عَلَيْهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحِكَايَاتِ وَالْمُلَحِ وَالْآدَابِ، وَكَانَ
صَبُورًا مُتَقَلِّلًا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ، جَاءَهُ مَنْشُورٌ بِقَضَاءِ
هَمَذَانَ، فَقَالَ: أَنَا مُنْتَظِرٌ مَنْشُورًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
عَلَى يَدَيْ مَلَكِ الْمَوْتِ بِالْقَدُّومِ عَلَيْهِ، وَاللَّهِ لَجُلُوسُ
سَاعَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ عَلَى رَاحَةِ الْقَلْبِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ
مُلْكِ الْعِرَاقَيْنِ، وَتَعْلِيمُ مَسْأَلَةٍ لِطَالِبٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ
مُلْكِ الثَّقَلَيْنِ. حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ
" تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
ذِي
الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ
قَتَلَهُ بَعْضُ الْبَاطِنِيَّةِ بِنَيْسَابُورَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَحِمَ
أَبَاهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ إِلَى بَغْدَادَ وَنَزَلَ
بِدَارِ الْمُلْكِ، وَأُعِيدَتْ لَهُ الْخُطْبَةُ بِبَغْدَادَ، وَقُطِعَتْ
خُطْبَةُ أَخِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَلِكْشَاهْ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ
هَدِيَّةً هَائِلَةً، وَفَرِحَ بِهِ الْعَوَامُّ وَالنِّسَاءُ ; وَلَكِنَّهُ فِي
ضِيقٍ مِنْ أَمْرِ أَخِيهِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ ; لِإِقْبَالِ الدَّوْلَةِ
عَلَيْهِ وَاجْتِمَاعِهِمْ إِلَيْهِ، وَقِلَّةِ مَا مَعَهُ مِنْ أَمْوَالٍ،
وَمُطَالَبَةِ الْجُنْدِ لَهُ بِأَرْزَاقِهِمْ، فَعَزَمَ عَلَى مُصَادَرَةِ
الْوَزِيرِ ابْنِ جَهِيرٍ فَالْتَجَأَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ،
ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى الْمُصَالَحَةِ عَنْهُ بِمِائَةٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ
دِينَارٍ، ثُمَّ الْتَقَى هُوَ وَأَخُوهُ مُحَمَّدٌ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْ هَمَذَانَ
فَهَزَمَهُ أَخُوهُ مُحَمَّدٌ، وَنَجَا هُوَ بِنَفْسِهِ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا،
وَقُتِلَ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُوَهْرَائِينُ الْخَادِمُ
وَكَانَ قَدِيمَ الْهِجْرَةِ فِي الدَّوْلَةِ وَقَدْ وَلِيَ شِحْنَكِيَّةَ
بَغْدَادَ، وَكَانَ حَلِيمًا حَسَنَ السِّيرَةِ لَمْ يَتَعَمَّدْ ظُلْمًا، وَلَمْ
يَرَ خَادِمٌ مَا رَأَى مِنَ الْحِشْمَةِ وَالْحُرْمَةِ وَكَثْرَةِ الْخِدْمَةِ،
وَقَدْ كَانَ يُكْثِرُ الصَّلَاةَ بِاللَّيْلِ وَلَا يَجْلِسُ إِلَّا عَلَى
وُضُوءٍ، وَلَمْ يَمْرَضْ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَلَمْ يُصْدَعْ قَطُّ، وَلَمَّا
جَرَى مَا جَرَى فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ ضَعُفَ أَمْرُ السُّلْطَانِ
بَرْكْيَارُوقَ، ثُمَّ تَرَاجَعَ إِلَيْهِ جَيْشُهُ،
وَانْضَافَ
إِلَيْهِ الْأَمِيرُ دَاوُدُ حَبَشِيٌّ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا فَالتَقَى مَعَ
أَخِيهِ الْآخَرِ سَنْجَرَ، فَهَزَمَهُ سَنْجَرُ أَيْضًا، وَأُسِرَ دَاوُدُ
الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ، فَقَتَلَهُ الْأَمِيرُ بُزْغُشُ أَحَدُ
أُمَرَاءِ سَنْجَرَ فَضَعُفَ جَانِبُ بَرْكْيَارُوقَ وَتَقَهْقَرَ حَالُهُ
وَتَفَرَّقَتْ عَنْهُ رِجَالُهُ، وَقُطِعَتْ خُطْبَتُهُ مِنْ بَغْدَادَ فِي
رَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَأُعِيدَتْ خُطْبَةُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ.
وَفِي رَمَضَانَ قُبِضَ عَلَى الْوَزِيرِ عَمِيدِ الدَّوْلَةِ ابْنِ جَهِيرٍ
وَعَلَى أَخَوَيْهِ ; زَعِيمِ الرُّؤَسَاءِ أَبِي الْقَاسِمِ وَأَبِي الْبَرَكَاتِ
الْمُلَقَّبِ بِالْكَافِي، وَأُخِذَتْ مِنْهُمْ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَحُبِسَ
بِدَارِ الْخِلَافَةِ حَتَّى مَاتَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَفِي
اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ قُتِلَ شِحْنَةُ أَصْبَهَانَ
ضَرَبَهُ بَاطِنِيٌّ بِسِكِّينٍ فِي خَاصِرَتِهِ، وَقَدْ كَانَ يَتَحَرَّزُ
مِنْهُمْ طُولَ مُبَاشَرَتِهِ، وَيَدَّرِعُ تَحْتَ ثِيَابِهِ سِوَى هَذِهِ
اللَّيْلَةِ، وَمَاتَ مِنْ أَوْلَادِهِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ جَمَاعَةٌ فَخَرَجَ
مِنْ دَارِهِ خَمْسُ جَنَائِزَ مِنْ صَبِيحَتِهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَقْبَلَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ
مُقَاتِلٍ، فَالْتَقَى مَعَهُ كُمُشْتِكِينُ ابْنُ الدَّانِشْمَنْدِ طَايْلُو
أَتَابِكُ الْجُيُوشِ بِ دِمَشْقَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أَمِينُ الدَّوْلَةِ،
وَاقِفُ الْأَمِينِيَّةِ بِدِمَشْقَ وَبِبُصْرَى، - لَا الَّتِي بِبَعْلَبَكَّ -
فَهَزَمَ الْفِرِنْجَ
وَقَتَلَ
مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا ; بِحَيْثُ لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ سِوَى ثَلَاثَةِ
آلَافٍ، وَأَكْثَرُهُمْ جَرْحَى - يَعْنِي الثَّلَاثَةَ آلَافٍ - وَذَلِكَ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَحِقَهُمْ إِلَى مَلَطْيَةَ فَمَلَكَهَا،
وَأَسَرَ مَلِكَهَا؛ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ التُّونْتَاشُ التُّرْكِيُّ وَكَانَ شَافِعِيَّ
الْمَذْهَبِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الرَّزَّاقِ الْغَزْنَوِيُّ الصُّوفِيُّ، شَيْخُ رِبَاطِ عَتَّابٍ، حَجَّ
مَرَّاتٍ عَلَى التَّجْرِيدِ، مَاتَ وَلَهُ نَحْوُ مِائَةِ سَنَةٍ، وَلَمْ
يَتْرُكْ كَفَنًا، وَقَدْ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ وَهُوَ فِي الِاحْتِضَارِ:
سَتُفْتَضَحُ الْيَوْمَ ; لَا يُوجَدُ لَكَ كَفَنٌ، فَقَالَ لَهَا: لَوْ تَرَكْتُ
كَفَنًا لَافْتُضِحْتُ.
وَعَكْسُهُ أَبُو الْحَسَنِ الْبِسْطَامِيُّ
شَيْخُ رِبَاطِ ابْنِ الْمِحْلِبَانِ، كَانَ لَا يَلْبَسُ إِلَّا الصُّوفَ شِتَاءً
وَصَيْفًا، وَيُظْهِرُ الزُّهْدَ، وَحِينَ تُوُفِّيَ وُجِدَ لَهُ أَرْبَعَةُ
آلَافِ دِينَارٍ مَدْفُونَةٌ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ حَالَيْهِمَا،
وَاتِّفَاقِ مَوْتِهِمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَرَحِمَ اللَّهُ الْأَوَّلَ
وَسَامَحَ الثَّانِي.
الْوَزِيرُ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ ابْنُ جَهِيرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي نَصْرِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ جَهِيرٍ الْوَزِيرُ الْكَبِيرُ
أَبُو مَنْصُورٍ، الْمُلَقَّبُ عَمِيدَ الدَّوْلَةِ كَانَ أَحَدَ رُؤَسَاءِ
الْوُزَرَاءِ وَسَادَاتِ الْكُبَرَاءِ، خَدَمَ ثَلَاثَةً مِنَ الْخُلَفَاءِ
وَوَزَرَ لِاثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَكَانَ حَلِيمًا قَلِيلَ الْعَجَلَةِ ;
إِلَّا
أَنَّهُ كَانَ يُتَكَلَّمُ فِيهِ بِسَبَبِ الْكِبْرِ، وَقَدْ وَلِيَ الْوَزَارَةَ
مَرَّاتٍ ; يُعْزَلُ ثُمَّ يُعَادُ، ثُمَّ كَانَ آخِرَهَا هَذِهِ الْمَرَّةُ،
حُبِسَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ السِّجْنِ إِلَّا مَيِّتًا فِي
شَوَّالٍ مِنْهَا.
ابْنُ جَزْلَةَ الطَّبِيبُ
يَحْيَى بْنُ عِيسَى بْنِ جَزْلَةَ، صَاحِبُ " الْمِنْهَاجِ " فِي
الطِّبِّ، كَانَ نَصْرَانِيًّا وَكَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي عَلِيِّ
بْنِ الْوَلِيدِ الْمُعْتَزِلِيِّ يَشْتَغِلُ عَلَيْهِ فِي الْمَنْطِقِ، فَكَانَ
أَبُو عَلِيٍّ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُوَضِّحُ لَهُ الدَّلَالَاتِ
حَتَّى أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَاسْتَخْلَفَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الدَّامَغَانِيُّ قَاضِي الْقُضَاةِ فِي كَتْبِ السِّجِلَّاتِ، ثُمَّ كَانَ
يُطَبِّبُ النَّاسَ بَعْدَ ذَلِكَ بِلَا أُجْرَةٍ، وَرُبَّمَا رَكَّبَ لَهُمُ
الْأَدْوِيَةَ مِنْ مَالِهِ تَبَرُّعًا، وَقَدْ أَوْصَى بِكُتُبِهِ أَنْ تَكُونَ
وَقْفًا بِمَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا عَظُمَ الْخَطْبُ بِأَصْبَهَانَ وَنَوَاحِيهَا بِالْبَاطِنِيَّةِ، فَقَتَلَ السُّلْطَانُ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأُبِيحَتْ دِيَارُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لِلْعَامَّةِ، كُلُّ مَنْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فَلَهُمْ قَتْلُهُ وَمَالُهُ، وَكَانُوا قَدِ اسْتَحْوَذُوا عَلَى قِلَاعٍ كَثِيرَةٍ ; وَأَوَّلُ قَلْعَةٍ مَلَكُوهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ، وَكَانَ الَّذِي مَلَكَهَا الْحَسَنَ بْنَ الصَّبَّاحِ أَحَدَ دُعَاتِهِمْ، وَكَانَ قَدْ دَخَلَ مِصْرَ وَتَعَلَّمَ مِنَ الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ كَانُوا بِهَا، ثُمَّ صَارَ إِلَى تِلْكَ النَّوَاحِي بِبِلَادِ أَصْبَهَانَ فَكَانَ لَا يَدْعُو إِلَّا غَبِيًّا لَا يَعْرِفُ يَمِينَهُ مِنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ يُطْعِمُهُ الْعَسَلَ بِالْجَوْزِ وَالشُّونِيْزِ حَتَّى يَحْتَرِقَ مِزَاجُهُ وَيَفْسُدَ دِمَاغُهُ، ثُمَّ يَذْكُرُ لَهُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَيَكْذِبُ لَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ الرَّافِضَةِ الضُّلَّالِ ; أَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَمُنِعُوا حَقَّهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: فَإِذَا كَانَتِ الْخَوَارِجُ تُقَاتِلُ مَعَ بَنِي أُمَيَّةَ لِعَلِيٍّ ; فَأَنْتَ أَحَقُّ أَنْ تُقَاتِلَ فِي نُصْرَةِ إِمَامِكَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَا يَزَالُ يَسْقِيهِ مِنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ حَتَّى يَسْتَجِيبَ لَهُ، وَيَصِيرَ أَطْوَعَ لَهُ مِنْ أُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَيُظْهِرُ لَهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنَ الْمَخْرَقَةِ وَالنِّيرَنْجَاتِ وَالْحِيَلِ الَّتِي لَا تَرُوجُ إِلَّا عَلَى الْجُهَّالِ ; حَتَّى الْتَفَّ عَلَيْهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ مَلِكْشَاهْ يَتَهَدَّدُهُ وَيَنْهَاهُ عَنْ بَعْثِهِ الْفِدَاوِيَّةَ إِلَى الْعُلَمَاءِ، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الشَّبَابِ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُرْسِلَ مِنْكُمْ رَسُولًا إِلَى مَوْلَاهُ، فَاشْرَأَبَّتْ وُجُوهُ الْحَاضِرِينَ،
مِنْهُمْ،
ثُمَّ قَالَ لِشَابٍ مِنْهُمْ: اقْتُلْ نَفْسَكَ، فَأَخْرَجَ سِكِّينًا فَضَرَبَ
بِهَا غَلْصَمَتَهُ، فَسَقَطَ مَيِّتًا، وَقَالَ لِآخَرَ مِنْهُمْ: أَلْقِ
نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ فَرَمَى نَفْسَهُ مِنْ رَأْسِ الْقَلْعَةِ إِلَى
أَسْفَلِ خَنْدَقِهَا فَتَقَطَّعَ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: هَذَا الْجَوَابُ
فَمِنْهَا امْتَنَعَ السُّلْطَانُ مِنْ مُرَاسَلَتِهِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ وَسَيَأْتِي أَنَّ الْمَلِكَ صَلَاحَ الدِّينِ فَاتِحَ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ، جَرَى لَهُ مَعَ سِنَانٍ صَاحِبِ الْإِيوَانِ مِثْلُ هَذَا.
وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ بِفَتْحِ
جَامِعِ الْقَصْرِ وَأَنْ يُبَيَّضَ وَأَنْ يُصَلَّى فِيهِ التَّرَاوِيحُ، وَأَنْ
يُجْهَرَ بِالْبَسْمَلَةِ، وَأَنْ يُمْنَعَ النِّسَاءُ مِنَ الْخُرُوجِ لَيْلًا
لِلْفُرْجَةِ.
وَفِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ إِلَى
بَغْدَادَ فَخُطِبَ لَهُ بِهَا، ثُمَّ لَحِقَهُ أَخَوَاهُ مُحَمَّدٌ وَسَنْجَرُ،
فَدَخَلَاهَا، وَهُوَ مَرِيضٌ فَعَبَرَا فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَقُطِعَتْ
خُطْبَتُهُ، وَخُطِبَ لَهُمَا بِهَا وَهَرَبَ بَرْكْيَارُوقُ إِلَى وَاسِطٍ،
وَنَهَبَ جَيْشُهُ مَا اجْتَازُوا بِهِ مِنَ الْبِلَادِ وَالْأَرَاضِي، فَنَهَاهُ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ ذَلِكَ وَوَعَظَهُ، فَلَمْ يُفِدْ شَيْئًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ قِلَاعًا كَثِيرَةً ; مِنْهَا
قَيْسَارِيَّةُ وَسَرُوجُ، وَسَارَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ كُنْدُفْرِي، وَهُوَ
الَّذِي أَخَذَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَى عَكَّا فَحَاصَرَهَا فَجَاءَهُ سَهْمٌ
فِي عُنُقِهِ فَمَاتَ مِنْ فَوْرِهِ، أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى
أَجْنَادِهِ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الصَّبَّاغِ أَبُو
مَنْصُورٍ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ
الطَّبَرِيِّ ثُمَّ عَلَى عَمِّهِ أَبِي نَصْرِ بْنِ الصَّبَّاغِ، وَكَانَ
فَقِيهًا فَاضِلًا كَثِيرَ الصَّلَاةِ، يَصُومُ الدَّهْرَ، وَقَدْ وَلِيَ
الْقَضَاءَ بِرَبْعِ الْكَرْخِ، وَالْحِسْبَةَ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ؛
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ الطَبَسِيُّ، رَحَلَ وَجَمَعَ وَصَنَّفَ وَكَانَ أَحَدَ
الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ، ثِقَةً، صَدُوقًا، عَالِمًا بِالْحَدِيثِ، وَرِعًا،
حَسَنَ الْخُلُقِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْفَرَجِ الزَّازُ السَّرْخَسِيُّ، نَزَلَ مَرْوَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
وَأَمْلَى، وَرَحَلَ إِلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَكَانَ حَافِظًا لِمَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ مُتَدَيِّنًا، وَرِعًا؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَزِيزِي بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَنْصُورٍ
أَبُو الْمَعَالِي الْجِيلِيُّ الْقَاضِي، الْمُلَقَّبُ شَيْذَلَهْ، كَانَ
شَافِعِيًّا فِي الْفُرُوعِ أَشْعَرِيًّا فِي الْأُصُولِ، وَكَانَ حَاكِمًا
بِبَابِ
الْأَزَجِ،
وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ بَابِ الْأَزَجِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ شَنَآنٌ
كَبِيرٌ، سَمِعَ رَجُلًا يُنَادِي عَلَى حِمَارٍ لَهُ ضَائِعٍ فَقَالَ: يَدْخُلُ
بَابَ الْأَزَجِ وَيَأْخُذُ بِيَدِ مَنْ شَاءَ. وَقَالَ يَوْمًا لِلنَّقِيبِ
طِرَادٍ الزَّيْنَبِيِّ: لَوْ حَلَفَ إِنْسَانٌ أَنَّهُ لَا يَرَى إِنْسَانًا
فَرَأَى أَهْلَ بَابَ الْأَزَجِ لَمْ يَحْنَثْ، فَقَالَ لَهُ الشَّرِيفُ: مَنْ
عَاشَرَ قَوْمًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهُوَ مِنْهُمْ، وَلِهَذَا لَمَّا مَاتَ
فَرِحُوا بِمَوْتِهِ كَثِيرًا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ طَوْقٍ
أَبُو الْفَضَائِلِ الرَّبَعِيُّ الْمَوْصِلِيُّ تَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي
إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَسَمِعَ مِنَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ
الطَّبَرِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً، صَالِحًا، كَتَبَ الْكَثِيرَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّاذَانِيُّ نَزَلَ أَوَانَا، وَكَانَ مُقْرِئًا،
فَقِيهًا، صَالِحًا، لَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ وَمُكَاشَفَاتٌ، أَخَذَ عَنِ
الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَدِيثَ وَغَيْرِهِ.
قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنًا لَهُ صَغِيرًا طَلَبَ مِنْهُ غَزَالًا
وَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ غَدًا يَأْتِيكَ غَزَالٌ، فَلَمَّا
كَانَ الْغَدُ أَتَى غَزَالٌ فَجَعَلَ يَنْطَحُ الْبَابَ بِقَرْنَيْهِ حَتَّى
يَفْتَحَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ يَا بُنَيَّ أَتَاكَ الْغَزَالُ؛ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحِ بْنِ
سُلَيْمَانَ بْنِ وَدْعَانَ
أَبُو نَصْرٍ الْمَوْصِلِيُّ الْقَاضِي، قَدِمَ بَغْدَادَ سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَتِسْعِينَ وَحَدَّثَ عَنْ عَمِّهِ بِ " الْأَرْبَعِينَ الْوَدْعَانِيَّةِ
" وَقَدْ سَرَقَهَا عَمُّهُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ وَدْعَانَ مِنْ زَيْدِ بْنِ
رِفَاعَةَ الْهَاشِمِيِّ، فَرَكَّبَ لَهَا أَسَانِيدَ إِلَى مَنْ بَعْدَ زَيْدِ
بْنِ رِفَاعَةَ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ كُلُّهَا، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا مَعَانٍ
صَحِيحَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ
أَبُو سَعْدٍ الْمُسْتَوْفِي، شَرَفُ الْمُلْكِ الْخُوَارَزْمِيُّ، جَلِيلُ
الْقَدْرِ، وَكَانَ مُتَعَصِّبًا لِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَوَقَفَ لَهُمْ
مَدْرَسَةً بِمَرْوَ، وَوَقَفَ فِيهَا كُتُبًا كَثِيرَةً وَبَنَى مَدْرَسَةً
بِبَغْدَادَ عِنْدَ بَابِ الطَّاقِ وَبَنَى الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَبَنَى أَرْبِطَةً فِي الْمَفَاوِزِ وَعَمِلَ خَيْرًا كَثِيرًا،
وَكَانَ مِنْ أَطْيَبِ النَّاسِ مَأْكَلًا وَمَشْرَبًا وَأَحْسَنِهِمْ مَلْبَسًا
وَأَكْثَرِهِمْ مَالًا، ثُمَّ تَرَكَ الْعِمَالَةَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ
وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِنَفْسِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ؛
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْقُشَيْرِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِعَمِيدِ خُرَاسَانَ، قَدِمَ بَغْدَادَ أَيَّامَ طُغْرُلْبَكَ،
وَحَدَّثَ عَنْ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَسْرُورٍ، وَكَانَ
كَثِيرَ
الرَّغْبَةِ فِي الْخَيْرِ، وَقَفَ بِمَرْوَ مَدْرَسَةً عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ
أَبِي الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيِّ وَذُرِّيَّتِهِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
فَهُمْ يَتَوَلَّوْنَهَا إِلَى الْآنِ، وَبَنَى بِنَيْسَابُورَ مَدْرَسَةً
وَفِيهَا تُرْبَتُهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ؛
رَحِمَهُ اللَّهُ.
نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْبَطِرِ أَبُو الْخَطَّابِ الْبَزَّازُ
الْقَارِئُ.
وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَتَفَرَّدَ عَنِ ابْنِ رِزْقَوَيْهِ، وَغَيْرِهِ، وَطَالَ عُمْرُهُ، وَرُحِلَ
إِلَيْهِ مِنَ الْآفَاقِ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ صَحِيحَ السَّمَاعِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ قُبِضَ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْمَعْرُوفِ بِإِلْكِيَا الْهَرَّاسِيِّ وَعُزِلَ عَنْ تَدْرِيسِ النِّظَامِيَّةِ
; وَذَلِكَ أَنَّهُ رَمَاهُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ السُّلْطَانِ بِأَنَّهُ بَاطِنِيٌّ،
فَشَهِدَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ ابْنُ عَقِيلٍ بِبَرَاءَتِهِ
مِنْ ذَلِكَ، وَجَاءَتِ الرِّسَالَةُ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ بِخَلَاصِهِ.
وَفِيهَا فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ حَادِي عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ جَلَسَ الْخَلِيفَةُ
الْمُسْتَظْهِرُ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَعَلَى كَتِفَيْهِ الْبُرْدَةُ وَبِيَدِهِ
الْقَضِيبُ، وَجَاءَ الْمَلِكَانِ الْأَخَوَانِ مُحَمَّدٌ وَسَنْجَرُ أَبْنَاءُ
مَلِكْشَاهْ فَقَبَّلَا الْأَرْضَ وَخَلَعَ عَلَيْهِمَا الْخِلَعَ
السُّلْطَانِيَّةِ ; عَلَى مُحَمَّدٍ سَيْفًا وَطَوْقًا وَسُوَارًا وَلِوَاءً
وَأَفْرَاسًا مِنْ مَرَاكِبِهِ، وَعَلَى سَنْجَرَ دُونَ ذَلِكَ.
وَوَلَّى الْخَلِيفَةُ السُّلْطَانَ مُحَمَّدًا الْمُلْكَ، وَاسْتَنَابَهُ فِيمَا
يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْخِلَافَةِ ; دُونَ مَا أَغْلَقَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ
بَابَهُ، ثُمَّ خَرَجَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ فِي تَاسِعِ عَشَرَ الشَّهْرِ،
فَأَرْجَفَ النَّاسُ بِقُدُومِ بَرْكْيَارُوقَ ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى أُمُورٍ،
فَرَكِبَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ، فَالْتَقَوْا وَجَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ،
وَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ وَجَرَى عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ شَدِيدٌ كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانَهُ.
وَفِي رَجَبٍ قَبِلَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيُّ شَهَادَةَ أَبِي
الْحُسَيْنِ وَأَبِي خَازِمٍ ابْنَيِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ.
وَفِيهَا قَدِمَ عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْغَزْنَوِيُّ،
فَوَعَظَ
النَّاسَ، وَكَانَ شَافِعِيًّا أَشْعَرِيًّا، فَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ
الْحَنَابِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ حُمَيْدٌ
الْعُمَرِيُّ صَاحِبُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ دُبَيْسِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيِّ، صَاحِبُ الْحِلَّةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْقَاسِمِ صَاحِبُ مِصْرَ، الْمُلَقَّبُ بِالْمُسْتَعْلِي فِي ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُهُ
عَلِيٌّ وَلَهُ تِسْعُ سِنِينَ، وَلُقِّبَ الْآمِرَ بِأَحْكَامِ اللَّهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ
أَبُو نَصْرٍ الْقَاضِي الْبَنْدَنِيجِيُّ الضَّرِيرُ الشَّافِعِيُّ، أَخَذَ عَنِ
الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ ثُمَّ جَاوَرَ بِمَكَّةَ أَرْبَعِينَ
سَنَةً، يُفْتِي وَيُدَرِّسُ، وَيَرْوِي الْحَدِيثَ، وَكَانَ مِنْ نَوَادِرِ
الزَّمَانِ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
عَدِمْتُكِ نَفْسِي مَا تَمَلِّي بَطَالَتِي وَقَدْ مَرَّ إِخْوَانِي وَأَهْلُ
مَوَدَّتِي أُعَاهِدُ رَبِّي ثُمَّ أَنْقُضُ عَهْدَهُ
وَأَتْرُكُ عَزْمِي حِينَ تُعْرِضُ شَهْوَتِي وَزَادِي قَلِيلٌ مَا أَرَاهُ
مُبَلِّغِي
أَلِلزَّادِ أَبْكِي أَمْ لِطُولِ مَسَافَتِي ؟
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا حَاصَرَ السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ أَخَاهُ مُحَمَّدًا بَأَصْبَهَانَ،
فَضَاقَتْ عَلَى أَهْلِهَا الْأَرْزَاقُ وَاشْتَدَّ الْغَلَاءُ عِنْدَهُمْ جِدًّا،
وَأَخَذَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ أَهْلَهَا بِالْمُصَادَرَةِ، وَالْحِصَارُ
حَوْلَهُمْ مِنْ خَارِجِ الْبَلَدِ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمُ الْخَوْفُ وَالْجُوعُ
وَالنَّقْصُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ، ثُمَّ خَرَجَ
السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَصْبَهَانَ هَارِبًا، فَأَرْسَلَ أَخُوهُ فِي
أَثَرِهِ مَمْلُوكَهُ إِيَازَ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ قَبْضِهِ، وَنَجَا
بِنَفْسِهِ سَالِمًا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا زِيدَ فِي أَلْقَابِ قَاضِي
الْقُضَاةِ أَبِي الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيِّ: تَاجُ الْإِسْلَامِ. وَفِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ قُطِعَتِ الْخُطْبَةُ لِلسَّلَاطِينِ بِبَغْدَادَ وَاقْتُصَرَ عَلَى
ذِكْرِ الْخَلِيفَةِ فِيهَا وَالدُّعَاءِ لَهُ.
ثُمَّ الْتَقَى الْأَخَوَانِ بَرْكْيَارُوقُ وَمُحَمَّدٌ فَانْهَزَمَ مُحَمَّدٌ
أَيْضًا ثُمَّ اصْطَلَحَا. وَفِيهَا مَلَكَ دُقَاقُ بْنُ تُتُشَ بْنِ مَلِكْشَاهْ
صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ الرَّحْبَةِ، وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو الْمُظَفَّرِ
الْخُجَنْدِيُّ الْوَاعِظُ بِالرَّيِّ، وَكَانَ فَقِيهًا شَافِعِيًّا مُدَرِّسًا،
قَتَلَهُ رَافِضِيٌّ عَلَوِيٌّ فِي الْفِتْنَةِ، وَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا،
وَكَانَ نِظَامُ الْمُلْكِ يَزُورُهُ وَيُعَظِّمُهُ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ
خُمَارْتِكِينُ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِوَارٍ
أَبُو طَاهِرٍ الْمُقْرِئُ صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ كَانَ
ثِقَةً ثَبَتًا مَأْمُونًا عَالِمًا بِهَذَا الشَّأْنِ، قَدْ جَاوَزَ
الثَّمَانِينَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو الْمَعَالِي
أَحَدُ الصُّلَحَاءِ الزُّهَّادِ ذَوِي الْكَرَامَاتِ وَالْمُكَاشَفَاتِ، وَكَانَ
كَثِيرَ الْعِبَادَةِ مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا، لَا يَلْبَسُ صَيْفًا وَلَا
شِتَاءً إِلَّا قَمِيصًا وَاحِدًا، فَإِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ وَضَعَ عَلَى
كَتِفِهِ مِئْزَرًا، وَذُكِرَ أَنَّهُ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ فِي
رَمَضَانَ فَعَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ ; لِيَسْتَقْرِضَ
مِنْهُ شَيْئًا، قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا أُرِيدُهُ إِذَا بِطَائِرٍ قَدْ سَقَطَ
عَلَى كَتِفِي وَقَالَ: يَا أَبَا الْمَعَالِي، أَنَا الْمَلَكُ الْفُلَانِيُّ لَا
تَمْضِ إِلَيْهِ ; نَحْنُ نَأْتِيكَ بِهِ قَالَ فَبَكَّرَ إِلَيَّ الرَّجُلُ،
رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَظَمِهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْهُ، كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ أَحْمَدَ.
السَّيِّدَةُ بِنْتُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
الَّتِي تَزَوَّجَهَا طُغْرُلْبَكَ تُوُفِّيَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَتْ
بِالرُّصَافَةِ، وَكَانَتْ كَثِيرَةَ الصَّدَقَةِ وَالْإِيثَارِ، وَجَلَسَ
لِعَزَائِهَا فِي بَيْتِ النُّوبَةِ الْوَزِيرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا قَصَدَ الْفِرِنْجُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - الشَّامَ فَقَاتَلَهُمُ
الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَرَدَّ اللَّهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَقَدْ أُسِرَ فِي هَذِهِ
الْوَقْعَةِ بَرْدَوِيلُ صَاحِبُ الرُّهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَقَطَتْ مَنَارَةُ وَاسِطٍ، وَقَدُ كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ
الْمَنَائِرِ، كَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ يَفْتَخِرُونَ بِهَا وَبِقُبَّةِ
الْحَجَّاجِ، فَلَمَّا سَقَطَتْ سُمِعَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ بُكَاءٌ وَعَوِيلٌ
شَدِيدٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَهْلِكْ بِسَبَبِهَا
أَحَدٌ، وَكَانَ بِنَاؤُهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي زَمَنِ
الْمُقْتَدِرِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَأَكَّدَ الصُّلْحُ بَيْنَ السُّلْطَانَيْنِ
الْأَخَوَيْنِ بَرْكْيَارُوقَ وَمُحَمَّدٍ، وَاقْتَسَمَا الْبِلَادَ فَقُطِعَتِ
الْخُطْبَةُ بِبَغْدَادَ لِمُحَمَّدٍ وَاسْتَمَرَّتْ لِلْمَلِكِ بَرْكْيَارُوقَ،
وَبُعِثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ وَإِلَى الْأَمِيرِ إِيَازَ وَفِيهَا أَخَذَتِ
الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ عَكَّا وَغَيْرَهَا مِنَ السَّوَاحِلِ.
وَفِيهَا اسْتَوْلَى الْأَمِيرُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورٍ
صَاحِبُ الْحِلَّةِ عَلَى مَدِينَةِ وَاسِطٍ.. وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمَلِكُ
دُقَاقُ بْنُ تُتُشَ صَاحِبُ دِمَشْقَ، فَأَقَامَ مَمْلُوكُهُ طُغْتِكِينُ وَلَدًا
لَهُ صَغِيرًا، مَكَانَهُ وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ لَهُ، وَصَارَ هُوَ أَتَابِكَهُ،
فَدَبَّرَا الْمُلْكَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً. وَفِيهَا عَزَلَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ
وَزِيرَهُ أَبَا الْفَتْحِ الطُّغْرَائِيَّ وَنَفَاهُ إِلَى غَزْنَةَ.
وَفِيهَا
وَلِيَ أَبُو نَصْرٍ نِظَامُ الْحَضْرَتَيْنِ دِيوَانَ الْإِنْشَاءِ بَعْدَ
وَفَاةِ خَالِهِ أَبِي سَعْدٍ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُوصَلَايَا. وَفِيهَا قُتِلُ
الطَّبِيبُ الْمَاهِرُ الْحَاذِقُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَكَانَتْ لَهُ إِصَابَاتٌ
عَجِيبَةٌ جِدًّا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ
خُمَارْتِكِينُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَرْدَشِيرُ بْنُ أَبِي مَنْصُورٍ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ الْوَاعِظُ،
قَدِمَ بَغْدَادَ فَأَحَبَّتْهُ الْعَامَّةُ، فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ،
وَقَدْ كَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ جَيِّدَةٌ فِيمَا يَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ.
أَبُو الْفَرَجِ الْقُومَسَانِيُّ مِنْ أَهْلِ هَمَذَانَ سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ
وَجَدِّهِ وَجَمَاعَةٍ، وَكَانَ حَافِظًا، حَسَنَ الْمَعْرِفَةِ بِالرِّجَالِ
وَالْمُتُونِ، ثِقَةً، مَأْمُونًا؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْعَلَاءُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ وَهْبِ بْنِ الْمُوصَلَايَا
سَعْدُ الدَّوْلَةِ كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ بِبَغْدَادَ، كَانَ نَصْرَانِيًّا
فَأَسْلَمَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، فَمَكَثَ فِي الرِّيَاسَةِ مُدَّةً
طَوِيلَةً نَحْوًا مِنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ فِي الْوَزَارَةِ
مَرَّاتٍ، وَكَتَبَ الْإِنْشَاءَ
مُدَّةً،
وَكَانَ فَصِيحَ الْعِبَارَةِ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ عُمْرٍ طَوِيلٍ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ
أَبُو عُمَرَ النَّهَاوَنْدِيُّ قَاضِي الْبَصْرَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَكَانَ
فَقِيهًا، عَالِمًا، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيِّ
وَغَيْرِهِ، كَانَ مِنْ تَلَامِذَةِ الْمَاوَرْدِيِّ، مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ
عَشْرٍ، وَقِيلَ: سَبْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ بَرْكْيَارُوقُ، وَعَهِدَ إِلَى وَلَدِهِ
الصَّغِيرِ مَلِكْشَاهْ وَعُمْرُهُ أَرْبَعُ سِنِينَ وَشُهُورٌ، فَخُطِبَ لَهُ
بِبَغْدَادَ، وَنُثِرَ عِنْدَ ذِكْرِهِ الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ، وَلُقِّبَ
جَلَالَ الدَّوْلَةِ، وَجُعِلَ أَتَابِكُهُ الْأَمِيرَ إِيَازَ،، ثُمَّ جَاءَ السُّلْطَانُ
مُحَمَّدُ بْنُ مَلِكْشَاهْ إِلَى بَغْدَادَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الدَّوْلَةُ
فَتَلَقَّوْهُ وَصَالَحُوهُ، وَكَانَ الَّذِي أَخَذَ الْبَيْعَةَ بِالصُّلْحِ
إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ، وَخُطِبَ لَهُ بِالْجَانِبِ
الْغَرْبِيِّ وَلِابْنِ أَخِيهِ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، ثُمَّ قَتَلَ
الْأَمِيرَ إِيَازَ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ الْخِلَعُ
وَالدَّوَاةُ وَالدَّسْتُ.
وَحَضَرَ الْوَزِيرُ سَعْدُ الدَّوْلَةِ عِنْدَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيِّ فِي
دَرْسِ النِّظَامِيَّةِ لِيُرَغِّبَ النَّاسَ فِي الْعِلْمِ.
وَفِي ثَانِي عَشَرَ رَجَبٍ مِنْهَا أُزِيلُ الْغِيَارُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ
الَّذِي كَانُوا أُلْزِمُوهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ،
وَلَا يُعْرَفُ مَا سَبَبُ ذَلِكَ، وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ مَا بَيْنَ
الْمِصْرِيِّينَ وَالْفِرِنْجِ فَقَتَلُوا مِنَ الْفِرِنْجِ خَلْقًا كَثِيرًا،
ثُمَّ أُدِيلَ عَلَيْهِمُ الْفِرِنْجُ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا أَيْضًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ
بَرْكْيَارُوقُ بْنُ مَلِكْشَاهْ رُكْنُ الدَّوْلَةِ السَّلْجُوقِيُّ، جَرَتْ لَهُ
خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَحُرُوبٌ هَائِلَةٌ، وَأَحْوَالٌ مُتَبَايِنَةٌ، خُطِبَ لَهُ
بِبَغْدَادَ سِتَّ مَرَّاتٍ، وَعُزِلَ عَنْهَا سِتَّ مَرَّاتٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ
يَوْمَ مَاتَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَشُهُورًا، وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ
وَلَدُهُ مَلِكْشَاهْ فَلَمْ يَتِمَّ أَمْرُهُ ; بِسَبَبِ مُنَازَعَةِ عَمِّهِ
مُحَمَّدٍ لَهُ.
عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ
أَبُو الْمُؤَيَّدِ الْغَزْنَوِيُّ الْأَشْعَرِيُّ كَانَ وَاعِظًا كَاتِبًا
شَاعِرًا وَرَدَ بَغْدَادَ فَوَعَظَ بِهَا فَنَفَقَ عَلَى أَهْلِهَا، وَكَانَ
أَشْعَرِيُّ الْمَذْهَبِ مُتَعَصِّبًا لَهُ، فَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ قَاصِدًا
بَلَدَهُ فَتُوُفِّيَ بِإِسْفَرَايِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سِلَفَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ
أَبُو أَحْمَدَ كَانَ شَيْخًا عَفِيفًا ثِقَةً سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَهُوَ وَالِدُ
الْحَافِظِ أَبِي طَاهِرٍ السَّلَفِيِّ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَافِظُ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْغَسَّانِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ
مُصَنِّفُ " تَقْيِيدِ الْمُهْمَلِ " عَلَى أَلْفَاظِ الصَّحِيحَيْنِ،
وَهُوَ كِتَابٌ مُفِيدٌ كَثِيرُ النَّفْعِ، وَكَانَ حَسَنَ الْخَطِّ عَالِمًا
بِاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ وَالْأَدَبِ، وَكَانَ يُسْمَعُ فِي جَامِعِ قُرْطُبَةَ،
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَعْبَانَ هَذِهِ
السَّنَةَ، عَنْ
إِحْدَى
وَسَبْعِينَ سَنَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الصَّقْرِ
أَبُو الْحَسَنِ الْوَاسِطِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ أَبِي
إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَقَرَأَ الْأَدَبَ، وَقَالَ الشِّعْرَ، وَمِنْ ذَلِكَ
قَوْلُهُ:
مَنْ قَالَ لِي جَاهٌ وَلِي حِشْمَةٌ وَلِي قَبُولٌ عِنْدَ مَوْلَانَا وَلَمْ
يَعُدْ ذَاكَ بِنَفْعٍ عَلَى
صَدِيقِهِ لَا كَانَ مَنْ كَانَا
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا ادَّعَى رَجُلٌ النُّبُوَّةَ بِنَوَاحِي نَهَاوَنْدَ
وَسَمَّى أَرْبَعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
وَعَلِيًّا، فَاتَّبَعَهُ عَلَى ضَلَالِهِ خَلْقٌ مِنَ الْجَهَلَةِ الرَّعَاعِ
وَبَاعُوا أَمْلَاكَهُمْ وَدَفَعُوا أَثْمَانَهَا إِلَيْهِ، وَكَانَ كَرِيمًا
يُعْطِي مَنْ قَصَدَهُ مَا عِنْدَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ قُتِلَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ،
لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَرَامَ رَجُلٌ آخَرُ مِنْ وَلَدِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ
الْمُلْكَ فَلَمْ يَتِمَّ أَمْرُهُ؛ بَلْ قُبِضَ عَلَيْهِ فِي أَقَلَّ مِنْ
شَهْرَيْنِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ ادَّعَى رَجُلٌ النُّبُوَّةَ وَآخَرُ الْمُلْكَ
فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ زَوَالِهِمَا.
وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً ; فَأَتْلَفَتْ
شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْغَلَّاتِ وَغَرِقَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ بِبَغْدَادَ،
وَفِيهَا كَسَرَ طُغْتِكِينُ أَتَابِكُ الْعَسَاكِرِ بِدِمَشْقَ الْفِرِنْجَ،
وَعَادَ مَنْصُورًا إِلَى دِمَشْقَ، وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ
سُرُورًا بِكَسْرَةِ الْفِرِنْجِ. وَفِي رَمَضَانِهَا حَاصَرَ الْمَلِكُ رِضْوَانُ
بْنُ تُتُشَ صَاحِبُ حَلَبَ مَدِينَةَ نَصِيبِينَ.
وَفِيهَا وَرَدَ بَغْدَادَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْمُلَثَّمِينَ وَصُحْبَتُهُ
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْفَقِيهُ، فَوَعَظَ النَّاسَ فِي جَامِعِ الْقَصْرِ وَهُوَ
مُلَثَّمٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ، وَلَهُ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ مَعَ الْفِرِنْجِ
وَاسْتُشْهِدَ فِي بَعْضِهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْعِرَاقِ رَجُلٌ مِنْ قَرَائِبِ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَدَقَةَ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَهْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْأَرْغِيَانِيُّ أَبُو الْفَتْحِ
الْحَاكِمُ، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَلَّقَ عَنِ
الْقَاضِي حُسَيْنٍ طَرِيقَهُ وَشَكَرَهُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ تَفَقَّهَ
أَوَّلًا عَلَى الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ السِّنْجِيِّ، ثُمَّ تَفَقَّهَ وَعَلَّقَ
عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي الْأُصُولِ وَنَاظَرَ بِحَضْرَتِهِ
فَاسْتَجَادَهُ، وَوَلِيَ قَضَاءَ بَلَدِهِ مُدَّةً، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ،
وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ
وَبَنَى لِلصُّوفِيَّةِ رِبَاطًا مِنْ مَالِهِ، وَلَزِمَ التَّعَبُّدَ إِلَى أَنْ
مَاتَ فِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ
أَبُو مَنْصُورٍ الْخَيَّاطُ، أَحَدُ الْقُرَّاءِ وَالصُّلَحَاءِ، خَتَمَ أُلُوفًا
مِنَ الْخَتَمَاتِ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَسْمَعَ
الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَحِينَ تُوُفِّيَ اجْتَمَعَ الْعَالَمُ فِي جِنَازَتِهِ
اجْتِمَاعًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ فِي جِنَازَةٍ بِتِلْكَ الْأَزْمَانِ، وَكَانَ
عُمْرُهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ سَبْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ
رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ
غَفَرَ لِي بِتَعْلِيمِي الصِّبْيَانَ الْفَاتِحَةَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ
أَبُو الْفَرَجِ الْبَصْرِيُّ، قَاضِيهَا
سَمِعَ
أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ وَالْمَاوَرْدِيَّ وَغَيْرَهُمَا، وَرَحَلَ فِي
طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ عَابِدًا خَاشِعًا عِنْدَ الذِّكْرِ.
مُهَارِشُ بْنُ مُجَلِّي،
أَمِيرُ الْعَرَبِ بِحَدِيثَةَ وَعَانَةَ، وَهُوَ الَّذِي أُودِعَ عِنْدَهُ
الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ حِينَ كَانَتْ فِتْنَةُ الْبَسَاسِيرِيِّ بِبَغْدَادَ
; فَأَكْرَمَ الْخَلِيفَةَ حِينَ وَرَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَازَاهُ الْجَزَاءَ
الْأَوْفَى، وَكَانَ الْأَمِيرُ مُهَارِشٌ هَذَا كَثِيرَ الصَّلَاةِ
وَالصَّدَقَةِ، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَنْ يُعْجِزَ
اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ "
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنِي
صَفْوَانُ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنِّي
لَأَرْجُو أَنْ لَا يُعْجِزَ أُمَّتِي عِنْدَ رَبِّهَا أَنْ يُؤَخِّرَهَا نِصْفَ
يَوْمٍ " قِيلَ: لِسَعْدٍ: وَكَمْ نِصْفُ يَوْمٍ ؟ قَالَ: خَمْسُمِائَةِ
سَنَةٍ، وَهَذَا مِنْ دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ، وَذِكْرُ هَذِهِ الْمُدَّةِ لَا
يَنْفِي زِيَادَةً عَلَيْهَا كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ لَا بُدَّ مِنْ
وُقُوعِهَا كَمَا أَخْبَرَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِيمَا
بَعْدَ زَمَانِنَا، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَمِمَّا وَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْحَوَادِثِ أَنَّ السُّلْطَانَ
مُحَمَّدَ بْنَ مَلِكْشَاهْ حَاصَرَ قِلَاعًا كَثِيرَةً مِنْ حُصُونِ
الْبَاطِنِيَّةِ، فَافْتَتَحَ مِنْهَا أَمَاكِنَ كَثِيرَةً، وَقَتَلَ مِنْهُمْ
خَلْقًا كَثِيرًا، وَجَمْعًا كَبِيرًا، وَجَمًّا غَفِيرًا، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ
مَا افْتَتَحَ مِنْ ذَلِكَ قَلْعَةً حَصِينَةً؛ كَانَ أَبُوهُ قَدْ بَنَاهَا
بِالْقُرْبِ مِنْ أَصْبَهَانَ فِي رَأْسِ جَبَلٍ مَنِيعٍ هُنَاكَ، وَكَانَ سَبَبُ
بِنَائِهِ
لَهَا أَنَّهُ كَانَ مَرَّةً فِي بَعْضِ صُيُودِهِ، فَهَرَبَ مِنْهُ كَلْبٌ،
فَاتَّبَعَهُ إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ فَوَجَدَهُ وَكَانَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ
رُسُلِ الرُّومِ، فَقَالَ الرُّومِيُّ: لَوْ كَانَ هَذَا الْجَبَلُ بِبِلَادِنَا
لَاتَّخَذْنَا عَلَيْهِ قَلْعَةً، فَحَدَا هَذَا الْكَلَامُ السُّلْطَانَ إِلَى
أَنِ ابْتَنَى فِي رَأْسِهِ قَلْعَةً أَنْفَقَ عَلَيْهَا أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ
وَمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ
الْبَاطِنِيَّةِ يُقَالُ لَهُ: أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَطَّاشٍ
فَتَعِبَ الْمُسْلِمُونَ بِسَبَبِهَا، فَحَاصَرَهَا ابْنُهُ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ
سَنَةً حَتَّى افْتَتَحَهَا، وَسَلَخَ هَذَا الرَّجُلَ وَحَشَى جِلْدَهُ تِبْنًا
وَقَطَعَ رَأْسَهُ، فَطِيفَ بِهِ فِي الْأَقَالِيمِ، ثُمَّ نَقَضَ هَذِهِ
الْقَلْعَةَ حَجَرًا حَجَرًا وَأَلْقَتِ امْرَأَتُهُ نَفْسَهَا مِنْ أَعْلَى
الْقَلْعَةِ فَتَلِفَتْ، وَهَلَكَ مَا كَانَ مَعَهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ
النَّفِيسَةِ، وَكَانَ النَّاسُ يَتَشَاءَمُونَ بِهَذِهِ الْقَلْعَةِ، يَقُولُونَ:
كَانَ دَلِيلُهَا كَلْبًا، وَالْمُشِيرُ بِهَا كَافِرًا، وَالْمُتَحَصِّنُ بِهَا
زِنْدِيقًا.
وَفِيهَا وَقَعَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ خَفَاجَةَ وَبَيْنَ عُبَادَةَ
فَقَهَرَتْ عُبَادَةُ خَفَاجَةَ وَأَخَذَتْ بِثَأْرِهَا. وَفِيهَا اسْتَحْوَذَ
سَيْفُ الدَّوْلَةِ صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورٍ الْأَسَدِيُّ عَلَى مَدِينَةِ
تِكْرِيتَ بَعْدَ قِتِالٍ كَثِيرٍ. وَفِيهَا أَرْسَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ الْأَمِيرَ
جَاوَلِي سَقَاوُو إِلَى الْمَوْصِلِ وَأَقْطَعُهُ إِيَّاهَا، فَذَهَبَ
فَانْتَزَعَهَا مِنَ الْأَمِيرِ جَكَرْمَشَ بَعْدَمَا قَاتَلَهُ، وَهَزَمَ
أَصْحَابَهُ وَأَسَرَهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ جَكرمشُ مِنْ
خِيَارِ الْأُمَرَاءِ سِيرَةً وَعَدْلًا وَإِحْسَانًا، ثُمَّ أَقْبَلَ قَلْجُ
أَرْسَلَانَ بْنُ قُتُلْمِشَ فَحَاصَرَ الْمَوْصِلَ فَانْتَزَعَهَا مِنْ جَاوْلِي
فَصَارَ جَاوْلِي إِلَى الرَّحْبَةِ فَأَخَذَهَا، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى قِتَالِ
قَلْجَ فَكَسَرَهُ وَأَلْقَى قَلْجُ نَفْسَهُ فِي النَّهْرِ الَّذِي لِلْخَابُورِ
فَهَلَكَ.
وَفِيهَا نَشَأَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ الرُّومِ وَالْفِرِنْجِ فَاقْتَتَلُوا
قِتَالًا عَظِيمًا وَقُتِلَ
مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ طَائِفَةٌ كَبِيرَةٌ ثُمَّ كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بَعْدَ كُلِّ
حِسَابٍ عَلَى الْفِرِنْجِ.
وَفِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْهَا قُتِلَ فَخْرُ الْمُلْكِ أَبُو الْمُظَفَّرِ
بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ، وَكَانَ أَكْبَرَ أَوْلَادِهِ، وَهُوَ وَزِيرُ
السُّلْطَانِ سَنْجَرَ بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ صَائِمًا، قَتَلَهُ بَاطِنِيٌّ،
وَكَانَ قَدْ رَأَى فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ: الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَهُوَ
يَقُولُ لَهُ: عَجِّلْ إِلَيْنَا وَأَفْطِرْ عِنْدَنَا اللَّيْلَةَ، فَأَصْبَحَ
مُتَعَجِّبًا فَنَوَى الصَّوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ
أَصْحَابِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنَ الْمَنْزِلِ، فَمَا خَرَجَ
إِلَّا فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَرَأَى شَابًّا يَتَظَلَّمُ وَفِي يَدِهِ رُقْعَةٌ،
فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ ؟ فَنَاوَلَهُ الرُّقْعَةَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَقْرَؤُهَا
إِذْ ضَرَبَهُ بِخَنْجَرٍ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَأُخِذَ الْبَاطِنِيُّ فَرُفِعَ
إِلَى السُّلْطَانِ فَقَرَّرَهُ، فَأَقَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ
الْوَزِيرِ أَنَّهُمْ أَمَرُوهُ بِذَلِكَ - وَكَانَ كَاذِبًا - فَقُتِلَ
وَقُتِلُوا أَيْضًا.
وَفِي صَفَرٍ عَزَلَ الْخَلِيفَةُ الْوَزِيرَ أَبَا الْقَاسِمِ عَلِيَّ بْنَ
جَهِيرٍ وَخَرَّبَ دَارَهُ الَّتِي كَانَ قَدْ بَنَاهَا أَبُوهُ مِنْ خَرَابِ
بُيُوتِ النَّاسِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لِذَوِي الْبَصَائِرِ
وَالنُّهَى، وَاسْتُنِيبَ فِي الْوَزَارَةِ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ
الدَّامَغَانِيُّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُرْكُمَانِيٌّ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ
مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُظَفَّرِ أَبُو الْمُظَفَّرِ الْخَوَافِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ أَنْظَرَ أَهْلِ زَمَانِهِ،
تَفَقَّهَ عَلَى إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَكَانَ أَوْجَهَ تَلَامِذَتِهِ
وَلِيَ
الْقَضَاءَ بِطُوسَ، وَنَوَاحِيهَا، وَكَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ
بِحُسْنِ الْمُنَاظَرَةِ، وَإِفْحَامِ الْخُصُومِ، قَالَ: وَالْخَوَافِيُّ
بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْوَاوِ نِسْبَةً إِلَى خَوَافٍ، وَهِيَ نَاحِيَةٌ مِنْ
نَوَاحِي نَيْسَابُورَ. وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ السَّرَّاجُ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَارِئُ الْبَغْدَادِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ بِالرِّوَايَاتِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ
مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّاتِ مِنَ الْمَشَايِخِ وَالشَّيْخَاتِ فِي
بُلْدَانٍ مُتَبَايِنَاتٍ، وَقَدْ خَرَّجَ لَهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ
أَجْزَاءً مِنْ مَسْمُوعَاتِهِ، وَكَانَ صَحِيحَ الثَّبَتِ جَيِّدَ الذِّهْنِ
أَدِيبًا شَاعِرًا، حَسَنَ النَّظْمِ نَظَمَ كِتَابَ " الْمُبْتَدَأِ "
وَكِتَابَ " التَّنْبِيهِ " وَ " الْخِرَقِيِّ " وَغَيْرَ
ذَلِكَ، وَلَهُ كِتَابُ " مَصَارِعِ الْعُشَّاقِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ
وَمِنْ شِعْرِهِ:
قُلْ لِلَّذِينَ بِجَهْلِهِمْ أَضْحَوْا يَعِيبُونَ الْمَحَابِرْ وَالْحَامِلِينَ
لَهَا مِنَ الْ
أَيْدِي بِمُجْتَمِعِ الْأَسَاوِرْ لَوْلَا الْمَحَابِرُ وَالْمَقَا
لِمُ وَالصَّحَائِفُ وَالدَّفَاتِرْ وَالْحَافِظُونَ شَرِيعَةَ الْ
مَبْعُوثِ مِنْ خَيْرِ الْعَشَائِرِ وَالنَّاقِلُونَ حَدِيثَهُ عَنْ
كَابِرٍ ثَبَتٍ وَكَابِرْ لَرَأَيْتَ مِنْ شِيعِ الضَّلَا
لِ عَسَاكِرًا تَتْلُو عَسَاكِرْ كُلٌّ يَقُولُ بِجَهْلِهِ
وَاللَّهُ لِلْمَظْلُومِ نَاصِرْ
سَمَّيْتُهُمْ
أَهْلَ الْحَدِي
ثِ أُولِي النُّهَى وَأُولِي الْبَصَائِرْ حَشْوِيَّةٌ أُفٍّ لَكُمْ
وَلِمَنْ بِنَقْصِهِمْ يُجَاهِرْ هُمْ حَشْوُ جَنَّاتِ النَّعِيمِ
عَلَى الْأَسِرَّةِ وَالْمَنَابِرْ رُفَقَاءُ أَحْمَدَ كُلُّهُمْ
عَنْ حَوْضِهِ رَيَّانُ صَادِرْ
وَذَكَرَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْعَارًا رَائِقَةً مِنْهَا قَوْلُهُ:
وَمُدًّعٍ شَرْخَ الشَّبَابِ وَقَدْ عَمَّمَهُ الشَّيْبُ عَلَى وَفْرَتِهِ
يَخْضِبُ بِالْوَشْمَةِ عُثْنُونَهُ يَكْفِيهِ أَنْ يَكْذِبَ فِي لِحْيَتِهِ
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ
الْوَاحِدِ
أَبُو مُحَمَّدٍ الشِّيرَازِيُّ الْفَارِسِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ
وَتَفَقَّهَ، وَوَلَّاهُ نِظَامُ الْمُلْكِ تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ
فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ، فَدَرَّسَ بِهَا مُدَّةً، وَكَانَ يُمْلِي
الْأَحَادِيثَ، وَكَانَ كَثِيرَ التَّصْحِيفِ رَوَى مَرَّةً حَدِيثَ "
صَلَاةٌ فِي أَثَرِ صَلَاةٍ
كِتَابٌ
فِي عِلِّيِّينَ " فَقَالَ: كَنَارٍ فِي غَلَسٍ، ثُمَّ أَخَذَ يُفَسِّرُ
ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَكْثَرُ لِإِضَاءَتِهَا.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَسَدِيُّ الشَّاعِرُ،
لَقِيَ أَبَا الْحَسَنِ التِّهَامِيَّ، وَكَانَ مُغْرَمًا بِمَا يُعَارِضُ
شِعْرَهُ، وَقَدْ أَقَامَ بِالْيَمَنِ وَبِالْعِرَاقِ ثُمَّ بِالْحِجَازِ ثُمَّ
بِخُرَاسَانَ وَمِنْ شَعْرِهِ:
قُلْتُ ثَقَّلْتُ إِذْ أَتَيْتُ مِرَارًا قَالَ ثَقَّلْتَ كَاهِلِي بِالْأَيَادِي
قُلْتُ طَوَّلْتُ قَالَ بَلْ تَطَوَّ لْتَ وَأَبْرَمْتُ قَالَ حَبْلَ الْوِدَادِ
يُوسُفُ بْنُ عَلِيٍّ
أَبُو الْقَاسِمِ الزَّنْجَانِيُّ الْفَقِيهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ،
حَكَى عَنِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي
الطَّيِّبِ قَالَ: كُنَّا يَوْمًا بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ فِي حَلْقَةٍ فَجَاءَ
شَابٌّ خُرَاسَانِيُّ، فَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمُصَرَّاةِ،
فَقَالَ الشَّابُّ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مَقْبُولٍ. فَمَا اسْتَتَمَّ
كَلَامَهُ حَتَّى سَقَطَتْ مِنْ سَقْفِ الْمَسْجِدِ حَيَّةٌ، فَنَهَضَ النَّاسُ
هَارِبِينَ فَتَبِعَتِ الْحَيَّةُ ذَلِكَ الشَّابَّ مِنْ بَيْنِهِمْ
فَقِيلَ لَهُ: تُبْ تُبْ. فَقَالَ: تُبْتُ، فَذَهَبَتْ فَلَا نَدْرِي أَيْنَ ذَهَبَتْ. رَوَاهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْمُعَمَّرِ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ، هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا جَدَّدَ الْخَلِيفَةُ الْخِلَعَ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي الْمَعَالِي هِبَةِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ وَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ إِلَى بَغْدَادَ
فَتَلَقَّاهُ الْوَزِيرُ وَالْأَعْيَانُ، وَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا وَلَمْ
يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنْ جَيْشِهِ إِلَى شَيْءٍ، وَتَغَضَّبَ السُّلْطَانُ غِيَاثُ
الدِّينِ مُحَمَّدٌ عَلَى صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورٍ الْأَسَدِيِّ صَاحِبِ
الْحِلَّةِ وَتَكْرِيتَ بِسَبَبٍ أَنَّهُ آوَى رَجُلًا مِنْ أَعْدَائِهِ يُقَالُ
لَهُ: أَبُو دُلَفَ سُرْخَابُ الدَّيْلَمِيُّ صَاحِبُ سَاوَةَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ
لِيُرْسِلَهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ جَيْشًا فَهَزَمُوا
جَيْشَهُ، وَقَدْ كَانَ جَيْشَهُ عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ
رَاجِلٍ وَقُتِلَ صَدَقَةُ فِي الْمَعْرَكَةِ وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِ
أَصْحَابِهِ، وَأَخَذُوا مِنْ زَوْجَتِهِ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَجَوَاهِرَ
نَفِيسَةً.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَظَهَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَبِيَّةٌ عَمْيَاءُ
تَتَكَلَّمُ عَلَى أَسْرَارِ النَّاسِ، وَبَالَغَ النَّاسُ فِي الْحِيَلِ،
لِيَعْلَمُوا حَالَهَا فَلَمْ يَعْلَمُوا، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَأَشْكَلَ
أَمْرُهَا عَلَى الْعُلَمَاءِ وَالْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ، حَتَّى إِنَّهَا
كَانَتْ تُسْأَلُ عَنْ نُقُوشِ
الْخَوَاتِمِ
الْمَقْلُوبَةِ الصَّعْبَةِ، وَعَنْ أَنْوَاعِ الْفُصُوصِ وَصِفَاتِ الْأَشْخَاصِ،
وَمَا فِي دَاخِلِ الْبَنَادِقِ مِنَ الشَّمْعِ وَالطِّينِ وَالْحَبِّ الْمُخْتَلِفِ
وَالْخَرَزِ، وَبَالَغَ أَحَدُهُمْ حَتَّى تَرَكَ يَدَهُ عَلَى ذَكَرِهِ فَقِيلَ
لَهَا: مَا الَّذِي فِي يَدِهِ فَقَالَتْ: يَحْمِلُهُ إِلَى أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ.
