ج30. البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر
بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ فَتْحُ مِصْرَ عَلَى يَدَيِ الْأَمِيرِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ
وَفِيهَا طَغَتِ الْفِرِنْجُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَذَلِكَ لَمَّا جُعِلَ
لَهُمْ شِحْنَةٌ بِهَا، وَتَحَكَّمُوا فِي أَبْوَابِهَا وَسَكَنَهَا أَكْثَرُ
شُجْعَانِهَا، وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ أَنْ يَسْتَحْوِذُوا عَلَيْهَا
وَيُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَكِبَ
أَمْدَادُ الْفِرِنْجِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَسَارُوا صُحْبَةَ مَرِّيٍّ مَلِكِ
عَسْقَلَانَ فِي جَحَافِلَ هَائِلَةٍ، فَأَوَّلُ مَا أَخَذُوا مَدِينَةُ
بِلْبِيسَ، فَقَتَلُوا مِنْهَا خَلْقًا وَأَسَرُوا آخَرِينَ، وَنَزَلُوا بِهَا
وَتَرَكُوا فِيهَا أَثْقَالَهُمْ، وَجَعَلُوهَا مَوْئِلًا وَمَعْقِلًا لَهُمْ،
ثُمَّ جَاءُوا فَنَزَلُوا عَلَى الْقَاهِرَةِ مِنْ نَاحِيَةِ بَابِ
الْبَرْقِيَّةِ، فَأَمَرَ الْوَزِيرُ شَاوَرُ النَّاسَ أَنْ يَحْرِقُوا مِصْرَ
وَأَنْ يَنْتَقِلَ النَّاسُ مِنْهَا إِلَى الْقَاهِرَةِ، فَنُهِبَ الْبَلَدُ
وَذَهَبَ لِلنَّاسِ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَبَقِيَتِ النَّارُ تَعْمَلُ فِي
مِصْرَ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَ صَاحِبُهَا
الْعَاضِدُ يَسْتَغِيثُ بِنُورِ الدِّينِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِشُعُورِ نِسَائِهِ
يَقُولُ: أَدْرِكْنِي وَاسْتَنْقِذْ نِسَائِيَ مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ.
وَالْتَزَمَ لَهُ بِثُلُثِ خَرَاجِ مِصْرَ، عَلَى أَنْ يَكُونَ أَسَدُ الدِّينِ
مُقِيمًا عِنْدَهُمْ، وَلَهُمْ إِقْطَاعَاتٌ زَائِدَةٌ عَلَى الثُّلُثِ، فَشَرَعَ
نُورُ الدِّينِ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَلَمَّا اسْتَشْعَرَ الْوَزِيرُ شَاوَرُ بِوُصُولِ الْمُسْلِمِينَ، أَرْسَلَ
إِلَى مَلِكِ الْفِرِنْجِ يَقُولُ لَهُ: قَدْ عَرَفْتَ مَحَبَّتِي وَمَوَدَّتِي
وَلَكِنَّ
الْعَاضِدَ وَالْمُسْلِمِينَ لَا يُوَافِقُونِي عَلَى تَسْلِيمِ الْبَلَدِ. وَصَالَحَهُمْ لِيَرْجِعُوا عَنِ الْبَلَدِ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعَجَّلَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَخَذُوهَا وَانْشَمَرُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ ; خَوْفًا مِنْ وُصُولِ نُورِ الدِّينِ وَطَمَعًا فِي الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا مَرَّةً ثَانِيَةً وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 54 ]. ثُمَّ شَرَعَ الْوَزِيرُ شَاوَرُ فِي مُطَالَبَةِ النَّاسِ بِتَحْصِيلِ الذَّهَبِ الَّذِي صَالَحَ الْفِرِنْجَ عَلَيْهِ، وَضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ مَعَ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْحَرِيقِ وَالْخَوْفِ، فَجَبَرَ اللَّهُ مُصَابَهُمْ وَأَحْسَنَ مَآبَهُمْ، وَاسْتَدْعَى الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ الْأَمِيرَ أَسَدَ الدِّينِ شِيرَكُوهْ مِنْ حِمْصَ إِلَى حَلَبَ فَسَاقَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ حِمْصَ فَدَخَلَ حَلَبَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَسُرَّ بِذَلِكَ نُورُ الدِّينِ وَتَفَاءَلَ بِهِ فَقَدَّمَهُ عَلَى الْعَسَاكِرِ الَّتِي قَدْ جَهَّزَهَا لِلدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ جَمَاعَةً، كُلٌّ مِنْهُمْ يَبْتَغِي بِمَسِيرِهِ ذَلِكَ رِضَا الرَّحْمَنِ وَكَانَ فِي جُمْلَتِهُمُ ابْنُ أَخِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِيٍّ وَلَمْ يَكُنْ مُنْشَرِحًا لِخُرُوجِهِ هَذَا بَلْ كَانَ كَارِهًا لَهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [ الْبَقَرَةِ: 216 ] وَأَضَافَ إِلَيْهِ سِتَّةَ آلَافٍ مِنَ التُّرْكُمَانِ وَسَارَ هُوَ وَإِيَّاهُ مِنْ حَلَبَ إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ جَهَّزَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِمَنْ مَعَهُ، وَلَمَّا وَصَلَتِ الْجُيُوشُ النُّورِيَّةُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَجَدُوا الْفِرِنْجَ قَدِ انْشَمَرُوا عَنِ الْقَاهِرَةِ رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ بِالصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ، وَكَانَ وُصُولُهُ إِلَيْهَا فِي سَابِعِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَدَخَلَ الْأَمِيرُ أَسَدُ الدِّينِ عَلَى الْعَاضِدِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً فَلَبِسَهَا،
وَعَادَ إِلَى مُخَيَّمِهِ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِقُدُومِهِ، وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِمُ الْخَيْرَاتُ، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِمُ التُّحَفُ وَالْكَرَامَاتُ، وَخَرَجَ وُجُوهُ النَّاسِ إِلَى مُخَيَّمِ أَسَدِ الدِّينِ خِدْمَةً لَهُ، وَكَانَ فِيمَنْ جَاءَ إِلَيْهِ الْمُخَيَّمَ الْخَلِيفَةُ الْعَاضِدُ مُتَنَكِّرًا، فَأَسَرَّ إِلَيْهِ أُمُورًا مُهِمَّةً، مِنْهَا قَتْلُ الْوَزِيرِ شَاوَرَ، وَقَرَّرَ ذَلِكَ مَعَهُ وَعَظُمَ أَمْرُ الْأَمِيرِ أَسَدِ الدِّينِ بِمِصْرَ، وَلَمْ يَقْدِرِ الْوَزِيرُ شَاوَرُ عَلَى مَنْعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ; لِكَثْرَةِ الْجَيْشِ الَّذِي مَعَ أَسَدِ الدِّينِ، وَلَكِنْ شَرَعَ يُمَاطِلُ بِمَا كَانَ تَقَرَّرَ لَهُمْ وَلِلْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ مِمَّا كَانُوا الْتَزِمُوا لَهُ وَلَهُمْ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَتَرَدَّدُ إِلَى الْأَمِيرِ أَسَدِ الدِّينِ وَيَرْكَبُ مَعَهُ، وَعَزَمَ عَلَى عَمَلِ ضِيَافَةٍ لَهُ، فَنَهَاهُ أَصْحَابُهُ عَنِ الْحُضُورِ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ غَائِلَتِهِ وَشَاوَرُوهُ فِي قَتْلِ شَاوَرَ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُمُ الْأَمِيرُ أَسَدُ الدِّينِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ جَاءَ شَاوَرُ إِلَى مَنْزِلِ الْأَمِيرِ أَسَدِ الدِّينِ، فَوَجَدَهُ قَدْ ذَهَبَ لِزِيَارَةِ قَبْرِ الشَّافِعِيِّ، وَإِذَا ابْنُ أَخِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ هُنَالِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ قَتْلُهُ إِلَّا بَعْدَ مُشَاوَرَةِ عَمِّهِ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ فَأَعْلَمُوا الْعَاضِدَ لَعَلَّهُ يَبْعَثُ يُنْقِذُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْأَمِيرِ أَسَدِ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْهُ رَأْسَهُ، فَقُتِلَ شَاوَرُ وَأَرْسَلُوا بِرَأْسِهِ إِلَى الْعَاضِدِ فِي سَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَأَمَرَ أَسَدُ الدِّينِ بِنَهْبِ دَارِ شَاوَرَ، فَنُهِبَتْ، وَدَخَلَ أَسَدُ الدِّينِ عَلَى الْعَاضِدِ فَاسْتَوْزَرَهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً عَظِيمَةً، وَلَقَّبَهُ الْمَلِكَ الْمَنْصُورَ، فَسَكَنَ دَارَ شَاوَرَ وَعَظُمَ شَأْنُهُ هُنَالِكَ، وَلَمَّا بَلَغَ نُورَ الدِّينِ خَبَرُ فَتْحِ مِصْرَ فَرِحَ بِذَلِكَ وَقَصَدَتْهُ الشُّعَرَاءُ بِالتَّهْنِئَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْشَرِحْ ; لِكَوْنِ أَسَدِ الدِّينِ صَارَ وَزِيرًا، وَكَذَلِكَ لَمَّا انْتَهَتِ الْوِزَارَةُ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ
وَشَرَعَ
فِي إِعْمَالِ الْحِيلَةِ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ، وَلَا قَدَرَ
عَلَيْهِ ; وَلَا سِيَّمَا أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ. صَلَاحَ الدِّينِ اسْتَحْوَذَ
عَلَى خَزَائِنِ الْعَاضِدِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَرْسَلَ أَسَدُ الدِّينِ إِلَى الْقَصْرِ يَطْلُبُ كَاتِبًا، فَأَرْسَلُوا
إِلَيْهِ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ ; رَجَاءَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ إِذَا قَالَ
وَأَفَاضَ فِيمَا كَانُوا يُؤَمِّلُونَ، وَبَعَثَ أَسَدُ الدِّينِ الْعُمَّالَ فِي
الْأَعْمَالِ وَأَقْطَعَ الْإِقْطَاعَاتِ وَوَلَّى الْوِلَايَاتِ، وَفَرِحَ
بِنَفْسِهِ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَأَدْرَكَهُ حِمَامُهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ
الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَسَدُ
الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَشَارَ الْأُمَرَاءُ الشَّامِيُّونَ عَلَى
الْعَاضِدِ بِتَوْلِيَةِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ الْوِزَارَةَ بَعْدَ عَمِّهِ
فَوَلَّاهُ الْوِزَارَةَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً وَلَقَّبَهُ
الْمَلِكَ النَّاصِرَ.
صِفَةُ الْخِلْعَةِ الَّتِي لَبِسَهَا صَلَاحُ الدِّينِ يَوْمَئِذٍ
فِيمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي "
الرَّوْضَتَيْنِ " عِمَامَةٌ بَيْضَاءُ تِنِّيسِيٌّ بِطَرَفِ ذَهَبٍ،
وَثَوْبٌ دَبِيقِيٌّ بِطِرَازِ ذَهَبٍ، وَجُبَّةٌ بِطِرَازِ ذَهَبٍ، وَطَيْلَسَانُ
بِطِرَازٍ مُذَهَّبَةٍ، وَعَقْدُ جَوْهَرٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَسَيْفٌ
مُحَلَّى بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَحَجَرٌ بِثَمَانِيَةِ آلَافِ دِينَارٍ
وَعَلَيْهَا طَوْقُ ذَهَبٍ
وَسَرْفَسَارُ ذَهَبٍ مُجَوْهَرٌ وَفِي رَأْسِهَا مِائَتَا حَبَّةِ جَوْهَرٍ، وَفِي قَوَائِمِهَا أَرْبَعَةُ عُقُودِ جَوْهَرٍ، وَفِي رَأْسِهَا قَصَبَةُ ذَهَبٍ وَفِي رَأْسِهَا مُشَدَّةٌ بَيْضَاءُ بِأَعْلَامٍ بِيضٍ، وَمَعَ الْخِلْعَةِ عِدَّةُ بُقَجٍ وَخَيْلٌ وَأَشْيَاءُ أُخَرُ وَمَنْشُورُ الْوِزَارَةِ مَلْفُوفٌ بِثَوْبٍ أَطْلَسَ أَبْيَضَ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا وَسَارَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ فِي خِدْمَتِهِ، لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ سِوَى عَيْنِ الدَّوْلَةِ الْيَارُوقِيِّ ; قَالَ: لَا أَخْدِمُ يُوسُفَ بَعْدَ نُورِ الدِّينِ، ثُمَّ سَارَ بِجَيْشِهِ إِلَى الشَّامِ فَلَامَهُ نُورُ الدِّينِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَقَامَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ بِمِصْرَ بِصِفَةِ نَائِبٍ لِلْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ ; يَخْطُبُ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَيُكَاتِبُهُ الْأَمِيرُ نُورُ الدِّينِ بِالْأَمِيرِ الْأَسْفَهْسِلَارِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَيَتَوَاضَعُ لَهُ صَلَاحُ الدِّينِ فِي الْكُتُبِ وَالْعَلَامَةِ ; لَكِنْ قَدِ الْتَفَّتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ، وَخَضَعَتْ لَهُ النُّفُوسُ، وَاضْطُهِدَ الْعَاضِدُ فِي أَيَّامِهِ غَايَةَ الِاضْطِهَادِ، وَارْتَفَعَ قَدْرُ صَلَاحِ الدِّينِ بَيْنَ الْعِبَادِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَزَادَ فِي إِقْطَاعَاتِ الَّذِينَ مَعَهُ فَأَحَبُّوهُ وَاحْتَرَمُوهُ وَخَدَمُوهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ نُورُ الدِّينِ يُعَنِّفُهُ عَلَى قَبُولِ الْوِزَارَةِ بِدُونِ مَرْسُومِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَيِّمَ حِسَابَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى ذَلِكَ، وَجَعَلَ نُورُ الدِّينِ يَقُولُ فِي غُبُونِ ذَلِكَ: مَلَكَ ابْنُ أَيُّوبَ. وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَهْلَهُ وَإِخْوَتَهُ وَقَرَابَتَهُ، فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِمُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لَهُ فَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ
هُنَالِكَ
وَحَفِظَ دَوْلَتَهُ بِذَلِكَ وَكَمَلَ أَمْرُهُ وَتَمَكَّنَ سُلْطَانُهُ
وَقَوِيَتْ أَرْكَانُهُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي قَتْلِ صَلَاحِ
الدِّينِ لَشَاوَرَ الْوَزِيرِ:
هَنِيئًا لِمِصْرَ حَوْزَ يُوسُفَ مُلْكَهَا بِأَمْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ كَانَ
مَوْقُوتَا وَمَا كَانَ فِيهَا قَتْلُ يُوسُفَ شَاوَرًا
يُمَاثِلُ إِلَّا قَتْلَ دَاوُدَ جَالُوتَا
قَالَ أَبُو شَامَةَ وَقَتَلَ الْعَاضِدُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْلَادَ شَاوَرَ
وَهُمْ شُجَاعٌ الْمُلَقَّبُ بِالْكَامِلِ، وَالطَّارِيُّ الْمُلَقَّبُ
بِالْمُعَظَّمِ، وَأَخُوهُمَا الْآخَرُ الْمُلَقَّبُ بِفَارِسِ الْمُسْلِمِينَ،
وَطِيفَ بِرُءُوسِهِمْ بِبِلَادِ مِصْرَ
ذِكْرُ قَتْلِ الطَّوَاشِيِّ
مُؤْتَمَنِ الْخِلَافَةِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى يَدَيْ صَلَاحِ الدِّينِ ; وَذَلِكَ
أَنَّهُ كَتَبَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ بِمِصْرَ إِلَى الْفِرِنْجِ لِيَقْدَمُوا
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ; لِيُخْرِجُوا مِنْهَا الْجُيُوشَ
الْإِسْلَامِيَّةَ الشَّامِيَّةَ، وَالْعَسَاكِرَ النُّورِيَّةَ، وَكَانَ الَّذِي
نَفَّذَ الْكِتَابَ إِلَيْهِمُ: الْخَادِمُ مُؤْتَمَنُ الْخِلَافَةِ مُقَدَّمُ
الْعَسَاكِرِ بِالْقَصْرِ، وَكَانَ حَبَشِيًّا وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَهُ مَعَ
إِنْسَانٍ أَمِنَ إِلَيْهِ، فَصَادَفَهُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ مَنْ أَنْكَرَ
حَالَهُ، فَحَمَلَهُ إِلَى الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ فَقَرَّرَهُ،
فَأَخْرَجَ الْكِتَابَ فَفَهِمَ صَلَاحُ الدِّينِ الْحَالَ فَكَتَمَهُ، وَاسْتَشْعَرَ
مُؤْتَمَنُ الْخِلَافَةِ الْخَادِمُ أَنَّ الْمَلِكَ صَلَاحَ الدِّينِ قَدِ
اطَّلَعَ عَلَى الْأَمْرِ، فَلَازَمَ الْقَصْرَ مُدَّةً طَوِيلَةً ; خَوْفًا عَلَى
نَفْسِهِ، ثُمَّ عَنَّ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَنْ خَرَجَ إِلَى الصَّيْدِ،
فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَيْهِ مَنْ قَبَضَ عَلَيْهِ وَقَتْلَهُ
وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ ثُمَّ
عَزَلَ
جَمِيعَ الْخُدَّامِ الَّذِينَ يَلُونَ خِدْمَةَ الْقَصْرِ، وَاسْتَنَابَ عَلَى
الْقَصْرِ عِوَضَهُمْ بَهَاءَ الدِّينِ قَرَاقُوشَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُطَالِعَهُ
بِجَمِيعِ الْأُمُورِ صِغَارِهَا وَكِبَارِهَا
وَقْعَةُ السُّودَانِ
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ الطَّوَاشِيُّ مُؤْتَمَنُ الْخِلَافَةِ الْخَادِمُ
الْحَبَشِيُّ وَعُزِلَ بَقِيَّةُ الْخُدَّامِ، غَضِبُوا لِذَلِكَ وَاجْتَمَعُوا
قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَجَيْشُ صَلَاحِ الدِّينِ
بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ، فَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَكَانَ
الْعَاضِدُ يَنْظُرُ مِنَ الْقَصْرِ إِلَى الْمَعْرَكَةِ وَقَدْ قُذِفَ الْجَيْشُ
الشَّامِيُّ مِنَ الْقَصْرِ بِحِجَارَةٍ وَجَاءَهُمْ مِنْهُ سِهَامٌ، فَقِيلَ:
كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّ أَخَا
النَّاصِرِ شَمْسَ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ - وَكَانَ حَاضِرًا لِلْحَرْبِ قَدْ
بَعَثَهُ نُورُ الدِّينِ لِأَخِيهِ لِيَشُدَّ أَزْرَهُ - أَمَرَ بِإِحْرَاقِ مَنْظَرَةِ
الْعَاضِدِ فَفُتِحَ الْبَابُ وَنُودِيَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُخْرِجُوا هَؤُلَاءِ السُّودَانَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ
وَمِنْ بِلَادِكُمْ، فَقَوِيَ الشَّامِيُّونَ وَضَعُفَ جَأْشُ السُّودَانِ جِدًّا،
وَأَرْسَلَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ إِلَى مَحَلَّتِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ
بِالْمَنْصُورَةِ الَّتِي فِيهَا دُورُهُمْ وَأَهْلُوهُمْ بِبَابِ زُوَيْلَةَ،
فَأَحْرَقَهَا، فَوَلَّوْا عِنْدَ ذَلِكَ مُدْبِرِينَ، وَرَكِبَهُمُ السَّيْفُ
فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ طَلَبُوا الْأَمَانَ مِنَ الْمَلِكِ
صَلَاحِ الدِّينِ فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَأَخْرَجَهُمْ إِلَى الْجِيزَةِ،
ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ شَمْسُ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ أَخُو الْمَلِكِ
صَلَاحِ الدِّينِ فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ أَيْضًا
وَلَمْ
يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا
[ النَّمْلِ: 52 ] وَفِيهَا افْتَتَحَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ بْنُ مَحْمُودِ
بْنِ زَنْكِيٍّ قَلْعَةَ جَعْبَرَ وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا شِهَابِ
الدِّينِ مَالِكِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَالِكٍ الْعَقِيلِيِّ، وَكَانَتْ فِي
أَيْدِيهِمْ مِنْ أَيَّامِ السُّلْطَانِ مَلِكْشَاهْ وَفِيهَا احْتَرَقَ جَامِعُ
حَلَبَ فَجَدَّدَهُ نُورُ الدِّينِ وَفِيهَا مَاتَ يَارُوقُ الَّذِي تُنْسَبُ
إِلَيْهِ الْمَحَلَّةُ بِظَاهِرِ حَلَبَ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَعْدُ اللَّهِ بْنُ نَصْرِ بْنِ سَعِيدٍ الدَّجَاجِيُّ
أَبُو الْحَسَنِ الْوَاعِظُ الْحَنْبَلِيُّ، وُلِدَ فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ وَوَعَظَ، وَكَانَ لَطِيفَ
الْوَعْظِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ
أَنَّهُ سُئِلَ مَرَّةً عَنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ فَنَهَى عَنِ التَّعَرُّضِ
لِذَلِكَ وَأَنْشَدَ
أَبَى الْعَاتِبُ الْغَضْبَانُ يَا نَفْسُ أَنْ يَرْضَى وَأَنْتِ الَّذِي
صَيَّرْتِ طَاعَتَهُ فَرْضَا
فَلَا
تَهْجُرِي مَنْ لَا تُطِيقِينَ هَجْرَهُ
وَإِنْ هَمَّ بِالْهُجْرَانِ خَدَّيْكِ وَالْأَرْضَا
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: خِفْتُ مَرَّةً مِنَ
الْخَلِيفَةِ فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ فِي الْمَنَامِ وَقَالَ لِي اكْتُبْ:
ادْفَعْ بِصَبْرِكَ حَادِثَ الْأَيَّامِ وَتَرَجَّ لُطْفَ الْوَاحِدِ الْعَلَّامِ
لَا تَيْأَسَنَّ وَإِنْ تَضَايَقَ كَرْبُهَا وَرَمَاكَ رَيْبُ صُرُوفِهَا
بِسِهَامِ
فَلَهُ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فَرْجَةٌ تَخْفَى عَلَى الْأَبْصَارِ
وَالْأَوْهَامِ
كَمْ مَنْ نَجَا مِنْ بَيْنِ أَطْرَافِ الْقَنَا وَفَرِيسَةٍ سَلِمَتْ مِنَ الضِّرْغَامِ
تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَدُفِنَ
إِلَى جَانِبِ رِبَاطِ الزُّوزَنِيِّ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَقْبَرَةِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ
شَاوَرُ بْنُ مُجِيرِ الدِّينِ
أَبُو شُجَاعٍ السَّعْدِيُّ، الْمُلَقَّبُ أَمِيرَ الْجُيُوشِ، وَزِيرُ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ أَيَّامَ الْعَاضِدِ، وَهُوَ الَّذِي انْتَزَعَ الْوِزَارَةَ مِنْ
يَدَيْ رُزِّيكَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَكْتَبَ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ،
اسْتَدْعَى بِهِ مِنْ إِسْكَنْدَرِيَّةَ مِنْ بَابِ السِّدْرَةِ، فَحَظِيَ عِنْدَهُ
وَانْحَصَرَ مِنْهُ الْكُتَّابُ بِالْقَصْرِ ; لَمَّا رَأَوْا مِنْ فَضْلِهِ
وَفَضِيلَتِهِ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ مِنْهُمْ عُمَارَةُ الْيَمَنِيُّ
حَيْثُ يَقُولُ:
ضَجِرَ
الْحَدِيدُ مِنَ الْحَدِيدِ وَشَاوَرٌ فِي نَصْرِ دِينِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَضْجَرِ
حَلَفَ الزَّمَانُ لَيَأْتِيَنَّ بِمِثْلِهِ حَنَثَتْ يَمِينُكَ يَا زَمَانُ
فَكَفِّرِ
وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُ قَائِمًا إِلَى أَنْ ثَارَ عَلَيْهِ الْأَمِيرُ ضِرْغَامُ
بْنُ سَوَّارٍ، فَالْتَجَأَ إِلَى الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ فَأَرْسَلَ مَعَهُ
الْأَمِيرَ أَسَدَ الدِّينِ شِيرَكُوهْ، فَنَصَرُوهُ عَلَى عَدُوِّهِ، فَنَكَثَ
عَهْدَهُ فَلَمْ يَزَلْ أَسَدُ الدِّينِ حَنِقًا عَلَيْهِ حَتَّى كَانَ قَتْلُهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى يَدَيِ ابْنِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ ;
ضَرَبَ عُنُقَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَمِيرُ جُرْدَيْكُ فِي السَّابِعَ عَشَرَ
مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَاسْتُوزِرَ بَعْدَهُ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ كَمَا
ذَكَرْنَا فَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ بَعْدَهُ إِلَّا شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ
أَيَّامٍ، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: هُوَ أَبُو شُجَاعٍ شَاوَرُ بْنُ مُجِيرِ
الدِّينِ بْنِ نِزَارِ بْنِ عَشَائِرَ بْنِ شَأْسِ بْنِ مُغِيثِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ يَخْنَسَ بْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ عَبْدِ اللَّهِ،
وَهُوَ وَالِدُ حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ، كَذَا قَالَ: وَفِيمَا قَالَ نَظَرٌ ;
لِقِصَرِ هَذَا النَّسَبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْدَ الْمُدَّةِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ
شِيرَكُوهْ بْنُ شَاذِيٍّ
أَسَدُ الدَّيْنِ الْكُرْدِيُّ الرَّوَادِيُّ وَهُمْ أَشْرَفُ شُعُوبِ
الْأَكْرَادِ
وَهُوَ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا دُوِينُ مِنْ أَعْمَالِ أَذْرَبِيجَانَ،
خَدَمَ هُوَ وَأَخُوهُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ - وَكَانَ الْأَكْبَرَ -
الْأَمِيرَ مُجَاهِدَ الدِّينِ بِهْرُوزَ الْخَادِمَ شِحْنَةَ الْعِرَاقِ،
فَاسْتَنَابَ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ عَلَى قَلْعَةِ تَكْرِيتَ، فَاتَّفَقَ أَنْ
دَخَلَهَا الْمَلِكُ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيٌّ هَارِبًا مِنْ قَرَاجَا
السَّاقِي، فَأَحْسَنَا إِلَيْهِ وَخَدَمَاهُ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَنْ قَتَلَ رَجُلًا
مِنَ الْعَامَّةِ فِي تَأْدِيبٍ فَأَخْرَجَهُمَا بِهْرُوزُ مِنَ الْقَلْعَةِ
فَصَارَا إِلَى زَنْكِيٍّ بِحَلَبَ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمَا، ثُمَّ حَظِيَا عِنْدَ وَلَدِهِ
نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ، فَاسْتَنَابَ أَيُّوبَ عَلَى بَعْلَبَكَّ وَأَقَرَّهُ
وَلَدُهُ نُورُ الدِّينِ، وَصَارَ أَسَدُ الدِّينِ عِنْدَ نُورِ الدِّينِ أَكْبَرَ
أُمَرَائِهِ وَأَخَصَّهُمْ عِنْدَهُ، وَأَقْطَعَهُ الرَّحْبَةَ وَحِمْصَ مَعَ مَا
لَهُ عِنْدَهُ مِنَ الْإِقْطَاعَاتِ ; وَذَلِكَ لِشَهَامَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ
وَصَرَامَتِهِ وَجِهَادِهِ فِي أَعْدَاءِ اللَّهِ الْفِرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ فِي
أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ وَوَقَعَاتٍ مُعْتَبَرَاتٍ، وَلَاسِيَّمَا يَوْمَ فَتْحِ
دِمَشْقَ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ مَا فَعَلَهُ بِدِيَارِ مِصْرَ، بَلَّ اللَّهُ
بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ.
كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ فَجْأَةً بِخَانُوقٍ حَصَلَ لَهُ، وَذَلِكَ
فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ أَبُو شَامَةَ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْخَانِقَاهُ
الْأَسَدِيَّةُ دَاخِلَ بَابِ الْجَابِيَةِ بِدَرْبِ الْهَاشِمِيِّينَ،
وَالْمَدْرَسَةُ الْأَسَدِيَّةُ بِالشَّرَفِ الْقِبْلِيِّ ثُمَّ آلَ الْأَمْرُ
مِنْ بَعْدِهِ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ ثُمَّ اسْتَوْسَقَ
لَهُ الْمُلْكُ وَأَطَاعَتْهُ الْمَمَالِكُ هُنَالِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ
بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَطِّيِّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ
وَأَسْمَعَ وَرُحِلَ إِلَيْهِ وَقَارَبَ التِّسْعِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ
مُحَمَّدٌ الْفَارِقِيُّ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَاعِظُ يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ نَهْجَ
الْبَلَاغَةِ وَيُغَيِّرُ أَلْفَاظَهُ وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا يُكْتَبُ
كَلَامُهُ وَيُرْوَى عَنْهُ كِتَابٌ يُعْرَفُ بِ " الْحِكَمِ الْفَارِقِيَّةِ
"
مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ
بْنِ رَجَاءٍ أَبُو أَحْمَدَ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْوُعَّاظِ،
رَوَى عَنْ أَصْحَابِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ
بِالْحَدِيثِ تُوُفِّيَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى الْحَجِّ بِالْبَادِيَةِ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا حَاصَرَتِ الْفِرِنْجُ مَدِينَةَ دِمْيَاطَ مِنْ بِلَادِ
مِصْرَ خَمْسِينَ يَوْمًا ; بِحَيْثُ ضَيَّقُوا عَلَى أَهْلِهَا وَقَتَلُوا
أُمَمًا كَثِيرَةً ; جَاءُوا إِلَيْهَا مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ; رَجَاءَ أَنْ
يَمْلِكُوا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ وَخَوْفًا مِنَ اسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِينَ
عَلَى الْقُدْسِ، فَكَتَبَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى نُورِ الدِّينِ يَسْتَنْجِدُهُ
عَلَيْهِمْ وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ بِأَمْدَادٍ مِنَ الْجُيُوشِ
; فَإِنَّهُ إِنْ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ خَلَفَهُ أَهْلُهَا بِسُوءٍ، وَإِنْ قَعَدَ
عَنِ الْفِرِنْجِ أَخَذُوا دِمْيَاطَ وَجَعَلُوهَا مَعْقِلًا لَهُمْ يَتَقَوَّوْنَ
بِهَا عَلَى أَخْذِ مِصْرَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ نُورُ الدِّينِ بِبُعُوثٍ
كَثِيرَةٍ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، ثُمَّ إِنَّ نُورَ الدِّينِ اغْتَنَمَ
غَيْبَةَ الْفِرِنْجِ عَنْ بِلَادِهِمْ فَصَمَدَ إِلَيْهِمْ فِي جُيُوشٍ
كَثِيرَةٍ، فَجَاسَ خِلَالَ دِيَارِهِمْ وَغَنِمَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَقَتَلَ
مِنْ رِجَالِهِمْ وَسَبَى مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أُرْسِلُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ أَبُوهُ الْأَمِيرُ
نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ فِي جَيْشٍ مِنْ تِلْكَ الْجُيُوشِ وَمَعَهُ بَقِيَّةُ
أَوْلَادِهِ، فَتَلَقَّاهُ الْجَيْشُ مِنْ مِصْرَ فِي رَجَبٍ وَخَرَجَ الْعَاضِدُ
لِتَلَقِّيهِ إِكْرَامًا لِوَلَدِهِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَأَقْطَعَهُ
الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ وَدِمْيَاطَ وَالْبُحَيْرَةَ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةَ
أَوْلَادِهِ، وَقَدْ أَمَدَّ الْعَاضِدُ صَلَاحَ الدِّينِ فِي هَذِهِ الْكَائِنَةِ
بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، حَتَّى انْفَصَلَتِ الْفِرِنْجُ عَنْ دِمْيَاطَ
وَأَجْلَتِ الْفِرِنْجُ عِنْ دِمْيَاطَ ; لِأَنَّهُ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْمَلِكَ
نُورَ الدِّينِ قَدْ غَزَا بِلَادَهُمْ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ رِجَالِهِمْ
وَسَبَى كَثِيرًا مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ وَغَنِمَ مَالًا جَزِيلًا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ،
فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ سَارَ نُورُ الدِّينِ فِي
جُمَادَى الْآخِرَةِ إِلَى الْكَرَكِ ; فَحَاصَرَهَا وَكَانَتْ مِنْ أَمْنَعِ
الْبِلَادِ وَكَادَ أَنْ يَفْتَحَهَا وَلَكِنْ بَلَغَهُ أَنَّ مُقَدَّمَيْنِ مِنَ
الْفِرِنْجِ قَدْ أَقْبَلَا نَحْوَ دِمَشْقَ، فَخَافَ أَنْ يَلْتَفَّ عَلَيْهِمَا
الْفِرِنْجُ، فَتَرَكَ الْحِصَارَ وَأَقْبَلَ نَحْوَ دِمَشْقَ فَحَصَّنَهَا،
وَلَمَّا انْجَلَتِ الْفِرِنْجُ عَنْ دِمْيَاطَ فَرِحَ نُورُ الدِّينِ
وَالْمُسْلِمُونَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَأَنْشَدَ الشُّعَرَاءُ كُلٌّ مِنْهُمْ فِي
ذَلِكَ قَصِيدًا، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ شَدِيدَ الِاهْتِمَامِ
قَوِيَّ الِاغْتِمَامِ بِذَلِكَ ; حَتَّى إِنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ بَعْضُ طَلَبَةِ
الْحَدِيثِ جُزْءًا فِيهِ حَدِيثٌ مُسَلْسَلٌ بِالتَّبَسُّمِ، فَطَلَبَ مِنْهُ
أَنْ يَبْتَسِمَ لِيَتَّصِلَ التَّسَلْسُلُ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ:
إِنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرَانِي مُتَبَسِّمًا وَالْمُسْلِمُونَ
تُحَاصِرُهُمُ الْفِرِنْجُ بِثَغْرِ دِمْيَاطَ،
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ أَنَّ إِمَامَ مَسْجِدِ أَبِي الدَّرْدَاءِ
بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ رَأَى فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي أَجْلَى
فِيهَا الْفِرِنْجُ عَنْ دِمْيَاطَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ يَقُولُ لَهُ سَلِّمْ عَلَى نُورِ الدِّينِ وَبِشِّرْهُ بِأَنَّ
الْفِرِنْجَ قَدْ رَحَلُوا عَنْ دِمْيَاطَ،. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
بِأَيِّ عَلَامَةٍ ؟ فَقَالَ: بِعَلَامَةِ مَا سَجَدَ يَوْمَ تَلِّ حَارِمٍ
وَقَالَ: فِي سُجُودِهِ اللَّهُمَّ انْصُرْ دِينَكَ وَلَا تَنْصُرْ مَحْمُودًا
وَمَنْ هُوَ مَحْمُودٌ الْكَلْبُ حَتَّى يُنْصَرَ ؟ فَلَمَّا صَلَّى نُورُ
الدِّينِ عِنْدَهُ الصُّبْحَ بَشَّرَهُ بِذَلِكَ وَأَعْلَمَهُ بِالْعَلَامَةِ،
وَكَشَفُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَإِذَا هِيَ هِيَ.
قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَمَّرَ الْمَلِكُ نُورُ
الدِّينِ جَامِعَ دَارِيَّا
وَعَمَّرَ
مَشْهَدَ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ بِهَا، وَشَتَّى بِدِمَشْقَ.
وَفِيهَا حَاصَرَ نُورُ الدِّينِ الْكَرَكَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَفَارَقَهُ مِنْ
هُنَاكَ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ وَالِدُ صَلَاحِ الدِّينِ مُتَوَجِّهًا إِلَى
ابْنِهِ بِمِصْرَ، وَقَدْ وَصَّاهُ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ أَنْ يَأْمُرَ
ابْنَهُ صَلَاحَ الدِّينِ أَنْ يَخْطُبَ بِمِصْرَ لِلْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْجِدِ
بِاللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعَثَ يُعَاتِبُهُ فِي
ذَلِكَ وَفِيهَا قَدِمَ الْفِرِنْجُ مِنَ السَّوَاحِلِ لِيَمْنَعُوا الْكَرَكَ
مَعَ قَرِيبِ بْنِ الرَّقِيقِ وَابْنِ هَنْفَرَى - وَكَانَا أَشْجَعَ فُرْسَانِ
الْفِرِنْجِ - فَقَصَدَهُمَا نُورُ الدِّينِ ; لِيَلْقَاهُمَا فَحَادَا عَنْ
طَرِيقِهِ. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ
وَعَمَّتْ أَكْثَرَ الْأَرْضِ، فَتَهَدَّمَتْ أَسْوَارٌ كَثِيرَةٌ بِالشَّامِ،
وَسَقَطَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ عَلَى أَهْلِهَا، وَلَاسِيَّمَا بِدِمَشْقَ وَحِمْصَ
وَحَمَاةَ وَحَلَبَ وَبَعْلَبَكَّ ; سَقَطَتْ أَسْوَارُهَا وَأَكْثَرُ قَلْعَتِهَا
فَجَدَّدَ نُورُ الدِّينِ عِمَارَةَ أَكْثَرِ مَا سَقَطَ بِهَذِهِ الزَّلْزَلَةِ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
الْمَلِكُ قُطْبُ الدِّينِ مَوْدُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ
أَخُو نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلَ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ
أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَمُدَّةُ مُلْكِهِ مِنْهَا إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً،
وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ، مُحَبَّبًا إِلَى الرَّعِيَّةِ عَطُوفًا
عَلَيْهِمْ، مُحْسِنًا
إِلَيْهِمْ،
حَسَنَ الشَّكْلِ، وَتَمَلَّكَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيٌّ
مِنَ السِّتِّ خَاتُونَ بِنْتِ تَمُرْتَاشَ بْنِ إِيلِغَازِي بْنِ أُرْتُقَ
أَصْحَابِ مَارِدِينَ، وَكَانَ مُدَبِّرَ مَمْلَكَتِهِ وَالْمُتَحَكِّمَ فِيهَا
فَخْرُ الدِّينِ عَبْدُ الْمَسِيحِ، وَكَانَ ظَالِمًا غَاشِمًا.
وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ مُلُوكِ الْغَرْبِ بِجَزِيرَةِ
الْأَنْدَلُسِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ مُلُوكِ الشَّرْقِ
أَيْضًا
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا الْأَمِيرُ أَرْغَشُ
الْكَبِيرُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمُسْتَنْجِدِ وَخِلَافَةُ ابْنِهِ الْمُسْتَضِيءِ ;
وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَنْجِدَ كَانَ قَدْ مَرِضَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ
ثُمَّ عُوفِيَ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، فَعُمِلَتْ ضِيَافَةٌ عَظِيمَةٌ بِسَبَبِ
ذَلِكَ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْحَكِيمُ إِلَى
الْحَمَّامِ وَعِنْدَهُ ضَعْفٌ شَدِيدٌ فَمَاتَ فِي الْحَمَّامِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِإِشَارَةِ بَعْضِ الدَّوْلَةِ عَلَى الطَّبِيبِ ;
اسْتِعْجَالًا لِمَوْتِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ بَعْدَ الظُّهْرِ
ثَانِي رَبِيعٍ الْآخَرِ عَنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ
خِلَافَتِهِ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرًا، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ
الْخُلَفَاءِ وَأَعْدَلِهِمْ وَأَرْفَقِهِمْ بِالرَّعَايَا، وَمَنَعَ عَنْهُمُ
الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ، وَلَمْ يَتْرُكْ بِالْعِرَاقِ مَكْسًا، وَقَدْ شَفَعَ
إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي رَجُلٍ شِرِّيرٍ وَبَذَلَ فِيهِ عَشْرَةَ آلَافِ
دِينَارٍ، فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ: أَنَا أُعْطِيكَ عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ
وَائْتِنِي بِمِثْلِهِ لِأُرِيحَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِ.
وَكَانَ الْمُسْتَنْجِدُ أَسْمَرَ طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، وَهُوَ الثَّانِي
وَالثَّلَاثِينَ مِنَ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَذَلِكَ فِي الْجُمَّلِ لَامٌ بَاءٌ
وَلِهَذَا قَالَ فِيهِ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ:
أَصْبَحْتَ
لُبَّ بَنِي الْعَبَّاسِ كُلِّهِمُ إِنْ عُدِّدَتْ بِحِسَابِ الْجُمَّلِ
الْخُلَفَا
وَكَانَ أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ نَهَّاءً عَنِ الْمُنْكَرِ وَقَدْ رَأَى فِي
مَنَامِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ
فَكَانَتْ آخِرُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَهُوَ يَقُولُ
لَهُ: قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فَيْمَنْ
عَافَيْتَ... دُعَاءَ الْقُنُوتِ بِتَمَامِهِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ
الْأَحَدِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَدُفِنَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى
التُّرَبِ مِنَ الرُّصَافَةِ.
خِلَافَةُ الْمُسْتَضِيءِ
وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ يُوسُفَ الْمُسْتَنْجِدِ بْنِ
الْمُقْتَفِي، وَأُمُّهُ أَرْمَنِيَّةٌ تُدْعَى غَضَّةَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي
شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ
يَوْمَ مَاتَ أَبُوهُ بُكْرَةَ الْأَحَدِ تَاسِعَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَبَايَعَهُ
النَّاسُ، وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ أَحَدٌ اسْمُهُ الْحَسَنُ بَعْدَ الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيٍّ غَيْرُ هَذَا، وَوَافَقَهُ فِي الْكُنْيَةِ أَيْضًا، وَخَلَعَ
يَوْمئِذٍ عَلَى النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ خِلْعَةٍ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا، وَوَلَّى قَضَاءَ قُضَاةِ بَغْدَادَ لِرَوْحِ بْنِ الْحَدِيثِيِّ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَابِعَ عَشْرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَخَلَعَ عَلَى الْوَزِيرِ
خِلْعَةً عَظِيمَةً وَهُوَ الْأُسْتَاذُ عَضُدُ الدِّينِ، وَضُرِبَتْ عَلَى
بَابِهِ نَوْبَةٌ فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ ; الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
وَأَمَّرَ سَبْعَةَ عَشَرَ أَمِيرًا مِنَ الْمَمَالِيكِ، وَأَذِنَ لِلْوُعَّاظِ
فَتَكَلَّمُوا
بَعْدَمَا مُنِعُوا مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ كَثُرَ احْتِجَاجُهُ، وَمِمَّا
نَظَمَهُ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ حِينَ جَاءَتِ الْبِشَارَةُ بِخِلَافَةِ
الْمُسْتَضِيءِ وَهُمْ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ
قَدْ أَضَاءَ الزَّمَانُ بِالْمُسْتَضِيِّ وَارِثِ الْبَرْدِ وَابْنِ عَمِّ النَّبِيِّ
جَاءَ بِالْحَقِّ وَالَّشرِيعَةِ وَالْعَدْ
لِ فَيَا مَرْحَبًا بِهَذَا الْمَجِيِّ فَهَنِيئًا لِأَهْلِ بَغْدَادَ فَازُوا
بَعْدَ بُؤْسٍ بِكُلِّ عَيْشٍ هَنِيِّ وَمُضِيٌّ إِنْ كَانَ فِي الزَّمَنِ الْمُظْ
لِمِ فَالْعَوْدُ فِي الزَّمَانِ الْمُضِيِّ
وَفِيهَا سَارَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ إِلَى
الرَّقَّةِ فَأَخَذَهَا، وَكَذَا نَصِيبِينَ وَالْخَابُورِ وَسِنْجَارَ،
وَسَلَّمَهَا إِلَى زَوْجِ ابْنَتِهِ ابْنِ أَخِيهِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيِّ
بْنِ مَوْدُودٍ ثُمَّ سَارَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَةً
وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَأَقَرَّهَا عَلَى ابْنِ أَخِيهِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِيِّ
بْنِ قُطْبِ الدِّينِ مَوْدُودٍ مَعَ الْجَزِيرَةِ، وَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ
الْأُخْرَى وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ جَامِعِهَا وَتَوْسِعَتِهِ، وَوَقَفَ عَلَى تَأْسِيسِهِ
بِنَفْسِهِ وَجَعَلَ لَهُ خَطِيبًا وَدَرْسًا لِلْفِقْهِ وَوَلَّى التَّدْرِيسَ
لِلْفَيْقِهِ أَبِي بَكْرٍ النَّوْقَانِيِّ تِلْمِيذِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى،
تِلْمِيذِ الْغَزَالِيِّ، وَكَتَبَ لَهُ مَنْشُورًا بِذَلِكَ، وَوَقَفَ عَلَى
الْجَامِعِ قَرْيَةً مِنْ قُرَى الْمَوْصِلِ ; وَذَلِكَ كُلُّهُ بِإِشَارَةِ
الشَّيْخِ صَالِحٍ الْعَابِدِ عُمْرَ الْمَلَّاءِ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ زَاوِيَةٌ
يُقْصَدُ فِيهَا وَلَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ دَعْوَةٌ فِي شَهْرِ الْمَوْلِدِ ;
يَحْضُرُ عِنْدَهُ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْوُزَرَاءُ،
وَيَحْتَفِلُ بِذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ. صَاحِبَهُ،
وَكَانَ يَسْتَشِيرُهُ فِي أُمُورِهِ، وَمِمَّنْ يَعْتَمِدُهُ فِي الْمُهِمَّاتِ،
وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ
مُقَامِهِ
فِي الْمَوْصِلِ بِجَمِيعِ مَا فَعَلَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ ; فَلِهَذَا حَصَلَ
بِقُدُومِهِ لِأَهْلِ الْمَوْصِلِ كُلُّ مَسَرَّةٍ وَانْدَفَعَتْ عَنْهُمُ
الْمَصَائِبُ، وَأَسْقَطَ عَنْهُمُ الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ، وَأَخْرَجَ مِنْ
بَيْنِ أَظْهُرِهِمُ الظَّالِمَ الْغَاشِمَ عَبْدَ الْمَسِيحِ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ
اللَّهِ وَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ فَأَقْطَعُهُ إِقْطَاعًا حَسَنًا،
فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَسِيحِ هَذَا نَصْرَانِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ،
وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّ لَهُ كَنِيسَةً فِي جَوْفِ دَارِهِ وَكَانَ سَيِّئَ
السِّيرَةِ، فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ وَخَاصَّةً الْمُسْلِمِينَ، وَلَمَّا دَخَلَ
نُورُ الدِّينِ الْمَوْصِلَ كَانَ الَّذِي اسْتَأْمَنَ لَهُ الشَّيْخُ عُمْرُ
الْمَلَّاءُ، وَحِينَ دَخَلَ نُورُ الدِّينِ الْمَوْصِلَ خَرَجَ إِلَيْهِ ابْنُ
أَخِيهِ، فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَلْبَسَهُ
خِلْعَةً جَاءَتْهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ، فَدَخَلَ بِهَا إِلَى الْبَلَدِ فِي
أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ وَلَمْ يَدْخُلْ نُورُ الدِّينِ الْمَوْصِلَ حَتَّى قَوِيَ
الشِّتَاءُ، فَأَقَامَ بِهَا كَمَا ذَكَرْنَا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا،
فَلَمَّا كَانَ آخَرُ لَيْلَةٍ أَقَامَ بِهَا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ يَقُولُ لَهُ: طَابَتْ لَكَ بَلَدُكَ
وَتَرَكْتَ الْجِهَادَ وَقِتَالَ أَعْدَاءِ اللَّهِ، فَنَهَضَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى
السَّفَرِ وَمَا أَصْبَحَ إِلَّا وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى الشَّامِ وَاسْتَقْضَى
الشَّيْخَ شَرَفَ الدِّينِ بْنَ أَبِي عَصْرُونَ وَكَانَ مَعَهُ عَلَى سِنْجَارَ
وَنَصِيبِينَ وَالْخَابُورِ، فَاسْتَنَابَ فِيهَا ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ نُوَّابًا
وَأَصْحَابًا
وَفِيهَا عَزَلَ صَلَاحُ الدِّينِ قُضَاةَ مِصْرَ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا شِيعَةً
وَوَلَّى قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِهَا لِصَدْرِ الدِّينِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
دِرْبَاسٍ الْمَارَانِيِّ الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَنَابَ
فِي
سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ قُضَاةً شَافِعِيَّةً وَبَنَى مَدْرَسَةً
لِلشَّافِعِيَّةِ وَأُخْرَى لِلْمَالِكِيَّةِ، وَاشْتَرَى ابْنُ أَخِيهِ تَقِيُّ
الدِّينِ عُمَرُ بْنُ شَاهِنْشَاهْ دَارًا كَانَتْ تُعْرَفُ بِمَنَازِلِ الْعِزِّ،
وَجَعَلَهَا مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا الرَّوْضَةَ وَغَيْرَهَا،
وَعَمَّرَ صَلَاحُ الدِّينِ أَسْوَارَ الْبَلَدِ، وَكَذَلِكَ أَسْوَارَ
إِسْكَنْدَرِيَّةَ، وَأَحْسَنَ إِلَى الرَّعَايَا إِحْسَانًا كَثِيرًا، وَرَكِبَ
فَأَغَارَ عَلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ بِنُوَاحِي عَسْقَلَانَ وَغَزَّةَ وَخَرَّبَ
قَلْعَةً كَانَتْ لَهُمْ عَلَى أَيْلَةَ، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ
مُقَاتِلَتِهِمْ، وَتَلَقَّى أَهْلَهُ وَهُمْ وَارِدُونَ مِنَ الشَّامِ،
وَاجْتَمَعَ شَمْلُهُ بِهِمْ بَعْدَ فُرْقَةٍ طَوِيلَةٍ، وَفِيهَا قَطَعَ صَلَاحُ
الدِّينِ الْأَذَانَ بِحَيٍّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ
كُلِّهَا، وَشَرَعَ فِي تَمْهِيدِ الْخُطْبَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ عَلَى
الْمَنَابِرِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ
أَبُو زُرْعَةَ، الْمَقْدِسِيُّ الْأَصْلُ، الرَّازِيُّ الْمَوْلِدُ الْهَمْدَانِيُّ
الدَّارُ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَسْمَعَهُ
وَالِدُهُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْكَثِيرَ، وَمِمَّا كَانَ
يَرْوِيهِ مُسْنَدُ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَمَذَانَ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ
يُوسُفُ الْقَاضِي
أَبُو الْحَجَّاجِ بْنُ الْخَلَّالِ، صَاحِبُ دِيوَانِ الْإِنْشَاءِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَهُوَ شَيْخُ الْقَاضِي الْفَاضِلِ فِي هَذَا الْفَنِّ،
اشْتَغَلَ عَلَيْهِ فِيهِ فَبَرَعَ حَتَّى قُدِّرَ أَنَّهُ صَارَ مَكَانَهُ حِينَ
ضَعُفَ الشَّيْخُ عَنِ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الْوَظِيفَةِ لِكِبَرِهِ فَكَانَ
الْقَاضِي
الْفَاضِلُ يَقُومُ بِهِ وَبِأَهْلِهِ حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ كَانَ كَثِيرَ
الْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
يُوسُفُ بْنُ الْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَنْجِدِ بِاللَّهِ بْنِ الْمُقْتَفِي بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ تَقَدَّمَ
ذِكْرُ وَفَاتِهِ وَتَرْجَمَتِهِ فِي الْحَوَادِثِ، وَقَدْ تُوُفِّيَ بَعْدَهُ
عَمُّهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْمُسْتَظْهِرِ بِأَشْهُرٍ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ
أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ الْمُسْتَظْهِرِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
الثَّامِنَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْعَاضِدِ صَاحِبِ مِصْرَ
فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْهَا، أَمَرَ صَلَاحُ الدِّينِ بِإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ
لِبَنِي الْعَبَّاسِ بِمِصْرَ، وَفِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ بِالْقَاهِرَةِ،
وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَلَمَّا انْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى الْمَلِكِ
نُورِ الدِّينِ بِالشَّامِ، أَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ مَعَ
ابْنِ أَبِي عَصْرُونَ شِهَابِ الدِّينِ أَبِي الْمَعَالِي الْمُطَهِّرِ،
فَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَعُمِلَتِ الْقِبَابُ وَفَرِحَ
الْمُسْلِمُونَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ قَدْ قُطِعَتْ مِنْ
دِيَارِ مِصْرَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي خِلَافَةِ
الْمُطِيعِ الْعَبَّاسِيِّ حِينَ تَغَلَّبَ الْفَاطِمِيُّونَ عَلَيْهَا أَيَّامَ
الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ بَانِي الْقَاهِرَةِ إِلَى هَذَا الْأَوَانِ، وَذَلِكَ
مِائَتَا سَنَةٍ وَثَمَانِ سِنِينَ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ أَلَّفْتُ
فِي ذَلِكَ كِتَابًا سَمَّيْتُهُ النَّصْرَ عَلَى مِصْرَ
مَوْتُ الْعَاضِدِ آخِرِ خُلَفَاءِ الْعُبَيْدِيِّينَ
وَالْعَاضِدُ فِي اللُّغَةِ الْقَاطِعُ ( لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا ) لَا يُقْطَعُ
وَبِهِ قُطِعَتْ دَوْلَتُهُمْ
وَاسْمُهُ
عَبْدُ اللَّهِ وَيُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْحَافِظِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَنْصِرِ بْنِ الْحَاكِمِ بْنِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُعِزِّ
بْنِ الْمَنْصُورِ بْنِ الْقَائِمِ بْنِ الْمَهْدِيِّ أَوَّلِ مُلُوكِهِمْ، كَانَ
مَوْلِدُ الْعَاضِدِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، فَعَاشَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ
سَنَةً، وَكَانَتْ سِيرَتُهُ مَذْمُومَةً، وَكَانَ شِيعِيًّا خَبِيثًا، لَوْ
أَمْكَنَهُ قَتَلَ كُلَّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَاتَّفَقَ
أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ رَسَمَ
بِالْخُطْبَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ عَنْ مَرْسُومِ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ لَهُ
بِذَلِكَ لِمُعَاتَبَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْجِدِ إِيَّاهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ،
وَكَانَ الْمُسْتَنْجِدُ إِذْ ذَاكَ مُدْنِفًا مَرِيضًا، فَلَمَّا مَاتَ تَوَلَّى
بَعْدَهُ وَلَدُهُ فَكَانَتِ الْخُطْبَةُ بِمِصْرَ لَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْعَاضِدَ
مَرِضَ فَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَحَضَرَ الْمَلِكُ صَلَاحُ
الدِّينِ جِنَازَتَهُ، وَشَهِدَ عَزَاءَهُ، وَبَكَى عَلَيْهِ وَتَأَسَّفَ وَظَهَرَ
مِنْهُ حُزْنٌ، وَقَدْ كَانَ مُطِيعًا لَهُ فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ، وَكَانَ
الْعَاضِدُ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمَّا
مَاتَ اسْتَحْوَذَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى الْقَصْرِ بِمَا فِيهِ وَأَخْرَجَ
مِنْهُ أَهْلَ الْعَاضِدِ إِلَى دَارٍ أَفْرَدَهَا لَهُمْ وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ
الْأَرْزَاقَ وَالنَّفَقَاتِ الْهَنِيَّةَ وَالْعِيشَةَ الرَّضِيَّةَ ; عِوَضًا
عَمَّا فَاتَهُمْ مِنَ الْخِلَافَةِ، وَكَانَ يَتَنَدَّمُ عَلَى إِقَامَةِ
الْخُطْبَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ بِمِصْرَ قَبْلَ وَفَاتِهِ وَهَلَّا صَبَرَ بِهَا
إِلَى بَعْدِ مَمَاتِهِ، وَلَكِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدَرًا مَقْدُورًا وَفِي
الْكِتَابِ مَسْطُورًا، وَمِمَّا نَظَمَهُ الْعِمَادُ فِي ذَلِكَ:
تُوُفِّيَ الْعَاضِدُ الدَّعِيُّ فَمَا يَفْتَحُ ذُو بِدْعَةٍ بِمِصْرَ فَمَا
وَعَصْرُ
فِرْعَوْنِهَا انْقَضَى وَغَدَا
يُوسُفُهَا فِي الْأُمُورِ مُحْتَكِمَا وَانْطَفَأَتْ جَمْرَةُ الْغُوَاةِ وَقَدْ
بَاخَ مِنَ الشِّرْكِ كُلُّ مَا اضْطَرَمَا وَصَارَ شَمْلُ الصَّلَاحِ مُلْتَئِمًا
بِهَا وَعِقْدُ السَّدَادِ مُنْتَظِمَا لَمَّا غَدَا مُعْلَنًا شِعَارُ بَنِي الْ
عَبَّاسِ حَقًّا وَالْبَاطِلُ اكْتَتَمَا وَبَاتَ دَاعِي التَّوْحِيدِ مُنْتَصِرًا
وَمِنْ دُعَاةِ الْإِشْرَاكِ مُنْتَقِمَا وَظَلَّ أَهْلُ الضَّلَالِ فِي ظُلَلٍ
دَاجِيَةٍ مِنْ غَيَابَةٍ وَعَمَى وَارْتَبَكَ الْجَاهِلُونَ فِي ظُلَمٍ
لَمَّا أَضَاءَتْ مَنَابِرُ الْعُلَمَا وَعَادَ بِالْمُسْتَضِيءِ مُمْتَهَدًا
بِنَاءُ حَقٍّ قَدْ كَانَ مُنْهَدِمَا وَاعْتَلَّتِ الدَّوْلَةُ الَّتِي
اضْطُهِدَتْ
وَانْتَصَرَ الدِّينُ بَعْدَمَا اهْتُضِمَا وَاهْتَزَّ عِطْفُ الْإِسْلَامِ مِنْ
جَذَلٍ
وَافْتَرَّ ثَغْرُ الْإِسْلَامِ وَابْتَسَمَا وَاسْتَبْشَرَتْ أَوْجُهُ الْهُدَى
فَرَحًا
فَلْيَقْرَعِ الْكُفْرُ سِنَّهُ نَدَمَا عَادَ حَرِيمُ الْأَعْدَاءِ مُنْتَهَكَ
الْ
حِمَى وَفَيْءُ الطُّغَاةِ مُقْتَسَمَا قُصُورُ أَهْلِ الْقُصُورِ أَخْرَبَهَا
عَامِرُ بَيْتٍ مِنَ الْكَمَالِ سَمَا
أَزْعَجَ
بَعْدَ السُّكُونِ سَاكِنَهَا
وَمَاتَ ذُلًّا وَأَنْفُهُ رَغِمَا
وَمِمَّا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ بِبَغْدَادَ يُبَشَّرُ الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَضِيءَ
بِأَمْرِ اللَّهِ بِالْخُطْبَةِ لَهُ بِمِصْرَ وَأَعْمَالِهَا:
لِيَهْنِكَ يَا مَوْلَايَ فَتْحٌ تَتَابَعَتْ إِلَيْكَ بِهِ خُوصُ الرَّكَائِبِ
تُوجَفُ
أَخَذْتَ بِهِ مِصْرًا وَقَدْ حَالَ دُونَهَا مِنَ الشِّرْكِ بَأْسٌ فِي لَهَى
الْحَقِّ يُقْذَفُ
فَعَادَتْ بِحَمْدِ اللَّهِ بِاسْمِ إِمَامِنَا تَتِيهُ عَلَى كُلِّ الْبِلَادِ
وَتَشْرُفُ
وَلَا غَرْوَ أَنْ ذُلَّتْ لِيُوسُفَ مِصْرُهُ وَكَانَتْ إِلَى عَلْيَائِهِ
تَتَشَوَّفُ
يُشَابِهُهُ خَلْقًا وَخُلْقًا وَعِفَّةً وَكُلٌّ عَنِ الرَّحْمَنِ فِي الْأَرْضِ
يَخْلُفُ
كَشَفْتَ بِهَا عَنْ آلِ هَاشِمِ سُبَّةً وَعَارًا أَبَى إِلَّا بِسَيْفِكَ
يُكْشَفُ
وَقَدْ ذَكَرَهَا الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي الرَّوْضَتَيْنِ
وَهَيَ أَطْوَلُ مِنْ هَذِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا الْفَضَائِلِ الْحُسَيْنَ بْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ تُرْكَانَ حَاجِبَ ابْنِ هُبَيْرَةَ أَنْشَدَهَا لِلْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَنْجِدِ قَبْلَ مَوْتِهِ عِنْدَ تَأْوِيلِ مَنَامٍ رَآهُ بَعْضُ النَّاسِ
لِلْخَلِيفَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَأَرَادَ بِيُوسُفَ الثَّانِي الْخَلِيفَةَ
الْمُسْتَنْجِدَ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَصِيدَةَ فِي حَيَاةِ الْمُسْتَنْجِدِ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ وَلَمْ يَخْطُبْ إِلَّا
لِوَلَدِهِ الْمُسْتَضِيءِ فَجَرَى الْمَقَالُ بِاسْمِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَضِيءُ بِأَمْرِ اللَّهِ إِلَى الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ خِلْعَةً سَنِيَّةً سُنِّيَّةً، وَكَذَلِكَ لِلْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَعَهَا أَعْلَامٌ سُودٌ وَلِوَاءٌ مَعْقُودٌ، فَفُرِّقَتْ عَلَى الْجَوَامِعِ بِالشَّامِ وَبِمِصْرَ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى مَا مَنَحَ مِنَ الْعِزِّ وَالنَّصْرِ. قَالَ ابْنُ أَبِي طَيٍّ فِي كِتَابِهِ: وَلَمَّا تَفَرَّغَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ الْمَلِكُ النَّاصِرُ مِنْ تَوْطِيدِ الْمَمْلَكَةِ وَإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ وَالتَّعْزِيَةِ بِانْقِضَاءِ الدَّوْلَةِ الْعُبَيْدِيَّةِ الزَّاعِمَةِ أَنَّهَا فَاطِمِيَّةٌ، اسْتَعْرَضَ حَوَاصِلَ الْقَصْرَيْنِ فَوَجَدَ فِيهِمَا مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْآلَاتِ وَالثِّيَابِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَفَارِشِ شَيْئًا بَاهِرًا وَأَمْرًا هَائِلًا ; مِنْ ذَلِكَ سَبْعُمِائَةِ يَتِيمَةٍ مِنَ الْجَوْهَرِ وَقَضِيبُ زُمُرُّدٍ طُولُهُ أَكْثَرُ مِنْ شِبْرٍ وَسُمْكُهُ نَحْوُ الْإِبْهَامِ، وَحَبْلٌ مِنْ يَاقُوتٍ، وَوُجِدَ فِيهِ إِبْرِيقٌ عَظِيمٌ مِنَ الْحَجَرِ الْمَانِعِ، وَطَبْلٌ لِلْقُولَنْجِ إِذَا ضَرَبَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَحْصُلُ لَهُ خُرُوجُ رِيحٍ مِنْ دُبُرِهِ، يَنْصَرِفُ عَنْهُ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْقُولَنْجِ، فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ أُمَرَاءِ الْأَكْرَادِ أَخَذَهُ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَدْرِ مَا شَأْنُهُ، فَلَمَّا ضَرَبَ عَلَيْهِ حَبَقَ، فَأَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ عَلَى الْأَرْضِ فَكَسَرَهُ فَبَطَلَ أَمْرُهُ، وَأَمَّا الْقَضِيبُ فَإِنَّ السُّلْطَانَ كَسَرَهُ ثَلَاثَ فِلَقٍ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَقَسَّمَ بَيْنَ الْأُمَرَاءِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ قِطَعِ الْبَلْخَشِ وَالْيَاقُوتِ وَالذَّهَبِ وَالْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ الْبَيْعُ فِيمَا بَقِيَ هُنَالِكَ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ وَأَرْسَلَ
إِلَى
الْخَلِيفَةِ بِبَغْدَادَ مِنْ ذَلِكَ هَدَايَا عَظِيمَةً سَنِيَّةً وَكَذَلِكَ
إِلَى الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ جَانِبًا كَبِيرًا صَالِحًا،
وَكَانَ لَا يَدَّخِرُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ
; بَلْ كَانَ يُعْطِي ذَلِكَ كُلَّهُ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ
وَالْوُزَرَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْأَصْحَابِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ مِمَّا
أَرْسَلَهُ إِلَى نُورِ الدِّينِ ثَلَاثُ قِطَعٍ بَلْخَشٍ ; زِنَةُ الْوَاحِدَةِ
أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ مِثْقَالًا وَالْأُخْرَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِثْقَالًا
وَالثَّالِثَةُ دُونَهُمَا، مَعَ لَآلِئَ كَثِيرَةٍ وَسِتُّونَ أَلْفَ دِينَارٍ،
وَعِطْرٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ حِمَارَةٌ عَتَّابِيَّةٌ
وَفِيلٌ عَظِيمٌ جِدًّا، فَأُرْسِلَتِ الْحِمَارَةُ إِلَى الْخَلِيفَةِ فِي
جُمْلَةِ هَدَايَا وَتُحَفٍ هَائِلَةٍ، قَالَ ابْنُ أَبِي طَيٍّ: وَوَجَدَ
خِزَانَةَ كُتُبٍ لَيْسَ فِي مَدَائِنِ الْإِسْلَامِ لَهَا نَظِيرٌ ; تَشْتَمِلُ
عَلَى أَلْفَيْ أَلْفِ مُجَلَّدٍ قَالَ: وَمِنْ عَجَائِبِ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ
بِهَا أَلْفٌ وَمِائَتَانِ وَعِشْرُونَ نُسْخَةً مِنْ تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ،
كَذَا قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ كَانْتِ الْكُتُبُ قَرِيبَةً مِنْ مِائَةٍ
وَعِشْرِينَ أَلْفَ مُجَلَّدٍ، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ كَانَ فِيهَا مِنَ
الْكُتُبِ بِالْخُطُوطِ الْمَنْسُوبَةِ مِائَةُ أَلْفِ مُجَلَّدٍ، وَقَدْ
تَسَلَّمَهَا الْقَاضِي الْفَاضِلُ فَأَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا مِمَّا
اخْتَارَهُ وَانْتَخَبَهُ، قَالَ وَقَسَمَ الْقَصْرَ الشَّمَالِيَّ بَيْنَ
الْأُمَرَاءِ فَسَكَنُوهُ وَأَسْكَنَ أَبَاهُ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ فِي قَصْرٍ
عَظِيمٍ عَلَى الْخَلِيجِ، يُقَالُ لَهُ: اللُّؤْلُؤَةُ الَّذِي فِيهِ بُسْتَانُ
الْكِافُورِيِّ
وَسَكَنَ أَكْثَرُ الْأُمَرَاءِ فِي دُورِ مَنْ كَانَ يَنْتَمِي إِلَى
الْفَاطِمِيِّينَ، وَلَا يَلْقَى أَحَدٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ
الَّذِينَ كَانُوا بِهَا إِلَّا شَلَّحُوا ثِيَابَهُ، وَنَهَبُوا دَارَهُ، حَتَّى
تَمَزَّقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي الْبِلَادِ وَتَفَرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ،
وَصَارُوا أَيَادِيَ سَبَا، وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِ الْفَاطِمِيِّينَ
مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَكَسْرًا، فَصَارُوا
كَأَمْسِ
الذَّاهِبِ وَكَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ مَلَكَ مِنْهُمُ
الْمَهْدِيُّ، وَكَانَ مِنْ سَلَمْيَةَ حَدَّادًا اسْمُهُ سَعِيدٌ، وَكَانَ
يَهُودِيًّا فَدَخَلَ بِلَادَ الْمَغْرِبِ وَتَسَمَّى بِعُبَيْدِ اللَّهِ،
وَادَّعَى أَنَّهُ شَرِيفٌ عَلَوِيٌّ فَاطِمِيٌّ، وَقَالَ: إِنَّهُ الْمَهْدِيُّ،
وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ سَادَاتِ الْعُلَمَاءِ الْكُبَرَاءِ
كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ سَادَاتِ الْأَئِمَّةِ بَعْدَ
الْأَرْبَعِمِائَةِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَالْمَقْصُودُ
أَنَّ هَذَا الدَّعِيَّ الْكَذَّابَ رَاجَ لَهُ مَا افْتَرَاهُ فِي تِلْكَ
الْبِلَادِ، وَوَازَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ جَهَلَةِ الْعِبَادِ، وَصَارَتْ لَهُ
دَوْلَةٌ وَصَوْلَةٌ، ثُمَّ تَمَكَّنَ إِلَى أَنْ بَنَى مَدِينَةً سَمَّاهَا
الْمَهْدِيَّةَ نِسْبَةً إِلَيْهِ، وَصَارَ مَلِكًا مُطَاعًا، يُظْهِرُ الرَّفْضَ
وَيَنْطَوِي عَلَى الْكُفْرِ الْمَحْضِ
ثُمَّ كَانَ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ الْمَنْصُورُ الْمُعِزُّ
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ دِيَارَ مِصْرَ مِنْهُمْ وَبُنِيَتْ لَهُ
الْقَاهِرَةُ، ثُمَّ الْعَزِيزُ ثُمَّ الْحَاكِمُ ثُمَّ الظَّاهِرُ ثُمَّ
الْمُسْتَنْصِرُ ثُمَّ الْمُسْتَعْلِي ثُمَّ الْآمِرُ ثُمَّ الْحَافِظُ ثُمَّ
الظَّافِرُ ثُمَّ الْفَائِزُ ثُمَّ الْعَاضِدُ، وَهُوَ آخِرُهُمْ، فَجُمْلَتُهُمْ
أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَلِكًا، وَمُدَّتَهُمْ مِائَتَانِ وَنَيِّفٌ وَثَمَانُونَ
سَنَةً، وَكَذَلِكَ عِدَّةُ خُلَفَاءِ بَنَى أُمَيَّةَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَيْضًا
; وَلَكِنْ كَانَتْ مُدَّتُهُمْ نَيِّفًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ نَظَمْتُ
أَسْمَاءَ هَؤُلَاءِ بِأُرْجُوزَةٍ تَابِعَةٍ لِأُرْجُوزَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ
عِنْدَ انْقِضَاءِ دَوْلَتِهِمْ بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدْ كَانَ الْفَاطِمِيُّونَ
أَغْنَىالْخُلَفَاءِ، وَأَكْثَرَهُمْ مَالًا وَكَانُوا مِنْ أَعْتَى الْخُلَفَاءِ
وَأَجْبَرِهِمْ وَأَظْلِمِهِمْ، وَأَنْجَسِ الْمُلُوكِ سِيرَةً وَأَخْبَثِهِمْ
سَرِيرَةً ; ظَهَرَتْ فِي دَوْلَتِهِمُ الْبِدَعُ وَالْمُنْكَرَاتُ، وَكَثُرَ
أَهْلُ الْفَسَادِ،
وَقَلَّ
عِنْدَهُمُ الصَّالِحُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ، وَكَثُرَ بِأَرْضِ الشَّامِ
النُّصَيْرِيَّةُ وَالدَّرْزِيَّةُ وَالْحُشَيْشِيَّةُ، وَتَغَلَّبَ الْفِرِنْجُ
عَلَى سَوَاحِلِ الشَّامِ بِكَمَالِهِ ; حَتَّى أَخَذُوا الْقُدْسَ وَنَابُلُسَ
وَعَجْلُونَ وَالْغُورَ وَبِلَادَ غَزَّةَ وَعَسْقَلَانَ وَكَرَكَ الشَّوْبَكِ
وَطَبَرِيَّةَ وَبَانِيَاسَ وَصُورَ وَعَثْلِيثَ وَصَيْدَا وَبَيْرُوتَ وَعَكًّا
وَصَفَدَ وَطَرَابُلُسَ وَأَنْطَاكِيَةَ وَجَمِيعَ مَا وَالَى ذَلِكَ إِلَى
بِلَادِ آيَاسَ وَسِيسَ، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى بِلَادِ آمِدَ وَالرُّهَا وَرَأْسِ
الْعَيْنِ وَبِلَادٍ شَتَّى غَيْرِ ذَلِكَ، وَقَتَلُوا خَلْقًا لَا يَعْلَمُهُمْ
إِلَّا اللَّهُ، وَسَبَوْا ذَرَارِيَّ الْمُسْلِمِينَ مِنَ النِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، وَكَادُوا أَنْ يَتَغَلَّبُوا
عَلَى دِمَشْقَ وَلَكِنْ صَانَهَا اللَّهُ بِعِنَايَتِهِ وَسَلَّمَهَا بِرِعَايَتِهِ،
وَحِينَ زَالَتْ أَيَّامُهُمْ وَانْتَقَضَ إِبْرَامُهُمْ أَعَادَ اللَّهُ هَذِهِ
الْبِلَادَ كُلَّهَا إِلَى أَهْلِهَا مِنَ السَّادَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَرَدَّ
اللَّهُ الْكَفَرَةَ خَائِبِينَ، وَأَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا فِي الدُّنْيَا
وَيَوْمَ الدِّينِ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ الْمَدْعُوُّ
بِعَرْقَلَةَ
أَصْبَحَ الْمُلْكُ بَعْدَ آلِ عَلِيٍّ مُشْرِقًا بِالْمُلُوكِ مِنْ آلِ شَاذِي
وَغَدَا الشَّرْقُ يَحْسُدُ الْغَرْبَ لِلْقَوْ مِ فَمِصْرٌ تَزْهُو عَلَى
بَغْدَاذِ
مَا حَوَوْهَا إِلَّا بِحَزْمٍ وَعَزْمٍ وَصَلِيلِ الْفُولَاذِ فِي الْفُولَاذِ
لَا
كَفِرْعَوْنَ وَالْعَزِيزِ وَمَنْ كَا نَ بِهَا كَالْخَطِيبِ وَالْأُسْتَاذِ
قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْنِي
بِالْأُسْتَاذِ: كَافُورَ الْإِخْشِيدِيَّ، وَقَوْلُهُ: آلُ عَلِيٍّ يَعْنِي
الْفَاطِمِيِّينَ وَلَمْ يَكُونُوا فَاطِمِيِّينَ ; وَإِنَّمَا كَانُوا
أَدْعِيَاءَ يُنْسَبُونَ إِلَى عُبَيْدٍ، وَكَانَ اسْمُهُ سَعِيدًا، وَكَانَ
يَهُودِيًّا حَدَّادًا بِسَلَمْيَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَلَامِ
الْأَئِمَّةِ فِيهِمْ وَطَعْنِهِمْ فِي نَسَبِهِمْ، قَالَ: وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ
الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي مُخْتَصَرِ تَارِيخِ دِمَشْقَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ
الرَّحِيمِ بْنِ إِلْيَاسَ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الرَّوْضَتَيْنِ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ قَبَائِحِهِمْ، وَمَا كَانُوا يَجْهَرُونَ
بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ مِنَ الْكُفْرِيَّاتِ وَالْمَصَائِبِ
الْمُعَظَّمَاتِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ ذَكَرْتُ أَنَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً
فِي غُبُونِ مَا مَشَقْتُهُ مِنْ سِيرَتِهِمْ فِي السِّنِينِ الْمُتَقَدِّمَةِ
مِمَّا يَسُدُّ الْأَسْمَاعَ وَيُنَفِّرُ الطِّبَاعَ، قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَقَدْ
أَفْرَدْتُ كِتَابًا سَمَّيْتُهُ كَشْفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ بَنُو عُبَيْدٍ مِنَ
الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ وَالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ، وَكَذَا صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِي
الرَّدِّ عَلَيْهِمْ كُتُبًا كَثِيرَةً، مِنْ أَجَلِ مَا وُضِعَ فِي ذَلِكَ:
كِتَابُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ الَّذِي سَمَّاهُ كَشْفَ
الْأَسْرَارِ وَهَتْكَ الْأَسْتَارِ
وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي بَنِي أَيُّوبَ يَمْدَحُهُمْ
عَلَى مَا فَعَلُوهُ
بِدِيَارِ
مِصْرَ:
أَلَسْتُمْ مُزْيَلِي دَوْلَةَ الْكُفْرِ مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ بِمِصْرَ إِنَّ
هَذَا هُوَ الْفَضْلُ
زَنَادِقَةٌ شِيعِيَّةٌ بَاطِنِيَّةٌ مَجُوسٌ وَمَا فِي الصَّالِحِينَ لَهُمْ
أَصْلُ
يُسَرُّونَ كُفْرًا يُظْهِرُونَ تَشَيُّعًا لِيَسْتَتِرُوا شَيْئًا وَعَمَّهُمُ
الْجَهْلُ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَسْقَطَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ
الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ، وَقُرِئَ الْمَنْشُورُ بِذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ
الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ثَالِثَ صَفَرٍ، وَفِيهَا
حَصَلَتْ نُفْرَةٌ بَيْنَ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ وَالْمَلِكِ النَّاصِرِ
صَلَاحِ الدِّينِ، وَذَلِكَ أَنَّ نُورَ الدِّينِ غَزَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بِلَادَ الْفِرِنْجِ فِي السَّوَاحِلِ، فَأَحَلَّ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا،
وَقَرَّرَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْهُ نِقْمَةً وَوَعِيدًا، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى
مُحَاصَرَةِ الْكَرَكِ، وَكَتَبَ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ يَلْتَقِيهِ
بِالْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى بِلَادِ الْكَرَكِ ; لِيَجْتَمِعَا هُنَالِكَ
عَلَى الْمَصَالِحِ فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَتَوَهَّمَ مِنْ
ذَلِكَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ وَخَافَ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْأَمْرِ
غَائِلَةٌ يَزُولُ بِهَا مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ التَّمْكِينِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ
ذَلِكَ رَكِبَ فِي جَيْشِهِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِيَقْصِدَ امْتِثَالَ
الْمَرْسُومِ، فَسَارَ أَيَّامًا ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا مُعْتَلًّا بِقِلَّةِ
الظَّهْرِ، وَالْخَوْفِ عَلَى اخْتِلَالِ الْأُمُورِ إِذَا بَعُدَ عَنْ مِصْرَ
وَاشْتَغَلَ عَنْهَا، وَأَرْسَلَ يَعْتَذِرُ بِذَلِكَ إِلَى السُّلْطَانِ
الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ
عَلَيْهِ، وَعَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَانْتِزَاعِهَا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، وَتَوْلِيَةِ غَيْرِهِ وَلَمَّا بَلَغَ
هَذَا الْخَبَرُ صَلَاحَ الدِّينِ ضَاقَ بِذَلِكَ ذَرْعُهُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ
بِحَضْرَةِ الْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ فَبَادَرَ ابْنُ أَخِيهِ
تَقِيُّ الدِّينِ عَمَرُ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ قَصَدَنَا نُورُ الدِّينِ لَنُقَاتِلَنَّهُ، فَشَتَمَهُ الْأَمِيرُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ وَالِدُ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ وَأَسْكَتَهُ ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ اسْمَعْ مَا أَقُولُ لَكَ: وَاللَّهِ مَا هَاهُنَا أَحَدٌ أَشْفَقُ عَلَيْكَ مِنِّي وَمِنْ خَالِكَ هَذَا، يَعْنِي شِهَابَ الدِّينِ الْحَارِمِيَّ، وَلَوْ رَأَيْنَا نُورَ الدِّينِ لَبَادَرْنَا إِلَيْهِ وَلَقَبَّلْنَا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْأُمَرَاءِ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيَّ أَنْ أَبْعَثَكَ إِلَيْهِ مَعَ نَجَّابٍ لَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَمَرَ مَنْ هُنَالِكَ بِالِانْصِرَافِ وَالذَّهَابِ، فَلَمَّا خَلَا بِابْنِهِ، قَالَ لَهُ: أَمَا لَكَ عَقْلٌ ؟ تَذْكُرُ مِثْلَ هَذَا بِحَضْرَةِ هَؤُلَاءِ، فَيَقُولُ عُمْرُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فَتُقِرُّهُ عَلَيْهِ فَلَا يَبْقَى عِنْدَ نُورِ الدِّينِ أَهَمُّ مِنْ قَصْدِكَ وَقِتَالِكَ، وَلَوْ قَدْ رَآهُ هَؤُلَاءِ لَمْ يَبْقَ مَعَكَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَكِنِ ابْعَثْ إِلَيْهِ، وَتَرَفَّقْ لَهُ، وَتَوَاضَعْ عِنْدَهُ، وَقُلْ لَهُ: وَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى مَجِيءِ مَوْلَانَا ؟ ابْعَثْ إِلَيَّ بِنَجَّابٍ حَتَّى أَجِيءَ مَعَهُ إِلَى بَيْنِ يَدَيْكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ نُورُ الدِّينِ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَانَ قَلْبُهُ لَهُ، وَانْصَرَفَتْ هِمَّتُهُ عَنْهُ، وَاشْتَغَلَ بِغَيْرِهِ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، وَفِيهَا اتَّخَذَ نُورُ الدِّينِ الْحَمَامَ الْهَوَادِيَ ; وَذَلِكَ لِامْتِدَادِ مَمْلَكَتِهِ وَاتِّسَاعِهَا، فَإِنَّهُ مَلَكَ مِنْ حَدِّ النُّوبَةِ إِلَى هَمَذَانَ، لَا يَتَخَلَّلُهَا إِلَّا بِلَادُ الْفِرِنْجِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَكُلُّهُمْ تَحْتَ قَهْرِهِ وَهُدْنَتِهِ، فَلِذَلِكَ اتَّخَذَ فِي كُلِّ قَلْعَةٍ وَحِصْنٍ الْحَمَامَ الَّتِي تَحْمِلُ الرَّسَائِلَ إِلَى الْآفَاقِ فِي أَسْرَعِ مُدَّةٍ وَأَيْسَرِ عُدَّةٍ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ فِيهِنَّ الْقَاضِي الْفَاضِلُ: الْحَمَامُ مَلَائِكَةُ الْمُلُوكِ، وَقَدْ أَطْنَبَ فِي ذَلِكَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ وَأَطْرَبَ وَأَعْجَبَ وَأَغْرَبَ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْخَشَّابِ، قَرَأَ الْقُرْآنَ
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِالنَّحْوِ حَتَّى سَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ
فِيهِمَا، وَشَرَحَ الْجُمَلَ لِعَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيِّ، وَكَانَ
رَجُلًا صَالِحًا مُتَطَوِّعًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ
فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي وَأَدْخَلَنِي
الْجَنَّةَ إِلَّا أَنَّهُ أَعْرَضَ عَنِّي وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَرَكُوا
الْعَمَلَ، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ مُطَّرِحَ الْكُلْفَةِ فِي مَأْكَلِهِ
وَمَلْبَسِهِ، وَكَانَ لَا يُبَالِي بِمَنْ شَرَّقَ أَوْ غَرَّبَ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو الْمُظَفَّرِ الْبَرُّوِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى مُحَمَّدِ
بْنِ
يَحْيَى تِلْمِيذِ الْغَزَالِيِّ وَنَاظَرَ وَوَعَظَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ
يُظْهِرُ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ وَيَتَكَلَّمُ فِي الْحَنَابِلَةِ مَاتَ فِي
رَمَضَانَ مِنْهَا
نَاصِرُ بْنُ الْخُوَيْيِّ الصُّوفِيُّ،
كَانَ يَمْشِي فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ حَافِيًا، تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ
نَصْرُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْفُتُوحِ،
الْإِسْكَنْدَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ قَلَاقِسَ، الشَّاعِرُ بِعَيْذَابَ عَنْ
خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
وَالشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ يَحْيَى بْنُ سَعْدُونَ الْقُرْطُبِيُّ نَزِيلُ
الْمَوْصِلِ الْمُقْرِئُ النَّحْوِيُّ.
قَالَ: وَفِيهَا وُلِدَ الْعَزِيزُ وَالظَّاهِرُ ابْنَا صَلَاحِ الدِّينِ،
وَالْمَنْصُورُ مُحَمَّدُ بْنُ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا أَرْسَلَ نُورُ الدِّينِ إِلَى الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ، الْمُوَفَّقَ
خَالِدَ بْنَ الْقَيْسَرَانِيِّ ; لِيُقَيَّمَ حِسَابَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَلِأَنَّهُ اسْتَقَلَّ الْهَدِيَّةَ الَّتِي أَرْسَلَ إِلَيْهِ مِنْ خَزَائِنِ
الْعَاضِدِ. وَمَقْصُودُهُ أَنْ يُقَرِّرَ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
خَرَاجًا يُحْمَلُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ.
وَفِيهَا حَاصَرَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ الْكَرَكَ وَالشُّوبَكَ، فَضَيَّقَ
عَلَى سَاكِنِيهَا وَخَرَّبَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً مِنْ مُعَامَلَاتِهَا، وَلَكِنْ
لَمْ يَظْفَرْ بِهَا عَامَهُ ذَلِكَ.
وَفِيهَا اجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ بِالشَّامِ ; لِقَصْدِ مَدِينَةِ زُرْعَ،
فَوَصَلُوا إِلَى سُمْكِينَ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ نُورُ الدِّينِ، فَهَرَبُوا
مِنْهُ إِلَى الْفُوَارِ، ثُمَّ إِلَى السَّوَادِ ثُمَّ إِلَى الشِّلَالَةِ،
فَبَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى طَبَرِيَّةَ فَعَاثُوا هُنَالِكَ وَسَبَوْا وَقَتَلُوا
وَغَنِمُوا وَعَادُوا وَقَدْ سَلَّمَهُمُ اللَّهُ، وَرَجَعَتِ الْفِرِنْجُ
خَائِبِينَ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ، وَقَدِ
امْتَدَحَهُ
الْعِمَادُ الْكَاتِبُ بِقَصِيدَةٍ طَنَّانَةٍ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ.
فَتْحُ بِلَادِ النُّوبَةِ
وَفِيهَا أَرْسَلَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ أَخَاهُ شَمْسَ الدَّوْلَةِ
تُورَانْشَاهْ إِلَى بِلَادِ النُّوبَةِ فَافْتَتَحَهَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى
مَعْقِلِهَا، وَهُوَ حِصْنٌ يُقَالُ لَهُ: إِبْرِيمُ. وَلَمَّا رَآهَا بَلَدًا
قَلِيلَةَ الْجَدْوَى لَا يَفِي خَرَاجُهَا بِكُلْفَتِهَا، اسْتَخْلَفَ عَلَى
الْحِصْنِ الْمَذْكُورِ رَجُلًا مِنَ الْأَكْرَادِ يُقَالُ لَهُ: إِبْرَاهِيمُ.
فَجَعَلَهُ مُقَدَّمًا مُقَرَّرًا بِحِصْنِ إِبْرِيمَ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكْرَادِ الْبَطَّالِينَ، فَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَحَسُنَتْ
حَالُهُمْ هُنَالِكَ وَشَنُّوا الْغَارَاتِ وَحَصَلُوا عَلَى الْغَنَائِمِ
وَالْمَسَرَّاتِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْأَمِيرِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ وَالِدِ الْمَلِكِ
صَلَاحِ الدِّينِ، سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ فَمَاتَ وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ فِي
الْوَفَيَاتِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَفِيهَا سَارَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ إِلَى بِلَادِ عِزِّ الدِّينِ قِلْجِ
أَرْسَلَانَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ قِلْجِ أَرْسَلَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ
السَّلْجُوقِيِّ، مَلِكِ الرُّومِ وَافْتَقَدَ فِي طَرِيقِهِ بِلَادَهُ،
وَأَصْلَحَ مَا وَجَدَهُ فِيهَا مِنَ الْخَلَلِ. ثُمَّ سَارَ فَافْتَتَحَ مَرْعَشَ
وَبَهَسْنَا، وَعَمِلَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْحُسْنَى.
قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَ الْفَقِيهُ
الْإِمَامُ الْكَبِيرُ قُطْبُ الدِّينِ
النَّيْسَابُورِيُّ،
وَهُوَ فَقِيهُ عَصْرِهِ وَنَسِيجُ وَحْدِهِ، فَسُرَّ بِهِ نُورُ الدِّينِ
وَأَنْزَلَهُ بِحَلَبَ بِمَدْرَسَةِ بَابِ الْعِرَاقِ، ثُمَّ أَطْلَعَهُ إِلَى
دِمَشْقَ فَدَرَّسَ بِزَاوِيَةِ الْجَامِعِ الْغَرْبِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ
بِالشَّيْخِ نَصْرٍ الْمَقْدِسِيِّ، وَنَزَلَ بِمَدْرَسَةِ الْجَارُوخِيَّةِ،
وَشَرَعَ نُورُ الدِّينِ فِي إِنْشَاءِ مَدْرَسَةٍ كَبِيرَةٍ لِلشَّافِعِيَّةِ،
فَأَدْرَكَهُ الْأَجَلُ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: هِيَ الْعَادِلِيَّةُ
الْكَبِيرَةُ الَّتِي عَمَّرَهَا بَعْدَهُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَيُّوبَ.
وَفِيهَا عَادَ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ أَبِي عَصْرُونَ مِنْ بَغْدَادَ حِينَ سَارَ
بِالْهَنَاءِ بِالْخُطْبَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَمَعَهُ تَوْقِيعٌ مِنَ الْخَلِيفَةِ بِإِقْطَاعِ دَرْبِ هَارُونَ وَصَرِيفِينَ
لِلْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ، وَقَدْ كَانَتَا قَدِيمًا لِأَبِيهِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ،
فَأَرَادَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ أَنْ يَبْنِيَ بِبَغْدَادَ مَدْرَسَةً عَلَى
دِجْلَةَ، وَيَجْعَلَ هَذَيْنَ الْمَكَانَيْنِ وَقْفًا عَلَيْهَا فَعَاقَهُ
الْقَدَرُ عَنْ ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَفِيهَا جَرَتْ بِنَاحِيَةِ
خُوَارِزْمَ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ سُلْطَانْشَاهْ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ
تَقَصَّاهَا ابْنُ الْأَثِيرِ وَابْنُ السَّاعِي.
وَفِيهَا هَزَمَ مَلِكُ الْأَرْمَنِ مَلِيحُ بْنُ لِيُونَ عَسَاكِرَ الرُّومِ،
وَغَنِمَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَبَعَثَ إِلَى نُورِ الدِّينِ بِأَمْوَالٍ
كَثِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ، وَبِثَلَاثِينَ رَأْسًا مِنْ رُءُوسِهِمْ، فَأَرْسَلَهَا
نُورُ الدِّينِ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ
الْعَبَّاسِيِّ.
وَفِيهَا بَعَثَ صَلَاحُ الدِّينِ سَرِيَّةً صُحْبَةَ قَرَاقُوشَ مَمْلُوكِ
تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ شَاهِنْشَاهْ إِلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ،
فَمَلَكُوا طَائِفَةً كَثِيرَةً مِنْهَا مِنْ ذَلِكَ مَدِينَةُ طَرَابُلُسَ
الْغَرْبِ وَعِدَّةَ مُدُنٍ مَعَهَا.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِيلْدِكِزُ التُّرْكِيُّ الْأَتَابِكِيُّ
صَاحِبُ أَذْرَبِيجَانَ وَغَيْرِهَا، كَانَ مَمْلُوكًا لِلْكَمَالِ
السُّمَيْرَمِيِّ وَزِيرِ السُّلْطَانِ مَحْمُودٍ، فَلَمَّا قَتَلَهُ مَحْمُودٌ
حَظِيَ إِيلْدِكِزُ هَذَا عِنْدَ السُّلْطَانِ، ثُمَّ عَلَا أَمْرُهُ وَتَمَكَّنَ
حَتَّى مَلَكَ أَذْرَبِيجَانَ وَبِلَادَ الْجَبَلِ وَغَيْرَهَا، وَكَانَ عَادِلًا
مُنْصِفًا شُجَاعًا مُحْسِنًا إِلَى الرَّعِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ، تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
الْأَمِيرُ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو الشُّكْرِ أَيُّوبُ بْنُ شَاذِيٍّ
وَالِدٌ لِمُلُوكِ بَنِي أَيُّوبَ، الْكُرْدِيُّ الرَّوَادِيُّ - وَهُمْ خِيَارُ
الْأَكْرَادِ - الدُّوِينِيُّ ; نِسْبَةً إِلَى دُوِينَ شَمَالِيَّ بِلَادِ
أَذْرَبِيجَانَ مِمَّا يَلِي الْكَرَجَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَيُّوبُ بْنُ
شَاذِيِّ بْنِ مَرْوَانَ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ مَرْوَانَ بْنَ يَعْقُوبَ،
وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بَعْدَ شَاذِيٍّ أَحَدٌ فِي
نَسَبِهِمْ، وَأَغْرَبَ بَعْضُهُمْ فَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ مَرْوَانَ
بْنِ مُحَمَّدٍ الْجَعْدِيِّ آخِرِ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَهَذَا لَيْسَ
بِصَحِيحٍ وَالَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ ادِّعَاءُ هَذَا هُوَ الْمَلِكُ أَبُو
الْفِدَاءِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ طُغْتِكِينَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِيٍّ وَيُعْرَفُ
بِابْنِ سَيْفِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ مَلَكَ الْيَمَنَ بَعْدَ أَبِيهِ،
فَتَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ وَادَّعَى الْخِلَافَةَ، وَتَلَقَّبَ بِالْإِمَامِ الْهَادِي
بِنُورِ اللَّهِ، الْمُعِزِّ لِدِينِ اللَّهِ، أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَزَعَمَ
أَنَّهُ أُمَوِيٌّ وَمَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ وَأَطْرَوْهُ وَلَهَجُوا بِذَلِكَ،
وَقَالَ هُوَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا:
وَإِنِّي
أَنَا الْهَادِي الْخَلِيفَةُ وَالَّذِي أَدُوسُ رِقَابَ الْغلْبِ بِالضُّمَّرِ
الْجُرْدِ وَلَابُدَّ مِنْ بَغْدَادَ أَطْوِي رُبُوعَهَا
وَأَنْشُرُهَا نَشْرَ السَّمَاسِرِ لِلْبُرْدِ وَأَنْصِبُ أَعْلَامِي عَلَى
شُرُفَاتِهَا
وَأُحْيِي بِهَا مَا كَانَ أَسَّسَهُ جَدِّي وَيُخْطَبُ لِي فَيْهَا عَلَى كُلِّ
مِنْبَرٍ
وَأُظْهِرُ دَينَ اللَّهِ فِي الْغَوْرِ وَالنَّجْدِ
وَهَذَا الِادِّعَاءُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَا أَصْلَ لَهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ،
وَلَا سَنَدَ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَمِيرَ نَجْمَ الدِّينِ كَانَ أَسَنَّ مِنْ أَخِيهِ
أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ، وُلِدَ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ،. وَكَانَ الْأَمِيرُ
نَجْمُ الدِّينِ شُجَاعًا بَاسِلًا يَخْدِمُ الْمَلِكَ مُحَمَّدَ بْنَ
مَلِكْشَاهْ، فَرَأَى فِيهِ شَهَامَةً وَأَمَانَةً، فَوَلَّاهُ قَلْعَةَ تَكْرِيتَ
فَحَكَمَ فِيهَا فَعَدَلَ، فَكَانَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ، ثُمَّ أَقْطَعَهَا
الْمَلِكُ مَسْعُودٌ لِمُجَاهِدِ الدِّينِ بِهْرُوزَ شِحْنَةِ الْعِرَاقِ،
فَاسْتَمَرَّ بِهِ فِيهَا فَاجْتَازَ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ الْمَلِكُ
عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيٌّ مُنْهَزِمًا مِنْ قُرَاجَا السَّاقِي، فَآوَاهُ
وَخَدَمَهُ خِدْمَةً تَامَّةً، وَدَاوَى جِرَاحَهُ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ خَمْسَةَ
عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى بَلَدِهِ الْمَوْصِلِ. ثُمَّ اتَّفَقَ
أَنَّ نَجْمَ الدِّينِ أَيُّوبَ عَاقَبَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا فَقَتَلَهُ،
وَقِيلَ: إِنَّمَا قَتَلَهُ أَخُوهُ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ وَهَذَا الَّذِي
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ قَالَ: رَجَعَتْ جَارِيَةٌ مِنْ بَعْضِ
الْخَدَمِ فَذَكَرَتْ أَنَّهُ تَعَرَّضَ لَهَا إِسْفَهْسَلَارُ الَّذِي بِبَابِ
الْقَلْعَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ، فَطَعْنَهُ
بِحَرْبَةٍ فَقَتَلَهُ فَحَبَسَهُ أَخُوهُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ، وَكَتَبَ
إِلَى مُجَاهِدِ الدِّينِ بِهْرُوزَ يُخْبِرُهُ بِصُورَةِ الْحَالِ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ يَقُولُ: إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَتْ لَهُ عَلَيَّ خِدْمَةٌ - وَكَانَ قَدِ
اسْتَنَابَهُ فِي هَذِهِ الْقَلْعَةِ قَبْلَ أَبِيهِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ -
وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَسْوَءَكُمَا، وَلَكِنِ
انْتَقِلَا
مِنْهَا. فَأَخْرَجَهُمَا بِهْرُوزُ مِنْ قَلْعَتِهِ، وَفِي لَيْلَةِ خُرُوجِهِ
مِنْهَا وُلِدَ لَهُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ. قَالَ:
فَتَشَاءَمْتُ بِهِ ; لِفَقْدِي بَلَدِي وَوَطَنِي، فَقَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ:
قَدْ نَرَى مَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ التَّشَاؤُمِ بِهَذَا الْمَوْلُودِ، فَمَا
يُؤَمِّنُكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَوْلُودُ مَلِكًا عَظِيمًا لَهُ صِيتٌ كَبِيرٌ
؟ فَكَانَ كَذَلِكَ، فَاتَّصَلَا بِخِدْمَةِ الْمَلِكِ عِمَادِ الدِّينِ
زَنْكِيٍّ، ثُمَّ كَانَا عِنْدَ ابْنِهِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ الْمَلِكِ
الْعَادِلِ، وَتَقَدَّمَا عِنْدَهُ وَعَظُمَا، فَاسْتَنَابَهُ الْمَلِكُ نُورُ
الدِّينِ بِبَعْلَبَكَّ، وَلَمَّا سُلِّمَتْ إِلَيْهِ أَقَامَ بِهَا مُدَّةً
طَوِيلَةً، وَوُلِدَ لَهُ بِهَا أَكْثَرُ أَوْلَادِهِ، ثُمَّ كَانَ مِنَ
الْأَمْرِ، مَا ذَكَرْنَاهُ فِي دُخُولِهِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ،
وَصَيْرُورَةِ الْأَمِيرِ نَجْمِ الدِّينِ إِلَى ابْنِهِ بِهَا فِي سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَنَّهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَقَطَ عَنْ
فَرَسِهِ وَمَاتَ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ ابْنُهُ
الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ مُحَاصِرًا لِلْكَرَكِ وَالشَّوْبَكِ، فَلَمَّا
وَصَلَهُ الْخَبَرُ تَأَلَّمَ لِعَدَمِ حُضُورِهِ ذَلِكَ وَأَرْسَلَ يَتَحَرَّقُ
ثُمَّ أَنْشَدَ يَقُولُ:
وَتَخَطَّفَتْهُ يَدُ الرَّدَى فِي غَيْبَتِي هَبْنِي حَضرْتُ فَكُنْتُ مَاذَا
أَصْنَعُ
وَقَدْ كَانَ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ
وَالصَّدَقَةِ، كَرِيمَ النَّفْسِ جَوَادًا مُمَدَّحًا. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ:
وَلَهُ خَانِقَاهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَمَسْجِدٌ وَقَنَاةٌ خَارِجَ
بَابِ النَّصْرِ مِنَ الْقَاهِرَةِ وَقَفَهَا فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَلَهُ
بِدِمَشْقَ خَانِقَاهُ أَيْضًا تُعْرَفُ بِالنَّجْمِيَّةِ. وَقَدِ اسْتَنَابَهُ
ابْنُهُ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ حِينَ خَرَجَ إِلَى الْكَرَكِ
وَحَكَّمَهُ فِي الْخَزَائِنِ، فَكَانَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ وَقَدِ امْتَدَحَهُ
الشُّعَرَاءُ
كَالْعِمَادِ
الْكَاتِبِ وَعَرْقَلَةَ وَعُمَارَةَ الْيَمَنِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وَرَثَوْهُ
حِينَ مَاتَ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ مُسْتَقْصًى الشَّيْخُ
شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي كِتَابِهِ " الرَّوْضَتَيْنِ ".
وَلَمَّا مَاتَ دُفِنَ مَعَ أَخِيهِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ بِدَارِ
الْإِمَارَةِ، ثُمَّ نُقِلَا إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي سَنَةِ
ثَمَانِينَ فَدُفِنَا بِتُرْبَةِ الْوَزِيرِ جَمَالِ الدِّينِ الْمَوْصِلِيِّ،
الَّذِي كَانَ مُؤَاخِيًا لِأَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ.
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ مَلِكُ
النُّحَاةِ الْحَسَنُ بْنُ صَافِيٍّ
يَزْدَنُ التُّرْكِيُّ
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ بَغْدَادَ الْمُتَحَكِّمِينَ فِي الدَّوْلَةِ،
وَلَكِنَّهُ كَانَ رَافِضِيًّا خَبِيثًا مُتَعَصِّبًا لِلرَّوَافِضِ، وَكَانُوا
فِي خِفَارَتِهِ وَجَاهِهِ حَتَّى أَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَدُفِنَ بِدَارِهِ، ثُمَّ نُقِلَ
إِلَى مَقَابِرِ قُرَيْشٍ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَحِينَ مَاتَ فَرِحَ أَهْلُ
السُّنَّةِ بِمَوْتِهِ، وَغَضِبَ الشِّيعَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ بِسَبَبِ ذَلِكَ
فِتْنَةٌ. وَذَكَرَ ابْنُ السَّاعِي فِي " تَارِيخِهِ " أَنَّهُ كَانَ
فِي صِغَرِهِ شَابًّا حَسَنًا مَلِيحًا، قَالَ: وَلِشَيْخِنَا أَبِي الْيُمْنِ
الْكِنْدِيِّ فِيهِ وَقَدْ رَمَدَتْ عَيْنُهُ:
بِكُلِّ صَبَاحٍ لِي وَكُلِّ عَشِيَّةٍ وُقُوفٌ عَلَى أَبْوَابِكُمْ وَسَلَامُ
وَقَدْ قِيلَ لِي يَشْكُو سَقَامًا بِعَيْنِهِ فَهَا نَحْنُ مِنْهَا نَشْتَكِي
وَنُضَامُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": إِنَّهُ سَقَطَ
عِنْدَهُمْ بَرَدٌ كِبَارٌ كَالنَّارَنْجِ، وَمِنْهُ مَا وَزْنُهُ سَبْعَةُ
أَرْطَالٍ، ثُمَّ عَقِبَ ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَظِيمَةٌ بِدِجْلَةَ لَمْ يُعْهَدْ
مِثْلُهَا أَصْلًا، فَخَرَّبَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْعُمْرَانِ وَالْقُرَى
وَالْمَزَارِعِ حَتَّى الْقُبُورِ، وَخَرَجَ النَّاسُ إِلَى الصَّحْرَاءِ،
وَكَثُرَ الضَّجِيجُ وَالِابْتِهَالُ فِي الدُّعَاءِ حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ، وَتَنَاقَصَتْ زِيَادَةُ الْمَاءِ فَلِلَّهُ الْحَمْدُ رَبِّ الْأَرْضِ
وَالسَّمَاءِ، وَأَمَّا الْمَوْصِلُ فَإِنَّهُ كَانَ بِهَا نَحْوٌ مِمَّا كَانَ
بِبَغْدَادَ وَأَكْثَرُ، وَانْهَدَمَ بِالْمَاءِ نَحْوٌ مِنْ أَلْفَيْ دَارٍ ;
وَاسْتُهْدِمَ بِسَبَبِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَهَلَكَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَكَذَلِكَ الْفُرَاتُ زَادَتْ زِيَادَةً عَظِيمَةً أَيْضًا، فَهَلَكَ
بِسَبَبِهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرَى، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِالْعِرَاقِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ; وَوَقَعَ الْوَبَاءُ فِي
الْغَنَمِ، وَأُصِيبَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ أَكَلَ مِنْهَا بِالْعِرَاقِ
وَغَيْرِهَا.
قَالَ ابْنُ السَّاعِي وَفِي رَمَضَانَ تَوَالَتِ الْأَمْطَارُ بِدِيَارِ بَكْرٍ
وَالْمَوْصِلِ ; أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَمْ يَرَوُا الشَّمْسَ فِيهَا
سِوَى مَرَّتَيْنِ ; لَحْظَتَيْنِ يَسِيرَتَيْنِ، فَتَهَدَّمَتِ الْبُيُوتُ
وَالْمَسَاكِنُ عَلَى أَهْلِهَا، وَزَادَتْ دِجْلَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ زِيَادَةً
عَظِيمَةً، وَغَرِقَتْ كَثِيرٌ مِنْ مَسَاكِنِ بَغْدَادَ وَالْمَوْصِلِ، ثُمَّ
تَنَاقَصَ الْمَاءُ بِإِذْنِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَجَبٍ وَصَلَ ابْنُ الْهَرَوِيِّ مِنْ نُورِ الدِّينِ
وَمَعَهُ ثِيَابٌ مِصْرِيَّةٌ، وَحِمَارَةٌ مُلَوَّنَةٌ ; جِلْدُهَا مُخَطَّطٌ
مِثْلُ الثَّوْبِ الْعِتَّابِيِّ. قَالَ: وَعُزِلَ ابْنُ الشَّاشِيِّ مِنْ
تَدْرِيسِ النِّظَامِيَّةِ وَوَلِيَ أَبُو الْخَيْرِ الْقَزْوِينِيُّ. قَالَ:
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ اعْتُقِلَ الْمُجِيرُ الْفَقِيهُ وَنُسِبَ إِلَى
الزَّنْدَقَةِ وَالِانْحِلَالِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، ثُمَّ تَعَصَّبَ
لَهُ أُنَاسٌ وَزَكَّوْهُ فَأُخْرِجَ. وَذُكِرَ أَنَّهُ وَعَظَ بِالْحَرْبِيَّةِ
ذَاتَ يَوْمٍ فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا.
قَالَ ابْنُ السَّاعِي وَفِيهَا سَقَطَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضِيءِ مِنْ قُبَّةٍ شَاهِقَةٍ إِلَى الْأَرْضِ فَسَلِمَ
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَلَكِنْ نَبَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَسَاعِدُ يَدِهِ
الْيُسْرَى، وَانْسَلَخَ شَيْءٌ مِنْ أَنْفِهِ، وَكَانَ مَعَهُ خَادِمٌ أَسْوَدُ
يُقَالُ لَهُ: نَجَاحٌ. فَلَمَّا رَأَى سَيِّدَهُ قَدْ سَقَطَ أَلْقَى هُوَ
نَفْسَهُ أَيْضًا، وَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ. فَسَلِمَ
أَيْضًا، فَلَمَّا صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ النَّاصِرِ -
وَهُوَ هَذَا الَّذِي قَدْ سَقَطَ - لَمْ يَنْسَهَا لِنَجَاحٍ هَذَا، فَحَكَّمَهُ
فِي الدَّوْلَةِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا سَارَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ نَحْوَ بِلَادِ الرُّومِ وَفِي
خِدْمَتِهِ الْجَيْشُ وَمَلِكُ الْأَرْمَنِ وَصَاحِبُ مَلَطْيَةَ وَخَلْقٌ مِنَ
الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، وَافْتَتَحَ عِدَّةً مِنْ حُصُونِهِمْ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ، وَحَاصَرَ قَلْعَةَ الرُّومِ فَصَالَحَهُ صَاحِبُهَا بِخَمْسِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ ; جِزْيَةً، ثُمَّ عَادَ
إِلَى
حَلَبَ وَقَدْ وَجَدَ النَّجَاحَ فِي كُلِّ مَا طَلَبَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى
دِمَشْقَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مَسْرُورًا مَحْبُورًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ فَتْحُ بِلَادِ الْيَمَنِ لِلْمَلِكِ صَلَاحِ
الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ
بِهَا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ النَّبِيِّ بْنُ مَهْدِيٍّ. قَدْ تَغَلَّبَ
عَلَيْهَا وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ وَتَسَمَّى بِالْإِمَامِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ
سَيَمْلِكُ الْأَرْضَ كُلَّهَا، وَقَدْ كَانَ أَخُوهُ عَلِيُّ بْنُ مَهْدِيٍّ قَدْ
تَغَلَّبَ قَبْلَهُ عَلَى الْيَمَنِ، وَانْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِي أَهْلِ زَبِيدَ
وَمَاتَ سَنَةَ سِتِّينَ فَمَلَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ هَذَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا
كَانَ سَيِّئَ السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ، فَعَزَمَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ،
لِكَثْرَةِ جَيْشِهِ وَقُوَّتِهِ عَلَى إِرْسَالِ سَرِيَّةٍ إِلَيْهِ، وَكَانَ
أَخُوهُ الْأَكْبَرُ شَمْسُ الدَّوْلَةِ شُجَاعًا مَهِيبًا بَطَلًا، وَكَانَ
مِمَّنْ يُجَالِسُ عُمَارَةَ الْيَمَنِيَّ الشَّاعِرَ، فَكَانَ يَنْعَتُ لَهُ
بِلَادَ الْيَمَنِ وَحُسْنَهَا وَكَثْرَةَ خَيْرِهَا، فَحَدَاهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ
خَرَجَ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَوَرَدَ
مَكَّةَ - شَرَّفَهَا اللَّهُ - فَاعْتَمَرَ بِهَا ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى
زَبِيدَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبَدُ النَّبِيِّ فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ
تُورَانْشَاهْ وَأَسَرَهُ وَأَسَرَ زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ، وَكَانَتْ ذَاتَ
أَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ فَاسْتَقَرَّهَا عَلَى أَشْيَاءَ نَفِيسَةٍ، وَذَخَائِرَ
جَلِيلَةٍ، وَنَهَبَ الْجَيْشُ زَبِيدَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَدَنَ فَقَاتَلَهُ
يَاسِرٌ مَلِكُهَا فَهَزَمَهُ تُورَانْشَاهْ وَأَسَرَهُ، وَأَخَذَ الْبَلَدَ
بِيَسِيرٍ مِنَ الْحِصَارِ، وَمَنَعَ الْجَيْشَ مِنْ نَهْبِهَا، وَقَالَ: مَا
جِئْنَا لِنُخَرِّبَ الْبِلَادَ وَإِنَّمَا جِئْنَا لِعِمَارَتِهَا وَمُلْكِهَا.