وَفِيهَا قَدِمَ الْقَاضِي فَخْرُ الْمُلْكِ أَبُو عُبَيْدٍ عَلِيُّ بْنُ عَمَّارٍ
صَاحِبُ طَرَابُلُسَ إِلَى بَغْدَادَ يَسْتَنْفِرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
الْفِرِنْجِ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ غِيَاثُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ إِكْرَامًا
زَائِدًا، وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَبَعَثَ مَعَهُ الْجُيُوشَ الْكَثِيرَةَ لِقِتَالِ
الْفِرِنْجِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ، صَاحِبُ إِفْرِيقِيَةَ كَانَ مِنْ خِيَارِ
الْمُلُوكِ خُلَقًا وَكَرَمًا وَإِحْسَانًا، مَلَكَ سِتًّا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً،
وَعُمِّرَ تِسْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَتَرَكَ مِنَ الْبَنِينَ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ،
وَمِنَ الْبَنَاتِ سِتِّينَ بِنْتًا، وَمَلَكَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ يَحْيَى،
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا مُدِحَ بِهِ الْأَمِيرُ تَمِيمٌ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَصَحُّ وَأَعْلَى مَا سَمِعْنَاهُ فِي النَّدَى مِنَ الْخَبَرِ الْمَرْوِيِّ
مُنْذُ قَدِيمِ أَحَادِيثُ تَرْوِيهَا السُّيُولُ عَنِ الْحَيَا
عَنِ الْبَحْرِ عَنِ كَفِّ الْأَمِيرِ تَمِيمِ
صَدَقَةُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ الْأَسَدِيُّ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، صَاحِبُ الْحِلَّةِ وَتَكْرِيتَ وَوَاسِطٍ
وَغَيْرِهَا كَانَ كَرِيمًا، عَفِيفًا، ذَا ذِمَامٍ، مَلْجَأً لِكُلِّ خَائِفٍ،
يَأْمَنُ فِي بِلَادِهِ وَتَحْتَ جَنَابِهِ، وَكَانَ يُحْسِنُ يَقْرَأُ الْكُتُبَ،
وَلَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، وَقَدِ اقْتَنَى كُتُبًا كَثِيرَةً جِدًّا نَفِيسَةً، وَكَانَ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَى امْرَأَةٍ قَطُّ، وَلَا يَتَسَرَّى عَلَى سُرِّيَّةٍ ; حِفْظًا لِلذِّمَامِ وَلِئَلَّا يَكْسِرَ قَلْبَ أَحَدٍ، وَقَدْ مُدِحَ بِأَوْصَافٍ جَمِيلَةٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا، قُتِلَ فِي بَعْضِ الْمَعْرَكَةِ، قَتَلَهُ غُلَامٌ اسْمُهُ بُزْغَشُ. وَكَانَ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ تِسْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَلِيَ الْإِمَارَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ تَزَوَّجَ
الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ بِالْخَاتُونِ بِنْتِ مَلِكْشَاهْ أُخْتِ
السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَنُثِرَ
الذَّهَبُ، وَكُتِبَ الْعَقْدُ بِأَصْبَهَانَ، وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ
بَيْنَ الْأَتَابِكِ طُغْتِكِينَ صَاحِبِ دِمَشْقَ وَبَيْنَ الْفِرِنْجِ. وَفِيهَا
مَلَكَ سَعِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْعُمَرِيُّ الْحِلَّةَ السَّيْفِيَّةَ. وَفِيهَا
زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً كَثِيرَةً فَغَرِقَتِ الْغَلَّاتُ فَغَلَتِ
الْأَسْعَارُ بِسَبَبِ ذَلِكَ غَلَاءً شَدِيدًا وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ
قَايْمَازُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ الْعَلَوِيُّ
أَبُو هَاشِمٍ رَئِيسُ هَمَذَانَ وَكَانَ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ، صَادَرَهُ
السُّلْطَانُ بِتِسْعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَوَزَنَهَا وَلَمْ يَبِعْ فِيهَا
عَقَارًا وَلَا غَيْرَهُ.
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ
أَبُو الْفَوَارِسِ، ابْنُ الْخَازِنِ الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ بِالْخَطِّ
الْمَنْسُوبِ، تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ:
كَتَبَ بِيَدِهِ خَمْسَمِائَةِ
خَتْمَةٍ،
مَاتَ فَجْأَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْمَحَاسِنِ الرُّويَانِيُّ، مِنْ أَهْلِ طَبَرِسْتَانَ، أَحَدُ أَئِمَّةِ
الشَّافِعِيَّةِ وُلِدَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَرَحَلَ إِلَى
الْآفَاقِ حَتَّى بَلَغَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَحَصَّلَ عُلُومًا جَمَّةً،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَصَنَّفَ كُتُبًا فِي الْمَذْهَبِ مِنْ ذَلِكَ
" الْبَحْرُ " فِي الْفُرُوعِ، وَهُوَ حَافِلٌ كَامِلٌ شَامِلٌ
لِلْغَرَائِبِ وَغَيْرِهَا، وَفِي الْمَثَلِ: حَدِّثْ عَنِ الْبَحْرِ وَلَا
حَرَجَ. وَكَانَ يَقُولُ: لَوِ احْتَرَقَتْ كُتُبُ الشَّافِعِيِّ أَمْلَيْتُهَا
مِنْ حِفْظِي. قُتِلَ ظُلْمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ؛ وَهُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ فِي
الْجَامِعِ بِطَبَرِسْتَانَ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ نَاصِرٍ الْمَرْوَزِيِّ وَعَلَّقَ
عَنْهُ، وَكَانَ لِلرُّويَانِيِّ الْجَاهُ الْعَظِيمُ وَالْحُرْمَةُ الْوَافِرَةُ
فِي تِلْكَ الدِّيَارِ، وَكَانَ نِظَامُ الْمُلْكِ كَثِيرَ التَّعْظِيمِ لَهُ،
وَقَدْ صَنَّفَ كُتُبًا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ مِنْهَا: " بَحْرُ
الْمَذْهَبِ " وَكِتَابُ " مَنَاصِيصِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ "
وَكِتَابُ " الْكَافِي " وَ " حِلْيَةِ الْمُؤْمِنِ " وَلَهُ
كُتُبٌ فِي الْخِلَافِ أَيْضًا؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
يَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ بِسْطَامٍ
الشَّيْبَانِيُّ التَّبْرِيزِيُّ أَبُو زَكَرِيَّا
أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، قَرَأَ عَلَى أَبِي الْعَلَاءِ
وَغَيْرِهِ. وَتَخَرَّجَ بِهِ جَمَاعَةٌ ;
مِنْهُمْ أَبُو مَنْصُورٍ ابْنُ الْجَوَالِيقِيِّ، قَالَ ابْنُ نَاصِرٍ: وَكَانَ ثِقَةً فِي النَّقْلِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْكَثِيرَةُ. وَقَالَ ابْنُ خَيْرُونَ: لَمْ يَكُنْ مَرْضِيَّ الطَّرِيقَةِ، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ بِبَابِ أَبْرَزَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا أَخَذَتِ الْفِرِنْجُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - مَدِينَةَ طَرَابُلُسَ،
وَقَتَلُوا مَنْ فِيهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَسَبَوُا الْحَرِيمَ وَالْأَطْفَالَ،
وَغَنِمُوا الْأَمْتِعَةَ وَالْأَمْوَالَ، ثُمَّ أَخَذُوا مَدِينَةَ جَبَلَةَ
بَعْدَهَا بِعَشْرِ لَيَالٍ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ
الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، وَقَدْ هَرَبَ مِنْهُمْ فَخْرُ
الْمُلْكِ بْنُ عَمَّارٍ فَقَصَدَ صَاحِبَ دِمَشْقَ طُغْتِكِينَ فَأَكْرَمَهُ
وَأَقْطَعَهُ بِلَادًا كَثِيرَةً.
وَفِيهَا وَثَبَ بَعْضُ الْبَاطِنِيَّةِ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي نَصْرِ بْنِ
نِظَامِ الْمُلْكِ فَجَرَحَهُ، ثُمَّ أُخِذَ الْبَاطِنِيُّ فَسُقِيَ الْخَمْرَ
فَأَقَرَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ فَأُخِذُوا فَقُتِلُوا. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ قَايْمَازُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو بَكْرٍ الْعُلْثِيُّ، كَانَ يَعْمَلُ فِي تَجْصِيصِ الْحِيطَانِ وَلَا
يَنْقُشُ صُورَةً، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا، وَكَانَتْ لَهُ أَمْلَاكٌ
يَبِيعُ مِنْهَا
وَيَتَقَوَّتُ،
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَتَفَقَّهَ عَلَيْهِ
شَيْئًا مِنَ الْفِقْهِ، وَكَانَ إِذَا حَجَّ يَزُورُ الْقُبُورَ بِمَكَّةَ،
فَإِذَا وَصَلَ إِلَى قَبْرِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ يَخُطُّ إِلَى جَانِبِهِ
خَطًّا بِعَصَاهُ وَيَقُولُ: يَا رَبِّ هَاهُنَا فَقُدِّرَ أَنَّهُ حَجَّ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ فَوَقَفَ بِعَرَفَاتٍ مُحْرِمًا فَتُوفِّيَ بِهَا مِنْ آخِرِ
ذَلِكَ الْيَوْمِ. فَغُسِّلَ وَكُفِّنَ وَطِيفَ بِهِ حَوْلَ الْبَيْتِ، ثُمَّ
دُفِنَ إِلَى جَانِبِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ. فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي
كَانَ يَخُطُّهُ بِعَصَاهُ، وَلَمَّا بَلَغَ النَّاسَ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ
اجْتَمَعُوا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ صَلَاةَ الْغَائِبِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ سَعْدَوَيْهِ
أَبُو الْفِتْيَانِ الدِّهِسْتَانِيُّ رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَدَارَ
الدُّنْيَا، وَخَرَّجَ وَانْتَخَبَ، وَكَانَ لَهُ فِقْهٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ،
وَكَانَ ثِقَةً، وَقَدْ صَحَّحَ عَلَيْهِ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ كِتَابَ
الصَّحِيحَيْنِ، كَانَتْ وَفَاتُهُ بِسَرْخَسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدٌ وَيُعْرَفُ بِأَخِي حَمَّادِي
كَانَ أَحَدَ الصُّلَحَاءِ الْكِبَارِ، كَانَ بِهِ مَرَضٌ مُزْمِنٌ، فَرَأَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فَعُوفِيَ، فَلَزِمَ
مَسْجِدًا لَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَا يَخْرُجُ إِلَّا إِلَى الْجُمُعَةِ،
وَانْقَطَعَ عَنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَدُفِنَ فِي زَاوِيَةٍ بِالْقُرْبِ مِنْ قَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ تَجَهَّزَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْبَغَادِدَةِ مِنَ
الْفُقَهَاءِ وَغَيْرُهُمْ، وَفِيهِمُ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ لِلْخُرُوجِ إِلَى
الشَّامِ لِيُقَاتِلُوا الْفِرِنْجِ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - وَذَلِكَ حِينَ
بَلَغَهُمْ أَنَّهُمْ فَتَحُوا مَدَائِنَ عِدَّةً ; مِنْ ذَلِكَ مَدِينَةُ صَيْدَا
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَذَا غَيْرُهَا مِنَ الْمَدَائِنِ، ثُمَّ رَجَعَ
كَثِيرٌ مِنْهُمْ حِينَ بَلَغَهُمْ كَثْرَةُ الْفِرِنْجِ.
وَفِيهَا قَدِمَتْ خَاتُونُ بِنْتُ مَلِكْشَاهْ زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ إِلَى
بَغْدَادَ، فَنَزَلَتْ فِي دَارِ أَخِيهَا السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ حُمِلَ
جِهَازُهَا عَلَى مِائَةٍ وَاثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ جَمَلًا وَسَبْعَةٍ
وَعِشْرِينَ بَغْلًا، وَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ لِقَدُومِهَا، وَكَانَ دُخُولُهَا
عَلَى الْخَلِيفَةِ فِي اللَّيْلَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ رَمَضَانَ وَكَانَتْ
لَيْلَةً مَشْهُودَةً.
وَفِي شَعْبَانَ دَرَّسَ أَبُو بَكْرٍ الشَّامِيُّ بِالنِّظَامِيَّةِ مَعَ
التَّاجِيَّةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْوَزِيرُ وَالْأَعْيَانُ مِنَ الدَّوْلَةِ
وَغَيْرِهِمْ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ قَايْمَازُ، وَلَمْ يَتَمَكَّنِ
الْخُرَاسَانِيُّونَ مِنَ الْحَجِّ مِنَ الْعَطَشِ وَقِلَّةِ الْمَاءِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِدْرِيسُ بْنُ حَمْزَةَ
أَبُو الْحَسَنِ الشَّامِيُّ الرَّمْلِيُّ الْعُثْمَانِيُّ أَحَدُ فُحُولِ
الْمُنَاظِرِينَ
عَنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، تَفَقَّهَ أَوَّلًا عَلَى نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
ثُمَّ بِبَغْدَادَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ وَدَخَلَ خُرَاسَانَ
حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَأَقَامَ بِسَمَرْقَنْدَ وَدَرَّسَ
بِمَدْرَسَتِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِمَادِ الدِّينِ
أَبُو الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ، وَيُعْرَفُ بِإِلْكِيَا الْهَرَّاسِيِّ، أَحَدُ
الْفُقَهَاءِ الْكِبَارِ مِنْ رُءُوسِ الشَّافِعِيَّةِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ
وَأَرْبَعِمَائَةٍ، وَاشْتَغَلَ عَلَى إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَكَانَ هُوَ
وَالْغَزَّالِيُّ أَكْبَرَ التَّلَامِذَةِ، وَقَدْ وَلِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا
تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ هَذَا
فَصِيحًا جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ جَمِيلًا.
وَكَانَ يُكَرِّرُ الدَّرْسَ عَلَى كُلِّ مَرْقَاةٍ مِنْ مَرَاقِي دَرَجِ
النِّظَامِيَّةِ بِنَيْسَابُورَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَكَانَتِ الْمَرَاقِي سَبْعِينَ
مَرْقَاةً، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَنَاظَرَ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ،
وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ وَسَادَاتِ الْفُقَهَاءِ، وَلَهُ كِتَابٌ
يَرُدُّ فِيهِ عَلَى مَا انْفَرَدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي
مُجَلَّدٍ، وَلَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، وَقَدِ اتُّهِمَ فِي وَقْتٍ
بِأَنَّهُ يُمَالِئُ الْبَاطِنِيَّةَ فَنُزِعَ مِنْهُ التَّدْرِيسُ، ثُمَّ شَهِدَ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ ذَلِكَ ; مِنْهُمُ ابْنُ عَقِيلٍ
فَأُعِيدَ إِلَيْهِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلَّ
الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ
إِلَى جَانِبِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ؛ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ الْحَدِيثَ
وَيُنَاظِرُ بِهِ، وَهُوَ الْقَائِلُ: إِذَا جَالَتْ فُرْسَانُ الْأَحَادِيثِ فِي
مَيَادِينِ الْكِفَاحِ طَارَتْ رُءُوسُ الْمَقَايِيسِ فِي مَهَابِّ الرِّيَاحِ،
وَحَكَى السَّلَفِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتُفْتِيَ فِي كَتَبَةِ الْحَدِيثِ هَلْ
يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَهَاءِ ؟ فَأَجَابَ نَعَمْ ; لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ
حَفِظَ عَلَى أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثًا بَعَثَهُ اللَّهُ فَقِيهًا عَالِمًا " وَأَنَّهُ اسْتُفْتِيَ فِي يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فَذَكَرَ عَنْهُ ثَلْبًا وَفِسْقًا وَسَوَّغَ شَتْمَهُ، وَأَمَّا الْغَزَّالِيُّ فَإِنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَمَنَعَ مِنْ لَعْنِهِ ; لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ وَلَمْ يَثْبُتْ بِأَنَّهُ رَضِيَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِلَعْنِهِ ; لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يُلْعَنُ، لَا سِيَّمَا وَبَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ( الشُّورَى: مِنَ الْآيَةِ 25 ) قَالَ: وَأَمَّا التَّرَحُّمُ عَلَيْهِ فَجَائِزٌ؛ بَلْ مُسْتَحَبٌّ؛ بَلْ نَحْنُ نَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ فِي جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ عُمُومًا فِي الصَّلَوَاتِ، ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ مَبْسُوطًا بِلَفْظِهِ فِي تَرْجَمَةِ إِلْكِيَا هَذَا، قَالَ: وَإِلْكِيَا مَعْنَاهُ: كَبِيرُ الْقَدْرِ، الْمُقَدَّمُ الْمُعَظَّمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا بَعَثَ السُّلْطَانُ غِيَاثُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ جَيْشًا كَثِيفًا صُحْبَةَ
الْأَمِيرِ مَوْدُودِ بْنِ التُّوتِكِينِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ وَسُكْمَانَ
الْقُطْبِيِّ صَاحِبِ تَبْرِيزَ وَأَحْمَدِيلَ صَاحِبِ مَرَاغَةَ وَالْأَمِيرِ
إِيلْغَازِي صَاحِبِ مَارِدِينَ، وَالْمُقَدَّمُ عَلَى الْجَمِيعِ الْأَمِيرُ
مَوْدُودٌ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ بِالشَّامِ، فَانْتَزَعُوا
مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ حُصُونًا كَثِيرَةً، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا
وَلَمَّا دَخَلُوا دِمَشْقَ دَخَلَ الْأَمِيرُ مَوْدُودٌ إِلَى جَامِعِهَا
لِيُصَلِّيَ فِيهِ فَجَاءَهُ بَاطِنِيٌّ فِي زِيِّ سَائِلٍ يَطْلُبُ مِنْهُ
شَيْئًا، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُ ضَرَبَهُ فِي فُؤَادِهِ فَمَاتَ مِنْ
سَاعَتِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى هَذَا الْبَاطِنِيِّ، وَوُجِدَ رَجُلٌ
أَعْمَى فِي سَطْحِ الْجَامِعِ بِبَغْدَادَ مَعَهُ سِكِّينٌ مَسْمُومٌ، فَقِيلَ:
إِنَّهُ كَانَ يُرِيدُ قَتْلَ الْخَلِيفَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ لِلْخَلِيفَةِ مِنْ بِنْتِ السُّلْطَانِ وَلَدٌ
ذَكَرٌ فَضُرِبَتِ الدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ، وَجَلَسَ الْوَزِيرُ بِبَابِ
الْفِرْدَوْسِ لِلْهَنَاءِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَخُو الْخَلِيفَةِ فَقُطِعَ الطَّبْلُ أَيَّامًا، وَجَلَسَ
الْوَزِيرُ بِبَابِ الْفِرْدَوْسِ
لِلْعَزَاءِ،
وَهَكَذَا الدُّنْيَا قَرْضٌ هَذَا يُعَزَّى وَهَذَا يُهَنَّى.
وَفِي رَمَضَانَ عُزِلَ الْوَزِيرُ أَحْمَدُ بْنُ النِّظَامِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ
وَزَارَتِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا.
وَفِيهَا حَاصَرَتِ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ صُورَ، وَكَانَتْ بِأَيْدِي
الْمِصْرِيِّينَ، عَلَيْهَا عِزُّ الْمُلْكِ الْأَعَزُّ مِنْ جِهَتِهِمْ
فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا عَظِيمًا وَمَنَعَهَا مَنْعًا جَيِّدًا حَتَّى فَنِيَ مَا
عِنْدَهُ مِنَ النِّشَابِ وَالْعُدَدِ، فَأَمَدَّهُ طُغْتِكِينُ صَاحِبُ دِمَشْقَ
وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْعُدَدَ وَالْآلَاتِ فَقَوِيَ جَانِبُهُ، وَتَرَحَّلَتْ
عَنْهُ الْفِرِنْجُ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْجُيُوشِ
نَظَرٌ الْخَادِمُ وَكَانَتْ سَنَةً مُخْصِبَةً.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ وُلِدَ
سَنَةَ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمَائَةٍ وَتَفَقَّهَ عَلَى إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ،
وَبَرَعَ فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ مُنْتَشِرَةٌ فِي فُنُونٍ
مُتَعَدِّدَةٍ، فَكَانَ مِنْ أَذْكِيَاءِ الْعَالَمِ فِي كُلِّ مَا يَتَكَلَّمُ
فِيهِ، وَسَادَ فِي شَبِيبَتِهِ حَتَّى إِنَّهُ دَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ
بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ
سَنَةً، فَحَضَرَ عِنْدَهُ رُءُوسَ الْعُلَمَاءِ، وَكَانَ مِمَّنْ حَضَرَ عِنْدَهُ
ابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ مِنْ رُءُوسِ الْحَنَابِلَةِ، فَتَعَجَّبُوا
مِنْ فَصَاحَتِهِ وَاطِّلَاعِهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَتَبُوا كَلَامَهُ
فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ عَنِ الدُّنْيَا بِالْكُلِّيَّةِ،
وَأَقْبَلَ
عَلَى أَعْمَالِ الْآخِرَةِ، فَكَانَ يَرْتَزِقُ مِنَ النَّسْخِ، وَرَحَلَ إِلَى الشَّامِ فَأَقَامَ بِهَا بِدِمَشْقَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ مُدَّةً، وَصَنَّفَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كِتَابَهُ " إِحْيَاءَ عُلُومِ الدِّينِ " وَهُوَ كِتَابٌ عَجِيبٌ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الشَّرْعِيَّاتِ، وَمَمْزُوجٌ بِأَشْيَاءَ لَطِيفَةٍ مِنَ التَّصَوُّفِ وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، لَكِنْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ غَرَائِبُ وَمُنْكَرَاتٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَوْضُوعٌ، كَمَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْفُرُوعِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَالْكِتَابُ الْمَوْضُوعُ لِلرَّقَائِقِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ أَسْهَلُ أَمْرًا مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ شَنَّعَ عَلَيْهِ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ ثُمَّ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي ذَلِكَ تَشْنِيعًا كَثِيرًا، وَأَرَادَ الْمَازَرِيُّ أَنْ يَحْرِقَ كِتَابَهُ " إِحْيَاءَ عُلُومِ الدِّينِ " وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْمَغَارِبَةِ، وَقَالُوا: هَذَا كِتَابُ إِحْيَاءِ عُلُومِ دِينِهِ، وَأَمَّا دِينُنَا فَإِحْيَاءُ عُلُومِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، كَمَا قَدْ حَكَيْتُ كَلَامَهُ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ زَيَّفَابْنُ سُكَّرٍ مَوَاضِعَ إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ، وَبَيَّنَ زَيْفَهَا فِي مُصَنَّفٍ مُفِيدٍ، وَقَدْ كَانَ الْغَزَّالِيُّ يَقُولُ: أَنَا مُزْجَى الْبِضَاعَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَالَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ إِلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَالتَّحَفُّظِ " لِلصَّحِيحَيْنِ " وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ كِتَابًا عَلَى الْإِحْيَاءِ وَسَمَّاهُ، " إِعْلَامُ الْأَحْيَاءِ بِأَغَالِيطِ الْإِحْيَاءِ ". قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ثُمَّ أَلْزَمَهُ بَعْضُ الْوُزَرَاءِ بِالْخُرُوجِ إِلَى نَيْسَابُورَ فَدَرَّسَ بِنِظَامِيَّتِهَا ثُمَّ
عَادَ إِلَى بَلَدِهِ طُوسَ، وَابْتَنَى بِهَا رِبَاطًا وَاتَّخَذَ دَارًا حَسَنَةً، وَغَرَسَ فِيهَا بُسْتَانًا، أَنِيقًا، وَأَقْبَلَ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَحِفْظِ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ بِطُوسَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ سَأَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ، فَقَالَ: أَوْصِنِي فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالْإِخْلَاصِ فَلَمْ يَزَلْ يُكَرِّرُهَا حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا جَلَسَ ابْنُ الطَّبَرِيِّ مُدَرِّسًا
بِالنِّظَامِيَّةِ وَعُزِلَ عَنْهَا الشَّاشِيُّ، وَفِيهَا دَخَلَ الشَّيْخُ
الصَّالِحُ أَحَدُ الْعُبَّادِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ إِلَى بَغْدَادَ فَوَعَظَ
النَّاسَ، وَكَانَ لَهُ الْقَبُولُ التَّامُّ، وَكَانَ فَقِيهًا شَافِعِيًّا،
تَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، ثُمَّ اشْتَغَلَ
بِالْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ، فَكَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ، جَارَاهُ رَجُلٌ
مَرَّةً يُقَالُ لَهُ: ابْنُ السَّقَّاءِ فِي مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ
فَإِنِّي أَجِدُ مِنْ كَلَامِكَ رَائِحَةَ الْكُفْرِ، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَمُوتَ
عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ. فَاتَّفَقَ بَعْدَ مُدَّةٍ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى
بِلَادِ الرُّومِ فِي حَاجَةٍ، فَتَنَصَّرَ هُنَاكَ. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ
تَوَكَّلْنَا.
وَقَامَ إِلَيْهِ مَرَّةً وَهُوَ يَعِظُ النَّاسَ ابْنَا أَبِي بَكْرٍ
الشَّاشِيِّ، فَقَالَا لَهُ: إِنْ كُنْتَ تَتَكَلَّمُ عَلَى مَذْهَبِ
الْأَشْعَرِيِّ وَإِلَّا فَاسْكُتْ، فَقَالَ: لَا مُتِّعْتُمَا بِشَبَابِكُمَا،
فَمَاتَا شَابَّيْنِ وَلَمْ يَبْلُغَا سِنَّ الْكُهُولَةِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ
فِيهَا أَمِيرُ الْجُيُوشِ نَظَرٌ الْخَادِمُ، وَنَالَهُمْ عَطَشٌ شَدِيدٌ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
صَاعِدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ إِسْمَاعِيلِ بْنِ صَاعِدٍ أَبُو الْعَلَاءِ
الْخَطِيبُ
النَّيْسَابُورِيُّ،
سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَوَلِيَ الْخَطَابَةَ بَعْدَ أَبِيهِ
وَالتَّدْرِيسَ وَالتَّذْكِيرَ، وَكَانَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيُّ يُثْنِي
عَلَيْهِ، وَقَدْ وَلِيَ قَضَاءَ خُوَارَزْمَ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلَاسَاغُونِيُّ التُّرْكِيُّ الْحَنَفِيُّ وَيُعْرَفُ
بِالْلَامِشِيِّ، أَوْرَدَ عَنْهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ حَدِيثًا، وَذَكَرَ
أَنَّهُ وَلِيَ قَضَاءَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَشَكَوْا مِنْهُ، فَعُزِلَ عَنْهَا،
ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ دِمَشْقَ، وَكَانَ غَالِيًا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَهُوَ الَّذِي رَتَّبَ الْإِقَامَةَ مَثْنَى مَثْنَى، قَالَ: إِلَى أَنْ أَزَالَ
اللَّهُ ذَلِكَ بِدَوْلَةِ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ.
قَالَ: وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى نَصْبِ إِمَامٍ حَنَفِيٍّ بِالْجَامِعِ ;
فَامْتَنَعَ أَهْلُ دِمَشْقَ مِنْ ذَلِكَ، وَامْتَنَعُوا مِنَ الصَّلَاةِ
خَلْفَهُ، وَصَلَّوْا بِأَجْمَعِهِمْ فِي دَارِ الْخَيْلِ، وَهِيَ الَّتِي
قِبْلِيَّ الْجَامِعِ مَكَانَ الْمَدْرَسَةِ الْأَمِينِيَّةِ وَمَا يُجَاوِرُهَا،
وَحَدُّهَا الطُّرُقَاتُ الْأَرْبَعَةُ، وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ كَانَتْ لِي
الْوِلَايَةُ لَأَخَذْتُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْجِزْيَةَ، وَكَانَ مُبْغِضًا
لِأَصْحَابِ مَالِكٍ أَيْضًا. قَالَ: وَلَمْ تَكُنْ سِيرَتُهُ فِي الْقَضَاءِ
مَحْمُودَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ
جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا. قَالَ: وَقَدْ شَهَدْتُ جِنَازَتَهُ وَأَنَا صَغِيرٌ
فِي الْجَامِعِ.
الْمُعَمَّرُ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُعَمَّرِ
أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي عِمَامَةَ، الْوَاعِظُ كَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا مَاجِنًا
ظَرِيفًا ذَكِيًّا، لَهُ كَلِمَاتٌ فِي الْوَعْظِ حَسَنَةٌ وَرَسَائِلُ
مَسْمُوعَةٌ مُسْتَحْسَنَةٌ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
أَبُو عَلِيٍّ الْمَغْرِبِيُّ
كَانَ عَابِدًا زَاهِدًا وَرِعًا، يَتَقَوَّتُ بِأَدْنَى شَيْءٍ، ثُمَّ عَنَّ لَهُ
أَنْ يَشْتَغِلَ بِعِلْمِ الْكِيمْيَاءِ، فَأُخِذَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ،
فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ خَبَرٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
نُزْهَةُ
أُمُّ وَلَدٍ لِلْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ، كَانَتْ سَوْدَاءَ
مُحْتَشِمَةً كَرِيمَةَ النَّفْسِ، تُوُفِّيَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَانِي عَشَرَ
شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ
مُصَنِّفُ " الْأَنْسَابِ " وَغَيْرُهُ، وَهُوَ تَاجُ الْإِسْلَامِ
عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمُظَفَّرِ
الْمَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، السَّمْعَانِيُّ، الْمَرْوَزِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْحَافِظُ الْمُحَدِّثُ، قِوَامُ الدِّينِ أَحَدُ
الْأَئِمَّةِ الْمُصَنِّفِينَ رَحَلَ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ حَتَّى كَتَبَ عَنْ
أَرْبَعَةِ آلَافِ شَيْخٍ، وَصَنَّفَ " التَّفْسِيرَ "، "
وَالتَّارِيخَ " وَ " الْأَنْسَابَ " وَ " الذَّيْلَ "
عَلَى تَارِيخِ الْخَطِيبِ
الْبَغْدَادِيِّ، وَذَكَرَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ مُصَنَّفَاتٍ عَدِيدَةً جِدًّا ; مِنْهَا كِتَابُهُ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ أَلْفَ حَدِيثٍ عَنْ مِائَةِ شَيْخٍ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا إِسْنَادًا وَمَتْنًا، وَهُوَ مُفِيدٌ جِدًّا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجِ فِي
أَرْضِ طَبَرِيَّةَ كَانَ فِيهَا مَلِكُ دِمَشْقَ الْأَتَابِكُ طُغْتِكِينُ، وَفِي
خِدْمَتِهِ صَاحِبُ سِنْجَارَ وَصَاحِبُ مَارِدِينَ وَصَاحِبُ الْمَوْصِلِ،
فَهَزَمُوا الْفِرِنْجَ هَزِيمَةً فَاضِحَةً، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَغَنِمُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَمَلَكُوا تِلْكَ
النَّوَاحِيَ كُلَّهَا؛ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى
دِمَشْقَ فَذَكَرَ ابْنُ السَّاعِي فِي تَارِيخِهِ مَقْتَلَ الْمَلِكِ مَوْدُودٍ صَاحِبِ
الْمَوْصِلِ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَ: صَلَّى هُوَ وَالْأَتَابِكُ
طُغْتِكِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْجَامِعِ، ثُمَّ خَرَجَا إِلَى الصَّحْنِ
وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَدِ الْآخَرِ، فَطَفَرَ بَاطِنِيٌّ عَلَى
مَوْدُودٍ، فَقَتَلَهُ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَيُقَالُ: إِنَّ طُغْتِكِينَ هُوَ
الَّذِي مَالَأَ عَلَيْهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَجَاءَ كِتَابٌ مِنَ الْفِرِنْجِ
إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِ: إِنَّ أُمَّةً قَتَلَتْ عَمِيدَهَا فِي يَوْمِ
عِيدِهَا فِي بَيْتِ مَعْبُودِهَا لَحَقِيقٌ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُبِيدَهَا.
وَفِيهَا مَلَكَ حَلَبَ أَلْبُ أَرْسَلَانَ بْنُ رِضْوَانَ بْنِ تُتُشَ بَعْدَ
أَبِيهِ، وَقَامَ بِأَمْرِ السَّلْطَنَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ لُؤْلُؤٌ الْخَادِمُ،
فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى الرَّسْمِ.
وَفِيهَا فُتِحَ الْمَارَسْتَانُ الَّذِي أَنْشَأَهُ كُمُشْتِكِينُ الْخَادِمُ
بِبَغْدَادَ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ زَنْكِي بْنُ بُرْسُقَ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ
الْبَيْهَقِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَتَنَقَّلَ فِي الْبِلَادِ، وَدَرَّسَ
بِمَدِينَةِ خُوَارِزْمَ، وَكَانَ فَاضِلًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَرْضِيَّ
الطَّرِيقَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَلَدِهِ بَيْهَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
شُجَاعُ بْنُ أَبِي شُجَاعٍ فَارِسِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ فَارِسٍ
أَبُو غَالِبٍ الذُّهْلِيُّ الْحَافِظُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ فَاضِلًا فِي
هَذَا الشَّأْنِ، وَشَرَعَ فِي تَتْمِيمِ " تَارِيخِ الْخَطِيبِ " ثُمَّ
غَسَلَهُ، وَكَانَ يُكْثِرُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ ; لِأَنَّهُ
كَتَبَ شِعْرَ ابْنِ الْحَجَّاجِ سَبْعَ مَرَّاتٍ. تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ
عَنْ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ
عَنْبَسَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ
صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ الْأُمَوِيُّ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ
الْأَبِيْوَرْدِيُّ
الشَّاعِرُ، كَانَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ وَالْأَنْسَابِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ
وَصَنَّفَ " تَارِيخَ أَبِيْوَرْدَ " وَ " أَنْسَابَ الْعَرَبِ
" وَلَهُ كِتَابٌ فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَكَانَ يُنْسَبُ
إِلَى
الْكِبْرِ وَالتِّيهِ الزَّائِدِ ; حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَدْعُو فِي صِلَاتِهِ
اللَّهُمَّ مَلِّكْنِي مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَكَتَبَ مَرَّةً
إِلَى الْخَلِيفَةِ: الْخَادِمُ الْمُعَاوِيُّ، فَكَشَطَ الْخَلِيفَةُ الْمِيمَ
فَبَقِيَتِ الْعَاوِيَّ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
تَنَكَّرَ لِي دَهْرِي وَلَمْ يَدْرِ أَنَّنِي أَعِزُّ وَأَحْدَاثُ الزَّمَانِ
تَهُونُ وَظَلَّ يُرِينِي الْخَطْبَ كَيْفَ اعْتِدَاؤُهُ
وَبِتُّ أُرِيهِ الصَّبْرَ كَيْفَ يَكُونُ
مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو الْفَضْلِ الْمَقْدِسِيُّ الْحَافِظُ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ
وَأَرْبَعِمَائَةٍ، وَأَوَّلُ سَمَاعِهِ سَنَةَ سِتِّينَ، وَسَافَرَ فِي طَلَبِ
الْحَدِيثِ إِلَى بِلَادٍ كَثِيرَةٍ، وَسَمِعَ كَثِيرًا، وَكَانَتْ لَهُ
مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ، وَصَنَّفَ كُتُبًا مُفِيدَةً ;
غَيْرَ أَنَّهُ صَنَّفَ كِتَابًا فِي إِبَاحَةِ السَّمَاعِ وَفِي التَّصَوُّفِ،
وَاسْتَعْمَلَ فِيهِ أَحَادِيثَ مُنْكَرَةً جِدًّا، وَأَوْرَدَ أَحَادِيثَ
صَحِيحَةً فِي غَيْرِ كُنْهِهَا، وَقَدْ أَثْنَى عَلَى حِفْظِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ
مِنَ الْأَئِمَّةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ هَذَا الَّذِي سَمَّاهُ " صِفَةَ
التَّصَوُّفِ " وَقَالَ عَنْهُ: يَضْحَكُ مِنْهُ مَنْ رَآهُ، قَالَ: وَكَانَ دَاوُدِيَّ
الْمَذْهَبِ، فَمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَثْنَى لِأَجْلِ حِفْظِهِ لِلْحَدِيثِ،
وَإِلَّا فَمَا يُجَرَّحُ بِهِ أَوْلَى، قَالَ: وَذَكَرَهُ أَبُو سَعْدٍ
السَّمْعَانِيُّ وَانْتَصَرَ لَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ، بَعْدَ أَنْ قَالَ: سَأَلْتُ
عَنْهُ شَيْخَنَا إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَحْمَدَ الطَّلْحِيَّ فَأَسَاءَ الثَّنَاءَ
عَلَيْهِ، وَكَانَ سَيِّئَ الرَّأْيِ فِيهِ. قَالَ وَسَمِعْنَا
أَبَا
الْفَضْلِ بْنَ نَاصِرٍ. يَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ لَا يُحْتَجُّ بِهِ،
صَنَّفَ فِي جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى الْمُرْدِ، وَكَانَ يَذْهَبُ مَذْهَبَ
الْإِبَاحِيَّةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ لَهُ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ
الْأَبْيَاتِ:
دَعِ التَّصَوُّفَ وَالزُّهْدَ الَّذِي اشْتَغَلَتْ بِهِ جَوَارِحُ أَقْوَامٍ مِنَ
النَّاسِ
وَعُجْ عَلَى دَيْرِ دَارَيَّا فَإِنَّ بِهِ الْرُّهْ بَانَ مَا بَيْنَ قِسِّيسٍ
وَشَمَّاسِ
وَاشْرَبْ مُعَتَّقَةً مِنْ كَفِّ كَافِرَةٍ تَسْقِيكَ خَمْرَيْنِ مِنْ لَحْظٍ
وَمِنْ كَاسِ
ثُمَّ اسْتَمِعَ رَنَّةَ الْأَوْتَارِ مِنْ رَشَأٍ مُهَفْهَفٍ طَرْفُهُ أَمْضَى
مِنَ الْمَاسِ
غَنِّي بِشِعْرِ امْرِئٍ فِي النَّاسِ مُشْتَهِرٍ مُدَوَّنٍ عَنْدَهُمْ فِي صَدْرِ
قِرْطَاسِ
لَوْلَا نَسِيمٌ بِذِكْرَاكُمْ يُرَوِّحُنِي لَكُنْتُ مُحْتَرِقًا مِنْ حَرِّ
أَنْفَاسِي
ثُمَّ قَالَ السَّمْعَانِيُّ: لَعَلَّهُ قَدْ تَابَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ ; أَنْ يَذْكُرَ جَرْحَ
الْأَئِمَّةِ لَهُ، ثُمَّ يَعْتَذِرُ عَنْ ذَلِكَ بِاحْتِمَالِ تَوْبَتِهِ،
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ جَعَلَ يُرَدِّدُ هَذَا
الْبَيْتَ:
وَمَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ الْجَفَا فَمِمَّنْ تُرَى قَدْ تَعَلَّمْتُمُ
ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْهَا.
أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ
صَاحِبُ الْمُسْتَظْهِرِيِّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُمَرَ
الشَّاشِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وُلِدَ فِي
الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ
وَعِشْرِينَ
وَأَرْبَعِمَائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ
وَأَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ وَالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ
وَتَفَقَّهَ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَقَرَأَ " الشَّامِلَ " عَلَى
مُصَنِّفِهِ ابْنِ الصَّبَّاغِ، وَاخْتَصَرَهُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَمَعَهُ
لِلْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ وَسَمَّاهُ " حِلْيَةَ الْعُلَمَاءِ بِمَعْرِفَةِ
مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ " وَيُعْرَفُ بِالْمُسْتَظْهِرِيِّ، وَقَدْ دَرَّسَ
بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ ثُمَّ عُزِلَ عَنْهَا، وَكَانَ يُنْشِدُ:
تَعَلَّمْ يَا فَتَى وَالْعُودُ غَضٌّ وَطِينُكَ لَيِّنٌ وَالطَّبْعُ قَابِلْ
فَحَسْبُكَ يَا فَتَى شَرَفًا وَفَخْرًا سُكُوتُ الْحَاضِرِينَ وَأَنْتَ قَائِلْ
تُوُفِّيَ سَحَرَ يَوْمِ السَّبْتِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ
بِبَابِ أَبْرَزَ.
الْمُؤْتَمَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
أَبُو نَصْرٍ السَّاجِيُّ الْمَقْدِسِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ،
وَخَرَّجَ، وَكَانَ ثِقَةً، صَحِيحَ النَّقْلِ، حَسَنَ الْخَطِّ، مَشْكُورَ
السِّيرَةِ، لَطِيفَ النَّفْسِ، اشْتَغَلَ فِي الْفِقْهِ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي
إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ مُدَّةً، وَرَحَلَ إِلَى أَصْبَهَانَ وَغَيْرِهَا،
وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ جُمْلَةِ الْحُفَّاظِ لَا سِيَّمَا لِلْمُتُونِ، وَقَدْ
تَكَلَّمَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهُوَ أَحَقُّ مِنْهُ بِذَلِكَ، وَأَيْنَ الثُّرَيَّا
مِنَ الثَّرَى؟ تُوُفِّيَ الْمُؤْتَمَنُ يَوْمَ السَّبْتِ ثَامِنَ عَشَرَ صَفَرٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ، وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ
هَائِلَةٌ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ هَدَمَتْ مِنْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ بُرْجًا،
وَمِنَ الرُّهَا بُيُوتًا كَثِيرَةً وَبَعْضَ سُورِ حَرَّانَ وَدُورًا كَثِيرَةً
فِي بِلَادٍ شَتَّى ; فَهَلَكَ أَكْثَرُهَا، وَفِي بَالِسَ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ
دَارٍ، وَقُلِبَ بِنِصْفِ قَلْعَةِ حَرَّانَ وَسَلِمَ نِصْفُهَا، وَخُسِفَ
بِمَدِينَةِ سُمَيْسَاطَ، وَهَلَكَ تَحْتَ الرَّدْمِ خَلْقٌ كَثِيرٌ. فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا قُتِلَ صَاحِبُ حَلَبَ تَاجُ الدَّوْلَةِ أَلْبُ أَرْسَلَانَ بْنُ
رِضْوَانَ بْنِ تُتُشَ، قَتَلَهُ غِلْمَانُهُ، وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ
سُلْطَانْشَاهِ بْنُ رِضْوَانَ.
وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ بْنُ مَلِكْشَاهْ بِلَادَ غَزْنَةَ
وَخُطِبَ لَهُ بِهَا بَعْدَ مُقَاتَلَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَخَذَ مِنْهَا أَمْوَالًا
كَثِيرَةً ; مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةُ تِيجَانٍ ; قِيمَةُ كُلِّ تَاجٍ مِنْهَا أَلْفُ
أَلْفِ دِينَارٍ، وَسَبْعَةَ عَشَرَ سَرِيرًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَأَلْفٌ
وَثَلَاثُمِائَةِ قِطْعَةِ مَصَاغٍ مُرَصَّعَةٍ، فَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعِينَ
يَوْمًا، وَقَرَّرَ فِي مُلْكِهَا بَهْرَامْ شَاهْ مِنْ بَيْتِ بَنِي سُبُكْتِكِينَ
وَلَمْ يُخْطَبْ بِغَزْنَةَ قَبْلَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ مِنَ السَّلْجُوقِيَّةِ
لِأَحَدٍ.
وَفِيهَا
وَلَّى السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ لِلْأَمِيرِ آقْ سَنْقُرَ الْبُرْسُقِيِّ
الْمَوْصِلَ وَأَعْمَالَهَا، وَأَمَرَهُ بِمُقَاتَلَةِ الْفِرِنْجِ فَقَاتَلَهُمْ
فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُمُ الرُّهَا، وَخَرَّبَهَا
وَسُرُوجَ وَسُمَيْسَاطَ، وَنَهَبَ مَارِدِينَ، وَأَسَرَ ابْنَ مَلِكِهَا إِيَازَ
بْنَ إِيلْغَازِي، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ إِلَيْهِ مَنْ
يَتَهَدَّدُهُ، فَفَرَّ مِنْهُ إِلَى طُغْتِكِينَ صَاحِبِ دِمَشْقَ، فَاتَّفَقَا
عَلَى عِصْيَانِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ نَائِبِ
حِمْصَ قُرْجَانَ بْنِ قُرَاجَةَ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ ثُمَّ اصْطَلَحُوا.
وَفِيهَا مَلَكَتْ زَوْجَةُ مَرْعَشَ الْإِفْرِنْجِيَّةُ، بَعْدَ وَفَاةِ
زَوْجِهَا، لَعَنَهُمَا اللَّهُ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ الْجُيُوشِ
أَبُو الْخَيْرِ يَمَنٌ الْخَادِمُ، وَشَكَرَ النَّاسُ حَجَّهُمْ مَعَهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا جَهَّزَ السُّلْطَانُ غِيَاثُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مَلِكْشَاهْ صَاحِبُ
الْعِرَاقِ جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ الْأَمِيرِ بُرْسُقَ بْنِ بُرْسُقَ إِلَى
إِيلْغَازِي صَاحِبِ مَارِدِينَ وَإِلَى طُغْتِكِينَ صَاحِبِ دِمَشْقَ
لِيُقَاتِلَهُمَا عَلَى تَمَالُئِهِمَا عَلَى عِصْيَانِ السُّلْطَانِ، وَقَطْعِ
خُطْبَتِهِ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ عَمَدَ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ، فَلَمَّا
اقْتَرَبَ الْجَيْشُ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ هَرَبَا مِنْهُ وَتَحَيَّزَا إِلَى
الْفِرِنْجِ، وَجَاءَ الْأَمِيرُ بُرْسُقُ إِلَى كَفَرْ طَابَ فَفَتَحَهَا
عَنْوَةً، وَأَخَذَ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَجَاءَ
صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ رُوجِيلُ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ وَأَلْفَيْ رَاجِلٍ،
فَكَبَسَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَخَذَ أَمْوَالًا
جَزِيلَةً، وَهَرَبَ بُرْسُقُ فِي طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَتَمَزَّقَ
الْجَيْشُ الَّذِي كَانَ مَعَهُ شَذَرَ مَذَرَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا قَدِمَ السُّلْطَانُ غِيَاثُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ
إِلَى بَغْدَادَ، وَجَاءَ إِلَيْهِ طُغْتِكِينُ صَاحِبُ دِمَشْقَ مُعْتَذِرًا إِلَيْهِ
فَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ عَنْهُ، وَرَدَّهُ إِلَى عَمَلِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَلَّةَ أَبُو عُثْمَانَ
الْأَصْبَهَانِيُّ، أَحَدُ
الرَّحَّالِينَ
فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ وَعَظَ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ ثَلَاثِينَ
مَجْلِسًا، وَاسْتَمْلَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ وَتُوُفِّيَ
بِأَصْبَهَانَ.
مُنْتَجَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُسْتَظْهِرِيُّ،
أَبُو الْحَسَنِ الْخَادِمُ، كَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ
مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: وَقَفَ عَلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ بْنِ مُوسَى
أَبُو الْبَرَكَاتِ السَّقَطِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَرَحَلَ فِيهِ، وَكَانَ
فَاضِلًا عَارِفًا بِاللُّغَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
يَحْيَى بْنُ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ،
صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ عَارِفًا، حَسَنَ
السِّيرَةِ، مُحِبًّا لِلْفُقَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، وَلَهُمْ عَلَيْهِ أَرْزَاقٌ،
مَاتَ وَلَهُ ثِنْتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَتَرَكَ ثَلَاثِينَ وَلَدًا، وَقَامَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ عَلِيٌّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ بِبَغْدَادَ احْتَرَقَتْ فِيهِ دُورٌ كَثِيرَةٌ ; مِنْهَا
دَارُ نُورِ الْهُدَى الزَّيْنَبِيِّ، وَرِبَاطُ بِهْرُوزَ وَدَارُ كُتُبِ
النِّظَامِيَّةِ، وَسَلِمَتِ الْكُتُبُ ; لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ نَقَلُوهَا.
وَفِيهَا قُتِلَ صَاحِبُ مَرَاغَةَ فِي مَجْلِسِ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ قَتَلَهُ
الْبَاطِنِيَّةُ، وَفِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ
الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ بِمَشْهَدِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا بِمَدِينَةِ
طُوسَ ; فَقُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَفِيهَا سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى
فَارِسَ بَعْدَ مَوْتِ نَائِبِهَا خَوْفًا عَلَيْهَا مِنْ صَاحِبِ كَرْمَانَ،.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْجُيُوشِ أَبُو الْحَسَنِ نَظَرٌ الْخَادِمُ،
وَكَانَتْ سَنَةً مُخْصِبَةً آمِنَةً، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْبَغَوِيُّ الْمُفَسِّرُ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتَّ
عَشْرَةَ، كَمَا سَيَأْتِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَقِيلُ بْنُ الْإِمَامِ أَبِي الْوَفَا عَلِيِّ بْنِ عَقِيلٍ الْحَنْبَلِيُّ،
كَانَ شَابًّا قَدْ بَرَعَ وَحَفِظَ الْقُرْآنَ وَكَتَبَ مَلِيحًا وَفَهِمَ
الْمَعَانِي جَيِّدًا، وَلَمَّا تُوُفِّيَ تَصَبَّرَ أَبُوهُ وَتَشَكَّرَ
وَأَظْهَرَ
التَّجَلُّدَ، فَقَرَأَ قَارِئٌ فِي الْعَزَاءِ: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ
لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ [ يُوسُفَ: 78 ]
الْآيَةَ. فَبَكَى ابْنُ عَقِيلٍ بُكَاءً شَدِيدًا.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَيَانٍ الرَّزَّازُ
آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ مَخْلَدٍ بِجُزْءِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ،
وَتَفَرَّدَ بِأَشْيَاءَ غَيْرِهِ أَيْضًا، تُوُفِّيَ فِيهَا عَنْ سَبْعٍ
وَتِسْعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ
أَبُو بَكْرٍ السَّمْعَانِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَحَدَّثَ، وَوَعَظَ
بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَأَمْلَى بِمَرْوَ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ
مَجْلِسًا، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ بِالْحَدِيثِ، وَكَانَ أَدِيبًا
شَاعِرًا فَاضِلًا لَهُ قَبُولٌ عَظِيمٌ فِي الْقُلُوبِ، تُوُفِّيَ بِمَرْوَ عَنْ
ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طَاهِرِ بْنِ حَمَدٍ أَبُو مَنْصُورٍ الْخَازِنُ،
فَقِيهُ الْإِمَامِيَّةِ وَمُفْتِيهِمْ بِالْكَرْخِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ
مِنَ التَّنُوخِيِّ وَابْنِ غَيْلَانَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ.
مُحَمَّدُ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو بَكْرٍ النَّسَوِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَتْ
إِلَيْهِ تَزْكِيَةُ الشُّهُودِ بَنَسَا، وَكَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا وَرِعًا.
مَحْفُوظُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ
أَبُو الْخَطَّابِ الْكَلْوَذَانِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ
وَمُصَنِّفِيهِمْ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَتَفَقَّهَ بِالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى،
وَقَرَأَ الْفَرَائِضَ عَلَى الْوَنِّيِّ، وَدَرَّسَ وَأَفْتَى وَنَاظَرَ،
وَصَنَّفَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ وَجَمَعَ قَصِيدَةً يَذْكُرُ
فِيهَا اعْتِقَادَهُ وَمَذْهَبَهُ، يَقُولُ فِيهَا:
دَعْ عَنْكَ تَذْكَارَ الْخَلِيطِ الْمُنْجِدِ وَالشَّوْقَ نَحْوَ الْآنِسَاتِ
الْخُرَّدِ وَالنَّوْحَ فِي تَذْكَارِ سُعْدَى إِنَّمَا
تَذْكَارُ سُعْدَى شُغْلُ مَنْ لَمْ يَسْعَدِ وَاسْمَعْ مَقَالِي إِنْ أَرَدْتَ
تَخَلُّصًا
يَوْمَ الْحِسَابِ وَخُذْ بِهَدْيِي تَهْتَدِ
وَذَكَرَ تَمَامَهَا وَهِيَ طَوِيلَةٌ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ بِجَامِعِ الْقَصْرِ، وَجَامِعِ الْمَنْصُورِ وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنَ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي رَابِعِ صَفَرٍ مِنْهَا انْكَسَفَ الْقَمَرُ كُسُوفًا كُلِّيًّا، وَفِي تِلْكَ
اللَّيْلَةِ هَجَمَ الْفِرِنْجُ عَلَى رَبَضِ حَمَاةَ فَقَتَلُوا خَلْقًا
كَثِيرًا، وَرَجَعُوا - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - إِلَى بِلَادِهِمْ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ ; سَقَطَتْ مِنْهَا دُورٌ
كَثِيرَةٌ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَغَلَتِ الْغَلَّاتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بِبَغْدَادَ جِدًّا، وَفِيهَا قُتِلَ لُؤْلُؤٌ الْخَادِمُ الَّذِي كَانَ قَدِ
اسْتَحْوَذَ عَلَى مَمْلَكَةِ حَلَبَ بَعْدَ مَوْتِ أُسْتَاذِهِ رِضْوَانَ بْنِ
تُتُشَ، قَتَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْ حَلَبَ
مُتَوَجِّهًا إِلَى جَعْبَرَ، فَتَنَادَى جَمَاعَةٌ مِنْ مَمَالِيكِهِ
وَغَيْرِهِمْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ: أَرْنَبٌ أَرْنَبٌ. فَرَمَوْهُ
بِالسِّهَامِ مُوهِمِينَ أَنَّهُمْ يَصِيدُونَ صَيْدًا فَقَتَلُوهُ.
وَفِيهَا كَانَ وَفَاةُ السُّلْطَانِ غِيَاثِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ
بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ، مَلِكِ
بِلَادَ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ
وَالْأَقَالِيمِ الْوَاسِعَةِ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَحْسَنِهِمْ
سِيرَةً، عَادِلًا رَحِيمَ الْقَلْبِ سَهْلَ الْأَخْلَاقِ مَحْمُودَ الْعِشْرَةِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ
اسْتَدْعَى
وَلَدَهُ مَحْمُودًا، وَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَبَكَى كُلٌّ مِنْهُمَا، ثُمَّ أَمَرَهُ
بِالْجُلُوسِ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ أَرْبَعَةَ
عَشَرَ سَنَةً، فَجَلَسَ وَعَلَيْهِ التَّاجُ وَالسُّوَارَانِ، وَحَكَمَ، وَلَمَّا
تُوُفِّيَ أَبُوهُ صَرَفَ الْخَزَائِنَ إِلَى الْعَسَاكِرِ، وَكَانَ فِيهَا أَحَدَ
عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَقَرَّ الْمُلْكُ لَهُ، وَخُطِبَ لَهُ
بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَ عُمْرُ أَبِيهِ السُّلْطَانِ
مُحَمَّدٍ تِسْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَقَدْ
كَانَ خُطِبَ لَهُ بِبَغْدَادَ عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وَنَازَعَهُ أَخُوهُ
بَرْكْيَارُوقُ ثُمَّ اسْتَقَرَّ لَهُ الْمُلْكُ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ؛ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَفِيهَا وُلِدَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنِ زَنْكِي بْنِ
آقْ سُنْقُرَ، صَاحِبُ حَلَبَ وَدِمَشْقَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْقَاضِي الْمُرْتَضَى أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ
الْمُظَفَّرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْقَاسِمِ الشَّهْرَزُورِيُّ، وَالِدُ الْقَاضِي
جَمَالِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الشَّهْرَزُورِيِّ قَاضِي
دِمَشْقَ فِي أَيَّامِ نُورِ الدِّينِ، اشْتَغَلَ بِبَغْدَادَ وَتَفَقَّهَ بِهَا،
وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، بَارِعًا دَيِّنًا حَسَنَ النَّظْمِ، ثُمَّ عَادَ
إِلَى بَلَدِهِ فَكَانَ يَعِظُ وَيَتَكَلَّمُ عَلَى الْقُلُوبِ، وَلَهُ قَصِيدَةٌ
بَارِعَةٌ فِي عِلْمِ التَّصَوُّفِ، أَوْرَدَهَا الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ
بِتَمَامِهَا لِحُسْنِهَا وَفَصَاحَتِهَا:
لَمَعَتْ نَارُهُمْ وَقَدْ عَسْعَسَ اللَّيْ لُ وَمَلَّ الْحَادِي وَحَارَ
الدَّلِيلُ
فَتَأَمَّلْتُهَا
وَفِكْرِي مِنَ الْبَيْ
نِ عَلِيلٌ وَلَحْظُ عَيْنِي كَلِيلُ وَفُؤَادِي ذَاكَ الْفُؤَادُ الْمُعَنَّى
وَغَرَامِي ذَاكَ الْغَرَامُ الدَّخِيلُ
وَمِنْ شِعْرِهِ:
يَا لَيْلُ مَا جِئْتُكُمْ زَائِرًا إِلَّا وَجَدْتُ الْأَرْضَ تُطْوَى لِي
وَلَا ثَنَيْتُ الْعَزْمَ عَنْ بَابِكُمْ إِلَّا تَعَثَّرْتُ بِأَذْيَالِي
وَمِنْ شَعْرِهِ دُوبَيْتُ:
يَا قَلْبُ إِلَامَ لَا يُفِيدُ النُّصْحُ دَعْ مَزْحَكَ كَمْ جَنَى عَلَيْكَ
الْمَزْحُ
مَا جَارِحَةٌ مِنْكَ عَدَاهَا جُرْحُ مَا تَشْعُرُ بِالْخُمَارِ حَتَّى تَصْحُو
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَزَعَمَ
الْعِمَادُ فِي " الْخَرِيدَةِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ بَعْدَ
الْعِشْرِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نَبْهَانَ
أَبُو عَلِيٍّ الْكَاتِبُ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَى وَعُمِّرَ مِائَةَ سَنَةٍ،
وَتَغَيَّرَ قَبْلَ مَوْتِهِ وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ ; فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي
قَصِيدَةٍ لَهُ:
لِي أَجَلٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ نَعَمْ وَرِزْقٌ أَتَوَفَّاهُ
حَتَّى
إِذَا اسْتَوْفَيْتُ مِنْهُ الَّذِي قُدِّرَ لِي لَا أَتَعَدَّاهُ
قَالَ كِرَامٌ كَنْتُ أَغْشَاهُمُ فِي مَجْلِسٍ قَدْ كُنْتُ أَغْشَاهُ
صَارَ ابْنُ نَبْهَانَ إِلَى رَبِّهِ يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاهُ
أَمِيرُ الْحَاجِّ يُمْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو الْخَيْرِ الْمُسْتَظْهِرِيُّ، كَانَ جَوَّادًا كَرِيمًا مُمَدَّحًا، ذَا
رَأْيٍ وَفِطْنَةٍ ثَاقِبَةٍ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْحُسَيْنِ بْنِ طَلْحَةَ النِّعَالِيِّ بِإِفَادَةِ أَبِي نَصْرٍ
الْأَصْبَهَانِيِّ، وَكَانَ يَؤُمُّ بِهِ فِي الصَّلَوَاتِ، وَلَمَّا قَدِمَ
رَسُولًا إِلَى أَصْبَهَانَ حَدَّثَ بِهَا، وَاتَّفَقَ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ
الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا خُطِبَ لِلسُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ بِأَمْرِ
الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ. وَفِيهَا سَأَلَ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ
بْنِ مَنْصُورٍ الْأَسَدِيِّ مِنَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى
الْحِلَّةِ وَغَيْرِهَا، مِمَّا كَانَ أَبُوهُ يَتَوَلَّاهُ مِنَ الْأَعْمَالِ
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَوَلَّاهُ مَا كَانَ أَبُوهُ يَتَوَلَّاهُ مِنْ
ذَلِكَ، فَعَظُمَ وَارْتَفَعَ شَأْنُهُ.
وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ
وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَدِي
بِأَمْرِ اللَّهِ، كَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا ذَكِيًّا بَارِعًا، كَتَبَ الْخَطَّ
الْمَنْسُوبَ، وَكَانَتْ أَيَّامُهُ بِبَغْدَادَ كَأَنَّهَا الْأَعْيَادُ، وَكَانَ
رَاغِبًا فِي الْبِرِّ وَالْخَيْرِ مُسَارِعًا إِلَى ذَلِكَ ; لَا يَرُدُّ
سَائِلًا، وَكَانَ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ، لَا يُصْغِي إِلَى أَقْوَالِ
الْوُشَاةِ فِي النَّاسِ وَلَا يَثِقُ بِالْمُبَاشِرِينَ، وَقَدْ ضَبَطَ أُمُورَ
الْخِلَافَةِ جَيِّدًا وَأَحْكَمَهَا وَعَرَفَهَا وَعَلِمَهَا، وَلَدَيْهِ عِلْمٌ
كَثِيرٌ، وَفَضْلٌ كَبِيرٌ، وَشِعْرٌ حَسَنٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا عِنْدَ
ذِكْرِ خِلَافَتِهِ، وَقَدْ وَلِيَ غُسْلَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَابْنُ السُّنِّيِّ،
وَصَلَّى عَلَيْهِ وَلَدُهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْفَضْلُ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا،
وَدُفِنَ فِي حُجْرَةٍ كَانَ يَسْكُنُهَا.
وَالْعَجَبُ
أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ مَاتَ بَعْدَهُ
الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ السُّلْطَانُ
مَلِكْشَاهْ مَاتَ بَعْدَهُ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ
السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ مَاتَ بَعْدَهُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ؛ رَحِمَهُمُ
اللَّهُ. وَكَانَتْ وَفَاةُ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ فِي سَادِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ
الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ
سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا.
خِلَافَةُ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي مَنْصُورٍ
الْفَضْلِ بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ
لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ - كَمَا ذَكَرْنَا - بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ،
وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَقَدْ كَانَ وَلِيَ الْعَهْدَ مِنْ مُدَّةِ
ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ الَّذِي أَخَذَ الْبَيْعَةَ لَهُ قَاضِي
الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيُّ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْبَيْعَةُ
لَهُ هَرَبَ أَخُوهُ أَبُو الْحَسَنِ فِي سَفِينَةٍ وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ،
وَقَصَدَ دُبَيْسَ بْنَ صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مَزْيَدٍ الْأَسَدِيَّ بِالْحِلَّةِ، فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، فَقَلِقَ
الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، فَرَاسَلَ دُبَيْسًا فِي ذَلِكَ مَعَ
نَقِيبِ النُّقَبَاءِ الزَّيْنَبِيِّ، فَهَرَبَ أَخُو الْخَلِيفَةِ مِنْ دُبَيْسٍ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ جَيْشًا فَأَلْجَئُوهُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَلَحِقَهُ
عَطَشٌ شَدِيدٌ فَلَقِيَهُ بَدَوِيَّانِ فَسَقَيَاهُ مَاءً، وَحَمَلَاهُ إِلَى
بَغْدَادَ، فَأَحْضَرَهُ أَخُوهُ إِلَيْهِ فَاعْتَنَقَا وَتَبَاكَيَا،
وَأَنْزَلَهُ الْخَلِيفَةُ دَارًا كَانَ يَسْكُنُهَا قَبْلَ الْخِلَافَةِ،
وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَطَيَّبَ نَفْسَهُ، وَكَانَ مُدَّةُ غَيْبَتِهِ عَنْ
بَغْدَادَ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، وَاسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ بِلَا مُنَازَعَةٍ
لِلْمُسْتَرْشِدِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِبَغْدَادَ، وَانْقَطَعَ الْغَيْثُ
وَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ، وَتَفَاقَمَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ بِبَغْدَادَ،
وَنَهَبُوا الدِّيَارَاتِ نَهَارًا جِهَارًا، وَلَمْ تَسْتَطِعِ الشُّرْطَةُ
لِذَلِكَ
تَغْيِيرًا
وَلَا إِنْكَارًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نَظَرٌ الْخَادِمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَظْهِرُ بِاللَّهِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ آنِفًا
فِي هَذَا الْعَامِ.