ثُمَّ سَارَ فِي النَّاسِ سِيرَةً حَسَنَةً عَادِلَةً فَأَحَبُّوهُ، ثُمَّ
تَسَلَّمَ بَقِيَّةَ الْحُصُونِ وَالْمَعَاقِلِ
وَالْمَخَالِيفَ
وَاسْتَوْسَقَ لَهُ مُلْكُ الْيَمَنِ بِحَذَافِيرِهِ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ
بِأَفْلَاذِ كَبِدِهِ وَمَطَامِيرِهِ، وَخَطَبَ فِيهَا لِلْخَلِيفَةِ
الْعَبَّاسِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ الْمُسْتَضِيءِ، وَقَتَلَ الدَّعِيَّ
الْمُسَمَّى بِعَبْدِ النَّبِيِّ، وَصَفَتِ الْيَمَنُ مِنْ أَكْدَارِهَا،
وَعَادَتْ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ مِضْمَارِهَا، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى أَخِيهِ
الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ يُخْبِرُهُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ،
وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ فَكَتَبَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ بِذَلِكَ إِلَى نُورِ
الدِّينِ فَأَرْسَلَ نُورُ الدِّينِ بِذَلِكَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُبَشِّرُهُ
بِفَتْحِ الْيَمَنِ وَالْخُطْبَةِ بِهَا لَهُ.
وَفِيهَا خَرَجَ الْمُوَفَّقُ خَالِدُ بْنُ الْقَيْسَرَانِيِّ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدْ أَقَامَ بِهَا الْمَلِكُ النَّاصِرُ حِسَابَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَمَا خَرَجَ مِنَ الْحَوَاصِلِ حَسْبَمَا رَسَمَ بِهِ الْمَلِكُ
نُورُ الدِّينِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ كَادَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ - لَمَّا
جَاءَتْهُ الرِّسَالَةُ بِذَلِكَ - يُظْهِرُ شَقَّ الْعَصَا وَيُكَاشِرُ
بِالْمُخَالَفَةِ وَالْإِبَاءِ، وَلَكِنْ عَادَ إِلَى طِبَاعِهِ الْحَسَنَةِ
وَأَظْهَرَ الطَّاعَةَ الْمُسْتَحْسَنَةَ، وَأَمَرَ بِكِتَابَةِ الْحِسَابِ
وَتَحْرِيرِ الْكِتَابِ، فَامْتَثَلَ ذَلِكَ جَمَاعَةُ الدَّوَاوِينِ وَالْحِسَابِ
وَالْكُتَّابُ وَبَعَثَ مَعَ ابْنَ الْقَيْسَرَانِيِّ بِهَدِيَّةٍ سَنِيَّةٍ،
وَتُحَفٍ هَائِلَةٍ هَنِيَّةٍ ; فَمِنْ ذَلِكَ خَمْسُ خَتَمَاتٍ شَرِيفَاتٍ
مُغَطَّاتٍ بِخُطُوطٍ مُسْتَوَيَاتٍ، وَمِائَةُ عِقْدٍ مِنَ الْجَوَاهِرِ
النَّفِيسَاتِ، خَارِجًا مِنْ قِطَعِ الْبَلْخَشِ وَالْيَاقُوتِ وَالْفُصُوصِ
وَالثِّيَابِ الْفَاخِرَاتِ، وَالْأَوَانِي وَالْأَبَارِيقِ وَالصِّحَافِ
الذَّهَبِيَّاتِ وَالْفِضِّيَّاتِ، وَالْخُيُولِ وَالْغِلْمَانِ وَالْجَوَارِي
الْحِسَانِ وَالْحَسَنَاتِ، وَمِنَ الذَّهَبِ عَشَرَةُ صَنَادِيقَ مُقَفَّلَاتٍ
مَخْتُومَاتٍ، مِمَّا لَا يُدْرَى كَمْ عِدَّةُ مَا فِيهَا مِنْ مِئِينَ أُلُوفٍ
مِنَ الذَّهَبِ الْمِصْرِيِّ
الْمُعَدِّ
لِلنَّفَقَاتِ. فَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لَمْ
تَصِلْ إِلَى الشَّامِ حَتَّى كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ رَحِمَهُ
اللَّهُ، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ مَنْ رَدَّهَا عَلَيْهِ وَأَعَادَهَا
إِلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ مِنْهَا مَا عُدِيَ عَلَيْهِ وَعَلِمَ بِذَلِكَ حِينَ
وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ.
مَقْتَلُ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ زَيْدَانَ الْحَكَمِيِّ
مِنْ قَحْطَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُلَقَّبُ بِنَجْمِ الدِّينِ الْيَمَنِيِّ
الشَّاعِرُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ. وَسَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ
جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِ الدَّوْلَةِ الْفَاطِمِيَّةِ، فَكَتَبُوا إِلَى
الْفِرِنْجِ يَسْتَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِمْ، وَعَيَّنُوا خَلِيفَةً مِنْ ذُرِّيَّةِ
الْفَاطِمِيِّينَ وَوَزِيرًا وَأُمَرَاءَ، وَذَلِكَ فِي غَيْبَةِ السُّلْطَانِ
بِبِلَادِ الْكَرَكِ ثُمَّ اتَّفَقَ مَجِيئُهُ فَحَرَّضَ عُمَارَةُ الْيَمَنِيُّ
شَمْسَ الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْيَمَنِ ; لِيَضْعُفَ
بِذَلِكَ الْجَيْشُ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْفِرِنْجِ إِذَا قَدِمُوا لِنُصْرَةِ
الْفَاطِمِيِّينَ، فَخَرَجَ تُورَانْشَاهْ وَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ عُمَارَةُ، بَلْ
أَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ يُفِيضُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَيُدَاخِلُ
الْمُتَكَلِّمِينَ فِيهِ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الدُّعَاةِ إِلَيْهِ
وَالْمُحَرِّضِينَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَدْخَلُوا مَعَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ مَنْ
يُنْسَبُ إِلَى الْمَلِكِ النَّاصِرِ ; وَذَلِكَ مِنْ قِلَّةِ عُقُولِهِمْ
وَكَثْرَةِ جَهْلِهِمْ فَخَانَهُمْ، أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِ ; وَهُوَ
الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ نَجَا الْوَاعِظُ، جَاءَ إِلَى
السُّلْطَانِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا تَمَالَأَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ، وَبِمَا انْتَهَى
أَمْرُهُمْ إِلَيْهِ، فَأَطْلَقَ لَهُ السُّلْطَانُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً،
وَأَفَاضَ عَلَيْهِ حُلَلًا جَمِيلَةً، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُمُ السُّلْطَانُ
وَاحِدًا وَاحِدًا فَقَرَّرَهُمْ فَأَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ، فَاعْتَقَلَهُمْ
ثُمَّ اسْتَفْتَى الْفُقَهَاءَ فِي
أَمْرِهِمْ
فَأَفْتَوْهُ بِقَتْلِهِمْ وَتَبْدِيدِ شَمْلِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ
بِصَلْبِ رُءُوسِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ، دُونَ أَتْبَاعِهِمْ وَغِلْمَانِهِمْ،
وَأَمَرَ بِنَفْيِ مَنْ بَقِيَ مِنْ جَيْشِ الْعُبَيْدِيِّينَ إِلَى أَقْصَى
الْبِلَادِ، وَأَفْرَدَ ذَرِّيَّةَ الْعَاضِدِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ فِي دَارٍ، فَلَا
يَصِلُ إِلَيْهِمْ إِصْلَاحٌ وَلَا إِفْسَادٌ وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ مِنَ
الْأَرْزَاقِ كِفَايَتَهُمْ، وَقَدْ كَانَ عُمَارَةُ مُعَادِيًا لِلْقَاضِي
الْفَاضِلِ، فَلَمَّا أُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ، قَامَ الْقَاضِي
الْفَاضِلُ فَاجْتَمَعَ بِالسُّلْطَانِ لِيَشْفَعَ فِيهِ عِنْدَهُ فَتَوَهَّمَ عُمَارَةُ
أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِيهِ، فَقَالَ: يَا مَوْلَانَا السُّلْطَانُ لَا تَسْمَعْ
مِنْهُ. فَغَضِبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ وَخَرَجَ مِنَ الْقَصْرِ، فَقَالَ لَهُ
السُّلْطَانُ: إِنَّهُ كَانَ قَدْ شَفَعَ فِيكَ. فَنَدِمَ نَدَمًا عَظِيمًا.
وَلَمَّا ذُهِبَ بِهِ لِيُصْلَبَ مَرَّ بِدَارِ الْقَاضِي فَطَلَبَهُ فَتَغَيَّبَ
عَنْهُ فَأَنْشَدَ:
عَبْدُ الرَّحِيمِ قَدِ احْتَجَبْ إِنَّ الْخَلَاصَ هُوَ الْعَجَبْ
قَالَ ابْنُ أَبِي طَيٍّ: وَكَانَ الَّذِينَ صُلِبُوا ; الْمُفَضَّلَ بْنَ
الْقَاضِي وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
كَامِلٍ قَاضِي قُضَاةِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ زَمَنَ الْفَاطِمِيِّينَ
وَيُلَقَّبُ بِفَخْرِ الْأُمَنَاءِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صُلِبَ ; فِيمَا قَالَهُ
الْعِمَادُ الْكَاتِبُ، وَقَدْ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى فَضِيلَةٍ وَأَدَبٍ وَلَهُ
شِعْرٌ رَائِقٌ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي غُلَامٍ رَفَّاءٍ:
يَا رَافِيًا خَرْقَ كُلِّ ثَوْبٍ وَيَا رَشًا حُبُّهُ اعْتِقَادِي
عَسَى
بِكَفِّ الْوِصَالِ تَرْفُو مَا مَزَّقَ الْهَجْرُ مِنْ فُؤَادِي
وَابْنَ عَبْدِ الْقَوِيٍّ دَاعَيَ الدُّعَاةِ وَكَانَ يَعْلَمُ بِدَفَائِنِ
الْقَصْرِ فَعُوقِبَ لِيُعْلِمَ بِهَا، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَمَاتَ
وَانْدَرَسَتْ. وَالْعُورِيسَ الَّذِي كَانَ نَاظِرَ الدِّيوَانِ وَتَوَلَّى مَعَ
ذَلِكَ الْقَضَاءَ. وَشُبْرُمَا كَاتِبَ السِّرِّ. وَعَبْدَ الصَّمَدِ الْقَشَّةَ
أَحَدَ أُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ. وَنَجَاحًا الْحَمَّامِيَّ وَرَجُلًا
مُنَجِّمًا نَصْرَانِيًّا أَرْمَنِيًّا كَانَ قَدْ بَشَّرَهُمْ بِأَنَّ هَذَا
الْأَمْرَ يَتِمُّ بِعِلْمِ النُّجُومِ.
وَعُمَارَةَ الْيَمَنِيَّ الشَّاعِرَ
وَقَدْ كَانَ شَاعِرًا مُطَبِّقًا بَلِيغًا فَصِيحًا لَا يُلْحَقُ شَأْوُهُ فِي
هَذَا الشَّأْنِ، وَلَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي "
طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " ; فَإِنَّهُ كَانَ يَشْتَغِلُ بِمَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ، وَلَهُ تَصْنِيفٌ فِي الْفَرَائِضِ وَكِتَابُ " الْوُزَرَاءِ
الْفَاطِمِيِّينَ " وَكِتَابٌ جَمَعَ فِيهِ سِيرَةَ نَفِيسَةَ الَّتِي كَانَ
يَعْتَقِدُهَا عَوَّامُّ مِصْرَ، وَقَدْ كَانَ أَدِيبًا فَاضِلًا فَقِيهًا
فَصِيحًا، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى مُوَالَاةِ الْفَاطِمِيِّينَ،
وَلَهُ فِيهِمْ وَفِي وُزَرَائِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ مَدَائِحُ كَثِيرَةٌ جِدًّا،
وَأَقَلُّ مَا نُسِبَ إِلَى الرَّفْضِ وَقَدِ اتُّهِمَ بَاطِنُهُ بِالْكُفْرِ
الْمَحْضِ.
وَذَكَرَ الْعِمَادُ فِي " الْخَرِيدَةِ " أَنَّهُ قَالَ فِي
قَصِيدَتِهِ الَّتِي يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا:
الْعِلْمُ مُذْ كَانَ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَلَمِ وَشَفْرَةُ السَّيْفِ تَسْتَغْنِي
عَنِ الْقَلَمِ
وَهِيَ طَوِيلَةٌ جِدًّا فِيهَا كُفْرٌ وَزَنْدَقَةٌ كَثِيرَةٌ، قَالَ فِيهَا:
قَدْ كَانَ أَوَّلُ هَذَا الدِّينِ مِنْ رَجُلٍ سَعَى إِلَى أَنْ دَعَوْهُ سَيِّدَ
الْأُمَمِ
قَالَ
الْعِمَادُ: فَأَفْتَى عُلَمَاءُ مِصْرَ بِقَتْلِهِ، وَحَرَّضُوا السُّلْطَانَ
عَلَى الْمُثْلَةِ بِمِثْلِهِ. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَيْتُ
مَعْمُولًا عَلَيْهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ السَّاعِي
شَيْئًا مِنْ رَقِيقِ شِعْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ يَمْدَحُ بَعْضَ
الْمُلُوكِ:
مَلِكٌ إِذَا قَابَلْتُ بِشْرَ جَبِينِهِ فَارَقْتُهُ وَالْبِشْرُ فَوْقَ جَبِينِي
وَإِذَا لَثَمْتُ يَمِينَهُ وَخَرَجْتُ مِنْ أَبْوَابِهِ لَثَمَ الْمُلُوكُ
يَمِينِي
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ يَتَغَزَّلُ:
لِي فِي هَوَى الرَّشَأِ الْعُذْرِيِّ أَعْذَارُ لَمْ يَبْقَ لِي مُذْ أَقَرَّ
الدَّمْعُ إِنْكَارُ
لِي فِي الْقُدُودِ وَفِي لَثْمِ الْخُدُودِ وَفِي ضَمِّ النُّهُودِ لُبَانَاتٌ
وَأَوْطَارُ
هَذَا اخْتِيَارِي فَوَافِقْ إِنْ رَضِيتَ بِهِ أَوْ لَا فَدَعْنِي لِمَا أَهْوَى
وَأَخْتَارُ
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ تَاجُ الدَّيْنِ الْكِنْدِيُّ فِي عُمَارَةَ الْيَمَنِيِّ
حِينَ صُلِبَ:
عُمَارَةُ فِي الْإِسْلَامِ أَبْدَى خِيَانَةً وَبَايَعَ فِيهَا بَيْعَةً
وَصَلِيبَا
وَأَمْسَى شَرِيكَ الشِّرْكِ فِي بُغْضِ أَحْمَدٍ فَأَصْبَحَ فِي حُبِّ الصَّلِيبِ
صَلِيبَا
وَكَانَ خَبِيثَ الْمُلْتَقَى إِنْ عَجَمْتَهُ تَجِدْ مِنْهُ عُودًا فِي
النِّفَاقِ صَلِيبَا
سَيَلْقَى غَدًا مَا كَانَ يَسْعَى لِأَجْلِهِ وَيُسْقَى صَدِيدًا فِي لَظًى
وَصَلِيبَا
قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ: فَالْأَوَّلُ صَلِيبُ النَّصَارَى وَالثَّانِي
بِمَعْنَى
مَصْلُوبٍ
وَالثَّالِثُ بِمَعْنَى الْقَوِيِّ، وَالرَّابِعُ وَدَكُ الْعِظَامِ.
وَلَمَّا صَلَبَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ هَؤُلَاءِ - وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ
السَّبْتِ الثَّانِي مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَيْنَ
الْقَصْرَيْنِ مِنَ الْقَاهِرَةِ - كَتَبَ إِلَى الْمَلِكِنُورِ الدِّينِ
يُعْلِمُهُ بِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ وَمَا أَوْقَعَ بِهِمْ مِنَ الْخِزْيِ
وَالنَّكَالِ، قَالَ الْعِمَادُ: فَوَصَلَ الْكِتَابُ بِذَلِكَ يَوْمَ تُوُفِّيَ
الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَذَلِكَ قَتَلَ الْمَلِكُ
صَلَاحُ الدِّينِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ يُقَالُ لَهُ:
قُدَيْدٌ الْقَفَّاصُ. قَدِ افْتَتَنَ بِهِ النَّاسُ وَجَعَلُوا لَهُ جُزْءًا مِنْ
أَكْسَابِهِمْ حَتَّى النِّسَاءُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ فَأُحِيطَ بِهِ فَأَرَادَ
الْخَلَاصَ، وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ. فَقُتِلَ أُسْوَةً بِمَنْ سَلَفَ، وَلَقَدْ
كَانَ بِئْسَ الْخَلَفُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ
وَالْعِصْمَةُ.
وَمِمَّا وُجِدَ مِنْ شِعْرِ عُمَارَةَ يَرْثِي الْعَاضِدَ وَدَوْلَتَهُ
وَأَيَّامَهُ:
أَسَفِي عَلَى زَمَنِ الْإِمَامِ الْعَاضِدِ أَسَفُ الْعَقِيمِ عَلَى فِرَاقِ
الْوَاحِدِ
جَالَسْتُ مِنْ وُزَرَائِهِ وَصَحِبْتُ مِنْ أُمَرَائِهِ أَهْلَ الثَّنَاءِ
الَمَاجِدِ
لَهْفِي عَلَى حُجُرَاتِ قَصْرِكَ إِذْ خَلَتْ يَا ابْنَ النَّبِيِّ مِنَ
ازْدِحَامِ الْوَافِدِ
وَعَلَى انْفِرَادِكَ مِنْ عَسَاكِرِكَ الَّذِي كَانُوا كَأَمْوَاجِ الْخِضَمِّ
الرَّاكِدِ
قَلَّدْتَ مُؤْتَمِنَ الْخِلَافَةِ أَمْرَهُمْ فَكَبَا وَقَصَّرَ عَنْ صَلَاحِ
الْفَاسِدِ
فَعَسَى اللَّيَالِي أَنْ تَرُدَّ عَلَيْكُمُ مَا عَوَّدَتْكُمْ مِنْ جَمِيلِ
عَوَائِدِ
وَلَهُ
مِنْ جُمْلَةِ قَصِيدَةٍ:
يَا عَاذِلِي فِي هَوَى أَبْنَاءِ فَاطِمَةٍ لَكَ الْمَلَامَةُ إِنْ قَصَّرْتَ فِي
عَذْلِي
بِاللَّهِ زُرْ سَاحَةَ الْقَصْرَيْنِ وَابْكِ مَعِي عَلَيْهِمَا لَا عَلَى
صِفِّينَ وَالْجَمَلِ
وَقُلْ لِأَهْلِهِمَا وَاللَّهِ مَا الْتَحَمَتْ فَيكُمْ قُرُوحِي وَلَا جُرْحِي
بِمُنْدَمِلِ
مَاذَا تَرَى كَانَتِ الْإِفْرِنْجُ فَاعِلَةً فِي نَسْلِ آلِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلِي
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ فِي " الرَّوْضَتَيْنِ " مِنْ
أَشْعَارِ عُمَارَةِ الْيَمَنِيِّ وَمَدَائِحِهِ فِي الْخُلَفَاءِ
الْفَاطِمِيِّينَ وَذَوِيهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَذَا الْقَاضِي ابْنُ
خَلِّكَانَ
ابْنُ قُرْقُولَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ بَادِيسَ ابْنِ الْقَائِدِ الْحَمْزِيِّ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ قُرْقُولَ
الْأَنْدَلُسِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ " مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ " الَّذِي وَضَعَهُ عَلَى
مِثَالِ كِتَابِ " مَشَارِقِ الْأَنْوَارِ " لِلْقَاضِي عِيَاضٍ،
وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ بِلَادِهِ وَفُضَلَائِهِمُ الْمَشْهُورِينَ، مَاتَ
فَجْأَةً بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ سَادِسَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً ; قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ
فَصْلٌ
فِي وَفَاةِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ زَنْكِيِّ بْنِ آقْ
سُنْقُرَ التُّرْكِيِّ السَّلْجُوقِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَذِكْرُ شَيْءٍ
مِنْ مَسِيرَتِهِ الْعَادِلَةِ وَأَيَّامِهِ الْكَامِلَةِ
هُوَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ نُورُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ
الْمَلِكِ الْأَتَابِكِ قَسِيمِ الدَّوْلَةِ عِمَادِ الدِّينِ أَبِي سَعِيدٍ
زَنْكِيٍّ، الْمُلَقَّبِ بِالشَّهِيدِ بْنِ الْمَلِكِ آقْ سُنْقُرَ الْأَتَابِكِ
الْمُلَقَّبِ بِقَسِيمِ الدَّوْلَةِ أَيْضًا التُّرْكِيُّ السَّلْجُوقِيُّ
مَوْلَاهُمْ، وُلِدَ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ السَّابِعَ
عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ بِحَلَبَ، وَنَشَأَ
فِي كَفَالَةِ وَالِدِهِ صَاحِبِ حَلَبَ وَالْمَوْصِلِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ
الْبُلْدَانِ الْكَثِيرَةِ وَتَعَلَّمَ الْفُرُوسِيَّةَ وَالرَّمْيَ، وَكَانَ
شَهْمًا شُجَاعًا ذَا هِمَّةٍ عَالِيَةٍ وَقَصْدٍ صَالِحٍ وَحُرْمَةٍ وَافِرَةٍ
وَدِيَانَةٍ مَتِينَةٍ، فَلَمَّا قُتِلَ أَبُوهُ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ
وَهُوَ مُحَاصِرٌ جَعْبَرَ كَمَا ذَكَرْنَا صَارَ الْمُلْكُ بِحَلَبَ إِلَى
ابْنِهِ هَذَا وَأَعْطَاهُ أَخُوهُ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيٌّ الْمَوْصِلَ كَمَا
تَقَدَّمَ.
ثُمَّ افْتَتَحَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ دِمَشْقَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ
فَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا وَبَنَى لَهُمُ الْمَدَارِسَ وَالْمَسَاجِدَ
وَالرُّبُطَ وَوَسَّعَ الطُّرُقَ وَالْأَسْوَاقَ، وَوَضَعَ الْمُكُوسَ بِدَارِ
الْبِطِّيخِ وَالْغَنَمِ وَالْعَرْصَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ حَنَفِيَّ
الْمَذْهَبِ يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَالْفُقَرَاءَ وَيُكْرِمُهُمْ وَيَحْتَرِمُهُمْ
وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، وَيَقُومُ فِي أَحْكَامِهِ
بِالْمَعْدِلَةِ
الْحَسَنَةِ وَاتِّبَاعِ الشَّرْعِ الْمُطَهَّرِ وَيَعْقِدُ مَجَالِسَ الْعَدْلِ
وَيَتَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ وَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ الْقَاضِي وَالْفُقَهَاءُ
وَالْمُفْتُونَ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ، وَيَجْلِسُ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ
بِالْمَسْجِدِ الْمُعَلَّقِ الَّذِي بِالْكُشْكِ ; لِيَصِلَ إِلَيْهِ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَحَاطَ السُّورَ عَلَى
حَارَةِ الْيَهُودِ، وَكَانَ خَرَابًا وَأَغْلَقَ بَابَ كَيْسَانَ وَفَتَحَ بَابَ
الْفَرَجِ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ هُنَاكَ بَابٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَظْهَرَ
بِبِلَادِهِ السُّنَّةَ وَأَمَاتَ الْبِدْعَةَ، وَأَمَرَ بِالتَّأْذِينِ بِحَيِّ
عَلَى الصَّلَاةِ، حَيِّ عَلَى الْفَلَاحِ، وَلَمْ يَكُنْ يُؤَذَّنُ بِهِمَا فِي
دَوْلَتِي أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُؤَذَّنُ بِحَيِّ عَلَى خَيْرِ
الْعَمَلِ ; لِأَنَّ شِعَارَ الرَّفْضِ كَانَ ظَاهِرًا بِهَا. وَأَقَامَ
الْحُدُودَ وَفَتَحَ الْحُصُونَ وَكَسَرَ الْفِرِنْجَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَاسْتَنْقَذَ
مِنْ أَيْدِيهِمْ مَعَاقِلَ كَثِيرَةً مِنَ الْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ الَّتِي
كَانُوا قَدِ اسْتَحْوَذُوا عَلَيْهَا مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا
تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي السِّنِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي أَيَّامِهِ.
وَأَقْطَعَ أُمَرَاءَ الْعَرَبِ إِقْطَاعَاتٍ ; لِئَلَّا يَتَعَرَّضُوا
لِلْحَجِيجِ، وَبَنَى بِدِمَشْقَ مَارَسْتَانًا حَسَنًا لَمْ يُبْنَ فِي الشَّامِ
قَبْلَهُ مِثْلُهُ وَلَا بَعْدَهُ أَيْضًا، وَوَقَفَ وَقْفًا عَلَى مَنْ يُعَلِّمُ
الْأَيْتَامَ الْخَطَّ وَالْقُرْآنَ، وَجَعَلَ لَهُمْ نَفَقَةً وَكُسْوَةً وَعَلَى
مَنْ يُقْرِئُ الْأَيْتَامَ وَعَلَى الْمُجَاوِرِينَ بِالْحَرَمَيْنِ.
وَكَانَ الْجَامِعُ دَاثِرًا فَوَلَّى نَظَرَهُ الْقَاضِيَ كَمَالَ الدَّيْنِ
مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الشَّهْرُزُورِيَّ الْمَوْصِلِيَّ الَّذِي قُدِمَ
بِهِ فَوَلَّاهُ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ فَأَصْلَحَ أُمُورَهُ وَفَتَحَ
الْمَشَاهِدَ الْأَرْبَعَةَ، وَقَدْ كَانَتْ حَوَاصِلُ الْجَامِعِ بِهَا مِنْ
حِينِ احْتَرَقَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَضَافَ إِلَى
أَوْقَافِ الْجَامِعِ الْمَعْلُومَةِ الْأَوْقَافَ الَّتِي لَا يُعْرَفُ
وَاقِفُوهَا، وَلَا يُعْرَفُ شُرُوطُهُمْ فِيهَا وَجَعَلَهَا قَلَمًا وَاحِدًا،
وَسَمَّاهُ مَالَ
الْمَصَالِحِ
فَرَتَّبَ عَلَيْهِ لِذَوِي الْحَاجَاتِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَشَاكَلَهُ.
وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ حَسَنَ الْخَطِّ كَثِيرَ الْمُطَالَعَةِ
لِلْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ، مُتَّبِعًا لِلْآثَارِ النَّبَوِيَّةِ، مُحَافِظًا
عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَاتِ، كَثِيرَ التِّلَاوَةِ مُحِبًّا لِفِعْلِ
الْخَيْرَاتِ، عَفِيفَ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، مُقْتَصِدًا فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى
نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ، وَلَمْ تُسْمَعْ
مِنْهُ كَلِمَةُ فُحْشٍ قَطُّ فِي غَضَبٍ وَلَا رِضًا.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: لَمْ يَكُنْ فِي مُلُوكِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلُ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ وَلَا أَكْثَرُ تَحَرِّيًا
لِلْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ مِنْهُ، كَانَ قَدِ اسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ فِي
مِقْدَارٍ يَحِلُّ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَكَانَ يَتَنَاوَلُهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ.
وَكَانَتْ لَهُ دَكَاكِينُ بِحِمْصَ قَدِ اشْتَرَاهَا مِمَّا يَخُصُّهُ مِنَ
الْمَغَانِمِ، فَزَادَ كِرَاءَهَا لِامْرَأَتِهِ عَلَى نَفَقَتِهَا حِينَ
اسْتَقَلَّتْهَا عَلَيْهَا.
وَكَانَ يُكْثِرُ اللَّعِبَ بِالْكُرَةِ، فَعَاتَبَهُ بَعْضُ الصَّالِحِينَ فِي
ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا أُرِيدُ تَمْرِينَ الْخَيْلِ وَتَعْلِيمَهَا الْكَرَّ
وَالْفَرَّ. وَكَانَ لَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ، وَيَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَرَكِبَ يَوْمًا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَالشَّمْسُ فِي ظُهُورِهِمَا،
وَظِلُّهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمَا لَا يُدْرِكَانِهِ، ثُمَّ رَجَعَا فَصَارَ
الظِّلُّ وَرَاءَهُمْ، فَسَاقَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ وَجَعَلَ يَلْتَفِتُ
وَظَلُّهُ يَتْبَعُهُ، ثُمَّ قَالَ لِصَاحِبِهِ: قَدْ شَبَّهْتُ مَا نَحْنُ فِيهِ
بِالدُّنْيَا، تَهْرُبُ مِمَّنْ
يَطْلُبُهَا
وَتَطْلُبُ مَنْ يَهْرُبُ مِنْهَا. وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا
الْمَعْنَى:
مَثَلُ الرِّزْقِ الَّذِي تَطْلُبُهُ مَثَلُ الظِّلِّ الَّذِي يَمْشِي مَعَكْ
أَنْتَ لَا تُدْرِكُهُ مُتَّبِعًا
فَإِذَا وَلَّيْتَ عَنْهُ تَبِعَكْ
وَكَانَ فَقِيهًا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
وَأَسْمَعَهُ وَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ مِنْ وَقْتِ السَّحَرِ إِلَى
أَنْ يَرْكَبَ:
جَمَعَ الشَّجَاعَةَ وَالْخُشُوعَ لَدَيْهِ مَا أَحْسَنَ الْمِحْرَابَ فِي
الْمِحْرَابِ
وَكَذَلِكَ كَانَتْ زَوْجَتُهُ عِصْمَتُ الدِّينِ خَاتُونُ بِنْتُ الْأَتَابِكِ
مُعِينِ الدِّينِ أَنُرَ، تُكْثِرُ قِيَامَ اللَّيْلِ فَنَامَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ
عَنْ وِرْدِهَا فَأَصْبَحَتْ وَهِيَ غَضْبَى، فَسَأَلَهَا عَنْ أَمْرِهَا
فَذَكَرَتْ مَا حَصَلَ لَهَا مِنَ النَّوْمِ الَّذِي قَطَعَهَا عَنْ وِرْدِهَا،
فَأَمَرَ بِضَرْبِ طَبْلَخَانَةٍ فِي الْقَلْعَةِ وَقْتَ السَّحَرِ ; لِيُوقِظَهَا
وَأَمْثَالَهَا مِنَ النَّوْمِ لِقِيَامِ اللَّيْلِ:
وَأَلْبَسَ اللَّهُ هَاتِيكَ الْعِظَامَ وَإِنْ بَلِينَ تَحْتَ الثَّرَى عَفْوًا
وَغُفْرَانَا
سَقَى ثَرًى أُودِعُوهُ رَحْمَةً مَلَأَتْ مَثْوَى قُبُورِهِمُ رَوْحًا
وَرَيْحَانَا
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ الْمَلِكَ نُورَ الدِّينِ بَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا
يَلْعَبُ بِالْكُرَةِ إِذْ رَأَى رَجُلًا يُحَدِّثُ آخَرَ وَيُومِئُ إِلَيْهِ
فَبَعَثَ الْحَاجِبَ ; لِيَسْأَلَهُ مَا شَأْنُهُ فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ مَعَهُ
رَسُولٌ مِنْ جِهَةِ الْحَاكِمِ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ عَلَى الْمَلِكِ
نُورِ الدِّينِ حَقًّا يُرِيدُ
خَلْوَتَهُ
وَإِيَّاهُ إِلَى الْقَاضِي، فَلَمَّا أَعْلَمَهُ الْحَاجِبُ بِذَلِكَ أَلْقَى
الْجُوكَانَ مِنْ يَدِهِ، وَأَقْبَلَ مَعَ خَصْمِهِ إِلَى الْقَاضِي كَمَالِ
الدِّينِ الشَّهْرُزُورِيِّ، وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ
أَنْ لَا تُعَامِلَنِي إِلَّا مُعَامَلَةَ الْخُصُومِ، فَحِينَ وَصَلَا وَقَفَ
نُورُ الدِّينِ مَعَ خَصْمِهِ حَتَّى انْفَصَلَتِ الْحُكُومَةُ، وَلَمْ يَثْبُتْ
لِلرَّجُلِ حَقٌّ بَلْ ثَبَتَ الْحَقُّ لِلسُّلْطَانِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ ذَلِكَ
قَالَ السُّلْطَانُ: إِنَّمَا جِئْتُ مَعَهُ ; لِئَلَّا يَتَخَلَّفَ أَحَدٌ عَنِ
الْحُضُورِ إِلَى الشَّرْعِ، فَإِنَّمَا نَحْنُ شِحْنَكِيَّةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ عِنْدِي، وَمَعَ هَذَا أُشْهِدُكُمْ
أَنِّي قَدْ مَلَّكْتُهُ ذَلِكَ وَوَهَبْتُهُ لَهُ.
وَأَرْسَلَ الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ رَسُولًا مِنْ جِهَتِهِ يُقَالُ لَهُ:
سُوِيدٌ. لِيُحْضِرَ الْمَلِكَ نُورَ الدِّينِ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ ;
لِسَمَاعِ دَعْوَى مِنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ، فَبَلَّغَ سُوِيدٌ الرِّسَالَةَ إِلَى
الْحَاجِبِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ وَيَقُولُ: لِيَقُمِ الْمَوْلَى
إِلَى الْقَاضِي لِسَمَاعِ دَعْوًى. وَكَأَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِذَلِكَ، فَقَالَ
لَهُ الْمَلِكُ: وَمَا لَكَ تَسْتَهْزِئُ بِذَلِكَ! ثُمَّ قَالَ: ائْتُونِي
بِفَرَسِي. فَنَهَضَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا
دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا [ النُّورِ: 51 ] وَذَهَبَ إِلَى الْحَاكِمِ وَكَانَ يَوْمًا مَطِرًا
كَثِيرَ الْوَحْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ ابْتَنَى دَارًا لِلْعَدْلِ، فَكَانَ
يَجْلِسُ فِيهَا فِي الْأُسْبُوعِ يَوْمَيْنِ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ. وَقِيلَ:
خَمْسَةٌ. وَيَحْضُرُ الْقَاضِي وَالْفُقَهَاءُ مِنَ الْمَذَاهِبِ، وَلَا
يَحْجُبُهُ يَوْمئِذٍ حَاجِبٌ بَلْ يَصِلُ إِلَيْهِ الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ
فَيُكَلِّمُ النَّاسَ وَيَسْتَفْهِمُهُمْ وَيُخَاطِبُهُمْ بِنَفْسِهِ فَيَكْشِفُ
الظَّالِمَ وَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنَ
الظَّالِمِ،
قَالَ: كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَسَدَ الدِّينِ شِيرَكُوهْ بْنَ شَاذِيٍّ كَانَ
قَدْ عَظُمَ شَأْنُهُ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ شَرِيكُهُ فِي الْمَمْلَكَةِ،
وَاقْتَنَى الْأَمْلَاكَ وَالْأَمْوَالَ وَالْمَزَارِعَ وَالْقُرَى ; فَرُبَّمَا
ظَلَمَ نُوَّابُهُ جِيرَانَهُمْ فِي الْأَرَاضِي، وَكَانَ الْقَاضِي كَمَالُ
الدِّينِ يُنْصِفُ كُلَّ مَنِ اسْتَعْدَاهُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَرَاءِ إِلَّا
أَسَدَ الدِّينِ هَذَا، فَلَمَّا ابْتَنَى الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ دَارَ
الْعَدْلِ تَقَدَّمَ أَسَدُ الدِّينِ إِلَى نُوَّابِهِ أَنْ لَا يَدَعُوَا
لِأَحَدٍ عِنْدَهُ ظُلَامَةً، وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا، فَإِنَّ زَوَالَ مَالِهِ
أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرَاهُ نُورُ الدِّينِ بِعَيْنِ ظَالِمٍ، أَوْ
يُوقِفَهُ مَعَ خَصْمٍ مِنَ الْعَامَّةِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا جَلَسَ نُورُ
الدِّينِ بِدَارِ الْعَدْلِ مُدَّةً مُتَطَاوِلَةً لَمْ يَرَ أَحَدًا يَسْتَعْدِي
عَلَى أَسَدِ الدِّينِ، فَسَأَلَ الْقَاضِي عَنْ ذَلِكَ فَأَعْلَمَهُ بِصُورَةِ
الْحَالِ فَسَجَدَ نُورُ الدِّينِ شُكْرًا لِلَّهِ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي جَعَلَ أَصْحَابَنَا يُنْصِفُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَأُمًّا شَجَاعَتُهُ فَكَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يُرَ عَلَى ظَهْرِ الْفَرَسِ
أَحْسَنُ وَلَا أَثْبَتُ مِنْهُ. وَكَانَ يُحْسِنُ اللَّعِبَ بِالْكُرَةِ،
وَرُبَّمَا ضَرَبَهَا ثُمَّ يَسُوقُ وَرَاءَهَا وَيَأْخُذُهَا مِنَ الْهَوَى
بِيَدِهِ، ثُمَّ يَرْمِيهَا إِلَى آخِرِ الْمَيْدَانِ وَلَمْ يُرَ جُوكَانُهُ
يَعْلُو عَلَى رَأْسِهِ، وَلَا يُرَى الْجُوكَانُ فِي يَدِهِ ; لِأَنَّ الْكُمَّ
سَاتِرٌ لَهَا، وَلَكِنَّهُ اسْتِهَانَةٌ بِلَعِبِ الْكُرَةِ.
وَكَانَ شُجَاعًا صَبُورًا فِي الْحَرْبِ، يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِهِ فِي ذَلِكَ،
وَكَانَ يَقُولُ: قَدْ تَعَرَّضْتُ لِلشَّهَادَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ يَتَّفِقْ
لِي ذَلِكَ. وَقَالَ لَهُ يَوْمًا الْفَقِيهُ قُطْبُ الدِّينِ النَّيْسَابُورِيُّ:
بِاللَّهِ يَا مَوْلَانَا السُّلْطَانُ لَا تُخَاطِرْ بِنَفْسِكَ ; فَإِنَّكَ لَوْ
قُتِلْتَ قُتِلَ جَمِيعُ مَنْ مَعَكَ وَأُخِذَتِ الْبِلَادُ. فَقَالَ: اسْكُتْ يَا
قُطْبَ الدِّينِ، مَنْ هُوَ
مَحْمُودٌ
؟ مَنْ كَانَ يَحْفَظُ الْبِلَادَ قَبَلِي ؟ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
قَالَ: فَبَكَى مَنْ حَضَرَ.
وَقَدْ أَسَرَ بِنَفْسِهِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ بَعْضَ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ
فَاسْتَشَارَ الْأُمَرَاءَ فِيهِ ; هَلْ يَقْتُلُهُ أَوْ يَأْخُذُ مَا يُبْذَلُ
لَهُ مِنَ الْمَالِ فِي الْفِدَاءِ ؟ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ ثُمَّ حَسُنَ فِي
رَأْيِهِ إِطْلَاقُهُ وَأَخَذُ الْفِدَاءِ، فَحِينَ جَهَّزَ بَعْثَ الْفِدَاءِ،
مَاتَ بِبَلَدِهِ فَأَعْجَبَ ذَلِكَ نُورَ الدِّينِ وَأَصْحَابَهُ، وَابْتَنَى
نُورُ الدِّينِ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ الْبِيمَارَسْتَانَ الَّذِي بُنِيَ
بِدِمَشْقَ، وَهُوَ أَحْسَنُ مِمَّا بُنِيَ مِنَ الْبِيمَارَسْتَانَاتِ
بِالْبِلَادِ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنَّهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ بَعْضُ الْأَدْوِيَةِ الَّتِي يَعِزُّ وُجُودُهَا إِلَّا
فِيهِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْأَغْنِيَاءُ، وَمَنْ جَاءَ مُسْتَوْصِفًا فَلَا
يُمْنَعُ مِنْ شَرَابِهِ، وَلِهَذَا جَاءَ إِلَيْهِ نُورُ الدِّينِ وَشَرِبَ مِنْ
شَرَابِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قُلْتُ: وَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّهُ لَمْ تَخْمُدْ مِنْهُ النَّارُ مُنْذُ
بُنِيَ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ بَنَى الْخَانَاتِ فِي الطُّرُقِ وَالْأَبْرَاجَ، وَرَتَّبَ الْخُفَرَاءَ
فِي الْأَمَاكِنِ الْمَخُوفَةِ، وَجَعَلَ فِيهَا الْحَمَامَ الْهَوَادِيَ الَّتِي
تُطَالِعُ الْأَخْبَارَ فِي أَسْرَعِ مُدَّةٍ، وَبَنَى الرُّبُطَ
وَالْخَانِقَاهَاتِ، وَكَانَ يَجْمَعُ الْفُقَهَاءَ عِنْدَهُ لِلْبَحْثِ،
وَالْمَشَايِخَ وَالصُّوفِيَّةَ لِلزِّيَارَةِ، وَيُكْرِمُهُمْ وَيُعَظِّمُهُمْ
وَقَدْ نَالَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ عِنْدَهُ مِنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ ; وَهُوَ
قُطْبُ الدِّينِ النَّيْسَابُورِيُّ، فَقَالَ لَهُ نُورُ الدِّينِ: وَيْحَكَ! إِنْ
كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَلَهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ الْكَثِيرَةِ مَا لَيْسَ
عِنْدَكَ مِمَّا يُكَفِّرُ عَنْهُ سَيِّئَاتِ مَا ذَكَرْتَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا،
عَلَى أَنِّي وَاللَّهِ لَا أُصَدِّقُكَ، وَإِنْ عُدْتَ ذَكَرْتَهُ أَوْ أَحَدًا
غَيْرَهُ بِسُوءٍ لَأَدَّبْتُكَ. قَالَ: فَكَفَّ عَنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْهُ بَعْدَ
ذَلِكَ.
وَابْتَنَى
بِدِمَشْقَ دَارًا لِسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَإِسْمَاعِهِ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ:
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَنَى دَارَ حَدِيثٍ، وَقَدْ كَانَ مَهِيبًا وَقُورًا شَدِيدَ
الْهَيْبَةِ فِي قُلُوبِ أُمَرَائِهِ ; لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ
يَدَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ يَجْلِسُ
بِلَا إِذْنٍ سِوَى الْأَمِيرِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ ; وَأَمَّا أَسَدُ
الدِّينِ شِيرَكُوهْ وَمَجْدُ الدِّينِ بْنُ الدَّايَةِ نَائِبُ حَلَبَ
وَالْأَكَابِرُ وَغَيْرُهُمْ فَكَانُوا يَقِفُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَعَ هَذَا
إِذَا دَخَلَ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، قَامَ لَهُ وَمَشَى لَهُ
خُطُوَاتٍ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى سَجَّادَتِهِ، وَشَرَعَ يُحَادِثُهُ فِي
وَقَارٍ وَسُكُونٍ، وَإِذَا أَعْطَى أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُ: هَؤُلَاءِ لَهُمْ
فِي بَيْتِ الْمَالِ حَقٌّ ; أَضْعَافُ مَا أُعْطِيهِمْ، فَإِذَا رَضُوا مِنَّا
بِبَعْضِهِ فَلَهُمُ الْمِنَّةُ عَلَيْنَا.
وَقَدْ سُمِّعَ عَلَيْهِ جُزْءُ حَدِيثٍ وَفِيهِ: " فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَلِّدًا السَّيْفَ ". فَجَعَلَ
يَتَعَجَّبُ مِنْ تَغْيِيرِ عَادَاتِ النَّاسِ، وَكَيْفَ يَرْبُطُ الْأَجْنَادُ
السُّيُوفَ فِي أَوْسَاطِهِمْ وَلَا يَفْعَلُونَ هَذَا، ثُمَّ أَمَرَ الْجُنْدَ
بِأَنْ لَا يَحْمِلُوا السُّيُوفَ إِلَّا مُتَقَلَّدِيهَا، ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ
الثَّانِي إِلَى الْمَوْكِبِ وَهُوَ مُتَقَلِّدُ السَّيْفَ، وَجَمِيعُ الْجَيْشِ
كَذَلِكَ، يُرِيدُ بِهِ الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وَقَصَّ عَلَيْهِ وَزِيرُهُ مُوَفَّقُ الدِّينِ خَالِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
نَصْرِ بْنِ صَغِيرِ ابْنِ الْقَيْسَرَانِيِّ الشَّاعِرُ أَنَّهُ رَأَى فِي
مَنَامِهِ أَنَّهُ يَغْسِلُ ثِيَابَ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ فَأَمَرَهُ أَنْ
يَكْتَبَ مَنَاشِيرَ بِوَضْعِ الْمُكُوسِ وَالضَّرَائِبِ عَنِ الْبِلَادِ،
وَقَالَ: هَذَا تَفْسِيرُ رُؤْيَاكَ.
وَكَتَبَ إِلَى النَّاسِ يَسْتَعْجِلُ مِنْهُمْ فِي حِلٍّ مِمَّا كَانَ أَخَذَ
مِنْهُمْ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا
صُرِفَ
فِي قِتَالِ أَعْدَائِكُمْ مِنَ الْكَفَرَةِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنَهُمْ.
وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى سَائِرِ مَمَالِكِهِ وَبُلْدَانِ سُلْطَانِهِ، وَأَمَرَ
الْوُعَّاظَ أَنْ يَسْتَحِلُّوا لَهُ مِنَ التُّجَّارِ لِنُورِ الدِّينِ، وَكَانَ
يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْعَشَّارَ الْمَكَّاسَ. وَقِيلَ:
إِنَّ بُرْهَانَ الدِّينِ الْبَلْخِيَّ أَنْكَرَ عَلَى الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ
فِي اسْتِعَانَتِهِ فِي الْحُرُوبِ بِأَمْوَالِ الْمُكُوسِ، وَقَالَ: كَيْفَ
تُنْصَرُونَ وَفِي عَسَاكِرِكُمُ الْخُمُورُ وَالطُّبُولُ وَالزَّمُورُ ؟!
وَيُقَالُ: إِنَّ سَبَبَ وَضْعِهِ الْمُكُوسَ عَنِ النَّاسِ أَنَّ الْوَاعِظَ
أَبَا عُثْمَانَ الْمُنْتَخَبَ بْنَ أَبِي مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيَّ - وَكَانَ مِنَ
الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ - أَنْشَدَ نُورَ الدِّينِ:
مَثِّلْ وُقُوفَكَ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ
تَمُورُ
إِنْ قِيلَ نُورُ الدِّينِ رُحْتَ مُسَلِّمًا فَاحْذَرْ بِأَنْ تَبْقَى وَمَا لَكَ
نُورُ
أَنْهَيْتَ عَنْ شُرْبِ الْخُمُورِ وَأَنْتَ مِنْ كَأْسِ الْمَظَالِمِ طَافِحٌ
مَخْمُورُ
عَطَّلْتَ كَاسَاتِ الْمُدَامِ تَعَفُّفًا وَعَلَيْكَ كَاسَاتُ الْحَرَامِ تَدُورُ
مَاذَا تَقُولُ إِذَا نُقِلْتَ إِلَى الْبِلَى فَرْدًا وَجَاءَكَ مُنْكَرٌ
وَنَكِيرُ
وَتَعَلَّقَتْ فَيكَ الْخُصُومُ وَأَنْتَ فِي يَوْمِ الْحِسَابِ مُسَحَّبٌ
مَجْرُورُ
وَتَفَرَّقَتْ عَنْكَ الْجُنُودُ وَأَنْتَ فِي ضِيقِ اللُّحُودِ مُوَسَّدٌ
مَقْبُورُ
وَوَدِدْتَ أَنَّكَ مَا وَلِيتَ وِلَايَةً يَوْمًا وَلَا قَالَ الْأَنَامُ أَمِيرُ
وَبَقِيُتَ
بَعْدَ الْعِزِّ رَهْنَ حُفَيْرَةٍ فِي عَالَمِ الْمَوْتَى وَأَنْتَ حَقِيرُ
وَحُشِرْتَ عُرْيَانًا حَزِينًا بَاكِيًا قَلِقًا وَمَا لَكَ فِي الْأَنَامِ
مُجِيرُ
أَرَضِيتَ أَنْ تَحْيَا وَقَلْبُكَ دَارِسٌ عَافِي الْخَرَابِ وَجِسْمُكَ
الْمَعْمُورُ
أَرَضِيتَ أَنْ يَحْظَى سِوَاكَ بِقُرْبِهِ أَبَدًا وَأَنْتَ مُبَعَّدٌ مَهْجُورُ
مَهِّدْ لِنَفْسِكَ حُجَّةً تَنْجُو بِهَا يَوْمَ الْمَعَادِ لَعَلَّكَ
الْمَعْذُورُ
فَلَمَّا سَمِعَهَا الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ بَكَى وَأَمَرَ بِوَضْعِ
الْمُكُوسَاتِ وَالضَّرَائِبِ فِي سَائِرِ بِلَادِهِ
وَكَتَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ عُمَرُ الْمَلَّاءُ مِنَ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ قَدْ
أَمَرَ الْوُلَاةَ بِهَا أَنْ لَا يَفْصِلُوا بِهَا أَمْرًا حَتَّى يُعْلِمُوهُ،
فَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ شَيْءٍ امْتَثَلُوهُ - وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ
الزَّاهِدِينَ، وَكَانَ نُورُ الدِّينِ يَسْتَقْرِضُ مِنْهُ فِي كُلِّ شَهْرِ
رَمَضَانَ مَا يُفْطِرُ عَلَيْهِ، فَكَانَ يُرْسِلُ إِلَيْهِ بِفَتِيتٍ وَرُقَاقٍ
فَيُفْطِرُ عَلَيْهِ - كَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ الْمُفْسِدِينَ قَدْ كَثُرُوا
وَيُحْتَاجُ إِلَى نَوْعِ سِيَاسَةٍ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجِيءُ إِلَّا بِقَتْلٍ
وَصَلْبٍ وَضَرْبٍ، وَإِذَا أُخِذَ مَالُ إِنْسَانٍ فِي الْبَرِيَّةِ، مَنْ
يَجِيءُ فَيَشْهَدَ لَهُ ؟ فَكَتَبَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ عَلَى ظَهْرِ
الْكِتَابِ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ وَشَرَعَ لَهُمْ شَرِيعَةً وَهُوَ
أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُهُمْ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ زِيَادَةً فِي
الْمَصْلَحَةِ لَشَرَعَهَا، فَمَا لَنَا حَاجَةٌ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مَا
شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: فَجَمَعَ الشَّيْخُ عُمَرُ الْمَلَّاءُ جَمَعَ
النَّاسَ بِالْمَوْصِلِ وَأَقْرَأَهُمُ الْكِتَابَ، وَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى
كِتَابِ الزَّاهِدِ إِلَى الْمَلِكِ، وَكِتَابِ الْمَلِكِ إِلَى الزَّاهِدِ!
وَجَاءَ
إِلَيْهِ أَخُو الشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ يَسْتَعْدِيهِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ
يَسُبُّهُ وَيَرْمِيهِ بِأَنَّهُ مُرَاءٍ مُتَنَامِسٍ، وَجَعَلَ يُبَالِغُ فِي
شِكَايَتِهِ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ السُّلْطَانُ: أَلَيْسَ اللَّهُ تَعَالَى
يَقُولُ: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [ الْفُرْقَانِ: 63
] فَسَكَتَ الشَّيْخُ وَلَمْ يُحِرْ جَوَابًا.
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو الْفَتْحِ الْأَشْتَرِيُّ مُعِيدُ النِّظَامِيَّةِ
بِبَغْدَادَ - وَكَانَ قَدْ جَمَعَ سِيرَةً مُخْتَصَرَةً لِنُورِ الدِّينِ -
قَالَ: وَكَانَ يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا فِي جَمَاعَةٍ
بِتَمَامِ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا، وَكَانَ كَثِيرَ
الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ، وَالِابْتِهَالِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي
أُمُورِهِ كُلِّهَا.
قَالَ: وَبَلَغَنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى
قَوْلِهِمْ أَنَّهُمْ دَخَلُوا بِلَادَ الْقُدْسِ لِلزِّيَارَةِ أَيَّامَ
الْفِرِنْجِ، فَسَمِعَ الْكُفَّارَ يَقُولُونَ: ابْنُ الْقَسِيمِ - يَعْنُونُ
نُورَ الدِّينِ - لَهُ مَعَ اللَّهِ سِرٌّ ; فَإِنَّهُ مَا يَظْفَرُ عَلَيْنَا
بِكَثْرَةِ جُنْدِهِ وَجَيْشِهِ، وَإِنَّمَا يَظْفَرُ عَلَيْنَا بِالدُّعَاءِ
وَصَلَاةِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَيَرْفَعُ يَدَهُ إِلَى
اللَّهِ وَيَدْعُوهُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يَسْتَجِيبُ لَهُ
دُعَاءَهُ، وَيُعْطِيهِ سُؤْلَهُ، وَمَا يَرُدُّ يَدَهُ خَائِبَةً، فَيَظْفَرُ
عَلَيْنَا. قَالَ: فَهَذَا كَلَامُ الْكُفَّارِ فِي حَقِّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَحَكَى الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَنَّ الْمَلِكَ نُورَ الدِّينِ وَقَفَ
بُسْتَانَ الْمَيْدَانِ ; - سِوَى الْغَيْضَةِ الَّتِي تَلِيهِ - نِصْفَهُ عَلَى
تَطْيِيبِ جَامِعِ دِمَشْقَ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يُقْسَمُ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا
; جُزْآنِ مِنْهَا عَلَى تَطْيِيبِ الْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا
لِلْحَنَفِيَّةِ وَالتِّسْعَةُ
أَجْزَاءٍ
الْبَاقِيَةُ عَلَى تَطْيِيبِ الْمَسَاجِدِ التِّسْعَةِ ; وَهِيَ جَامِعُ
الصَّالِحِينَ بِجَبَلِ قَاسِيُونَ، وَجَامِعُ الْقَلْعَةِ، وَمَسْجِدُ عَطِيَّةَ،
وَمَسْجِدُ ابْنِ لَبِيدٍ بِالْفَسْقَارِ، وَمَسْجِدُ الرَّمَّاحِينَ،
وَالْمَسْجِدُ الْعَبَّاسِيُّ، وَالْمَسْجِدُ الْمُعَلَّقُ بِالصَّاغَةِ،
وَمَسْجِدُ دَارِ الْبِطِّيخِ الْمُعَلَّقُ، وَالْمَسْجِدُ الَّذِي جَدَّدَهُ
نُورُ الدِّينِ جِوَارَ بَيْعَةِ الْيَهُودِ، لِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ
جُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنَ النِّصْفِ.
وَمَنَاقِبُهُ وَمَآثِرُهُ وَمَحَاسِنُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ ذَكَرْنَا
نَبْذَةً مِنْ ذَلِكَ يُسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى مَا عَدَاهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ فِي أَوَّلِ " الرَّوْضَتَيْنِ
" شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ مَا مُدِحَ بِهِ مِنَ
الْقَصَائِدِ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا فِي غُبُونِ دَوْلَتِهِ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ
عَدْلِهِ وَقَصْدِهِ الصَّالِحِ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ أَسَدُ
الدِّينِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ ثُمَّ مَاتَ، ثُمَّ تَوَلَّى صَلَاحُ
الدِّينِ، هَمَّ بِعَزْلِهِ عَنْهَا وَاسْتِنَابَةِ غَيْرِهِ فِيهَا غَيْرَ
مَرَّةٍ، وَلَكِنْ يَعُوقُهُ عَنْ ذَلِكَ الْقَدَرُ، وَيَصُدُّهُ اقْتِرَابُ
أَجْلِهِ وَفَرَاغُ عَمَلِهِ، وَلَكِنْ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - سَنَةِ
تِسْعٍ وَسِتِّينَ - وَهِيَ آخِرُ مُدَّتِهِ قَدْ صَمَّمَ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَسَاكِرَ مِنْ بِلَادِ الْمَوْصِلِ
وَغَيْرِهَا ; لِيَكُونُوا بِبِلَادِ الشَّامِ وَيَرْكَبُ هُوَ فِي جُمْهُورِ
جَيْشِهِ إِلَى مِصْرَ، وَقَدْ خَافَ مِنْهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ خَوْفًا
شَدِيدًا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ
فِي الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ الْقِبْلِيِّ وَصَلَّى بِهِ الْخَطِيبُ فِيهِ
صَلَاةَ الْعِيدِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَرَمَى الْقَبْقَ فِي
الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ
الشَّمَالِيِّ،
وَالْقَدَرُ يَقُولُ لَهُ: هَذَا آخِرُ الْأَعْيَادِ. وَمَدَّ يَوْمَ الْعِيدِ
سِمَاطًا حَافِلًا، وَأَمَرَ بِانْتِهَابِهِ عَلَى الْعَادَةِ، وَطَهَّرَ وَلَدَهُ
الْمَلِكَ الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَزُيِّنَ لَهُ
الْبَلَدُ، وَضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ لِلْعِيدِ وَلِلْخِتَانِ، وَرَكِبَ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ فِي الْمَوْكِبِ عَلَى الْعَادَةِ، ثُمَّ لَعِبَ بِالْكُرَةِ فِي
يَوْمِهِ ; فَحَصَلَ لَهُ غَيْظٌ مِنْ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
مِنْ سَجِيَّتِهِ فَبَادَرَ إِلَى الْقَلْعَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي غَايَةِ
الْغَضَبِ وَحَصَلَ لَهُ انْزِعَاجٌ، وَدَخَلَ فِي حَيْرَةِ سُوءِ الْمِزَاجِ
وَاشْتَغَلَ بِنَفْسِهِ وَانْزِعَاجِهِ، وَتَنَكَّرَتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ
حَوَاسِّهِ وَطِبَاعِهِ، وَاحْتَبَسَ أُسْبُوعًا عَنِ النَّاسِ، وَالنَّاسُ فِي
شُغْلٍ عَنْهُ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ اللَّعِبِ وَالِانْشِرَاحِ بِالزِّينَةِ
الَّتِي قَدْ نَصَبُوهَا، فَهَذَا يَجُودُ بِرُوحِهِ وَهَذَا يَرُوحُ بِجُودِهِ،
وَانْعَكَسَتْ تِلْكَ الْأَفْرَاحُ بِالْأَتْرَاحِ، وَنَسَخَ الْجِدُّ ذَلِكَ
الْمِزَاحَ، وَحَصَلَتْ لِلْمَلِكِ خَوَانِيقُ فِي حَلْقِهِ مَنَعَتْهُ مِنْ
أَدَاءِ النُّطْقِ، وَهَذَا شَأْنُ أَوْجَاعِ الْحَنَقِ، وَكَانَ قَدْ أُشِيرَ
عَلَيْهِ بِالْفَصْدِ فَلَمْ يَفْعَلْ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا،
وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ قُبِضَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ
سَنَةً، وَلَهُ فِي الْمُلْكِ ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
بِجَامِعِ الْقَلْعَةِ بِدِمَشْقَ، وَدُفِنَ بِهَا حَتَّى حُوِّلَ إِلَى تُرْبَةٍ
بُنِيَتْ لَهُ بِبَابِ الْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا لِلْحَنَفِيَّةِ
رَحِمَهُ اللَّهُ، وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ، وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ.
وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ قَدْ أَوْرَدَهَا أَبُو شَامَةَ
فِي " الرَّوْضَتَيْنِ ". وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الْعِمَادُ:
عَجِبْتُ
مِنَ الْمَوْتِ كَيْفَ اهْتَدَى إِلَى مَلِكٍ فِي سَجَايَا مَلَكْ
وَكَيْفَ ثَوَى الْفَلَكُ الْمُسْتَدِي رُ فِي الْأَرْضِ وَالْأَرْضُ وَسْطَ
الْفَلَكْ
وَقَالَ حَسَّانُ الشَّاعِرُ الْمُلَقَّبُ بِالْعَرْقَلَةِ فِي مَدْرَسَةِ نُورِ
الدِّينِ حِينَ دُفِنَ فِيهَا:
وَمَدْرَسَةٍ سَيَدْرُسُ كُلُّ شَيْءٍ وَتَبْقَى فِي حِمَى عِلْمٍ وَنُسْكِ
تَضَوَّعَ ذِكْرُهَا شَرْقًا وَغَرْبًا بِنُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي
يَقُولُ وَقَوْلُهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ بِغَيْرِ كِنَايَةٍ وَبِغَيْرِ شَكِّ
دِمَشْقٌ فِي الْمَدَائِنِ بَيْتُ مُلْكِي وَهَذِي فِي الْمَدَارِسِ بَيْتُ
مِلْكِي
وَقَبْرُهُ مَشْهُورٌ بِدِمَشْقَ يُزَارُ وَيُخَلَّقُ شُبَّاكُهُ، فَيَطِيبُ
بِرِيحِهِ كُلُّ مَارٍّ، وَإِنَّمَا يَقُولُ النَّاسُ: نُورُ الدِّينِ الشَّهِيدُ
لِمَا حَصَلَ لَهُ فِي حَلْقِهِ مِنَ الْخَوَانِيقِ، وَكَذَا كَانَ يُقَالُ
لِأَبِيهِ: الشَّهِيدُ. وَيُلَقَّبُ بِالْقَسِيمِ، وَكَانَتِ الْفِرِنْجُ
يَقُولُونَ لَهُ: ابْنُ الْقَسِيمِ.
صِفَةُ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
كَانَ طَوِيلَ الْقَامَةِ، أَسْمَرَ اللَّوْنِ، حُلْوَ الْعَيْنَيْنِ، وَاسِعَ
الْجَبِينِ، حَسَنَ الصُّورَةِ، تُرْكِيَّ الشَّكْلِ، لَيْسَ لَهُ لِحْيَةٌ إِلَّا
فِي حَنَكِهِ، مَهِيبًا مُتَوَاضِعًا عَلَيْهِ جَلَالَةُ وَنُورُ الْإِسْلَامِ،
وَتَعْظِيمُ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَصْلٌ
فَلَمَّا مَاتَ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
بُويِعَ مِنْ بَعْدِهِ بِالْمُلْكِ لِوَلَدِهِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، وَكَانَ
صَغِيرًا، وَجَعَلَ أَتَابِكَهُ الْأَمِيرَ شَمْسَ الدِّينِ بْنَ مُقَدَّمٍ،
فَاخْتَلَفَ الْأُمَرَاءُ، وَحَارَتِ الْآرَاءُ، وَظَهَرَتِ الشُّرُورُ،
وَكَثُرَتِ الْخُمُورُ، وَانْتَشَرَتِ الْفَوَاحِشُ حَتَّى إِنَّ ابْنَ أَخِيهِ
سَيْفَ الدِّينِ غَازِيَّ بْنَ مَوْدُودٍ صَاحِبَ الْمَوْصِلِ لَمَّا تَحَقَّقَ
مَوْتَ عَمِّهِ - وَكَانَ مَحْصُورًا مِنْهُ - نَادَى مُنَادِيهِ بِالْبَلَدِ
بِالْمُسَامَحَةِ فِي اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَالشَّرَابِ وَالطَّرَبِ، وَمَعَ
الْمُنَادِي دُفٌّ وَقَدَحٌ وَمِزْمَارٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ. وَقَدْ كَانَ ابْنُ أَخِيهِ هَذَا وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُلُوكِ
وَالْأُمَرَاءِ الَّذِينَ لَهُ حُكْمٌ عَلَيْهِمْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ
أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنَ الْمُنَاكِرِ وَالْفَوَاحِشِ، فَلَمَّا مَاتَ مَرَجَ
أَمْرُهُمْ وَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَتَحَقَّقَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَلَا فَاسْقِنِي خَمْرًا وَقُلْ لِي هِيَ الْخَمْرُ وَلَا تَسْقِنِي سِرًّا إِذَا
أَمْكَنَ الْجَهْرُ
وَطَمِعَتِ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَعَزَمَ
الْفِرِنْجُ عَلَى قَصْدِ دِمَشْقَ وَانْتِزَاعِهَا مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ،
فَبَرَزَ إِلَيْهِمُ ابْنُ مُقَدِّمِ الْأَتَابِكِ فَوَاقَعَهُمْ عِنْدَ
بَانِيَاسَ، فَضَعُفَ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ فَهَادَنَهُمْ مُدَّةً، وَدَفَعَ
إِلَيْهِمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً عَجَّلَهَا لَهُمْ، وَلَوْلَا أَنَّهُ
خَوَّفَهُمْ بِقُدُومِ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ لَمَا هَادَنُوهُ. وَلَمَّا
بَلَغَ ذَلِكَ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ صَلَاحَ الدِّينِ بْنَ أَيُّوبَ صَاحِبَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ كَتَبَ إِلَى الْأُمَرَاءِ - وَخَاصَّةً ابْنَ
مُقَدَّمٍ - يَلُومُهُمْ عَلَى مَا صَنَعُوا مِنَ الْمُهَادَنَةِ وَدَفْعِ
الْأَمْوَالِ إِلَى الْفِرِنْجِ، وَهُمْ أَقَلُّ وَأَذَلُّ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ عَزَمَ عَلَى قَصْدِ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ لِيَحْفَظَهَا مِنَ الْفِرِنْجِ فَرَدُّوا إِلَيْهِ كِتَابًا فِيهِ غِلْظَةٌ، وَكَلَامٌ فِيهِ بَشَاعَةٌ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ. وَمِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِمْ مِنْهُ كَتَبُوا إِلَى سَيْفِ الدِّينِ غَازِيٍّ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ لِيُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ ; لِيَدْفَعُوا بِهِ الْمَلِكَ النَّاصِرَ صَاحِبَ مِصْرَ فَلَمْ يَفْعَلْ ; لِأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَكُونَ مَكِيدَةً مِنْهُمْ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ هَرَبَ مِنْهُ الطَّوَاشِيُّ سَعْدُ الدَّوْلَةِ كُمُشْتِكِينَ الَّذِي كَانَ قَدْ جَعَلَهُ عِنْدَهُ الْمَلِكُ نُورُ الدِّينِ عَيْنًا عَلَيْهِ وَحَافِظًا لَهُ مِنْ تَعَاطِي مَا لَا يَلِيقُ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ وَاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، فَلَمَّا مَاتَ نُورُ الدِّينِ وَنَادَى فِي الْمَوْصِلِ تِلْكَ الْمُنَادَاةَ الْقَبِيحَةَ خَافَ مِنْهُ الطَّوَاشِيُّ الْمَذْكُورُ أَنْ يُمْسِكَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ سِرًّا، فَحِينَ تَحَقَّقَ غَازِيٌّ مَوْتَ عَمِّهِ تَعِبَ فِي طَلَبِ الْخَادِمِ فَفَاتَهُ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَدَخَلَ الطَّوَاشِيُّ حَلَبَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ فَاتَّفَقَ مَعَ الْأُمَرَاءِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ ابْنَ أُسْتَاذِهِ الْمَلِكَ الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ إِلَى حَلَبَ، فَيُرَبِّيَهُ هُنَالِكَ وَتَكُونَ دِمَشْقُ مُسَلَّمَةً إِلَى الْأَتَابِكِ شَمْسِ الدَّوْلَةِ بْنِ مُقَدَّمٍ وَالْقَلْعَةُ إِلَى الطَّوَاشِيِّ جَمَالِ الدِّينِ رَيْحَانٍ. فَلَمَّا سَارَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ مِنْ دِمَشْقَ، خَرَجَ مَعَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى حَلَبَ وَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَحِينَ وَصَلُوا حَلَبَ جَلَسَ الصَّبِيُّ عَلَى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهَا وَاحْتَاطُوا عَلَى بَنِي الدَّايَةِ ; شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الدَّايَةِ - أَخُو مَجْدِ الدِّينِ الَّذِي كَانَ رَضِيعَ نُورِ الدِّينِ - وَإِخْوَتِهِ الثَّلَاثَةِ، وَقَدْ كَانَ شَمْسُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ الدَّايَةِ يَظُنُّ أَنَّ ابْنَ نُورِ الدِّينِ يُسَلَّمُ إِلَيْهِ فَيُرَبِّيهِ ; لِأَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِذَلِكَ، فَخَيَّبُوا ظَنَّهُ وَسَجَنُوهُ وَإِخْوَتَهُ فِي الْجُبِّ، فَكَتَبَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الْأُمَرَاءِ يَلُومُهُمْ عَلَى نَقْلِ الْوَلَدِ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى حَلَبَ وَمِنْ سَجْنِهِمْ لِبَنِي الدَّايَةِ، وَقَدْ كَانُوا مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ وَرُءُوسِ الْكُبَرَاءِ، وَلِمَ لَا يُسَلِّمُونَ الْوَلَدَ إِلَى مَجْدِ الدِّينِ بْنِ الدَّايَةِ الَّذِي هُوَ أَحْظَى
النَّاسِ
عِنْدَ نُورِ الدِّينِ وَعِنْدَ النَّاسِ مِنْهُمْ ؟! فَكَتَبُوا إِلَيْهِ
يُسِيئُونَ عَلَيْهِ الْأَدَبَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُهُ حَنَقًا
عَلَيْهِمْ، وَيُحَرِّضُهُ عَلَى الْقُدُومِ بِجَيْشِهِ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُ
فِي هَذَا الْوَقْتِ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ لِمَا دَهَمَ بِلَادَهُ مِنَ الْأَمْرِ
الْهَائِلِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ
السَّنَةِ الْآتِيَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْمَشَاهِيرِ:
الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَطَّارُ
أَبُو الْعَلَاءِ الْهَمَذَانِيُّ الْحَافِظُ
سَمِعَ الْكَثِيرَ وَرَحَلَ إِلَى بُلْدَانٍ كَثِيرَةٍ اجْتَمَعَ، بِالْمَشَايِخِ
وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَحَصَّلَ الْكُتُبَ الْكَثِيرَةَ، وَاشْتَغَلَ بِعِلْمِ
الْقِرَاءَاتِ وَاللُّغَةِ حَتَّى صَارَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ فِي عِلْمَيِ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَصَنَّفَ الْكُتُبَ الْكَثِيرَةَ الْمُفِيدَةَ، وَكَانَ
عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ مَرْضِيَّ الطَّرِيقَةِ، سَخِيًّا عَابِدًا زَاهِدًا،
صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ، حَسَنَ السَّمْتِ، لَهُ بِبَلَدِهِ الْمَكَانَةُ
وَالْقَبُولُ التَّامُّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ الْحَادِي
عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ
الثَّمَانِينَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ فِي مَدِينَةٍ جَمِيعُ
جُدْرَانِهَا كُتُبٌ وَحَوْلَهُ كُتُبٌ لَا تُحَدُّ، وَهُوَ مُشْتَغِلٌ
بِمُطَالَعَتِهَا فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا ؟ فَقَالَ سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ
يَشْغَلَنِي بِمَا كُنْتُ أَشْتَغِلُ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَأَعْطَانِي.
الْأَهْوَازِيُّ
خَازِنُ كُتُبِ مَشْهَدِ أَبِي حَنِيفَةَ بِبَغْدَادَ، تُوُفِّيَ فَجْأَةً فِي
رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَذَلِكَ تُوُفِّيَ أَبُوهُ وَأَخُوهُ فَجْأَةً كَمَا
مَاتَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيِّ بْنِ آقْ سُنْقُرَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ
نُورُ الدِّينِ
صَاحِبُ بِلَادِ الشَّامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبُلْدَانِ الْكَثِيرَةِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي ذِكْرِ الْحَوَادِثِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: انْتَزَعَ نُورُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيٍّ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ نَيِّفًا وَخَمْسِينَ
مَدِينَةً، وَقَدْ كَانَ يُكَاتِبُنِي وَأُكَاتِبُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ: وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى الْأُمَرَاءِ مِنْ
بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ - يَعْنِي الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ - وَجَدَّدَ الْعَهْدَ
مَعَ صَاحِبِ طَرَابُلُسَ أَنْ لَا يُغِيرَ عَلَى الشَّامِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي
كَانَ مَادَّهُ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسَرَهُ فِي بَعْضِ
غَزَوَاتِهِ وَأَسَرَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ دَوْلَتِهِ، فَافْتَدَى
نَفْسَهُ مِنْهُ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسِمِائَةِ حِصَانٍ
وَخَمْسِمِائَةِ زَرَدِيَّةٍ وَمِثْلُهَا أَتْرَاسٌ وَقَنْطُورِيَّاتٌ
وَخَمْسِمِائَةِ أَسِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَعَاهَدَهُ أَنْ لَا يُغِيرَ عَلَى
بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مُدَّةِ سَبْعِ سِنِينَ وَسَبْعَةِ أَشْهُرٍ
وَسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَأَخَذَ مِنْهُ رَهَائِنَ عَلَى ذَلِكَ ; مِائَةً مِنْ
أَوْلَادِ أَكَابِرِ الْفِرِنْجِ وَبَطَارِقَتِهِمْ فَإِنْ نَكَثَ أَرَاقَ
دِمَاءَهُمْ، وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَرَّفَهُ
اللَّهُ فَوَافَتْهُ الْمَنِيَّةُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَتْ
وِلَايَتُهُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
وَهَذَا مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَمَعْنَاهُ.
الْخَضِرُ
بْنُ نَصْرِ بْنِ عَقِيلِ
بْنِ نَصْرٍ، الْإِرْبِلِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، أَوَّلُ مَنْ دَرَّسَ
بِإِرْبِلَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ فَاضِلًا
دَيِّنًا انْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ وَكَانَ قَدِ اشْتَغَلَ عَلَى إِلِكْيَا
الْهَرَّاسِيِّ وَغَيْرِهِ بِبَغْدَادَ وَقَدِمَ دِمَشْقَ، فَأَرَّخَهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ وَتَرْجَمَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفِيَّاتِ
"، وَقَالَ: قَبْرُهُ يُزَارُ، وَقَدْ زُرْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا هَلَكَ مَلِكُ الْفِرِنْجِ مُرِّيٌّ لَعَنَهُ اللَّهُ وَأَظُنُّهُ مَلَكَ
عَسْقَلَانَ وَنَحْوَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَقَدْ كَانَ قَارَبَ أَنْ يَمْلِكَ
الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ بِعِبَادِهِ
الْمُؤْمِنِينَ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالسُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ
الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ قَدْ عَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى بِلَادِ
الشَّامِ ; لِأَجْلِ حِفْظِهِ مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ الْمَخْذُولِ، وَلَكِنْ
قَدْ دَهَمَهُ أَمْرٌ شَغَلَهُ عَنْهُ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدِمُوا
إِلَى السَّاحِلِ الْمِصْرِيِّ فِي أُسْطُولٍ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ ; فِي
كَثْرَةِ مَرَاكِبِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ آلَاتِ الْحِصَارِ، وَكَثْرَةِ الرِّجَالِ
وَالْمُقَاتِلَةِ ; مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مِائَتَا شِينِيٍّ فِي كُلٍّ مِنْهَا
مِائَةٌ وَخَمْسُونَ مُقَاتِلًا وَأَرْبَعُمِائَةِ قِطْعَةٍ أُخْرَى، وَكَانَ
قُدُومُهُمْ مِنْ صِقِلِّيَةَ إِلَى ظَاهِرِ إِسْكَنْدَرِيَّةَ قَبْلَ رَأْسِ
السَّنَةِ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَنَصَبُوا الْمَنْجَنِيقَاتِ وَالدَّبَّابَاتِ
حَوْلَ الْبَلَدِ، وَبَرَزَ إِلَيْهِمْ أَهْلُهَا فَقَاتَلُوهُمْ دُونَهَا
قِتَالًا شَدِيدًا، وَاسْتَمَرَّ الْقِتَالُ أَيَّامًا، وَقُتِلَ مِنْ كِلَا
الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَهْلُ الْبَلَدِ عَلَى تَحْرِيقِ
مَا نَصَبُوهُ مِنَ الْمَنْجَنِيقَاتِ وَالدَّبَّابَاتِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ
فَأَضْعَفَ ذَلِكَ قُلُوبَ الْفِرِنْجِ، ثُمَّ كَبَسَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي
مَنَازِلِهِمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَغَنِمُوا مِنْهُمْ مَا أَرَادُوا
فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَلْجَأٌ إِلَّا
الْبَحْرُ أَوِ الْقَتْلُ أَوِ الْأَسْرُ، وَاسْتَحْوَذَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
أَمْوَالِهِمْ وَأَثْقَالِهِمْ وَخُيُولِهِمْ وَخِيَامِهِمْ - وَبِالْجُمْلَةِ
قَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الرِّجَالِ وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ
- وَرَكِبَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فِي الْأُسْطُولِ رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ
خَائِبِينَ.
وَمِمَّا عَوَّقَ الْمَلِكَ النَّاصِرَ عَنِ الشَّامِ أَيْضًا، أَنَّ رَجُلًا
يُعْرَفُ بِالْكَنْزِ - سَمَّاهُ
بَعْضُهُمْ
عَبَّاسَ بْنَ شَادِيٍّ - وَكَانَ مِنْ مُقَدِّمِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَمِنَ الدَّوْلَةِ الْفَاطِمِيَّةِ - وَإِنَّمَا هِيَ الْعُبَيْدِيَّةُ - كَانَ
قَدِ انْتَزَحَ إِلَى أَسْوَانَ، وَجَعَلَ يَجْمَعُ عَلَيْهِ النَّاسَ،
فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الرَّعَاعِ مِنَ الْحَاضِرَةِ
وَالْعُرْبَانِ، وَكَانَ يَزْعُمُ لَهُمْ أَنَّهُ سَيُعِيدُ الدَّوْلَةَ
الْفَاطِمِيَّةَ وَيَدْحَضُ الْأَتَابِكَةَ التُّرْكِيَّةَ فَالْتَفَّ عَلَيْهِ
خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، ثُمَّ قَصَدَ قُوصَ وَأَعْمَالَهَا، وَقَتَلَ
طَائِفَةً مِنْ أُمَرَائِهَا وَرِجَالِهَا، فَجَرَّدَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ صَلَاحُ
الدِّينِ طَائِفَةً مِنَ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَخَاهُ
الْمَلِكَ الْعَادِلَ سَيْفَ الدِّينِ أَبَا بَكْرٍ الْكُرْدِيَّ، فَلَمَّا
الْتَقَيَا هَزَمَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَأَسَرَ أَهْلَهُ وَقَتَلَهُ كَمَا جَرَى
لِمُقَدَّمِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ دَوْلَةَ بَنِي أَيُّوبَ
عَالِيَةً مَنِيفَةً.
فَصْلٌ
لَمَّا تَمَهَّدَتِ الدِّيَارُ الْمِصْرِيَّةُ، وَلَمْ يَبْقَ بِهَا رَأْسٌ مِنْ
بَقِيَّةِ الدَّوْلَةِ الْعُبَيْدِيَّةِ، بَرَزَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ فِي الْجُيُوشِ التُّرْكِيَّةِ قَاصِدًا
الْبِلَادَ الشَّامِيَّةَ وَذَلِكَ حِينَ مَاتَ سُلْطَانُهَا نُورُ الدِّينِ
مَحْمُودُ بْنُ زَنْكِيِّ وَأُخِيفَ سُكَّانُهَا وَتَضَعْضَعَتْ أَرْكَانُهَا،
وَاخْتَلَفَ حُكَّامُهَا وَفَسَدَ نَقْضُهَا وَإِبْرَامُهَا، وَقَصْدُهُ رَحِمَهُ
اللَّهُ جَمْعُ شَمْلِهَا وَالْإِحْسَانُ إِلَى أَهْلِهَا وَأَمْنُ سَهْلِهَا
وَجَبَلِهَا وَنُصْرَةُ الْإِسْلَامِ وَدَفْعُ الطَّغَامِ وَإِظْهَارُ الْقُرَآنِ
وَإِخْفَاءُ سَائِرِ الْأَدْيَانِ وَتَكْسِيرُ الصُّلْبَانِ وَرِضَا الرَّحْمَنِ
وَإِرْغَامُ الشَّيْطَانِ فَخَرَجَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى
الْبِرْكَةِ فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ، وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ
الْعَسْكَرُ، وَقَدِ اسْتَنَابَ عَلَى مِصْرَ أَخَاهُ سَيْفَ الدِّينِ أَبَا
بَكْرٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى بِلْبِيسَ فِي الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ،
ثُمَّ سَاقَ حَتَّى اجْتَازَ بِمَدِينَةِ بُصْرَى فَسَارَ فِي خِدْمَتِهِ
صَاحِبُهَا صِدِّيقُ بْنُ جَاوْلِي، فَدَخَلَ مَدِينَةَ دِمَشْقَ فِي يَوْمِ
الِاثْنَيْنِ سَلْخَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَنْتَطِحْ فِيهَا عَنْزَانِ،
وَلَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ سَيْفَانِ ; وَذَلِكَ أَنَّ نَائِبَهَا شَمْسَ الدِّينِ
بْنَ مُقَدَّمٍ، كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَوَّلًا فَأَغْلَظَ لَهُ فِي
الْكِتَابِ، فَلَمَّا رَأَى أَمْرَهُ مُتَوَجِّهًا جَعَلَ يُكَاتِبُهُ
وَيَسْتَحِثُّهُ عَلَى الْقُدُومِ إِلَى دِمَشْقَ وَيَعِدُهُ بِتَسْلِيمِ
الْبَلَدِ، فَلَمَّا رَأَى الْجِدَّ لَمْ يُمْكِنْهُ الْمُخَالَفَةُ فَسَلَّمَ
الْبَلَدَ إِلَيْهِ بِلَا مُدَافَعَةٍ فَنَزَلَ السُّلْطَانُ أَوَّلًا فِي دَارِ
وَالِدِهِ ; وَهِيَ دَارُ الْعَقِيقِيِّ الَّتِي بُنِيَتْ مَدْرَسَةً لِلْمَلِكِ
الظَّاهِرِ، وَجَاءَ الْقَاضِي وَأَعْيَانُ الدَّمَاشِقَةِ لِلسَّلَامِ عَلَى
السُّلْطَانِ فَرَأَوْا مِنْهُ غَايَةَ الْإِحْسَانِ، وَكَانَ فِي الْقَلْعَةِ
إِذْ ذَاكَ الطَّوَاشِيُّ جَمَالُ الدِّينِ رَيْحَانٌ الْخَادِمُ، فَلَمْ يَزَلْ
يُكَاتِبُهُ وَيَفْتِلُ لَهُ فِي الذُّرْوَةِ وَالْغَارِبِ حَتَّى اسْتَمَالَهُ
وَأَجْزَلَ ثَوَابَهُ فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، وَوَفَدَ عَلَيْهِ، وَمَثَلَ بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَظْهَرَ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ أَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَرْبِيَةِ وَلَدِ نُورِ الدِّينِ ; لِمَا
لِنُورِ الدِّينِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِحْسَانِ الْمَتِينِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ
خَطَبَ لِنُورِ الدِّينِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَضَرَبَ بِاسْمِهِ
السِّكَّةَ، ثُمَّ عَامَلَ النَّاسَ بِالْإِحْسَانِ وَأَمَرَ بِإِبْطَالِ مَا
أُحْدِثَ بَعْدَ نُورِ الدِّينِ مِنَ الْمُكُوسِ وَالضَّرَائِبِ وَأَقَامَ
الْحُدُودَ وَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الْأُمُورِ.
فَصْلٌ
فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ لَهُ دِمَشْقُ بِحَذَافِيرِهَا لَمْ يَلْبَثْ أَنْ نَهَضَ
إِلَى حَلَبَ مُسْرِعًا ; لِمَا فِيهَا مِنَ التَّخْبِيطِ وَالتَّخْلِيطِ
وَاسْتَنَابَ عَلَى دِمَشْقَ أَخَاهُ طُغْتِكِينَ بْنَ أَيُّوبَ،
الْمُلَقَّبَ بِسَيْفِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِحِمْصَ أَخَذَ رَبَضَهَا وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِقَلْعَتِهَا لِعِلْمِهِ بِحُصُولِهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى حَمَاةَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ صَاحِبِهَا عِزِّ الدِّينِ جُرْدَيْكَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَكُونَ سَفِيرَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَلَبِيِّينَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَحَذَّرَهُمْ بَأْسَ صَلَاحِ الدِّينِ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَلَمْ يُعَوِّلُوا عَلَيْهِ بَلْ أَمَرُوا بِسَجْنِهِ وَاعْتِقَالِهِ فَجَمَعُوا بَيْنَهُ وَبِبَنِي الدَّايَةِ فِي الْبِئْرِ الَّذِي هُمْ فِيهِ فَأَبْطأَ الْجَوَابَ عَلَى صَلَاحِ الدِّينِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا بَلِيغًا يَلُومُهُمْ فِيهِ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَعَدَمِ الِائْتِلَافِ فَرَدُّوا عَلَيْهِ أَسْوَأَ جَوَابٍ، وَأَحَدَّ مِنَ الْحِرَابِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يُذَكِّرُهُمْ أَيَّامَهُ وَأَيَّامَ أَبِيهِ وَعَمِّهِ فِي خِدْمَةِ نُورِ الدِّينِ فِي الْمَوَاقِفِ الْمَحْمُودَةِ الَّتِي يَشْهَدُ لَهُمْ بِهَا أَهْلُ الدِّينِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حَلَبَ فَنَزَلَ عَلَى جَبَلِ جَوْشَنَ فَخَافَ مِنْ سَطْوَتِهِ كُلُّ ذِي جَوْشَنٍ، فَنُودِيَ فِي أَهْلِ حَلَبَ بِالْحُضُورِ فِي مَيْدَانِ بَابِ الْعِرَاقِ فَاجْتَمَعُوا فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمُ ابْنُ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ فَتَوَدَّدَ إِلَيْهِمْ وَتَبَاكَى لَدَيْهِمْ وَحَرَّضَهُمْ عَلَى قِتَالِ صَلَاحِ الدِّينِ وَذَلِكَ عَنْ إِشَارَةِ الْأُمَرَاءِ الْمُقَدَّمِينَ فَأَجَابَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ الرَّوَافِضُ مِنْهُمْ أَنْ يُعَادَ الْأَذَانُ بِ: حَيِّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَأَنْ يُذْكَرَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي الْجَامِعِ الْجَانِبُ الشَّرْقِيُّ، وَأَنْ يُذْكَرَ أَسْمَاءُ الْأَئِمَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ بَيْنَ يَدَيِ الْجَنَائِزِ وَأَنْ يُكَبِّرُوا عَلَى الْجِنَازَةِ خَمْسًا وَأَنْ تَكُونَ عُقُودُ أَنْكِحَتِهِمْ إِلَى
الشَّرِيفِ الطَّاهِرِ أَبِي الْمَكَارِمِ حَمْزَةَ بْنِ زَهْرَةَ الْحُسَيْنِيِّ فَأُجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَأُذِّنَ فِي الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ بِسَائِرِ الْبَلَدِ بِ حَيِّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَعَجَزَ أَهْلُ الْبَلَدِ عَنْ مُقَاوَمَةِ النَّاصِرِ، وَأَعْمَلُوا فِي مَكِيدَتِهِ كُلَّ خَاطِرٍ فَأَرْسَلُوا أَوَّلًا إِلَى سِنَانٍ صَاحِبِ الْحُشَيْشِيَّةِ فَأَرْسَلَ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى النَّاصِرِ ; لِيَقْتُلُوهُ فَلَمْ يَظْفَرُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، بَلْ قَتَلُوا بَعْضَ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، فَرَاسَلُوا عِنْدَ ذَلِكَ الْقُومَصَ صَاحِبَ طَرَابُلُسَ الْفِرِنْجيَّ، وَوَعَدُوهُ بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ إِنْ هُوَ رَحَّلَ عَنْهُمُ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ النَّاصِرَ، وَكَانَ هَذَا الْقُومَصُ قَدْ أَسَرَهُ نُورُ الدِّينِ وَهُوَ مُعْتَقَلٌ عِنْدَهُ مُدَّةَ عَشْرِ سِنِينَ، ثُمَّ افْتَدَى نَفْسَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَلْفِ أَسِيرٍ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ لَا يَنْسَاهَا لِنُورِ الدِّينِ رَحِمهُ اللَّهُ، فَرَكِبَ الْقُومَصُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - مِنْ بَلَدِهِ طَرَابُلُسَ فِي جَيْشِهِ، فَلَمْ يَتَجَاسَرْ عَلَى مُقَاتَلَةِ السُّلْطَانِ، بَلْ قَصَدَ حِمْصَ لِيَأْخُذَهَا بَغْتَةً، فَرَكِبَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ النَّاصِرُ، وَقَدْ أَرْسَلَ سَرِيَّةً إِلَى بَلَدِهِ فَقَتَلُوا مِنْهَا وَأَسَرُوا وَغَنِمُوا، فَلَمَّا اقْتَرَبَ السُّلْطَانُ مِنْهُ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى بَلَدِهِ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أَجَابَهُمْ إِلَى مَا أَرَادُوا مِنْهُ، فَلَمَّا رَجَعَ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى حِمْصَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَخَذَ قَلْعَتَهَا فِي ذَهَابِهِ فَتَصَدَّى لِأَخْذِهَا فَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَنْجَنِيقَاتِ الَّتِي مَلَّكَتْهُ إِيَّاهَا قَسْرًا، وَقَهَرَتْ سَاكِنِيهَا قَهْرًا، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى حَلَبَ فَأَنَالَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْكَرَّةِ مَا طَلَبَ.
وَكَتَبَ
إِلَيْهِمُ الْقَاضِي الْفَاضِلُ عَلَى لِسَانِ السُّلْطَانِ كِتَابًا بَلِيغًا
فَصِيحًا رَائِقًا فَائِقًا عَلَى يَدَيِ الْخَطِيبِ شَمْسِ الدِّينِ يَقُولُ
فِيهِ: فَإِذَا قَضَى التَّسْلِيمُ حَقَّ اللِّقَاءِ، وَاسْتَدْعَى الْإِخْلَاصُ جُهْدَ
الدُّعَاءِ فَلْيَعُدْ وَلِيُعَدَّ حَوَادِثَ مَا كَانَتْ حَدِيثًا يُفْتَرَى
وَجَوَارِيَ أُمُورٍ إِنْ قَالَ فِيهَا كَثِيرًا، فَأَكْثَرُ مِنْهُ مَا قَدْ
جَرَى، وَلْيَشْرَحْ صَدْرًا مِنْهَا لَعَلَّهُ يَشْرَحُ مِنَّا صَدْرًا،
وَلْيُوَضِّحِ الْأَحْوَالَ الْمُسْتَسِرَّةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْبَدُ
سِرًّا:
وَمِنَ الْغَرَائِبِ أَنْ تَسِيرَ غَرَائِبٌ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا
الْمَأْمُولُ كَالْعِيسِ أَقْتَلُ مَا يَكُونُ لَهَا الصَّدَى
وَالْمَاءُ فَوْقَ ظُهُورِهَا مَحْمُولُ
فَإِنَّا كُنَّا نَقْتَبِسُ النَّارَ بِأَكُفِّنَا وَغَيْرُنَا يَسْتَنِيرُ،
وَنَسْتَنْبِطُ الْمَاءَ بِأَيْدِينَا وَسِوَانَا يَسْتَمِيرُ، وَنَلْقَى
السِّهَامَ بِنُحُورِنَا وَغَيْرُنَا يَعْتَمِدُ التَّصْوِيرَ، وَنُصَافِحُ
الصُّفَّاحَ بِصُدُورِنَا وَغَيْرُنَا يَدَّعِي التَّصْدِيرَ، وَلَابُدَّ أَنْ
نَسْتَرِدَّ بِضَاعَتَنَا بِمَوْقِفِ الْعَدْلِ الَّذِي تُرَدُّ بِهِ الْغُصُوبُ،
وَتَظْهَرَ طَاعَتُنَا فَنَأْخُذَ بِحَظِّ الْأَلْسُنِ كَمَا أَخَذْنَا بِحَظِّ
الْقُلُوبِ، وَكَانَ أَوَّلَ أَمْرِنَا أَنَّا كُنَّا فِي الشَّامِ نَفْتَحُ
الْفُتُوحَ مُبَاشِرِينَ بِأَنْفُسِنَا، وَنُجَاهِدُ الْكَفَّارَ مُتَقَدِّمِينَ
بِعَسَاكِرِنَا، نَحْنُ وَوَالِدُنَا وَعَمُّنَا، فَأَيُّ مَدِينَةٍ فُتِحَتْ أَوْ
مَعْقِلٍ مُلِكَ أَوْ عَسْكَرٍ لِلْعَدُوِّ كُسِرَ أَوْ مَصَافٍّ لِلْإِسْلَامِ
مَعَهُ ضُرِبَ وَلَمْ نَكُنْ فِيهِ ؟ فَمَا يَجْهَلُ أَحَدٌ صُنْعَنَا، وَلَا
يَجْحَدُ عَدُوُّنَا أَنَّا نَصْطَلِي الْجَمْرَةَ وَنَمْلِكُ الْكَرَّةَ،
وَنَتَقَدَّمُ الْجَمَاعَةَ
وَنُرَتِّبُ
الْمُقَاتِلَةَ، وَنُدَبِّرُ التَّعْبِئَةَ، إِلَى أَنْ ظَهَرَتْ فِي الشَّامِ
الْآثَارُ الَّتِي لَنَا أَجْرُهَا، وَلَا يَضُرُّنَا أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِنَا
ذِكْرُهَا. ثُمَّ ذَكَرَ مَا صَنَعُوا بِمِصْرَ مِنْ كَسْرِ الْكُفْرِ وَإِزَالَةِ
الْمُنْكَرِ وَقَمْعِ الْفِرِنْجِ وَهَدْمِ الْبِدَعِ الَّتِي كَانَتْ هُنَالِكَ،
وَمَا بُسِطَ مِنَ الْعَدْلِ وَمُدَّ مِنَ الْفَضْلِ، وَمَا أَقَامَهُ مِنَ
الْخُطَبِ الْعَبَّاسِيَّةِ بِبِلَادِ مِصْرَ وَالْيَمَنِ وَالنُّوبَةِ
وَإِفْرِيقِيَّةَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ بِكَلَامٍ بَسِيطٍ حَسَنٍ.
فَلَمَّا وَصَلَهُمُ الْكِتَابُ أَسَاءُوا الْجَوَابَ، وَقَدْ كَانُوا كَاتَبُوا
صَاحِبَ الْمَوْصِلِ سَيْفَ الدِّينِ غَازِيَّ بْنَ مَوْدُودٍ أَخِي نُورِ
الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَخَاهُ عِزَّ الدِّينِ
فِي عَسَاكِرِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فِي دَسَاكِرِهِ، فَانْضَافَ إِلَيْهِمُ
الْحَلَبِيُّونَ وَقَصَدُوا حَمَاةَ فِي غَيْبَةِ النَّاصِرِ وَاشْتِغَالِهِ
بِقَلْعَةِ حِمْصَ وَعِمَارَتِهَا، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبُرُهُمْ سَارَ إِلَيْهِمْ
فِي قُلٍّ مِنَ الْجَيْشِ فَانْتَهَى إِلَيْهِمْ وَهُمْ فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ،
فَوَاقَفُوهُ وَطَمِعُوا فِيهِ لِقِلَّةِ مَنْ مَعَهُ، وَهَمُّوا بِمُنَاجَزَتِهِ
فَجَعَلَ يُدَارِيهِمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْمُصَالَحَةِ لَعَلَّ الْجَيْشَ
يَلْحَقُونَهُ حَتَّى قَالَ لَهُمْ فِي جُمْلَةِ مَا قَالَ: أَنَا أَقْنَعُ
بِدِمَشْقَ وَحَدَهَا، وَأُقِيمُ بِهَا الْخُطْبَةَ لِلْمَلِكِ الصَّالِحِ
إِسْمَاعِيلَ، وَأَتْرُكُ مَا عَدَاهَا مِنْ أَرْضِ الشَّامِ. فَامْتَنَعَ مِنَ
الْمُصَالَحَةِ الْخَادِمُ سَعْدُ الدِّينِ كُمُشْتِكِينَ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ
لَهُمُ الرَّحْبَةَ الَّتِي هِيَ بِيَدِ ابْنِ عَمِّهِ نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ
أَسَدِ الدِّينِ، فَقَالَ: لَيْسَ لِي ذَلِكَ، وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَأَبَوُا
الصُّلْحَ وَأَقْدَمُوا عَلَى الْقِتَالِ فَجَعَلَ جَيْشَهُ كُرْدُوسًا وَاحِدًا،
وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ عِنْدَ قُرُونِ
حَمَاةَ وَصَبَرَ صَبْرًا عَظِيمًا، وَجَاءَهُ فِي أَثْنَاءِ الْحَالِ ابْنُ
أَخِيهِ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ شَاهِنْشَاهْ وَمَعَهُ أَخُوهُ
فَرُّوخْشَاهْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ دَسْتُهُ
عَلَيْهِمْ، وَخَلَصَ رُعْبُهُ
إِلَيْهِمْ
فَوَلَّوْا هُنَالِكَ هَارِبِينَ، وَتَوَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ فَأُسَرَ مَنْ
أُسِرَ مِنْ رُءُوسِهِمْ وَنَادَى أَنْ لَا يُتْبَعَ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفَ
عَلَى جَرِيحٍ، ثُمَّ أَطْلَقَ مَنْ وَقَعَ فِي أَسْرِهِ وَسَارَ عَلَى الْفَوْرِ
إِلَى حَلَبَ وَقَدِ انْعَكَسَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ، وَآلَوْا إِلَى شَرِّ مَآلٍ ;
فَبِالْأَمْسِ كَانَ يَطْلُبُ مِنْهُمُ الْمُصَالَحَةَ وَالْمُسَالَمَةَ، وَهُمُ
الْيَوْمَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ وَيَرْجِعَ، عَلَى أَنَّ
الْمَعَرَّةَ وَكَفْرَطَابَ وَبَارَيْنَ لَهُ زِيَادَةً عَلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ
أَرَاضِي حَمَاةَ وَحِمْصَ وَبَعْلَبَكَّ مَعَ دِمَشْقَ فَقَبِلَ ذَلِكَ، وَكَفَّ
عَنْهُمْ، وَحَلَفَ عَلَى أَنْ لَا يَغْزُوَ بَعْدَهَا الْمَلِكَ الصَّالِحَ،
وَأَنْ يَدْعُوَ لَهُ عَلَى سَائِرِ مَنَابِرِ بِلَادِهِ، وَشَفَعَ فِي بَنِي
الدَّايَةِ أَخُوهُ مَجْدُ الدِّينِ أَنْ يُخْرَجُوا مِنَ السِّجْنِ، فَفُعِلَ
ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مُسَلَّمًا مَحْبُورًا.
فَلَمَّا كَانَ بِحَمَاةَ وَصَلَتْ إِلَيْهِ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضِيءِ
بِأَمْرِ اللَّهِ وَمَعَهُمُ الْخِلَعُ السَّنِيَّةُ وَالتَّشْرِيفَاتُ
الْعَبَّاسِيَّةُ وَالْأَعْلَامُ السُّودُ وَتَوْقِيعٌ مِنَ الدِّيوَانِ
بِالسَّلْطَنَةِ بِبِلَادِ مِصْرَ وَالشَّامِ، وَأُفِيضَتِ الْخِلَعُ عَلَى
أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَصْهَارِهِ وَأَعْوَانِهِ وَأَنْصَارِهِ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا وَاسْتَنَابَ عَلَى حَمَاةَ ابْنَ خَالِهِ وَصِهْرَهُ
الْأَمِيرَ شِهَابَ الدِّينِ مَحْمُودًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى حِمْصَ فَأَطْلَقَهَا
إِلَى ابْنِ عَمِّهِ نَاصِرِ الدِّينِ، كَمَا كَانَتْ مِنْ قَبْلِهِ لِأَبِيهِ
شِيرَكُوهْ أَسَدِ الدِّينِ، ثُمَّ إِلَى بَعْلَبَكَّ ثُمَّ إِلَى الْبِقَاعِ
وَرَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ رَجُلٌ مِنْ قَرْيَةِ مَشْغَرَا مِنْ مُعَامَلَةِ
دِمَشْقَ وَكَانَ مَغْرِبِيًّا فَادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَأَظْهَرَ شَيْئًا مِنَ
الْمَخَارِيقِ وَالْمَخَايِيلِ وَالشَّعْبَذَةِ وَالْأَبْوَابِ النِّيرِنْجِيَّةِ،
فَافْتَتَنَ
بِهِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ مِنَ الطَّغَامِ وَالْهَمَجِ
وَالْعَوَامِّ فَتَطَلَّبَهُ السُّلْطَانُ فَهَرَبَ فِي اللَّيْلِ مِنْ مَشْغَرَا
إِلَى مُعَامَلَةِ حَلَبَ فَالْتَفَّ عَلَيْهِ كُلُّ مَقْطُوعِ الذَّنَبِ
وَأَضَلَّ خَلْقًا مِنَ الْفَلَّاحِينَ لَا الْمُفْلِحِينَ، وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً
أَحَبَّهَا، وَكَانَتْ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِطَاحِ فَعَلَّمَهَا أَنِ ادَّعَتِ
النُّبُوَّةَ فَأَشْبَهَا قِصَّةَ مُسَيْلِمَةَ وَسَجَاحَ، فَلَعَنَهُمَا اللَّهُ
كُلَّمَا غَبَّ الْحَمَامُ وَهَدَرَ، وَكُلَّمَا ضَبَّ الْغَمَامُ وَقَطَرَ.
وَفِيهَا هَرَبَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ وَنُهِبَتْ دَارُهُ.
وَفِيهَا دَرَّسَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ بِمَدْرَسَةٍ أُنْشِئَتْ
لِلْحَنَابِلَةِ فَحَضَرَ عِنْدَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ
الدَّامَغَانِيِّ وَالْفُقَهَاءُ وَالْكُبَرَاءُ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا
وَخُلِعَتْ عَلَيْهِ خِلْعَةٌ سَنِيَّةٌ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
رَوْحُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو طَالِبٍ الْحَدِيثِيُّ
قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَكَانَ ابْنُهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ،
فَلَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ أَبِيهِ مَرِضَ بَعْدَهُ فَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ
وَكَانَ يُنْبَذُ بِالرَّفْضِ.
شُمْلَةُ التُّرْكُمَانِيُّ
كَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى بِلَادِ فَارِسَ وَاسْتَحْدَثَ قِلَاعًا وَتَغَلَّبَ
عَلَى السَّلْجُوقِيَّةِ وَانْتَظَمَ لَهُ الدَّسْتُ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ
سَنَةً ثُمَّ إِنَّهُ حَارَبَهُ بَعْضُ التُّرْكُمَانِ فَقَتَلُوهُ.
قَايْمَازُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قُطْبُ الدِّينِ الْمُسْتَنْجَدِيُّ وَزَرَ لِلْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضِيءِ، وَكَانَ
مُقَدَّمًا عَلَى الْعَسَاكِرِ كُلِّهِمْ ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْخَلِيفَةِ
وَقَصَدَ أَنْ يَنْهَبَ دَارَ الْخِلَافَةِ فَصَعِدَ الْخَلِيفَةُ فَوْقَ سَطْحٍ
فِي دَارِهِ وَأَمَرَ الْعَامَّةَ بِنَهْبِ دَارِ قَايْمَازَ فَنُهِبَتْ وَكَانَ
ذَلِكَ بِإِفْتَاءِ الْفُقَهَاءِ فَهَرَبَ فَهَلَكَ وَهَلَكَ مَنْ كَانَ مَعَهُ
فِي الْمَهَامِهِ وَالْقِفَارِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا طَلَبَ الْفِرِنْجُ مِنَ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ - وَكَانَ قَدْ
أَقَامَ بِدِمَشْقَ فِي مَرْجِ الصُّفَّرِ - أَنْ يُهَادِنَهُمْ فَأَجَابَهُمْ
إِلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الشَّامَ كَانَ مُجْدِبًا وَيَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ.
وَأَرْسَلَ جَيْشَهُ صُحْبَةَ الْقَاضِي الْفَاضِلِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ ; لِيَسْتَغِلُّوا الْمُغَلَّ ثُمَّ يُقْبِلُوا، وَعَزَمَ هُوَ
عَلَى الْمُقَامِ بِالشَّامِ وَاعْتَمَدَ عَلَى كَاتِبِهِ الْعِمَادِ عِوَضًا عَنْ
أَفْصَحِ الْعِبَادِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَهُوَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ قُدْوَةُ
الْعُلَمَاءِ وَالْأَفَاضِلِ وَرِحْلَةُ الطَّالِبِينَ وَزَيْنُ الْمَحَافِلِ
زَيْنُ الْإِسْلَامِ وَمَنْ لِسَانُهُ أَحَدُّ، مِنْ حُسَامٍ وَلَكِنِ احْتَاجَ
السُّلْطَانُ إِلَى إِرْسَالِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ; لِيُكَونَ
عَيْنًا وَعَوْنًا لَهُ بِهَا، وَلِسَانًا فَصِيحًا يُعَبِّرُ عَنْهَا فَاحْتَاجَ
إِلَى أَنْ يَتَعَوَّضَ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَعَزَّ عَلَيْهِ وَلَا
أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُ:
وَمَا عَنْ رِضًا كَانَتْ سُلَيْمَى بَدِيلَةً بِلَيْلَى وَلَكِنْ لِلضَّرُورَاتِ
أَحْكَامُ
وَكَانَتْ إِقَامَتُهُ بِبِلَادِ الشَّامِ وَإِرْسَالُ الْجَيْشِ صُحْبَةَ
الْقَاضِي الْفَاضِلِ غَايَةَ الْحَزْمِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاهْتِمَامِ ;
لِيَحْفَظَ مَا اسْتَجَدَّ مِنَ الْمَمَالِكِ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ سَطْوَةِ مَنْ
هُنَالِكَ.
فَلَمَّا أَرْسَلَ الْجُيُوشَ إِلَى مِصْرَ وَبَقِيَ هُوَ فِي طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ
مِنْ عَسْكَرِهِ، وَاللَّهُ قَدْ
تَكَفَّلَ لَهُ وَلَهُمْ بِالنَّصْرِ كَتَبَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيٌّ ابْنُ أَخِي نُورِ الدِّينِ إِلَى جَمَاعَةِ الْحَلَبِيِّينَ يَلُومُهُمْ عَلَى مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ مِنَ الْمُصَالَحَةِ، وَقَدْ كَانَ إِذْ ذَاكَ مَشْغُولًا بِمُحَاصَرَةِ أَخِيهِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ بِسِنْجَارَ - وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِفِعْلَةٍ صَالِحَةٍ - وَمَا كَانَ سَبَبُ قِتَالِهِ لِأَخِيهِ إِلَّا انْتِمَاؤُهُ إِلَى طَاعَةِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ وَذَوِيهِ فَاصْطَلَحَ مَعَ أَخِيهِ حِينَ عَرَفَ قُوَّةَ النَّاصِرِ وَنَاصِرِيهِ، ثُمَّ حَرَّضَ الْحَلَبِيِّينَ عَلَى نَبْذِ الْعُهُودِ إِلَى الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ بِالْعُهُودِ الَّتِي عَاهَدُوهُ عَلَيْهَا وَدَعَوْهُ إِلَيْهَا، فَاسْتَعَانَ عَلَيْهِمْ بِاللَّهِ وَأَرْسَلَ إِلَى الْجُيُوشِ الْمِصْرِيَّةِ لِيَقْدَمُوا إِلَيْهِ فَأَقْبَلَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ فِي عَسَاكِرِهِ وَمُشَارِيهِ وَدَسَاكِرِهِ. وَاجْتَمَعَ بِابْنِ عَمِّهِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ عِمَادِ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ، وَسَارَ فِي عِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ عَلَى الْخُيُولِ الضُّمَّرِ الْجُرْدِ الْأَبَابِيلِ، وَسَارَ نَحْوَهُمُ النَّاصِرُ وَهُوَ كَالْهِزَبْرِ الْكَاسِرِ، وَإِنَّمَا مَعَهُ أَلْفُ فَارِسٍ مِنَ الْحُمَاةِ وَ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ: 229 ] وَلَكِنَّ الْجُيُوشَ قَدْ خَرَجَتْ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي جَحَافِلَ كَالْجِبَالِ وَعُدَّةٍ وَعَدَدٍ كَالرِّمَالِ، فَاجْتَمَعَ الْفَرِيقَانِ وَتَدَاعَوْا لِلنِّزَالِ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْعَاشِرِ مِنْ شَوَّالٍ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا هَائِلًا، حَتَّى حَمَلَ السُّلْطَانُ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، وَكَانَتْ بِإِذْنِ اللَّهِ الْهَزِيمَةُ، فَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الْحَلَبِيِّينَ وَالْمَوَاصِلَةِ وَأَخَذُوا مَضَارِبَ الْمَلِكِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِيٍّ وَحَوَاصِلَهُ وَأَسَرُوا جَمَاعَةً مِنْ رُءُوسِهِمْ فَأَطْلَقَهُمُ السُّلْطَانُ بَعْدَمَا أَفَاضَ الْخِلَعَ عَلَى أَبْدَانِهِمْ وَرُءُوسِهِمْ، وَقَدْ كَانُوا اسْتَعَانُوا بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْفِرِنْجِ فِي حَالِ الْقِتَالِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ صَنِيعِ الصَّنَادِيدِ الْأَبْطَالِ. وَقَدْ وَجَدَ السُّلْطَانُ فِي مُخَيَّمِ السُّلْطَانِ غَازِيٍّ شَيْئًا مِنَ الْأَقْفَاصِ الَّتِي فِيهَا الطُّيُورُ الْمُطْرِبَةُ - وَذَلِكَ فِي مَجْلِسِ شَرَابِهِ الْمُسْكِرِ - وَكَيْفَ مَنْ كَانَ هَذَا
مَسْلَكَهُ
وَمَذْهَبَهُ يَنْتَصِرُ ؟! فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ
وَتَسْيِيرِهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: قُلْ لَهُ بَعْدَ وُصُولِكَ
إِلَيْهِ وَسَلَامِكَ عَلَيْهِ: اشْتِغَالُكَ بِهَذِهِ الطُّيُورِ أَحَبُّ
إِلَيْكَ مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا رَأَيْتَ مِنَ الْمَحْذُورِ. وَغَنِمَ
السُّلْطَانُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا فَفَرَّقَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ
وَأَحْبَابِهِ وَأَنْصَارِهِ غُيَّبًا كَانُوا أَوْ حُضُورًا، وَأَنْعَمَ
بِخَيْمَةِ الْمَلِكِ سَيْفِ الدِّينِ غَازِيٍّ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ عِزِّ
الدِّينِ فَرُّوخْشَاهْ بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ نَجْمِ الدِّينِ، وَرَدَّ مَا
كَانَ فِي وِطَاقِهِ مِنَ الْجَوَارِي وَالْمُغَنِّيَاتِ، وَقَدْ كَانَ مَعَهُ
أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ مُغَنِّيَةٍ وَرَدَّ الْأَقْفَاصَ وَآلَاتِ اللَّعِبِ إِلَى
حَلَبَ وَقَالَ: قُولُوا لَهُ: هَذَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنَ الْحَرْبِ. وَوَجَدَ
عَسْكَرَ الْمَوَاصِلَةِ كَالْحَانَةِ مِنْ كَثْرَةِ الْخُمُورِ وَالْبَرَابِطِ
وَالْمَلَاهِي، وَهَذِهِ سَبِيلُ مَنْ هُوَ عَنْ طَرِيقِ الْخَيْرِ سَاهٍ لَاهٍ.
فَصْلٌ
لَمَّا رَجَعَ الْحَلَبِيُّونَ إِلَى حَلَبَ وَقَدِ انْقَلَبُوا شَرَّ مُنْقَلَبٍ
وَنَدِمُوا عَلَى نَقْضِهِمُ الْأَيْمَانَ وَمُخَالَفَتِهِمْ طَاعَةَ الرَّحْمَنِ
وَشَقِّهِمُ الْعَصَا عَلَى السُّلْطَانِ حَصَّنُوا الْبَلَدَ خَوْفًا مِنْ
وُثُوبِ الْأَسَدِ، وَأَسْرَعَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ فَوَصَلَهَا، وَمَا صَدَّقَ
حَتَّى دَخَلَهَا، وَأَمَّا السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ فَإِنَّهُ لَمَّا
فَرَغَ مِنْ قِسْمَةِ مَا غَنِمَ مِمَّا تَرَكَهُ مَنْ عَطِبَ وَمَنْ سَلِمَ،
أَسْرَعَ الْمَسِيرَ إِلَى حَلَبَ الشَّهْبَاءِ وَهُوَ فِي غَايَةِ السَّطْوَةِ
وَالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ الْقَعْسَاءِ، فَوَجَدَهُمْ قَدْ حَصَّنُوهَا،
وَالْقَلْعَةَ قَدْ أَحْكَمُوهَا فَقَالَ: مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنْ نُبَادِرَ
إِلَى فَتْحِ الْحُصُونِ الَّتِي حَوْلَ الْبَلَدِ، ثُمَّ نَعُودَ إِلَيْهِمْ
فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْنَا
مِنْهُمْ
أَحَدٌ. فَشَرَعَ يَفْتَحُ الْحُصُونَ حِصْنًا حِصْنًا ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِمْ
وَيَهْدِمُ مِنْ أَرْكَانِ دَوْلَتِهِمْ رُكْنًا رُكْنًا فَفَتَحَ بُزَاغَةَ
وَمَنْبِجَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَزَازَ فَأَرْسَلَ الْحَلَبِيُّونَ إِلَى سِنَانٍ،
فَأَرْسَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ لِيَقْتُلُوا صَلَاحَ الدِّينِ فَدَخَلَ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فِي جَيْشِهِ فِي زِيِّ الْجُنْدِ فَقَاتَلُوا أَشَدَّ
الْقِتَالِ حَتَّى اخْتَلَطُوا بِهِمْ فَوَجَدُوا فُرْصَةً ذَاتَ يَوْمٍ
وَالسُّلْطَانُ ظَاهِرٌ لِلنَّاسِ فَحَمَلَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَضَرَبَهُ
بِسِكِّينٍ عَلَى رَأْسِهِ فَإِذَا هُوَ مُحْتَرِسٌ مِنْهُمْ بِاللَّأْمَةِ
فَسَلَّمَهُ اللَّهُ غَيْرَ أَنَّ السِّكِّينَ مَرَّتْ عَلَى خَدِّهِ فَجَرَحَتْهُ
جُرْحًا هَيِّنًا ثُمَّ أَخَذَ الْفِدَاوِيُّ رَأْسَ السُّلْطَانِ فَوَضَعَهُ
عَلَى الْأَرْضِ لِيَذْبَحَهُ، وَمَنْ حَوْلَهُ قَدْ أَخَذَتْهُمْ دَهْشَةٌ، ثُمَّ
ثَابَ إِلَيْهِمْ عَقْلُهُمْ فَبَادَرُوا إِلَى الْفِدَاوِيِّ فَقَتَلُوهُ
وَقَطَّعُوهُ ثُمَّ هَجَمَ آخَرُ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ عَلَى السُّلْطَانِ
فَقُتِلَ، ثُمَّ هَجَمَ آخَرُ عَلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ فَقُتِلَ أَيْضًا،
وَهَرَبَ الرَّابِعُ فَأُدْرِكَ فَقُتِلَ، وَبَطَلَ الْقِتَالُ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
ثُمَّ صَمَّمَ السُّلْطَانُ عَلَى الْبَلَدِ فَفَتَحَهُ وَأَقْطَعَهُ ابْنَ
أَخِيهِ تَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ بْنَ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ وَقَدِ اشْتَدَّ
حَنَقُهُ عَلَى أَهْلِ حَلَبَ لِمَا فَعَلُوا وَلِمَا أَرْسَلُوا مِنَ
الْفِدَاوِيَّةِ إِلَيْهِ وَإِقْدَامِهِمْ عَلَيْهِ، فَجَاءَ فَنَزَلَ تُجَاهَ
الْبَلَدِ عَلَى جَبَلِ جَوْشَنَ وَضُرِبَتْ خَيْمَتُهُ عَلَى رَأْسِ
الْبَادُوقِيَّةِ، وَذَلِكَ فِي خَامِسَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ وَجَبَى
الْأَمْوَالَ وَأَخَذَ الْخَرَاجَ مِنَ الْقُرَى وَمَنَعَ أَنْ يَدْخُلَ الْبَلَدَ
شَيْءٌ أَوْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَاسْتَمَرَّ حِصَارُهُ إِيَّاهَا حَتَّى
انْسَلَخَتِ السَّنَةُ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَادَ شَمْسُ الدَّوْلَةِ
تُورَانْشَاهْ أَخُو
السُّلْطَانِ
مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَذَلِكَ مِنْ كَثْرَةِ اشْتِيَاقِهِ إِلَى أَخِيهِ
وَذَوِيِهِ وَإِلَى الشَّامِ وَطِيبِهِ وَظِلَالِهِ ; لِأَنَّهُ ضَجِرَ مِنْ حَرِّ
الْيَمَنِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَصَلَ عَلَى أَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ مِنْ مَالِهِ،
فَفَرِحَ بِهِ أَخُوهُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ، وَاشْتَدَّ أَزْرُهُ بِسَبَبِهِ،
وَلَمَّا اجْتَمَعَا قَالَ النَّاصِرُ النَّاصِحُ الْبَرُّ الْوَفِيُّ: أَنَا
يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي، وَقَدِ اسْتَنَابَ شَمْسَ الدِّينِ عَلَى بِلَادِ
الْيَمَنِ وَإِنَّمَا اسْتَنَابَ عَلَى مُخَالِفِيهَا مَنْ لَا يُخَالِفُهُ مِنْ
ذِي قَرَابَاتِهِ وَمَنْ لَهُ سَالِفُ الْمِنَنِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَ
أَخِيهِ اسْتَنَابَهُ عَلَى دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا، وَقِيلَ: إِنَّ قُدُومَهُ
كَانَ قَبْلَ وَقْعَةِ الْمَوَاصِلَةِ وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ الْفَتْحِ
وَالنَّصْرِ ; لِشَهَامَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَفُرُوسِيَّتِهِ وَبَسَالَتِهِ.
وَفِيهَا أَنْفَذَ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ ابْنُ أَخِي السُّلْطَانِ مَمْلُوكَهُ
بَهَاءَ الدِّينِ قَرَاقُوشَ فِي جَيْشٍ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ فَفَتَحَ
بِلَادًا كَثِيرَةً هُنَالِكَ وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً ثُمَّ عَادَ إِلَى
مِصْرَ وَطَابَتْ لَهُ وَتَرَكَ تِلْكَ الْبِلَادِ.
وَفِيهَا قَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ الْوَاعِظُ الْكَبِيرُ أَبُو الْفُتُوحِ عَبْدُ
السَّلَامِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَلِّدٍ التَّنُوخِيُّ
الدِّمَشْقِيُّ الْأَصْلُ الْبَغْدَادِيُّ الْمَنْشَأُ ذَكَرَهُ الْعِمَادُ فِي
الْخَرِيدَةِ، قَالَ: وَكَانَ صَاحِبِي وَجَلَسَ لِلْوَعْظِ وَحَضَرَ عِنْدَهُ
السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ. وَأَوْرَدَ لَهُ مُقَطِّعَاتِ أَشْعَارٍ، فَمِنْ
ذَلِكَ مَا كَانَ يَقُولُ فِي مَجْلِسِهِ:
يَا مَالِكًا مُهْجَتِي يَا مُنْتَهَى أَمَلِي يَا حَاضِرًا شَاهِدًا فِي
الْقَلْبِ وَالْفِكْرِ خَلَقْتَنِي مِنْ تُرَابٍ أَنْتَ خَالِقُهُ
حَتَّى إِذَا صِرْتُ تِمْثَالًا مِنَ الصُّوَرِ أَجْرَيْتَ فِي قَالِبِي رُوحًا
مُنَوَّرَةً
تَمُرُّ فِيهِ كَجَرْيِ الْمَاءِ فِي الشَّجَرِ
جَمَعْتَ
بَيْنَ صَفَا رُوحٍ مُنَوَّرَةٍ
وَهَيْكَلٍ صُغْتَهُ مِنْ مَعْدِنٍ كَدِرِ إِنْ غِبْتُ فِيكَ فَيَا فَخْرِي وَيَا
شَرَفِي
وَإِنْ حَضَرْتُ فَيَا سَمْعِي وَيَا بَصَرِي إِنِ احْتَجَبْتَ فَسِرِّي فِيكَ فِي
وَلَهٍ
وَإِنْ خَطَرْتَ فَقَلْبِي مِنْكَ فِي خَطَرِ تَبْدُو فَتَمْحُو رُسُومِي ثُمَّ
تُثْبِتُهَا
وَإِنْ تَغَيَّبْتَ عَنِّي عِشْتُ بِالْأَثَرِ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ هِبَةِ
اللَّهِ بْنِ عَسَاكِرَ أَبُو الْقَاسِمِ الدِّمَشْقِيُّ
أَحَدُ أَكَابِرِ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَمَنْ عُنِيَ بِهِ سَمَاعًا وَجَمْعًا
وَتَصْنِيفًا وَاطِّلَاعًا وَحِفْظًا لِأَسَانِيدِهِ وَمُتُونِهِ وَإِتْقَانًا
لِأَسَالِيبِهِ وَفُنُونِهِ صَنَّفَ " تَارِيخَ الشَّامِ " فِي
ثَمَانِينَ مُجَلَّدَةً فَهِيَ بَاقِيَةٌ بَعْدَهُ مُخَلَّدَةٌ، وَقَدْ بَرَزَ
عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ وَأَتْعَبَ مَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُ
مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَحَازَ فِيهِ قَصَبَ السِّبَاقِ وَجَازَ حَدًّا يَأْمَنُ
فِيهِ اللِّحَاقَ، وَمَنْ نَظَرَ فِيهِ وَتَأَمَّلَهُ وَرَأَى مَا وَصَفَهُ فِيهِ
وَأَصَّلَهُ، حَكَمَ بِأَنَّهُ فَرِيدٌ فِي التَّوَارِيخِ، وَأَنَّهُ فِي
الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنَ الشَّمَارِيخِ هَذَا مَعَ مَا لَهُ فِي عُلُومِ
الْحَدِيثِ مِنْ كُتُبٍ مُفِيدَةٍ، وَمَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ مِنَ
الْعِبَادَةِ وَالطَّرَائِقِ الْحَمِيدَةِ، فَلَهُ: " أَطْرَافُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ
"، " وَالشُّيُوخُ النُّبَّلُ " وَ " تَبْيِينُ كَذِبِ
الْمُفْتَرِي عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ "، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ
الْمُصَنَّفَاتِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَالْأَجْزَاءِ وَالْأَسْفَارِ، وَقَدْ
أَكْثَرَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ مِنَ التِّرْحَالِ وَالْأَسْفَارِ، وَجَابَ
الْمُدُنَ وَالْأَقَالِيمَ وَالْأَمْصَارَ وَجَمَعَ مِنَ الْكُتُبِ مَا لَمْ
يَجْمَعْهُ أَحَدٌ مِنَ الْحُفَّاظِ نَسْخًا وَاسْتِنْسَاخًا وَمُقَابَلَةً
وَتَصْحِيحًا
لِلْأَلْفَاظِ،
وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ بُيُوتَاتِ الدَّمَاشِقَةِ، وَرِيَاسَتُهُ فِيهِمْ
عَالِيَةٌ بَاسِقَةٌ، مِنْ ذَوِي الْأَقْدَارِ وَالْهَيْئَاتِ وَالْأَمْوَالِ
الْجَزِيلَةِ وَالصِّلَاتِ، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْحَادِي عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ
وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَحَضَرَ السُّلْطَانُ
صَلَاحُ الدِّينِ جِنَازَتَهُ وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ
النَّيْسَابُورِيُّ قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَلَهُ أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا
قَوْلُهُ:
أَيَا نَفْسُ وَيْحَكِ جَاءَ الْمَشِيبُ فَمَا ذَا التَّصَابِي وَمَا ذَا
الْغَزَلْ ؟ تَوَلَّى شَبَابِي كَأَنْ لَمْ يَكُنْ
وَجَاءَ الْمَشِيبُ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ كَأَنِّي بِنَفْسِي عَلَى غِرَّةٍ
وَخَطْبُ الْمَنُونِ بِهَا قَدْ نَزَلْ فَيَا لَيْتَ شِعْرِيَ مِمَّنْ أَكُونُ
وَمَا قَدَّرَ اللَّهُ لِي فِي الْأَزَلْ
قَالَ: وَقَدِ الْتَزَمَ فِيهَا مَا لَمْ يَلْزَمْ ; وَهُوَ الزَّايُ قَبْلَ
اللَّامِ. قَالَ: وَكَانَ أَخُوهُ صَائِنُ الدِّينِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ
مُحَدِّثًا فَقِيهًا اشْتَغَلَ بِبَغْدَادَ عَلَى أَسْعَدَ الْمِيهَنِيِّ، ثُمَّ
قَدِمَ دِمَشْقَ فَدَرَّسَ بِالْغَزَّالِيَّةِ وَتُوفِّيَ بِهَا فِي سَنَةِ
ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالسُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ مُحَاصِرٌ حَلَبَ
وَقَدْ أَشْرَفَ مِنْهَا عَلَى نَيْلِ الطَّلَبِ، فَسَأَلُوهُ وَتَوَسَّلُوا
إِلَيْهِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ حَلَبُ
وَأَعْمَالُهَا لِلْمَلِكِ الصَّالِحِ فَقَطْ، فَكُتِبَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ،
وَأُبْرِمَ الْحِسَابُ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ بَعَثَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ
إِسْمَاعِيلُ إِلَى الْمَلِكِ النَّاصِرِ يَسْأَلُ مِنْهُ زِيَادَةَ قَلْعَةِ
عَزَازَ، عَلَى مَا شَرَّفَهُ بِهِ مِنَ الْإِعْزَازِ، وَأَرْسَلَ بِأُخْتٍ لَهُ
صَغِيرَةٍ وَهِيَ الْخَاتُونُ بِنْتُ نُورِ الدِّينِ ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى
إِلَى قَبُولِ السُّؤَالِ، وَأَنْجَعَ لِحُصُولِ النَّوَالِ، فَحِينَ رَآهَا
النَّاصِرُ قَامَ كَالْقَضِيبِ النَّاضِرِ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ، وَأَجَابَهَا
إِلَى سُؤَالِهَا، وَأَطْلَقَ لَهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالتُّحَفِ مَا رَأَى
أَنَّهُ عَلَيْهِ فَرْضٌ، ثُمَّ تَرَحَّلَ عَنْ حَلَبَ فَقَصَدَ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا عَلَيْهِ فَحَاصَرَ حِصْنَهُمْ
مِصْيَابَ فَقَتَلَ وَضَرَبَ وَسَبَى، وَأَخَذَ أَبْقَارَهُمْ، وَخَرَّبَ
دِيَارَهُمْ، وَقَصَّرَ أَعْمَارَهُمْ، حَتَّى شَفَعَ فِيهِمْ خَالُهُ شِهَابُ
الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ تِكِشَ صَاحِبُ حَمَاةَ ; لِأَنَّهُمْ جِيرَانُهُ،
فَقَبِلَ شَفَاعَتَهُ، وَقَدْ أَحْضَرَ إِلَيْهِ نَائِبُ بَعْلَبَكَّ الْأَمِيرُ
شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُقَدَّمٍ -
الَّذِي
كَانَ نَائِبَ دِمَشْقَ - جَمَاعَةً مِنْ أُسَارَى الْفِرِنْجِ الَّذِينَ عَاثُوا
بِالْبِقَاعِ فِي غَيْبَةِ السُّلْطَانِ وَاشْتِغَالِهِ بِحِصَارِ مِصْيَابَ،
فَجَدَّدَ لَهُ الْعَزْمَ عَلَى غَزْوِ الْفِرِنْجِ وَالِانْبِعَاثِ فَصَالَحَ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةَ أَصْحَابَ سِنَانٍ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى دِمَشْقَ فِي
حِرَاسَةِ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ تَلَقَّاهُ أَخُوهُ شَمْسُ الدَّوْلَةِ
تُورَانْشَاهْ فَتَسَالَمَا وَتَعَانَقَا وَتَنَاشَدَا الْأَشْعَارَ، وَلَمَّا
دَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ فِي سَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ فَوَّضَهَا إِلَى
أَخِيهِ شَمْسِ الدَّوْلَةِ تُوارَنْشَاهْ وَلَقَّبَهُ الْمَلِكَ الْمُعَظَّمَ،
وَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى السَّفَرِ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ الْقَاضِي كَمَالُ
الدَّيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّهْرُزُورِيُّ قَدْ تُوُفِّيَ فِي سَادِسِ
الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ،
وَأَخَصِّ النَّاسِ بِنُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ، فَوَّضَ إِلَيْهِ نَظَرَ
الْجَامِعِ وَدَارَ الضَّرْبِ وَعِمَارَةَ الْأَسْوَارِ وَالنَّظَرَ فِي
الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى بِالْقَضَاءِ لِابْنِ أَخِيهِ ضِيَاءِ
الدِّينِ بْنِ تَاجِ الدِّينِ الشَّهْرُزُورِيِّ، فَأَمْضَى ذَلِكَ السُّلْطَانُ
الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ ; رِعَايَةً لِحَقِّ الْكَمَالِ
الشَّهْرُزُورِيِّ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عَلَيْهِ ; بِسَبَبِ مَا كَانَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِينَ كَانَ صَلَاحُ الدِّينِ شِحْنَةً بِدِمَشْقَ، وَكَانَ
يُعَاكِسُهُ وَيُخَالِفُهُ، وَمَعَ هَذَا أَمْضَى وَصِيَّتَهُ لِابْنِ أَخِيهِ،
فَجَلَسَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ عَلَى عَادَةِ عَمِّهِ وَقَاعِدَتِهِ
وَرَسْمِهِ، وَبَقِيَ فِي نَفْسِ السُّلْطَانِ مِنْ تَوْلِيَةِ شَرَفِ الدِّينِ
أَبَى سَعْدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَصْرُونَ الْحَلَبِيِّ، وَكَانَ قَدْ
هَاجَرَ إِلَى السُّلْطَانِ إِلَى دِمَشْقَ فَوَعْدَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ
قَضَاءَهَا، فَأَسَرَّ بِذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي الْفَاضِلِ، فَأَشَارَ الْقَاضِي
الْفَاضِلُ عَلَى الضِّيَاءِ أَنْ يَسْتَعْفِيَ مِنْ
الْقَضَاءِ
فَاسْتَعْفَى فَأُعْفِيَ، وَتُرِكَ لَهُ وَكَالَةُ بَيْتِ الْمَالِ، وَوَلَّى
السُّلْطَانُ ابْنَ أَبِي عَصْرُونَ عَلَى أَنْ يَسْتَنِيبَ الْقَاضِي مُحْيِي
الدِّينِ أَبَا الْمَعَالِي مُحَمَّدَ بْنَ زَكِيِّ الدِّينِ، وَالْأَوْحَدَ،
عَنْهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدَ سَنَوَاتٍ اسْتَقَلَّ بِالْحُكْمِ مُحْيِي
الدِّينِ ; أَبُو حَامِدِ بْنُ أَبِي عَصْرُونَ عِوَضًا عَنْ أَبِيهِ شَرَفِ
الدِّينِ ; بِسَبَبِ ضَعْفِ بَصَرِهِ.
وَفِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَفَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ
قَرْيَةَ حَزْمٍ عَلَى الزَّاوِيَةِ الْغَزَّالِيَّةِ، وَمَنْ يَشْتَغِلُ بِهَا
بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْفَقِيهُ، وَجَعَلَ
النَّظَرَ لِقُطْبِ الدِّينِ النَّيْسَابُورِيِّ مُدَرِّسِهَا.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ تَزَوَّجَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ بِالسِّتِّ
خَاتُونَ عِصْمَةِ الدِّينِ بِنْتِ مُعِينِ الدِّينِ أَنُرَ، وَكَانَتْ زَوْجَةَ
الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودٍ، فَأَقَامَتْ بَعْدَهُ فِي الْقَلْعَةِ
مُحْتَرَمَةً مُكَرَّمَةً، وَوَلِيَ تَزْوِيجَهَا مِنْهُ أَخُوهَا الْأَمِيرُ
سَعْدُ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ أَنُرَ، وَحَضَرَ الْقَاضِي ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ
الْعَقْدَ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعُدُولِ، وَبَاتَ النَّاصِرُ عِنْدَهَا تِلْكَ
اللَّيْلَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ
مِنَ الدُّخُولِ بِهَا، فَرَكِبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَنَزَلَ
بِمَرْجِ الصُّفَّرِ، ثُمَّ سَافَرَ فَعَشَا قَرِيبًا مِنَ الصَّنَمَيْنِ، ثُمَّ
أَجَدَّ السَّيْرَ حَتَّى كَانَ دُخُولُهُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ يَوْمَ
السَّبْتِ سَادِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فِي أُبَّهَةِ
الْمُلْكِ. وَقَدْ تَلَقَّاهُ أَخُوهُ
وَنَائِبُهُ
الْمَلِكُ الْعَادِلُ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عِنْدَ بَحْرِ
الْقُلْزُمِ وَمَعَهُ مِنَ الْهَدَايَا شَيْءٌ كَثِيرٌ وَلَا سِيَّمَا الْمَآكِلُ
الْمُتَنَوِّعَةُ، وَكَانَ فِي صُحْبَةِ السُّلْطَانِ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ،
وَلَمْ يَكُنْ وَرَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَشَرَعَ يَذْكُرُ
مَحَاسِنَهَا، وَمَا اخْتُصَّتْ بِهِ مِنْ بَيْنِ الْبُلْدَانِ، وَوَصَفَ
الْهَرَمَيْنِ، وَشَبَّهَهُمَا بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّشْبِيهَاتِ، وَبَالَغَ فِي
ذَلِكَ حَسْبَ مَا ذَكَرَ فِي " الرَّوْضَتَيْنِ ".
وَفِي شَعْبَانَ رَكِبَ السُّلْطَانُ النَّاصِرُ بْنُ أَيُّوبَ إِلَى
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فَأَسْمَعَ وَلَدَيْهِ الْأَفْضَلَ عَلِيًّا، وَالْعَزِيزَ
عُثْمَانَ عَلَى الْحَافِظِ السَّلَفِيِّ، وَتَرَدَّدَ بِهِمَا إِلَيْهِ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ ; الْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ رَابِعَ رَمَضَانَ، وَعَزَمَ
السُّلْطَانُ عَلَى الصِّيَامِ بِهَا، وَقَدْ كَمَّلَ عِمَارَةَ السُّورِ عَلَى
الْبَلَدِ، وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ الْأُسْطُولِ وَإِصْلَاحِ مَرَاكِبِهِ وَسُفُنِهِ
وَشَحْنِهِ بِالرِّجَالِ وَالْمُقَاتِلَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِغَزْوِ جَزَائِرِ
الْبَحْرِ، وَأَقْطَعَهُمُ الْإِقْطَاعَاتِ الْجَزِيلَةَ، وَأَرْصَدَ لِصَالِحِ
الْأُسْطُولِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ لِجَمِيعِ شُئُونِهِ، ثُمَّ
عَادَ إِلَى الْقَاهِرَةِ فِي أَثْنَاءِ رَمَضَانَ فَأَكْمَلَ صَوْمَهُ بِهَا.
وَفِيهَا أَمَرَ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ بِبِنَاءِ مَدْرَسَةٍ
لِلشَّافِعِيَّةِ عَلَى قَبْرِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَجَعَلَ الشَّيْخَ
نَجْمَ الدِّينِ الْخُبُوشَانِيَّ مُدَرِّسَهَا وَنَاظِرَهَا.
وَفِيهَا أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَارَسْتَانِ بِالْقَاهِرَةِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ
أَوْقَافًا كَثِيرَةً. وَفِيهَا بَنَى الْأَمِيرُ مُجَاهِدُ الدِّينِ قَايْمَازُ نَائِبُ
قَلْعَةِ الْمَوْصِلِ جَامِعًا حَسَنًا وَرِبَاطًا وَمَدْرَسَةً وَمَارَسْتَانًا
مُتَجَاوِرَاتٍ
بِظَاهِرِ مَدِينَةِ الْمَوْصِلِ وَقَدْ تَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ إِلَى سَنَةِ
خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَلَهُ عِدَّةُ مَدَارِسَ وَخَانْقَاهَاتٍ
وَجَوَامِعَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ دَيِّنًا خَيِّرًا فَاضِلًا حَنَفِيَّ
الْمَذْهَبِ، يُذَاكِرُ فِي الْأَدَبِ وَالْأَشْعَارِ وَالْفِقْهِ، كَثِيرَ
الصِّيَامِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ.
وَفِيهَا أُخْرِجَ الْمَجْذُومُونَ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْهَا
لِيَتَمَيَّزُوا عَنْ أَهْلِ الْعَافِيَةِ - نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ
بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ - وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ
" عَنِ امْرَأَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ " كُنْتُ أَمْشِي فِي الطَّرِيقِ
وَكَأَنَّ رَجُلًا يُعَارِضُنِي كُلَّمَا مَرَرْتُ بِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ
لَا سَبِيلَ إِلَى هَذَا الَّذِي تَرُومُهُ مِنِّي إِلَّا بِكِتَابٍ،
فَتَزَوَّجَنِي عِنْدَ الْحَاكِمِ، فَمَكَثْتُ مَعَهُ مُدَّةً ثُمَّ اعْتَرَاهُ
انْتِفَاخٌ بِبَطْنِهِ فَكُنَّا نَظُنُّ أَنَّ بِهِ اسْتِسْقَاءً فَنُدَاوِيهِ
لِذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ وَلَدَ وَلَدًا كَمَا تَلِدُ النِّسَاءُ،
وَإِذَا هُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ الْأَشْيَاءِ. وَاللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَلِيُّ بْنُ عَسَاكِرَ
بْنِ الْمَرْحَبِ بْنِ الْعَوَّامِ، أَبُو الْحَسَنِ الْبَطَائِحِيُّ الْمُقْرِئُ
اللُّغَوِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَأَسْمَعَهُ، وَكَانَ حَسَنَ الْمَعْرِفَةِ
بِالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَوَقَفَ كُتُبَهُ بِمَسْجِدِ ابْنِ جَرْدَةُ
بِبَغْدَادَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى
الثَّمَانِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْقَاسِمِ، أَبُو الْفَضْلِ، قَاضِي الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ، كَمَالُ
الدَّيْنِ الشَّهْرُزُورِيُّ، الْمَوْصِلِيُّ، وَلَهُ بِهَا مَدْرَسَةٌ عَلَى
الشَّافِعِيَّةِ، وَأُخْرَى بِنَصِيبِينَ، وَكَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا أَمِينًا
ثِقَةً وَرِعًا، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ لِنُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ
زَنْكِيٍّ، وَاسْتَوْزَرَهُ أَيْضًا فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ السَّاعِي قَالَ:
وَكَانَ يَبْعَثُهُ فِي الرَّسَائِلِ، كَتَبَ مَرَّةً عَلَى أَعْلَى قِصَّةٍ إِلَى
الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَفِي: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّسُولُ، فَكَتَبَ
الْخَلِيفَةُ تَحْتَ ذَلِكَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: وَقَدْ
فَوَّضَ إِلَيْهِ نُورُ الدِّينِ نَظَرَ الْجَامِعِ وَدَارَ الضَّرْبِ، وَعَمَّرَ
لَهُ الْمَارَسْتَانَ وَالْمَدَارِسَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ
الْمُهِمَّاتِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فِي الْمُحَرَّمِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِدِمَشْقَ.
الْخَطِيبُ شَمْسُ الدِّينِ
بْنُ الْوَزِيرِ أَبُو الْمَضَاءِ، خَطِيبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَابْنُ
وَزِيرِهَا، كَانَ أَوَّلَ مَنْ خَطَبَ بِدِيَارِ مِصْرَ لِلْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ، بِأَمْرِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ
صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ، ثُمَّ حَظِيَ عِنْدَهُ حَتَّى جَعَلَهُ
سَفِيرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُلُوكِ وَالْخُلَفَاءِ، وَكَانَ رَئِيسًا مُطَاعًا
كَرِيمًا مُمَدَّحًا، يَتَرَامَى عَلَيْهِ الشُّعَرَاءُ وَالْأُدَبَاءُ. ثُمَّ
جَعَلَ مَكَانَهُ فِي السِّفَارَةِ وَأَدَاءِ الرَّسَائِلِ ضِيَاءَ الدِّينِ ابْنَ
قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّهْرُزُورِيَّ الْمُتَقَدِّمَ بِمَرْسُومٍ سُلْطَانِيٍّ،
وَكَانَتْ وَظِيفَةً مُقَرَّرَةً.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِبِنَاءِ قَلْعَةِ الْجَبَلِ وَإِحَاطَةِ سُورٍ عَلَى
الْقَاهِرَةِ وَمِصْرَ يَشْمَلُهُمَا جَمِيعًا، فَعُمِّرَتْ قَلْعَةٌ لِلْمَلِكِ
لَمْ يَكُنْ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِثْلُهَا وَلَا عَلَى شَكْلِهَا،
وَوَلِيَ عِمَارَةَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ بَهَاءُ الدِّينِ قَرَاقُوشُ مَمْلُوكُ
تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الرَّمْلَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا سَارَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ
صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ مِنْ مِصْرَ قَاصِدًا غَزْوَ الْفِرِنْجِ،
فَانْتَهَى إِلَى بِلَادِ الرَّمْلَةِ فَسَبَى وَسَلَبَ وَغَنِمَ وَقَسَرَ
وَكَسَرَ وَكَسَبَ، ثُمَّ تَشَاغَلَ جَيْشُهُ بِالْغَنَائِمِ، وَتَفَرَّقُوا فِي
الْقُرَى وَالْمَحَالِّ تَفَرُّقَ الْهَائِمِ، وَبَقِيَ السُّلْطَانُ فِي
طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ مُنْفَرِدًا، فَهَجَمَتْ عَلَيْهِ الْفِرِنْجُ فِي
جَحْفَلٍ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، فَمَا سَلِمَ السُّلْطَانُ إِلَّا بَعْدَ جُهْدٍ
جَهِيدٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، ثُمَّ تَرَاجَعَ الْجَيْشُ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ،
وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَوَقَعَتِ الْأَرَاجِيفُ فِي النَّاسِ
بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَمَا صَدَّقَ أَهْلُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِرُؤْيَتِهِ
بَعْدَمَا بَلَغَهُمْ مِنَ الْإِرْجَافِ وَالْإِرْهَابِ، وَصَارَ الْأَمْرُ كَمَا
قِيلَ:
رَضِيتُ
مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ
وَمَعَ هَذَا دَقَّتِ الْبَشَائِرُ فِي الْبُلْدَانِ فَرَحًا بِسَلَامَةِ
السُّلْطَانِ، وَلَمْ تَجْرِ مِثْلُ هَذِهِ الْوَقْعَةِ إِلَّا بَعْدَ عَشْرِ
سِنِينَ، وَذَلِكَ يَوْمَ حِطِّينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،
وَقَدْ ثَبَتَ السُّلْطَانُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ ثَبَاتًا عَظِيمًا، وَأَسَرَ لِلْمَلِكِ
الْمُظَفَّرِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ ابْنِ أَخِي السُّلْطَانِ وَلَدُهُ
شَاهِنْشَاهْ، فَبَقِيَ عِنْدَهُمْ سَبْعَ سِنِينَ، وَقُتِلَ ابْنُهُ الْآخَرُ،
وَكَانَ شَابًّا قَدْ طَرَّ شَارِبُهُ، فَحَزِنَ عَلَى الْمَقْتُولِ
وَالْمَفْقُودِ، وَصَبَرَ تَأَسِّيًا بِأَيُّوبَ، وَنَاحَ كَمَا نَاحَ دَاوُدُ،
وَأُسِرَ الْفَقِيهَانِ الْأَخَوَانِ، ضِيَاءُ الدِّينِ عِيسَى، وَظَهِيرُ
الدِّينِ، فَافْتَدَاهُمَا السُّلْطَانُ بَعْدَ سِنِينَ بِسَبْعِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ.
وَفِيهَا تَخَبَّطَتِ الدَّوْلَةُ بِحَلَبَ، وَقَبَضَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُورِ الدِّينِ عَلَى الْخَادِمِ كُمُشْتِكِينَ،
وَأَلْزَمَهُ بِتَسْلِيمِ قَلْعَةِ حَارِمٍ وَكَانَتْ لَهُ، فَأَبَى مِنْ ذَلِكَ،
فَعَلَّقَهُ مَنْكُوسًا، وَدَخَّنَ تَحْتَ أَنْفِهِ حَتَّى مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ.
وَقَصَدَتِ الْفِرِنْجُ حَارِمًا فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ سُلِّمَتْ إِلَى
الْمَلِكِ الصَّالِحِ.
وَفِيهَا جَاءَ مَلِكٌ كَبِيرٌ مِنْ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ يَرُومُ أَخْذَ الشَّامِ
لِغَيْبَةِ السُّلْطَانِ وَاشْتِغَالِ نُوَّابِهِ بِلَذَّاتِهِمْ.
قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: وَمِنْ شَرْطِ هُدْنَةِ الْفِرِنْجِ أَنَّهُ مَتَى
جَاءَ مَلِكٌ كَبِيرٌ مِنْ مُلُوكِهِمْ لَا يُمْكِنُهُمْ دَفْعُهُ فَإِنَّهُمْ
يُقَاتِلُونَ مَعَهُ وَيُؤَازِرُونَهُ وَيَنْصُرُونَهُ، فَإِذَا انْصَرَفَ
عَنْهُمْ
عَادَتِ الْهُدْنَةُ كَمَا كَانَتْ ; فَقَصَدَ هَذَا الْمَلِكُ وَجُمْلَةُ
الْفِرِنْجِ مَعَهُ مَدِينَةَ حَمَاةَ، وَصَاحِبُهَا شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودٌ
خَالُ السُّلْطَانِ مَرِيضٌ، وَنَائِبُ دِمَشْقَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ
مَشْغُولُونَ بِلَذَّاتِهِمْ، فَكَادُوا يَأْخُذُونَ الْبَلَدَ، وَلَكِنْ
هَزَمَهُمُ اللَّهُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَانْصَرَفُوا إِلَى حَارِمٍ
فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ أَخْذِهَا، وَكَشْفَهُمْ عَنْهَا الْمَلِكُ الصَّالِحُ
صَاحِبُ حَلَبَ وَقَدْ دَفَعَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأُسَارَى مَا
طَلَبُوهُ. وَتُوُفِّيَ صَاحِبُ حَمَاةَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ
بْنُ تِكِشَ، خَالُ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ، وَتُوُفِّيَ قَبْلَهُ وَلَدُهُ
بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ بِنُزُولِ الْفِرِنْجِ عَلَى حَارِمٍ خَرَجَ
مِنْ مِصْرَ قَاصِدًا بِلَادَ الشَّامِ ; لِغَزْوِ الْفِرِنْجِ - لَعَنَهُمُ
اللَّهُ تَعَالَى - فَكَانَ دُخُولُهُ إِلَى دِمَشْقَ فِي الرَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، وَصُحْبَتُهُ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ، وَتَأَخَّرَ
الْقَاضِي الْفَاضِلُ بِمِصْرَ نَاوِيًا أَدَاءَ الْحَجِّ فِي هَذَا الْعَامِ،
تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ.
وَفِيهَا جَاءَ كِتَابُ الْقَاضِي الْفَاضِلِ إِلَى النَّاصِرِ يُهَنِّئُهُ
بِوُجُودِ مَوْلُودٍ لَهُ، وَهُوَ أَبُو سُلَيْمَانَ دَاوُدُ، وَبِهِ كَمَلَ لَهُ
اثْنَا عَشَرَ ذَكَرًا، وَقَدْ وُلِدَ لَهُ بَعْدَهُ عِدَّةُ أَوْلَادٍ ذُكُورٍ
أَيْضًا، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ عَنْ سَبْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا وَابْنَةٍ صَغِيرَةٍ
اسْمُهَا مُؤْنِسَةُ، الَّتِي تَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا الْمَلِكُ الْكَامِلُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْعَادِلِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَرَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْيَهُودِ
وَالْعَامَّةِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَتْ بِسَبَبِ أَنَّ مُؤَذِّنًا عِنْدَ كَنِيسَةِ
الْيَهُودِ نَالَ مِنْهُ بَعْضُ الْيَهُودِ بِكَلَامٍ، فَشَتَمَهُ الْمُسْلِمُ،
فَاقْتَتَلَا،
فَجَاءَ
الْمُؤَذِّنُ يَشْتَكِي مِنْهُ إِلَى الدِّيوَانِ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ،
وَكَثُرَتِ الْعَوَامُّ، وَأَكْثَرُوا الضَّجِيجَ، وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ مَنَعَتِ الْعَامَّةُ إِقَامَةَ الْخُطْبَةِ فِي بَعْضِ الْجَوَامِعِ،
وَخَرَجُوا مِنْ فَوْرِهِمْ، فَنَهَبُوا سُوقَ الْعَطَّارِينَ الَّذِي فِيهِ
الْيَهُودُ، وَذَهَبُوا إِلَى كَنِيسَةِ الْيَهُودِ فَنَهَبُوهَا، وَلَمْ
يَتَمَكَّنِ الشُّرَطُ مِنْ رَدِّهِمْ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِصَلْبِ بَعْضِ
الْعَامَّةِ، فَأَخْرَجَ فِي اللَّيْلِ جَمَاعَةً مِنَ الشُّطَّارِ الَّذِينَ
كَانُوا فِي الْحُبُوسِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ فَصُلِبُوا، فَظَنَّ
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّ هَذَا كَانَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْكَائِنَةِ.
فَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا خَرَجَ وَزِيرُ الْخَلِيفَةِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ ابْنُ رَئِيسِ
الرُّؤَسَاءِ ابْنُ الْمُسْلِمَةِ قَاصِدًا الْحَجَّ، وَخَرَجَ النَّاسُ فِي
خِدْمَتِهِ لِيُوَدِّعُوهُ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ
فِي صُورَةِ فُقَرَاءَ وَمَعَهُمْ قِصَصٌ، فَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمْ لِيُنَاوِلَهُ
الْقِصَّةَ فَضَرَبَهُ بِالسِّكِّينِ ضَرَبَاتٍ، وَهَجَمَ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ
الثَّالِثُ فَهَبَرُوهُ وَجَرَحُوا جَمَاعَةً حَوْلَهُ، وَقُتِلَ الثَّلَاثَةُ
مِنْ فَوْرِهِمْ وَحُرِّقُوا، وَرَجَعَ الْوَزِيرُ إِلَى مَنْزِلِهِ مَحْمُولًا
فَمَاتَ فِي يَوْمِهِ، وَهَذَا الْوَزِيرُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ وَلَدَيِ
الْوَزِيرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ وَأَعْدَمَهُمَا، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَنْ
قَتَلَهُ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ، جَزَاءً وِفَاقًا. وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
صَدَقَةُ بْنُ الْحُسَيْنِ
أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْحَدَّادِ، قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَتَفَقَّهَ وَأَفْتَى، وَقَالَ الشِّعْرَ وَنَظَرَ فِي الْكَلَامِ وَنَاظَرَ،
وَلَهُ تَارِيخٌ ذَيَّلَ فِيهِ عَلَى شَيْخِهِ ابْنِ الزَّاغُونِيِّ، وَفِيهِ
غَرَائِبُ وَعَجَائِبُ.
وَقَالَ
ابْنُ السَّاعِي كَانَ شَيْخًا عَالِمًا فَاضِلًا وَكَانَ فَقِيرًا يَأْكُلُ مِنْ
أُجْرَةِ النَّسْخِ، وَكَانَ يَأْوِي إِلَى مَسْجِدٍ بِبَغْدَادَ عِنْدَ
الْبَدْرِيَّةِ يَؤُمُّ فِيهِ، وَكَانَ يَتَعَتَّبُ عَلَى الزَّمَانِ وَبَنِيهِ.
وَرَأَيْتُ ابْنَ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " يَذُمُّهُ
وَيَرْمِيهِ بِالْعَظَائِمِ، وَأَوْرَدَ لَهُ مِنْ أَشْعَارِهِ مَا فِيهِ
مُشَابَهَةٌ لِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ فِي الزَّنْدَقَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ
وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ، وَرُوِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ غَيْرُ
صَالِحَةٍ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَبُو الْمُظَفَّرِ
الْحَنَفِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالْمُشَطَّبِ، كَانَ مِنَ الْفُضَلَاءِ
الْمَشَاهِيرِ، تَفَقَّهَ، وَدَرَسَ، وَأَفْتَى، وَنَاظَرَ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَسْعَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو مَنْصُورٍ الْعَطَّارُ، الْمَعْرُوفُ بِحَفَدَةَ، سَمِعَ الْكَثِيرَ
وَتَفَقَّهَ وَنَاظَرَ وَأَفْتَى وَدَرَسَ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ فَمَاتَ بِهَا فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مَحْمُودُ بْنُ تِكِشَ، شِهَابُ الدِّينِ الْحَارِمِيُّ
خَالُ السُّلْطَانِ صَلَاحِ
الدِّينِ،
مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ وَشُجْعَانِهِمْ، وَقَدْ أَقْطَعُهُ ابْنُ أُخْتِهِ
حَمَاةَ حِينَ فَتَحَهَا، وَقَدْ حَاصَرَهُ الْفِرِنْجُ بِهَا فِي هَذِهِ
السَّنَةِ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَفَتَحُوهَا وَقَتَلُوا بَعْضَ أَهْلِهَا،
فَرَدُّوهُمْ خَائِبِينَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
فَاطِمَةُ بِنْتُ نَصْرِ بْنِ الْعَطَّارِ
كَانَتْ مِنْ سَادَاتِ النِّسَاءِ، وَهِيَ مِنْ سُلَالَةِ أُخْتِ صَاحِبِ
الْمَخْزَنِ، وَكَانَتْ مِنَ الْعَابِدَاتِ الْمُتَوَرِّعَاتِ الْمُخَدَّرَاتِ،
يُقَالُ: إِنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ مَنْزِلِهَا سِوَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ، وَقَدْ
أَثْنَى عَلَيْهَا الْخَلِيفَةُ وَغَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنَ الْقَاضِي الْفَاضِلِ مِنْ مِصْرَ إِلَى السُّلْطَانِ
وَهُوَ بِالشَّامِ يُهَنِّئُهُ بِسَلَامَةِ أَوْلَادِهِ الْمُلُوكِ الِاثْنَيْ
عَشَرَ، يَقُولُ فِي بَعْضِهِ: وَهُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ بَهْجَةُ الدُّنْيَا
وَزِينَتُهَا، وَرَيْحَانَةُ الْحَيَاةِ وَزَهْرَتُهَا، وَإِنَّ فُؤَادًا وَسِعَ
فِرَاقَهُمْ لَوَاسِعٌ، وَإِنَّ قَلْبًا قَنِعَ بِأَخْبَارِهِمْ لَقَانِعٌ،
وَإِنَّ طَرَفًا نَامَ عَنِ الْبُعْدِ عَنْهُمْ لَهَاجِعٌ، وَإِنَّ مَلِكًا مَلَكَ
تَصَبُّرَهُ عَنْهُمْ لَحَازِمٌ، وَإِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ بِهِمْ لَنِعْمَةٌ
بِهَا الْعَيْشُ نَاعِمٌ، أَمَا يَشْتَاقُ جِيدُ الْمَوْلَى أَنْ يَتَطَوَّقَ
بِدُرَرِهِمْ ؟ أَمَا تَظْمَأُ عَيْنُهُ أَنْ تَتَرَوَّى بِنَظَرِهِمْ ; أَمَا
يَحِنُّ قَلْبُهُ إِلَى قَلْبِهِ ؟ أَمَا يَلْتَقِطُ هَذَا الطَّائِرُ
بِتَقْبِيلِهِمْ مَنْ خَرَجَ مِنْ حُبِّهِ ؟ وَلِلْمَوْلَى - أَبْقَاهُ اللَّهُ -
أَنْ يَقُولَ:
وَمَا مِثْلُ هَذَا الشَّوْقِ تَحْمِلُ مُضْغَةٌ وَلَكِنَّ قَلْبِي فِي الْهَوَى
يَتَقَلَّبُ
وَفِيهَا أَسْقَطَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ عَنِ
الْحُجَّاجِ بِمَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ يُؤْخَذُ مِنْ حُجَّاجِ الْغَرْبِ شَيْءٌ
كَثِيرٌ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَائِهِ حُبِسَ فَرُبَّمَا فَاتَهُ الْوُقُوفُ
بِعَرَفَةَ، وَعَوَّضَ أَمِيرَهَا بِمَالٍ يُقْطَعُهُ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَأَنْ
يُحْمَلَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةُ آلَافِ إِرْدَبٍّ غَلَّةً إِلَى
مَكَّةَ ; لِيَكُونَ عَوْنًا لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ، وَرِفْقًا بِمَا تَيَسَّرَ
عَلَى الْمُجَاوِرِينَ مِنَ ابْتِيَاعِهِ، وَقَرَّرَ لِلْمُجَاوِرِينَ أَيْضًا
غَلَّاتٍ تُحْمَلُ إِلَيْهِمْ، فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ
الْأَوْقَاتِ.
وَفِيهَا
عَصَى الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُقَدَّمٍ بِبَعْلَبَكَّ، وَلَمْ يَجِئْ إِلَى
خِدْمَةِ السُّلْطَانِ وَهُوَ نَازِلٌ عَلَى ظَاهِرِ حِمْصَ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ
بَلَغَهُ أَنَّ أَخَا السُّلْطَانِ تُورَانْشَاهْ طَلَبَ بَعْلَبَكَّ مِنَ
السُّلْطَانِ فَأَطْلَقَهَا لَهُ، فَامْتَنَعَ ابْنُ الْمُقَدَّمِ مِنَ الْخُرُوجِ
مِنْهَا حَتَّى جَاءَ السُّلْطَانُ بِنَفْسِهِ، فَحَصَرَهُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ
قِتَالٍ، حَتَّى جَاءَتِ الْأَمْطَارُ وَالْبَرَدُ، فَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ فِي
رَجَبٍ، وَوَكَّلَ بِالْبَلَدِ مَنْ يَحْصُرُهُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، ثُمَّ
عَوَّضَ ابْنَ الْمُقَدَّمِ عَنْهَا بِتَعْوِيضٍ كَثِيرٍ خَيْرٍ مِمَّا كَانَ
بِيَدِهِ، فَخَرَجَ مِنْهَا وَتَسَلَّمَهَا تُورَانْشَاهْ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَكَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِسَبَبِ
قِلَّةِ الْمَطَرِ، عَمَّ الْعِرَاقَ وَالشَّامَ وَدِيَارَ مِصْرَ، وَاسْتَمَرَّ
إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، فَجَاءَ الْمَطَرُ وَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ،
وَلَكِنْ تَعَقَّبَ ذَلِكَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ، وَعَمَّ الْبِلَادَ مَرَضٌ وَاحِدٌ،
وَهُوَ السِّرْسَامُ، فَمَا ارْتَفَعَ إِلَّا فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِينَ،
فَمَاتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُمَمٌ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا وَصَلَتْ خُلَعُ الْخَلِيفَةِ إِلَى الْمَلِكِ صَلَاحِ
الدِّينِ وَهُوَ بِدِمَشْقَ، وَكَانَتْ سَنِيَّةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَزِيدَ فِي
أَلْقَابِهِ، مُعِزُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَلَعَ عَلَى أَخِيهِ
تُورَانْشَاهْ وَلُقِّبَ بِمُصْطَفَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَفِيهَا جَهَّزَ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ ابْنَ أَخِيهِ فَرُّوخْشَاهْ بْنَ
شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ بَيْنَ يَدَيْهِ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ الَّذِينَ قَدْ
عَزَمُوا عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَاثُوا فِي نَوَاحِي دِمَشْقَ
وَقُرَاهَا، فَنَهَبُوا مِمَّا حَوْلَهَا وَأَرْجَاءَهَا، وَأَمْرَهُ أَنْ
يُدَارِيَهُمْ حَتَّى يَتَوَسَّطُوا الْبِلَادَ، وَلَا يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى
يَقَدَمَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا الْتَقَوْا عَاجَلُوهُ بِالْقِتَالِ، فَكَسَرَهُمْ
وَقَتَلَ مِنْ مُلُوكِهِمْ
صَاحِبَ
النَّاصِرَةِ الْهَنْفَرِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ مُلُوكِهِمْ
وَشُجْعَانِهِمْ، لَا يُنَهْنِهُهُ اللِّقَاءَ، فَكَبَتَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ
الْغَزْوَةِ، ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ فِي إِثْرِ ابْنِ
أَخِيهِ فَمَا وَصَلَ إِلَى الْكُسْوَةِ حَتَّى تَلَقَّتْهُ الرُّءُوسُ عَلَى
الرِّمَاحِ، وَالْغَنَائِمُ وَالْأُسَارَى، وَالْجَيْشُ فِي سُمْرِهِ وَبَيْضِهِ
مِنَ الْبَنَادِقِ وَالصِّفَاحِ.
وَفِيهَا بَنَتِ الْفِرِنْجُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - قَلْعَةً عِنْدَ بَيْتِ
الْأَحْزَانِ لِلدَّاوِيَةِ، فَجَعَلُوهَا مَرْصَدًا لِحَرْبِ الْمُسْلِمِينَ،
وَقَطْعِ طَرِيقِهِمْ عَلَيْهِمْ، وَنَقَضَتْ مُلُوكُهُمُ الْعُهُودَ الَّتِي
كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ صَلَاحِ الدِّينِ، وَأَغَارُوا عَلَى نَوَاحِي
الْبُلْدَانِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ; لِيَشْغَلُوا الْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ،
وَتَفَرَّقَتْ جُيُوشُهُمْ فَلَا تَجْتَمِعُ فِي بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَرَتَّبَ
السُّلْطَانُ ابْنَ أَخِيهِ تَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ بِثَغْرِ حَمَاةَ وَمَعَهُ
شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُقَدَّمٍ وَسَيْفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ
الْمَشْطُوبُ، وَبِثَغْرِ حِمْصَ ابْنَ عَمِّهِ نَاصِرَ الدِّينِ بْنَ أَسَدِ
الدِّينِ شَيرَكُوهْ، وَبَعَثَ إِلَى أَخِيهِ سَيْفِ الدِّينِ أَبِي بَكْرٍ
الْعَادِلِ نَائِبِهِ بِمِصْرَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ
يَسْتَعِينُ بِهِمْ عَلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ، وَكَتَبَ إِلَى الْفِرِنْجِ
يَأْمُرُهُمْ بِتَخْرِيبِ هَذَا الْحِصْنِ الَّذِي بَنَوْهُ لِلدَّاوِيَةِ،
فَامْتَنَعُوا إِلَّا أَنْ يَبْذُلَ لَهُمْ مَا غَرِمُوهُ عَلَيْهِ، فَبَذَلَ
لَهُمْ سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَلَمْ يَقْبَلُوا، فَوَصَلَهُمْ إِلَى مِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ فَأَبَوْا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَخِيهِ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ:
ابْذُلْ هَذِهِ فِي جُنُودِ الْمُسْلِمِينَ، وَسِرْ إِلَى هَذَا الْحِصْنِ
فَخَرِّبْهُ. فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ وَخَرَّبَهُ فِي السَّنَةِ
الْآتِيَةِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَضِيءُ بِكِتَابَةِ لَوْحٍ عَلَى قَبْرِ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فِيهِ
آيَةُ
الْكُرْسِيِّ، وَبَعْدَهَا: هَذَا قَبْرُ تَاجِ السُّنَّةِ، وَحِيدِ الْأُمَّةِ،
الْعَالِي الْهِمَّةِ، الْعَالِمِ الْعَابِدِ الْفَقِيهِ الزَّاهِدِ. وَذَكَرَ
تَارِيخَ وَفَاتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا احْتِيطَ بِبَغْدَادَ عَلَى شَاعِرٍ يُنْشِدُ لِلرَّوَافِضِ، يُقَالُ
لَهُ: ابْنُ قَرَايَا. يَقِفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَذْكُرُ أَشْعَارًا
يُضَمِّنُهَا ذَمَّ الصَّحَابَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَسَبَّهُمْ،
وَتَجْوِيرَهُمْ، وَتَهْجِينَ مَنْ أَحَبَّهُمْ، فَعُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ بِأَمْرِ
الْخَلِيفَةِ، وَاسْتُنْطِقَ فَإِذَا هُوَ رَافِضِيٌّ جَلْدٌ دَاهِيَةٌ، فَأَفْتَى
الْفُقَهَاءُ بِقَطْعِ لِسَانِهِ وَيَدَيْهِ، فَفُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ
اخْتَطَفَتْهُ الْعَامَّةُ فَمَا زَالُوا يَرْمُونَهُ بِالْآجُرِّ حَتَّى أَلْقَى
نَفْسَهُ فِي دِجْلَةَ، فَاسْتَخْرَجُوهُ مِنْهَا وَقَتَلُوهُ حَتَّى مَاتَ،
فَأَخَذُوا شَرِيطًا وَرَبَطُوهُ فِي رِجْلَيْهِ وَطَوَّفُوا بِهِ فِي الْبَلَدِ
يُجَرْجِرُونَهُ فِي أَكْنَافِهَا، ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِي بَعْضِ الْأَتُونَاتِ
مَعَ الْآجُرِّ وَالْكِلْسِ، وَعَجَزَ الشُّرَطُ عَنْ تَخْلِيصِهِ مِنْهُمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَسْعَدُ بْنُ بَلْدَرْكَ أَبُو أَحْمَدَ الْجِبْرِيلِيُّ
سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ شَيْخًا ظَرِيفًا، حَسَنَ الْمُذَاكَرَةِ، جَيِّدَ
النَّادِرَةِ، سَرِيعَ الْمُبَادَرَةِ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
مِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعِ سِنِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ نَسِيمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْخَيَّاطُ،
عَتِيقُ الرَّئِيسِ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ عَيْشُونَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَقَارَبَ
الثَّمَانِينَ، سَقَطَ مِنْ دَرَجَةٍ فَمَاتَ.
قَالَ:
أَنْشَدَنِي مَوْلَى وَالِدِي، يَعْنِي ابْنَ أَعْلَى الْحَكِيمَ أَبَا الْفَضْلِ
بْنَ عَيْشُونَ:
الْقَارِئُ التَّشْرِيحَ أَجْدَرُ بِالتُّقَى مِنْ رَاهِبٍ فِي دَيْرِهِ
مُتَقَوِّسِ وَمُرَاقِبُ الْأَفِلَاكِ كَانَتْ نَفْسُهُ
بِعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ أَحْرَى الْأَنْفُسِ وَالْمَاسِحُ الْأَرْضِينَ وَهْيَ فَسِيحَةٌ
أَوْلَى بِمَسْحٍ فِي أَكُفِّ اللُّمَّسِ أَوْلَى بِخَشْيَةِ رَبِّهِ مِنْ جَاهِلٍ
بِمُثَلَّثٍ وَمُرَبَّعٍ وَمُخَمَّسِ
الْحَيْصَ بَيْصَ
سَعْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْفَوَارِسِ
الصَّيْفِيُّ، الشَّاعِرُ، لَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ مَشْهُورٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ خَامِسَ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ اثْنَتَانِ
وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالنِّظَامِيَّةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ
التِّبْنِ، وَلَمْ يُعْقِبْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْمُرَاسَلَاتِ بَدِيلٌ،
كَانَ يَتَقَعَّرُ فِيهَا وَيَتَفَاصَحُ جِدًّا، فَلَا تُوَاتِيهِ إِلَّا وَهِيَ
مُعَجْرَفَةٌ، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَسُئِلَ أَبُوهُ
عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: مَا سَمِعْتُهُ إِلَّا مِنْهُ. فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ
يَهْجُوهُ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ ذَلِكَ:
كَمْ تَبَادَى وَكَمْ تُطَوِّلُ طُرْطُو رَكَ مَا فِيكَ شَعْرَةٌ مِنْ تَمِيمِ
فَكُلِ الضَّبَّ وَابْلَعِ الْحَنْظَلَ الْيَا بِسَ وَاشْرَبْ إِنْ شِئْتَ بَوْلَ
الظَّلِيمِ
لَيْسَ ذَا وَجْهُ مَنْ يُضِيفُ وَلَا يَقْ رِي وَلَا يَدْفَعُ الْأَذَى عَنْ
حَرِيمِ
وَمِنْ
شِعْرِ الْحَيْصَ بَيْصَ الْجَيِّدِ:
سَلَامَةُ الْمَرْءِ سَاعَةً عَجَبُ وَكُلُّ شَيْءٍ لِحَتْفِهِ سَبَبُ
يَفِرُّ وَالْحَادِثَاتُ تَطْلُبُهُ يَفِرُّ مِنْهَا وَنَحْوَهَا الْهَرَبُ
فَكَيْفَ يَبْقَى عَلَى تَقَلُّبِهِ مُسَلَّمًا مَنْ حَيَاتُهُ الْعَطَبُ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
لَا تَلْبَسِ الدَّهْرَ عَلَى غِرَّةٍ فَمَا لِمَوْتِ الْحَيِّ مِنْ بُدِّ
وَلَا يُخَادِعْكَ طَوِيلُ الْبَقَا فَتَحْسَبَ الطُّولَ مِنَ الْخُلْدِ
يَقْرُبُ مَا كَانَ لَهُ آخِرٌ مَا أَقْرَبَ الْمَهْدَ مِنَ اللَّحْدِ
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْعِقْدِ "، وَهُوَ
أَبُو عُمَرَ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي
" عِقْدِهِ ":
أَلَا إِنَّمَا الدُّنْيَا غُضَارَةُ أَيْكَةٍ إِذَا اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ
جَفَّ جَانِبُ
وَمَا الدَّهْرُ وَالْآمَالُ إِلَّا فَجَائِعٌ عَلَيْهَا وَمَا اللَّذَّاتُ إِلَّا
مَصَائِبُ
فَلَا تَكْتَحِلْ عَيْنَاكَ مِنْهَا بِعَبْرَةٍ عَلَى ذَاهِبٍ مِنْهَا فَإِنَّكَ
ذَاهِبُ
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ حَيْصَ بَيْصَ هَذَا فِي "
ذَيْلِهِ "، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَسَمَّعَ عَلَيْهِ دِيوَانَهُ
وَرَسَائِلَهُ، وَأَثْنَى عَلَى رَسَائِلِهِ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ، وَقَالَ:
كَانَ فِيهِ تِيهٌ وَتَعَاظُمٌ، وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا مُعْرِبًا، وَكَانَ
فَقِيهًا شَافِعِيَّ
الْمَذْهَبِ، وَاشْتَغَلَ بِالْخِلَافِ وَعِلْمِ النَّظَرِ، ثُمَّ تَشَاغَلَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالشِّعْرِ، وَكَانَ مَنْ أَخْبَرِ النَّاسِ بِأَشْعَارِ الْعَرَبِ، وَاخْتِلَافِ لُغَاتِهِمْ. قَالَ: وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: الْحَيْصَ بَيْصَ ; لِأَنَّهُ رَأَى النَّاسَ فِي حَرَكَةٍ وَاخْتِلَاطٍ، فَقَالَ: مَا لِلنَّاسِ فِي حَيْصَ بَيْصَ. أَيْ فِي شِدَّةٍ وَهَرَجٍ، فَغَلَبَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَلِمَةُ. وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ وَلَدِ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ طَبِيبِ الْعَرَبِ. وَلَمْ يَتْرُكْ عَقِبًا. كَانَتْ لَهُ حَوَالَةٌ بِالْحِلَّةِ، فَذَهَبَ يَتَقَاضَاهَا، فَتُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ مَرْجِ عُيُونٍ.
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالسُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ نَازِلٌ بِجَيْشِهِ
عَلَى تَلِّ الْقَاضِي بِبَانِيَاسَ، ثُمَّ قَصَدَهُ الْفِرِنْجُ بِجَمْعِهِمْ،
فَنَهَضَ إِلَيْهِمْ نُهُوضَ الْأَسَدِ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ تَوَاجَهَ
الْفَرِيقَانِ وَاصْطَدَمَ الْجُنْدَانِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ
وَأَعَزَّ جُنْدَهُ وَهَزَمَ الْأَعْدَاءَ وَحْدَهُ، فَفَرَّتْ أَلْوِيَةُ
الصُّلْبَانِ ذَاهِبَةً، وَخَيْلُ اللَّهِ لِرِقَابِهِمْ رَاكِبَةٌ، فَقُتِلَ
مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَأُسِرَ مِنْ مُلُوكِهِمْ جَمَاعَةٌ،
وَأَنَابُوا إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، مِنْهُمْ مُقَدَّمُ الدَّاوِيَّةِ،
وَمُقَدَّمُ الْإِسْبِتَارِيَّةِ وَصَاحِبُ الرَّمْلَةِ وَصَاحِبُ طَبَرِيِّةَ
وَقَسْطَلَانُ يَافَا وَآخَرُونَ مِنْ مُلُوكِهِمْ، وَخَلْقٌ مِنْ شُجْعَانِهِمْ
وَأَبْطَالِهِمْ، وَمِنْ فُرْسَانِ الْقُدْسِ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ قَرِيبًا مِنْ
ثَلَاثِمِائَةِ أَسِيرٍ مِنْ أَشْرَافِ النَّصَارَى، فَصَارُوا يَتَهَادَوْنَ فِي
قُيُودِهِمْ كَأَنَّهُمْ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى.
قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: فَاسْتَعْرَضَهُمُ السُّلْطَانُ فِي اللَّيْلِ
حَتَّى أَضَاءَ الْفَجْرُ عَلَى الظَّلْمَاءِ، وَصَلَّى يَوْمَئِذٍ الصُّبْحَ
بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ، وَكَانَ السُّلْطَانُ جَالِسًا لَيْلَتَئِذٍ فِي
نَحْوِ
الْعِشْرِينَ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْعُدَّةِ، فَسَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
مِنْهُمْ، ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى دِمَشْقَ ; لِيُعْتَقَلُوا بِقَلْعَتِهَا
وَلِيَكُونُوا فِي كَنَفِ دَوْلَتِهَا، فَافْتَدَى ابْنُ الْبَارِزَانِيِّ صَاحِبُ
الرَّمْلَةِ نَفْسَهُ بَعْدَ سَنَةٍ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ
صُورِيَّةٍ وَإِطْلَاقِ أَلْفِ أَسِيرٍ مِنْ بِلَادِهِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ،
وَكَذَا افْتَدَى جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ وَتُحَفٍ
جَلِيلَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَاتَ فِي السِّجْنِ، فَانْتَقَلَ مِنْهُ إِلَى
سِجِّينٍ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِالْكَافِرِينَ. وَاتَّفَقَ أَنَّهُ فِي
الْيَوْمِ الَّذِي ظَفِرَ فِيهِ السُّلْطَانُ عَلَى الْفِرِنْجِ بِمَرْجِ عُيُونٍ،
ظَهَرَ أُسْطُولُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَطْسَةٍ لِلْفِرِنْجِ فِي الْبَحْرِ
وَأُخْرَى مَعَهَا فَغَنِمُوا مِنْهَا أَلْفَ رَأْسٍ مِنَ السَّبْيِ، وَعَادَ
إِلَى السَّاحِلِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، وَقَدِ امْتَدَحَ الشُّعَرَاءُ السُّلْطَانَ
فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ بِمَدَائِحَ كَثِيرَةٍ، وَكُتِبَ بِذَلِكَ إِلَى بَغْدَادَ
فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِهَا فَرَحًا وَسُرُورًا بِظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
أَعْدَاءِ اللَّهِ الْمُلْحِدِينَ.
وَكَانَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ غَائِبًا عَنْ هَذِهِ
الْوَقْعَةِ مُشْتَغِلًا بِمَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ مَلِكَ
الرُّومِ قِلْجَ أَرَسْلَانَ بَعَثَ يَطْلُبُ حِصْنَ رُعْبَانَ، وَزَعَمَ أَنَّ
نُورَ الدِّينِ اغْتَصَبَهُ مِنْهُ، وَأَنَّ وَلَدَهُ قَدْ أَغْضَى لَهُ عَنْهُ،
فَلَمْ يُجِبْهُ السُّلْطَانُ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ إِلَى ذَلِكَ، فَبَعَثَ
صَاحِبُ الرُّومِ عِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ يُحَاصِرُونَهُ، فَأَرْسَلَ
السُّلْطَانُ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ فِي ثَمَانِمِائَةِ فَارِسٍ مِنْهُمْ
سَيْفُ
الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمَشْطُوبُ، فَالْتَقَوْا بِهِمْ فَهَزَمُوهُمْ
بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ عَلَى حِصْنِ
رُعْبَانَ، وَقَدْ كَانَ مِمَّا عَوَّضَ بِهِ ابْنَ الْمُقَدَّمِ عَنْ بَعْلَبَكَّ
وَكَانَ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ يَفْتَخِرُ بِهَذِهِ الْوَقْعَةِ، وَيَرَى
أَنَّهُ قَدْ هَزَمَ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَقِيلَ: ثَلَاثِينَ أَلْفًا
بِثَمَانِمِائَةِ فَارِسٍ. وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ بَيَّتَهُمْ
وَأَغَارَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَارُّونَ، فَمَا لَبِثُوا أَمَامَهُ بَلْ فَرُّوا
مُنْهَزِمِينَ عَنْ آخِرِهِمْ، فَأَكْثَرَ فِيهِمُ الْقَتْلَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى
جَمِيعِ مَا تَرَكُوهُ فِي خِيَامِهِمْ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَسَرَهُمْ يَوْمَ
كَسَرَ السُّلْطَانُ الْفِرِنْجَ بِمَرْجِ عُيُونٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَخْرِيبُ حِصْنِ بَيْتِ الْأَحْزَانِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ صَفَدَ
ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ فِي جَحَافِلِهِ إِلَى الْحِصْنِ الَّذِي كَانَتِ
الْفِرِنْجُ قَدْ بَنَوْهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي وَحَفَرُوا فِيهِ بِئْرًا
عَيْنًا مَعِينًا، وَسَلَّمُوهُ إِلَى الدَّاوِيَّةِ، فَقَصَدَهُ السُّلْطَانُ
فَحَاصَرَهُ وَنَقَبَهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَأَلْقَى فِيهِ النِّيرَانَ
فَجَعَلَهُ دَكَّا وَخَرَّبَهُ إِلَى الْأَسَاسِ، وَغَنِمَ جَمِيعَ مَا فِيهِ مِنَ
الْحَوَاصِلِ، فَكَانَ فِيهِ مِائَةُ أَلْفِ قِطْعَةٍ مِنَ السِّلَاحِ، وَمِنَ
الْمَأْكَلِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَأَخَذَ مِنْهُ سَبْعَمِائَةِ أَسِيرٍ، فَقَتَلَ
بَعْضًا وَأَرْسَلَ إِلَى دِمَشْقَ الْبَاقِينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ
مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، غَيْرَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ أُمَرَائِهِ عَشَرَةٌ بِسَبَبِ
مَا نَالَهُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالْوَبَاءِ فِي مُدَّةِ الْحِصَارِ، وَكَانَتْ
أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَعَادَ النَّاسُ إِلَى زِيَارَةِ مَشْهَدِ يَعْقُوبَ
عَلَى عَادَتِهِمْ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
بِجَدِّكَ
أَعْطَافُ الْقَنَا تَتَعَطَّفُ وَطَرْفُ الْأَعَادِي دُونَ مَجْدِكَ يَطْرِفُ
شِهَابُ هُدًى فِي ظُلْمَةِ الشِّرْكِ ثَاقِبُ
وَسَيْفٌ إِذَا مَا هَزَّهُ اللَّهُ مُرْهَفُ وَقَفْتَ عَلَى حِصْنِ الْمَخَاضِ
وَإِنَّهُ
لَمَوْقِفُ حَقٍّ لَا يُوَازِيهِ مَوْقِفُ فَلَمْ يَبْدُ وَجْهُ الْأَرْضِ بَلْ
حَالَ دُونَهُ
رِجَالٌ كَآسَادِ الشَّرَى وَهْيَ تَزْحَفُ وَجَرْدَاءُ سَلْهُوبٌ وَدِرْعٌ
مُضَاعِفٌ
وَأَبْيَضُ هِنْدِيٌّ وَلَدْنٌ مُثَقَّفُ وَمَا رَجَعَتْ أَعْلَامُكَ الصُّفْرُ
سَاعَةً
إِلَى أَنْ غَدَتْ أَكْبَادُهَا السُّودُ تَرْجُفُ كَبَا مِنْ أَعَالِيهِ صَلِيبٌ
وَبِيعَةٌ
وَشَادَ بِهِ دِينٌ حَنِيفٌ وَمُصْحَفُ صَلِيبَةُ عُبَّادِ الصَّلِيبِ وَمَنْزِلُ
النُّزَالِ لَقَدْ غَادَرْتَهُ وَهْوَ صَفْصَفُ أَتَسْكُنُ أَوْطَانَ
النَّبِيِّينَ عُصْبَةٌ
تَمِينُ لَدَى أَيْمَانِهَا وَهْيَ تَحْلِفُ نَصَحْتُكُمُ وَالنُّصْحُ فِي
الدِّينِ وَاجِبٌ
ذَرُوا بَيْتَ يَعْقُوبَ فَقَدْ جَاءَ يُوسُفُ
وَقَالَ آخَرُ:
هَلَاكُ الْفِرِنْجِ أَتَى عَاجِلًا وَقَدْ آنَ تَكْسِيرُ صُلْبَانِهَا
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ دَنَا حَتْفُهَا لَمَا عَمَّرَتْ بَيْتَ أَحْزَانِهَا
وَمِنْ
كِتَابٍ فَاضِلِيٍّ إِلَى بَغْدَادَ فِي وَصْفِ هَذَا الْحِصْنِ الَّذِي خَرَّبَهُ
صَلَاحُ الدِّينِ: وَقَدْ عَرَّضُوا حَائِطَهُ إِلَى أَنْ زَادَ عَلَى عَشَرَةِ
أَذْرُعٍ وَقُطِعَتْ لَهُ عِظَامُ الْحِجَارَةِ ; كُلُّ فَصٍّ مِنْهَا مِنْ
سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، إِلَى مَا فَوْقَهَا وَمَا دُونَهَا، وَعِدَّتُهَا تَزِيدُ
عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ حَجَرٍ، لَا يَسْتَقِرُّ الْحَجَرُ فِي مَكَانِهِ وَلَا
يَسْتَقِلُّ فِي بُنْيَانِهِ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ فَمَا فَوْقَهَا،
وَفِيمَا بَيْنَ الْحَائِطَيْنِ حَشْوٌ مِنَ الْحِجَارَةِ الضَّخْمَةِ الصُّمِّ،
الْمُرْغَمِ بِهَا أُنُوفُ الْجِبَالِ الشَّمِّ، وَقَدْ جُعِلَتْ سُقْيَتُهُ
بِالْكِلْسِ الَّذِي إِذَا أَحَاطَتْ قَبْضَتُهُ بِالْحَجَرِ مَازَجَهُ بِمِثْلِ
جِسْمِهِ وَصَاحَبَهُ بِأَوْثَقَ وَأَصْلَبَ مِنْ جِرْمِهِ، وَأَوْعَزَ إِلَى
خَصْمِهِ مِنَ الْحَدِيدِ بِأَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِهَدْمِهِ.
وَفِيهَا أَقْطَعَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ لِابْنِ أَخِيهِ عِزِّ الدِّينِ
فَرُّوخْشَاهْ بْنِ شَاهِنْشَاهْ ابْنِ أَيُّوبَ مَدِينَةَ بَعْلَبَكَّ. وَأَغَارَ
فِيهَا عَلَى صَفَدَ وَأَعْمَالِهَا، فَقَتَلَ طَائِفَةً كَبِيرَةً مِنْ
مُقَاتِلِيهَا وَرِجَالِهَا، وَكَانَ فَرُّوخْشَاهْ مِنَ الصَّنَادِيدِ
الْأَبْطَالِ الْمَشْهُورِينَ الْمَشْكُورِينَ فِي النِّزَالِ.
وَفِيهَا حَجَّ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ دِمَشْقَ وَعَادَ إِلَى مِصْرَ،
فَقَاسَى فِي الطَّرِيقِ أَهْوَالًا، وَلَقِيَ بَرْحًا وَتَعَبًا وَكَلَالًا،
وَكَانَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي قَدْ حَجَّ مِنْ مِصْرَ وَعَادَ إِلَى الشَّامِ
وَلَكِنْ كَانَ أَمْرُهُ فِيهِ أَسْهَلَ مِنْ هَذَا الْعَامِ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ انْهَدَمَ بِسَبَبِهَا قِلَاعٌ وَقُرًى،
وَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِيهَا مِنَ الْوَرَى، وَسَقَطَ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ
صُخُورٌ كِبَارٌ، وَصَادَمَتْ بَيْنَ الْجِبَالِ فِي الْبَرَارِي وَالْقِفَارِ،
مَعَ بُعْدِ مَا بَيْنَ الْجِبَالِ مِنَ الْأَقْطَارِ. وَفِيهَا أَصَابَ النَّاسَ
غَلَاءٌ
شَدِيدٌ
وَفَنَاءٌ شَرِيدٌ وَجُهْدٌ جَهِيدٌ، فَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْخَلَائِقِ
بِهَذَا وَهَذَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفَاةُ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَشَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِ
كَانَ ابْتِدَاءُ مَرَضِهِ فِي أَوَاخِرِ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
فَأَرَادَتْ زَوْجَتُهُ أَنْ تَكْتُمَ ذَلِكَ فَلَمْ يُمْكِنْهَا، وَوَقَعَتْ
فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ بِبَغْدَادَ وَنَهَبَتِ الْعَوَامُّ دُورًا كَثِيرَةً،
وَأَمْوَالًا جَزِيلَةً، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الثَّانِي
وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ خُطِبَ لِوَلِيِّ الْعَهْدِ أَبِي الْعَبَّاسِ
أَحْمَدَ بْنِ الْمُسْتَضِيءِ، وَهُوَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا نُثِرَ الذَّهَبُ فِيهِ عَلَى الْخُطَبَاءِ
وَالْمُؤَذِّنِينَ وَمَنْ حَضَرَ ذَلِكَ، عِنْدَ ذِكْرِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ
وَالتَّنْوِيهِ بِاسْمِهِ فِي الْعَشْرِ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ سَلْخُ شَوَّالٍ مَاتَ الْخَلِيفَةُ
الْمُسْتَضِيءُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَانَ مَرَضُهُ بِالْحُمَّى ابْتَدَأَ بِهَا
فِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ، وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ يَتَزَايَدُ بِهِ حَتَّى
اسْتَكْمَلَ فِي مَرَضِهِ شَهْرًا، فَمَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ سَلْخَ شَوَّالٍ،
وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ
تِسْعَ سِنِينَ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَغُسِّلَ
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ. وَدُفِنَ بِدَارِ النَّصْرِ الَّتِي بَنَاهَا،
وَذَلِكَ عَنْ وَصِيَّتِهِ الَّتِي
أَوْصَاهَا،
وَتَرَكَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدَيْنِ ; أَحَدُهُمَا وَلِيُّ عَهْدِهِ وَهُوَ عُدَّةُ
الدِّينِ وَالدُّنْيَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ،
وَالْآخَرُ أَبُو مَنْصُورٍ هَاشِمُ، وَقَدْ وَزَرَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ
الرُّؤَسَاءِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْخُلَفَاءِ، أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ
نَهَّاءً عَنِ الْمُنْكَرِ، وَضَعَ عَنِ النَّاسِ الْمُكُوسَاتِ وَالضَّرَائِبِ،
وَدَرَأَ عَنْهُمُ الْبِدَعَ وَالْمَصَائِبَ، وَكَانَ حَلِيمًا وَقُورًا كَرِيمًا،
فَرَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَلَّ ثَرَاهُ وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ.
وَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ النَّاصِرِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ
أَبُو إِسْحَاقَ السُّلَمِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
الْفَرَّاءِ، الْأُمَوِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، كَانَ فَقِيهًا بَارِعًا
فَاضِلًا مُنَاظِرًا فَصِيحًا بَلِيغًا شَاعِرًا مُطَبِّقًا، تُوُفِّيَ عَنْ
أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ الْقَزْوِينِيُّ
مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَوْهُوبِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَضِرِ، أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ
الْجَوَالِيقِيِّ، الْمُلَقَّبُ حُجَّةَ الْإِسْلَامِ أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ
فِي زَمَانِهِ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مِنْ بَيْنِ أَقْرَانِهِ بِحُسْنِ الدِّينِ
وَقُوَّةِ الْيَقِينِ، وَعِلْمِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، وَصِدْقِ اللَّهْجَةِ
وَخُلُوصِ النِّيَّةِ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ فِي مُرَبَّاهُ وَمَنْشَاهُ
وَمُنْتَهَاهُ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ، وَفَهِمَ الْأَثَرَ وَاتَّبَعَ
سَبِيلَهُ وَمَغْزَاهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
الْمُبَارَكُ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الطَّبَّاخِ، الْبَغْدَادِيُّ، نَزِيلُ مَكَّةَ
وَمُجَاوِرُهَا، وَحَافِظُ الْحَدِيثِ بِهَا وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ
فِيهَا. كَانَ يَوْمُ جِنَازَتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
خِلَافَةُ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ
الْمُسْتَضِيءِ
لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ فِي سَلْخِ شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، بَايَعَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ
وَالْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، وَكَانَ قَدْ خُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ فِي
حَيَاةِ أَبِيهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَسِيرٍ، فَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا عَهِدَ
لَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمٍ، وَقِيلَ: بِأُسْبُوعٍ. وَلَكِنْ قَدَّرَ اللَّهُ،
عَزَّ وَجَلَّ، أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ اثْنَانِ بَعْدَ وَفَاةِ
أَبِيهِ، وَلُقِّبَ بِالْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، وَلَمْ يَلِ
الْخِلَافَةَ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ قَبْلَهُ أَطْوَلَ مُدَّةً مِنْهُ، فَإِنَّ
خِلَافَتَهُ امْتَدَّتْ إِلَى سَنَةِ وَفَاتِهِ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ
وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ ; وَكَانَ ذَكِيًّا شُجَاعًا مَهِيبًا، وَسَيَأْتِي
ذِكْرُ سِيرَتِهِ عِنْدَ وَفَاتِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي سَابِعِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عُزِلَ صَاحِبُ الْمَخْزَنِ
ظَهِيرُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَطَّارِ، وَأُهِينَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ،
هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَشُهِّرُوا فِي الْبَلَدِ،
وَتَمَكَّنَ أَمْرُ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ، وَعَظُمَتْ هَيْبَتُهُ فِي
الْبِلَادِ وَفِي قُلُوبِ الْعِبَادِ وَقَامَ
بِأَعْبَاءِ الْخِلَافَةِ عَلَى مَا يَنْبَغِي فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَشُئَونِهِمْ. وَلَمَّا حَضَرَ عِيدُ الْأَضْحَى أُقِيمَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا هَادَنَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ الْفِرِنْجَ، وَسَارَ إِلَى بِلَادِ
الرُّومِ فَأَصْلَحَ بَيْنَ مُلُوكِهَا، مِنْ بَنِي أُرْتُقَ، وَكَرَّ عَلَى
بِلَادِ الْأَرْمَنِ فَأَهَانَ مَلِكَهَا، وَفَتَحَ بَعْضَ حُصُونِهَا، وَأَخَذَ
مِنْهُ غَنَائِمَ كَثِيرَةً جِدًّا، مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ;
لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ غَدَرَ بِقَوْمٍ مِنَ التُّرْكُمَانِ أَوَوْا إِلَى
بِلَادِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ وَأُسَارَى
يُطْلِقُهُمْ مِنْ أَسْرِهِ، وَآخَرِينَ يَسْتَنْقِذُهُمْ مِنْ أَيْدِي
الْفِرِنْجِ، ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا فَدَخَلَ حَمَاةَ
فِي أَوَاخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ عَلَى ذَلِكَ.
وَمَاتَ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ سَيْفُ الدِّينِ غَازِيُّ بْنُ مَوْدُودِ بْنِ
زَنْكِيٍّ، وَكَانَ شَابًّا حَسَنًا، مَلِيحَ الشَّكْلِ، تَامَّ الْقَامَةِ،
مُدَوَّرَ اللِّحْيَةِ، مَكَثَ فِي الْمُلْكِ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ عَنْ
ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ عَفِيفًا فِي نَفْسِهِ، مَهِيبًا وَقُورًا، لَا
يَلْتَفِتُ إِذَا رَكِبَ وَلَا إِذَا جَلَسَ، غَيُورًا لَا يَدَعُ أَحَدًا مِنَ
الْخُدَّامِ يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ، وَكَانَ لَا يَقْدَمُ عَلَى سَفْكِ
الدِّمَاءِ، وَيُنْسَبُ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْبُخْلِ، سَامَحَهُ اللَّهُ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ثَالِثِ صَفَرٍ، وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ
الْمُلْكَ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عِزِّ الدِّينِ سَنْجَرَ شَاهْ، فَلَمْ
يُوَافِقْهُ الْأُمَرَاءُ خَوْفًا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ لِصِغَرِ سِنِّهِ،
فَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَخِيهِ، فَأُجْلِسَ مَكَانَهُ فِي الْمَمْلَكَةِ
أَخُوهُ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودٌ، وَجُعِلَ مُجَاهِدُ الدِّينِ قَايْمَازُ
نَائِبَهُ وَمُدَبِّرَ مَمْلَكَتِهِ، وَجَاءَتْ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ يَلْتَمِسُونَ
مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ
أَنْ
يُبْقِيَ سَرُوجَ وَالرُّهَا وَالرَّقَّةَ، وَحَرَّانَ وَالْخَابُورَ وَنَصِيبِينَ
فِي يَدِهِ، كَمَا كَانَتْ فِي يَدِ أَخِيهِ، فَامْتَنَعَ السُّلْطَانُ مِنْ
ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذِهِ الْبِلَادُ هِيَ حِفْظُ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ،
وَإِنَّمَا كُنْتُ تَرَكْتُهَا فِي يَدِهِ لِيُسَاعِدَنَا عَلَى غَزْوِ
الْفِرِنْجِ، فَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ
يُعَرِّفُهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي كَوْنِهَا بِيَدِهِ.
وَفَاةُ تُورَانْشَاهْ أَخِي السُّلْطَانِ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَخُو السُّلْطَانِ الْأَكْبَرِ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ شَمْسُ
الدَّوْلَةِ تُورَانْشَاهْ بْنُ أَيُّوبَ، الَّذِي افْتَتَحَ بِلَادَ الْيَمَنِ
عَنْ أَمْرِ أَخِيهِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَمَكَثَ فِيهَا حِينًا وَاقْتَنَى مِنْهَا
أَمْوَالًا جَزِيلَةً، ثُمَّ اسْتَنَابَ فِيهَا، وَأَقْبَلَ نَحْوَ أَخِيهِ إِلَى
الشَّامِ شَوْقًا إِلَيْهِ، وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ
شِعْرًا عَمِلَهُ لَهُ شَاعِرُهُ ابْنُ الْمُنَجِّمِ، وَكَانُوا قَدْ وَصَلُوا
إِلَى تَيْمَاءَ
فَهَلْ لِأَخِي بَلْ مَالِكِي عِلْمُ أَنَّنِي إِلَيْهِ وَإِنْ طَالَ التَّرَدُّدُ
رَاجِعُ وَإِنِّي بِيَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ لِقَائِهِ
لَمُلْكِي عَلَى عُظْمِ الْمَزِيَّةِ بَائِعُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا دُونَ
عِشْرِينَ لَيْلَةً
وَتَجْنِي الْمُنَى أَبْصَارُنَا وَالْمَسَامِعُ لَدَى مَلِكٍ تَعْنُو الْمُلُوكُ
إِذَا بَدَا
وَتَخْشَعُ إِعْظَامًا لَهُ وَهْوَ خَاشِعُ
كَتَبْتُ
وَأَشْوَاقِي إِلَيْكَ بِبَعْضِهَا
تَعَلَّمَتِ النَّوْحَ الْحَمَامُ السَّوَاجِعُ وَمَا الْمُلْكُ إِلَّا رَاحَةً
أَنْتَ زَنْدُهَا
تَضُمُّ عَلَى الدَّنْيَا وَنَحْنُ الْأَصَابِعُ
وَكَانَ قُدْومُهُ إِلَيْهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعَيْنِ، فَشَهِدَ مَعَهُ
مَوَاقِفَ مَشْهُودَةً وَغَزَوَاتٍ مَحْمُودَةً، وَاسْتَنَابَهُ عَلَى دِمَشْقَ
مُدَّةً، ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ فَاسْتَنَابَهُ عَلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ
فَلَمْ تُوَافِقْهُ، وَكَانَ يَعْتَرِيهِ الْقُولَنْجُ فَمَاتَ بِهَا، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى، فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ فِيهَا،
ثُمَّ نَقَلَتْهُ أُخْتُهُ سِتُّ الشَّامِ بِنْتُ أَيُّوبَ فَدَفَنَتْهُ
بِتُرْبَتِهَا الَّتِي بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، فَقَبْرُهُ
الْقِبْلِيُّ، وَالْوَسْطَانِيُّ قَبْرُ زَوْجِهَا وَابْنِ عَمِّهَا نَاصِرِ
الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدِ الدَّيْنِ شِيرَكَوهْ، صَاحِبِ حِمْصَ
وَالرَّحْبَةِ، وَالْمُؤَخَّرُ قَبْرُهَا، رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَأَجْزَلَ
ثَوَابَهَا. وَالتُّرْبَةُ الْحُسَامِيَّةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى وَلَدِهَا حُسَامِ
الدِّينِ عُمَرَ بْنِ لَاجِينَ، وَهِيَ إِلَى جَانِبِ الْمَدْرَسَةِ مِنْ غَرْبِهَا،
وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ تُورَانْشَاهْ كَرِيمًا جَوَادًا شُجَاعًا بَاسِلًا
عَظِيمَ الْهَيْبَةِ كَبِيرَ النَّفْسِ، وَاسِعَ الصَّدْرِ، قَالَ فِيهِ ابْنُ
سَعْدَانَ الْحَلَبِيُّ:
هُوَ الْمَلْكُ إِنْ تَسْمَعْ بِكِسْرَى وَقَيْصَرٍ فَإِنَّهُمَا فِي الْجُودِ
وِالْبَأْسِ عَبْدَاهُ
وَمَا حَاتِمٌ مِمَّنْ يُقَاسُ بِمِثْلِهِ فَخُذْ مَا رَأَيْنَاهُ وَدَعْ مَا
رَوَيْنَاهُ
وَلُذْ بِذُرَاهُ مُسْتَجِيرًا فَإِنَّهُ يُجِيرُكَ مِنْ جَوْرِ الزَّمَانِ
وَعَدْوَاهُ
وَلَا تَتَحَمَّلْ لِلسَّحَائِبِ مِنَّةً إِذَا هَطَلَتْ جُودًا سَحَائِبُ
جَدْوَاهُ
وَيُرْسِلُ كَفَّيْهِ بِمَا اشْتَقَّ مِنْهُمَا فَلِلْيُمْنِ يُمْنَاهُ
وَلِلْيُسْرِ يُسْرَاهُ
وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ مَوْتِهِ إِلَى أَخِيهِ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ
وَهُوَ مُخَيِّمٌ
بِظَاهِرِ
حِمْصَ حَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا، وَجَعَلَ يُنْشِدُ بَابَ الْمَرَاثِي
مِنَ الْحَمَاسَةِ، وَكَانَتْ مَحْفُوظَةً.
وَفِي رَجَبٍ قَدِمَتْ رُسُلُ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ وَخِلَعُهُ وَهَدَايَا
إِلَى الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَلَبِسَ السُّلْطَانُ خِلْعَةَ
الْخَلِيفَةِ بِدِمَشْقَ، وَزُيِّنَتْ لَهُ الْبَلَدُ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا.
وَفِي رَجَبٍ أَيْضًا مِنْهَا سَارَ السُّلْطَانُ مِنَ الشَّامِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ ; لِيَنْظُرَ فِي أَحْوَالِهَا، وَيَصُومَ بِهَا رَمَضَانَ، وَمِنْ
عَزْمِهِ أَنْ يَحُجَّ عَامَهُ ذَلِكَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ،
وَاسْتَنَابَ عَلَى الشَّامِ ابْنَ أَخِيهِ عِزَّ الدِّينِ فَرُّوخْشَاهْ بْنَ
شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: وَكَانَ عَزِيزَ
الْمَثَلِ غَزِيرَ الْفَضْلِ. فَكَتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ عَنِ الْمَلِكِ
الْعَادِلِ أَبِي بَكْرٍ نَائِبِ مِصْرَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ وَالْبَقِيعِ
وَمَكَّةَ يُعْلِمُهُمْ بِعَزْمِ السُّلْطَانِ عَلَى الْحَجِّ فِي هَذَا الْعَامِ
; لِيَتَأَهَّبُوا لِلْمَلِكِ وَيَهْتَمُّوا بِهِ، وَاسْتَصْحَبَ السُّلْطَانُ
مَعَهُ صَدْرَ الدِّينِ أَبَا الْقَاسِمِ عَبْدَ الرَّحِيمِ شَيْخَ الشُّيُوخِ
بِبَغْدَادَ، الَّذِي قَدِمَ فِي الرُّسْلِيِّةِ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ ;
لِيَكُونَ فِي خِدْمَتِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَفِي صُحْبَتِهِ
إِلَى الْحِجَازِ الشَّرِيفِ، فَدَخَلَ السُّلْطَانُ دِيَارَ مِصْرَ، وَتَلَقَّاهُ
الْجَيْشُ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَأَمَّا صَدْرُ الدِّينِ فَإِنَّهُ لَمْ
يُقِمْ بِهَا إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى تَوَجَّهَ إِلَى الْحِجَازِ الشَّرِيفِ فِي
الْبَحْرِ، فَأَدْرَكَ الصِّيَامَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَفِيهَا سَارَ قَرَاقُوشُ التَّقَوِيُّ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ فَحَاصَرَ
قَابِسَ وَقِلَاعًا كَثِيرَةً حَوْلَهَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى أَكْثَرِهَا،
فَاتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ أَسَرَ مِنْ بَعْضِ الْحُصُونِ غُلَامًا أَمَرَدَ
فَأَرَادَ
قَتْلَهُ، فَقَالَ لَهُ أَهْلُ الْحِصْنِ: لَا تَقْتُلْهُ وَخُذْ لَكَ عَشَرَةَ
آلَافِ دِينَارٍ، فَأَبَى فَوَصَلُوهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ فَأَبَى
إِلَّا قَتْلَهُ، فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا قَتَلَهُ نَزَلَ صَاحِبُ الْحِصْنِ وَهُوَ
شَيْخٌ كَبِيرٌ وَمَعَهُ مَفَاتِيحُ ذَلِكَ الْحِصْنِ، فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ فَإِنِّي
شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أَحْفَظُهُ مِنْ أَجْلِ هَذَا الصَّبِيِّ
الَّذِي قَتَلْتَهُ، وَلِي أَوْلَادُ أَخٍ أَكْرَهُ أَنْ يَمْلِكُوهُ بَعْدِي.
فَأَقَرَّهُ فِيهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ أَمْوَالًا كَثِيرَةً. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
سِلَفَةَ، الْحَافِظُ الْكَبِيرُ الْمُعَمَّرُ، أَبُو طَاهِرٍ السِّلَفِيُّ الْأَصْبَهَانِيُّ،
وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ لِجَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ: سِلَفَةُ ; لِأَنَّهُ كَانَ
مَشْقُوقَ إِحْدَى الشَّفَتَيْنِ، فَكَانَ لَهُ ثَلَاثُ شِفَاهٍ فَسَمَّتْهُ
الْأَعَاجِمُ بِذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ وَكَانَ السِّلَفِيُّ
يُلَقَّبُ بِصَدْرِ الدِّينِ، وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، وَرَدَ بَغْدَادَ
وَاشْتَغَلَ بِهَا عَلَى إِلِكْيَا الْهَرَّاسِيِّ، وَأَخَذَ اللُّغَةَ عَنِ
الْخَطِيبِ أَبِي زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنِ عَلِيٍّ التَّبْرِيزِيِّ، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ فِي طَلَبِهِ إِلَى الْآفَاقِ، ثُمَّ نَزَلَ
ثَغْرَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ،
وَبَنَى لَهُ الْعَادِلُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ السَّلَّارِ وَزِيرُ
الْخَلِيفَةِ الظَّافِرِ مَدْرَسَةً، وَفَوَّضَ أَمْرَهَا إِلَيْهِ، فَهِيَ مَعْرُوفَةٌ
إِلَى الْآنِ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَأَمَالِيهِ وَتَعَالِيقُهُ كَثِيرَةٌ
جِدًّا، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِيمَا ذَكَرَ الْمِصْرِيُّونَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ
وَسَبْعَيْنِ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ،
وَنَقَلَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
أَذْكُرُ مَقْتَلَ نِظَامِ الْمُلْكِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ بِبَغْدَادَ، وَأَنَا ابْنُ عَشَرٍ تَقْرِيبًا. وَنَقَلَ أَبُو
الْحَافِظِ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفْرَاوِيُّ أَنَّهُ قَالَ: مَوْلِدِي
بِالتَّخْمِينِ لَا بِالْيَقِينِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعَيْنِ، فَيَكُونُ مَبْلَغُ
عُمْرِهِ ثَمَانِيًا وَتِسْعِينَ سَنَةً ; لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ
الْجُمُعَةِ خَامِسَ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَدُفِنَ بِوَعْلَةَ، وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ
الصَّالِحِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ رَجَّحَ ابْنُ خَلِّكَانَ
قَوْلَ الصَّفْرَاوِيِّ، قَالَ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا مِنْ نَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ
سَنَةٍ أَنَّ أَحَدًا جَاوَزَ الْمِائَةَ إِلَّا الْقَاضِي أَبَا الطَّيِّبِ
الطَّبَرِيَّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ
فِي " تَارِيخِهِ " تَرْجَمَةً حَسَنَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَاتَ
قَبْلَهُ بِخَمْسِ سِنِينَ، فَذَكَرَ رِحْلَتَهُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ،
وَدَوَرَانَهُ فِي الْأَقَالِيمِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتَصَوَّفُ أَوَّلًا، ثُمَّ
أَقَامَ بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ذَاتَ يَسَارٍ،
فَحَسُنَتْ حَالُهُ، وَوَقَفَتْ عَلَيْهِ مَدْرَسَةً هُنَاكَ، وَذَكَرَ طَرَفًا
مِنْ أَشْعَارِهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
أَنَأْمَنُ إِلْمَامَ الْمَنِيَّةِ بَغْتَةً وَأَمْنُ الْفَتَى جَهْلٌ وَقَدْ
خَبَرَ الدَّهْرَا وَلَيْسَ يُحَابِي الدَّهْرُ فِي دَوَرَانِهِ
أَرَاذِلَ أَهْلِيهِ وَلَا السَّادَةَ الزُّهْرَا وَكَيْفَ وَقَدْ مَاتَ
النَّبِيُّ وَصَحْبُهُ
وَأَزْوَاجُهُ طُرًّا وَفَاطِمَةُ الزَّهْرَا
وَمِنْ
شِعْرِ الْحَافِظِ السِّلَفِيِّ الَّذِي أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ قَوْلُهُ:
يَا قَاصِدًا عِلْمَ الْحَدِيثِ يَذُمُّهُ إِذْ ضَلَّ عَنْ طُرُقِ الْهِدَايَةِ
وَهْمُهُ
إِنَّ الْعُلُومَ كَمَا عَلِمْتَ كَثيرَةٌ وَأَجَلُّهَا فِقْهُ الْحَدِيثِ
وَعِلْمُهُ
مَنْ كَانَ طَالِبَهُ وَفِيهِ تَيَقُّظٌ فَأَتَمُّ سَهْمٍ فِي الْمَعَالِي
سَهْمُهُ
لَوْلَا الْحَدِيثُ وَأَهْلُهُ لَمْ يَسْتَقِمْ دِينُ النَّبِيِّ وَشَذَّ عَنَّا
حُكْمُهُ
وَإِذَا اسْتَرَابَ بِقَوْلِنَا مُتَحَذْلِقٌ فَأَكَلُّ فَهْمٍ فِي الْبَسِيطَةِ
فَهْمُهُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتُهِلَّتْ وَالْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ مُقِيمٌ بِالْقَاهِرَةِ،
مُوَاظِبٌ عَلَى سَمَاعِ الْأَحَادِيثِ، وَجَاءَ كِتَابٌ مِنْ نَائِبِهِ
بِالشَّامِ عِزِّ الدِّينِ فَرُّوخْشَاهْ بِمَا مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى
النَّاسِ مِنْ كَثْرَةِ وِلَادَةِ النِّسَاءِ بِالتَّوَائِمِ ; جَبْرًا لِمَا
كَانَ أَصَابَهُمْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي مِنَ الْوَبَاءِ وَالْفَنَاءِ، وَأَنَّ
الشَّامَ مُخْصِبٌ بِإِذْنِ اللَّهِ ; جَبْرًا لِمَا كَانَ أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَدْبِ
وَالْغَلَاءِ.
وَفِي شَوَّالٍ تَوَجَّهَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ
فَشَاهَدَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ تَحْصِينِ سُورِهَا وَعِمَارَةِ أَبْرَاجِهَا
وَقُصُورِهَا، وَسَمِعَ " مُوَطَّأَ الْإِمَامِ مَالِكٍ " عَلَى
الشَّيْخِ أَبِي طَاهِرِ بْنِ عَوْفٍ، عَنِ الطَّرْطُوشِيِّ، وَسَمِعَ مَعَهُ
الْعِمَادَ الْكَاتِبَ، وَأَرْسَلَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ إِلَى السُّلْطَانِ
رِسَالَةً يُهَنِّئُهُ بِهَذَا السَّمَاعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ
صَاحِبِ حَلَبَ وَمَا جَرَى بَعْدَهُ مِنَ الْأُمُورِ
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ بِقَلْعَةِ حَلَبَ
وَدُفِنَ بِهَا، وَكَانَ سَبَبُ وَفَاتِهِ - فِيمَا قِيلَ - أَنَّ الْأَمِيرَ عَلَمَ الدِّينِ سُلَيْمَانَ بْنَ جَنْدَرٍ سَقَاهُ سُمًّا فِي عُنْقُودِ عِنَبٍ فِي الصَّيْدِ، وَقِيلَ: بَلْ سَقَاهُ يَاقُوتُ الْأَسَدِيُّ فِي شَرَابٍ. وَقِيلَ: فِي خُشْكَنَانْجَةَ. فَاعْتَرَاهُ قُولَنْجٌ فَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ شَابٌّ حَسَنُ الصُّورَةِ، بَهِيُّ الْمَنْظَرِ، وَلَمْ يَبْلُغْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ أَعِفِّ الْمُلُوكِ، وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ، وَصَفَ لَهُ الْأَطِبَّاءُ فِي مَرَضِهِ شُرْبَ الْخَمْرِ، فَاسْتَفْتَى بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فِي شُرْبِهَا تَدَاوِيًا، فَأَفْتَاهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: أَيُزِيدُ شُرْبُهَا فِي أَجَلِي، أَوْ يُنْقِصُ مِنْهُ شَيْئًا ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَوَاللَّهِ لَا أَشْرَبُهَا فَأَلْقَى اللَّهَ وَقَدْ شَرِبْتُ مَا حَرَّمَهُ عَلَيَّ. وَلَمَّا يَئِسَ مِنْ نَفْسِهِ اسْتَدْعَى الْأُمَرَاءَ، فَحَلَّفَهُمْ لِابْنِ عَمِّهِ عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ ; لِقُوَّةِ سُلْطَانِهِ وَتُمَكُّنِهِ ; لِيَمْنَعَهَا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، وَخَشِيَ أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِ عَمِّهِ الْآخَرِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ، صَاحِبِ سِنْجَارَ، وَهُوَ زَوْجُ أُخْتِهِ وَتَرْبِيَةُ وَالِدِهِ، فَلَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهَا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ، فَلَمَّا مَاتَ اسْتَدْعَى الْحَلَبِيُّونَ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودَ بْنَ قُطْبِ الدِّينِ، صَاحِبَ الْمَوْصِلِ فَجَاءَ إِلَيْهِمْ فَدَخَلَ حَلَبَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَذَلِكَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، فَتَسَلَّمَ خَزَائِنَهَا وَحَوَاصِلَهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ السِّلَاحِ، وَكَانَ تَقِيُّ الدِّينِ عَمُّهُ بِمَدِينَةِ مَنْبِجَ فَهَرَبَ إِلَى حَمَاةَ، فَوَجَدَ أَهْلَهَا قَدْ نَادَوْا بِشِعَارِ عِزِّ الدِّينِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ وَأَطْمَعَ الْحَلَبِيُّونَ عِزَّ الدِّينِ مَسْعُودًا فِي أَخْذِ دِمَشْقَ ; لِغَيْبَةِ صَلَاحِ الدِّينِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَعْلَمُوهُ مَحَبَّةَ أَهْلِ الشَّامِ لِهَذَا الْبَيْتِ الْأَتَابِكِيِّ، فَقَالَ: بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَيْمَانٌ وَعُهُودٌ، وَأَنَا أَغْدِرُ بِهِ! فَأَقَامَ بِحَلَبَ شُهُورًا، وَتَزَوَّجَ بِأُمِّ
الْمَلِكِ
الصَّالِحِ فِي شَوَّالٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الرَّقَّةِ فَنَزَلَهَا، وَجَاءَتْهُ
رُسُلُ أَخِيهِ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُقَايِضَهُ مِنْ
حَلَبَ إِلَى سِنْجَارَ، وَأَلَحَّ فِي ذَلِكَ، وَتَمَنَّعَ أَخُوهُ ثُمَّ فَعَلَ
ذَلِكَ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ، فَسَلَّمَ إِلَيْهِ حَلَبَ وَسَلَّمَهُ عِمَادُ
الدِّينِ سِنْجَارَ وَالْخَابُورَ وَالرَّقَّةَ وَنَصِيبِينَ وَسَرُوجَ، وَغَيْرَ
ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ.
وَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ رَكِبَ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي عَسَاكِرِهِ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى الْفُرَاتَ
فَعَبَرَهَا، وَخَامَرَ إِلَيْهِ بَعْضُ أُمَرَاءِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ
فَتَقَهْقَرَ عَنْ لِقَائِهِ، فَاسْتَحْوَذَ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى بِلَادِ
الْجَزِيرَةِ بِكَمَالِهَا، وَهُمْ بِمُحَاصَرَةِ الْمَوْصِلِ فَلَمْ يَتَّفِقْ
ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى حَلَبَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ
; لِضِعْفِهِ عَنْ مُمَانَعَتِهَا ; لِقِلَّةِ مَا تَرَكَ فِيهَا عِزُّ الدِّينِ
مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَآلَاتِ الْقِتَالِ، وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ،
كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَمَ الْبِرِنْسُ صَاحِبُ الْكَرَكِ لَعَنَهُ اللَّهُ،
عَلَى قَصْدِ تَيْمَاءَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ ; لِيَتَوَصَّلَ مِنْهَا إِلَى
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَجُهِّزَتْ لَهُ سَرِيَّةٌ مِنْ دِمَشْقَ تَكُونُ
حَاجِزَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحِجَازِ، فَصَدَّهُ ذَلِكَ عَنْ قَصْدِهِ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا وَلَّى السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ أَخَاهُ سَيْفَ الْإِسْلَامِ
ظَهِيرَ الدِّينِ طُغْتِكِينَ بْنَ أَيُّوبَ نِيَابَةَ الْيَمَنِ فَمَلَّكَهُ
عَلَيْهَا، وَأَرْسَلَهُ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ نُوَّابِهَا
وَاضْطِرَابِ أَصْحَابِهَا، بَعْدَ وَفَاةِ الْمُعَظَّمِ تُورَانْشَاهْ أَخِي
السُّلْطَانِ الَّذِي كَانَ افْتَتَحَهَا، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتَنُ بِهَا،
وَكَثُرَ التَّخْلِيطُ وَالتَّخْبِيطُ، سَمَتْ نَفْسُ أَخِيهِ طُغْتِكِينَ
إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَهُ أَخُوهُ إِلَيْهَا وَوَلَّاهُ عَلَيْهَا، فَسَارَ
فَوَصَلَهَا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ، فَسَارَ فِيهَا أَحْسَنَ سِيرَةٍ،
وَأَكْمَلَ بِهَا الْمَعْدَلَةَ وَالسَّرِيرَةَ، وَاحْتَاطَ عَلَى أَمْوَالِ
حَطَّانِ بْنِ مُنْقِذٍ نَائِبِ زَبِيدَ وَكَانَتْ تُقَارِبُ أَلْفَ أَلْفِ
دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَأَمَّا نَائِبُ عَدَنَ فَخْرُ الدِّينِ عُثْمَانُ
الزَّنْجِيلِيُّ فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْيَمَنِ قَبْلَ قُدُومِ طُغْتِكِينَ
فَسَكَنَ
الشَّامَ وَلَهُ أَوْقَافٌ مَشْهُورَةٌ بِالْيَمَنِ وَمَكَّةَ، وَإِلَيْهِ
تُنْسَبُ الْمَدْرَسَةُ الزَّنْجِيلِيَّةُ، خَارِجَ بَابِ تُومَا، تُجَاهَ دَارِ
الطَّعْمِ، وَكَانَ قَدْ حَصَّلَ مِنْهَا أَمْوَالًا عَظِيمَةً جِدًّا.