ثُمَّ تُوُفِّيَتْ بَعْدَهُ جَدَّتُهُ أَمُّ أَبِيهِ الْمُقْتَدِي.
أُرْجُوَانُ الْأَرْمَنِيَّةُ
وَتُدْعَى قُرَّةَ الْعَيْنِ، وَكَانَ لَهَا بِرٌّ كَثِيرٌ وَمَعْرُوفٌ
وَصَدَقَاتٌ، وَقَدْ حَجَّتْ ثَلَاثَ حَجَّاتٍ، وَأَدْرَكَتْ خِلَافَةَ ابْنِهَا
الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ وَخِلَافَةَ ابْنِهِ الْمُسْتَظْهِرِ وَخِلَافَةَ
ابْنِهِ الْمُسْتَرْشِدِ، وَرَأَتْ لِلْمُسْتَرْشِدِ وَلَدًا، وَكَانَتْ
وَفَاتُهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ؛ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْفَضْلِ
أَبُو الْفَضْلِ الْأَنْصَارِيُّ، رَوَى الْحَدِيثَ، وَكَانَ يُضْرَبُ بِهِ
الْمَثَلُ فِي حِفْظِ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَفَقَّهَ عَلَى عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَلْوَانِئِيِّ، وَكَانَ يَذْكُرُ الدُّرُوسَ مِنْ
أَيِّ مَوْضِعٍ سُئِلَ مِنْ غَيْرِ مُطَالَعَةٍ وَلَا مُرَاجَعَةٍ، وَرُبَّمَا
كَانَ فِي ابْتِدَاءِ طَلَبِهِ يُكَرِّرُ الْمَسْأَلَةَ أَرْبَعَمِائَةِ مَرَّةٍ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْوَهَّابِ الزَّيْنَبِيُّ،
قَرَأَ الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الدَّامَغَانِيِّ
فَبَرَعَ
وَأَفْتَى، وَدَرَّسَ بِمَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَنَظَرَ فِي أَوْقَافِهَا
وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلُقِّبَ نُورَ
الْهُدَى، وَسَارَ فِي الرُّسُلِيَّةِ إِلَى الْمُلُوكِ، وَوَلِيَ نِقَابَةَ
الطَّالِبِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ، ثُمَّ اسْتَعْفَى بَعْدَ شُهُورٍ، فَوَلِيَ
أَخُوهُ طِرَادٌ نِقَابَةَ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثِنْتَانِ
وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيٌّ،
وَحَضَرَهُ الْأَعْيَانُ وَالْعُلَمَاءُ، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ
دَاخِلَ الْقُبَّةِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو طَاهِرٍ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْخَرَزِيِّ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ فِي أَيَّامِ
الْمُسْتَظْهِرِ، وَكَانَ لَا يُوَفِّي الْمُسْتَرْشِدَ حَقَّهُ مِنَ
التَّعْظِيمِ، وَهُوَ وَلِيُّ عَهْدٍ، فَلَمَّا صَارَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ
صَادَرَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ غُلَامًا لَهُ فَأَوْمَأَ
إِلَى بَيْتٍ، فَوَجَدَ فِيهِ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَخَذَهَا
الْخَلِيفَةُ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ هَذَا بِقَلِيلٍ فِي هَذَا
الْعَامِ.
أَبُو الْفَضْلِ بْنُ الْخَازِنِ،
كَانَ أَدِيبًا لَطِيفًا شَاعِرًا فَاضِلًا، فَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
وَافَيْتُ مَنْزِلَهُ فَلَمْ أَرَ صَاحِبًا إِلَّا تَلَقَّانِي بِوَجْهٍ ضَاحِكِ
وَالْبِشْرُ فِي وَجْهِ الْغُلَامِ نَتِيجَةٌ
لِمُقَدِّمَاتِ ضِياءِ وَجْهِ الْمَالِكِ وَدَخَلْتُ جَنَّتَهُ وَزُرْتُ جَحِيمَهُ
فَشَكَرْتُ رِضْوَانًا وَرَأْفَةَ مَالِكِ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتِ الْحُرُوبُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَ السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ وَبَيْنَ عَمِّهِ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ بْنِ
مَلِكْشَاهْ، فَكَانَ النَّصْرُ فِيهَا لِسَنْجَرَ، فَخُطِبَ لَهُ بِبَغْدَادَ فِي
سَادِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقُطِعَتْ خُطْبَةُ
السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ ثُمَّ وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا وَرَسَمَ السُّلْطَانُ
سَنْجَرَ أَنْ يُخْطَبَ لِابْنِ أَخِيهِ مَحْمُودٍ فِي سَائِرِ أَعْمَالِهِ.
وَفِيهَا سَارَتِ الْفِرِنْجُ إِلَى مَدِينَةِ حَلَبَ فَفَتَحُوهَا عَنْوَةً
وَمَلَكُوهَا وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ صَاحِبُ
مَارِدِينَ إِيلْغَازِي بْنُ أُرْتُقَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَهَزَمَهُمْ عَنْهَا،
وَلَحِقَهُمْ إِلَى جَبَلٍ قَدْ تَحَصَّنُوا فِيهِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ هُنَالِكَ
مَقْتَلَةً عَظِيمَةً؛ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا
الْيَسِيرُ، وَأَسَرَ مِنْ مُقَدَّمِهِمْ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ رَجُلًا، وَقُتِلَ
فِيمَنْ قُتِلَ سَرْخَالُ صَاحِبِ أَنْطَاكِيَةَ وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى
بَغْدَادَ فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ وَقَدْ بَالَغَ مُبَالَغَةً
فَاحِشَةً:
قُلْ مَا تَشَاءُ فَقَوْلُكَ الْمَقْبُولُ وَعَلَيْكَ بَعْدَ الْخَالِقِ
التَّعْوِيلُ
وَاسْتَبْشَرَ
الْقُرْآنُ حِينَ نَصَرْتَهُ
وَبَكَى لِفَقْدِ رِجَالِهِ الْإِنْجِيلُ
وَفِيهَا قُتِلَ الْأَمِيرُ مَنْكُبِرْسُ الَّذِي كَانَ شِحْنَةَ بَغْدَادَ
وَكَانَ ظَالِمًا غَاشِمًا سَيِّئَ السِّيرَةِ، قَتَلَهُ الْمَلِكُ مَحْمُودُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ لِأُمُورٍ ; مِنْهَا أَنَّهُ
تَزَوَّجَ سُرِّيَّةَ أَبِيهِ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَنِعْمَ مَا فَعَلَ،
وَقَدْ أَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ مَا كَانَ أَظْلَمَهُ وَأَغْشَمَهُ.
وَفِيهَا تَوَلَّى قَضَاءَ قُضَاةِ بَغْدَادَ الْأَكْمَلُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ، وَخُلِعَ
عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيِّ، وَفِيهَا ظَهَرَ قَبْرُ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَبْرُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَشَاهَدَ ذَلِكَ النَّاسُ وَلَمْ تَبْلَ أَجْسَادُهُمْ،
وَعِنْدَهُمْ قَنَادِيلُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْخَازِنِ
فِي " تَارِيخِهِ " وَأَظُنُّهُ نَقَلَهُ مِنْ " الْمُنْتَظَمِ
" لِابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
ابْنُ عَقِيلٍ عَلِيُّ بْنُ عَقِيلِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ أَبُو
الْوَفَاءِ، شَيْخُ الْحَنَابِلَةِ بِبَغْدَادَ وَصَاحِبُ " الْفُنُونِ
" وَغَيْرِهَا مِنَ التَّصَانِيفِ الْمُفِيدَةِ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى
وَثَلَاثِينَ
وَأَرْبَعِمَائَةٍ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ شِيطَا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
الْكَثِيرَ، وَتَفَقَّهَ بِالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ، وَقَرَأَ
الْأَدَبَ عَلَى ابْنِ بَرْهَانَ، وَالْفَرَائِضَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ
الْهَمَذَانِيِّ، وَالْوَعْظَ عَلَى أَبِي طَاهِرِ بْنِ الْعَلَّافِ صَاحِبِ ابْنِ
سَمْعُونَ، وَالْأُصُولَ عَلَى أَبِي الْوَلِيدِ الْمُعْتَزِلِيِّ، وَكَانَ
يَجْتَمِعُ بِجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ، فَرُبَّمَا لَامَهُ
بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَلَا يَلْوِي عَلَيْهِمْ، فَلِهَذَا بَرَزَ عَلَى
أَقْرَانِهِ، وَبَذَّ أَهْلَ زَمَانِهِ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، مَعَ صِيَانَةٍ
وَدِيَانَةٍ وَحُسْنِ صُورَةٍ وَكَثْرَةِ اشْتِغَالٍ، وَقَدْ وَعَظَ فِي بَعْضِ
الْأَحْيَانِ فَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَقَدْ مَتَّعَهُ اللَّهُ
بِجَمِيعِ حَوَاسِّهِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بُكْرَةَ
الْجُمُعَةِ ثَانِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ
الثَّمَانِينَ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً جِدًّا، وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنْ
قَبْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إِلَى جَانِبِ الْخَادِمِ مُخَلِّصٍ؛ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ حَمُّويَهِ
أَبُو الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيُّ، قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ
وُلِدَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ،
وَاشْتَغَلَ
وَبَرَعَ وَتَوَلَّى قَضَاءَ الْقُضَاةِ بَعْدَ أَبِيهِ، ثُمَّ عُزِلَ بِأَبِي
بَكْرٍ الشَّاشِيِّ، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَى الْحُكْمِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
وَلَا يُعْرَفُ حَاكِمٌ وَلِيَ الْحُكْمَ أَصْغَرُ سِنًّا مِنْهُ - يَعْنِي
بِبَغْدَادَ - مِنْ قُضَاةِ الْقُضَاةِ. وَقَالَ: وَلَا يُعْرَفُ حَاكِمٌ وَلِيَ
لِأَرْبَعَةٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ غَيْرُهُ إِلَّا شُرَيْحٌ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ
أَمَانَتِهِ وَدِيَانَتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحَرِّيهِ وَتَوَقِّيهِ
وَقُوَّتِهِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ
سَنَةً، كَذَلِكَ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَقَبْرُهُ عِنْدَ مَشْهَدِ أَبِي
حَنِيفَةَ.
الْمُبَارَكُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
أَبُو سَعْدٍ الْمُخَرِّمِيُّ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَتَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ
أَحْمَدَ وَنَاظَرَ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ، وَجَمَعَ كُتُبًا كَثِيرَةً لَمْ
يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهَا، وَنَابَ فِي الْقَضَاءِ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ،
جَمِيلَ الطَّرِيقَةِ، سَدِيدَ الْأَقْضِيَةِ، وَقَدْ بَنَى مَدْرَسَةً بِبَابِ
الْأَزَجِ، وَهِيَ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلِيِّ
الْحَنْبَلِيِّ، ثُمَّ عُزِلَ عَنِ الْقَضَاءِ وَصُودِرَ بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ،
وَذَلِكَ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ أَبِي بَكْرٍ
الْخَلَّالِ عِنْدَ قَبْرِ أَحْمَدَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي النِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ
الْأَخَوَيْنِ السُّلْطَانَيْنِ مَحْمُودٍ وَمَسْعُودٍ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ
مَلِكْشَاهْ عِنْدَ عَقَبَةِ أَسَدَابَاذَ، فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ مَسْعُودٍ،
وَأُسِرَ وَزِيرُهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْمَاعِيلَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ
أُمَرَائِهِ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بِقَتْلِ الْوَزِيرِ أَبِي
إِسْمَاعِيلَ، فَقُتِلَ وَلَهُ نَيِّفٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي
صِنَاعَةِ الْكِيمْيَاءِ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ مَسْعُودٍ الْأَمَانَ،
وَاسْتَقْدَمَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا اعْتَنَقَا وَبَكَيَا وَاصْطَلَحَا.
وَفِيهَا نَهَبَ دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ صَاحِبُ الْحِلَّةِ الْبِلَادَ وَرَكِبَ
بِنَفْسِهِ إِلَى بَغْدَادَ، فَنَصَبَ خَيْمَةً بِإِزَاءِ دَارِ الْخِلَافَةِ،
وَأَظْهَرَ مَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الضَّغَائِنِ، وَذَكَرَ كَيْفَ طِيفَ بِرَأْسِ
أَبِيهِ فِي الْبِلَادِ، وَتَهَدَّدَ الْمُسْتَرْشِدَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ يُسَكِّنُ جَأْشَهُ، وَيَعِدُهُ أَنَّهُ سَيُصْلِحُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَلَمَّا قَدِمَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ
بَغْدَادَ أَرْسَلَ دُبَيْسٌ يَسْتَأْمِنُ، فَأَمَّنَهُ وَأَجْرَاهُ عَلَى
عَادَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَهَبَ جَيْشَ السُّلْطَانِ، فَرَكِبَ السُّلْطَانُ
مَحْمُودٌ بِنَفْسِهِ لِقِتَالِهِ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ أَلْفَ سَفِينَةٍ
لِيَعْبُرَ بِهَا إِلَى الْحِلَّةِ، فَهَرَبَ دُبَيْسٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَالْتَجَأَ إِلَى إِيلْغَازِي فَأَقَامَ عِنْدَهُ سَنَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى
الْحِلَّةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ يَعْتَذِرُ
إِلَيْهِمَا، فَلَمْ يَقْبَلَا مِنْهُ، وَجَهَّزَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ جَيْشًا
فَحَاصَرُوهُ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي
بِلَادِهِ لَا يَتَمَكَّنُ الْجَيْشُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ
الْأَمَاكِنِ.
وَفِيهَا
كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْكُرْجِ وَالْمُسْلِمِينَ بِالْقُرْبِ مِنْ
تَفْلِيسَ، وَمَعَ الْكُرْجِ كُفَّارُ الْقُفْجَاقِ، فَقَتَلُوا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمُوا أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَأَسَرُوا
نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ أَسِيرٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ، وَنَهَبَ الْكُرْجُ تِلْكَ النَّوَاحِي وَفَعَلُوا أَشْيَاءَ
مُنْكَرَةً، وَحَاصَرُوا تَفْلِيسَ مُدَّةً ثُمَّ مَلَكُوهَا عَنْوَةً، بَعْدَمَا
أَحْرَقُوا الْقَاضِيَ وَالْخَطِيبَ حِينَ خَرَجُوا إِلَيْهِمْ يَطْلُبُونَ
الْأَمَانَ، وَقَتَلُوا عَامَّةَ أَهْلِهَا، وَسَبَوُا الذُّرِّيَّةَ،
وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى الْأَمْوَالِ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ.
وَفِيهَا أَغَارَ جُوسْلِينُ الْفِرِنْجِيُّ صَاحِبُ الرُّهَا عَلَى خَلْقٍ مِنَ
الْعَرَبِ وَالتُّرْكُمَانِ فَقَتَلَهُمْ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ.
وَفِيهَا تَمَرَّدَتِ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ، وَأَخَذُوا الدُورَ جِهَارًا
لَيْلًا وَنَهَارًا، فَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ ابْتِدَاءُ مُلْكِ مُحَمَّدِ بْنِ تُومَرْتَ
بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، كَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ قَدِمَ
فِي حَدَاثَةِ سِنِّهِ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ إِلَى بَغْدَادَ فَسَكَنَ
النِّظَامِيَّةَ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ فَحَصَّلَ جَانِبًا جَيِّدًا مِنَ
الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ عَلَى الْغَزَّالِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ يُظْهِرُ
التَّعَبُّدَ وَالزُّهْدَ وَالْوَرَعَ، وَرُبَّمَا أَنْكَرَ عَلَى الْغَزَّالِيِّ
حُسْنَ مَلَابِسِهِ، وَلَا سِيَّمَا حِينَ لَبِسَ خِلْعَةَ التَّدْرِيسِ
بِالنِّظَامِيَّةِ، ثُمَّ حَجَّ وَعَادَ إِلَى بِلَادِهِ، فَكَانَ يَأْمُرُ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقْرِئُ النَّاسَ الْقُرْآنَ،
وَيَشْغَلُهُمْ فِي الْفِقْهِ، فَطَارَ ذِكْرُهُ فِي النَّاسِ، وَاجْتَمَعَ بِهِ
يَحْيَى بْنُ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ صَاحِبُ بِلَادِ
إِفْرِيقِيَّةَ
فَعَظَّمَهُ وَأَكْرَمَهُ وَسَأَلَهُ الدُّعَاءَ فَاشْتُهِرَ أَيْضًا بِذَلِكَ وَبَعُدَ صِيتُهُ، وَلَيْسَ مَعَهُ إِلَّا رِكْوَةٌ وَعَصًا، وَلَا يَسْكُنُ إِلَّا الْمَسَاجِدَ، ثُمَّ كَانَ يَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى دَخَلَ مَرَّاكُشَ، وَمَعَهُ تِلْمِيذُهُ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَلِيٍّ، وَكَانَ وَقَدْ كَانَ تَوَسَّمَ فِيهِ النَّجَابَةَ وَالشَّهَامَةَ، فَرَأَى فِيهَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ أَضْعَافَ مَا رَأَى فِي غَيْرِهَا ; مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الرِّجَالَ يَتَلَثَّمُونَ وَالنِّسَاءَ يَمْشِينَ حَاسِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ، فَأَخَذَ فِي إِنْكَارِ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّهُ اجْتَازَ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أُخْتُ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ بْنِ تَاشُفِينَ مَلِكِ مَرَّاكُشَ وَمَا حَوْلَهَا، وَمَعَهَا نِسَاءٌ رَاكِبَاتٌ حَاسِرَاتٌ عَنْ وُجُوهِهِنَّ، فَشَرَعَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِنَّ وَيَضْرِبُونَ الدَّوَابَّ، فَسَقَطَتْ أُخْتُ الْمَلِكِ عَنْ دَابَّتِهَا، فَأَحْضَرَهُ الْمَلِكُ وَأَحْضَرَ الْفُقَهَاءَ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ بِالْحُجَّةِ، وَأَخَذَ يَعِظُ الْمَلِكَ فِي نَفْسِهِ، وَمَعَ هَذَا نَفَاهُ الْمَلِكُ عَنْ بَلَدِهِ، فَشَرَعَ يُشَنِّعُ عَلَيْهِ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى قِتَالِهِ، فَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِ ابْنُ تَاشُفِينَ جَيْشًا كَثِيفًا فَهَزَمَهُمُ ابْنُ تُومَرْتَ، فَعَظُمَ شَأْنُهُ وَارْتَفَعَ أَمْرُهُ وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَتَسَمَّى بِالْمَهْدِيِّ، وَسَمَّى جَيْشَهُ جَيْشَ الْمُوَحِّدِينَ، وَأَلَّفَ كِتَابًا فِي التَّوْحِيدِ وَعَقِيدَةً تُسَمَّى الْمُرْشِدَةُ، ثُمَّ كَانَتْ لَهُ وَقَعَاتٌ مَعَ جُيُوشِ ابْنِ تَاشُفِينَ، فَقَتَلَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْوَنْشَرِيسِيِّ، وَكَانَ ذَكَرَ أَنَّهُ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ وَعَلَّمَهُ الْقُرْآنَ وَ " الْمُوَطَّأَ " وَلَهُ بِذَلِكَ مَلَائِكَةٌ يَشْهَدُونَ بِهِ فِي بِئْرٍ سَمَّاهُ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِ وَكَانَ قَدْ أَرْصَدَ فِيهِ رِجَالًا، فَلَمَّا سَأَلَهُمْ وَالنَّاسُ يَسْمَعُونَ شَهِدُوا لَهُ
بِذَلِكَ،
فَأَمَرَ حِينَئِذٍ بِطَمِّ الْبِئْرِ عَلَيْهِمْ فَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ،
وَلِهَذَا يُقَالُ: مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سُلِّطَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ جَهَّزَ ابْنُ تُومَرْتَ الَّذِي لَقَّبَ نَفْسَهُ بِالْمَهْدِيِّ جَيْشًا
عَلَيْهِمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَنْشَرِيسِيُّ وَعَبْدُ الْمُؤْمِنِ
لِمُحَاصَرَةِ مَرَّاكُشَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُهَا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا
عَظِيمًا، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْوَنْشَرِيسِيُّ هَذَا الَّذِي زَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُخَاطِبُهُ، ثُمَّ
افْتَقَدُوهُ فِي الْقَتْلَى فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ
رَفَعَتْهُ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ دَفَنَهُ وَالنَّاسُ فِي
الْمَعْرَكَةِ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْمَهْدِيِّ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ
كَانَ حِينَ جَهَّزَ الْجَيْشَ مَرِيضًا مُدْنِفًا، فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَبَرُ
ازْدَادَ مَرَضًا إِلَى مَرَضِهِ، وَسَاءَهُ قَتْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْوَنْشَرِيسِيِّ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ لِعَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ
عَلِيٍّ، وَلَقَّبَهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ كَانَ شَابًّا حَسَنًا
حَازِمًا عَاقِلًا.
ثُمَّ مَاتَ ابْنُ تُومَرْتَ وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ إِحْدَى وَخَمْسُونَ سَنَةً،
وَمُدَّةُ مُلْكِهِ عَشْرُ سِنِينَ، وَحِينَ صَارَ الْأَمْرُ إِلَى عَبْدِ
الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ أَحْسَنَ إِلَى الرَّعَايَا، وَظَهَرَتْ مِنْهُ سِيرَةٌ
جَيِّدَةٌ فَأَحَبَّهُ النَّاسُ، وَاتَّسَعَتْ مَمَالِكُهُ، وَكَثُرَتْ جُيُوشُهُ
وَرَعِيَّتُهُ، وَنَصَبَ الْعَدَاوَةَ لِابْنِ تَاشُفِينَ صَاحِبِ مَرَّاكُشَ،
وَلَمْ يَزَلِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمَا إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ، فَمَاتَ
ابْنُ تَاشُفِينَ، فَقَامَ وَلَدُهُ تَاشُفِينَ مِنْ بَعْدِهِ فَمَاتَ فِي سَنَةِ
تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَوَلِيَ
أَخُوهُ إِسْحَاقُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ بْنِ تَاشُفِينَ، فَسَارَ إِلَيْهِ
عَبْدُ الْمُؤْمِنِ، فَمَلَكَ تِلْكَ النَّوَاحِيَ وَفَتَحَ مَدِينَةَ مَرَّاكُشَ
وَقَتَلَ هُنَالِكَ أُمَمًا لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ، وَقُتِلَ مَلِكُهَا إِسْحَاقُ، وَكَانَ صَغِيرَ السِّنِّ فِي سَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَكَانَ إِسْحَاقُ هَذَا آخِرَ مُلُوكِ
الْمُرَابِطِينَ، وَكَانَ مُدَّةُ مُلْكِهِمْ سَبْعِينَ سَنَةً.
وَالَّذِينَ
مَلَكُوا مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ: عَلِيٌّ وَوَالِدُهُ يُوسُفُ وَوَلَدَاهُ
تَاشُفِينُ وَإِسْحَاقُ ابْنَا عَلِيٍّ الْمَذْكُورِ.
فَاسْتَوْطَنَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مَدِينَةَ مَرَّاكُشَ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ
بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَظَفِرَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ بِدَكَّالَةَ،
وَهِيَ قَبِيلَةٌ عَظِيمَةٌ نَحْوُ مِائَتَيْ أَلْفِ رَاجِلٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ
فَارِسٍ مُقَاتِلٍ مِنَ الشُّجْعَانِ الْأَبْطَالِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ،
حَتَّى إِنَّهُ بِيعَتِ الْجَارِيَةُ الْحَسْنَاءُ بِدَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَقَدْ
رَأَيْتُ لِبَعْضِهِمْ فِي سِيرَةِ ابْنِ تُومَرْتَ هَذَا مُجَلَّدًا فِي
أَحْكَامِهِ وَأَيَّامِهِ، وَكَيْفَ تَمَلَّكَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَمَا كَانَ
يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُوهِمُ أَنَّهَا أَحْوَالٌ بَرَّةٌ،
وَهِيَ مَحَالُّ لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ فَجَرَةٍ، وَمَا قَتَلَ مِنَ النَّاسِ
وَأَزْهَقَ مِنَ الْأَنْفُسِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ السِّيبِيِّ، أَبُو الْبَرَكَاتِ، أَسْنَدَ
الْحَدِيثَ، وَكَانَ يُعَلِّمُ أَوْلَادَ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَظْهِرِ، فَلَمَّا
صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى الْمُسْتَرْشِدِ، وَلَّاهُ الْمَخْزَنَ، وَكَانَ
كَثِيرَ الْأَمْوَالِ وَالصَّدَقَاتِ، يَتَعَاهَدُ أَهْلَ الْعِلْمِ، وَخَلَّفَ
مَالًا كَثِيرًا حُزِرَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، أَوْصَى مِنْهُ بِثَلَاثِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ لِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، عَنْ سِتٍّ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَصَلَّى عَلَيْهِ
الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ صَدَقَةَ، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
عَبْدُ
الرَّحِيمِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ هَوَازِنَ
أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ، قَرَأَ عَلَى أَبِيهِ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ،
وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ جَمَاعَةٍ، وَكَانَ ذَا ذَكَاءٍ وَفِطْنَةٍ، وَلَهُ
خَاطِرٌ حَاضِرٌ جَرِيءٌ، وَلِسَانٌ مَاهِرٌ فَصِيحٌ، وَقَدْ دَخَلَ بَغْدَادَ
فَوَعَظَ بِهَا، فَوَقَعَ بِسَبَبِهِ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ
وَالشَّافِعِيَّةِ، فَحُبِسَ بِسَبَبِهَا الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ أَبِي
مُوسَى وَأَمَرَ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ بِالْخُرُوجِ مِنْ بَغْدَادَ لِإِطْفَاءِ
الْفِتْنَةِ فَعَادَ إِلَى بَلَدِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ
أَبُو حَامِدٍ الدِّينَوَرِيُّ، كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ وَالصَّدَقَاتِ، ذَا
حِشْمَةٍ وَمُرُوءَةٍ وَوَجَاهَةٍ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ، وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ
وَوَعَظَ، وَكَانَ مَلِيحَ الْإِيرَادِ حُلْوَ الْمَنْطِقِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
بِالرَّيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا أَقْطَعَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ الْأَمِيرَ إِيلْغَازِي مَدِينَةَ
مَيَّافَارِقِينَ فَبَقِيَتْ فِي يَدِ أَوْلَادِهِ إِلَى أَنْ أَخَذَهَا صَلَاحُ
الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ.
وَفِيهَا أَقْطَعَ أَيْضًا آقْ سُنْقُرَ الْبُرْسُقِيَّ مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ
وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ الْفِرِنْجِ.
وَفِيهَا حَاصَرَ بَلَكُ بْنُ بَهْرَامَ - وَهُوَ ابْنُ أَخِي إِيلْغَازِي -
مَدِينَةَ الرُّهَا، فَأَسَرَ مَلِكَهَا جُوسْلِينَ الْفِرِنْجِيَّ وَجَمَاعَةً
مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ وَسَجَنَهُمْ بِقَلْعَةِ خَرْتَبِرْتَ.
وَفِيهَا هَبَّتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ، فَاسْتَمَرَّتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ،
فَأَهْلَكَتْ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالْحِجَازِ، فَتَضَعْضَعَ بِسَبَبِهَا
الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ، وَتَهَدَّمَ بَعْضُهُ، وَتَهَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ حَرَمِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ.
وَفِيهَا
ظَهَرَ رَجُلٌ عَلَوِيٌّ بِمَكَّةَ، كَانَ قَدِ اشْتَغَلَ بِالنِّظَامِيَّةِ فِي
الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ، أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ
فَاتَّبَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ، فَنَفَاهُ صَاحِبُهَا ابْنُ أَبِي هَاشِمٍ إِلَى
الْبَحْرَيْنِ.
وَفِيهَا احْتَرَقَتْ دَارُ السُّلْطَانِ بِأَصْبَهَانَ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا
شَيْءٌ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْفِرَاشِ وَالْجَوَاهِرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
سِوَى الْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَقَبْلَ ذَلِكَ بِأُسْبُوعٍ احْتَرَقَ جَامِعُ أَصْبَهَانَ أَيْضًا، وَكَانَ
جَامِعًا عَظِيمًا فِيهِ أَخْشَابٌ تُسَاوِي أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفِي
جُمْلَةِ مَا احْتَرَقَ فِيهِ خَمْسُمِائَةِ مُصْحَفٍ ; مِنْ جُمْلَتِهَا مُصْحَفٌ
بِخَطِّ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا جَلَسَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَرْشِدُ فِي دَارِ
الْخِلَافَةِ فِي أُبَّهَةِ الْخِلَافَةِ ; الْبُرْدَةُ عَلَى كَتِفَيْهِ
وَالْقَضِيبُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَجَاءَ الْأَخَوَانِ الْمَلِكَانِ مَحْمُودٌ
وَمَسْعُودٌ فَوَقَفَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَبَّلَا الْأَرْضَ، فَخَلَعَ عَلَى
مَحْمُودٍ سَبْعَ خِلَعٍ وَطَوْقًا وَسِوَارَيْنِ وَتَاجًا، وَأُجْلِسَ عَلَى
كُرْسِيٍّ، وَوَعَظَهُ الْخَلِيفَةُ وَتَلَا عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ [ الزَّلْزَلَةِ: 7، 8 ] وَأَمَرَهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى
الرَّعَايَا، وَعَقَدَ لَهُ الْخَلِيفَةُ لِوَاءَيْنِ بِيَدِهِ، وَقَلَّدَهُ
الْمُلْكَ، وَخَرَجَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مُطَاعَيْنِ مُعَظَّمَيْنِ،
وَالْجَيْشُ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا إِلَى دَارِهِمَا فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ
جِدًّا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَظَرٌ الْخَادِمُ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
ابْنُ الْقَطَّاعِ اللُّغَوِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
زِيَادَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْأَغْلَبِ
السَّعْدِيُّ الصِّقِلِّيُّ ثُمَّ الْمِصْرِيُّ اللُّغَوِيُّ، مُصَنِّفُ كِتَابِ
" الْأَفْعَالِ " الَّذِي بَرَزَ فِيهِ عَلَى ابْنِ الْقُوطِيَّةِ
وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدِمَ مِصْرَ فِي حُدُودِ سَنَةِ
خَمْسِمِائَةٍ لَمَّا أَشْرَفَتِ الْفِرِنْجُ عَلَى أَخْذِ صِقِلِّيَةَ،
فَأَكْرَمَهُ الْمِصْرِيُّونَ، وَبَالَغُوا فِي إِكْرَامِهِ وَكَانَ يُنْسَبُ
إِلَى التَّسَاهُلِ فِي الرِّوَايَةِ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، أَوْرَدَ
لَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ مِنْهُ قِطْعَةً جَيِّدَةً، وَقَدْ جَاوَزَ
الثَّمَانِينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْقَاسِمِ شَاهِنْشَاهْ، الْأَفْضَلُ بْنُ أَمِيرِ الْجُيُوشِ بَدْرِ
الْجَمَالِيِّ، مُدَبِّرُ دَوْلَةِ الْفَاطِمِيِّينَ بِمِصْرَ، وَإِلَى أَبِيهِ
تُنْسَبُ قَيْسَارِيَّةُ أَمِيرِ الْجُيُوشِ، الْعَامَّةُ تَقُولُ: مَرْجُيُوشُ.
وَأَبُوهُ بَانِي الْجَامِعِ الَّذِي بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِسُوقِ
الْعَطَّارِينَ، وَمَشْهَدِ الرَّأْسِ بِعَسْقَلَانَ أَيْضًا، وَكَانَ أَبُوهُ
نَائِبَ الْمُسْتَنْصِرِ عَلَى مَدِينَةِ صُورَ وَقِيلَ: عَلَى عَكَّا، ثُمَّ
اسْتَدْعَاهُ إِلَيْهِ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ، فَرَكِبَ الْبَحْرَ، فَاسْتَنَابَهُ
عَلَى دِيَارِ مِصْرَ، فَسَدَّدَ الْأُمُورَ بَعْدَ فَسَادِهَا، وَمَاتَ فِي
سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقَامَ فِي الْوَزَارَةِ
بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْأَفْضَلُ هَذَا، فَكَانَ كَأَبِيهِ فِي الشَّهَامَةِ
وَالصَّرَامَةِ.
وَلَمَّا
مَاتَ الْمُسْتَنْصِرُ أَقَامَ الْمُسْتَعْلِي وَاسْتَمَرَّتِ الْأُمُورُ عَلَى
يَدَيْهِ، وَكَانَ عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ، مَوْصُوفًا بِجَوْدَةِ
السَّرِيرَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ضَرَبَهُ فِدَاوِيٌّ وَهُوَ رَاكِبٌ فَقَتَلَهُ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، عَنْ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ مِنْ ذَلِكَ
بَعْدَ أَبِيهِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَكَانَتْ دَارُهُ دَارَ الْوَكَالَةِ الْيَوْمَ بِمِصْرَ، وَقَدْ وُجِدَتْ لَهُ
أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا تَفُوقُ الْعَدَّ وَالْإِحْصَاءَ ; مِنَ الْقَنَاطِيرِ
الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ
وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ وَالنَّفَائِسِ، فَانْتَقَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَى
الْخَلِيفَةِ الْفَاطِمِيِّ، فَجُعِلَ فِي خِزَانَتِهِ، وَذَهَبَ جَامِعُهُ إِلَى
سَوَاءِ الْحِسَابِ عَلَى الْفَتِيلِ مِنْ ذَلِكَ وَالنَّقِيرِ وَالْقِطْمِيرِ.
وَاعْتَاضَ عَنْهُ الْخَلِيفَةُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَطَائِحِيِّ وَلُقِّبَ
الْمَأْمُونَ
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: تَرَكَ الْأَفْضَلُ مِنَ الذَّهَبِ الْعَيْنِ
سِتَّمِائَةِ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الدَّرَاهِمِ مِائَتَيْنِ
وَخَمْسِينَ إِرْدَبًّا، وَسَبْعِينَ أَلْفَ ثَوْبِ دِيبَاجٍ أَطْلَسَ،
وَثَلَاثِينَ رَاحِلَةَ أَحْقَاقِ ذَهَبٍ عِرَاقِيٍّ، وَدَوَاةَ ذَهَبٍ فِيهَا
جَوْهَرَةٌ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمِائَةَ مِسْمَارِ ذَهَبٍ ;
زِنَةُ كُلِّ مِسْمَارٍ مِائَةُ مِثْقَالٍ، فِي عَشَرَةِ مَجَالِسَ ; عَلَى كُلِّ
مِسْمَارٍ مَنْدِيلٌ مَشْدُودٌ بِذَهَبٍ، كُلُّ مِنْدِيلٍ عَلَى لَوْنٍ مِنَ
الْأَلْوَانِ مِنْ مَلَابِسِهِ، وَخَمْسَمِائَةِ صُنْدُوقِ كُسْوَةٍ لِلُبْسِ
بَدَنِهِ. قَالَ: وَخَلَّفَ مِنَ الرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ
وَالْمَرَاكِبِ وَالْمِسْكِ وَالطِّيبِ وَالْحُلِيِّ مَا لَا يَعْلَمُ قَدْرُهُ
إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَخَلَّفَ مِنَ الْبَقَرِ وَالْجَوَامِيسِ
وَالْغَنَمِ مَا يُسْتَحْيَى مِنْ ذِكْرِ عَدِّهِ، وَبَلَغَ ضَمَانُ أَلْبَانِهَا
فِي السَّنَةِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَتَرَكَ صُنْدُوقَيْنِ كَبِيرَيْنِ
فِيهِمَا إِبَرُ ذَهَبٍ بِرَسْمِ النِّسَاءِ.
عَبْدُ
الرَّزَّاقِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ الطُّوسِيُّ
ابْنُ أَخِي نِظَامِ الْمُلْكِ، تَفَقَّهَ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَأَفْتَى
وَدَرَّسَ وَنَاظَرَ، وَوَزَرَ لِلْمَلِكِ سَنْجَرَ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
خَاتُونُ السَّفَرِيَّةُ
حَظِيَّةُ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ وَهِيَ أَمُّ السُّلْطَانَيْنِ مُحَمَّدٍ
وَسَنْجَرَ، كَانَتْ كَثِيرَةَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، لَهَا
فِي كُلِّ سَنَةٍ سَبِيلٌ يَخْرُجُ مَعَ الْحُجَّاجِ، وَفِيهَا دِينٌ وَخَيْرٌ،
وَلَمْ تَزَلْ تَبْحَثُ حَتَّى عَرَفَتْ مَكَانَ أُمِّهَا وَأَهْلِهَا، فَبَعَثَتِ
الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةِ حَتَّى اسْتَحْضَرَتْهُمْ، وَلَمَّا قَدِمَتْ عَلَيْهَا
أُمُّهَا كَانَ لَهَا عَنْهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً لَمْ تَرَهَا، فَأَحَبَّتْ أَنْ
تَسْتَعْلِمَ فَهْمَهَا، فَجَلَسَتْ بَيْنَ جَوَارِيهَا، فَلَمَّا سَمِعَتْ
أُمُّهَا كَلَامَهَا عَرَفَتْهَا، فَقَامَتْ إِلَيْهَا فَاعْتَنَقَا وَبَكَيَا،
ثُمَّ أَسْلَمَتْ أُمُّهَا عَلَى يَدَيْهَا، جَزَاهَا اللَّهُ خَيْرًا وَأَحْسَنَ
إِلَيْهَا.
وَقَدْ تَفَرَّدَتْ بِوِلَادَةِ مَلِكَيْنِ فِي دَوْلَةِ الْأَتْرَاكِ
وَالْعَجَمِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهَا نَظِيرٌ إِلَّا الْيَسِيرُ ; مِنْ ذَلِكَ:
وَلَّادَةُ بِنْتُ الْعَبَّاسِ وَلَدَتْ لِعَبْدِ الْمَلِكِ الْوَلِيدَ
وَسُلَيْمَانَ وَشَاهْفِرِنْدُ، وَلَدَتْ لِلْوَلِيدِ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمَ
وَلِيَا الْخِلَافَةَ أَيْضًا، وَالْخَيْزُرَانُ وَلَدَتْ لِلْمَهْدِيِّ
الْهَادِيَ وَالرَّشِيدَ.
الطُّغْرَائِيُّ
نَاظِمُ " لَامِيَّةِ الْعَجَمِ " الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
الصَّمَدِ
مُؤَيَّدُ
الدِّينِ الْأَصْبَهَانِيُّ الْعَمِيدُ فَخْرُ الْكُتَّابِ الْمُنْشِئُ الشَّاعِرُ
الْمَعْرُوفُ بِالطُّغْرَائِيِّ، وَقَدْ وَلِيَ الْوَزَارَةَ بِإِرْبِلَ مُدَّةً،
أَوْرَدَ لَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ قَصِيدَتَهُ اللَّامِيَّةَ الَّتِي
أَلَّفَهَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فِي بَغْدَادَ، يَشْرَحُ فِيهَا
أَحْوَالَهُ وَأُمُورَهُ، وَتُعْرَفُ بِلَامِيَّةِ الْعَجَمِ أَوَّلُهَا:
أَصَالَةُ الرَّأْيِ صَانَتْنِي عَنِ الْخَطَلِ وَحِلْيَةُ الْفَضْلِ زَانَتْنِي
لَدَى الْعَطَلِ مَجْدِي أَخِيرًا وَمَجْدِي أَوَّلًا شَرَعٌ
وَالشَّمْسُ رَأْدَ الضُّحَى كَالشَّمْسِ فِي الطَّفَلِ فِيمَ الْإِقَامَةُ
بِالزَّوْرَاءِ لَا سَكَنِي
بِهَا وَلَا نَاقَتِي فِيهَا وَلَا جَمَلِي
وَقَدْ سَرَدَهَا الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ بِكَمَالِهَا وَأَوْرَدَ لَهُ غَيْرَ
ذَلِكَ مِنَ الشِّعْرِ أَيْضًا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا رَجَعَ السُّلْطَانُ طُغْرُلُ إِلَى طَاعَةِ أَخِيهِ
مَحْمُودٍ، بَعْدَمَا كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْهَا، وَأَخَذَ بِلَادَ
أَذْرَبِيجَانَ.
وَفِيهَا أَقْطَعَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ مَدِينَةَ وَاسِطٍ لِآقْ سُنْقُرَ
مُضَافًا إِلَى الْمَوْصِلِ فَسَيَّرَ إِلَيْهَا عِمَادَ الدِّينِ زَنْكِي بْنَ
آقْ سُنْقُرَ فَوَلِيهَا وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ بِهَا، وَأَبَانَ عَنْ حَزْمٍ
وَكِفَايَةٍ.
وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا قُتِلَ وَزِيرُ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ أَبُو طَالِبٍ
السُّمَيْرَمِيُّ، قَتَلَهُ بَاطِنِيٌّ، وَكَانَ قَدْ بَرَزَ لِلْمَسِيرِ إِلَى
هَمَذَانَ، وَكَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ زَوْجَتُهُ فِي مِائَةِ جَارِيَةٍ بِمَرَاكِبِ
الذَّهَبِ، فَلَمَّا بَلَغَهُنَّ قَتْلُهُ رَجَعْنَ حَافِيَاتٍ حَاسِرَاتٍ قَدْ
هُنَّ بَعْدَ الْعِزِّ. وَاسْتَوْزَرَ السُّلْطَانُ بَعْدَهُ شَمْسَ الْمُلْكِ
عُثْمَانَ بْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ
وَفِيهَا اتَّقَعَ آقْ سُنْقُرُ الْبُرْسُقِيُّ وَدُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ فَهَزَمَهُ
دُبَيْسٌ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ جَيْشِهِ، فَاسْتَوْثَقَ السُّلْطَانُ مَنْصُورُ
بْنُ صَدَقَةَ أَخَا دُبَيْسٍ وَوَلَدَهُ، وَرَفَعَهُمَا إِلَى قَلْعَةٍ، فَعِنْدَ
ذَلِكَ آذَى دُبَيْسٌ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَنَهَبَ الْبِلَادَ، وَجَزَّ شَعْرَهُ
وَلَبِسَ السَّوَادَ، وَنَهَبَ أَمْوَالَ الْخَلِيفَةِ أَيْضًا مِنَ الْبِلَادِ،
فَنُودِيَ فِي بَغْدَادَ لِلْخُرُوجِ لِقِتَالِهِ،
وَبَرَزَ
الْخَلِيفَةُ فِي الْجَيْشِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ أَسْوَدُ وَطَرْحَةٌ، وَعَلَى
كَتِفَيْهِ الْبُرْدَةُ، وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، وَفِي وَسَطِهِ مِنْطَقَةُ
حَرِيرٍ صِينِيٍّ، وَمَعَهُ وَزِيرُهُ نِظَامُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ نِظَامِ
الْمُلْكِ وَنَقِيبُ النُّقَبَاءِ عَلِيُّ بْنُ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيُّ وَشَيْخُ
الشُّيُوخِ صَدْرُ الدِّينِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَتَلَقَّاهُ آقْ سُنْقُرُ
الْبُرْسُقِيُّ وَمَعَهُ الْجَيْشُ، فَقَبَّلُوا الْأَرْضَ وَرَتَّبَ
الْبُرْسُقِيُّ الْجَيْشَ، وَوَقَفَ الْقُرَّاءُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ،
وَأَقْبَلَ دُبَيْسٌ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْإِمَاءُ يَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ،
وَالْمَخَانِيثُ بِالْمَلَاهِي، وَالْتَقَى الْفَرِيقَانِ، وَقَدْ شَهَرَ
الْخَلِيفَةُ سَيْفَهُ، وَكَبَّرَ وَاقْتَرَبَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ، فَحَمَلَ
عَنْبَرُ بْنُ أَبِي الْعَسْكَرِ عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَلِيفَةِ فَكَسَرَهَا،
وَقَتَلَ أَمِيرًا، ثُمَّ حَمَلَ مَرَّةً ثَانِيَةً فَكَشَفَهُمْ كَالْأُولَى
فَحَمَلَ عَلَيْهِ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بْنُ آقْ سُنْقُرَ، فَأَسَرَ عَنْبَرَ
وَأَسَرَ مَعَهُ بُدَيْلَ بْنَ زَائِدَةَ فَانْهَزَمَ عَسْكَرُ دُبَيْسٍ،
وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ، فَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَأَمَرَ
الْخَلِيفَةُ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ الْأَسَارَى صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَحُصِّلَتْ نِسَاءُ دُبَيْسٍ وَسَرَارِيُّهُ فِي السَّبْيِ، وَعَادَ الْخَلِيفَةُ
إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَمَّا
دُبَيْسٌ فَإِنَّهُ نَجَا بِنَفْسِهِ وَقَصَدَ غُزَيَّةَ فَصَحِبَهُمْ إِلَى
الْبَصْرَةِ فَدَخَلَهَا وَنَهَبَهَا وَقَتَلَ أَمِيرَهَا، ثُمَّ خَافَ مِنَ
الْبُرْسُقِيِّ فَخَرَجَ عَنْهَا، وَسَارَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ وَالْتَحَقَ
بِالْفِرِنْجِ وَحَضَرَ مَعَهُمْ حِصَارَ، حَلَبَ، ثُمَّ فَارَقَهُمْ وَالْتَحَقَ
بِالْمَلِكِ طُغْرُلَ أَخِي السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ.
وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ حُسَامُ الدِّينِ تَمُرْتَاشُ بْنُ إِيلْغَازِي بْنِ
أُرْتُقَ قَلْعَةَ
مَارِدِينَ
بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، وَمَلَكَ أَخُوهُ سُلَيْمَانُ مَيَّافَارِقِينَ. وَفِيهَا
ظَهَرَ مَعْدِنُ نُحَاسٍ بِدِيَارِ بَكْرٍ قَرِيبًا مِنْ قَلْعَةِ ذِي
الْقَرْنَيْنِ. وَفِيهَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْوُعَّاظِ بَغْدَادَ فَوَعَظُوا
بِهَا، وَحَصَلَ لَهُمْ قَبُولٌ تَامٌّ مِنَ الْعَوَامِّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَظَرٌ الْخَادِمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي الْأَشْعَثِ أَبُو مُحَمَّدٍ
السَّمَرْقَنْدِيُّ أَخُو أَبِي الْقَاسِمِ، وَكَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ هَذَا أَحَدَ
حُفَّاظِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَا لَيْسَ عِنْدَ أَبِي
زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، صَحِبَ الْخَطِيبَ مُدَّةً، وَجَمَعَ وَأَلَفَّ وَصَنَّفَ
وَرَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي
عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو طَالِبٍ السُّمَيْرَمِيُّ،
نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ بِأَصْبَهَانَ، كَانَ وَزِيرَ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ،
وَكَانَ مُجَاهِرًا بِالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ، وَأَحْدَثَ عَلَى النَّاسِ مُكُوسًا
وَجَدَّدَهَا بَعْدَمَا كَانَتْ قَدْ أُزِيلَتْ، مِنْ مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ،
وَكَانَ يَقُولُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ كَثْرَةِ الظُّلْمِ لِمَنْ لَا نَاصِرَ
لَهُ، وَكَثْرَةِ مَا أَحْدَثْتُ مِنَ السُّنَنِ السَّيِّئَةِ.
وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى هَمَذَانَ أَحْضَرَ الْمُنَجِّمِينَ،
فَضَرَبُوا لَهُ تَحْتَ رَمْلٍ لِسَاعَةِ
خُرُوجِهِ؛
لِيَكُونَ أَسْرَعَ لِعَوْدِهِ، فَخَرَجَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ
السُّيُوفُ الْمَسْلُولَةُ، وَالْمَمَالِيكُ بِالْعُدَدِ الْبَاهِرَةِ، وَمَعَ
هَذَا جَاءَهُ بَاطِنِيٌّ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ
بَعْدَمَا ضَرَبَهُ غَيْرَ مَا مَرَّةً فِي مَقَاتِلِهِ ثُمَّ ذَبَحَهُ كَمَا
تُذْبَحُ الشَّاةُ، وَالْمَمَالِيكُ يَضْرِبُونَ بِالسُّيُوفِ وَالنِّبَالِ فِي
ظَهْرِهِ وَلَا يُبَالِي بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ; حَتَّى قَتَلَهُ ثُمَّ مَاتَ
بَعْدَهُ، وَرَجَعَ نِسَاؤُهُ حَاسِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ ; قَدْ أَبْدَلَهُنَّ
اللَّهُ الذِّلَّةَ بَعْدَ الْعِزَّةِ، وَالْخَوْفَ بَعْدَ الْأَمْنِ، وَكَانَ
ذَلِكَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ سَلْخَ صَفَرٍ، وَمَا أَشْبَهَ حَالَهُنَّ بِقَوْلِ
أَبِي الْعَتَاهِيَةِ فِي الْخَيْزُرَانِ وَجَوَارِيهَا حِينَ مَاتَ الْمَهْدِيُّ:
رُحْنَ فِي الْوَشْيِ وَأَصْبَحْنَ عَلَيْهِنَّ الْمُسُوحُ كُلُّ نَطَّاحٍ مِنَ
النَّاسِ لَهُ يَوْمٌ نَطُوحُ لَتُمُوتَنَّ وَلَوْ عُمِّرْتَ مَا عُمِّرَ نُوحُ
فَعَلَى نَفْسِكَ نُحْ إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ تَنُوحُ
الْحَرِيرِيُّ صَاحِبُ الْمَقَامَاتِ
الْقَاسِمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَبُو
مُحَمَّدٍ الْحَرِيرِيُّ الْبَصْرِيُّ، مُؤَلِّفُ الْمَقَامَاتِ الَّتِي سَارَتْ
بِفَصَاحَتِهَا الرُّكْبَانُ، وَكَادَ يُرْبِي فِيهَا عَلَى سَحْبَانَ، وُلِدَ
سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ
بِاللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَفَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ،
وَبَرَزَ عَلَى أَقْرَانِهِ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ وَعَمِلَ صِنَاعَةَ الْإِنْشَاءِ
مَعَ الْكُتَّبِ فِي بَابِ الْخَلِيفَةِ،
وَلَمْ
يَكُنْ مِمَّنْ تُنْكَرُ بَدِيهَتُهُ وَلَا تَتَعَكَّرُ فِكْرَتُهُ وَقَرِيحَتُهُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَحَدَّثَ وَقَرَأَ الْأَدَبَ
وَاللُّغَةَ، وَفَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ بِالذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ
وَالْفَصَاحَةِ، وَحُسْنِ الْعِبَارَةِ، وَصَنَّفَ الْمَقَامَاتِ الْمَعْرُوفَةَ،
مَنْ تَأَمَّلَهَا عَرَفَ قَدْرَ مُنْشِئِهَا، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بِالْبَصْرَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَبَا زَيْدٍ وَالْحَارِثَ بْنَ هَمَّامٍ لَا وُجُودَ
لَهُمَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ مِنْ بَابِ الْأَمْثَالِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَبُو زَيْدٍ الْمُطَهَّرُ بْنُ سَلَّارَ السَّرُوجِيُّ
كَانَ لَهُ وُجُودٌ، وَكَانَ فَاضِلًا، وَلَهُ عِلْمٌ وَمَعْرِفَةٌ بِاللُّغَةِ،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّ أَبَا زَيْدٍ كَانَ اسْمُهُ
الْمُطَهَّرُ بْنُ سَلَّارَ، وَكَانَ بَصْرِيًّا فَاضِلًا فِي النَّحْوِ
وَاللُّغَةِ، وَكَانَ يَشْتَغِلُ عَلَى الْحَرِيرِيِّ بِالْبَصْرَةِ، وَأَمَّا
الْحَارِثُ بْنُ هَمَّامٍ فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ نَفْسَهُ ; لِمَا جَاءَ فِي
الْحَدِيثِ " كُلُّكُمْ حَارِثٌ، وَكُلُّكُمْ هَمَّامٌ " كَذَا قَالَ
الْقَاضِي. وَإِنَّمَا اللَّفْظُ الْمَحْفُوظُ: " أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ
حَارِثٌ وَهَمَّامٌ " ; لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إِمَّا حَارِثٌ وَهُوَ
الْفَاعِلُ أَوْ هَمَّامٌ مِنَ الْهِمَّةِ وَهُوَ الْعَزْمُ وَالْخِطْرَةُ،
وَذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَقَامَةٍ عَمِلَهَا الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ،
وَهِيَ الْحَرَامِيَّةُ، وَكَانَ سَبَبَهَا أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فِي
مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ رَجُلٌ ذُو طِمْرَيْنِ فَصِيحُ اللِّسَانِ، فَاسْتَسْمَوْهُ،
فَقَالَ أَبُو زَيْدٍ السَّرُوجِيُّ: فَعَمِلَ فِيهِ هَذِهِ الْمَقَامَةَ،
فَأَشَارَ عَلَيْهِ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ، وَهُوَ جَلَالُ
الدِّينِ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْعِزِّ
عَلِيِّ بْنِ صَدَقَةَ، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَذَا رَأَيْتُهُ فِي نُسْخَةٍ
بِخَطِّ الْمُصَنِّفِ
عَلَى
حَاشِيَتِهَا، وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّنْ قَالَ: هُوَ الْوَزِيرُ شَرَفُ الدِّينِ
أَبُو نَصْرٍ أَنُوشُرْوَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاشَانِيُّ، وَهُوَ
وَزِيرُ الْمُسْتَرْشِدِ أَيْضًا، وَيُقَالُ: إِنَّ الْحَرِيرِيَّ كَانَ قَدْ
عَمِلَهَا أَرْبَعِينَ مَقَامَةً، فَلَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ وَلَمْ يُصَدَّقْ فِي
ذَلِكَ، وَامْتَحَنَهُ بَعْضُ الْوُزَرَاءِ فَجَلَسَ نَاحِيَةً وَأَخَذَ دَوَاةً
وَقِرْطَاسًا فَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ، حَتَّى عَادَ إِلَى بَلَدِهِ فَعَمِلَ
عَشَرَةً أُخْرَى، فَأَتَمَّهَا خَمْسِينَ مَقَامَةً، وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو
الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَفْلَحَ الشَّاعِرُ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ
الْمُكَذِّبِينَ لَهُ فِيهَا:
شَيْخٌ لَنَا مِنْ رَبِيعَةِ الْفَرَسْ يَنْتِفُ عُثْنُونَهُ مِنَ الْهَوَسْ
أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِالْمَشَانِ كَمَا رَمَاهُ وَسْطَ الدِّيوَانِ بِالْخَرَسْ
وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِالْمَشَانِ: هُوَ مَكَانٌ بِالْبَصْرَةِ، وَيُذْكَرُ أَنَّهُ
كَانَ صَدْرَ دِيوَانِ الْمَشَانِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ ذَمِيمَ الْخَلْقِ،
فَاتَّفَقَ أَنَّ رَجُلًا رَحَلَ إِلَيْهِ فَلَمَّا رَآهُ ازْدَرَاهُ فَفَهِمَ
الْحَرِيرِيُّ ذَلِكَ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مَا أَنْتَ أَوَّلُ سَارٍ غَرَّهُ قَمَرٌ وَرَائِدٍ أَعْجَبَتْهُ خُضْرَةُ
الدِّمَنِ
فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ غَيْرِي إِنَّنِي رَجُلٌ مِثْلَ الْمُعَيْدِيِّ فَاسْمَعْ
بِي وَلَا تَرَنِي
وَيُقَالُ: إِنَّ الْمُعَيْدِيَّ اسْمُ حِصَانٍ جَوَادٍ كَانَ فِي الْعَرَبِ
دَمِيمِ الْخِلْقَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْبَغَوِيُّ
الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، صَاحِبُ " التَّفْسِيرِ " وَ "
شَرْحِ السُّنَّةِ " وَ " التَّهْذِيبِ " فِي الْفِقْهِ، وَ "
الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ " وَ " الْمَصَابِيحِ " فِي
الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، اشْتَغَلَ عَلَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ،
وَبَرَعَ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ، وَكَانَ عَلَّامَةَ زَمَانِهِ فِيهَا، وَكَانَ
دَيِّنًا وَرِعًا زَاهِدًا عَابِدًا صَالِحًا، تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ عَشْرٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَدُفِنَ مَعَ
شَيْخِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ بِالطَّالَقَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ عَادَ الْخَلِيفَةُ مِنَ الْحِلَّةِ بَعْدَ أَنْ كَسَرَ
جَيْشَ دُبَيْسٍ وَمَزَّقَ شَمْلَهُ، وَقَطَعَ وَصْلَهُ فِي أَوَّلِ هَذَا
الشَّهْرِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ بَغْدَادَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، وَرَجَعَ
إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا.
وَفِيهَا عَزَمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى طُهُورِ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَخِيهِ،
وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ، فَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ بِزِينَةٍ
لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَأَظْهَرَ النَّاسُ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْمَصَاغِ
وَالثِّيَابِ مَا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا قَدِمَ أَسْعَدُ الْمِيهَنِيُّ، مُدَرِّسُ
النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ نَاظِرًا عَلَيْهَا، وَصُرِفَ الْبَاقَرْحِيُّ
عَنْهَا، فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفُقَهَاءِ بِسَبَبِ أَنَّهُ قَطَعَ
مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَاكْتَفَى بِثَمَانِينَ طَالِبًا مِنْهُمْ فَقَطْ، فَلَمْ
يَهُنْ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ.
وَفِيهَا سَارَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ إِلَى بِلَادِ الْكُرْجِ، وَقَدْ وَقَعَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُفْجَاقِ خُلْفٌ، فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ، ثُمَّ
عَادَ إِلَى هَمَذَانَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
وَفِيهَا مَلَكَ طُغَتِكِينُ صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ حَمَاةَ بَعْدَ وَفَاةِ
صَاحِبِهَا مَحْمُودِ بْنِ قَرَاجَا، وَقَدْ كَانَ ظَالِمًا غَاشِمًا.
وَفِيهَا عُزِلَ نَقِيبُ الْعَلَوِيِّينَ، وَهُدِمَتْ دَارُ عَلِيِّ بْنِ أَفْلَحَ
; لِأَنَّهُمَا كَانَا عَيْنًا لِدُبَيْسٍ، وَأُضِيفُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ طِرَادٍ
الزَّيْنَبِيِّ نِقَابَةُ الْعَلَوِيِّينَ مَعَ نِقَابَةِ الْعَبَّاسِيِّينَ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
يَحْيَى بْنِ صَدَقَةَ التَّغْلِبِيُّ.