وَفِيهَا غَدَرَتِ الْفِرِنْجُ وَنَقَضُوا عُهُودَهُمْ، وَقَطَعُوا السُّبُلَ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَرًّا وَبَحْرًا، وَسِرًّا وَجَهْرًا، فَأَمْكَنَ اللَّهُ
مِنْ بُطْسَةٍ عَظِيمَةٍ لَهُمْ فِيهَا نَحْوٌ مِنْ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةِ
نَفْسٍ مِنْ رِجَالِهِمُ الْمَعْدُودِينَ فِيهِمْ، أَلْقَاهَا الْمَوْجُ إِلَى
ثَغْرِ دِمْيَاطَ قَبْلَ خُرُوجِ السُّلْطَانِ مِنْ مِصْرَ، فَأُحِيطَ بِهَا
فَغَرِقَ بَعْضُهُمْ وَحَصَلَ فِي الْأَسْرِ نَحْوُ أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةٍ
مِنْهُمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا سَارَ قَرَاقُوشُ إِلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَفَتَحَ بِلَادًا
كَثِيرَةً، وَقَاتَلَ عَسْكَرَ ابْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ
هُنَاكَ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَمَالِيكِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ ابْنِ أَخِي
السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَأَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِأَنْ يُتِمَّ السُّورَ الْمُحِيطَ بِالْقَاهِرَةِ
وَمِصْرَ، وَذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ
آخِرَ عَهْدِهِ بِهَا حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، بَعْدَ أَنْ
أَرَاهُ اللَّهُ مُنَاهُ قَبْلَ حُلُولِ الْوَفَاةِ، فَأَقَرَّ عَيْنَهُ مِنْ
أَعْدَاهُ، وَفَتَحَ عَلَى يَدِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهُ وَمَا
حَوَاهُ، وَلَمَّا خَيَّمَ بَارِزًا مِنْ مِصْرَ، أَحْضَرَ أَوْلَادَهُ حَوْلَهُ
فَجَعَلَ يَشُمُّهُمْ وَيُقَبِّلُهُمْ وَيَضُمُّهُمْ، فَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
تَمَتَّعْ مِنْ شَمِيمِ عَرَارِ نَجْدٍ فَمَا بَعْدَ الْعَشِيَّةِ مِنْ عَرَارِ
فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ، لَمْ يَعُدْ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ،
بَلْ كَانَ مُقَامُهُ بِالشَّامِ.
وَفِي
هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ لِلسُّلْطَانِ وَلَدَانِ ; وَهُمَا الْمُعَظَّمُ
تُورَانْشَاهْ، وَالْمَلِكُ الْمُحْسِنُ أَحْمَدُ، وَكَانَ بَيْنَ وِلَادَتِهِمَا
سَبْعَةُ أَيَّامٍ، فَزُيِّنَتِ الْبِلَادُ وَاسْتَمَرَّ الْفَرَحُ أَرْبَعَةَ
عَشَرَ يَوْمًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ كَمَالُ الدَّيْنِ أَبُو الْبَرَكَاتِ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي السَّعَادَاتِ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْأَنْبَارِيُّ النَّحْوِيُّ الْفَقِيهُ
الْعَابِدُ الزَّاهِدُ النَّاسِكُ الْخَاشِعُ الْوَرِعُ، كَانَ خَشِنَ الْعَيْشِ
وَلَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَلَا مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ يَحْضُرُ
نَوْبَةَ الصُّوفِيَّةِ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ جَوَائِزِ
الْخَلِيفَةِ لَهُمْ وَلَا فَلْسًا. وَكَانَ صَابِرًا عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَلَهُ
تَصَانِيفُ مُفِيدَةٌ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ لَهُ كِتَابُ "
أَسْرَارِ الْعَرَبِيَّةِ " مُفِيدٌ جِدًّا، وَكِتَابُ " طَبَقَاتِ
النُّحَاةِ " مُفِيدٌ جِدًّا أَيْضًا، وَكِتَابُ " الْمِيزَانِ فِي
النَّحْوِ " أَيْضًا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي خَامِسِ الْمُحَرَّمِ كَانَ بُرُوزُ السُّلْطَانِ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ قَاصِدًا بِلَادَ الشَّامِ ; لِمُنَاجَزَةِ الْأَعْدَاءِ
وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ عَهْدِهِ بِمِصْرَ
لَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ أَغَارَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى
أَطْرَافِ بِلَادِ الْفِرِنْجِ بِأَرْضِ الْكَرَكِ وَجَعَلَ أَخَاهُ تَاجَ
الْمُلُوكِ بُورِي بْنَ أَيُّوبَ عَلَى الْمَيْمَنَةِ يَسِيرُ نَاحِيَةً عَنْهُ ;
لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ بِلَادِ الْعَدُوِّ فَالْتَقَوْا عَلَى الْأَزْرَقِ بَعْدَ
سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ أَغَارَ نَائِبُ دِمَشْقَ عِزُّ الدِّينِ فَرُّوخْشَاهْ
عَلَى بِلَادِ طَبَرِيَّةَ وَمَا حَوْلَهَا، وَافْتَتَحَ حُصُونًا جَيِّدَةً،
وَأَسَرَ مِنْهُمْ أَلْفًا، وَغَنِمَ عِشْرِينَ أَلْفَ رَأْسٍ مِنَ الْأَنْعَامِ،
بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَهُ. وَكَانَ دُخُولُ السُّلْطَانِ إِلَى دِمَشْقَ سَابِعَ
عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ ثُمَّ خَرَجَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، فَاقْتَتَلَ مَعَ الْفِرِنْجِ فِي نَوَاحِي طَبَرِيَّةَ وَبَيْسَانَ
تَحْتَ حِصْنِ كَوْكَبٍ، فَقُتِلَ خَلْقٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنْ كَانَتِ
الدَّائِرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَرَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ فِي جَحَافِلِهِ وَعَسَاكِرِهِ قَاصِدًا حَلَبَ
وَبِلَادَ الشَّرْقِ لِيَأْخُذَهَا ; وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوَاصِلَةَ
وَالْحَلَبِيِّينَ قَدْ كَاتَبُوا الْفِرِنْجَ حَتَّى يَغْزُوَا عَلَى أَطْرَافِ
الْبِلَادِ ; لِيَشْغَلُوا النَّاصِرَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ، فَكَانَ مَسِيرُهُ
عَلَى بِلَادِ الْبِقَاعِ ثُمَّ إِلَى حَمَاةَ ثُمَّ إِلَى حَلَبَ فَحَاصَرَهَا
ثَلَاثًا، وَرَأَى الْعُدُولَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا أَوْلَى بِهِ،
فَسَارَ
حَتَّى قَطَعَ الْفُرَاتَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادِ الْجَزِيرَةِ
وَالْخَابُورَ وَحَرَّانَ وَالرُّهَا وَالرَّقَّةَ وَنَصِيبِينَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ،
وَخَضَعَتْ لَهُ الْمُلُوكُ هُنَالِكَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى حَلَبَ فَتَسَلَّمَهَا
مِنْ صَاحِبِهَا عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ وَقَدْ كَانَ قَايَضَ أَخَاهُ عِزَّ
الدِّينِ مَسْعُودًا بِهَا إِلَى سِنْجَارَ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ، فَاسْتَوْسَقَتْ لَهُ الْمَمَالِكُ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَبُعْدًا
وَقُرْبًا، وَتَمَكَّنَ حِينَئِذٍ مِنْ قِتَالِ أَعْدَائِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ -
لَعَنَهُمُ اللَّهُ - وَأَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْ نَوَاصِيهِمْ، فَلَهُ الْحَمْدُ
عَلَى مَا أَوْلَاهُ.
فَصْلٌ
وَلَمَّا عَجَزَ إِبْرَنْسُ الْكَرَكِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - عَنْ إِيصَالِ
الْأَذَى لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْبَرِّ، عَمِلَ مَرَاكِبَ فِي بَحْرِ الْقُلْزُمِ
; لِيَقْطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى التُّجَّارِ وَالْحُجَّاجِ، فَوَصَلَتْ
أَذِيَّتُهُمْ إِلَى عَيْذَابَ، وَخَافَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ
شَرِّهِمْ، فَأَمَرَ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرٍ - نَائِبُ مِصْرَ الْأَمِيرَ حُسَامَ
الدِّينِ - لُؤْلُؤًا صَاحِبَ الْأُسْطُولِ أَنْ يَعْمَلَ مَرَاكِبَهُ فِي بَحْرِ
الْقُلْزُمِ لِمُحَارَبَةِ أَصْحَابِ إِبْرَنْسَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فَظَفِرُوا
بِهِمْ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَحَرَّقُوا وَغَرَّقُوا
وَسَبَوْا وَقَهَرُوا وَأَسَرُوا فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ، وَمَوَاقِفَ هَائِلَةٍ
كَبِيرَةٍ، وَأَمِنَ الْبَرُّ وَالْبَحْرُ بِإِذْنِ اللَّهِ الَّذِي بِيَدِهِ
النَّفْعُ وَالضُّرُّ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى أَخِيهِ يَشْكُرُ مِنْ
مَسَاعِيهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى دِيوَانِ الْخِلَافَةِ يُعَرِّفُهُمْ بِمَا أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْفُتُوحَاتِ بَرًّا وَبَحْرًا، وَبِمَا هُوَ مُتَقَلِّبٌ
فِيهِ مِنْ أَنْعُمِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ سِرًّا وَجَهْرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَصْلٌ
فِي وَفَاةِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ عِزِّ الدِّينِ
فَرُّوخْشَاهْ بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ صَاحِبِ بَعْلَبَكَّ وَنَائِبِ
دِمَشْقَ لِعَمِّهِ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَهُوَ وَالِدُ الْمَلِكِ
الْأَمْجَدِ بَهْرَامْ شَاهْ صَاحِبِ بَعْلَبَكَّ أَيْضًا بَعْدَ أَبِيهِ،
وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْمَدْرَسَةُ الْفَرُّوخْشَاهِيَّةُ بِالشَّرْقِ
الشَّمَالِيِّ، وَإِلَى جَانِبِهَا التُّرْبَةُ الْأَمْجَدِيَّةُ لِوَلَدِهِ،
وَهُمَا وَقْفٌ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ
فَرُّوخْشَاهْ شَهْمًا شُجَاعًا بَطَلًا عَاقِلًا ذَكِيًّا فَاضِلًا كَرِيمًا
مُمَدَّحًا، امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ لِجُودِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ،
وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ أَبِي الْيُمْنِ
الْكِنْدِيِّ، عَرَفَهُ مِنْ مَجْلِسِ الْقَاضِي الْفَاضِلِ لَهُ، وَلِلْعِمَادِ
الْكَاتِبِ فِيهِ مَدَائِحُ بَدَائِعُ، وَلَهُ هُوَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، شِعْرٌ
رَائِقٌ لَطِيفٌ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
أَنَا فِي أَسْرِ السِّقَامِ مِنْ هَوَى هَذَا الْغُلَامِ رَشَأٌ تَرْشُقُ عَيْنًا
هُ فُؤَادِي بِسِهَامِ كُلَّمَا أَرْشَفَنِي فَا
هُ عَلَى حَرِّ الْأُوَامِ ذُقْتُ مِنْهُ الشَّهْدَ فِي الثَّلْ
جِ الْمُصَفَّى فِي الْمُدَامِ
وَكَانَ ابْنُهُ الْمَلِكُ الْأَمْجَدُ شَاعِرًا جَيِّدًا أَيْضًا، وَقَدْ
وَلَّاهُ عَمُّ أَبِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ بَعْلَبَكَّ بَعْدَ أَبِيهِ،
وَاسْتَمَرَّ فِيهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، وَمِنْ مَحَاسِنِ الْمَنْصُورِ عِزِّ
الدِّينِ فَرُّوخْشَاهْ صُحْبَتُهُ لِتَاجِ الدَّيْنِ الْكِنْدِيِّ، وَلَهُ فِي
الْكِنْدِيِّ مَدَائِحُ، وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ ذَلِكَ
كُلَّهُ مُسْتَقْصًى فِي " الرَّوْضَتَيْنِ " ; وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ
دَخَلَ يَوْمًا
إِلَى
الْحَمَّامِ فَرَأَى رَجُلًا كَانَ يَعْرِفُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَمْوَالِ،
وَقَدْ نَزَلَ بِهِ الْحَالُ حَتَّى إِنَّهُ تَسَتَّرَ بِبَعْضِ يَدَيْهِ حَتَّى
لَا يَبْدُوَ جِسْمُهُ، فَرَقَّ لَهُ وَأَمَرَ غُلَامَهُ أَنْ يَنْقُلَ بَقُجَّةً
وَبِسَاطًا إِلَى مَوْضِعِ الرَّجُلِ، وَأَحْضَرَ بِهِ بَغْلَةً وَأَلْفَ دِينَارٍ
وَتَوْقِيعًا لَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ بِعِشْرِينَ دِينَارًا، فَدَخَلَ الرَّجُلُ
مِنْ أَفْقَرِ النَّاسِ، وَخَرَجَ وَهُوَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ، فَرَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَى الْأَجْوَادِ الْأَكْيَاسِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ أَبُو الْعَبَّاسِ الرِّفَاعِيُّ
أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ،
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرِّفَاعِيِّ، شَيْخُ الطَّائِفَةِ الْأَحْمَدِيَّةِ
وَالرِّفَاعِيَّةِ الْبَطَائِحِيَّةِ لِسُكْنَاهُ أُمَّ عَبِيدَةَ مِنْ قُرَى الْبَطَائِحِ
وَهِيَ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَوَاسِطٍ، كَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْعَرَبِ فَسَكَنَ
هَذِهِ الْبِلَادَ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ
حَفِظَ " التَّنْبِيهَ " فِي الْفِقْهِ. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي
طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلِأَتْبَاعِهِ أَحْوَالٌ عَجِيبَةٌ مِنْ أَكْلِ
الْحَيَّاتِ وَهِيَ حَيَّةٌ، وَالنُّزُولِ فِي التَّنَانِيرِ وَهِيَ تَضْطَرِمُ،
فَيُطْفِئُونَهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ فِي بِلَادِهِمْ يَرْكَبُونَ الْأُسْوَدَ.
قَالَ: وَلَيْسَ لِلشَّيْخِ أَحْمَدَ عَقِبٌ، وَإِنَّمَا النَّسْلُ لِأَخِيهِ،
وَذُرِّيَّتُهُ يَتَوَارَثُونَ الْمَشْيَخَةَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ. وَقَالَ:
وَمِنْ شِعْرِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ، عَلَى مَا قِيلَ:
إِذَا جَنَّ لَيْلِي هَامَ قَلْبِي بِذِكْرِكُمْ أَنُوحُ كَمَا نَاحَ الْحَمَامُ
الْمُطَوَّقُ
وَفَوْقِي
سَحَابٌ يُمْطِرُ الْهَمَّ وَالْأَسَى
وَتَحْتِي بِحَارٌ بِالْأَسَى تَتَدَفَّقُ سَلُوا أُمَّ عَمْرٍو كَيْفَ بَاتَ
أَسِيرُهَا
تُفَكُّ الْأُسَارَى دُونَهُ وَهْوَ مُوثَقُ فَلَا هُوَ مَقْتُولٌ فَفِي الْقَتْلِ
رَاحَةٌ
وَلَا هُوَ مَمْنُونٌ عَلَيْهِ فَيُطْلَقُ
وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَغَارُ عَلَيْهَا مِنْ أَبِيهَا وَأُمِّهَا وَمِنْ كُلِّ مَنْ يَدْنُو إِلَيْهَا
وَيَنْظُرُ
وَأَحْذَرُ لِلْمِرْآةِ أَيْضًا بِكَفِّهَا إِذَا نَظَرَتْ مِنْكِ الَّذِي أَنَا
أَنْظُرُ
قَالَ: وَلَمْ يَزَلْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ يَوْمَ
الْخَمِيسِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
خَلَفُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ بَشْكُوَالَ
أَبُو الْقَاسِمِ الْقُرْطُبِيُّ الْحَافِظُ الْمُحَدِّثُ الْمُؤَرِّخُ، صَاحِبُ
التَّصَانِيفِ، لَهُ كِتَابُ " الصِّلَةِ " جَعَلَهُ ذَيْلًا عَلَى
تَارِيخِ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ الْفَرَضِيِّ، وَلَهُ كِتَابُ "
الْمُسْتَغِيثِينَ بِاللَّهِ "، وَلَهُ مُجَلَّدٌ فِي تَعْيِينِ الْأَسْمَاءِ
الْمُبْهَمَةِ فِي الرِّوَايَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَطِيبِ، وَأَسْمَاءِ مَنْ
رَوَى " الْمُوَطَّأَ "، عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، بَلَغُوا ثَلَاثَةً
وَسَبْعِينَ رَجُلًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ عَنْ أَرْبَعٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ.
الْعَلَّامَةُ
قُطْبُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي
مَسْعُودُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْعُودٍ النَّيْسَابُورِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى
مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى صَاحِبِ الْغَزَالِيِّ، قَدِمَ دِمَشْقَ وَدَرَّسَ
بِالْغَزَّالِيَّةِ وَالْمُجَاهِدِيَّةِ، وَبِحَلَبَ بِمَدْرَسَةِ نُورِ الدِّينِ وَأَسَدِ
الدِّينِ، ثُمَّ بِهَمَذَانَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ وَدَرَّسَ
بِالْغَزَّالِيَّةِ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْمَذْهَبِ، وَمَاتَ بِهَا
فِي سَلْخِ رَمَضَانَ يَوْمَ الْعِيدِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، عَنْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَعَنْهُ أَخَذَ الْفَخْرُ
بْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَى الْحَافِظِ ابْنِ
عَسَاكِرَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ مُحَرَّمِهَا تَسَلَّمَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ
مَدِينَةَ آمِدَ صُلْحًا بَعْدَ حِصَارٍ طَوِيلٍ، مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا ابْنِ
نِيسَانَ، بَعْدَمَا حَمَلَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ
وَأَثْقَالِهِ مُدَّةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَمَّا تَسَلَّمَ السُّلْطَانُ الْبَلَدَ
وَجَدَ فِيهِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْحَوَاصِلِ وَآلَاتِ الْحَرْبِ
وَالسِّلَاحِ، حَتَّى إِنَّهُ وَجَدَ بُرْجًا مَمْلُوءًا بِنُصُولِ النُّشَّابِ،
وَبُرْجًا آخَرَ فِيهِ مِائَةُ أَلْفِ شَمْعَةٍ، وَأَشْيَاءَ يَطُولُ شَرْحُهَا،
وَوَجَدَ فِيهَا خِزَانَةَ كُتُبٍ فِيهَا أَلْفُ أَلْفِ مُجَلَّدٍ، وَأَرْبَعُونَ
أَلْفَ مُجَلَّدٍ، فَوَهَبَهَا كُلَّهَا لِلْقَاضِي الْفَاضِلِ، فَانْتَخَبَ
مِنْهَا حِمْلَ سَبْعِينَ حِمَارَةٍ. ثُمَّ وَهَبَ السُّلْطَانُ الْبَلَدَ بِمَا
فِيهِ لِنُورِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ قَرَا أَرْسَلَانَ - وَكَانَ قَدْ وَعَدَهُ
بِهَا - فَقِيلَ لَهُ: فَإِنَّ الْحَوَاصِلَ لَمْ تَدْخُلْ فِي وَعْدِكَ. فَقَالَ:
لَا أَبْخَلُ بِهَا عَلَيْهِ - وَكَانَ فِي خِزَانَتِهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ أَلْفِ
دِينَارٍ - وَقَدْ صَارَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَنْصَارِنَا. فَامْتَدَحَهُ
الشُّعَرَاءُ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الْحَسَنِ الْجَمِيلِ، وَهُوَ حَقِيقٌ
بِالثَّنَاءِ وَالْجَزَاءِ الْجَزِيلِ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ
فِي ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ قَصِيدَةٍ لَهُ فِي السُّلْطَانِ:
قُلْ لِلْمُلُوكِ تَنَحَّوا عَنْ مَمَالِكِكُمْ فقَدْ أَتَى آخِذُ الدُّنْيَا
وَمُعْطِيهَا
ثُمَّ
سَارَ السُّلْطَانُ فِي بَقِيَّةِ الْمُحَرَّمِ إِلَى مَدِينَةِ حَلَبَ
فَنَازَلَهَا وَحَاصَرَهَا، وَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا قِتَالًا جَيِّدًا، وَجُرِحَ
أَخُو السُّلْطَانِ تَاجُ الْمُلُوكِ بُورِي بْنُ أَيُّوبَ جُرْحًا بَلِيغًا،
فَمَاتَ مِنْهُ بَعْدَ أَيَّامٍ وَكَانَ أَصْغَرَ أَوْلَادِ أَيُّوبَ، لَمْ
يَبْلُغْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: بَلْ جَاوَزَهَا بِسَنَتَيْنِ، وَكَانَ
ذَكِيًّا فَهِمًا، لَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ لَطِيفٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ أَخُوهُ
الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ حُزْنًا شَدِيدًا، وَدَفَنَهُ بِحَلَبَ، ثُمَّ
نَقَلَهُ إِلَى دِمَشْقَ ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ بَيْنَ السُّلْطَانِ وَبَيْنَ
صَاحِبِ حَلَبَ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيِّ بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيِّ بْنِ
آقْ سُنْقُرَ عَلَى عِوَضٍ أَطْلَقَهُ وَهُوَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ سِنْجَارَ
وَيُسَلِّمَهُ الْبَلَدَ، فَخَرَجَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيٌّ، وَجَاءَ إِلَى
خِدْمَةِ السُّلْطَانِ، وَعَزَّاهُ فِي أَخِيهِ، وَنَزَلَ عِنْدَهُ فِي
الْمُخَيَّمِ، وَنَقَلَ أَثْقَالَهُ إِلَى سِنْجَارَ وَزَادَهُ السُّلْطَانُ
الْخَابُورَ وَالرَّقَّةَ وَنَصِيبِينَ وَسَرُوجَ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ إِرْسَالَ
الْعَسْكَرِ فِي الْخِدْمَةِ لِلْغُزَاةِ، ثُمَّ سَارَ وَوَدَّعَهُ السُّلْطَانُ
وَمَكَثَ السُّلْطَانُ فِي الْمُخَيَّمِ أَيَّامًا غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِحَلَبَ،
وَلَا مُسْتَكْثِرٍ لَهَا وَلَا بِهَا، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى قَلْعَتِهَا يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ سَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مَحْبُورًا، وَعَمِلَ
لَهُالْأَمِيرُ طَمَّانُ وَلِيمَةً عَظِيمَةً، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا
فَسَمِعَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ دَاخِلٌ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: قُلِ اللَّهُمَّ
مَالِكَ الْمُلْكِ [ آلِ عِمْرَانَ: 26 ] الْآيَةَ. وَلَمَّا دَخَلَ دَارَ
الْمَلِكِ تَلَا: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [
الْأَحْزَابِ: 27 ] وَلَمَّا دَخَلَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى فِيهِ
رَكْعَتَيْنِ وَأَطَالَ السُّجُودَ وَالدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - ثُمَّ شَرَعَ فِي عَمَلِ وَلِيمَةٍ عَظِيمَةٍ، وَقَدْ ضُرِبَتِ
الْبَشَائِرُ، وَخَلَعَ السُّلْطَانُ عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَأَحْسَنَ إِلَى
الرُّؤَسَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَأَلْقَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَقَضَتِ
الْقُلُوبُ أَوْطَارَهَا.
وَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى كَمَا قَرَّ عَيْنًا
بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ
وَقَدِ
امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ عِنْدَ فَتْحِ حَلَبَ بِمَدَائِحَ حِسَانٍ، وَكَانَتْ
قَدْ وَقَعَتْ مِنْهُ مَوْقِعًا عَظِيمًا، حَتَّى إِنَّهُ قَالَ: مَا سُرِرْتُ
بِفَتْحِ قَلْعَةٍ أَعْظَمَ سُرُورًا مِنْ فَتْحِ مَدِينَةِ حَلَبَ. وَأَسْقَطَ
عَنْهَا وَعَنْ سَائِرِ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ الْمُكُوسَ وَالضَّرَائِبَ،
وَكَذَلِكَ عَنْ بِلَادِ الشَّامِ وَمِصْرَ، فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَقَدْ كَانَتِ الْفِرِنْجُ فِي غَيْبَةِ السُّلْطَانِ وَاشْتِغَالِهِ بِبِلَادِ
الْجَزِيرَةِ وَتِلْكَ الْأُمُورِ، قَدْ عَاثَتْ فِي الْبِلَادِ بِالْإِفْسَادِ
يَمِينًا وَشِمَالًا، وَاغْتَنَمَتِ الثَّعَالِبُ غَيْبَةَ الْأَسَدِ فَجَالَتْ
حَوْلَ الْعَرِينِ وَهِيَ تَظُنُّ ذَلِكَ خَيَالًا، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى
عَسَاكِرِهِ ; لِيَجْتَمِعُوا إِلَيْهِ وَيَكُونُوا بَيْنَ يَدَيْهِ ;
لِيَتَصَدَّى بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ الْعَدُوِّ
الْمَخْذُولِ، وَكَانَ قَدْ بُشِّرَ بِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ فَتَحَ
حَلَبَ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْفَقِيهَ مَجْدَ الدِّينِ بْنَ جَهْبَلٍ الشَّافِعِيَّ
رَأَى فِي تَفْسِيرِ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ بَرَّجَانَ الْمَغْرِبِيِّ عِنْدَ
قَوْلِهِ تَعَالَى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ [ الرُّومِ: 1 ] الْآيَةَ. الْبِشَارَةَ
بِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ،
وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ، فَكَتَبَ ذَلِكَ فِي وَرَقَةٍ
وَأَعْطَاهَا لِلْفَقِيهِ عِيسَى الْهَكَّارِيِّ ; لِيُبَشِّرَ بِهَا
السُّلْطَانَ، فَلَمْ يَتَجَاسَرْ عَلَى ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ عَدَمِ
الْمُطَابَقَةِ، فَأَعْلَمَ بِذَلِكَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنَ الزَّكِيِّ،
فَنَظَمَ مَعْنَاهَا فِي قَصِيدَةٍ يَقُولُ فِيهَا:
وَفَتْحُكُمْ حَلَبَ الشَّهْبَاءِ فِي صَفَرٍ قَضَى لَكُمْ بِافْتِتَاحِ الْقُدْسِ
فِي رَجَبِ
وَقَدَّمَهَا لِلسُّلْطَانِ فَقَوِيَتْ هِمَّةُ السُّلْطَانِ إِلَى ذَلِكَ،
فَلَمَّا افْتَتَحَهَا - كَمَا سَيَأْتِي - أَمَرَ الْقَاضِي فَخَطَبَ يَوْمَئِذٍ
وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ جَهْبَلٍ هُوَ الَّذِي
اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلًا، أَمَرَهُ فَدَرَّسَ عَلَى نَفْسِ الصَّخْرَةِ
دَرْسًا عَظِيمًا،
وَأَجْزَلَ
لَهُ الْعَطَاءَ وَأَحْسَنَ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ.
فَصْلٌ
ثُمَّ رَحَلَ السُّلْطَانُ مِنْ حَلَبَ فِي أَوَاخِرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ
بِجُيُوشِهِ وَعَسَاكِرِهِ وَقَدْ جَعَلَ فِيهَا وَلَدَهُ الظَّاهِرَ غَازِيًا، وَوَلَّى
قَضَاءَهَا لِمُحْيِي الدِّينِ بْنِ الزَّكِيِّ، فَاسْتَنَابَ لَهُ فِيهَا
نَائِبًا، وَرَجَعَ هُوَ مَعَ السُّلْطَانِ فِي خِدْمَتِهِ، فَاجْتَازَ بِحَمَاةَ
ثُمَّ بِحِمْصَ ثُمَّ عَلَى بَعْلَبَكَّ ثُمَّ دَخَلَ دِمَشْقَ فِي ثَالِثِ
جُمَادَى الْأُولَى مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ وَنِعْمَةٍ
جَسِيمَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَمِنْ نِيَّتِهِ الْخُرُوجُ
سَرِيعًا إِلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ، فَبَرَزَ مِنْهَا فِي أَوَّلِ جُمَادَى
الْآخِرَةِ فِي جَحَافِلِهِ قَاصِدًا نَحْوَ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، فَانْتَهَى
إِلَى بَيْسَانَ فَنَهَبَهَا، وَنَزَلَ عَلَى عَيْنِ جَالُوتَ وَأَرْسَلَ بَيْنَ
يَدَيْهِ سَرِيَّةً هَائِلَةً فِيهَا جُرْدَيْكُ وَطَائِفَةٌ مِنَ النُّورِيَّةِ،
وَجَاوْلِي مَمْلُوكُ عَمِّهِ أَسَدِ الدِّينِ، فَوَجَدُوا جَيْشَ الْكَرَكِ مِنَ
الْفِرِنْجِ قَاصِدِينَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ ; نَجْدَةً لَهُمْ، فَالْتَقَوْا
مَعَهُمْ فَقَتَلُوا مِنَ الْفِرِنْجِ خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرُوا مِائَةَ
أَسِيرٍ، وَلَمْ يُفْقَدْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ عَادَ
فِي آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَبَلَغَ السُّلْطَانَ أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدِ
اجْتَمَعُوا لِقِتَالِهِ، فَقَصَدَهُمْ وَتَصَدَّى لَهُمْ لَعَلَّهُمْ
يُصَافُّونَهُ، فَنَكَّلُوا عَنْهُ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ
أَطْرَافِهِمْ وَجَرَحَ مِثْلَهُمْ، فَرَجَعُوا نَاكِصِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ
خَائِفِينَ مِنْهُ غَايَةَ الْمَخَافَةِ ; لِكَثْرَةِ جَيْشِهِ، وَهُوَ خَلْفَهُمْ
يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ حَتَّى غَوَّرُوا فِي بِلَادِهِمْ، فَرَجَعَ عَنْهُمْ
مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، وَكَتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ إِلَى الْخَلِيفَةِ
يُعْلِمُهُ بِمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ نَصْرِهِمْ عَلَى
الْفِرِنْجِ، وَكَانَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ إِلَّا
طَالَعَ
بِذَلِكَ
الْخَلِيفَةِ ; أَدَبًا وَاحْتِرَامًا وَطَاعَةً وَاحْتِشَامًا.
فَصْلٌ
وَفِي رَجَبٍ سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى الْكَرَكِ فَحَاصَرَهَا وَفِي صُحْبَتِهِ
تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ ابْنُ أَخِيهِ، وَقَدْ كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ الْعَادِلِ
أَبِي بَكْرٍ لِيَحْضُرَ إِلَيْهِ لِيُوَلِّيَهُ حَلَبَ وَأَعْمَالَهَا وَفْقَ مَا
كَانَ طَلَبَ مِنْهُ، وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ عَلَى الْكَرَكِ مُدَّةَ شَهْرِ
رَجَبٍ، فَلَمْ يَظْفَرْ مِنْهَا بِطَلَبٍ، وَبَلَغَهُ أَنَّ الْفِرِنْجَ قَدِ
اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ لِيَمْنَعُوا مِنْهُ الْكَرَكَ فَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى
دِمَشْقَ ; لِيَلْقَاهُمْ - وَذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّهِ وَأَعْظَمِ طَلَبِهِ -
وَأَرْسَلَ ابْنَ أَخِيهِ تَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ إِلَى مِصْرَ نَائِبًا، وَفِي
صُحْبَتِهِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ، وَبَعَثَ أَخَاهُ عَلَى مَمْلَكَةِ حَلَبَ
وَأَعْمَالِهَا، وَاسْتَقَدْمَ وَلَدَهُ الظَّاهِرَ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ
نُوَّابَهُ وَمَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَعْطَى السُّلْطَانُ أَخَاهُ
الْعَادِلَ حَلَبَ لِيَكُونَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَقْطَعُ
أَمْرًا دُونَ مَشُورَتِهِ، وَاقْتَرَضَ النَّاصِرُ مِنْ أَخِيهِ أَبِي بَكْرٍ
الْعَادِلِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَتَأَلَّمَ الظَّاهِرُ بْنُ النَّاصِرِ
عَلَى مُفَارَقَةِ حَلَبَ وَكَانَتْ إِقَامَتُهُ الْأَوْلَى بِهَا سِتَّةَ
أَشْهُرٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يُظْهِرُ مَا فِي نَفْسِهِ لِوَالِدِهِ، لَكِنْ
يَظْهَرُ ذَلِكَ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى الْعَسَاكِرِ الْحَلَبِيَّةِ
وَالْجَزَرِيَّةِ وَالْمِصْرِيَّةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ
مِنْ مِصْرَ وَمَعَهُ الْقَاضِي الْفَاضِلُ، وَجَاءَ مِنْ حَلَبَ أَبُو بَكْرٍ
الْعَادِلُ، وَقَدِمَتْ مُلُوكُ الْجَزِيرَةِ وَسِنْجَارَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي
وَالْأَقْطَارِ، وَأَخَذَهَا كُلَّهَا مَعَ جَيْشِهِ، فَسَارَ بِهَا إِلَى
الْكَرَكَ فَأَحْدَقُوا بِهَا فِي رَابِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى، وَرَكَّبَ
عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَكَانَتْ تِسْعَةً، وَأَخَذَ فِي حِصَارِهَا ; وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّ فَتْحَهَا الْآنَ أَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ
يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْحَجِيجِ وَالتُّجَّارِ فِي الْبَرَارِي
وَالْبِحَارِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَلَغَهُ أَنَّ الْفِرِنْجَ - لَعَنَهُمُ
اللَّهُ - قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ كُلُّهُمْ فَارِسُهُمْ وَرَاجِلُهُمْ ;
لِيَمْنَعُوا مِنْهُ الْكَرَكَ فَانْشَمَرَ عَنْهَا وَقَصَدَهُمْ، فَنَزَلَ عَلَى
حُسْبَانَ تُجَاهَهُمْ، ثُمَّ صَارَ إِلَى مَاءِ عَيْنٍ، فَانْهَزَمَتِ
الْفِرِنْجُ قَاصِدِينَ الْكَرَكَ فَأَرْسَلَ وَرَاءَهُمْ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ
مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَأَمَرَ السُّلْطَانُ الْجُيُوشَ بِالْإِغَارَةِ عَلَى
السَّوَاحِلِ ; لِخُلُوِّهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، فَنَهَبَتْ نَابُلُسَ وَمَا
حَوْلَهَا مِنَ الْقَرَايَا وَالرَّسَاتِيقِ، ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ إِلَى
دِمَشْقَ فَأَذِنَ لِلْعَسَاكِرِ فِي الِانْصِرَافِ إِلَى بُلْدَانِهِمُ
الشَّتَّى، وَأَمَرَ ابْنَ أَخِيهِ تَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ الْمَلِكَ
الْمُظَفَّرَ أَنْ يَعُودَ إِلَى مِصْرَ بِعَسْكَرِهِ، وَكَذَلِكَ أَخَاهُ
الْعَادِلَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الشَّهْبَاءِ، وَأَقَامَ السُّلْطَانُ بِدِمَشْقَ ;
لِيُؤَدِّيَ
فَرْضَ الصِّيَامِ، وَلِتَجِمَّ الْخَيْلُ وَيُحَدَّ الْحُسَامَ، وَقَدِمَتْ عَلَى
السُّلْطَانِ خِلَعُ الْخَلِيفَةِ فَلَبِسَهَا، وَأَلْبَسَ أَخَاهُالْعَادِلَ،
وَابْنَ عَمِّهِ نَاصِرَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ شِيرَكُوهْ، ثُمَّ خَلَعَ
السُّلْطَانُ خِلْعَتَهُ عَلَى نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ قَرَا أَرْسَلَانَ، صَاحِبِ
حِصْنِ كَيْفَا وَخَرْتَبِرْتَ وَآمِدَ الَّتِي أَطْلَقَهَا لَهُ السُّلْطَانُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ ابْنُ عَمِّهِ صَاحِبُ مَارْدِينَ
وَمَيَّافَارْقِينَ وَتِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ قُطْبُ الدِّينِ إِيلِغَازِي
بْنُ أَلْبِي بْنِ تَمُرْتَاشَ بْنِ إِيلِغَازِي بْنِ أُرْتُقَ، فَقَامَ فِي
الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ عَشْرُ سِنِينَ.
وَفِيهَا مَاتَ صَاحِبُ الْمَغْرِبِ - أَيْضًا - يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ
بْنِ عَلِيٍّ وَقَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ يَعْقُوبُ.
وَفِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ بَلَغَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ أَنَّ صَاحِبَ
الْمَوْصِلِ نَازِلٌ إِرْبِلَ، فَبَعَثَ صَاحِبُهَا يَسْتَصْرِخُ بِالسُّلْطَانِ،
فَرَكِبَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَيْهِ فِي جُنُودِهِ وَعَسَاكِرِهِ، فَسَارَ إِلَى
بَعْلَبَكَّ ثُمَّ إِلَى حِمْصَ ثُمَّ إِلَى حَمَاةَ، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا
يَنْتَظِرُ وُصُولَ الْعِمَادِ الْكَاتِبِ إِلَيْهِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَصَلَ
لَهُ ضَعْفٌ فَأَقَامَ بِبَعْلَبَكَّ رَيْثَمَا اسْتَبَلَّ مِنْ مَرَضِهِ، وَقَدْ
أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ دِمَشْقَ حَكِيمًا يُقَالُ لَهُ:
أَسْعَدُ بْنُ إِلْيَاسَ الْمُطْرَانُ. فَعَالَجَهُ مُعَالَجَةَ مَنْ طَبَّ لِمَنْ
حَبَّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالسُّلْطَانُ مُخَيِّمٌ بِظَاهِرِ حَمَاةَ،
فَسَارَ إِلَى حَلَبَ وَتَلَقَّاهُ أَخُوهُ الْعَادِلُ، وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ
الْعَسَاكِرُ، فَخَرَجَ مِنْهَا فِي صَفَرٍ ; لِقَصْدِ الْمَوْصِلِ فَقَطَعَ
الْفُرَاتَ، وَجَاءَ إِلَى حَرَّانَ فَقَبَضَ عَلَى صَاحِبِهَا مُظَفَّرِ الدِّينِ
بْنِ زَيْنِ الدِّينِ، وَهُوَ أَخُو زَيْنِ الدِّينِ صَاحِبِ إِرْبِلَ، ثُمَّ
رَضِيَ عَنْهُ، وَأَعَادَهُ إِلَى مَمْلَكَتِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حُسْنَ
طَوِيَّتِهِ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى الْمَوْصِلِ فَتَلَقَّاهُ الْمُلُوكُ مِنْ
كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَجَاءَ إِلَى خِدْمَتِهِ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ
قَرَا أَرْسَلَانَ صَاحِبُ بِلَادِ بِكْرٍ وَآمِدَ، ثُمَّ بَلَغَهُ مَوْتُ أَخِيهِ
نُورِ الدِّينِ أَرْسَلَانَ، فَطَلَبَ دُسْتُورًا ; لِأَخْذِ مَمْلَكَتِهِ
فَأَعْطَاهُ، وَسَارَ السُّلْطَانُ فَنَزَلَ عَلَى الْإِسْمَاعِيلِيَّاتِ قَرِيبًا
مِنَ الْمَوْصِلِ وَجَاءَهُ صَاحِبُ إِرْبِلَ زَيْنُ الدِّينِ وَهُوَ مِمَّنْ
خَضَعَ لَهُ مُلُوكُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَأَرْسَلَ
السُّلْطَانُ ضِيَاءَ الدِّينِ بْنَ كَمَالِ الدِّينِ الشَّهْرُزُورِيَّ إِلَى
الْخَلِيفَةِ يُعْلِمُهُ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ حِصَارِ الْمَوْصِلِ
وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ رَدُّهُمْ إِلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ، وَنُصْرَةِ
الْإِسْلَامِ، فَحَاصَرَهَا مُدَّةً، ثُمَّ تَرَحَّلَ عَنْهَا فِي آخِرِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ وَلَمْ يَفْتَحْهَا، وَسَارَ إِلَى خِلَاطَ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى
بُلْدَانٍ كَثِيرَةٍ، وَأَقَالِيمَ جَمَّةٍ بِبِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَدِيَارِ
بَكْرٍ، وَجَرَتْ أُمُورٌ طَوِيلَةٌ قَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ الْأَثِيرِ فِي "
الْكَامِلِ " وَصَاحِبُ " الرَّوْضَتَيْنِ "، ثُمَّ وَقَعَ
الصُّلْحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوَاصِلَةِ، عَلَى أَنْ يَكُونُوا مَنْ جُنْدِهِ
إِذَا نَدَبَهُمْ لِقِتَالِ الْفِرِنْجِ، وَعَلَى أَنْ
يَخْطُبَ
لَهُ، وَتُضْرَبَ السِّكَّةُ بِاسْمِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ
كُلِّهَا، وَانْقَطَعَتْ خُطْبَةُ السَّلَاجِقَةِ وَالْأَزِيقِيَّةِ بِتِلْكَ
الْبِلَادِ كُلِّهَا، وَاتَّفَقَ الْحَالُ وَزَالَ الْإِشْكَالُ.
وَاتَّفَقَ أَنَّهُ مَرِضَ بَعْدَ هَذَا مَرَضًا شَدِيدًا، وَهُوَ يَتَجَلَّدُ
وَلَا يُظْهِرُ شَيْئًا مِنَ التَّأَلُّمِ حَتَّى قَوِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ
وَتَزَايَدَ الْحَالُ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى حَرَّانَ فَخَيَّمَ هُنَالِكَ مِنْ
شِدَّةِ أَلَمِهِ، وَشَاعَ ذَلِكَ فِي الْبِلَادِ، فَخَافَ النَّاسُ عَلَيْهِ
وَأَرْجَفَ الْكَفَرَةُ وَالْمُلْحِدُونَ، وَخَافَ أَهْلُ الْبِرِّ
وَالْمُؤْمِنُونَ، وَقَصَدَهُ أَخُوهُ أَبُو بَكْرٍ الْعَادِلُ مِنْ حَلَبَ
بِالْأَطِبَّاءِ وَالْأَدْوِيَةِ، فَوَجَدَهُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَأَشَارَ
عَلَيْهِ بِأَنْ يُوصِيَ وَيَعْهَدَ، فَقَالَ: مَا أُبَالِي وَأَنَا أَتْرُكُ مِنْ
بَعْدِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا - يَعْنِي أَخَاهُ
الْعَادِلَ صَاحِبَ حَلَبَ وَتَقِيَّ الدِّينِ عُمَرَ صَاحِبَ حَمَاةَ وَهُوَ إِذْ
ذَاكَ نَائِبُ مِصْرَ وَهُوَ بِهَا مُقِيمٌ، وَابْنَيْهِ الْعَزِيزَ عُثْمَانَ
وَالْأَفْضَلَ عَلَّيَا - ثُمَّ نَذَرَ لِلَّهِ تَعَالَى لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ
مِنْ مَرَضِهِ هَذَا لَيَصْرِفَنَّ هِمَّتَهُ كُلَّهَا إِلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ،
وَلَا يُقَاتِلُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْلِمًا، وَلَيَجْعَلَنَّ أَكْبَرَ هَمِّهِ
فَتْحَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَوْ صَرَفَ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُهُ
مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّخَائِرِ وَلَيَقْتُلَنَّ الْبِرِنْسَ صَاحِبَ الْكَرَكِ
بِيَدِهِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَقَضَ الْعَهْدَ الذى عَاهَدَ السُّلْطَانَ
عَلَيْهِ فَغَدَرَ بِقَافِلَةٍ مِنْ تُجَّارِ مِصْرَ، فَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ،
وَضَرَبَ رِقَابَهُمْ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَيْنَ
مُحَمَّدُكُمْ يَنْصُرُكُمْ ؟ وَكَانَ هَذَا النَّذْرُ كُلُّهُ بِإِشَارَةِ
الْقَاضِي الْفَاضِلِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الَّذِي أَرْشَدَهُ إِلَى ذَلِكَ
وَحَثَّهُ عَلَيْهِ، حَتَّى عَقَدَهُ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَشَفَاهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَافَاهُ مِمَّا كَانَ ابْتَلَاهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ
الْمَرَضِ الَّذِي كَانَ فِيهِ ; كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِ وَرَفْعٌ لِدَرَجَتِهِ
وَنُصْرَةٌ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَجَاءَتِ الْبَشَائِرُ بِذَلِكَ مِنْ كُلِّ
نَاحِيَةٍ، وَزُيِّنَتِ الْبِلَادُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَكَتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ دِمَشْقَ وَهُوَ مُقِيمٌ بِهَا إِلَى
الْمُظَفَّرِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ
نَائِبِ
مِصْرَ لِعَمِّهِ النَّاصِرِ ; أَنَّ الْعَافِيَةَ النَّاصِرِيَّةَ قَدِ اسْتَفَاضَتْ
أَخْبَارُهَا، وَأَنْوَارُهَا وَآثَارُهَا، وَوَلَّتِ الْعِلَّةُ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ، وَأُطْفِئَتْ نَارُهَا، وَانْجَلَى غُبَارُهَا، وَخَمَدَ شَرَارُهَا،
وَمَا كَانَتْ إِلَّا فَلْتَةً وَقَى اللَّهُ شَرَّهَا، وَعَظِيمَةً كَفَى اللَّهُ
الْإِسْلَامَ أَمْرَهَا، وَنَوْبَةً امْتَحَنَ اللَّهُ بِهَا نُفُوسَنَا، فَرَأَى
أَقَلَّ مَا عِنْدَهَا صَبْرَهَا، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ الدُّعَاءَ
وَقَدْ أَخْلَصَتْهُ الْقُلُوبُ، وَلَا لِيُوقِفَ الْإِجَابَةَ وَإِنْ سَدَّتْ
طَرِيقَهَا الذُّنُوبُ، وَلَا لِيُخْلِفَ وَعْدَ فَرَجٍ وَقَدْ أَيِسَ الصَّاحِبُ
وَالْمَصْحُوبُ.
نَعِيٌّ زَادَ فِيهِ الدَّهْرُ مِيمَا فَأَصْبَحَ بَعْدَ بُؤْسَاهُ نَعِيمَا وَمَا
صَدَقَ النَّذِيرُ بِهِ لِأَنِّي
رَأَيْتُ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَالنُّجُومَا
وَقَدِ اسْتَقْبَلَ مَوْلَانَا السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ الْعَافِيَةَ
غَضَّةً جَدِيدَةً، وَالْعُزْمَةَ مَاضِيَةً حَدِيدَةً، وَالنَّشَاطَ إِلَى
الْجِهَادِ، وَالْجَنَّةَ مَبْسُوطَةَ الْبِسَاطِ، وَقَدِ انْقَضَى الْحِسَابُ
وَجُزْنَا الصِّرَاطَ، وَعُرِضْنَا نَحْنُ عَلَى الْأَهْوَالِ الَّتِي مِنْ خَوْفِهَا
كَادَ الْجَمَلُ يَلِجُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ.
ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ مِنْ حَرَّانَ بَعْدَ الْعَافِيَةِ فَدَخَلَ حَلَبَ
ثُمَّ اجْتَازَ بِحَمَاةَ وَحِمْصَ، وَدَخَلَ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ تَكَامَلَتْ
عَافِيَتُهُ، وَقَدْ كَانَ يَوْمُ دَخْلِهِ إِلَيْهَا يَوْمًا مَشْهُودًا
وَصَبَاحًا مَحْمُودًا، وَلِلَّهِ الْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَسْعَدَ الْمَوْصِلِيُّ
الْفَقِيهُ مُهَذِّبُ الدِّينِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَسْعَدَ الْمَوْصِلِيُّ
مُدَرِّسُ حِمْصَ وَكَانَ
بَارِعًا
فِي فُنُونٍ، وَلَا سِيَّمَا فِي الشِّعْرِ وَالْأَدَبِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ
الْعِمَادُ، وَالشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ.
الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ
صَاحِبُ حِمْصَ وَالرَّحْبَةِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ،
وَزَوْجِ أُخْتِهِ سِتِّ الشَّامِ بِنْتِ أَيُّوبَ، كَانَتْ وَفَاتُهُ بِحِمْصَ
فَنَقَلَتْهُ زَوْجَتُهُ سِتُّ الشَّامِ إِلَى تُرْبَتِهَا بِالْمَدْرَسَةِ
الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، فَقَبَرُهُ هُوَ الْأَوْسَطُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
أَخِيهَا الْمُعَظَّمِ تُورَانْشَاهْ صَاحِبِ الْيَمَنِ، وَقَدْ خَلَّفَ نَاصِرُ
الدِّينِ مُحَمَّدٌ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّخَائِرِ شَيْئًا كَثِيرًا، يُنَيِّفُ
عَلَى أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ فَجْأَةً،
فَوَلِيَ مِنْ بَعْدِهِ مَمْلَكَةَ حِمْصَ وَلَدُهُ أَسَدُ الدِّينِ شِيرَكُوهْ
بِأَمْرِ السُّلْطَانِ، أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مَحْمُودُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
ابْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الثَّنَاءِ الْمَحْمُودِيُّ
بْنُ الصَّابُونِيِّ ; لِأَنَّ جَدَّ أُمِّهِ الشَّيْخُ أَبُو عُثْمَانَ
الصَّابُونِيُّ، كَانَ أَحَدَ الْأَئِمَّةِ الْمَشَاهِيرِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ
لَهُ: الْمَحْمُودِيُّ. لِصُحْبَةِ جَدِّهِ السُّلْطَانَ مَحْمُودَ بْنَ مُحَمَّدِ
بْنِ مَلِكْشَاهْ، فَقَدِمَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ هَذَا الشَّامَ فِي
أَيَّامِ السُّلْطَانِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ فَأَكْرَمَهُ
وَاحْتَرَمَهُ، ثُمَّ سَارَ إِلَى
مِصْرَ
فَنَزَلَهَا، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ يُكْرِمُهُ أَيْضًا، وَوَقَفَ عَلَيْهِ
وَعَلَى ذُرِّيَّتِهِ أَرْضًا، فَهِيَ لَهُمْ إِلَى الْآنَ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ سَعْدُ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ مُعِينِ الدِّينِ
كَانَ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ أَيَّامَ نُورِ الدِّينِ وَصَلَاحِ الدِّينِ،
وَهُوَ أَخُو السِّتِّ خَاتُونَ، وَحِينَ تَزَوَّجَهَا صَلَاحُ الدِّينِ زَوَّجَهُ
أُخْتَهُ السِّتَّ رَبِيعَةَ خَاتُونَ بِنْتَ أَيُّوبَ، الَّتِي تُنْسَبُ
إِلَيْهَا الْمَدْرَسَةُ الصَّلَاحِيَّةُ بِالسَّفْحِ عَلَى الْحَنَابِلَةِ،
وَقَدْ تَأَخَّرَتْ مُدَّتُهَا فَتُوُفِّيَتْ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَتْ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَوْلَادِ أَيُّوبَ لِصُلْبِهِ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ جُرْحٍ أَصَابَهُ
وَهُوَ فِي حِصَارِ مَيَّافَارِقِينَ.
السِّتُّ خَاتُونُ عِصْمَةُ الدِّينِ
بِنْتُ مُعِينِ الدِّينِ، نَائِبِ دِمَشْقَ وَأَتَابِكِ عَسْكَرِهَا قَبْلَ نُورِ
الدِّينِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ كَانَتْ زَوْجَةَ نُورِ الدِّينِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدِهِ صَلَاحُ الدِّينِ فِي سَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ
وَأَعَفِّهِنَّ وَأَكْثَرِهِنَّ صَدَقَةً، وَهِيَ وَاقِفَةُ الْخَاتُونِيَّةِ
الْجُوَانِيَّةِ بِمَحَلَّةِ حَجَرِ الذَّهَبِ، وَخَانِقَاهُ خَاتُونَ ظَاهِرَ
بَابِ النَّصْرِ فِي أَوَّلِ الشَّرَفِ الْقِبْلِيِّ عَلَى بَانِيَاسَ وَدُفِنَتْ
بِتُرْبَتِهَا فِي سَفْحِ قَاسِيُونَ قَرِيبًا مِنْ قِبَابِ الشَّرْكَسِيَّةِ،
وَإِلَى جَنْبِهَا دَارُ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةُ وَالْأَتَابِكِيَّةُ،
وَلَهَا أَوْقَافٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأمَّا
الْخَاتُونِيَّةُ
الْبَرَّانِيَّةُ الَّتِي عَلَى الْقَنَوَاتِ بِمَحَلَّةِ صَنْعَاءِ الشَّامِ
وَيُعْرَفُ ذَلِكَ الْمَكَانُ الَّتِي هِيَ فِيهِ بِتَلِّ الثَّعَالِبِ، فَهِيَ
مِنْ إِنْشَاءِ السِّتِّ زُمُرُّدَ خَاتُونَ بِنْتِ جَاوْلِي، وَهِيَ أُخْتُ
الْمَلِكِ دُقَاقَ لِأُمِّهِ، وَكَانَتْ زَوْجَةَ زَنْكِيٍّ وَالِدِ نُورِ
الدِّينِ مَحْمُودٍ، صَاحِبِ حَلَبَ وَقَدْ مَاتَتْ قَبْلَ هَذَا الْحِينِ كَمَا
تَقَدَّمَ، رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ الْأَصْبَهَانِيُّ، الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى
الْمَدِينِيُّ، أَحَدُ حُفَّاظِ الدُّنْيَا الرِّحَالِينَ الْجَوَّالِينَ لَهُ
مُصَنَّفَاتٌ عَدِيدَةٌ، وَشَرَحَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
السُّهَيْلِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ
أَبُو الْقَاسِمِ وَأَبُو زَيْدٍ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْخَطِيبِ أَبِي
مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْخَطِيبِ أَبِي عُمَرَ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي
الْحَسَنِ أَصْبَغَ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ سَعْدُونَ بْنِ رِضْوَانَ بْنِ فَتُّوحٍ -
هُوَ الدَّاخِلُ إِلَى الْأَنْدَلُسِ - الْخَثْعَمِيُّ السُّهَيْلِيُّ حَكَى
الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ، عَنِ ابْنِ دَحْيَةَ أَنَّهُ أَمْلَى عَلَيْهِ
نَسَبَهُ، كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَالسُّهَيْلِيُّ نِسْبَةً إِلَى
قَرْيَةٍ بِالْقُرْبِ مِنْ مَالِقَةَ، اسْمُهَا سُهَيْلٌ ; لِأَنَّهُ لَا يُرَى
سُهَيْلٌ النَّجْمُ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ إِلَّا مِنْ رَأَسِ جَبَلٍ
شَاهِقٍ عِنْدَهَا. وُلِدَ السُّهَيْلِيُّ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِمِائَةٍ،
وَقَرَأَ الْقِرَاءَاتِ وَاشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ حَتَّى بَرَعَ وَسَادَ أَهْلَ
زَمَانِهِ
بِقُوَّةِ
الْقَرِيحَةِ وَجَوْدَةِ الذِّهْنِ، وَحُسْنِ التَّصَانِيفِ، وَكَانَ ضَرِيرًا
مَعَ ذَلِكَ. لَهُ كِتَابُ " الرَّوْضِ الْأُنُفِ " يَذْكُرُ فِيهِ
نُكَتًا حَسَنَةً عَلَى السِّيرَةِ لَمْ يُسْبَقْ إِلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ
مِنْهَا، وَلَهُ كِتَابُ " الْإِعْلَامِ فِيمَا أُبْهِمَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ
الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ "، وَكِتَابُ " نَتَائِجِ الْفِكْرِ "،
وَمَسْأَلَةٌ فِي الْفَرَائِضِ بَدِيعَةٌ، وَمَسْأَلَةٌ فِي السِّرِّ فِي كَوْنِ
الدَّجَّالِ أَعْوَرَ، وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ فَرِيدَةٌ بَدِيعَةٌ مُفِيدَةٌ،
وَلَهُ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ عَفِيفًا فَقِيرًا، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ مَالٌ
كَثِيرٌ فِي آخِرِ عُمْرِهِ مِنْ صَاحِبِ مُرَّاكِشَ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّادِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلَهُ
قَصِيدَةٌ كَانَ يَدْعُو اللَّهَ بِهَا وَيَرْتَجِي الْإِجَابَةَ فِيهَا وَهِيَ
قَوْلُهُ:
يَا مَنْ يَرَى مَا فِي الضَّمِيرِ وَيَسْمَعُ أَنْتَ الْمُعَدُّ لِكُلِّ مَا
يُتَوَقَّعُ يَا مَنْ يُرَجَّى لِلشَّدَائِدِ كُلِّهَا
يَا مَنْ إِلَيْهِ الْمُشْتَكَى وَالْمَفْزَعُ يَا مَنْ خَزَائِنُ رِزْقِهِ فِي
قَوْلِ كُنْ
امْنُنْ فَإِنَّ الْخَيْرَ عِنْدَكَ أَجْمَعُ مَا لِي سِوَى فَقْرِي إِلَيْكَ
وَسِيلَةٌ
فَبِالِافْتِقَارِ إِلَيْكَ فَقْرِيَ أَدْفَعُ مَا لِي سِوَى قَرْعِي لِبَابِكَ
حِيلَةٌ
فَلَئِنْ رُدِدْتُ فَأَيَّ بَابٍ أَقْرَعُ وَمَنِ الَّذِي أَدْعُو وَأَهْتِفُ
بِاسْمِهِ
إِنْ كَانَ فَضْلُكَ عَنْ فَقِيرِكَ يُمْنَعُ حَاشَا لِمَجْدِكَ أَنْ يُقَنِّطَ
عَاصِيًا
الْفَضْلُ أَجْزَلُ وَالْمَوَاهِبُ أَوْسَعُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ اثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا كَانَ دُخُولُ السُّلْطَانِ صَلَاحِ
الدِّينِ إِلَى دِمَشْقَ بَعْدَ عَافِيَتِهِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا كَمَا
جَرَتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَادَةُ الْمُلُوكُ، وَاجْتَمَعَ بِالْقَاضِي الْفَاضِلِ
وَزَارَهُ وَاسْتَزَارَهُ، وَفَاوَضَهُ وَاسْتَشَارَهُ، وَكَانَ لَا يَقْطَعُ
أَمْرًا دُونَهُ، وَلَا يُخْفِي عَنْهُ مَكْنُونَهُ، وَلَا ضَمِيرَهُ
وَمَضْمُونَهُ، ثُمَّ قَرَّرَ السُّلْطَانُ فِي مُلْكِ دِمَشْقَ وَلَدَهُ
الْأَفْضَلَ عَلِيًّا، وَنَزَلَ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ حَلَبَ لِصِهْرِهِ،
زَوْجِ ابْنَتِهِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ غَازِيِّ بْنِ السُّلْطَانِ، وَأَرْسَلَ
السُّلْطَانُ أَخَاهُ الْعَادِلَ صُحْبَةَ وَلَدِهِ عِمَادِ الدِّينِ عُثْمَانَ
الْمَلِكِ الْعَزِيزِ عَلَى مُلْكِ مِصْرَ، وَيَكُونُ الْعَادِلُ أَتَابِكَهُ،
وَلَهُ أَقْطَاعٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَعَزَلَ عَنْهَا نَائِبَهَا تَقِيَّ الدِّينِ
عُمَرَ، فَعَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، فَلَمْ يَزَلِ السُّلْطَانُ
يُكَاتِبُهُ وَيَتَلَطَّفُ بِهِ وَيَتَرَفَّقُ لَهُ حَتَّى أَقْبَلَ بِجُنُودِهِ
نَحْوَهُ، فَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَأَقْطَعُهُ حَمَاةَ
وَبِلَادًا كَثِيرَةً مَعَهَا - وَقَدْ كَانَتْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ - وَزَادَهُ
عَلَى ذَلِكَ مَدِينَةَ مَيَّافَارِقِينَ وَامْتَدَحَهُ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ
بِقَصِيدَةٍ سِينِيَّةٍ سَنِيَّةٍ ذَكَرَهَا فِي " الرَّوْضَتَيْنِ ".
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَادَنَ قُومَصُ طَرَابُلُسَ السُّلْطَانَ وَصَالَحَهُ
وَصَافَاهُ، حَتَّى كَانَ يُقَاتِلُ مُلُوكَ الْفِرِنْجِ أَشَدَّ الْقِتَالِ
وَيَسْبِي مِنْهُمُ النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَكَادَ أَنْ يُسْلِمَ وَلَكِنْ
صَدَّهُ شَيْطَانُهُ وَرَمَاهُ بِالْخَبَالِ، وَكَانَتْ مُصَالَحَتُهُ مِنْ
أَقْوَى أَسْبَابِ نُصْرَةِ
السُّلْطَانِ
عَلَى الْفِرِنْجِ، وَمِنْ أَشَدِّ مَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ
وَدُنْيَاهُمْ.
قَالَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ: وَكَانَ الْمُنَجِّمُونَ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ
يَحْكُمُونَ بِخَرَابِ الْعَالَمِ فِي شَعْبَانَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْكَوَاكِبِ
السِّتَّةِ فِي الْمِيزَانِ بِطُوفَانِ الرِّيحِ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ،
وَذَكَرَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْجَهَلَةِ تَأَهَّبُوا لِذَلِكَ بِحَفْرِ مَغَارَاتٍ
وَمُدَّخَلَاتٍ وَأَسْرَابٍ فِي الْأَرْضِ خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَلَمَّا
كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَشَارُوا إِلَيْهَا وَأَجْمَعُوا عَلَيْهَا
لَمْ يُرَ لَيْلَةٌ مِثْلُهَا فِي رُكُودِهَا وَرُكُونِهَا وَهُدُوئِهَا
وَهُدُونِهَا، وَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ نَظَمَ
الشُّعَرَاءُ فِي تَكْذِيبِ الْمُنَجِّمِينَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ وَغَيْرِهَا
أَشْعَارًا حَسَنَةً، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عِيسَى بْنِ مَوْدُودٍ:
مَزِّقِ التَّقْوِيمَ وَالزِّي جَ فَقَدْ بَانَ الْخَفَاءُ إِنَّمَا التَّقْوِيمُ
وَالزِّيجُ
هَبَاءٌ وَهَوَاءُ قُلْتَ لِلسَّبْعَةِ إِبْرَا
مٌ وَمَنْعٌ وَعَطَاءُ وَمَتَى يَنْزِلْنَ فِي الْمِي
زَانِ يَسْتَوْلِي الْهَوَاءُ وَيُثِيرُ الرَّمْلَ حَتَّى
يَمْتَلِي مِنْهُ الْفَضَاءُ وَيَعُمُّ الْأَرْضَ خَسْفٌ
وَخَرَابٌ وَبَلَاءُ وَيَصِيرُ الْقَاعُ كَالْقُ
فِّ وَكَالطَّوْدِ الْعَرَاءُ وَحَكَمْتُمْ فَأَبَى الْحَا
كِمُ إِلَّا مَا يَشَاءُ مَا أَتَى الشَّرْعُ وَلَا جَا
ءَتْ بِهَذَا الْأَنْبِيَاءُ
فَبَقِيتُمْ
ضُحْكَةً يَضْ
حَكُ مِنْهَا الْعُلَمَاءُ حَسْبُكُمْ خِزْيًا وَعَارًا
مَا يَقُولُ الشُّعَرَاءُ ثُمَّ مَا أَطْمَعَكُمْ فِي الْ
حُكْمِ إِلَّا الْأُمُرَاءُ لَيْتَ إِذْ لَمْ يُحْسِنُوا فِي الدِّ
ينِ ظَنًّا مَا أَسَاءُوا فَعَلَى اصْطِرْلَابِ بَطْلَيْ
مُوسَ وَالزِّيجِ الْعَفَاءُ وَعَلَيْهِ الْخِزْيُ مَا جَا
دَتْ عَلَى الْأَرْضِ السَّمَاءُ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْوَحْشِ
بَرِّيُّ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ بَرِّيٍّ، الْمَقْدِسِيُّ ثُمَّ
الْمِصْرِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ فِي زَمَانِهِ، وَعَلَيْهِ
تُعْرَضُ الرَّسَائِلُ بَعْدَ ابْنِ بَابَشَاذَ، وَكَانَ كَثِيرَ الِاطِّلَاعِ،
عَالِمًا بِهَذَا الشَّأْنِ، مُطَّرِحًا لِلتَّكَلُّفِ فِي كَلَامِهِ، لَا
يَلْتَفِتُ وَلَا يُعَرِّجُ عَلَى الْإِعْرَابِ فِيهِ إِذَا خَاطَبَ النَّاسَ،
وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْمُفِيدَةُ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ بِثَلَاثِ
سِنِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ حِطِّينَ الَّتِي كَانَتْ أَمَارَةً وَمُقَدِّمَةً
وَبِشَارَةً لِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْتِنْقَاذِهِ
مِنْ أَيْدِي الْكَافِرِينَ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْكَامِلِ: كَانَ
أَوَّلُ يَوْمٍ مِنْهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانَ يَوْمَ النَّيْرُوزِ، وَذَلِكَ
أَوَّلُ سَنَةِ الْفُرْسِ، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ أَوَّلُ سَنَةِ الرُّومِ أَيْضًا،
وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الشَّمْسُ بُرْجَ الْحَمَلِ، وَكَذَلِكَ
كَانَ الْقَمَرُ فِي بُرْجِ الْحَمَلِ أَيْضًا. وَقَالَ: وَهَذَا شَيْءٌ يَبْعُدُ
وُقُوعُ مِثْلِهِ.
وَبَرَزَ السُّلْطَانُ مِنْ دِمَشْقَ يَوْمَ السَّبْتِ مُسْتَهَلَّ الْمُحَرَّمِ -
وَقِيلَ: فِي أَثْنَائِهِ - فِي الْجَيْشِ الْعَرَمْرَمِ لِيُجَاهِدَ بِأَهْلِ
الْجَنَّةِ أَهْلَ جَهَنَّمَ، فَسَارَ إِلَى رَأْسِ الْمَاءِ، فَنَزَلَ وَلَدُهُ
الْأَفْضَلُ هُنَاكَ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ وَتَقَدَّمَ السُّلْطَانُ
بِبَقِيَّةِ الْجَيْشِ إِلَى بُصْرَى فَخَيَّمَ عَلَى قَصْرِ أَبِي سَلَامَةَ
يَنْتَظِرُ قُدُومَ الْحُجَّاجِ، وَفِيهِمْ أُخْتُهُ سِتُّ الشَّامِ وَابْنُهَا
حُسَامُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لَاجِينَ، لِيَسْلَمُوا مِنْ
مَعَرَّةِ إِبْرَنْسِ الْكَرَكِ الَّذِي غَدَرَ وَنَقَضَ الْعَهْدَ وَفَجَرَ.
فَلَمَّا اجْتَازَ الْحَجِيجُ فِي أَوَاخِرِ صَفَرٍ، سَارَ السُّلْطَانُ فَنَزَلَ
الْكَرَكَ وَقَطَعَ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْأَشْجَارِ وَرَعَى الزُّرُوعَ وَأَكَلُوا
الثِّمَارَ، وَجَاءَتْهُ الْعَسَاكِرُ الْمِصْرِيَّةُ وَتَوَافَتِ الْجُيُوشُ
الشَّرْقِيَّةُ بِالرِّمَاحِ الْخَطِّيَّةِ وَالسُّيُوفِ
الْمَشْرِقِيَّةِ، فَنَزَلُوا عِنْدَ ابْنِ السُّلْطَانِ عَلَى رَأْسِ الْمَاءِ، وَبَعَثَ الْأَفْضَلُ سَرِيَّةً نَحْوَ بِلَادِ الْفِرِنْجِ، فَقَتَلَتْ وَغَنِمَتْ وَسَلِمَتْ وَكَسَرَتْ وَأَسَرَتْ، وَرَجَعَتْ فَبَشَّرَتْ بِمُقَدِّمَاتِ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ، وَجَاءَ السُّلْطَانُ فِي جَحَافِلِهِ وَالْتَفَّتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْعَسَاكِرِ الْبَادِي مِنْهُمْ وَالْحَاضِرِ، فَرَتَّبَ الْجُيُوشَ وَالْأَطْلَابَ، وَسَارَ قَاصِدًا بِلَادَ السَّاحِلِ، وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا غَيْرَ الْمُطَّوِّعَةِ، فَتَسَامَعَتِ الْفِرِنْجُ بِمَقْدَمِهِ، فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ وَتَصَالَحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَدَخَلَ مَعَهُمْ قُومَصُ أَطْرَابُلُسَ الْغَادِرُ وَإِبْرَنْسُ الْكَرَكِ الْفَاجِرُ، وَجَاءُوا بِقَضِّهِمْ وَقَضِيضِهِمْ وَأَهْلِ أَوْجِهِمْ وَحَضِيضِهِمْ، وَاسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ صَلِيبَ الصَّلَبُوتِ يَحْمِلُهُ مِنْهُمْ عُبَّادُ الطَّاغُوتِ، وَضُلَّالُ النَّاسُوتِ وَاللَّاهُوتِ، فِي خَلْقٍ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، يُقَالُ: كَانُوا خَمْسِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ: ثَلَاثًا وَسِتِّينَ أَلْفًا. وَقَدْ خَوَّفَهُمْ صَاحِبُ طَرَابُلُسَ بِأْسَ الْمُسْلِمِينَ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْإِبْرَنْسُ أَرْنَاطُ صَاحِبُ الْكَرَكِ فَقَالَ لَهُ: لَا أَشُكُّ أَنَّكَ تُحِبُّ الْمُسْلِمِينَ وَتُخَوِّفُنَا كَثْرَتَهُمْ، وَالنَّارُ لَا تَخَافُ مِنْ كَثْرَةِ الْحَطَبِ. فَقَالَ الْقُومَصُ لَهُمْ: مَا أَنَا إِلَّا مِنْكُمْ، وَسَتَرَوْنَ غِبَّ مَا أَقُولُ لَكُمْ. فَتَقَدَّمُوا وَأَقْبَلَ السُّلْطَانُ فَفَتَحَ طَبَرِيَّةَ وَتَقَوَّى بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَمْتِعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتَحَصَّنَتْ عَنْهُ الْقَلْعَةُ فَلَمْ يَشْتَغِلْ بِهَا، وَحَازَ الْبُحَيْرَةَ فِي حَوْزَتِهِ، وَمَنَعَ الْكَفَرَةَ أَنْ يَصِلُوا مِنْهَا إِلَى غُرْفَةٍ، أَوْ يَرَوْا لِلْمَاءِ رِيًّا، وَأَقْبَلُوا فِي عَطَشٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَبَرَزَ لَهُمُ السُّلْطَانُ إِلَى سَطْحِ الْجَبَلِ الْغَرْبِيِّ مِنْ طَبَرِيَّةَ عِنْدَ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: حِطِّينُ. الَّتِي يُقَالُ: إِنَّ فِيهَا قَبْرَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَتَوَاجَهَ هُنَالِكَ الْجَيْشَانِ وَتَقَابَلَ الْفَرِيقَانِ، وَأَسْفَرَ وَجْهُ الْإِيمَانِ، وَاغْبَرَّ وَأَقْتَمَ وَجْهُ الْكُفْرَانِ وَالْخُسْرَانِ وَذَلِكَ عَشِيَّةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَبَاتَ النَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ وَأَسْفَرَ الصَّبَاحُ عَنْ يَوْمِ السَّبْتِ الَّذِي كَانَ يَوْمًا عَسِيرًا عَلَى أَهْلِ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ عَلَى وُجُوهِ النَّصَارَى وَهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَكَانَ تَحْتَ أَقَدْامِ خُيُولِهِمْ هَشِيمُ حَشِيشٍ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ النَّفَّاطَةَ، فَرَمَوْهُ فَتَأَجَّجَ تَحْتَ سَنَابِكِ خُيُولِهِمْ نَارًا، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ حَرُّ الشَّمْسِ وَحَرُّ الْعَطَشِ، وَحَرُّ النَّارِ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، وَحَرُّ رَشْقِ السِّهَامِ عَنِ الْقِسِيِّ الْقَاسِيَةِ، فَتَبَارَزَ الشُّجْعَانُ فِي حَوْمَةِ الْوَغَى، ثُمَّ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِالتَّكْبِيرِ وَالْحَمْلَةِ الصَّادِقَةِ، فَكَانَ النَّصْرُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَنَحَهُمُ اللَّهُ أَكْتَافَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ ثَلَاثُونَ أَلْفًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأُسِرَ ثَلَاثُونَ أَلْفًا مِنْ شُجْعَانِهِمْ وَفُرْسَانِهِمْ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْأُسَارَى جَمِيعُ مُلُوكِهِمْ سِوَى قُومَصَ طَرَابُلُسَ فَإِنَّهُ انْهَزَمَ فِي أَوَّلِ الْمَعْرَكَةِ، وَأَخَذَ صَلِيبَهُمُ الْأَعْظَمَ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ الَّذِي صُلِبَ عَلَيْهِ الْمَصْلُوبُ، وَقَدْ غَلَّفُوهُ بِالذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ النَّفْسِيَّةِ، وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا، وَلَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ فِي عِزِّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَدَمْغِ الْبَاطِلِ وَذُلِّهِ، حَتَّى إِنَّهُ ذُكِرَ أَنَّ بَعْضَ الْفَلَّاحِينَ رَآهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ يَقُودُ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ أَسِيرًا مِنَ الْفِرِنْجِ، قَدْ رَبَطَهُمْ بِطُنُبِ خَيْمَةٍ، وَبَاعَ بَعْضَهُمْ أَسِيرًا بِنَعْلٍ
لَبِسَهَا
فِي رِجْلِهِ، وَجَرَتْ أُمُورٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا وَلَا وَقَعَتِ
الْعُيُونُ عَلَى شَكْلِهَا، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ دَائِمًا حَمْدًا كَثِيرًا
طَيِّبًا.
وَلَمَّا تَمَّتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ الْعَظِيمَةُ وَالنِّعْمَةُ الْعَمِيمَةُ
الْجَسِيمَةُ، أَمَرَ السُّلْطَانُ بِضَرْبِ مُخَيَّمٍ عَظِيمٍ، وَجَلَسَ فِيهِ
عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ وَعَنْ يَمِينِهِ أَسِرَّةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلُهَا،
وَجِيءَ بِالْأُسَارَى تَتَهَادَى فِي قُيُودِهَا، فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُ جَمَاعَةٍ
مِنْ مُقَدِّمِي الدَّاوِيَّةِ وَالْإِسْبِتَارِيَّةِ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا،
وَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَذْكُرُ النَّاسُ عَنْهُ ذِكْرًا، ثُمَّ
جِيءَ بِالْمُلُوكِ فَأُجْلِسُوا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ،
فَأُجْلِسَ مَلِكُهُمُ الْكَبِيرُ عَنْ يَمِينِهِ، وَتَحْتَهُ أَرْنَاطُ
إِبْرَنْسُ الْكَرَكِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَبَيْنَ يَدَيْهِ بَقِيَّةُ
الْمُلُوكِ وَعَنْ يَسَارِهِ، فَجِيءَ السُّلْطَانُ بِشَرَابٍ مَثْلُوجٍ مِنَ
الْجُلَّابِ، فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَ الْمَلِكَ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَ
مَلِكُهُمْ أَرْنَاطَ فَشَرِبَ، فَغَضِبَ السُّلْطَانُ، وَقَالَ: إِنَّمَا
سَقَيْتُكَ وَلَمْ آمُرْكَ أَنْ تَسْقِيَهُ، هَذَا لَا عَهْدَ لَهُ عِنْدِي. ثُمَّ
تَحَوَّلَ السُّلْطَانُ إِلَى خَيْمَةٍ دَاخِلَ الْخَيْمَةِ وَاسْتَدْعَى
أَرْنَاطَ، فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَامَ إِلَيْهِ بِالسَّيْفِ وَقَالَ:
نَعَمْ أَنَا أَنُوبُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الِانْتِصَارِ لِأُمَّتِهِ. ثُمَّ دَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَامْتَنَعَ،
فَقَتَلَهُ وَأَرْسَلَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمُلُوكِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا
تَعَرَّضَ لِسَبِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ قَتَلَ السُّلْطَانُ جَمِيعَ مَنْ كَانَ مِنَ الْأُسَارَى
مِنَ الدَّاوِيَّةِ وَالْإِسْبِتَارِيَّةِ صَبْرًا، وَأَرَاحَ اللَّهُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَيْنَ الْجِنْسَيْنِ الْخَبِيثَيْنِ، وَلَمْ يُسْلِمْ
مِمَّنْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ
بَلَغَتِ الْقَتْلَى ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَكَذَلِكَ الْأُسَارَى كَانُوا
ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَكَانَ جُمْلَةُ جَيْشِ الْفِرِنْجِ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ
أَلْفًا، وَمَنْ سَلِمَ مِنْهُمْ - مَعَ قِلَّتِهِمْ - أَكْثَرُهُمْ
جَرْحَى،
فَمَاتُوا بِبِلَادِهِمْ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ، وَمِمَّنْ مَاتَ كَذَلِكَ قُومَصُ
طَرَابُلُسَ فَإِنَّهُ انْهَزَمَ جَرِيحًا فَمَاتَ بِبَلَدِهِ بَعْدَ مَرْجِعِهِ،
لَعَنَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِرُؤَسَاءَ الْأُسَارَى وَرُءُوسِ أَعْيَانِ
الْقَتْلَى، وَبِصَلِيبِ الصَّلَبُوتِ صُحْبَةَ الْقَاضِي ابْنِ أَبِي عَصْرُونَ
إِلَى دِمَشْقَ لِيُودَعُوا فِي قَلْعَتِهَا، فَدَخَلَ بِالصَّلِيبِ مَنْكُوسًا،
فَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى قَلْعَةِ طَبَرِيَّةَ فَفَتَحَهَا، وَقَدْ كَانَتْ
طَبَرِيَّةُ تُقَاسِمُ بِلَادَ حَوْرَانَ وَالْبَلْقَاءَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ
الْجُولَانِ وَتِلْكَ الْأَرَاضِي كُلَّهَا بِالنِّصْفِ، فَأَرَاحَ اللَّهُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ تِلْكَ الْمُقَاسَمَةِ وَتَوَفَّرَتْ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ سَارَ
إِلَى عَكًّا فَنَزَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سَلْخَ رَبِيعٍ الْآخَرِ،
فَافْتَتَحَهَا صُلْحًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَخَذَ مَا كَانَ بِهَا مِنْ
حَوَاصِلَ وَأَمْوَالٍ وَذَخَائِرَ وَمَتَاجِرَ، وَاسْتَنْقَذَ مَنْ كَانَ بِهَا
مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، فَوَجَدُوا بِهَا أَرْبَعَةَ آلَافِ أَسِيرٍ
مِنْهُمْ، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَأَمَرَ بِإِقَامَةِ
الْجُمُعَةِ بِهَا، فَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ أُقِيمَتْ بِالسَّاحِلِ بَعْدَ
أَنْ أَخْذَهَ الْفِرِنْجُ، مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً فَلِلَّهِ الْحَمْدُ دَائِمًا.
وَسَارَ مِنْهَا إِلَى صَيْدَا وَبَيْرُوتَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي مِنَ
السَّوَاحِلِ فَأَخَذَهَا، لِخُلُوِّهَا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَمِنَ الْمُلُوكِ،
ثُمَّ سَارَ نَحْوَ غَزَّةَ وَعَسْقَلَانَ وَنَابُلُسَ وَبَيْسَانَ وَأَرَاضِي
الْغُورِ فَمَلَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِحَوَلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ، وَاسْتَنَابَ
السُّلْطَانُ عَلَى نَابُلُسَ ابْنَ أَخِيهِ حُسَامَ الدِّينِ عُمَرَ بْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ
لَاجِينَ،
وَهُوَ الَّذِي افْتَتَحَهَا ; وَكَانَ جُمْلَةُ مَا افْتَتَحَهُ فِي هَذِهِ
الْمُدَّةِ الْقَرِيبَةِ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ بَلَدًا كُلُّ بَلْدَةٍ لَهَا
مُقَاتِلَةٌ وَقَلْعَةٌ وَمَنَعَةٌ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَغَنِمَ الْجَيْشُ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَسَبَوْا شَيْئًا كَثِيرًا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، وَاسْتَبْشَرَ
الْإِسْلَامُ وَأَهْلُهُ شَرْقًا وَغَرْبًا بِهَذَا النَّصْرِ الْعَظِيمِ
وَالْفُتُوحَاتِ الْهَائِلَةِ. وَتَرَكَ السُّلْطَانُ جُيُوشَهُ تَرْتَعُ فِي
هَذِهِ الْفُتُوحَاتِ وَالْغَنَائِمِ الْكَثِيرَةِ مُدَّةَ شُهُورٍ ;
لِيَسْتَرِيحُوا وَيُجَمِّعُوا أَنْفُسَهُمْ وَخُيُولَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا
لِفَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الشَّرِيفِ، وَطَارَ فِي النَّاسِ أَنَّ السُّلْطَانَ
عَزَمَ عَلَى فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَصَدَهُ الْعُلَمَاءُ وَالصَّالِحُونَ
وَالْمُتَطَوِّعَةُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَجَاءَ أَخُوهُ الْعَادِلُ بَعْدَ
وَقْعَةِ حِطِّينَ وَفَتَحَ عَكَّا فَفَتَحَ بِنَفْسِهِ حُصُونًا كَثِيرَةً
أَيْضًا، فَاجْتَمَعَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَمِنَ الْجُيُوشِ الْمُتَطَوِّعَةِ
خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَصَدَ السُّلْطَانُ بَيْتَ
الْمَقْدِسِ بِمَنْ مَعَهُ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَقَدِ امْتَدَحَ الشُّعَرَاءُ الْمَلِكَ صَلَاحَ الدِّينِ بِسَبَبِ وَقْعَةِ
حِطِّينَ فَقَالُوا وَأَكْثَرُوا، وَأَطَابُوا وَأَطْنَبُوا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ
الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ دِمَشْقَ - وَكَانَ مُقِيمًا بِهَا لِمَرَضٍ نَالَهُ -:
لِيَهْنَ الْمَوْلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَقَامَ بِهِ الدِّينَ الْقَيِّمَ،
وَأَنَّهُ كَمَا قِيلَ: أَصْبَحْتَ مَوْلَايَ وَمَوْلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. وَأَنَّهُ
قَدْ أَسْبَغَ عَلَيْهِ النِّعْمَتَيْنِ ; الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ،
وَأَوْرَثَهُ الْمُلْكَيْنِ ; مُلْكَ الدُّنْيَا وَمُلْكَ الْآخِرَةِ، كَتَبَ
الْمَمْلُوكُ الْخِدْمَةَ، وَالرُّءُوسُ إِلَى الْآنِ لَمْ تُرْفَعْ مِنْ
سُجُودِهَا، وَالدُّمُوعُ لَمْ تُمْسَحْ مِنْ خُدُودِهَا، وَكُلَّمَا فَكَّرَ
الْمَمْلُوكُ أَنَّ الْبِيَعَ تَعُودُ وَهِيَ مَسَاجِدُ، وَالْمَكَانُ الَّذِي
كَانَ يُقَالُ فِيهِ: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، يُقَالُ الْيَوْمَ فِيهِ:
إِنَّهُ الْوَاحِدُ. جَدَّدَ لِلَّهِ شُكْرًا تَارَةً يَفِيضُ مِنْ لِسَانِهِ،
وَتَارَةً
يَفِيضُ مِنْ أَجْفَانِهِ، وَجَزَى اللَّهُ يُوسُفَ خَيْرًا عَنْ إِخْرَاجِهِ مِنْ
سِجْنِهِ، وَالْمَمَالِيكُ يَنْتَظِرُونَ أَمْرَ الْمَوْلَى، فَكُلُّ مَنْ أَرَادَ
أَنْ يَدْخُلَ الْحَمَّامَ بِدِمَشْقَ قَدْ عَوَّلَ عَلَى دُخُولِ حَمَّامِ
طَبَرِيَّةَ.
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنِ وَذَلِكَ الْفَتْحُ لَا عَمَّانَ
وَالْيَمَنِ
وَذَلِكَ السَّيْفُ لَا سَيْفُ ابْنِ ذِي يَزَنِ
ثُمَّ قَالَ: وَلِلْأَلْسِنَةِ بَعْدُ فِي هَذَا الْفَتْحِ سَبْحٌ طَوِيلٌ
وَقَوْلٌ جَلِيلٌ.
ذِكْرُ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَاسْتِنْقَاذِهِ مِنْ أَيْدِي النَّصَارَى بَعْدَ اثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً
لَمَّا افْتَتَحَ السُّلْطَانُ مَا حَوْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنَ الْأَمَاكِنِ
الْمُبَارَكَةِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْ تِلْكَ السَّوَاحِلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا
وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهَا، أَمَرَ الْعَسَاكِرَ فَاجْتَمَعَتْ وَالْجُيُوشَ
الْمُتَفَرِّقَةَ فِي الْبُلْدَانِ فَائْتَلَفَتْ، وَسَارَ نَحْوَ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ الشَّرِيفِ يَوْمَ الْأَحَدِ، فِي الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ -
فَنَزَلَ غَرْبِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَدْ حَصَّنَتِ الْفِرِنْجُ، -
لَعَنَهُمُ اللَّهُ - الْأَسْوَارَ بِالْمُقَاتِلَةِ، وَكَانُوا سِتِّينَ أَلْفَ
مُقَاتِلٍ، دُونَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ يَزِيدُونَ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ
إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [ الْأَنْفَالِ: 34 ] وَكَانَ صَاحِبُ الْبَلَدِ يَوْمَئِذٍ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: بَالِيَانُ بْنُ بَازِرَانَ. وَمَعَهُ مَنْ سَلِمَ مِنْ وَقْعَةِ حِطِّينَ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، مِنَ الدَّاوِيَّةِ وَالْإِسْبِتَارِيَّةِ أَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ أَجْمَعِينَ، فَأَقَامَ السُّلْطَانُ بِمَنْزِلِهِ الْمَذْكُورِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَسَلَّمَ إِلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ جَيْشِهِ الْمَنْصُورِ نَاحِيَةً مِنْ أَبْرِجَةِ السُّورِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى نَاحِيَةِ الشَّمَالِ ; لِأَنَّهُ رَآهَا أَوْسَعَ وَأَنْسَبَ لِلْمَجَالِ، وَالْجِلَادِ وَالنِّزَالِ، وَقَاتَلَ الْفِرِنْجَ دُونَ الْبَلَدِ قِتَالًا هَائِلًا، وَبَذَلُوا فِي نُصْرَةِ قُمَامَةَ وَالْقِيَامَةِ بَذْلًا هَائِلًا، وَاسْتُشْهِدَ بَعْضُ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى رَحْمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَحَنَقَ عِنْدَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْإِسْلَامِ، وَاجْتَهَدُوا فِي الْقِتَالِ بِكُلِّ خَطِّيٍّ وَحُسَامٍ، وَقَدْ نُصِبَتِ الْمَجَانِيقُ وَالْعَرَّادَاتُ، وَغَنَّتِ السُّيُوفُ وَعُمِلَتِ السَّمْهَرِيَّاتُ، وَالْعُيُونُ تَنْظُرُ إِلَى الصُّلْبَانِ وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ فَوْقَ الْجُدْرَانِ، حَتَّى فَوْقَ قُبَّةِ الصَّخْرَةِ قِبْلَةِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ مِنْ قَدْيمِ الْأَزْمَانِ، فَزَادَ ذَلِكَ أَهْلَ الْإِيمَانِ الْحَنَقَ الْكَثِيرَ وَشِدَّةَ التَّشْمِيرِ، فَوُجِدَ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ، فَبَادَرَ السُّلْطَانُ أَيَّدَهُ اللَّهُ بِأَصْحَابِهِ إِلَى الزَّاوِيَةِ الشَّرْقِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ مِنَ السُّورِ فَنَقَبَهَا وَعَلَّقَهَا وَحَشَاهَا بِالنِّيرَانِ وَأَحْرَقَهَا، فَسَقَطَ ذَلِكَ الْجَانِبُ، وَخَرَّ الْبُرْجُ بِرُمَّتِهِ، فَإِذَا هُوَ وَاجِبٌ، فَلَمَّا شَاهَدَ الْفِرِنْجُ ذَلِكَ الْحَادِثَ الْمُقْطِعَ، وَالْخَطْبَ الْمُؤْلِمَ لَهُمُ الْمُوجِعَ، قَصَدَ أَكَابِرُهُمُ السُّلْطَانَ وَتَشَفَّعُوا إِلَيْهِ بِكُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يُعْطِيَهُمُ الْأَمَانَ، فَامْتَنَعَ وَقَالَ: لَا أَفْتَحُهَا إِلَّا كَمَا افْتَتَحْتُمُوهَا عَنْوَةً، وَلَا أَتْرُكُ بِهَا أَحَدًا مِنَ النَّصَارَى إِلَّا قَتَلْتُهُ كَمَا قَتَلْتُمْ أَنْتُمْ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَطَلَبَ صَاحِبُهَا بَالِيَانُ بْنُ بَازِرَانَ مِنَ السُّلْطَانِ الْأَمَانَ لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ فَأَمَّنَهُ، فَلَمَّا حَضَرَ تَرَقَّقَ لَهُ، وَتَشَفَّعَ إِلَيْهِ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ
إِلَى
الْأَمَانِ لَهُمْ، فَقَالُوا: لَئِنْ لَمْ تُعْطِنَا الْأَمَانَ رَجَعْنَا
فَقَتَلْنَا كُلَّ أَسِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَيْدِينَا - وَهُمْ قَرِيبٌ
مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ - وَقَتَلْنَا ذَرَارِينَا، وَخَرَّبْنَا الدُّورَ
وَالْأَمَاكِنَ الْحَسَنَةَ، وَأَتْلَفْنَا مَا بِأَيْدِينَا مِنَ الْأَمْوَالِ،
وَأَلْقَيْنَا قُبَّةَ الصَّخْرَةِ، وَلَا نُبْقِي مُمْكِنًا فِي إِتْلَافِ مَا
نَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ نُقَاتِلُ قِتَالَ الْمَوْتِ، فَلَا يُقْتَلُ وَاحِدٌ
مِنَّا حَتَّى يَقْتُلَ أَعْدَادًا مِنْكُمْ، فَمَاذَا تَرْتَجِي بَعْدَ هَذَا
مِنَ الْخَيْرِ ؟
فَلَمَّا سَمِعَ السُّلْطَانُ ذَلِكَ أَجَابَ إِلَى الصُّلْحِ، عَلَى أَنْ
يَبْذُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ، وَعَنِ
الْمَرْأَةِ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ، وَعَنْ كُلِّ صَغِيرٍ وَصَغِيرَةٍ دِينَارَيْنِ،
وَمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ أَسِيرًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ تَكُونَ
الْغَلَّاتُ وَالْأَسْلِحَةُ وَالدُّورُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَتَحَوَّلُوا مِنْهَا
إِلَى مَأْمَنِهِمْ وَهِيَ مَدِينَةُ صُورَ. فَكُتِبَ الصُّلْحُ عَلَى ذَلِكَ،
وَمَنْ لَا يَبْذُلُ مَا شُرِطَ عَلَيْهِ إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَهُوَ
أَسِيرٌ، فَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ أُسِرَ بِهَذَا الشَّرْطِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ
إِنْسَانٍ ; مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَوِلْدَانٍ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ
وَالْمُسْلِمُونَ الْبَلَدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قُبَيْلَ وَقْتِ الصَّلَاةِ
بِقَلِيلٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، قَالَ
الْعِمَادُ: وَهِيَ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى
إِلَى السَّمَاوَاتِ الْعُلَا. قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ:
وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي الْإِسْرَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَمْ يَتَّفِقْ لِلْمُسْلِمِينَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ يَوْمَئِذٍ، خِلَافًا
لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا أُقِيمَتْ يَوْمَئِذٍ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ خَطَبَ
بِنَفْسِهِ بِالسَّوَادِ يَوْمَئِذٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجُمُعَةَ لَمْ
يُمْكِنْ إِقَامَتُهَا يَوْمَئِذٍ لِضِيقِ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا أُقِيمَتْ فِي
الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَكَانَ الْخَطِيبُ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ
مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، الْقُرَشِيَّ بْنَ الزَّكِيِّ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
وَلَكِنْ
نُظِّفَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى يَوْمَئِذٍ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الصُّلْبَانِ
وَالرُّهْبَانِ وَالْخَنَازِيرِ، وَخُرِّبَتْ دُورٌ لِلدَّاوِيَّةِ وَكَانُوا قَدْ
بَنَوْهَا غَرْبِيَّ الْمِحْرَابِ الْكَبِيرِ، وَاتَّخَذُوا الْمِحْرَابَ حَشًّا -
لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - فَنُظِّفَ الْمَسْجِدُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ،
وَأُعِيدَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَيَّامِ الْإِسْلَامِيَّةِ
وَالدَّوْلَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَغُسِلَتِ الصَّخْرَةُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ،
وَأُعِيدَ غَسْلُهَا بِمَاءِ الْوَرْدِ الْفَاخِرِ، وَأُبْرِزَتْ لِلنَّاظِرِينَ،
وَقَدْ كَانَتْ مَغْمُورَةً مَسْتُورَةً مَحْجُوبَةً عَنِ الزَّائِرِينَ، وَوُضِعَ
الصَّلِيبُ الْمَنْصُوبُ عَنْ قُبَّتِهَا، وَعَادَتْ إِلَى حُرْمَتِهَا، وَقَدْ
كَانَ الْفِرِنْجُ قَطَعُوا مِنْهَا قِطَعًا فَبَاعُوهَا إِلَى مُلُوكِ الْبُحُورِ
بِزِنَتِهَا مِنَ الذَّهَبِ، فَتَعَذَّرَ اسْتِعَادَةُ مَا نَقَصَ مِنْهَا وَمَا
ذَهَبَ.
وَقُبِضَ مِنَ الْفِرِنْجِ مَا كَانُوا بَذَلُوهُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مِنَ
الْأَمْوَالِ، وَأَطْلَقَ السُّلْطَانُ خَلْقًا مِنْهُمْ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ
بِمَنْ مَعَهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، وَوَقَعَتِ الْمُسَامَحَةُ فِي
كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَشُفِعَ فِي أُنَاسٍ فَعُفِيَ عَنْهُمْ، وَفَرَّقَ
السُّلْطَانُ جَمِيعَ مَا قَبَضَ مِنْهُمْ مِنَ الذَّهَبِ فِي الْعَسْكَرِ، وَلَمْ
يَدَعْ مِنْهُ شَيْئًا مِمَّا يُقْتَنَى وَيُدَّخَرُ. وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ
حَلِيمًا كَرِيمًا مِقْدَامًا شُجَاعًا رَحِيمًا، أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ
يُجَدِّدَ رَحْمَتَهُ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقْبِلَ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ إِلَيْهِ.
ذِكْرُ أَوَّلِ جُمُعَةٍ أُقِيمَتْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ فَتْحِهِ فِي
الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَةِ
لَمَّا نُزِّهَ الْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الصُّلْبَانِ وَالنَّوَاقِيسِ،
وَالرُّهْبَانِ وَالْخَنَازِيرِ وَالْقَسَاقِيسِ، وَدَخَلَهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ،
وَنُودِيَ بِالْأَذَانِ وَهَرَبَ الشَّيْطَانُ وَقُرِئَ الْقُرْآنُ،
وَطَهُرَ الْمَكَانُ، فَكَانَ إِقَامَةُ أَوَّلِ جُمُعَةٍ فِيهِ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ شَعْبَانَ، بَعْدَ يَوْمِ الْفَتْحِ بِثَمَانٍ، فَنُصِبَ الْمِنْبَرُ إِلَى جَانِبِ الْمِحْرَابِ الْمُطَهَّرِ، وَبُسِطَتِ الْبُسُطُ الرَّفِيعَةُ فِي تِلْكَ الْعِرَاصِ الْوَسِيعَةِ، وَعُلِّقَتِ الْقَنَادِيلُ وَتُلِيَ التَّنْزِيلُ عِوَضًا عَمَّا كَانَ يُقْرَأُ مِنُ التَّحْرِيفِ فِي الْإِنْجِيلِ، وَجَاءَ الْحَقُّ وَبَطَلَتْ تِلْكَ الْأَبَاطِيلُ، وَصُفَّتِ السَّجَّادَاتُ وَكَثُرَتِ السَّجَدَاتُ، وَتَنَوَّعَتِ الْعِبَادَاتُ، وَأُدِيمَتِ الدَّعَوَاتُ، وَنَزَلَتِ الْبَرَكَاتُ، وَانْجَلَتِ الْكُرُبَاتُ، وَأُقِيمَتِ الصَّلَوَاتُ، وَنَطَقَ الْأَذَانُ، وَخَرِسَ النَّاقُوسُ، وَحَضَرَ الْمُؤَذِّنُونَ وَغَابَ الْقُسُوسُ، وَطَابَتِ الْأَنْفَاسُ، وَاطْمَأَنَّتِ النُّفُوسُ، وَأَقْبَلَتِ السُّعُودُ وَأَدْبَرَتِ النُّحُوسُ، وَحَضَرَ الْعِبَادُ وَالزُّهَّادُ وَالْأَبْدَالُ وَالْأَقْطَابُ وَالْأَوْتَادُ، وَعُبِدَ الْوَاحِدُ، وَكَثُرَ الرَّاكِعُ وَالسَّاجِدُ، وَالْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ، وَامْتَلَأَ الْجَامِعُ، وَسَالَتْ لِرِقَّةِ الْقُلُوبِ الْمَدَامِعُ، وَقَالَ النَّاسُ: هَذَا يَوْمٌ كَرِيمٌ وَفَضْلٌ عَظِيمٌ وَمَوْسِمٌ وَسِيمٌ، وَهَذَا يَوْمٌ تُجَابُ فِيهِ الدَّعَوَاتُ وَتُصَبُّ الْبَرَكَاتُ وَتَسِيلُ الْعَبَرَاتُ وَتُقَالُ الْعَثَرَاتُ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ لِلصَّلَاةِ وَقْتَ الزَّوَالِ، وَكَادَتِ الْقُلُوبُ تَطِيرُ مِنَ الْفَرَحِ بِتِلْكَ الْحَالِ، وَلَمْ يَكُنِ السُّلْطَانُ إِلَى تِلْكَ السَّاعَةِ عَيَّنَ خَطِيبًا، وَقَدْ تَهَيَّأَ لَهَا خَلْقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ خَوْفًا أَنْ يَدَّعِيَ إِلَيْهَا أَحَدُهُمْ فَلَا يَكُونُ نَجِيبًا، فَبَرَزَ لِلْخُطَبَاءِ الْمَرْسُومُ السُّلْطَانِيُّ الصَّلَاحِيُّ، وَهُوَ فِي قُبَّةِ الصَّخْرَةِ الْغَرَّاءِ، أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ الْيَوْمَ خَطِيبًا، فَلَبِسَ الْخِلْعَةَ السَّوْدَاءَ وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَقَدْ كَسَاهُ اللَّهُ الْبَهَاءَ، وَأَكْرَمَهُ بِكَلِمَةِ التَّقْوَى وَأَعْطَاهُ السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ وَالسَّنَاءَ، فَخَطَبَ بِالنَّاسِ خُطْبَةً عَظِيمَةً سَنِيَّةً فَصِيحَةً بَلِيغَةً، ذَكَرَ فِيهَا شَرَفَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالتَّرْغِيبَاتِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْأَمَارَاتِ، وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْحَاضِرِينَ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي تَعْدِلُ الْكَثِيرَ مِنَ الْقُرُبَاتِ، وَقَدْ أَوْرَدَهَا الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي " الرَّوْضَتَيْنِ " بِطُولِهَا، فَكَانَ أَوَّلَ مَا قَالَ حِينَ تَكَلَّمَ:
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ثُمَّ أَوْرَدَ تَحْمِيدَاتِ الْقُرْآنِ كُلَّهَا، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مُعِزِّ الْإِسْلَامِ بِنَصْرِهِ، وَمُذِلِّ الشِّرْكِ بِقَهْرِهِ، وَمُصَرِّفِ الْأُمُورِ بِأَمْرِهِ، وَمُدِيمِ النِّعَمِ بِشُكْرِهِ، وَمُسْتَدْرِجِ الْكَافِرِينَ بِمَكْرِهِ، الَّذِي قَدَّرَ الْأَيَّامَ دُوَلًا بِعَدْلِهِ، وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ بِفَضْلِهِ، وَأَفَاءَ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ ظِلِّهِ، وَأَظْهَرَ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، الْقَاهِرِ فَوْقَ عِبَادِهِ فَلَا يُمَانَعُ، وَالظَّاهِرِ عَلَى خَلِيقَتِهِ فَلَا يُنَازَعُ، وَالْآمِرِ بِمَا يَشَاءُ فَلَا يُرَاجَعُ، وَالْحَاكِمِ بِمَا يُرِيدُ فَلَا يُدَافَعُ، أَحْمَدُهُ عَلَى إِظْفَارِهِ وَإِظْهَارِهِ، وَإِعْزَازِهِ لِأَوْلِيَائِهِ وَنَصْرِهِ لِأَنْصَارِهِ، وَتَطْهِيرِهِ بَيْتَهُ الْمُقَدَّسَ مِنْ أَدْنَاسِ الشِّرْكِ وَأَوْضَارِهِ، حَمْدَ مَنِ اسْتَشْعَرَ الْحَمْدَ بَاطِنَ سِرِّهِ وَظَاهِرَ جِهَارِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ شَهَادَةَ مَنْ طَهَّرَ بِالتَّوْحِيدِ قَلْبَهُ، وَأَرْضَى بِهِ رَبَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَافِعُ الشَّكِّ وَدَاحِضُ الشِّرْكِ، وَرَاحِضُ الْإِفْكِ، الَّذِي أُسْرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَعُرِجَ بِهِ مِنْهُ إِلَى السَّمَاوَاتِ الْعُلَا، إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى خَلِيفَتِهِ الصِّدِّيقِ السَّابِقِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوَّلِ مَنْ رَفَعَ عَنْ هَذَا الْبَيْتِ شِعَارَ الصُّلْبَانِ، وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ذِي النُّورَيْنِ جَامِعِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مُزَلْزِلِ الشِّرْكِ، وَمُكَسِّرِ الْأَوْثَانِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعَيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ.
ثُمَّ
ذَكَرَ الْمَوْعِظَةَ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَغْبِيطِ الْحَاضِرِينَ عَلَى
مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي
مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا، فَذَكَرَ فَضَائِلَهُ وَمَآثِرَهُ، وَأَنَّهُ
أَوَّلُ الْقِبْلَتَيْنِ، وَثَانِي الْمَسْجِدَيْنِ، وَثَالِثُ الْحَرَمَيْنِ، لَا
تُشَدُّ الرَّحَالُ بَعْدَ الْمَسْجِدَيْنِ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا تُعْقَدُ
الْخَنَاصِرُ بَعْدَ الْمَوْطِنَيْنِ إِلَّا عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ أُسَرِيَ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،
وَصَلَّى فِيهِ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ
الْكِرَامِ، وَمِنْهُ كَانَ الْمِعْرَاجُ إِلَى السَّمَاوَاتِ، ثُمَّ عَادَ
إِلَيْهِ، ثُمَّ سَارَ مِنْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الْبُرَاقِ،
وَهُوَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ يَوْمَ التَّلَاقِ، وَهُوَ مَقَرُّ
الْأَنْبِيَاءِ وَمَقْصِدُ الْأَوْلِيَاءِ، وَقَدْ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ
أَوَّلِ يَوْمٍ.
قُلْتُ: وَيُقَالُ: إِنَّ الَّذِي أَسَّسَهُ أَوَّلًا يَعْقُوبُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ بَعْدَ أَنْ بَنَى الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً. كَمَا جَاءَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "،
ثُمَّ جَدَّدَ بِنَاءَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، كَمَا
ثَبَتَ بِهِ الْحَدِيثُ فِي " الْمُسْنَدِ " وَ " السُّنَنِ
"، وَ " صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ "، وَابْنِ حِبَّانَ
وَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِمْ، وَسَأَلَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اللَّهَ
عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُ خِلَالًا ثَلَاثًا ; حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ،
وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي أَحَدٌ
هَذَا الْمَسْجِدَ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ
ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ تَمَامُ الْخُطْبَتَيْنِ، وَدَعَا لِلْخَلِيفَةِ
الْعَبَّاسِيِّ، ثُمَّ لِلسُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ،
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَبَعْدَ الصَّلَاةِ جَلَسَ الشَّيْخُ زَيْنُ
الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ نَجَا الْمِصْرِيُّ عَلَى كُرْسِيِّ
الْوَعْظِ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ، فَوَعَظَ
النَّاسَ
وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا وَحَالًا مَحْمُودًا، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ. وَاسْتَمَرَّ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ يَخْطُبُ
بِالنَّاسِ فِي أَيَّامِ الْجُمَعِ أَرْبَعَ جُمُعَاتٍ، ثُمَّ قَرَّرَ
السُّلْطَانُ لِلْقُدْسِ خَطِيبًا مُسْتَقِرًّا، وَأَرْسَلَ إِلَى حَلَبَ
فَاسْتَحْضَرَ الْمِنْبَرَ الَّذِي كَانَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ نُورُ الدِّينِ
مَحْمُودٌ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَدْ كَانَ يُؤَمِّلُ أَنْ
يَكُونَ فَتْحُهُ عَلَى يَدَيْهِ، فَمَا كَانَ إِلَّا عَلَى يَدَيْ بَعْضِ
أَتْبَاعِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
نُكَتَةٌ غَرِيبَةٌ
قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ فِي " الرَّوْضَتَيْنِ
": وَقَدْ تَكَلَّمَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ
السَّخَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ: وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ أَبِي
الْحَكَمِ الْأَنْدَلُسِيِّ - يَعْنِي ابْنَ بَرَّجَانَ - فِي أَوَّلِ سُورَةِ
الرُّومِ إِخْبَارٌ عَنْ فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَنَّهُ يُنْزَعُ مِنْ
أَيْدِي النَّصَارَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ. قَالَ
السَّخَاوِيُّ: وَلَمْ أَرَهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْحُرُوفِ، وَإِنَّمَا
أَخَذَهُ فِيمَا يَزْعُمُ مِنْ قَوْلِهِ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [
الرُّومِ: 1، 2 ] فَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى التَّارِيخِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُنَجِّمُونَ،
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَغْلِبُونَ فِي سَنَةِ كَذَا، وَيُغْلَبُونَ فِي سَنَةِ
كَذَا، عَلَى
مَا
تَقْتَضِيهِ دَوَائِرُ التَّقَدْيرِ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ نَجَامَةٌ وَافَقَتْ
إِصَابَةً، إِنْ صَحَّ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَكَانَ فِي كِتَابِهِ
قَبْلَ حُدُوثِهِ، قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ عِلْمِ الْحُرُوفِ، وَلَا
مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ ; لِأَنَّهَا لَا تُنَالُ بِحِسَابٍ. قَالَ: وَقَدْ
ذَكَرَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقَدْرِ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ الْوَقْتَ الَّذِي
نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ لَعَلِمَ الْوَقْتَ الَّذِي يُرْفَعُ فِيهِ.
قُلْتُ: ابْنُ بَرَّجَانَ ذَكَرَ هَذَا فِي تَفْسِيرِهِ فِي حُدُودِ سَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْمَلِكَ نُورَ
الدِّينِ أُوقِفَ عَلَى ذَلِكَ فَطَمِعَ أَنْ يَعِيشَ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ
وَثَمَانِينَ ; لِأَنَّ مَوْلِدَهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةِ،
فَتَهَيَّأَ لِأَسْبَابِ ذَلِكَ حَتَّى إِنَّهُ أَعَدَّ مِنْبَرًا عَظِيمًا
لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ إِذَا فَتَحَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الصَّخْرَةُ الْعَظِيمَةُ فَإِنَّ السُّلْطَانَ أَزَالَ مَا حَوْلَهَا
وَعِنْدَهَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالصُّوَرِ وَالصُّلْبَانِ، وَأَظْهَرَهَا
بَعْدَمَا كَانَتْ خَفِيَّةً مَسْتُورَةً غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ، وَأَمَرَ الْفَقِيهَ
ضِيَاءَ الدِّينِ عِيسَى الْهَكَّارِيَّ أَنْ يَعْمَلَ حَوْلَهَا شَبَابِيكَ مِنْ
حَدِيدٍ، وَرَتَّبَ لَهَا إِمَامًا
رَاتِبًا،
وَوَقَفَ عَلَيْهِ رِزْقًا جَيِّدًا، وَكَذَلِكَ عَلَى إِمَامِ مِحْرَابِ
الْأَقْصَى، وَعَمِلَ لِلشَّافِعِيَّةِ الْمَدْرَسَةَ الصَّلَاحِيَّةَ وَيُقَالُ
لَهَا: النَّاصِرِيَّةُ. أَيْضًا، وَكَانَ مَوْضِعُهَا كَنِيسَةً عَلَى صَنَدِ
حَنَّةَ أَيْ قَبْرِ حَنَّةَ أُمِّ مَرْيَمَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَوَقَفَ
عَلَى الصُّوفِيَّةِ رِبَاطًا كَانَ دَارًا لِلتَّبَرُّكِ إِلَى جَنْبِ
الْقُمَامَةِ، وَأَجْرَى عَلَى الْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ الْجَامَكِيَّاتِ
وَالْجَرَّايَاتِ، وَأَرْصَدَ الْخَتَمَاتِ وَالرَّبَعَاتِ فِي أَرْجَاءِ
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، لِمَنْ يَقْرَأُ أَوْ يَنْظُرُ فِيهَا مِنَ الْمُقِيمِينَ
وَالزَّائِرِينَ.
وَتَنَافَسَ بَنُو أَيُّوبَ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ بِالْقُدْسِ
الشَّرِيفِ لِلْقَادِمِينَ وَالظَّاعِنِينَ وَالْقَاطِنِينَ، فَجَزَاهُمُ اللَّهُ
خَيْرًا أَجْمَعِينَ، وَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى هَدْمِ قُمَامَةَ وَجَعْلِهَا
دَكًّا لِتَنْحَسِمَ مَادَّةُ النَّصَارَى مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقِيلَ لَهُ:
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَتْرُكُونَ الْحَجَّ إِلَى هَذِهِ الْبُقْعَةِ، وَلَوْ
تَرَكْتَهَا قَاعًا صَفْصَفًا، وَقَدْ فَتَحَ هَذِهِ الْبَلَدَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَتَرَكَ هَذِهِ الْكَنِيسَةَ
بِأَيْدِيهِمْ، فَلَكَ فِي ذَلِكَ أُسْوَةٌ. فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَتَرَكَهَا عَلَى
حَالِهَا تَأَسِّيًا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَحَدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، وَلَمْ يَتْرُكْ بِهَا مِنَ النَّصَارَى سِوَى
أَرْبَعَةٍ يَخْدُمُونَهَا، وَحَالَ بَيْنَ النَّصَارَى وَبَيْنَهَا، وَهَدَمَ الْمَقَابِرَ
الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ عِنْدَ بَابِ الرَّحْمَةِ، وَعَفَّى آثَارَهَا، وَهَدَمَ
مَا كَانَ هُنَاكَ مِنَ الْقِبَابِ وَعَجَّلَ دَمَارَهَا.
وَأَمَّا أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْقُدْسِ ; فَإِنَّ
السُّلْطَانَ أَطْلَقَهُمْ، وَأَطْلَقَ لَهُمْ إِعْطَاءَاتٍ هَنِيَّةً،
وَكَسَاهُمْ حُلَلًا سَنِيَّةً، وَانْطَلَقَ كُلٌّ مِنْهُمْ إِلَى وَطَنِهِ،
وَعَادَ إِلَى أَهْلِهِ وَسَكَنِهِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى نِعَمِهِ
وَمِنَنِهِ.
فَصْلٌ
لَمَّا قَرَّرَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ مَا
ذَكَرْنَاهُ انْفَصَلَ عَنْهَا فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ،
وَأَمَرَ وَلَدَهُ الْعَزِيزَ بِالرُّجُوعِ إِلَى مِصْرَ، وَسَارَ السُّلْطَانُ
بِجَيْشِهِ فَقَصَدَ مَدِينَةَ صُورَ وَكَانَتْ قَدْ تَأَخَّرَتْ مِنْ بَيْنِ
تِلْكَ النَّوَاحِي، وَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا بَعْدَ وَقْعَةِ حِطِّينَ
رَجُلٌ مِنَ التُّجَّارِ يُقَالُ لَهُ: الْمَرْكِيسُ، فَحَصَّنَهَا وَضَبَطَ
أَمَرَهَا وَحَفَرَ حَوْلَهَا خَنْدَقًا مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ،
وَجُمْهُورُهَا فِي الْبَحْرِ، وَجَاءَ السُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ فَحَاصَرَهَا
مُدَّةً، وَاسْتَدْعَى بِالْأُسْطُولِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي
الْبَحْرِ، فَاحْتَاطَ بِهَا بَرًّا وَبَحْرًا، فَعَدَتِ الْفِرِنْجُ فِي بَعْضِ
اللَّيَالِي عَلَى خَمْسِ شُوَانٍ مِنَ الْأُسْطُولِ، فَمَلَكَتْهَا
وَنَكَبَتْهَا، فَأَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ وَاجِمِينَ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِمُ
الْبَرْدُ وَقَلَّتِ الْأَزْوَادُ، وَكَثُرَتِ الْجِرَاحَاتُ وَكَلَّ الْأُمَرَاءُ
مِنَ الْمُحَاصَرَاتِ، فَسَأَلُوا السُّلْطَانَ أَنْ يَنْصَرِفَ بِهِمْ إِلَى
دِمَشْقَ فِي هَذَا الْوَقْتِ حَتَّى يَسْتَرِيحُوا ثُمَّ يَعُودُوا إِلَيْهَا
بَعْدَ هَذَا الْحِينِ، فَأَجَابَهُمْ بَعْدَ تَمَنُّعٍ مِنْهُ وَذَلِكَ أَنَّ
السُّورَ مِنْ صُورَ كَانَ قَدْ هُدِمَ أَكْثَرُهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْفَتْحُ
وَالنَّجْحُ، فَتَوَجَّهَ إِلَى دِمَشْقَ وَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى عَكَّا
وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ كُلٌّ إِلَى بَلَدِهِ وَرُسْتَاقِهِ، مُسْتَصْحِبًا
كَثْرَةَ حَنِينِهِ إِلَى أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ وَاشْتِيَاقِهِ.
وَأَمَّا السُّلْطَانُ فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى عَكَّا نَزَلَ بِقَلْعَتِهَا
وَأَسْكَنَ وَلَدَهُ الْأَفْضَلَ بُرْجُ الدَّاوِيَّةِ، وَوَلَّى نِيَابَتَهَا
عِزَّ الدِّينِ جُرْدَيْكَ، وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى السُّلْطَانِ
بِتَخْرِيبِ مَدِينَةِ عَكَّا خَوْفًا مِنْ عَوْدِ الْفِرِنْجِ إِلَيْهَا،
فَكَادَ، وَلَمْ يَفْعَلْ، وَلَيْتَهُ فَعَلَ،
بَلْ
وَكَّلَ بِعِمَارَتِهَا وَتَجْدِيدِ مَحَاسِنِهَا بَهَاءَ الدِّينِ قَرَاقُوشَ
التَّقَوِيَّ، وَوَقَفَ دَارَ الْإِسْبِتَارِ نِصْفَيْنِ عَلَى الْفُقَهَاءِ
وَالْفُقَرَاءِ، وَجَعَلَ دَارَ الْأَسْقُفِ مَارَسْتَانًا وَوَقَفَ عَلَى ذَلِكَ
كُلِّهِ أَوْقَافًا دَارَّةً، وَوَلَّى نَظَرَ ذَلِكَ لِقَاضِيهَا جَمَالِ
الدِّينِ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي النَّجِيبِ، وَهُوَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِآرَائِهِ
مُصِيبٌ. وَلَمَّا فَرَغَ السُّلْطَانُ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوبِ، وَأَزَالَ عَنِ
الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ الْكُرُوبَ، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا،
أَبْهَجَ الْعُيُونَ وَسَرَّ الْقُلُوبَ وَجَاءَتْهُ رُسُلُ الْمُلُوكِ
بِالتَّهَانِي مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ وَالْأَمْصَارِ بِالتُّحَفِ
وَالْهَدَايَا الَّتِي تَبْهَرُ الْأَبْصَارَ، وَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ
يَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي أَشْيَاءَ مِنْهَا ; أَنَّهُ بَعَثَ فِي بِشَارَةِ
الْفَتْحِ بِحِطِّينَ مَعَ شَابٍّ بَغْدَادِيٍّ كَانَ وَضِيعًا عِنْدَهُمْ، لَا
قَدْرَ لَهُ وَلَا قِيمَةَ، وَأَرْسَلَ بِفَتْحِ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ مَعَ
نَجَّابٍ، وَلَقَّبَ نَفْسَهُ بِالْمَلِكِ النَّاصِرِ مُضَاهَاةً لِلْخَلِيفَةِ
النَّاصِرِ، فَتَلَقَّى الرَّسُولَ بِالْبِشْرِ وَاللُّطْفِ، وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُ
إِلَّا السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ، وَأَرْسَلَ يَعْتَذِرُ مِمَّا وَقَعَ بِأَنَّ
الْحَرْبَ كَانَتْ قَدْ شَغَلَتْهُ عَنِ التَّرَوِّي فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ،
وَأَمَّا لَقَبُهُ بِالنَّاصِرِ فَهُوَ مِنْ أَيَّامِ الْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَضِيءِ، وَمَعَ هَذَا فَمَهْمَا لَقَّبَنِي بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
فَهُوَ الَّذِي لَا يُعْدَلُ عَنْهُ، وَتَأَدَّبَ مَعَ الْخَلِيفَةِ غَايَةَ
الْأَدَبِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بِبِلَادِ الْهِنْدِ بَيْنَ
الْمَلِكِ شِهَابِ الدِّينِ الْغُورِيِّ صَاحِبِ غَزْنَةَ وَبَيْنَ مَلِكِ
الْهِنْدِ الْكَبِيرِ، فَأَقْبَلَتِ الْهُنُودُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْجُنُودِ
وَمَعَهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فِيلًا، فَانْهَزَمَتْ مَيْمَنَةُ الْمُسْلِمِينَ
وَمَيْسَرَتُهُمْ، وَقِيلَ لِلْمَلِكِ: انْجُ بِنَفْسِكَ. فَمَا زَادَهُ إِلَّا
إِقَدْامًا، فَحَمَلَ عَلَى الْفِيَلَةِ فَجَرَحَ بَعْضَهَا - وَجُرْحُ الْفِيلِ
لَا يَنْدَمِلُ - فَرَمَاهُ بَعْضُ الْفَيَّالَةِ بِحَرْبَةٍ فِي سَاعِدِهِ
فَخَرَجَتْ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ فَخَرَّ صَرِيعًا، فَحَمَلَتِ الْهِنْدُ
عَلَيْهِ لِيَأْخُذُوهُ، فَجَاحَفَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ لِيَحْمُوهُ، فَجَرَتْ
عِنْدَهُ حَرْبٌ لَمْ يُسْمَعْ بِشِدَّتِهَا فِي مَوْقِفٍ، فَغَلَبَ
الْمُسْلِمُونَ
فَخَلَّصُوا مَلِكَهُمْ وَاحْتَمَلُوهُ عَلَى كَوَاهِلِهِمْ فِي مَحَفَّةٍ
عِشْرِينَ فَرْسَخًا، وَقَدْ نَزَفَهُ الدَّمُ، فَلَمَّا تَرَاجَعَ إِلَيْهِ
جَيْشُهُ أَخَذَ فِي تَأْنِيبِ الْأُمَرَاءِ، وَحَلَفَ لِيَأْكُلَنَّ كُلُّ
أَمِيرٍ عَلِيقَةَ فَرَسِهِ، وَمَا أَدْخَلَهُمْ غَزْنَةَ إِلَّا مُشَاةً حُفَاةً.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَدَتِ امْرَأَةٌ مِنْ سَوَادِ بَغْدَادَ بِنْتًا لَهَا
أَسْنَانٌ.
وَفِيهَا قَتَلَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ أُسْتَاذَ دَارِهِ أَبَا الْفَضْلِ بْنَ
الصَّاحِبِ، وَكَانَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى الْأُمُورِ وَلَمْ يَبْقَ
لِلْخَلِيفَةِ مَعَهُ كَلِمَةٌ، وَمَعَ هَذَا كَانَ عَفِيفًا عَنِ الْأَمْوَالِ،
جَيِّدَ السِّيرَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُ الْخَلِيفَةُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ
الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ.
وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ أَبَا الْمُظَفَّرِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ يُونُسَ
وَلَقَّبَهُ جَلَالَ الدِّينِ، وَمَشَى أَهْلُ الدَّوْلَةِ فِي رِكَابِهِ حَتَّى
قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الدَّامَغَانِيِّ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ
يُونُسَ هَذَا شَاهِدًا عِنْدَهُ، فَكَانَ الْقَاضِي يَقُولُ وَهُوَ يَمْشِي:
لَعَنَ اللَّهُ طُولَ الْعُمْرِ. فَمَاتَ الْقَاضِي فِي آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ حَكَمَ فِي أَيَّامِ عِدَّةٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ
وَهُوَ مِنْ بَيْتِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ
- مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ
عَبْدُ الْمُغِيثِ بْنُ زُهَيْرٍ الْحَرْبِيُّ
كَانَ مِنْ صُلَحَاءِ الْحَنَابِلَةِ، وَكَانَ يُزَارُ، وَلَهُ مُصَنَّفٌ فِي
فَضْلِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، أَتَى فِيهِ بِغَرَائِبَ وَعَجَائِبَ، وَقَدْ
رَدَّ عَلَيْهِ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذَا الْكِتَابِ،
فَأَجَادَ وَأَصَابَ، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا اتَّفَقَ لِعَبْدِ الْمُغِيثِ هَذَا
أَنَّ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ - وَأَظُنُّهُ النَّاصِرَ - جَاءَهُ لِلزِّيَارَةِ
مُخْتَفِيًا، فَعَرَفَهُ الشَّيْخُ، وَلَمْ يُعْلِمْهُ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَهُ، فَسَأَلَهُ
الْخَلِيفَةُ عَنْ يَزِيدَ أَيُلْعَنُ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ: لَا أُسَوِّغُ لَعْنَهُ
; لِأَنِّي لَوْ فَتَحْتُ هَذَا الْبَابَ لَلَعَنَ النَّاسُ خَلِيفَتَنَا. قَالَ:
وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَفْعَلُ أَشْيَاءَ مُنْكَرَةً كَثِيرَةً، مِنْهَا
كَذَا وَكَذَا. ثُمَّ شَرَعَ يُعَدِّدُ عَلَى الْخَلِيفَةِ، مَا يَقَعُ مِنْهُ
مِنَ الْمُنْكَرَاتِ لِيَنْزَجِرَ عَنْهَا، فَتَرَكَهُ الْخَلِيفَةُ، وَخَرَجَ
مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ أَثَّرَ كَلَامُهُ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ خَطَّابِ بْنِ ظَفَرَ الْعَابِدُ
النَّاسِكُ، أَحَدُ الزُّهَّادِ وَذَوِي الْكَرَامَاتِ، وَكَانَ مُقَامُهُ
بِجَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْكَامِلِ "
وَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ فِي حُسْنِ خُلُقِهِ وَسَمْتِهِ وَكَرَمِهِ وَعِبَادَتِهِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُقَدَّمٍ
أَحَدُ نُوَّابِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ، لَمَّا افْتَتَحَ
النَّاصِرُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَحْرَمَ جَمَاعَةٌ فِي زَمَنِ الْحَجِّ مِنْهُ
إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَكَانَ أَمِيرُ الْحَاجِّ تِلْكَ السَّنَةَ،
فَلَمَّا كَانَ بِعَرَفَةَ ضَرَبَ الدَّبَادِبَ
وَنَشَرَ
الْأَلْوِيَةَ، وَأَظْهَرَ عِزَّ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَغَضِبَ
طَاشْتِكِينُ أَمِيرُ الْحَاجِّ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ، فَزَجَرَهُ عَنْ ذَلِكَ
فَلَمْ يَسْمَعْ، فَاقْتَتَلَا فَجُرِحَ ابْنُ مُقَدَّمٍ، وَمَاتَ فِي الْيَوْمِ
الثَّانِي بِمِنًى، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَدُفِنَ هُنَالِكَ، وَجَرَتْ خُطُوبٌ
كَثِيرَةٌ، وَلِيمَ طَاشْتِكِينُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَعُزِلَ عَنْ مَنْصِبِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ سِبْطُ ابْنُ التَّعَاوِيذِيِّ الشَّاعِرُ، أَضَرَّ فِي آخِرِ
عُمْرِهِ وَقَدْ جَاوَزَ السِّتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
نَصْرُ بْنُ فِتْيَانَ بْنِ مَطَرٍ
وَفِي خَامِسِ رَمَضَانَ تُوُفِّيَ الْفَقِيهُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ بْنُ
فِتْيَانَ بْنِ مَطَرٍ الْحَنْبَلِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمَنِّيِّ، وَكَانَ
زَاهِدًا عَابِدًا، مَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِمِائَةٍ، وَمِمَّنْ
تَفَقَّهَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ
قُدْامَةَ، وَالْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ خَلَفِ بْنِ
رَاجِحٍ، وَالنَّاصِحُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ النَّجْمِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ
الْحَنْبَلِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ
وَغَيْرُهُمْ.
أَبُو الْحَسَنِ الدَّامَغَانِيُّ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ
الدَّامَغَانِيِّ وَقَدْ حَكَمَ فِي أَيَّامِ الْمُقْتَفِي ثُمَّ الْمُسْتَنْجِدِ،
ثُمَّ عُزِلَ وَأُعِيدَ فِي أَيَّامِ الْمُسْتَضِيءِ، وَحَكَمَ لِلنَّاصِرِ حَتَّى
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي مُحَرَّمِهَا حَاصَرَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ حِصْنَ كَوْكَبَ فَرَآهُ
مَنِيعًا صَعْبًا، وَوَقْتُهُ مَشْغُولٌ بِغَيْرِهِ، فَوَكَّلَ بِهِ الْأَمِيرَ
قَايْمَازَ النَّجْمِيَّ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ يُضَيِّقُونَ عَلَيْهِ
الْمَسَالِكَ، وَكَذَلِكَ وَكَّلَ بِصَفَدَ - وَكَانَتْ لِلدَّاوِيَّةِ -
خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ مَعَ طُغْرُلَ الْجَانْدَارِ يَمْنَعُونَ وُصُولَ
الْمِيرَةِ وَالتَّقَاوِي، وَبَعَثَ إِلَى الْكَرَكِ وَالشُّوبَكِ جَيْشًا آخَرَ
يُحَاصِرُونَهُ وَيُضَيِّقُونَ عَلَى أَهْلِهِ، لِيَتَفَرَّغَ مِنْ أُمُورِهِ
لِقِتَالِ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ وَحِصَارِهَا.
وَكَانَ دُخُولُ السُّلْطَانِ إِلَى دِمَشْقَ مِنْ هَذِهِ الْغَزَاةِ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ وَزُيِّنَ
الْبَلَدُ، وَوَجَدَ الصَّفِيَّ بْنَ الْقَابِضِ وَكَيْلَ الْخِزَانَةِ قَدْ بَنَى
لِلْمَلِكِ دَارًا بِالْقَلْعَةِ هَائِلَةً مُطِلَّةً عَلَى الشَّرَفِ
الْقِبْلِيِّ، فَغَضِبَ عَلَيْهِ وَعَزَلَهُ مِنْ وَظِيفَتِهِ، وَقَالَ: إِنَّا
لَمْ نُخْلَقْ لِلْمُقَامِ بِدِمَشْقَ، وَإِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْعِبَادَةِ
وَالْجِهَادِ.
وَجَلَسَ السُّلْطَانُ بِدَارِ الْعَدْلِ فَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَأَهْلُ
الْفَضْلِ، وَزَارَ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ فِي بُسْتَانِهِ عَلَى الشَّرَفِ فِي
جَوْسَقِ ابْنِ الْفَرَّاشِ، وَحَكَى لَهُ مَا
كَانَ
مِنَ الْأُمُورِ، وَاسْتَشَارَهُ فِيمَا يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ
الْمُهِمَّاتِ وَالْغَزَوَاتِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ فِي جُيُوشِهِ،
فَسَلَكَ عَلَى جَبَلِ نَبُوسَ، وَدَخَلَ الْبِقَاعَ وَخَيَّمَ عَلَى بَعْلَبَكَّ
وَسَارَ إِلَى حِمْصَ وَجَاءَتْهُ عَسَاكِرُ الْجَزِيرَةِ وَهُوَ عَلَى الْعَاصِي
فَسَارَ إِلَى السَّوَاحِلِ الشَّامِيَّةِ، فَفَتَحَ أَنْطَرْطُوسَ وَغَيْرَهَا
مِنَ الْحُصُونِ، وَفَتَحَ جَبَلَةَ وَاللَّاذِقِيَّةَ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ
الْمُدُنِ عِمَارَةً وَرُخَامًا وَمَحَالَّ، وَفَتَحَ صُهْيُونَ وَبَكَاسَ
وَالشُّغْرَ ; وَهُمَا قَلْعَتَانِ عَلَى الْعَاصِي حَصِينَتَانِ، فَتَحَهُمَا
عَنْوَةً، وَفَتَحَ حِصْنَ بَرْزَيَهْ ; وَهِيَ قَلْعَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى شَاهِقِ
جَبَلٍ عَالٍ مَنِيعٍ، تَحْتَهَا أَوْدِيَةٌ عَمِيقَةٌ يُضْرَبُ الْمَثَلُ
بِحَصَانَتِهَا فِي سَائِرِ بِلَادِ الْفِرِنْجِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَحَاصَرَهَا
أَشَدَّ حِصَارٍ وَرَكَّبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ الْكِبَارَ، وَفَرَّقَ
الْجَيْشَ ثَلَاثَ فِرَقٍ، كُلُّ فَرِيقٍ يَلُونَ الْقِتَالَ، فَإِذَا كَلُّوا
وَتَعِبُوا خَلَفَهُمُ الْآخَرُونَ، حَتَّى لَا يَزَالَ الْقِتَالُ مُسْتَمِرًّا
لَيْلًا وَنَهَارًا صَبَاحًا وَمَسَاءً، فَكَانَ فَتْحُهَا فِي نَوْبَةِ السُّلْطَانِ،
فَأَخَذَهَا عَنْوَةً فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، وَنَهَبَ جَمِيعَ مَا فِيهَا
وَاسْتَوْلَى عَلَى حَوَاصِلِهَا وَأَمْوَالِهَا، وَقَتَلَ حُمَاتَهَا
وَرِجَالَهَا، وَسَبَى ذَرَارِيَهَا وَأَطْفَالَهَا، ثُمَّ عَدَلَ عَنْهَا
فَفَتَحَ حِصْنَ دَرَبْسَاكَ وَحِصْنَ بَغْرَاسَ كُلُّ ذَلِكَ يَفْتَحُهُ عَنْوَةً
فَيَغْنَمُ وَيَسْلَمُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
ثُمَّ سَمَتْ هِمَّتُهُ الْعَالِيَةُ إِلَى فَتْحِ أَنْطَاكِيَةَ ; وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ أَهْلَكَ مَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى، وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهَا
بِكَثْرَةِ الْجُنُودِ، فَرَاسَلَهُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ يَطْلُبُ مِنْهُ
الْهُدْنَةَ عَلَى أَنْ يُطْلِقَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ،
فَأَجَابَهُ السُّلْطَانُ إِلَى ذَلِكَ لِعِلْمِهِ
بِضَجَرِ
مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَالْأَعْوَانِ، فَوُقِّعَتِ الْهُدْنَةُ عَلَى
سَبْعَةِ أَشْهُرٍ ; وَمَقْصُودُ السُّلْطَانِ أَنْ تَسْتَرِيحَ الْجُيُوشُ مِنْ
تَعَبِهَا، وَتَجُمُّ النُّفُوسُ مِنْ نَصَبِهَا، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ
إِلَيْهِ مَنْ تَسَلَّمَ مِنْهُ الْأُسَارَى وَقَدْ ذُلَّتْ دَوْلَةُ النَّصَارَى.
ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ فَسَأَلَهُ وَلَدُهُ الظَّاهِرُ أَنْ يَجْتَازَ بِحَلَبَ
فَأَجَابَهُ إِلَى مَا طَلَبَ، فَنَزَلَ بِقَلْعَتِهَا ثَلَاثَ لَيَالٍ ثُمَّ
جَدَّدَ الْعَزْمَ وَالتَّرْحَالَ، فَاسْتَقَدْمَهُ ابْنُ أَخِيهِ تَقِيُّ
الدِّينِ إِلَى حَمَاةَ فَنَزَلَ بِقَلْعَتِهَا لَيْلَةً، كَانَتْ مِنْ أَكْبَرِ
مَقَاصِدِهِ وَمُنَاهُ، وَأَقْطَعَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ جَبَلَةَ
وَاللَّاذِقِيَّةَ، ثُمَّ سَارَ فَنَزَلَ بِقَلْعَةِ بَعْلَبَكَّ وَدَخَلَ إِلَى
حَمَّامِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مَسْرُورًا
مَحْبُورًا، وَجَاءَتْهُ الْبَشَائِرُ بِفَتْحِ الْكَرَكِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،
الَّذِينَ كَانُوا مُحَاصَرِينَ، وَأَرَاحَ اللَّهُ تِلْكَ النَّاحِيَةَ،
وَسَهَّلَ حَزْنَهَا عَلَى السَّالِكِينَ مِنَ التُّجَّارِ وَالْحُجَّاجِ
وَالْغُزَاةِ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الْأَنْعَامِ: 45 ]
فَصْلٌ فِي صِفَةِ فَتْحِ صَفَدَ وَحِصْنِ كَوْكَبَ
لَمْ يُقِمِ السُّلْطَانُ بِدِمَشْقَ إِلَّا أَيَّامًا مُعَدَّدَةً حَتَّى خَرَجَ
بِجَيْشِهِ قَاصِدًا بِلَادَ صَفَدَ، فَنَازَلَهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ
رَمَضَانَ، وَحَاصَرَهَا بَالْمَنْجَنِيقَاتِ وَالشُّجْعَانِ، وَكَانَ الْبَرْدُ
شَدِيدًا يُصْبِحُ الْمَاءُ فِيهِ جَلِيدًا، فَمَا زَالَ حَتَّى فَتَحَهَا صُلْحًا
فِي ثَامِنِ شَوَّالٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
ثُمَّ
سَارَ إِلَى صُورَ فَأَلْقَتْ إِلَيْهِ بِقِيَادِهَا، وَتَبَرَّأَتْ مِنْ
نَاصِرِيهَا وَقُوَّادِهَا، وَتَحَقَّقَتْ - لَمَّا فُتِحَتْ صَفَدُ - أَنَّهَا
مَقْرُونَةٌ بِأَصْفَادِهَا.
ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى حِصْنِ كَوْكَبَ - وَهِيَ مَعْقِلُ الْإِسْبِتَارِيَّةِ
كَمَا أَنَّ صَفَدَ كَانَتْ مَعْقِلَ الدَّاوِيَّةِ - وَكَانُوا أَبْغَضَ
أَجْنَاسِ الْفِرِنْجِ إِلَى الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ، الَّذِي لَا
يَكَادُ يَتْرُكُ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا قَتْلَهُ ; إِذَا وَقَعَ فِي
الْمَأْسُورِينَ - فَحَاصَرَ قَلْعَةَ كَوْكَبَ حَتَّى قَهَرَهَا، وَقَتَلَ
مُقَاتِلَتَهَا وَأَسَرَهَا وَأَرَاحَ الْمَارَّةَ مِنْ شَرِّ سَاكِنِيهَا،
وَتَمَهَّدَتْ تِلْكَ السَّوَاحِلُ وَاسْتَقَرَّ بِهَا مَنَازِلُ قَاطِنِيهَا.
هَذَا وَالسَّمَاءُ تَصُبُّ، وَالرِّيَاحُ تَهُبُّ، وَالسُّيُولُ تَعُبُّ، وَالْأَرْجُلُ
فِي الْأَوْحَالِ تَخُبُّ، وَالسُّلْطَانُ فِي كُلِّ ذَلِكَ صَابِرٌ مُصَابِرٌ
مُحْتَسِبٌ، وَكَانَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ
شَاهِدًا مُرْتَقِبًا، وَكَتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ عَنِ السُّلْطَانِ إِلَى
أَخِيهِ سَيْفِ الْإِسْلَامِ صَاحِبِ الْيَمَنِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَى الشَّامِ
لِنُصْرَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَقَتْلِ الْكَفَرَةِ اللِّئَامِ، فَإِنَّهُ قَدْ
عَزَمَ عَلَى حِصَارِ أَنْطَاكِيَةَ وَيَكُونُ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ مُحَاصِرًا
لِطَرَابُلُسَ إِذَا انْسَلْخَ هَذَا الْعَامُ. ثُمَّ عَزَمَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ
عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَسَارَ السُّلْطَانُ مَعَهُ
لِتَوْدِيعِهِ ثُمَّ عَدَلَ إِلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، فَصَلَّى فِيهِ
الْجُمُعَةَ، وَعَيَّدَ فِيهِ عِيدَ الْأَضْحَى بِالصَّخْرَةِ مِنَ الْأَقْصَى،
ثُمَّ سَارَ وَمَعَهُ أَخُوهُ الْعَادِلُ إِلَى عَسْقَلَانَ ثُمَّ أَقْطَعَ
أَخَاهُ الْكَرَكَ عِوَضًا عَنْ عَسْقَلَانَ وَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ لِيَكُونَ
عَوْنًا لِابْنِهِ الْعَزِيزِ عَلَى حَوَادِثِ الزَّمَانِ، وَعَادَ السُّلْطَانُ
فَأَقَامَ بِمَدِينَةِ عَكَّا حَتَّى انْسَلَخَتْ هَذِهِ السَّنَةُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الرَّافِضَةِ بِمِصْرَ يُرِيدُونَ
أَنْ يُعِيدُوا دَوْلَةَ الْفَاطِمِيِّينَ، وَاغْتَنَمُوا غَيْبَةَ الْعَادِلِ
عَنْ مِصْرَ، وَاسْتَخَفُّوا أَمْرَ الْعَزِيزِ
عُثْمَانَ
بْنِ صَلَاحِ الدِّينِ، فَبَعَثُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا يُنَادُونَ فِي
اللَّيْلِ: يَا لَعَلِيٍّ، يَا لَعَلِيٍّ. بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَامَّةَ
تُجِيبُهُمْ إِلَى مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ
وَلَا مَنَعَهُمْ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ انْهَزَمُوا
فَأُدْرِكُوا وَأُخِذُوا وَقُيِّدُوا وَحُبِسُوا، وَلَمَّا بَلَغَ أَمْرُهُمْ
إِلَى السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ سَاءَهُ ذَلِكَ وَاهْتَمَّ لَهُ، وَكَانَ
الْفَاضِلُ عِنْدَهُ بَعْدُ لَمْ يُفَارِقْهُ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ
يَنْبَغِي أَنْ تَفْرَحَ وَلَا تَحْزَنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُصْغِ إِلَى دَعْوَةِ
هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةِ أَحَدٌ مِنْ رَعِيَّتِكَ وَلَوِ الْتَفَتُوا إِلَيْهِمْ،
فَلَوْ أَنَّكَ بَعَثْتَ مِنْ قِبَلِكَ جَوَاسِيسَ يَخْتَبِرُونَ رَعِيَّتَكَ
لَسَرَّكَ مَا يَبْلُغُكَ عَنْهُمْ. فَسَرَّى ذَلِكَ عَنْهُ، وَرَجَعَ إِلَى
قَوْلِهِ، وَلِهَذَا أَرْسَلَهُ إِلَى مِصْرَ ; لِيَكُونَ لَهُ عَيْنًا وَعَوْنًا
مُعِينًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ سُلَالَةُ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ
الشَّيْزَرِيُّ مُؤَيَّدُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَارِثِ وَأَبُو الْمُظَفَّرِ
أُسَامَةُ بْنُ مُرْشِدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُقَلَّدِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُنْقِذٍ،
أَحَدُ الشُّعَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَالْأُمَرَاءِ الْمَشْكُورِينَ بَلَغَ مِنَ
الْعُمْرِ سِتًّا وَتِسْعِينَ سَنَةً وَكَانَ عُمْرُهُ تَارِيخًا مُسْتَقِلًّا
وَحْدَهُ وَكَانَتْ دَارُهُ بِدِمَشْقَ مَعْقِلًا لِلْفُضَلَاءِ وَمَنْزِلًا
لِلْعُلَمَاءِ، وَلَهُ مِنَ الْأَشْعَارِ الرَّائِقَةِ وَالْمَعَانِي الْفَائِقَةِ
شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَلَدَيْهِ عِلْمٌ غَزِيرٌ، وَعِنْدَهُ جُودٌ وَفَضْلٌ كَبِيرٌ،
وَقَدْ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ مُلُوكِ شَيْزَرَ ثُمَّ أَقَامَ بِدِيَارِ مِصْرَ
مُدَّةً فِي أَيَّامِ الْفَاطِمِيِّينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الشَّامِ وَقَدِمَ
عَلَى الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ وَأَنْشَدَهُ:
حَمِدْتُ
عَلَى طُولِ عُمْرِي الْمَشِيبَا وَإِنْ كُنْتُ أَكْثَرْتُ فِيهِ الذُّنُوبَا
لِأَنِّي حَيِيتُ إِلَى أَنْ لَقِي
تُ بَعْدَ الْعَدُوِّ صَدِيقًا حَبِيبَا
وَلَهُ فِي سِنٍّ قَلَعَهَا فَفَقَدَ نَفْعَهَا:
وَصَاحِبٍ لَا أَمَلُّ الدُّهْرَ صُحْبَتَهُ يَشْقَى لِنَفْعِي وَيَسْعَى سَعْيَ
مُجْتَهِدِ
لَمْ أَلْقَهُ مُذْ تَصَاحَبْنَا فَحِينَ بَدَا لِنَاظِرَيَّ افْتَرَقْنَا
فُرْقَةَ الْأَبَدِ
وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ كَبِيرٌ، وَكَانَ صَلَاحُ الدِّينِ يُفَضِّلُهُ عَلَى
سَائِرِ الدَّوَاوِينِ.
وَقَدْ كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ،
وَكَانَ فِي شَبِيبَتِهِ شَهْمًا شُجَاعًا فَاتِكًا، قَتَلَ الْأَسَدَ مُوَاجَهَةً
وَحْدَهُ، ثُمَّ عُمِّرَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَ ابْنُ
خَلِّكَانَ: لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ،
وَدُفِنَ شَرْقِيَّ جَبَلِ قَاسْيُونَ. قَالَ: وَزَرْتُ قَبْرَهُ وَقَرَأْتُ
عِنْدَهُ وَأَهْدَيْتُ لَهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ لَهُ قَوْلُهُ:
لَا تَسْتَعِرْ جَلَدًا عَلَى هُجْرَانِهِمْ فَقُوَاكَ تَضْعُفُ عَنْ صُدُودٍ
دَائِمِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ إِنْ رَجَعْتَ إِلَيْهِمُ طَوْعًا وَإِلَّا عُدْتَ عَوْدَةَ
رَاغِمِ
وَقَوْلُهُ فِي قَتْلِ الْأَسَدِ وَكِبَرِهِ:
فَاعْجَبْ لِضَعْفِ يَدِي عَنْ حَمْلِهَا قَلَمًا مِنْ بَعْدِ حَطْمِ الْقَنَا فِي
لَبَّةِ الْأَسَدِ
وَقُلْ
لِمَنْ يَتَمَنَّى طُولَ مُدَّتِهِ هَذِي عَوَاقِبُ طُولِ الْعُمْرِ وَالْمَدَدِ
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ شَيْخُنَا أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُوَيْدَةَ التَّكْرِيتِيُّ، كَانَ
عَالِمًا بِالْحَدِيثِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَازِمِيُّ الْهَمَذَانِيُّ
قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ حَازِمٍ الْحَازِمِيُّ الْهَمَذَانِيُّ
بِبَغْدَادَ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ، عَلَى صِغَرِ سِنِّهِ مِنْهَا "
الْعُجَالَةُ " فِي النَّسَبِ، وَ " النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ "
فِي الْحَدِيثِ وَغَيْرُهُمَا. وَمَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ رُسُلٌ إِلَى السُّلْطَانِ يُعْلِمُونَهُ
بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ لِأَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدٍ الْمُلَقَّبِ بِالظَّاهِرِ بْنِ
الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ خَطِيبَ دِمَشْقَ أَبَا
الْقَاسِمِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ زَيْدٍ الدَّوْلَعِيَّ بِالدُّعَاءِ لَهُ، ثُمَّ
جَهَّزَ السُّلْطَانُ مَعَ الرُّسُلِ تُحَفًا عَظِيمَةً، وَهَدَايَا سَنِيَّةً،
وَأَرْسَلَ بِأُسَارَى مِنَ الْفِرِنْجِ عَلَى هَيْئَتِهِمْ فِي حَالِ حَرْبِهِمْ،
وَأَرْسَلَ بِصَلِيبِ الصَّلَبُوتِ فَدُفِنَ تَحْتَ عَتَبَةِ بَابِ النَّوَى، مِنْ
دَارِ الْخِلَافَةِ، فَكَانَ بِالْأَقَدْامِ يُدَاسُ، بَعْدَمَا كَانَ يُعَظَّمُ
وَيُبَاسُ، وَصَارَ يُبْصَقُ عَلَيْهِ بَعْدَمَا كَانَ يُسْجَدُ إِلَيْهِ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الصَّلِيبَ إِنَّمَا هُوَ الَّذِي كَانَ مَنْصُوبًا
عَلَى قُبَّةِ الصَّخْرَةِ، وَكَانَ مِنْ نُحَاسٍ مَطْلِيًّا بِالذَّهَبِ، وَقَدِ
انْحَطَّ إِلَى أَسْفَلِ الرُّتَبِ.
قِصَّةُ عَكَّا وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا
لَمَّا كَانَ شَهْرُ رَجَبٍ اجْتَمَعَ مَنْ كَانَ بِصُورَ مِنَ الْفِرِنْجِ
وَسَارُوا إِلَى مَدِينَةِ عَكَّا فَأَحَاطُوا بِهَا يُحَاصِرُونَهَا، فَتَحَصَّنَ
مَنْ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَعَدُّوا لِلْحِصَارِ مَا يَحْتَاجُونَ
إِلَيْهِ، وَبَلَغَ السُّلْطَانَ خَبَرُهُمْ فَسَارَ إِلَيْهِمْ مِنْ دِمَشْقَ
مُسْرِعًا، فَوَجَدَهُمْ
قَدْ
أَحَاطُوا بِهَا، كَإِحَاطَةِ الْخَاتَمِ بِالْخِنْصَرِ، فَلَمْ يَزَلْ
يُدَافِعُهُمْ عَنْهَا وَيُمَانِعُهُمْ مِنْهَا، حَتَّى جَعَلَ طَرِيقًا إِلَى
بَابِ الْقَلْعَةِ يَصِلُ إِلَيْهِ كُلٌّ مَنْ أَرَادَهُ، مِنْ جُنْدِيٍّ
وَسُوقِيٍّ، وَامْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ، ثُمَّ أَوْلَجَ فِيهَا مَا أَرَادَ مِنْ
آلَاتٍ وَأَمْتِعَةٍ، وَمُقَاتِلَةٍ، وَدَخَلَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، فَعَلَا
سُورَهَا وَنَظَرَ إِلَى الْفِرِنْجِ وَجَيْشِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ
وَعُدَدِهِمْ، وَالْمِيرَةُ تَفِدُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَحْرِ فِي كُلِّ وَقْتٍ،
وَكُلُّ مَا لَهُمْ فِي ازْدِيَادٍ، وَفِي كُلِّ حِينٍ تَصِلُ إِلَيْهِمُ
الْأَمْدَادُ، وَعَادَ السُّلْطَانُ إِلَى مُخَيَّمِهِ وَالْجُنُودُ تَصِلُ
إِلَيْهِ، وَتُقْدِمُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَمَكَانٍ، مِنْهُمْ رَجَّالَةٌ
وَفُرْسَانٌ.
وَقْعَةُ مَرْجِ عَكَّا
ثُمَّ بَرَزَتِ الْفِرِنْجُ فِي نَحْوٍ مِنْ أَلْفَيْ فَارِسٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ
رَاجِلٍ فِي الْعَشْرِ الْأُخَرِ مِنْ شَعْبَانَ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمُ
السُّلْطَانُ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ السَّادَةِ الشُّجْعَانِ، فَاقْتَتَلُوا
بِمَرْجِ عَكَّا قِتَالًا عَظِيمًا، وَهُزِمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي
أَوَّلِ النَّهَارِ، ثُمَّ كَانَتِ الْكَرَّةُ عَلَى الْفِرِنْجِ فِي آخِرِهِ
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ فَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَرِيبُ
الْمِائَتَيْنِ، وَأَمَّا الْفِرِنْجُ فَكَانَتِ الْقَتْلَى مِنْهُمْ أَزْيَدَ
مِنْ سَبْعَةِ آلَافِ قَتِيلٍ، وَلَمَّا تَمَّتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ تَحَوَّلَ
السُّلْطَانُ مِنْ مَكَانِهِ الْأَوَّلِ إِلَى مَوْضِعٍ بَعِيدٍ مِنْ رَائِحَةِ
الْقَتْلَى، خَوْفًا مِنَ الْوَخَمِ وَالْأَذَى ; لِيَسْتَرِيحَ الْخَيَّالَةُ
وَالْخَيْلُ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْمَصَالِحِ
لِلْعَدُوِّ الْمَخْذُولِ، فَإِنَّهُمُ اغْتَنَمُوا هَذِهِ الْفَتْرَةَ، فَحَفَرُوا
حَوْلَ مُخَيَّمِهِمْ خَنْدَقًا لِجَمِيعِ جَيْشِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى
الْبَحْرِ مُحْدِقًا، وَاتَّخَذُوا مِنْ تُرَابِهِ سُورًا شَاهِقًا، وَجَعَلُوا
لَهُ أَبْوَابًا يَخْرُجُونَ مِنْهَا إِذَا أَرَادُوا، وَتَمَكَّنُوا فِي
مَنْزِلِهِمْ ذَلِكَ الَّذِي لَهُ اخْتَارُوا وَارْتَادُوا، وَتَفَارَطَ
الْأَمْرُ، وَقَوِيَ الْخَطْبُ، وَصَارَ الدَّاءُ عُضَالًا، وَازْدَادَ الْحَالُ
وَبَالًا، وَكَانَ رَأْيُ السُّلْطَانِ أَنْ يُنَاجَزُوا بَعْدَ الْكَرَّةِ
سَرِيعًا،
وَلَا
يُتْرَكُوا حَتَّى يَطِيبَ رِيحُ الْبَحْرِ فَتَأْتِيَهِمُ الْأَمْدَادُ مِنْ
كُلِّ صَوْبٍ هَرِيعًا، فَاعْتَذَرَ الْأُمَرَاءُ بِالْمَلَالِ وَالضَّجَرِ،
وَكُلٌّ لِأَمْرِ الْفِرِنْجِ قَدِ احْتَقَرَ، وَلَمْ يَدْرِ مَا قَدْ حُتِّمَ فِي
الْقَدَرِ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى جَمِيعِ الْمُلُوكِ يَسْتَنْفِرُ وَيَسْتَنْصِرُ،
وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِالْبَثِّ، وَبَثَّ الْكُتُبَ بِالتَّحْضِيضِ
وَالْحَثِّ، فَجَاءَتْهُ الْأَمْدَادُ جَمَاعَاتٍ وَآحَادًا، وَأَرْسَلَ إِلَى
مِصْرَ يَطْلُبُ أَخَاهُ الْعَادِلَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَعْجِلُ
الْأُسْطُولَ، فَوَصَلَ إِلَيْهِ فِي خَمْسِينَ قِطْعَةً فِي الْبَحْرِ مَعَ
الْأَمِيرِ حُسَامِ الدِّينِ لُؤْلُؤٍ، فَحِينَ وَصَلَ الْأُسْطُولُ حَادَتْ
مَرَاكِبُ الْفِرِنْجِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَخَافَتْ كُلُّهَا مِنْهُ،
وَاتَّصَلَتْ بِالْبَلَدِ الْمِيرَةُ وَالْعَدَدُ وَالْعُدَدُ وَانْشَرَحَتِ
الصُّدُورُ بَعْدَ الضِّيقِ وَالْكَمَدِ، وَانْسَلَخَتْ هَذِهِ السَّنَةُ
وَالْحَالُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَلَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا
إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْقَاضِي شَرَفُ الدِّينِ أَبُو سَعْدٍ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَصْرُونَ، أَحَدُ
أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، لَهُ كِتَابُ " الِانْتِصَارِ "، وَقَدْ
وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ أَضَرَّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِعَشْرِ
سِنِينَ، فَجُعِلَ وَلَدُهُ مُحْيِي الدِّينِ مَكَانَهُ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ،
وَبَلَغَ الْقَاضِي شَرَفُ الدِّينِ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً وَنِصْفًا،
وَدُفِنَ بِالْمَدْرَسَةِ الْعَصْرُونِيَّةِ، الَّتِي أَنْشَأَهَا غَرْبِيَّ
سَوِيقَةِ بَابِ الْبَرِيدِ، قُبَالَةَ دَارِهِ، بَيْنَهُمَا عَرْضُ الطَّرِيقِ،
وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وِقَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي
ابْنُ
خَلِّكَانَ فَقَالَ: أَصْلُهُ مِنْ حَدِيثَةِ الْمَوصِلِ وَرَحَلَ فِي طَلَبِ
الْعِلْمِ إِلَى بُلْدَانٍ شَتَّى، وَأَخَذَ عَنْ أَسْعَدَ الْمِيهَنِيِّ وَأَبِي
عَلِيٍّ الْفَارِقِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَوَلِيَ قَضَاءَ سِنْجَارَ وَحَرَّانَ،
وَبَاشَرَ فِي أَيَّامِ نُورِ الدِّينِ تَدْرِيسَ الْغَزَّالِيَّةِ، ثُمَّ
انْتَقَلَ إِلَى حَلَبَ فَبَنَى لَهُ نُورُ الدِّينِ مَدْرَسَةً بِحَلَبَ
وَبِحِمْصَ أَيْضًا، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ فِي أَيَّامِ صَلَاحِ الدِّينِ،
فَوَلِيَ قَضَاءَهَا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةِ إِلَى أَنْ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَمَعَ جُزْءًا فِي قَضَاءِ الْأَعْمَى،
وَأَنَّهُ جَائِزٌ ; وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ، لَكِنْ حَكَاهُ صَاحِبُ "
الْبَيَانِ " وَجْهًا لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ. قَالَ: وَلَمْ أَرَهُ فِي
غَيْرِهِ. وَقَدْ صَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً، مِنْهَا: " صَفْوَةُ
الْمَذْهَبِ فِي نِهَايَةِ الْمَطْلَبِ " فِي سَبْعِ مُجَلَّدَاتٍ، وَ "
الِانْتِصَارُ " فِي أَرْبَعٍ، وَ " الْخِلَافُ " فِي أَرْبَعٍ، وَ
" الذَّرِيعَةُ فِي مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ "، وَ " الْمُرْشِدُ
" وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكِتَابًا سَمَّاهُ " مَآخِذَ النَّظَرِ "،
وَمُخْتَصَرًا فِي الْفَرَائِضِ وَغَيْرَهَا، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي
" تَارِيخِهِ "، وَالْعِمَادُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْقَاضِي
الْفَاضِلُ
وَأَوْرَدَ لَهُ الْعِمَادُ أَشْعَارًا كَثِيرَةً، وَمِمَّا أَوْرَدَهُ ابْنُ
خَلِّكَانَ عَنْهُ قَوْلُهُ:
أُؤَمِّلُ أَنْ أَحْيَا وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ تَمُرُّ بِيَ الْمَوْتَى تُهَزُّ
نُعُوشُهَا وَهَلْ أَنَا إِلَّا مِثْلُهُمْ غَيْرَ أَنَّ لِي
بَقَايَا لَيَالٍ فِي الزَّمَانِ أَعِيشُهَا
أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبَانَ
أَبُو الْعَبَّاسِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَفْضَلِ الزَّمَانِ، قَالَ ابْنُ
الْأَثِيرِ: كَانَ عَالِمًا مُتَبَحِّرًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْفِقْهِ،
وَالْأُصُولِ وَالْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ وَالنُّجُومِ وَالْهَيْئَةِ
وَالْمَنْطِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ جَاوَرَ بِمَكَّةَ وَأَقَامَ بِهَا إِلَى
أَنْ مَاتَ بِهَا، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صُحْبَةً وَخُلُقًا.
الْفَقِيهُ الْأَمِيرُ ضِيَاءُ الدِّينِ عِيسَى الْهَكَّارِيُّ
كَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ، دَخَلَ مَعَهُ إِلَى مِصْرَ،
وَحَظِيَ عِنْدَهُ، ثُمَّ كَانَ مُلَازِمًا لِلسُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ حَتَّى
تُوُفِّيَ فِي رِكَابِهِ بِمَنْزِلَةِ الْخَرُّوبَةِ قَرِيبًا مِنْ عَكَّا
فَنُقِلَ إِلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ فَدُفِنَ بِهِ، وَكَانَ مِمَّنْ تَفَقَّهَ
عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْبَزْرِيِّ الْجَزَرِيِّ. وَكَانَ
الْفَقِيهُ عِيسَى مِنَ الْفُضَلَاءِ وَالنُّبَلَاءِ وَالْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمُبَارَكُ بْنُ الْمُبَارَكِ الْكَرْخِيُّ
مُدَرِّسُ النِّظَامِيَّةِ، تَفَقَّهَ بِابْنِ الْخَلِّ، وَكَانَتْ لَهُ مَكَانَةٌ
عِنْدَ الْخَلِيفَةِ وَالْعَامَّةِ، وَكَانَ يُضْرَبُ بِحُسْنِ خَطِّهِ الْمَثَلُ.
وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي " الطَّبَقَاتِ "، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتُهِلَّتْ وَالسُّلْطَانُ مُحَاصِرٌ لِمُحَاصِرِي عَكَّا وَأَمْدَادُ
الْفِرِنْجِ تَقَدَمُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَحْرِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَكُلِّ حِينٍ
حَتَّى إِنَّ النِّسَاءَ لِيَخْرُجْنَ بِنِيَّةِ الْقِتَالِ وَمِنْهُنَّ مَنْ
تَأْتِي بِنِيَّةِ رَاحَةِ الْغُرَبَاءِ فِي الْغُرْبَةِ قَدِمَ إِلَيْهِمْ
مَرْكَبٌ فِيهِ ثَلَاثُمِائَةِ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ حَتَّى
إِنَّ كَثِيرًا مِنْ فَسَقَةِ الْمُسْلِمِينَ تَحَيَّزُوا إِلَيْهِمْ لِأَجْلِ
هَذِهِ النِّسْوَةِ، وَاشْتُهِرَ الْخَبَرُ بِأَنَّ مَلِكَ الْأَلْمَانِ قَدْ
أَقْبَلَ فِي نَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ مِنْ نَاحِيَةِ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ يُرِيدُ أَخْذَ الشَّامِ وَقَتْلَ أَهْلِهِ وَمُلُوكِهِ
انْتِصَارًا لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ هَمًّا عَظِيمًا
وَخَافُوا غَائِلَةَ ذَلِكَ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشُّغْلِ الْعَظِيمِ
وَالْحِصَارِ الْهَائِلِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَطَفَ بِهِمْ وَأَهْلَكَ غَالِبَ
أُمَّةِ الْأَلْمَانِ فِي الطُّرُقَاتِ بِالْبَرْدِ وَالْجُوعِ وَالضَّلَالِ فِي
الْمَهَالِكِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَكَانَ سَبَبَ نَفَرِ النَّصَارَى فِي هَذَا الْعَامِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ
الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ " أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الرُّهْبَانِ
وَالْقُسُوسِ رَكِبُوا مِنْ مَدِينَةِ صُورَ فِي أَرْبَعَةِ مَرَاكِبَ يَطُوفُونَ
الْبُلْدَانَ الْبَحْرِيَّةَ يَحُثُّونَهُمْ عَلَى الِانْتِصَارِ لِبَيْتِ
الْمَقْدِسِ وَمَا جَرَى عَلَى أَهْلِ السَّوَاحِلِ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ
وَخَرَابِ الدِّيَارِ وَقَدْ صَوَّرُوا صُورَةَ الْمَسِيحِ وَصُورَةَ عَرَبِيٍّ
يَضْرِبُهُ فَإِذَا سَأَلُوهُمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَضْرِبُ الْمَسِيحَ ؟
قَالُوا: هَذَا نَبِيُّ الْعَرَبِ
يَضْرِبُهُ
وَقَدْ جَرَحَهُ وَمَاتَ فَيَنْزَعِجُونَ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَحْمُونَ وَيَبْكُونَ
وَيَحْزَنُونَ وَيَخْرُجُونَ مِنْ بِلَادِهِمْ لِنُصْرَةِ دِينِهِمْ وَنَبِيِّهِمْ
وَمَوْضِعِ حَجِّهِمْ عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ حَتَّى النِّسَاءُ
الْمُخَدَّرَاتُ وَالْأَبْنَاءُ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ أَهْلِيهِمْ مِنْ أَعْزِّ
الثَّمَرَاتِ وَأَخَصِّ الْخَدِرَاتِ.
وَفِي نِصْفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تَسَلَّمَ السُّلْطَانُ شَقَيفُ أَرْنُوَنَ
بِالْأَمَانِ وَكَانَ صَاحِبُهُ مَأْسُورًا فِي الذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَكَانَ
مِنْ أَدْهَى الْفِرِنْجِ وَأَخْبَرِهِمْ بِأَيَّامِ النَّاسِ وَرُبَّمَا قَرَأَ
فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَكَانَ مَعَ هَذَا غَلِيظَ
الْجِلْدِ كَافِرَ الْقَلْبِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَمَّا انْفَصَلَ فَصْلُ الشِّتَاءِ وَأَقْبَلَ الرَّبِيعُ جَاءَتِ الْمُلُوكُ
مِنْ بُلْدَانِهَا بِخُيُولِهَا وَشُجْعَانِهَا وَرِجَالِهَا وَفُرْسَانِهَا
وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ أَحْمَالًا مِنَ
النِّفْطِ وَالرِّمَاحِ وَنَفَّاطَةً وَنَقَّابِينَ كُلٌّ مِنْهُمْ مُتْقِنٌ فِي
صَنْعَتِهِ غَايَةَ الْإِتْقَانِ وَمَرْسُومًا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ
وَانْفَتَحَ الْبَحْرُ وَتَوَاتَرَتْ مَرَاكِبُ الْفِرِنْجِ مِنْ كُلِّ جَزِيرَةٍ
يَنْصُرُونَ أَصْحَابَهُمْ وَيَمُدُّونَهُمْ بِالْقُوَّةِ وَالْمِيرَةِ وَعَمِلَتِ
الْفِرِنْجُ ثَلَاثَةَ أَبْرِجَةٍ مِنْ خَشَبٍ وَحَدِيدٍ عَلَيْهَا جُلُودٌ
مُسْقَاةٌ بِالْخَلِّ لِئَلَّا يَعْمَلَ فِيهَا النِّفْطُ يَسَعُ الْبُرْجُ
مِنْهَا خَمْسَمِائَةِ مُقَاتِلٍ وَهِيَ أَعْلَى مِنْ أَبْرِجَةِ الْبَلَدِ وَهِيَ
مُرَكَّبَةٌ عَلَى عَجَلٍ بِحَيْثُ يُدِيرُونَهَا كَيْفَ شَاءُوا، وَعَلَى ظَهْرِ
كُلِّ بُرْجٍ مِنْهَا مَنْجَنِيقٌ كَبِيرٌ فَأَهَمَّ أَمْرُهَا الْمُسْلِمِينَ
وَكَانُوا عَلَيْهَا حَنِقِينَ فَأَعْمَلَ السُّلْطَانُ فِكْرَهُ فِي إِحْرَاقِهَا
فَاسْتَحْضَرَ النَّفَّاطِينَ وَوَعَدَهُمُ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ فَانْتُدِبَ
شَابٌّ نَحَّاسٌ مِنْ دِمَشْقَ يُعْرَفُ بِعَلِيِّ بْنِ عَرِيفِ النَّحَّاسِينَ وَالْتَزَمَ
بِإِحْرَاقِهَا
وَإِهْلَاكِهَا فَأَخَذَ النِّفْطَ الْأَبْيَضَ وَخَلَطَهُ بِأَدْوِيَةٍ عَرَفَهَا
وَغَلَى ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ قُدُورٍ مِنْ نُحَاسٍ حَتَّى صَارَ نَارًا تَأَجَّجُ
وَرَمَى كُلَّ بُرْجٍ مِنْهَا بِقَدْرٍ مِنْ تِلْكَ الْقُدُورِ بِالْمَنْجَنِيقِ
مِنْ دَاخِلِ عَكَّا فَاحْتَرَقَتِ الْأَبْرِجَةُ الثَّلَاثَةُ بِإِذْنِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى صَارَتْ نَارًا لَهَا فِي الْجَوِّ أَلْسِنَةٌ مُتَصَاعِدَةٌ
فَصَرَخَ الْمُسْلِمُونَ صَرْخَةً وَاحِدَةً بِالتَّهْلِيلِ وَاحْتَرَقَ فِي كُلِّ
بُرْجٍ مِنْهَا سَبْعُونَ كَفُورًا وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا
[ الْفُرْقَانِ: 26 ] وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَتِ الْفِرِنْجُ تَعِبُوا
فِيهَا سَبْعَةَ أَشْهُرٍ فَاحْتَرَقَتْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [ الْفُرْقَانِ: 23 ]
ثُمَّ عَرَضَ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ الشَّابِّ النَّحَّاسِ الْعَطِيَّةَ
السَّنِيَّةُ فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا وَقَالَ: إِنَّمَا عَمِلْتُ هَذَا
ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَرَجَاءَ مَا عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ فَلَا أُرِيدُ
مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا.
وَأَقْبَلَ الْأُسْطُولُ الْمِصْرِيُّ وَفِيهِ الْمِيرَةُ الْكَثِيرَةُ لِأَهْلِ
الْبَلَدِ فَعَبَّى الْفِرِنْجُ أُسْطُولَهُمْ لِيُحَارِبُوا أُسْطُولَ
الْمُسْلِمِينَ فَنَهَضَ السُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ لِيَشْغَلَهُمْ عَنْ قِتَالِ
الْأُسْطُولِ وَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ أَيْضًا وَاقْتَتَلَ الْأُسْطُولَانِ
فِي الْبَحْرِ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا عَظِيمًا وَحَرْبًا فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ فَظَفِرَتِ الْفِرِنْجُ بِشِينِيٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُسْطُولِ الَّذِي
لِلْمُسْلِمِينَ وَسَلَّمَ اللَّهُ الْبَاقِيَ فَوَصَلَ إِلَى الْبَلَدِ بِمَا
فِيهِ مِنَ الْمِيرَةِ الَّتِي قَدِ اشْتَدَّتْ حَاجَتُهُمْ إِلَى عُشْرِهَا
وَحَمِدَتِ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى يُسْرِهَا بَعْدَ عُسْرِهَا.
وَأَمَّا مَلِكُ الْأَلْمَانِ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ فَإِنَّهُ أَقْبَلَ فِي
عَدَدٍ كَثِيرٍ وَجَمٍّ غَفِيرٍ قَرِيبٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ
مِنْ نِيَّتِهِ الِانْتِصَارُ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ أُخِذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ
فَمَا زَالَ يَمُرُّ بِإِقْلِيمٍ بَعْدَ إِقْلِيمٍ وَيُتَخَطَّفُونَ فِي كُلِّ
مَكَانٍ وَيُقْتَلُونَ كَمَا يُقْتَلُ
الْحَيَوَانُ
حَتَّى اجْتَازَ مَلِكُهُمْ بِنَهْرٍ شَدِيدِ الْجَرْيَةِ فَدَعَتْهُ نَفْسُهُ
أَنْ يَسْبَحَ فِيهِ فَلَمَّا صَارَ فِيهِ حَمَلَهُ الْمَاءُ إِلَى جِذْعِ
شَجَرَةٍ فَشَجَّتْ رَأْسَهُ وَأَخْمَدَتْ أَنْفَاسَهُ وَأَرَاحَ اللَّهُ مِنْهُ
الْمُسْلِمِينَ وَحُشِرَتْ رُوحُهُ إِلَى سِجِّينٍ فَأُقِيمُ وَلَدُهُ الْأَصْغَرُ
فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ، وَقَدْ تَمَزَّقَ شَمْلُهُمْ وَقَلَّتْ مِنْهُمُ الْعُدَّةُ
ثُمَّ أَقْبَلُوا لَا يَجْتَازُونَ بِبَلَدٍ إِلَّا قُتِلُوا فِيهِ وَقَلَّ
عَدَدُهُمْ حَتَّى جَاءُوا إِلَى أَصْحَابِهِمُ الْمُحَاصِرِينَ لَعَكَّا وَهُمْ
فِي أَلْفِ فَارِسٍ وَلَيْسَ لَهُمْ قَدْرٌ وَلَا قِيمَةٌ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ
أَهْلِ مِلَّتِهِمْ وَلَا غَيْرِهِمْ وَهَكَذَا سُنَّةُ اللَّهِ فِيمَنْ أَرَادَ
مُخَالَفَةَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فِي إِهْلَاكِهِ وَتَمْزِيقِ شَمْلِهِ
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ عَلَى إِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ.
وَزَعَمَ الْعِمَادُ فِي سِيَاقِهِ أَنَّ الْأَلْمَانَ وَصَلُوا فِي خَمْسَةِ
آلَافِ مُقَاتِلٍ وَأَنَّ مُلُوكَ الْفِرِنْجِ كُلَّهُمْ كَرِهُوا قُدُومَهُمْ
عَلَيْهِمْ لِمَا يَخَافُونَ مِنْ سَطْوَتِهِ وَزَوَالِ دَوْلَتِهِمْ بِدَوْلَتِهِ
وَلَمْ يَفْرَحْ بِهِ إِلَّا الْمَرْكِيسُ صَاحِبُ صُورَ الَّذِي أَنْشَأَ هَذِهِ
الْفِتْنَةَ وَأَثَارَ هَذِهِ الْمِحْنَةَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ
تَقَوَّى بِهِ وَبِجَيْشِهِ وَكَيْدِهِ فَإِنَّهُ كَانَ خَبِيرًا بِالْحُرُوبِ
وَالْقِتَالِ وَأَحْدَثَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ لَمْ تَخْطُرْ
لِأَحَدٍ بِبَالٍ نَصَبَ دَبَّابَاتٍ أَمْثَالَ الْجِبَالِ تَسِيرُ بِعَجَلٍ
وَلَهَا زُلُّومٌ مِنْ حَدِيدٍ تَنْطَحُ السُّورَ فَتَكْسِرُهُ وَتَثْلَمُ
جَوَانِبَهُ فَمَنَّ اللَّهُ الْعَظِيمُ بِإِحْرَاقِهَا وَإِهْلَاكِهَا وَأَرَاحَ
اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَنَهَضَ بِالْعَسْكَرِ
الْفِرِنْجيِّ فَصَادَمَ بِهِ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ وَنَاصَبَ بِالْحَرْبِ
صَلَاحَ الدِّينِ فَمَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِالنُّصْرَةِ
عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَتِ الْجُيُوشُ بِرُمَّتِهَا إِلَيْهِ فَقَتَلُوا مِنَ
الْكَفَرَةِ خَلْقًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا وَهَجَمُوا مَرَّةً عَلَى
الْمُخَيَّمِ بَغْتَةً فَنَهَبُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْتِعَةِ فَنَهَضَ
إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ
أَبُو
بَكْرٍ - وَكَانَ رَأْسَ الْمَيْمَنَةِ - فَرَكِبَ فِي أَصْحَابِهِ وَأَمْهَلَ
الْفِرِنْجَ حَتَّى تَوَغَّلُوا بَيْنَ الْخِيَامِ ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ
بِالرِّمَاحِ وَالْحُسَامِ فَتَهَارَبُوا بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَا زَالَ يَقْتُلُ
مِنْهُمْ جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَةٍ وَفِرْقَةً بَعْدَ فِرْقَةٍ حَتَّى كَسَى
وَجْهَ الْأَرْضِ مِنْهُمْ حُلَلًا أَزْهَى مِنَ الرِّيَاضِ الْبَاسِمَةِ وَحُزِرَ
مَا قَتَلَ مِنْهُمْ فَأَقَلُّ مَا قِيلَ خَمْسَةُ آلَافٍ وَزَعَمَ الْعِمَادُ
وَغَيْرُهُ أَنَّهُ قَتَلَ مِنْهُمْ فِيمَا بَيْنُ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ
عَشَرَةَ آلَافٍ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ هَذَا وَطَرَفُ الْمَيْسَرَةِ لَمْ يَشْعُرْ
بِمَا جَرَى بَلْ وَهُمْ نَائِمُونَ وَقْتَ الْقَيْلُولَةِ فِي خِيَامِهِمْ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَا دَرَى.
وَكَانَ الَّذِينَ سَاقُوا وَرَاءَهُمْ وَأَسَرُوهُمْ أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ
وَإِنَّمَا قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَشْرَةٌ أَوْ دُونَهُمْ وَهَذِهِ نِعْمَةٌ
عَظِيمَةٌ وَنُصْرَةٌ عَمِيمَةٌ وَقَدْ أَوْهَنَ هَذَا جَيْشَ الْفِرِنْجِ
وَأَضْعَفَهُ، وَكَادُوا يَطْلُبُونَ الصُّلْحَ وَيَنْصَرِفُونَ عَنِ الْبَلَدِ
فَاتَّفَقَ قُدُومُ مَدَدٍ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبَحْرِ مَعَ مَلِكٍ يُقَالُ لَهُ:
كُنْدَهِرِيٌّ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَمَعَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ فَأَنْفَقَ
عَلَيْهِمْ وَغَرِمَ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَبْرُزُوا مَعَهُ لِلِقَاءِ
السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ وَنَصَبَ عَلَى عَكَّا مَنْجَنِيقَيْنِ غَرِمَ
عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ فَأَحْرَقَهُمَا
أَهْلُ الْبَلَدِ وَجَاءَتْ كُتُبُ صَاحِبِ الرُّومِ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
يَعْتَذِرُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ مِنْ جِهَةِ مَلِكِ الْأَلْمَانِ وَأَنَّهُ
لَمْ يُجَاوِزْ مُلْكَهُ وَلَا بَلَدَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَأَنَّهُ تَجَاوَزَهُ لِكَثْرَةِ
جُنُودِهِ وَلِذَلِكَ بَشَّرَ السُّلْطَانَ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُهْلِكُهُمْ فِي
كُلِّ مَكَانٍ وَكَذَلِكَ وَقَعَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ الْقَدْيمِ الْإِحْسَانِ
وَأَرْسَلَ إِلَى السُّلْطَانِ يَقُولُ لَهُ: إِنِّي سَأُقِيمُ عِنْدِي
لِلْمُسْلِمِينَ جُمُعَةً وَخَطِيبًا فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ مَعَ رَسُولِهِ
خَطِيبًا وَمِنْبَرًا فَكَانَ يَوْمُ دُخُولِهِمْ إِلَيْهِ يَوْمًا مَشْهُودًا
وَمَشْهَدًا مَحْمُودًا فَأُقِيمَتِ الْخُطْبَةُ وَدَعَا لِلْخَلِيفَةِ
الْعَبَّاسِيِّ وَاجْتَمَعَ فِيهَا مَنْ هُنَاكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَالتُّجَّارِ وَالْمُسَافِرِينَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
فَصْلٌ
وَكَتَبَ مُتَوَلِّي عَكَّا مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ وَهُوَ
الْأَمِيرُ بَهَاءُ الدِّينِ قَرَاقُوشُ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَعْبَانَ
إِلَى السُّلْطَانِ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ مِنَ
الْأَقْوَاتِ إِلَّا مَا يُبَلِّغُهُمْ إِلَى لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ
فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى السُّلْطَانِ أَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ
وَلَمْ يُبْدِهَا لِأَحَدٍ خَوْفًا مِنْ شُيُوعٍ ذَلِكَ فَيَبْلُغُ الْعَدُوَّ
فَيَقْوُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَتَضْعُفَ الْقُلُوبُ وَكَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَى
أَمِيرِ الْأُسْطُولِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَنْ يَقَدَمَ بِالْمِيرَةِ
إِلَى عَكَّا فَتَأَخَّرَ سَيْرُهُ ثُمَّ وَصَلَتْ ثَلَاثُ بُطُسٍ لَيْلَةَ
النِّصْفِ فِيهَا مِنَ الْمِيرَةِ مَا يَكْفِي أَهْلَ الْبَلَدِ طُولَ الشِّتَاءِ
وَهِيَ فِي صُحْبَةِ الْأَمِيرِ الْحَاجِبِ لُؤْلُؤٍ فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى
الْبَلَدِ نَهَضَ إِلَيْهَا أُسْطُولُ الْفِرِنْجِ لِيَحُولَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
الْبَلَدِ وَيُتْلِفَ مَا فِيهَا فَاقْتَتَلُوا فِي الْبَحْرِ قِتَالًا شَدِيدًا
عَظِيمًا وَالْمُسْلِمُونَ فِي الْبَرِّ يَبْتَهِلُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ فِي سَلَامَتِهَا وَالْفِرِنْجُ أَيْضًا تَصْرُخُ بَرًّا وَبَحْرًا،
وَقَدِ ارْتَفَعَ الضَّجِيجُ فَنَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ وَسَلَّمَ
مَرَاكِبَهُمْ وَطَابَتِ الرِّيحُ لِلْبُطُسِ فَسَارَتْ فَاخْتَرَقَتِ
الْمَرَاكِبَ الْفِرِنْجيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِالْمِينَاءِ وَدَخَلَتِ الْبَلَدَ
سَالِمَةً، فَفَرِحَ بِهَا أَهْلُ الْبَلَدِ وَالْجَيْشُ فَرَحًا شَدِيدًا
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ جَهَّزَ قَبْلَ هَذِهِ الثَّلَاثِ بُطُسٍ
الْمِصْرِيَّاتِ بُطْسَةً عَظِيمَةً مِنْ بَيْرُوتَ فِيهَا أَرْبَعُمِائَةِ
غِرَارَةٍ وَشَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبَصَلِ وَالشَّحْمِ وَالْقَدْيدِ
وَالنُّشَّابِ وَالنِّفْطِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْبُطْسَةُ مِنْ بُطُسِ الْفِرِنْجِ
الْمَغْنُومَةِ وَأَمَرَ
مَنْ فِيهَا مِنَ الْبَحَّارَةِ أَنْ يَتَزَيُّوا بِزِيِّ الْفِرِنْجِ حَتَّى إِنَّهُمْ حَلَقُوا لِحَاهُمْ وَشَدُّوا الزَّنَانِيرَ وَاسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ فِي الْبُطْسَةِ شَيْئًا مِنَ الْخَنَازِيرِ وَقَدِمُوا بِهَا عَلَى مَرَاكِبِ الْفِرِنْجِ فَاعْتَقَدْوا أَنَّهُمْ مِنْهُمْ وَهِيَ سَائِرَةٌ كَأَنَّهَا السَّهْمُ إِذَا خَرَجَ مِنَ الرَّمِيَّةِ فَحَذَّرَهُمُ الْفِرِنْجُ غَائِلَةَ الْمِينَاءِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُسْلِمِينَ فَاعْتَذَرُوا بِأَنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ مَعَهَا وَالرِّيحُ قَوِيَّةٌ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقِفُوا وَلَا يَنْصَرِفُوا وَمَا زَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى وَلَجُوا الْمِينَاءَ وَأَفْرَغُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْمِيرَةِ - وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ - فَعَبَرَتِ الْمِينَاءَ وَعَيْنُ الْكُفْرِ عَبْرَى فَامْتَلَأَ الثَّغْرُ بِهَا خَيْرًا وَسُرُورًا وَأَثْرَى مُؤُنَتَهُمْ إِلَى أَنْ قَدِمَتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْبُطُسُ الثَّلَاثُ الْمِصْرِيَّةُ وَكَانَ مِينَاءُ الْبَلَدِ يَكْتَنِفُهَا بُرْجَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: بُرْجُ الذِّبَّانِ فَاتَّخَذَتِ الْفِرِنْجُ بُطْسَةً عَظِيمَةً لَهَا خُرْطُومٌ وَفِيهِ حَرَكَاتٌ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَضَعُوهُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَسْوَارِ وَالْأَبْرِجَةِ قَلَبُوهُ فَوَصَلَ إِلَى مَا أَرَادُوا فَعَظُمَ أَمْرُ هَذِهِ الْبُطْسَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَزَالُوا فِي أَمْرِهَا مُحْتَالِينَ حَتَّى أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا شُوَاظًا مِنْ نَارٍ فَأَحْرَقَهَا وَأَغْرَقَهَا وَذَلِكَ أَنَّ الْفِرِنْجَ أَعَدُّوا فِيهَا نِفْطًا كَثِيرًا وَحَطَبًا جَزْلًا وَأُخْرَى خَلْفَهَا فِيهَا حَطَبٌ مَحْضٌ حَتَّى إِذَا أَرَادَ الْمُسْلِمُونَ الْمُحَاجَنَةَ عَلَى الْمِينَاءِ بِمَرَاكِبِهِمْ أَرْسَلُوا النِّفْطَ عَلَى بُطْسَةِ الْحَطَبِ فَاحْتَرَقَتْ وَهِيَ سَائِرَةٌ بَيْنَ بُطُسِ الْمُسْلِمِينَ فَتُحْرِقُهَا وَكَانَ فِي بُطْسَةٍ أُخْرَى لَهُمْ مُقَاتِلَةٌ تَحْتَ قَبْوٍ قَدْ أَحْكَمُوهُ فِيهَا، فَلَمَّا أَرْسَلُوا النِّفْطَ عَلَى بُرْجِ الذِّبَّانِ انْعَكَسَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْهَوَاءِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَمَا تَعَدَّتِ النَّارُ بُطْسَتَهُمْ فَاحْتَرَقَتْ وَتَعَدَّى الْحَرِيقُ إِلَى الْأُخْرَى فَغَرِقَتْ وَوَصَلَ إِلَى بُطْسَةِ الْمُقَاتِلَةِ
فَتَلِفَتْ
وَهَلَكَتْ بِمَنْ فِيهَا فَأَشْبَهُوا مَنْ سَلَفَ مِنَ الْكَافِرِينَ كَمَا
قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ
وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ [ الْحَشْرِ: 2 ]
فَصْلٌ
وَفِي ثَالِثِ رَمَضَانَ اشْتَدَّ حِصَارُ الْفِرِنْجِ لِلْبَلَدِ حَتَّى نَزَلُوا
إِلَى الْخَنْدَقِ فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْبَلَدِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ
خَلْقًا كَثِيرًا وَتَمَكَّنُوا مِنْ حَرِيقِ الْكَبْشِ الَّذِي اتَّخَذُوهُ
لِحِصَارِ الْأَسْوَارِ وَسَرَى حَرِيقُهُ إِلَى السُّفُورِ، وَارْتَفَعَتْ لَهُ
لَهَبَةٌ عَظِيمَةٌ فِي عَنَانِ السَّمَاءِ ثُمَّ اجْتَذَبَهُ الْمُسْلِمُونَ
إِلَيْهِمْ بِكَلَالِيبَ مِنْ حَدِيدٍ فِي سَلَاسِلَ فَحَصَّلُوهُ عِنْدَهُمْ
وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ الْمَاءَ الْبَارِدَ فَبَرُدَ بَعْدَ أَيَّامٍ فَكَانَ فِيهِ
مِنَ الْحَدِيدِ مِائَةُ قِنْطَارٍ بِالدِّمَشْقِيِّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَكَانَ مَعَ السُّلْطَانِ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ
الْمَلِكُ زَيْنُ الدِّينِ صَاحِبُ إِرْبِلَ فَتُوُفِّيَ فِي عَكَّا فَتَأَسَّفَ
النَّاسُ عَلَيْهِ لِشَبَابِهِ وَغُرْبَتِهِ وَجَوْدَتِهِ وَعُزِّيَ أَخُوهُ
مُظَفَّرُ الدِّينِ فِيهِ وَهُوَ الَّذِي قَامَ بِالْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ
وَسَأَلَ مِنَ السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ أَنْ يُضِيفَ إِلَيْهِ شَهْرُزُورَ
وَيَتْرُكَ حَرَّانَ وَالرُّهَا وَسُمَيْسَاطَ وَغَيْرَهَا وَتَحَمَّلَ مَعَ
ذَلِكَ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ نَقْدًا فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ وَكَتَبَ لَهُ
تَقْلِيدًا وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَأُضِيفُ مَا تَرَكَهُ إِلَى الْمَلِكِ
الْمُظَفَّرِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ أَخِي السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ.
فَصْلٌ
وَكَانَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يُدَبِّرُ الْمَمَالِكَ
بِهَا وَيُجَهِّزُ إِلَى السُّلْطَانِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالنَّفَقَاتِ وَعَمَلِ الْأُسْطُولِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ مِنْ
مَحْصُولٍ، وَالْكُتُبُ السُّلْطَانِيَّةُ وَارِدَةٌ إِلَيْهِ فِي كُلِّ حِينٍ
وَيَسْتَشِيرُهُ فِيمَا يُصْلِحُ بِهِ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ
الْكُتُبُ الْفَاضِلَةُ قَادِمَةٌ عَلَى السُّلْطَانِ فِي كُلِّ أَوَانٍ، فَمِنْ
ذَلِكَ كِتَابٌ يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّ سَبَبَ هَذَا التَّطْوِيلِ فِي الْحِصَارِ
إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الذُّنُوبِ وَارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ بَيْنَ
النَّاسِ وَيَقُولُ فِي بَعْضِهَا إِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا
بِطَاعَتِهِ وَلَا يُفْرِّجُ الشَّدَائِدَ إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ
وَالِامْتِثَالِ لِشَرِيعَتِهِ، وَالْمَعَاصِي فِي كُلِّ مَكَانِ بَادِيَةٌ،
وَالْمَظَالِمُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَاشِيَّةٌ، وَقَدْ طَلَعَ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى مِنْهَا مَا لَا يُتَوَقَّعُ بَعْدَهَا إِلَّا مَا يُسْتَعَاذُ مِنْهُ، وَفِيهِ
أَنَّهُ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَدْ ظَهَرَ فِيهِ مِنَ
الْمُنْكَرَاتِ وَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ فِي بِلَادِهِ مَا لَا يُمْكِنُ
تَلَافِيهِ إِلَّا بِكُلْفَةٍ كَثِيرَةٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ كِتَابٌ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّمَا أُتِينَا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِنَا
وَلَوْ صَدَقْنَاهُ لِعَجَّلَ لَنَا عَوَاقِبَ صِدْقِنَا وَلَوْ أَطَعْنَاهُ
لَمَّا عَاقَبَنَا بِعَدُوِّنَا وَلَوْ فَعَلْنَا مَا نَقَدِرُ عَلَيْهِ مِنْ
أَمْرِهِ لَفَعَلَ لَنَا مَا لَا نَقَدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا بِهِ فَلَا
يَسْتَخْصِمُ أَحَدٌ إِلَّا عَمَلَهُ وَلَا يَلُمْ إِلَّا نَفْسَهُ وَلَا يَرْجُ
إِلَّا رَبَّهُ وَلَا تُنْتَظَرُ الْعَسَاكِرُ أَنْ تَكْثُرَ وَلَا الْأَمْوَالُ
أَنْ تُحْصَرَ وَلَا
فُلَانٌ
الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَ وَلَا فُلَانٌ الَّذِي يُنْتَظَرُ
أَنْ يَسِيرَ، فَكُلُّ هَذِهِ مَشَاغِلُ عَنِ اللَّهِ لَيْسَ النَّصْرُ بِهَا
وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَكِلَنَا اللَّهُ إِلَيْهَا، وَالنَّصْرُ بِهِ وَاللُّطْفُ
مِنْهُ وَالْعَادَةُ الْجَمِيلَةُ لَهُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ
ذُنُوبِنَا فَلَوْلَا أَنَّهَا تَسُدُّ طَرِيقَ دُعَائِنَا لَكَانَ جَوَابُ
دُعَائِنَا قَدْ نَزَلَ وَفَيْضُ دُمُوعِ الْخَاشِعِينَ قَدْ غَسَلَ وَلَكِنْ فِي
الطَّرِيقِ عَائِقٌ؛ خَارَ اللَّهُ لِمَوْلَانَا فِي الْقَضَاءِ السَّابِقِ
وَاللَّاحِقِ.
وَفِي كِتَابٍ آخَرَ يَتَأَلَّمُ فِيهِ لِمَا عِنْدَ السُّلْطَانِ مِنَ الضَّعْفِ
فِي جِسْمِهِ بِسَبَبِ مَا حَمَلَ عَلَى قَلْبِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ
الشَّدَائِدِ - أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ فِيهِ وَمَا فِي نَفْسِ
الْمُلُوكِ شَائِنَةٌ إِلَّا بَقِيَّةُ هَذَا الضَّعْفِ الَّذِي بِجِسْمِ
مَوْلَانَا فَإِنَّهُ بِقُلُوبِنَا وَنَفْدِيهِ بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا.
بِنَا مَعْشَرَ الْخُدَّامِ مَا بِكَ مِنْ أَذًى وَإِنْ أَشْفَقُوا مِمَّا أَقُولُ
فَبِي وَحْدِي
وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ صَاحِبُ " الرَّوْضَتَيْنِ
" هَاهُنَا كُتُبًا عِدَّةً مِنَ الْفَاضِلِ إِلَى السُّلْطَانِ فِيهَا
فَصَاحَةٌ وَبَلَاغَةٌ وَمَوَاعِظُ وَتَحْضِيضٌ عَلَى الْجِهَادِ يَعْجِزُ عَنْ
مِثْلِهَا شُجْعَانٌ وَهِيَ جَدِيرَةٌ أَنْ تُكْتَبَ بِمَاءِ الذَّهَبِ عَلَى
قَلَائِدِ الْعِقْيَانِ فَرَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ إِنْسَانٍ مَا أَفْصَحَهُ، وَمِنْ
وَزِيرٍ مَا كَانَ أَنْصَحَهُ، وَمِنْ عَقْلٍ مَا كَانَ أَرْجَحَهُ.
فَصْلٌ
وَكَتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ كِتَابًا بَلِيغًا عَنِ السُّلْطَانِ إِلَى مَلِكِ
الْغَرْبِ أَمِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَسُلْطَانِ جَيْشِ الْمُوَحِّدِينَ يَعْقُوبَ
بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ يَسْتَنْجِدُ بِهِ فِي إِرْسَالِ مَرَاكِبَ
فِي الْبَحْرِ تَكُونُ عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمَرَاكِبِ
الْإِفْرِنْجِيَّةِ فَمِنْهُ عِبَارَةٌ طَوِيلَةٌ فَصِيحَةٌ بَلِيغَةٌ مَلِيحَةٌ
حَكَاهَا الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ بِطُولِهَا وَحُسْنِهَا وَبَعَثَ
السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ مَعَ ذَلِكَ بِهَدِيَّةٍ سَنِيَّةٍ مِنَ التُّحَفِ
وَالْأَلْطَافِ وَذَلِكَ كُلُّهُ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ الْكَبِيرِ شَمْسِ الدِّينِ
أَبِي الْحَزْمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُنْقِذٍ وَكَانَ ابْتِدَاءُ سَيْرِهِ
فِي الْبَحْرِ فِي ثَامِنِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فَدَخَلَ عَلَى
سُلْطَانِ الْمَغْرِبِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَأَقَامَ عِنْدَهُ
إِلَى عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَلَمْ
يُفِدْ هَذَا الْإِرْسَالُ شَيْئًا ; لِأَنَّ السُّلْطَانَ تَغَضَّبَ إِذْ لَمْ
يُلَقَّبْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَتْ إِشَارَةُ الْفَاضِلِ إِلَى عَدَمِ
الْإِرْسَالِ إِلَيْهِ وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ وَقَعَ مَا وَقَعَ
بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَصْلٌ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَصَلَ لِلسُّلْطَانِ سُوءُ مِزَاجٍ مِنْ كَثْرَةِ مَا
يُكَابِدُهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ أَمَرُّ مِنَ الْأُجَاجِ فَطَمِعَ
الْعَدُوُّ الْمَخْذُولُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - فِي الْإِسْلَامِ
فَتَجَرَّدَ
جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ لِلْقِتَالِ، وَثَبَتَ آخَرُونَ عَلَى الْحِصَارِ وَأَقْبَلُوا
فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ وَعُدَدٍ فَرَتَّبَ السُّلْطَانُ الْجُيُوشَ يَمْنَةً
وَيَسْرَةً وَقَلْبًا وَجَنَاحَيْنِ فَلَمَّا رَأَوْا مَا عَايَنُوهُ مِنَ
الْجَيْشِ الْكَثِيفِ فَرُّوا مِنْ مَوْقِفِ الْحَرْبِ وَعَادُوا عَنْ حَوْمَةِ الْوَغَى
فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرُ وَجَمٌّ غَفِيرٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
فَصْلٌ
وَلَمَّا دَخَلَ فَصْلُ الشِّتَاءِ وَانْشَمَرَتْ مَرَاكِبُ الْإِفْرِنْجِ عَنِ
الْبَلَدِ خَوْفًا مِنَ الْهَلَاكِ بِسَبَبِ اغْتِلَامِ الْبَحْرِ سَأَلَ مَنْ فِي
الْبَلْدَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ السُّلْطَانِ أَنْ يُرِيحَهُمْ مِمَّا هُمْ
فِيهِ مِنَ الْحَصْرِ الْعَظِيمِ وَالْمُقَاتَلَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَصَبَاحًا
وَمُسَاءً سِرًّا وَجَهْرًا وَأَنْ يُرْسِلَ إِلَى الْبَلَدِ بَدَلَهُمْ فَرَقَّ
لَهُمُ السُّلْطَانُ وَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ
أَلْفَ مُسْلِمٍ مَا بَيْنَ أَمِيرٍ وَمَأْمُورٍ فَجَهَّزَ جَيْشًا آخَرَ
غَيْرَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِرَأْيٍ جَيِّدٍ وَلَكِنْ مَا قَصَدَ
السُّلْطَانُ إِلَّا خَيْرًا وَأَنَّ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ الْبَلَدَ وَهُمْ جُدُدُ
الْهِمَمِ وَلَهُمْ عَزْمٌ قَوِيٌّ وَهُمْ فِي رَاحَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى
أُولَئِكَ وَلَكِنْ أُولَئِكَ كَانَتْ لَهُمْ خِبْرَةٌ بِالْبَلَدِ وَبِالْقِتَالِ
وَكَانَ لَهُمْ صَبْرٌ عَظِيمٌ وَقَدْ تَمَرَّنُوا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ
الْمُصَابَرَةِ لِلْأَعْدَاءِ بَرًّا وَبَحْرًا وَجُهِّزَتْ لِهَؤُلَاءِ سَبْعُ
بُطُسٍ فِيهَا مِيرَةٌ تَكْفِيهِمْ سَنَةً كَامِلَةً فَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَهُ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أَنَّهَا لَمَّا تَوَسَّطَتِ
الْبَحْرَ وَاقْتَرَبَتْ مِنَ الْمِينَاءِ هَاجَتْ رِيحٌ عَظِيمَةٌ فِي الْبَحْرِ
فَتَلَعَّبَتْ بِتِلْكَ الْبُطُسِ عَلَى عِظَمِهَا فَاخْتَبَطَتْ وَاضْطَرَبَتْ
وَتَصَادَمَتْ
فَتَكَسَّرَتْ
وَغَرِقَتْ وَغَرِقَ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْمِيرَةِ وَهَلَكَ مَنْ كَانَ فِيهَا
مِنَ الْبَحَّارَةِ فَدَخَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَهْنٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ جِدًّا وَمَرِضَ السُّلْطَانُ وَازْدَادَ مَرَضًا إِلَى
مَرَضِهِ - عَافَاهُ اللَّهُ - وَكَانَ ذَلِكَ عَوْنًا لِلْعَدُوِّ الْمَخْذُولِ
عَلَى أَخْذِ الْبَلَدِ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ وَذَلِكَ فِي ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ الْمُقَدَّمَ عَلَى الدَّاخِلِينَ إِلَى
عَكَّا الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمَشْطُوبِ
أَيَّدَهُ اللَّهُ.
وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَقَطَتْ ثُلْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ
سُورِ عَكَّا فَبَادَرَ الْفِرِنْجُ إِلَيْهَا فَسَبَقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى
سَدِّهَا بِصُدُورِهِمْ وَقَاتَلُوا عَنْهَا بِنُحُورِهِمْ وَمَا زَالُوا
يُمَانِعُونَ عَنْهَا حَتَّى بَنَوْهَا أَشَدَّ مِمَّا كَانَتْ وَأَقْوَى
وَأَحْسَنَ وَأَبْهَى. وَوَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَبَاءٌ عَظِيمٌ فِي
الْجَيْشَيْنِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ فَكَانَ السُّلْطَانُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ
اقْتُلُونِي وَمَالِكًا وَاقْتُلُوا مَالِكًا مَعِي
وَاتَّفَقَ مَوْتُ ابْنِ مَلِكِ الْأَلْمَانِ فِي ثَانِي ذِي الْحِجَّةِ
وَجَمَاعَةٍ مِنْ كُبَرَاءِ الْكُنْدَهِرِيَّةِ وِسَادَاتِ الْفِرِنْجِ لَعَنَهُمُ
اللَّهُ فَحَزِنَ الْفِرِنْجُ عَلَى ابْنِ مَلِكِ الْأَلْمَانِ حُزْنًا عَظِيمًا
وَأَوْقَدُوا نَارًا عَظِيمَةً فِي كُلِّ خَيْمَةٍ وَصَارَ فِي كُلِّ يَوْمٍ
يَهْلِكُ مِنَ الْفِرِنْجِ الْمِائَةُ وَالْمِائَتَانِ وَاسْتَأْمَنَ إِلَى
السُّلْطَانِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مِنْ شِدَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجُوعِ
وَالضِّيقِ وَالْحَصْرِ وَأَسْلَمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ قَدِمَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ عَلَى السُّلْطَانِ وَكَانَ
قَدْ
طَالَ شَوْقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَأَفْضَى كُلٌّ مِنْهُمَا
إِلَى الْآخَرِ مَا كَانَ يُسِرُّهُ وَيَكْتُمُهُ مِنَ الْآرَاءِ الَّتِي فِيهَا
مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ وَقَدِمَ وَزِيرُ الصِّدْقِ عَلَى السُّلْطَانِ
الْمُوَفَّقِ وَالْأَمِيرِ الْمُؤَيَّدِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
مَلِكُ الْأَلْمَانِ الَّذِي أَقْبَلَ فِي مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ وَيُقَالُ:
فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ مِنْ أَقْصَى بِلَادِهِ فَاجْتَازَ
بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْبُلْدَانِ يُرِيدُ انْتِزَاعَ
بِلَادِ الشَّامِ بِكَمَالِهَا مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ انْتِصَارًا فِي
زَعْمِهِ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ الَّذِي اسْتَنْقَذَهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ
مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ فَلَمْ يَزَلِ اللَّعِينُ يَتَنَاقَصُ جَيْشُهُ
وَيَتَفَانَوْا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَمَوْضِعٍ وَقدَّرَ اللَّهُ هَلَاكَهُ
بِالْغَرَقِ كَمَا أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ
أَنَّهُ نَزَلَ يَسْبَحُ فِي بَعْضِ الْأَنْهَارِ فَاحْتَمَلَهُ الْمَاءُ قَسْرًا
فَأَلْجَأَهُ إِلَى جِذْعِ شَجَرَةٍ هُنَاكَ فَشَدَخَتْ رَأْسَهُ وَمَاتَ مِنْ
سَاعَتِهِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - فَمَلَّكَ الْأَلْمَانُ عَلَيْهِمُ ابْنَهُ
الْأَصْغَرَ وَأَقْبَلَ بِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ وَأَمْرُهُ قَدْ تَقَهْقَرَ،
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ وَصَلُوا إِلَى إِخْوَانِهِمْ بِعَكَّا فِي خَمْسَةِ
آلَافِ مُقَاتِلٍ وَقِيلَ: فِي أَلْفِ مُقَاتِلٍ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ قَدْ
حَمَلُوا مِنْ قُدُومِهِمْ هَمًّا عَظِيمًا وَخَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا فَكَفَى
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ثُمَّ
تُوُفِّيَ ابْنُهُ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو حَامِدٍ قَاضِي الْقُضَاةِ بِالْمَوْصِلِ مُحْيِي
الدِّينِ
ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ كَمَالِ الدِّينِ الشَّهْرُزُورِيُّ الشَّافِعِيُّ
أَثْنَى عَلَيْهِ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ وَأَنْشَدَ لَهُ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلَهُ:
قَامَتْ بِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ أَدِلَّةٌ قَصَمَتْ ظُهُورَ أَئِمَّةِ
التَّعْطِيلِ وَطَلَائِعُ التَّنْزِيهِ لَمَّا أَقْبَلَتْ
هَزَمَتْ ذَوِي التَّشْبِيهِ وَالتَّمُثِيلِ فَالْحَقُّ مَا صِرْنَا إِلَيْهِ
جَمِيعُنَا
بِأَدِلَّةِ الْأَخْبَارِ وَالتَّنْزِيلِ مَنْ لَمْ يَكُنْ بِالشَّرْعِ
مُقْتَدِيًا فَقَدْ
أَلْقَاهُ فَرْطُ الْجَهْلِ فِي التَّضْلِيلِ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ مَلِكُ الْإِفْرَنْسِيسِ وَمَلِكُ إِنْكِلْتِرَا وَغَيْرُهُمَا مِنْ
مُلُوكِ الْبَحْرِ عَلَى الْفِرِنْجِ إِلَى عَكَّا وَتَمَالَئُوا عَلَى عَكَّا فِي
هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ وَقَدِ اسْتُهِلَّتْ وَالْحِصَارُ
عَلَى عَكَّا عَلَى حَالِهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَقَدِ اسْتُكْمِلَ دُخُولُ
الْبَدَلِ إِلَى الْبَلَدِ وَالْمَلِكُ الْعَادِلُ مُخَيِّمٌ إِلَى جَانِبِ
الْبَحْرِ لِيَتَكَامَلَ دُخُولُهُمْ وَدُخُولُ مِيرَتِهِمْ - لَطَفَ اللَّهُ
بِهِمْ - وَفِي لَيْلَةِ مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ
مِنْ عَكَّا فَهَجَمُوا عَلَى مُخَيَّمِ الْفِرِنْجِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا وَسَبَوْا وَنَهَبُوا شَيْئًا كَثِيرًا سَبَوْا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ
امْرَأَةً وَانْكَسَرَ مَرْكَبٌ عَظِيمٌ لِلْفِرِنْجِ فَغَرِقَ فِيهِ خَلْقٌ
مِنْهُمْ وَأُسِرَ بَاقِيهِمْ وَأَغَارَ صَاحِبُ حِمْصَ أَسَدُ الدِّينِ
شِيرَكُوهْ بْنُ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ شِيرَكُوهْ عَلَى سَرْحَ
الْفِرِنْجِ بِأَرَاضِي طَرَابُلُسَ فَاسْتَاقَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ
الْخُيُولِ وَالْأَبْقَارِ وَالْأَغْنَامِ وَظَفِرَ الْيَزَكُ بِخَلْقٍ كَثِيرٍ
مِنَ الْفِرِنْجِ فَقَتَلُوهُمْ وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى
طَوَاشِيٍّ صَغِيرٍ عَثَرَ بِهِ فَرَسُهُ وَفِي ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
وَصَلَ إِلَى الْفِرِنْجِ مَلِكُ إِفْرَنْسِيسَ فِلِيبُ فِي سِتِّ بُطُسٍ
مَلْعُونَةٍ مَشْحُونَةٍ بِعَبَدَةِ الصَّلِيبِ وَحِينَ وَصَلَ إِلَيْهِمْ
وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ مِنْ مُلُوكِهِمْ مَعَهُ كَلَامٌ وَلَا
حُكْمٌ لِعَظَمَتِهِ عِنْدَهُمْ وَقَدِمَ مَعَهُ بَازٌ عَظِيمٌ أَبْيَضُ وَهُوَ
الْبَازُ الْأَشْهَبُ الْهَائِلُ فَطَارَ مِنْ يَدِهِ فَسَقَطَ عَلَى سُورِ عَكَّا
فَأَمْسَكَهُ أَهْلُهَا وَبَعَثُوا بِهِ إِلَى
السُّلْطَانِ
فَبَذَلَ الْفِرِنْجُ فِيهِ أَلْفَ دِينَارٍ فَلَمْ يُجَابُوا وَقَدِمَ بَعْدَهُ
كُنْدِفْرِيرُ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ مُلُوكِهِمْ أَيْضًا وَوَصَلَتْ سُفُنُ
مَلِكِ الْإِنْكِلْتِيرِ وَلَمْ يَجِئْ هُوَ لِاشْتِغَالِهِ بِجَزِيرَةِ قُبْرُسَ
وَأَخْذِهَا مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا وَتَوَاصَلَتْ مُلُوكُ الْإِسْلَامِ مِنْ
بُلْدَانِهَا فِي أَوَّلِ فَصْلِ الرَّبِيعِ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ
النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ.
قَالَ الْعِمَادُ: وَقَدْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ لُصُوصٌ يَدْخُلُونَ إِلَى
خِيَامِ الْفِرِنْجِ فَيَسْرِقُونَ حَتَّى إِنَّهُمْ يَسْرِقُونَ الرِّجَالَ
فَاتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَهَمْ أَخَذَ صَبِيًّا رَضِيعًا مِنْ مَهْدِهِ ابْنَ
ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَوَجَدَتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ وَجْدًا عَظِيمًا، وَاشْتَكَتْ
إِلَى مُلُوكِهِمْ فَقَالُوا لَهَا: إِنَّ سُلْطَانَ الْمُسْلِمِينَ رَحِيمُ
الْقَلْبِ، وَقَدْ أَذِنَّا لَكِ أَنْ تَذْهَبِي إِلَيْهِ فَتَشْتَكِي أَمْرَكِ إِلَيْهِ.
قَالَ الْعِمَادُ: فَجَاءَتْ إِلَى السُّلْطَانِ وَأَنَا وَاقِفٌ مَعَهُ فَبَكَتْ
بُكَاءً شَدِيدًا وَجَعَلَتْ تُمَرِّغُ وَجْهَهَا عَلَى الْأَرْضِ فَسَأَلَهَا
عَنْ أَمْرِهَا. فَأَنْهَتْ إِلَيْهِ حَالَهَا فَرَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً
حَتَّى دَمَعَتْ عَيْنُهُ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ وَلَدِهَا فَإِذَا هُوَ قَدْ
بِيعَ فِي السُّوقِ، فَرَسَمَ بِدَفْعِ ثَمَنِهِ إِلَى الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَزَلْ
وَاقِفًا حَتَّى جِيءَ بِالْغُلَامِ، فَأَخَذَتْهُ أُمُّهُ وَأَرْضَعَتْهُ سَاعَةً
وَهِيَ تَبْكِي مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهَا وَشَوْقِهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ
بِحَمْلِهَا إِلَى قَوْمِهَا عَلَى فَرَسٍ مُكَرَّمَةً رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَبَلَّ بِالرَّأَفَةِ ثَرَاهُ.
فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الْعَدُوِّ الْمَخْذُولِ مَدِينَةَ عَكَّا مِنْ
يَدِ السُّلْطَانِ قَسْرًا
لَمَّا كَانَ شَهْرُ جُمَادَى الْأُولَى اشْتَدَّ حِصَارُ الْفِرِنْجِ -
لَعَنَهُمُ اللَّهُ - لَعَكَّا وَتَمَالَئُوا عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ
وَقَدِمَ عَلَيْهِمْ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ فِي جَمٍّ غَفِيرٍ
وَجَمْعٍ كَثِيرٍ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ قِطْعَةً مَشْحُونَةً بِالْمُقَاتِلَةِ وَابْتُلِيَ أَهْلُ الثَّغْرِ مِنْهُ بِبَلَاءٍ لَا يُشْبِهُ مَا قَبْلَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ حُرِّكَتِ الْكُوسَاتُ فِي الْبَلَدِ، وَكَانَتْ عَلَامَةَ مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ فَحَرَّكَ السُّلْطَانُ كُوسَاتِهِ وَاقْتَرَبَ مِنَ الْبَلَدِ وَتَحَوَّلَ إِلَى قَرِيبٍ مِنْهُمْ لِيَشْغَلَهُمْ عَنِ الْبَلَدِ وَقَدْ أَحَاطُوا بِهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَنَصَبُوا عَلَيْهِ سَبْعَةَ مَجَانِيقَ وَهَى تَضْرِبُ فِي الْبَلَدِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا سِيَّمَا عَلَى بُرْجِ عَيْنِ الْبَقَرِ حَتَّى أَثَّرَتْ بِهِ أَثَرًا بَيِّنًا، وَشَرَعُوا فِي رَدْمِ الْخَنْدَقِ بِمَا أَمْكَنَهُمْ مِنْ دَوَابَّ مَيْتَةٍ وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَمَنْ مَاتَ أَيْضًا، وَقَابَلَهُمْ أَهْلُ الْبَلَدِ يَنْقُلُونَ مَا أَلْقَوْهُ فِيهِ إِلَى الْبَحْرِ وَظَفِرَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ بِبُطْسَةٍ عَظِيمَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ قَدْ أَقْبَلَتْ مِنْ بَيْرُوتَ مَشْحُونَةً بِالْأَمْتِعَةِ وَالْأَسْلِحَةِ فَأَخَذَهَا وَكَانَ وَاقِفًا فِي الْبَحْرِ فِي أَرْبَعِينَ مَرْكِبًا لَا يَتْرُكُ شَيْئًا يَصِلُ إِلَى الْبَلَدِ بِالْكُلِّيَّةِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَكَانَ فِيهَا سِتُّمِائَةٍ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ الصَّنَادِيدِ الْأَبْطَالِ فَهَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ، فَإِنَّهُ لَمَّا أُحِيطَ بِهِمْ مِنَ الْجَوَانِبِ كُلِّهَا وَتَحَقَّقُوا إِمَّا الْغَرَقَ أَوِ الْقَتْلَ خَرَقُوا مِنْ جَوَانِبِهَا كُلِّهَا فَغَرِقَتْ وَلَمْ يَقَدْرِ الْفِرِنْجُ عَلَى أَخْذِ شَىْءٍ مِنْهَا لَا مِنَ الْمِيرَةِ وَلَا مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَحَزِنَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذَا الْمُصَابِ حُزْنًا عَظِيمًا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ وَلَكِنْ جَبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْبَلَاءَ بِأَنْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ لِلْفِرِنْجِ دَبَّابَةً كَانَتْ أَرْبَعَ طَبَقَاتٍ ; الْأُولَى مِنْ خَشَبٍ وَالثَّانِيَةُ مِنْ رَصَاصٍ وَالثَّالِثَةُ مِنْ حَدِيدٍ وَالرَّابِعَةُ مِنْ نُحَاسٍ وَهِيَ مُشْرِفَةٌ عَلَى السُّورِ وَالْمُقَاتِلَةُ فِيهَا وَقَدْ قَلِقَ أَهْلُ الْبَلَدِ مِنْهَا بِحَيْثُ حَدَّثَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنْ شَرِّهَا بِأَنْ يَطْلُبُوا الْأَمَانَ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَيُسَلِّمُوا الْبَلَدَ فَفَرَّجَ اللَّهُ وَأَمْكَنَهُمْ مِنْ حَرِيقِهَا وَاتَّفَقَ ذَلِكَ
فِي
هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي غَرِقَتْ فِيهِ الْبُطْسَةُ الْمَذْكُورَةُ فَأَرْسَلَ
أَهْلُ الْبَلَدِ إِلَى السُّلْطَانِ يَشْكُونَ كَثْرَةَ الْحِصَارِ وَقُوَّتَهُ
عَلَيْهِمْ مُنْذُ قَدِمَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَمَعَ
هَذَا قَدْ مَرِضَ وَجُرِحَ مَلِكُ الْإِفْرِنْسِيسِ أَيْضًا وَلَا يَزِيدُهُمْ
ذَلِكَ إِلَّا شِدَّةً وَغِلْظَةً وَعُتُوًّا وَفَارَقَهُمُ الْمَرْكِيسُ وَسَارَ
إِلَى بَلَدِهِ صُورَ خَوْفًا مِنْهُمْ أَنْ يُخْرِجُوا مُلْكَهَا مِنْ يَدِهِ
وَبَعَثَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ إِلَى السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ يَذْكُرُ
أَنَّ عِنْدَهُ جَوَارِحَ قَدْ جَاءَ بِهَا مِنَ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ
إِرْسَالِهَا إِلَيْهِ وَلَكِنَّهَا قَدْ ضَعُفَتْ وَهُوَ يَطْلُبُ لَهُ دَجَاجًا
وَطَيْرًا لِتَتَقَوَّى بِهِ، فَعَرَفَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَطْلُبُ ذَلِكَ
لِنَفْسِهِ بِتَلَطُّفٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَرَمًا
وَسَجِيَّةً وَحِشْمَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ يَطْلُبُ فَاكِهَةً وَثَلْجًا، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ أَيْضًا فَلَمْ يُفِدْ مَعَهُ الْإِحْسَانُ بَلْ لَمَّا عُوفِيَ عَادَ
إِلَى شَرٍّ مِمَّا كَانَ، وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ لَيْلًا وَنَهَارًا وَأَرْسَلَ
مَنْ بِالْبَلَدِ يَقُولُونَ: إِنْ تَعْمَلُوا مَعَنَا شَيْئًا غَدًا وَإِلَّا
طَلَبْنَا مِنَ الْفِرِنْجِ الْأَمَانَ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى السُّلْطَانِ،
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَيَّرَ إِلَيْهَا أَسْلِحَةَ الشَّامِ
وَالدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ وَسَائِرَ السَّوَاحِلِ وَمَا كَانَ غَنِمَهُ مِنْ
وَقْعَةِ حِطِّينَ وَمِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَهِيَ مَشْحُونَةٌ بِذَلِكَ
فَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى مُهَاجَمَةِ الْعَدُوِّ فَلَمَّا أَصْبَحَ رَكِبَ فِي
جَيْشِهِ، فَرَأَى الْفِرِنْجَ قَدْ رَكِبُوا مِنْ وَرَاءِ خَنْدَقِهِمْ
وَالرَّجَّالَةُ مِنْهُمْ قَدْ ضَرَبُوا سُورًا حَوْلَ الْفُرْسَانِ، وَهُمْ
قِطْعَةٌ مِنْ حَدِيدٍ صَمَّاءَ لَا يَنْفُذُهَا شَيْءٌ فَأَحْجَمَ عَنْهُمْ،
لِمَا يَعْلَمُ مِنْ نُكُولِ جَيْشِهِ عَمَّا يُرِيدُهُ وَتَحْدُوهُ عَلَيْهِ
شَجَاعَتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
هَذَا وَقَدِ اشْتَدَّ الْحِصَارُ بِالْبَلَدِ جِدًّا، وَدَخَلَتِ الرَّجَّالَةُ
مِنْهُمْ إِلَى الْخَنْدَقِ وَعَلَّقُوا بَدَنَةً مِنَ السُّورِ وَحَشَوْهَا
وَأَحْرَقُوهَا فَسَقَطَتْ وَدَخَلَتِ الْفِرِنْجُ إِلَى الْبَلَدِ فَمَانَعَهُمُ
الْمُسْلِمُونَ، وَقَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ الْقِتَالِ وَقَتَلُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ
سِتَّةَ أَنْفُسٍ فَاشْتَدَّ حَنَقُ الْفِرِنْجِ عَلَيْهِمْ جِدًّا بِسَبَبِ ذَلِكَ
وَجَاءَ اللَّيْلُ فَحَالَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فَلَمَّا
أَصْبَحَ الصَّبَاحُ خَرَجَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَلَدِ سَيْفُ الدِّينِ الْمَشْطُوبُ فَاجْتَمَعَ بِمَلِكِ الْإِفْرِنْسِيسِ وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيَتَسَلَّمُونَ مِنْهُ الْبَلَدَ فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ وَقَالَ: بَعْدَمَا سَقَطَ السُّورُ جِئْتَ تَطْلُبُ الْأَمَانَ! فَأَغْلَظَ لَهُ الْأَمِيرُ الْمَشْطُوبُ فِي الْكَلَامِ وَرَجَعَ إِلَى الْبَلَدِ فِي حَالَةٍ اللَّهُ بِهَا عَلِيمٌ، وَلَمَّا أُخْبِرَ أَهْلُ الْبَلَدِ خَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا لِمَا وَقَعَ وَأَرْسَلُوا إِلَى السُّلْطَانِ يُعْلِمُونَهُ بِمَا وَقَعَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُسْرِعُوا الْخُرُوجَ مِنَ الْبَلَدِ فِي الْبَحْرِ وَلَا يَتَأَخَّرُوا عَنْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَلَا يَبْقَى بِهَا مُسْلِمٌ فَتَشَاغَلَ كَثِيرٌ مِمَّنْ كَانَ بِهَا فِي جَمْعِ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَسْلِحَةِ وَتَأَخَّرُوا عَنِ الْمَسِيرِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَمَا أَصْبَحَ الْخَبَرُ إِلَّا عِنْدَ الْفِرِنْجِ مِنْ مَمْلُوكَيْنِ صَغِيرَيْنِ سَمِعَا بِمَا رَسَمَ بِهِ السُّلْطَانُ فَهَرَبَا إِلَى قَوْمِهِمَا فَأَخْبَرُوهُمْ بِذَلِكَ، فَاحْتَفَظُوا عَلَى الْبَحْرِ احْتِفَاظًا عَظِيمًا فَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يَتَحَرَّكَ بِحَرَكَةٍ وَلَا خَرَجَ مِنْهَا شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَزَمَ السُّلْطَانُ عَلَى كَبْسِ الْعَدُوِّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَلَمْ يُوَافِقْهُ الْجَيْشُ عَلَى ذَلِكَ وَقَالُوا لَا نُخَاطِرُ بِالْإِسْلَامِ كُلِّهِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ بَعَثَ إِلَى مُلُوكِ الْفِرِنْجِ يَطْلُبُ مِنْهُمُ الْأَمَانَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ عَلَى أَنْ يُطْلِقَ عِدَّتَهُمْ مِنَ الْأَسْرَى الَّذِينَ تَحْتَ يَدِهِ مِنَ الْفِرِنْجِ، وَيَزِيدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ صَلِيبَ الصَّلَبُوتِ فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يُطْلِقَ كُلَّ أَسِيرٍ تَحْتَ يَدِهِ، وَيُطْلِقَ لَهُمْ جَمِيعَ الْبِلَادِ السَّاحِلِيَّةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَأَبَى ذَلِكَ وَتَرَدَّدَتِ الْمُرَاسَلَاتُ فِي ذَلِكَ وَالْحِصَارُ يَتَزَايَدُ عَلَى أَسْوَارِ الْبَلَدِ وَقَدْ تَهَدَّمَتْ ثُلَمٌ كَثِيرَةٌ وَأَعَادَ الْمُسْلِمُونَ كَثِيرًا مِنْهَا وَسَدُّوا ثَغْرَ تِلْكَ الْأَمَاكِنِ بِنُحُورِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَصَبَرُوا صَبْرًا عَظِيمًا، وَصَابَرُوا ثُمَّ كَانَ آخِرَ أَمْرِهِمُ الشَّهَادَةُ صَبْرًا وَقَدْ كَتَبُوا إِلَى السُّلْطَانِ فِي آخِرِ أَمْرِهِمْ يَقُولُونَ: يَا مَوْلَانَا لَا تَخْضَعْ لِهَؤُلَاءِ الْمَلَاعِينِ الَّذِينَ قَدْ أَبَوْا عَلَيْكَ الْإِجَابَةَ فِينَا، فَقَدْ بَايَعْنَا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْجِهَادِ حَتَّى نُقْتَلَ عَنْ آخِرِنَا وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
فَلَمَّا
كَانَ وَقْتُ الظُّهْرِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَا شَعَرَ النَّاسُ إِلَّا وَقَدِ ارْتَفَعَتْ أَعْلَامُ
الْكُفْرِ وَصُلْبَانُهُ وَشِعَارُهُ وَنَارُهُ عَلَى أَسْوَارِ الْبَلَدِ وَصَاحَ
الْفِرِنْجُ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَعَظُمَتِ الْمُصِيبَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،
وَاشْتَدَّ حُزْنُ الْمُوَحِّدِينَ وَانْحَصَرَ كَلَامُ الْعُقَلَاءِ فِي النَّاسِ
فِي: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَغَشِيَ النَّاسَ بَهْتَةٌ
عَظِيمَةٌ وَحَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ وَوَقَعَ فِي الْعَسْكَرِ الصِّيَاحُ وَالْعَوِيلُ
وَالْبُكَاءُ وَالنَّحِيبُ وَدَخَلَ الْمَرْكِيسُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَقَدْ
عَادَ إِلَيْهِمْ سَرِيعًا بِهَدَايَا إِلَى الْمُلُوكِ، فَدَخَلَ فِي هَذَا
الْيَوْمِ بِأَرْبَعَةِ أَعْلَامٍ لِلْمُلُوكِ فَنَصَبَهَا فِي الْبَلَدِ وَاحِدًا
عَلَى الْمِئْذَنَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَآخَرَ عَلَى الْقَلْعَةِ وَآخَرَ عَلَى
بُرْجِ الدَّاوِيَّةِ وَآخَرَ عَلَى بُرْجِ الْقِتَالِ عِوَضًا عَنْ أَعْلَامِ
السُّلْطَانِ، وَتَحَيَّزَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ بِهَا إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ
الْبَلَدِ مُعْتَقَلِينَ مُحْتَاطٌ بِهِمْ مُضَيَّقٌ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ أُسِرَتِ
النِّسَاءُ وَالْأَبْنَاءُ وَغُنِمَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَقُيِّدَتِ الْأَبْطَالُ
وَأُهِينَ الرِّجَالُ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَأَمَرَ السُّلْطَانُ أَيَّدَهُ اللَّهُ الْجَيْشَ بِالتَّأَخُّرِ عَنْ هَذِهِ
الْمَنْزِلَةِ الْمُضَايَقَةِ إِلَى الَّتِي بَعْدَهَا وَتَأَخَّرَ هُوَ جَرِيدَةً؛
لِيَنْظُرَ مَاذَا يَصْنَعُونَ، وَمَا عَلَيْهِ يُعَوِّلُونَ وَهُمْ - لَعَنَهُمُ
اللَّهُ - بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْبَلَدِ مَشْغُولُونَ، وَبِتَحْصِيلِ
الْأَمْوَالِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا مَدْهُوشُونَ ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى
الْعَسْكَرِ وَعِنْدَهُ مِنَ الْحُزْنِ وَالْهَمِّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَجَاءَتِ الْمُلُوكُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَالْأُمَرَاءُ
وَكُبَرَاءُ الدَّوْلَةِ يُعَزُّونَهُ فِيمَا وَقَعَ، وَيَسَلُونَهُ عَمَّا عَنْهُ
الْحَالُ انْقَشَعَ، ثُمَّ رَاسَلَ مُلُوكَ الْفِرِنْجِ فِي خَلَاصِ مَنْ
بِأَيْدِيهِمْ مِنْ أُسَارَى الْإِسْلَامِ فَطَلَبُوا مِنْهُ عِدَّتَهُمْ مِنْ
أُسَارَاهُمْ وَمِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَصَلِيبَ الصَّلَبُوتِ إِنْ كَانَ
بَاقِيًا، فَأَرْسَلَ فَأَحْضَرَ الْمَالَ وَالصَّلِيبَ، وَلَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ
مِنَ الْأُسَارَى إِلَّا سِتُّمِائَةِ أَسِيرٍ فَطَلَبَ الْفِرِنْجُ مِنْهُ أَنْ
يُرِيَهُمُ الصَّلِيبَ مِنْ بَعِيدٍ فَلَمَّا
رُفِعَ
لَهُمْ سَجَدُوا لَهُ وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ إِلَى الْأَرْضِ وَبَعَثُوا
يَطْلُبُونَ مِنْهُ مَا أَحْضَرَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْأُسَارَى فَامْتَنَعَ
إِلَّا أَنْ يُرْسِلُوا إِلَيْهِ مَنْ بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأُسَارَى أَوْ
يَبْعَثُوا لَهُ بِرَهَائِنَ عِنْدَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا: لَا وَلَكِنْ
يُرْسِلُ ذَلِكَ وَيَرْضَى بِأَمَانَتِنَا، فَفَهِمَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ
يُرِيدُونَ الْغَدْرَ وَالْمَكْرَ فَلَمْ يُرْسِلْ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَ
بِرَدِّ الْأُسَارَى إِلَى أَهْلِيهِمْ بِدِمَشْقَ وَبَعَثَ بِالصَّلِيبِ إِلَى
دِمَشْقَ مُهَانًا وَأَبْرَزَتِ الْفِرِنْجُ خِيَامَهُمْ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ
وَأَحْضَرُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ
رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَأَوْقَفُوهُمْ بَعْدَ الْعَصْرِ وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ
حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَقَتَلُوهُمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُمْ
وَجَعَلَ الْجَنَّاتِ مُنْقَلَبَهُمْ، وَلَمْ يَسْتَبْقُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
إِلَّا أَمِيرًا أَوْ سَرِيًّا أَوْ مَنْ يَرَوْنَهُ فِي عَمَلِهِمْ قَوِيًّا أَوِ
امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا، وَكَانَ مَا كَانَ وَقُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ
تَسْتَفْتِيَانِ وَكَانَ مُدَّةُ مُقَامِ السُّلْطَانِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى
عَكَّا صَابِرًا مُصَابِرًا مُرَابِطًا سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، وَجُمْلَةُ
مَنْ قُتِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ خَمْسِينَ أَلْفًا.