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَيَّاطِ، الشَّاعِرُ الدِّمَشْقِيُّ الْكَاتِبُ
الْمَاهِرُ، لَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ مَشْهُورٍ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ:
خُتِمَ بِهِ دِيوَانُ الشُّعَرَاءِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ شَاعِرًا مَاهِرًا
مُحْسِنًا مُجِيدًا مُكْثِرًا، حُفَظَةً لِأَشْعَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ
وَأَخْبَارِهِمْ. وَأَوْرَدَ لَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ مِنْ شَعْرِهِ
الرَّائِعِ قِطَعًا ; مِنْ ذَلِكَ قَصِيدَتُهُ الَّتِي لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
سِوَاهَا لَكَفَتْهُ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا:
خُذَا مِنْ صَبَا نَجْدٍ أَمَانًا لِقَلْبِهِ فَقْدَ كَادَ رَيَّاهَا يَطِيرُ
بِلُبِّهِ وَإِيَّاكُمَا ذَاكَ النَّسِيمَ فَإِنَّهُ
مَتَى هَبَّ كَانَ الْوَجْدُ أَيْسَرَ خَطْبِهِ خَلِيلَيَّ لَوْ أَحْبَبْتُمَا
لَعَلِمْتُمَا
مَحَلَّ الْهَوَى مِنْ مُغْرَمِ الْقَلْبِ صَبِّهِ يُذَكَّرُ وَالذِّكْرَى تَشُوقُ
وَذُو الْهَوَى
يَتُوقُ وَمَنْ يَعْلَقْ بِهِ الْحُبُّ يُصْبِهِ غَرَامٌ عَلَى يَأْسِ الْهَوَى
وَرَجَائِهِ
وَشَوْقٌ عَلَى بُعْدِ الْمَزَارِ وَقُرْبِهِ وَفِي الرَّكْبِ مَطْوِيُّ
الضُّلُوعِ عَلَى جَوًى
مَتَى يَدْعُهُ دَاعِي الْغَرَامِ يُلَبِّهِ إِذَا خَطَرَتْ مِنْ جَانِبِ
الرَّمْلِ نَفْحَةٌ
تَضَمَّنَ مِنْهَا دَاؤُهُ دُونَ صَحْبِهِ وَمُحْتَجِبٍ بَيْنَ الْأَسِنَّةِ
مُعْرِضٍ
وَفِي الْقَلْبِ مِنْ إِعْرَاضِهِ مِثْلُ حُجْبِهِ أَغَارُ إِذَا آنَسْتُ فِي
الْحَيِّ أَنَّةً
حَذَارًا وَخَوْفًا أَنْ تَكُونَ لَحُبِّهِ
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
عَنْ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً بِدِمَشْقَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا ظَهَرَتِ الْبَاطِنِيَّةُ بِآمِدَ فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا، فَقَتَلُوا
مِنْهُمْ سَبْعَمِائَةٍ؛ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا رُدَّتِ الشِّحْنَكِيَّةُ بِبَغْدَادَ إِلَى سَعْدِ الدَّوْلَةِ
يَرَنْقُشَ الزَّكَوِيِّ، وَسُلِّمَ إِلَيْهِ مَنْصُورُ بْنُ صَدَقَةَ أَخُو
دُبَيْسٍ لِيُسَلِّمَهُ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، وَوَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ
دُبَيْسًا قَدِ الْتَجَأَ إِلَى طُغْرُلَ، وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَخْذِ
بَغْدَادَ، فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّأَهُّبِ لِقِتَالِهِمَا، وَأُمِرَ آقْ
سُنْقُرُ بِالْعَوْدِ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَاسْتَنَابَ عَلَى الْبَصْرَةِ عِمَادَ
الدِّينِ زَنْكِي بْنِ آقْ سُنْقُرَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ دَخَلَ الْمَلِكُ حُسَامُ الدِّينِ تَمُرْتَاشُ بْنُ
إِيلْغَازِي بْنِ أُرْتُقَ مَدِينَةَ حَلَبَ، وَقَدْ مَلَكَهَا بَعْدَ مَلِكِهَا
بَلَكَ بْنِ بَهْرَامَ بْنِ أُرْتُقَ، وَكَانَ قَدْ حَاصَرَ قَلْعَةَ مَنْبِجَ
فَجَاءَهُ سَهْمٌ فِي حَلْقِهِ فَمَاتَ، فَاسْتَنَابَ تَمُرْتَاشَ بِحَلَبَ، ثُمَّ
عَادَ إِلَى مَارِدِينَ فَأُخِذَتْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَخَذَهَا آقْ
سُنْقُرُ مُضَافَةً إِلَى الْمَوْصِلِ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْقَاضِي أَبَا سَعْدٍ الْهَرَوِيَّ ; لِيَخْطُبَ
لَهُ ابْنَةَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ، وَشَرَعَ الْخَلِيفَةُ فِي بِنَاءِ دَارٍ
عَلَى حَافَّةِ دِجْلَةَ؛ لِأَجْلِ الْعَرُوسِ، وَكَمَلَ بِنَاءُ الْمُثَمَّنَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَالُ
الدَّوْلَةِ إِقْبَالٌ الْمُسْتَرْشِدِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ بَرْهَانَ أَبُو الْفَتْحِ وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْحَمَّامِيِّ،
تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ، وَبَرَعَ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ، ثُمَّ نَقَمَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ أَشْيَاءَ، فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى
الِانْتِقَالِ إِلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَاشْتَغَلَ عَلَى الْغَزَّالِيِّ
وَالشَّاشِيِّ، وَبَرَعَ وَسَادَ وَشَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي الزَّيْنَبِيِّ،
وَدَرَّسَ فِي النِّظَامِيَّةِ شَهْرًا. تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى، وَدُفِنَ بِبَابِ
أَبْرَزَ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ أَبُو جَعْفَرٍ
الدَّامَغَانِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَشَهِدَ عِنْدَ أَبِيهِ، وَنَابَ فِي
الْكَرْخِ عَنْ أَخِيهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَوَلِيَ حِجَابَةَ بَابِ
النُّوبِيِّ، ثُمَّ عُزِلَ، ثُمَّ أُعِيدَ، وَكَانَ دَمِثَ الْأَخْلَاقِ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو الْفَضْلِ الْمَيْدَانِيُّ، صَاحِبُ كِتَابِ " الْأَمْثَالِ "
وَلَيْسَ لَهُ مِثْلُهُ فِي بَابِهِ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ. قَالَ ابْنُ
خَلِّكَانَ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا قَصَدَ دُبَيْسٌ وَالسُّلْطَانُ طُغْرُلُ بَغْدَادَ ; لِيَأْخُذَاهَا مِنْ
يَدِ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَا مِنْهَا بَرَزَ إِلَيْهِمَا الْخَلِيفَةُ
فِي جَحْفَلٍ عَظِيمٍ، وَالنَّاسُ مُشَاةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَلَيْهِ السَّوَادُ
وَالْبُرُدُ، وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، إِلَى أَوَّلِ مَنْزِلَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ
النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَمْسَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَقْتَتِلُونَ فِي
صَبِيحَتِهَا - وَمِنْ عَزْمِهِمْ أَنْ يَنْهَبُوا بَغْدَادَ - أَرْسَلَ اللَّهُ
مَطَرًا عَظِيمًا وَمَرِضَ السُّلْطَانُ طُغْرُلُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ،
فَتَفَرَّقَتْ تِلْكَ الْجُمُوعُ، وَرَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ خَائِبِينَ
خَائِفِينَ، وَالْتَجَأَ دُبَيْسٌ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - وَطُغْرُلُ إِلَى الْمَلِكِ
سَنْجَرَ وَسَأَلَاهُ الْأَمَانَ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ مَحْمُودٍ،
فَحَبَسَ دُبَيْسًا فِي قَلْعَتِهِ، وَوَشَى وَاشٍ إِلَى الْمَلِكِ سَنْجَرَ أَنَّ
الْخَلِيفَةَ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِالْمُلْكِ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ
الْآنَ لِقِتَالِ الْأَعْدَاءِ، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ سَنْجَرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ،
وَأَضْمَرَ سُوءًا مَعَ أَنَّهُ قَدْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ.
وَفِيهَا قُتِلَ الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ
الْهَرَوِيُّ بِهَمَذَانَ، قَتَلَتْهُ الْبَاطِنِيَّةُ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَهُ
الْخَلِيفَةُ إِلَى سَنْجَرَ يَخْطُبُ ابْنَتَهُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَظَرٌ
الْخَادِمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
آقْ
سُنْقُرُ الْبُرْسُقِيُّ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ قَتَلَتْهُ الْبَاطِنِيَّةُ فِي
مَقْصُورَةِ جَامِعِهَا فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَقَدْ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
تُرْكِيًّا جَيِّدَ السِّيرَةِ، صَحِيحَ السَّرِيرَةِ، مُحَافِظًا عَلَى
الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا، كَثِيرَ الْبِرِّ وَالصَّدَقَاتِ وَالْإِحْسَانِ
إِلَى الرَّعَايَا، وَلَمَّا تُوُفِّيَ قَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ
السُّلْطَانُ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودٌ وَأَقَرَّهُ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ عَلَى
عَمَلِهِ.
هِلَالُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ
، مُؤَذِّنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَحَلَ وَجَالَ
فِي الْبِلَادِ، وَكَانَ شَيْخًا جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ، حَسَنَ الْقِرَاءَةِ،
طَيِّبَ النَّغْمَةِ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِسَمَرْقَنْدَ؛ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
الْقَاضِي أَبُو سَعْدٍ الْهَرَوِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ أَبُو سَعِيدٍ الْهَرَوِيُّ، أَحَدُ
مَشَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ وَالسَّادَةِ الْكُبَرَاءِ، قَتَلَتْهُ الْبَاطِنِيَّةُ
بِهَمَذَانَ ; حِينَ ذَهَبَ فِي الرُّسُلِيَّةِ عَنِ الْخَلِيفَةِ إِلَى
السُّلْطَانِ سَنْجَرَ فِي خِطْبَةِ ابْنَتِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سَنَةُ
عِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ،
فِيهَا تَرَاسَلَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ وَالْخَلِيفَةُ عَلَى السُّلْطَانِ
سَنْجَرَ وَأَنْ يَكُونَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ سَنْجَرُ كَتَبَ
إِلَى ابْنِ أَخِيهِ مَحْمُودٍ يَنْهَاهُ وَيَسْتَمِيلُهُ إِلَيْهِ، وَيُحَذِّرُهُ
مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَأَنَّهُ مَتَى مَا فَرَغَا مِنْهُ تَفَرَّغَ لَهُ وَرَتَّبَ
عَلَيْهِ، فَأَصْغَى إِلَى قَوْلِ عَمِّهِ، وَرَجَعَ عَنْ عَزْمِهِ، وَأَقْبَلَ
يَقْصِدُ بَغْدَادَ لِيَدْخُلَهَا عَامَهُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ
يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ لِقِلَّةِ الْأَقْوَاتِ بِهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ
وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَزِفَ قُدُومُهُ، خَرَجَ الْخَلِيفَةُ مِنْ
دَارِهِ وَتَحَيَّزَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ
وَعَلَى النَّاسِ، وَدَخَلَ عِيدُ الْأَضْحَى فَخَطَبَ الْخَلِيفَةُ النَّاسَ
بِنَفْسِهِ خُطْبَةً عَظِيمَةً بَلِيغَةً فَصِيحَةً جِدًّا، وَكَبَّرَ وَرَاءَهُ
خُطَبَاءُ الْجَوَامِعِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَقَدْ سَرَدَهَا ابْنُ
الْجَوْزِيِّ بِطُولِهَا، وَرَوَاهَا عَنْ مَنْ حَضَرَهَا مِنَ الْخَلِيفَةِ مَعَ
قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي الْقَاسِمِ الزَّيْنَبِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُدُولِ،
وَلَمَّا أَرَادَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَنْزِلَ عَنِ الْمِنْبَرِ ابْتَدَرَهُ أَبُو
الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْهَاشِمِيُّ
فَأَنْشَدَهُ:
عَلَيْكَ
سَلَامُ اللَّهِ يَا خَيْرَ مَنْ عَلَا عَلَى مِنْبَرٍ قَدْ حَفَّ أَعْلَامَهُ
النَّصْرُ وَأَفْضَلَ مَنْ أَمَّ الْأَنَامَ وَعَمَّهُمْ
بِسِيرَتَهِ الْحُسْنَى وَكَانَ لَهُ الْأَمْرُ لَقَدْ شَنَّفَتْ أَسْمَاعَنَا
مِنْكَ خُطْبَةٌ
وَمَوْعِظَةٌ فَصْلٌ يَلِينُ لَهَا الصَّخْرُ مَلَأْتَ بِهَا كُلَّ الْقُلُوبِ
مَهَابَةً
فَقَدْ رَجَفَتْ مِنْ خَوْفِ تَخْوِيفِهَا مِصْرُ سَمَا لَفْظُهَا فَضْلًا عَلَى
كُلِّ قَائِلٍ
وَجَلَّ عُلَاهَا أَنْ يُلِمَّ بِهَا حَصْرُ أَشَدْتَ بِهَا سَامِيَ الْمَنَابِرِ
رِفْعَةً
تَقَاصَرَ عَنْ إِدْرَاكِهَا الْأَنْجُمُ الزُّهْرُ وَزِدْتَ بِهَا عَدْنَانَ
مَجْدًا مُؤَثَّلًا
فَأَضْحَى لَهَا بَيْنَ الْأَنَامِ بِكَ الْفَخْرُ فَلِلَّهِ عَصْرٌ أَنْتَ فِيهِ
إِمَامُهُ
وَلِلَّهِ دِينٌ أَنْتَ فِيهِ لَنَا الصَّدْرُ بَقِيتَ عَلَى الْأَيْامِ
وَالْمُلْكِ كُلَّمَا
تَقَادَمَ عَصْرٌ أَنْتَ فِيهِ أَتَى عَصْرُ وَأَصْبَحْتَ بِالْعِيدِ السَّعِيدِ
مُهَنَّأً
يُشَرِّفُنَا فِيهِ صَلَاتُكَ وَالنَّحْرُ
وَلَمَّا نَزَلَ الْخَلِيفَةُ عَنِ الْمِنْبَرِ ذَبَحَ الْبَدَنَةَ بِيَدِهِ،
وَدَخَلَ السُّرَادِقَ، وَتَبَاكَى النَّاسُ وَدَعَوْا لِلْخَلِيفَةِ
بِالتَّوْفِيقِ وَالنَّصْرِ، ثُمَّ دَخَلَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ إِلَى بَغْدَادَ
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَنَزَلُوا فِي
بُيُوتِ النَّاسِ، وَحَصَلَ لِلنَّاسِ أَذًى كَثِيرٌ فِي حَرِيمِهِمْ، فَرَاسَلَ
الْخَلِيفَةَ فِي الصُّلْحِ، فَأَبَى ذَلِكَ الْخَلِيفَةُ، وَرَكِبَ فِي جَيْشِهِ
وَقَاتَلَ الْأَتْرَاكَ وَمَعَهُ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ ; وَلَكِنَّ
الْعَامَّةَ كُلَّهُمْ مَعَهُ، فَقَتَلَ مِنَ الْأَتْرَاكِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ
جَاءَ عِمَادُ الدِّينِ زِنْكِي فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ مِنْ وَاسِطٍ فِي السُّفُنِ
إِلَى السُّلْطَانِ، نَجْدَةً فَلَمَّا اسْتَشْعَرَ الْخَلِيفَةُ ذَلِكَ دَعَا
إِلَى الصُّلْحِ، فَوَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَ
السُّلْطَانِ
وَالْخَلِيفَةِ، وَأَخَذَ الْمَلِكُ يَسْتَبْشِرُ بِذَلِكَ جِدًّا، وَيَعْتَذِرُ
إِلَى الْخَلِيفَةِ مِمَّا وَقَعَ، ثُمَّ خَرَجَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الْآتِيَةِ
إِلَى هَمَذَانَ لِمَرَضٍ حَصَلَ لَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ أَوَّلُ مَجْلِسٍ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ عَلَى الْمِنْبَرِ يَعِظُ النَّاسَ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ سَنَةً، وَحَضَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ يَعْلَى
الْعَلَوِيُّ الْبَلْخِيُّ، وَكَانَ سُنِّيًّا عَلَّمَهُ كَلِمَاتٍ، ثُمَّ
أَصْعَدُهُ الْمِنْبَرَ فَقَالَهَا، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: وَحُزِرَ الْجَمْعُ يَوْمَئِذٍ بِخَمْسِينَ أَلْفًا.
وَفِيهَا اقْتَتَلَ طُغْتِكِينُ صَاحِبُ دِمَشْقَ وَأَعْدَاؤُهُ مِنَ الْفِرِنْجِ
فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو الْفَتْحِ الطُّوسِيُّ
الْغَزَّالِيُّ أَخُو أَبِي حَامِدٍ الْغَزَّالِيِّ، كَانَ وَاعِظًا مُفَوَّهًا
ذَا حَظٍّ مِنَ الْكَلَامِ وَالزُّهْدِ وَحُسْنِ التَّأَتِّي، وَلَهُ نُكَتٌ
جَيِّدَةٌ، وَوَعَظَ مَرَّةً فِي دَارِ الْمَلِكِ مَحْمُودٍ، فَأَطْلَقَ لَهُ
أَلْفَ دِينَارٍ، وَخَرَجَ فَإِذَا عَلَى الْبَابِ فَرَسُ الْوَزِيرِ بِسَرْجِهَا
الذَّهَبِ وَسَلَاسِلِهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ فَرَكِبَهَا، فَبَلَغَ
ذَلِكَ الْوَزِيرُ فَقَالَ: دَعُوهُ وَلَا يُرَدُّ عَلَيَّ الْفَرَسُ، وَسَمِعَ
مَرَّةً نَاعُورَةً تَئِنُّ، فَأَلْقَى عَلَيْهَا رِدَاءَهُ فَتَمَزَّقَ قِطَعًا،
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ كَانَتْ لَهُ نُكَتٌ ; إِلَّا أَنَّ الْغَالِبَ
عَلَى كَلَامِهِ التَّخْلِيطُ، وَرِوَايَةُ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ
الْمَصْنُوعَةِ
وَالْحِكَايَاتِ الْفَارِغَةِ وَالْمَعَانِي الْفَاسِدَةِ، ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ أَشْيَاءَ مُنْكَرَةً مِنْ كَلَامِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ ; مِنْ
ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَقَظَةِ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ
فَدَلَّهُ عَلَى الصَّوَابِ، قَالَ: وَكَانَ يَتَعَصَّبُ لِإِبْلِيسَ وَيَعْذُرُ
لَهُ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ كَثِيرٍ، قَالَ:
وَنُسِبَ إِلَى مَحَبَّةِ الْمُرْدَانِ، وَالْقَوْلِ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ كَانَ وَاعِظًا مَلِيحَ الْوَعْظِ، حَسَنَ الْمَنْظَرِ،
صَاحِبَ كَرَامَاتٍ وَإِشَارَاتٍ، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ غَيْرَ أَنَّهُ مَالَ
إِلَى الْوَعْظِ فَغَلَبَ عَلَيْهِ، وَدَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ نِيَابَةً عَنْ
أَخِيهِ لَمَّا تَزَهَّدَ وَتَرَكَهَا، وَاخْتَصَرَ إِحْيَاءَ عُلُومِ الدِّينِ فِي
مُجَلَّدٍ سَمَّاهُ: " لُبَابَ الْإِحْيَاءِ " وَلَهُ "
الذَّخِيرَةُ فِي عِلْمِ الْبَصِيرَةِ " وَطَافَ الْبِلَادَ وَخَدَمَ
الصُّوفِيَّةِ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ مَائِلًا إِلَى الِانْقِطَاعِ وَالْعُزْلَةِ.
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْوَكِيلُ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بَرْهَانَ أَبُو الْفَتْحِ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ
تَفَقَّهَ عَلَى الْغَزَّالِيِّ وَإِلْكِيَا، وَأَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيِّ، وَكَانَ
بَارِعًا فِي الْأُصُولِ، لَهُ كِتَابُ " الْوَجِيزِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ
" وَكَانَتْ لَهُ فُنُونٌ جَيِّدَةٌ يُتْقِنُهَا جَيِّدًا، وَوَلِيَ
تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ دُونَ شَهْرٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
بَهْرَامُ بْنُ بَهْرَامَ
أَبُو شُجَاعٍ الْبَيِّعُ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَبَنَى مَدْرَسَةً لِأَصْحَابِ
أَحْمَدَ بِكَلْوَاذَى، وَوَقَفَ قِطْعَةً مِنْ أَمْلَاكِهِ عَلَى الْفُقَهَاءِ.
صَاعِدُ
بْنُ سَيَّارِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو الْعَلَاءِ الْإِسْحَاقِيُّ الْهَرَوِيُّ الْحَافِظُ، أَحَدُ
الْمُتْقِنِينَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَتُوُفِّيَ بِغَوْرَجَ؛ قَرْيَةٍ عَلَى بَابِ
هَرَاةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ مَحْمُودٌ
يَتَحَارَبَانِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي السُّرَادِقِ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ،
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ الْمُحَرَّمِ تَوَصَّلَ جَمَاعَةٌ
مِنْ جُنْدِ السُّلْطَانِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَحَصَلَ فِيهَا أَلْفُ
مُقَاتِلٍ عَلَيْهِمُ السِّلَاحُ فَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَخَرَجَ الْجَوَارِي
وَهُنَّ حَاسِرَاتٌ يَسْتَغِثْنَ حَتَّى دَخَلْنَ دَارَ الْخَاتُونِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَأَنَا رَأَيْتُهُنَّ كَذَلِكَ، فَلَمَّا وَقَعَ
ذَلِكَ رَكِبَ الْخَلِيفَةُ فِي جَيْشِهِ وَجِيءَ بِالسُّفُنِ فَرَكِبَ فِيهَا
الْجَيْشُ، وَانْقَلَبَتْ بَغْدَادُ بِالصُّرَاخِ حَتَّى كَأَنَّ الدُّنْيَا قَدْ
زُلْزِلَتْ، وَثَارَتِ الْعَامَّةُ مَعَ جَيْشِ الْخَلِيفَةِ فَكَسَرُوا جَيْشَ
السُّلْطَانِ، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَأَسَرُوا آخَرِينَ
وَنَهَبُوا دَارَ السُّلْطَانِ، وَدَارَ وَزِيرِهِ وَدَارَ طَبِيبِهِ أَبِي
الْبَرَكَاتِ، وَأَخَذُوا مَا كَانَ فِي دَارِهِ مِنَ الْوَدَائِعِ، وَمَرَّتْ
خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُمْ نَهَبُوا الصُّوفِيَّةَ بِرِبَاطِ
بِهْرُوزَ.
وَجَرَتْ أُمُورٌ طَوِيلَةٌ وَخُطُوبٌ جَلِيلَةٌ، وَنَالَتِ الْعَامَّةُ مِنَ
السُّلْطَانِ، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ لَهُ: يَا بَاطِنِيُّ تَتْرُكُ قِتَالَ
الْفِرِنْجِ وَالرُّومِ وَتُقَاتِلُ الْخَلِيفَةَ ؟ ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ
انْتَقَلَ إِلَى دَارِهِ فِي سَابِعِ الْمُحَرَّمِ، فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ
عَاشُورَاءَ تَمَاثَلَ الْحَالُ وَطَلَبَ السُّلْطَانُ مِنَ الْخَلِيفَةِ
الْأَمَانَ وَالصُّلْحَ، فَلَانَ الْخَلِيفَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَتَبَاشَرَ النَّاسُ
بِالصُّلْحِ
فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ نَقِيبَ النُّقَبَاءِ وَقَاضِيَ الْقُضَاةِ وَشَيْخَ
الشُّيُوخِ وَبِضْعَةً وَثَلَاثِينَ شَاهِدًا، فَاحْتَبَسَهُمُ السُّلْطَانُ
عِنْدَهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ، فَسَاءَ ذَلِكَ النَّاسَ وَخَافُوا مِنْ فِتْنَةٍ
أُخْرَى أَشَدَّ مِنَ الْأُولَى، وَكَانَ يَرَنُقْشُ الزَّكَوِيُّ شِحْنَةُ
بَغْدَادَ يُغْرِي السُّلْطَانَ بِأَهْلِ بَغْدَادَ لِيَنْهَبَ أَمْوَالَهُمْ،
فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، ثُمَّ أَذِنَ لِأُولَئِكَ الْجَمَاعَةِ فَدَخَلُوا
عَلَيْهِ وَقْتَ الْمَغْرِبِ، فَصَلَّى بِهِمُ الْقَاضِي وَقَرَءُوا عَلَيْهِ
كِتَابَ الْخَلِيفَةِ، فَقَامَ قَائِمًا، فَأَجَابَ الْخَلِيفَةَ إِلَى جَمِيعِ
مَا اقْتَرَحَ عَلَيْهِ، وَوَقَعَ الصُّلْحُ وَالتَّحْلِيفُ، وَدَخَلَ جَيْشُ
السُّلْطَانِ إِلَى بَغْدَادَ وَهُمْ فِي غَايَةِ الْجَهْدِ مِنْ قِلَّةِ
الطَّعَامِ عِنْدَهُمْ فِي الْعَسْكَرِ، وَقَالُوا: لَوْ لَمْ يُصَالِحْ لَمِتْنَا
جُوعًا، وَظَهَرَ مِنَ السُّلْطَانِ حِلْمٌ كَثِيرٌ عَنِ الْعَوَامِّ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِرَدِّ مَا نُهِبَ مِنْ دُورِ الْجُنْدِ، وَأَنَّ مَنْ
كَتَمَ شَيْئًا أُبِيحَ دَمُهُ، وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ عَلِيَّ بْنَ طِرَادٍ
الزَّيْنَبِيَّ النَّقِيبَ إِلَى السُّلْطَانِ سَنْجَرَ ; لِيُبْعِدَ عَنْ بَابِهِ
دُبَيْسًا، وَأَرْسَلَ مَعَهُ الْخِلَعَ وَالْأَلْوِيَةَ، فَأَكْرَمَ السُّلْطَانُ
الرَّسُولَ، وَأَذِنَ بِضَرْبِ الطُّبُولِ عَلَى بَابِهِ فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ،
وَظَهَرَ مِنْهُ طَاعَةٌ كَبِيرَةٌ.
ثُمَّ مَرِضَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ بِبَغْدَادَ فَأَمَرَهُ الطَّبِيبُ
بِالِانْتِقَالِ عَنْهَا إِلَى هَمَذَانَ، فَسَارَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ وَفَوَّضَ
شِحْنَكِيَّةِ بَغْدَادَ إِلَى عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي، فَلَمَّا وَصَلَ
السُّلْطَانُ إِلَى هَمَذَانَ بَعَثَ إِلِى شِحْنَكِيَّةِ بَغْدَادَ مُجَاهِدَ
الدِّينِ بِهْرُوزَ وَجَعَلَ إِلَيْهِ الْحِلَّةِ، وَبَعَثَ عِمَادَ الدِّينِ
زَنْكِي إِلَى الْمَوْصِلِ وَأَعْمَالِهَا.
وَفِيهَا دَرَّسَ الْحَسَنُ بْنُ سَلْمَانَ بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا وَرَدَ أَبُو الْفُتُوحِ الْإِسْفَرَايِينِيُّ فَوَعَظَ بِبَغْدَادَ، فَأَوْرَدَ
أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مُنْكَرَةً
جِدًّا،
فَاسْتُتِيبَ مِنْهَا، وَأُمِرَ بِالِانْتِقَالِ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَشَدَّ
مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ، وَرَدُّوهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ،
فَوَقَعَ بِسَبَبِهِ فِتَنٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَرَجَمَهُ بَعْضُ
الْعَامَّةِ فِي الْأَسْوَاقِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يُطْلِقُ عِبَارَاتٍ لَا
يُحْتَاجُ إِلَى إِيرَادِهَا، فَنَفَرَتْ مِنْهُ قُلُوبُ الْعَامَّةِ
وَأَبْغَضُوهُ، وَجَلَسَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلِيُّ فَتَكَلَّمَ
عَلَى النَّاسِ فَأَعْجَبَهُمْ، وَأَحَبُّوهُ وَتَرَكُوا ذَاكَ.
وَفِيهَا قَتَلَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ اثْنَيْ عَشَرَ
أَلْفًا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَظَرٌ الْخَادِمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو الْحَسَنِ
بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْهَمَذَانِيُّ الْفَرَضِيُّ، صَاحِبُ " التَّارِيخِ
" مَنْ بَيْتِ الْحَدِيثِ وَالْأَئِمَّةِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ
شَيْخِهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ أَنَّهُ طَعَنَ فِيهِ. تُوُفِّيَ فَجْأَةً فِي
شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ ابْنِ سُرَيْجٍ.
فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ فَضْلُوَيْهِ،
سَمِعَتِ الْخَطِيبَ وَابْنَ الْمُسْلِمَةِ وَغَيْرَهُمَا، وَكَانَتْ وَاعِظَةً
لَهَا رِبَاطٌ تَجْتَمِعُ فِيهِ الزَّاهِدَاتُ، وَقَدْ سَمِعَ عَلَيْهَا ابْنُ
الْجَوْزِيِّ " مُسْنَدَ الشَّافِعِيِّ " وَغَيْرَهُ.
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّيِّدِ
الْبَطَلْيَوْسِيُّ ثُمَّ الْبَلَنْسِيُّ
صَاحِبُ
الْمُصَنَّفَاتِ فِي اللُّغَةِ وَغَيْرِهَا، جَمَعَ " الْمُثَلَّثَ "
فِي مُجَلَّدَيْنِ، وَزَادَ فِيهِ عَلَى قُطْرُبَ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَلَهُ
" شَرْحُ سَقْطِ الزَّنْدِ " لِأَبِي الْعَلَاءِ أَحْسَنُ مِنْ شَرْحِ
الْمُصَنِّفِ، وَلَهُ " شَرْحُ أَدَبِ الْكَاتِبِ " لِابْنِ قُتَيْبَةَ،
وَمِنْ شِعْرِهِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ قَوْلُهُ:
أَخُو الْعِلْمِ حَيٌّ خَالِدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأَوْصَالُهُ تَحْتَ التُّرَابِ
رَمِيمُ وَذُو الْجَهْلِ مَيْتٌ وَهُوَ مَاشٍ عَلَى الثَّرَى
يُظَنُّ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَهُوَ عَدِيمُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي أَوَّلِهَا قَدِمَ رَسُولُ سَنْجَرَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْأَلُ مِنْهُ أَنْ
يُخْطَبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ بَغْدَادَ، فَكَانَ يُخْطَبُ لَهُ فِي كُلِّ
جُمُعَةٍ فِي جَامِعٍ.
وَفِيهَا مَاتَ ابْنُ صَدَقَةَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ، وَاسْتُنِيبَ فِي
الْوَزَارَةِ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ. وَفِيهَا اجْتَمَعَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ
بِعَمِّهِ سَنْجَرَ وَاصْطَلَحَا بَعْدَ خُشُونَةٍ، وَسَلَّمَ سَنْجَرُ دُبَيْسًا
إِلَى مَحْمُودٍ عَلَى أَنْ يَسْتَرْضِيَ عَنْهُ الْخَلِيفَةَ وَيَعْزِلَ زَنْكِي
عَنِ الْمَوْصِلِ وَبِلَادِهَا، وَيُسَلِّمَ ذَلِكَ إِلَى دُبَيْسٍ. وَاشْتَهَرَ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِبَغْدَادَ أَنَّ دُبَيْسًا أَقْبَلَ إِلَى بَغْدَادَ فِي
جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْمَلِكِ مَحْمُودٍ: لَئِنْ لَمْ
يَكُفَّهُ عَنْ قُدُومِ بَغْدَادَ وَإِلَّا خَرَجْنَا إِلَيْهِ وَنَقَضْنَا مَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مِنَ الْعُهُودِ وَالصُّلْحِ.
وَفِيهَا مَلَكَ الْأَتَابِكُ زَنْكِي بْنُ آقْ سُنْقُرَ مَدِينَةَ حَلَبَ وَمَا
حَوْلَهَا مِنَ الْبِلَادِ. وَفِيهَا مَلَكَ تَاجُ الْمُلُوكِ بُورَى بْنُ
طُغْتِكِينَ مَدِينَةَ دِمَشْقَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ
مِنْ مَمَالِيكِ تَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشَ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ وَكَانَ
عَاقِلًا حَازِمًا عَادِلًا خَيِّرًا كَثِيرَ الْجِهَادِ لِلْفِرِنْجِ؛ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَفِيهَا عُمِلَ بِبَغْدَادَ مُصَلًّى لِلْعِيدِ ظَاهِرَ بَابَ الْحَلْبَةِ،
وَحُوِّطَ عَلَيْهِ، وَجُعِلَ فِيهِ قِبْلَةٌ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ نَظَرٌ الْخَادِمُ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ صَدَقَةَ، أَبُو عَلِيٍّ وَزِيرُ الْمُسْتَرْشِدِ،
تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا، وَمِنْ شِعْرِهِ الَّذِي أَوْرَدَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ وَقَدْ بَالَغَ فِيهِ قَوْلُهُ:
وَجَدْتُ الْوَرَى كَالْمَاءِ طَعْمًا وَرِقَّةً وَأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
زُلَالُهُ وَصَوَّرْتُ مَعْنَى الْعَقْلِ شَخْصًا مُصَوَّرًا
وَأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِثَالُهُ فَلَوْلَا مَكَانُ الشَّرْعِ وَالدِّينِ
وَالتُّقَى
لَقُلْتُ مِنَ الْإِعْظَامِ جَلَّ جَلَالُهُ
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ اللَّامِشِيُّ
مِنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، رَوَى الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ، وَكَانَ يُضْرَبُ بِهِ
الْمَثَلُ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَكَانَ خَيِّرًا دَيِّنًا عَلَى طَرِيقَةِ
السَّلَفِ، مُطَّرِحًا لِلتَّكَلُّفِ، أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ، قَدِمَ مِنْ
عِنْدِ الْخَاقَانِ مَلِكِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي رِسَالَةٍ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ،
فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَحُجُّ عَامَكَ هَذَا ؟ فَقَالَ: لَا أَجْعَلُ الْحَجَّ
تَبَعًا لِرِسَالَتِهِمْ. فَعَادَ إِلَى بَلَدِهِ، فَمَاتَ فِي رَمَضَانَ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
طُغْتِكِينُ الْأَتَابِكُ
صَاحِبُ دِمَشْقَ التُّرْكِيُّ أَحَدُ غِلْمَانِ تَاجِ الدَّوْلَةِ تُتُشَ
بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ السَّلْجُوقِيِّ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَعْدَلِهِمْ وَأَكْثَرِهِمْ جِهَادًا لِلْأَعْدَاءِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْعَامِ، وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ تَاجُ الْمُلُوكِ بُورَى
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ مَحْمُودٌ إِلَى بَغْدَادَ،
وَاجْتَهَدَ فِي إِرْضَاءِ الْخَلِيفَةِ عَنْ دُبَيْسٍ، وَأَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ
بِلَادَ الْمَوْصِلِ، فَامْتَنَعَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ وَأَبَى أَشَدَّ
الْإِبَاءِ، هَذَا وَقَدْ تَأَخَّرَ دُبَيْسٌ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى بَغْدَادَ
ثُمَّ دَخَلَهَا وَرَكِبَ بَيْنَ النَّاسِ فَلَعَنُوهُ وَشَتَمُوهُ فِي وَجْهِهِ،
وَقَدِمَ عِمَادُ الدِّينِ زِّنْكِي فَبَذَلَ لِلسُّلْطَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ
مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَهَدَايًا وَتُحَفًا وَالْتَزَمَ لِلْخَلِيفَةِ
بِمِثْلِهَا عَلَى أَنْ لَا يُوَلِّيَ دُبَيْسًا شَيْئًا، وَعَلَى أَنْ
يَسْتَمِرَّ زَنْكِي عَلَى عَمَلِهِ بِالْمَوْصِلِ فَأَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَخَلَعَ
عَلَيْهِ، وَرَجَعَ إِلَى عَمَلِهِ وَمَلَكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حَلَبَ
وَحَمَاةَ وَأَسَرَ صَاحِبَهَا سُونْجَ بْنَ تَاجِ الْمُلُوكِ فَافْتَدَى مِنْهُ
بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَلْخِ رَبِيعٍ الْآخِرِ خَلَعَ السُّلْطَانُ عَلَى
نَقِيبِ النُّقَبَاءِ بِالْوَزَارَةِ اسْتِقْلَالًا، وَلَا يُعْرَفُ أَحَدٌ مِنَ
الْعَبَّاسِيِّينَ بَاشَرَ الْوَزَارَةَ غَيْرُهُ.
وَفِي رَمَضَانَ جَاءَ دُبَيْسٌ فِي جَيْشٍ إِلَى الْحِلَّةِ فَمَلَكَهَا وَدَخَلَ
إِلَيْهَا، فِي أَصْحَابِهِ وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ فَارِسٍ، ثُمَّ إِنَّهُ
شَرَعَ فِي جَمْعِ الْأَمْوَالِ وَأَخْذِ الْغَلَّاتِ مِنَ الْقُرَى، حَتَّى
حَصَّلَ نَحْوًا مِنْ خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَخْدَمَ قَرِيبًا مِنْ
عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ بِأَمْرِهِ وَبَعَثَ إِلَى الْخَلِيفَةِ
يَسْتَرْضِيهِ فَلَمْ يَرْضَ عَنْهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً
جِدًّا فَلَمْ يَقْبَلْهَا الْخَلِيفَةُ، وَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى
السُّلْطَانِ
فَبَعَثَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ جَيْشًا فَانْهَزَمَ مِنْهُمْ وَذَهَبَ إِلَى
الْبَرِّيَّةِ، لَا جَمَعَ اللَّهُ بِهِ شَمْلًا، وَأَغَارَ عَلَى الْبَصْرَةِ
فَأَخَذَ مِنْهَا حَوَاصِلَ السُّلْطَانِ وَالْخَلِيفَةِ، ثُمَّ دَخَلَ
الْبَرِّيَّةَ فَانْقَطَعَ خَبَرُهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ صَاحِبُ دِمَشْقَ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ سِتَّةَ
آلَافٍ، وَعَلَّقَ رَأْسَ كَبِيرِهِمْ عَلَى بَابِ الْقَلْعَةِ وَأَرَاحَ اللَّهُ
أَهْلَ الشَّامِ مِنْهُمْ.
وَفِيهَا حَاصَرَتِ الْفِرِنْجِ مَدِينَةَ دِمَشْقَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُهَا
فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، وَبَعَثَ أَهْلُ دِمَشْقَ عَبْدَ الْوَهَّابِ
الْوَاعِظَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التُّجَّارِ إِلَى بَغْدَادَ يَسْتَغِيثُونَ
بِالْخَلِيفَةِ وَهَمُّوا بِكَسْرِ مِنْبَرِ الْجَامِعِ حَتَّى وُعِدُوا
بِأَنَّهُمْ سَيَكْتُبُونَ إِلَى السُّلْطَانِ ; لِيَبْعَثَ جَيْشًا كَثِيفًا
نُصْرَةً لِأَهْلِ الشَّامِ فَلَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ حَتَّى نَصَرَهُمُ
اللَّهُ مِنْ عِنْدِهِ فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ عَشَرَةَ
آلَافٍ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ سِوَى أَرْبَعِينَ نَفْسًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ، وَقُتِلَ بَيْمَنْدُ الْفِرِنْجِيُّ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَخَبَّطَ النَّاسُ فِي الْحَجِّ حَتَّى ضَاقَ الْوَقْتُ
بِسَبَبِ فِتْنَةِ دُبَيْسٍ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - حَتَّى حَجَّ بِهِمْ أَحَدُ
مَمَالِيكِ يَرَنُقْشَ الزَّكَوِيِّ وَكَانَ اسْمُهُ بَغَاجِقَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَسْعَدُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ الْمِيهَنِيُّ أَبُو الْفَتْحِ، أَحَدُ أَئِمَّةِ
الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ
تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيِّ، وَسَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَتَفَرَّدَ مِنْ بَيْنِ أَقْرَانِهِ، وَوَلِيَ تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَحَصَلَ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَعُلِّقَ عَنْهُ " تَعْلِيقَةُ الْخِلَافِ " ثُمَّ عُزِلَ عَنِ النِّظَامِيَّةِ، فَسَارَ إِلَى هَمَذَانَ، فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالْعِرَاقِ ; تَهَدَّمَتْ بِسَبَبِهَا
دُورٌ كَثِيرَةٌ بِبَغْدَادَ، وَوَقَعَ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ مَطَرٌ عَظِيمٌ
فَسَقَطَ بَعْضُهُ نَارًا تَأَجَّجُ، فَاحْتَرَقَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ مِنْ ذَلِكَ،
وَتَهَارَبَ النَّاسُ.
وَفِيهَا وُجِدَ بِبَغْدَادَ عَقَارِبُ طَيَّارَةٌ لَهَا شَوْكَتَانِ، فَخَافَ
النَّاسُ مِنْهَا خَوْفًا شَدِيدًا، وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ سَنْجَرُ
مَدِينَةَ سَمَرْقَنْدَ وَكَانَ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ خَانَ.
وَفِيهَا مَلَكَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بِلَادًا كَثِيرَةً مِنَ الْجَزِيرَةِ،
وَمِنْ بِلَادِ الْفِرِنْجِ وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُمْ حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ وَخُطُوبٌ
جَلِيلَةٌ، وَنُصِرَ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الْمَوَاقِفِ كُلِّهَا، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ جَيْشِ الرُّومِ حِينَ قَدِمُوا
إِلِى الشَّامِ، وَمَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ عَلَى ذَلِكَ.
قَتْلُ خَلِيفَةِ مِصْرَ الْفَاطِمِيِّ
وَفِي ثَانِي ذِي الْقَعْدَةِ قُتِلَ الْخَلِيفَةُ الْفَاطِمِيُّ الْآمِرُ
بِأَحْكَامِ اللَّهِ ابْنُ الْمُسْتَعْلِي صَاحِبُ مِصْرَ، قَتَلَتْهُ
الْبَاطِنِيَّةُ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ
مُدَّةُ خِلَافَتِهِ تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفًا،
وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ هُوَ الْعَاشِرُ
مِنَ
الْفَاطِمِيِّينَ، وَالْعَاشِرُ مِنْ وَلَدِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيِّ،
وَلَمَّا قُتِلَ الْآمِرُ تَغَلَّبَ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ غُلَامٌ مِنْ
غِلْمَانِ الْخَلِيفَةِ أَرْمَنِيٌّ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْأُمُورِ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ، حَتَّى حَضَرَ أَبُو عَلِيٍّ أَحْمَدُ بْنُ الْأَفْضَلِ بْنِ بَدْرٍ
الْجَمَالِيُّ، فَأَقَامَ الْخَلِيفَةَ الْحَافِظَ أَبَا الْمَيْمُونِ عَبْدَ
الْمَجِيدِ بْنَ الْأَمِيرِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ
وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَلَمَّا أَقَامَهُ اسْتَحْوَذَ
عَلَى الْأُمُورِ دُونَهُ، وَحَصَرَهُ فِي مَجْلِسٍ، لَا يَدْخُلُ إِلَيْهِ أَحَدٌ
إِلَّا مَنْ يُرِيدُهُ، وَنَقَلَ الْأَمْوَالَ مِنَ الْقَصْرِ إِلَى دَارِهِ
وَلَمْ يَبْقَ لِلْحَافِظِ سِوَى الِاسْمِ فَقَطْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو إِسْحَاقَ الْكَلْبِيُّ مِنْ
أَهْلِ غَزَّةَ، جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، وَمِنْ شِعْرِهِ
فِي الْأَتْرَاكِ:
فِي فِتْنَةٍ مِنْ جُيُوشِ التُّرْكِ مَا تَرَكَتْ لِلرَّعْدِ كَرَّاتُهُمْ صَوْتًا
وَلَا صِيتَا قَوْمٌ إِذَا قُوبِلُوا كَانُوا مَلَائِكَةً
حُسْنًا وَإِنْ قُوتِلُوا كَانُوا عَفَارِيتَا
وَلَهُ:
لَيْتَ الَّذِي بِالْعِشْقِ دُونَكَ خَصَّنِي يَا ظَالِمِي قَسَمَ الْمَحَبَّةَ
بَيْنَنَا
أَلْقَى الْهِزَبْرَ فَلَا أَخَافُ وُثُوبَهُ وَيَرُوعُنِي نَظَرُ الْغَزَالِ
إِذَا رَنَا
وَلَهُ:
إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ مَتَاعٌ وَالسَّفِيهُ الْغَوِيُّ مَنْ يَصْطَفِيهَا
مَا مَضَى فَاتَ وَالْمُؤَمَّلُ غَيْبٌ وَلَكَ السَّاعَةُ التَّي أَنْتَ فِيهَا
وَلَهُ أَيْضًا:
قَالُوا هَجَرْتَ الشِّعْرَ قُلْتُ ضَرُورَةٌ بَابُ الْبَوَاعِثِ وَالدَّوَاعِي
مُغْلَقُ
خَلَتِ الْبِلَادُ فَلَا كَرِيمٌ يُرْتَجَى مِنْهُ النَّوَالُ وَلَا مَلِيحٌ
يُعْشَقُ
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَى وَيُخَانُ فِيهِ مِنَ الْكَسَادِ
وَيُسْرَقُ
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفَيِّاتِ مِنْ شِعْرِهِ الرَّائِقِ
قَوْلُهُ:
إِشَارَةٌ مِنْكَ تَكْفِينَا وَأَحْسَنُ مَا رُدَّ السَّلَامُ غَدَاةَ الْبَيْنِ
بِالْعَنَمِ
حَتَّى إِذَا طَاحَ عَنْهَا الْمِرْطُ مِنْ دَهَشٍ وَانْحَلَّ بِالضَّمِّ سِلْكُ
الْعِقْدِ فِي الظُّلَمِ
تَبَسَّمَتْ فَأَضَاءَ اللَّيْلُ فَالْتَقَطَتْ حَبَّاتِ مُنْتَثِرٍ فِي ضَوْءٍ
مُنْتَظَمِ
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِبِلَادِ بَلْخَ، وَدُفِنَ فِيهَا.
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ الدَّبَّاسُ
أَبُو
عَبْدِ
اللَّهِ الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ بِالْبَارِعِ، قَرَأَ الْقِرَاءَاتِ وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ، وَكَانَ عَارِفًا بِالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْأَدَبِ، وَلَهُ شِعْرٌ
رَائِقٌ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ
الثَّمَانِينَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدُونَ بْنِ مُرَجَّى
أَبُو عَامِرٍ الْعَبْدَرِيُّ الْقُرَشِيُّ الْحَافِظُ، أَصْلُهُ مِنْ
مَيُورْقَةَ، مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ وَدَخَلَ بَغْدَادَ فَسَمِعَ بِهَا عَلَى
طِرَادٍ الزَّيْنَبِيِّ وَالْحُمَيْدِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وَكَانَتْ لَهُ
مَعْرِفَةٌ بِالْحَدِيثِ جَيِّدَةٌ، وَكَانَ يَذْهَبُ فِي الْفُرُوعِ مَذْهَبَ
الظَّاهِرِيَّةِ، تُوُفِّيَ فِي بَغْدَادَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا ضَلَّ دُبَيْسٌ عَنِ الطَّرِيقِ فِي الْبَرِّيَّةِ فَأَسَرَهُ بَعْضُ
أُمَرَاءِ الْأَعْرَابِ بِأَرْضِ الشَّامِ، وَحَمَلَهُ إِلَى مَلِكِ دِمَشْقَ
بُورَى بْنِ طُغْتِكِينَ، فَبَاعَهُ مِنْ زَنْكِي بْنِ آقْ سُنْقُرَ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ
بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا حَصَلَ فِي يَدِهِ لَمْ يَشُكَّ دُبَيْسٌ
أَنَّهُ سَيُهْلِكُهُ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَدَاوَةِ فَأَكْرَمَهُ زَنْكِي،
وَأَعْطَاهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً وَقَدَّمَهُ وَاحْتَرَمَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ
رُسُلُ الْخَلِيفَةِ فِي طَلَبِهِ فَبَعَثَهُ مَعَهُمْ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى
الْمَوْصِلِ حُبِسَ فِي قَلْعَتِهَا.
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ مَحْمُودٌ وَمَسْعُودٌ فَتَوَاجَهَا
لِلْقِتَالِ ثُمَّ اصْطَلَحَا، وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلِكِ مَحْمُودِ بْنِ
مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ، فَأُقِيمَ فِي الْمُلْكِ مَكَانَهُ ابْنُهُ
دَاوُدُ، وَجُعِلَ لَهُ أَتَابِكٌ وَوَزِيرٌ، وَخُطِبَ لَهُ بِأَكْثَرِ
الْبِلَادِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَبُو نَصْرٍ الطُّوسِيُّ سَمِعَ
الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَكَانَ
شَيْخًا لَطِيفًا، عَلَيْهِ نُورٌ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَنْشَدَنِي:
عَلَى
كُلِّ حَالٍ فَاجْعَلِ الْحَزْمَ عُدَّةً تُقَدِّمُهُ بَيْنَ النَّوَائِبِ وَالدَّهْرِ
فَإِنْ نِلْتَ خَيْرًا نِلْتَهُ بِعَزِيمَةٍ
وَإِنْ قَصَّرَتْ عَنْكَ الْخُطُوبُ فَعَنْ عُذْرِ
قَالَ: وَأَنْشَدَنِي أَيْضًا:
لَبِسْتُ ثَوْبَ الرَّجَا وَالنَّاسُ قَدْ رَقَدُوا وَقُمْتُ أَشْكُو إِلَى
مَوْلَايَ مَا أَجِدُ
وَقُلْتُ يَا عُدَّتِي فِي كُلِّ نَائِبَةٍ وَمَنْ عَلَيْهِ لِكَشْفِ الضُّرِ
أَعْتَمِدُ
وَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي وَالضُّرُ مُشْتَمِلٌ إِلَيْكَ يَا خَيْرَ مَنْ مُدَّتْ
إِلَيْهِ يَدُ
فَلَا تَرُدَّنَّهَا يَا رَبِّ خَائِبَةً فَبَحْرُ جُودِكَ يَرْوِي كُلَّ مَنْ
يَرِدُ
الْحَسَنُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ.
ابْنُ الْفَتَى، أَبُو عَلِيٍّ، الْفَقِيهُ مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ، وَقَدْ
وَعَظَ بِجَامِعِ الْقَصْرِ، وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا فِي الْفِقْهِ مُنْتَهَى،
وَفِي الْوَعْظِ مُبْتَدَى. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَغَسَّلَهُ
الْقَاضِي أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الرُّطَبِيِّ، وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِي إِسْحَاقَ.
حَمَّادُ بْنُ مُسْلِمٍ الرَّحْبِيُّ الدَّبَّاسُ
كَانَ يُذْكَرُ لَهُ أَحْوَالٌ وَمُكَاشَفَاتٌ وَاطِّلَاعٌ عَلَى مُغَيَّبَاتٍ
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَامَاتِ، وَرَأَيْتُ ابْنَ الْجَوْزِيِّ يَتَكَلَّمُ
فِيهِ
وَيَقُولُ:
كَانَ عُرْيًا مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَنْفُقُ عَلَى
الْجُهَّالِ.
وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ كَانَ يُنَفِّرُ النَّاسَ عَنْهُ، وَكَانَ
حَمَّادٌ الدَّبَّاسُ يَقُولُ: ابْنُ عَقِيلٍ عَدُوِّي. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
وَكَانَ النَّاسُ يَنْذِرُونَ لَهُ، فَيَقْبَلُ ذَلِكَ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ،
وَصَارَ يَأْخُذُ مِنَ الْمَنَامَاتِ، وَيُنْفِقُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ وَدُفِنَ بِالْشُّونِيْزِيَّةِ.
عَلِيُّ بْنُ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ
أَخُو الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ، تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَتُرِكَ ضَرْبُ الطُّبُولِ،
وَجَلَسَ النَّاسُ لِلْعَزَاءِ أَيَّامًا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الْمَاهِيَانِيُّ،
أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، تَفَقَّهَ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ،
وَرَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى بِلَادٍ شَتَّى، وَدَرَّسَ وَأَفْتَى
وَنَاظَرَ، تُوفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ، وَدُفِنَ
بِقَرْيَةِ مَاهِيَانَ مِنْ بِلَادِ مَرْوَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مَحْمُودٌ السُّلْطَانُ بْنُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهِ بْنِ أَلْبِ
أَرْسَلَانَ بْنِ دَاوُدَ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ، كَانَ مِنْ خِيَارِ
الْمُلُوكِ، وَكَانَ فِيهِ حِلْمٌ وَأَنَاةٌ وَبِرٌّ
وَصَلَابَةٌ،
وَجَلَسُوا لِعَزَائِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. سَامَحَهُ اللَّهُ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
الْعَبَّاسِ بْنِ الْحُصَيْنِ
أَبُو الْقَاسِمِ الشَّيْبَانِيُّ، رَاوِي الْمُسْنَدِ، عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ
الْمُذْهِبِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ،
عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ سَمِعَ قَدِيمًا؛ لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَبَاكَرَ بِهِ أَبُوهُ فَأَسْمَعُهُ وَمَعَهُ أَخُوهُ
عَبْدُ الْوَاحِدِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ عِلْيَةِ الْمَشَايِخِ، وَقَدْ رَوَى
عَنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا صَحِيحَ
السَّمَاعِ، تُوُفِّيَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ
رَابِعَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ ثَلَاثٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً؛
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ مَسْعُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ بَغْدَادَ، وَقَدِمَهَا قَرَاجَا
السَّاقِي، وَمَعَهُ سَلْجُوقُ شَاهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَطْلُبُ
الْمُلْكَ لِنَفْسِهِ، وَقَدِمَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي بْنُ آقْ سُنْقُرَ
لِيَنْضَمَّ إِلَيْهِمَا فَتَلَقَّاهُ قَرَاجَا السَّاقِي، فَهَزَمَهُ فَهَرَبَ
مِنْهُ إِلَى تَكْرِيتَ، فَخَدَمَهُ نَائِبُ قَلْعَتِهَا نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبَ
- وَالِدُ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ الَّذِي فَتَحَ الْقُدْسَ فِيمَا بَعْدُ
حَتَّى عَادَ إِلَى بِلَادِهِ - فَكَانَ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي مَصِيرِ نَجْمِ
الدِّينِ أَيُّوبَ إِلَيْهِ، وَهُوَ بِحَلَبَ فَخَدَمَ عِنْدَهُ، ثُمَّ كَانَ مِنَ
الْأُمُورِ مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ مِمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَيْنِ مَسْعُودًا وَسَلْجُوقَ شَاهْ اجْتَمَعَا فَاصْطَلَحَا،
وَرَكِبَا إِلَى الْمَلِكِ سَنْجَرَ، فَاقْتَتَلَا مَعَهُ، فَكَانَ جَيْشُهُ
مِائَةً وَسِتِّينَ أَلْفًا، وَكَانَ الَّذِينَ مَعَهُمَا قَرِيبًا مِنْ
ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ قُتِلَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعِينَ
أَلْفًا، وَأَسَرَ جَيْشُ سَنْجَرَ قَرَاجَا السَّاقِي فَقَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ
يَدَيْهِ، ثُمَّ أَجْلَسَ طُغْرُلَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ،
وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ وَرَجَعَ سَنْجَرُ إِلَى بِلَادِهِ، وَكَتَبَ
طُغْرُلُ إِلَى دُبَيْسٍ وَزَنْكِي لِيَذْهَبَا إِلَى بَغْدَادَ فَيَأْخُذَاهَا،
فَأَقْبَلَا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَبَرَزَ إِلَيْهِمَا الْخَلِيفَةُ فَهَزَمَهُمَا،
وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِمَا، وَأَزَاحَ اللَّهُ شَرَّهُمَا عَنْهُ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْأَفْضَلِ بْنِ بَدْرٍ
الْجَمَالِيُّ وَزِيرُ الْحَافِظِ الْفَاطِمِيِّ، فَنَقَلَ الْحَافِظُ
الْأَمْوَالَ الَّتِي كَانَ أَخَذَهَا إِلَى دَارِهِ، وَاسْتَوْزَرَ بَعْدَهُ
أَبَا الْفَتْحِ يَانَسَ
الْحَافِظِيَّ
وَلَقَّبَهُ أَمِيرَ الْجُيُوشِ، ثُمَّ احْتَالَ لَهُ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَوْزَرَ
وَلَدَهُ حَسَنًا وَخُطِبَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمُسْتَرْشِدُ وَزِيرَهُ عَلِيَّ بْنَ طِرَادٍ الزَّيْنَبِيَّ،
وَاسْتَوْزَرَ أَنُوشِرْوَانَ بْنَ خَالِدٍ بَعْدَ تَمَنُّعٍ. وَفِيهَا مَلَكَ
دِمَشْقَ شَمْسُ الْمُلُوكِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ بُورِي بْنِ طُغْتِكِينَ بَعْدَ
وَفَاةِ أَبِيهِ، وَاسْتَوْزَرَ يُوسُفَ بْنَ فَيْرُوزَ، وَكَانَ خَيِّرًا،
فَمَلَكَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَأَطَاعَهُ أَخُوهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ عُمَرَ بْنِ عِيسَى بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ السُّلَمِيُّ، وَيُعْرَفُ
بِابْنِ كَادِشٍ الْعُكْبَرِيُّ أَبُو الْعِزِّ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ يَفْهَمُهُ وَيَرْوِيهِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى
عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ ; مِنْهُمْ أَبُو
مُحَمَّدِ بْنُ الْخَشَّابِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ يَتَّهِمُهُ
وَيَرْمِيهِ بِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِوَضْعِ حَدِيثٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ
عَبْدُ الْوَهَّابِ الْأَنْمَاطِيُّ: كَانَ مُخَلِّطًا. تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى
الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَاضِي أَبِي
يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ الْحَنْبَلِيُّ، وُلِدَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، سَمِعَ أَبَاهُ وَغَيْرَهُ، وَتَفَقَّهَ وَنَاظَرَ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ، وَكَانَ لَهُ بَيْتٌ فِيهِ مَالٌ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ، فَقُتِلَ وَأُخِذَ مَالُهُ، ثُمَّ أَظْهَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى قَاتِلِهِ فَقَتَلُوهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ إِلَى بَغْدَادَ، فَخُطِبَ لَهُ
عَلَى مَنَابِرِهَا، وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ وَوَلَّاهُ السَّلْطَنَةَ،
وَلَمَّا ذُكِرَ عَلَى الْمَنَابِرِ نُثِرَتِ الدَّنَانِيرُ وَالذَّهَبُ عَلَى
النَّاسِ، وَخُلِعَ عَلَى الْمَلِكِ دَاوُدَ بْنِ مَحْمُودٍ. وَفِيهَا جَمَعَ
دُبَيْسٌ جَمْعًا كَثِيرًا بِوَاسِطٍ وَانْضَمَّ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ السُّلْطَانُ جَيْشًا فَكَسَرُوهُ وَفَرَّقُوا شَمْلَهُ، ثُمَّ إِنَّ
الْخَلِيفَةَ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمَوْصِلِ، لِيَأْخُذَهَا مِنْ يَدِ
زَنْكِي، فَخَرَجَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ وَخَلْقٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَكَابِرِ
وَالْوُزَرَاءِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا بَعَثَ إِلَيْهِ عِمَادُ الدِّينِ
زَنْكِي يَعْرِضُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ وَالتُّحَفِ شَيْئًا
كَثِيرًا؛ لِيَرْجِعَ عَنْهُ فَلَمْ يَقْبَلْ، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ السُّلْطَانَ
مَسْعُودًا قَدِ اصْطَلَحَ مَعَ دُبَيْسٍ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ فَكَرَّ رَاجِعًا
سَرِيعًا إِلَى بَغْدَادَ سَالِمًا مُعَظَّمًا.
وَفِيهَا مَاتَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ، فَطَلَبَ
حَلْقَتَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - وَكَانَ شَابًّا - فَحَصَلَتْ لِغَيْرِهِ،
وَلَكِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَزِيرُ أَنُوشِرْوَانَ فِي الْوَعْظِ، فَتَكَّلَمَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى النَّاسِ بِأَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ بَغْدَادَ،
وَكَثُرَتْ مَجَالِسُهُ وَازْدَحَمَ عَلَيْهِ النَّاسُ.
وَفِيهَا مَلَكَ شَمْسُ الْمُلُوكِ إِسْمَاعِيلُ صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ
حَمَاةَ، وَكَانَتْ بِيَدِ زَنْكِي، وَفِي ذِي الْحِجَّةِ نَهَبَ التُّرْكُمَانُ
مَدِينَةَ طَرَابُلُسَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْقُومَصُ
-
لَعَنَهُ اللَّهُ - فَهَزَمُوهُ وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِ،
وَحَاصَرُوهُ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً حَتَّى طَالَ الْحِصَارُ فَانْصَرَفُوا.
وَفِيهَا وُلِّيَ مَكَّةَ قَاسِمُ بْنُ أَبِي فُلَيْتَةَ بَعْدَ أَبِيهِ. وَفِيهَا
قَتَلَ شَمْسُ الْمُلُوكِ أَخَاهُ سُونْجَ. وَفِيهَا اشْتَرَى الْبَاطِنِيَّةُ
حِصْنَ الْقُدْمُوسِ بِالشَّامِ فَسَكَنُوهُ، وَحَارَبُوا مَنْ جَاوَرَهُمْ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ وَالْفِرِنْجِ، وَفِيهَا اقْتَتَلَتِ الْفِرِنْجُ فِيمَا
بَيْنَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَمَحَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَزَاهُمْ
فِيهَا أَيْضًا عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَلْفَ قَتِيلٍ،
وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَيُقَالُ لَهَا: غَزَاةُ أَسْوَارٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا نَظَرٌ الْخَادِمُ، وَكَذَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا
وَبَعْدَهَا.
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الرُّطَبِيِّ تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ
الصَّبَّاغِ بِبَغْدَادَ، وَبِأَصْبَهَانَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ
الْخُجَنْدِيِّ ثُمَّ وُلِّيَ الْحُكْمَ بِبَغْدَادَ بِالْحَرِيمِ، وَالْحِسْبَةَ
بِبَغْدَادَ، وَكَانَ يُؤَدِّبُ أَوْلَادَ الْخَلِيفَةِ، تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ.
أَسْعَدُ بْنُ أَبِي نَصْرِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ
أَبُو الْفَتْحِ الْمِيهَنِيُّ مَجْدُ الدِّينِ، أَحَدُ أَئِمَّةُ الشَّافِعِيَّةِ
وَصَاحِبُ " الطَّرِيقَةِ فِي الْخِلَافِ " الْمَطْرُوقَةِ، وَقَدْ
دَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إِلَى
سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ فَعُزِلَ عَنْهَا، وَاشْتَهَرَ
أَصْحَابُهُ
هُنَالِكَ وَبَعُدَ صِيتُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ أَنَّهُ
وَلِيَهَا، وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَقَالَ ابْنُ
خَلِّكَانَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ.
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ
أَبُو نَصْرٍ الْيُونَارَتِيُّ مِنْ قُرَى أَصْبَهَانَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ
وَرَحَلَ وَخَرَّجَ، وَلَهُ تَارِيخٌ، وَكَانَ يَكْتُبُ حَسَنًا، وَيَقْرَأُ
فَصِيحًا، تُوُفِّيَ بِأَصْبَهَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ. ابْنُ الزَّاغُونِيِّ الْحَنْبَلِيُّ
عَلِيُّ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرِ بْنِ السَّرِيِّ الزَّاغُونِيُّ،
الْإِمَامُ الشَّهِيرُ، قَرَأَ الْقِرَاءَاتِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ
بِالْفِقْهِ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي
الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَلَهُ يَدٌ فِي الْوَعْظِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ فِي
جِنَازَتِهِ، وَكَانَتْ حَافِلَةً جِدًّا.