فَصْلٌ فِيمَا جَرَى مِنَ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَخْذِ الْفِرِنْجِ عَكَّا
سَارُوا بَرُمَّتِهِمْ قَاصِدِينَ عَسْقَلَانَ وَالسُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ
يُسَايِرُهُمْ وَيُعَارِضُهُمْ مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً، وَالْمُسْلِمُونَ
يَتَخَطَّفُونَهُمْ وَيَسْلُبُونَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ
وَكُلُّ
أَسِيرٍ أُتِيَ بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ يَأْمُرُ بِقَتْلِهِ فِي ذَلِكَ
الْمَكَانِ وَالْأَوَانِ وَجَرَتْ بَيْنَ الْجَيْشَيْنِ وَقَعَاتٌ مُتَعَدِّدَاتٌ
ثُمَّ طَلَبَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ أَنْ يَجْتَمِعَ بِالْمَلِكِ الْعَادِلِ
أَخِي السُّلْطَانِ يَطْلُبُ مِنْهُ الصُّلْحَ وَالْأَمَانَ عَلَى أَنْ تُعَادَ
لِأَهْلِهَا بِلَادُ السَّاحِلِ، فَقَالَ لَهُ الْعَادِلُ: إِنَّ دُونَ ذَلِكَ
قَتْلُ كُلِّ فَارِسٍ مِنْكُمْ وَرَاجِلٍ فَغَضِبَ اللَّعِينُ وَنَهَضَ مِنْ
عِنْدِهِ وَهُوَ مُتَغَضِّبٌ، ثُمَّ اجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ عَلَى حَرْبِ
السُّلْطَانِ عِنْدَ غَابَةِ أَرْسُوفَ 72 فَكَانَتِ النُّصْرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ
فَقُتِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ عِنْدَ غَابَةِ أَرْسُوفَ أُلُوفٌ بَعْدَ أُلُوفٍ
وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ الْجَيْشُ
فَرَّ عَنِ السُّلْطَانِ فِي أَوَّلِ الْوَاقِعَةِ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى
سَبْعَةَ عَشَرَ مُقَاتِلًا، وَهُوَ ثَابِتٌ صَابِرٌ وَالْكُوسُ تُدَقُّ لَا
تَفْتُرُ وَالْأَعْلَامُ مَنْشُورَةٌ ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ فَكَانَتِ
النُّصْرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْكَرَّةُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
ثُمَّ تَقَدَمَّ السُّلْطَانُ بِعَسَاكِرِهِ فَنَزَلَ ظَاهِرَ عَسْقَلَانَ
فَأَشَارَ ذَوُو الرَّأْيِ عَلَى السُّلْطَانِ بِتَخْرِيبِ عَسْقَلَانَ خَشْيَةَ
أَنْ يَتَمَلَّكَهَا الْكُفَّارُ وَيَجْعَلُوهَا وَسِيلَةً إِلَى أَخْذِ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ - صَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْ يَجْرِي عِنْدَهَا مِنَ الْحَرْبِ
وَالْقِتَالِ نَظِيرُ مَا كَانَ عِنْدَ عَكَّا أَوْ أَشَدُّ فَبَاتَ السُّلْطَانُ
لَيْلَتَهُ مُفَكِّرًا فِي ذَلِكَ، وَلَمَّا أَصْبَحَ وَقَدْ أَوْقَعَ اللَّهُ فِي
قَلْبِهِ أَنَّ خَرَابَهَا هُوَ الْمَصْلَحَةُ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِمَنْ حَضَرَهُ
وَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَمَوْتُ جَمِيعِ أَوْلَادِي أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ
تَخْرِيبِ حَجَرٍ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ هَذَا فِيهِ مُصْلِحَةٌ
لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
ثُمَّ طَلَبَ الْوُلَاةَ وَأَمَرَهُمْ بِتَخْرِيبِ الْبَلَدِ سَرِيعًا قَبْلَ
وُصُولِ الْعَدُوِّ الْمَخْذُولِ
فَشَرَعَ
النَّاسُ فِي خَرَابِهِ، وَأَهْلُهُ وَمَنْ حَضَرَهُ يَتَبَاكُونَ عَلَى حُسْنِهِ
وَطِيبِ مَقِيلِهِ وَكَثْرَةِ زُرُوعِهِ وَثِمَارِهِ وَغَزَارَةِ أَنْهَارِهِ
وَنَضَارَةِ أَزْهَارِهِ، وَأُلْقِيَتِ النِّيرَانُ فِي أَرْجَائِهِ وَجَوَانِبِهِ
وَخُرِّبَتْ قُصُورُهُ وَدُورُهُ وَأَسْوَاقُهُ وَرِحَابُهُ، وَأُتْلِفَ مَا فِيهِ
مِنَ الْغَلَّاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ تَحْوِيلُهَا وَلَا نَقْلُهَا، وَلَمْ
يَزَلِ الْخَرَابُ وَالْحَرِيقُ فِيهِ إِلَى سَلْخِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
ثُمَّ رَحَلَ السُّلْطَانُ مِنْهَا فِي ثَانِي رَمَضَانَ وَقَدْ تَرَكَهَا قَاعًا
صَفْصَفًا لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ، ثُمَّ اجْتَازَ بِالرَّمْلَةِ
فَخَرَّبَ حِصْنَهَا وَخَرَّبَ كَنِيسَةَ لُدَّ وَزَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ
وَعَادَ إِلَى الْمُخَيَّمِ سَرِيعًا - تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ - ثُمَّ بَعَثَ
مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ إِلَى السُّلْطَانِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ الْأَمْرَ قَدْ
طَالَ وَهَلَكَ الْفِرِنْجُ وَالْمُسْلِمُونَ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُنَا ثَلَاثَةُ
أَشْيَاءَ لَا سِوَاهَا: رَدُّ الصَّلِيبِ وَبِلَادِ السَّاحِلِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ
لَا نَرْجِعُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَمِنَّا عَيْنٌ تَطْرِفُ فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ السُّلْطَانُ جَوَابَ ذَلِكَ أَشَدَّ جَوَابٍ وَأَسْوَأَ خِطَابٍ، ثُمَّ
عَزَمَتِ الْفِرِنْجُ عَلَى قَصْدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَتَقَدَّمَ السُّلْطَانُ
بِجَيْشِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَتَرَكَهُ وَسَكَنَ فِي دَارِ الْقَسَاقِسِ
قَرِيبًا مِنْ قُمَامَةُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَشَرَعَ فِي تَحْصِينِ الْبَلَدِ
وَتَعْمِيقِ خَنَادِقِهِ وَعَمِلَ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ وَعَمِلَ فِيهِ
الْأُمَرَاءُ وَالْقُضَاةُ وَالْعُلَمَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ بِأَنْفُسِهِمْ،
وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا، وَالْيَزَكُ حَوْلَ الْبَلَدِ مِنْ نَاحِيَةِ
الْفِرِنْجِ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يَسْتَظْهِرُونَ عَلَى الْفِرِنْجِ فَيَقْتُلُونَ
وَيَأْسِرُونَ وَيَغْنِمُونَ مِنْهُمْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَانْقَضَتْ
هَذِهِ السَّنَةُ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ تَوَلَّى الْقَاضِي
مُحْيِي الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الزَّكِيِّ قَضَاءَ دِمَشْقَ.
وَفِيهَا
عَدَا أَمِيرُ مَكَّةَ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى بْنِ فُلَيْتَةَ بْنِ قَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ الْحَسَنِيُّ فَأَخَذَ أَمْوَالَ الْكَعْبَةِ حَتَّى
انْتَزَعَ طَوْقًا مِنْ فِضَّةٍ كَانَ عَلَى دَائِرَةِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ،
كَانَ قَدْ لُمَّ شَعَثُهُ حِينَ ضَرَبَهُ ذَلِكَ الْقِرْمِطِيُّ بِالدَّبُّوسِ فَلَمَّا
بَلَغَ السُّلْطَانَ خَبَرُهُ مِنَ الْحَجِيجِ حِينَ رَجَعُوا عَزَلَهُ، وَوَلَّى
أَخَاهُ مُكْثِرًا وَنَقَضَ الْقَلْعَةَ الَّتِي كَانَ بَنَاهَا أَخُوهُ عَلَى
جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ وَأَقَامَ دَاوُدُ بِنَخْلَةَ حَتَّى تُوُفِّيَ بِهَا
سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ
وَكَانَ عَزِيزًا عَلَى عَمِّهِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ
اسْتَنَابَهُ بِمِصْرَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ ثُمَّ أَقْطَعَهُ حَمَاةَ
وَمُدُنًا كَثِيرَةً مَعَهَا حَوْلَهَا وَمِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَكَانَ مَعَ
عَمِّهِ السُّلْطَانِ عَلَى عَكَّا ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ فِي الْإِشْرَافِ عَلَى
بِلَادِهِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْفُرَاتِ فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهَا اشْتَغَلَ بِهَا،
وَامْتَدَّتْ عَيْنُهُ إِلَى أَخْذِ غَيْرِهَا مِنْ أَيْدِي الْمُلُوكِ
الْمُجَاوِرِينَ لَهَا فَقَاتَلَهُمْ فَاتَّفَقَ مَوْتُهُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ
وَالسُّلْطَانُ النَّاصِرُ صَلَاحُ مُتَغَضِّبٌ عَلَيْهِ بِسَبَبِ اشْتِغَالِهِ
بِذَلِكَ عَنْهُ وَحُمِلَتْ جِنَازَتُهُ حَتَّى دُفِنَتْ بِحَمَاةَ وَلَهُ
مَدْرَسَةٌ هُنَاكَ هَائِلَةٌ، وَكَذَلِكَ لَهُ بِدِمَشْقَ مَدْرَسَةٌ مَشْهُورَةٌ
وَعَلَيْهَا أَوْقَافٌ كَثِيرَةٌ مَبْرُورَةٌ وَقَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ
وَلَدُهُ
الْمَنْصُورُ
نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ فَأَقَرَّهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى ذَلِكَ
بَعْدَ جُهْدٍ جَهِيدٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ، وَلَوْلَا السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
الْعَادِلُ أَبُو بَكْرٍ تَشَفَّعَ فِيهِ لَمَا اسْتَقَرَّ فِي مَكَانِ أَبِيهِ
وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ، وَكَانَتْ وَفَاةُ تَقِيِّ الدِّينِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ تَاسِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ شُجَاعًا
بَاسِلًا وَهُمَامًا فَاتِكًا كَرِيمًا كَامِلًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لَاجِينَ
أُمُّهُ سِتُّ الشَّامِ بِنْتُ أَيُّوبَ وَاقِفَةُ الشَّامِيَّتَيْنِ بِدِمَشْقَ
وَفِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ تَاسِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ أَيْضًا تَفَجَّعَ
السُّلْطَانُ بِابْنِ أَخِيهِ وَابْنِ أُخْتِهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ
كَانَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَعْوَانِ وَأَعَزِّ الْإِخْوَانِ، وَدُفِنَ حُسَامُ
الدِّينِ فِي التُّرْبَةِ الْحُسَامِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي أَنْشَأَتْهَا أُمُّهُ
بِمَحَلَّةِ الْعُوَيْنَةِ وَهِيَ الشَّامِيَّةُ الْبَرَّانِيَّةُ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ جَنْدَرٍ الْحَلَبِيُّ
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ فِي الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ، وَفِي
خِدْمَةِ السُّلْطَانِ حَيْثُ كَانَ هُوَ الذى أَشَارَ عَلَى السُّلْطَانِ
بِتَخْرِيبِ عَسْقَلَانَ وَاتَّفَقَ مَرَضُهُ بِالْقُدْسِ، فَاسْتَأْذَنَ فِي أَنْ
يُمَرَّضَ بِدِمَشْقَ فَأُذُنَ لَهُ فَسَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى غَبَاغِبَ
فَمَاتَ بِهَا فِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ.
وَفِي
رَجَبٍ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ نَائِبُ دِمَشْقَ حَرَسَهَا اللَّهُ
تَعَالَى.
الصَّفِيُّ بْنُ الْفَائِضِ
وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ قَبْلَ الْمُلْكِ ثُمَّ
اسْتَنَابَهُ عَلَى دِمَشْقَ حَتَّى تُوُفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ
رَحِمَهُ اللَّهُ
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ: الطَّبِيبُ الْمَاهِرُ الْحَاذِقُ أَسْعَدُ
بْنُ الْمُطْرَانِ
وَقَدْ شَرُفَ بِالْإِسْلَامِ وَشَكَرَهُ عَلَى طِبِّهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ
الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الْخُبُوشَانِيُّ
الَّذِي بَنَى تُرْبَةَ الشَّافِعِيِّ بِمِصْرَ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ صَلَاحِ
الدِّينِ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا الْأَوْقَافَ السَّنِيَّةَ وَوَلَّاهُ تَدْرِيسَهَا
وَنَظَرَهَا وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ يَحْتَرِمُهُ وَيُكْرِمُهُ وَقَدْ
ذَكَرْتُهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " وَمَا صَنَّفَهُ فِي
الْمَذْهَبِ مِنْ " شَرْحِ الْوَسِيطِ " وَغَيْرِهِ وَلَمَّا تُوُفِّيَ
الْخُبُوشَانِيُّ طَلَبَ التَّدْرِيسَ جَمَاعَةٌ فَشَفَعَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ
عِنْدَ أَخِيهِ لِشَيْخِ الشُّيُوخِ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمُّوَيْهِ
فَوَلَّاهُ إِيَّاهَا، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا بَعْدَ مَوْتِ السُّلْطَانِ
وَاسْتَمَرَّتْ عَلَيْهَا أَيْدِي بَنِي السُّلْطَانِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ
ثُمَّ خَلَصَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَادَتْ إِلَيْهَا الْفُقَهَاءُ
وَالْمُدَرِّسُونَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتُهِلَّتْ وَالسُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ مُخَيِّمٌ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ،
وَقَدْ قَسَّمَ السُّورَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ وَأُمَرَائِهِ وَهُوَ يَعْمَلُ فِيهِ
بِنَفْسِهِ وَيَحْمِلُ الْحَجَرَ بَيْنَ الْقَرَبُوسِ وَبَيْنَهُ، وَالنَّاسُ
يَقْتَدُونَ بِهِ وَبِالْعُلَمَاءِ، وَالْفُقَرَاءُ يَعْمَلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ،
وَالْفِرِنْجُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - حَوْلَ الْبَلَدِ مِنْ نَاحِيَةِ
عَسْقَلَانَ وَمَا وَالَاهَا لَا يَتَجَاسَرُونَ أَنْ يَتَقَرَّبُوا مِنَ
الْحَرَسِ وَالْيَزَكِ الَّذِينَ حَوْلَ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ إِلَّا أَنَّهُمْ
عَلَى نِيَّةِ مُحَاصَرَةِ الْقُدْسِ مُصَمِّمُونَ وَلِكَيْدِ الْإِسْلَامِ
مُجْمِعُونَ وَهُمْ وَالْحَرَسُ تَارَةً يَغْلِبُونَ وَتَارَةً يُغْلَبُونَ
وَتَارَةً يَنْهَبُونَ وَتَارَةً يُنْهَبُونَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ وَصَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ الْمَشْطُوبُ إِلَى
السُّلْطَانِ وَهُوَ بِالْقُدْسِ مِنَ الْأَسْرِ وَكَانَ نَائِبًا عَلَى عَكَّا
حِينَ أُخِذَتْ فَافْتَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ،
فَأَعْطَاهُ السُّلْطَانُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْهَا وَاسْتَنَابَهُ عَلَى
مَدِينَةِ نَابُلُسَ فَتُوُفِّيَ بِهَا فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ قُتِلَ الْمَرْكِيسُ صَاحِبُ صُورَ لَعَنَهُ اللَّهُ،
أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ اثْنَيْنِ مِنَ الْفِدَاوِيَّةِ
فَقَتَلُوهُ فَأَظْهَرَا التَّنَصُّرَ وَلَزِمَا الْكَنِيسَةَ حَتَّى ظَفِرَا
بِالْمَرْكِيسِ فَقَتَلَاهُ وَقُتِلَا، فَاسْتَنَابَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ
عَلَيْهَا ابْنَ أُخْتِهِ لِأُمِّهِ الْكُنْدَهِرِيَّ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ مَلِكِ
إِفْرَنْسِيسَ لِأَبِيهِ فَهُمَا خَالَاهُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَلَمَّا صَارَ
إِلَى صُورَ
ابْتَنَى
بِزَوْجَةِ الْمَرْكِيسِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِلَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ حُبْلَى
أَيْضًا وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْعَدَاوَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْإِنْكِلْتِيرِ
وَبَيْنَهُ، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ يُبْغِضُهُمَا
وَلَكِنَّهُ قَدْ كَانَ صَانَعَهُ الْمَرْكِيسُ بِبَعْضِ الشَّيْءِ فَلَمْ يَهُنْ
قَتْلُهُ عَلَيْهِ.
وَفِي تَاسِعِ جُمَادَى الْأُولَى اسْتَوْلَى الْفِرِنْجُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
عَلَى قَلْعَةِ الدَّارُومِ فَخَرَّبُوهَا وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ
أَهْلِهَا وَأَسَرُوا طَائِفَةً مِنَ الذُّرِّيَّةِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ثُمَّ أَقْبَلُوا بِخَيْلِهِمْ وَرَجِلِهِمْ جُمْلَةً نَحْوَ
الْقُدْسِ الشَّرِيفِ فَبَرَزَ إِلَيْهِمُ السُّلْطَانُ فِي حِزْبِ الْإِيمَانِ
وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الرَّجَّالَةِ وَالْفُرْسَانِ وَالْأَبْطَالِ
وَالشُّجْعَانِ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ نَكَصَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ عَلَى
عَقِبَيْهِ وَانْقَلَبُوا رَاجِعِينَ قَبْلَ الْقِتَالِ وَالنِّزَالِ وَعَادَ
السُّلْطَانُ إِلَى الْقُدْسِ وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ
وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [ الْأَحْزَابِ: 25 ] ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ
الْإِنْكِلْتِيرِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَهُوَ أَكْبَرُ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ
ذَلِكَ الْوَقْتَ ظَفِرَ بِبَعْضِ قُفُولِ الْمُسْلِمِينَ فَكَبَسَهُمْ لَيْلًا
فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ أَسِيرٍ وَغَنِمَ
مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجِمَالِ وَالْخَيْلِ
وَالْبِغَالِ فَكَانَ جُمْلَةُ الْجِمَالِ ثَلَاثَةَ آلَافِ بَعِيرٍ فَتَقَوَّى
الْفِرِنْجُ بِذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا وَسَاءَ ذَلِكَ السُّلْطَانَ مَسَاءَةً
عَظِيمَةً جِدًّا وَخَافَ مِنْ غَائِلَةِ ذَلِكَ وَاسْتَخْدَمَ الْإِنْكِلْتِيرُ
الْجَمَّالَةَ عَلَى الْجِمَالِ وَالْخَرْبَنْدِيَّةَ عَلَى الْبِغَالِ
وَالسَّاسَةَ عَلَى الْخَيْلِ، وَأَقْبَلَ وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسُهُ جِدًّا،
وَصَمَّمَ عَلَى مُحَاصَرَةِ الْقُدْسِ وَأَرْسَلَ إِلَى مُلُوكِ الْفِرِنْجِ
الَّذِينَ
بِالسَّاحِلِ
فَاسْتَحْضَرَهُمْ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ فَتَعَبَّأَ السُّلْطَانُ
لَهُمْ وَتَهَيَّأَ وَأَكْمَلَ السُّورَ وَعَمَّرَ الْخَنَادِقَ وَنَصَبَ
الْآلَاتِ وَالْمَجَانِيقَ وَأَمَرَ بِتَغْوِيرِ مَا حَوْلَ الْقُدْسِ مِنَ
الْمِيَاهِ وَأَحْضَرَ السُّلْطَانُ أُمَرَاءَهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ تَاسِعَ
عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَفِيهِمْ أَبُو الْهَيْجَاءِ السَّمِينُ
وَالْمَشْطُوبُ وَالْأَسَدِيَّةُ بِكَمَالِهِمْ وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا قَدْ
دَهَمَهُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ الْمُوجِعِ الْمُؤْلِمِ فَأَفَاضُوا فِي
ذَلِكَ وَأَشَارُوا كُلٌّ بِرَأْيهِ وَأَشَارَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ بِأَنْ
يَتَحَالَفُوا عَلَى الْمَوْتِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ
يَفْعَلُونَ فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ، هَذَا كُلُّهُ وَالسُّلْطَانُ سَاكِتٌ
وَاجِمٌ مُفَكِّرٌ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ
ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
اعْلَمُوا أَنَّكُمْ جُنْدُ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ وَمَنَعَتُهُ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَذَرَارِيَهِمْ
مُعَلَّقَةٌ فِي ذِمَمِكُمْ، فَإِنَّ هَذَا الْعَدُوَّ أَمِنَ لَهُ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ مَنْ تَلَقَّاهُ إِلَّا أَنْتُمْ فَإِنْ لَوَيْتُمْ أَعِنَّتَكُمْ
- وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - طَوَى الْبِلَادَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكِتَابِ
وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِكُمْ، فَإِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَصَدَّيْتُمْ
لِهَذَا وَأَكَلْتُمْ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ فَالْمُسْلِمُونَ فِي سَائِرِ
الْبِلَادِ مُتَعَلِّقُونَ بِكُمْ وَالسَّلَامُ
فَانْتَدَبَ لِجَوَابِهِ سَيْفُ الدِّينِ الْمَشْطُوبُ وَقَالَ: يَا مَوْلَانَا
نَحْنُ مَمَالِيكُكَ وَعَبِيدُكَ وَأَنْتَ الَّذِي أَعْطَيْتَنَا وَكَبَّرْتَنَا
وَعَظَّمْتَنَا، وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا رِقَابُنَا وَنَحْنُ بَيْنُ يَدَيْكَ،
وَاللَّهِ مَا يَرْجِعُ أَحَدٌ مِنَّا عَنْ نُصْرَتِكَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ فَقَالَ
الْجَمَاعَةُ مِثْلَ مَا قَالَ فَفَرِحَ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ وَطَابَ قَلْبُهُ
وَمَدَّ لَهُمْ سِمَاطًا حَافِلًا وَانْصَرَفُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ عَلَى
ذَلِكَ
ثُمَّ
بَلَغَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا نَخَافُ
أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْنَا فِي هَذَا الْبَلَدِ كَمَا جَرَى عَلَى أَهْلِ عَكَّا
ثُمَّ يَأْخُذُونَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ بَلَدًا بَلَدًا وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ
نَلْتَقِيَهُمْ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ فَإِنْ هَزَمْنَاهُمْ أَخَذْنَا بَقِيَّةَ
بِلَادِهِمْ وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى سَلِمَ الْعَسْكَرُ وَمَضَى الْقُدْسُ
وَقَدِ انْخَفَضَتْ بِلَادُ الْإِسْلَامِ بِدُونِ الْقُدْسِ مُدَّةً طَوِيلَةً
وَبَعَثُوا إِلَى السُّلْطَانِ يَقُولُونَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُنَا نُقِيمُ
بِالْقُدْسِ تَحْتَ حِصَارِ الْفِرِنْجِ فَكُنْ أَنْتَ مَعَنَا أَوْ بَعْضُ
أَهْلِكَ حَتَّى يَكُونَ الْجَيْشُ تَحْتَ أَمْرِكَ فَإِنَّ الْأَكْرَادَ لَا
تُطِيعُ التُّرْكَ وَالتُّرْكُ لَا تُطِيعُ الْأَكْرَادَ.
فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ شَقَّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً عَظِيمَةً وَبَاتَ لَيْلَتَهُ
أَجْمَعَ مَهْمُومًا كَئِيبًا يُفَكِّرُ فِيمَا قَالُوا ثُمَّ انْجَلَى الْأَمْرُ
وَاتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ الْأَمْجَدُ صَاحِبُ
بَعْلَبَكَّ مُقِيمًا عِنْدَهُمْ نَائِبًا عَنْهُ بِالْقُدْسِ وَكَانَ ذَلِكَ
نَهَارَ الْجُمُعَةِ فَلَمَّا حَضَرَ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَأَذَّنَ
الْمُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ
وَسَجَدَ وَابْتَهَلَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ابْتِهَالًا عَظِيمًا وَتَضَرَّعَ
إِلَى رَبِّهِ وَتَمَسْكَنَ وَسَأَلَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ كَشْفَ هَذِهِ
الضَّائِقَةِ الْعَظِيمَةِ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ مِنَ الْغَدِ جَاءَتِ الْكُتُبُ مِنَ الْحَرَسِ
حَوْلَ الْبَلَدِ بِأَنَّ الْفِرِنْجَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي
مُحَاصَرَةِ الْقُدْسِ فَقَالَ مَلِكُ الْإِفْرَنْسِيسِ: إِنَّا إِنَّمَا جِئْنَا
مِنَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ وَأَنْفَقْنَا الْأَمْوَالَ الْعَدِيدَةَ فِي
تَخْلِيصِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَرَدِّهِ إِلَيْنَا وَقَدْ بَقِيَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ مَرْحَلَةٌ فَقَالَ الْإِنْكِلْتِيرُ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ يَشُقُّ
عَلَيْنَا
حِصَارُهُ
; لِأَنَّ الْمِيَاهَ حَوْلَهُ قَدْ عُدِمَتْ وَمَتَى بَعَثْنَا مَنْ يَأْتِينَا
بِالْمَاءِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْبَعِيدَةِ تَعَطَّلَ الْحِصَارُ وَتَلِفَ
الْجَيْشُ ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنْ حَكَّمُوا عَلَيْهِمْ
ثَلَاثَمِائَةٍ مِنْهُمْ فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ
فَرَدُّوا أَمْرَهُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ فَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ
يَنْظُرُونَ ثُمَّ أَصْبَحُوا وَقَدْ حَكَمُوا عَلَيْهِمْ بِالرَّحِيلِ فَلَمْ
يُمْكِنْهُمْ مُخَالَفَتُهُمْ فَسَحَبُوا رَاجِعِينَ، - لَعَنَهُمُ اللَّهُ -
أَجْمَعِينَ فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الرَّمْلَةِ، وَقَدْ طَالَتْ
عَلَيْهِمُ الْغُرْبَةُ وَالرَّمْلَةُ وَذَلِكَ فِي بُكْرَةِ الْحَادِيَ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَبَرَزَ السُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ إِلَى
خَارِجِ الْقُدْسِ وَسَارَ نَحْوَهُمْ خَوْفًا أَنْ يَسِيرُوا إِلَى مِصْرَ
لِكَثْرَةِ مَا مَعَهُمْ مِنَ الظَّهْرِ وَالْأَمْوَالِ، وَكَانَ الْإِنْكِلْتِيرُ
يَلْهَجُ بِذَلِكَ كَثِيرًا، فَخَذَلَهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَرَدَّدَتِ
الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْكِلْتِيرِ إِلَى السُّلْطَانِ فِي طَلَبِ الصُّلْحِ
وَوَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ثَلَاثَ سِنِينَ وَعَلَى أَنْ يُعِيدَ
لَهُمْ عَسْقَلَانَ وَيَهَبَ لَهُمْ كَنِيسَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهِيَ
الْقُمَامَةُ وَأَنْ يُمَكِّنَ النَّصَارَى مِنْ زِيَارَتِهَا وَحَجِّهَا بِلَا
شَيْءٍ، فَامْتَنَعَ السُّلْطَانُ مِنْ إِعَادَةِ عَسْقَلَانَ وَأَطْلَقَ لَهُمُ
الْقُمَامَةَ وَفَرَضَ عَلَى الزُّوَّارِ مَالًا يُؤْخَذُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ
فَامْتَنَعَ الْإِنْكِلْتِيرُ إِلَّا أَنْ تُعَادَ لَهُمْ عَسْقَلَانُ وَيُعَمَّرَ
سُورُهَا كَمَا كَانَتْ فَصَمَّمَ السُّلْطَانُ عَلَى عَدَمِ الْإِجَابَةِ.
ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ حَتَّى وَافَى يَافَا فَحَاصَرَهَا حِصَارًا شَدِيدًا
فَافْتَتَحَهَا وَغَنِمَ جَيْشُهُ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا وَامْتَنَعَتِ
الْقَلْعَةُ فَبَالَغَ فِي أَمْرِهَا حَتَّى هَانَتْ وَلَانَتْ وَدَانَتْ،
وَكَادُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَيْهِ بِأَقَالِيدِهَا، وَيَأْخُذُوا الْأَمَانَ
لِكَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَشْرَقَتْ عَلَيْهِمْ
مَرَاكِبُ الْإِنْكِلْتِيرِ عَلَى وَجْهِ الْبَحْرِ فَقَوِيَتْ رُءُوسُهُمْ
وَاسْتَعْصَتْ نُفُوسُهُمْ وَهَجَمَ اللَّعِينُ فَأَعَادَ الْبَلَدَ وَقَتَلَ مَنْ
تَأَخَّرَ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَقَهْقَرَ
السُّلْطَانُ عَنْ مَنْزِلَةِ الْحِصَارِ إِلَى مَا وَرَاءَهَا خَوْفًا عَلَى
الْجَيْشِ
مِنْ مَعَرَّةِ الْفِرِنْجِ فَجَعَلَ مَلِكُ الْإِنْكِلْتِيرِ يَتَعَجَّبُ مِنْ
شِدَّةِ سَطْوَةِ السُّلْطَانِ كَيْفَ فَتَحَ مِثْلَ هَذَا الْبَلَدِ الْعَظِيمِ
فِي يَوْمَيْنِ وَغَيْرُهُ لَا يُمْكِنُهُ فَتْحُهُ فِي عَامَيْنِ وَلَكِنْ مَا
ظَنَنْتُ أَنَّهُ مَعَ شَهَامَتِهِ وَصَرَامَتِهِ يَتَأَخَّرُ مِنْ مَنْزِلَتِهِ بِمُجَرَّدِ
قُدُومِي وَأَنَا وَمَنْ مَعِي لَمْ نَخْرُجْ مِنَ الْبَحْرِ إِلَّا جَرَائِدَ
بِلَا سِلَاحٍ ثُمَّ أَلَحَّ فِي طَلَبِ الصُّلْحِ وَأَنْ تَكُونَ عَسْقَلَانُ
دَاخِلَةً فِي صُلْحِهِمْ فَامْتَنَعَ السُّلْطَانُ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ ثُمَّ
إِنَّ السُّلْطَانَ كَبَسَ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي الْإِنْكِلْتِيزَ وَهُوَ فِي
سَبْعَةَ عَشَرَ فَارِسًا وَحَوْلَهُ قَلِيلٌ مِنَ الرَّجَّالَةِ فَأَوْكَبَ
السُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ حَوْلَهُ وَحَصَرَهُ حَصْرًا لَمْ يَبْقَ لَهُ مَعَهُ
نَجَاةٌ لَوْ صَمَّمَ مَعَهُ الْجَيْشُ، وَلَكِنَّهُمْ نَكَلُوا كُلُّهُمْ عَنِ
الْجُمْلَةِ فَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ وَجَعَلَ السُّلْطَانُ يُحَرِّضُهُمْ
غَايَةَ التَّحْرِيضِ فَكُلُّهُمْ يَمْتَنِعُ كَمَا يَمْتَنِعُ الْمَرِيضُ مِنْ
شُرْبِ الدَّوَاءِ.
هَذَا وَالْإِنْكِلْتِيرُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - قَدْ رَكِبَ فِي أَصْحَابِهِ
وَأَخَذَ عُدَّةَ قِتَالِهِ وَحِرَابِهِ وَاسْتَعْرَضَ الْمَيْمَنَةَ إِلَى
أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِ الْمَيْسَرَةِ يَعْنِي مَيْمَنَةَ الْمُسْلِمِينَ
وَمَيْسَرَتَهُمْ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْفُرْسَانِ وَلَا
بَهَشَ فِي وَجْهِهِ بَطَلٌ مِنَ الشُّجْعَانِ فَعِنْدَ ذَلِكَ كَرَّ السُّلْطَانُ
رَاجِعًا وَقَدْ أَحْزَنَهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ مِنَ الْجَيْشِ مُطِيعًا وَلَا
سَامِعًا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثُمَّ حَصَلَ لِلْإِنْكِلْتِيرِ بَعْدَ ذَلِكَ مَرَضٌ شَدِيدٌ وَبَعَثَ إِلَى
السُّلْطَانِ يَطْلُبُ فَاكِهَةً وَثَلْجًا فَأَمَدَّهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ
مِنْ بَابِ الْفُتُوَّةِ وَالْإِحْسَانِ وَإِظْهَارِ الْقُوَّةِ وَالِامْتِنَانِ
ثُمَّ عُوفِيَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَتَكَرَّرَتِ الرُّسُلُ مِنْهُ يَطْلُبُ مِنَ
السُّلْطَانِ الْمُصَالَحَةَ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ شَوْقِهِ إِلَى بِلَادِهِ
وَتَوْقِهِ إِلَى مَلَاذِهِ وَطَاوَعَ السُّلْطَانَ عَلَى مَا يَقُولُ وَنَزَلَ
عَنْ طَلَبِ عَسْقَلَانَ وَرَضِيَ بِمَا رَسَمَ بِهِ السُّلْطَانُ، وَكُتِبَ
كِتابُ الصُّلْحِ عَلَى مَا رَسَمَ بِهِ السُّلْطَانُ فِي ثَامِنَ عَشَرَ
شَعْبَانَ وَأُكِّدَتِ الْعُهُودُ وَالْمَوَاثِيقُ
مِنْ
كُلِّ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِهِمْ وَأُسْقُفٍ وَجَاثَلِيقٍ، وَحَلَفَ الْأُمَرَاءُ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَتَبُوا خُطُوطَهُمْ وَاكْتُفِيَ مِنَ السُّلْطَانِ
بِالْقَوْلِ الْمُجَرَّدِ، كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ السَّلَاطِينَ وَفَرِحَ
كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فَرَحًا كَثِيرًا، وَأَظْهَرُوا سُرُورًا وَوُقِّعَتِ
الْهُدْنَةُ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ،
وَعَلَى أَنْ يُقَرَّ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِلَادِ السَّاحِلِيَّةِ
وَلِلْمُسْلِمِينَ مَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْبِلَادِ الْجَبَلِيَّةِ وَمَا
بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُعَامَلَاتِ، فَقَسْمُهَا عَلَى الْمُنَاصَفَةِ، وَأَرْسَلَ
السُّلْطَانُ مِائَةَ نِقَابٍ صُحْبَةَ أَمِيرٍ لِتَخْرِيبِ سُورِ عَسْقَلَانَ وَإِخْرَاجِ
مَنْ بِهَا مِنَ الْفِرِنْجِ وَالْأَلْمَانِ.
وَعَادَ السُّلْطَانُ إِلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ فَرَتَّبَ أَحْوَالَهُ
وَوَطَّدَهَا، وَسَدَّدَ أُمُورَهُ وَأَكَّدَهَا وَزَادَ وَقْفَ الْمَدْرَسَةِ
سُوقًا بِدَكَاكِينِهَا وَأَرْضًا بِبَسَاتِينِهَا، وَزَادَ وَقْفَ الصُّوفِيَّةِ
أَيْضًا وَعَزَمَ عَلَى الْحَجِّ عَامَهُ ذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَى الْحِجَازِ
وَالْيَمَنِ وَالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ لِيَعْلَمُوا بِذَلِكَ
وَيَتَأَهَّبُوا لَهُ فَكَتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ خَوْفًا
عَلَى الْبِلَادِ وَيَذْكُرُ لَهُ أَنَّ النَّظَرَ فِي أَحْوَالِ الْمُسْلِمِينَ
وَإِصْلَاحِ أَمْرِهِمُ الَّذِي قَدْ تَدَاعَى إِلَى الْفَسَادِ وَسَدَّ
ثُغُورِهِمْ وَمُصَابَرَةَ أَعْدَائِهِمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ، أَفْضَلُ لَكَ
مِمَّا عَزَمْتَ عَلَيْهِ فِي عَامِكَ هَذَا، وَالْعَدُوُّ الْمَخْذُولُ مُخَيِّمٌ
بَعْدُ بِالشَّامِ لَمْ يُقْلِعْ مِنْهُ مَرْكِبٌ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَأَنْتَ
تَعْلَمُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُهَادِنُونَ لِيَتَقَوَّوْا وَيَكْثُرُوا ثُمَّ
يَمْكُرُوا وَيَغْدِرُوا.
فَسَمِعَ السُّلْطَانُ مِنْهُ وَشَكَرَ نُصْحَهُ وَقَبِلَهُ، وَعَزَمَ عَلَى
تَرْكِ الْحَجِّ عَامَهُ ذَلِكَ، وَكَتَبَ بِهِ إِلَى سَائِرِ الْمَمَالِكِ
وَاسْتَمَرَّ السُّلْطَانُ مُقِيمًا بِالْقُدْسِ جَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ
فِي
صِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَقُرْآنٍ وَكُلَّمَا وَفَدَ أَحَدٌ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّصَارَى
لِلزِّيَارَةِ أَوْلَاهُ غَايَةَ الْإِكْرَامِ وَالْإِحْسَانِ تَأْلِيفًا
لِقُلُوبِهِمْ وَتَأْكِيدًا لِمَا حَلَفُوهُ مِنَ الْأَيْمَانِ، وَرَغْبَةً أَنْ
يَدْخُلَ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ
مُلُوكِهِمْ إِلَّا جَاءَ لِزِيَارَةِ الْقُمَامَةِ مُتَنَكِّرًا، وَيَحْضُرُ
سِمَاطَ السُّلْطَانِ فِيمَنْ يَحْضُرُ مِنْ جُمْهُورِهِمْ بِحَيْثُ لَا يُرَى،
وَالسُّلْطَانُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا وَلِهَذَا
يُعَامِلُهُمْ بِالْإِكْرَامِ وَيُرِيهِمْ صَفْحًا جَمِيلًا وَبِرًّا جَزِيلًا
وَظِلًّا ظَلِيلًا
فَلَمَّا كَانَ خَامِسُ شَوَّالٍ رَكِبَ فِي عَسَاكِرِهِ وَجَحَافِلِهِ فَبَرَزَ
مِنَ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ قَاصِدًا دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةَ وَاسْتَنَابَ عَلَى
الْقُدْسِ عِزَّ الدِّينِ جُرْدَيْكَ وَعَلَى قَضَائِهَا بَهَاءَ الدِّينِ يُوسُفَ
بْنَ رَافِعِ بْنِ تَمِيمٍ الشَّافِعِيَّ، وَاجْتَازَ عَلَى وَادِي الْجِيبِ
وَبَاتَ عَلَى بِرْكَةِ الدَّاوِيَّةِ، ثُمَّ أَصْبَحَ فِي نَابُلُسَ فَنَظَرَ فِي
أَحْوَالِهَا وَأُمُورِهَا ثُمَّ تَرَحَّلَ عَنْهَا، فَجَعَلَ يَمُرُّ بِالْمَعَاقِلِ
وَالْحُصُونِ وَالْبُلْدَانِ لِلنَّظَرِ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَمْوَالِ وَكَشْفِ
الْمَظَالِمِ وَالْمَحَارِمِ وَالْمَآثِمِ وَتَرْتِيبِ الْمَكَارِمِ، وَفِي
أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ جَاءَ إِلَى خِدْمَتِهِ بَيْمُنْدُ صَاحِبُ أَنْطَاكِيَةَ
فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَطْلَقَ لَهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً وَخِلَعًا
جَمِيلَةً، وَكَانَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ فِي صُحْبَتِهِ، فَأَخْبَرَ عَنْ
مَنَازِلِهِ مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً وَمَرْحَلَةً مَرْحَلَةً إِلَى أَنْ قَالَ:
وَعَبَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَيْنَ الْجَرِّ إِلَى مَرْجِ يَبُوسَ وَقَدْ زَالَ
الْبُوسُ، وَهُنَاكَ تَوَافَدَ أَعْيَانُ دِمَشْقَ وَأَمَاثِلُهَا وَأَفَاضِلُهَا
وَفَوَاضِلُهَا،
وَنَزَلْنَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ عَلَى الْعَرَّادَةِ جَرَى الْمُتَلَقُّونَ
بِالطُّرَفِ وَالتُّحَفِ عَلَى الْعَادَةِ، وَأَصْبَحْنَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ -
يَعْنِي سَادِسَ عَشَرَ شَوَّالٍ بُكْرَةً - إِلَى جَنَّةِ دِمَشْقَ دَاخِلِينَ
بِسَلَامٍ آمِنِينَ لَوْلَا أَنَّنَا غَيْرُ خَالِدِينَ، وَكَانَتْ غَيْبَةُ
السُّلْطَانِ عَنْهَا طَالَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ فَأَخْرَجَتْ دِمَشْقُ أَثْقَالَهَا،
وَأَبْرَزَتْ نِسَاءَهَا وَرِجَالَهَا، وَكَانَ يَوْمَ الزِّينَةِ وَخَرَجَ كُلٌّ
مَنْ فِي الْمَدِينَةِ، وَحُشِرَ النَّاسُ ضُحًى وَأَشَاعُوا اسْتِبْشَارًا
وَفَرَحًا، وَاجْتَمَعَ بِأَوْلَادِهِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وِقَدِمَ عَلَيْهِ
رُسُلُ الْمُلُوكِ مِنْ سَائِرِ الْأَمْصَارِ، وَأَقَامَ بَقِيَّةَ عَامِهِ فِي
اقْتِنَاصِ الصَّيْدِ وَحُضُورِ دَارِ الْعَدْلِ لِلْفَصْلِ، وَالْعَمَلِ
بِالْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ.
وَلَمَّا كَانَ عِيدُ الْأَضْحَى امْتَدَحَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ بِقَصِيدَةٍ
يَقُولُ فِيهَا:
وَأَبِيهَا لَوْلَا تَغَزُّلُ عَيْنَيْهَا لَمَا قُلْتُ فِي التِّغَزُّلِ شِعْرًا
وَلَكَانَتْ مَدَائِحُ الْمَلِكِ النِّاصِرِ
أَوْلَى مَا فِيهِ أُعْمِلُ فِكْرَا مَلِكٌ طَبَّقَ الْمَمَالِكَ عَدْلًا
مِثْلَمَا أَوْسَعَ الْبَرِيَّةَ بِرَّا فَتَحَلَّ الْأَعْيَادَ صَوْمًا وَفِطْرًا
وَتَلَقَّ الْهَنَاءَ بَرًّا وَبَحْرَا يَا مُسِرَّ الطَّاعَاتِ لِلَّهِ إِنْ
أَضْحَى مَلِيكٌ عَلَى الْهَنَاتِ مُصِرَّا نِلْتَ مَا تَبْتَغِي مِنَ الدِّينِ
وَالدُّنْ
يَا فَتِيهًا عَلَى الْمُلُوكِ وَفَخْرَا قَدْ جَمَعْتَ الْمَجْدَيْنِ أَصْلًا
وَفَرْعًا
وَمَلَكْتَ الدَّارَيْنِ دُنْيَا وَأُخْرَى
وَمِمَّا وَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْحَوَادِثِ غَزْوَةٌ عَظِيمَةٌ
بَيْنَ صَاحِبِ غَزْنَةَ شِهَابِ الدِّينِ السُّبُكْتِكِينِيِّ، وَبَيْنُ مَلِكِ
الْهِنْدِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ كَسَرُوهُ فِي سَنَةِ
ثَلَاثٍ
وَثَمَانِينَ فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَكَسَرَهُمْ
وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْهُمْ وَأَسَرَ خَلْقًا وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَسَرَهُ
مَلِكُهُمُ الْأَعْظَمُ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ فِيلًا مِنْ جُمْلَتِهَا الَّذِي
كَانَ جَرَحَهُ فَأُحْضِرُ الْمَلِكُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَهَانَهُ وَلَمْ
يُكْرِمْهُ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى حِصْنِهِ وَأَخْبَرَ بِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ كُلِّ
جَلِيلٍ وَحَقِيرٍ ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَادَ إِلَى غَزْنَةَ
مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مَسْرُورًا مَحْبُورًا
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اتُّهِمَ أَمِيرُ الْحَجِّ بِبَغْدَادَ - وَهُوَ
طَاشْتِكِينُ وَقَدْ كَانَ عَلَى إِمْرَةِ الْحَجِيجِ مِنْ مُدَّةِ عِشْرِينَ
سَنَةً وَكَانَ فِي غَايَةِ حُسْنِ السِّيرَةِ - بِأَنَّهُ يُكَاتِبُ صَلَاحَ
الدِّينِ بْنَ أَيُّوبَ بِالْقُدُومِ إِلَى الْعِرَاقِ لِيَأْخُذَهَا فَإِنَّهُ
لَيْسَ يَرُدُّهُ أَحَدٌ وَقَدْ كَانَ مَكْذُوبًا عَلَيْهِ وَمَعَ هَذَا حُبِسَ
وَأُهِينَ وَصُودِرَ.
فَصْلٌ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْفَرَّاشِ كَانَ قَاضِيَ الْعَسَاكِرِ بِدِمَشْقَ،
وَيُرْسِلُهُ السُّلْطَانُ فِي الرِّسَالَاتِ إِلَى مُلُوكِ الْآفَاقِ وَتُوُفِّيَ
بِمَلَطْيَةَ عَائِدًا مِنْ بَنِي قِلْجَ
سَيْفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمَشْطُوبُ
كَانَ مِنْ أَصْحَابِ أَسَدِ الدِّينِ
شِيرَكُوهْ
حَضَرَ مَعَهُ الْوَقَعَاتِ الثَّلَاثَ بِمِصْرَ ثُمَّ صَارَ مِنْ كُبَرَاءِ
أُمَرَاءِ صَلَاحِ الدِّينِ وَهُوَ الَّذِي كَانَ نَائِبًا عَلَى عَكَّا حِينَ
أَخَذَهَا الْفِرِنْجُ فَأَسَرُوهُ فِي جُمْلَةِ مَنْ أَسَرُوا فَافْتَدَى نَفْسَهُ
بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَتَخَلَّصَ إِلَى أَنْ خَلَصَ إِلَى السُّلْطَانِ
وَهُوَ بِالْقُدْسِ فَأَعْطَاهُ أَكْثَرَهَا وَوَلَّاهُ نِيَابَةَ نَابُلُسَ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْأَحَدِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ
بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ وَدُفِنَ فِي دَارِهِ
صَاحِبُ بِلَادِ الرُّومِ عِزُّ الدِّينِ قِلْجُ أَرْسَلَانَ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ
قِلْجِ أَرَسْلَانَ
وَكَانَ قَدْ قَسَّمَ جَمِيعَ بِلَادِهِ بَيْنَ أَوْلَادِهِ طَمَعًا فِي
طَاعَتِهِمْ لَهُ، فَخَالَفُوهُ وَتَجَبَّرُوا وَعَتَوْا عَلَيْهِ وَخَفَّضُوا
قَدْرَهُ وَارْتَفَعُوا، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى تُوَفِّيَ فِي عَامِهِ
هَذَا.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ تُوُفِّيَ الْأَدِيبُ الشَّاعِرُ أَبُو الْمُرْهَفِ نَصْرُ
بْنُ مَنْصُورٍ النُّمَيْرِيُّ
سَمِعَ الْحَدِيثَ وَاشْتَغَلَ بِالْأَدَبِ وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُ جُدَرِيٌّ
وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَنَقَصَ بَصَرُهُ جِدًّا، وَكَانَ لَا
يُبْصِرُ الْأَشْيَاءَ الْبَعِيدَةَ، وَيَرَى الْقَرِيبَ مِنْهُ وَلَكِنْ لَا
يَحْتَاجُ إِلَى قَائِدٍ فَارْتَحَلَ إِلَى الْعِرَاقِ لِمُدَاوَاةِ عَيْنَيْهِ فَآيِسَتْهُ
الْأَطِبَّاءُ مِنْ ذَلِكَ، فَاشْتَغَلَ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَمُصَاحَبَةِ
الصَّالِحِينَ وَالزُّهَّادِ، فَأَفْلَحَ وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ كَبِيرٌ حَسَنٌ
وَقَدْ سُئِلَ مَرَّةً عَنْ مَذْهَبِهِ وَاعْتِقَادِهِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أُحِبُّ
عَلِيًّا وَالْبَتُولَ وَوُلْدَهَا وَلَا أَجْحَدُ الشَّيْخَيْنِ فَضْلَ
التَّقَدُّمِ وَأَبْرَأُ مِمَّنْ نَالَ عُثْمَانَ بِالْأَذَى
كَمَا أَتَبَرَّا مِنْ وَلَاءِ ابْنِ مُلْجِمِ وَيُعْجِبُنِي أَهْلُ الْحَدِيثِ
لِصِدْقِهِمْ
فَلَسْتُ إِلَى قَوْمٍ سِوَاهُمْ بِمُنْتَمِي
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ بِبَابِ
حَرْبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ،
وَخَرَجَ هُوَ وَأَخُوهُ الْعَادِلُ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الصَّيْدِ شَرْقِيَّ
دِمَشْقَ وَقَدِ اتَّفَقَ الْحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ أَنَّهُ بَعْدَمَا
قَدْ تَفَرَّغَ مِنْ أَمْرِ الْفِرِنْجِ هَذِهِ الْمُدَّةَ يَسِيرُ هُوَ إِلَى
بِلَادِ الرُّومِ، وَيَبْعَثُ أَخَاهُ إِلَى خِلَاطَ فَإِذَا فَرَغَا مِنْ
شَأْنِهِمَا سَارَا جَمِيعًا إِلَى بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ وَبِلَادِ الْعَجَمِ،
فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا أَحَدٌ يُمَانِعُ عَنْهَا فَلَمَّا قَدِمَ الْحَجِيجُ
مِنَ الْحِجَازِ الشَّرِيفِ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ حَادِي عَشَرَ صَفَرٍ خَرَجَ
السُّلْطَانُ لِتَلَقِّيهِمْ، وَقَدِمَ مَعَهُمْ وَلَدُ أَخِيهِ سَيْفُ
الْإِسْلَامِ صَاحِبُ الْيَمَنِ فَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَعَادَ إِلَى
الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، فَدَخَلَهَا مِنْ بَابِ الْحَدِيدِ فَكَانَ ذَلِكَ
آخِرَ مَا رَكِبَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّهُ اعْتَرَاهُ حُمَّى
صَفْرَاوِيَّةٌ لَيْلَةَ السَّبْتِ سَادِسَ عَشَرَ صَفَرٍ فَلَمَّا أَصْبَحَ
دَخَلَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ وَابْنُ شَدَّادٍ وَابْنُهُ الْأَفْضَلُ،
فَأَخَذَ يَشْكُو إِلَيْهِمْ كَثْرَةَ قَلَقِهِ الْبَارِحَةَ، وَطَابَ لَهُ
الْحَدِيثُ، وَطَالَ مَجْلِسُهُمْ عِنْدَهُ، ثُمَّ تَزَايَدَ بِهِ الْمَرَضُ
وَاسْتَمَرَّ وَقَصَدَهُ الْأَطِبَّاءُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَاعْتَرَاهُ
يُبْسٌ وَحَصَلَ لَهُ عَرَقٌ شَدِيدٌ بِحَيْثُ نَفَذَ إِلَى الْأَرْضِ، فَقَوِيَ
الْيُبْسُ فَأُحْضِرَ الْأُمَرَاءُ مِنَ الْأَكَابِرِ، فَبُويِعَ لِوَلَدِهِ
الْأَفْضَلِ نُورِ الدِّينِ
عَلَيٍّ نَائِبًا عَلَى دِمَشْقَ وَذَلِكَ عِنْدَمَا ظَهَرَتْ مَخَايِلُ الضَّعْفِ الشَّدِيدِ وَغَيْبُوبَةُ الذِّهْنِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَكَانَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ وَابْنُ شَدَّادٍ وَقَاضِي الْبَلَدِ ابْنُ الزَّكِيِّ وَتَفَاقَمَ الْحَالُ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ وَاسْتَدْعَى الشَّيْخَ أَبَا جَعْفَرٍ إِمَامَ الْكَلَّاسَةِ لِيَبِيتَ عِنْدَهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُلَقِّنُهُ الشَّهَادَةَ إِذَا جَدَّ بِهِ الْأَمْرُ فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ عِنْدَهُ وَهُوَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ فَقَرَأَ: هُوَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَقَالَ: وَهُوَ كَذَلِكَ صَحِيحٌ فَلَمَّا أَذَّنَ الصُّبْحُ جَاءَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ، فَلَمَّا قَرَأَ الْقَارِئُ: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ تَبَسَّمَ وَتَهَلَّلَ وَجْهُهُ وَأَسْلَمَ رُوحَهُ إِلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ وَكَانَ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، لِأَنَّهُ وُلِدَ بِتَكْرِيتَ فِي شُهُورِ سَنَةِ اثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَدْ كَانَ رِدْءًا لِلْإِسْلَامِ وَحِرْزًا وَكَهْفًا مِنْ كَيْدِ الْكَفَرَةِ اللِّئَامِ وَكَانَ أَهْلُ دِمَشْقَ لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِ مُصَابِهِ وَوَدَّ كُلٌّ مِنْهُمْ لَوْ فَدَاهُ بِأَوْلَادِهِ وَأَحْبَابِهِ وَأَصْحَابِهِ وَقَدْ غُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ وَاحْتُفِظَ عَلَى الْحَوَاصِلِ، ثُمَّ أَخَذُوا فِي تَجْهِيزِهِ وَغُسْلِهِ وَحَضَرَ جَمِيعُ أَوْلَادِهِ وَأَهْلِهِ، وَيَعِزُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى غُسْلَهُ خَطِيبُ الْبَلَدِ الْفَقِيهُ الدَّوْلَعِيُّ، وَكَانَ الَّذِي أَحْضَرَ الْكَفَنَ وَمُؤْنَةَ التَّجْهِيزِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ الْحَلَالِ هَذَا وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ يَبْرُزُونَ وَيُنَادُونَ وَيَبْكُونَ وَالنَّاسُ فِي التَّعْوِيلِ وَالِانْتِحَابِ وَالِابْتِهَالِ ثُمَّ أُبْرِزَ فِي تَابُوتٍ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَأَمَّ النَّاسَ عَلَيْهِ الْقَاضِي ابْنُ الزَّكِيِّ ثُمَّ دُفِنَ
فِي
دَارِهِ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَشَرَعَ ابْنُهُ فِي بِنَاءِ تُرْبَةٍ
لَهُ وَمَدْرَسَةٍ لِلشَّافِعِيَّةِ بِالْقُرْبِ مِنْ مَسْجِدِ الْقَدَمِ
لِوَصِيَّتِهِ بِذَلِكَ قَدِيمًا، فَلَمْ يَكْمُلْ بِنَاؤُهَا وَلَمْ يَتِمَّ،
وَذَلِكَ حِينَ قَدِمَ وَلَدُهُ الْعَزِيزُ وَكَانَ مُحَاصِرًا لِأَخِيهِ
الْأَفْضَلِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي سَنَةِ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
ثُمَّ اشْتَرَى لَهُ الْأَفْضَلُ دَارًا شَمَالِيَّ الْكَلَّاسَةِ فِي وِزَانِ مَا
زَادَهُ الْقَاضِي الْفَاضِلُ فِي الْكَلَّاسَةِ فَجَعَلَهَا لَهُ تُرْبَةً
هَطَلَتْ سَحَائِبُ الرَّحْمَةِ عَلَيْهَا، وَوَصَلَتْ أَلْطَافُ الرَّأْفَةِ
إِلَيْهَا، وَكَانَ نَقْلُهُ إِلَيْهَا فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ
وَتِسْعِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ تَحْتَ النَّسْرِ قَاضِي الْقُضَاةِ مُحَمَّدُ
بْنُ عَلِيٍّ الْقُرَشِيُّ ابْنُ الزَّكِيِّ عَنْ إِذَنِ الْأَفْضَلِ لَهُ،
وَدَخَلَ فِي لَحْدِهِ وَلَدُهُ الْأَفْضَلُ فَدَفَنَهُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ
يَوْمَئِذٍ سُلْطَانُ الشَّامِ، وَذَلِكَ لِمَا لَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ
وَالْخِدْمَةِ وَالْإِكْرَامِ وَيُقَالُ: إِنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ سَيْفُهُ الَّذِي
كَانَ يَحْضُرُ بِهِ الْجِهَادَ وَالْجِلَادَ، وَذَلِكَ عَنْ أَمْرِ الْقَاضِي
الْفَاضِلِ أَحَدِ الْأَجْوَادِ وَالْأَمْجَادِ، وَتَفَاءَلُوا بِأَنَّهُ يَكُونُ
مَعَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَوَكَّأُ عَلَيْهِ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ
لِمَا أُنْعِمَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ كَسْرِ الْأَعْدَاءِ وَنَصْرِ الْأَوْلِيَاءِ،
وَأُعْظِمَ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْمِنَّةِ ثُمَّ عُمِلَ عَزَاؤُهُ بِالْجَامِعِ
الْأُمَوِيِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يَحْضُرُهُ الْخَوَاصُّ وَالْعَوَّامُّ
وَالرَّعِيَّةُ وَالْحُكَّامُ وَقَدْ عَمِلَ الشُّعَرَاءُ فِيهِ مَرَاثِيَ
كَثِيرَةً، مِنْ أَحْسَنِهَا مَا عَمِلَ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ فِي آخِرِ
كِتَابِهِ " الْبَرْقِ الشَّامِيِّ " وَهِيَ مِائَتَانِ وَاثْنَانِ
وَثَلَاثُونَ بَيْتًا وَقَدْ سَرَدَهَا الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ
فِي " الرَّوْضَتَيْنِ " فَمِنْهَا قَوْلُهُ: فِي أَوَّلِهَا:
شَمْلُ الْهُدَى وَالْمُلْكِ عَمَّ شَتَاتُهُ وَالدَّهْرُ سَاءَ وَأَقْلَعَتْ
حَسَنَاتُهُ أَيْنَ الَّذِي مُذْ لَمْ يَزَلْ مَخْشِيَّةً
مَرْجُوَّةً رَهَبَاتُهُ وَهِبَاتُهُ أَيْنَ الَّذِي كَانَتْ لَهُ طَاعَاتُنَا
مَبْذُولَةً وَلِرَبِّهِ طَاعَاتُهُ
بِاللَّهِ
أَيْنَ النَّاصِرُ الْمَلِكُ الَّذِي
لِلَّهِ خَالِصَةً صَفَتْ نِيَّاتُهُ أَيْنَ الَّذِي مَا زَالَ سُلْطَانًا لَنَا
يُرْجَى نَدَاهُ وَتُتَّقَى سَطَوَاتُهُ أَيْنَ الَّذِي شَرُفَ الزَّمَانُ
بِفَضْلِهِ
وَسَمَتْ عَلَى الْفُضَلَاءِ تَشْرِيفَاتُهُ أَيْنَ الَّذِي عَنَتِ الْفِرِنْجُ
لِبَأْسِهِ
ذُلًّا وَمِنْهَا أُدْرِكَتْ ثَارَاتُهُ أَغْلَالُ أَعْنَاقِ الْعِدَا أَسْيَافُهُ
أَطْوَاقُ أَجْيَادِ الْوَرَى مِنَّاتُهُ
وَلِلْعِمَادِ الْكَاتِبِ فِي الْمَلِكِ النَّاصِرِ يَرْثِيهِ:
مَنْ لِلْعُلَا مَنْ لِلذُّرَى مَنْ لِلْهُدَى يَحْمِيهِ مَنْ لِلْبَأْسِ مَنْ
لِلنَّائِلِ
طَلَبَ الْبَقَاءَ لِمُلْكِهِ فِي آجِلٍ إِذْ لَمْ يَثِقْ بِبَقَاءِ مُلْكٍ
عَاجِلِ
بَحْرٌ أَعَادَ الْبَرَّ بَحْرًا بِرُّهُ وَبِسَيْفِهِ فُتِحَتْ بِلَادُ
السَّاحِلِ
مَنْ كَانَ أَهْلُ الْحَقِّ فِي أَيَّامِهِ وَبِعِزِّهِ يُرْدُونَ أَهْلَ الْبَاطِلِ
وَفُتُوحُهُ وَالْقُدْسُ مِنْ أَبْكَارِهَا أَبْقَتْ لَهُ فَضْلًا بِغَيْرِ
مُسَاجِلِ
مَا كُنْتُ أَسْتَسْقِي لِقَبْرِكَ وَابِلًا وَرَأَيْتُ جُودَكَ مُخْجِلًا
لِلْوَابِلِ
فَسَقَاكَ رِضْوَانُ الْإِلَهِ لِأَنَّنِي لَا أَرْتَضِي سُقْيَا الْغَمَامِ
الْهَاطِلِ
ذِكْرُ تَرِكَتِهِ، وَشَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِ
قَالَ الْعِمَادُ وَغَيْرُهُ: لَمْ يَتْرُكْ فِي خِزَانَتِهِ مِنَ الذَّهَبِ سِوَى
جُرْمٍ وَاحِدٍ
صُورِيٍّ وَسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَلَمْ يَتْرُكْ دَارًا وَلَا عَقَارًا وَلَا مَزْرَعَةً وَلَا بُسْتَانًا، وَلَا شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَمْلَاكِ. هَذَا وَلَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ سَبْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا وَابْنَةٌ وَاحِدَةٌ، وَتُوُفِّيَ لَهُ فِي بَعْضِ حَيَاتِهِ غَيْرُهُمْ، وَالَّذِينَ تَأَخَّرُوا بَعْدَهُ سِتَّةَ عَشَرَ ذَكَرًا، أَكْبَرُهُمُ الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ نُورُ الدِّينِ عَلِيٌّ، وُلِدَ بِمِصْرَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ، ثُمَّ الْعَزِيزُ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ عُثْمَانُ وُلِدَ بِمِصْرَ أَيْضًا فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ الظَّافِرُ مُظَفَّرُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْخَضِرُ، وُلِدَ بِمِصْرَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ شَقِيقُ الْأَفْضَلِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ غِيَاثُ الدِّينِ أَبُو مَنْصُورٍ غَازِيٌّ، وُلِدَ بِمِصْرَ فِي نِصْفِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ الْمُعِزُّ فَتْحُ الدِّينِ أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ، وُلِدَ بِدِمَشْقَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعِينَ، ثُمَّ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ مَسْعُودٌ، وُلِدَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعَيْنِ، وَهُوَ شَقِيقُ الْعَزِيزِ، ثُمَّ الْأَغَرُّ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ، وُلِدَ بِمِصْرَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعَيْنِ، وَهُوَ شَقِيقُ الْعَزِيزِ أَيْضًا، ثُمَّ الزَّاهِرُ مُجِيرُ الدِّينِ أَبُو سُلَيْمَانَ دَاوُدُ، وُلِدَ بِمِصْرَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَهُوَ شَقِيقُ الظَّاهِرِ، ثُمَّ أَبُو الْفَضْلِ قُطْبُ الدِّينِ مُوسَى، وَهُوَ شَقِيقُ الْأَفْضَلِ، وُلِدَ بِمِصْرَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ أَيْضًا، ثُمَّ لُقِّبَ بِالْمُظَفَّرِ، ثُمَّ الْأَشْرَفُ مُعِزُّ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ، وُلِدَ بِالشَّامِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، ثُمَّ الْمُحْسِنُ ظَهِيرُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ ; وُلِدَ بِمِصْرَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ، وَهُوَ شَقِيقُ الَّذِي قَبْلَهُ، ثُمَّ الْمُعَظَّمُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو مَنْصُورٍ تُورَانْشَاهْ، وُلِدَ بِمِصْرَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ، وَتَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ إِلَى سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، ثُمَّ الْجَوَّالُ رُكْنُ الدِّينِ أَبُو سَعِيدٍ أَيُّوبُ وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعَيْنِ، وَهُوَ شَقِيقٌ لِلْمُعِزِّ،
ثُمَّ
الْغَالِبُ نَصِيرُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ مَلِكْشَاهْ، وُلِدَ فِي رَجَبٍ
سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعَيْنِ وَهُوَ شَقِيقُ الْمُعَظَّمِ، ثُمَّ الْمَنْصُورُ
أَبُو بَكْرٍ أَخُو الْمُعَظَّمِ لِأَبَوَيْهِ، وُلِدَ بِحَرَّانَ بَعْدَ وَفَاةِ
السُّلْطَانِ، ثُمَّ عِمَادُ الدِّينِ شَاذِيٌّ لِأُمِّ وَلَدٍ، وَنُصْرَةُ
الدِّينِ مَرْوَانُ لِأُمِّ وَلَدٍ أَيْضًا. وَأَمَّا الْبِنْتُ فَهِيَ مُؤْنِسَةُ
خَاتُونَ تَزَوَّجَهَا ابْنُ عَمِّهَا الْمَلِكُ الْكَامِلُ مُحَمَّدُ بْنُ
الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِنَّمَا لَمْ يُخْلِفْ أَمْوَالًا وَلَا أَمْلَاكًا ; لِكَثْرَةِ عَطَايَاهُ
وَهِبَاتِهِ وَصَدَقَاتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى أُمَرَائِهِ وَوُزَرَائِهِ
وَأَوْلِيَائِهِ، حَتَّى إِلَى أَعْدَائِهِ، وَقَدْ أَسْلَفْنَا مَا يَدُلُّ عَلَى
كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ مُتَقَلِّلًا فِي
مَلْبَسِهِ، وَمَأْكَلِهِ، وَمَشْرَبِهِ، وَمَرْكَبِهِ، فَلَا يَلْبَسُ إِلَّا
الْقُطْنَ وَالْكَتَّانَ وَالصُّوفَ، وَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ تَخَطَّى مَكْرُوهًا
بَعْدَ أَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْمُلْكِ، بَلْ كَانَ هَمُّهُ
الْأَكْبَرُ وَمَقْصُودُهُ الْأَعْظَمُ نَصْرَ الْإِسْلَامِ، وَكَسْرَ
الْأَعْدَاءِ اللِّئَامِ، وَيُعْمِلُ فِكْرَهُ فِي ذَلِكَ وَرَأْيَهُ وَحْدَهُ
مَعَ مَنْ يَثِقُ بِرَأْيهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَجِهَارًا.
وَهَذَا مَعَ مَا لَدَيْهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْفَوَاضِلِ، وَالْفَوَائِدِ
الْفَرَائِدِ، فِي اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ، وَأَيَّامِ النَّاسِ، حَتَّى قِيلَ:
إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ الْحَمَاسَةَ بِتَمَامِهَا وَخِتَامِهَا. وَكَانَ
مُوَاظِبًا عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا فِي جَمَاعَةٍ، يُقَالُ: إِنَّهُ
لَمْ تَفُتْهُ الْجَمَاعَةُ فِي صَلَاةٍ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ حَتَّى
وَلَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، كَانَ يَدْخُلُ الْإِمَامُ فَيُصَلِّي بِهِ فَكَانَ
يَتَجَشَّمُ الْقِيَامَ مَعَ ضَعْفِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ يَفْهَمُ مَا يُقَالُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْبَحْثِ وَالْمُنَاظَرَةِ،
وَيُشَارِكُ فِي ذَلِكَ
مُشَارَكَةً
قَرِيبَةً حَسَنَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْعِبَارَةِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهَا،
وَكَانَ قَدْ جَمَعَ لَهُ الْقُطْبُ النَّيْسَابُورِيُّ عَقِيدَةً فَكَانَ
يَحْفَظُهَا، وَيُحَفِّظُهَا مَنْ عَقَلَ مِنْ أَوْلَادِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ
سَمَاعَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَيُوَاظِبُ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ حَتَّى
إِنَّهُ سَمِعَ فِي بَعْضِ الْمُصَافَّاتِ جُزْءًا، وَهُوَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ،
فَكَانَ يَتَبَجِّحُ بِذَلِكَ وَيَقُولُ: هَذَا مَوْقِفٌ لَمْ يَسْمَعْ أَحَدٌ فِي
مِثْلِهِ حَدِيثًا. وَكَانَ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ الْعِمَادِ الْكَاتِبِ.
وَكَانَ رَقِيقَ الْقَلْبِ سَرِيعَ الدَّمْعَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْحَدِيثِ،
كَثِيرَ التَّعْظِيمِ لِشَعَائِرِ الدِّينِ ; كَانَ قَدْ لَجَأَ إِلَى وَلَدِهِ
الظَّاهِرِ، وَهُوَ بِحَلَبَ، شَابٌّ يُقَالُ لَهُ: الشِّهَابُ
السُّهْرَوَرْدِيُّ، وَكَانَ يَعْرِفُ الْكِيمْيَا وَشَيْئًا مِنَ الشَّعْبَذَةِ،
وَالْأَبْوَابِ النِّيرَنْجِيَّاتِ، فَافْتَتَنَ بِهِ وَلَدُ السُّلْطَانِ
الظَّاهِرُ، وَقَرَّبَهُ وَأَحَبَّهُ، وَخَالَفَ فِيهِ حَمَلَةَ الشَّرْعِ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَهُ لَا مَحَالَةَ فَصَلَبَهُ عَنْ أَمْرِ
وَالِدِهِ، وَشَهَّرَهُ، وَيُقَالُ: بَلْ حَبَسَهُ بَيْنَ حَائِطَيْنِ حَتَّى
مَاتَ كَمَدًا، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَكَانَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، مِنْ أَشْجَعِ النَّاسِ
وَأَقْوَاهُمْ بَدَنًا وَقَلْبًا، مَعَ مَا كَانَ يَعْتَرِي جِسْمَهُ مِنَ
الْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ، وَلَاسِيَّمَا وَهُوَ مُرَابِطٌ مُصَابِرٌ مُثَابِرٌ
عِنْدَ عَكَّا ; فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ كَثْرَةِ جُمُوعِهِمْ وَأَمْدَادِهِمْ لَا
يَزِيدُهُ ذَلِكَ إِلَّا قُوَّةً وَشَجَاعَةً، وَقَدْ بَلَغَتْ جُمُوعُهُمْ
خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَيُقَالُ: سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ. وَكَانَ
جُمْلَةُ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ مِائَةَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ.
وَلَمَّا
انْفَصَلَ الْحَالُ، وَتَسَلَّمُوا عَكَّا وَقَتَلُوا أَكْثَرَ مَنْ كَانَ بِهَا،
وَسَارُوا بَرُمَّتِهِمْ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ; جَعَلَ يُسَايِرُهُمْ
مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً، وَمَرْحَلَةً مَرْحَلَةً وَجُيُوشُهُمْ أَضْعَافُ
أَضْعَافِ مَنْ مَعَهُ، وَمَعَ هَذَا نَصَرَهُ اللَّهُ وَخَذَلَهُمْ، وَأَيَّدَهُ
وَقَتَلَهُمْ، وَسَبَقَهُمْ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَصَانَهُ وَحَمَاهُ،
وَشَيَّدَ بُنْيَانَهُ، وَأَطَّدَ أَرْكَانَهُ، وَصَانَ حِمَاهُ وَلَمْ يَزَلْ
بِجَيْشِهِ مُقِيمًا بِهِ يُرْهِبُهُمْ وَيُرْعِبُهُمْ، وَيَغْلِبُهُمْ
وَيَسْلُبُهُمْ وَيَكْسِرُهُمْ وَيَأْسِرُهُمْ، حَتَّى تَضَرَّعُوا إِلَيْهِ،
وَخَضَعُوا لَدَيْهِ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ وَيُتَارِكَهُمْ،
وَتَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا
سَأَلُوا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ، لَا مَا يُرِيدُونَهُ، وَكَانَ
ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الرَّحْمَةِ الَّتِي خُصَّ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ ; فَإِنَّهُ
مَا انْقَضَتْ تِلْكَ السُّنُونَ حَتَّى مَلَكَ الْبِلَادَ أَخُوهُ أَبُو بَكْرٍ
الْعَادِلُ، فَعَزَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَذَلَّ بِهِ الْكَافِرُونَ.
وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ سَخِيًّا كَرِيمًا حَيِيًّا ضَحُوكَ الْوَجْهِ كَثِيرَ
الْبِشْرِ، لَا يَتَضَجَّرُ مِنْ خَيْرٍ يَفْعَلُهُ، شَدِيدَ الْمُصَابَرَةِ
وَالْمُثَابَرَةِ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ فَرَحِمَهُ اللَّهُ،
وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو
شَامَةَ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ سِيرَتِهِ وَأَيَّامِهِ، وَعَدْلِهِ فِي
سَرِيرَتِهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَأَحْكَامِهِ.
فَصْلٌ
كَانَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينَ قَدْ قَسَّمَ الْبِلَادَ بَيْنَ
أَوْلَادِهِ، فَالدِّيَارُ الْمِصْرِيَّةُ لِوَلَدِهِ الْعَزِيزِ عِمَادِ الدِّينِ
عُثْمَانَ أَبِي الْفَتْحِ، وَبِلَادُ دِمَشْقَ وَمَا حَوْلَهَا لِوَلَدِهِ
الْأَفْضَلِ نُورِ الدِّينِ عَلَيٍّ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ كُلِّهِمْ،
وَالْمَمْلَكَةُ الْحَلَبِيَّةُ لِوَلَدِهِ الظَّاهِرِ
غَازِيٍّ
غِيَاثِ الدِّينِ، وَلِأَخِيهِ الْعَادِلِ الْكَرَكُ وَالشَّوْبَكُ وَبِلَادُ
جَعْبَرَ وَبِلَادٌ كَثِيرَةٌ قَاطِعَ الْفُرَاتِ، وَحَمَاةُ وَمُعَامَلَةٌ
أُخْرَى مَعَهَا لِلْمَلِكِ الْمَنْصُورِ مُحَمَّدِ بْنِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ
ابْنِ أَخِي السُّلْطَانِ، وَحِمْصُ وَالرَّحْبَةُ وَغَيْرُهَا لِأَسَدِ الدِّينِ
بْنِ شِيرَكُوهْ بْنِ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ
الْكَبِيرِ، عَمِّ صَلَاحِ الدِّينِ أَخِي أَبِيهِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ،
وَالْيَمَنُ بِمَعَاقِلِهِ وَمَخَالِيفِهِ جَمِيعُهُ فِي قَبْضَةِ السُّلْطَانِ
ظَهِيرِ الدِّينِ سَيْفِ الْإِسْلَامِ طُغْتِكِينَ بْنِ أَيُّوبَ أَخِي
السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَبَعْلَبَكَّ وَأَعْمَالُهَا لِلْأَمْجَدِ
بَهْرَامْ شَاهْ بْنِ فَرُّوخْشَاهْ، وَبُصْرَى وَأَعْمَالُهَا لِلظَّافِرِ بْنِ
النَّاصِرِ، ثُمَّ شَرَعَتِ الْأُمُورُ بَعْدَ مَوْتِ صَلَاحِ الدِّينِ تَضْطَرِبُ
وَتَخْتَلِفُ وَتَتَفَاقَمُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، حَتَّى آلَ
الْأَمْرُ إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ، وَاسْتَقَرَّتِ الْمَمَالِكُ، وَاجْتَمَعَتِ
الْمَحَافِلُ عَلَى أَخِي السُّلْطَانِ، الْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَصَارَتِ
الْمَمْلَكَةُ فِي أَوْلَادِهِ الْأَمَاجِدِ الْأَفَاضِلِ، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ
قَرِيبًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَدَّدَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ
خِزَانَةَ كُتُبِ الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَنَقَلَ إِلَيْهَا
أُلُوفًا مِنَ الْكُتُبِ الْحَسَنَةِ الْمُثَمَّنَةِ.
وَجَرَتْ بِبَغْدَادَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ
; وَهِيَ أَنَّ ابْنَةً لِرَجُلٍ مِنَ التُّجَّارِ فِي الطَّحِينِ تَعَشَّقَتْ
لِغُلَامِ أَبِيهَا، فَلَمَّا عَلِمَ أَبُوهَا بِأَمْرِهَا طَرَدَ الْغُلَامَ مِنْ
دَارِهِ، فَوَاعَدَتْهُ الْبِنْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَجَاءَ مُخْتَفِيًا،
فَتَرَكَتْهُ فِي بَعْضِ الدَّارِ، وَنَزَلَ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، فَقَتَلَ
أَبَاهَا مَوْلَاهُ، وَأَمَرَتْهُ الْجَارِيَةُ بِقَتْلِ أُمِّهَا، فَقَتَلَهَا
وَهِيَ حُبْلَى، وَأَعْطَتْهُ الْجَارِيَةُ حُلِيًّا بِقِيمَةِ أَلْفَيْ دِينَارٍ،
فَأَصْبَحَ أَمْرُهُ عِنْدَ الشُّرْطَةِ فَمُسِكَ وَقُتِلَ قَبَّحَهُ اللَّهُ
وَإِيَّاهَا، وَقَدْ كَانَ سَيِّدُهُ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، وَأَكْثَرِهِمْ
صَدَقَةً وَبِرًّا، وَكَانَ شَابًّا وَضِيءَ الْوَجْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا
دَرَّسَ بِالْمَدْرَسَةِ الْجَدِيدَةِ عِنْدَ قَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ
الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ النَّوْقَانِيُّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ، وَعُمِلَ بِهَا دَعْوَةٌ حَافِلَةٌ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِيٍّ
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مَبْسُوطًا.
الْأَمِيرُ بَكْتَمُرُ صَاحِبُ خِلَاطَ
قُتِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ وَأَشْجَعِهِمْ
وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْأَتَابِكُ عِزُّ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ
صَاحِبُ الْمَوْصِلِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ
الْمُلُوكِ وَأَحْسَنِهِمْ سِيرَةً، كَانَ يَتَشَبَّهُ بِالْمَلِكِ الْعَادِلِ
نُورِ الدِّينِ عَمِّهِ وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ عِنْدَ مَدْرَسَةٍ أَنْشَأَهَا
بِالْمَوْصِلِ، أَثَابَهُ اللَّهُ.
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَطِيرَا، أَبُو الْحَسَنِ
أَحَدُ الْكُتَّابِ بِالْعِرَاقِ، كَانَ يُنْسَبُ إِلَى التَّشَيُّعِ، وَهَذَا
كَثِيرٌ فِي أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ، لَا أَكْثَرَ اللَّهُ فِي الْمُسْلِمِينَ
أَمْثَالَهُمْ وَلَا أَشْكَالَهُمْ. جَاءَهُ رَجُلٌ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ لَهُ:
رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا فِي الْمَنَامِ وَهُوَ
يَقُولُ لِي: اذْهَبْ إِلَى ابْنِ قَطِيرَا، فَقُلْ لَهُ يُعْطِيكَ عَشَرَةَ
دَنَانِيرَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ قَطِيرَا. مَتَى رَأَيْتَهُ ؟ قَالَ: أَوَّلَ
اللَّيْلِ. قَالَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ فِي آخِرِهِ، فَقَالَ لِي: إِذَا جَاءَكَ
رَجُلٌ
مِنْ صِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا، فَطَلَبَ مِنْكَ شَيْئًا فَلَا تُعْطِهِ. فَأَدْبَرَ
الرَّجُلُ مُوَلِّيًا، فَاسْتَدْعَاهُ وَوَهَبَهُ شَيْئًا. وَمِنْ شِعْرِهِ فِيمَا
أَوْرَدَهُ ابْنُ السَّاعِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِغَيْرِهِ:
وَلَمَّا سَبَرْتُ النَّاسَ أَطْلُبُ مِنْهُمُ أَخَا ثِقَةٍ عِنْدَ اعْتِرَاضِ
الشَّدَائِدِ وَفَكَّرْتُ فِي يَوْمَيْ سُرُورِي وَشِدَّتِي
وَنَادَيْتُ فِي الْأَحْيَاءِ هَلْ مِنْ مُسَاعِدِ فَلَمْ أَرَ فِيمَا سَاءَنِي
غَيْرَ شَامِتٍ
وَلَمْ أَرَ فِيمَا سَرَّنِي غَيْرَ حَاسِدِ
يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ غَازِيٍّ
أَبُو الْعَبَّاسِ الْبَصْرِيُّ صَاحِبُ " الْمَقَامَاتِ "، كَانَ
شَاعِرًا أَدِيبًا فَاضِلًا بَلِيغًا، لَهُ الْيَدُ الطُّولَى فِي اللُّغَةِ
وَالنَّظْمِ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
غِنَاءُ خُودٍ يَنْسَابُ لُطْفًا بِلَا عَنَاءٍ فِي كُلِّ أُذْنِ
مَا رَدَّهُ قَطُّ بَابُ سَمْعٍ وَلَا أَتَى زَائِرًا بِإِذْنِ
السَّيِّدَةُ زُبَيْدَةُ
بِنْتُ الْإِمَامِ الْمُقْتَفِي لِأَمْرِ اللَّهِ، أُخْتُ الْمُسْتَنْجِدِ،
وَعَمَّةُ الْمُسْتَضِيءِ، كَانَتْ قَدْ عُمِّرَتْ دَهْرًا طَوِيلًا، وَلَهَا
صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ دَارَّةٌ، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا فِي وَقْتٍ السُّلْطَانُ
مَسْعُودٌ عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَتُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ
يَدْخُلَ بِهَا، وَقَدْ كَانَتْ كَارِهَةً لِذَلِكَ فَحَصَلَ مَقْصُودُهَا.
الشَّيْخَةُ الصَّالِحَةُ فَاطِمَةُ خَاتُونَ
بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَمِيدِ، كَانَتْ صَالِحَةً عَابِدَةً
زَاهِدَةً، عُمِّرَتْ مِائَةَ سَنَةٍ وَسِتَّ سِنِينَ، كَانَ قَدْ تَزَوَّجَهَا
فِي وَقْتٍ أَمِيرُ الْجُيُوشِ نَظَرٌ وَهِيَ بِكْرٌ، فَبَقِيَتْ عِنْدَهُ إِلَى
أَنْ تُوُفِّيَ وَلَمْ تَتَزَوَّجْ بَعْدَهُ، بَلِ اشْتَغَلَتْ بِذِكْرِ اللَّهِ،
عَزَّ وَجَلَّ وَالْعِبَادَةِ، رَحِمَهَا اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنْفَذَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ
الْعَبَّاسِيُّ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ
بْنِ
الْجَوْزِيِّ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى أَبْيَاتِ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ
الْمَشْهُورَةِ مَا يُنَاسِبُهَا مِنَ الْأَشْعَارِ، وَلَوْ بَلَغَ ذَلِكَ عَشْرَ
مُجَلَّدَاتٍ، وَهِيَ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ:
أَيُّهَا الشَّامِتُ الْمُعَيِّرُ بِالدَّهْرِ أَأَنْتَ الْمُبَرَّأُ الْمَوْفُورُ
أَمْ لَدَيْكَ الْعَهْدُ الْوَثِيقُ مِنَ الْ أَيَّامِ بَلْ أَنْتَ جَاهِلٌ
مَغْرُورُ
مَنْ رَأَيْتَ الْمَنُونَ خَلَّدْنَ أَمْ مَنْ ذَا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يُضَامَ
خَفِيرُ
أَيْنَ كِسْرَى كِسْرَى الْمُلُوكِ أَبُو سَا سَانَ أَمْ أَيْنَ قَبْلَهُ سَابُورُ
وَبَنُو الْأَصْفَرِ الْمُلُوكُ مُلُوكُ الرُّو مِ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَذْكُورُ
وَأَخُو الْحَضْرِ إِذْ بَنَاهُ وَإِذْ دِجْ لَةُ تُجْبَى إِلَيْهِ وَالْخَابُورُ
شَادَهُ مَرْمَرًا وَجَلَّلَهُ كِلْ سًا فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ
لَمْ تَهَبْهُ رَيْبُ الْمَنُونِ فَزَالَ الْ مُلْكُ عَنْهُ فَبَابُهُ مَهْجُورُ
وَتَذَكَّرْ رَبَّ الْخَوَرْنَقِ إِذْ أَشْ رَفَ يَوْمًا وَلِلْهُدَى تَفْكِيْرُ
سَرَّهُ حَالُهُ وَكَثْرَةُ مَا يَمْ لِكُ وَالْبَحْرُ مُعْرِضًا وَالسَّدِيرُ
فَارْعَوَى قَلْبُهُ وَقَالَ وَمَا غِبْ طَةُ حَيٍّ إِلَى الْمَمَاتِ يَصِيرُ
ثُمَّ بَعْدَ الْفَلَاحِ وَالْمُلْكِ وَالْإِمَّ ةِ وَارَتْهُمْ هُنَاكَ
الْقُبُورُ
ثُمَّ أَضْحَوْا كَأَنَّهُمْ وَرَقٌ جَ فَّ فَأَلْوَتْ بِهِ الصَّبَا وَالدَّبُورُ
غَيْرَ أَنَّ الْأَيَّامَ تَخْتَصُّ بِالْمَرْ ءِ وَفِيهَا لَعَمْرِي الْعِظَاتُ
وَالتَّفْكِيرُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
لَمَّا اسْتَقَرَّ الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ مَكَانَ أَبِيهِ
بِدِمَشْقَ، بَعَثَ بِهَدَايَا سَنِيَّةٍ فِيهَا تُحَفٌ شَرِيفَةٌ إِلَى بَابِ
الْخِلَافَةِ ; مِنْ ذَلِكَ سِلَاحُ أَبِيهِ، وَحِصَانُهُ الَّذِي كَانَ يَحْضُرُ
عَلَيْهِ الْغَزَوَاتِ، وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ ; مِنْهَا صَلِيبُ الصَّلَبُوتِ
الَّذِي اسْتَلَبَهُ أَبُوهُ مِنَ الْفِرِنْجِ يَوْمَ حِطِّينَ وَفِيهِ مِنَ
الذَّهَبِ مَا يَنِيفُ عَلَى عِشْرِينَ رِطْلًا وَهُوَ مُرَصَّعٌ بِالْجَوَاهِرِ
النَّفِيسَةِ، وَأَرْبَعُ جَوَارٍ مِنْ بَنَاتِ مُلُوكِ الْفِرِنْجِ، وَأَنْشَأَ
لَهُ الْعِمَادُ الْكَاتِبُ كِتَابًا حَافِلًا يَذْكُرُ فِيهِ التَّعْزِيَةَ
بِأَبِيهِ، وَالسُّؤَالَ مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مِنْ
بَعْدِهِ ; فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ.
وَلَمَّا كَانَ شَهْرُ جُمَادَى الْأُولَى قَدِمَ الْعَزِيزُ صَاحِبُ مِصْرَ إِلَى
دِمَشْقَ ; لِيَأْخُذَهَا مِنْ أَخِيهِ الْأَفْضَلِ، فَخَيَّمَ عَلَى الْكُسْوَةِ
يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسِ جُمَادَى، وَحَاصَرَ الْبَلَدَ، فَمَانَعَهُ أَخُوهُ،
وَدَافَعَهُ عَنْهَا فَقُطِعَتِ الْأَنْهَارُ وَنُهِبَتِ الثِّمَارُ، وَاشْتَدَّ
الْحَالُ، وَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ حَتَّى قَدِمَ الْعَادِلُ عَمُّهُمَا
فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا، وَرَدَّ الْأَمْرَ لِلْأُلْفَةِ بَعْدَ الْيَمِينِ عَلَى أَنْ
يَكُونَ لِلْعَزِيزِ الْقُدْسُ وَمَا جَاوَرَ فِلَسْطِينَ مِنْ نَاحِيَتِهِ
أَيْضًا، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ جَبَلَةُ وَاللَّاذِقِيَّةُ لِلظَّاهِرِ صَاحِبِ
حَلَبَ وَأَنْ يَكُونَ لِعَمِّهِمَا الْعَادِلِ إِقْطَاعُهُ الْأَوَّلُ بِبِلَادِ
مِصْرَ مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الشَّامِ
وَالْجَزِيرَةِ
; كَحَرَّانَ وَالرُّهَا وَجَعْبَرَ، وَمَا جَاوَرَ ذَلِكَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى
ذَلِكَ، وَتَزَوَّجَ الْعَزِيزُ بِابْنَةِ عَمِّهِ الْعَادِلِ، وَمَرِضَ ثُمَّ
عُوفِيَ، وَهُوَ مُخَيِّمٌ بِمَرْجِ الصُّفَّرِ، وَخَرَجَتِ الْمُلُوكُ
لِتَهْنِئَتِهِ بِالْعَافِيَةِ وَالتَّزْوِيجِ وَالصُّلْحِ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا
إِلَى مِصْرَ لِطُولِ شَوْقِهِ إِلَى أَهْلِهِ، وَأَوْلَادِهِ.
وَكَانَ الْأَفْضَلُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ قَدْ أَسَاءَ التَّدْبِيرَ فَأَبْعَدَ
أُمَرَاءَ أَبِيهِ، وَخَوَاصَّهُ، وَقَرَّبَ الْأَجَانِبَ، وَأَقْبَلَ عَلَى
شُرْبِ الْمُسْكِرِ وَاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ وَزِيرُهُ
ضِيَاءُ الدِّينِ بْنُ الْأَثِيرِ الْجَزَرِيُّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَحْدُوهُ
إِلَى ذَلِكَ فَتَلِفَ وَأَتْلَفَهُ، وَأَضَلَّ وَأَضَلَّهُ، وَزَالَتِ
النِّعْمَةُ عَنْهُمَا، كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ شِهَابِ الدِّينِ مَلِكِ غَزْنَةَ
وَبَيْنَ كُفَّارِ الْهِنْدِ ; أَقْبَلُوا إِلَيْهِ فِي أَلْفِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ،
وَمَعَهُمْ سَبْعُمِائَةِ فِيلٍ مِنْهَا فِيلٌ أَبْيَضُ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ،
فَهَزَمَهُمْ شِهَابُ الدِّينِ عِنْدَ نَهْرٍ عَظِيمٍ يُقَالُ لَهُ: مَاجُونُ.
وَقَتَلَ مَلِكَهُمْ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَحَوَاصِلِ بِلَادِهِ،
وَغَنِمَ فِيَلَتَهُمُ، وَدَخَلَ بَلَدَ الْمَلِكِ الْكُبْرَى، فَحَمَلَ مِنْ خِزَانَتِهِ
ذَهَبًا وَغَيْرَهُ عَلَى أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ جَمَلٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَى
بِلَادِهِ سَالِمًا مَنْصُورًا.
وَفِيهَا مَلَكَ السُّلْطَانُ خُوَارِزْمُ شَاهْ تِكِشُ وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ
الْأَصْبَاعِيِّ بِلَادَ الرَّيِّ وَغَيْرَهَا، وَاصْطَلَحَ مَعَ السُّلْطَانِ
طُغْرُلَ السَّلْجُوقِيِّ، وَكَانَ قَدْ تَسَلَّمَ بِلَادَ الرَّيِّ وَسَائِرَ
مَمْلَكَةِ أَخِيهِ سُلْطَانِ شَاهْ وَخَزَائِنِهِ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ، ثُمَّ
الْتَقَى هُوَ وَالسُّلْطَانُ طُغْرُلُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، فَقَتَلَ السُّلْطَانَ طُغْرُلَ، وَأَرْسَلَ
رَأْسَهُ
إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَعُلِّقَ عَلَى بَابِ النُّوبَةِ عِدَّةَ أَيَّامٍ،
وَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْخِلَعَ وَالتَّقَالِيدَ إِلَى السُّلْطَانِ
خُوَارِزْمِ شَاهْ، وَمَلَكَ هَمَذَانَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ الْمُتَّسِعَةِ.
وَفِيهَا نَقَمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ،
وَتَغَضَّبَ عَلَيْهِ، وَنَفَاهُ إِلَى وَاسِطٍ فَمَكَثَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ لَمْ
يَسْتَطْعِمْ بِطَعَامٍ، وَأَقَامَ بِهَا خَمْسَةَ أَعْوَامٍ يَخْدِمُ نَفْسَهُ،
وَيَسْتَقِي مِنْ بِئْرٍ عَمِيقَةٍ لِنَفْسِهِ الْمَاءَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا
قَدْ بَلَغَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَتْلُو فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
خَتْمَةً، قَالَ: وَلَمْ أَقْرَأْ سُورَةَ يُوسُفَ لِوَجْدِي عَلَى وَلَدِي
يُوسُفَ إِلَى أَنْ فَرَّجَ اللَّهُ. كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يُوسُفَ
أَبُو الْخَيْرِ الْقَزْوِينِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمُفَسِّرُ، قَدِمَ بَغْدَادَ
وَوَعَظَ بِالنِّظَامِيَّةِ، وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى قَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ فِي
الْأُصُولِ، وَجَلَسَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَقِيلَ لَهُ: الْعَنْ يَزِيدَ بْنَ
مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ: ذَاكَ إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ، فَرَمَاهُ النَّاسُ بِالْآجُرِّ
فَاخْتَفَى، ثُمَّ هَرَبَ إِلَى قَزْوِينَ.
ابْنُ الشَّاطِبِيِّ ; نَاظِمُ الشَّاطِبِيَّةِ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ فِيرُّهَ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ خَلَفُ بْنُ
أَحْمَدَ، الرُّعَيْنِيُّ الشَّاطِبِيُّ الضَّرِيرُ، مُصَنِّفُ الشَّاطِبِيَّةِ
فِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ فَلَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهَا وَلَا يُلْحَقْ فِيهَا،
وَفِيهَا مِنَ الرُّمُوزِ كُنُوزٌ لَا يَهْتَدِي
إِلَيْهَا
إِلَّا كُلُّ نَاقِدٍ بَصِيرٍ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ ضَرِيرٌ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَشَاطِبَةُ بَلَدُهُ قَرْيَةٌ شَرْقِيَّ
الْأَنْدَلُسِ كَانَ فَقِيرًا، وَقَدْ أُرِيدَ أَنْ يَلِيَ خَطَابَةَ بَلَدِهِ فَامْتَنَعَ
مِنْ ذَلِكَ ; لِأَجْلِ مُبَالَغَةِ الْخُطَبَاءِ عَلَى الْمَنَابِرِ فِي وَصْفِ
الْمُلُوكِ.
خَرَجَ الشَّاطِبِيُّ إِلَى الْحَجِّ، فَقَدِمَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ عَلَى السِّلَفِيِّ الْحَافِظِ،
وَوَلَّاهُ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مَشْيَخَةَ الْإِقْرَاءِ بِمَدْرَسَتِهِ، وَزَارَ
الْقُدْسَ الشَّرِيفَ وَصَامَ بِهِ شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
الْقَاهِرَةِ فَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ بِالْقُرْبِ مِنَ التُّرْبَةِ
الْفَاضِلِيَّةِ، وَكَانَ دَيِّنًا خَاشِعًا نَاسِكًا كَثِيرَ الْوَقَارِ، لَا
يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَكَانَ يَتَمَثَّلُ كَثِيرًا بِهَذِهِ
الْأَبْيَاتِ، وَهِيَ لُغْزٌ فِي النَّعْشِ، وَهِيَ لِغَيْرِهِ:
أَتَعْرِفُ شَيْئًا فِي السَّمَاءِ يَطِيرُ إِذَا سَارَ صَاحَ النَّاسُ حَيْثُ
يَسِيرُ فَتَلْقَاهُ مَرْكُوبًا وَتَلْقَاهُ رَاكِبًا
وَكُلُّ أَمِيرٍ يَعْتَلِيهِ أَسِيرُ يَحُثُّ عَلَى التَّقْوَى وَيُكْرَهُ
قُرْبُهُ
وَتَنْفِرُ مِنْهُ النَّفْسُ وَهْوَ نَذِيرُ وَلَمْ يَسْتَزِرْ عَنْ رَغْبَةٍ فِي
زِيَارَةٍ
وَلَكِنْ عَلَى رَغْمِ الْمَزُورِ يَزُورُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الزَّلَّاقَةِ بِبِلَادِ الْأَنْدَلُسِ شَمَالِيَّ
قُرْطُبَةَ بِمَرْجِ الْحَدِيدِ، كَانَتْ وَقْعَةً عَظِيمَةً، نَصَرَ اللَّهُ
فِيهَا الْإِسْلَامَ وَخَذَلَ فِيهَا عَبَدَةَ الصُّلْبَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْفُنْشَ مَلِكَ الْفِرِنْجِ بِبِلَادِ الْأَنْدَلُسِ وَمَقَرُّ مُلْكِهِ
بِمَدِينَةِ طُلَيْطُلَةَ كَتَبَ إِلَى الْأَمِيرِ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ
عَبْدِ الْمُؤْمِنِ مَلِكِ الْمَغْرِبِ يَسْتَنْخِيهِ وَيَسْتَدْعِيهِ
وَيَسْتَحِثُّهُ إِلَيْهِ، فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ فِيهِ تَأْنِيبٌ وَتَهْدِيدٌ
وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ، فَكَتَبَ السُّلْطَانُ يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ فِي رَأْسِ
كِتَابِهِ فَوْقَ خَطِّهِ: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا
قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [
النَّمْلِ: 27 ]
ثُمَّ نَهَضَ مِنْ فَوْرِهِ بِجُنُودِهِ وَعَسَاكِرِهِ حَتَّى قَطَعَ الزُّقَاقَ
إِلَى الْأَنْدَلُسِ، فَالْتَقَوْا فِي الْمَكَانِ الْمُتَقَدَّمِ ذِكْرُهُ،
فَكَانَتِ الدَّائِرَةُ أَوَّلًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ
عِشْرُونَ أَلْفًا، ثُمَّ كَانَتْ أَخِيرًا عَلَى الْكَافِرِينَ، فَهَزَمَهُمُ
اللَّهُ وَكَسَرَهُمْ وَخَذَلَهُمْ أَقْبَحَ كَسْرَةٍ، وَشَرَّ هَزِيمَةٍ
وَأَشْنَعَهَا، فَقُتِلَ مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ وَثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعُونَ
أَلْفًا، وَأُسِرَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ
مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا ; مِنْ ذَلِكَ مِائَةُ أَلْفِ خَيْمَةٍ وَثَلَاثَةٌ
وَأَرْبَعُونَ خَيْمَةً، وَمِنَ الْخَيْلِ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ فَرَسٍ،
وَمِنَ الْبِغَالِ مِائَةُ أَلْفِ بَغْلٍ، وَمِنَ الْحُمُرِ مِثْلُهَا، وَمِنَ
السِّلَاحِ التَّامِّ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَمِنَ الْعُدَدِ شَيْءٌ كَثِيرٌ،
وَمَلَكَ عَلَيْهِمْ مِنْ حُصُونِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَحَاصَرَ مَدِينَتَهُمْ
طُلَيْطُلَةَ مُدَّةً، ثُمَّ لَمْ يَفْتَحْهَا،
فَانْفَصَلَ
عَنْهَا رَاجِعًا إِلَى بِلَادِهِ.
وَلَمَّا حَصَلَ لَلْفُنْشِ مَا حَصَلَ حَلَقَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ، وَنَكَّسَ
صَلِيبَهُ وَرَكِبَ حِمَارًا، وَحَلَفَ لَا يَرْكَبُ فَرَسًا وَلَا يَتَلَذَّذُ
بِطَعَامٍ، وَلَا يَنَامُ مَعَ امْرَأَةٍ حَتَّى تَنْصُرَهُ النَّصْرَانِيَّةُ،
فَجَمَعَ مِنَ الْجُنُودِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ،
فَاسْتَعَدَّ لَهُ السُّلْطَانُ يَعْقُوبُ، فَالْتَقَيَا فَاقْتَتَلَا قِتَالًا
عَظِيمًا، فَانْهَزَمَ الْفِرِنْجُ أَقْبَحَ مِنْ هَزِيمَتِهِمُ الْأُولَى
وَغَنِمُوا مِنْهُمْ نَظِيرَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوْ أَكْثَرَ، وَاسْتَحْوَذَ
السُّلْطَانُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَعَاقِلِهِمْ وَقِلَاعِهِمْ؛ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ بِيعَ الْأَسِيرُ بِدِرْهَمٍ،
وَالْحِصَانُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَالْخَيْمَةُ بِدِرْهَمٍ، وَالسَّيْفُ
بِنِصْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَسَمَ السُّلْطَانُ هَذِهِ الْغَنَائِمَ عَلَى
الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، فَاسْتَغْنَى الْمُجَاهِدُونَ إِلَى الْأَبَدِ، ثُمَّ
طَلَبَتِ الْفِرِنْجُ مِنَ السُّلْطَانِ الْأَمَانَ فَهَادَنَهُمْ عَلَى وَضْعِ
الْحَرْبِ خَمْسَ سِنِينَ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا
يُقَالُ لَهُ: عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَيُورقِيُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ:
الْمُلَثَّمُ. ظَهَرَ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَأَحْدَثَ أُمُورًا فَظِيعَةً
فِي غَيْبَةِ السُّلْطَانِ وَاشْتِغَالِهِ بِقِتَالِ الْفِرِنْجِ مُدَّةَ ثَلَاثِ
سِنِينَ، وَظَهَرَ هَذَا الْمَارِقُ الْمَيُورقِيُّ بِالْبَادِيَةِ، وَعَاثَ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَتَمَلَّكَ بِلَادًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا اسْتَحْوَذَ جَيْشُ الْخَلِيفَةِ
عَلَى بِلَادِ الرَّيِّ وَأَصْبَهَانَ وَهَمَذَانَ وَخُوزِسْتَانَ وَغَيْرِهَا
مِنَ الْبِلَادِ، وَقَوِيَ جَانِبُ الْخِلَافَةِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْمَمَالِكِ.
وَفِيهَا خَرَجَ الْعَزِيزُ مِنْ مِصْرَ قَاصِدًا دِمَشْقَ لِيَأْخُذَهَا مِنْ
يَدِ أَخِيهِ الْأَفْضَلِ، وَكَانَ الْأَفْضَلُ قَدْ تَابَ وَأَنَابَ وَأَقْلَعَ
عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الشَّرَابِ وَاللَّهْوِ
وَاللَّعِبِ،
وَأَقْبَلَ عَلَى الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ، وَشَرَعَ بِكِتَابَةِ مُصْحَفٍ
بِيَدِهِ وَحَسُنَتْ طَرِيقَتُهُ، غَيْرَ أَنَّ وَزِيرَهُ الضِّيَاءَ الْجَزَرِيَّ
يُفْسِدُ عَلَيْهِ دَوْلَتَهُ وَيُكَدِّرُ عَلَيْهِ صَفْوَتَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ
الْأَفْضَلَ إِقْبَالُ أَخِيهِ نَحْوَهُ سَارَ سَرِيعًا إِلَى عَمِّهِ الْعَادِلِ
وَهُوَ بِجَعْبَرَ فَاسْتَنْجَدَهُ، فَسَارَ مَعَهُ وَسَبَقَهُ إِلَى دِمَشْقَ،
وَرَاحَ الْأَفْضَلُ أَيْضًا إِلَى أَخِيهِ الظَّاهِرِ بِحَلَبَ فَسَارَا جَمِيعًا
نَحْوَ دِمَشْقَ، فَلَمَّا سَمِعَ الْعَزِيزُ بِذَلِكَ وَقَدِ اقْتَرَبَ مِنْ
دِمَشْقَ كَرَّ رَاجِعًا سَرِيعًا إِلَى مِصْرَ، وَرَكِبَ وَرَاءَهُ الْعَادِلُ
وَالْأَفْضَلُ لِيَأْخُذَا مِنْهُ دِيَارَ مِصْرَ، وِقَدِ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ
يَكُونَ ثُلُثُ مِصْرَ لِلْعَادِلِ وَثُلُثَاهَا لِلْأَفْضَلِ، ثُمَّ بَدَا
لِلْعَادِلِ فِي ذَلِكَ فَأَرْسَلَ لِلْعَزِيزِ يُثَبِّتُهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى
الْأَفْضَلِ يُثَبِّطُهُ، وَأَقَامَا عَلَى بِلْبِيسَ أَيَّامًا حَتَّى خَرَجَ
إِلَيْهِمَا الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ جِهَةِ الْعَزِيزِ، فَوَقَّعَ الصُّلْحُ
بَيْنَهُمَا عَلَى أَنْ يَرْجِعَ الْقُدْسَ وَمُعَامَلَتَهَا لِلْأَفْضَلِ،
وَيَسْتَقِرَّ الْعَادِلُ مُقِيمًا بِمِصْرَ عَلَى إِقْطَاعِهِ الْقَدِيمِ،
فَأَقَامَ الْعَادِلُ بِهَا طَمَعًا فِيهَا، وَرَجَعَ الْأَفْضَلُ إِلَى دِمَشْقَ
بَعْدَمَا خَرَجَ الْعَزِيزُ لِتَوْدِيعِهِ، وَهِيَ هُدْنَةٌ عَلَى قَذًى،
وَصُلْحٌ عَلَى دَخَنٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَلِيُّ بْنُ حَسَّانَ بْنِ مُسَافِرٍ
أَبُو الْحَسَنِ، الْكَاتِبُ الْبَغْدَادِيُّ، كَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا، مِنْ
شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
نَفَى رُقَادِي وَمَضَى بَرْقٌ بِسَلْعٍ وَمَضَا لَاحَ كَمَا سَلَّتْ يَدُ الْ
أَسْوَدِ عَضْبًا أَبْيَضَا
كَأَنَّهُ
الْأَشْهَبُ فِي
الْنَّقْعِ إِذَا مَا رَكَضَا يَبْدُو كَمَا تَخْتَلِفُ الرِّ
يحُ عَلَى جَمْرِ الْغَضَا فَتَحْسَبُ الزِّنْجِيَّ أَبَ
دَى نَظَرًا وَغَمَّضَا أَوْ شُعْلَةُ النَّارِ عَلَا
لَهِيبُهَا وَانْخَفَضَا آهٍ لَهُ مِنْ بَارِقٍ
ضَاءَ عَلَى ذَاتِ الْأَضَا أَذْكَرْنِي عَهْدًا مَضَى
عَلَى الْغُوَيْرِ وَانْقَضَى فَقَالَ لِي قَلْبِي أَتُو
صِي حَاجَةً وَأَعْرَضَا يَطْلُبُ مَنْ أَمْرَضَهُ
فَدَيْتُ ذَاكَ الْمُمْرِضَا يَا غَرَضَ الْقَلْبِ لَقَدْ
غَادَرْتَ قَلْبِي غَرَضَا لِأَسْهُمٍ كَأَنَّمَا
يُرْسِلُهَا صَرْفُ الْقَضَا فَبِتُّ لَا أَرْتَابُ فِي
أَنَّ رُقَادِي قَدْ قَضَى حَتَّى قَفَا اللَّيْلُ وَكَادَ
اللَّيْلُ أَنْ يَنْقَرِضَا وَأَقْبَلَ الصُّبْحُ لِأَطْ
رَافِ الدُّجَا مُبَيِّضَا وَسَلَّ فِي الشَّرْقِ عَلَى الْ
غَرْبِ ضِيَاءً وَانْقَضَى
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِي رَجَبٍ مِنْهَا أَقَبْلَ الْعَزِيزُ صُحْبَةَ عَمِّهِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ
فِي عَسَاكِرَ، فَدَخَلَا دِمَشْقَ قَهْرًا، وَأَخْرَجَا مِنْهَا الْأَفْضَلَ
وَوَزِيرَهُ الَّذِي أَسَاءَ تَدْبِيرَهُ، وَصَلَّى الْعَزِيزُ عِنْدَ تُرْبَةِ
وَالِدِهِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَخُطِبَ لَهُ بِدِمَشْقَ،
وَدَخَلَ إِلَى الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ وَجَلَسَ فِي دَارِ الْعَدْلِ
لِلْحُكْمِ وَالْفَصْلِ، كُلُّ هَذَا وَأَخُوهُ الْأَفْضَلُ حَاضِرٌ عِنْدَهُ فِي
الْخِدْمَةِ، وَأَمَرَ الْقَاضِيَ مُحْيِي الدِّينِ بْنَ الزَّكِيِّ بِتَأْسِيسِ
االْمَدْرَسَةِ الْعَزِيزِيَّةِ إِلَى جَانِبِ تُرْبَةِ أَبِيهِ، وَكَانَتْ دَارًا
لِلْأَمِيرِ عِزِّ الدِّينِ شَامَةَ، ثُمَّ اسْتَنَابَ عَلَى دِمَشْقَ عَمَّهُ
الْمَلِكَ الْعَادِلَ، وَرَجَعَ إِلَى مِصْرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ تَاسِعَ
شَعْبَانَ، وَالسِّكَّةُ وَالْخُطْبَةُ لَهُ، وَصُولِحَ الْأَفْضَلُ عَنْ دِمَشْقَ
عَلَى صَرْخَدَ وَهَرَبَ وَزِيرُهُ ابْنُ الْأَثِيرِ االْجَزَرِيُّ إِلَى
جَزِيرَتِهِ، وَقَدْ أَتْلَفَ نَفْسَهُ وَمُلْكَهُ بِجَرِيرَتِهِ، وَانْتَقَلَ
الْأَفْضَلُ إِلَى صَرْخَدَ بِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ وَأَخِيهِ قُطْبُ الدِّينِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ سَوْدَاءُ مُدْلَهِمَّةٌ بِأَرْضِ
الْعِرَاقِ، وَمَعَهَا رَمْلٌ أَحْمَرُ، حَتَّى احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى السُّرُجِ
بِالنَّهَارِ، وَفِيهَا وَلِيَ قِوَامُ الدِّينِ أَبُو طَالِبٍ يَحْيَى بْنُ
سَعِيدِ بْنِ زِيَادَةَ كِتَابَ الْإِنْشَاءِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ بَلِيغًا،
وَلَيْسَ هُوَ كَالْفَاضِلِ، وَفِيهَا دَرَّسُ مُجِيرُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ
مَحْمُودُ بْنُ الْمُبَارَكِ بِالنِّظَامِيَّةِ،
وَكَانَ
فَاضِلًا مُنَاظِرًا.
وَفِيهَا قُتِلَ رَئِيسُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَصْبَهَانَ صَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّطِيفِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّطِيفِ بْنِ ثَابِتٍ
الْخُجَنْدِيُّ، قَتَلَهُ فَلَكُ الدِّينِ سُنْقُرُ الطَّوِيلُ، وَكَانَ ذَلِكَ
سَبَبَ زَوَالِ مُلْكِ أَصْبَهَانَ عَنِ الدِّيوَانِ.
وَفِيهَا مَاتَ الْوَزِيرُ ; وَزِيرُ الْخِلَافَةِ.
مُؤَيِّدُ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْقَصَّابِ، وَكَانَ أَبُوهُ يَبِيعُ اللَّحْمَ فِي
بَعْضِ أَسْوَاقِ بَغْدَادَ، فَتَقَدَّمَ وَسَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ بِهَمَذَانَ وَقَدْ أَعَادَ رَسَاتِيقَ كَثِيرَةً مِنْ بِلَادِ
الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا إِلَى دِيوَانِ الْخِلَافَةِ، وَكَانَ
نَاهِضًا ذَا هِمَّةٍ عَالِيَةٍ، وَلَهُ صَرَامَةٌ وَشَهَامَةٌ وَشِعْرٌ جَيِّدٌ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
الْفَخْرُ مَحْمُودُ بْنُ عَلِيٍّ.
النَّوْقَانِيُّ الشَّافِعِيُّ، عَائِدًا مِنِ الْحَجِّ.
وَالشَّاعِرُ: أَبُو الْغَنَائِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
ابْنُ الْمُعَلِّمِ الْهُرْثِيُّ مِنْ قُرَى وَاسِطٍ، عَنْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ
سَنَةً، وَكَانَ شَاعِرًا فَصِيحًا، وَكَانَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ يَسْتَشْهِدُ فِي
مَجَالِسِهِ
بِشَيْءٍ مِنْ لَطَائِفِ أَشْعَارِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ السَّاعِي قِطْعَةً
جَيِّدَةً مِنْ شِعْرِهِ الْحَسَنِ الْمَلِيحِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْفَقِيهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ
الْحَسَنِ الْبَغْدَادِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْعَرِّيفِ.
وَيُلَقَّبُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ، كَانَ حَنْبَلِيًّا ثُمَّ اشْتَغَلَ
شَافِعِيًّا عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ فَضْلَانَ، وَهُوَ الَّذِي لَقَّبَهُ
بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ تَكْرَارِهِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ صَارَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ
إِلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو شُجَاعٍ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ الدَّهَّانِ الْفَرَضِيُّ الْحَاسِبُ
الْمُؤَرِّخُ الْبَغْدَادِيُّ، قَدِمَ دِمَشْقَ وَامْتَدَحَ الشَّيْخَ أَبَا
الْيُمْنِ الْكِنْدِيَّ زَيْدَ بْنَ الْحَسَنِ فَقَالَ:
يَا زَيْدُ زَادَكَ رَبِّي مِنْ مَوَاهِبِهِ نَعْمَاءَ يَقْصُرُ عَنْ إِدْرَاكِهَا
الْأَمَلُ لَا بَدَّلَ اللَّهُ حَالًا قَدْ حَبَاكَ بِهَا
مَا دَارَ بَيْنَ النُّحَاةِ الْحَالُ وَالْبَدَلُ النَّحْوُ أَنْتَ أَحَقُّ
الْعَالِمِينَ بِهِ
أَلَيْسَ بِاسْمِكَ فِيهِ يُضْرَبُ الْمَثَلُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنَ الْقَاضِي الْفَاضِلِ إِلَى ابْنِ الزَّكِيِّ
يُخْبِرُهُ فِيهِ أَنَّ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ التَّاسِعِ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ أَتَى عَارِضٌ فِيهِ ظُلُمَاتٌ مُتَكَاثِفَةٌ، وَبُرُوقٌ خَاطِفَةٌ،
وَرِيَاحٌ عَاصِفَةٌ، فَقَوِيَ لَهُوبُهَا، وَاشْتَدَّ هُبُوبُهَا، فَتَدَافَعَتْ
لَهَا أَعِنَّةٌ مُطْلَقَاتٌ، وَارْتَفَعَتْ لَهَا صَعَقَاتٌ، فَرَجَفَتْ لَهَا
الْجُدْرَانُ، وَاصْطَفَقَتْ، وَتَلَاقَتْ عَلَى بُعْدِهَا وَاعْتَنَقَتْ، وَثَارَ
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَجَاجٌ، فَقِيلَ: لَعَلَّ هَذِهِ عَلَى هَذِهِ
قَدِ انْطَبَقَتْ. وَلَا تَحْسَبُ إِلَّا أَنَّ جَهَنَّمَ قَدْ سَالَ مِنْهَا
وَادٍ، وَعَدَا مِنْهَا عَادٍ، وَزَادَ عَصْفُ الرِّيحِ إِلَى أَنْ أَطْفَأَ
سُرُجَ النُّجُومِ ; وَمَزَّقَتْ أَدِيمَ السَّمَاءِ، وَمَحَتْ مَا فَوْقَهُ مِنَ
الرُّقُومِ، فَكُنَّا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي
آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ [ الْبَقَرَةِ: 19 ] وَكَمَا قُلْنَا: يَرُدُّونَ
أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَعْيُنِهِمْ مِنِ الْبَوَارِقِ. لَا عَاصِمَ مِنَ الْخَطْفِ
لِلْأَبْصَارِ، وَلَا مَلْجَأَ مِنَ الْخَطْبِ إِلَّا مَعَاقِلُ الِاسْتِغْفَارِ،
وَفَرَّ النَّاسُ نِسَاءً وَرِجَالًا وَأَطْفَالًا، وَنَفَرُوا مِنْ دُورِهِمْ
خِفَافًا وَثِقَالًا ; لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا،
فَاعْتَصَمُوا بِالْمَسَاجِدِ الْجَامِعَةِ، وَأَذْعَنُوا لِلنَّازِلَةِ بِأَعْنَاقٍ
خَاضِعَةٍ، بِوُجُوهٍ عَانِيَةٍ، وَنُفُوسٍ عَنِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ سَالِيَةٍ،
يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ
خَفِيٍّ،
وَيَتَوَقَّعُونَ أَيَّ خَطْبٍ جَلِيٍّ، قَدِ انْقَطَعَتْ مِنَ الْحَيَاةِ
عُلَقُهُمْ، وَعَمِيَتْ عَنِ النَّجَاةِ طُرُقُهُمْ، وَوَقَعَتِ الْفِكْرَةُ
فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ قَادِمُونَ، وَقَامُوا إِلَى صَلَاتِهِمْ، وَوَدُّوا لَوْ
كَانُوا مِنَ الَّذِينَ هُمْ عَلَيْهَا دَائِمُونَ إِلَى أَنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي
الرُّكُودِ، وَأَسْعَفَ الْهَاجِدِينَ بِالْهُجُودِ، وَأَصْبَحَ كُلٌّ يُسَلِّمُ
عَلَى رَفِيقِهِ، وَيُهَنِّيهِ بِسَلَامَةِ طَرِيقِهِ، وَيَرَى أَنَّهُ قَدْ
بُعِثَ بَعْدَ النَّفْخَةِ، وَأَفَاقَ بَعْدَ الصَّيْحَةِ، وَالصَّرْخَةِ، وَأَنَّ
اللَّهَ قَدْ رَدَّ لَهُ الْكَرَّةَ، وَأَحْيَاهُ بَعْدَ أَنْ كَادَ يَأْخُذُهُ
عَلَى غِرَّةٍ، وَوَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّهَا قَدْ كَسَرَتِ الْمَرَاكِبَ
فِي الْبِحَارِ، وَالْأَشْجَارَ فِي الْقِفَارِ، وَأَتْلَفَتْ خَلْقًا كَثِيرًا
مِنِ السُّفَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ فَلَمْ يَنْفَعْهُ الْفِرَارُ... إِلَى
أَنْ قَالَ: وَلَا يَحْسَبُ الْمَجْلِسُ أَنِّي أَرْسَلْتُ الْقَلَمَ مُحَرِّفًا،
وَالْقَوْلَ مُجَزِّفًا، فَالْأَمْرُ أَعْظَمُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ،
وَنَرْجُو أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَيْقَظْنَا بِمَا وَعَظَنَا، وَنَبَّهْنَا بِمَا
وَلَّهَنَا، فَمَا مِنْ عِبَادِهِ مَنْ رَأَى الْقِيَامَةَ عِيَانًا، وَلَمْ
يَلْتَمِسْ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ بُرْهَانًا إِلَّا أَهْلُ بَلَدِنَا ;
فَمَا قَصَّ الْأَوَّلُونَ مِثْلَهَا فِي الْمُثُلَاتِ، وَلَا سَبَقَتْ لَهَا
سَابِقَةٌ فِي الْمُعْضِلَاتِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مِنْ فَضْلِهِ قَدْ
جَعَلَنَا نُخْبِرُ عَنْهَا، وَلَا تُخْبِرُ عَنَّا، وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ
يَصْرِفَ عَنَّا عَارِضَ الْحِرْصِ وَالْغُرُورِ إِذَا عَنَّا
وَفِيهَا كَتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى
الْمَلِكِ الْعَادِلِ بِدِمَشْقَ يَحُثُّهُ عَلَى قِتَالِ الْفِرِنْجِ،
وَيَشْكُرُهُ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنْ مُحَارَبَتِهِمْ، وَحِفْظِ حَوْزَةِ
الْإِسْلَامِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْكُتُبِ: هَذِهِ
الْأَوْقَاتُ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا
عَرَائِسُ
الْأَعْمَارِ، وَهَذِهِ النَّفَقَاتُ الَّتِي تَجْرِي عَلَى أَيْدِيكُمْ مُهُورُ
الْحُورِ فِي دَارِ الْقَرَارِ، وَمَا أَسْعَدَ مَنْ أَوْدَعَ يَدَ اللَّهِ مَا
فِي يَدَيْهِ، فَتِلْكَ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَتَوْفِيقُهُ الَّذِي مَا كُلُّ
مَنْ طَلَبَهُ وَصَلَ إِلَيْهِ، وَسَوَادُ الْعَجَاجِ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ
بَيَاضُ مَا سَوَّدَتْهُ الذُّنُوبُ مِنَ الصَّحَائِفِ، فَمَا أَسْعَدَ تِلْكَ
الْوَقَعَاتِ، وَمَا أَعْوَدَ بِالطُّمَأْنِينَةِ تِلْكَ الرَّجَفَاتِ، وَكَتَبَ
إِلَيْهِ أَيْضًا: أَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ الِاسْمَ تَاجًا عَلَى مَفَارِقِ
الْمَنَابِرِ وَالطُّرُوسِ، وَحَيَّاةً لِلدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ
الْأَجْسَادِ وَالنُّفُوسِ، وَعَرَّفَ الْمَمْلُوكَ مَا عَرَفَهُ مِنَ الْأَمْرِ
الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْمُشَاهَدَةُ، وَجَرَتْ بِهِ الْعَاقِبَةُ فِي سُرُورٍ،
وَلَا مَزِيدَ عَلَى تَشْبِيهِ الْحَالِ بِقَوْلِهِ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَرَءَ تَدْوَى يَمِينُهُ فَيَقْطَعُهَا عَمْدًا لِيَسْلَمَ
سَائِرُهْ
وَلَوْ كَانَ فِيهَا تَدْبِيرٌ لَكَانَ مَوْلَانَا سَبَقَ إِلَيْهِ، وَمَنْ قَلَمَ
مِنَ الْأُصْبَعِ ظُفْرًا فَقَدْ جَلَبَ إِلَى الْجَسَدِ بِفِعْلِهِ نَفْعًا،
وَدَفَعَ عَنْهُ ضَرَرًا.
وَتَجَشُّمُ الْمَكْرُوهِ لَيْسَ بِضَائِرٍ مَا خِلْتَهُ سَبَبًا إِلَى
الْمَحْمُودِ
وَآخِرُ كُلِّ شِقْوَةٍ أَوَّلُ كُلِّ غَزْوَةٍ، فَلَا يَسْأَمْ مَوْلَانَا
نِيَّةَ الرِّبَاطِ وَفِعْلَهَا، وَتَجَشُّمَ الْكُلَفِ وَحَمْلَهَا، فَهُوَ إِذَا
صَرَفَ وَجْهَهُ إِلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ وَجْهُ اللَّهِ، صَرَفَ اللَّهُ
إِلَيْهِ الْوُجُوهَ كُلَّهَا وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ انْقَضَتْ مُدَّةُ الْهُدْنَةِ الَّتِي كَانَ عَقَدَهَا
الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ
لِلْفِرِنْجِ
فَأَقْبَلُوا بِقَضِّهِمْ، وِقَضِيضِهِمْ فَتَلَقَّاهُمُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ
بِمَرْجِ عَكَّا فَكَسَرَهُمْ وَغَنِمَهُمْ وَفَتَحَ يَافَا عَنْوَةً؛ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ كَانُوا كَتَبُوا إِلَى مَلِكِ الْأَلْمَانِ يَسْتَنْهِضُونَهُ لِفَتْحِ
بَيْتِ الْمَقَدْسِ فَقَدَّرَ اللَّهُ هَلَاكَهُ سَرِيعًا، وَأَخَذَتِ الْفِرِنْجُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَيْرُوتَ مِنْ نَائِبِهَا عِزِّ الدِّينِ شَامَةَ مِنْ
غَيْرِ قِتَالٍ وَلَا نِزَالٍ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي
الْأَمِيرِ شَامَةَ:
سَلِّمِ الْحِصْنَ مَا عَلَيْكَ مَلَامَهْ مَا يُلَامُ الَّذِي يَرُومُ
السَّلَامَهْ
فَعَطَاءُ الْحُصُونِ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ سُنَّةٌ سَنَّهَا بِبَيْرُوتَ شَامَهْ
وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلِكُ الْفِرِنْجِ كُنْدَهِرِيٌّ ; سَقَطَ مِنْ
شَاهِقٍ فَمَاتَ، فَبَقِيَتِ الْفِرِنْجُ كَالْغَنَمِ بِلَا رَاعٍ، حَتَّى
مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ صَاحِبَ قُبْرُسَ وَزَوَّجُوهُ بِالْمَلِكَةِ امْرَأَةِ
كُنْدَهِرِيٍّ، وَجَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْعَادِلِ أَبِي
بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، فَفِي كُلِّهَا يَسْتَظْهِرُ عَلَيْهِمْ وَيَكْسِرَهُمْ،
وَيَقْتُلُ خَلْقًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ؛ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَلَمْ يَزَالُوا
كَذَلِكَ مَعَهُ حَتَّى طَلَبُوا الصُّلْحَ وَالْمُهَادَنَةَ، فَعَاقَدَهُمْ عَلَى
ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ مَلِكُ الْيَمَنِ سَيْفُ الْإِسْلَامِ
طُغْتِكِينُ
أَخُو السُّلْطَانِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَكَانَ قَدْ جَمَعَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً
جِدًّا، وَكَانَ يَسْبِكُ الذَّهَبَ مِثْلَ الطَّوَاحِينِ وَيَدَّخِرُهُ كَذَلِكَ،
وَقَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ، وَكَانَ أَهْوَجَ قَلِيلَ
التَّدْبِيرِ، فَحَمَلَهُ جَهْلُهُ عَلَى أَنِ ادَّعَى أَنَّهُ قُرَشِيٌّ
أُمَوِيٌّ، وَتَلَقَّبَ بِالْهَادِي،
فَكَتَبَ
إِلَيْهِ عَمُّهُ الْعَادِلُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَتَهَدَّدُهُ بِسَبَبِ
ذَلِكَ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ وَلَا الْتَفَتَ إِلَيْهِ، بَلْ تَمَادَى
وَأَسَاءَ التَّدْبِيرَ إِلَى الْأُمَرَاءِ وَالرَّعِيَّةِ، فَقُتِلَ وَتَوَلَّى
بَعْدَهُ مَمْلُوكٌ مِنْ مَمَالِيكِ أَبِيهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ: الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ أَبُو الْهَيْجَاءِ السَّمِينُ
الْكُرْدِيُّ، كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ
الدِّينِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ نَائِبًا عَلَى عَكَّا وَخَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ
أَخْذِ الْفِرِنْجِ، ثُمَّ دَخَلَهَا بَعْدَ الْمَشْطُوبِ فَأُخِذَتْ مِنْهُ،
وَاسْتَنَابَهُ صَلَاحُ الدِّينِ عَلَى الْقُدْسِ ثُمَّ لَمَّا أَخَذَهَا
الْعَزِيزُ عُزِلَ عَنْهَا، فَطُلِبَ إِلَى بَغْدَادَ فَأُكْرِمَ إِكْرَامًا
زَائِدًا، وَأَرْسَلَهُ الْخَلِيفَةُ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَسَاكِرِ إِلَى
هَمَذَانَ فَمَاتَ هُنَاكَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ: قَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ أَبُو طَالِبٍ عَلِيُّ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْبُخَارِيِّ
سَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى أَبِي الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ، وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي
الْقَاسِمِ بْنِ فَضْلَانَ، وَتَوَلَّى نِيَابَةَ الْحُكْمِ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ
اشْتَغَلَ بِالْمَنْصِبِ، وَأُضِيفَ إِلَيْهِ فِي وَقْتِ نِيَابَةِ الْوِزَارَةِ،
ثُمَّ عُزِلَ عَنِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ أُعِيدَ وَمَاتَ وَهُوَ حَاكِمٌ، نَسْأَلُ
اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا مِنْ بَيْتِ فِقْهٍ وَعَدَالَةٍ،
وَلَهُ شِعْرٌ:
تَنَحَّ عَنِ الْقَبِيحِ وَلَا تُرِدْهُ وَمَنْ أَوْلَيْتَهُ حَسَنًا فَزِدْهُ
سَتُكْفَى مِنْ عَدُوِّكَ كُلَّ كَيْدٍ
إِذَا كَادَ الْعَدُوُّ وَلَمْ تَكِدْهُ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ: السَّيِّدُ الشَّرِيفُ نَقِيبُ الطَّالِبِيِّينَ بِبَغْدَادَ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ
عَلِيِّ
بْنِ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْعَلَوِيُّ الْحُسَيْنِيُّ،
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَقْسَاسِيِّ، الْكُوفِيُّ مَوْلِدًا وَمَنْشَأً، كَانَ
شَاعِرًا مُطَبِّقًا، امْتَدَحَ الْخُلَفَاءَ وَالْوُزَرَاءَ، وَهُوَ مِنْ بَيْتٍ
مَشْهُورٍ بِالْأَدَبِ وَالرِّيَاسَةِ وَالْمُرُوءَةِ، قَدِمَ بَغْدَادَ
فَامْتَدَحَ الْمُقْتَفِيَ وَالْمُسْتَنْجِدَ وَابْنَهُ الْمُسْتَضِيءَ وَابْنَهُ
النَّاصِرَ فَوَلَّاهُ النِّقَابَةَ كَانَ شَيْخًا مَهِيبًا، جَاوَزَ
الثَّمَانِينَ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ السَّاعِي قَصَائِدَ كَثِيرَةً
مِنْهَا:
اصْبِرْ عَلَى كَيْدِ الزَّمَا نِ فَمَا يَدُومُ عَلَى طَرِيقَهْ
سَبَقَ الْقَضَاءُ فَكُنْ بِهِ رَاضٍ وَلَا تَطْلُبْ حَقِيقَهْ
كَمْ قَدْ تَغَلَّبَ مَرَّةً وَأَرَاكَ مِنْ سَعَةٍ وَضِيقَهْ
مَا زَالَ فِي أَوْلَادِهِ يَجْرِي عَلَى هَذِي الطَّرِيقَهْ
وَفِيهَا تُوُفِّيَتِ السِّتُّ عَذْرَاءُ بِنْتُ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ
وَدُفِنَتْ بِمَدْرَسَتِهَا دَاخِلَ بَابِ النَّصْرِ.
وَالسِّتُّ خَاتُّونُ وَالِدَةُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ، وَدُفِنَتْ بِدَارِهَا
بِدِمَشْقَ الْمُجَاوِرَةِ لِدَارِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا جَمَعَتِ الْفِرِنْجُ جُمُوعَهَا وَأَقْبَلُوا فَحَاصَرُوا تِبْنِينَ،
فَاسْتَدْعَى الْعَادِلُ بَنِي أَخِيهِ لِقِتَالِهِمْ، فَجَاءَهُ الْعَزِيزُ مِنْ
مِصْرَ وَالْأَفْضَلُ مِنْ صَرْخَدَ فَأَقْلَعَتِ الْفِرِنْجُ عَنِ الْحِصْنِ
وَبَلَغَهُمْ مَوْتُ مَلِكِ الْأَلْمَانِ، فَطَلَبُوا مِنَ الْعَادِلِ الْهُدْنَةَ
وَالْأَمَانَ، فَهَادَنَهُمْ وَرَجَعَتِ الْمُلُوكُ إِلَى أَمَاكِنِهَا، وَقَدْ
عَظُمَ الْمُعَظَّمُ عِيسَى بْنُ الْعَادِلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَاسْتَنَابَهُ
أَبُوهُ عَلَى دِمَشْقَ وَسَارَ إِلَى مُلْكِهِ بِالْجَزِيرَةِ فَأَحْسَنَ فِيهِمُ
السِّيرَةَ.
وَكَانَ قَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ السُّلْطَانُ صَاحِبُ سِنْجَارَ
وَغَيْرِهَا مِنِ الْمَدَائِنِ الْكِبَارِ، وَهُوَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيُّ
بْنُ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ الْأَتَابِكِيُّ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ
وَأَحْسَنِهِمْ شَكْلًا وَسِيرَةً، وَأَجْوَدِهِمْ طَوِيَّةً وَسَرِيرَةً، غَيْرَ
أَنَّهُ كَانَ يُبْخَّلُ، وَكَانَ شَدِيدَ الْمَحَبَّةِ لِلْعُلَمَاءِ، وَلَا
سِيَّمَا الْحَنَفِيَّةَ، وِقَدِ ابْتَنَى لَهُمْ مَدْرَسَةً بِسِنْجَارَ،
وَشَرَطَ لَهُمْ طَعَامًا يُطْبَخُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ،
وَهَذَا نَظَرٌ حَسَنٌ، وَالْفَقِيهُ أَوْلَى بِهَذِهِ الْحَسَنَةِ مِنَ
الْفَقِيرِ ; لِاشْتِغَالِ الْفَقِيهِ بِتَكْرَارِهِ وَمُطَالَعَتِهِ عَنِ
الْفِكْرِ فِيمَا يُقِيتُهُ، فَعَدَا عَلَى أَوْلَادِهِ ابْنُ عَمِّهِ صَاحِبُ
الْمَوْصِلِ فَأَخَذَ الْمُلْكَ مِنْهُمْ، فَاسْتَغَاثَ
بَنُوهُ
بِالْمَلِكِ الْعَادِلِ، فَرَدَّ فِيهِمُ الْمُلْكَ وَدَرَأَ عَنْهُمُ الضَّيْمَ،
وَاسْتَقَرَّتِ الْمَمَلَكَةُ لِوَلَدِهِ قُطْبِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ سَارَ
الْعَادِلُ إِلَى مَارِدِينَ فَحَاصَرَهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَاسْتَوْلَى
عَلَى رَبَضِهَا وَمُعَامَلَتِهَا، وَأَعْجَزَتْهُ قَلْعَتُهَا فَصَافَ عَلَيْهَا
وَشَتَا، وَمَا ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ تَمَلَّكَهَا ; حَتَّى هَنَّتْهُ
الشُّعَرَاءُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَثْبُوتًا وَلَا مُقَدَّرًا.
وَفِيهَا مَلَكَتِ الْغُورُ مَدِينَةَ بَلْخَ وَكَسَرُوا الْخِطَا وَقَهَرُوهُمْ
وَهَزَمُوهُمْ وَتَوَقَّعُوا بِإِرْسَالِ الْخَلِيفَةِ إِلَيْهِمْ أَنْ يَمْنَعُوا
خُوَارِزْمَ شَاهْ مِنْ دُخُولِ الْعِرَاقِ فَإِنَّهُ كَانَ يَرُومُ أَنْ يُخْطَبَ
لَهُ بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا حَاصَرَ خُوَارِزْمُ شَاهْ مَدِينَةَ بُخَارَا فَفَتَحَهَا بَعْدَ
مُدَّةٍ، وَقَدْ كَانَتِ امْتَنَعَتْ عَلَيْهِ دَهْرًا وَنَصَرَهُمُ الْخِطَا
فَقَهَرَهُمْ جَمِيعًا وَأَخَذَهَا عَنْوَةً، وَعَفَا عَنْ أَهْلِهَا وَصَفَحَ
عَنْهُمْ، وَقَدْ كَانُوا أَلْبَسُوا كَلْبًا أَعْوَرَ قَبَاءً وَسَمَّوْهُ
خُوَارِزْمَ شَاهْ، وَرَمَوْهُ فِي الْمَنْجَنِيقِ إِلَى الْخُوَارِزْمِيَّةِ،
وَقَالُوا: هَذَا مَلِكُكُمْ. وَكَانَ خُوَارِزْمُ شَاهْ أَعْوَرَ، فَلَمَّا
قَدِرَ عَلَيْهِمْ عَفَا عَنْهُمْ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنِ الْأَعْيَانِ:
الْقِوَامُ بْنُ زَبَادَةَ كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ بِبَابِ الْخِلَافَةِ، وَهُوَ
أَبُو طَالِبٍ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
زَبَادَةَ، قِوَامُ الدِّينِ، انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ التَّرَسُّلِ
وَالْإِنْشَاءِ
وَالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ فِي زَمَانِهِ بِالْعِرَاقِ، وَلَهُ عُلُومٌ
كَثِيرَةٌ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَخَذَهُ
عَنِ ابْنِ فَضْلَانَ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْأَصْلَيْنِ وَالْحِسَابِ
وَاللُّغَةِ وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، وَقَدْ وَلِيَ عِدَّةَ مَنَاصِبَ، كَانَ
مَشْكُورًا فِي جَمِيعِهَا، وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
لَا تَحْقِرَنَّ عَدُوًّا تَزْدَرِيهِ فَكَمْ قَدْ أَتْعَسَ الدَّهْرُ جَدَّ
الْجِدِّ بِاللَّعِبِ فَهَذِهِ الشَّمْسُ يَعْرُوهَا الْكُسُوفُ لَهَا
عَلَى جَلَالَتِهَا بِالرَّأْسِ وَالذَّنَبِ
وَقَوْلُهُ:
بِاضْطِرَابِ الزَّمَانِ تَرْتَفِعُ الْأَنْ ذَالُ فِيهِ حَتَّى يَعُمَّ
الْبَلَاءُ
وَكَذَا الْمَاءُ رَاكِدٌ فِإِذَا حُرِّكَ ثَارَتْ مِنْ قَعْرِهِ الْأَقْذَاءُ
وَلَهُ أَيْضًا:
قَدْ سَلَوْتُ الدُّنْيَا وَلَمْ يَسْلُهَا مَنْ عَلَقَتْ فِي آمَالِهِ
وَالْأَرَاجِي
فَإِذَا مَا صَرَفْتُ وَجْهِي عَنْهَا قَذَفُونِي فِي بَحْرِهَا الْعَجَاجِ
يَسْتَضِيئُونَ بِي وَأَهْلِكُ وَحْدِي فَكَأَنِّي ذُبَالَةٌ فِي سِرَاجِ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَلَهُ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ
سَنَةً، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَدُفِنَ عِنْدَ مُوسَى بْنِ
جَعْفَرٍ.
الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ جَابِرِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ عَلِيٍّ
الْبَطَائِحِيُّ.
قَدِمَ بَغْدَادَ
فَتَفَقَّهَ
بِهَا وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَأَقَامَ بِرَحْبَةِ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ مُدَّةً
يَشْتَغِلُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النَّبِيهِ الْفَرَضِيِّ ثُمَّ وَلِيَ
قَضَاءَ الْعِرَاقِ مُدَّةً، وَكَانَ أَدِيبًا، وَقَدْ سَمِعَ مِنْ شَيْخِهِ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النَّبِيهِ يُنْشِدُ لِنَفْسِهِ مُعَارِضًا لِلْحَرِيرِيِّ
فِي بَيْتَيْهِ اللَّذَيْنِ زَعَمَ أَنَّهُمَا لَا يُعَزَّزَانِ بِثَالِثٍ
لَهُمَا، وَهُمَا قَوْلُهُ:
سِمْ سِمَةً يُحْمَدُ آثَارُهَا وَاشْكُرْ لِمَنْ أَعْطَى وَلَوْ سِمْسِمَهْ
وَالْمَكْرُ مَهْمَا اسْتَطَعْتَ لَا تَأْتَهِ لِتَقْتَنِيَ السُّؤْدُدَ
وَالْمَكْرُمَهْ
فَقَالَ ابْنُ النَّبِيهِ:
مَا الْأَمَةُ الْوَكْعَاءُ بَيْنَ الْوَرَى أَحْسَنُ مِنْ حُرٍّ أَتَى مَلَأَمَهْ
فَمَهْ إِذَا اسْتُجْدِيتَ عَنْ قَوْلِ لَا فَالْحُرُّ لَا يَمْلَأُ مِنْهَا
فَمَهْ
الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ جُرْدَيْكُ
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ فِي زَمَانِ نُورِ الدِّينِ، وَكَانَ مِمَّنْ
شَرِكَ فِي قَتْلِ شَاوِرٍ، وَحَظِيَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ، وِقَدِ
اسْتَنَابَهُ عَلَى الْقُدْسِ حِينَ افْتَتَحَهَا، وَكَانَ يَسْتَنْدِبُهُ
لِلْمُهِمَّاتِ الْكِبَارِ فَيَسُدُّهَا بِنَهْضَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ، وَلَمَّا
وَلِيَ الْأَفْضَلُ عَزَلَهُ عَنْ بَيْتِ الْمَقَدْسِ، فَتَرَكَ بِلَادَ الشَّامِ
وَانْتَقَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلَكِ الْعَزِيزِ صَاحِبِ مِصْرَ
وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الصَّيْدِ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ
الْعِشْرِينَ مِنِ الْمُحَرَّمِ، سَاقَ خَلْفَ ذِئْبٍ، فَكَبَا بِهِ الْفَرَسُ
فَسَقَطَ عَنْهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ أَيَّامٍ بَعْدَ رُجُوعِهِ إِلَى
الْبَلَدِ، فَنُقِلَ وَدُفِنَ بِدَارِهِ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى عِنْدِ تُرْبَةِ
الشَّافِعِيِّ، وَلَهُ سَبْعٌ أَوْ ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ قَدْ عَزَمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى إِخْرَاجِ
الْحَنَابِلَةِ مِنْ بَلَدِهِ، وَيَكْتُبُ إِلَى بَقِيَّةِ إِخْوَتِهِ أَنْ
يُخْرِجُوهُمْ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَشَاعَ ذَلِكَ عَنْهُ وَسُمِعَ مِنْهُ وَذَاعَ
وَصُرِّحَ بِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ مُعَلِّمِيهِ وَخُلَطَائِهِ وَعُشَرَائِهِ
مِنَ الْجَهْمِيَّةِ، وَقِلَّةِ عِلْمِهِ بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، فَلَمَّا
وَقَعَ مَا وَقَعَ عَظُمَ قَدْرُ الْحَنَابِلَةِ بِدِيَارِ مِصْرَ وَالشَّامِ
عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ. وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ صَالِحِيهِمْ دَعَا
عَلَيْهِ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ خَرَجَ إِلَى الصَّيْدِ، فَكَانَ هَلَاكُهُ سَرِيعًا،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكُتَبَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ كِتَابَ التَّعْزِيَةِ بِالْعَزِيزِ إِلَى عَمِّهِ
الْمَلِكِ الْعَادِلِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مُحَاصَرَةِ مَارِدِينَ وَمَعَهُ
الْعَسَاكِرُ، وَوَلَدُهُ مُحَمَّدٌ الْكَامِلُ، وَهُوَ نَائِبُهُ عَلَى بِلَادِ
الْجَزِيرَةِ الْمُقَارِبَةِ لِبِلَادِ الْحِيرَةِ، وَصُورَةُ الْكِتَابِ: أَدَامَ
اللَّهُ سُلْطَانَ مَوْلَانَا الْمَلِكِ
الْعَادِلِ،
وَبَارَكَ فِي عُمْرِهِ وَأَعْلَا أَمْرَهُ بِأَمْرِهِ، وَأَعَزَّ نَصْرَ
الْإِسْلَامِ بِنَصْرِهِ، وَفَدَتِ الْأَنْفُسُ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ، وَأَصْغَرَ
اللَّهُ الْعَظَائِمَ بِنِعَمِهِ فِيهِ الْعَظِيمَةِ، وَأَحْيَاهُ حَيَاةً
طَيِّبَةً يَقِفُ فِيهَا هُوَ وَالْإِسْلَامُ فِي مَوَاقِفِ الْفُتُوحِ
الْجَسِيمَةِ، وَيَنْقَلِبُ عَنْهَا بِالْأُمُورِ الْمُسْلِمَةِ وَالْعَوَاقِبِ
السَّلِيمَةِ، وَلَا نَقَصَ لَهُ رِجَالًا وَلَا عَدَدًا، وَلَا أَعْدَمَهُ
نَفْسًا وَلَا وَلَدًا، وَلَا قَصَّرَ لَهُ ذَيْلًا وَلَا يَدًا، وَلَا أَسْخَنَ
لَهُ قَلْبًا وَلَا كَبِدًا، وَلَا كَدَّرَ لَهُ خَاطِرًا وَلَا مَوْرِدًا،
وَلَمَّا قَدَّرَ اللَّهُ مَا قَدَّرَ فِي الْمَلِكِ الْعَزِيزِ؛ رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَتَحِيَّاتُهُ مُكَرَّرَةٌ إِلَيْهِ مِنَ انْقِضَاءِ مُهْلِهِ وَحُضُورِ
أَجَلِهِ، كَانَتْ بَدِيهَةُ الْمُصَابِ عَظِيمَةً، وَطَالِعَةُ الْمَكْرُوهِ
أَلِيمَةً، فَرَحِمَ اللَّهُ ذَلِكَ الْوَجْهَ وَنَضَّرَهُ، ثُمَّ إِلَى سَبِيلِ
الْجَنَّةِ يَسَّرَهُ
وَإِذَا مَحَاسِنُ أَوْجُهٍ بَلِيَتْ فَعَفَا الثَّرَى عَنْ وْجِهِهِ الْحَسَنِ
فَأَعَزِزْ عَلَى الْمَمْلُوكِ وَعَلَى الْأَوْلِيَاءِ بَلْ عَلَى قَلْبِ
مَوْلَانَا، لَا سَلَبَهُ ثِيَابَ الْعَزَاءِ، لِسُرْعَةِ مَصْرَعِهِ وَانْقِلَابِهِ
إِلَى مَضْجَعِهِ، وَلِبَاسِهِ ثَوْبَ الْبَلِي قَبْلَ أَنْ يَبْلَى ثَوْبُ
الشَّبَابِ، وَزَفَّهُ إِلَى التُّرَابِ وَسَرِيرُهُ مَحْفُوفٌ بِاللَّذَّاتِ
وَالْأَتْرَابِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ الْمَرَضِ بَعْدَ الْعُودِ مِنَ الْفَيُّومِ
أُسْبُوعَيْنِ، وَكَانَتْ فِي السَّاعَةِ السَّابِعَةِ مِنْ لَيْلَةِ الْأَحَدِ
الْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَالْمَمْلُوكُ فِي حَالِ تَسْطِيرِهَا مَجْمُوعٌ
بَيْنَ مَرَضِ قَلْبٍ وَجَسَدٍ وَوَجَعِ أَطْرَافٍ وَغَلِيلِ كَبِدٍ، وَقَدْ
فُجِعَ بِهَذَا الْمَوْلَى، وَالْعَهْدُ بِوَالِدِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - غَيْرُ
بَعِيدٍ، وَالْأَسَى عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ جَدِيدٍ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ الْعَزِيزُ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، خَلَّفَ مِنَ الْوَلَدِ
عَشَرَةَ ذُكُورٍ، فَعَمَدَ أُمَرَاؤُهُ فَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ وَلَدَهُ
مُحَمَّدًا، وَلَقَّبُوهُ بِالْمَنْصُورِ، وَجُمْهُورُ الْأُمَرَاءِ فِي
الْبَاطِنِ مَائِلُونَ إِلَى تَمْلِيكِ الْعَادِلِ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا
مَكَانَهُ، فَأَرْسَلُوا إِلَى الْأَفْضَلِ وَهُوَ بِصَرْخَدَ فَأَحْضَرُوهُ عَلَى
الْبَرِيدِ سَرِيعًا، فَلَمَّا حَصَلَ عِنْدَهُمْ مُنِعَ رِفْدُهُمْ، وَوَجَدُوا
الْكَلِمَةَ
مُخْتَلِفَةً
عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتِمَّ لَهُ مَا صَارَ إِلَيْهِ، وَخَامَرَ عَلَيْهِ أَكَابِرُ
الْأُمَرَاءِ النَّاصِرِيَّةِ، وَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِ مِصْرَ فَأَقَامُوا فِي
بَيْتِ الْمَقَدْسِ وَأَرْسَلُوا يَسْتَحِثُّونَ الْجُيُوشَ الْعَادِلِيَّةِ،
فَأَقَرَّ ابْنُ أَخِيهِ عَلَى السَّلْطَنَةِ، وَنَوَّهَ بِاسْمِهِ عَلَى
السِّكَّةِ وَالْخُطْبَةِ فِي سَائِرِ مَا هُنَالِكَ مِنِ الْمَمْلَكَةِ، لَكِنِ
اسْتَفَادَ بِهَذِهِ السَّفْرَةِ أَنْ أَخَذَ جَيْشًا كَثِيفًا مِنَ
الْمِصْرِيِّينَ، وَأَقْبَلَ بِهِمْ لِيَسْتَرِدَّ دِمَشْقَ فِي غَيْبَةِ عَمِّهِ
بِمُحَاصَرَةِ مَارِدِينَ وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ أَخِيهِ صَاحِبِ حَلَبَ وَابْنِ
عَمِّهِ مَلِكِ حِمْصَ أَسَدِ الدِّينِ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا وَنَزَلَ
حَوَالَيْهَا، قَطَعَ أَنْهَارَهَا وَعَقَرَ أَشْجَارَهَا وَقَلَّلَ ثِمَارَهَا
وَنَزَلَ بِمُخَيَّمِهِ عَلَى مَسْجِدِ الْقَدِمِ، وَقَدْ لَحِقَهُ الْأَسَفُ
وَالنَّدَمُ، وَجَاءَ إِلَيْهِ أَخُوهُ الظَّاهِرُ وَابْنُ عَمِّهِ الْأَسَدُ
الْكَاسِرُ وَاللَّيْثُ الْكَاشِرُ وَجَيْشُ حَمَاةَ، فَكَثُرَ جَيْشُهُ وَقَوِيَ
الْأَفْضَلُ بْنُ النَّاصِرِ، وَقَدْ دَخَلَ جَيْشُهُ إِلَى الْبَلَدِ، وَنَادَوْا
بِشِعَارِهِ، فَلَمْ يُتَابِعْهُمْ مِنَ الْعَامَّةِ أَحَدٌ وَأَقْبَلَ الْعَادِلُ
مِنْ مَارِدِينَ بِعَسَاكِرِهِ، وِقَدِ الْتَفَّ عَلَيْهِ طَائِفَةُ بَنِي أَخِيهِ
وَأَمَدَّهُ كُلُّ مِصْرٍ بِأَكَابِرِهِ، وَسَبَقَ الْأَفْضَلُ إِلَى دِمَشْقَ
بِيَوْمَيْنِ فَحَصَّنَهَا وَحَفِظَهَا مِنْ كُلِّ حَاسِدٍ وَذِي عَيْنَيْنِ،
وِقَدِ اسْتَنَابَ عَلَى مَارِدِينَ وَلَدَهُ مُحَمَّدًا الْكَامِلَ رَئِيسَ
السَّلَاطِينِ.
وَلَمَّا دَخَلَ دِمَشْقَ خَامَرَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْأُمَرَاءِ مِنَ
الْمِصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَضَعُفَ أَمْرُ الْأَفْضَلِ وَيَئِسَ مِنْ
بِرِّهِمْ وَخَيْرِهِمْ، فَأَقَامَ مُحَاصِرًا الْبَلَدَ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى
انْسَلَخَ الْحَوْلُ وَهُوَ كَذَلِكَ، ثُمَّ انْفَصَلَ الْحَالُ فِي أَوَّلِ
السَّنَةِ الْآتِيَةِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَفِيهَا شَرَعَ فِي بِنَاءِ سُورِ بَغْدَادَ بِالْآجُرِّ وَالْكِلْسِ، وَفَرَّقَ
عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَكَمَلَتْ عِمَارَتُهُ بَعْدَ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَمِنَتْ
بَغْدَادُ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحِصَارِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا سُورٌ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَفِي
هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ
السُّلْطَانُ الْكَبِيرُ أَبُو مُحَمَّدٍ يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ
الْمُؤْمِنِ
، صَاحِبُ الْمَغْرِبِ وَالْأَنْدَلُسِ بِمَدِينَتِهِ سَلَا، وَكَانَ قَدِ
ابْتَنَى عِنْدَهَا مَدِينَةً مَلِيحَةً سَمَّاهَا الْمَهْدِيَّةَ، وَقَدْ كَانَ
دَيِّنًا حَسَنَ السِّيرَةِ، صَحِيحَ السَّرِيرَةِ، وَكَانَ مَالِكِيَّ
الْمَذْهَبِ، ثُمَّ صَارَ ظَاهِرِيًّا حَزْمِيًّا، ثُمَّ مَالَ إِلَى مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ، وَاسْتَقْضَى فِي بَعْضِ بِلَادِهِ مِنْهُمْ قُضَاةً، وَكَانَتْ
مُدَّةُ مُلْكِهِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ كَثِيرَ الْجِهَادِ؛ رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَكَانَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَكَانَ قَرِيبًا
إِلَى الْمَرْأَةِ وَالضَّعِيفِ، وَهُوَ الَّذِي كَتَبَ إِلَيْهِ صَلَاحُ الدِّينِ
يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى الْفِرِنْجِ، فَلَمَّا لَمْ يُخَاطِبْهُ بِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ،
وَقَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ، فَسَارَ كَسِيرَةِ وَالِدِهِ، وَرَجَعَ
إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْبُلْدَانِ اللَّاتِي كَانَتْ قَدْ عَصَتْ عَلَى أَبِيهِ،
ثُمَّ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ تَفَرَّقَتْ بِهِمُ الْأَهْوَاءُ، وَبَادَ هَذَا
الْبَيْتُ بَعْدَ الْمَلِكِ يَعْقُوبَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ادَّعَى رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ بِدِمَشْقَ أَنَّهُ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ، فَأَمَرَ الْأَمِيرُ صَارِمُ الدِّينِ بُزْغُشُ نَائِبُ
الْقَلْعَةِ، بِصَلْبِهِ فَصُلِبَ عِنْدَ حَمَّامِ الْعِمَادِ الْكَاتِبِ، خَارِجَ
بَابِ الْفَرَجِ مُقَابِلَ الطَّاحُونِ الَّتِي بَيْنَ الْبَابَيْنِ، وَقَدْ بَادَ
هَذَا الْحَمَّامُ قَدِيمًا، وَبَعْدَ صَلْبِهِ بِيَوْمَيْنِ ثَارَتِ الْعَامَّةُ
عَلَى الرَّوَافِضِ وَعَمَدُوا إِلَى قَبْرِ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِبَابِ الصَّغِيرِ
يُقَالُ لَهُ: وَثَّابٌ. فَنَبَشُوهُ وَصَلَبُوهُ مَعَ كَلْبَيْنِ، وَذَلِكَ فِي
رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا.
وَفِي
هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ بِبِلَادِ خُرَاسَانَ وَكَانَ
سَبَبُهَا أَنَّ فَخْرَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَرَ الرَّازِيَّ أُسْتَاذَ
الْمُتَكَلِّمِينَ فِي زَمَانِهِ وَفَدَ إِلَى الْمَلِكِ غِيَاثِ الدِّينِ
الْغُورِيِّ صَاحِبِ غَزْنَةَ، فَأَكْرَمَهُ وَبَنَى لَهُ مَدْرَسَةً بِهَرَاةَ،
وَكَانَ أَكْثَرُ الْغُورِيَّةِ كَرَّامِيَّةً ; فَأَبْغَضُوا الرَّازِيَّ
وَأَحَبُّوا إِبْعَادَهُ عَنِ الْمَلِكِ، فَجَمَعُوا لَهُ جَمَاعَةً مِنَ
الْفُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْكَرَّامِيَّةِ، وَخَلْقًا مِنَ الشَّافِعِيَّةِ،
وَحَضَرَ ابْنُ الْقَدْوَةِ، وَكَانَ شَيْخًا مُعَظَّمًا فِي النَّاسِ، وَهُوَ
عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ كِرَامٍ وَابْنِ الْهَيْصَمِ، فَتَنَاظَرَ هُوَ
وَالرَّازِيُّ، وَخَرَجَا مِنَ الْمُنَاظَرَةِ إِلَى السَّبِّ وَالشَّتْمِ،
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ،
وَقَامَ وَاعِظٌ فَتَكَلَّمَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا
لَا نَقُولُ إِلَّا مَا صَحَّ عِنْدَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا عِلْمُ أَرِسْطَاطَالِيسَ وَكُفْرِيَّاتُ ابْنِ
سِينَا وَفَلْسَفَةُ الْفَارَابِيِّ، فَلَا نَعْلَمُهَا، وَلِأَيِّ حَالٍ يُشْتَمُ
بِالْأَمْسِ شَيْخٌ مِنْ شُيُوخِ الْإِسْلَامِ، يَذُبُّ عَنْ دِينِ اللَّهِ
وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. قَالَ: فَبَكَى النَّاسُ وَضَجُّوا، وَبَكَتِ
الْكَرَّامِيَّةُ وَاسْتَغَاثُوا، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ
خَوَاصِّ النَّاسِ، وَأَنْهَوْا إِلَى الْمَلِكِ صُورَةَ مَا وَقَعَ، فَأَمَرَ
بِإِخْرَاجِ الرَّازِيِّ مِنْ بِلَادِهِ، وَعَادَ إِلَى هَرَاةَ ; فَلِهَذَا
أُشْرِبَ قَلْبُ الرَّازِيِّ بُغْضَ الْكَرَّامِيَّةِ، وَصَارَ يَلْهَجُ بِهِمْ
فِي كَلَامِهِ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ، وَكُلَّمَا هَبَّتِ الصَّبَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ الرِّضَا عَنِ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ أَبِي
الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ، شَيْخِ الْوُعَّاظِ فِي زَمَانِهِ وَبَعْدِهِ،
وَقَدْ كَانَ أُخْرِجُ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى وَاسِطٍ فَأَقَامَ بِهَا خَمْسَ
سِنِينَ فَانْتَفَعَ بِهِ أَهْلُهَا وَاشْتَغَلُوا عَلَيْهِ وَاسْتَفَادُوا
مِنْهُ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى بَغْدَادَ خَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ وَأَذِنَ
لَهُ فِي الْجُلُوسِ عَلَى عَادَتِهِ عِنْدَ التُّرْبَةِ الشَّرِيفَةِ
الْمُجَاوِرَةِ لِقَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، فَكَثُرَ الْجَمْعُ جِدًّا،
وَحَضَرَ الْخَلِيفَةُ، وَأَخَذَ فِي الْعِتَابِ، وَأَنْشَدَ يَوْمَئِذٍ فِيمَا
يُخَاطِبُ بِهِ الْخَلِيفَةَ:
لَا تُعْطِشِ الرَّوْضَ الَّذِي نَبْتُهُ بِصَوْبِ إِنْعَامِكَ قَدْ رُوِّضَا
لَا
تَبْرِ عُودًا أَنْتَ قَدْ رِشْتَهُ حَاشَا لِبَانِي الْمَجْدِ أَنْ يَنْقُضَا
إِنْ كَانَ لِي ذَنْبٌ وَلَمْ آتِهِ فَاسْتَأْنِفِ الْعَفْوَ وَهَبْ لِي الرِّضَا
قَدْ كُنْتُ أَرْجُوكَ لِنَيْلِ الْمُنَى فَالْيَوْمَ لَا أَطْلُبُ إِلَّا الرِّضَا
وَمِمَّا أَنْشَدُهُ يَوْمَئِذٍ:
شَقِينَا بِالنَّوَى زَمَنًا فَلَمَّا تَلَاقَيْنَا كَأَنَّا مَا شَقِينَا
سَخِطْنَا عِنْدَمَا جَنَتِ اللَّيَالِي وَمَا زَالَتْ بِنَا حَتَّى رَضِينَا
وَمَنْ لَمْ يَحْيَ بَعْدَ الْمَوْتِ يَوْمًا فَإِنَّا بَعْدَ مَا مِتْنَا حَيِينَا
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَدْعَى الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ قَاضِيَ الْمَوْصِلِ
ضِيَاءَ الدِّينِ بْنِ الشَّهْرُزُورِيِّ، فَوَلَّاهُ قَضَاءَ قُضَاةِ بَغْدَادَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِدِمَشْقَ بِسَبَبِ الْحَافِظِ عَبْدِ
الْغَنِيِّ الْمَقْدَسِيِّ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي مَقْصُورَةِ
الْحَنَابِلَةِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، فَذَكَرَ يَوْمًا شَيْئًا مِنَ
الْعَقَائِدِ فَاجْتَمَعَ الْقَاضِيمُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ وَضِيَاءُ
الدِّينِ الْخَطِيبُ الدَّوْلَعِيُّ بِالسُّلْطَانِ الْمُعَظَّمِ وَالْأَمِيرُ
صَارِمُ الدِّينِ بُزْغُشُ، فَعُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ
بِمَسْأَلَةِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَالنُّزُولِ وَالْحَرْفِ
وَالصَّوْتِ، فَوَافَقَ النَّجْمُ الْحَنْبَلِيُّ بَقِيَّةَ الْفُقَهَاءِ
وَاسْتَمَرَّ الْحَافِظُ عَلَى مَا يَقُولُهُ لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ وَاجْتَمَعَ
بَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ عَلَيْهِ وَأَلْزَمُوهُ بِإِلْزَامَاتٍ شَنِيعَةٍ لَمْ
يَلْتَزِمْهَا، حَتَّى قَالَ لَهُ الْأَمِيرُ بُزْغُشُ: كُلُّ هَؤُلَاءِ عَلَى
الضَّلَالَةِ وَأَنْتَ وَحْدَكَ عَلَى الْحَقِّ ؟ ! قَالَ: نَعَمْ. فَغَضِبَ
الْأَمِيرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِنَفْيِهِ مِنَ الْبَلَدِ، فَاسْتَنْظَرَهُ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَأَنْظَرَهُ، وَأَرْسَلَ بُزْغُشُ الْأُسَارَى مِنَ
الْقَلْعَةِ
،
فَكَسَرُوا مِنْبَرَ الْحَافِظِ، وَتَعَطَّلَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ يَوْمَئِذٍ فِي
مِحْرَابِ الْحَنَابِلَةِ، وَأُخْرِجَتِ الْخَزَائِنُ وَالصَّنَادِيقُ الَّتِي
كَانَتْ هُنَاكَ، وَجَرَتْ خَبْطَةٌ شَدِيدَةٌ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ،
مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَكَانَ عَقْدُ الْمَجْلِسِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ
الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَارْتَحَلَ الْحَافِظُ عَبْدُ
الْغَنِيِّ إِلَى بَعْلَبَكَّ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَآوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ، فَحَنُّوا عَلَيْهِ وَأَكْرَمُوهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنِ الْأَعْيَانِ:
الْأَمِيرُ مُجَاهِدُ الدِّينِ قَايْمَازُ الرُّومِيُّ
نَائِبُ الْمَوْصِلِ وَالْمُسْتَوْلِي عَلَى مَمْلَكَتِهَا أَيَّامَ ابْنِ
أُسْتَاذِهِ نُورِ الدِّينِ أَرَسْلَانَ، وَكَانَ عَاقِلًا ذَكِيًّا فَقِيهًا
حَنَفِيًّا، وَقِيلَ: شَافِعِيًّا. يَحْفَظُ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ التَّوَارِيخِ
وَالْحِكَايَاتِ، وِقَدِ ابْتَنَى عِدَّةَ جَوَامِعَ وَمَدَارِسَ وَرُبُطٍ
وَخَانَاتٍ، وَلَهُ صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ دَارَّةٌ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَقَدْ
كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الدُّنْيَا.
أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَبَّاسِيُّ الْهَاشِمِيُّ
، قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ، بَعْدَ ابْنِ النَّجَّارِيِّ، كَانَ
شَافِعِيًّا، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ
وَلِيَ الْقَضَاءَ وَالْخَطَابَةَ بِمَكَّةَ، وَأَصْلُهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ
ارْتَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَنَالَ مِنْهَا مَا نَالَ مِنَ الدُّنْيَا، وَآلَ بِهِ
الْأَمْرُ إِلَى مَا آلَ، ثُمَّ إِنَّهُ عُزِلَ
عَنِ
الْقَضَاءِ بِسَبَبِ مَحْضَرٍ رُقِمَ خَطُّهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ فِيمَا قِيلَ
مُزَوَّرًا عَلَيْهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَجَلَسَ فِي مَنْزِلِهِ حَتَّى مَاتَ.
الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ
يَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ بَرَكَةَ بْنِ فَضْلَانَ، شَيْخُ
الشَّافِعِيَّةِ بِبَغْدَادَ، تَفَقَّهَ أَوَّلًا عَلَى سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدِ
الرَّزَّازِ مُدَرِّسِ النِّظَامِيَّةِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى خُرَاسَانَ
فَأَخَذَ عَنِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الزَّبِيدِيِّ تِلْمِيذِ الْغَزَالِيِّ،
وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ وِقَدِ اقْتَبَسَ عِلْمَ الْمُنَاظَرَةِ وَالْأَصْلَيْنِ،
وَسَادَ أَهْلَ بَغْدَادَ، وَانْتَفَعَ بِهِ الطَّلَبَةُ وَالْفُقَهَاءُ،
وَبُنِيَتْ لَهُ مَدْرَسَةٌ فَدَرَّسَ بِهَا، وَبَعُدَ صِيتُهُ وَكَثُرَتْ
تَلَامِيذُهُ، وَكَانَ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ وَإِسْمَاعِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ
شَيْخًا حَسَنًا لَطِيفًا ظَرِيفًا، وَمِنْ شِعْرِهِ:
وَإِذَا أَرَدْتَ مَنَازِلَ الْأَشْرَافِ فَعَلَيْكَ بِالْإِسْعَافِ
وَالْإِنْصَافِ وَإِذَا بَغَا بَاغٍ عَلَيْكَ فَخَلِّهِ
وَالدَّهْرَ فَهُوَ لَهُ مُكَافٍ كَافِ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ، وَالْمَلِكُ الْأَفْضَلُ بِالْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ
مُحَاصِرٌ لِعَمِّهِ الْعَادِلِ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ قَطَعَ عَنْهَا الْأَنْهَارَ
وَالْمِيرَةَ فَلَا خُبْزَ وَلَا مَاءَ إِلَّا قَلِيلًا، وَقَدْ تَطَاوَلَ
الْحَالُ، وَقَدْ خَنْدَقُوا مِنْ أَرْضِ اللَّوَانِ إِلَى يَلْدَا خَنْدَقًا ; لِئَلَّا
يَصِلَ إِلَيْهِمْ جَيْشُ دِمَشْقَ وَجَاءَ فَصْلُ الشِّتَاءِ وَكَثُرَتِ
الْأَمْطَارُ وَالْأَوْحَالُ، فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ صَفَرٍ، قَدِمَ الْمَلِكُ
الْكَامِلُ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَادِلِ عَلَى أَبِيهِ بِخَلْقٍ مِنَ
التُّرْكُمَانِ، وَعَسَاكِرَ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَالرُّهَا وَحَرَّانَ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ انْصَرَفَتِ الْعَسَاكِرُ الْمِصْرِيَّةُ، وَتَفَرَّقُوا أَيَادِي
سَبَا، فَرَجَعَ الظَّاهِرُ إِلَى الْمَمْلَكَةِ الْحَلَبِيَّةِ، وَالْأَسَدُ
إِلَى حِمْصَ وَالْأَفْضَلُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَسَلِمَ الْعَادِلُ
مِنْ كَيْدِ الْأَعَادِي، بَعْدَمَا كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَلَدِ
وَاسْتَسْلَمَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ. وَسَارَتِ الْأُمَرَاءُ
النَّاصِرِيَّةِ خَلْفَ الْأَفْضَلِ لِيَمْنَعُوهُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى
الْقَاهِرَةِ وَكَاتَبُوا الْعَادِلَ أَنْ يُسْرِعَ السَّيْرَ إِلَيْهِمْ
وَالْقُدُومَ عَلَيْهِمْ، فَنَهَضَ إِلَيْهِمْ سَرِيعًا سَامِعًا لِمَشُورَتِهِمْ
مُطِيعًا، فَتَحَصَّنَ الْأَفْضَلُ بِالْقَلْعَةِ مِنَ الْجَبَلِ، وِقَدِ
اعْتَرَاهُ الضَّعْفُ وَالْفَشَلُ، وَنَزَلَ الْعَادِلُ عَلَى الْبَرَكَةِ
وَاسْتَبَدَّ بِمُلْكِ مِصْرَ آمِنًا مِنَ الشَّرِكَةِ، وَنَزَلَ إِلَيْهِ ابْنُ
أَخِيهِ الْأَفْضَلُ خَاضِعًا
ذَلِيلًا
بَعْدَمَا كَانَ مَهِيبًا جَلِيلًا، فَأَقْطَعُهُ بِلَادًا مِنَ الْجَزِيرَةِ
وَنَفَاهُ عَنِ الشَّامِ لِسُوءِ السِّيرَةِ، وَدَخَلَ الْعَادِلُ إِلَى دَارِ
السُّلْطَانِ بِالْقَاهِرَةِ، وَأَعَادَ الْقَضَاءَ إِلَى صَدْرِ الدِّينِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ دِرْبَاسٍ الْمَارَانِيِّ الْكُرْدِيِّ، وَأَبْقَى الْخُطْبَةَ
وَالسِّكَّةَ بِاسْمِ ابْنِ أَخِيهِ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ
بِالْأُمُورِ، وَاسْتَوْزَرَ الصَّاحِبَ صَفِيَّ الدِّينِ بْنَ شُكْرٍ
لِصَرَامَتِهِ وَشَهَامَتِهِ وَسِيَادَتِهِ وَدِيَانَتِهِ، وَكَتَبَ الْعَادِلُ
إِلَى وَلَدِهِ الْكَامِلِ يَسْتَدْعِيهِ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ ;
لِيُمَلِّكَهُ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَيَسْتَرْعِيَهُ، فَقَدِمَ
عَلَيْهِ فَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَعَانَقَهُ وَالْتَزَمَهُ، وَأَحْضَرَ
الْمَلِكُ الْفُقَهَاءَ وَاسْتَفْتَاهُمْ فِي صِحَّةِ مَمْلَكَةِ ابْنِ أَخِيهِ
الْمَنْصُورِ بْنِ الْعَزِيزِ، وَأَنَّهُ صَغِيرٌ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، فَأَفْتَوْا
بِأَنَّ وِلَايَتَهُ لَا تَصِحُّ ; لِأَنَّهُ مُتَوَلَّى عَلَيْهِ، فَعِنْدَ
ذَلِكَ طَلَبَ الْأُمَرَاءَ وَدَعَاهُمْ إِلَى مُبَايَعَتِهِ فَامْتَنَعُوا،
فَأَرْغَبَهُمْ وَأَرْهَبَهُمْ، وَقَالَ فِيمَا قَالَ: قَدْ سَمِعْتُمْ مَا
أَفْتَى بِهِ الْعُلَمَاءُ وَالْأَئِمَّةُ وَالْفُقَهَاءُ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ
أَنَّ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَحْفَظُهَا الْأَطْفَالُ الصِّغَارُ،
وَإِنَّمَا يَحْرُسُهَا الْمُلُوكُ الْكِبَارُ، فَأَذْعَنُوا عِنْدَ ذَلِكَ
وَبَايَعُوهُ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْكَامِلِ، فَخَطَبَ الْخُطَبَاءُ
بِذَلِكَ بَعْدَ الْخَلِيفَةِ لَهُمَا، فَضُرِبَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِمَا،
وَاسْتَقَرَّتْ دِمَشْقُ بِاسْمِ الْمُعَظَّمِ عِيسَى بْنِ الْعَادِلِ، وَمِصْرُ
بِاسْمِ الْكَامِلِ.
وَفِي شَوَّالٍ رَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرُ فَلَكُ الدِّينِ أَبُو مَنْصُورٍ
سُلَيْمَانُ بْنُ شَرْوَةَ بْنِ خَلْدَكَ، وَهُوَ أَخُو الْمَلِكِ الْعَادِلِ
لِأُمِّهِ، وَهُوَ وَاقِفُ الْفَلَكِيَّةِ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَبِهَا
قَبْرُهُ فَأَقَامَ بِهَا مُحْتَرَمًا مُعَظَّمًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
وَفِيهَا وَفَى الَّتِي بَعْدَهَا كَانَ بِدِيَارِ مِصْرَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ،
فَهَلَكَ بِسَبَبِهِ الْغَنِيُّ
وَالْفَقِيرُ،
وَهَرَبَ النَّاسُ مِنْهَا نَحْوَ الشَّامِ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا إِلَّا
الْقَلِيلُ، وَتَخَطَّفَهُمُ الْفِرِنْجُ مِنَ الطُّرُقَاتِ وَغَرُّوهُمْ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ وَاغْتَالُوهُمْ بِالْقَلِيلِ مِنَ الْأَقْوَاتِ، وَأَمَّا بِلَادُ
الْعِرَاقِ فَإِنَّهُ كَانَ مُرْخَصًا. قَالَ ابْنُ السَّاعِي: وَفِي هَذِهِ
السَّنَةِ بَاضَ دِيكٌ بِبَغْدَادَ، فَسَأَلْتُ جَمَاعَةً عَنْ ذَلِكَ
فَأَخْبَرُونِي بِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنِ الْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ عَلَاءُ الدِّينِ خُوَارِزِمُشَاهْ
تِكِشُ بْنُ أَلْبِ أَرْسَلَانَ بْنِ أَتْسِزَ مِنْ وَلَدِ طَاهِرِ بْنِ
الْحُسَيْنِ، وَهُوَ صَاحِبُ خُوَارِزْمَ وَبَعْضُ خُرَاسَانَ وَالرَّيِّ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الْأَقَالِيمِ الْمُتَّسِعَةِ، وَهُوَ الَّذِي قَطَعَ دَوْلَةَ
السَّلَاجِقَةِ، كَانَ عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ
بِالْمُوسِيقَى، حَسَنَ الْمُعَاشَرَةِ، فَقِيهًا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَيَعْرِفُ الْأُصُولَ وَبَنَى لِلْحَنَفِيَّةِ مَدْرَسَةً عَظِيمَةً، وَدُفِنَ
بِتُرْبَةٍ بَنَاهَا بِخُوَارِزْمَ، وَقَامَ فِي الْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ
عَلَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ، وَكَانَ يُلَقَّبُ بِقُطْبِ الدِّينِ. وَفِيهَا
قُتِلَ وَزِيرُ السُّلْطَانِ خُوَارِزْمُ شَاهْ.
نِظَامُ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ عَلِيٍّ
وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، لَهُ مَدْرَسَةٌ عَظِيمَةٌ
بِخُوَارِزْمَ، وَجَامِعٌ هَائِلٌ، وَبَنَى بِمَرْوَ جَامِعًا عَظِيمًا
لِلشَّافِعِيَّةِ،
فَحَسَدَهُمُ الْحَنَابِلَةُ، وَشَيْخُهُمْ بِهَا يُقَالُ لَهُ: شَيْخُ الْإِسْلَامِ.
فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ أَحْرَقُوهُ. وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُرُ مِنْ قِلَّةِ
الدِّينِ وَالْعَقْلِ وَاحْتِرَامِ مَعَابِدِ الْإِسْلَامِ، فَأَغْرَمَهُمُ
السُّلْطَانُ خُوَارِزِمُشَاهْ مَا غَرِمَ الْوَزِيرُ عَلَى بِنَائِهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ الْمُسْنِدُ الْمُعَمَّرُ رُحْلَةُ الْوَقْتِ
أَبُو الْفَرَجِ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ صَدَقَةَ بْنِ
الْخَضِرِ بْنِ كُلَيْبٍ الْحَرَّانَيُّ الْأَصْلُ، الْبَغْدَادِيُّ الْمَوْلِدُ
وَالدَّارُ وَالْوَفَاةُ
، عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَسْمَعَ، وَتَفَرَّدَ
بِالرِّوَايَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ
التُّجَّارِ وَذَوِي الثَّرْوَةِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْفَقِيهُ مَجْدُ الدِّينِ
أَبُو مُحَمَّدٍ طَاهِرُ بْنُ نَصْرِ بْنِ جَهْبَلٍ، مُدَرِّسُ الْقُدْسِ
الشَّرِيفِ، أَوَّلُ مَنْ دَرَّسَ بِالصَّلَاحِيَّةِ، وَهُوَ وَالِدُ الْفُقَهَاءِ
; بَنِي جَهْبَلٍ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدْرَسَةِ الْجَارُوخِيَّةِ، ثُمَّ
صَارُوا إِلَى الْعِمَادِيَّةِ وَالدَّمَاغِيَّةِ فِي أَيَّامِنَا هَذِهِ، ثُمَّ
مَاتُوا وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا شَرْحُهُمْ.
الْأَمِيرُ صَارِمُ الدِّينِ قَايْمَازُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّجْمِيُّ
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الدَّوْلَةِ
الصَّلَاحِيَّةِ
كَانَ عِنْدَ صَلَاحِ الدِّينِ بِمَنْزِلَةِ أُسْتَادَّارٍ؛ وَهُوَ الَّذِي
تَسَلَّمَ الْقَصْرَ حِينَ مَاتَ الْعَاضِدُ، فَحَصَلَ لَهُ أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ
جِدًّا، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ وَالْأَوْقَافِ، تَصَدَّقَ فِي يَوْمٍ
بِسَبْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ عَيْنًا، وَهُوَ وَاقِفُ الْمَدْرَسَةِ
الْقَيْمَازِيَّةِ شَرْقِيَّ الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَقَدْ كَانَتْ دَارُ
الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةُ دَارًا لِهَذَا الْأَمِيرِ، وَلَهُ بِهَا حَمَّامٌ،
فَاشْتَرَى ذَلِكَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ فِيمَا بَعْدُ مُوسَى بْنُ الْعَادِلِ،
وَبَنَاهَا دَارَ حَدِيثٍ، وَأَخْرَبَ الْحَمَّامَ وَبَنَاهُ مَسْكَنًا لِلشَّيْخِ
الْمُدَرِّسِ بِهَا، وَلَمَّا تُوُفِّيَ وَدُفِنَ فِي قَبْرِهِ، نُبِشَتْ دُورُهُ
وَحَوَاصِلُهُ، وَكَانَ مُتَّهَمًا بِمَالٍ جَزِيلٍ، فَكَانَ مُتَحَصَّلُ مَا
جُمِعَ مِنْ ذَلِكَ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ يُظَنُّ أَنَّ عِنْدَهُ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ كَانَ يَدْفِنُ أَمْوَالَهُ فِي الْخَرَابِ مِنْ
أَرَاضِي ضِيَاعِهِ وَقَرَايَاهْ. فَسَامَحَهُ اللَّهُ وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ
ثَرَاهُ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ لُؤْلُؤٌ
أَحَدُ الْحُجَّابِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، كَانَ مِنْ أَكَابِرِ
الْأُمَرَاءِ فِي الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَتَسَلَّمُ
الْأُسْطُولَ بِالْبَحْرِ، فَيَكُونُ كَالشَّجَا فِي حُلُوقِ الْفِرِنْجِ
وَالنَّحْرِ فِي النَّحْرِ، فَكَمْ مِنْ شُجَاعٍ قَدْ أُسِرَ، وَكَمْ مِنْ
مَرْكَبٍ قَدْ
كُسِرَ،
وَكَمْ مِنْ أُسْطُولٍ لَهُمْ قَدْ فَرَّقَ شَمْلَهُ، وَمَنْ بَطْسَةٍ وَقَارِبٍ
قَدْ غَرَّقَ أَهْلَهُ، وَقَدْ كَانَ مَعَ كَثْرَةِ جِهَادِهِ دَارَّ
الصَّدَقَاتِ، كَثِيرَ النَّفَقَاتِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَكَانَ بِدِيَارِ مِصْرَ
غَلَاءٌ شَدِيدٌ فَتَصَدَّقَ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ رَغِيفٍ، لِاثْنَيْ عَشَرَ
أَلْفَ فَقِيرٍ؛ فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا وَرَحْمَةً فِي قَبْرِهِ، وَبَيَّضَ
وَجْهَهُ يَوْمَ مَحْشَرِهِ وَمَنْشَرِهِ؛ آمِينَ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْفَقِيهُ الْعَلَّامَةُ شِهَابُ الدِّينِ الطُّوسِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَشَيْخُ الْمَدْرَسَةِ
الْمَنْسُوبَةِ إِلَى تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ
الَّتِي يُقَالُ لَهَا: مَنَازِلُ الْعِزِّ. وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ
يَحْيَى تِلْمِيذِ الْغَزَالِيِّ، كَانَ لَهُ قَدْرٌ وَمَنْزِلَةٌ عِنْدَ مُلُوكِ
مِصْرَ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، إِلَى أَنْ
تُوُفِّيَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى
جِنَازَتِهِ، وَتَأَسَّفُوا عَلَيْهِ.
الشَّيْخُ ظَهِيرُ الدِّينِ عَبْدُ السَّلَامِ الْفَارِسِيُّ
شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ بِحَلَبَ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى
تِلْمِيذِ الْغَزَالِيِّ، وَتَلْمَذَ لِلْفَخْرِ الرَّازِيِّ، وَرَحَلَ إِلَى
مِصْرَ فَعُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يُدَرِّسَ بِتُرْبَةِ الشَّافِعِيِّ فَلَمْ
يَقْبَلْ، فَسَارَ إِلَى حَلَبَ فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ عَسْكَرَ
رَئِيسُ الْحَنَفِيَّةِ بِدِمَشْقَ، قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَيُعْرَفُ بِابْنِ
الْعَقَّادَةِ.
الشَّاعِرُ
الْمَاهِرُ الْهُمَامُ الْعَبْدِيُّ، وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ.
عَلِيُّ بْنُ نَصْرِ بْنِ عَقِيلِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
الْقَيْسِ بْنِ رَبِيعَةَ وَهُوَ بَغْدَادِيٌّ، قَدِمَ دِمَشْقَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ
وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَمَعَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ لَهُ، فِيهِ دُرَرٌ
حِسَانٌ وَفَرَائِدُ وَعَقَائِدُ وَعِقْيَانُ، وَقَدْ تَصَدَّى لِمَدْحِ الْمَلِكِ
الْأَمْجَدِ صَاحِبِ بَعْلَبَكَّ وَمَنْ قَبْلَهُ وَلَهُ:
وَمَا النَّاسُ إِلَّا كَامِلُ الْحَظِّ نَاقِصٌ وَآخَرُ مِنْهُمْ نَاقِصُ
الْحَظِّ كَامِلُ وَإِنِّي لِمُثْرٍ مِنْ حَيَاءٍ وَعِفَّةٍ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي مِنِ الْمَالِ طَائِلٌ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ: الْقَاضِي الْفَاضِلُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ
الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ.
أَبُو عَلِيٍّ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ الْقَاضِي الْأَشْرَفِ
أَبِي الْمَجْدِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْبَيْسَانِيِّ الْمَوْلَى
الْأَجَلُّ الْقَاضِي الْفَاضِلُ، كَانَ أَبُوهُ قَاضِيًا بِعَسْقَلَانَ،
فَأَرْسَلَ وَلَدَهُ فِي الدَّوْلَةِ الْفَاطِمِيَّةِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَاشْتَغَلَ بِهَا بِكِتَابَةِ الْإِنْشَاءِ عَلَى أَبِي
الْفَتْحِ قَادُوسَ وَغَيْرِهِ، فَسَادَ أَهْلُ الْبِلَادِ حَتَّى بَغْدَادَ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي زَمَانِهِ نَظِيرٌ، وَلَا عَدِيدٌ وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ
إِلَى وَقْتِنَا هَذَا مُمَاثِلٌ وَلَا مُنَاظِرٌ وَلَا نَدِيدٌ، وَلَمَّا
اسْتَقَرَّ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ جَعَلَهُ
كَاتِبَهُ وَصَاحِبَهُ وَوَزِيرَهُ وَجَلِيسَهُ وَأَنِيسَهُ، وَكَانَ أَعَزَّ
عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَأَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيفِهِ
وَتِلَادِهِ، وَتَسَاعَدَا حَتَّى فَتَحَ الْأَقَالِيمَ وَالْبُلْدَانَ
وَالْحُصُونَ وَالْمَعَاقِلَ، هَذَا بِحُسَامِهِ وَسِنَانِهِ، وَهَذَا بِقَلَمِهِ
وَلِسَانِهِ وَبَيَانِهِ، وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ مِنْ كَثْرَةِ
أَمْوَالِهِ وَوَجَاهَتِهِ وَرِيَاسَتِهِ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ
وَالصِّلَاتِ
وَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ، وَكَانَ يُوَاظِبُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَلَى
خَتْمَةٍ كَامِلَةٍ، مَعَ مَا يَزِيدُ عَلَيْهَا مِنْ نَافِلَةٍ، رَحِيمَ
الْقَلْبِ، حَسَنَ السِّيرَةِ، طَاهِرَ الْقَلْبِ وَالسَّرِيرَةِ، لَهُ مَدْرَسَةٌ
بِدِيَارِ مِصْرَ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَأَوْقَافٌ عَلَى تَخْلِيصِ
الْأُسَارَى مِنْ أَيْدِي النَّصَّارَى، وِقَدِ اقْتَنَى مِنَ الْكُتُبِ نَحْوًا
مِنْ مِائَةِ أَلْفِ كِتَابٍ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَفْرَحْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ
الْوُزَرَاءِ وَلَا الْعُلَمَاءِ وَلَا الْمُلُوكِ وَلَا الْكُتَّابِ، كَانَ
مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَقَدْ كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ دَخَلَ الْعَادِلُ إِلَى قَصْرِ مِصْرَ بِمَدْرَسَتِهِ
فَجْأَةً، يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ سَادِسِ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَاحْتَفَلَ النَّاسُ
بِجِنَازَتِهِ، وَزَارَ قَبْرَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الْمَلِكُ الْعَادِلُ،
وَتَأْسَّفَ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْتَوْزَرَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ
صَفِيَّ الدِّينِ بْنَ شُكْرٍ، فَلَمَّا سَمِعَ الْفَاضِلُ بِذَلِكَ دَعَا اللَّهَ
أَنْ لَا يُحَيِيَهُ إِلَى هَذِهِ الدَّوْلَةِ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَافَسَةِ،
فَمَاتَ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَمْ يُنِلْهُ أَحَدٌ بِضَيْمٍ وَلَا أَذًى، وَلَا
رَأَى فِي الدَّوْلَةِ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ
بِأَشْعَارٍ حَسَنَةٍ، مِنْهَا قَوْلُ الْقَاضِي هِبَةِ اللَّهِ بْنِ سَنَاءِ
الْمُلْكِ:
عَبْدُ الرَّحِيمِ عَلَى الْبَرِيَّةِ رَحْمَةٌ أَمِنَتْ بِصُحْبَتِهَا حُلُولَ
عِقَابِهَا
يَا سَائِلًا عَنْهُ وَعَنْ أَسْبَابِهِ نَالَ السَّمَاءَ فَسَلْهُ عَنْ
أَسْبَابِهَا
وَالدَّهْرُ يَعْلَمُ أَنَّ فَيْصَلَ خَطْبِهِ بِخُطَا يَرَاعَتِهِ وَفَصْلِ
خِطَابِهِا
وَلَقَدْ عَلَتْ رُتَبُ الْأَجَلِّ عَلَى الْوَرَى بِسُمُوِّ مَنْصِبِهِا وَطِيبِ
نِصَابِهَا
وَأَتَتْهُ خَاطِبَةً إِلَيْهِ وِزَارَةٌ وَلَطَالَمَا أَعْيَتْ عَلَى خُطَّابِهَا
مَا
لَقَّبُوهُ بِهَا لِأَنْ يَعْلُو بِهَا أَسْمَاؤُهُ أَغْنَتْهُ عَنْ أَلْقَابِهَا
قَالَ الزَّمَانُ لِغَيْرِهِ إِذْ رَامَهَا تَرِبَتْ يَمِينُكَ لَسْتَ مِنْ
أَتْرَابِهَا
اذْهَبْ طَرِيقَكَ لَسْتَ مِنْ أَرْبَابِهَا وَارْجِعْ وَرَاءَكَ لَسْتَ مِنْ
أَصْحَابِهَا
وَبِعِزِّ سَيِّدِنَا وَسَيِّدِ غَيْرِنَا ذَلَّتْ مِنَ الْأَيَامِ شَمْسُ
صِعَابِهَا
وَأَتَتْ سَعَادَتُهُ إِلَى أَبْوَابِهِ لَا كَالَّذِي يَسْعَى إِلَى أَبْوَابِهَا
تَعْنُو الْمُلُوكُ لِوَجْهِهِ بِوُجُوهِهَا لَا بَلْ تُسَاقُ لِبَابِهِ
بِرِقَابِهَا
شُغِلَ الْمُلُوكُ بِمَا يَزُولُ وَنَفْسِهِ مَشْغُولَةٌ بِالذِّكْرِ فِي
مِحْرَابِهَا
فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَوَاتِ أَتْعَبَ نَفْسَهُ وَضَمَانُ رَاحَتِهِ عَلَى
إِتْعَابِهَا
وَتَعَجَّلَ الْإِقْلَاعَ عَنِ لَذَّاتِهِ ثِقَةً بِحُسْنِ مَآلِهَا وَمَآبِهَا
فَلْتَفْخَرِ الدُّنْيَا بِسَائِسِ مُلْكِهَا مِنْهُ وَدَارِسِ عِلْمِهَا
وَكِتَابِهَا
صَوَّامِهَا قَوَّامِهَا عَلَّامِهَا عَمَّالِهَا بَذَّالِهَا وَهَّابِهَا
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْقَاضِيَ الْفَاضِلَ مَعَ بَرَاعَتِهِ وَفَصَاحَتِهِ الَّتِي
لَا تُدَانَى وَلَا تُجَارَى لَا يُعْرَفُ لَهُ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ طَنَّانَةٌ،
بَلْ لَهُ مَا بَيْنَ بَيْتٍ وَبَيْتَيْنِ فِي أَثْنَاءِ الرَّسَائِلِ وَغَيْرِهَا
شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
سَبَقْتُمْ بِإِسْدَاءِ الْجَمِيلِ تَكَرُّمًا وَمَا مِثْلُكُمْ فِيمَنْ تَحَدَّثَ
أَوْ حَكَى
وَقَدْ كَانَ ظَنِّي أَنْ أُسَابِقَكُمْ بِهِ وَلَكِنْ بَكَتْ قَبْلِي فَهِيجَ
لِيَ الْبُكَا
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَلِي
صَاحِبٌ مَا خِفْتُ مِنْ جَوْرِ حَادِثٍ مِنَ الدَّهْرِ إِلَّا كَانَ لِي مِنْ
وَرَائِيَهْ
إِذَا عَضَّنِي صَرْفُ الزَّمَانِ فَإِنَّنِي بِرَايَاتِهِ أَسْطُو عَلَيْهِ
وَرَائِيَهْ
وَلَهُ فِي بَدُوِّ أَمْرِهِ:
أَرَى الْكُتَّابَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا بِأَرْزَاقٍ تَعُمُّهُمْ سِنِينَا
وَمَا لِيَ بَيْنَهُمْ رِزْقٌ كَأَنِّي خُلِقْتُ مِنَ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَا
وَلَهُ فِي النَّحْلَةِ وَالزَّلْقَطَةِ:
وَمُغَرِّدَيْنِ تَجَاوَبَا فِي مَجْلِسٍ فَنَفَاهُمَا لَأَذَاهُمَا الْأَقْوَامُ
هَذَا يَجُودُ بِعَكْسِ مَا يَأْتِي بِهِ هَذَا فَيُحْمَدُ ذَا وَذَاكَ يُذَامُ
وَلَهُ فِي مِمْسَحَةِ الْقَلَمِ:
مِمْسَحَةٌ نَهَارُهَا يَجِنُّ لَيْلَ الظُّلَمِ كَأَنَّهَا مِنْ طَرَفِهَا
مَنْدِيلُ كَفِّ الْقَلَمِ
وَقَوْلُهُ:
بِتْنَا عَلَى حَالٍ تَسُرُّ الْهَوَى لَكِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الشَّرْحُ
بَوَّابُنَا اللَّيْلُ وَقُلْنَا لَهُ إِنْ غِبْتَ عَنَّا هَجَمَ الصُّبْحُ
وَسَأَلَهُ الْمَلِكُ الْعَزِيزُ عُثْمَانُ بْنُ النَّاصِرِ عَنْ جَارِيَةٍ مِنْ
حَظَايَاهُ؛ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ زِرًّا مِنْ ذَهَبٍ مُغَلَّفٍ بِعَنْبَرٍ أَسْوَدَ،
فَأَنْشَأَ الْفَاضِلُ يَقُولُ:
أَهْدَتْ
لَكَ الْعَنْبَرَ فِي وَسْطِهِ زِرٌّ مِنَ التِّبْرِ رَقِيقُ اللِّحَامِ
فَالزِّرُّ فِي الْعَنْبَرِ مَعْنَاهُمَا زُرْ هَكَذَا مُخْتَفِيًا فِي الظَّلَامِ
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ وِقَدِ اخْتُلِفَ فِي لَقَبِهِ، فَقِيلَ:
مُحْيِي الدِّينِ، وَقِيلَ: مُجِيرُ الدِّينِ. وَحُكِيَ عَنْ عُمَارَةَ
الْيَمَنِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَهُ بِذِكْرٍ جَمِيلٍ، وَأَنَّ الْعَادِلَ بْنَ
الصَّالِحِ بْنِ رُزِّيكَ هُوَ الَّذِي اسْتَقْدَمَهُ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ،
وَقَدْ كَانَ مَعْدُودًا فِي حَسَنَاتِهِ. وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ خَلِّكَانَ
تَرْجَمَتَهُ بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَا، وَفِي هَذِهِ زِيَادَةٌ كَثِيرَةٌ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا اشْتَدَّ الْغَلَاءُ بِأَرْضِ مِصْرَ جِدًّا، فَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ
جِدًّا مِنَ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ فَنَاءٌ عَظِيمٌ،
حَتَّى حَكَى الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ فِي " الذَّيْلِ " أَنَّ
الْعَادِلَ كَفَّنَ مِنْ مَالِهِ فِي مُدَّةِ شَهْرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ مَيِّتٍ، وَأُكِلَتِ الْكِلَابُ
وَالْمَيْتَاتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِمِصْرَ، وَأُكِلَ مِنَ الصِّغَارِ
وَالْأَطْفَالِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، يَشْوِيهِ وَالِدَاهُ وَيَأْكُلَانِهِ، وَكَثُرَ
هَذَا فِي النَّاسِ حَتَّى صَارَ لَا يُنْكَرُ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ صَارُوا
يَحْتَالُونَ عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضًا فَيَأْكُلُونَ مَنْ يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ،
وَمَنْ غَلَبَ مِنْ قَوِيٍّ ضَعِيفًا ذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ.
وَكَانَ الرَّجُلُ يُضِيفُ صَاحِبَهُ فَإِذَا خَلَا بِهِ ذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ،
وَوُجِدَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَرْبَعُمِائَةِ رَأْسٍ.
وَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَطِبَّاءِ الَّذِينَ يُسْتَدْعُونَ إِلَى الْمَرْضَى،
فَيُذْبَحُونَ وَيُؤَكَلُونَ ; وِقَدِ اسْتَدْعَى رَجُلٌ طَبِيبًا فَخَافَ
الطَّبِيبُ وَذَهَبَ مَعَهُ عَلَى وَجَلٍ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَتَصَدَّقُ عَلَى
مَنْ وَجَدَهُ فِي الطَّرِيقِ وَيَذْكُرُ وَيُسَبِّحُ، وَيُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ،
فَارْتَابَ بِهِ الطَّبِيبُ وَتَخَيَّلَ، وَمَعَ هَذَا حَمَلَهُ الطَّمَعُ عَلَى
الِاسْتِمْرَارِ مَعَهُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الدَّارِ إِذَا هِيَ خَرِبَةٌ
فَارْتَابَ أَيْضًا، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الدَّارِ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: وَمَعَ
هَذَا الْبُطْءِ جِئْتَ لَنَا بِصَيْدٍ. فَلَمَّا سَمِعَهَا الطَّبِيبُ هَرَبَ،
فَخَرَجَا خَلْفَهُ سِرَاعًا فَمَا
خَلَصَ
إِلَّا بَعْدَ جُهْدٍ جَهِيدٍ.
وَفِيهَا وَقَعَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ بِبِلَادِ عَنَزَةَ بَيْنَ الْحِجَازِ
وَالْيَمَنِ، وَكَانُوا يَسْكُنُونَ فِي عِشْرِينَ قَرْيَةً، فَبَادَتْ مِنْهَا
ثَمَانِي عَشْرَةَ قَرْيَةً، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا دَيَّارٌ وَلَا نَافِخُ نَارٍ،
وَبَقِيَتْ أَنْعَامُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لَا قَانِيَ لَهَا، وَلَا يَسْتَطِيعُ
أَحَدٌ أَنْ يَسْكُنَ تِلْكَ الْقُرَى وَلَا يَدْخُلَهَا، بَلْ كَانَ مَنِ
اقْتَرَبَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُرَى هَلَكَ مِنْ سَاعَتِهِ، فَسُبْحَانَ
مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجِعُونَ، أَمَّا
الْقَرْيَتَانِ الْبَاقِيَتَانِ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَمُتْ مِنْهُمَا أَحَدٌ وَلَا
عِنْدَهُمْ شُعُورٌ بِمَا جَرَى عَلَى مَنْ حَوْلَهُمْ؛ بَلْ هُمْ عَلَى مَا
كَانُوا عَلَيْهِ لَمْ يُفْقَدْ مِنْهُمْ أَحَدٌ.
وَاتَّفَقَ بِالْيَمَنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ جِدًّا، وَهِيَ
أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْزَةَ الْعَلَوِيُّ كَانَ
قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ، وَجَمَعَ نَحَوًا مِنِ
اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ وَمِنَ الرَّجَّالَةِ جَمْعًا كَثِيرًا، وَخَافَهُ
مَلِكُ الْيَمَنِ الْمُعِزُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَيْفِ الْإِسْلَامِ بْنِ
طُغْتِكِينَ بْنِ أَيُّوبَ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ زَوَالُ مُلْكِهِ عَلَى يَدَيْ
هَذَا الْمُتَغَلِّبِ، وَأَيْقَنَ بِالْهَلَكَةِ لِضَعْفِهِ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ،
وَاخْتِلَافِ أُمَرَائِهِ مَعَهُ فِي الْمَشُورَةِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ صَاعِقَةً،
فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَاضْطَرَبَ الْجَيْشُ
فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَقْبَلَ الْمُعِزُّ بِعَسْكَرِهِ فَقُتِلَ مِنْهُمْ سِتَّةُ
آلَافِ قَتِيلٍ، وَاسْتَقَرَّ فِي مُلْكِهِ آمِنًا.
وَفِيهَا تَكَاتَبَ الْأَخَوَانِ ; الْأَفْضَلُ مِنْ صَرَخْدَ وَالظَّاهِرُ مِنْ
حَلَبَ عَلَى أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى حِصَارِ دِمَشْقَ وَيَنْزِعَاهَا مِنَ
الْمُعَظَّمِ بْنِ الْعَادِلِ، وَتَكُونُ لِلْأَفْضَلِ، ثُمَّ يَسِيرَا إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَيَأْخُذَاهَا مِنَ الْعَادِلِ وَابْنِهِ الْكَامِلِ اللَّذَيْنِ
نَقَضَا الْعَهْدَ
وَأَبْطَلَا
خُطْبَةَ الْمَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَنَكَثَا الْمَوَاثِيقَ، فَإِذَا
اسْتَقَرَّ لَهُمَا مُلْكُ مِصْرَ كَانَتْ لِلْأَفْضَلِ، وَتَصِيرُ دِمَشْقُ
مُضَافَةً إِلَى الظَّاهِرِ مَعَ حَلَبَ فَلَمَّا بَلَغَ الْعَادِلَ مَا تَمَالَآ
عَلَيْهِ، أَرْسَلَ جَيْشًا مَدَدًا لِابْنِهِ الْمُعَظَّمِ بِدِمَشْقَ،
فَوَصَلُوا قَبْلَ وُصُولِ الظَّاهِرِ وَأَخِيهِ الْأَفْضَلِ، وَكَانَ
وُصُولُهُمَا إِلَيْهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ نَاحِيَةِ بَعْلَبَكَّ فَنَزَلَا
بِجَيْشِهِمَا فِي مَسْجِدِ الْقَدَمِ، وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ لِلْبَلَدِ،
وَتَسَلَّقَ كَثِيرٌ مِنَ الْجَيْشِ مِنْ نَاحِيَةِ خَانِ ابْنِ الْمُقَدَّمِ،
وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا فَتْحُ الْبَلَدِ، لَوْلَا هُجُومُ اللَّيْلِ. ثُمَّ إِنَّ
الظَّاهِرَ بَدَا لَهُ فِيمَا كَانَ عَاهَدَ أَخَاهُ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِ
دِمَشْقَ تَكُونُ لِلْأَفْضَلِ، فَرَأَى أَنْ تَكُونَ لَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ إِذَا
فُتِحَتْ مِصْرُ يُسَلِّمُهَا لِلْأَفْضَلِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ
فَلَمْ يَقْبَلِ الْأَفْضَلُ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَا وَتَفَرَّقَتْ كَلِمَتُهُمَا، وَتَنَازَعَا
عَلَى الْمُلْكِ بِدِمَشْقَ، فَتَفَرَّقَتِ الْأُمَرَاءُ عَنْهُمَا، وَكُوتِبَ
الْعَادِلُ فِي الصُّلْحِ، فَأَرْسَلَ يُجِيبُ إِلَى مَا سَأَلَا مِنْ
إِقْطَاعِهِمَا شَيْئًا مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَبَعْضِ مُعَامَلَةِ
الْمَعَرَّةِ. وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ عَنِ الْبَلَدِ فِي مُحَرَّمٍ سَنَةَ
ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ، وَسَارَ كُلٌّ مِنَ الْمَلِكَيْنِ إِلَى تَسَلُّمِ
الْبِلَادِ الَّتِي أُقْطِعَهَا، وَجَرَتْ خُطُوبٌ يَطُولُ شَرْحُهَا، وَقَدْ
كَانَ الظَّاهِرُ وَأَخُوهُ كَتَبَا إِلَى صَاحِبِ الْمَوْصِلِ نُورِ الدِّينِ
أَرْسَلَانَ الْأَتَابِكِيِّ أَنْ يُحَاصِرَ مُدُنَ الْجَزِيرَةِ الَّتِي مَعَ
عَمِّهِمَا الْعَادِلِ، فَرَكِبَ فِي جَيْشِهِ وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ
قُطْبِ الدِّينِ صَاحِبِ سِنْجَارَ، وَاجْتَمَعَ مَعَهُمَا صَاحِبُ مَارِدِينَ
الَّذِي كَانَ الْعَادِلُ قَدْ حَاصَرَهُ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ مُدَّةً طَوِيلَةً،
فَقَصَدَتِ الْعَسَاكِرُ حَرَّانَ وَبِهَا الْفَائِزُ بْنُ الْعَادِلِ،
فَحَاصَرُوهُ مُدَّةً، ثُمَّ لَمَّا بَلَغَهُمْ وُقُوعُ الصُّلْحِ بَيْنَ
الْعَادِلِ وَابْنَيْ أَخِيهِ الظَّاهِرِ وَالْأَفْضَلِ عَدَلُوا إِلَى
الْمُصَالَحَةِ أَيْضًا، وَذَلِكَ بَعْدَ طَلَبِ الْفَائِزِ ذَلِكَ مِنْهُمْ،
وَتَمَهَّدَتِ الْأُمُورُ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ؛ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ غِيَاثُ الدِّينِ وَأَخُوهُ شِهَابُ الدِّينِ
الْغُورِيَّانِ جَمِيعَ مَا
كَانَ
يَمْلِكُهُ خُوَارِزْمُ شَاهْ مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ،
وَجَرَتْ لَهُمْ خُطُوبٌ طَوِيلَةٌ جِدًّا. وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ
عَظِيمَةٌ، ابْتَدَأَتْ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ إِلَى الْجَزِيرَةِ وَبِلَادِ
الرُّومِ وَالْعِرَاقِ، وَكَانَ جُمْهُورُهَا وَعُظْمُهَا بِالشَّامِ ;
تَهَدَّمَتْ مِنْهَا دُورٌ كَثِيرَةٌ، وَخُسِفَ بِقَرْيَةٍ مِنْ أَرْضِ بُصْرَى،
وَأَمَّا السَّوَاحِلُ فَهَلَكَ فِيهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَخَرِبَتْ مَحَالٌّ
كَثِيرَةٌ مِنْ طَرَابُلُسَ وَصُورَ وَعَكَّا وَنَابُلُسَ، وَلَمْ يَبْقَ
بِنَابُلُسَ سِوَى حَارَةِ السَّامَرَّةِ وَمَاتَ بِهَا وَبِقُرَاهَا ثَلَاثُونَ
أَلْفًا تَحْتَ الرَّدْمِ، وَسَقَطَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْمَنَارَةِ
الشَّرْقِيَّةِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً مِنْهُ،
وَغَالِبُ الْكَلَّاسَةِ وَالْمَارَسْتَانِ النُّورِيِّ، وَخَرَجَ النَّاسُ إِلَى
الْمَيَادِينِ يَسْتَغِيثُونَ، وَسَقَطَ غَالِبُ قَلْعَةِ بَعْلَبَكَّ مَعَ
وَثَاقَةِ بِنَائِهَا، وَانْفَرَقَ الْبَحْرُ إِلَى قُبْرُسَ وَحَذَفَ
بِالْمَرَاكِبِ إِلَى سَاحِلِهِ، وَتَعَدَّى إِلَى نَاحِيَةِ الشَّرْقِ، فَسَقَطَ
بِسَبَبِهَا دُورٌ كَثِيرَةٌ، وَمَاتَ أُمَمٌ لَا يُحْصُونَ حَتَّى قَالَ صَاحِبُ
" مِرْآةِ الزَّمَانِ ": إِنَّهُ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِسَبَبِ
الزَّلْزَلَةِ نَحْوٌ مِنْ أَلْفِ أَلْفِ وَمِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ. نَقَلَهُ
فِي " ذَيْلِ الرَّوْضَتَيْنِ " عَنْهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَّادَى بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْجَوْزِيُّ - نِسْبَةً إِلَى فُرْضَةِ
نَهْرٍ
بِالْبَصْرَةِ - ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ النَّضِرِ بْنِ
الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، الشَّيْخُ الْحَافِظُ
الْوَاعِظُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْفَرَجِ، الْمَشْهُورُ بِابْنِ الْجَوْزِيِّ،
الْقُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ الْبَغْدَادِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، أَحَدُ أَفْرَادِ
الْعُلَمَاءِ، بَرَزَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَجَمَعَ الْمُصَنَّفَاتِ
الْكِبَارَ وَالصِّغَارَ نَحَوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ مُصَنَّفٍ، وَكَتَبَ
بِيَدِهِ نَحْوًا مِنْ أَلْفَيْ مُجَلَّدَةٍ، وَتَفْرَّدَ بِفَنِّ الْوَعْظِ
الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ، وَلَا يُلْحَقُ شَأْوُهُ فِي طَرِيقَتِهِ
وَشَكْلِهِ، وَفِي فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَعُذُوبَةِ كَلَامِهِ، وَحَلَاوَةِ
تَرْصِيعِهِ، وَنُفُوذِ وَعْظِهِ، وَغَوْصِهِ عَلَى الْمَعَانِي الْبَدِيعَةِ،
وَتَقْرِيبِهِ الْأَشْيَاءَ الْغَرِيبَةَ فِيمَا يُشَاهَدُ مِنَ الْأُمُورِ
الْحِسِّيَّةِ، بِعِبَارَةٍ وَجِيزَةٍ سَرِيعَةٍ، هَذَا وَلَهُ فِي الْعُلُومِ
كُلِّهَا الْيَدُ الطُّولَى، وَالْمُشَارَكَاتُ فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ
مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّارِيخِ وَالْحِسَابِ، وَالنَّظَرِ فِي
النُّجُومِ، وَلَهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ فِي ذَلِكَ مَا يَضِيقُ هَذَا الْمَقَامُ
عَنْ تِعْدَادِهَا، وَحَصْرِ أَفْرَادِهَا ; مِنْهَا كِتَابُهُ فِي التَّفْسِيرِ
الْمَشْهُورُ بِ " زَادِ الْمَسِيرِ " وَلَهُ أَبْسَطُ مِنْهُ
وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ وَلَا مَنْكُورٍ، وَلَهُ " جَامِعُ الْمَسَانِيدِ
" اسْتَوْعَبَ فِيهِ غَالِبَ " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " وَ
" صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ " وَ " جَامِعِ
التِّرْمِذِيِّ "، وَلَهُ كِتَابُ " الْمُنْتَظَمِ فِي تَوَارِيخِ
الْأُمَمِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ " فِي عِشْرِينَ مُجَلَّدًا، قَدْ
أَوْرَدْنَا فِي كِتَابِنَا هَذَا كَثِيرًا مِنْ حَوَادِثِهِ وَتَرَاجِمِهِ،
فَلَمْ يَزَلْ يُؤَرِّخُ أَخْبَارَ الْعَالَمِ حَتَّى صَارَ هُوَ تَارِيخًا، وَمَا
أَحَقَّهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا زِلْتَ تَدْأَبُ فِي التَّارِيخِ مُجْتَهِدًا حَتَّى رَأْيْتُكَ فِي
التَّارِيخِ مَكْتُوبًا
وَلَهُ مَقَامَاتٌ وَخُطَبٌ، وَلَهُ " الْأَحَادِيثُ الْمَوْضُوعَةُ "
وَ " الْعِلَلُ الْمُتَنَاهِيَةُ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَاهِيَةِ "
وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وُلِدَ سَنَةَ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَمَاتَ أَبُوهُ وَعُمْرُهُ ثَلَاثُ
سِنِينَ، وَكَانَ أَهْلُهُ تُجَّارًا
فِي
النُّحَاسِ، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ جَاءَتْ بِهِ عَمَّتُهُ إِلَى مَسْجِدِ مُحَمَّدِ
بْنِ نَاصِرٍ الْحَافِظِ، فَلَزِمَ الشَّيْخَ، وَسَمِعَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ،
وَتَفَقَّهَ بِابْنِ الزَّاغُونِيِّ، وَحَفِظَ الْوَعْظَ، وَوَعَظَ وَهُوَ دُونَ
الْعِشْرِينَ، وَأَخَذَ اللُّغَةَ عَنْ أَبِي مَنْصُورٍ الْجَوَالِيقِيِّ، وَكَانَ
صَيِّنًا دَيِّنًا، مَجْمُوعًا عَلَى نَفْسِهِ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا، وَلَا
يَأْكُلُ مِمَّا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا
لِلْجُمُعَةِ، وَقَدْ حَضَرَ مَجْلِسَ وَعْظِهِ الْخُلَفَاءُ وَالْوُزَرَاءُ
وَالْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ وَالْفُقَرَاءُ، وَمِنْ سَائِرِ
صُنُوفِ بَنِي آدَمَ، وَأَقَلُّ مَا كَانَ يَجْتَمِعُ فِي مَجْلِسِهِ عَشَرَةُ
آلَافٍ، وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ فِيهِ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، وَرُبَّمَا
تَكَلَّمَ مِنْ خَاطِرِهِ عَلَى الْبَدِيهَةِ نَظْمًا وَنَثْرًا؛ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ أُسْتَاذًا فَرْدًا فِي الْوَعْظِ، لَهُ مُشَارَكَاتٌ
حَسَنَةٌ فِي بَقِيَّةِ الْعُلُومِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِ بَهَاءٌ، وَتَرَفُّعٌ فِي
نَفْسِهِ، وَيَسْمُو بِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَقَامِهِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي
نَثْرِهِ وَنَظْمِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
مَا زِلْتُ أُدْرِكُ مَا غَلَا بَلْ مَا عَلَا وَأَكَابِدُ النَّهْجَ الْعَسِيرَ
الْأَطْوَلَا
تَجْرِي بِيَ الْآمَالُ فِي حَلَبَاتِهِ طَلَقَ السَّعِيدِ جَرَى مَدَى مَا
أَمَّلَا
يُفْضِي بِيَ التَّوْفِيقُ فِيهِ إِلَى الَّذِي أَعْمَى سِوَايَ تَوَصُّلًا
وَتَغَلْغُلَا
لَوْ كَانَ هَذَا الْعِلْمُ شَخْصًا نَاطِقًا وَسَأَلْتُهُ هَلْ زُرْتَ مِثْلِي
قَالَ لَا
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا، وَيُرْوَى لِغَيْرِهِ:
إِذَا قَنِعْتَ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقُوتِ أَصْبَحْتَ فِي النَّاسِ حُرًّا غَيْرَ
مَمْقُوتِ
يَا قُوتَ نَفْسِي إِذَا مَا دَرَّ خِلْفُكَ لِي فَلَسْتَ آسَى عَلَى دُرٍّ
وَيَاقُوتِ
وَلَهُ
مِنَ النَّظْمِ وَالنَّثْرِ شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا يَنْضَبِطُ، وَلَهُ كِتَابٌ
مُفْرَدٌ سَمَّاهُ: " نَظْمَ الْجُمَانِ فِي كَانَ وَكَانَ ".