عَلِيُّ بْنُ يَعْلَى بْنِ عَوَضٍ
أَبُو الْقَاسِمِ الْعَلَوِيُّ الْهَرَوِيُّ، سَمِعَ " مُسْنَدَ أَحْمَدَ
" مِنِ ابْنِ الْحُصَيْنِ، وَ " التِّرْمِذِيَّ " مِنْ أَبِي
عَامِرٍ الْأَزْدِيِّ، وَكَانَ يَعِظُ
النَّاسَ
بِنَيْسَابُورَ، ثُمَّ قَدِمَ بَغْدَادَ فَوَعَظَ بِهَا، فَحَصَلَ لَهُ الْقَبُولُ
التَّامُّ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ، وَجَمَعَ أَمْوَالًا وَكُتُبًا، قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَلَكَنِي فِي الْوَعْظِ، وَتَكَلَّمْتُ بَيْنَ
يَدَيْهِ وَأَنَا صَغِيرٌ، وَتَكَلَّمْتُ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ انْصِرَافِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعُثْمَانِيُّ الدِّيبَاجِيُّ، وَكَانَ بِبَغْدَادَ
يُعْرَفُ بِالْمَقْدِسِيِّ، تَفَقَّهَ وَكَانَ أَشْعَرِيَّ الِاعْتِقَادِ،
وَوَعَظَ النَّاسَ بِبَغْدَادَ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: سَمِعْتُهُ يُنْشِدُ
فِي مَجْلِسِهِ قَوْلَهُ:
دَعْ جُفُونِي يَحِقُّ لِي أَنْ أَنُوحَا لَمْ تَدَعْ لِي الذُّنُوبُ قَلْبًا
صَحِيحَا أَخْلَقَتْ بَهْجَتِي أَكُفُّ الْمَعَاصِي
وَنَعَانِي الْمَشِيبُ نَعْيًا فَصِيحًا كُلَّمَا قُلْتُ قَدْ بَرَا جُرْحُ
قَلْبِي
عَادَ قَلْبِي مِنَ الذُّنُوبِ جَرِيحَا إِنَّمَا الْفَوْزُ وَالنَّعِيمُ لِعَبْدٍ
جَاءَ فِي الْحَشْرِ آمِنًا مُسْتَرِيحَا
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
خَلَفٍ
أَبُو خَازِمِ بْنُ أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ، الْفَقِيهُ ابْنُ الْفَقِيهِ،
وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ مِنَ
الْفُقَهَاءِ الزَّاهِدِينَ الْأَخْيَارِ، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
حَمْدِيسٍ الْأَزْدِيُّ
الصَّقِلِّيُّ
الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْعَارًا رَائِقَةً
فَمِنْهَا قَوْلُهُ:
قُمْ هَاتِهَا مِنْ كَفِّ ذَاتِ الْوِشَاحْ فَقَدْ نَعَى اللَّيْلَ بَشِيرُ
الصَّبَاحْ
بَاكِرْ إِلَى اللَّذَّاتِ وَارْكَبْ لَهَا سَوَابِقَ اللَّهْوِ ذَوَاتِ
الْمِرَاحْ
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَرْشُفَ شَمْسُ الضُّحَى رِيقَ الْغَوَادِي مِنْ ثُغُورِ
الْأَقَاحْ
وَمِنْ جُمْلَةِ مَعَانِيهِ النَّادِرَةِ:
زَادَتْ عَلَى كَحَلِ الْجُفُونِ تَكَحُّلًا وَيُسَمُّ نَصْلُ السَّهْمِ وَهُوَ
قَتُولُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا اصْطَلَحَ الْخَلِيفَةُ وَزَنْكِي. وَفِيهَا فَتَحَ زَنْكِي قِلَاعًا
كَثِيرَةً وَقَتَلَ خَلْقًا مِنَ الْفِرِنْجِ. وَفِيهَا فَتَحَ شَمْسُ الْمُلُوكِ
شَقِيفَ تِيرُونَ، وَنَهَبَ بِلَادَ الْفِرِنْجِ.
وَفِيهَا قَدِمَ سَلْجُوقُ شَاهْ بَغْدَادَ، فَنَزَلَ بِدَارِ الْمَمْلَكَةِ
وَأَكْرَمَهُ الْخَلِيفَةُ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، ثُمَّ
قَدِمَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ رُكَّابٌ عَلَى جِمَالٍ
لِقِلَّةِ الْخَيْلِ.
وَفِيهَا تَوَلَّى إِمْرَةَ بَنِي عَقِيلٍ أَوْلَادُ سُلَيْمَانَ بْنِ مُهَارِشٍ
الْعَقِيلِيِّ ; إِكْرَامًا لِجَدِّهِمْ.
وَفِيهَا أُعِيدَ ابْنُ طِرَادٍ إِلَى الْوَزَارَةِ. وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى
إِقْبَالٍ الْمُسْتَرْشِدِيِّ خِلَعَ الْمُلُوكِ، وَلُقِّبَ مَلِكَ الْعَرَبِ
سَيْفَ الدَّوْلَةِ، وَرَكِبَ فِي الْخِلَعِ وَحَضَرَ الدِّيوَانَ. وَفِيهَا
قَوِيَ أَمْرُ الْمَلِكِ طُغْرُلَ، وَضَعُفَ أَمْرُ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو الْوَفَاءِ الْفِيرُوزَابَاذِيُّ،
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، سَكَنَ رِبَاطَ الزَّوْزَنِيِّ، وَكَانَ
كَلَامُهُ يُسْتَحْلَى، وَكَانَ يَحْفَظُ مِنْ سِيَرِ
الصُّوفِيَّةِ
; أَخْبَارِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا.
أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيُّ
الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَرْهُونَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيُّ، وُلِدَ
سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَتَفَقَّهَ بِهَا عَلَى أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ بَيَانٍ الْكَازَرُونِيِّ صَاحِبِ الْمَحَامِلِيِّ،
ثُمَّ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنِ الصَّبَّاغِ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَكَانَ يُكَرَّرُ عَلَى " الْمُهَذَّبِ " وَ " الشَّامِلِ "
ثُمَّ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِوَاسِطٍ، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ جَيِّدَ
السَّرِيرَةِ مُمَتَّعًا بِحَوَاسِّهِ وَعَقْلِهِ إِلَى أَنْ تُوَفِّيَ فِي
مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ
أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيُّ، سَمَعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ
عَلَى أَبِيهِ، وَنَاظَرَ وَأَفْتَى وَكَانَ فَاضِلًا وَاعِظًا فَصِيحًا
مُفَوَّهًا، شَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي وَعْظِهِ وَحُسْنِ نَظْمِهِ
وَنَثْرِهِ وَلَفْظِهِ.
تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ وَقَدْ قَارَبَ الْخَمْسِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ
أَبُو بَكْرٍ الْقَطَّانُ وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْحَلَّاجِ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ وَقَرَأَ الْقِرَاءَاتِ وَكَانَ خَيِّرًا زَاهِدًا عَابِدًا
يُتَبَرَّكُ بِدُعَائِهِ وَيُزَارُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ
بْنُ عَلِيٍّ عَبْدُ الْوَاحِدِ الشَّافِعِيُّ
أَبُو رَشِيدٍ مِنْ أَهْلِ آمُلَ طَبَرِسْتَانَ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَحَجَّ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ، وَسَمِعَ مِنَ
الْحَدِيثِ وَرَوَى شَيْئًا يَسِيرًا، وَكَانَ زَاهِدًا مُنْقَطِعًا عَنِ النَّاسِ
مُشْتَغِلًا بِنَفْسِهِ، رَكِبَ مَرَّةً مَعَ تُجَّارٍ فِي الْبَحْرِ فَأَوْفَوْا
عَلَى جَزِيرَةٍ، فَقَالَ: دَعُونِي فِي هَذِهِ أَعْبُدِ اللَّهَ فِيهَا،
فَمَانَعُوهُ، فَأَبَى إِلَّا الْمُقَامَ بِهَا، فَتَرَكُوهُ وَسَارُوا،
فَرَدَّتْهُمُ الرِّيحُ، فَرَاوَدُوهُ عَلَى الْمَسِيرِ مَعَهُمْ فَامْتَنَعَ
فَسَارُوا فَرَدَّتْهُمُ الرِّيحُ إِلَيْهِ، فَرَاوَدُوهُ فَامْتَنَعَ فَسَارُوا
فَرَدَّتْهُمُ الرِّيحُ إِلَيْهِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ نَسِيرَ
إِلَّا بِكَ، وَإِذَا أَرَدْتَ الْمُقَامَ بِهَا فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَسَارَ
مَعَهُمْ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً، ثُمَّ تَرَحَّلَ
عَنْهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ بِهَا ثُعْبَانٌ يَبْتَلِعُ الْإِنْسَانَ،
وَبِهَا عَيْنُ مَاءٍ يَشْرَبُ مِنْهَا وَيَتَوَضَّأُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
بَلَدِهِ آمُلَ، فَمَاتَ بِهَا فِي هَذَا الْعَامِ، وَقَبَرُهُ مَشْهُورٌ يُزَارُ.
أُمُّ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ
تُوُفِّيَتْ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْعَتَمَةِ تَاسِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمُسْتَرْشِدِ وَوِلَايَةُ الرَّاشِدِ، وَكَانَ سَبَبُ
ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَبَيْنَ الْخَلِيفَةِ
وَقَائِعُ كَثِيرَةٌ، فَاقْتَضَى الْحَالُ أَنَّ الْخَلِيفَةَ أَرَادَ قَطْعَ
الْخُطْبَةِ لَهُ مِنْ بَغْدَادَ، فَاتَّفَقَ مَوْتُ أَخِيهِ طُغْرُلَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ، فَسَارَ إِلَى الْبِلَادِ فَمَلَكَهَا، وَقَوِيَ
جَانِبُهُ ثُمَّ شَرَعَ يَجْمَعُ الْعَسَاكِرَ لِيَأْخُذَ بَغْدَادَ مِنَ
الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا عَلِمَ الْخَلِيفَةُ بِذَلِكَ انْزَعَجَ وَاسْتَعَدَّ
لِذَلِكَ، وَقَفَزَ جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْخَلِيفَةِ
خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ سَطْوَةِ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ، وَرَكِبَ
الْخَلِيفَةُ مِنْ بَغْدَادَ فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ فِيهِمُ الْقُضَاةُ
وَرُءُوسُ الدَّوْلَةِ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، فَمَشَوْا بَيْنَ يَدَيْهِ
أَوَّلَ مَنْزِلِهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى السُّرَادِقِ وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ
مُقَدِّمَةً، وَأَرْسَلَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ دُبَيْسَ بْنَ
صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورِ، الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْحِلَّةِ فَجَرَتْ خُطُوبٌ
كَبِيرَةٌ وَحُرُوبٌ كَثِيرَةٌ. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ الْجَيْشَيْنِ
الْتَقَيَا فِي عَاشِرِ رَمَضَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا
كَثِيرًا، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الصَّفَّيْنِ سِوَى خَمْسَةِ أَنْفُسٍ، ثُمَّ
حَمَلَ الْخَلِيفَةُ عَلَى جَيْشِ الْمَلِكِ مَسْعُودٍ فَهَزَمَهُمْ. ثُمَّ
تَرَاجَعُوا فَحَمَلُوا عَلَى جَيْشِ الْخَلِيفَةِ، فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا
مِنْهُمْ خَلْقًا، وَأَسَرُوا الْخَلِيفَةَ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُ
وَحَوَاصِلُهُ، مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَغَيْرُ
ذَلِكَ مِنَ الثِّيَابِ وَالْخِلَعِ وَالْأَثَاثِ وَالْقُمَاشِ وَالْمَاعُونِ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَطَارَ الْخَبَرُ فِي الْأَقَالِيمِ،
وَحِينَ بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَادَ انْزَعَجَ النَّاسُ
لِذَلِكَ، وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا صُورَةً وَمَعْنًى، وَجَاءَتِ الْعَامَّةُ إِلَى الْمَنَابِرِ فَكَسَرُوهَا وَامْتَنَعُوا مِنْ حُضُورِ الْجَمَاعَاتِ، وَخَرَجَ النِّسَاءُ فِي الْبَلَدِ حَاسِرَاتٍ يَنُحْنَ عَلَى الْخَلِيفَةِ، وَمَا جَرَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْرِ وَتَأَسَّى بِأَهْلِ بَغْدَادَ فِي ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ، وَتَمَّتْ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ وَانْتَشَرَتْ فِي الْأَقَالِيمِ، وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَهَلَّ شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ وَالشَّنَاعَةُ فِي الْأَقَالِيمِ مُنْتَشِرَةٌ، فَكَتَبَ الْمَلِكُ سَنْجَرُ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ يُحَذِّرُهُ غِبَّ ذَلِكَ، وَيُبَصِّرُهُ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ وَالْخَطْبِ الْجَسِيمِ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يُعِيدَ الْخَلِيفَةَ إِلَى مُسْتَقَرِّ عِزِّهِ وَدَارِ خِلَافَتِهِ، فَامْتَثَلَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ ذَلِكَ وَضُرِبَ لِلْخَلِيفَةِ سُرَادِقٌ عَظِيمٌ، وَنُصِبَ لَهُ فِيهِ قُبَّةٌ عَظِيمَةٌ تَحْتَهَا سَرِيرٌ هَائِلٌ، وَأُلْبِسَ الْخَلِيفَةُ السَّوَادَ عَلَى عَادَتِهِ وَأُرْكِبَ بَعْضَ مَا كَانَ يَرْكَبُهُ مِنْ مَرَاكِبِهِ. وَجَاءَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَمْسَكَ لِجَامَ الْفَرَسِ وَتَمَشَّى فِي خِدْمَتِهِ، وَالْجَيْشُ كُلُّهُمْ مُشَاةٌ حَتَّى أُجْلِسَ الْخَلِيفَةُ عَلَى سَرِيرِهِ وَوَقَفَ الْمَلِكُ مَسْعُودٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَيْهِ، وَجِيءَ بِدُبَيْسٍ مَكْتُوفًا، وَعَنْ يَمِينِهِ أَمِيرَانِ وَعَنْ يَسَارِهِ أَمِيرَانِ وَسَيْفٌ مَسْلُولٌ وَشُقَّةٌ بَيْضَاءُ، فَطُرِحَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، مَاذَا يَرْسُمُ فِيهِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ ؟! فَأَقْبَلَ السُّلْطَانُ يَشْفَعُ فِي دُبَيْسٍ وَهُوَ مُلْقًى يَقُولُ: الْعَفْوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَا أَخْطَأْتُ وَالْعَفْوُ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِطْلَاقِهِ وَهُوَ يَقُولُ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ، فَنَهَضَ قَائِمًا وَالْتَمَسَ أَنْ يُقَبِّلَ يَدَ الْخَلِيفَةِ فَأَذِنَ لَهُ فَقَبَّلَهَا وَأَمَرَّهَا عَلَى صَدْرِهِ، وَسَأَلَ الْعَفْوَ عَنْهُ وَعَمَّا كَانَ مِنْهُ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَطَارَ هَذَا الْخَبَرُ فِي الْآفَاقِ وَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ فَلَمَّا كَانَ مُسْتَهَلُّ ذِي الْقَعْدَةِ جَاءَتِ الرُّسُلُ مِنْ جِهَةِ
الْمَلِكِ
سَنْجَرَ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ يَسْتَحِثُّهُ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى
الْخَلِيفَةِ، وَأَنْ يُبَادِرَ إِلَى سُرْعَةِ رَدِّهِ إِلَى وَطَنِهِ، وَأَرْسَلَ
مَعَ الرُّسُلِ جَيْشًا لِيَكُونُوا فِي خِدْمَةِ الْخَلِيفَةِ إِلَى بَغْدَادَ
فَصَحِبَ الْجَيْشَ عَشَرَةٌ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ، فَقِيلَ: مِنْ حَيْثُ لَا
يَشْعُرُونَ، وَقِيلَ: بَلْ كَانُوا مُجَهَّزِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِلَّا
أَنَّهُمْ حَالَةَ وُصُولِهِمْ إِلَى هُنَالِكَ حَمَلُوا عَلَى الْخَلِيفَةِ فِي
خَيْمَتِهِ، فَقَتَلُوهُ فِيهَا وَقَطَّعُوهُ قِطَعًا، فَلَمْ يَلْحَقِ النَّاسُ
مِنْهُ إِلَّا الرُّسُومَ، وَقَتَلُوا مَعَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُكَيْنَةَ فَأُخِذَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ فَأُحْرِقُوا
قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، وَسَارَتْ بِذَلِكَ الرُّكْبَانُ فِي الْبُلْدَانِ فَمَا
مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ إِلَّا وَهُمْ أَشَدُّ حُزْنًا عَلَى الْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَرْشِدِ مِنَ الْأُخْرَى لَا سِيَّمَا أَهْلَ بَغْدَادَ وَخَرَجَتِ النِّسَاءُ
فِي الطُّرُقَاتِ يَنُحْنَ عَلَيْهِ وَيَنْدُبْنَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو
الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مَا كُنَّ يَقُلْنَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَى
الْخَلِيفَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ مَقْتَلُهُ عَلَى بَابِ مَرَاغَةَ فِي
يَوْمِ الْخَمِيسِ سَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ فَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ خَبَرُ مَوْتِهِ بِبَغْدَادَ عُمِلَ لَهُ الْعَزَاءُ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَمَا بُويِعَ لِوَلَدِهِ الرَّاشِدِ.
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ تَرْجَمَةِ الْمُسْتَرْشِدِ رَحِمَهُ اللَّهُ
كَانَ الْمُسْتَرْشِدُ شُجَاعًا مِقْدَامًا بَعِيدَ الْهِمَّةِ، فَصِيحًا بَلِيغًا
عَذْبَ الْكَلَامِ حَسَنَ الْإِيرَادِ مَلِيحَ الْخَطِّ، كَثِيرَ الْعِبَادَةِ،
مُحَبَّبًا إِلَى الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَهُوَ آخِرُ خَلِيفَةٍ رُئِيَ
خَطِيبًا، قُتِلَ وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ،
وَكَانَتْ مُدَّةُ
خِلَافَتِهِ
سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَتْ
أُمُّهُ أُمَّ وَلَدٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ.
خِلَافَةُ الرَّاشِدِ بِاللَّهِ أَبِي جَعْفَرٍ مَنْصُورِ بْنِ الْمُسْتَرْشِدِ،
كَانَ أَبُوهُ قَدْ أَخَذَ لَهُ الْعَهْدَ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَخْلَعَهُ فَلَمْ
يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُقَدَّرْ، فَلَمَّا قُتِلَ أَبُوهُ
بِبَابِمَرَاغَةَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ
مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا، كَانَ هُوَ
بِبَغْدَادَ فَلَمَّا جَاءَ خَبَرُهُ إِلَيْهَا بَايَعَهُ الْأُمَرَاءُ
وَالْأَعْيَانُ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ بِبَغْدَادَ وَسَائِرِ
الْبِلَادِ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ كَبِيرًا لَهُ أَوْلَادٌ، وَكَانَ أَبْيَضَ
جَسِيمًا حَسَنَ اللَّوْنِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
جِيءَ بِالْمُسْتَرْشِدِ - قَدْ نُقِلَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى بَغْدَادَ - فَصُلِّيَ
عَلَيْهِ بِبَيْتِ النُّوبَةِ وَكَثُرَ الزِّحَامُ وَخَرَجَ النَّاسُ لِصَلَاةِ
الْعِيدِ مِنَ الْغَدِ، وَهُمْ فِي حُزْنٍ شَدِيدٍ عَلَى الْمُسْتَرْشِدِ، وَقَدْ
ظَهَرَ الرَّفْضُ قَلِيلًا فِي أَوَّلِ أَيَّامِ الرَّاشِدِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُمَرَ أَبُو الْمُظَفَّرِ
بْنُ أَبِي بَكْرٍ الشَّاشِيُّ، تَفَقَّهَ بِأَبِيهِ وَاخْتَرَمَتْهُ الْمَنِيَّةُ
بَعْدَ أَخِيهِ وَلَمْ يَبْلُغْ سِنَّ الرِّوَايَةِ.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَلِيٍّ
أَبُو الْقَاسِمِ الْحَاكِمِيُّ تَفَقَّهَ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَكَانَ
رَفِيقَ الْغَزَالِيِّ فِي الِاشْتِغَالِ وَأَسَنَّ مِنْهُ، فَلِهَذَا كَانَ
الْغَزَالِيُّ يَحْتَرِمُهُ وَيُكْرِمُهُ وَكَانَ فَقِيهًا بَارِعًا وَعَابِدًا
وَرِعًا، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بِطُوسَ
وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الْغَزَالِيِّ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
دُبَيْسُ بْنُ صَدَقَةَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ دُبَيْسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ
أَبُو الْأَعَزِّ الْأَسَدِيُّ الْأَمِيرُ، مِنْ بَيْتِ الْإِمْرَةِ وِسَادَةِ
الْأَعْرَابِ كَانَ شُجَاعًا بَطَلًا فَعَلَ الْأَفَاعِيلَ وَتَمَزَّقَ فِي
الْبِلَادِ مِنْ خَوْفِهِ مِنَ الْخَلِيفَةِ ثُمَّ اسْتُرْضِيَ عَنْهُ
الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَرْشِدُ كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا قُتِلَ الْخَلِيفَةُ
عَاشَ بَعْدَهُ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثُمَّ اتُّهِمَ عِنْدَ
السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ بِأَنَّهُ قَدْ كَاتَبَ زَنْكِي يَنْهَاهُ عَنِ الْقُدُومِ
عَلَى السُّلْطَانِ، وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَنْجُوَ بِنَفْسِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ
السُّلْطَانُ غُلَامًا أَرْمَنِيًّا فَوَجَدَهُ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ يُفَكِّرُ فِي
أَمْرِهِ فَمَا كَلَّمَهُ حَتَّى شَهَرَ سَيْفَهُ وَضَرَبَهُ بِهِ فَأَبَانَ رَأْسَهُ
عَنْ جُثَّتِهِ، وَيُقَالُ: بَلِ اسْتَدْعَاهُ السُّلْطَانُ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ
صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
طُغْرُلُ السُّلْطَانُ بْنُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ
تُوفِّيَ بِهَمَذَانَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرْزِيجَانِيُّ،
كَانَ عَابِدًا زَاهِدًا حَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ
بِأَنَّ الْقُدْرَةَ تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَحِيلِ، ثُمَّ أَنْكَرَ ذَلِكَ
وَعُذِرَ بِجَهْلِهِ وَعَدَمِ تَعَقُّلِهِ لِمَا يَقُولُ.
الْفَضْلُ
أَبُو مَنْصُورٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَرْشِدُ بِاللَّهِ،
كَانَ مِنْ خِيَارِ الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ شَهْمًا شُجَاعًا يُبَاشِرُ
الْحُرُوبَ بِنَفْسِهِ وَقَدْ أَسْلَفْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
قَتَلَتْهُ الْبَاطِنِيَّةُ بِبَابِ مَرَاغَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّابِعَ
عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى بَغْدَادَ
فَدُفِنَ بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ وَجَعَلَ
الْجَنَّةَ مَنْزِلَتَهُ وَمَأْوَاهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ
بِسَبَبِ أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ مَا كَانَ كَتَبَهُ
لَهُ وَالِدُهُ الْمُسْتَرْشِدُ حِينَ أَسَرَهُ، الْتَزَمَ لَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ ذَلِكَ وَقَالَ لَيْسَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ إِلَّا السَّيْفُ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمَا الْخُلْفُ فَاسْتَجَاشَ
السُّلْطَانُ الْعَسَاكِرَ وَاسْتَنْهَضَ الْخَلِيفَةُ الْأُمَرَاءَ وَأَرْسَلَ
إِلَى عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِي، فَجَاءَ وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلَائِقُ، وَجَاءَ
فِي غُبُونِ ذَلِكَ السُّلْطَانُ دَاوُدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
مَلِكْشَاهْ فَخَطَبَ لَهُ الْخَلِيفَةُ بِبَغْدَادَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ
وَبَايَعَهُ عَلَى الْمُلْكِ، فَتَأَكَّدَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ السُّلْطَانِ
وَالْخَلِيفَةِ جِدًّا، وَبَرَزَ الْخَلِيفَةُ إِلَى ظَاهِرِ بَغْدَادَ، وَمَشَى
الْجَيْشُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا كَانُوا يُعَامِلُونَ أَبَاهُ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ
يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سَلْخَ شَعْبَانَ، وَخَرَجَ السُّلْطَانُ دَاوُدُ مِنْ
جَانِبٍ آخَرَ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ كَثْرَةُ جُيُوشِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ
حَسَّنَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَذْهَبَ مَعَهُ إِلَى
الْمَوْصِلِ، وَاتَّفَقَ دُخُولُ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ إِلَى بَغْدَادَ فِي
غَيْبَتِهِمْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ رَابِعَ شَوَّالٍ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى دَارِ
الْخِلَافَةِ بِمَا فِيهَا جَمِيعِهِ، ثُمَّ اسْتَخْلَصَ مِنْ نِسَاءِ
الْخَلِيفَةِ وَحَظَايَاهُ الْحُلِيَّ وَالْمَصَاغَ وَالثِّيَابَ الَّتِي
لِلزِّينَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَجَمَعَ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ وَأَبْرَزَ
لَهُمْ خَطَّ الرَّاشِدِ أَنَّهُ مَتَى خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ لِقِتَالِ
السُّلْطَانِ فَقَدْ خَلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ، فَأَفْتَى مَنْ أَفْتَى
مِنَ الْفُقَهَاءِ بِخَلْعِهِ، فَخُلِعَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَادِسَ عَشَرَ
شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَفُتَيَا أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ
وَكَانَتْ
خِلَافَتُهُ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا وَأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَاسْتَدْعَى
السُّلْطَانُ بِعَمِّهِ الْمُقْتَفِي بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ فَبُويِعَ
بِالْخِلَافَةِ، عِوَضًا عَنِ ابْنِ أَخِيهِ الرَّاشِدِ بِاللَّهِ.
خِلَافَةُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ
وَأُمُّهُ صَفْرَاءُ تُسَمَّى نُسَيْمَ وَيُقَالُ لَهَا: سِتُّ السَّادةِ، وَلَهُ
مِنَ الْعُمْرِ يَوْمئِذٍ أَرْبَعُونَ سَنَةً، بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ
خَلْعِ الرَّاشِدِ بِيَوْمَيْنِ وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، يَوْمَ
الْجُمُعَةِ لِعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَلُقِّبَ بِالْمُقْتَفِي ;
لِأَنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: سَيَصِلُ هَذَا الْأَمْرُ
إِلَيْكَ فَاقْتَفِ بِي. فَصَارَ إِلَيْهِ بَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ فَلُقِّبَ
بِذَلِكَ لِذَلِكَ.
فَائِدَةٌ حَسَنَةٌ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا
وَلِيَ الْمُقْتَفِي وَالْمُسْتَرْشِدُ الْخِلَافَةَ وَكَانَا أَخَوَيْنِ،
وَكَذَلِكَ السَّفَّاحُ وَالْمَنْصُورُ وَكَذَلِكَ الْهَادِي وَالرَّشِيدُ ابْنَا
الْمَهْدِيِّ وَكَذَلِكَ الْوَاثِقُ وَالْمُتَوَكِّلُ ابْنَا الْمُعْتَصِمِ
أَخَوَانِ، وَأَمَّا ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ فَالْأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ
وَالْمُعْتَصِمُ بَنُو الرَّشِيدِ، وَالْمُنْتَصِرُ وَالْمُعْتَزُّ
وَالْمُعْتَمِدُ بَنُو الْمُتَوَكِّلِ، وَالْمُكْتَفِي وَالْمُقْتَدِرُ
وَالْقَاهِرُ بَنُو الْمُعْتَضِدِ، وَالرَّاضِي وَالْمُقْتَفِي وَالْمُطِيعُ بَنُو
الْمُقْتَدِرِ، وَأَمَّا أَرْبَعَةُ إِخْوَةٍ فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا فِي بَنِي
أُمَيَّةَ وَهُمُ: الْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ وَيَزِيدُ وَهِشَامُ بَنُو عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُقْتَفِي بِالْخِلَافَةِ
اسْتَمَرَّ الرَّاشِدُ ذَاهِبًا إِلَى الْمَوْصِلِ صُحْبَةَ صَاحِبِهَا عِمَادِ
الدِّينِ زَنْكِي فَدَخَلَهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّوَيْهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمَّوَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْجُوَيْنِيُّ، رَوَى الْحَدِيثَ وَكَانَ صَدُوقًا مَشْهُورًا بِالْعِلْمِ
وَالزُّهْدِ، وَلَهُ كَرَامَاتٌ، دَخَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَلَمَّا وَدَّعَهُمْ
أَنْشَدَهُمْ:
لَئِنْ كَانَ لِي مِنْ بَعْدُ عَوْدٌ إِلَيْكُمُ قَضَيْتُ لُبَانَاتِ الْفُؤَادِ
لَدَيْكُمُ وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى وَفِي الْغَيْبِ عِبْرَةٌ
وَحَالَ قَضَاءٌ فَالسَّلَامُ عَلَيْكُمُ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَبِيبٍ
أَبُو بَكْرٍ الْعَامِرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَبَّازَةِ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ وَرَحَلَ فِي طَلَبِهِ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ
وَالْحَدِيثِ، وَقَدْ شَرَحَ كِتَابَ " الشِّهَابِ "، وَكَانَ يَعِظُ
النَّاسَ عَلَى طَرِيقِ التَّصَوُّفِ، وَكَانَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِيمَنْ
تَأَدَّبَ بِهِ وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
كَيْفَ احْتِيَالِي وَهَذَا فِي الْهَوَى حَالِي وَالشَّوْقُ أَمْلَكُ لِي مِنْ
عَذْلِ عُذَّالِي
وَكَيْفَ أَسْلُو وَفِي حُبِّي لَهُ شُغُلٌ يَحُولُ بَيْنَ مُهِمَّاتِي
وَأَشْغَالِي
وَقَدِ ابْتَنَى رِبَاطًا، فَكَانَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ
وَالزُّهَّادِ، وَلَمَّا احْتَضَرَ أَوْصَاهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ
وَالْإِخْلَاصِ ثُمَّ شَرَعَ فِي النَّزْعِ وَعَرَقَ جَبِينُهُ فَمَدَّ يَدَهُ
ثُمَّ قَالَ:
هَا
قَدْ بَسَطْتُ يَدِي إِلَيْكَ فَرُدَّهَا بِالْفَضْلِ لَا بِشَمَاتَةِ
الْأَعْدَاءِ
ثُمَّ قَالَ أَرَى الْمَشَايِخَ بَيْنَ أَيْدِيهِمُ الْأَطْبَاقُ، وَهُمْ
يَنْتَظِرُونَنِي ثُمَّ مَاتَ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ نِصْفَ رَمَضَانَ
وَدُفِنَ بِرِبَاطِهِ ثُمَّ غَرِقَ رِبَاطُهُ وَقَبْرُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْعَبَّاسِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّاعِدِيُّ الْفُرَاوِيُّ
كَانَ أَبُوهُ مِنْ ثَغْرِ فُرَاوَةَ وَسَكَنَ نَيْسَابُورَ فَوُلِدَ لَهُ بِهَا
مُحَمَّدٌ هَذَا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ
الْمَشَايِخِ بِالْآفَاقِ، وَتَفَقَّهَ وَأَفْتَى وَنَاظَرَ وَوَعَظَ، وَكَانَ
ظَرِيفًا حَسَنَ الْوَجْهِ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ كَثِيرَ التَّبَسُّمِ،
وَأَمْلَى أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ مَجْلِسٍ وَرَحَلَ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ مِنَ
الْآفَاقِ حَتَّى كَانَ يُقَالُ: لِلْفُرَاوِيِّ أَلْفُ رَاوٍ. وَقِيلَ: إِنَّ
ذَلِكَ كَانَ مَكْتُوبًا فِي خَاتَمِهِ، وَقَدْ أَسْمَعَ " صَحِيحَ مُسْلِمٍ
" قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً.
تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَثُرَ مَوْتُ الْفَجْأَةِ بِأَصْبَهَانَ، فَمَاتَ أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ
وَأُغْلِقَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ الْخَلِيفَةُ بِالْخَاتُونَ فَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ
مَلِكْشَاهْ عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَحَضَرَ أَخُوهَا
السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ الْعَقْدَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الدَّوْلَةِ،
وَالْوُزَرَاءُ وَالْأُمَرَاءُ وَنُثِرَ عَلَى النَّاسِ أَنْوَاعُ النِّثَارِ.
وَفِيهَا صَامَ أَهْلُ بَغْدَادَ رَمَضَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَمْ يَرَوُا
الْهِلَالَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ مَعَ كَوْنِ السَّمَاءِ كَانَتْ
مُصْحِيَةً.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ.
وَفِيهَا هَرَبَ وَزِيرُ صَاحِبِ مِصْرَ وَهُوَ تَاجُ الدَّوْلَةِ بَهْرَامُ
النَّصْرَانِيُّ، وَقَدْ كَانَ تَمَكَّنَ فِي الْبِلَادِ وَأَسَاءَ السِّيرَةَ
فَتَطَلَّبَهُ الْخَلِيفَةُ الْحَافِظُ حَتَّى أَخَذَهُ فَسَجَنَهُ، ثُمَّ
أَطْلَقَهُ فَتَرَهَّبَ وَتَرَكَ الْعَمَلَ، فَاسْتَوْزَرَ بَعْدَهُ رِضْوَانَ
بْنَ الزَّنْجِيِّ، وَلَقَّبَهُ الْمَلِكَ الْأَفْضَلَ وَلَمْ يُلَقَّبْ وَزِيرٌ
بِذَلِكَ قَبْلَهُ، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَافِظِ، فَلَمْ يَزَلْ
بِهِ
الْخَلِيفَةُ
حَتَّى قَتَلَهُ وَاشْتَغَلَ بِتَدْبِيرِ أُمُورِهِ وَحْدَهُ.
وَفِيهَا مَلَكَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي عِدَّةَ بِلَادٍ. وَفِيهَا ظَهَرَ
بِالشَّامِ سَحَابٌ أَسْوَدُ أَظْلَمَتْ لَهُ الدُّنْيَا، ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَهُ سَحَابٌ
أَحْمَرُ كَأَنَّهُ نَارٌ أَضَاءَتْ لَهُ الدُّنْيَا، ثُمَّ جَاءَتْ رِيحٌ عَاصِفٌ
أَلْقَتْ أَشْجَارًا كَثِيرَةً، ثُمَّ وَقَعَ مَطَرٌ شَدِيدٌ وَسَقَطَ بَرَدٌ
كِبَارٌ.
وَفِيهَا قَصَدَ مَلِكُ الرُّومِ بِلَادَ الشَّامِ فَأَخَذَ بِلَادًا كَثِيرَةً
مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ، وَأَطَاعَهُ أَلْيُونُ بْنُ مَلِكِ الْأَرْمَنِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو سَعْدٍ
الْخُجَنْدِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى وَالِدِهِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْخُجَنْدِيِّ
الْأَصْبَهَانِيِّ، وَوَلِيَ التَّدْرِيسَ بِالْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ
بِبَغْدَادَ مِرَارًا، وَيُعْزَلُ عَنْهَا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَوَعَظَ،
وَتُوُفِّيَ فِي غُرَّةِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ
التِّسْعِينَ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْحَرِيرِيُّ،
يُعْرَفُ بِابْنِ الطَّبَرِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى عَنْ
أَبِي الْحَسَنِ ابْنِ زَوْجِ الْحُرَّةِ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ
الْخَطِيبُ، وَكَانَ ثَبَتًا صَحِيحَ السَّمَاعِ، كَثِيرَ الذِّكْرِ
وَالتِّلَاوَةِ، مُمَتَّعًا بِحَوَاسِّهِ وَقُوَاهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي
جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً رَحِمَهُ
اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا قُتِلَ الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ الْمَخْلُوعُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ
مَعَهُ الْمَلِكُ دَاوُدُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ، فَقَصَدُوا
قِتَالَ مَسْعُودٍ بِأَرْضِ مَرَاغَةَ فَهَزَمَهُمْ وَبَدَّدَ شَمْلَهُمْ وَقَتَلَ
مِنْهُمْ خَلْقًا صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْهُمْ صَدَقَةُ بْنُ دُبَيْسٍ
وَوَلَّى أَخَاهُ مُحَمَّدًا مَكَانَهُ عَلَى الْحِلَّةِ وَهَرَبَ الْخَلِيفَةُ
الرَّاشِدُ الْمَخْلُوعُ فَدَخَلَ أَصْبَهَانَ فَقَتَلَهُ مَنْ كَانَ يَخْدُمُهُ
مِنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ بَرَأَ مِنْ وَجَعٍ أَصَابَهُ، فَقَتَلُوهُ
فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِشَهْرَسْتَانَ ظَاهِرَ
أَصْبَهَانَ وَقَدْ كَانَ حَسَنَ اللَّوْنِ مَلِيحَ الْوَجْهِ شَدِيدَ الْقُوَّةِ
مَهِيبًا. أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا كَسَا الْكَعْبَةَ رَجُلٌ مِنَ التُّجَّارِ يُقَالُ لَهُ رَاسَتُ
الْفَارِسِيُّ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ
تَأْتِهَا كُسْوَةٌ فِي هَذَا الْعَامِ لِاخْتِلَافِ الْمُلُوكِ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِبِلَادِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ
وَالْعِرَاقِ فَانْهَدَمَ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَمَاتَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ. وَفِيهَا كَانَ بِخُرَاسَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ
حَتَّى
أَكَلُوا الْكِلَابَ.
وَفِيهَا أَخَذَ الْمَلِكُ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِي مَدِينَةَ حِمْصَ فِي
الْمُحَرَّمِ وَتَزَوَّجَ فِي رَمَضَانَ بِالسِّتِّ زُمُرُّدَ خَاتُونَ، أُمِّ
صَاحِبِ دِمَشْقَ وَهِيَ الَّتِي تُنْسَبُ إِلَيْهَا الْخَاتُونِيَّةُ
الْبَرَّانِيَّةُ.
وَفِيهَا مَلَكَ صَاحِبُ الرُّومِ مَدِينَةَ بُزَاعَةَ وَهِيَ عَلَى سِتَّةِ
فَرَاسِخَ مِنْ حَلَبَ، فَجَاءَ أَهْلُهَا الَّذِينَ نَجَوْا مِنَ الْقَتْلِ
وَالسَّبْيِ يَسْتَغِيثُونَ بِالْمُسْلِمِينَ بِبَغْدَادَ، فَمُنِعَتِ الْخُطْبَةُ
بِبَغْدَادَ وَجَرَتْ فِتَنٌ طَوِيلَةٌ.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ سَفْرَى بِنْتَ دُبَيْسِ بْنِ
صَدَقَةَ، وَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ لِذَلِكَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: فَحَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَسَادٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ مُنْتَشِرٌ ثُمَّ
تَزَوَّجَ ابْنَةَ عَمِّهِ فَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَيْضًا.
وَفِيهَا وُلِدَ السُّلْطَانُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ
بْنِ شَاذِيٍّ بِقَلْعَةِ تَكْرِيتَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ نَظَرٌ
الْخَادِمُ، وَكَذَا فِي السَّنَوَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، أَثَابَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ
الدِّينَوَرِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي
الْخَطَّابِ الْكَلْوَذَانِيِّ، وَأَفْتَى وَدَرَّسَ وَنَاظَرَ وَكَانَ أَسْعَدُ
الْمِيهَنِيُّ يَقُولُ: مَا اعْتَرَضَ أَبُو بَكْرٍ الدِّينَوَرِيُّ عَلَى دَلِيلِ
أَحَدٍ
إِلَّا
ثَلَمَهُ، وَقَدْ تَخَرَّجَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ
وَأَنْشَدَ عَنْهُ قَوْلَهُ:
تَمَنَّيْتُ أَنْ تُمْسِيَ فَقِيهًا مُنَاظِرًا بِغَيْرِ عَنَاءٍ فَالْجُنُونُ
فُنُونُ وَلَيْسَ اكْتِسَابُ الْمَالِ دُونَ مَشَقَّةٍ
تَلَقَّيْتَهَا فَالْعِلْمُ كَيْفَ يَكُونُ
عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ هَوَازِنَ أَبُو الْمُظَفَّرِ
الْقُشَيْرِيُّ آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ سَمِعَ أَبَاهُ وَأَبَا بَكْرٍ
الْبَيْهَقِيَّ وَغَيْرَهُمَا وَسَمِعَ مِنْهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ
الْأَنْمَاطِيُّ، وَأَجَازَ ابْنَ الْجَوْزِيِّ وَقَارَبَ التِّسْعِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ أَبُو الْحَسَنِ
الْكَرَجِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ فِي بِلَادٍ شَتَّى، وَكَانَ فَقِيهًا مُفْتِيًا،
تَفَقَّهَ بِأَبِي إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَكَانَ
أَدِيبًا شَاعِرًا فَصِيحًا، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ ; مِنْهَا الْفُصُولُ
فِي اعْتِقَادِ الْأَئِمَّةِ الْفُحُولِ، يَذْكُرُ فِيهِ مَذَاهِبَ السَّلَفِ فِي
بَابِ الِاعْتِقَادِ، وَيَحْكِي فِيهِ أَشْيَاءَ غَرِيبَةً حَسَنَةً، وَلَهُ
تَفْسِيرٌ وَكِتَابٌ فِي الْفِقْهِ وَكَانَ لَا يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ،
وَيَقُولُ: لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ، وَقَدْ كَانَ إِمَامُنَا
الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي هَذَا
الْحَائِطَ، وَقَدْ كَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ وَمِنْ
شِعْرِهِ:
تَنَاءَتْ
دَارُهُ عَنِّي وَلَكِنْ خَيَالُ جَمَالِهِ فِي الْقَلْبِ سَاكِنْ
إِذَا امْتَلَأَ الْفُؤَادُ بِهِ فَمَاذَا يَضُرُّ إِذَا خَلَتْ مِنْهُ
الْأَمَاكِنْ
تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ.
الْخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ مَنْصُورُ بْنُ الْمُسْتَرْشِدِ
وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَبِيهِ ثُمَّ خُلِعَ، فَذَهَبَ مَعَ الْعِمَادِ
زَنْكِي إِلَى أَرْضِ الْمَوْصِلِ، ثُمَّ جَمَعَ جُمُوعًا فَاقْتَتَلَ مَعَ
الْمَلِكِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَهَزَمَهُمْ، فَذَهَبَ إِلَى
أَصْبَهَانَ فَقُتِلَ بَعْدَ مَرَضٍ أَصَابَهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ سُمَّ، وَقِيلَ:
قَتَلَتْهُ الْبَاطِنِيَّةُ وَقِيلَ: قَتَلَهُ الْفَرَّاشُونَ الَّذِينَ كَانُوا
يَلُونَ أَمْرَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصُّولِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
النَّاسُ يَقُولُونَ: كُلُّ سَادِسٍ يَقُومُ بِأَمْرِ النَّاسِ مِنْ أَوَّلِ
الْإِسْلَامِ لَا بُدَّ أَنْ يُخْلَعَ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَتَأَمَّلْتُ
ذَلِكَ فَرَأَيْتُهُ عَجَبًا ; قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ ثُمَّ
الْحَسَنُ فَخُلِعَ، ثُمَّ مُعَاوِيَةُ وَيَزِيدُ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ
وَمَرْوَانُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَخُلِعَ
وَقُتِلَ، ثُمَّ الْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ ثُمَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَيَزِيدُ وَهِشَامٌ ثُمَّ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ فَخُلِعَ وَقُتِلَ، وَلَمْ
يَنْتَظِمْ لِبَنِي أُمَيَّةَ بَعْدَهُ أَمْرٌ حَتَّى قَامَ السَّفَّاحُ
الْعَبَّاسِيُّ ثُمَّ أَخُوهُ الْمَنْصُورُ ثُمَّ الْمَهْدِيُّ ثُمَّ الْهَادِي
ثُمَّ الرَّشِيدُ ثُمَّ الْأَمِينُ فَخُلِعَ وَقُتِلَ، ثُمَّ الْمَأْمُونُ
وَالْمُعْتَصِمُ
وَالْوَاثِقُ
وَالْمُتَوَكِّلُ وَالْمُنْتَصِرُ ثُمَّ الْمُسْتَعِينُ فَخُلِعَ وَقُتِلَ، ثُمَّ
الْمُعْتَزُّ وَالْمُهْتَدِي وَالْمُعْتَمِدُ وَالْمُعْتَضِدُ وَالْمُكْتَفِي
ثُمَّ الْمُقْتَدِرُ فَخُلِعَ ثُمَّ أُعِيدَ فَقُتِلَ، ثُمَّ الْقَاهِرُ
وَالرَّاضِي وَالْمُتَّقِي وَالْمُكْتَفِي وَالْمُطِيعُ ثُمَّ الطَّائِعُ
فَخُلِعَ، ثُمَّ الْقَادِرُ وَالْقَائِمُ وَالْمُقْتَدِي وَالْمُسْتَظْهِرُ
وَالْمُسْتَرْشِدُ ثُمَّ الرَّاشِدُ فَخُلِعَ وَقُتِلَ.
أَنُوشِرْوَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاشَانِيُّ الْفِينِيُّ
مِنْ قَرْيَةِ فِينَ مِنْ قَاشَانَ الْوَزِيرُ أَبُو نَصْرٍ وَزَرَ لِلسُّلْطَانِ
مَحْمُودٍ وَلِلْخَلِيفَةِ الْمُسْتَرْشِدِ، وَكَانَ عَاقِلًا مَهِيبًا عَظِيمَ
الْخِلْقَةِ، وَهُوَ الَّذِي أَلْزَمَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَرِيرِيَّ بِتَكْمِيلِ
الْمَقَامَاتِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَرِيرِيَّ كَانَ
جَالِسًا ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَسْجِدِ بَنِي حَرَامٍ مِنْ مَحَالِّ الْبَصْرَةِ
فَدَخَلَ عَلَيْهِ شَيْخٌ ذُو طِمْرَيْنِ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَنَا
رَجُلٌ مِنْ سَرُوجَ يُقَالُ لِي أَبُو زَيْدٍ، فَعَمِلَ الْحَرِيرِيُّ
الْمَقَامَةَ الْحَرَامِيَّةَ وَاشْتُهِرَتْ فِي النَّاسِ، فَلَمَّا طَالَعَهَا
الْوَزِيرُ أَنُوشِرْوَانُ أُعْجِبَ بِهَا، وَكَلَّفَ أَبَا مُحَمَّدٍ
الْحَرِيرِيَّ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا غَيْرَهَا فَعَمِلَ مَعَهَا تَمَامَ
خَمْسِينَ مَقَامَةً، فَهِيَ هَذِهِ الْمَشْهُورَةُ الْمُتَدَاوَلَةُ بَيْنَ
النَّاسِ، وَقَدْ كَانَ الْوَزِيرُ كَرِيمًا مُحَمَّدًا غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ
يُنْسَبُ إِلَى التَّشَيُّعِ وَقَدْ مَدَحَهُ الْحَرِيرِيُّ فَقَالَ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي وَالتَّمَنِّي تَعِلَّةٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ رَاحَةٌ لِأَخِي
الْكَرْبِ
أَتَدْرُونَ أَنِّي مُذْ تَنَاءَتْ دِيَارُكُمْ وَشَطَّ اقْتِرَابِي مِنْ
جَنَابِكُمُ الرَّحْبِ
أُكَابِدُ شَوْقًا مَا يَزَالُ أُوَارُهُ يُقَلِّبُنِي فِي اللَّيْلِ جَنْبًا
عَلَى جَنْبِ
وَأَذْكُرُ
أَيَّامَ التَّلَاقِي فَأَنْثَنِي لِتِذْكَارِهَا بَادِي الْأَسَى طَائِرَ
اللُّبِّ
وَلِي حَنَّةٌ فِي كُّلِّ وَقْتٍ إِلَيْكُمُ وَلَا حَنَّةُ الصَّادِي إِلَى
الْبَارِدِ الْعَذْبِ
فَوَاللَّهِ لَوْ أَنِّي كَتَمْتُ هَوَاكُمُ لَمَا كَانَ مَكْتُومًا بِشَرْقٍ
وَلَا غَرْبِ
وَمِمَّا شَجَا قَلْبِي الْمُعَنَّى وَشَفَّهُ رِضَاكُمْ بِإِهْمِالِ الْإِجَابَةِ
عَنْ كُتْبِي
وَقَدْ كُنْتُ لَا أَخْشَى مَعَ الذَّنْبِ جَفْوَةً فَقَدْ صِرْتُ أَخْشَاهَا
وَمَا لِيَ مِنْ ذَنْبِ
وَلَمَّا سَرَى الْوَفْدُ الْعِرَاقِيُّ نَحْوَكُمْ وَأَعْوَزَنِي الْمَسْرَى
إِلَيْكُمْ مَعَ الرَّكْبِ
جَعَلْتُ كِتَابِي نَائِبِي عَنْ ضَرُورَةٍ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ
بِالتُّرْبِ
وَنَفَّذْتُ أَيْضًا بَضْعَةً مِنْ جَوَارِحِي لِتُنْبِئَكَمْ عَنْ شَرْحِ حَالِي
وَتَسْتَنْبِي
وَلَسْتُ أَرَى إِذْ كَارَكُمْ بَعْدَ خُبْرِكُمْ بِمَكْرُمَةٍ حَسْبِي
اهْتِزَازُكُمُ حَسْبِي
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِمَدِينَةِ جَنْزَةَ، مَاتَ بِسَبَبِهَا
مِائَتَا أَلْفٍ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا، وَصَارَ مَكَانُهَا مَاءً أَسْوَدَ
عَشَرَةَ فَرَاسِخَ فِي مِثْلِهَا، وَزُلْزِلَ أَهْلُ حَلَبَ فِي لَيْلَةٍ
وَاحِدَةٍ ثَمَانِينَ مَرَّةً
وَفِيهَا وَضَعَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ مُكُوسًا كَثِيرَةً عَنِ النَّاسِ،
وَكَثُرَتِ الْأَدْعِيَةُ لَهُ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ وَخُوَارِزْمِ
شَاهْ، فَهَزَمَهُ سَنْجَرُ، وَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَلَدُهُ فَحَزِنَ
عَلَيْهِ وَالِدُهُ حُزْنًا شَدِيدًا.
وَفِيهَا قُتِلَ صَاحِبُ دِمَشْقَ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ تَاجِ
الْمُلُوكِ بُورِي بْنِ طُغْتِكِينَ، قَتَلَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ خَوَاصِّهِ لَيْلًا
وَهَرَبُوا مِنَ الْقَلْعَةِ، فَأُدْرِكُ اثْنَانِ فَصُلِبَا، وَأَفْلَتَ وَاحِدٌ.
وَمَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ كَمَالُ الدَّيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ تَاجِ الْمُلُوكِ
وَكَانَ بِبَعْلَبَكَّ قَبْلَ ذَلِكَ فَمَلَكَ بَعْدَهُ بَعْلَبَكَّ عِمَادُ
الدِّينِ زَنْكِي وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا الْأَمِيرَ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ
وَالِدَ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَالْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرٍ
وَذُرِّيَّتِهِمَا.
وَفِيهَا
صُرِفَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَنِ الْمُبَاشَرَاتِ، ثُمَّ أُعِيدُوا قَبْلَ
شَهْرٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا نَظَرٌ الْخَادِمُ أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
زَاهِرُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الشَّحَّامِيُّ، الْمُحَدِّثُ الْمُكْثِرُ
الرَّحَّالُ الْجَوَّالُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَمْلَى بِجَامِعِ نَيْسَابُورَ
أَلْفَ مَجْلِسٍ، وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ بِهِ مَرَضٌ يُكْثِرُ بِسَبَبِهِ
الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ، فَتَكَلَّمَ فِيهِ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ
وَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ يُخِلُّ بِالصَّلَوَاتِ وَقَدْ رَدَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
عَلَى السَّمْعَانِيِّ بِعُذْرِ الْمَرَضِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
بَلَغَ خَمْسًا وَثَمَانِينَ سَنَةً وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِنَيْسَابُورَ فِي
رَبِيعٍ الْآخَرِ وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ يَحْيِي بْنِ يَحْيِي.
عَلِيُّ بْنُ أَفْلَحَ
أَبُو الْقَاسِمِ الْكَاتِبُ، وَقَدْ خَلَعَ عَلَيْهِ الْمُسْتَرْشِدُ وَلَقَبَّهُ
جَمَالَ الْمُلْكِ وَأَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ دُورٍ، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ إِلَى
جَانِبِهِنَّ فَهَدَمَهُنَّ كُلَّهُنَّ، وَاتَّخَذَ مَكَانَهُنَّ دَارًا هَائِلَةً
; طُولُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي عَرْضِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَأَطْلَقَ لَهُ
الْخَلِيفَةُ
أَخْشَابًا وَآجُرًّا وَذَهَبًا فَبَنَاهَا، وَغَرِمَ عَلَيْهَا ابْنُ أَفْلَحَ
مَالًا جَزِيلًا، وَكَتَبَ عَلَى أَبْوَابِهَا وَطِرَازَاتِهَا، أَشْعَارًا
حَسَنَةً مِنْ نَظْمِهِ وَنَظْمِ غَيْرِهِ ; فَمِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ عَلَى بَابِ
الدَّارِ:
إِنْ عَجِبَ الرَّاءُونَ مِنْ ظَاهِرِي فَبَاطِنِي لَوْ عَلِمُوا أَعْجَبُ
شَيَّدَنِي مَنْ كَفُّهُ مُزْنَةٌ
يَحْمِلُ مِنْهَا الْعَارِضُ الصَّيِّبُ وَدَبَّجَتْ رَوْضَةُ أَخْلَاقِهِ
فِيَّ رِيَاضًا نُورُهَا مُذْهَبُ صَدْرٌ كَسَا صَدْرِيَ مِنْ نُورِهِ
شَمْسًا عَلَى الْأَيَّامِ لَا تَغْرُبُ
وَعَلَى الطُّرُزِ مَكْتُوبٌ:
وَمِنَ الْمُرُوءَةِ لِلْفَتَى مَا عَاشَ دَارٌ فَاخِرَهْ
فَاقْنَعْ مِنَ الدُّنْيَا بِهَا وَاعْمَلْ لِدَارِ الْآخِرَهْ
هَاتِيكَ وَافِيَةٌ بِمَا وَعَدَتْ وَهَذِي سَاحِرَهْ
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَكْتُوبٌ:
وَنَادٍ كَأَنَّ جِنَانَ الْخُلُودِ أَعَارَتْهُ مِنْ حُسْنِهَا رَوْنَقَا
وَأَعْطَتْهُ مِنْ حَادِثَاتِ الزَّمَا نِ أَنْ لَا تُلِمَّ بِهِ مَوْثِقَا
فَأَضْحَى
يَتِيهُ عَلَى كُلِّ مَا بُنِيَ مَغْرِبًا كَانَ أَوْ مَشْرِقَا
تَظَلُّ الْوُفُودُ بِهِ عُكَّفًا وَتُمْسِي الضُّيُوفُ بِهِ طُرَّقَا
بَقِيتَ لَهُ يَا جَمَالَ الْمُلُو كِ وَالْفَضْلِ مَهْمَا أَرَدْتَ الْبَقَا
وَسَالَمَهُ فِيكَ رَيْبُ الزَّمَانِ وَوُقِّيتَ مِنْهُ الَّذِي يُتَّقَى
فَمَا صَدَقَتْ هَذِهِ الْأَمَانِي بَلْ عَمَّا قَرِيبٍ - بَعْدَ نَيْلِهَا -
اتَّهَمَ الْخَلِيفَةُ ابْنَ أَفْلَحَ بِأَنَّهُ يُكَاتِبُ دُبَيْسًا، فَأَمَرَ
بِتَخْرِيبِ هَذِهِ الدَّارِ فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا جِدَارٌ، بَلْ صَارَتْ
خَرَابَةً بَعْدَ مَا كَانَ قَدْ حَسُنَ مِنْهَا الْمُقَامُ وَالْقَرَارُ،
وَهَذِهِ حِكْمَةُ اللَّهِ مَنْ يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَتَجْرِي
بِمَشِيئَتِهِ الْأَقْدَارُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَشْيَاءَ حَسَنَةً مِنْ نَظْمِهِ
وَنَثْرِهِ فَمِنْ ذَلِكَ:
دَعِ الْهَوَى لِأُنَاسٍ يُعْرَفُونَ بِهِ قَدْ مَارَسُوا الْحُبَّ حَتَّى لَانَ
أَصْعَبُهُ
بَلَوْتَ نَفْسَكَ فِيمَا لَسْتَ تَخْبُرُهُ وَالشَّيْءُ صَعْبٌ عَلَى مَنْ لَا
يُجَرِّبُهُ
اقْنِ اصْطِبَارًا وَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ جَلَدًا فَرُبَّ مُدْرِكِ أَمْرٍ عَزَّ
مَطْلَبُهُ
أَحْنِي الضُّلُوْعَ عَلَى قَلْبٍ يُحَيِّرُنِي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَيُعْيِينِي
تَقَلُّبُهُ
تَنَاوُحُ
الرِّيحِ مِنْ نَجْدٍ يُهَيِّجُهُ وَلَامِعُ الْبَرْقِ مِنْ نُعْمَانَ يُطْرِبُهُ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
هَذِهِ الْخَيْفُ وَهَاتِيكَ مِنَى فَتَرَفَّقْ أَيُّهَا الْحَادِي بِنَا
وَاحْبِسِ الرَّكْبَ عَلَيْنَا سَاعَةً نَنْدُبِ الرَّبْعَ وَنَبْكِ الدِّمَنَا
فَلِذَا الْمَوْقِفِ أَعْدَدْنَا الْبُكَا وَلِذَا الدِّمْنِ دُمُوعِي تُقْتَنَى
زَمَنًا كَانُوا وَكُنَّا جِيْرَةً يَا أَعَادَ اللَّهُ ذَاكَ الزَّمَنَا
بَيْنُنَا يَوْمَ أُثَيْلَاتِ النَّقَا كَانَ عَنْ غَيْرِ تَرَاضٍ بَيْنَنَا
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا حَاصَرَ زَنْكِيٌّ دِمَشْقَ فَحَصَّنَهَا الْأَتَابِكُ مُعِينُ الدِّينِ
أَنَرْ مَمْلُوكُ طُغْتِكِينَ، فَاتَّفَقَ مَوْتُ مَلِكِهَا جَمَالِ الدِّينِ
مُحَمَّدِ بْنِ بُورِي بْنِ طُغْتِكِينَ، فَأَرْسَلَ مُعِينُ الدِّينِ إِلَى
أَخِيهِ مُجِيرِ الدِّينِ أَبَقَ وَهُوَ بِبَعْلَبَكَّ فَمَلَّكَهُ دِمَشْقَ
فَذَهَبَ زَنْكِيٌّ إِلَى بَعْلَبَكَّ فَأَخَذَهَا وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا نَجْمَ
الدِّينِ أَيُّوبَ.
وَفِيهَا دَخَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى الْخَاتُونِ
فَاطِمَةَ أُخْتِ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَأُغْلِقَتْ بَغْدَادُ أَيَّامًا،
وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ السُّلْطَانُ بِبِنْتِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا.
وَفِيهَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ عَلَى رَجُلٍ صَالِحٍ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ
بِمَدْرَسَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَنَّ الرَّجُلَ عَطَسَ
فَأَفَاقَ وَحَضَرَتْ جِنَازَةُ رَجُلٍ آخَرَ فَصَلَّى عَلَيْهِ.
وَفِيهَا نَقَصَتِ الْمِيَاهُ مِنْ سَائِرِ الدُّنْيَا. وَفِيهَا وُلِدَ صَاحِبُ
حَمَاةَ تَقِيُّ الدِّينِ
عُمْرُ
شَاهِنْشَاهْ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِيٍّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْفَرَجِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْحَرْبِيُّ، أَحَدُ
الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ، حَتَّى
كَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يُرَى فِي بَعْضِ السِّنِينَ بِعَرَفَاتٍ وَلَمْ
يَحُجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ.
عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ الْفَضْلِ
أَبُو الْقَاسِمِ الْجِيلِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى إِلِكْيَا
الْهَرَّاسِيَّ وَبَرَعَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَوَلِيَ
قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا وَصَلَتِ الْبُرْدَةُ وَالْقَضِيبُ إِلَى بَغْدَادَ، وَكَانَا قَدْ أُخِذَا
مِنَ الْمُسْتَرْشِدِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَحَفِظَهُمَا
السُّلْطَانُ سَنْجَرُ عِنْدَهُ حَتَّى رَدَّهُمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا كَمُلَتِ الْمَدْرَسَةُ الْكَمَالِيَّةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى كَمَالِ
الدِّينِ أَبِي الْفُتُوحِ حَمْزَةَ بْنِ طَلْحَةَ صَاحِبِ الْمَخْزَنِ، وَدَرَّسَ
فِيهَا الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْخَلِّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو
الْقَاسِمِ الطَّلْحِيُّ الْأَصْبِهَانِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَرَحَلَ وَكَتَبَ
وَأَمْلَى بِأَصْبَهَانَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ مَجْلِسٍ، وَكَانَ
إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ، حَافِظًا
مُتْقِنًا، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ عِيدِ الْأَضْحَى، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ،
وَلَمَّا أَرَادَ الْغَاسِلُ تَنْحِيَةَ الْخِرْقَةِ عَنْ فَرْجِهِ رَدَّهَا
بِيَدِهِ.
مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ وَهْبِ بْنِ مَشْجَعَةَ
بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ،
سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَرَّدَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَأَمْلَى
الْحَدِيثَ فِي جَامِعِ الْقَصْرِ، وَكَانَ مُشَارِكًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ،
وَقَدْ أُسِرَ فِي صِغَرِهِ فِي أَيْدِي الرُّومِ، فَأَرَادُوهُ عَلَى أَنْ
يَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ خَطَّ
الرُّومِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ خَدَمَ الْمَحَابِرَ خِدْمَتْهُ الْمَنَابِرُ،
وَمِنْ شِعْرِهِ الَّذِي أَوْرَدَهُ لَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ وَسَمِعَهُ
عَنْهُ قَوْلُهُ:
احْفَظْ لِسَانَكَ لَا تَبُحْ بِثَلَاثَةٍ سِنٍّ وَمَالٍ مَا اسْتَطَعْتَ
وَمَذْهَبٍ فَعَلَى الثَّلَاثَةِ تُبْتَلَى بِثَلَاثَةٍ
بِمُكَفِّرٍ وَبِحَاسِدٍ وَمُكذِّبِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
لِي مُدَّةٌ لَا بُدَّ أَبْلُغُهَا فَإِذَا انْقَضَتْ وَتَصَرَّمَتْ مِتُّ
لَوْ عَانَدَتْنِي الْأُسْدُ ضَارِيَةً مَا ضَرَّنِي مَا لَمْ يَجِي الْوَقْتُ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
بَغْدَادُ
دَارٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ طَيِّبَةٌ وَلِلْمَفَالِيسِ دَارُ الضَّنْكِ وَالضِّيقِ
ظَلَلْتُ حَيْرَانَ أَمْشِي فِي أَزِقَّتِهَا كَأَنَّنِي مُصْحَفٌ فِي بَيْتِ
زِنْدِيقِ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: بَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً
لَمْ تَتَغَيَّرْ حَوَاسُّهُ وَلَا عَقْلُهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ ثَانِيَ رَجَبٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ الْأَعْيَانُ وَالنَّاسُ وَدُفِنَ
قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ بِشْرٍ.
يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ وَهْرَةَ
أَبُو يَعْقُوبَ الْهَمَذَانِيُّ، تَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَبَرَعَ
فِي الْفِقْهِ وَالْمُنَاظَرَةِ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالتَّعَبُّدِ وَصَحِبَ
الصَّالِحِينَ، وَأَقَامَ بِالْجِبَالِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَوَعَظَ
بِهَا، وَحَصَلَ لَهُ قَبُولٌ، تُوفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِبَعْضِ قُرَى
هَرَاةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ وَخُوَارِزْمِ
شَاهْ، فَاسْتَحْوَذَ خُوَارِزْمُ شَاهْ عَلَى مَرْوَ بَعْدَ هَزِيمَةِ سَنْجَرَ،
فَقُتِلَ بِهَا، وَأَسَاءَ التَّدْبِيرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفُقَهَاءِ
الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ بِهَا، وَكَانَ جَيْشُ خُوَارِزْمَ ثَلَاثَمِائَةِ
أَلْفِ مُقَاتِلٍ.
وَفِيهَا كَمَلَ عَمَلُ شَقِّ النَّهْرَوَانِ وَخَلَعَ بِهْرُوزُ الشِّحْنَةِ
بِبَغْدَادَ عَلَى الصُّنَّاعِ جِبَابَ الْحَرِيرِ الرُّومِيِّ، وَرَكِبَ هُوَ
وَالسُّلْطَانُ مَسْعُودٌ فِي سَفِينَةٍ فِي ذَلِكَ النَّهْرِ، وَفَرِحَ
السُّلْطَانُ بِذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ صَرَفَ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ النَّهْرِ
سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَفِيهَا حَجَّ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ طَلْحَةَ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ وَعَادَ
فَتَزَهَّدَ وَتَرَكَ الْعَمَلَ وَلَزِمَ دَارَهُ.
وَفِيهَا عُقِدَتِ الْجُمُعَةُ بِمَسْجِدِ الْعَبَّاسِيِّينَ بِإِذْنِ
الْخَلِيفَةِ وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَظَرٌ الْخَادِمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي الْأَشْعَثِ، أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي
بَكْرٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ الدِّمَشْقِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ
الْكَثِيرَ وَتَفَرَّدَ بِمَشَايِخَ، وَكَانَ سَمَاعُهُ صَحِيحًا وَأَمْلَى
بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ مَجَالِسَ كَثِيرَةً نَحْوَ ثَلَاثِمِائَةِ مَجْلِسٍ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
يَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الطَّرَّاحِ الْمُدِيرُ وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَسْمَعَ، وَكَانَ شَيْخًا حَسَنًا
مَهِيبًا كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْخَيْرِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ مِائَةٍ وَسَبْعِ سِنِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
وَرَضِيَ عَنْهُ آمِينَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا مَلَكَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيٌّ الْحَدِيثَةَ، وَنَقَلَ آلَ مُهَارِشٍ
مِنْهَا إِلَى الْمَوْصِلِ وَرَتَّبَ فِيهَا نُوَّابًا مِنْ جِهَتِهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا تَجَهَّزَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ لِيَأْخُذَ الْمَوْصِلَ وَالشَّامَ مِنْ
عِمَادِ الدَّينِ زَنْكِيٍّ، فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ ;
فَدَفَعَ إِلَيْهِ مِنْهَا عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَأَطْلَقَ لَهُ الْبَاقِي،
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَهُ سَيْفَ الدِّينِ غَازِيًّا كَانَ لَا يَزَالُ فِي
خِدْمَةِ السُّلْطَانِ.
وَفِيهَا مَلَكَ زَنْكِيٌّ بَعْضَ بِلَادِ بَكْرٍ. وَفِيهَا حَصَرَ الْمَلِكُ
سَنْجَرُ خُوَارِزْمَ شَاهْ ثُمَّ أَخَذَ مِنْهُ مَالًا وَأَطْلَقَهُ.
وَفِيهَا وُجِدَ رَجُلٌ يَفْسُقُ بِصَبِيٍّ، فَأُلْقِيَ مِنْ رَأْسِ مَنَارَةٍ،
وَفِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ
زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَظَرٌ الْخَادِمُ، أَثَابَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو الْبَرَكَاتِ
الْأَنْمَاطِيُّ الْحَافِظُ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَحَدَّثَ كَانَ ثِقَةً دَيِّنًا
وَرِعًا طَلِيقَ الْوَجْهِ سَهْلَ الْأَخْلَاقِ، تُوَفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ عَنْ
سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
عَلِيُّ
بْنُ طِرَادِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّيْنَبِيُّ
الْوَزِيرُ الْعَبَّاسِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ عَلَى
الطَّائِفَتَيْنِ فِي أَيَّامِ الْمُسْتَظْهِرِ وَوزَرَ لِلْمُسْتَرْشِدِ
الْمُقْتَفِي، ثُمَّ عُزِلَ وَأُعِيدَ، وَلَمْ يَلِ الْوِزَارَةَ مِنَ
الْعَبَّاسِيِّينَ غَيْرُهُ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَسْمَعَ، وَتُوُفِّيَ
فِي رَمَضَانَ عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الزَّمَخْشَرِيُّ مَحْمُودُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ
أَبُو الْقَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي التَّفْسِيرِ
وَالْمُفَصَّلِ فِي النَّحْوِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ
الْمُفِيدَةِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَطَافَ الْبِلَادَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ،
وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ مُدَّةً، وَكَانَ يُظْهِرُ مَذْهَبَ الِاعْتِزَالِ،
وَيُصَرِّحُ بِذَلِكَ فِي تَفْسِيرِهِ وَيُنَاظِرُ عَلَيْهِ ثُمَّ كَانَتْ
وَفَاتُهُ بِخُوَارِزْمَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ سِتٍّ
وَسَبْعِينَ سَنَةً.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا أَخَذَ الْعِمَادُ زَنْكِيٌّ الرُّهَا وَغَيْرَهَا مِنْ حُصُونِ
الْجَزِيرَةِ مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا
وَسَبَى نِسَاءً كَثِيرَةً، وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَأَزَاحَ عَنِ
الْمُسْلِمِينَ كُرَبًا شَدِيدَةً كَثِيرَةً، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْجُيُوشِ نَظَرٌ الْخَادِمُ وَتَنَافَسَ هُوَ
وَأَمِيرُ مَكَّةَ فَنَهَبَ الْحَجِيجَ وَهُمْ يَطُوفُونَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عُمَرَ أَبُو الْوَلِيدِ
الْكَرْخِيُّ تَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي سَعْدٍ الْمُتَوَلِّي
حَتَّى صَارَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ فَقْهًا وَصَلَاحًا، وَمَاتَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
سَعْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ أَبُو مَنْصُورٍ الرَّزَّازُ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ بِالْغَزَالِيِّ وَالشَّاشِيِّ وَالْمُتَوَلِّي
وَإِلِكْيَا الْهَرَّاسِيِّ وَأَسْعَدَ الْمِيهَنِيِّ، وَوَلِيَ تَدْرِيسَ
النِّظَامِيَّةِ وَكَانَ لَهُ سَمْتٌ حَسَنٌ وَوَقَارٌ وَسُكُونٌ وَكَانَ يَوْمُ
جِنَازَتِهِ مَشْهُودًا،
وَدُفِنَ
عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ.
عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ يَحْيِي بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ الْقُرَشِيُّ الْعَلَوِيُّ
أَبُو الْبَرَكَاتِ الْكُوفِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَتَبَ
كَثِيرًا وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً وَكَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ
بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ وَالْأَدَبِ وَلَهُ
تَصَانِيفُ فِي النَّحْوِ وَكَانَ خَشِنَ الْعَيْشِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا
تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا حَصَرَ عَلِيُّ بْنُ دُبَيْسٍ أَخَاهُ مُحَمَّدًا وَلَمْ يَزَلْ
يُحَاصِرُهُ حَتَّى اقْتَلَعَ مِنْ يَدِهِ الْحِلَّةَ وَمَلَكَهَا، وَفِي رَجَبٍ
مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ بَغْدَادَ خَوْفًا مِنَ اجْتِمَاعِ
عَبَّاسٍ صَاحِبِ الرَّيِّ وَمُحَمَّدٍ شَاهْ بْنِ مَحْمُودٍ، ثُمَّ خَرَجَ
مِنْهَا فِي رَمَضَانَ وَحَجَّ بِالنَّاسِ قَايْمَازُ الْأُرْجُوَانِيُّ مَمْلُوكُ
أَمِيرِ الْجُيُوشِ نَظَرٍ ; بِسَبَبِ مَا كَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَ نَظَرٍ
وَأَمِيرِ مَكَّةَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
سُلَيْمَانَ أَبُو سَعْدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ وَكَانَ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ، حُلْوَ الشَّمَائِلِ مُطَّرِحًا
الْكُلْفَةَ، رُبَّمَا خَرَجَ إِلَى السُّوقِ بِقَمِيصٍ وَقَلَنْسُوَةَ، وَحَجَّ
أَحَدَ عَشَرَ حِجَّةً وَكَانَ يُمْلِي الْحَدِيثَ وَيُكْثِرُ الصَّوْمَ،
تُوُفِّيَ بِنَهَاوَنْدَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ
قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ
أَبُو الْحَسَنِ الْيَزْدِيُّ، تَفَقَّهَ بِأَبِي
بَكْرٍ
الشَّاشِيِّ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَأَسْمَعَهُ وَكَانَ لَهُ وَلِأَخِيهِ قَمِيصٌ
وَعِمَامَةٌ، إِذَا خَرَجَ هَذَا جَلَسَ الْآخَرُ فِي الْبَيْتِ وَكَذَا الْآخَرُ.
مَوْهُوبُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَضِرِ
أَبُو مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيُّ، شَيْخُ اللُّغَةِ فِي زَمَانِهِ، بَاشَرَ
مَشْيَخَةَ اللُّغَةِ بِالنِّظَامِيَّةِ بَعْدَ شَيْخِهِ أَبِي زَكَرِيَّا
التَّبْرِيزِيِّ مُدَّةً وَكَانَ يَؤُمُّ بِالْمُقْتَفِي، وَرُبَّمَا قَرَأَ
عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ، وَكَانَ عَاقِلًا مُتَوَاضِعًا فِي
مَلْبَسِهِ، طَوِيلَ الصَّمْتِ، كَثِيرَ التَّفَكُّرِ، وَكَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ
بِجَامِعِ الْقَصْرِ أَيَّامَ الْجُمَعِ وَكَانَ فِيهِ لُكْنَةٌ، وَكَانَ يَجْلِسُ
إِلَى جَانِبِهِ الْمَغْرِبِيُّ مُعَبِّرُ الْمَنَامَاتِ، وَكَانَ فَاضِلًا
لَكِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ النُّعَاسِ فِي مَجْلِسِهِ فَقَالَ فِيهِمَا بَعْضُ
الْأُدَبَاءِ:
بَغْدَادُ عِنْدِي ذَنْبُهَا لَنْ يُغْفَرَا وَعُيُوبُهَا مَكْشُوفَةٌ لَنْ
تُسْتَرَا كَوْنُ الْجَوَالِيقِيِّ فِيهَا مُمْلِيًا
لُغَةً وَكَوْنُ الْمَغْرِبِيِّ مُعَبَّرَا مَأْسُورُ لُكْنَتِهِ يَقُولُ
فَصَاحَةً
وَنَئُومُ يَقْظَتِهِ يُعَبِّرُ فِي الْكَرَى
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي لَيْلَةِ مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا احْتَرَقَ الْقَصْرُ الَّذِي
بَنَاهُ الْمُسْتَرْشِدُ، وَكَانَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ
الْمُقْتَفِي قَدِ انْتَقَلَ بِجَوَارِيهِ وَحَظَايَاهُ إِلَيْهِ ; لِيُقِيمَ
فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ نَامُوا حَتَّى احْتَرَقَ
عَلَيْهِمُ الْقَصْرُ ; بِسَبَبِ أَنَّ جَارِيَةً أَخَذَتْ فِي يَدِهَا شَمْعَةً
فَعَلِقَ لَهَبُهَا بِبَعْضِ الْأَخْشَابِ ; فَاحْتَرَقَ الْقَصْرُ وَسَلَّمَ
اللَّهُ الْخَلِيفَةَ وَأَهْلَهُ فَأَصْبَحَ فَتَصَدَّقَ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ
وَأَطْلَقَ خَلْقًا مِنَ الْمُحْبَسِينَ.
وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا وَقَعَ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالسُّلْطَانِ مَسْعُودٍ
وَاقِعٌ فَبَعْثَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ فَأُغْلِقَتْ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى اصْطَلَحَا.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْمُنْتَصَفِ ذِي الْقَعْدَةِ جَلَسَ ابْنُ
الْعَبَّادِيِّ الْوَاعِظُ، فَتَكَلَّمَ وَالسُّلْطَانُ مَسْعُودٌ حَاضِرٌ،
وَكَانَ قَدْ وَضَعَ عَلَى النَّاسِ فِي الْبَيْعِ مَكْسًا فَاحِشًا فَقَالَ فِي
جُمْلَةِ وَعْظِهِ: يَا سُلْطَانَ الْعَالَمِ أَنْتَ تُطْلِقُ فِي بَعْضِ
الْأَحْيَانِ لِلْمُغَنِّي إِذَا طَرِبْتَ قَرِيبًا مِمَّا وَضَعْتَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا الْمَكْسِ، فَهَبْنِي مُغَنِّيًا وَقَدْ طَرِبْتَ
فَهَبْ لِي هَذَا الْمَكْسَ، شُكْرًا لِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكَ فَأَشَارَ
السُّلْطَانُ بِيَدِهِ أَنْ قَدْ فَعَلْتُ فَضَجَّ النَّاسُ بِالدُّعَاءِ لَهُ
وَكَتَبَ بِذَلِكَ سِجِلَّاتٍ وَنُودِيَ فِي الْبَلَدِ بِإِسْقَاطِ ذَلِكَ
الْمَكْسِ فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي
هَذِهِ السَّنَةِ قَلَّ الْمَطَرُ جِدًّا، وَقَلَّتْ مِيَاهُ الْأَنْهَارِ،
وَانْتَشَرَ جَرَادٌ عَظِيمٌ، وَأَصَابَ النَّاسَ دَاءٌ فِي حُلُوقِهِمْ فَمَاتَ
بِذَلِكَ خَلَائِقُ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا قُتِلَ الْمَلِكُ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيُّ بْنُ قَسِيمِ الدَّوْلَةِ
آقْ سُنْقُرَ التُّرْكِيُّ، صَاحِبُ الْمَوْصِلِ وَحَلَبَ وَغَيْرِهَا مِنْ
بِلَادِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ، وَكَانَ مُحَاصِرًا قَلْعَةَ جَعْبَرَ، وَفِيهَا
سَالِمُ بْنُ مَالِكٍ الْعُقَيْلِيُّ فَبَرْطَلَ بَعْضَ مَمَالِيكِ زَنْكِيٍّ
حَتَّى قَتَلُوهُ فِي اللَّيْلَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: كَانَ سَكْرَانَ فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً وَشَكْلًا، وَكَانَ
شُجَاعًا مِقْدَامًا حَازِمًا، خَضَعَتْ لَهُ مُلُوكُ الْأَطْرَافِ وَكَانَ مِنْ
أَشَدِّ النَّاسِ غَيْرَةً عَلَى نِسَاءِ الرَّعِيَّةِ، وَأَجْوَدِ الْمُلُوكِ
مُعَامَلَةً، وَأَرْفَقِهِمْ بِالْعَامَّةِ وَمَلَكَ مِنْ بَعْدِهِ بِالْمَوْصِلِ
وَلَدُهُ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيٌّ، وَبِحَلَبَ وَلَدُهُ نُورُ الدِّينِ
مَحْمُودٌ، فَاسْتَعَادَ نُورُ الدِّينِ هَذَا مَدِينَةَ الرُّهَا وَكَانَ أَبُوهُ
قَدْ فَتَحَهَا. ثُمَّ عَصَوْا فَقَهَرَهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ صَاحِبُ الْمَغْرِبِ جَزِيرَةَ
الْأَنْدَلُسِ بَعْدَ حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ.
وَفِيهَا
مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ، - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - مَدِينَةَ طَرَابُلُسَ الْغَرْبِ
وَفِيهَا اسْتَعَادَ صَاحِبُ دِمَشْقَ مَدِينَةَ بَعْلَبَكَّ، وَفِيهَا الْأَمِيرُ
نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ مِنْ جِهَةِ زَنْكِيٍّ، فَسَلَّمَهُ الْقَلْعَةَ
وَأَعْطَاهُ إِمْرَتَهُ عِنْدَهُ بِدِمَشْقَ.
وَفِيهَا قَتَلَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ حَاجِبَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ طَغَايُرْكَ
وَقَتَلَ عَبَّاسًا صَاحِبَ الرَّيِّ وَأَلْقَى رَأْسَهُ إِلَى أَصْحَابِهِ،
فَانْزَعَجَ النَّاسُ وَنَهَبُوا خِيَامَ عَبَّاسٍ هَذَا، وَقَدْ كَانَ عَبَّاسٌ
مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، قَاتَلَ الْبَاطِنِيَّةَ مَعَ مَخْدُومِهِ
جَوْهَرٍ فَلَمْ يَزَلْ يَقْتُلُ مِنْهُمْ حَتَّى بَنَى مِئْذَنَةً مِنْ
رُءُوسِهِمْ بِمَدِينَةِ الرَّيِّ.
وَفِيهَا مَاتَ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ بِبَغْدَادَ مُحَمَّدُ بْنُ طِرَادٍ
الزَّيْنَبِيُّ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ الزَّيْنَبِيُّ.
وَفِيهَا سَقَطَ جِدَارٌ عَلَى ابْنَةِ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ
مَبَالِغَ النِّسَاءِ فَمَاتَتْ فَحَضَرَ جِنَازَتَهَا الْأَعْيَانُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَظَرٌ الْخَادِمُ. وَحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نِظَامُ
الدِّينِ بْنُ جَهِيرٍ الْوَزِيرُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
زَنْكِيُّ بْنُ آقْ سُنْقُرَ، تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ تَرْجَمَتِهِ فِي
الْحَوَادِثِ، وَقَدْ أَطْنَبَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي
" الرَّوْضَتَيْنِ " فِي تَرْجَمَتِهِ وَمَا قِيلَ فِيهِ مِنْ نَظْمٍ
وَنَثْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
سَعْدُ
الْخَيْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ
أَبُو الْحَسَنِ الْمَغْرِبِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْأَنْصَارِيُّ، رَحَلَ مِنَ
الْأَنْدَلُسِ إِلَى الصِّينِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ بِالْغَزَالِيِّ،
وَحَصَّلَ كُتُبًا نَفِيسَةً، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ،
وَقَدْ أَوْصَى عِنْدَ وَفَاتِهِ بِبَغْدَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ الْغَزْنَوِيُّ،
وَأَنْ يُدْفَنَ عِنْدَ قَبْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَحَضَرَ
جِنَازَتَهُ خَلَائِقُ مِنَ النَّاسِ.
شَافِعُ بْنُ عَبْدِ الرَّشِيدِ بْنِ الْقَاسِمِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجِيلِيُّ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى إِلِكْيَا
الْهَرَّاسِيِّ، وَعَلَى الْغَزَالِيِّ وَكَانَ يَسْكُنُ الْكَرْخَ، وَلَهُ
حَلْقَةٌ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ فِي الرُّوَاقِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
وَكُنْتُ أَحْضُرُ حَلْقَتَهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو مُحَمَّدٍ سِبْطُ أَبِي مَنْصُورٍ الزَّاهِدُ، قَرَأَ الْقِرَاءَاتِ
وَصَنَّفَ فِيهَا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ وَاقْتَنَى الْكُتُبَ
الْحَسَنَةَ وَأَمَّ فِي مَسْجِدِهِ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَعَلَّمَ
خَلْقًا الْقُرْآنَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ
قِرَاءَةً مِنْهُ وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
عَبَّاسٌ شِحْنَةُ الرَّيِّ
تَوَصَّلَ إِلَى أَنْ مَلَكَهَا، ثُمَّ قَتَلَهُ مَسْعُودٌ
كَمَا
ذَكَرْنَا، وَقَدْ كَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الرَّعِيَّةِ،
وَقَتَلَ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ خَلْقًا، وَابْتَنَى مِنْ رُءُوسِهِمْ مَنَارَةً
بِالرَّيِّ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ طِرَادِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيُّ
أَبُو الْحَسَنِ نَقِيبُ النُّقَبَاءِ الْهَاشِمِيِّينَ، وَهُوَ أَخُو عَلِيِّ
بْنِ طِرَادٍ الْوَزِيرِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنْ أَبِيهِ وَعَمِّهِ أَبِي نَصْرٍ
وَغَيْرِهِمَا وَقَارَبَ السَّبْعِينَ.
وَجِيهُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو بَكْرٍ الشَّحَّامِيُّ أَخُو زَاهِرٍ وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ
الْحَدِيثِ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِهِ، وَكَانَ شَيْخًا حَسَنَ الْوَجْهِ
سَرِيعَ الدَّمْعَةِ كَثِيرَ الذَّكَرِ، صَحِيحَ السَّمَاعِ صَدُوقَ اللَّهْجَةِ.
تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ عِدَّةَ حُصُونٍ مِنْ جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ،
وَفِيهَا مَلَكَ نُورُ الدِّينِ بْنُ مَحْمُودٍ زَنْكِيٌّ عِدَّةَ حُصُونٍ مِنْ
أَيْدِي الْفِرِنْجِ بِالسَّوَاحِلِ وَغَيْرِهَا، وَفِيهَا خُطِبَ
لِلْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ الْمُقْتَفِي،
وَفِيهَا وَلِيَ عَوْنُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ هُبَيْرَةَ كِتَابَةَ دِيوَانِ
الزِّمَامِ، وَوَلِيَ زَعِيمُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ صَدْرِيَّةَ
الْمَخْزَنِ الْمَعْمُورِ، وَفِيهَا اشْتَدَّ الْغَلَاءُ بِإِفْرِيقِيَّةَ
فَهَلَكَ بِسَبَبِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ حَتَّى خَلَتِ الْمَنَازِلُ وَأَقْفَرَتِ
الْمَعَاقِلُ.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيٌّ بِنْتَ صَاحِبِ مَارْدِينَ حُسَامِ
الدِّينِ تَمُرْتَاشَ بْنِ أُرْتُقَ بَعْدَ أَنْ حَاصَرَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى
ذَلِكَ، فَحُمِلَتْ إِلَيْهِ إِلَى الْمَوْصِلِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، وَهُوَ مَرِيضٌ
قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ، فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ، فَوَلِيَ
بَعْدَهُ أَخُوهُ قُطْبُ بْنُ مَوْدُودٍ فَتَزَوَّجَهَا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي صَفَرٍ رَأَى رَجُلٌ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا
يَقُولُ لَهُ: مَنْ زَارَ قَبْرَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ غُفِرَ لَهُ، قَالَ:
فَلَمْ يَبْقَ خَاصٌّ وَلَا عَامٌّ إِلَّا زَارَهُ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
وَعَقَدْتُ يَوْمَئِذٍ مَجْلِسًا فَاجْتَمَعَ فِيهِ أُلُوفٌ مِنَ النَّاسِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَسْعَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ
الْمُهْتَدِي
بِاللَّهِ أَبُو مَنْصُورٍ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَانَ خَيِّرًا دَيِّنًا صَالِحًا
مُمَتَّعًا بِحَوَاسِّهِ وَقُوَاهُ إِلَى حِينِ الْوَفَاةِ، وَقَدْ جَاوَزَ
الْمِائَةَ بِنَحْوٍ مِنْ سَبْعِ سِنِينَ.
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلَفِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ اللَّخْمِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الرُّشَاطِيُّ
الْحَافِظُ
مُصَنِّفُ كِتَابِ " اقْتِبَاسِ الْأَنْوَارِ وَالْتِمَاسِ الْأَزْهَارِ
" فِي أَنْسَابِ الصَّحَابَةِ وَرُوَاةِ الْآثَارِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ
الْمُصَنَّفَاتِ الْكِبَارِ، قُتِلَ شَهِيدًا صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى بِالْمَرِيَّةِ.
نَصْرُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْقَوِيِّ
أَبُو الْفَتْحِ اللَّاذِقِيُّ الْمِصِّيصِيُّ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ
بِالشَّيْخِ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيِّ بِصُورَ، وَسَمِعَ بِهَا
مِنْهُ وَمِنْ أَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ، وَسَمِعَ بِبَغْدَادَ وَالْأَنْبَارِ
وَكَانَ أَحَدَ مَشَايِخِ الشَّامِ فَقِيهًا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ بِأَرْبَعِ
سِنِينَ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ
أَبُو السَّعَادَاتِ ابْنُ الشَّجَرِيِّ النَّحْوِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ
النُّحَاةِ
قَالَ: مَا سَمِعْتُ بَيْتًا فِي الذَّمِّ أَبْلَغَ مِنْ قَوْلِ مَسْكَوَيْهِ:
وَمَا أَنَا إِلَّا الْمِسْكُ قَدْ ضَاعَ عِنْدَكُمْ يَضِيعُ وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ
يَضُوعُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا اسْتَغَاثَ مُجِيرُ الدِّينِ بْنُ أَتَابِكِ دِمَشْقَ بِالْمَلِكِ نُورِ
الدِّينِ صَاحِبِ حَلَبَ عَلَى الْفِرِنْجِ فَرَكِبَ سَرِيعًا فَالْتَقَى مَعَهُمْ
بِأَرْضِ بُصْرَى فَهَزَمَهُمْ وَرَجَعَ فَنَزَلَ عَلَى الْكِسْوَةِ وَخَرَجَ
مَلِكُ دِمَشْقَ مُجِيرُ الدِّينِ أَبَقُ فَخَدَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَشَاهَدَ
الدَّمَاشِقَةُ حُرْمَةَ نُورِ الدِّينِ.
وَفِيهَا مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ الْمَهْدِيَّةَ وَهَرَبَ مِنْهَا صَاحِبُهَا
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ
بْنِ مَنْصُورِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ بُلُكِّينَ بْنِ زِيرِيٍّ بِأَهْلِهِ وَمَا
خَفَّ مِنْ أَمْوَالِهِ فَتَمَزَّقَ فِي الْبِلَادِ، وَأَكَلَتْهُمُ الْأَقْطَارُ،
وَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ بَنِي بَادِيسَ، وَكَانَ ابْتِدَاءُ مُلْكِهِمْ فِي سَنَةِ
خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائةٍ، فَدَخَلَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهَا
وَخَزَائِنُهَا مَشْحُونَةٌ بِالْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ وَالْعُدَدِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا حَاصَرَتِ الْفِرِنْجُ - وَهُمْ فِي سَبْعِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ،
وَمَعَهُمْ مَلِكُ الْأَلْمَانِ فِي خَلْقٍ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ - دِمَشْقَ وَعَلَيْهَا مُجِيرُ الدِّينِ أَبَقُ وَأَتَابِكُهُ مَعِينُ
الدِّينِ، وَهُوَ مُدَبِّرُ الْمَمْلَكَةِ وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسَ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُهَا فِي مِائَةِ أَلْفٍ
وَثَلَاثِينَ أَلْفًا فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ قِتَالًا عَظِيمًا وَقُتِلَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ نَحْوٌ مِنَ الْمِائَتَيْنِ، وَمِنَ الْفِرِنْجِ
خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ وَاسْتَمَرَّتِ الْحَرْبُ مُدَّةً، وَأُخْرِجَ
مُصْحَفُ عُثْمَانَ إِلَى وَسَطِ صَحْنِ الْجَامِعِ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَهُ
يَدْعُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَالنِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ مُكَشَّفِي
الرُّءُوسِ يَدْعُونَ وَيَتَبَاكُونَ، وَالرَّمَادُ مَفْرُوشٌ فِي الْبَلَدِ
فَاسْتَغَاثَ أَبَقُ بِالْمَلِكِ نُورِ
الدِّينِ
مَحْمُودٍ صَاحِبِ حَلَبَ وَبِأَخِيهِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِيٍّ صَاحِبِ
الْمَوْصِلِ، فَقَصَدَاهُ سَرِيعًا فِي نَحْوٍ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا بِمَنِ
انْضَافَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ فَلَمَّا سَمِعَتِ الْفِرِنْجُ
- قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - بِقُدُومِ الْجَيْشِ تَحَوَّلُوا عَنِ الْبَلَدِ
فَلَحِقَهُمُ الْجَيْشُ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا
وَقَتَلُوا فِيمَنْ قَتَلُوا مَعَهُمْ قِسِّيسًا اسْمُهُ إِلْيَاسُ، وَهُوَ
الَّذِي أَغْرَاهُمْ بِدِمَشْقَ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ افْتَرَى مَنَامًا عَنِ
الْمَسِيحِ أَنَّهُ وَعَدَهُ فَتْحَ دِمَشْقَ فَقُتِلَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَدْ
كَادُوا يَأْخُذُونَ الْبَلَدَ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ، وَحَمَاهَا بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [
الْبَقَرَةِ: 251 ] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [ الْحَجِّ: 40 ] وَمَدِينَةُ دِمَشْقَ
لَا سَبِيلَ لِلْأَعْدَاءِ مِنَ الْكَفَرَةِ عَلَيْهَا ; لِأَنَّهَا الْمَحَلَّةُ
الَّتِي أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا
مَعْقِلُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ، وَبِهَا يَنْزِلُ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ، وَقَدْ كَانَ الْفِرِنْجُ قَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ
دِمَشْقَ وَمِمَّنْ قَتَلُوا: الْفَقِيهُ الْكَبِيرُ الْمُلَقَّبُ حُجَّةَ
الدِّينِ شَيْخُ الْمَالِكِيَّةِ بِهَا أَبُو الْحَجَّاجِ يُوسُفُ بْنُ دُونَاسَ
الْفِنْدَلَاوِيُّ بِأَرْضِ النَّيْرَبِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ،
وَقَدْ صَالَحَ مُعِينُ الدِّينِ الْفِرِنْجَ عَنْ دِمَشْقَ بِبَانِيَاسَ
فَرَحَلُوا عَنْهَا وَتَسَلَّمُوا بَانِيَاسَ.
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ وَأُمَرَائِهِ فَفَارَقُوهُ،
وَقَصَدُوا بَغْدَادَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْعَامَّةِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا مِنَ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا قُبَالَةَ التَّاجِ
فَقَبَّلُوا
الْأَرْضَ وَاعْتَذَرُوا إِلَى الْخَلِيفَةِ مِمَّا وَقَعَ، وَسَارُوا نَحْوَ
النَّهْرَوَانِ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَنَهَبُوا أَهْلَهَا ; فَغَلَتِ
الْأَسْعَارُ بِالْعِرَاقِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الدَّامَغَانِيُّ بَعْدَ وَفَاةِ الزَّيْنَبِيِّ.
وَفِيهَا مَلَكَ سُورِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مَلِكُ الْغُورِ مَدِينَةَ غَزْنَةَ،
فَذَهَبَ صَاحِبُهَا بَهْرَامُ شَاهْ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْ أَوْلَادِ سُبُكْتِكِينَ
إِلَى الْهِنْدِ، فَاسْتَجَاشَ مَلِكَهَا، فَجَاءَ بِجُيُوشٍ عَظِيمَةٍ
فَاقْتَلَعَ غَزْنَةَ مِنْ يَدِ سُورِيٍّ وَأَخَذَهُ أَسِيرًا فَصَلَبَهُ، وَقَدْ
كَانَ كَرِيمًا جَوَادًا كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَبْهَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْغَنَوِيُّ
الرَّقِّيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ بِالشَّاشِيِّ وَالْغَزَالِيِّ
وَكَتَبَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ مُصَنَّفَاتِهِ، وَقَرَأَهَا عَلَيْهِ وَصَحِبَهُ
كَثِيرًا، وَكَانَ مَهِيبًا كَثِيرَ الصَّمْتِ بَهِيَّ السَّمْتِ، تُوُفِّيَ فِي
ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
شَاهِنْشَاهْ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِيٍّ،
اسْتُشْهِدَ مَعَ نُورِ الدِّينِ، وَهُوَ وَالِدُ السِّتِّ عَذْرَاءَ وَاقِفَةِ
الْعَذْرَاوِيَّةِ وَتَقِيِّ الدِّينِ عَمَرَ وَاقِفِ التَّقْوِيَةِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ.
عَلِيُّ
بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الزَّيْنَبِيُّ
أَبُو الْقَاسِمِ الْأَكْمَلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ نُورُ الْهُدَى بْنُ أَبِي
الْحَسَنِ نِظَامُ الْحَضْرَتَيْنِ، ابْنُ نَقِيبِ النُّقَبَاءِ أَبِي الْقَاسِمِ
ابْنِ الْقَاضِي أَبِي تَمَّامٍ الْعَبَّاسِيُّ قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ
وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ فَقِيهًا رَئِيسًا
وَقُورًا، حَسَنَ الْهَيْئَةِ وَالسَّمْتِ قَلِيلَ الْكَلَامِ سَافَرَ مَعَ
الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَجَرَتْ لَهُ فُصُولٌ، ثُمَّ عَادَ
إِلَى بَغْدَادَ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ السِّتِّينَ
وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً.
أَبُو الْحَجَّاجِ يُوسُفُ بْنُ دُونَاسَ الْفِنْدَلَاوِيُّ
شَيْخُ الْمَالِكِيَّةِ بِدِمَشْقَ، قُتِلَ يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ - قَرِيبًا مِنَ الرَّبْوَةِ فِي أَرْضِ النَّيْرَبِ - هُوَ
وَالشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْحَلْحُولِيُّ أَحَدُ الزُّهَّادِ، قُتِلَا
مَعًا، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْقَاضِي عِيَاضِ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيَاضٍ الْيَحْصُبِيِّ
السَّبْتِيِّ، قَاضِيهَا أَحَدُ مَشَايِخِ الْعُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَصَاحِبُ
الْمُصَنَّفَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُفِيدَةِ مِنْهَا " الشِّفَا " وَ
" شَرْحُ مُسْلِمٍ " وَ " مَشَارِقُ الْأَنْوَارِ " وَغَيْرُ
ذَلِكَ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ وَكَانَ إِمَامًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ كَالْفِقْهِ
وَاللُّغَةِ وَالْحَدِيثِ وَالْأَدَبِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ
وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ وَقِيلَ: فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِمَدِينَةِ سَبْتَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا غَزَا الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ صَاحِبُ حَلَبَ
بِلَادَ الْفِرِنْجِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ
قَتَلَ الْبِرِنْسُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ، وَفَتَحَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ
قِلَاعِهِمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَكَانَ قَدِ اسْتَنْجَدَ
بِمُعِينِ الدِّينِ بْنِ أَتَابِكِ دِمَشْقَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِفَرِيقٍ مِنْ
جَيْشِهِ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ مُجَاهِدِ الدِّينِ بْنِ بُزَّانَ بْنِ مَامِينَ
نَائِبِ صَرْخَدَ فَأَبْلَوْا بَلَاءً حَسَنًا، وَقَدْ قَالَ الشُّعَرَاءُ فِي
هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَشْعَارًا
كَثِيرَةً،
مِنْهُمُ ابْنُ الْقَيْسَرَانِيِّ وَغَيْرُهُ وَقَدْ سَرَدَهَا أَبُو شَامَةَ فِي
" الرَّوْضَتَيْنِ ".
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثَ رَبِيعٍ الْآخَرِ اسْتَوْزَرَ لِلْخِلَافَةِ
أَبُو الْمُظَفَّرِ يَحْيَى بْنُ هُبَيْرَةَ، وَلُقِّبَ عَوْنُ الدِّينِ وَخُلِعَ
عَلَيْهِ.
وَفِي رَجَبٍ قَصَدَ مَلِكْشَاهْ بْنُ مَحْمُودٍ بَغْدَادَ وَمَعَهُ خَلْقٌ مِنَ
الْأُمَرَاءِ ; وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ دُبَيْسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التُّرْكُمَانِ
وَغَيْرُهُمْ، وَطَلَبُوا مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ فَامْتَنَعَ مِنْ
ذَلِكَ، وَتَكَرَّرَتِ الْمُكَاتَبَاتُ، وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى
السُّلْطَانِ مَسْعُودٍ يَسْتَحِثُّهُ فِي الْقُدُومِ فَتَمَادَى عَلَيْهِ،
وَضَاقَ النِّطَاقُ وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ، وَكَتَبَ الْمَلِكُ
سَنْجَرُ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ مَسْعُودٍ يَسْتَحِثُّهُ إِنْ لَمْ يُسْرِعِ
الْمَشْيَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَمَا جَاءَ إِلَّا فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ،
فَانْقَشَعَتْ تِلْكَ الشُّرُورُ كُلُّهَا، وَتَبَدَّلَتْ سُرُورًا أَجْمَعُهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالًا شَدِيدًا، وَتَمَوَّجَتِ
الْأَرْضُ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَتَقَطَّعَ جَبَلٌ بِحُلْوَانَ وَانْهَدَمَ
الرِّبَاطُ الْبِهْرُوزِيُّ، وَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِالْبِرْسَامِ، لَا
يَتَكَلَّمُ الْمَرْضَى حَتَّى يَمُوتُوا.
وَفِيهَا مَاتَ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيُّ بْنُ زَنْكِيٍّ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ
وَمَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ وَتَزَوَّجَ
بِامْرَأَةِ أَخِيهِ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، الْخَاتُونِ بِنْتِ تَمُرْتَاشَ
بْنِ إِيلِغَازِي بْنِ أُرْتُقَ صَاحِبِ مَارِدِينَ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا
كُلُّهُمْ مَلَكُوا الْمَوْصِلَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْخَاتُونُ تَضَعُ خِمَارَهَا
بِحَضْرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ مَلِكًا.
وَفِيهَا
سَارَ نُورُ الدِّينِ إِلَى سِنْجَارَ فَفَتَحَهَا فَجَهَّزَ إِلَيْهِ أَخُوهُ
قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودٌ جَيْشًا لِيَرُدَّهُ عَنْهَا، ثُمَّ اصْطَلَحَا
فَعَوَّضَهُ مِنْهَا الرَّحْبَةَ وَحِمْصَ وَاسْتَمَرَّتْ سِنْجَارُ لِقُطْبِ
الدِّينِ، وَعَادَ نُورُ الدِّينِ إِلَى بَلَدِهِ، وَغَزَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ
الْفِرِنْجَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرَ الْبِرِنْسَ صَاحِبَ
أَنْطَاكِيَةَ فَمَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ ; مِنْهُمُ الْفَتْحُ الْقَيْسَرَانِيُّ
بِقَصِيدَةٍ طَنَّانَةٍ يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا:
هَذِي الْعَزَائِمُ لَا مَا تَدَّعِي الْقُضُبُ وَذِي الْمَكَارِمُ لَا مَا
قَالَتِ الْكُتُبُ وَهَذِهِ الْهِمَمُ اللَّاتِي مَتَى خُطِبَتْ
تَعَثَّرَتْ خَلْفَهَا الْأَشْعَارُ وَالْخُطَبُ صَافَحْتَ يَا ابْنَ عِمَادِ
الدِّينِ ذُرْوَتَهَا
بِرَاحَةٍ لِلْمَسَاعِي دُونَهَا تَعَبُ مَا زَالَ جَدُّكَ يَبْنِي كُلَّ
شَاهِقَةٍ
حَتَّى بَنَى قُبَّةً أَوْتَادُهُا الشُّهُبُ
وَفِيهَا فَتَحَ نُورُ الدِّينِ حِصْنَ أَفَامِيَةَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ حَمَاةَ
وَفِيهَا مَاتَ صَاحِبُ مِصْرَ الْحَافِظُ لِدِينِ اللَّهِ عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ
أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَنْصِرِ فَقَامَ، بِالْأَمْرِ مِنْ
بَعْدِهِ وَلَدُهُ الظَّافِرُ إِسْمَاعِيلُ، وَقَدْ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ
الْأَفْضَلِ بْنِ أَمِيرِ الْجُيُوشِ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى الْحَافِظِ وَخَطَبَ
بِمِصْرَ لِلْقَائِمِ آخِرَ الزَّمَانِ، وَأَذَّنَ بِحَيٍّ عَلَى خَيْرِ
الْعَمَلِ، وَلِلْحَافِظِ وُضِعَ طَبْلُ الْقُولَنْجِ الَّذِي إِذَا ضَرَبَهُ مَنْ
بِهِ الْقُولَنْجُ يَخْرُجُ مِنْهُ الْقُولَنْجُ وَالرِّيحُ الَّذِي بِهِ.
وَخَرَجَ
بِالْحَجِيجِ الْأَمِيرُ نَظَرٌ الْخَادِمُ فَمَرِضَ بِالْكُوفَةِ، فَرَجَعَ
وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ مَوْلَاهُ قَايْمَازَ وَحِينَ وُصُولِهِ إِلَى بَغْدَادَ
تُوُفِّيَ - رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ أَيَّامٍ وَطَمِعَتِ الْعَرَبُ فِي
الْحَجِيجِ فَوَقَفُوا لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَهُمْ رَاجِعُونَ، فَضَعُفَ
قَايْمَازُ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ فَأَخَذَ لِنَفْسِهِ أَمَانًا وَهَرَبَ
وَأَسْلَمَ إِلَيْهِمُ الْحَجِيجَ، فَقَتَلُوا أَكْثَرَهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَ
النَّاسِ، وَقَلَّ مَنْ سَلِمَ مِمَّنْ نَجَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا مَاتَ مُعِينُ الدِّينِ أَنُرُ أَتَابِكُ الْعَسَاكِرِ بِدِمَشْقَ،
وَكَانَ أَحَدَ مَمَالِيكِ طُغْتِكِينَ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَابِكَ
الْمُلُوكِ بِ دِمَشْقَ وَهُوَ وَالِدُ السِّتِّ عِصْمَةِ الدِّينِ خَاتُونَ
زَوْجَةِ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ، وَهُوَ وَاقِفُ الْمَدْرَسَةِ الْمُعِينِيَّةِ
دَاخِلَ بَابِ الْفَرَجِ، وَقَبْرُهُ فِي قُبَّةٍ قِبْلِيَّ الشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ بِمَحَلَّةِ الْعُوَيْنَةِ عِنْدَ دَارِ الْبِطِّيخِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَلَمَّا مَاتَ مُعِينُ الدِّينِ قَوِيَتْ شَوْكَةُ الْوَزِيرِ الرَّئِيسِ
مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ عَلِيِّ بْنِ الصُّوفِيِّ وَأَخِيهِ زَيْنِ الدَّوْلَةِ
حَيْدَرَةَ، وَوَقَعَتْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَلِكِ مُجِيرِ الدِّينِ أَبَقَ
وَحْشَةٌ اقْتَضَتْ أَنَّهُمَا حَشَدَا مِنَ الْعَامَّةِ وَالْغَوْغَاءِ مَا
يُقَاوِمُهُ، فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ خَلْقٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ وَقَعَ
الصُّلْحُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ نِظَامِ الْمُلْكِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو نَصْرٍ الْوَزِيرُ
لِلْمُسْتَرْشِدِ
وَالسُّلْطَانُ
مَحْمُودٌ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَرْجَانِيُّ
قَاضِي تُسْتَرَ، رَوَى الْحَدِيثَ وَكَانَ لَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ يَبْتَكِرُ
مَعَانِيَ حَسَنَةً، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَلَمَّا بَلَوْتُ النَّاسَ أَطْلُبُ مِنْهُمُ أَخَا ثِقَةٍ عِنْدَ اعْتِرَاضِ
الشَّدائِدِ تَطَمَّعْتُ فِي حَالَيْ رَخَاءٍ وَشِدَّةٍ
وَنَادَيْتُ فِي الْأَحْيَاءِ هَلْ مِنْ مُسَاعِدِ فَلَمْ أَرَ فِيمَا سَاءَنِي
غَيْرَ شَامِتٍ
وَلَمْ أَرَ فِيمَا سَرَّنِي غَيْرَ حَاسِدٍ تَمَتَّعْتُمَا يَا نَاظِرَيَّ
بِنَظْرَةٍ
وَأَوْرَدْتُمَا قَلْبِي أَمَرَّ الْمَوَارِدِ أَعَيْنَيَّ كُفَّا عَنْ فُؤَادِي
فَإِنَّهُ
مِنَ الْبَغْيِ سَعْيُ اثْنَيْنِ فِي قَتْلِ وَاحِدِ
عِيسَى بْنُ هِبَةِ اللَّهِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّقَّاشُ،
سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ ظَرِيفًا خَفِيفَ الرُّوحِ، لَهُ نَوَادِرُ
حَسَنَةٌ، قَدْ رَأَى النَّاسَ، وَعَاشَرَ الْأَكْيَاسَ، وَكَانَ يَحْضُرُ
مَجْلِسِي وَيُكَاتِبُنِي وَأُكَاتِبُهُ، كَتَبْتُ إِلَيْهِ
مَرَّةً،
فَعَظَّمْتُهُ فِي الْكِتَابَةِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ
قَدْ زِدْتِنِي فِي الْخِطَابِ حَتَّى خَشِيْتُ نَقْصًا مِنَ الزِّيَادَهْ
فَاجْعَلْ خِطَابِي خِطَابَ مِثْلِي وَلَا تُغَيِّرْ عَلَيَّ عَادَهْ
وَلَهُ
إِذَا وَجَدَ الشَّيْخُ فِي نَفْسِهِ نَشَاطًا فَذَلِكَ مَوْتٌ خَفِي
أَلَسْتَ تَرَى أَنَّ ضَوْءَ السِّرَاجِ لَهُ لَهَبٌ قَبْلَ أَنْ يَنْطَفِي
غَازِيُّ بْنُ آقْ سُنْقُرَ
الْمَلِكُ سَيْفُ الدِّينِ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ وَهُوَ أَخُو نُورِ الدِّينِ
مَحْمُودٍ صَاحِبِ حَلَبَ ثُمَّ دِمَشْقَ فِيمَا بَعْدُ، وَقَدْ كَانَ سَيْفُ
الدِّينِ هَذَا مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً، وَأَجْوَدِهِمْ
سَرِيرَةً، وَأَصْبَحِهِمْ صُورَةً، شُجَاعًا كَرِيمًا، يَذْبَحُ كُلَّ يَوْمٍ
لِجَيْشِهِ مِائَةً مِنَ الْغَنَمِ، وَلِمَمَالِيكِهِ ثَلَاثِينَ رَأْسًا، وَفِي
يَوْمِ الْعِيدِ أَلْفَ رَأْسٍ سِوَى الْبَقَرِ وَالدَّجَاجِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ
حُمِلَ عَلَى رَأْسِهِ سَنْجَقٌ مِنْ مَلُوكِ الْأَطْرَافِ، وَأَمَرَ الْجُنْدَ
أَنْ لَا يَرْكَبُوا إِلَّا بِسَيْفٍ وَدَبُّوسٍ، وَبَنَى مَدْرَسَةً
بِالْمَوْصِلِ، وَرِبَاطًا لِلصُّوفِيَّةِ، وَامْتَدَحَهُ الْحَيْصَ بَيْصَ
فَأَعْطَاهُ أَلْفَ دِينَارٍ عَيْنًا، وَخِلْعَةً.
وَلَمَّا
تُوُفِّيَ بِالْحُمَّى فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ دُفِنَ فِي
مَدْرَسَتِهِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعُونَ سَنَةً،
وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ بَعْدَ أَبِيهِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَخَمْسِينَ يَوْمًا،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
نَظَرٌ الْخَادِمُ، أَمِيرُ الْحَاجِّ
مُدَّةَ عِشْرِينَ سَنَةً وَأَكْثَرَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَقَرَأَ عَلَى ابْنِ
الزَّاغُونِيِّ، وَكَانَ يُحِبُّ الْعِلْمَ وَالصَّدَقَةَ وَالْبِرَّ، وَكَانَ
الْحَاجُّ مَعَهُ فِي غَايَةِ الدَّعَةِ وَالْأَمْنِ، وَذَلِكَ لِشَجَاعَتِهِ
وَوَجَاهَتِهِ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ.
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ،
وَدُفِنَ بِالرُّصَافَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسمِائَةٍ
فِيهَا فَتَحَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ حِصْنَ أَفَامِيَةَ، وَهُوَ مِنْ أَحْصَنِ
الْقِلَاعِ وَأَوْسَعِ الْبِقَاعِ وَقِيلَ: فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِيهَا قَصَدَ دِمَشْقَ فَلَمْ يَتَسَنَّ لَهُ أَخْذُهَا، فَخَلَعَ عَلَى
مَلِكِهَا مُجِيرِ الدِّينِ أَبَقَ، وَعَلَى وَزِيرِهِ الرَّئِيسِ ابْنِ الصُّوفِيِّ،
وَتَقَرَّرَ الْحَالُ عَلَى الْخُطْبَةِ لَهُ بِهَا بَعْدَ الْخَلِيفَةِ
وَالسُّلْطَانِ، وَكَذَلِكَ السِّكَّةِ.
وَفِيهَا فَتَحَ نُورُ الدِّينِ حِصْنَ عِزَازٍ، وَأَسَرَ مَلِكَهَا ابْنَ
جُوسْلِينَ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ كَافَّةً، ثُمَّ أَسَرَ بَعْدَهُ
وَالِدَهُ جُوسْلِينَ الْمَلِكَ الْإِفْرِنْجِيَّ، فَكَانَتِ الْفَرْحَةُ
أَعَظَمَ، وَفَتَحَ بَعْدَ أَسْرِهِ مِنْ بِلَادِهِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ
الْحُصُونِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ
وَالْعِصْمَةُ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ حَضَرَ يُوسُفُ الدِّمَشْقِيُّ تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ،
وَخُلِعَ عَلَيْهِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ، بَلْ بِمَرْسُومِ السُّلْطَانِ، وَابْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ
مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَزِمَ بَيْتَهُ وَلَمْ يَعُدْ إِلَى الْمَدْرَسَةِ
بِالْكُلِّيَّةِ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ الشَّيْخُ
أَبُو
النَّجِيبِ بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ وَمَرْسُومِ السُّلْطَانِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ بِالْيَمَنِ مَطَرٌ
كُلُّهُ دَمٌ، حَتَّى صَبَغَ ثِيَابَ النَّاسِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ ذِي النُّونِ
ابْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، أَبُو الْمَفَاخِرِ
النَّيْسَابُورِيُّ، قَدِمَ بَغْدَادَ فَوَعَظَ، وَجَعَلَ يَنَالُ مِنَ
الْأَشْعَرِيَّةِ فَأَحَبَّهُ الْحَنَابِلَةُ، ثُمَّ اخْتَبَرُوهُ، فَإِذَا هُوَ
مُعْتَزِلِيٌّ، فَفَتَرَ سُوقُهُ، وَجَرَتْ بِسَبَبِهِ فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ،
وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ، مِنْ ذَلِكَ.
مَاتَ الْكِرَامُ وَمَرُّوا وَانْقَضُّوا وَمَضَوْا وَمَاتَ مِنْ بَعْدِهِمْ
تِلْكَ الْكَرَامَاتُ وَخَلَّفُونِيَ فِي قَوْمٍ ذَوِي سَفَهٍ
لَوْ أَبْصَرُوا طَيْفَ ضَيْفٍ فِي الْكَرَى مَاتُوا
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْحَنْبَلِيُّ
الْقَاضِي بَهَاءُ الدِّينِ، كَانَ يَعْرِفُ مَذْهَبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ
وَأَحْمَدَ، وَيُنَاظِرُ عَنْهُمَا، وَدُفِنَ مَعَ أَبِيهِ وَجَدِّهِ بِقُبُورِ
الشُّهَدَاءِ.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي نَصْرِ بْنِ عُمَرَ أَبُو الْمَعَالِي الْجِيلِيُّ
كَانَ فَقِيهًا صَالِحًا
دَيِّنًا
مُتَعَبِّدًا فَقِيرًا، لَيْسَ لَهُ بَيْتٌ يَسْكُنُهُ، وَإِنَّمَا يَبِيتُ
بِالْمَسَاجِدِ الْمَهْجُورَةِ، وَقَدْ خَرَجَ مَعَ الْحَجِيجِ، فَأَقَامَ
بِفَيْدَ، فَكَانَ أَهْلُهَا يُثْنُونَ عَلَيْهِ خَيْرًا.
الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ
الْمَالِكِيُّ، شَارِحُ " التِّرْمِذِيِّ "، كَانَ فَقِيهًا عَالِمًا،
وَزَاهِدًا عَابِدًا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ بَعْدَ اشْتِغَالِهِ فِي الْفِقْهِ،
وَصَحِبَ الْغَزَالِيَّ، وَأَخَذَ عَنْهُ، وَكَانَ يَتَّهِمُهُ بِرَأْيِ
الْفَلَاسِفَةِ، وَيَقُولُ: دَخَلَ فِي أَجْوَافِهِمْ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا أَغَارَ جَيْشُ السُّلْطَانِ عَلَى بِلَادِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ،
فَقَتَلُوا خَلْقًا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ.
وَفِيهَا حَاصَرَ نُورُ الدِّينِ دِمَشْقَ شَهْرًا، ثُمَّ رَحَلَ عَنْهَا إِلَى
دَارِيَّا، وَكَانَ الصُّلْحُ عَلَى يَدَيِ الْبُرْهَانِ الْبَلْخِيِّ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَفِيهَا اقْتَتَلَ الْفِرِنْجُ وَجَيْشُ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ فَانْهَزَمَ
الْمُسْلِمُونَ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ، وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا الْأَمْرُ شَقَّ عَلَى الْمَلِكِ نُورِ
الدِّينِ وَهَجَرَ اللَّذَّةَ وَالتَّرَفُّهَ حَتَّى يَأْخُذَ بِالثَّأْرِ،
وَأَغْرَى بِهِمْ جَمَاعَةً مِنَ التُّرْكُمَانِ، فَتَرَصَّدُوا لِمَلِكِهِمْ
جُوسْلِينَ الْإِفْرِنْجِيِّ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَسَرُوهُ فِي بَعْضِ
مُتَصَيِّدَاتِهِ، فَأَرْسَلَ نُورُ الدِّينِ، فَكَبَسَ التُّرْكُمَانَ وَأَخَذَ
مِنْهُمْ جُوسْلِينَ أَسِيرًا، وَكَانَ مِنْ أَعْتَى الْكَفَرَةِ، وَأَعْظَمِ
الْفَجَرَةِ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَأَوْقَفَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي أَذَلِّ حَالٍ،
ثُمَّ سَجَنَهُ، وَسَارَ نُورُ الدِّينِ إِلَى بِلَادِهِ فَأَخَذَهَا كُلَّهَا
بِمَا فِيهَا.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ جَلَسَ ابْنُ الْعَبَّادِيِّ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ
وَتَكَلَّمَ، وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ، فَكَادَتِ الْحَنَابِلَةُ
يُثِيرُونَ فِتْنَةً ذَلِكَ الْيَوْمَ ; لِكَوْنِهِ غَيْرَ حَنْبَلِيٍّ.
وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا قَايْمَازُ الْأُرْجُوَانِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ الْبَلْخِيُّ
شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ بِدِمَشْقَ، دَرَسَ بِالْبَلْخِيَّةِ، ثُمَّ
بِالْخَاتُونِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَكَانَ عَالِمًا عَامِلًا، وَرِعًا
زَاهِدًا، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا تُوُفِّيَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ
ابْنُ أَخِيهِ مَلِكْشَاهْ بْنُ مَحْمُودٍ، ثُمَّ جَاءَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ
فَأَخَذَ الْمُلْكَ، وَاسْتَقَرَّ لَهُ، وَقَتَلَ الْأَمِيرَ خَاصَّ بِكْ،
وَأَخَذَ أَمْوَالَهُ، وَأَلْقَاهُ لِلْكِلَابِ فَاخْتَبَطَتْ بَغْدَادُ
وَاضْطَرَبَتِ الْأُمُورُ، وَتَغَيَّرَتِ الْقَوَاعِدُ، وَبَلَغَ الْخَلِيفَةَ
أَنَّ وَاسِطًا قَدْ تَخَبَّطَتْ أَيْضًا، فَرَكِبَ إِلَيْهَا فِي الْجَيْشِ فِي
أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَصْلَحَ شَأْنَهَا، وَكَرَّ عَلَى الْكُوفَةِ
وَالْحِلَّةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا ; فَزُيِّنَتْ
لَهُ الْبَلَدُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا مَلَكَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ صَاحِبُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ بِجَايَةَ،
وَهِيَ بِلَادُ بَنِي حَمَّادٍ، فَكَانَ آخِرَ مُلُوكِهِمْ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ حَمَّادٍ، ثُمَّ بَعَثَ جَيْشًا إِلَى صِنْهَاجَةَ فَحَاصَرَهَا،
وَأَخَذَ أَمْوَالَهَا.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ وَبَيْنَ
الْفِرِنْجِ، فَكَسَرَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا اقْتَتَلَ سَنْجَرُ وَمَلِكُ الْغُورِ عَلَاءُ الدِّينِ الْحُسَيْنُ بْنُ
الْحُسَيْنِ أَوَّلُ
مُلُوكِهِمْ،
فَكَسَرَهُ سَنْجَرُ وَأَسَرَهُ، فَلَمَّا أَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ:
مَاذَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِي لَوْ أَسَرْتَنِي ؟ فَأَخْرَجَ قَيْدًا مِنْ فِضَّةٍ
وَقَالَ: كُنْتُ أُقَيِّدُكَ بِهَذَا. فَعَفَا عَنْهُ وَأَطْلَقَهُ إِلَى
بِلَادِهِ، فَسَارَ إِلَى غَزْنَةَ فَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا بَهْرَامْ
شَاهْ السُّبُكْتُكِينِيِّ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا أَخَاهُ سَيْفَ الدِّينِ
فَغَدَرَ بِهِ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَسَلَّمُوهُ إِلَى بَهْرَامْ شَاهْ فَصَلَبَهُ،
وَمَاتَ بَهْرَامْ شَاهْ قَرِيبًا، فَسَارَ إِلَيْهَا عَلَاءُ الدِّينِ فَهَرَبَ
خُسْرُو بْنُ بَهْرَامْ شَاهْ عَنْهَا، فَدَخَلَهَا عَلَاءُ الدِّينِ فَنَهْبَهَا
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا بَشَرًا كَثِيرًا، وَسَخَّرَ
أَهْلَهَا، فَحَمَلُوا تُرَابًا فِي مَخَالٍ إِلَى مَحَلَّةٍ هُنَاكَ بَعِيدَةٍ
عَنِ الْبَلَدِ، فَعَمَّرَ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ قَلْعَةً مَعْرُوفَةً إِلَى
الْآنِ، وَبِذَلِكَ انْقَضَتْ دَوْلَةُ بَنِي سُبُكْتُكِينَ عَنْ بِلَادِ غَزْنَةَ
وَغَيْرِهَا. وَقَدْ كَانَ ابْتِدَاءُ أَمْرِهِمْ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانُوا مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ، وَأَكْثَرِهِمْ جِهَادًا
فِي الْكَفَرَةِ، وَأَكْثَرِهِمْ أَمْوَالًا وَنِسَاءً وَعَدَدًا وَعُدَدًا، قَدْ
كَسَرُوا الْأَصْنَامَ، وَأَبَادُوا الْكُفَّارَ، وَجَمَعُوا مِنَ الْأَمْوَالِ
مَا لَمْ يَجْمَعْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُلُوكِ، مَعَ أَنَّ بِلَادَهُمْ مِنْ
أَطْيَبِ الْبِلَادِ وَأَكْثَرِهَا رِيفًا وَمِيَاهًا فَفَنِيَ جَمِيعُهُ، وَزَالَ
عَنْهُمْ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ
وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ
تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ آلِ عِمْرَانَ:
26 ] ثُمَّ مَلَكَ الْغُورَ وَالْهِنْدَ وَخُرَاسَانَ، وَاتَّسَعَتْ مَمَالِكُهُمْ
وَعَظُمَ سُلْطَانُهُمْ.
وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " أَنَّ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ بَاضَ دِيكٌ بَيْضَةً
وَاحِدَةً،
ثُمَّ بَاضَ بَازٌ بَيْضَتَيْنِ، وَبَاضَتْ نَعَامَةٌ لَيْسَ لَهَا ذَكَرٌ،
وَهَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْمُظَفَّرُ بْنُ أَرْدَشِيرَ، أَبُو مَنْصُورٍ الْعَبَّادِيُّ
الْوَاعِظُ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ فَأَمْلَى بِهَا وَوَعَظَ،
وَكَانَ يَكْتُبُ مَا يَعِظُ النَّاسَ بِهِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ
مُجَلَّدَاتٌ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَا تَكَادُ تَجِدُ فِي الْمُجَلَّدِ
خَمْسَ كَلِمَاتٍ جَيِّدَةٍ. وَتَكَلَّمَ فِيهِ، وَأَطَالَ الْحَطَّ عَلَيْهِ،
وَاسْتَحْسَنَ مِنْ كَلَامِهِ قَوْلَهُ: وَقَدْ سَقَطَ مَطَرٌ وَهُوَ يَعِظُ
النَّاسَ، فَفَرَّ النَّاسُ إِلَى مَا تَحْتَ الْجُدْرَانِ، فَقَالَ: لَا
تَفِرُّوا مِنْ رَشَّاشِ مَاءِ رَحْمَةٍ، قَطَرَ مِنْ سَحَابِ نِعْمَةٍ، وَلَكِنْ
فِرُّوا مِنْ شَرَارِ نَارٍ اقْتُدِحَ مِنْ زِنَادِ الْغَضَبِ. تُوُفِّيَ وَقَدْ
جَاوَزَ الْخَمْسِينَ بِقَلِيلٍ.
مَسْعُودٌ السُّلْطَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ
بْنِ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ التُّرْكِيُّ السَّلْجُوقِيُّ
صَاحِبُ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا، حَصَلَ لَهُ مِنَ التَّمَكُّنِ وَالسَّعَادَةِ
شَيْءٌ كَثِيرٌ لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ، وَجَرَتْ لَهُ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ،
وَحُرُوبٌ
طَوِيلَةٌ، وَقَدْ أَسَرَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْحُرُوبِ الْخَلِيفَةَ
الْمُسْتَرْشِدَ، كَمَا تَقَدَّمَ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سَلْخَ
جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
يَعْقُوبُ الْخَطَّاطُ الْكَاتِبُ
تُوُفِّيَ بِالنِّظَامِيَّةِ، فَجَاءَ دِيوَانُ الْحَشَرِيَّةِ ; لِيَأْخُذُوا
مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَمَنَعَهُمُ الْفُقَهَاءُ، فَجَرَتْ فِتْنَةٌ
عَظِيمَةٌ، آلَ الْحَالُ إِلَى عَزْلِ مُدَرِّسِهَا الشَّيْخِ أَبِي النَّجِيبِ،
وَضَرْبِهِ بِالدِّيوَانِ تَعْزِيرًا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ السُّلْطَانِ سَنْجَرَ وَبَيْنَ الْأَتْرَاكِ
بِبِلَادِ بَلْخٍ فَقَتَلُوا مِنْ جَيْشِهِ خَلْقًا كَثِيرًا جِدًّا ; بِحَيْثُ
بَقِيَتِ الْقَتْلَى مِثْلَ التِّلَالِ الْعَظِيمَةِ، وَأَسَرُوا السُّلْطَانَ
سَنْجَرَ، وَقَتَلُوا مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ صَبْرًا، وَلَمَّا
اسْتَحْضَرُوهُ قَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالُوا: نَحْنُ
عَبِيدُكَ، وَكَانُوا عِدَّةً مِنَ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ
شَهْرَيْنِ ثُمَّ جَاءُوا مَعَهُ، فَدَخَلُوا مَرْوَ وَهِيَ كُرْسِيُّ مَمْلَكَةِ
خُرَاسَانَ فَسَأَلَهُ بَعْضُهُمْ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ إِقْطَاعًا، فَقَالَ:
هَذَا لَا يُمْكِنُ ; هَذِهِ كُرْسِيُّ الْمَمْلَكَةِ. فَضَحِكُوا مِنْهُ
وَأَضْرَطَ بِهِ بَعْضُهُمْ، فَنَزَلَ عَنْ سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ، وَدَخَلَ
خَانِقَاهُ، وَصَارَ فَقِيرًا مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِهَا، وَتَابَ عَنِ الْمُلْكِ،
وَاسْتَحْوَذَ أُولَئِكَ الْأَتْرَاكُ عَلَى الْبِلَادِ فَنَهَبُوهَا،
وَتَرَكُوهَا قَاعًا صَفْصَفًا، وَأَقَامُوا سُلَيْمَانَ شَاهْ مَلِكًا، فَلَمْ
تَطُلْ مُدَّتُهُ حَتَّى عَزَلُوهُ، وَوَلَّوُا ابْنَ أُخْتِ سَنْجَرَ الْخَاقَانِ
مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ كُوخَانَ، وَتَفَرَّقَتِ الْأُمُورُ وَاسْتَحْوَذَ
كُلُّ إِنْسَانٍ عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَمَالِكِ، وَصَارَتِ الدَّوْلَةُ
دُوَلًا.
وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْعَرَبِ
بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ. وَفِيهَا أَخَذَتِ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ عَسْقَلَانَ مِنَ
السَّوَاحِلِ. وَفِيهَا خَرَجَ الْخَلِيفَةُ إِلَى وَاسِطٍ فِي جَحْفَلٍ
فَأَصْلَحَ شَأْنَهَا وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا
قَايْمَازُ الْأُرْجُوَانِيُّ.
وَفِيهَا
كَانَتْ وَفَاةُ الشَّاعِرَيْنِ الْقَرِينَيْنِ الْمُشَبَّهَيْنِ فِي الزَّمَانِ
الْأَخِيرِ بِالْفَرَزْدَقِ وَجَرِيرٍ، وَهُمَا
أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُنِيرٍ الْجَوْنِيُّ بِحَلَبَ
وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ صَغِيرٍ الْقَيْسَرَانِيُّ
الْحَلَبِيُّ بِدِمَشْقَ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَعَلِيُّ بْنُ السَّلَارِ الْمُلَقَّبِ بِالْعَادِلِ، وَزِيرِ الظَّافِرِ صَاحِبِ
مِصْرَ، وَهُوَ بَانِي الْمَدْرَسَةِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ لِلشَّافِعِيَّةِ ;
لِلْحَافِظِ أَبِي طَاهِرٍ السَّلَفِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ
الْعَادِلُ هَذَا ضِدَّ اسْمِهِ ; كَانَ ظَلُومًا غَشُومًا حَطُومًا، وَقَدْ
تَرْجَمَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا رَكِبَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى تَكْرِيتَ
فَحَاصَرَ قَلْعَتَهَا، وَالْتَقَى جَمْعًا هُنَالِكَ مِنَ الْأَتْرَاكِ
وَالتُّرْكُمَانِ، فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ، وَهَزَمَهُمْ لَهُ، وَأَعْلَى
كَلِمَتَهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ مِصْرَ قَدْ قُتِلَ خَلِيفَتُهَا الظَّافِرُ،
وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا صَبِيٌّ صَغِيرٌ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ، قَدْ
وَلَّوْهُ عَلَيْهِمْ وَلَقَّبُوُهُ الْفَائِزَ، فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ عَهْدًا
لِلْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ عَلَى الْبِلَادِ
الشَّامِيَّةِ وَالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَرْسَلَهُ إِلَيْهَا.
وَفِيهَا هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بَعْدَ الْعِشَاءِ فِيهَا نَارٌ، فَخَافَ
النَّاسُ أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ، وَزُلْزِلَتِ الْأَرْضُ، وَتَغَيَّرَ مَاءُ
دِجْلَةَ إِلَى الْحُمْرَةِ. وَظَهَرَ بِأَرْضِ وَاسِطٍ مِنَ الْأَرْضِ دَمٌ لَا
يُعْرَفُ سَبَبُهُ. وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ الْمَلِكَ سَنْجَرَ فِي أَسْرِ
التُّرْكِ، فِي غَايَةِ الذُّلِّ وَالْإِهَانَةِ، وَأَنَّهُ يَبْكِي عَلَى نَفْسِهِ
فِي كُلِّ وَقْتٍ.
وَفِيهَا انْتَزَعَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ دِمَشْقَ
مِنْ يَدِ مَلِكِهَا مُجِيرِ الدِّينِ أَبَقِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بُورِي بْنِ
طُغْتِكِينَ، وَذَلِكَ لِسُوءِ سِيرَتِهِ وَضَعْفِ دَوْلَتِهِ، وَمُحَاصَرَةِ
الْعَامَّةِ لَهُ فِي الْقَلْعَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ، مَعَ الرَّئِيسِ مُؤَيَّدِ
الدَّوْلَةِ الْمُسَيَّبِ
بْنِ
الصُّوفِيِّ، وَتَغَلُّبِ الْخَادِمِ عَطَاءٍ عَلَى الْمَمْلَكَةِ مَعَ ظُلْمِهِ
وَغَشْمِهِ، فَكَانَ النَّاسُ يَدْعُونَ اللَّهَ لَيْلًا وَنَهَارًا أَنْ يُبَدِّلَهُمْ
بِالْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ، وَاتَّفَقَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ أَخَذُوا
عَسْقَلَانَ فَتَحَرَّقَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يُمْكِنُهُ
الْوُصُولُ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّ دِمَشْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَيَخْشَى أَنْ
يُحَاصِرَ دِمَشْقَ بِعَسْفٍ ; فَيَنْبَعِثَ مَلِكُهَا إِلَى الْفِرِنْجِ
فَيُنْجِدُونَهُ كَمَا جَرَى غَيْرَ مَرَّةٍ ; لِأَنَّ الْفِرِنْجَ لَا يُرِيدُونَ
أَنْ يَمْلِكَ نُورُ الدِّينِ دِمَشْقَ ; لِأَنَّهُ يَقْوَى بِهَا عَلَيْهِمْ
وَلَا يُطِيقُونَهُ، فَأَرْسَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَمِيرَ أَسَدَ الدِّينِ
شِيرَكُوهْ فِي أَلْفِ فَارِسٍ فِي صِفَةِ طَلَبِ الصُّلْحِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ
إِلَيْهِ مُجِيرُ الدِّينِ، وَلَا خَرَجَ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ،
فَكَتَبَ إِلَى نُورِ الدِّينِ بِذَلِكَ، فَرَكِبَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ فِي
جَيْشِهِ، فَنَزَلَ عُيُونَ الْفَاسْرَيَا مِنْ أَرْضِ دِمَشْقَ ثُمَّ انْتَقَلَ
إِلَى قَرِيبٍ مِنَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ، فَفَتَحَهَا قَهْرًا وَدَخَلَ
الْبَلَدَ بَعْدَ حِصَارِ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ دُخُولُهُ يَوْمَ الْأَحَدِ
عَاشِرَ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَتَحَصَّنَ مُجِيرُ الدِّينِ فِي
الْقَلْعَةِ فَأَنْزَلَهُ مِنْهَا، وَعَوَّضَهُ مَدِينَةَ حِمْصَ وَدَخَلَ نُورُ
الدِّينِ الْقَلْعَةَ، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى دِمَشْقَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ،
فَنَادَى فِي الْبَلَدِ بِالْأَمَانِ، وَأَنَّهُ يُبَشِّرُ النَّاسَ بِالْخَيْرِ،
فَرُفِعَ عَنْهُمُ الْمُكُوسُ، وَقُرِئَتِ التَّوَاقِيعُ بِذَلِكَ عَلَى
الْمَنَابِرِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ وَأَكْثَرُوا الدُّعَاءَ لَهُ، وَكَتَبَ
مُلُوكُ الْفِرِنْجِ إِلَيْهِ يُهَنِّئُونَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِ، وَيَخْضَعُونَ
لَهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الرَّئِيسُ مُؤَيَّدُ الدَّوْلَةِ الْمُسَيَّبُ بْنُ الصُّوفِيِّ، وَزِيرُ
دِمَشْقَ لِمُجِيرِ الدِّينِ
وَقَدْ ثَارَ عَلَى الْمَلِكِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَيَسْتَفْحِلُ أَمْرُهُ، ثُمَّ
يَقَعُ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا، كَمَا تَقَدَّمَ.
عَطَاءٌ
الْخَادِمُ
أَحَدُ أُمَرَاءِ دِمَشْقَ وَقَدْ تَغَلَّبَ عَلَى الْأُمُورِ أَيَّامَ مُجِيرِ
الدِّينِ، وَكَانَ يَنُوبُ بِبَعْلَبَكَّ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَكَانَ
ظَالِمًا، غَاشِمًا وَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ مَسْجِدُ عَطَاءٍ خَارِجَ
بَابِ شَرْقِيٍّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ
إِلَى دَقُوقَا فَحَاصَرَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا فَسَأَلُوهُ أَنْ
يَرْحَلَ عَنْهُمْ ; فَإِنَّ أَهْلَهَا قَدْ هَلَكُوا بَيْنَ الْجَيْشَيْنِ،
فَأَجَابَهُمْ، وَرَحَلَ عَنْهُمْ، وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ
وَنِصْفٍ، ثُمَّ خَرَجَ نَحْوَ الْحِلَّةِ وَالْكُوفَةِ، وَالْجَيْشُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ شَاهْ: أَنَا وَلِيُّ عَهْدِ سَنْجَرَ، فَإِنْ
قَرَّرْتَ لِي ذَلِكَ وَإِلَّا فَأَنَا كَأَحَدِ الْأُمَرَاءِ. فَوَعْدَهُ
خَيْرًا، وَكَانَ يَحْمِلُ الْغَاشِيَةَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ عَلَى
كَاهِلِهِ، فَمَهَّدَ الْأُمُورَ وَوَطَّدَهَا، وَسَلَّمَ عَلَى مَشْهَدِ عَلِيٍّ
إِشَارَةً بِأُصْبُعَيْهِ وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى دُخُولِ الْمَشْهَدِ،
فَنَهَاهُ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ كَأَنَّهُ خَافَ عَلَيْهِ مِنْ
غَائِلَةِ الرَّوَافِضِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا افْتَتَحَ نُورُ الدِّينِ بَعْلَبَكَّ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ ; وَذَلِكَ
أَنَّ نَجْمَ الدِّينِ كَانَ نَائِبًا عَلَى الْبَلَدِ وَالْقَلْعَةِ، فَسَلَّمَهُ
إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: الضَّحَّاكُ الْبِقَاعِيُّ. فَكَاتَبَ نَجْمُ الدِّينِ
لِنُورِ الدِّينِ، وَلَمْ يَزَلْ نُورُ الدِّينِ يَتَلَطَّفُ حَتَّى أَخَذَ
الْقَلْعَةَ أَيْضًا، وَاسْتَدْعَى بِنَجْمِ الدِّينِ إِلَيْهِ إِلَى دِمَشْقَ
فَأَقْطَعُهُ إِقْطَاعًا، وَأَكْرَمَهُ مِنْ أَجْلِ أَخِيهِ أَسَدِ الدِّينِ ;
فَإِنَّهُ كَانَتْ لَهُ الْيَدُ الطُّولَى فِي فَتْحِ دِمَشْقَ لِلْمَلِكِ
الْعَادِلِ نُورِ الدِّينِ، وَجَعَلَ الْأَمِيرَ شَمْسَ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ
بْنَ نَجْمِ الدِّينِ شِحْنَةَ دِمَشْقَ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ جَعَلَ أَخَاهُ
صَلَاحَ الدِّينِ يُوسُفَ هُوَ الشِّحْنَةَ، وَجَعَلَهُ مِنْ خَوَاصِّهِ لَا
يُفَارِقُهُ حَضَرًا وَلَا سَفَرًا ; لِأَنَّهُ
كَانَ
حَسَنَ الشَّكْلِ، حَسَنَ اللَّعِبِ بِالْكُرَةِ، وَكَانَ نُورُ الدِّينِ يُحِبُّ
لَعِبَ الْكُرَةِ ; لِتَمْرِينِ الْخَيْلِ وَتَعْلِيمِهَا الْكَرَّ وَالْفَرَّ،
وَفِي شِحْنَكِيَّةِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ يَقُولُ عَرْقَلَةُ الشَّاعِرُ:
رُوَيْدَكُمْ يَا لُصُوصَ الشَّآمِ فَإِنِّي لَكُمْ نَاصِحٌ فِي مَقَالِ
فَإِيَّاكُمُ وَسَمِيَّ النَّبِ
يِّ يُوسُفَ رَبِّ الْحِجَا وَالْجَمَالِ فَذَاكَ مُقَطِّعُ أَيْدِي النِّسَاءِ
وَهَذَا مُقَطِّعُ أَيْدِي الرِّجَالِ
وَقَدْ مَلَكَ أَخَاهُ تُورَانْشَاهْ هَذَا بِلَادَ الْيَمَنِ فِيمَا بَعْدَ
ذَلِكَ، وَكَانَ يُلَقَّبُ شَمْسَ الدَّوْلَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرِ
ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ الْحَافِظُ، أَبُو الْفَضْلِ
الْبَغْدَادِيُّ. وُلِدَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ
وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَتَفَرَّدَ بِمَشَايِخَ،
وَكَانَ حَافِظًا، ضَابِطًا، مُكْثِرًا، مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، كَثِيرَ
الذِّكْرِ، سَرِيعَ الدَّمْعَةِ. وَقَدْ تَخْرَّجَ بِهِ جَمَاعَةٌ ; مِنْهُمُ
الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، سَمِعَ بِقِرَاءَتِهِ "
مُسْنَدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ "، وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْكِبَارِ،
وَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ كَثِيرًا، وَقَدْ رَدَّ عَلَى أَبِي سَعْدٍ
السَّمْعَانِيِّ فِي قَوْلِهِ فِي مُحَمَّدِ بْنِ نَاصِرٍ: يُحِبُّ أَنْ يَقَعَ
فِي النَّاسِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَالْكَلَامُ فِي الْجَرْحِ
وَالتَّعْدِيلِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَإِنَّمَا ابْنُ السَّمْعَانِيِّ
يُحِبُّ أَنْ يَتَعَصَّبَ عَلَى أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ نَعُوذُ
بِاللَّهِ
مِنْ سُوءِ الْقَصْدِ وَالتَّعَصُّبِ. وَكَانَتْ وَفَاةُ مُحَمَّدِ بْنِ نَاصِرٍ
لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
عَنْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مَرَّاتٍ، وَدُفِنَ بِبَابِ
حَرْبٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُجَلِّي بْنُ جُمَيْعِ بْنِ نَجَا، أَبُو الْمَعَالِي الْمَخْزُومِيُّ
الْأَرْسُوفِيُّ
ثُمَّ الْمِصْرِيُّ قَاضِيهَا، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، مُصَنِّفُ "
الذَّخَائِرِ " فِي الْمَذْهَبِ، وَفِيهَا غَرَائِبُ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ مِنَ
الْكُتُبِ الْمُفِيدَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ شَاهْ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ السَّلْجُوقِيُّ إِلَى بَغْدَادَ
وَعَلَى رَأْسِهِ الشَّمْسِيَّةُ، فَتَلَقَّاهُ الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ
وَأَدْخَلَهُ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَحَلَّفَهُ عَلَى
الطَّاعَةِ وَصَفَاءِ النِّيَّةِ وَالْمُنَاصَحَةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَخَلَعَ
عَلَيْهِ خُلَعَ الْمُلُوكِ، وَتَقَرَّرَ أَنَّ لِلْخَلِيفَةِ الْعِرَاقَ
وَلِسُلَيْمَانَ شَاهْ مَا يَفْتَحُهُ مِنْ خُرَاسَانَ ثُمَّ خُطِبَ لَهُ
بِبَغْدَادَ بَعْدَ الْمَلِكِ سَنْجَرَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ فَاقْتَتَلَ هُوَ وَالسُّلْطَانُ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ
مَلِكْشَاهْ، فَهَزَمَهُ مُحَمَّدٌ وَهَزَمَ عَسْكَرَهُ، فَذَهَبَ هَارِبًا
فَتَلَقَّاهُ نَائِبُ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ صَاحِبُ
الْمَوْصِلِ فَأَسَرَهُ وَحَبَسَهُ بِقَلْعَةِ الْمَوْصِلِ وَأَكْرَمَهُ مُدَّةَ
حَبْسِهِ وَخَدَمَهُ، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ الِاتِّفَاقَاتِ.
وَفِيهَا مَلَكَتِ الْفِرِنْجُ الْمَهْدِيَّةَ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ بَعْدَ
حِصَارٍ شَدِيدٍ. وَفِيهَا فَتَحَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ
قَلْعَةَ تَلِّ حَارِمٍ وَاقْتَلَعَهَا مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ، وَكَانَتْ مِنْ
أَحْصَنِ الْقِلَاعِ وَأَمْنَعِ الْبِقَاعِ وَذَلِكَ بَعْدَ قِتَالٍ عَظِيمٍ
وَوَقْعَةٍ هَائِلَةٍ كَانَتْ مِنْ أَكبَرِ الْفُتُوحَاتِ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ
الشُّعَرَاءُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَفِيهَا هَرَبَ الْمَلِكُ سَنْجَرُ مِنَ الْأَسْرِ
وَعَادَ إِلَى مُلْكِهِ بِمَرْوَ، وَكَانَ لَهُ فِي أَيْدِيهِمْ نَحْوٌ مِنْ
خَمْسِ سِنِينَ. وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ أَوْلَادَهُ عَلَى
بِلَادِهِ ; اسْتَنَابَ كُلَّ وَاحِدٍ فِي بَلَدٍ كَبِيرٍ.
ذِكْرُ
حِصَارِ بَغْدَادَ
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ مُحَمَّدَ بْنَ مَحْمُودِ بْنِ مَلِكْشَاهْ
أَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَخْطُبَ لَهُ
بِبَغْدَادَ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ، فَسَارَ مِنْ هَمَذَانَ إِلَى
بَغْدَادَ لِيُحَاصِرَهَا، فَانْجَفَلَ النَّاسُ، وَحَصَّنَ الْخَلِيفَةُ
الْبَلَدَ، وَجَاءَ السُّلْطَانُ مُحَمَّدٌ فَحَصَرَ بَغْدَادَ وَوَقَفَ تُجَاهَ
التَّاجِ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ فِي جَحْفَلٍ عَظِيمٍ، وَرَمَوْا نَحْوَهُ
بِالنُّشَّابِ، وَقَاتَلَتِ الْعَامَّةُ قِتَالًا عَظِيمًا بِالنِّفْطِ
وَغَيْرِهِ، وَاسْتَمَرَّ الْقِتَالُ إِلَى مُدَّةٍ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ
إِذْ بَلَغَ السُّلْطَانُ أَنَّ أَخَاهُ قَدْ خَلَفَهُ فِي هَمَذَانَ فَانْشَمَرَ
عَنْ بَغْدَادَ رَاحِلًا إِلَى هَمَذَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ
اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ
فِي الْبِلَادِ، وَأَصَابَ النَّاسَ بَعْدَ هَذَا الْقِتَالِ مَرَضٌ شَدِيدٌ،
وَمَوْتٌ ذَرِيعٌ، وَاحْتَرَقَتْ مَحَالُّ كَثِيرَةٌ مِنْ بَغْدَادَ وَاسْتَمَرَّ
ذَلِكَ فِيهَا مُدَّةَ شَهْرَيْنِ.
وَفِيهَا أُطْلِقَ أَبُو الْبَدْرِ بْنُ الْوَزِيرِ بْنِ هُبَيْرَةَ مِنْ قَلْعَةِ
تَكْرِيتَ وَكَانَ لَهُ فِيهَا، مُعْتَقَلًا، ثَلَاثَ سِنِينَ، فَتَلَقَّاهُ
النَّاسُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ، فَكَانَ مِنْ
جُمْلَتِهِمُ الْأَبْلَهُ الشَّاعِرُ، أَنْشَدَ الْوَزِيرَ قَصِيدَةً يَقُولُ فِي
أَوَّلِهَا:
بِأَيِّ لِسَانٍ لِلْوُشَاةِ أُلَامُ وَقَدْ عَلِمُوا أَنِّي سَهِرْتُ وَنَامُوا
إِلَى
أَنْ قَالَ
وَيَسْتَكْثِرُونَ الْوَصْلَ لِي مِنْكَ لَيْلَةً وَقَدْ مَرَّ عَامٌ بِالصُّدُودِ
وَعَامُ
فَطَرِبَ الْخَلِيفَةُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَخَلَعَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ وَأَطْلَقَ
لَهُ خَمْسِينَ دِينَارًا، وَحَجَّ بِالنَّاسِ قَايْمَازُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ أَبُو الْحَسَنِ الْغَزْنَوِيُّ
الْوَاعِظُ، كَانَ لَهُ قَبُولٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ، وَبَنَتْ لَهُ
الْخَاتُونُ زَوْجَةُ الْمُسْتَظْهِرِ رِبَاطًا بِبَابِ الْأَزَجِّ، وَوَقَفَتْ عَلَيْهِ
أَوْقَافًا كَثِيرَةً، فَحَصَلَ لَهُ جَاهٌ عَرِيضٌ وَزَارَهُ السُّلْطَانُ.
وَكَانَ حَسَنَ الْإِيرَادِ مَلِيحَ الْوَعْظِ، يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ. وَقَدِ اسْتَمْلَحَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ أَشْيَاءَ مِنْ وَعْظِهِ، قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَوْمًا يَقُولُ:
حُزْمَةُ حُزْنٍ خَيْرٌ مِنْ أَعْدَالِ أَعْمَالِ. ثُمَّ أَنْشَدَ
كَمْ حَسْرَةٍ لِي فِي الْحَشَا مِنْ وَلَدٍ إِذَا نَشَا أَمَّلْتُ فِيهِ رُشْدَهُ
فَمَا نَشَا كَمَا أَشَا
قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَوْمًا يُنْشِدُ
يَحْسُدُنِي قَوْمِي عَلَى صَنْعَتِي لِأَنَّنِي فِي صَنْعَتِي فَارِسُ
سَهِرْتُ فِي لَيْلِي وَاسْتَنْعَسُوا وَهَلْ يَسْتَوِي السَّاهِرُ وَالنَّاعِسُ
قَالَ:
وَكَانَ يَقُولُ: تُوَلُّونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فَيَسُبُّونَ نَبِيَّكُمْ
فِي يَوْمِ عِيدِهِمْ وَيُصْبِحُونَ يَجْلِسُونَ إِلَى جَانِبِكُمْ ؟ ! ثُمَّ
يَقُولُ: أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ ؟ قَالَ: وَكَانَ يَتَشَيَّعُ، ثُمَّ سُعِيَ فِي
مَنْعِهِ مِنَ الْوَعْظِ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ، وَلَكِنْ ظَهَرَ لِلنَّاسِ ابْنُ
الْعَبَّادِيِّ، فَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَمِيلُونَ إِلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ
السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ يُعَظِّمُهُ وَيَحْضُرُ مَجْلِسَهُ، فَلَمَّا مَاتَ
السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ ذُلَّ الْغَزْنَوِيُّ بَعْدَهُ، وَأُهِينَ إِهَانَةً
بَالِغَةً، فَمَرِضَ وَمَاتَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَعْرَقُ فِي نَزْعِهِ ثُمَّ يَفِيقُ
وَهُوَ يَقُولُ: رِضًى وَتَسْلِيمٌ. وَلَمَّا مَاتَ دُفِنَ فِي رِبَاطِهِ الَّذِي
كَانَ فِيهِ.
مَحْمُودُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ قَادُوسَ، أَبُو الْفَتْحِ الدِّمْيَاطِيُّ
كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَهُوَ شَيْخُ الْقَاضِي
الْفَاضِلِ وَكَانَ يُسَمِّيهِ ذَا الْبَلَاغَتَيْنِ، وَذَكَرَهُ الْعِمَادُ
الْكَاتِبُ فِي " الْخَرِيدَةِ " وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَمِنْ شِعْرِهِ
فِيمَنْ يُكَرِّرُ التَّكْبِيرَ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ
وَفَاتِرُ النِّيَّةِ عِنِّينِهَا مَعْ كَثْرَةِ الرَّعْدَةِ وَالْهِزَّهْ
يُكَبِّرُ سَبْعِينَ فِي مَرَّةٍ كَأَنَّهُ صَلَّى عَلَى حَمْزَهْ
الشَّيْخُ
أَبُو الْبَيَانِ
نَبَا بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَوْرَانِيِّ، الْفَقِيهُ
الزَّاهِدُ الْعَابِدُ الْفَاضِلُ الْخَاشِعُ، قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ، قَرَأَ
الْقُرْآنَ وَكِتَابَ " التَّنْبِيهِ " عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ،
وَكَانَ حَسَنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللُّغَةِ، كَثِيرَ الْمُطَالَعَةِ، وَلَهُ
كَلَامٌ يُؤْثَرُ عَنْهُ، وَرَأَيْتُ لَهُ كِتَابًا بِخَطِّهِ فِيهِ النَّظَائِمُ
الَّتِي لَهُ، يَقُولُهَا أَصْحَابُهُ وَأَتْبَاعُهُ بِلَهْجَةٍ غَرِيبَةٍ، وَقَدْ
كَانَ مِنْ نَشْأَتِهِ إِلَى أَنْ تُوَفِّيَ عَلَى طَرِيقَةٍ صَالِحَةٍ، وَقَدْ
زَارَهُ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ فِي رِبَاطِهِ دَاخِلَ دَرْبِ الْحَجَرِ،
وَوَقَفَ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ
الثَّالِثِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ
بَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي "
طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
سَعِيدٍ الْفَارِسِيُّ الْحَافِظُ، تَفَقَّهَ بِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ عَلَى جَدِّهِ لِأُمِّهِ أَبِي الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيِّ، وَرَحَلَ
إِلَى الْبِلَادِ وَأَسْمَعَ الْكَثِيرَ، وَصَنَّفَ " الْمُفْهِمَ فِي
غَرِيبِ مُسْلِمٍ " وَغَيْرِهِ، وَوَلِيَ خَطَابَةَ نَيْسَابُورَ وَكَانَ
فَاضِلًا بَارِعًا ديِّنًا حَافِظًا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَمُحَمَّدُ شَاهْ بْنُ مَحْمُودٍ مُحَاصِرٌ
بَغْدَادَ وَالْعَامَّةُ وَالْجُنْدُ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي
يُقَاتِلُونَ أَشَدَّ الْقِتَالِ، وَالْجُمُعَةُ لَا تُقَامُ لِعُذْرِ الْقِتَالِ،
وَالْفِتْنَةُ كَبِيرَةٌ، ثُمَّ يَسَّرَ اللَّهُ بِذَهَابِ السُّلْطَانِ، كَمَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَطَوَّلَ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالشَّامِ، هَلَكَ بِسَبَبِهَا خَلْقٌ
كَثِيرٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَتَهَدَّمَ أَكْثَرُ حَلَبَ وَحَمَاةُ
وَشَيْزَرُ وَحِمْصُ وَكَفْرُ طَابَ وَحِصْنُ الْأَكْرَادِ وَاللَّاذِقِيَّةُ
وَالْمَعَرَّةُ وَأَفَامِيَةُ وَأَنْطَاكِيَةُ وَطَرَابُلُسُ. قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: وَأَمَّا شَيْزَرُ فَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا إِلَّا امْرَأَةٌ
وَخَادِمٌ لَهَا، وَهَلَكَ الْبَاقُونَ، وَأَمَّا كَفْرُ طَابَ فَلَمْ يَسْلَمْ
مِنْهَا أَحَدٌ وَأَمَّا أَفَامِيَةُ فَسَاخَتْ قَلْعَتُهَا، وَتَلُّ جَرَّانَ
انْقَسَمَ نِصْفَيْنِ، فَأَبْدَى نَوَاوِيسَ وَبُيُوتًا كَثِيرَةً فِي وَسَطِهِ.
قَالَ: وَهَلَكَ مِنْ مَدَائِنِ الْإِفْرِنْجِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَتَهَدَّمَ
أَسْوَارُ أَكْثَرِ مُدُنِ الشَّامِ مِنْ ذَلِكَ ; حَتَّى إِنَّ مَكْتَبًا
بِحَمَاةَ انْهَدَمَ عَلَى الصِّبْيَانِ فَهَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمْ يَجِئْ
أَحَدٌ يَسْأَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْفَصْلَ الشَّيْخُ
أَبُو شَامَةَ فِي كِتَابِ " الرَّوْضَتَيْنِ " مُسْتَقْصًى، وَذَكَرَ
مَا قَالَهُ الشُّعَرَاءُ فِي ذَلِكَ.
وَفِيهَا
مَلَكَ السُّلْطَانُ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ حِصْنَ شَيْزَرَ بَعْدَ حِصَارٍ،
وَأَخَذَ مَدِينَةَ بَعْلَبَكَّ وَكَانَ بِهَا الضَّحَّاكُ الْبِقَاعِيُّ، وَقَدْ
قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَفِيهَا مَرِضَ نُورُ الدِّينِ فَمَرِضَ الشَّامُ بِمَرَضِهِ ثُمَّ
عُوفِيَ فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَاسْتَوْلَى أَخُوهُ
قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودٌ عَلَى جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ.
وَفِيهَا عَمِلَ الْخَلِيفَةُ بَابًا لِلْكَعْبَةِ مُصَفَّحًا بِالذَّهَبِ،
وَأَخَذَ بَابَهَا الْأَوَّلَ فَجَعْلَهُ لِنَفْسِهِ تَابُوتًا. وَفِيهَا
أَغَارَتِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ عَلَى حُجَّاجِ خُرَاسَانَ فَلَمْ يُبْقُوا
مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ لَا زَاهِدٍ وَلَا عَالِمٍ. وَفِيهَا كَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ
بِخُرَاسَانَ حَتَّى أَكَلُوا الْحَشَرَاتِ، وَذَبَحَ إِنْسَانٌ رَجُلًا
عَلَوِيًّا فَطَبَخَهُ وَبَاعَهُ فِي السُّوقِ، فَحِينَ ظَهَرَ عَلَيْهِ قُتِلَ.
وَذَكَرَ أَبُو شَامَةَ أَنَّ فَتْحَ بَانِيَاسَ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى
يَدِ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ بِنَفْسِهِ، وَقَدْ كَانَ مُعِينُ الدِّينِ
سَلَّمَهَا إِلَى الْفِرِنْجِ صُلْحًا عَنْ دِمَشْقَ فَعَوَّضَهُمْ بِهَا،
وَقَتَلَ مَلِكِهَا وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَفِيهَا
قَدِمَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَقْتِ عَبْدُ الْأَوَّلِ بْنُ عِيسَى بْنِ شُعَيْبٍ
السِّجْزِيُّ، فَسُمِّعَ عَلَيْهِ " الْبُخَارِيُّ " فِي دَارِ
الْوَزِيرِ بِبَغْدَادَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ قَايْمَازُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَبُو اللَّيْثِ النَّسَفِيُّ، مِنْ أَهْلِ
سَمَرْقَنْدَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ وَوَعَظَ، وَكَانَ حَسَنَ السَّمْتِ،
قَدِمَ
بَغْدَادَ
فَوَعَظَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ فَقَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
أَحْمَدُ بْنُ بَخْتِيَارَ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو الْعَبَّاسِ، الْمَنْدَائِيُّ الْوَاسِطِيُّ
قَاضِيهَا، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ بِالْأَدَبِ
وَاللُّغَةِ، وَصَنَّفَ كُتُبًا فِي التَّارِيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ ثِقَةً
صَدُوقًا، تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالنِّظَامِيَّةِ.
السُّلْطَانُ سَنْجَرُ
ابْنُ مَلِكْشَاهْ بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ
سَلْجُوقَ، أَبُو الْحَارِثِ ; وَاسْمُهُ أَحْمَدُ، وَلُقِّبَ بِسَنْجَرَ،
مَوْلِدُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَقَامَ
فِي الْمُلْكِ نَيِّفًا وَسِتِّينَ سَنَةً ; مِنْ ذَلِكَ اسْتِقْلَالًا إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ
سَنَةً، وَقَدْ أَسَرَهُ الْغُزُّ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ سِنِينَ، ثُمَّ هَرَبَ
مِنْهُمْ فَعَادَ إِلَى مُلْكِهِ بِمَرْوَ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ فِي قُبَّةٍ بَنَاهَا سَمَّاهَا: دَارَ
الْآخِرَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّطِيفِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَبُو بَكْرٍ الْخُجَنْدِيُّ الْفَقِيهُ
الشَّافِعِيُّ، وَلِيَ تَدْرِيسَ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ يُنَاظِرُ
حَسَنًا وَيَعِظُ النَّاسَ وَحَوْلَهُ السُّيُوفُ مُسَلَّلَةٌ. قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: وَلَمْ يَكُنْ مَاهِرًا فِي الْوَعْظِ، حَالُهُ أَشْبَهُ
بِالْوُزَرَاءِ
مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ السَّلَاطِينَ حَتَّى كَانُوا يُصْدِرُونَ
عَنْ رَأْيِهِ، تُوُفِّيَ بِأَصْبَهَانَ فَجْأَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَلِّ، أَبُو الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْبَقَاءِ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ، وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّاشِيِّ، وَدَرَّسَ وَأَفْتَى، وَتُوُفِّيَ فِي
مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَتُوُفِّيَ أَخُوهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحُسَيْنِ
بْنُ الْخَلِّ الشَّاعِرُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
يَحْيَى بْنُ عِيسَى
بْنُ إِدْرِيسَ، أَبُو الْبَرَكَاتِ الْأَنْبَارِيُّ الْوَاعِظُ، قَرَأَ
الْقُرْآنَ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَتَفَقَّهَ وَوَعَظَ النَّاسَ عَلَى طَرِيقَةِ
الصَّالِحِينَ، وَكَانَ يَبْكِي مِنْ أَوَّلِ صُعُودِهِ إِلَى حِينِ نُزُولِهِ،
وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا وَرِعًا آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ نَاهِيًا عَنِ
الْمُنْكَرِ، وَرُزِقَ أَوْلَادًا صَالِحِينَ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَاءِ الْخُلَفَاءِ
الْأَرْبَعَةِ ; أَبُو بَكْرٍ، وَعُمْرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَحَفَّظَهُمُ
الْقُرْآنَ كُلَّهُمْ، وَخَتَّمَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ
يَصُومَانِ الدَّهْرَ، وَيَقُومَانِ اللَّيْلَ، وَلَا يُفْطِرَانِ إِلَّا بَعْدَ
الْعَشَاءِ، وَكَانَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ وَمَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ. وَلَمَّا مَاتَ
قَالَتْ زَوْجَتُهُ: اللَّهُمَّ لَا تُحْيِنِي بَعْدَهُ. فَمَاتَتْ بَعْدَهُ
بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَثُرَ فَسَادُ التُّرْكُمَانِ مِنْ أَصْحَابِ بُرْجُمَ الْإِيوَائِيِّ،
فَجُهِّزَ إِلَيْهِمْ مَنْكُورُسُ الْمُسْتَرْشِدِيُّ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ،
فَالْتَقَوْا مَعَهُمْ فَهَزَمَهُمْ أَقْبَحَ هَزِيمَةٍ، وَجَاءُوا بِالْأُسَارَى
وَالرُّءُوسِ إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْغُزِّ وَبَيْنَ الْمَلِكِ
مَحْمُودٍ، فَكَسَرُوهُ وَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ خَلْقًا
كَثِيرًا وَنَهَبُوا الْبِلَادَ، وَأَقَامُوا بِمَرْوَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ طَلَبُوهُ
إِلَيْهِمْ فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَرْسَلَ وَلَدَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَأَكْرَمُوهُ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِمْ فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَعَظَّمُوهُ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ بِمَرْوَ بَيْنَ فَقِيهِ الشَّافِعِيَّةِ
الْمُؤَيَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَبَيْنَ نَقِيبِ الْعَلَوِيِّينَ بِهَا أَبِي
الْقَاسِمِ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ، فَقُتِلَ بَيْنَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَاحْتَرَقَتِ الْمَسَاجِدُ وَالْمَدَارِسُ وَالْأَسْوَاقُ، وَانْهَزَمَ
الْمُؤَيَّدُ الشَّافِعِيُّ إِلَى بَعْضِ الْقِلَاعِ.
وَفِيهَا وُلِدَ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ
الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَفِيهَا خَرَجَ الْمُقْتَفِي نَحْوَ
الْأَنْبَارِ مُتَصَيِّدًا وَعَبَرَ الْفُرَاتَ وَزَارَ الْحُسَيْنَ، وَمَضَى
إِلَى وَاسِطٍ وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْوَزِيرُ.
وَفِيهَا كَسَرَ جَيْشُ مِصْرَ الْفِرِنْجَ بِأَرْضِ عَسْقَلَانَ كَسْرَةً
فَظِيعَةً صُحْبَةَ الْمَلِكِ
الصَّالِحِ
أَبِي الْغَارَاتِ، فَارِسِ الدِّينِ طَلَائِعِ بْنِ رُزِّيكَ وَامْتَدَحَهُ
الشُّعَرَاءُ.
وَفِيهَا قَدِمَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ مِنْ حَلَبَ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ
شُفِيَ مِنَ الْمَرَضِ فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَخَرَجَ إِلَى قِتَالِ
الْفِرِنْجِ، فَانْهَزَمَ جَيْشُهُ، فَبَقِيَ هُوَ وَشِرْذِمَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ
فِي لُجَّةِ الْعَدُوِّ، فَرَمَوْهُمْ بِالسِّهَامِ الْكَثِيرَةِ، ثُمَّ خَافُوا
أَنْ يَكُونَ وُقُوفُهُ فِي هَذِهِ الشِّرْذِمَةِ الْقَلِيلَةِ، خَدِيعَةً
لِمَجِيءِ كَمِينٍ إِلَيْهِمْ، فَفَرُّوا مُنْهَزِمِينَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا قَايْمَازُ الْأُرْجُوَانِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الْأَوَّلِ بْنُ عِيسَى
بْنِ شُعَيْبِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ، أَبُو الْوَقْتِ السِّجْزِيُّ
الصُّوفِيُّ الْهَرَوِيُّ، رَاوِي " الْبُخَارِيِّ " وَ " مُسْنَدِ
الدَّارِمِيِّ "، وَ " الْمُنْتَخِبِ مِنْ مُسْنَدِ عَبْدِ بْنِ
حُمَيْدٍ "، قَدِمَ بَغْدَادَ فَسَمِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ هَذِهِ الْكُتُبَ،
وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمَشَايِخِ وَأَحْسَنِهِمْ سَمْتًا، وَأَصْبَرِهِمْ عَلَى
قِرَاءَةِ الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ التَّكْرِيتِيُّ الصُّوفِيُّ، قَالَ:
أَسْنَدْتُهُ إِلَيَّ فَمَاتَ، فَكَانَ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ يَا لَيْتَ
قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [
يس: 26: 27 ]
نَصْرُ بْنُ مَنْصُورِ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ الْعَطَّارُ، أَبُو
الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيُّ، كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ، يَعْمَلُ مِنْ صَدَقَاتِهِ
الْمَعْرُوفَ الْكَثِيرَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ
الْحَسَنَةِ،
وَيُكْثِرُ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَيُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي
الْجَمَاعَةِ، وَرُوِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ، وَقَارَبَ الثَّمَانِينَ.
يَحْيَى بْنُ سَلَامَةَ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ، أَبُو الْفَضْلِ الشَّافِعِيُّ، الْحَصْكَفِيُّ
; نِسْبَةً إِلَى حِصْنِ كَيْفَا كَانَ إِمَامًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنَ
الْفِقْهِ وَالْأَدَبِ، نَاظِمًا نَاثِرًا، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى
الْغُلُوِّ فِي التَّشَيُّعِ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قِطْعَةً
مِنْ نَظْمِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي جُمْلَةِ قَصِيدَةٍ لَهُ
تَقَاسَمُوا يَوْمَ الْوَدَاعِ كَبِدِي فَلَيْسَ لِي مُنْذُ تَوَلَّوْا كَبِدُ
عَلَى الْجُفُونِ رَحَلُوا وَفِي الْحَشَا
تَقَيَّلُوا وَمَاءَ عَيْنِي وَرَدُوا فَأَدْمُعِي مَسْفُوحَةٌ وَكَبِدِي
مَقْرُوحَةٌ وِغُلَّتُي لَا تَبْرُدُ وَصَبْوَتِي دَائِمُةٌ وَمُقْلَتِي
دَامِيَةٌ وَنَوْمُهَا مُشَرَّدُ تَيَّمَنِي مِنْهُمْ غَزَالٌ أَغْيَدُ
يَا حَبَّذَا ذَاكَ الْغَزَالُ الْأَغْيَدُ حُسَامُهُ مُجَرَّدٌ وَصَرْحُهُ
مُمَرَّدٌ وَخَدُّهُ مُوَرَّدُ وَصُدْغُهُ فَوْقَ احْمِرَارِ خَدِّهِ
مُبَلْبَلٌ مُعَقْرَبٌ مُجَعَّدُ كَأَنَّمَا نَكْهَتُهُ وَرِيقُهُ
مِسْكٌ وَخَمْرٌ وَالثَّنَايَا بَرَدُ يُقْعِدُهُ عِنْدَ الْقِيَامِ رِدْفُهُ
وَفِي الْحَشَا مِنْهُ الْمُقِيمُ الْمُقْعِدُ لَهُ قِوَامٌ كَقَضِيبِ بَانَةٍ
يَهْتَزُّ قَصْدًا لَيْسَ فِيهِ أَوَدُ
وَهِيَ طَوِيلَةٌ جِدًّا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ هَذَا التَّغَزُّلِ إِلَى مَدْحِ
أَهْلِ الْبَيْتِ وَالْأَئِمَّةِ
الِاثْنَيْ
عَشْرَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَنَفَعَنَا بِهِمْ، حَيْثُ يَقُولُ:
وَسَائِلِي عَنْ حُبِّ أَهْلِ الْبَيْتِ هَلْ أُقِرُّ إِعْلَانًا بِهِ أَمْ
أَجْحَدُ
هَيْهَاتَ مَمْزُوجٌ بِلَحْمِي وَدَمِي حُبُّهُمْ وَهْوَ الْهُدَى وَالرَّشَدُ
حَيْدَرَةُ وَالْحَسَنَانِ بَعْدَهُ ثُمَّ عَلِيٌّ وَابْنُهُ مُحَمَّدُ
وَجَعْفَرُ الصَّادِقُ وَابْنُ جَعْفَرٍ مُوسَى وَيَتْلُوهُ عَلِيُّ السَّيِّدُ
أَعْنِي الرِّضَا ثُمَّ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ ثُمَّ عَلِيٌّ وَابْنُهُ الْمُسَدَّدُ
وَالْحَسَنُ التَّالِي وَيَتْلُو تِلْوَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُفْتَقَدُ
فَإِنَّهُمْ أَئِمَّتِي وَسَادَتِي وَإِنْ لَحَانِي مَعْشَرٌ وَفَنَّدُوا
أَئِمَّةٌ أَكْرِمْ بِهِمْ أَئِمَّةً أَسْمَاؤُهُمْ مَسْرُودَةٌ تَطَّرِدُ
هُمْ حُجَجُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَهُمْ إِلَيْهِ مَنْهَجٌ وَمَقْصِدُ
قَوْمٌ لَهُمْ فَضْلٌ وَمَجْدٌ بَاذِخٌ يَعْرِفُهُ الْمُشْرِكُ وَالْمُوَحِّدُ
قَوْمٌ لَهُمْ فِي كُلِّ أَرْضٍ مَشْهَدُ لَا بَلْ لَهُمْ فِي كُلِّ قَلْبٍ
مَشْهَدُ
قَوْمٌ مِنًى وَالْمَشْعَرَانِ لَهُمْ وَالْمَرْوَتَانِ لَهُمْ وَالْمَسْجِدُ
قَوْمٌ لَهُمْ مَكَّةُ وَالْأَبْطَحُ وَالْ خَيْفُ وَجَمْعٌ وَالْبَقِيعُ
الْغَرْقَدُ
ثُمَّ ذَكَرَ مَقْتَلَ الْحُسَيْنِ بِالطَّفِّ إِلَى أَنْ قَالَ:
يَا أَهْلَ بَيْتِ الْمُصْطَفَى يَا عِدَّتِي وَمَنْ عَلَى حُبِّهِمْ أَعْتَمِدُ
أَنْتُمْ إِلَى اللَّهِ غَدًا وَسِيْلَتِي وَكَيْفَ أَخْشَى وَبِكُمْ أَعْتَضِدُ
وَلِيُّكُمْ فِي الْخُلْدِ حَيٌّ خَالِدُ وَالضِّدُّ فِي نَارٍ لَظًى مُخَلَّدُ
وَلَسْتُ
أَهْوَاكُمْ بِبُغْضِ غَيْرِكُمْ إِنِّي إِذًا أَشْقَى بِكُمْ لَا أَسْعَدُ
فَلَا يَظُنُّ رَافِضِيُّ أَنَّنِي وَافَقْتُهُ أَوْ خَارِجِيٌّ مُفْسِدُ
مُحَمَّدٌ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ أَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ فِيمَا أَجِدُ
هُمْ أَسَّسُوا قَوَاعِدَ الدِّينِ لَنَا وَهُمْ بَنَوا أَرْكَانَهُ وَشَيَّدوُا
وَمَنْ يَخُنْ أَحْمَدَ فِي أَصْحَابِهِ فَخَصْمُهُ يَوْمَ الْمَعَادِ أَحْمَدُ
هَذَا اعْتِقَادِي فَالْزَمُوهُ تَفْلَحُوا هَذَا طَرِيقِي فَاسْلُكُوهُ
تَهْتَدُوا
وَالشَّافِعِيُّ مَذْهَبِي مَذْهَبُهُ لِأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ مُؤَيَّدُ
أَتْبَعُهُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مَعًا فَلْيَتَّبِعْنِي الطَّالِبُ
الْمُسْتَرْشِدُ
إِنِّي بِإِذْنِ اللَّهِ نَاجٍ سَابِقُ إِذَا وَنَى الظَّالِمُ وَالْمُقْتَصِدُ
وَلَهُ أَيْضًا:
إِذَا قَلَّ مَالِي لَمْ تَجِدْنِيَ ضَارِعًا كَثِيرَ الْأَسَى مُغْرًى بِعَضِّ
الْأَنَامِلِ
وَلَا بَطِرًا إِنْ جَدَّدَ اللَّهُ نِعْمَةً وَلَوْ أَنَّ مَا أُوتِي جَمِيعُ
الْأَنَامِ لِي
تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
بِمَيَّافَارِقِينَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا مَرِضَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي مَرَضًا شَدِيدًا، ثُمَّ عُوفِيَ مِنْهُ
فَزُيِّنَتْ لَهُ بَغْدَادُ أَيَّامًا، وَتَصَدَّقَ بِصَدَقَاتٍ عَظِيمَةٍ
كَثِيرَةٍ. وَفِيهَا اسْتَعَادَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ مَدِينَةَ الْمَهْدِيَّةِ مِنْ
أَيْدِي الْفِرِنْجِ، وَقَدْ كَانُوا أَخَذُوهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَنَةِ
ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ، وَقَاتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ حَتَّى
صَارَتْ عِظَامُ الْقَتْلَى هُنَاكَ كَالتَّلِّ الْعَظِيمِ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي صَفَرٍ سَقَطَ بَرَدٌ بِالْعِرَاقِ كِبَارٌ، زِنَةُ الْبَرَدَةِ قَرِيبٌ
مِنْ خَمْسَةِ أَرْطَالٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ تِسْعَةُ أَرْطَالٍ
بِالْبَغْدَادِيِّ، فَهَلَكَ بِذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْغَلَّاتِ، وَخَرَجَ
الْخَلِيفَةُ إِلَى وَاسِطٍ فَاجْتَازَ بِسُوقِهَا وَرَأَى جَامِعَهَا، وَسَقَطَ
عَنْ فَرَسِهِ فَشُجَّ جَبِينُهُ، ثُمَّ عُوفِيَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً، فَغَرِقَتْ
بِسَبَبِ ذَلِكَ مَحَالُّ كَثِيرَةٌ مِنْ بَغْدَادَ حَتَّى صَارَ أَكْثَرُ
الدُّورِ بِهَا تُلُولًا، وَغَرِقَتْ تُرْبَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَتَخَسَّفَتْ
هُنَالِكَ الْقُبُورُ، وَطَفَتِ الْمَوْتَى عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، قَالَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَ الْمَرَضُ وَالْمَوْتُ، وَفِيهَا أَقْبَلَ مَلِكُ
الرُّومِ فِي جَحَافِلَ قَاصِدًا بِلَادَ الشَّامِ فَرَدَّهُ اللَّهُ خَائِبًا
خَاسِرًا ; وَذَلِكَ لِضِيقِ حَالِهِمْ مِنَ الْمِيرَةِ، وَأَسَرَ
الْمُسْلِمُونَ
ابْنَ أُخْتِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ قَايْمَازُ الْأُرْجُوَانِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مَعَالِيِّ
بْنِ بَرَكَةَ الْحَرْبِيُّ، تَفَقَّهَ بِأَبِي الْخَطَّابِ الْكَلْوَذَانِيِّ،
وَبَرَعَ فِي النَّظَرِ، وَدَرَسَ وَأَفْتَى، ثُمَّ صَارَ شَافِعِيًّا، ثُمَّ
عَادَ حَنْبَلِيًّا، وَوَعَظَ بِبَغْدَادَ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ;
دَخَلَتْ بِهِ دَابَّتُهُ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ، فَدَخَلَ قَرَبُوسُ سَرْجِهِ فِي
صَدْرِهِ.
السُّلْطَانُ مُحَمَّدُ شَاهْ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ،
بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ
لَمَّا رَجَعَ مِنْ مُحَاصَرَةِ بَغْدَادَ إِلَى هَمَذَانَ أَصَابَهُ مَرَضُ
السُّلِّ، فَلَمْ يُنْجَعْ مِنْهُ، بَلْ تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَبْلَ وَفَاتِهِ بِأَيَّامٍ أَمَرَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ جَمِيعُ
مَا يَمْلِكُهُ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَنْظَرَةِ، فَرَكِبَ
الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ وَأُحْضِرَتْ أَمْوَالُهُ كُلُّهَا، وَمَمَالِيكُهُ حَتَّى
جَوَارِيِهِ وَحَظَايَاهُ، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ: هَذِهِ الْعَسَاكِرُ لَا
يَدْفَعُونَ عَنِّي مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَلَا يَزِيدُونَ فِي عُمْرِي لَحْظَةً،
ثُمَّ تَأَسَّفَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي،
وَأَهْلِ بَغْدَادَ وَحِصَارِهِمْ وَأَذِيَّتِهِمْ،
ثُمَّ فَرَّقَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ تِلْكَ الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ، وَتُوُفِّيَ عَنْ وَلَدٍ صَغِيرٍ، وَاجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ وَالْأُمَرَاءُ عَلَى عَمِّهِ سُلَيْمَانَ شَاهْ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ وَكَانَ مَسْجُونًا بِالْمَوْصِلِ فَأُفْرِجَ عَنْهُ، وَانْعَقَدَتِ السَّلْطَنَةُ لَهُ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ، سِوَى بَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ
وَأُمُّهُ نُسَيْمُ، الْمَدْعُوَّةُ: سِتَّ السَّادَةِ، سَمْرَاءُ مِنْ خِيَارِ
الْجَوَارِي، مَرِضَ بِالتَّرَاقِي، وَقِيلَ: بِدُمَّلٍ خَرَجَ فِي حَلْقِهِ.
فَمَاتَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ ثَانِيَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، إِلَّا ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَتْ
خِلَافَتُهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ
يَوْمًا، وَدُفِنَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى التُّرَبِ، وَقَدْ
كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا مِقْدَامًا، يُبَاشِرُ الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ، وَيُشَاهِدُ
الْحُرُوبَ وَيَبْذُلُ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ لِأَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ،
وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَبَدَّ بِالْعِرَاقِ مُنْفَرِدًا عَنِ السَّلَاطِينِ،
مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ الدَّيْلَمِ إِلَى أَيَّامِهِ، وَتَمَكَّنَ فِي
الْخِلَافَةِ وَحَكَمَ عَلَى الْعَسْكَرِ وَالْأُمَرَاءِ، وَقَدْ وَافَقَ أَبَاهُ
فِي أَشْيَاءَ ; مِنْ ذَلِكَ مَرَضُهُ بِالتَّرَاقِي، وَمَوْتُهُ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَتَقَدَّمَ مَوْتُ السُّلْطَانِ مُحَمَّدٍ شَاهْ قَبْلَهُ
بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَظْهِرُ مَاتَ قَبْلَهُ مُحَمَّدٌ
بِثَلَاثَةٍ، وَبَعْدَ غَرَقِ بَغْدَادَ بِسَنَةٍ مَاتَ الْقَائِمُ، وَكَذَلِكَ
هَذَا. قَالَ عَفِيفٌ النَّاسِخُ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا
يَقُولُ:
إِذَا اجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ خَاءَاتٍ مَاتَ الْمُقْتَفِي. يَعْنِي: خَمْسًا
وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
خِلَافَةُ الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ، أَبِي الْمُظَفَّرِ يُوسُفَ بْنِ
الْمُقْتَفِي
لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ، كَمَا ذَكَرْنَا، بُويِعَ لَهُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ
الْأَحَدِ ثَانِيَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، بَايَعَهُ أَشْرَافُ
بَنِي الْعَبَّاسِ، ثُمَّ الْوَزِيرُ وَالْقُضَاةُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ
وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا،
وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِ أَبِيهِ مِنْ مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ، ثُمَّ عَمِلَ عَزَاءَ
أَبِيهِ، وَلَمَّا خُطِبَ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ نُثِرَتِ الدَّرَاهِمُ
وَالدَّنَانِيرُ عَلَى النَّاسِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ بَعْدَ أَبِيهِ،
وَأَقَرَّ الْوَزِيرَ ابْنَ هُبَيْرَةَ عَلَى مَنْصِبِهِ وَوَعَدَهُ بِذَلِكَ
إِلَى الْمَمَاتِ، وَعَزَلَ قَاضِيَ الْقُضَاةِ ابْنَ الدَّامَغَانِيِّ، وَوَلَّى
مَكَانَهُ أَبَا جَعْفَرٍ عَبْدَ الْوَاحِدِ الثَّقَفِيَّ، وَكَانَ شَيْخًا
كَبِيرًا، لَهُ سَمَاعٌ بِالْحَدِيثِ، وَبَاشَرَ الْحُكْمَ بِالْكُوفَةِ مُدَّةً،
فَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَوَلِيَ مَكَانَهُ
ابْنُهُ جَعْفَرٌ.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اتَّفَقَ الْأَتْرَاكُ بِبَابِ هَمَذَانَ
عَلَى خَلْعِ سُلَيْمَانَ شَاهْ، وَخَطَبُوا لَأَرْسَلَانَ بْنِ طُغْرُلَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
الْفَائِزُ بِنَصْرِ اللَّهِ الْفَاطِمِيُّ
صَاحِبُ مِصْرَ، وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عِيسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ الظَّافِرُ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي صَفَرٍ وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ إِحْدَى عَشْرَةَ
سَنَةً،
وَمُدَّةُ وِلَايَتِهِ مِنْ ذَلِكَ سِتُّ سِنِينَ وَشَهْرَانِ، وَكَانَ مُدَبِّرَ
دَوْلَتِهِ أَبُو الْغَارَاتِ، ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ الْعَاضِدُ آخِرُ
خُلَفَائِهِمْ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ
الْحَافِظِ، وَلَمْ يَكُنْ أَبُوهُ خَلِيفَةً، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزَ
الِاحْتِلَامَ، فَقَامَ بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ الْمَلِكُ الصَّالِحُ طَلَائِعُ
بْنُ رُزِّيكَ الْوَزِيرُ، أَخَذَ لَهُ الْبَيْعَةَ وَزَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ، وَجَهَّزَهَا
بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ عُمِّرَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا الْعَاضِدِ، وَرَأَتْ
زَوَالَ دَوْلَةِ الْفَاطِمِيِّينَ عَلَى يَدِ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ
بْنِ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِيٍّ، فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، كَمَا سَيَأْتِي
مُفَصَّلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ السُّلْطَانِ الْكَبِيرِ صَاحِبِ غَزْنَةَ
خُسْرُوشَاهْ بْنُ بَهْرَامْ شَاهْ
بْنِ مَسْعُودِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ
سُبُكْتُكِينَ، مِنْ بَيْتِ مُلْكٍ وَرِيَاسَةٍ بَاذِخَةٍ، يَرِثُونَهَا كَابِرًا
عَنْ كَابِرٍ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُلُوكِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً، يُحِبُّ
الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ مَلِكْشَاهْ، فَسَارَ إِلَيْهِ عَلَاءُ الدِّينِ
الْحُسَيْنُ مَلِكُ الْغُورِ فَحَاصَرَ غَزْنَةَ مُدَّةً فَلَمْ يَقْدِرْ
عَلَيْهَا، فَرَجَعَ خَائِبًا.
وَفِيهَا مَاتَ مَلِكْشَاهْ بْنُ السُّلْطَانِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
مَلِكْشَاهْ
بْنِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ السَّلْجُوقِيُّ، بِأَصْبَهَانَ مَسْمُومًا، يُقَالُ: إِنَّ
الْوَزِيرَ عَوْنَ الدِّينِ بْنَ هُبَيْرَةَ دَسَّ إِلَيْهِ مَنْ سَقَاهُ
إِيَّاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهَا مَاتَ
أَمِيرُ
الْحَاجِّ قَايِمَازُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُرْجُوَانِيُّ
سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ وَهُوَ يَلْعَبُ بِالْكُرَةِ بِمَيْدَانِ الْخَلِيفَةِ،
فَسَالَ دِمَاغُهُ مِنْ أُذُنِهِ، فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ، فَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَحَضَرَ
جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ. مَاتَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا الْأَمِيرُ أَرَغَشُ مُقْطَعُ الْكُوفَةِ. وَحَجَّ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ شِيرَكُوهْ بْنُ شَاذِيٍّ، مُقَدَّمُ عَسَاكِرِ
الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ بْنِ زَنْكِيٍّ، وَتَصَدَّقَ بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ.
وَفِيهَا اسْتَعْفَى الْقَاضِي زَكِيُّ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْقُرَشِيُّ مِنَ الْقَضَاءِ بِدِمَشْقَ، فَأَعْفَاهُ
الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ، وَوَلَّى مَكَانَهُ الْقَاضِي كَمَالَ الدَّيْنِ
مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الشَّهْرُزُورِيَّ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ
وَأَكْثَرِهِمْ صَدَقَةً، وَلَهُ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ بَعْدَهُ، وَكَانَ عَالِمًا،
بَارِعًا، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ الشُّبَّاكُ الْكَمَالِيُّ الَّذِي يَجْلِسُ فِيهِ
الْحُكَّامُ فِي الْجَامِعِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَمِيرُ مُجَاهِدُ الدِّينِ
بُزَّانُ بْنُ مَامِينَ الْكُرْدِيُّ، أَحَدُ مُقَدَّمِي جَيْشِ الشَّامِ قَبْلَ
الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ وَبَعْدَهُ، وَقَدْ نَابَ فِي مَدِينَةِ صَرْخَدَ
مُدَّةً، وَكَانَ شَهْمًا، شُجَاعًا، كَثِيرَ الْبِرِّ وَالصَّدَقَاتِ
وَالصِّلَاتِ، وَهُوَ وَاقِفُ الْمُدَرِّسَةِ الْمُجَاهِدِيَّةِ بِالْقُرْبِ مِنَ
النُّورِيَّةِ، وَلَهُ الْمَدْرَسَةُ الْمُجَاهِدِيَّةُ الَّتِي دَاخِلَ بَابِ
الْفَرَادِيسِ الْبَرَّانِيِّ، وَبِهَا
قَبْرُهُ،
وَلَهُ السَّبْعُ الْمُجَاهِدِيُّ دَاخِلَ بَابِ الزِّيَادَةِ مِنَ الْجَامِعِ
بِمَقْصُورَةِ الْخَضِرِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدَارِهِ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، فَحُمِلَ إِلَى الْجَامِعِ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَى
مَدْرَسَتِهِ، وَدُفِنَ بِهَا دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ
عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ عَدِيُّ بْنُ مُسَافِرِ
بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مَرْوَانَ
الْهَكَّارِيُّ، شَيْخُ الطَّائِفَةِ الْعَدَوِيَّةِ، أَصْلُهُ مِنَ الْبِقَاعِ
غَرْبِيَّ دِمَشْقَ مِنْ قَرْيَةِ بَيْتِ فَارٍ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ
فَاجْتَمَعَ فِيهَا بِالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ، وَالشَّيْخِ حَمَّادٍ
الدَّبَّاسِ، وَالشَّيْخِ عَقِيلٍ الْمَنْبِجِيِّ، وَأَبِي الْوَفَاءِ
الْحُلْوَانِيِّ، وَأَبِي النَّجِيبِ السُّهْرَوَرْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ
انْفَرَدَ عَنِ النَّاسِ وَتَخَلَّى بِجَبَلِ الْهَكَّارِيَّةِ وَبَنَى لَهُ
هُنَالِكَ زَاوِيَةً، وَاعْتَقَدَ فِيهِ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ اعْتِقَادًا
بَلِيغًا، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَغْلُو فِيهِ غُلُوًّا كَبِيرًا مُنْكَرًا.
ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِزَاوِيَتِهِ وَلَهُ سَبْعُونَ
سَنَةً.
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ، أَبُو جَعْفَرٍ الثَّقَفِيُّ، قَاضِي قُضَاةِ
بَغْدَادَ وَلِيَهَا بَعْدَ أَبِي الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيِّ فِي أَوَّلِ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَ قَاضِيًا بِالْكُوفَةِ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ
نَاهَزَ
الثَّمَانِينَ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ.
الْفَائِزُ صَاحِبُ مِصْرَ، تَقَدَّمَ فِي الْحَوَادِثِ.
قَايِمَازُ الْأُرْجُوَانِيُّ، تَقَدَّمَ أَيْضًا.
الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَفِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ
أَحْمَدَ الْمُسْتَظْهِرُ، تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ عِنْدَ وَفَاتِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْدِيُّ، وُلِدَ
بِمَدِينَةِ زُبَيْدٍ بِالْيَمَنِ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَقِدَمَ بَغْدَادَ سَنَةَ
تِسْعٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَوَعَظَ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالنَّحْوِ
وَالْأَدَبِ، وَكَانَ صَبُورًا عَلَى الْفَقْرِ لَا يَشْكُو حَالَهُ إِلَى أَحَدٍ
وَكَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا قُتِلَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ شَاهْ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ
وَكَانَ عِنْدَهُ تَهَوُّرٌ وَقِلَّةُ مُبَالَاةٍ بِالدِّينِ، يُدْمِنُ شُرْبَ
الْخَمْرِ حَتَّى فِي رَمَضَانَ، فَثَارَ عَلَيْهِ مُدَبِّرُ مَمْلَكَتِهِ
كُرْدَبَازُو الْخَادِمُ فَقَتَلَهُ، وَبَايَعَ بَعْدَهُ السُّلْطَانَ أَرْسَلَانَ
شَاهْ بْنَ طُغْرُلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَلِكْشَاهْ.
وَفِيهَا قُتِلَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ فَارِسُ الدِّينِ أَبُو الْغَارَاتِ
طَلَائِعُ بْنُ رُزِّيكَ الْأَرْمَنِيُّ، وَزِيرُ الْعَاضِدِ صَاحِبِ مِصْرَ،
وَوَالِدِ زَوْجَتِهِ، وَكَانَ قَدْ حَجَرَ عَلَى الْعَاضِدِ لِصِغَرِهِ
وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْأُمُورِ، فَقَتَلَتْهُ الْحَاشِيَةُ، وَوَزَرَ بَعْدَهُ
وَلَدُهُرُزِّيكُ، وَلُقِّبَ بِالْعَادِلِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ الصَّالِحُ
كَرِيمًا أَدِيبًا، يُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، كَانَ مِنْ
خِيَارِ الْمُلُوكِ وَالْوُزَرَاءِ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الشُّعَرَاءِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ أَوَّلًا مُتَوَلِّيًا بِمُنْيَةِ بَنِي خَصِيبٍ،
ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ وَزَرَ لِلْفَائِزِ، وَذَهَبَتْ لَهُ
وِزَارَةُ عَبَّاسٍ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ لَمَّا هَلَكَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ قَامَ فِي الْوِزَارَةِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْعَادِلُ رُزِّيكُ
بْنُ طَلَائِعَ فَلَمْ يَزَلْ
فِيهَا
حَتَّى انْتَزَعَهَا شَاوَرُ، كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ: وَالصَّالِحُ هَذَا هُوَ
بَانِي الْجَامِعِ عِنْدَ بَابِ زُوَيْلَةَ ظَاهِرَ الْقَاهِرَةِ. قَالَ: وَمِنَ
الْعَجَائِبِ أَنَّهُ وَلِيَ الْوِزَارَةَ فِي تَاسِعَ عَشَرَ شَهْرٍ، وَقُتِلَ
مِنْ تَاسِعَ عَشَرَ شَهْرٍ، وَنُقِلَ مِنْ دَارِ الْوِزَارَةِ إِلَى الْقَرَافَةِ
فِي تَاسِعَ عَشَرَ شَهْرٍ آخَرَ، وَزَالَتْ دَوْلَتُهُمْ فِي تَاسِعَ عَشَرَ
شَهْرٍ آخَرَ. قَالَ: وَمِنْ شِعْرِهِ مَا رَوَاهُ عَنْهُ الْوَاعِظُ زَيْنُ
الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ نَجَا الْحَنْبَلِيُّ، وَهُوَ قَوْلُهُ
مَشِيبُكَ قَدْ نَضَا صِبْغَ الشَّبَابِ وَحَلَّ الْبَازُ فِي وَكْرِ الْغُرَابِ
تَنَامُ وَمُقْلَةُ الْحَدَثَانِ يَقْظَى
وَمَا نَابَ النَّوَائِبَ عَنْكَ نَابِ وَكَيْفَ بَقَاءُ عُمْرِكَ وَهْوَ كَنْزٌ
وَقَدْ أَنْفَقْتَ مِنْهُ بِلَا حِسَابِ
وَقَوْلُهُ:
كَمْ ذَا يُرِينَا الدَّهْرُ مِنْ أَحْدَاثِهِ عِبَرًا وَفِينَا الصَّدُّ
وَالْإِعْرَاضُ
نَنْسَى الْمَمَاتَ وَلَيْسَ يَجْرِي ذِكْرُهُ فِينَا فَتُذْكِرُنَا بِهِ
الْأَمْرَاضُ
وَمِنْ شِعْرِهِ الْجَيِّدِ أَيْضًا قَوْلُهُ:
أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَدُومَ لَنَا الدَّهْرُ وَيَخْدِمُنَا فِي مُلْكِنَا
الْعِزُّ وَالنَّصْرُ
عَلِمْنَا بِأَنَّ الْمَالَ تَفْنَى أُلُوفُهُ وَيَبْقَى لَنَا مِنْ بَعْدِهِ
الْأَجْرُ وَالذِّكْرُ
خَلَطْنَا النَّدَى بِالْبَأْسِ حَتَّى كَأَنَّنَا سَحَابٌ لَدَيْهِ الْبَرْقُ
وَالرَّعْدُ وَالْقَطْرُ
وَلَهُ أَيْضًا، وَهُوَ مِمَّا نَظَمَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِ لَيَالٍ:
نَحْنُ
فِي غَفْلَةٍ وَنَوْمٍ وَلِلْمَوْ تِ عُيُونٌ يَقْظَانَةٌ لَا تَنَامُ
قَدْ رَحَلْنَا إِلَى الْحِمَامِ سِنِينًا لَيْتَ شِعْرِي مَتَى يَكُونُ
الْحِمَامُ
ثُمَّ قَتَلَهُ غِلْمَانُ الْعَاضِدِ فِي النَّهَارِ غِيلَةً وَلَهُ إِحْدَى
وَسِتُّونَ سَنَةً، وَخَلَعَ عَلَى وَلَدِهِ الْعَادِلِ بِالْوِزَارَةِ، وَرَثَاهُ
عُمَارَةُ الْيَمَنِيُّ بِقَصَائِدَ حِسَانٍ، وَيَوْمَ نُقِلَ إِلَى تُرْبَتِهِ
بِالْقَرَافَةِ سَارَ الْعَاضِدُ مَعَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى قَبْرِهِ فِي
التَّابُوتِ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: فَعَمِلَ الْفَقِيهُ عُمَارَةُ فِي ذَلِكَ
قَصِيدَةً طَوِيلَةً أَجَادَ فِيهَا، فَمِنْ ذَلِكَ فِي صِفَةِ التَّابُوتِ
قَوْلُهُ:
وَكَأَنَّهُ تَابُوتُ مُوسى أُودِعَتْ فِي جَانِبَيْهِ سَكِينَةٌ وَوَقَارُ
وَفِيهَا أَوْقَعَتْ بَنُو خَفَاجَةَ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ وَقْعَةً عَظِيمَةً،
فَقَتَلُوا خَلْقًا، مِنْهُمُ الْأَمِيرُ قَيْصَرُ وَجَرَحُوا أَمِيرَ الْحَاجِّ
أَرْغَشَ جِرَاحَاتٍ، فَنَهَضَ إِلَيْهِمْ وَزِيرُ الْخِلَافَةِ عَوْنُ الدِّينِ
بْنُ هُبَيْرَةَ فِي جَيْشٍ، فَتَبِعَهُمْ حَتَّى أَوْغَلَ فِي الْبَرِّيَّةِ،
فَبَعَثُوا يَطْلُبُونَ الْعَفْوَ.
وَفِيهَا وَلِيَ مَكَّةَ الشَّرِيفُ عِيسَى بْنُ قَاسِمِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ،
وَقِيلَ: قَاسِمُ بْنُ فُلَيْتَةَ بْنِ قَاسِمِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَنْجِدُ بِإِزَالَةِ الدَّكَاكِينِ الَّتِي
تُضَيِّقُ الطُّرُقَاتِ، وَأَنْ لَا يَجْلِسَ أَحَدٌ مِنَ الْبَاعَةِ فِي عَرْصَةِ
الطُّرُقَاتِ ; لِئَلَّا يَضُرَّ ذَلِكَ بِالْمَارَّةِ. وَفِيهَا وَقَعَ رُخْصٌ
عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ جِدًّا.
وَفِيهَا فُتِحَتِ الْمَدْرَسَةُ الَّتِي بَنَاهَا ابْنُ الشَّمْحَلِ فِي
الْمَأْمُونِيَّةِ، وَدَرَّسَ فِيهَا أَبُو
حَكِيمٍ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ النَّهْرَوَانِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وَقَدْ تُوُفِّيَ
مِنْ آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ فِيهَا أَبُو الْفَرَجِ بْنُ
الْجَوْزِيِّ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُ مُعِيدًا، وَنَزَلَ لَهُ عَنْ تَدْرِيسٍ
آخَرَ بِبَابِ الْأَزَجِّ عِنْدَ مَوْتِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
حَمْزَةُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ طَلْحَةَ
أَبُو الْفُتُوحِ الْحَاجِبُ، كَانَ خِصِّيصًا عِنْدَ الْمُسْتَرْشِدِ
وَالْمُقْتَفِي أَيْضًا، وَقَدْ بَنَى مَدْرَسَةً إِلَى جَانِبِ دَارِهِ، وَحَجَّ
فَرَجَعَ مُتَزَهِّدًا، فَلَزِمَ بَيْتَهُ مُعَظَّمًا نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ
سَنَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَدِ امْتَدَحَهُ بَعْضُهُمْ
فَقَالَ:
يَا عَضُدَ الْإِسْلَامِ يَا مَنْ سَمَتْ إِلَى الْعُلَا هِمَّتُهُ الْفَاخِرهْ
كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا فَلَمْ تَرْضَهَا
مُلْكًا فَأَخْلَدْتَ إِلَى الْآَخِرَهْ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَتِ الْكُرْجُ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ
الرِّجَالِ وَأَسَرُوا مِنَ الذَّرَارِيِّ أُمَمًا ; فَاجْتَمَعَ لِحَرْبِهِمْ
مُلُوكُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ ; إِيلْدِكْزُ صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ وَابْنُ
سَكْمَانَ صَاحِبُ خِلَاطَ وَابْنُ آقْ سُنْقُرَ صَاحِبُ مَرَاغَةَ وَسَارُوا
إِلَى بِلَادِهِمْ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ فَنَهَبُوهَا، وَأَسَرُوا
ذَرَارِيَهِمْ، وَالْتَقَوْا مَعَهُمْ فَكَسَرُوهُمْ كَسْرَةً ذَرِيعَةً فَظِيعَةً
مُنْكَرَةً، مَكَثُوا يَقْتُلُونَ فِيهِمْ وَيَأْسِرُونَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَفِي رَجَبٍ أُعِيدَ يُوسُفُ الدِّمَشْقِيُّ إِلَى تَدْرِيسِ النِّظَامِيَّةِ
بَعْدَ عَزْلِ ابْنِ نِظَامِ الْمُلْكِ بِسَبَبِ أَنَّ امْرَأَةً ادَّعَتْ أَنَّهُ
تَزَوَّجَهَا فَأَنْكَرَ، ثُمَّ اعْتَرَفَ، فَعُزِلَ عَنِ التَّدْرِيسِ.
وَفِيهَا كَمَلَتِ الْمَدْرَسَةُ الَّتِي بَنَاهَا الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ
بِبَابِ الْبَصْرَةِ وَرَتَّبَ فِيهَا مُدَرِّسًا وَفَقِيهًا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ
أَمِيرُ الْكُوفَةِ أَرْغَشُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
شُجَاعٌ
شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ بِمَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ جَيِّدَ الْكَلَامِ
فِي النَّظَرِ، أَخَذَ عَنْهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَدُفِنَ عِنْدَ الْمَشْهَدِ.
صَدَقَةُ
بْنُ وَزِيرٍ الْوَاسِطِيُّ
دَخَلَ بَغْدَادَ وَوَعَظَ بِهَا وَأَظْهَرَ تَقَشُّفًا، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى
التَّشَيُّعِ وَعِلْمِ الْكَلَامِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ رَاجَ عَلَى الْعَوَامِّ
وَبَعْضِ الْأُمَرَاءِ، وَحَصَلَ لَهُ فُتُوحٌ كَثِيرَةٌ، ابْتَنَى مِنْهُ
رِبَاطًا وَدُفِنَ فِيهِ، سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
زُمُرُّدُ خَاتُونَ
بِنْتُ جَاوْلِي أُخْتُ الْمَلِكِ دُقَاقِ بْنِ تُتُشَ لِأُمِّهِ، وَهِيَ
بَانِيَةُ الْخَاتُونِيَّةِ ظَاهِرَ دِمَشْقَ عِنْدَ قَرْيَةِ صَنْعَاءَ بِمَكَانٍ
يُقَالُ لَهُ: تَلُّ الثَّعَالِبِ. غَرْبِيَّ دِمَشْقَ عَلَى جَانِبِ الشَّرْقِ
الْقِبْلِيِّ بِصَنْعَاءِ الشَّامِ وَهِيَ قَرْيَةٌ مَعْرُوفَةٌ قَدِيمًا،
وَأَوْقَفَتْهَا عَلَى الشَّيْخِ بُرْهَانِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْبَلْخِيِّ الْحَنَفِيِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، وَكَانَتْ زَوْجَةَ الْمَلِكِ
بُورِي بْنِ طُغْتِكِينَ، فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَيْهِ شَمْسَ الْمُلُوكِ
إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورَ، وَقَدْ مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ وَسَارَ سِيرَتَهُ،
وَمَالَأَ الْفِرِنْجَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهَمَّ بِتَسْلِيمِ الْبَلَدِ
وَالْأَمْوَالِ إِلَيْهِمْ، فَقَتَلُوهُ وَتَمَلَّكَ أَخُوهُ وَذَلِكَ بَعْدَ
مُرَاجَعَتِهَا وَمُسَاعَدَتِهَا، وَقَدْ كَانَتْ قَرَأَتِ الْقُرْآنَ، وَسَمِعَتِ
الْحَدِيثَ، وَكَانَتْ حَنَفِيَّةَ الْمَذْهَبِ تُحِبُّ الْعُلَمَاءَ
وَالصَّالِحِينَ، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْأَتَابِكِيُّ زَنْكِيٌّ صَاحِبُ حَلَبَ ;
طَمَعًا فِي أَنْ يَأْخُذَ بِسَبَبِهَا دِمَشْقَ فَلَمْ يَظْفَرْ بِذَلِكَ، بَلْ
ذَهَبَتْ إِلَيْهِ إِلَى حَلَبَ ثُمَّ عَادَتْ إِلَى دِمَشْقَ بَعْدَ وَفَاتِهِ،
وَقَدْ دَخَلَتْ بَغْدَادَ وَسَارَتْ مِنْ هُنَاكَ إِلَى
الْحِجَازِ، وَجَاوَرَتْ بِمَكَّةَ سَنَةً، ثُمَّ جَاءَتْ فَأَقَامَتْ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ حَتَّى مَاتَتْ بِهَا، وَدُفِنَتْ بِالْبَقِيعِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَتْ كَثِيرَةَ الْبِرِّ وَالصَّدَقَاتِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. قَالَ السِّبْطُ: وَلَمْ تَمُتْ حَتَّى قَلَّ مَا بِيَدِهَا، فَكَانَتْ تُغَرْبِلُ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ وَتَتَقَوَّتُ بِأُجْرَتِهِ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ وَحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا مَاتَ صَاحِبُ الْمَغْرِبِ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَلِيٍّ تِلْمِيذُ
ابْنِ التُّومَرْتِ وَخَلِيفَتُهُ مِنْ بَعْدِهِ فِي الْمُلْكِ بِمَدِينَةِ سَلَا،
حَضَرَهُ ابْنُهُ يُوسُفُ، وَحَمَلَهُ إِلَى مُرَّاكِشَ فِي صِفَةِ أَنَّهُ
مَرِيضٌ، فَلَمَّا وَصَلَهَا أَظْهَرَ مَوْتَهُ، فَعَزَّاهُ النَّاسُ وَبَايَعُوهُ
عَلَى الْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَقَّبُوهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ
كَانَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ هَذَا حَازِمًا، شُجَاعًا، جَوَادًا، مُعَظِّمًا
لِلشَّرِيعَةِ، وَكَانَ مَنْ لَا يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي زَمَانِهِ
يُقْتَلُ، وَلَكِنْ كَانَ سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ، حَتَّى عَلَى الذَّنْبِ
الصَّغِيرِ، فَاللَّهُ يَحْكُمُ فِيهِ بِمَا يَشَاءُ.
وَفِيهَا قُتِلَ الْمَلِكُ سَيْفُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلَاءِ الدِّينِ
الْغُورِيُّ، قَتَلَهُ الْغُزُّ، وَكَانَ عَادِلًا.
وَفِيهَا كَبَسَتِ الْفِرِنْجُ نُورَ الدِّينِ وَجَيْشَهُ، فَانْهَزَمَ
الْمُسْلِمُونَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَنَهَضَ الْمَلِكُ نُورُ
الدِّينِ فَرَكِبَ فَرَسَهُ وَالشِّبْحَةُ فِي رِجْلِهِ، فَنَزَلَ رَجُلٌ
كُرْدِيٌّ فَقَطَعَهَا حَتَّى سَارَ السُّلْطَانُ نُورُ الدِّينِ فَنَجَا،
وَأَدْرَكَتِ الْفِرِنْجُ الْكُرْدِيَّ فَقَتَلُوهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَحْسَنَ
نُورُ الدِّينِ إِلَى ذُرِّيَّتِهِ، وَكَانَ لَا يَنْسَى ذَلِكَ لَهُ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِجْلَاءِ بَنِي أَسَدٍ عَنِ الْحِلَّةِ وَقَتَلَ
مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ لِإِفْسَادِهِمْ وَمُكَاتَبَتِهِمُ
السُّلْطَانَ مُحَمَّدَ شَاهْ، وَتَحْرِيضِهِمْ لَهُ عَلَى حِصَارِ بَغْدَادَ
فَقَتَلَ
مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَخَرَجَ الْبَاقُونَ مِنْهَا، وَتَسَلَّمَ
نُوَّابُ الْخَلِيفَةِ الْحِلَّةَ الْمَزِيدِيَّةَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ الْأَمِيرُ أَرْغَشُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ الْكَبِيرُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَلِيٍّ
الْقَيْسِيُّ الْكُوفِيُّ
تِلْمِيذُ ابْنِ التُّومَرْتِ، كَانَ أَبُوهُ يَعْمَلُ فِي الطِّينِ فَاعِلًا،
فَحِينَ وَقَعَ نَظَرُ ابْنِ التُّومَرْتِ عَلَيْهِ أَحَبَّهُ، وَتَفَرَّسَ فِيهِ
أَنَّهُ سَعِيدٌ، فَاسْتَصْحَبَهُ فَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَالْتَفَّتْ عَلَيْهِ
الْعَسَاكِرُ الَّتِي جَمَعَهَا ابْنُ التُّومَرْتِ مِنَ الْمَصَامِدَةِ
وَغَيْرِهِمْ، وَحَارَبُوا صَاحِبَ مُرَّاكِشَ عَلِيَّ بْنَ يُوسُفَ بْنِ
تَاشْفِينَ، مَلِكَ الْمُلَثَّمِينَ، فَاسْتَحْوَذَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ عَلَى
وَهْرَانَ وَتِلِمْسَانَ وَفَاسَ وَسَلَا وَسَبْتَةَ، ثُمَّ حَاصَرَ مُرَّاكِشَ
أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، فَافْتَتَحَهَا فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، وَتَمَهَّدَتْ لَهُ الْمَمَالِكُ، وَصَفَا لَهُ الْوَقْتُ.
وَكَانَ عَاقِلًا، حَازِمًا، وَقُورًا، شَكِلًا، حَسَنًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَلَهُ فِي الْمُلْكِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً،
وَكَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
طَلْحَةُ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ طِرَادٍ، أَبُو أَحْمَدَ الزَّيْنِيُّ، نَقِيبُ النُّقَبَاءِ، مَاتَ
فَجْأَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَوَلِيَ النِّقَابَةَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ أَبُو
الْحَسَنِ عَلِيٌّ، وَكَانَ أَمْرَدَ فَعُزِلَ وَصُودِرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ
ابْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ
الْأَنْبَارِيِّ، كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ بِبَغْدَادَ، كَانَ شَيْخًا، حَسَنًا،
ظَرِيفًا، وَانْفَرَدَ بِصَنَاعَةِ
الْإِنْشَاءِ،
وَبَعَثَ رَسُولًا إِلَى الْمَلِكِ سَنْجَرَ وَغَيْرِهِ، وَخَدَمَ الْمُلُوكَ
وَالْخُلَفَاءَ، وَقَارَبَ التِّسْعِينَ. وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
يَا مَنْ هَجَرْتَ فَمَا تُبَالِي هَلْ تَرْجِعُ دَوْلَةُ الْوِصَالِ مَا أَطْمَعُ
يَا عَذَابَ قَلْبِي
أَنْ يَنْعَمَ فِي هَوَاكَ بَالِي الطَّرْفُ كَمَا عَهِدْتِ بَاكٍ
وَالْجِسْمُ كَمَا تَرَيْنَ بَالٍ مَا ضَرَّكِ أَنْ تُعَلِّلِينِي
فِي الْوَصْلِ بِمَوْعِدٍ مُحَالِ أَهْوَاكِ وَأَنْتِ حَظُّ غَيْرِي
يَا قَاتِلَتِي فَمَا احْتِيَالِي أَيَّامُ عَنَائِي فِيكِ سُودٌ
مَا أَشْبَهَهُنَّ بِاللَّيَالِي الْعُذَّلُ فِيكِ يَعْذِلُونِي
عَنْ حُبِّكِ مَا لَهُمْ وَمَا لِي يَا مُلْزِمِي السُّلُوَّ عَنْهَا
الصَّبُّ أَنَا وَأَنْتَ سَالِي وَالْقَوْلُ بِتَرْكِهَا صَوَابٌ
مَا أَحْسَنَهُ لَوِ اسْتَوَى لِي طَلَّقْتُ تَجَلُّدِي ثَلَاثًا
وَالصَّبْوَةُ بَعْدُ فِي خَيَالِي
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ شَاوَرُ بْنُ مُجِيرِ الدِّينِ، أَبُو شُجَاعٍ السَّعْدِيُّ
الْمُلَقَّبُ بِأَمِيرِ الْجُيُوشِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ وَزِيرُ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ آلِ رُزِّيكَ، لَمَّا قُتِلَ النَّاصِرُ رُزِّيكُ بْنُ
طَلَائِعَ وَقَامَ فِي الْوِزَارَةِ بَعْدَهُ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ فِيهَا،
فَثَارَ عَلَيْهِ أَمِيرٌ يُقَالُ لَهُ: الضِّرْغَامُ بْنُ سَوَّارٍ، وَجَمَعَ
لَهُ جُمُوعًا كَثِيرَةً، وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ، وَقَتَلَ وَلَدَيْهِ طَيًّا
وَسُلَيْمَانَ، وَأَسَرَ الثَّالِثَ وَهُوَ الْكَامِلُ بْنُ شَاوَرَ، فَسَجَنَهُ
وَلَمْ يَقْتُلْهُ ; لِيَدٍ كَانَتْ لِأَبِيهِ عِنْدَهُ، وَاسْتُوزِرَ ضِرْغَامٌ
بَعْدَهُ وَلُقَّبَ بِالْمَنْصُورِ، فَخَرَجَ شَاوَرُ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ هَارِبًا مِنَ الْعَاضِدِ وَضِرْغَامٍ، مُلْتَجِئًا إِلَى نُورِ
الدِّينِ مَحْمُودٍ، فَأَمَرَ لَهُ نُورُ الدِّينِ بِجَوْسَقِ الْمَيْدَانِ
الْأَخْضَرِ، وَأَحْسَنَ ضِيَافَتَهُ وَكَرَامَتَهُ، وَطَلَبَ مِنْهُ شَاوَرُ
عَسْكَرًا يَكُونُونَ مَعَهُ ; لِيَفْتَحَ بِهِمُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ،
وَيَكُونَ لِنُورِ الدِّينِ ثُلُثُ مُغَلِّهَا، فَأَرْسَلَ مَعَهُ جَيْشًا
عَلَيْهِ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ بْنُ شَاذِيٍّ، فَلَمَّا دَخَلُوا بِلَادَ
مِصْرَ خَرَجَ إِلَيْهِمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ بِهَا، فَاقْتَتَلُوا أَشَدَّ
الْقِتَالِ، فَهَزَمَهُمْ أَسَدُ الدِّينِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَقَتَلَ
ضِرْغَامَ بْنَ سَوَّارٍ، وَطِيفَ بِرَأْسِهِ فِي الْبِلَادِ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ
شَاوَرَ فِي الْوِزَارَةِ، وَتَمَهَّدَ حَالُهُ، ثُمَّ اصْطَلَحَ الْعَاضِدُ
وَشَاوَرُ عَلَى أَسَدِ الدِّينِ، وَرَجَعَ
شَاوَرُ
عَمًّا كَانَ عَاهَدَ عَلَيْهِ نُورَ الدِّينِ، وَأَمَرَ أَسَدَ الدِّينِ
بِالرُّجُوعِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، وَعَاثَ فِي الْبِلَادِ، وَأَخَذَ
أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَافْتَتَحَ بُلْدَانًا كَثِيرَةً مِنَ الشَّرْقِيَّةِ
وَغَيْرِهَا، فَاسْتَغَاثَ شَاوَرُ عَلَيْهِمْ بِمَلِكِ الْفِرِنْجِ الَّذِي
بِعَسْقَلَانَ، وَاسْمُهُ مُرِّيٌّ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ
فَتَحَوَّلَ أَسَدُ الدِّينِ إِلَى بِلْبِيسَ وَقَدْ حَصَّنَهَا وَشَحَنَهَا
بِالْعُدَدِ وَالْآلَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَحَصَرُوهُ فِيهَا ثَمَانِيَةَ
أَشْهُرٍ، وَامْتَنَعَ أَسَدُ الدِّينِ وَأَصْحَابُهُ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ،
فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ الْمَلِكَ نُورَ
الدِّينِ قَدِ اغْتَنَمَ غَيْبَةَ الْفِرِنْجِ فَسَارَ بِالْعَسَاكِرِ إِلَى
بِلَادِهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَفَتَحَ حَارِمًا وَقَتَلَ مِنَ
الْفِرِنْجِ خَلْقًا، وَسَارَ إِلَى بَانِيَاسَ فَضَعُفَ أَمْرُ الْفِرِنْجِ
بِدِيَارِ مِصْرَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَطَلَبُوا مِنْ أَسَدِ الدِّينِ الْمُصَالَحَةَ
فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَبَضَ مِنْ شَاوَرَ سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ،
وَخَرَجَ أَسَدُ الدِّينِ وَجَيْشُهُ فَسَارُوا إِلَى الشَّامِ فِي ذِي الْحِجَّةِ
مِنْهَا.
وَقْعَةُ حَارِمٍ
كَانَ فَتْحُ حَارِمٍ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ نُورَ
الدِّينِ اسْتَغَاثَ بِعَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ - فَجَاءُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ
عَمِيقٍ - لِيَأْخُذَ ثَأْرَهُ مِنَ الْفِرِنْجِ، فَالْتَقَى مَعَهُمْ بِتَلِّ
حَارِمٍ فَكَسَرَهُمْ كَسْرَةً عَظِيمَةً، وَأَسَرَ الْبِرِنْسَ صَاحِبَ
أَنْطَاكِيَةَ وَالْقُومَصَ صَاحِبَ طَرَابُلُسَ وَالدُّوكَ مُقَدَّمَ الرُّومِ،
وَابْنَ جُوسْلِينَ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَقِيلَ: عِشْرِينَ
أَلْفًا.
وَفِي
ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا فَتَحَ نُورُ الدِّينِ مَدِينَةَ بَانِيَاسَ وَقِيلَ:
إِنَّمَا كَانَ فَتْحُهُ لَهَا فِي سَنَةِ سِتِّينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ
مَعَهُ أَخُوهُ نَصْرُ الدِّينِ أَمِيرُ أَمِيرَانَ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فِي
إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَأَذْهَبَهَا، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ: لَوْ
نَظَرْتَ إِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ مِنَ الْأَجْرِ فِي الْآخِرَةِ
لَأَحْبَبْتَ أَنْ تَذْهَبَ الْأُخْرَى. وَقَالَ لِابْنِ مُعِينِ الدِّينِ أَنُرَ:
إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ بَرَدَتْ جَلْدَةُ وَالِدِكَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ ;
لِأَنَّهُ كَانَ سَلَّمَهَا إِلَى الْفِرِنْجِ، صُلْحًا عَنْ دِمَشْقَ.
وَفِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ احْتَرَقَ قَصْرُ جَيْرُونَ
حَرِيقًا عَظِيمًا، فَحَضَرَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْأُمَرَاءُ ; مِنْهُمْ
أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَسَعَى سَعْيًا عَظِيمًا فِي إِطْفَاءِ هَذِهِ النَّارِ وَصَوْنِ حَوْزَةِ
الْجَامِعِ مِنْهَا، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَثَابَهُ دَارَ الْقَرَارِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
جَمَالُ الدِّينِ
وَزِيرُ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، أَبُو
جَعْفَرٍ الْأَصْبَهَانِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالْجَوَادِ وَزِيرُ قُطْبِ الدِّينِ
مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ كَانَ كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ وَالصَّدَقَاتِ، وَقَدْ
أَثَّرَ آثَارًا حَسَنَةً بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ; مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ سَاقَ
عَيْنًا إِلَى عَرَفَاتٍ، وَعَمِلَ هُنَاكَ مَصَانِعَ، وَبَنَى مَسْجِدَ عَرَفَاتٍ
وَدَرَّجَهُ وَأَكْمَلَ أَبْوَابَ
الْحَرَمِ،
وَبَنَى مَسْجِدَ الْخَيْفِ، وَبَنَى الْحِجْرَ، وَزَخْرَفَ الْكَعْبَةَ
وَذَهَّبَهَا، وَعَمِلَهَا بِالرُّخَامِ، وَبَنَى عَلَى الْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ سُورًا، وَبَنَى جِسْرًا عَلَى دِجْلَةَ عِنْدَ جَزِيرَةِ ابْنِ
عُمَرَ بِالْحَجَرِ الْمَنْحُوتِ، وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، وَبَنَى الرُّبُطَ
الْكَثِيرَةَ، وَكَانَ يَتَصَدَّقُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى بَابِهِ بِمِائَةِ
دِينَارٍ، وَيَفْتَدِي مِنَ الْأُسَارَى فِي كُلِّ سَنَةٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ
دِينَارٍ، وَلَا تَزَالُ صَدَقَاتُهُ وَافِدَةً إِلَى الْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ
; حَيْثُ كَانُوا مِنْ بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَقَدْ حُبِسَ فِي
سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، فَذَكَرَ ابْنُ السَّاعِي فِي " تَارِيخِهِ
" عَنْ شَخْصٍ كَانَ مَعَهُ فِي السِّجْنِ أَنَّهُ نَزَلَ إِلَيْهِ طَائِرٌ
أَبْيَضُ قَبْلَ مَوْتِهِ فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ وَهُوَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ حَتَّى تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ طَارَ
عَنْهُ، وَدُفِنَ فِي رِبَاطٍ بَنَاهُ لِنَفْسِهِ بِالْمَوْصِلِ، وَقَدْ كَانَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ بْنِ شَاذِيٍّ مُؤَاخَاةٌ وَعَهْدٌ،
أَيُّهُمَا مَاتَ قَبْلَ الْآخَرِ أَنْ يَحْمِلَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ، فَاسْتَأْجَرَ لَهُ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ رِجَالًا
فَنَقَلُوهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَا مَرُّوا بِهِ عَلَى بَلْدَةٍ إِلَّا
صَلَّوْا عَلَيْهِ، وَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ، وَأَثْنَوْا خَيْرًا، فَصَلَّوا
عَلَيْهِ بِالْمَوْصِلِ وَتَكْرِيتَ وَبَغْدَادَ وَالْحِلَّةِ وَالْكُوفَةِ
وَفَيْدَ وَمَكَّةَ، وَطِيفَ بِهِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فَدُفِنَ بِرِبَاطٍ بَنَاهُ شَرْقِيَّ الْمَسْجِدِ
النَّبَوِيِّ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَابْنُ السَّاعِي: لَيْسَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ حَرَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبَرِهِ سِوَى
خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا. قَالَ ابْنُ السَّاعِي: وَلَمَّا صَلَّوْا عَلَيْهِ
بِالْحِلَّةِ صَعِدَ شَابٌّ نَشْزًا فَأَنْشَدَ يَقُولُ:
سَرَى نَعْشُهُ فَوْقَ الرِّقَابِ وَطَالَمَا سَرَى جُودُهُ فَوْقَ الرِّكَابِ
وَنَائِلُهْ يَمُرُّ عَلَى الْوَادِي فَتُثْنِي رِمَالُهُ
عَلَيْهِ وَبِالنَّادِي فَتُثْنِي أَرَامِلُهْ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا بَعْدَ الْخَمْسِينَ:
ابْنُ
الْخَازِنِ الْكَاتِبُ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ، أَبُو الْفَضْلِ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَازِنِ، الْكَاتِبُ الْبَغْدَادِيُّ الشَّاعِرُ، كَانَ
يَكْتُبُ جَيِّدًا فَائِقًا، اعْتَنَى بِكِتَابَةِ الْخَتَمَاتِ، وَأَكْثَرَ
ابْنُهُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ اللَّهِ مِنْ كِتَابَةِ الْمَقَامَاتِ، وَجَمَعَ
لِأَبِيهِ دِيوَانَ شِعْرٍ أَوْرَدَ مِنْهُ ابْنُ خَلِّكَانَ قِطْعَةً كَبِيرَةً.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا وَقَعَتْ بِأَصْبَهَانَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ بِسَبَبِ الْمَذَاهِبِ، دَامَتْ أَيَّامًا وَقُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ
كَثِيرٌ. وَفِيهَا كَانَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ فَاحْتَرَقَتْ مَحَالُّ
كَثِيرَةٌ جِدًّا وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَلَدَتِ امْرَأَةٌ بِبَغْدَادَ أَرْبَعَ بَنَاتٍ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ أَرْغَشُ الْكَبِيرُ، أَثَابَهُ
اللَّهُ
مِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عُمَرُ بْنُ بَهْلَيْقَا
الطَّحَّانُ الَّذِي جَدَّدَ جَامِعَ الْعُقَيْبَةِ بِبَغْدَادَ وَاسْتَأْذَنَ
الْخَلِيفَةَ فِي إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِيهِ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ
قَدِ اشْتَرَى مَا حَوْلَهُ مِنَ الْقُبُورِ فَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْهِ وَنَبَشَ
الْمَوْتَى مِنْهَا فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ نَبَشَهُ مَنْ قَبَرِهِ بَعْدَ
دَفْنَهِ جَزَاءً وِفَاقًا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَرَّانِيُّ
كَانَ
آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الشُّهُودِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيِّ
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ لَطِيفًا ظَرِيفًا جَمَعَ كِتَابًا سَمَّاهُ
" رَوْضَةَ الْأُدَبَاءِ " فِيهِ نُتَفٌ حَسَنَةٌ قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: زُرْتُهُ يَوْمًا فَأَطَلْتُ الْجُلُوسَ عِنْدَهُ فَقُلْتُ أَقْوَمُ
فَقَدْ ثَقَّلْتُ فَأَنْشَدَنِي
لَئِنْ سَمَّيْتَ إِبْرَامًا وَثُقْلًا زِيَارَاتٍ رَفَعْتَ بِهِنَّ قَدْرِي فَمَا
أَبْرَمْتَ إِلَّا حَبْلَ وُدِّي
وَلَا ثَقَّلْتَ إِلَّا ظَهْرَ شُكْرِي
مَرْجَانُ الْخَادِمُ
كَانَ يَقْرَأُ الْقِرَاءَاتِ وَتَفَقَّهَ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَكَانَ
يَتَعَصَّبُ عَلَى الْحَنَابِلَةِ وَيَكْرَهُهُمْ وَيُعَادِي الْوَزِيرَ ابْنَ
هُبَيْرَةَ وَابْنَ الْجَوْزِيِّ مُعَادَاةً شَدِيدَةً وَيَقُولُ لِابْنِ
الْجَوْزِيِّ: مَقْصُودِي قَلْعُ مَذْهَبِكُمْ. وَلَمَّا مَاتَ ابْنُ هُبَيْرَةَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَوِيَ عَلَى ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَخَافَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَرِحَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
فَرَحًا شَدِيدًا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا
ابْنُ التِّلْمِيذِ
الطَّبِيبُ الْحَاذِقُ الْمَاهِرُ اسْمُهُ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ صَاعِدٍ كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ
مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَلَهُ عِنْدَ النَّاسِ وَجَاهَةٌ كَبِيرَةٌ،
وَقَدْ تُوُفِّيَ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - عَلَى دِينِهِ وَدُفِنَ بِالْبَيْعَةِ
الْعَتِيقَةِ لَا رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ كَانَ مَاتَ نَصْرَانِيًّا ; فَإِنَّهُ
كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ثُمَّ مَاتَ عَلَى دِينِهِ
الْوَزِيرُ ابْنُ هُبَيْرَةَ
يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هُبَيْرَةَ أَبُو الْمُظَفَّرِ الْوَزِيرُ
لِلْخِلَافَةِ
الْمُعَظَّمَةِ
مُصَنِّفُ كِتَابِ " الْإِفْصَاحِ "، قَرَأَ الْقِرَاءَاتِ وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ
وَالْعَرُوضِ، وَتَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَصَنَّفَ كُتُبًا
جَيِّدَةً مُفِيدَةً ; مِنْ ذَلِكَ " الْإِفْصَاحُ "، فِي مُجَلَّدَاتٍ
يَشْرَحُ فِيهِ الْحَدِيثَ وَيَتَكَلَّمُ عَلَى مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ وَكَانَ
عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَقَدْ كَانَ فَقِيرًا لَا مَالَ
لَهُ، ثُمَّ تَعَرَّضَ لِلْخِدْمَةِ إِلَى أَنْ وَزَرَ لِلْمُقْتَفِي ثُمَّ
لِابْنِهِ الْمُسْتَنْجِدِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ وَأَحْسَنِهِمْ
سِيرَةً وَأَبْعَدِهِمْ عَنِ الظُّلْمِ، وَكَانَ لَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ وَكَانَ
الْمُقْتَفِي يَقُولُ: مَا وَزَرَ لِبَنِي الْعَبَّاسِ مِثْلُهُ، وَكَذَلِكَ
ابْنُهُ الْمُسْتَنْجِدُ وَكَانَ مُعْجَبًا بِهِ قَالَ مَرْجَانُ الْخَادِمُ
سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَنْجِدَ يُنْشِدُ لِابْنِ هُبَيْرَةَ
وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ شِعْرِهِ:
صَفَتْ نِعْمَتَانِ خَصَّتَاكَ وَعَمَّتَا فَذِكْرُهُمَا حَتَّى الْقِيَامَةِ
يُذْكَرُ
وُجُودُكَ وَالدُّنْيَا إِلَيْكَ فَقِيْرَةٌ وَجُودُكَ وُالْمَعْرُوفُ فِي
النَّاسِ يُنْكَرُ
فَلَوْ رَامَ يَا يَحْيَى مَكَانَكَ جَعْفَرٌ وَيَحْيَى لَكَفَّا عَنْهُ يَحْيَى
وَجَعْفَرُ
وَلَمْ أَرَ مَنْ يَنْوِي لَكَ السُّوءَ يَا أَبَا الْ مُظَفَّرِ إِلَّا كُنْتَ
أَنْتَ الْمُظَفَّرُ
وَقَدْ كَانَ يُبَالِغُ فِي إِقَامَةِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ وَحَسْمِ
مَادَّةِ الْمُلُوكِ السَّلْجُوقِيَّةِ عَنْهُمْ بِكُلِّ مُمْكِنٍ حَتَّى
اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ فِي الْعِرَاقِ كُلِّهِ، لَيْسَ لِلْمُلُوكِ مَعَهُمْ
حُكْمٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَكَانَ يَعْقِدُ فِي دَارِهِ لِلْعُلَمَاءِ مَجْلِسًا لِلْمُنَاظَرَةِ ;
يَبْحَثُونَ فِيهِ وَيَتَنَاظَرُونَ عِنْدَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ ;
وَيَسْتَفِيدُ
مِنْهُمْ وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْهُ ; فَاتَّفَقَ يَوْمًا أَنَّهُ كَلَّمَ رَجُلًا
مِنَ الْفُقَهَاءِ كَلِمَةً فِيهَا بَشَاعَةٌ قَالَ: لَهُ يَا حِمَارُ، ثُمَّ
نَدِمَ فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ تَقُولَ لِي كَمَا قُلْتُ لَكَ. فَتَمَنَّعَ ذَلِكَ
الْفَقِيهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَتَيْ دِينَارٍ. مَاتَ فَجْأَةً وَيُقَالُ:
إِنَّهُ سَمَّهُ طَبِيبٌ فَسُمَّ ذَلِكَ الطَّبِيبُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ،
وَكَانَ الطَّبِيبُ يَقُولُ: سَمَمْتُهُ فَسُمِمْتُ، مَاتَ يَوْمَ الْأَحَدِ
الثَّانِي عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى
وَسِتِّينَ سَنَةً وَغَسَّلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ
كَثِيرٌ جِدًّا، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَتَبَاكَى النَّاسُ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ
بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بِبَابِ الْبَصْرَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ
رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ
وَأَبُو الْقَاسِمِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِكْرِمَةَ
الْبَزْرِيُّ الْجَزَرِيُّ، شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ بِهَا وَكَانَ يُلَقَّبُ
زَيْنَ الدِّينِ جَمَالَ الْإِسْلَامِ، دَخَلَ بَغْدَادَ فَأَخَذَ بِهَا عَنْ
إِلِكْيَا الْهَرَّاسِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَالشَّاشِيِّ صَاحِبِ الْمُسْتَظْهِرِيِّ،
وَجَمَعَ كِتَابًا عَلَى الْمُهَذَّبِ وَذَكَرَ فِيهِ إِشْكَالَاتِ مَا سِوَاهُ،
وَأَسْمَاءَ رِجَالِهِ وَلُغَتَهُ، وَهُوَ فِي مُجَلَّدٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ
خَلِّكَانَ، وَرَحَلَتْ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَكَانَ
أَحْفَظَ النَّاسِ فِي وَقْتِهِ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا فَتَحَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودٌ حِصْنَ الْمُنَيْطِرَةِ
وَقَتَلَ عِنْدَهُ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْفِرِنْجِ، وَغَنِمَ أَمْوَالًا
جَزِيلَةً.
وَفِيهَا هَرَبَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْوَزِيرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ مِنَ السِّجْنِ
وَمَعَهُ مَمْلُوكٌ تُرْكِيٌّ، فَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَلَدِ: مَنْ رَدَّهُ
فَلَهُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَمَنْ وُجِدَ عِنْدَهُ هُدِمَتْ دَارُهُ وَصُلِبَ عَلَى
بَابِهَا وَذُبِحَتْ أَوْلَادُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَلَّهُمْ رَجُلٌ مِنَ
الْأَعْرَابِ عَلَيْهِ، فَأُخِذَ مِنْ بُسْتَانٍ فَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا
مُنْكَرًا وَأُعِيدَ إِلَى السِّجْنِ وَضُيِّقَ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا أَظْهَرَ الرَّوَافِضُ سَبَّ الصَّحَابَةِ وَتَظَاهَرُوا بِأَشْيَاءَ
مُنْكَرَةٍ وَلَمْ يَكُونُوا يَتَمَكَّنُونَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ
الْمُتَقَدِّمَةِ خَوْفًا مِنِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَوَقَعَ بَيْنَ الْعَوَامِّ
كَلَامٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَرْغَشُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ
ابْنِ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ رُسْتُمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبَهَانِيُّ،
كَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ الْبَكَّائِينَ، قَالَ: حَضَرْتُ يَوْمًا
مَجْلِسَ
ابْنِ مَاشَاذَهْ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ، فَرَأَيْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ
فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَهُوَ يَقُولُ لِي: وَقَفْتَ عَلَى مُبْتَدِعٍ وَسَمِعْتَ
كَلَامَهُ ؟ لَأَحْرِمَنَّكَ النَّظَرَ فِي الدُّنْيَا، فَأَصْبَحَ لَا يُبْصِرُ
وَعَيْنَاهُ مَفْتُوحَتَانِ كَأَنَّهُ بَصِيرٌ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحُسَيْنِ
بْنِ الْجَبَّابِ الْأَغْلَبِيُّ السَّعْدِيُّ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي
الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجَلِيسِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُجَالِسُ
صَاحِبَ مِصْرَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْعِمَادُ فِي " الْخَرِيدَةِ " وَقَالَ:
كَانَ لَهُ فَضْلٌ مَشْهُورٌ وَشِعْرٌ مَأْثُورٌ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ السُّيُوفَ لَدَيْهِمُ تَحِيضُ دِمَاءً وَالسُّيُوفُ ذُكُورُ
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنَّهَا فِي أَكُفِّهِمْ
تَأَجَّجُ نَارًا وَالْأَكُفُّ بُحُورُ
الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلِيُّ
عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ أَبِي صَالِحٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجِيلِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ
سَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ فَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ
عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْمُخَرِّمِيِّ الْحَنْبَلِيِّ، وَقَدْ كَانَ بَنَى مَدْرَسَةً
فَفَوَّضَهَا إِلَى الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ، فَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى
النَّاسِ بِهَا وَيَعِظُهُمْ، وَانْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ انْتِفَاعًا كَثِيرًا
وَكَانَ لَهُ سَمْتٌ حَسَنٌ وَصَمْتٌ، عَنْ غَيْرِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفِيهِ زُهْدٌ
كَثِيرٌ وَلَهُ أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ وَمُكَاشَفَاتٌ، وَلِأَتْبَاعِهِ وَأَصْحَابِهِ فِيهِ مَقَالَاتٌ وَيَذْكُرُونَ عَنْهُ أَقْوَالًا وَأَفْعَالًا وَمُكَاشَفَاتٍ أَكْثَرُهَا مُغَالَاةٌ، وَقَدْ كَانَ صَالِحًا وَرِعًا، وَقَدْ صَنَّفَ كِتَابَ الْغَنِيَّةِ وَفُتُوحِ الْغَيْبِ، وَفِيهِمَا أَشْيَاءُ حَسَنَةٌ، وَذَكَرَ فِيهِمَا أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً وَمَوْضُوعَةً، وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمَشَايِخِ الْكِبَارِ، قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ. كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ ثَامِنَ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا أَقْبَلَتِ الْفِرِنْجُ فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَسَاعَدَهُمُ الْمِصْرِيُّونَ، فَتَصَرَّفُوا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، فَبَلَغَ
ذَلِكَ أَسَدَ الدِّينِ شِيرَكُوهْ، بْنَ شَاذِيٍّ فَاسْتَأْذَنَ الْمَلِكَ نُورَ
الدِّينِ فِي الْعَوْدِ إِلَيْهَا - وَكَانَ كَثِيرَ الْحَنَقِ عَلَى الْوَزِيرِ
شَاوَرَ - فَأَذِنَ لَهُ، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَمَعَهُ ابْنُ
أَخِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي النُّفُوسِ
أَنَّهُ سَيَمْلِكُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَرْقَلَةُ
الْمُسَمَّى بِحَسَّانَ الشَّاعِرُ:
أَقُولُ وَالْأَتْرَاكُ قَدْ أَزْمَعَتْ مِصْرَ إِلَى حَرْبِ الْأَعَارِيبِ رَبِّ
كَمَا مَلَّكْتَهَا يَوسُفَ الصِّ
دِّيقَ مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبِ يَمْلِكُهَا فِي عَصْرِنَا يُوسُفُ الصَّ
ادِقُ مِنْ أَوْلَادِ أَيُّوبِ مَنْ لَمْ يَزَلْ ضَرَّابَ هَامِ الْعِدَا
حَقًّا وَضَرَّابَ الْعَرَاقِيبِ
وَلَمَّا بَلَغَ الْوَزِيرَ شَاوَرَ قَدُومُ أَسَدِ الدِّينِ وَالْجَيْشُ مَعَهُ
بَعَثَ إِلَى الْفِرِنْجِ فَجَاءُوا مِنْ كُلِّ فَجٍّ إِلَيْهِ وَبَلَغَ أَسَدَ
الدِّينِ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِمْ - وَإِنَّمَا مَعَهُ أَلْفَا فَارِسٍ -
فَاسْتَشَارَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ فَكُلُّهُمْ أَشَارَ عَلَيْهِ
بِالرُّجُوعِ إِلَى نُورِ الدِّينِ لِكَثْرَةِ الْفِرِنْجِ، إِلَّا أَمِيرًا
وَاحِدًا يُقَالُ لَهُ: شَرَفُ الدِّينِ بُزْغُشُ ; فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ
خَافَ
الْقَتْلَ وَالْأَسْرَ فَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عِنْدَ زَوْجَتِهِ، وَمَنْ
أَكَلَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُسَلِّمْ بِلَادَهُمْ إِلَى الْعَدُوِّ،
وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ابْنُ أَخِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ،
فَعَزَمَ اللَّهُ لَهُمْ فَسَارُوا نَحْوَ الْفِرِنْجِ، فَاقْتَتَلُوا هُمْ
وَإِيَّاهُمْ قِتَالًا عَظِيمًا، فَقَتَلُوا مِنَ الْفِرِنْجِ مَقْتَلَةً
عَظِيمَةً وَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
فَتْحُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ عَلَى يَدَيْ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ
ثُمَّ سَارَ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ بَعْدَ كَسْرِ الْفِرِنْجِ
وَالْمِصْرِيِّينَ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَمَلَكَهَا وَجَبَى أَمْوَالَهَا،
وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا ابْنَ أَخِيهِ صَلَاحَ الدِّينِ يُوسُفَ وَعَادَ إِلَى
الصَّعِيدِ فَمَلَكَهُ، وَجَمَعَ مِنْهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا، فَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ وَالْمِصْرِيِّينَ اجْتَمَعُوا
عَلَى حِصَارِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ لِيَنْتَزِعُوهَا مِنْ يَدِ
صَلَاحِ الدِّينِ، وَذَلِكَ فِي غَيْبَةِ عَمِّهِ فِي الصَّعِيدِ وَامْتَنَعَ
بِهَا صَلَاحُ الدِّينِ وَمَنْ مَعَهُ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَلَكِنْ ضَاقَتْ
عَلَيْهِمُ الْأَقْوَاتُ وَضَاقَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ جِدًّا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ
أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ - أَيَّدَهُ اللَّهُ - فَصَالَحَهُ شَاوَرُ الْوَزِيرُ
عَنِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَأَجَابَهُ، إِلَى ذَلِكَ
وَخَرَجَ صَلَاحُ الدِّينِ مِنْهَا وَسَلَّمَهَا إِلَى الْمِصْرِيِّينَ وَعَادَ
إِلَى الشَّامِ فِي مُنْتَصَفِ شَوَّالٍ، وَذِي الْقَعْدَةِ وَقَرَّرَ شَاوَرُ
للْفِرِنْجِ عَلَى مِصْرَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنْ
يَكُونَ لَهُمْ شِحْنَةٌ بِالْقَاهِرَةِ، وَعَادَ الْفِرِنْجُ إِلَى بِلَادِهِمْ
بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ قَدْ عَقَّبَهُمْ
فِي بِلَادِهِمْ، وَافْتَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً مِنْ بِلَادِهِمْ، وَقَتَلَ
خَلْقًا مِنْ رِجَالِهِمْ، وَأَسَرَ أُمَمًا مِنْ
نِسَائِهِمْ
وَأَطْفَالِهِمْ، وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَكَانَ مَعَهُ أَخُوهُ قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودٌ
فَأَطْلَقَ لَهُ الرَّقَّةَ، فَسَارَ فَتَسَلَّمَهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا كَانَ قُدُومُ الْعِمَادِ
الْكَاتِبِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى دِمَشْقَ وَهُوَ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، صَاحِبُ " الْفَتْحِ الْقُدْسِيِّ " وَ
" الْبَرْقِ الشَّامِيِّ " وَ " الْخَرِيدَةِ " وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، فَأَنْزَلَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ كَمَالُ الدَّيْنِ
الشَّهْرُزُورِيُّ بِالْمَدْرَسَةِ النُّورِيَّةِ الشَّافِعِيَّةِ دَاخِلَ بَابِ
الْفَرَجِ، فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ لِسُكْنَاهُ بِهَا، فَيُقَالُ لَهَا:
الْعِمَادِيَّةُ، ثُمَّ وَلِيَ تَدْرِيسَهَا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ بَعْدَ
الشَّيْخِ الْفَقِيهِ ابْنِ عَبْدٍ، وَأَوَّلُ مَنْ جَاءَ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ
نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ ; كَانَتْ لَهُ بِهِ مَعْرِفَةٌ مِنْ تَكْرِيتَ،
فَامْتَدَحَهُ الْعِمَادُ بِقَصِيدَةٍ ذَكَرَهَا الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو
شَامَةَ، وَكَانَ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ وَصَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بِمِصْرَ
فَبَشَّرَهُ فِيهَا بِوِلَايَةِ صَلَاحِ الدِّينِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ
حَيْثُ يَقُولُ:
وَيَسْتَقِرُّ بِمِصْرَ يُوسُفٌ وَبِهِ تَقَرُّ بَعْدَ التَّنَائِي عَيْنُ
يَعْقُوبِ وَيَلْتَقِي يُوسُفٌ فِيهَا بِإِخْوَتِهِ
وَاللَّهُ يَجْمَعُهُمْ مِنْ غَيرْ تَثْرِيبِ
ثُمَّ وَلِيَ الْعِمَادُ كِتَابَةَ الْإِنْشَاءِ لِلْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَرْغَشُ أَمِيرُ الْحَاجِّ سِنِينَ مُتَعَدِّدَةً،
كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَسَاكِرِ، خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ لِقِتَالِ شُمْلَةَ
التُّرْكُمَانِيِّ فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَمَاتَ
أَبُو
الْمَعَالِي الْكَاتِبُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمْدُونَ صَاحِبُ
التَّذْكِرَةِ الْحَمْدُونِيَّةِ وَقَدْ وَلِيَ دِيوَانَ الزِّمَامِ مُدَّةً
تُوُفِّيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ
الرَّشِيدُ الصَّدَفِيُّ
كَانَ يَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيِ الْعَبَّادِيِّ عَلَى الْكُرْسِيِّ، كَانَتْ لَهُ
شَيْبَةٌ وَسَمْتٌ وَوَقَارٌ وَكَانَ يُدْمِنُ حُضُورَ السَّمَاعَاتِ، فَاتَّفَقَ
أَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ يَرْقُصُ فِي بَعْضِ السَّمَاعَاتِ، سَامَحَهُ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا وَصَلَ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْبَلَدِيِّ مِنْ
وَاسِطٍ إِلَى بَغْدَادَ فَخَرَجَ الْجَيْشُ لِتَلَقِّيهِ وَالنَّقِيبَانِ
وَالْقَاضِي وَمَشَى النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى الدِّيوَانِ فَجَلَسَ فِي
دَسْتِ الْوِزَارةِ وَقُرِئَ عُهْدُهُ وَلُقِّبَ بِالْوَزِيرِ شَرَفِ الدِّينِ
جَلَالِ الْإِسْلَامِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ سَيِّدِ الْوُزَرَاءِ صَدْرِ الشَّرْقِ
وَالْغَرْبِ.
وَفِيهَا أَفْسَدَتْ خَفَاجَةُ فِي الْبِلَادِ وَنَهَبُوا الْقُرَى فَخَرَجَ
إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ بَغْدَادَ فَهَرَبُوا فِي الْبَرَارِي فَانْحَسَرَ
الْجَيْشُ عَنْهُمْ خَوْفًا مِنَ الْعَطَشِ فَكَرُّوا عَلَى الْجَيْشِ فَقَتَلُوا
مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرُوا آخَرِينَ وَكَانَ قَدْ أَسَرَ الْجَيْشُ مِنْهُمْ خَلْقًا
فَصُلِبُوا عَلَى الْأَسْوَارِ.
وَفِي شَوَّالٍ وَصَلَتِ امْرَأَةُ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ
زَنْكِيٍّ إِلَى بَغْدَادَ تُرِيدُ الْحَجَّ مِنْ هُنَاكَ وَهِيَ السِّتُّ
عِصْمَتُ الدِّينِ خَاتُونُ بِنْتُ مُعِينِ الدِّينِ أَنُرَ، فَتَلَقَّاهَا
الْجَيْشُ وَمَعَهُمْ صَنْدَلٌ الْخَادِمُ وَحُمِلَتْ لَهَا الْإِقَامَاتُ
وَأُكْرِمَتْ غَايَةَ الْإِكْرَامِ.
وَفِيهَا مَاتَ قَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ جَعْفَرُ بْنُ الثَّقَفِيِّ، فَشَغَرَ
الْبَلَدُ عَنْ حَاكِمٍ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا حَتَّى وَلِيَ رَوْحُ بْنُ
الْحَدِيثِيِّ قَاضِي الْقُضَاةِ فِي رَابِعِ رَجَبٍ
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ
أَبُو الْبَرَكَاتِ الثَّقَفِيُّ، قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ بَعْدَ أَبِيهِ،
وُلِدَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا
الْعَامِ وَسَبَبُ وَفَاتِهِ أَنَّهُ طُلِبَ مِنْهُ مَالٌ وَكَلَّمَهُ الْوَزِيرُ
ابْنُ الْبَلَدِيِّ كَلَامًا خَشِنًا فَخَافَ، فَرَمَى الدَّمَ وَمَاتَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ
أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ
عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ
رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ، فَسَمِعَ بِهَا وَذَيَّلَ عَلَى تَارِيخِهَا لِلْخَطِيبِ
الْبَغْدَادِيِّ، وَقَدْ نَاقَشَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ،
وَذَكَرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَصَّبُ عَلَى أَهْلِ مَذْهَبِهِ، وَيَطْعَنُ
فِي جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ يُتَرْجِمُ بِعِبَارَةٍ عَامِّيَّةٍ مِثْلَ
قَوْلِهِ عَنْ بَعْضِ الشِّيخَاتِ: إِنَّهَا كَانَتْ عَفِيفَةً. وَعَنِ الشَّاعِرِ
الْمَشْهُورِ بِحَيْصَ بَيْصَ إِنَّهُ كَانَتْ لَهُ أُخْتٌ يُقَالُ لَهَا: دَخَلَ
خَرَجَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ
عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَمُّوَيْهِ أَبُو النَّجِيبِ
السُّهْرَوَرْدِيُّ،
كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ، وَابْتَنَى
لِنَفْسِهِ مَدْرَسَةً وَرِبَاطًا وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مُتَصَوِّفًا يَعِظُ
النَّاسَ وَدُفِنَ بِمَدْرَسَتِهِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ
بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ أَبُو الْفَتْحِ الرَّازِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْعَلَاءِ
الْعَالِمِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، وَكَانَ مِنَ الْفُحُولِ فِي
الْمُنَاظَرَةِ وَلَهُ طَرِيقَةٌ فِي الْخِلَافِ وَالْجَدَلِ يُقَالُ لَهَا:
التَّعْلِيقَةُ الْعَالَمِيَّةُ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ وَرَدَ
بَغْدَادَ وَحَضَرَ مَجْلِسِي، وَقَالَ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ: كَانَ
يُدْمِنُ شُرْبَ الْخَمْرِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا أَطْيَبُ مِنْ
كِتَابٍ أُطَالِعُهُ وَبَاطِيَةٍ مِنَ الْخَمْرٍ أَشْرَبُ مِنْهَا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ثُمَّ بَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ أَقْلَعَ عَنْ شُرْبِ
الْخَمْرِ وَالْمُنَاظَرَةِ وَأَقْبَلَ عَلَى التَّنَسُّكِ وَالْخَيْرِ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ بُنْدَارٍ الدِّمَشْقِيُّ، مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ تَفَقَّهَ
عَلَى أَسْعَدَ الْمِيهَنِيِّ وَبَرَعَ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَكَانَ يَتَعَصَّبُ
لِلْأَشْعَرِيَّةِ، وَقَدْ بَعَثَ رَسُولًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى شُمْلَةَ
التُّرْكُمَانِيِّ، فَمَاتَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.