وَمِنْ لَطَائِفِ كَلَامِهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا
بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ إِنَّمَا طَالَتْ أَعْمَارُ مَنْ قَبْلَنَا
لِطُولِ الْبَادِيَةِ، فَلَمَّا شَارَفَ الرَّكْبُ بَلَدَ الْإِقَامَةِ، قِيلَ
لَهُمْ: حُثُّوا الْمَطِيَّ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَيُّمَا أَفْضَلُ ؟ أَجْلِسُ
أُسَبِّحُ أَوْ أَسْتَغْفِرُ ؟ فَقَالَ: الثَّوْبُ الْوَسِخُ أَحْوَجُ إِلَى
الصَّابُونِ مِنِ الْبَخُورِ.
وَسُئِلَ عَمَّنْ أَوْصَى وَهُوَ فِي السِّيَاقِ، فَقَالَ: هَذَا طِينٌ سُطُوحُهُ
فِي كَانُونٍ.
وَالْتَفَتَ يَوْمًا إِلَى نَاحِيَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَضِيءِ وَهُوَ فِي
الْوَعْظِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ; إِنْ تَكَلَّمْتُ خِفْتُ مِنْكَ،
وَإِنْ سَكْتُّ خِفْتُ عَلَيْكَ، وَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: اتَّقِ اللَّهَ،
خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ أَهْلُ بَيْتٍ مَغْفُورٌ لَكُمْ. وَكَانَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: إِذَا بَلَغَنِي عَنْ عَامِلٍ أَنَّهُ ظَالِمٌ
فَلَمْ أُغَيِّرْهُ، فَأَنَا الظَّالِمُ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ; وَكَانَ
يُوسُفُ لَا يَشْبَعُ فِي زَمَنِ الْقَحْطِ حَتَّى لَا يَنْسَى الْجِيعَانَ،
وَكَانَ عُمْرُ يَضْرِبُ بَطْنَهُ عَامَ الرَّمَادَةِ وَيَقُولُ: قَرْقِرْ أَوْ
لَا تُقَرْقِرْ، وَاللَّهِ لَا سَمْنًا وَلَا سَمِينًا حَتَّى يُخْصِبَ النَّاسُ.
قَالَ: فَتَصَدَّقَ الْمُسْتَضِيءُ بِمَالٍ جَزِيلٍ، وَأَطْلَقَ الْمَحَابِيسَ،
وَكَسَى خَلْقًا مِنَ الْفُقَرَاءِ.
وُلِدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي حُدُودِ سَنَةِ عَشْرٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، كَمَا
تَقَدْمَ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ
فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَحُمِلَتْ
جِنَازَتُهُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، فَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ عِنْدَ أَبِيهِ
بِالْقُرْبِ مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، حَتَّى قِيلَ:
إِنَّهُ أَفْطَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْحَرِّ وَكَثْرَةِ
الزِّحَامِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ أَوْصَى أَنْ تُكْتَبَ عَلَى قَبْرِهِ
هَذِهِ الْأَبْيَاتُ:
يَا كَثِيرَ الْعَفْوِ عَمَّنْ كَثُرَ الْذَّنْبُ لَدَيْهِ
جَاءَكَ الْمُذْنِبُ يَرْجُو الصَّفْ حَ عَنْ جُرْمِ يَدَيْهِ
أَنَا ضَيْفٌ وَجَزَاءُ الضَّيْ فِ إِحْسَانٌ إِلَيْهِ
وَقَدْ كَانَ لِلشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْأَوْلَادِ
الذُّكُورِ ثَلَاثَةٌ ; عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ، مَاتَ
شَابًّا فِي حَيَاةِ وَالِدِهِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ أَبُو
الْقَاسِمِ عَلِيٌّ، وَقَدْ كَانَ عَاقًّا لِوَالِدِهِ إِلْبًا عَلَيْهِ فِي
زَمَنِ الْمِحْنَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ تَسَلَّطَ عَلَى كُتُبِهِ فِي غَيْبَتِهِ
بِوَاسِطٍ، فَبَاعَهَا بِأَبْخَسِ الْأَثْمَانِ، ثُمَّ مُحْيِي الدِّينِ يُوسُفُ،
وَكَانَ أَنْجَبَ الْأَوْلَادِ وَأَصْغَرَهُمْ ; وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ
وَوَعَظَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَاشْتَغَلَ وَحَرَّرَ وَأَتْقَنَ وَسَادَ أَقْرَانَهُ،
ثُمَّ بَاشَرَ حِسْبَةَ بَغْدَادَ ثُمَّ كَانَ رَسُولَ الْخُلَفَاءِ إِلَى
الْمُلُوكِ بِأَطْرَافِ الْبِلَادِ، وَلَا سِيَّمَا إِلَى بَنِي أَيُّوبَ
بِالشَّامِ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْكَرَامَاتِ مَا
ابْتَنَى بِهِ الْمَدْرَسَةَ الْجَوْزِيَّةَ الَّتِي بِالنَّشَابِينَ بِدِمَشْقَ،
ثُمَّ صَارَ أُسْتَاذَ دَارِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَعْصِمِ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَاسْتَمَرَّ مُبَاشِرَهَا إِلَى أَنْ قُتِلَ مَعَ الْخَلِيفَةِ
عَامَ هُولَاكُو بْنِ تُولِي بْنِ جِنْكِزَخَانَ، وَكَانَ لِأَبِي الْفَرَجِ
عِدَّةُ بَنَاتٍ ; مِنْهُنَّ رَابِعَةُ أُمُّ سِبْطِهِ أَبِي الْمُظَفَّرِ بْنِ
قَزَاوَغْلِيٍّ صَاحِبِ " مِرْآةِ الزَّمَانِ " وَهِيَ كِتَابٌ
مِنْ
أَجْمَعِ التَّوَارِيخِ وَأَكْثَرِهَا فَائِدَةً، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ
خَلِّكَانَ فِي " الْوَفِيَّاتِ " فَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَدَحَهُ
وَشَكَرَ تَصَانِيفَهُ وَعُلُومَهُ.
الْعِمَادُ الْكَاتِبُ الْأَصْبَهَانِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَامِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ أَلُّهْ - بِتَشْدِيدِ اللَّامِ
وَضَمِّهَا - الْمَعْرُوفُ بِالْعِمَادِ الْكَاتِبِ الْأَصْبَهَانِيِّ، صَاحِبُ
الْمُصَنَّفَاتِ وَالرَّسَائِلِ وَالشِّعْرِ، وُلِدَ بِأَصْبَهَانَ فِي سَنَةِ
تِسْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وِقَدِمَ بَغْدَادَ فَاشْتَغَلَ بِهَا عَلَى
الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ سَعِيدِ بْنِ الرَّزَّازِ مُدَرِّسِ النِّظَامِيَّةِ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى الشَّامِ فَحَظِيَ عِنْدَ الْمَلِكِ
نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ، وَكَتَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَوَلَّاهُ
الْمَدْرَسَةَ الَّتِي أَنْشَأَهَا دَاخِلَ بَابِ الْفَرَجِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا
الْعِمَادِيَّةِ ; نِسْبَةً إِلَى الْعِمَادِ هَذَا لِكَثْرَةِ إِقَامَتِهِ بِهَا،
وَتَدْرِيسِهِ فِيهَا، وَلَمْ يَكُنْ أَوَّلَ مَنْ دَرَّسَ بِهَا، بَلْ قَدْ
سَبَقَهُ إِلَى تَدْرِيسِهَا غَيْرُ وَاحِدٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ
نُورِ الدِّينِ.
ثُمَّ صَارَ الْعِمَادُ كَاتِبًا فِي الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ، وَكَانَ
الْقَاضِي الْفَاضِلُ يُثْنِي عَلَيْهِ وَيَشْكُرُهُ، قَالُوا: وَكَانَ
مَنْطُوقُهُ يَعْتَرِيهِ جُمُودٌ وَفَتْرَةٌ، وَقَرِيحَتُهُ فِي غَايَةِ
الْجَوْدَةِ وَالْحِدَّةِ. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ لِأَصْحَابِهِ
يَوْمًا: قُولُوا، فَتَكَلَّمُوا وَشَبَّهُوهُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ بِصِفَاتٍ،
فَلَمْ يَقْبَلْهَا الْقَاضِي، وَقَالَ: هُوَ كَالزِّنَادِ، ظَاهِرُهُ بَارِدٌ
وَدَاخِلُهُ
نَارٌ، وَلَهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ: " خَرِيدَةُ الْقَصْرِ فِي شُعَرَاءِ
الْعَصْرِ " وَ " الْفَتْحُ الْقُدْسِيِّ " وَ " الْبَرْقُ
الشَّامِيِّ " وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُسْجَعَةِ،
وَالْعِبَارَاتِ الْمُصَرَّعَةِ، وَالْقَصَائِدِ الْمُطَوَّلَةِ، وَالْمَعَانِي
وَالْأَلْفَاظِ الْمُؤَثَّلَةِ.
وَمِنْ لَطِيفِ تَغَزُّلِهِ، قَوْلُهُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
كَيْفَ قُلْتُمْ فِي مُقْلَتَيْهِ فُتُورُ وَأَرَاهَا بِلَا فُتُورٍ تَجُورُ
لَوْ بَصَرْتُمْ بِطَرْفِهِ كَيْفَ يَسْبِي قُلْتُمْ ذَاكَ كَاسِرٌ لَا كَسِيرُ
مُوتِرٌ قَوْسَ حَاجِبَيْهِ لِإِصْمَا ءِ فُؤَادِي كَأَنَّهُ مَوْتُورُ
لَا تَسَلْنِي عَنِ الْعَقَارِ فَعَقْلِي طَافِحٌ مِنْ عَقَارِهِنَّ عَقِيرُ
كَيْفَ يَصْحُو مِنْ سُكْرِهِ مُسْتَهَامُ مَزَجَتْ كَأْسَهُ الْحِسَانُ الْحُورُ
أَوْرَثَتْهُ سَقَامَهَا الْحُدْقُ النَّجْ لُ وَأَهْدَتْ لَهُ النُّحُولُ
الْخُصُورُ
مَا تَصِيدُ الْأُسْدُ الْخَوَادِرُ إِلَّا ظَبِيَاتٍ كُنَاسُهُنَّ الْخُدُورُ
كُلُّ غُصْنِيَّةِ الْمَوَشَّحِ هَيْفَا ءُ عَلَى الْبَدْرِ جَيْبُهَا مَزْرُورُ
وَجَنَّاتٌ تَجْنِي الشَّقَائِقَ مِنْهَا وَثَنَايَا كَأَنَّهَا الْمَنْثُورُ
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ
الصُّوفِيَّةِ.
الْأَمِيرُ بَهَاءُ الدِّينِ قَرَاقُوشُ
الْفَحْلُ الْخَصِيُّ، أَحَدُ كُبَرَاءِ أُمَرَاءِ الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ،
كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا فَاتِكًا، تَسَلَّمَ الْقَصْرَ لَمَّا مَاتَ الْعَاضِدُ،
وَعَمَّرَ سُورَ
الْقَاهِرَةِ
مُحِيطًا عَلَى مِصْرَ أَيْضًا، وَانْتَهَى إِلَى الْمَقْسَمِ ; وَهُوَ الْمَكَانُ
الَّذِي اقْتَسَمَتْ فِيهِ الصَّحَابَةُ مَا غَنِمُوا مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَبَنَى قَلْعَةَ الْجَبَلِ، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ صَلَاحُ
الدِّينِ سَلَّمَهُ عَكَّا لِيُعَمِّرَ فِيهَا أَمَاكِنَ كَثِيرَةً، فَوَقَعَ
الْحِصَارُ وَهُوَ بِهَا، فَلَمَّا خَرَجَ الْبَدَلُ مِنْهَا كَانَ هُوَ مِنْ
جُمْلَةِ مَنْ خَرَجَ، ثُمَّ دَخَلَهَا ابْنُ الْمَشْطُوبِ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ
أُسِرَ فَافْتَدَى نَفْسَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَعَادَ إِلَى صَلَاحِ
الدِّينِ فَفَرِحَ بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا، وَلَمَّا تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ احْتَاطَ الْعَادِلُ عَلَى تَرِكَتِهِ وَصَارَتْ أَقْطَاعُهُ
وَأَمْلَاكُهُ لِلْمَلِكِ الْكَامِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَادِلِ. قَالَ الْقَاضِي
ابْنُ خَلِّكَانَ: وَقَدْ نُسِبَ إِلَيْهِ أَحْكَامٌ عَجِيبَةٌ، حَتَّى صَنَّفَ
بَعْضُهُمْ جُزْءًا لَطِيفًا سَمَّاهُ: كِتَابَ " الْفَاشُوشِ فِي أَحْكَامِ
قَرَاقُوشَ " فَذَكَرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً جِدًّا وَأَظُنُّهَا مَوْضُوعَةً
عَلَيْهِ ; فَإِنَّ الْمَلِكَ صَلَاحَ الدِّينِ كَانَ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَمَا
كَانَ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ ! وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَكْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُسْتَنْجِدِيُّ
كَانَ تُرْكِيًّا عَابِدًا زَاهِدًا، سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ وَقْتَ السَّحَرِ وَهُوَ
يُنْشِدُ عَلَى الْمَنَارَةِ:
يَا رِجَالَ اللَّيْلِ جِدُّوا رُبَّ صَوْتٍ لَا يُرَدُّ
مَا يَقُومُ اللَّيْلُ إِلَّا مَنْ لَهُ عَزْمٌ وَجِدُّ
فَبَكَى مَكْلَبَةُ، وَقَالَ لِلْمُؤَذِّنِ: يَا مُؤَذِّنِي زِدْنِي، فَقَالَ
الْمُؤَذِّنُ:
قَدْ مَضَى اللَّيْلُ وَوَلَّى وَحَبِيبِي قَدْ تَجَلَّى
فَصَرَخَ
مَكْلَبَةُ صَرْخَةً كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ، فَأَصْبَحَ أَهْلُ الْبَلَدِ قَدِ
اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ، فَالسَّعِيدُ مَنْ وَصَلَ إِلَى نَعْشِهِ؛ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو مَنْصُورِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ شُجَاعٍ
الْمُزَكْلِشُ بِبَغْدَادَ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ نُقْطَةَ، كَانَ يَدُورُ فِي
أَسْوَاقِ بَغْدَادَ بِالنَّهَارِ يُنْشِدُ كَانَ وَكَانَ وَالْمَوَالِيَا،
وَيُسَحِّرُ النَّاسَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَكَانَ مَطْبُوعًا ظَرِيفًا
خَلِيعًا، وَكَانَ أَخُوهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الزَّاهِدُ مِنْ أَكَابِرِ
الصَّالِحِينَ، لَهُ زَاوِيَةٌ بِبَغْدَادَ يُزَارُ فِيهَا، وَكَانَ لَهُ
أَتْبَاعٌ وَمُرِيدُونَ، وَلَا يَدَّخِرُ شَيْئًا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْفُتُوحِ.
تَصَدَّقَ فِي لَيْلَةٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ وَأَصْحَابُهُ صُيَّامٌ لَمْ يَدَّخِرْ
مِنْهَا شَيْئًا لِعَشَائِهِمْ. وَزَوْجَتُهُ أَمُّ الْخَلِيفَةِ بِجَارِيَةٍ مِنْ
خَوَاصِّهَا وَجَهَّزَتْهَا بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ إِلَيْهِ، فَمَا حَالَ
الْحَوْلُ وَعِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، بَلْ جَمِيعُ ذَلِكَ يُؤْثِرُ بِهِ
وَيَتَصَدَّقُ بِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ سِوَى هَاوُنٍ، فَوَقَفَ
سَائِلٌ بِبَابِهِ فَأَلَحَ فِي الطَّلَبِ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ الْهَاوُنَ،
فَقَالَ: خُذْ هَذَا وَكُلْ بِهِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَا تُشَنِّعْ عَلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الصَّالِحِينَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قِيلَ لِأَخِيهِ أَبِي مَنْصُورٍ هَذَا: وَيْحَكَ، أَنْتَ
تَدُورُ فِي الْأَسْوَاقِ وَتُنْشِدُ الْأَشْعَارَ، وَأَخُوكَ مَنْ قَدْ عَرَفْتَ
! فَأَنْشَأَ يَقُولُ فِي جَوَابِ ذَلِكَ بَيْتَيْنِ مُوَالِيًا مِنْ شِعْرِهِ
عَلَى الْبَدِيهَةِ:
قَدْ خَابَ مَنْ شَبَّهَ الْجَزْعَهْ إِلَى الدُّرَّهْ وَشَابَهَ قَحْبَهْ إِلَى
مُسْتَجِنَّهْ حُرَّهْ
أَنَا
مُغَنِّي وَأَخِي زَاهِدْ إِلَى مُرَّهْ فِي الدَّارِ بِئْرَيْنِ ذِي حَلْوَهْ
وَذِي مُرَّهْ
وَقَدْ جَرَى عِنْدَهُ مَرَّةً ذِكْرُ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَعَلِيٌّ حَاضِرٌ،
فَأَنْشَأَ يَقُولُ: كَانَ وَكَانَ، وَمَنْ قُتِلَ فِي جِوَارِهِ مِثْلُ ابْنِ
عَفَّانَ فَاعْتَذَرَ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ فِي الشَّامِ عُذْرَ
يَزِيدَ. فَأَرَادَتِ الرَّوَافِضُ قَتْلَهُ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ فِي بَعْضِ
اللَّيَالِي يُسَحِّرُ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ إِذْ مَرَّ بِدَارِ الْخَلِيفَةِ
فَعَطَسَ الْخَلِيفَةُ فِي الطَّارِقَةِ فَشَمَّتَهُ أَبُو مَنْصُورٍ هَذَا مِنَ
الطَّرِيقِ فِي نَظْمٍ ارْتَجَلَهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ مُوَالِيًا يَقُولُ فِي
آخِرِهِ:
أَيْ مَنْ عَطَسَ فِي الْمَنْظَرِهْ يَرْحَمُكَ اللَّهْ
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ، وَرَسَمَ بِحِمَايَتِهِ مِنَ الرَّوَافِضِ،
إِلَى أَنْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
مُسْنِدُ الشَّامِ أَبُو طَاهِرٍ بَرَكَاتُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَاهِرٍ
الْخُشُوعِيُّ، شَارَكَ ابْنَ عَسَاكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَشْيَخَتِهِ، وَطَالَتْ
حَيَاتُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَأَلْحَقَ فِيهَا
الْأَحْفَادَ بِالْأَجْدَادِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
فِيهَا شَرَعَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ قُدَامَةَ
الْمَقْدِسِيُّ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ بِالْجَبَلِ، فَأَنْفَقَ
عَلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الشَّيْخُ أَبُو دَاوُدَ مَحَاسِنُ الْفَامِيُّ.
حَتَّى بَلَغَ الْبِنَاءُ مِقَدْارَ قَامَةٍ، فَنَفِدَ مَا عِنْدَهُ، وَمَا كَانَ
مَعَهُ مِنَ الْمَالِ، فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ كُوكُبُورِي بْنُ زَيْنِ
الدِّينِ صَاحِبُ إِرْبِلَ مَالًا جَزِيلًا لِيُتَمِّمَهُ بِهِ فَكَمَلَ،
وَأَرْسَلَ أَلْفَ دِينَارٍ لِيُسَاقَ بِهَا إِلَيْهِ الْمَاءُ مِنْ بَرْزَةَ،
فَلَمْ يُمَكِّنْ مِنْ ذَلِكَ الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ صَاحِبُ دِمَشْقَ
وَاعْتَذَرَ بِأَنَّ هَذَا يُشَوِّشُ قُبُورًا كَثِيرَةً لِلْمُسْلِمِينَ،
فَصُنِعَ لَهُ بِئْرٌ وَبَغْلٌ يَدُورُ، وَأُوقِفُ عَلَيْهِ وَقْفٌ لِذَلِكَ.
وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ وَخُطُوبٌ طَوِيلَةٌ بَيْنَ
الْخُوَارِزْمِيَّةِ وَالْغُورِيَّةِ بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ، بَسَطَهَا ابْنُ
الْأَثِيرِ، وَاخْتَصَرَهَا ابْنُ كَثِيرٍ.
وَفِيهَا دَرَّسَ بِالنِّظَامِيَّةِ مَجْدُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ الرَّبِيعِ،
وَخُلِعَ عَلَيْهِ خِلْعَةٌ سَنِيَّةٌ سَوْدَاءُ وَطَرْحَةٌ كُحْلِيَّةٌ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ الْعُلَمَاءُ وَالْأَعْيَانُ. وَفِيهَا وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ
بِبَغْدَادَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ الْجِيلِيُّ، وَخُلِعَ
عَلَيْهِ أَيْضًا.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْقَاضِي ابْنُ الزَّكِيِّ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ أَبُو الْمَعَالِي الْقُرَشِيُّ، مُحْيِي الدِّينِ قَاضِي الْقُضَاةِ
بِدِمَشْقَ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ كَانَ قَاضِيًا ; أَبُوهُ وَجَدُّهُ وَأَبُو جَدِّهِ
يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ وَلِيَ الْحُكْمَ
بِدِمَشْقَ مِنْهُمْ، وَكَانَ جَدَّ الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ
لِأُمِّهِ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي التَّارِيخِ، وَلَمْ يَزِدْ
عَلَى الْقُرَشِيِّ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ: وَلَوْ كَانَ أُمَوِيًّا
عُثْمَانِيًّا كَمَا يَزْعُمُونَ لَذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَسَاكِرَ، إِذْ كَانَ
فِيهِ شَرَفٌ لِجَدِّهِ وَخَالَيْهِ، مُحَمَّدٍ وَسُلْطَانَ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ
صَحِيحًا لَمَا خُفِيَ عَلَى ابْنِ عَسَاكِرَ.
اشْتَغَلَ ابْنُ الزَّكِيِّ عَلَى الْقَاضِي شَرَفِ الدِّينِ أَبِي سَعْدٍ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَصْرُونَ، وَنَابَ عَنْهُ فِي الْحُكْمِ،
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَرَكَ النِّيَابَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ بِالْقُدْسِ
لَمَّا فَتَحَهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي
سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ، ثُمَّ وَلَّاهُ قَضَاءَ دِمَشْقَ وَأَضَافَ إِلَيْهِ
قَضَاءَ حَلَبَ أَيْضًا، وَكَانَ نَاظِرَ أَوْقَافِ الْجَامِعِ، ثُمَّ عُزِلَ
قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشُهُورٍ، وَوَلِيَهَا شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْبَيْنِيِّ
ضَمَانًا، وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ يَنْهَى
الطَّلَبَةَ عَنِ الِاشْتِغَالِ
بِالْمَنْطِقِ
وَعِلْمِ الْكَلَامِ، وَيُمَزِّقُ كُتُبَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
بِالْمَدْرَسَةِ التَّقَوِيَّةِ، وَكَانَ يَحْفَظُ الْعَقِيدَةَ الْمُسَمَّاةَ
بِالْمِصْبَاحِ لِلْغَزَالِيِّ، وَيُحَفِّظُهَا أَوْلَادَهُ أَيْضًا، وَكَانَ لَهُ
دَرْسٌ فِي التَّفْسِيرِ يَذْكُرُهُ بِالْكَلَّاسَةِ، تُجَاهَ تُرْبَةِ الْمَلِكِ
النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَكَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَاتَّخَذَ لَهُ بَابًا مِنْ دَارِهِ
إِلَى الْجَامِعِ ; لِيَخْرُجَ مِنْهُ إِلَى الصَّلَاةِ، ثُمَّ خُولِطَ فِي
عَقْلِهِ، فَكَانَ يَعْتَرِيهِ شِبْهُ الصَّرْعِ إِلَى أَنْ تُوفِّيَ فِي سَابِعِ
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي تُرْبَةٍ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
الْخَطِيبُ الدَّوْلَعِيُّ
ضِيَاءُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ زَيْدِ بْنِ يَاسِينَ
التَّغْلِبِيُّ الدَّوْلَعِيُّ، نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ بِالْمَوْصِلِ، يُقَالُ
لَهَا: الدَّوْلَعِيَّةُ. وُلِدَ بِهَا فِي سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، وَتَفَقَّهَ بِبَغْدَادَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ، فَسَمِعَ " التِّرْمِذِيَّ " عَلَى أَبِي الْفَتْحِ
الْكَرُوخِيِّ، وَ " النَّسَائِيَّ " عَلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ
بْنِ أَحْمَدَ الْيَزْدِيِّ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ فَوَلِيَ بِهَا الْخَطَابَةَ
وَتَدْرِيسَ الْغَزَّالِيَّةَ، وَكَانَ زَاهِدًا مُتَوَرِّعًا، حَسَنَ
الطَّرِيقَةَ مَهِيبًا فِي الْحَقِّ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ،
وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ الصَّغِيرِ عِنْدَ قُبُورِ الشُّهَدَاءِ، وَكَانَ
يَوْمُ جِنَازَتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ الْخَطَابَةَ وَلَدُ
أَخِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ زَيْدٍ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً،
وَقَدْ كَانَ ابْنُ الزَّكِيِّ وَلَّى وَلَدَهُ
الزَّكِيَّ
الطَّاهِرَ، فَصَلَّى صَلَاةً وَاحِدَةً، فَتَشْفَّعَ جَمَالُ الدِّينِ
بِالْأَمِيرِ فَلَكِ الدِّينِ أَخِي الْعَادِلِ، فَوَلَّاهُ إِيَّاهَا فَبَقِيَ
فِيهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ.
الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غُلَيْسٍ
الْيَمَنِيُّ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ، كَانَ مُقِيمًا شَرْقِيَّ الْكَلَّاسَةِ،
وَكَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ، نَقَلَهَا الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ
السَّخَاوِيُّ عَنْهُ، وَسَاقَهَا أَبُو شَامَةَ عَنْهُ فِي " الذَّيْلِ
".
الصَّدْرُ أَبُو الثَّنَاءِ حَمَّادُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ حَمَّادٍ
الْحَرَّانَيُّ التَّاجِرُ
وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، عَامَ وُلِدَ نُورُ الدِّينِ بْنُ زَنْكِيٍّ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ بِبَغْدَادَ وَمِصْرَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ،
وَحَدَّثَ، وَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ.
وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
تَنَقُّلُ الْمَرْءِ فِي الْآفَاقِ يُكْسِبُهُ مَحَاسِنًا لَمْ تَكُنْ فِيهِ
بِبَلْدَتِهِ أَمَا تَرَى بَيْذَقَ الشِّطْرَنْجِ أَكْسَبَهُ
حُسْنُ التَّنَقُّلِ فِيهَا فَوْقَ رُتْبَتِهِ
السِّتُّ الْجَلِيلَةُ الْمَصُونَةُ بَنَفْشَا بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ
عَتِيقَةُ الْإِمَامِ
الْمُسْتَضِيءِ،
كَانَتْ مِنْ أَكْبَرِ حَظَايَاهُ، ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَهُ مِنْ أَكْثَرِ
النِّسَاءِ صَدَقَةً وَبِرًّا وَإِحْسَانًا إِلَى الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَرَاءِ،
لَهَا بِطَرِيقِ الْحِجَازِ مَعْرُوفٌ كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ، وَوَقَفَتْ مَدْرَسَةً
عَلَى الْحَنَابِلَةِ وَأَوْقَافًا دَارَّةً، وَدُفِنَتْ بِبَغْدَادَ عِنْدَ
تُرْبَةِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ
ابْنُ الْمُحْتَسِبِ الشَّاعِرُ أَبُو الشُّكْرِ مَحْمُودُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ
سَعِيدَ الْمَوْصِلِيُّ
، يُعْرَفُ بِابْنِ الْمُحْتَسِبِ تَفَقَّهَ بِبَغْدَادَ ثُمَّ سَافَرَ إِلَى
الْبِلَادِ وَصَحِبَ ابْنَ الشَّهْرُزُورِيِّ وِقَدِمَ مَعَهُ، فَلَمَّا وُلِّيَ
قَضَاءَ بَغْدَادَ وَلَّاهُ نَظَرَ أَوْقَافِ النِّظَامِيَّةِ، وَكَانَ فَاضِلًا
يَقُولُ الشِّعْرَ الرَّائِقَ، فَمِنْ ذَلِكَ:
أَسْلَفَ لَنَا فِي سُلَافَةِ الْعِنَبِ جَمِيعَ مَا يُقْتَنَى مِنَ الذَّهَبِ
وَانَشَبْ مَعَ النَّفْسِ فِي مُعَامَلَةٍ فِيهَا بِمَا عِنْدَنَا مِنَ النَّشَبِ
جَمِيعُ مَا فِي الْهِمْيَانِ يَحْقِرُهُ الْ عَاقِلُ فِي لَثْمِ رِيقِهَا
الشَّنِبِ
لَا سِيَّمَا إِنْ أَتَتْكَ كَالذَّهَبِ قَدْ قَلَّدُوهَا عِقْدًا مِنَ الْحَبَبِ
تُحْرَقُ كَفُّ الْمُدِيرِ إِنْ وَقَفَ الدَّ وْرُ بِهَا سَاعَةً مِنَ اللَّهَبِ
إِذَا بَدَا هَمُّنَا لِيَسْتَرِقَ السَّمْ عَ بِرِفْقٍ لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ
تُتْبِعُهُ
مِنْ سَمَاءِ رَاوُوقِهَا الرَّا ئِقِ رَجْمًا بِالْأَنْجُمِ الشُّهُبِ
مَا قَطُّ تَبَّتْ يَدٌ لِشَارِبِهَا وَحَقِّ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبِ
أَمُرُّ بِالْكَرْمِ خَلْفَ حَائِطِهِ تَأْخُذُنِي نَشْوَةٌ مِنَ الطَّرَبِ
أَسْكَرُ بِالْأَمْسِ إِنْ عَزَمْتُ عَلَى الشُّرْ بِ غَدًا إِنَّ ذَا مِنَ
الْعَجَبِ
جَنَّبَهَا سُكْرَهَا وَصُحْبَتَهَا تَحْرِيمُ شَرْعٍ لِسَيِّدِ الْعَرَبِ
تَرَكْتُهَا جَانِبًا وَلُذْتُ إِلَى ظِلِّ إِمَامٍ مُنْجٍ مِنَ النُّوَبِ
الطَّاهِرِ الطُّهْرِ وَابْنِ خَيْرِ فَتًى وَطَاهِرِ الْخُلْقِ طَاهِرِ النَّسَبِ
مَاذَا يَقُولُ الْمَدَّاحُ فِي رَجُلٍ خَلِيفَةُ اللَّهِ وَابْنُ عَمِّ نَبِي
وَمِنْ شِعْرِهِ الرَّائِقِ لَهُ أَيْضًا:
أَهَابُ وَصْفَ الْخَمْرِ فِي إِهَابِهَا يَا حَبَّذَا مَا كَانَ مِنْ مُهَابِهَا
حَبَا بِهَا السَّاقِي وَقَدْ أَقْعَدَهُ سُكْرٌ فَزَادَ السُّكْرُ إِذْ حَبَا
بِهَا
خَطَا بِهَا وَثِيقَةً شَرْعِيَّةً عَلَى الَّذِي يُفْلِسُ مِنْ خُطَّابِهَا
دَعَا بِهَا فِي صَدْرِ كُلِّ بَاخِلٍ وَخَلِّيَا مِنْ كُلِّ مَنْ دَعَا بِهَا
فَتَا بِهَا قَلْبَ الْحَسُودِ وَاشْكُرَا كُلَّ فَتًى فِي النَّاسِ قَدْ فَتَا
بِهَا
اعْنَ بِهَا يَا أَيُّهَا الْمُغْرَى بِهَا وَأَسْلِفِ النُّضَارَ فِي
أَعْنَابِهَا
ثَوَى بِهَا كُلُّ السُّرُورِ عِنْدَنَا وَإِثْمُهَا أَكْبَرُ مِنْ ثَوَابِهَا
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ
قَالَ سِبْطُ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمِرْآةِ ": فِي لَيْلَةِ
السَّبْتِ سَلْخِ الْمُحْرَّمِ هَاجَتِ النُّجُومُ فِي السَّمَاءِ وَمَاجَتْ
شَرْقًا وَغَرْبًا، وَتَطَايَرَتْ كَالْجَرَادِ الْمُنْتَشِرِ يَمِينًا
وَشِمَالًا، قَالَ: وَلَمْ يُرَ مِثْلُ هَذَا إِلَّا فِي عَامِ الْمَبْعَثِ وَفِي
سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ شُرِعَ فِي عِمَارَةِ سُورِ قَلْعَةِ دِمَشْقَ وَابْتُدِئَ
بِبُرْجِ الزَّاوِيَةِ الْغَرْبِيَّةِ الْقِبْلِيَّةِ الْمُجَاوِرِ لِبَابِ
النَّصْرِ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ النَّاصِرُ الْخِلَعَ وَسَرَاوِيلَاتِ
الْفُتُوَّةِ لِلْمَلِكِ الْعَادِلِ وَبَنِيهِ. وَفِيهَا بَعَثَ الْعَادِلُ
وَلَدَهُ الْأَشْرَفَ مُوسَى لِمُحَاصَرَةِ مَارِدِينَ وَسَاعَدَهُ جَيْشُ
سَنْجَارَ وَالْمَوْصِلِ، ثُمَّ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى يَدَيِ الظَّاهِرِ عَلَى أَنْ
يَحْمِلَ صَاحِبُ مَارِدِينَ لِلْعَادِلِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفٍ
وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَنْ تَكُونَ السِّكَّةُ وَالْخُطْبَةُ
لِلْعَادِلِ، وَأَنَّهُ مَتَى طَلَبَهُ بِجَيْشِهِ يَحْضُرُ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا كَمَلَ بِنَاءُ رِبَاطِ الْمَرْزُبَانِيَّةِ، وَوَلِيَهُ الشَّيْخُ
شِهَابُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ السُّهْرَوَرْدِيُّ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ
مِنَ الصُّوفِيَّةِ، وَرُتِّبَ لَهُمْ مِنَ الْمَعْلُومِ وَالْجِرَايَةِ مَا
يَنْبَغِي
لِمَثْلِهِمْ مِنْ إِقَامَتِهِمْ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِيهَا احْتَجَرَ الْمَلِكُ الْعَادِلُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمَلِكِ
الْعَزِيزِ وَإِخْوَتِهِ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الرُّهَا خَوْفًا مِنْ
إِقَامَتِهِمْ بِمِصْرَ. وَفِيهَا اسْتَحْوَذَتِ الْكُرْجُ عَلَى مَدِينَةِ
دَوِينَ، فَقَتَلُوا أَهْلَهَا وَنَهَبُوهَا، وَهِيَ مِنْ بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ،
وَذَلِكَ لِاشْتِغَالِ مَلِكِهَا بِالْفِسْقِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ - قَبَّحَهُ
اللَّهُ - فَتَحَكَّمَتِ الْكَفَرَةُ مِنْ رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِهِ،
وَذَلِكَ كُلُّهُ غُلٌّ فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمَلِكُ غِيَاثُ الدِّينِ الْغُورِيُّ أَخُو شِهَابِ
الدِّينِ
فَقَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ مَحْمُودٌ، وَتَلَقَّبَ بِلَقَبِ
أَبِيهِ، وَكَانَ غِيَاثُ الدِّينِ عَاقِلًا حَازِمًا شُجَاعًا، لَمْ تُكْسَرْ
لَهُ رَايَةٌ قَطُّ مَعَ كَثْرَةِ حُرُوبِهِ، وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ،
قَدِ ابْتَنَى مَدْرَسَةً هَائِلَةً لِلشَّافِعِيَّةِ، وَكَانَتْ سِيرَتُهُ فِي
غَايَةِ الْجَوْدَةِ، وَكَذَا سَرِيرَتُهُ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ فَلَكُ الدِّينِ، أَبُو مَنْصُورٍ سُلَيْمَانُ بْنُ
شَرْوَةَ بْنِ خَلْدَكَ أَخُو الْمَلِكِ الْعَادِلِ لِأُمِّهِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ
بِدَارِهِ
الَّتِي جَعَلَهَا مَدْرَسَةً دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ فِي مَحَلَّةِ الْأَفْتَرِيسِ،
وَأَوْقَفَ عَلَيْهَا الْجُمَانَ بِكَمَالِهَا؛ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ.
الْقَاضِي الضِّيَاءُ الشَّهْرُزُورِيُّ
أَبُو الْفَضَائِلِ، الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ
الشَّهْرُزُورِيُّ الْمَوْصِلِيُّ، قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ، وَهُوَ ابْنُ
أَخِي قَاضِي الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ كَمَالِ الدَّيْنِ الشَّهْرُزُورِيِّ أَيَّامَ
نُورِ الدِّينِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ فِي أَيَّامِ
الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ أَوْصَى لِوَلَدِ أَخِيهِ هَذَا بِالْقَضَاءِ فَوَلِيَهُ،
ثُمَّ عُزِلَ عَنْهُ بِابْنِ أَبِي عَصْرُونَ، وَعُوِّضَ بِالسِّفَارَةِ إِلَى
الْمُلُوكِ، ثُمَّ تَوَلَّى قَضَاءَ بَلْدَةِ الْمَوْصِلِ، ثُمَّ اسْتُدْعِيَ
إِلَى بَغْدَادَ فَوَلِيَهَا سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ
اسْتَقَالَهُ فَلَمْ يُقِلْهُ الْخَلِيفَةُ لِحُظْوَتِهِ عِنْدَهُ، فَاسْتَشْفَعَ
بِزَوْجَتِهِ سِتِّ الْمُلُوكِ عَلَى أُمِّ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَتْ لَهَا
مَكَانَةٌ عِنْدَهَا، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، فَصَارَ إِلَى قَضَاءِ حَمَاةَ
لِمَحَبَّتِهِ إِيَّاهَا، وَكَانَ يُعَابُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَكَانَتْ لَدَيْهِ
فَضَائِلُ، وَلَهُ أَشْعَارٌ رَائِقَةٌ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِحَمَاةَ فِي
الْمُنْتَصَفِ مِنْ رَجَبٍ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ حَمْزَةَ
أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمَرَسْتَانِيَّةِ، أَحَدُ
الْفُضَلَاءِ الْمَشْهُورِينَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَجَمَعَهُ، وَكَانَ طَبِيبًا
مُنَجِّمًا يَعْرِفُ عُلُومَ الْأَوَائِلِ وَأَيَّامَ النَّاسِ، وَصَنَّفَ
دِيوَانَ الْإِسْلَامِ فِي تَارِيخِ دَارِ السَّلَامِ،
وَرَتَّبَهُ
عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ كِتَابًا إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُشْتَهَرْ،
وَجَمَعَ سِيرَةَ ابْنِ هُبَيْرَةَ وَقَدْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ
الصِّدِّيقِ، فَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَأَنْشْدَ بَعْضُهُمْ:
دَعِ الْأَنْسَابَ لَا تَعْرِضْ لِتَيْمٍ فَإِنَّ الْهُجْنَ مِنْ وَلَدِ
الصَّمِيمِ لَقَدْ أَصْبَحْتَ مِنْ تَيْمٍ دَعِيًّا
كَدَعْوَى حَيْصَ بَيْصَ إِلَى تَمِيمِ
ابْنُ النَّجَا الْوَاعِظُ
عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَجَا، زَيْنُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ
الدِّمَشْقِيُّ، الْوَاعِظُ الْحَنْبَلِيُّ، وَسِبْطُ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ
الشِّيرَازِيِّ الْحَنْبَلِيِّ. قَدِمَ بَغْدَادَ فَتَفَقَّهَ بِهَا، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا رَسُولًا مِنْ
جِهَةِ نُورِ الدِّينِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَحَدَّثَ بِهَا، ثُمَّ
كَانَتْ لَهُ حُظْوَةٌ عِنْدَ الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَهُوَ
الَّذِي نَمَّ عَلَى عُمَارَةَ الْيَمَنِيِّ وَذَوِيهِ فَصُلِبُوا، وَكَانَتْ لَهُ
مَكَانَةٌ بِمِصْرَ، وَقَدْ تَكَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الَّتِي خَطَبَ فِيهَا
بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ وَقْتًا
مَشْهُودًا، وَكَانَ يَعِيشُ عَيْشًا أَطْيَبَ مِنْ عَيْشِ الْمُلُوكِ فِي
الْأَطْعِمَةِ وَالْمَلَابِسِ، وَكَانَ عِنْدَهُ عِشْرُونَ سُرِّيَّةً، كُلُّ
وَاحِدَةٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ مَاتَ فَقِيرًا لَمْ
يَخْلُفْ كَفَنًا، وَقَدْ أَنْشَدَ وَهُوَ عَلَى مِنْبَرِهِ لِلْوَزِيرِ طَلَائِعَ
بْنِ رُزِّيكَ شِعْرًا فَقَالَ:
مَشِيبُكَ قَدْ قَضَى صَبْغَ الشَّبَابِ وَحَلَّ الْبَازُ فِي وَكْرِ الْغُرَابِ
تَنَامُ
وَمُقْلَةُ الْحَدَثَانِ يَقْظَى وَمَا نَابُ النَّوَائِبِ عَنْكَ نَابِ
وَكَيْفَ بَقَاءُ عُمْرِكَ وَهُوَ كَنْزٌ وَقَدْ أَنْفَقْتَ مِنْهُ بِلَا حِسَابِ
الشَّيْخُ أَبُو الْبَرَكَاتِ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ التَّكْرِيتِيُّ يُعْرَفُ بِالْمُؤَيَّدِ،
كَانَ أَدِيبًا شَاعِرًا، وَمِمَّا نَظَمَهُ فِي الْوَجِيهِ النَّحْوِيِّ - حِينَ
كَانَ حَنْبَلِيًّا، فَانْتَقَلَ حَنَفِيًّا، ثُمَّ صَارَ شَافِعِيًّا - فِي
حَلْقَةِ النَّحْوِ بِالنِّظَامِيَّةِ:
أَلَا مُبْلِغٌ عَنِّي الْوَجِيهَ رِسَالَةً وَإِنْ كَانَ لَا تُجْدِي لَدَيْهِ
الرَّسَائِلُ
تَمَذْهَبْتَ لِلنُّعْمَانِ بَعْدَ ابْنِ حَنْبَلٍ وَذَلَكَ لَمَّا أَعْوَزَتْكَ
الْمَآكِلُ
وَمَا اخْتَرْتَ رَأْيَ الشَّافِعِيِّ تَدَيُّنًا وَلَكِنَّمَا تَهْوَى الَّذِي
هُوَ حَاصِلٌ
وَعَمَّا قَلِيلٍ أَنْتَ لَا شَكَّ صَائِرٌ إِلَى مَالِكٍ فَافْطِنْ لِمَا أَنْتَ
قَائِلُ
؟
السِّتُّ الْجَلِيلِيةُ الْمَصُونَةُ زُمُرُّدُ خَاتُّونَ
أُمُّ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ بْنِ الْمُسْتَضِيءِ، كَانَتْ
صَالِحَةً عَابِدَةً كَثِيرَةَ الْبِرِّ وَالصِّلَاتِ وَالْأَوْقَافِ
وَالصَّدَقَاتِ،
عَمَّرَتِ الْمَصَانِعَ بِطَرِيقِ الْحِجَازِ الشَّرِيفِ، وَأَصْلَحَتِ
الطُّرُقَاتِ، وَبَنَتْ لَهَا تُرْبَةً إِلَى جَانِبِ قَبْرِ مَعْرُوفٍ
الْكَرْخِيِّ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهَا مَشْهُودَةً جِدًّا، وَاسْتَمَرَّ
الْعَزَاءُ بِسَبَبِهَا شَهْرًا، عَاشَتْ فِي خِلَافَةِ وَلَدِهَا أَرْبَعًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً نَافِذَةَ الْكَلِمَةِ مُطَاعَةَ الْأَوَامِرِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ مَوْلِدُ الشَّيْخِ شِهَابِ - الدِّينِ أَبِي
شَامَةَ، وَقَدْ تَرْجَمَ نَفْسَهُ عِنْدَ ذِكْرِ مَوْلِدِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
فِي " الذَّيْلِ " تَرْجَمَةً مُطَوَّلَةً، فَيُنْقَلُ إِلَى سَنَةِ
وَفَاتِهِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَذَكَرَ بَدْءَ أَمْرِهِ وَاشْتِغَالِهِ،
وَمُصَنَّفَاتِهِ وَشَيْئًا كَثِيرًا مِنْ أَشْعَارِهِ، وَمَا رُئِيَ لَهُ مِنَ
الْمَنَامَاتِ الْمُبَشِّرَةِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ ابْتِدَاءُ مَلِكِ
جِنْكِزْخَانَ مَلِكِ التَّتَارِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَجِنْكِزْخَانُ هُوَ
صَاحِبُ الْيَاسِقِ، وَضَعَهَا لِيَتَحَاكَمَ إِلَيْهَا التَّتَارُ وَمَنِ
اتَّبَعَهُمْ مِنْ أُمَرَاءِ التُّرْكِ - مِمَّنْ يَبْتَغِي حُكْمَ
الْجَاهِلِيَّةِ - وَهُوَ وَالِدُ تُولِي، وَجَدُّ هُولَاكُو بْنِ تُولِي -
الَّذِي قَتَلَ الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَعْصِمَ وَأَهْلَ بَغْدَادَ فِي سَنَةِ سِتٍّ
وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
سَنَةُ
سِتِّمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الْفِرِنْجُ قَدْ جَمَعُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْهُمْ
لِيَسْتَعِيدُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - فِيمَا كَانُوا
زَاعِمِينَ - فَأَشْغَلَهُمُ اللَّهُ بِقِتَالِ الرُّومِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُمُ
اجْتَازُوا فِي طَرِيقِهِمْ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَوَجَدُوا مُلُوكَهَا قَدِ
اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَحَاصَرُوهَا حَتَّى فَتَحُوهَا قَسْرًا،
وَأَبَاحُوهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَتْلًا وَأَسْرًا، وَاحْتَرَقَ أَكْثَرُ مِنْ
رُبْعِهَا، وَمَا أَصْبَحَ أَحَدٌ مِنَ الرُّومِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ إِلَّا
قَتِيلًا أَوْ فَقِيرًا أَوْ مَكْبُولًا أَوْ أَسِيرًا، وَلَجَأَ عَامَّةُ مَنْ
بَقِيَ مِنْهَا إِلَى كَنِيسَتِهَا الْعُظْمَى الْمُسَمَّاةِ بِصُوفِيَا،
فَقَصَدَهَا الْفِرِنْجُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْقِسِّيسُونَ بِالْأَنَاجِيلِ ;
لِيَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِمْ وَيَتْلُوا عَلَيْهِمْ، فَمَا الْتَفَتُوا إِلَى
شَيْءٍ مِمَّا وَاجَهُوهُمْ بِهِ، بَلْ قَتَلُوهُمْ أَجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ
أَبْصَعِينَ، وَأَخَذُوا مَا كَانَ فِي الْكَنِيسَةِ مِنَ الْحُلِيِّ
وَالْأَذْهَابِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُعَدُّ، وَأَخَذُوا مَا
كَانَ عَلَى الصُّلْبَانِ وَالْحِيطَانِ؛ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمَنِ، الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
ثُمَّ اقْتَرَعَ مُلُوكُ الْفِرِنْجِ وَكَانُوا ثَلَاثَةً ; وَهُمْ دُوقَسُ
الْبَنَادِقَةِ، وَكَانَ شَيْخًا أَعْمَى تُقَادُ فَرَسُهُ، وَمَرْكِيسُ
الْإِفْرَنْسِيسُ، وَكَنَدُ أَفْلِنَدُ، وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ عَدَدًا وَعُدَدًا،
فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَوَلَّوْهُ مُلْكَ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
وَأَخَذَ
الْمَلِكَانِ الْآخَرَانِ بَعْضَ الْبِلَادِ، وَتَحَوَّلَ الْمُلْكُ مِنَ الرُّومِ
إِلَى الْفِرِنْجِ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُلِ اللَّهُمَّ
مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ
تَشَاءُ وَلَمْ يَبْقَ بِأَيْدِي الرُّومِ هُنَاكَ إِلَّا مَا وَرَاءَ الْخَلِيجِ،
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ يُقَالُ لَهُ: لَشْكُرِي. لَمْ يَزَلْ
مَالِكًا لِتِلْكَ النَّاحِيَةِ حَتَّى تُوُفِّيَ؛ لَعَنَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ قَصَدُوا بِلَادَ الشَّامِ وَقَدْ تَقَوَّوْا
بِمُلْكِهِمُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ فَنَزَلُوا عَكَّا وَأَغَارُوا عَلَى كَثِيرٍ
مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغُورِ وَتِلْكَ الْأَرَاضِي
فَقَتَلُوا وَسَبَوْا، فَنَهَضَ إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ وَكَانَ
بِدِمَشْقَ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - وَاسْتَدْعَى بِالْجُيُوشِ الْمِصْرِيَّةِ
وَالْمَشْرِقِيَّةِ، وَنَازَلَهُمْ بِالْقُرْبِ مِنْ عَكَّا فَكَانَ بَيْنَهُمْ
قِتَالٌ شَدِيدٌ وَمُصَابِرَةٌ عَظِيمَةٌ، ثُمَّ وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ
وَالْهُدْنَةُ، وَأَطْلَقَ لَهُمْ شَيْئًا مِنَ الْبُلْدَانِ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ الْخُوَارِزْمِيَّةِ
وَالْغُورِيَّةِ بِالْمَشْرِقِ يَطُولُ ذِكْرُهَا.
وَفِيهَا تَحَارَبَ نُورُ الدِّينِ - صَاحِبُ الْمَوْصِلِ - وَقُطْبُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيٍّ - صَاحِبُ سَنْجَارَ - وَسَاعَدَ
الْأَشْرَفُ بْنُ الْعَادِلِ الْقُطْبَ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ،
وَتَزَوَّجَ الْأَشْرَفُ أُخْتَ نُورِ الدِّينِ، وَهِيَ الْأَتَابِكِيَّةُ بِنْتُ
عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودِ بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ، وَاقِفَةُ الْمَدْرَسَةِ
الَّتِي بِالسَّفْحِ، وَبِهَا تُرْبَتُهَا.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ
وَقُبْرُسَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ ;
قَالَهُ
ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ ".
وَفِيهَا تَغَلَّبَ رَجُلٌ مِنَ التُّجَّارِ يُقَالُ لَهُ: مَحْمُودُ بْنُ
مُحَمَّدِ الْحِمْيَرِيُّ عَلَى بَعْضِ بِلَادِ حَضْرَمَوْتَ ; ظِفَارَ
وَغَيْرِهَا، وَاسْتَمَرَّتْ أَيَّامُهُ إِلَى سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ
وَسِتِّمِائَةٍ وَمَا بَعْدَهَا.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا عُقِدَ مَجْلِسٌ لِقَاضِي الْقُضَاةِ
بِبَغْدَادَ، وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سُلَيْمَانَ الْحَلَبِيُّ بِدَارِ الْوَزِيرِ، وَثَبَتَ عَلَيْهِ مَحْضَرٌ
بِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الرُّشَا، فَعُزِلَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَفُسِّقَ،
وَنُزِعَتِ الطَّرْحَةُ عَنْ رَأْسِهِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ سَنَتَيْنِ
وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلِكِ رُكْنِ الدِّينِ بْنِ قِلْجِ أَرَسْلَانَ،
صَاحِبِ بِلَادِ الرُّومِ مَا بَيْنَ مَلَطْيَةَ وَقُونِيَةَ، وَكَانَتْ فِيهِ
شَهَامَةٌ وَصَرَامَةٌ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى اعْتِقَادِ
الْفَلَاسِفَةِ، وَكَانَ كَهْفًا لِمَنْ يُنْسَبُ إِلَى ذَلِكَ، وَمَلْجَأً
لَهُمْ، وَظَهَرَ مِنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ تَجَهُّمٌ عَظِيمٌ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ
حَاصَرَ أَخَاهُ شَقِيقَهُ - وَكَانَ صَاحِبَ أَنْكُورِيَةَ، وَتُسَمَّى أَيْضًا:
أَنْقِرَةَ - مُدَّةَ سَنَتَيْنِ حَتَّى ضَيَّقَ عَلَيْهِ الْأَقْوَاتَ بِهَا،
فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ قَسْرًا، عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بَعْضَ الْبِلَادِ،
فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ وَمِنْ أَوْلَادِهِ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ مَنْ
قَتَلَهُمْ غَدْرًا وَخَدِيعَةً وَمَكْرًا، فَلَمْ يُنْظَرْ إِلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ
حَتَّى ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقُولَنْجِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَمَاتَ فَمَا
بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ وَأُقِيمَ
بَعْدَهُ فِي الْمُلْكِ وَلَدُهُ قِلْجُ أَرْسَلَانَ، وَكَانَ صَغِيرًا فَبَقِيَ
سَنَةً
وَاحِدَةً،
ثُمَّ نُزِعَ مِنْهُ الْمُلْكُ أَيْضًا، وَصَارَ إِلَى عَمِّهِ كَيْخَسْرُو.
وَفِيهَا قُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ بِوَاسِطٍ؛ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِي رَجَبٍ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ
بِرِبَاطٍ بِبَغْدَادَ فِي سَمَاعٍ، فَأَنْشَدَهُمُ الْحَادِي، وَهُوَ الْجَمَّالُ
الْحِلِّيُّ:
عُوَيْذِلَتِي أَقْصِرِي كَفَى بِمَشِيبِي عَذَلْ شَبَابٌ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ
وَشِيبٌ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ وَحَقِّ لَيَالِي الْوِصَالِ
أَوَاخِرُهَا وَالْأُوَلْ وَصُفْرَةُ لَوَنِ الْمُحِبِّ
عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْعَذَلْ لَئِنْ عَادَ عَيْشِي بِكُمْ
حَلَا الْعَيْشُ لِي وَاتَّصَلْ
قَالَ: فَتَحَرَّكَ الصُّوفِيَّةُ عَلَى الْعَادَةِ فَتَوَاجَدَ مِنْ بَيْنِهِمْ
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الرَّازِيُّ، فَخَرَّ مَغْشِيًّا
عَلَيْهِ، فَحَرَّكُوهُ فَإِذَا هُوَ مَيِّتٌ. قَالَ: وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا،
وَقَالَ ابْنُ السَّاعِي: كَانَ شَيْخًا صَالِحًا صَحِبَ الصَّدْرَ عَبْدَ
الرَّحِيمِ شَيْخَ الشُّيُوخِ. فَشَهِدَ النَّاسُ جِنَازَتَهُ، وَدُفِنَ بِبَابِ
أَبْرَزَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بَهَاءُ الدِّينٍ
الْحَافِظُ ابْنُ الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ
عَلِيُّ
بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَسَاكِرَ، كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ
وَعِشْرِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، أَسْمَعَهُ أَبُوهُ الْكَثِيرَ، وَشَارَكْ أَبَاهُ
فِي أَكْثَرِ مَشَايِخِهِ، وَكَتَبَ تَارِيخَ أَبِيهِ مَرَّتَيْنِ بِخَطِّهِ،
وَكَتَبَ الْكَثِيرَ، وَأَسْمَعَ، وَصَنَّفَ كُتُبًا عِدَّةً، وَخَلَفَ أَبَاهُ
فِي إِسْمَاعِ الْحَدِيثِ بِالْجَامِعِ، وَدَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَامِنِ صَفَرٍ، وَدُفِنَ بَعْدَ الْعَصْرِ
عَلَى أَبِيهِ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ شَرْقِيَّ قُبُورِ الصَّحَابَةِ
خَارِجَ الْحَظِيرَةِ؛ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيُّ
عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سُرُورٍ، الْحَافِظُ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْمَشْهُورَةِ، مِنْ
ذَلِكَ: " الْكَمَالُ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ " وَ "
الْأَحْكَامُ الْكُبْرَى " وَ " الصُّغْرَى " وَغَيْرُ ذَلِكَ،
وُلِدَبِجَمَّاعِيلَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، وَهُوَ أَسُنُّ مِنَ ابْنِ خَالَتِهِ الْإِمَامِ مُوَفَّقِ
الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيِّ،
بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَكَانَ قُدُومُهُمَا مَعَ أَهْلِهِمَا مِنْ بَيْتِ
الْمَقَدْسِ إِلَى مَسْجِدِ أَبِي صَالِحٍ أَوَّلًا، ثُمَّ انْتَقَلُوا إِلَى
السَّفْحِ فَعُرِفَتِ الْمَحَلَّةُ بِهِمْ، فَقِيلَ لَهَا: الصَّالِحِيَّةُ.
فَسَكَنُوا الدَّيْرَ، وَقَرَأَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الْقُرْآنَ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَارْتَحَلَ هُوَ وَالْمُوَفَّقُ إِلَى بَغْدَادَ سَنَةَ
سِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَأَنْزَلَهُمَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ عِنْدَهُ
فِي الْمَدْرَسَةِ، وَكَانَ لَا يَتْرُكُ أَحَدًا يَنْزِلُ عِنْدَهُ، وَلَكِنَّهُ
تَوَسَّمَ فِيهِمَا النَّجَابَةَ وَالْخَيْرَ
وَالصَّلَاحَ،
فَأَكْرَمَهُمَا وَأَسْمَعَهُمَا، ثُمَّ تُوفِّيَ بَعْدَ مَقْدَمِهِمَا
بِخَمْسِينَ لَيْلَةً.
وَكَانَ مَيْلُ عَبْدِ الْغَنِيِّ إِلَى الْحَدِيثِ وَأَسْمَاءِ الرِّجَالِ،
وَمَيْلُ الْمُوَفَّقِ إِلَى الْفِقْهِ، وَاشْتَغَلَا عَلَى الشَّيْخِ أَبِي
الْفَرَجِ ابْنِ الْمَنِّيِّ، ثُمَّ قَدِمَا دِمَشْقَ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ،
فَدَخَلَ عَبْدُ الْغَنِيِّ إِلَى مِصْرَ وَإِسْكَنْدَرِيَّةَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى
دِمَشْقَ ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى الْجَزِيرَةِ وَبَغْدَادَ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى
أَصْبَهَانَ فَسَمِعَ بِهَا الْكَثِيرَ، وَوَقَفَ عَلَى مُصَنَّفٍ لِلْحَافِظِ
أَبِي نُعَيْمٍ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ - قُلْتُ: وَهُوَ عِنْدِي بِخَطِّ
أَبِي نُعَيْمٍ - فَأَخَذَ فِي مُنَاقَشَتِهِ فِي أَمَاكِنَ مِنَ الْكِتَابِ فِي
مِائَةٍ وَتِسْعِينَ مَوْضِعًا، فَغَضِبَ بَنُو الْخُجَنْدِيِّ مِنْ ذَلِكَ،
وَتَعَصَّبُوا عَلَيْهِ وَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا مُخْتَفِيًّا فِي إِزَارٍ.
وَلَمَّا دَخَلَ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ سَمِعَ كِتَابَ الْعُقَيْلِيِّ
فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فَثَارَ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ بِسَبَبِ أَبِي
حَنِيفَةَ، فَخَرَجَ مِنْهَا أَيْضًا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، فَلَمَّا وَرَدَ
دِمَشْقَ كَانَ يَقْرَأُ الْحَدِيثَ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِرِوَاقِ
الْحَنَابِلَةِ مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ فَيَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَكَانَ
رَقِيقَ الْقَلْبِ، سَرِيعَ الدَّمْعَةِ، فَحَصَلَ لَهُ قَبُولٌ، فَحَسَدَهُ
الدَّمَاشِقَةُ، وَجَهَّزُوا النَّاصِحَ ابْنَ الْحَنْبَلِيِّ، فَتَكَلَّمَ تَحْتَ
النَّسْرِ، حَتَّى يُشَوِّشَ عَلَيْهِ، فَحَوَّلَ عَبْدُ الْغَنِيِّ مِيعَادَهُ
إِلَى بَعْدَ الْعَصْرِ، فَذَكَرَ يَوْمًا عَقِيدَتَهُ عَلَى الْكُرْسِيِّ، فَثَارَ
عَلَيْهِ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ ابْنُ الزَّكِيِّ، وَالْخَطِيبُ ضِيَاءُ
الدِّينِ الدَّوْلَعِيُّ، وَعُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ فِي الْقَلْعَةِ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ
وَتِسْعِينَ.
وَتَكَلَّمُوا مَعَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعُلُوِّ وَمَسْأَلَةِ النُّزُولِ،
وَمَسْأَلَةِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ،
وَطَالَ
الْكَلَامُ، حَتَّى قَالَ لَهُ الصَّارِمُ بُزْغُشُ وَالِي الْقَلْعَةِ: كُلُّ
هَؤُلَاءِ عَلَى الضَّلَالَةِ، وَأَنْتَ عَلَى الْحَقِّ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَغَضِبَ
بُزْغُشُ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْبَلَدِ.
فَارْتَحَلَ بَعْدَ ثَلَاثٍ إِلَى بَعْلَبَكَّ ثُمَّ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَآوَاهُ الطَّحَّانُونَ، فَكَانَ يَقْرَأُ الْحَدِيثَ بِهَا،
فَثَارَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ بِمِصْرَ أَيْضًا، وَكَتَبُوا إِلَى الْوَزِيرِ
صَفِيِّ الدِّينِ بْنِ شُكْرٍ، فَأَقَرَّ بِنَفْيِهِ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَمَاتَ
قَبْلَ وُصُولِ الْكِتَابِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ
بِالْقَرَافَةِ عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ؛ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ.
قَالَ السِّبْطُ: وَكَانَ وَرِعًا زَاهِدًا عَابِدًا، يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ
ثَلَاثَمِائَةِ رَكْعَةٍ، كَوِرْدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ،
وَيَصُومُ عَامَّةَ السَّنَةِ، وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا لَا يَدَّخِرُ شَيْئًا،
وَيَتَصَدَّقُ عَلَى الْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ
وَكَانَ يُرَقِّعُ ثَوْبَهُ، وَيُؤْثِرُ بِثَمَنِ الْجَدِيدِ، وَكَانَ قَدْ ضَعُفَ
بَصَرُهُ مِنْ كَثْرَةِ الْمُطَالَعَةِ وَالْبُكَاءِ، وَكَانَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ
فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَالْحِفْظِ.
قُلْتُ: وَقَدْ هَذَّبَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ -
تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ - كِتَابَهُ " الْكَمَالَ فِي أَسْمَاءِ
الرِّجَالِ " - رِجَالِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ - بِتَهْذِيبِهِ الَّذِي
اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ فِيهِ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً، نَحْوًا مِنْ أَلْفِ مَوْضِعٍ ;
وَذَلِكَ أَنَّهُ الْإِمَامُ الْمِزِّيُّ الَّذِي لَا يُبَارَى وَلَا يُجَارَى
وَلَا يُمَارَى، وَكِتَابُهُ " التَّهْذِيبُ " لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ،
وَلَا يُلْحَقْ فِي مِثْلِ شَكْلِهِ، فَرَحِمَ اللَّهُ صَاحِبَيِ "
التَّهْذِيبِ " وَ " الْكَمَالِ " فَلَقَدْ
كَانَا
نَادِرَيْنِ فِي زَمَانَيْهِمَا فِي الرِّجَالِ حِفْظًا وَإِتْقَانًا وَسَمَاعًا
وَإِسْمَاعًا وَسَرْدًا لِلْمُتُونِ وَأَسْمَاءِ الرِّجَالِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ
أَبُو الْفُتُوحِ أَسْعَدُ بْنُ مَحْمُودٍ الْعِجْلِيُّ
صَاحِبُ " تَتِمَّةِ التَّتِمَّةِ " أَسْعَدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ
مَحْمُودِ بْنِ خَلَفٍ الْعِجْلِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْأَصْبِهَانِيُّ،
الْوَاعِظُ مُنْتَخَبُ الدِّينِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ وَبَرَعَ
وَصَنَّفَ " تَتِمَّةَ التَّتِمَّةِ " لِأَبِي سَعْدٍ الْهَرَوِيِّ،
وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا وَلَهُ " شَرْحُ مُشْكِلَاتِ الْوَسِيطِ
وَالْوَجِيزِ " قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ
سِتِّمِائَةٍ.
الْبُنَانِيُّ الشَّاعِرُ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَنَّا، الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ
بِالْبُنَانِيِّ، مَدَحَ الْخُلَفَاءَ وَالْوُزَرَاءَ وَالْأُمَرَاءَ
وَغَيْرَهُمْ، وَكَبُرَ وَعَلَتْ سِنُّهُ، وَكَانَ رَقِيقَ الشِّعْرِ لِطَيْفَهُ،
فَمِنْ قَوْلِهِ:
ظُلْمًا تَرَى مُغْرَمًا فِي الْحُبِّ تَزْجُرُهُ وَغِرَّةً بِالْهَوَى أَمْسَيْتَ
تُنْكِرُهُ يَا عَاذِلَ الصَّبِّ لَوْ عَاتَبْتَ قَاتِلَهُ
بِوَجَنْةٍ وَعِذَارٍ كُنْتَ تَعْذُرُهُ أَفْدِي الَّذِي سِحْرُ عَيْنَيْهِ
يُعَلِّمُنِي
إِذَا تَصَدَّى لِقَتْلِي كَيْفَ أَسْحَرُهُ
يَسْتَمْتِعُ
اللَّيْلَ فِي نَوْمٍ وَأَسْهَرُهُ
إِلَى الصَّبَاحِ وَيَنْسَانِي وَأَذْكُرُهُ
وَلَهُ أَيْضًا:
بَكَرَتْ تُدِيرُ عَلَى الْعَوَازِلْ وَتَجُرُّ ذَيْلًا فِي الْخَمَائِلْ
وَتَهُزُّ فِي ثَنْيِ الْغَلَا ئِلِ رَدْفَهَا هَزَّ الذَّوَابِلْ
وَتَقُولُ لِلْغُصْنِ الرَّطِي بِ إِذَا تَمَاثَلَ أَوْ تَمَايَلَ
بَيْضَاءُ صَبْغَةُ خَدِّهَا تَنْمَى وَصَبْغُ الْوَرْدِ حَائِلْ
شَهْدُ الْحَيَاةِ وُصَالُهَا وَصُدُورُهَا سُمُّ الْقَوَاتِلْ
أَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْمُبَارَكِ بْنِ مَحْضَرٍ
النَّصْرَانِيُّ الْمَارَدِينِيُّ، الْمُلَقَّبُ بِالْوَحِيدِ.
اشْتَغَلَ فِي حَدَاثَتِهِ بِعِلْمِ الْأَوَائِلِ فَأَتْقَنَهُ وَبَرَزَ فِيهِ،
وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي الشِّعْرِ الرَّائِقِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ؛
قَاتَلَهُ اللَّهُ:
أَتَانِي كِتَابٌ أَنْشَأَتْهُ أَنَامِلٌ حَوَتْ أَبْحُرًا مِنْ فَيْضِهَا
يَغْرَقُ الْبَحْرُ
فَوَا عَجَبًا أَنَّى الْتَوَتْ فَوْقَ طِرْسِهِ وَمَا عُوِّدَتْ بِالْقَبْضِ
أُنَمُلُهُ الْعَشْرُ
وَلَهُ أَيْضًا؛ لَعَنَهُ اللَّهُ:
لَقَدْ أَثَّرَتْ صُدْغَاهُ فِي لَوْنِ خَدِّهِ وَلَاحَ كَفَيْءٍ مِنْ وَرَاءِ
زُجَاجِ
تَرَى عَسْكَرًا لِلرُّومِ فِي الزِّنْجِ قَدْ بَدَتْ طَلَائِعُهُ تَسْعَى
لِيَوْمِ هِيَاجِ
أَمِ الصُّبْحُ بِاللَّيْلِ الْبَهِيمِ مُوَشَّحٌ حَكَى آبِنُوسًا فِي صَفِيحَةِ
عَاجِ
لَقَدْ
غَارَ صُدْغَاهُ عَلَى وَرْدِ خَدِّهِ فَسَيَّجَهُ مِنْ شِعْرِهِ بِسِيَاجِ
الطَّاوُسِيُّ صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ.
الْعِرَاقِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعِرَاقِيِّ
رُكْنُ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ الْقَزْوِينِيُّ، ثُمَّ الْهَمَذَانِيُّ،
الْمَعْرُوفُ بِالطَّاوُسِيِّ، كَانَ بَارِعًا فِي عِلْمِ الْخِلَافِ وَالْجَدَلِ
وَالْمُنَاظَرَةِ، أَخَذَ هَذَا الشَّأْنَ عَنِ الشَّيْخِ رَضِيِّ الدِّينِ
النَّيْسَابُورِيِّ الْحَنَفِيِّ، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَ تَعَالِيقَ، قَالَ
ابْنُ خَلِّكَانَ أَحْسَنَهُنَّ الْوُسْطَى. وَكَانَتْ إِلَيْهِ الرِّحْلَةُ بِهَمَذَانَ،
وَقَدْ بَنَى لَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ الْحَجَبَةِ بِهَا مَدْرَسَةً تُعْرَفُ
بِالْحَاجِبِيَّةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ
مَنْسُوبٌ إِلَى طَاوُسِ بْنِ كَيْسَانَ التَّابِعِيِّ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ وَلَدَهُ مُحَمَّدًا الْمُلَقَّبَ بِالظَّاهِرِ عَنْ
وِلَايَةِ الْعَهْدِ بَعْدَمَا خَطَبَ لَهُ بِذَلِكَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً،
وَوَلَّى الْعَهْدَ وَلَدَهُ الْآخَرَ عَلِيًّا، فَمَاتَ عَلِيٌّ عَنْ قَرِيبٍ،
فَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى الظَّاهِرِ، فَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ
أَبِيهِ النَّاصِرِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ.
وَفِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِدَارِ الْخِلَافَةِ فِي خَزَائِنِ السِّلَاحِ،
فَاحْتَرَقَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ السِّلَاحِ وَالْمُتْعَةِ وَالْمَسَاكِنِ مَا
يُقَارِبُ قِيمَتُهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَشَاعَ خَبَرُ هَذَا
الْحَرِيقِ فِي النَّاسِ، فَأَرْسَلَتِ الْمُلُوكُ مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ
هَدَايَا ; أَسْلِحَةً إِلَى الْخَلِيفَةِ عِوَضًا مِمَّا فَاتَ شَيْئًا كَثِيرًا؛
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا عَاثَتِ الْكُرْجُ بِبِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلُوا خَلْقًا،
وَأَسَرُوا أُمَمًا. وَفِيهَا وَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ أَمِيرِ مَكَّةَ
قَتَادَةَ الْحَسَنِيِّ، وَبَيْنَ أَمِيرِ الْمَدِينَةِ سَالِمِ بْنِ قَاسِمٍ الْحُسَيْنِيِّ،
وَكَانَ قَتَادَةُ قَدْ قَصَدَ الْمَدِينَةَ فَحَصَرَ سَالِمًا فِيهَا، فَرَكِبَ
إِلَيْهِ سَالِمٌ بَعْدَمَا صَلَّى عِنْدَ الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
وَاسْتَنْصَرَ اللَّهَ عَلَيْهِ عَلَى قَتَادَةَ، ثُمَّ بَرَزَ إِلَيْهِ
فَكَسَرَهُ، وَسَاقَ وَرَاءَهُ إِلَى مَكَّةَ فَحَصَرَهُ بِهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ
قَتَادَةُ إِلَى أُمَرَاءِ سَالِمٍ فَأَفْسَدَهُمْ عَلَيْهِ، وَكْرَّ سَالِمٌ
رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ سَالِمٌ.
وَفِيهَا
مَلَكَ غِيَاثُ الدِّينِ كَيْخَسْرُو بْنُ قِلْجَ أَرْسَلَانَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ
قِلْجَ أَرْسَلَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ قُتُلْمِشَ بِلَادَ الرُّومِ
وَاسْتَلَبَهَا مِنَ ابْنِ أَخِيهِ، وَاسْتَقَرَّ هُوَ بِهَا، وَعَظُمَ شَأْنُهُ
وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَكَثُرَتْ عَسَاكِرُهُ وَأَطَاعَهُ الْأُمَرَاءُ
وَأَصْحَابُ الْأَطْرَافِ، وَخَطَبَ لَهُ الْأَفْضَلُ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ
بِسُمَيْسَاطَ، وَسَارَ إِلَى خِدْمَتِهِ.
وَاتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنَّ رَجُلًا بِبَغْدَادَ نَزَلَ إِلَى دِجْلَةَ
يَسْبَحُ فِيهَا، وَأَعْطَى ثِيَابَهُ لِغُلَامِهِ فَغَرِقَ فِي الْمَاءِ،
فَوُجِدَ فِي وَرَقَةٍ بِعِمَامَتِهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كَانَ لِي أَمَلُ قَصَّرَ بِي عَنْ بُلُوغِهِ الْأَجَلُ
فَلَيْتِّقِ اللَّهَ رَبَّهُ رَجُلٌ
أَمْكَنَهُ فِي زَمَانِهِ الْعَمَلُ مَا أَنَا وَحْدِي نُقِلْتُ حَيْثُ تَرَى
كُلٌّ إِلَى مِثْلِهِ سَيَنْتَقِلُ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ:
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَنْتَرَ بْنِ ثَابِتٍ الْحِلِّيُّ
الْمَعْرُوفُ بِشُمَيْمٍ، كَانَ شَيْخًا أَدِيبًا فَاضِلًا لُغَوِيًّا شَاعِرًا،
جَمَعَ مِنْ شِعْرِهِ حَمَاسَةً كَانَ يُفَضِّلُهَا عَلَى حَمَاسَةِ أَبِي
تَمَّامٍ، وَلَهُ خَمْرِيَّاتٌ يَزْعُمُ أَنَّهَا أَفَحَلُ مِنَ الَّتِي لِأَبِي
نُوَاسٍ. قَالَ أَبُو شَامَةَ فِي " الذَّيْلِ ": كَانَ قَلِيلَ
الدِّينِ ذَا حَمَاقَةٍ وَرَقَاعَةٍ وَخَلَاعَةٍ، وَلَهُ حَمَاسَةٌ وَرَسَائِلُ.
قَالَ ابْنُ السَّاعِي: قَدِمَ بَغْدَادَ فَأَخَذَ النَّحْوَ عَنِ ابْنِ
الْخَشَّابِ، وَحَصَّلَ
طَرَفًا
صَالِحًا مِنَ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ، ثُمَّ أَقَامَ
بِالْمَوْصِلِ حَتَّى تُوفِّيَ بِهَا. وَمِنْ شِعْرِهِ فِي حَمَاسَتِهِ:
لَا تَسْرَحَنَّ الطَّرْفَ فِي بَقَرِ الْمَهَا فَمَصَارِعُ الْآجَالِ فِي
الْآجَالِ كَمْ نَظْرَةٍ أَرْدَتْ وَمَا أَخَذَتْ يَ
دُ الْمُصْمِي لِمَنْ قَتَلَتْ أَدَاةَ قِتَالِ سَنَحَتْ وَمَا سَمَحَتْ
بِتَسْلِيمٍ وَ
إِقْلَالُ التَّحِيَّةِ فِعْلَةُ الْمُغْتَالِ
وَمِنْ خَمْرِيَّاتِهِ قَوْلُهُ:
امْزُجْ بِمَسْبُوكِ اللُّجَيْنِ دَمًا حَكَتْهُ دُمُوعُ عَيْنِي
لَمَّا نَعَى نَاعِي الْفِرَا قِ بِبَيْنِ مَنْ أَهْوَى وَبَيْنِي
خَفَقَتْ لَنَا شَمْسَانِ مِنْ لَأْلَائِهَا فِي الْخَافِقَيْنِ
وَبَدَتْ لَنَا فِي كَأْسِهَا مِنْ لَوْنِهَا فِي حُلَّتَيْنِ
وَلَهُ فِي التَّجْنِيسِ:
لَيْتَ مَنْ طَوَّلَ بِالشَّأْ مِ نَوَاهُ وَثَوَى بِهْ
جَعَلَ
الْعَوْدَ إِلَى الزَّوْ رَاءِ مِنْ بَعْضِ ثَوَابِهْ
أَتُرَى يُوطِئُنِي الدَّهْ رُ ثَرَى مِسْكِ تُرَابِهْ
وَأَرَى أَيْ نُورَ عَيْنِي مَوْطِئًا لِي وَتُرَى بِهْ
أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ اللَّهِ
بْنِ نَصْرِ بْنِ سَعِيدٍ الدَّجَاجِيُّ، كَانَ وَاعِظًا حَنْبَلِيًّا فَاضِلًا
شَاعِرًا مُجِيدًا، وَلَهُ:
نَفْسُ الْفَتَى إِنْ أَصْلَحْتَ أَحْوَالَهَا كَانَ إِلَى نَيْلِ الْمُنَى
أَحْوَى لَهَا
وَإِنْ تَرَاهَا سَدَّدَتْ أَقْوَالَهَا كَانَ عَلَى حَمْلِ الْعُلَا أَقْوَى
لَهَا
فَإِنْ تَبَدَّتْ حَالُ مَنْ لَهَا لَهَا فِي قَبْرِهِ عِنْدَ الْبِلَى لَهَا
لَهَا
أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مُحَمَّدِ الْقُرْطُبِيُّ
الْخَزْرَجِيُّ كَانَ إِمَامًا فِي التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْحِسَابِ
وَالْفَرَائِضِ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْعَرُوضِ وَالطِّبِّ، وَلَهُ
تَصَانِيفُ حِسَانٌ وَشِعْرٌ رَائِقٌ، مِنْهُ قَوْلُهُ:
وَفِي الْوَجَنَاتِ مَا فِي الرَّوْضِ لَكِنْ لِرَوْنَقِ زَهْرِهَا مَعْنًى
عَجِيبُ
وَأَعْجَبُ مَا التَّعَجُّبُ عَنْهُ أَنِّي أَرَى الْبُسْتَانَ يَحْمِلُهُ قَضِيبُ
أَبُو الْفِدَاءِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَرَنْقُشَ السِّنْجَارِيُّ
مَوْلَى صَاحِبِهَا عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيِّ بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيٍّ،
وَكَانَ جُنْدِيًّا حَسَنَ الصُّورَةِ، مَلِيحَ النَّظْمِ، كَثِيرَ
الْأَدَبِ،
وَمِنْ شِعْرِهِ مَا كُتِبَ بِهِ إِلَى الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى بْنِ
الْعَادِلِ يُعَزِّيهِ فِي أَخٍ لَهُ اسْمُهُ يُوسُفُ:
دُمُوعُ الْمَعَالِي وَالْمَكَارِمِ ذُرَّفُ وَرُبْعُ الْعُلَا قَاعٌ لِفَقْدِكَ
صَفْصَفُ
غَدَا الْجُودُ وَالْمَعْرُوفُ فِي اللَّحْدِ ثَاوِيًا غَدَاةَ ثَوَى فِي ذَلِكَ
اللَّحْدِ يُوسُفُ
فَتًى خَطَفَتْ كَفُّ الْمَنِيَّةِ رُوحَهُ وَقَدْ كَانَ لِلْأَرْوَاحِ بِالْبِيضِ
يُخْطَفُ
سَقَتْهُ لَيَالِي الدَّهْرِ كَأْسَ حِمَامِهَا وَكَانَ بِسَقْيِ الْمَوْتِ فِي
الْحَرْبِ يُعْرَفُ
فَوَا حَسْرَتَا لَوْ يَنْفَعُ الْمَوْتَ حَسْرَةٌ وَوَا أَسَفَا لَوْ كَانَ
يُجْدِي التَّأَسُّفُ
وَكَانَ عَلَى الْأَرْزَاءِ نَفْسِي قَوِيَّةً وَلَكِنَّهَا عَنْ حَمْلِ ذَا
الرُّزْءِ تَضْعُفُ
أَبُو الْفَضْلِ بْنُ إِلْيَاسَ بْنِ جَامِعِ بْنِ عَلِيٍّ الْإِرْبِلِيُّ
تَفَقَّهَ بِالنِّظَامِيَّةِ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَصَنَّفَ " التَّارِيخَ
" وَغَيْرَهُ، وَتَفَرَّدَ بِحُسْنِ كِتَابَةِ الشُّرُوطِ، وَلَهُ فَضْلٌ
وَنَظْمٌ حَسَنٌ، مِنْهُ قَوْلُهُ:
أَمُمْرِضَ قَلْبِي، مَا لِهَجْرِكَ آخِرُ وَمُسْهِرَ طَرْفِي، هَلْ خَيَالُكُ
زَائِرُ
وَمُسْتَعْذِبَ التَّعْذِيبِ جَوْرًا بِصَدِّهِ أَمَا لَكَ فِي شَرْعِ الْمَحْبَةِ
زَاجِرُ
هَنِيئًا لَكَ الْقَلْبُ الَّذِي قَدْ وَقَفْتُهُ عَلَى ذِكْرِ أَيْامِي وَأَنْتَ
مُسَافِرُ
فَلَا فَارَقَ الْحُزْنُ الْمُبَرِّحُ خَاطِرِي لِبُعْدِكَ حَتَّى يَجْمَعَ الشَّمْلَ
قَادِرُ
فَإِنْ مِتُّ فَالتَّسْلِيمُ مِنِّي عَلَيْكُمْ يُعَاوِدُكُمْ مَا كَبَّرَ اللَّهَ
ذَاكِرُ
أَبُو السَّعَادَاتِ الْحِلِّيُّ
التَّاجِرُ الْبَغْدَادِيُّ الرَّافِضِيُّ كَانَ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ
يَلْبَسُ
لِأْمَةَ الْحَرْبِ، وَيَقِفُ خَلْفَ بَابِ دَارِهِ، وَهُوَ مُجَافٍ عَلَيْهِ،
وَالنَّاسِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ يَنْتَظِرُ أَنْ يُخْرِجَ صَاحِبُ
الزَّمَانِ مِنْ سِرْدَابِ سَامَرَّا - يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ
الْعَسْكَرِيَّ - لِيَمِيلَ بِسَيْفِهِ فِي النَّاسِ نُصْرَةً لِلْمَهْدِيِّ.
أَبُو غَالِبِ بْنُ كَمُونَةَ الْيَهُودِيُّ الْكَاتِبُ
كَانَ يَزُورُ عَلَى خَطِّ ابْنِ مُقْلَةَ مِنْ قُوَّةِ خَطِّهِ، تُوفِّيَ -
لَعَنَهُ اللَّهُ - بِمَطْمُورَةِ وَاسِطٍ ; ذَكَرَهُ ابْنُ السَّاعِي فِي "
تَارِيخِهِ ".
وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَهُودِيٌّ آخَرُ يُقَالُ لَهُ:
أَبُو غَالِبِ بْنُ أَبِي طَاهِرِ بْنِ شِبْرٍ
كَانَ عَامِلًا عَلَى دَارِ الضَّرْبِ بِبَغْدَادَ، ذَكَرَهُ ابْنُ السَّاعِي
الْخَازِنُ فِي " تَارِيخِهِ ".
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَتْ حَرْبٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْمَلِكِ شِهَابِ الدِّينِ مُحَمَّدِ
بْنِ سَامٍ الْغُورِيِّ، صَاحِبِ غَزْنَةَ وَبَيْنَ بَنِي كَوْكَرَ أَصْحَابِ
الْجَبَلِ الْجُودِيِّ، وَكَانُوا قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ،
فَقَاتَلَهُمْ وَكَسَرَهُمْ، وَغَنِمَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا لَا يُحَدُّ
وَلَا يُوصَفُ، فَاتَّبَعَهُ بَعْضُهُمْ حَتَّى قَتَلَهُ غِيلَةً فِي لَيْلَةِ
مُسْتَهَلِّ شَعْبَانَ مِنْهَا بَعْدَ الْعِشَاءِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ مِنْ
أَجْوَدِ الْمُلُوكِ سِيرَةً وَأَعْقَلِهِمْ وَأَثْبَتِهِمْ فِي الْحَرْبِ،
تَغَمَدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَلَمَّا قُتِلَ كَانَ فِي صُحْبَتِهِ فَخْرُ
الدِّينِ الرَّازِيُّ وَكَانَ يَجْلِسُ لِلْوَعْظِ فَيَحْضُرُ الْمَلِكُ وَعْظَهُ،
وَيَبْكِي حِينَ يَقُولُ لَهُ فِي آخِرِ مَجْلِسِهِ: يَا سُلْطَانُ، سُلْطَانُكَ
لَا يَبْقَى، وَلَا تَلْبِيسُ الرَّازِيِّ أَيْضًا، وَإِنَّ مَرَدَّنَا جَمِيعًا
إِلَى اللَّهِ، وَحِينَ قُتِلَ السُّلْطَانُ اتَّهَمَهُ الْخَاصِّكِيَّةُ
بِقَتْلِهِ، فَخَافَ مِنْ ذَلِكَ وَالْتَجَأَ إِلَى الْوَزِيرِ مُؤَيِّدِ
الْمُلْكِ بْنِ خَوَاجَا، فَسَيَّرَهُ إِلَى حَيْثُ يَأْمَنُ، وَتَمَلَّكَ
غَزْنَةَ بَعْدَهُ أَحَدُ مَمَالِيكِهِ تَاجُ الدِّينِ الدُّزُّ، وَجَرَتْ بَعْدَ
ذَلِكَ خُطُوبٌ يَطُولُ بَسْطُهَا، قَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ الْأَثِيرِ وَابْنُ
السَّاعِي.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الْكُرْجُ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَوَصَلُوا إِلَى
خِلَاطَ فَقَتَلُوا وَسَبَوْا،
وَقَاتَلَهُمُ
الْمُقَاتِلَةُ وَالْعَامَّةُ، وَفِيهَا سَارَ صَاحِبُ إِرْبِلَ مُظَفَّرُ
الدِّينِ كُوكُبُورِي وَصَحِبَهُ صَاحِبُ مَرَاغَةَ لِقِتَالِ مَلِكَ
أَذْرَبِيجَانَ وَهُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبَهْلَوَانِ ; وَذَلِكَ لِنُكُولِهِ
عَنْ قِتَالِ الْكُرْجِ، وَإِقْبَالِهِ عَلَى السُّكْرِ لَيْلًا وَنَهَارًا،
فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَزَوَّجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِنْتَ
مَلِكِ الْكُرْجِ، فَانْكَفَّ شَرُّهُمْ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَكَانَ
كَمَا يُقَالُ: أَغْمَدَ سَيْفَهُ وَسَلَّ أَيْرَهُ.
وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ نَصِيرَ الدِّينِ نَاصِرَ بْنَ مَهْدِيٍّ
الْعَلَوِيَّ الْحَسَنِيَّ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ بِالْوِزَارَةِ وَضُرِبَتِ
الطُّبُولُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَلَى بَابِهِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ. وَفِيهَا
أَغَارَ صَاحِبُ بِلَادِ الْأَرْمَنِ وَهُوَ ابْنُ لَاوُنَ عَلَى بِلَادِ حَلَبَ
فَقَتَلَ وَسَبَى وَنَهَبَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ غَازِيُّ بْنُ
النَّاصِرِ، فَهَرَبَ ابْنُ لَاوُنَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَدَمَ الظَّاهِرُ
قَلْعَةً كَانَ قَدْ بَنَاهَا، وَدَكَّهَا إِلَى الْأَرْضِ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا هُدِمَتِ الْقَنْطَرَةُ الرُّومَانِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ
عِنْدَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ وَنُشِرَتْ حِجَارَتُهَا لِيُبَلَّطَ بِهَا
الْجَامِعُ الْأُمَوِيُّ بِسِفَارَةِ الْوَزِيرِ صَفِيِّ الدِّينِ بْنِ شُكْرٍ،
وَزِيرِ الْعَادِلِ، وَكَمَلَ تَبْلِيطُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّمِائَةٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
شَرَفُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، جَمَالُ
الْإِسْلَامِ
الشَّهْرَزُورِيُّ
بِمَدِينَةِ حِمْصَ وَقَدْ كَانَ أُخْرِجَ إِلَيْهَا مِنْ دِمَشْقَ، وَكَانَ
قَبْلَ ذَلِكَ مُدَرِّسًا بِالْأَمِينِيَّةِ وَالْحَلْقَةِ بِالْجَامِعِ تُجَاهَ
الْبَرَّادَةِ، وَكَانَ لَدَيْهِ عِلْمٌ جَيِّدٌ بِالْمَذْهَبِ وَالْخِلَافِ.
التَّقِيُّ عِيسَى بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَحْمَدَ الْعِرَاقِيُّ الْغَرَّافِيُّ
الضَّرِيرُ.
مُدَرِّسُ الْأَمِينِيَّةِ أَيْضًا، كَانَ يَسْكُنُ الْمَنَارَةَ الْغَرْبِيَّةِ،
وَكَانَ عِنْدَهُ شَابٌّ يَخْدُمُهُ وَيَقُودُ بِهِ، فَعُدِمَ لِلشَّيْخِ
دَرَاهِمُ فَاتَّهَمَ هَذَا الشَّابَّ بِهَا، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ عِنْدَهُ
شَيْءٌ، وَاتُّهِمَ بِهِ الشَّيْخُ، وَلَمْ يَكُنْ يَظُنُّ النَّاسُ أَنَّ
عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ فَضَاعَ الْمَالُ، وَاتُّهِمَ عِرْضُهُ فَأَصْبَحَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مَشْنُوقًا بِبَيْتِهِ
بِالْمِئْذَنَةِ الْغَرْبِيَّةِ، فَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ ;
لِكَوْنِهِ قَتَلَ نَفْسَهُ، فَتَقَدَّمَ الشَّيْخُ فَخْرُ الدِّينِ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَسَاكِرَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَائْتَمَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ ذَهَابُ مَالِهِ
وَالْوُقُوعُ فِي عِرْضِهِ. قَالَ: وَقَدْ جَرَى لِي أُخْتُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ
فَعَصَمَنِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِفَضْلِهِ. قَالَ: وَقَدْ دَرَّسَ بَعْدَهُ فِي
الْأَمِينِيَّةِ الْجَمَالُ الْمِصْرِيُّ وَكِيلُ بَيْتُ الْمَالِ.
أَبُو الْغَنَائِمِ الرَّكْبَسَلَّارُ الْبَغْدَادِيُّ
كَانَ يَخْدُمُ مَعَ عِزِّ الدِّينِ نَجَاحٍ
الشَّرَابِيِّ،
وَحَصَّلَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، كَانَ كُلَّمَا تَهَيَّأَ لَهُ مَالٌ اشْتَرَى
بِهِ مِلْكًا، وَكَتَبَهُ بِاسْمِ صَاحِبٍ لَهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى ذَلِكَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَوَلَّى أَوْلَادَهُ،
وَيُنْفِقَ عَلَيْهِمْ مِنْ مِيرَاثِهِ مِمَّا تَرَكَهُ لَهُمْ، فَمَرِضَ
الْمُوصَى إِلَيْهِ بَعْدَ قَلِيلٍ، فَاسْتَدْعَى الشُّهُودَ ; لِيُشْهِدَهُمْ
عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ لِوَرَثَةِ أَبِي الْغَنَائِمِ فَتَمَادَى
وَرَثَتُهُ فِي إِحْضَارِ الشُّهُودِ، وَطَوَّلُوا عَلَيْهِ، وَأَخَذَتْهُ
سَكْتَةٌ، فَمَاتَ فَاسْتَوْلَى وَرَثَتُهُ عَلَى تِلْكَ الْأَمْوَالِ
وَالْأَمْلَاكِ، وَلَمْ يُعْطُوا أُولَئِكَ شَيْئًا مِمَّا تَرَكَهُ أَبُوهُمْ
لَهُمْ.
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعَادَةَ الْفَارِقِيُّ
تَفَقَّهَ بِبَغْدَادَ، وَأَعَادَ بِالنِّظَامِيَّةِ وَنَابَ فِي تَدْرِيسِهَا،
وَاسْتَقَلَّ بِتَدْرِيسِ الْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَتْهَا أَمُّ الْخَلِيفَةِ
وَأُرِيدَ عَلَى نِيَابَةِ الْقَضَاءِ عَنْ أَبِي طَالِبٍ عَلِيِّ بْنِ عَلِيٍّ
الْبُخَارِيِّ، فَامْتَنَعَ، فَأُلْزِمَ بِهِ فَبَاشَرَهُ قَلِيلًا، ثُمَّ دَخَلَ
يَوْمًا إِلَى مَسْجِدٍ فَلَبَسَ عَلَى رَأْسِهِ مِئْزَرَ صُوفٍ، وَأَمَرَ
الْوُكَلَاءَ وَالْجَلَاوِذَةَ أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُ، وَأَشْهَدَ عَلَى
نَفْسِهِ بِعَزْلِهَا عَنْ نِيَابَةِ الْقَضَاءِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْإِعَادَةِ
وَالتَّدْرِيسِ؛ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَتْ:
الْخَاتُونُ
أُمُّ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ عِيسَى بْنِ الْعَادِلِ، فَدُفِنَتْ
بِالْقُبَّةِ بِالْمَدْرَسَةِ الْمُعَظَّمِيَّةِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
الْأَمِيرُ
مُجِيرُ الدِّينِ طَاشْتِكِينُ الْمُسْتَنْجِدِيُّ
أَمِيرُ الْحَاجِّ وَزَعِيمُ بِلَادِ خُوزِسْتَانَ، كَانَ شَيْخًا خَيِّرًا حَسَنَ
السِّيرَةِ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، غَالِيًا فِي التَّشَيُّعِ، تُوفِّيَ بِتُسْتَرَ
ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ، وَحُمِلَ
تَابُوتُهُ إِلَى الْكُوفَةِ فَدُفِنَ بِمَشْهِدِ عَلِيٍّ، بِوَصِيَّةٍ مِنْهُ،
هَكَذَا تَرْجَمَهُ ابْنُ السَّاعِي فِي " تَارِيخِهِ "، وَذَكَرَ أَبُو
شَامَةَ فِي " الذَّيْلِ " أَنَّهُ طَاشْتِكِينُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْمُقْتَفَوِيُّ أَمِيرُ الْحَاجِّ حَجَّ بِالنَّاسِ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً،
وَكَانَ يَكُونُ فِي الْحِجَازِ كَأَنَّهُ مَلِكٌ، وَقَدْ رَمَاهُ الْوَزِيرُ
ابْنُ يُونُسَ بِأَنَّهُ يُكَاتِبُ صَلَاحَ الدِّينِ فَحَبَسَهُ الْخَلِيفَةُ،
ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ بُطْلَانُ مَا ذُكِرَ عَنْهُ فَأَطْلَقَهُ، وَأَعْطَاهُ
خُوزِسْتَانَ ثُمَّ أَعَادَهُ إِلَى إِمْرَةِ الْحَجِّ، وَكَانَتِ الْحِلَّةُ
السَّيْفِيَّةُ إِقْطَاعَهُ، وَكَانَ شُجَاعًا جَوَّادًا سَمْحًا، قَلِيلَ
الْكَلَامِ، يَمْضِي عَلَيْهِ الْأُسْبُوعُ لَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ بِكَلِمَةٍ،
وَكَانَ فِيهِ حِلْمٌ وَاحْتِمَالٌ، اسْتَغَاثَ بِهِ رَجُلٌ عَلَى بَعْضِ
نُوَّابِهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمُسْتَغِيثُ: أَحِمَارٌ
أَنْتَ ؟ فَقَالَ: لَا. وَفِيهِ يَقُولُ ابْنُ التَّعَاوِيذِيِّ:
وَأَمِيرٌ عَلَى الْبِلَادِ مُوَلًّى لَا يُجِيبُ الشَّاكِي بِغَيْرِ السُّكُوتِ
كُلَّمَا زَادَ رِفْعَةً حَطَّنَا اللَّ
هُ بِتَغْفِيلِهِ إِلَى الْبَهَمُوتِ
وَقَدْ سَرَقَ فَرَّاشُهُ حِيَاصَةً لَهُ، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَقِرُّوا الْفَرَّاشَ عَلَيْهَا، وَكَانَ قَدْ رَآهُ الْأَمِيرُ طَاشْتِكِينُ وَهُوَ يَأْخُذُهَا، فَقَالَ: لَا تُعَاقِبُوا أَحَدًا، فَإِنَّهُ أَخَذَهَا مَنْ لَا يَرُدُّهَا، وَرَآهُ مَنْ لَا يَنُمُّ عَلَيْهِ. وَقَدْ كَانَ بَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ تِسْعِينَ سَنَةً، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مُدَّةَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ لِلْوَقْفِ، فَقَالَ فِيهِ بَعْضُ الْمُضْحِكِينَ: هَذَا لَا يُوقِنُ بِالْمَوْتِ ; عُمْرُهُ تِسْعُونَ سَنَةً وَاسْتَأْجَرَ أَرْضًا ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ. فَاسْتَضْحَكَ الْقَوْمَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا جَرَتْ أُمُورٌ طَوِيلَةٌ بِالْمَشْرِقِ بَيْنَ الْغُورِيَّةِ
وَالْخُوَارِزْمِيَّةِ، وَمَلَكَ خُوَارِزْمُ شَاهْ بْنُ تِكِشَ بِلَادَ
الطَّالْقَانِ. وَفِيهَا وَلَّى الْخَلِيفَةُ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ لِعِمَادِ
الدِّينِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّامَغَانِيِّ.
وَفِيهَا قَبَضَ الْخَلِيفَةُ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ
بْنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ، بِسَبَبِ فِسْقِهِ وَفُجُورِهِ،
وَقَدْ أُحْرِقَتْ كُتُبُهُ وَأَمْوَالُهُ قَبْلَ ذَلِكَ ; لِمَا فِيهَا مِنْ
كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ، وَعُلُومِ الْأَوَائِلِ، وَأَصْبَحَ يَسْتَعْطِي مِنَ
النَّاسِ، وَهَذَا بِخَطِيئَةِ قِيَامِهِ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ
الْجَوْزِيِّ ; فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ وَشَى بِهِ إِلَى الْوَزِيرِ ابْنِ
الْقَصَّابِ حَتَّى أُحْرِقَتْ بَعْضُ كُتُبِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَخَتَمَ عَلَى
بَقِيَّتِهَا، وَنُفِيَ إِلَى وَاسِطٍ خَمْسَ سِنِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ
ذَلِكَ، وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: فِي اللَّهِ كِفَايَةٌ. وَفِي الْقُرْآنِ: وَجَزَاءُ
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [ الشُّورَى: 40 ] وَالصُّوفِيَّةُ يَقُولُونَ:
الطَّرِيقُ تَأْخُذُ حَقَّهَا. وَالْأَطِبَّاءُ يَقُولُونَ: الطَّبِيعَةُ
مُكَافِئَةٌ.
وَفِيهَا نَازَلَتِ الْفِرِنْجُ حِمْصَ فَقَاتَلَهُمْ مَلِكُهَا أَسَدُ الدِّينِ
شِيرَكُوهْ بْنُ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْدِ الدَّيْنِ شِيرَكُوهْ
الْكَبِيرِ، وَأَعَانَهُ بِالْمَدَدِ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ صَاحِبُ حَلَبَ
فَكَفَّ
اللَّهُ شَرَّهُمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا اجْتَمَعَ شَابَّانِ بِبَغْدَادَ عَلَى الشَّرَابِ، فَضَرَبَ أَحَدُهُمَا
الْآخَرَ بِسِكِّينٍ فَقَتَلَهُ وَهَرَبَ فَأُخِذَ فَقُتِلَ، فَوُجِدَ مَعَهُ
رُقْعَةٌ فِيهَا بَيْتَانِ مِنْ نَظْمِهِ أَمَرَ أَنْ تُجْعَلَ بَيْنَ
أَكْفَانِهِ، وَهُمَا قَوْلُهُ:
قَدِمْتُ عَلَى الْكَرِيمِ بِغَيْرِ زَادٍ مِنَ الْأَعْمَالِ بِالْقَلْبِ
السَّلِيمِ وَسُوءُ الظَّنِّ أَنْ تَعْتَدَّ زَادًا
إِذَا كَانَ الْقُدُومُ عَلَى كَرِيمِ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْفَقِيهُ أَبُو مَنْصُورٍ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النُّعْمَانِ
النِّيلِيُّ، وَالْمُلَقَّبُ بِالْقَاضِي شُرَيْحٍ؛ لِذَكَائِهِ وَفَضْلِهِ
وَبَرَاعَتِهِ وَعَقْلِهِ وَكَمَالِ أَخْلَاقِهِ، وَلِيَ قَضَاءَ بَلَدِهِ، ثُمَّ
قَدِمَ بَغْدَادَ فَنُدِبَ إِلَى الْمَنَاصِبِ الْكِبَارِ فَأَبَاهَا، فَحَلَفَ
عَلَيْهِ الْأَمِيرُ طَاشْتِكِينُ أَنْ يَعْمَلَ عِنْدَهُ فِي الْكِتَابَةِ،
فَخَدَمَهُ عِشْرِينَ عَامًا، ثُمَّ وَشَى بِهِ الْوَزِيرُ ابْنُ مَهْدِيٍّ إِلَى
الْخَلِيفَةِ، فَحَبَسَهُ فِي دَارِ طَاشْتِكِينَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ عَمَّا قَرِيبٍ حُبِسَ بِهَا أَيْضًا، وَهَذَا
مِنَ الْعَجَبِ الْغَرِيبِ.
عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ
كَانَ ثِقَةً عَابِدًا زَاهِدًا وَرِعًا، لَمْ يَكُنْ فِي إِخْوَتِهِ خَيْرٌ
مِنْهُ، لَمْ يَدْخُلْ فِيمَا دَخَلُوا فِيهِ مِنَ الْمَنَاصِبِ وَالْوِلَايَاتِ،
بَلْ كَانَ
مُتَقَلِّلًا
مِنَ الدُّنْيَا، مُقْبِلًا عَلَى الْآخِرَةِ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَسُمِعَ
عَلَيْهِ أَيْضًا.
أَبُو الْحَرَمِ مَكِّيُّ بْنُ رَيَّانَ بْنِ شَبَّةَ بْنِ صَالِحِ
الْمَاكِسِينِيُّ.
مِنْ أَعْمَالِ سِنْجَارَ، ثُمَّ الْمَوْصِلِيُّ النَّحْوِيُّ قَدِمَ بَغْدَادَ
وَأَخَذَ عَنِ ابْنِ الْخَشَّابِ، وَابْنِ الْقَصَّارِ، وَالْكَمَالِ
الْأَنْبَارِيِّ، وِقَدِمَ الشَّامَ فَانْتَفَعَ بِهِ خَلْقٌ عَظِيمٌ ; مِنْهُمُ
الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ السَّخَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ضَرِيرًا
يَتَعَصَّبُ لِأَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ ; لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْقَدْرِ
الْمُشْتَرَكِ فِي الْأَدَبِ وَالْعَمَى، وَمِنْ شِعْرِهِ:
إِذَا احْتَاجَ النَّوَالُ إِلَى شَفِيعٍ فَلَا تَقْبَلْهُ تُضْحِ قَرِيرَ عَيْنِ
إِذَا عِيفَ النَّوَالُ لَفَرْدِ مَنٍّ
فَأَوْلَى أَنْ يُعَافَ لِمِنَّتَيْنِ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
نَفْسِي فِدَاءٌ لِأَغْيَدٍ غَنِجٍ قَالَ لَنَا الْحَقَّ يَوْمَ وَدَّعَنَا
مَنْ وَدَّ شَيْئًا مِنْ حُبِّهِ طَمَعًا فِي قُبْلَةٍ لِلْوَدَاعِ وَدَّ عَنَا
إِقْبَالٌ الْخَادِمُ جَمَالُ الدِّينِ أَحَدُ خُدَّامِ صَلَاحِ الدِّينِ، وَاقِفُ
الْإِقْبَالِيَّتَيْنِ ; الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَكَانَتَا دَارَيْنِ فَجَعَلَهُمَا مَدْرَسَتَيْنِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِمَا وَقْفًا ; الْكَبِيرَةَ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَعَلَيْهَا ثُلُثَا الْوَقْفِ، وَالصَّغِيرَةَ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهَا ثُلُثُ الْوَقْفِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْقُدْسِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا رَجَعَ الْحُجَّاجُّ إِلَى الْعِرَاقِ وَهُمْ يَدْعُونَ اللَّهَ،
وَيَشْتَكُونَ إِلَى النَّاسِ مَا لَقَوْا مِنْ صَدْرَجَهَانَ الْبُخَارِيِّ
الْحَنَفِيِّ، الَّذِي كَانَ قَدِمَ بَغْدَادَ فِي رِسَالَةٍ، فَاحْتَفَلَ بِهِ
الْخَلِيفَةُ، وَخَرَجَ إِلَى الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَضَيَّقَ عَلَى
النَّاسِ فِي الْمِيَاهِ وَالْمِيرَةِ، فَمَاتَ نَحْوٌ مِنْ سِتَّةِ آلَافٍ مِنَ
الْحَجِيجِ الْعِرَاقِيِّ بِسَبَبِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ - فِيمَا
ذُكِرَ - يَسْبِقُ غِلْمَانُهُ إِلَى الْمَنَاهِلِ فَيَتَحَجَّرُونَ عَلَى
الْمَاءِ، وَيَأْخُذُونَهُ فَيَرُشُّونَ حَوْلَ خَيْمَةِ مَخْدُومِهِمْ فِي قَيْظِ
الْحِجَازِ، وَيَسْقُونَ الْبُقُولَاتِ الَّتِي تُحْمَلُ مَعَهُ فِي تُرَابِهَا،
وَيَمْنَعُونَ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، الْآمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ،
فَلَمَّا رَجَعَ مَعَ النَّاسِ لَعَنَتْهُ الْعَامَّةُ، وَلَمْ تَحْتَفِلْ بِهِ
الْخَاصَّةُ، وَلَا أَكْرَمَهُ الْخَلِيفَةُ، وَلَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ أَحَدًا، وَخَرَجَ
مِنْ بَغْدَادَ وَالْعَامَّةُ مِنْ وَرَائِهِ يَرْجُمُونَهُ وَيَلْعَنُونَهُ،
وَسَمَّاهُ النَّاسُ: صَدْرَ جَهَنَّمَ. نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنِ الْخِذْلَانِ.
وَفِيهَا قَبِضَ الْخَلِيفَةُ عَلَى وَزِيرِهِ ابْنِ مَهْدِيٍّ الْعَلَوِيِّ؛
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نُسِبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَرُومُ الْخِلَافَةَ، وَقِيلَ:
غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ حُبِسَ بِدَارِ
طَاشْتِكِينَ حَتَّى مَاتَ بِهَا، وَكَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا، حَتَّى قَالَ
بَعْضُهُمْ فِيهِ:
خَلِيلَيَّ قُولَا لِلْخَلِيفَةِ أَحْمَدٍ تَوَقَّ وُقِيتَ السُّوءَ مَا أَنْتَ
صَانِعُ وَزِيرُكَ هَذَا بَيْنَ أَمْرَيْنِ فِيهِمَا
صَنِيعُكَ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ ضَائِعُ
فَإِنْ
كَانَ حَقًّا مِنْ سُلَالَةِ حَيْدَرٍ
فَهَذَا وَزِيرٌ فِي الْخِلَافَةِ طَامِعُ وَإِنْ كَانَ فِيمَا يَدَّعِي غَيْرَ
صَادِقٍ
فَأَضْيَعُ مَا كَانَتْ لَدَيْهِ الصَّنَائِعُ
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ عَفِيفًا عَنِ الْأَمْوَالِ حَسَنَ السِّيرَةِ، جَيِّدَ
الْمُبَاشَرَةِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِحَالِهِ.
وَفِي رَمَضَانَ رَتَّبَ الْخَلِيفَةُ عِشْرِينَ دَارًا لِلضِّيَافَةِ يُفْطِرُ
فِيهَا الصَّائِمُونَ مِنَ الْفُقَرَاءِ، يُطْبَخُ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِيهَا
طَعَامٌ كَثِيرٌ، وَيُحْمَلُ إِلَيْهَا أَيْضًا مِنَ الْخُبْزِ النَّقِيِّ
وَالْحَلْوَاءِ شَيْءٌ كَثِيرٌ أَيْضًا - فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا - وَهَذَا
الصَّنِيعُ يُشْبِهُ مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ قُرَيْشٌ مِنَ الرِّفَادَةِ فِي
زَمَنِ الْحَجِّ، وَكَانَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، كَمَا كَانَ
الْعَبَّاسُ يَتَوَلَّى السِّقَايَةَ، وَقَدْ كَانَتْ فِيهِمُ السِّفَارَةُ
وَاللِّوَاءُ وَالنَّدْوَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ،
وَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْمَنَاصِبُ كُلُّهَا عَلَى أَتَمِّ الْأَحْوَالِ فِي
الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الشَّيْخَ شِهَابَ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِيَّ
وَفِي صُحْبَتِهِ سُنْقُرُ السِّلِحْدَارُ إِلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ
بِالْخِلْعَةِ السَّنِيَّةِ، وَفِيهَا الطَّوْقُ وَالسِّوَارَانِ، وَإِلَى جَمِيعِ
أَوْلَادِهِ بِالْخِلَعِ أَيْضًا.
وَفِيهَا مَلَكَ الْأَوْحَدُ بْنُ الْعَادِلِ صَاحِبُ مَيَّافَارِقِينَ مَدِينَةَ
خِلَاطَ بَعْدَ قَتْلِ صَاحِبِهَا ابْنِ بَكْتَمُرَ، وَكَانَ شَابًّا جَمِيلَ
الصُّورَةِ جِدًّا، قَتَلَهُ بَعْضُ مَمَالِيكِهِمْ، ثُمَّ قُتِلَ الْقَاتِلُ
أَيْضًا، فَخَلَا الْبَلَدُ عَنْ مَلِكٍ، فَأَخَذَهَا الْأَوْحَدُ بْنُ
الْعَادِلِ، كَمَا ذَكَرْنَا.
وَفِيهَا مَلَكَ خُوَارِزْمُ شَاهْ مُحَمَّدُ بْنُ تِكِشَ بِلَادَ مَا وَرَاءَ
النَّهَرِ مِنَ الْخِطَا بَعْدَ حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ.