ج32.
البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
قُطُزُ
خَطَّهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَدْ هَجَاهُ بَهَاءُ الدِّينِ زُهَيْرُ
بْنُ عَلِيٍّ، فَقَالَ:
لَعَنَ اللَّهُ صَاعِدًا وَأبَاهُ فَصَاعِدَا
وَبَنِيهِ فَنَازِلَا وِاحِدًا ثُمَّ وَاحِدَا
ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَقَدْ رَثَاهُ
الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْمُنِيرِ، وَلَهُ فِيهِ مَدَائِحُ وَأَشْعَارٌ
حَسَنَةٌ يُقَرِّظُهُ بِهَا، فَصِيحَةٌ رَائِقَةٌ.
ابْنُ أَبِي الْحَدِيدِ الْعِرَاقِيُّ الشَّاعِرُ: عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ هِبَةِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَبُو حَامِدِ بْنِ
أَبِي الْحَدِيدِ، عِزُّ الدِّينِ الْمَدَائِنِيُّ
الْكَاتِبُ الشَّاعِرُ الْمُطَبِّقُ الشِّيعِيُّ الْغَالِي، لَهُ شَرْحُ نَهْجِ
الْبَلَاغَةِ فِي عِشْرِينَ مُجَلَّدًا، وُلِدَ بِالْمَدَائِنِ سَنَةَ سِتٍّ
وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائَةٍ، ثُمَّ صَارَ إِلَى بَغْدَادَ فَكَانَ أَحَدَ
الْكُتَّابِ وَالشُّعَرَاءِ بِالدِّيوَانِ الْخَلِيفَتِيِّ، وَكَانَ حَظِيًّا
عِنْدَ الْوَزِيرِ ابْنِ الْعَلْقَمِيِّ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ
وَالْمُقَارَبَةِ وَالْمُشَابَهَةِ فِي التَّشَيُّعِ وَالْأَدَبِ وَالْفَضِيلَةِ،
وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ السَّاعِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ مَدَائِحِهِ
وَأَشْعَارِهِ الْفَائِقَةِ الرَّائِقَةِ، وَكَانَ أَكْثَرَ فَضِيلَةً وَأَدَبًا
مِنْ أَخِيهِ أَبِي الْمَعَالِي مُوَفَّقِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ،
وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ فَاضِلًا بَارِعًا أَيْضًا، وَقَدْ مَاتَا فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
الْمُشِدُّ الشَّاعِرُ، الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ
قَزَلَ
مُشِدُّ الدِّيوَانِ
بِدِمَشْقَ،
وَكَانَ شَاعِرًا مُطَبِّقًا، لَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ، وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ
بَعْدَ مَوْتِهِ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ، فَأَنْشَدَهُ:
نُقِلْتُ إِلَى رَمْسِ الْقُبُورِ وَضِيقِهَا وَخَوْفِي ذُنُوبِي أَنَّهَا بِي
تُعَثِّرُ
فَصَادَفْتُ رَحْمَانًا رَءُوفًا وَأَنْعُمًا حَبَانِي بِهَا نَفْيًا لِمَا كُنْتُ
أَحْذَرُ
وَمَنْ كَانَ حُسْنُ الظَّنِّ فِي حَالِ مَوْتِهِ جَمِيلًا بِعَفْوِ اللَّهِ
فَالْعَفْوُ أَجْدَرُ
بِشَارَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَرْمَنِيُّ الْأَصْلِ، بَدْرُ الدِّينِ
الْكَاتِبُ
مَوْلَى شِبْلِ الدَّوْلَةِ الْمُعَظَّمِيِّ، سَمِعَ الْكِنْدِيَّ وَغَيْرَهُ،
وَكَانَ يَكْتُبُ خَطًّا جَيِّدًا، وَأَسْنَدَ إِلَيْهِ مَوَّلَاهُ النَّظَرَ فِي
أَوْقَافِهِ، وَجَعَلَهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ، فَهُمْ إِلَى الْآنَ يَنْظُرُونَ فِي
الشِّبْلِيِّينَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ
جَمَالُ الدِّينِ الْمِصْرِيُّ
نَابَ عَنْ أَبِيهِ، وَدَرَّسَ بِالشَّامِيَّةِ، وَلَهُ شِعْرٌ فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
صَيَّرْتُ فَمِي لِفِيهِ بِاللَّثْمِ لِثَامْ عَمْدًا وَرَشَفْتُ مِنْ ثَنَايَاهُ
مُدَامْ
فَازْوَرَّ وَقَالَ أَنْتَ فِي الْفِقْهِ إِمَامْ رِيقِي خَمْرٌ وَعِنْدَكَ
الْخَمْرُ حَرَامْ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا أَخَذَتِ التَّتَارُ بَغْدَادَ وَقَتَلُوا أَكْثَرَ أَهْلِهَا حَتَّى
الْخَلِيفَةَ، وَانْقَضَتْ دَوْلَةُ بَنِي الْعَبَّاسِ مِنْهَا.
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَجُنُودُ التَّتَارِ قَدْ نَازَلَتْ بَغْدَادَ
صُحْبَةَ الْأَمِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى مُقَدِّمَةِ عَسَاكِرِ سُلْطَانِ
التَّتَارِ هُولَاكُوقَانَ، وَجَاءَتْ إِلَيْهِمْ أَمْدَادُ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ
يُسَاعِدُونَهُمْ عَلَى الْبَغَادِدَةِ وَمِيرَتُهُ وَهَدَايَاهُ وَتُحَفُهُ،
وَكُلُّ ذَلِكَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنَ التَّتَارِ، وَمُصَانَعَةً لَهُمْ،
قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ سُتِرَتْ بَغْدَادُ، وَنُصِبَتْ فِيهَا
الْمَجَانِيقُ وَالْعَرَّادَاتُ وَغَيْرُهَا مِنْ آلَاتِ الْمُمَانَعَةِ الَّتِي
لَا تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَيْئًا، كَمَا وَرَدَ
فِي الْأَثَرِ: ( لَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ عَنْ قَدَرٍ ) وَكَمَا قَالَ تَعَالَى:
إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ [ نُوحٍ: 4 ] وَقَالَ تَعَالَى:
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَالٍ [ الرَّعْدِ: 11 ].
وَأَحَاطَ التَّتَارُ بِدَارِ الْخِلَافَةِ يَرْشُقُونَهَا بِالنُّشَّابِ مِنْ
كُلِّ جَانِبٍ، حَتَّى أُصِيبَتْ جَارِيَةٌ كَانَتْ تَلْعَبُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ
وَتُضْحِكُهُ، وَكَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْحَظَايَا، وَكَانَتْ مُوَلَّدَةً
تُسَمَّى عَرَفَةَ،
جَاءَهَا
سَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الشَّبَابِيكِ فَقَتَلَهَا وَهِيَ تَرْقُصُ بَيْنَ يَدَيِ
الْخَلِيفَةِ، فَانْزَعَجَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَفَزِعَ فَزَعًا شَدِيدًا،
وَأَحْضَرَ السَّهْمَ الَّذِي أَصَابَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِذَا عَلَيْهِ
مَكْتُوبٌ: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِنْفَاذَ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ سَلَبَ ذَوِي
الْعُقُولِ عُقُولَهُمْ. فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ عِنْدَ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ
الِاحْتِرَازِ، وَكَثْرَةِ السَّتَائِرِ عَلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، وَكَانَ
قُدُومُ هُولَاكُوقَانَ بِجُنُودِهِ كُلِّهَا - وَكَانُوا نَحْوَ مِائَتَيْ أَلْفِ
مُقَاتِلٍ - إِلَى بَغْدَادَ فِي ثَانِي عَشَرَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَهُوَ شَدِيدُ الْحَنَقِ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِسَبَبِ مَا كَانَ
تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ وَقَضَاهُ وَأَنْفَذَهُ
وَأَمْضَاهُ، وَهُوَ أَنَّ هُولَاكُوقَانَ لَمَّا كَانَ أَوَّلُ بُرُوزِهِ مِنْ
هَمَذَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْعِرَاقِ أَشَارَ الْوَزِيرُ مُؤَيِّدُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلْقَمِيِّ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِأَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ
بِهَدَايَا سَنِيَّةٍ; لِيَكُونَ ذَلِكَ مُدَارَاةً لَهُ عَمَّا يُرِيدُهُ مِنْ
قَصْدِ بِلَادِهِمْ، فَخَذَّلَ الْخَلِيفَةَ عَنْ ذَلِكَ دُوَيْدَارُهُ الصَّغِيرُ
أَيْبَكُ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: إِنَّ الْوَزِيرَ إِنَّمَا يُرِيدُ بِهَذَا
مُصَانَعَةَ مَلِكِ التَّتَارِ بِمَا يَبْعَثُهُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ،
وَأَشَارُوا بِأَنْ يَبْعَثَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ، فَأَرْسَلَ شَيْئًا مِنَ
الْهَدَايَا، فَاحْتَقَرَهَا هُولَاكُوقَانَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ
يَطْلُبُ مِنْهُ دُوَيْدَارَهُ الْمَذْكُورَ، وَسُلَيْمَانَ شَاهْ، فَلَمْ
يَبْعَثْهُمَا إِلَيْهِ، وَلَا بَالَى بِهِ حَتَّى أَزِفَ قُدُومُهُ، وَوَصَلَ
بَغْدَادَ بِجُنُودِهِ الْكَثِيرَةِ الْكَافِرَةِ الْفَاجِرَةِ الظَّالِمَةِ
الْغَاشِمَةِ، مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ.
فَأَحَاطُوا بِبَغْدَادَ مِنْ نَاحِيَتِهَا الْغَرْبِيَّةِ وَالشَّرْقِيَّةِ،
وَجُنُودُ بَغْدَادَ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَنِهَايَةِ الذِّلَّةِ، لَا
يَبْلُغُونَ
عَشَرَةَ آلَافِ فَارِسٍ، وَهُمْ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَبَقِيَّةُ الْجَيْشِ
كُلُّهُمْ قَدْ صُرِفُوا عَنْ إِقْطَاعَاتِهِمْ حَتَّى اسْتَعْطَى كَثِيرٌ
مِنْهُمْ فِي الْأَسْوَاقِ وَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، وَأَنْشَدَ فِيهِمُ
الشُّعَرَاءُ الْقَصَائِدَ يَرْثُونَ لَهُمْ، وَيَحْزَنُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ
وَأَهْلِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ عَنْ آرَاءِ الْوَزِيرِ ابْنِ الْعَلْقَمِيِّ
الرَّافِضِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ كَانَ
بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالرَّافِضَةِ حَرْبٌ شَدِيدَةٌ، نُهِبَتْ فِيهَا
الْكَرْخُ مَحَلَّةُ الرَّافِضَةِ، حَتَّى نُهِبَتْ دَوْرُ قَرَابَاتِ الْوَزِيرِ،
فَاشْتَدَّ حَنَقُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا أَهَاجَهُ عَلَى أَنْ
دَبَّرَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ
الَّذِي لَمَّ يُؤَرَّخْ أَبْشَعُ مِنْهُ مُنْذُ بُنِيَتْ بَغْدَادُ، وَإِلَى
هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ مَنْ بَرَزَ إِلَى التَّتَارِ هُوَ،
فَخَرَجَ فِي أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَخَدَمِهِ وَحَشَمِهِ، فَاجْتَمَعَ
بِالسُّلْطَانِ هُولَاكُوقَانَ، لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ عَادَ فَأَشَارَ
عَلَى الْخَلِيفَةِ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِ وَالْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِتَقَعَ
الْمُصَالَحَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ خَرَاجِ الْعِرَاقِ لِهَمْ وَنِصْفُهُ
لِلْخَلِيفَةِ، فَاحْتَاجَ الْخَلِيفَةُ إِلَى أَنْ خَرَجَ فِي سَبْعِمِائَةِ
رَاكِبٍ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَرُءُوسِ الْأُمَرَاءِ
وَالدَّوْلَةِ وَالْأَعْيَانِ، فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْ مَنْزِلِ السُّلْطَانِ
هُولَاكُوقَانَ حُجِبُوا عَنِ الْخَلِيفَةِ إِلَّا سَبْعَةَ عَشَرَ نَفَسًا،
فَخَلَصَ الْخَلِيفَةُ بِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَأُنْزِلَ الْبَاقُونَ عَنْ
مَرَاكِبِهِمْ وَنُهِبَتْ، وَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَأُحْضِرَ الْخَلِيفَةُ
بَيْنَ يَدَيْ هُولَاكُو فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ
اضْطَرَبَ كَلَامُ الْخَلِيفَةِ مِنْ هَوْلِ مَا رَأَى مِنَ الْإِهَانَةِ
وَالْجَبَرُوتِ.
ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ وَفِي صُحْبَتِهِ خَوَاجَا نَصِيرٌ الطُّوسِيُّ،
لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالْوَزِيرُ ابْنُ الْعَلْقَمِيِّ وَغَيْرُهُمَا،
وَالْخَلِيفَةُ تَحْتَ الْحَوْطَةِ وَالْمُصَادَرَةِ، فَأَحْضَرَ مِنْ دَارِ
الْخِلَافَةِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْحُلِيِّ وَالْمَصَاغِ
وَالْجَوَاهِرِ وَالْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ، وَقَدْ أَشَارَ أُولَئِكَ الْمَلَأُ
مِنَ الرَّافِضَةِ، لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ
الْمُنَافِقِينَ عَلَى
هُولَاكُوقَانَ
أَنْ لَا يُصَالِحَ الْخَلِيفَةَ، وَقَالَ الْوَزِيرُ: مَتَى وَقَعَ الصُّلْحُ
عَلَى الْمُنَاصَفَةِ لَا يَسْتَمِرُّ هَذَا إِلَّا عَامًا أَوْ عَامَيْنِ، ثُمَّ
يَعُودُ الْأَمْرُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَحَسَّنُوا لَهُ
قَتْلَ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا عَادَ الْخَلِيفَةُ إِلَى السُّلْطَانِ هُولَاكُو
أَمْرَ بِقَتْلِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّ الَّذِي أَشَارَ بِقَتْلِهِ الْوَزِيرُ ابْنُ
الْعَلْقَمِيِّ وَالنَّصِيرُ الطُّوسِيُّ. وَكَانَ النَّصِيرُ عِنْدَ هُولَاكُو
قَدِ اسْتَصْحَبَهُ فِي خِدْمَتِهِ لَمَّا فَتَحَ قِلَاعَ الْأَلْمُوتِ
وَانْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِي الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَكَانَ النَّصِيرُ وَزِيرًا
لِشَمْسِ الشُّمُوسِ، وَلِأَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ جَلَالِ
الدِّينِ، وَكَانُوا يَنْتَسِبُونَ إِلَى نِزَارِ بْنِ الْمُسْتَنْصِرِ
الْعُبَيْدِيِّ، وَانْتَخَبَ هُولَاكُوقَانَ النَّصِيرَ لِيَكُونَ فِي خِدْمَتِهِ
كَالْوَزِيرِ الْمُشِيرِ، فَلَمَّا قَدِمَ هُولَاكُوقَانَ وَتَهَيَّبَ مِنْ قَتْلِ
الْخَلِيفَةِ هَوَّنَ عَلَيْهِ الْوَزِيرَانِ ذَلِكَ، فَقَتَلُوهُ رَفْسًا وَهُوَ
فِي جُوَالِقَ، لِئَلَّا يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ شَيْءٌ مِنْ دَمِهِ، خَافُوا أَنْ
يُؤْخَذَ بِثَأْرِهِ فِيمَا قِيلَ لَهُمْ، وَقِيلَ: بَلْ خُنِقَ. وَيُقَالُ:
غُرِّقَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَبَاءُوا بِإِثْمِهِ وَإِثْمِ مَنْ كَانَ مَعَهُ
مِنْ سَادَاتِ الْعُلَمَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْأَكَابِرِ وَالرُّؤَسَاءِ
وَالْأُمَرَاءِ وَأُولِي الْحَلِّ وَالْعَقْدِ بِبِلَادِ بَغْدَادَ - وَسَتَأْتِي
تَرْجَمَةُ الْخَلِيفَةِ فِي الْوَفَيَاتِ - وَمَالُوا عَلَى الْبَلَدِ،
فَقَتَلُوا جَمِيعَ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَالْوِلْدَانِ وَالْمَشَايِخِ وَالْكُهُولِ وَالشُّبَّانِ.
وَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الْآبَارِ وَأَمَاكِنِ الْحُشُوشِ، وَقُنِيِّ
الْوَسَخِ، وَكَمَنُوا كَذَلِكَ أَيَّامًا لَا يَظْهَرُونَ، وَكَانَ الْفِئَامُ
مِنَ النَّاسِ يَجْتَمِعُونَ فِي الْخَانَاتِ، وَيُغْلِقُونَ عَلَيْهِمُ
الْأَبْوَابَ، فَتَفْتَحُهَا التَّتَارُ إِمَّا بِالْكَسْرِ أَوْ بِالنَّارِ،
ثُمَّ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ فَيَهْرُبُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَعَالِي الْمَكَانِ،
فَيَقْتُلُونَهُمْ فِي الْأَسْطِحَةِ، حَتَّى تَجْرِيَ الْمَيَازِيبُ مِنَ
الدِّمَاءِ فِي
الْأَزِقَّةِ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ
وَالْجَوَامِعِ وَالرُّبَطِ، وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ سِوَى أَهْلِ
الذِّمَّةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمَنِ الْتَجَأَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى
دَارِ الْوَزِيرِ ابْنِ الْعَلْقَمِيِّ الرَّافِضِيِّ، وَطَائِفَةٍ مِنَ
التُّجَّارِ أَخَذُوا لَهُمْ أَمَانًا بَذَلُوا عَلَيْهِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً
حَتَّى سَلِمُوا وَسَلِمَتْ أَمْوَالُهُمْ. وَعَادَتْ بَغْدَادُ بَعْدَمَا كَانَتْ
آنَسَ الْمُدُنِ كُلِّهَا كَأَنَّهَا خَرَابٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ إِلَّا
الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ، وَهُمْ فِي خَوْفٍ وَجُوعٍ وَذِلَّةٍ وَقِلَّةٍ.
وَكَانَ الْوَزِيرُ ابْنُ الْعَلْقَمِيِّ قَبْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ يَجْتَهِدُ
فِي صَرْفِ الْجُيُوشِ وَإِسْقَاطِ أَسْهُمِهِمْ مِنَ الدِّيوَانِ، فَكَانَتِ
الْعَسَاكِرُ فِي آخِرِ أَيَّامِ الْمُسْتَنْصِرِ قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ أَلْفِ
مُقَاتِلٍ، مِنْهُمْ مَنَ الْأُمَرَاءِ مَنْ هُوَ كَالْمُلُوكِ الْأَكَابِرِ،
فَلَمْ يَزَلْ يَجْتَهِدُ فِي تَقْلِيلِهِمْ إِلَى أَنْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا
عَشَرَةُ آلَافٍ، ثُمَّ كَاتَبَ التَّتَارَ، وَأَطْمَعَهُمْ فِي أَخْذِ
الْبِلَادِ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَجَلَّى لَهُمْ حَقِيقَةَ الْحَالِ،
وَكَشَفَ لَهُمْ ضَعْفَ الرِّجَالِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ طَمَعًا مِنْهُ أَنْ يُزِيلَ
السُّنَّةَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنْ يُظْهِرَ الْبِدْعَةَ الرَّافِضِيَّةَ، وَأَنْ
يُقِيمَ خَلِيفَةً مَنَ الْفَاطِمِيِّينَ، وَأَنْ يُبِيدَ الْعُلَمَاءَ
وَالْمُفْتِينَ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، وَقَدْ رَدَّ كَيْدَهُ فِي
نَحْرِهِ، وَأَذَلَّهُ بَعْدَ الْعِزَّةِ الْقَعْسَاءِ، وَجَعَلَهُ حُوشْكَاشًا
لِلتَّتَارِ بَعْدَمَا كَانَ وَزِيرًا لِلْخُلَفَاءِ، وَاكْتَسَبَ إِثْمَ مَنْ
قُتِلَ بِمَدِينَةِ بَغْدَادَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ،
فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.
وَقَدْ جَرَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قَرِيبٌ مِمَّا جَرَى
عَلَى أَهْلِ بَغْدَادَ، كَمَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا ذَلِكَ فِي
كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، حَيْثُ يَقُولُ: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي
الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا
كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا [
الْإِسْرَاءِ: 4، 5 ] الْآيَاتُ.
وَقَدْ
قُتِلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خَلْقٌ مِنَ الصُّلَحَاءِ، وَأُسَرَ جَمَاعَةٌ
مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ، وَخُرِّبَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ بَعْدَمَا كَانَ
مَعْمُورًا بِالْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ وَالْأَحْبَارِ وَالْأَنْبِيَاءِ، فَصَارَ
خَاوِيًا عَلَى عُرُوشِهِ، وَاهِيَ الْبِنَاءِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كَمِّيَّةِ مَنْ قُتِلَ بِبَغْدَادَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، فَقِيلَ: ثَمَانُمِائَةِ أَلْفٍ، وَقِيلَ: أَلْفُ أَلْفٍ
وَثَمَانُمِائَةِ أَلْفٍ. وَقِيلَ: بَلَغَتِ الْقَتْلَى أَلْفَيْ أَلْفِ نَفْسٍ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
وَكَانَ دُخُولُهُمْ إِلَى بَغْدَادَ فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ، وَمَا زَالَ
السَّيْفُ يَقْتُلُ أَهْلَهَا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَكَانَ قَتْلُ الْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَعْصِمِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ
عَشَرَ صَفَرٍ، وَعَفَا قَبْرُهُ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمئِذٍ سِتًّا
وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَمُدَّةُ خِلَافَتِهِ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَنَةً وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٌ، وَقُتِلَ مَعَهُ وَلَدُهُ
الْأَكْبَرُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ، وَلَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، ثُمَّ
قُتِلَ وَلَدُهُ الْأَوْسَطُ أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَلَهُ ثَلَاثٌ
وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَأُسِرَ وَلَدُهُ الْأَصْغَرُ مُبَارَكٌ، وَأَسِرَتْ
أَخَوَاتُهُ الثَّلَاثُ; فَاطِمَةُ وَخَدِيجَةُ وَمَرْيَمُ، وَأُسِرَ مِنْ دَارِ
الْخِلَافَةِ مِنَ الْأَبْكَارِ مَا يُقَارِبُ أَلْفَ بِكْرٍ فِيمَا قِيلَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَقُتِلَ أُسْتَاذُ دَارِ الْخِلَافَةِ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ
الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ
بْنِ
الْجَوْزِيِّ، وَكَانَ عَدُوَّ الْوَزِيرِ، وَقُتِلَ أَوْلَادُهُ الثَّلَاثَةُ;
عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ، وَأَكَابِرُ
الدَّوْلَةِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، مِنْهُمُ الدُّوَيْدَارُ الصَّغِيرُ
مُجَاهِدُ الدِّينِ أَيْبَكُ، وَشِهَابُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ شَاهْ، وَجَمَاعَةٌ
مِنْ أُمَرَاءِ السُّنَّةِ وَأَكَابِرِ الْبَلَدِ.
وَكَانَ الرَّجُلُ يُسْتَدْعَى بِهِ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ مِنْ بَنِي
الْعَبَّاسِ، فَيَخْرُجُ بِأَوْلَادِهِ وَنِسَائِهِ وَجَوَارِيهِ، فَيُذْهَبُ بِهِ
إِلَى مَقْبَرَةِ الْخَلَّالِ، تُجَاهَ الْمَنْظَرَةِ، فَيُذْبَحُ كَمَا تُذْبَحُ
الشَّاةُ، وَيُؤْسَرُ مَنْ يَخْتَارُونَ مِنْ بَنَاتِهِ وَجَوَارِيهِ.
وَقُتِلَ شَيْخُ الشُّيُوخِ مُؤَدِّبُ الْخَلِيفَةِ صَدْرُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ
النَّيَّارِ، وَقُتِلَ الْخُطَبَاءُ وَالْأَئِمَّةُ، وَحَمَلَةُ الْقُرْآنِ،
وَتَعَطَّلَتِ الْمَسَاجِدُ وَالْجَمَاعَاتُ وَالْجُمُعَاتُ مُدَّةَ شُهُورٍ
بِبَغْدَادَ، وَأَرَادَ الْوَزِيرُ ابْنُ الْعَلْقَمِيِّ، قَبَّحَهُ اللَّهُ
وَلَعَنَهُ، أَنْ يُعَطِّلَ الْمَسَاجِدَ وَالْمَدَارِسَ وَالرُّبَطَ بِبَغْدَادَ،
وَيَسْتَمِرَّ بِالْمَشَاهِدِ وَمَحَالِّ الرَّفْضِ، وَأَنْ يَبْنِيَ
لِلرَّافِضَةِ مَدْرَسَةً هَائِلَةً يَنْشُرُونَ عِلْمَهُمْ وَعَلَمَهُمْ بِهَا
وَعَلَيْهَا، فَلَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، بَلْ أَزَالَ
نِعْمَتَهُ عَنْهُ، وَقَصَفَ عُمْرَهُ بَعْدَ شُهُورٍ يَسِيرَةٍ مِنْ هَذِهِ
الْحَادِثَةِ، وَأَتْبَعَهُ بِوَلَدِهِ فَاجْتَمَعَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -
بِالدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
وَلَمَّا انْقَضَى أَمَدُ الْأَمْرِ الْمَقْدُورِ، وَانْقَضَتِ الْأَرْبَعُونَ
يَوْمًا بَقِيَتْ بَغْدَادُ خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا، لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ
إِلَّا الشَّاذُّ مِنَ النَّاسِ، وَالْقَتْلَى فِي الطُّرُقَاتِ كَأَنَّهَا
التُّلُولُ، وَقَدْ سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرُ، فَتَغَيَّرَتْ صُوَرُهُمْ،
وَأَنْتَنَتِ الْبَلَدُ مِنْ جِيَفِهِمْ، وَتَغَيَّرَ الْهَوَاءُ، فَحَصَلَ
بِسَبَبِهِ الْوَبَاءُ الشَّدِيدُ، حَتَّى تَعَدَّى وَسَرَى فِي الْهَوَاءِ إِلَى
بِلَادِ الشَّامِ، فَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ تَغَيُّرِ الْجَوِّ وَفَسَادِ
الرِّيحِ، فَاجْتَمَعَ عَلَى النَّاسِ الْغَلَاءُ وَالْوَبَاءُ وَالْفِنَاءُ
وَالطَّعْنُ وَالطَّاعُونُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَلَمَّا نُودِيَ بِبَغْدَادَ بِالْأَمَانِ خَرَجَ مَنْ كَانَ تَحْتِ الْأَرْضِ
بِالْمَطَامِيرِ وَالْقُنِيِّ
وَالْمَغَايِرِ
كَأَنَّهُمُ الْمَوْتَى إِذَا نُبِشُوا مِنْ قُبُورِهِمْ، وَقَدْ أَنْكَرَ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَا يَعْرِفُ الْوَالِدُ وَلَدَهُ، وَلَا الْأَخُ أَخَاهُ،
وَأَخَذَهُمُ الْوَبَاءُ الشَّدِيدُ، فَتَفَانَوْا وَلَحِقُوا بِمَنْ سَلَفَ مِنَ
الْقَتْلَى، وَاجْتَمَعُوا فِي الْبِلَى تَحْتَ الثَّرَى، بِأَمْرِ الَّذِي
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى.
وَكَانَ رَحِيلُ السُّلْطَانِ الْمُسَلَّطِ هُولَاكُوقَانَ عَنْ بَغْدَادَ فِي
جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى مَقَرِّ مُلْكِهِ، وَفَوَّضَ
أَمْرَ بَغْدَادَ إِلَى الْأَمِيرِ عَلَيٍّ بَهَادُرَ، فَوَّضَ إِلَيْهِ
الشِّحْنَكِيَّةَ بِهَا وَإِلَى الْوَزِيرِ مُؤَيِّدِ الدِّينِ بْنِ
الْعَلْقَمِيِّ، فَلَمْ يُمْهِلْهُ اللَّهُ وَلَا أَهْمَلَهُ بَعْدُ، بَلْ
أَخَذَهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، فِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْآخِرَةِ عَنْ
ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ عِنْدَهُ فَضِيلَةٌ فِي الْإِنْشَاءِ،
وَلَدَيْهِ فَضِيلَةٌ فِي الْأَدَبِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ شِيعِيًّا جَلْدًا
خَبِيثًا رَافِضِيًّا، فَمَاتَ كَمَدًا وَغَمًّا وَحُزْنًا وَنَدَمًا، إِلَى
حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أُمُّ قَشْعَمٍ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ الْوِزَارَةَ
وَلَدُهُ عِزُّ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدٌ، فَأَلْحَقَهُ اللَّهُ
بِأَبِيهِ فِي بَقِيَّةِ هَذَا الْعَامِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَذَكَرَ أَبُو شَامَةَ وَشَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ وَقُطْبُ
الدِّينِ الْيُونِينِيُّ، أَنَّهُ أَصَابَ النَّاسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بِالشَّامِ وَبَاءٌ شَدِيدٌ، وَذَكَرُوا أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ
الْهَوَاءِ
وَالْجَوِّ، فَسَدَ مِنْ كَثْرَةِ الْقَتْلَى بِبِلَادِ الْعِرَاقِ، وَانْتَشَرَ
حَتَّى تَعَدَّى إِلَى بِلَادِ الشَّامِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اقْتَتَلَ الْمِصْرِيُّونَ مَعَ صَاحِبِ الْكَرَكِ
الْمَلِكِ الْمُغِيثِ عُمَرَ بْنِ الْعَادِلِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَادِلِ
الْكَبِيرِ، وَكَانَ فِي جَيْشِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْبَحْرِيَّةِ،
مِنْهُمْ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ الْبُنْدُقْدَارِيُّ، فَكَسَرَهُمُ
الْمِصْرِيُّونَ، وَنَهَبُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْأَثْقَالِ
وَالْأَمْوَالِ، وَأَسَرُوا جَمَاعَةً مِنْ رُءُوسِ الْأُمَرَاءِ، فَقُتِلُوا
صَبْرًا، وَعَادُوا إِلَى الْكَرَكِ فِي أَسْوَأِ حَالَةٍ وَأَشْنَعِهَا،
وَجَعَلُوا يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَيَعِيثُونَ فِي الْبِلَادِ، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِمُ النَّاصِرُ صَاحِبُ دِمَشْقَ جَيْشًا لِيَكُفَّهُمْ عَنْ ذَلِكَ،
فَكَسَرَهُمُ الْبَحْرِيَّةُ، وَاسْتَنْصَرُوا فَبَرَزَ إِلَيْهِمُ النَّاصِرُ
بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، وَقَطَعُوا أَطْنَابَ خَيْمَتِهِ
الَّتِي هُوَ فِيهَا بِإِشَارَةِ رُكْنِ الدِّينِ بِيبَرْسَ الْمَذْكُورِ،
وَجَرَتْ حُرُوبٌ وَخُطُوبٌ يَطُولُ بَسْطُهَا، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ:
خَلِيفَةُ الْوَقْتِ الْمُسْتَعْصِمُ بِاللَّهِ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ بِالْعِرَاقِ، وَهُوَ
أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَنْصِرِ
بِاللَّهِ أَبِي جَعْفَرٍ مَنْصُورِ بْنِ الظَّاهِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي
نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ
بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي مُحَمَّدٍ
الْحَسَنِ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُسْتَنْجِدِ
بِاللَّهِ أَبِي الْمُظَفَّرِ يُوسُفَ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَفِي
لِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ
اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَمِيرِ الذَّخِيرَةِ أَبِي
الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَمِيرِ
إِسْحَاقَ بْنِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْفَضْلِ جَعْفَرِ بْنِ
الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَمِيرِ الْمُوَفَّقِ
أَبِي أَحْمَدَ طَلْحَةَ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ أَبِي الْفَضْلِ
جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بِاللَّهِ أَبِي إِسْحَاقَ مُحَمَّدِ بْنِ الرَّشِيدِ
أَبِي مُحَمَّدٍ هَارُونَ بْنِ الْمَهْدِيِّ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمَنْصُورِ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ
الْهَاشِمِيِّ الْعَبَّاسِيِّ، مَوْلِدُهِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ
أَرْبَعِينَ، وَكَانَ مَقْتَلُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعَ عَشَرَ
مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَيَكُونُ عُمْرُهُ يَوْمَ
قُتِلَ سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ كَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، حَسَنَ الصُّورَةِ، جَيِّدَ السِّيرَةِ
صَحِيحَ السَّرِيرَةِ، صَحِيحَ الْعَقِيدَةِ، مُقْتَدِيًا بِأَبِيهِ
الْمُسْتَنْصِرِ فِي الْمَعْدَلَةِ وَكَثْرَةِ الصَّدَقَاتِ وَإِكْرَامِ
الْعُلَمَاءِ وَالْعِبَادِ، وَقَدِ اسْتَجَازَ لَهُ الْحَافِظُ ابْنُ النَّجَّارِ
مِنْ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ، مِنْهُمُ الْمُؤَيَّدُ الطُّوسِيُّ، وَأَبُو رَوْحٍ
عَبْدُ الْمُعِزِّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الْقَاسِمُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّفَّارِ وَغَيْرُهُمْ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ
مِنْهُمْ مُؤَدِّبُهُ شَيْخُ الشُّيُوخِ صَدَرُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النَّيَّارِ، وَأَجَازَ هُوَ لِلْإِمَامِ مُحْيِي الدِّينِ
بْنِ الْجَوْزِيِّ، وَلِلشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ الْبَاذَرَائِيِّ، وَحَدَّثَا
عَنْهُ بِهَذِهِ الْإِجَازَةِ.
وَقَدْ
كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ سُنِّيًّا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ وَاعْتِقَادِ
الْجَمَاعَةِ كَمَا كَانَ أَبُوهُ وَجَدُّهُ، وَلَكِنْ كَانَ فِيهِ لِينٌ وَعَدَمُ
تَيَقُّظٍ وَمَحَبَّةٌ لِلْمَالِ وَجَمْعِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُ
غَلَّ الْوَدِيعَةَ الَّتِي اسْتَوْدَعَهُ إِيَّاهَا النَّاصِرُ دَاوُدُ بْنُ
الْمُعَظَّمِ، وَكَانَتْ قِيمَتُهَا نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ،
فَاسْتُقْبِحَ هَذَا مِنْ مِثْلِ الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ مُسْتَقْبَحٌ مِمَّنْ هُوَ
دُونَهُ بِكَثِيرٍ; بَلْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ
تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا
[ آلِ عِمْرَانَ: 75 ].
قَتَلَتْهُ التَّتَارُ مَظْلُومًا مُضْطَهَدًا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ
عَشَرَ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سِتَّةٌ
وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، فَرَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ. وَقَدْ قُتِلَ بَعْدَهُ
وَلَدَاهُ، وَأُسِرَ الثَّالِثُ مَعَ بَنَاتٍ ثَلَاثٍ مِنْ صُلْبِهِ، وَشَغَرَ
مَنْصِبُ الْخِلَافَةِ بَعْدَهُ، وَلَمْ يَبْقَ فِي بَنِي الْعَبَّاسِ مَنْ سَدَّ
مَسَدَّهُ، فَكَانَ آخَرَ الْخُلَفَاءِ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ الْحَاكِمِينَ
بِالْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَنْ يُرْتَجَى مِنْهُمُ النَّوَالُ وَيُخْشَى
مِنْهُمُ الْبَاسُ، وَخُتِمُوا بِعَبْدِ اللَّهِ الْمُسْتَعْصِمِ، كَمَا
افْتُتِحُوا بِعَبْدِ اللَّهِ السَّفَّاحِ، وَكَانَ عِدَّةُ خُلَفَاءِ بَنِي
الْعَبَّاسِ إِلَى الْمُسْتَعْصِمِ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ خَلِيفَةً، فَكَانَ
أَوَّلُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ السَّفَّاحُ، بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ، وَظَهَرَ
مُلْكُهُ وَأَمْرُهُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، بَعْدَ
انْقِضَاءِ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَآخِرُهُمْ
عَبْدُ اللَّهِ الْمُسْتَعْصِمُ، وَقَدْ زَالَ مُلْكُهُ، وَانْقَضَتْ خِلَافَتُهُ
فِي هَذَا الْعَامِ، فَجُمْلَةُ أَيَّامِهِمْ خَمْسُمِائَةُ سَنَةٍ وَأَرْبَعٌ
وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَزَالَتْ يَدُهُمْ عَنِ الْعِرَاقِ وَالْحُكْمِ
بِالْكُلِّيَّةِ مُدَّةَ سَنَةٍ وَشُهُورٍ فِي أَيَّامِ الْبَسَاسِيرِيِّ بَعْدَ
الْخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ عَادَتْ
كَمَا
كَانَتْ. وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ فِي أَيَّامِ الْقَائِمِ
بِأَمْرِ اللَّهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمْ تَكُنْ أَيْدِي بَنِي الْعَبَّاسِ حَاكِمَةً عَلَى جَمِيعِ الْبِلَادِ
كَمَا كَانَتْ بَنُو أُمِّيَّةَ قَاهِرَةً لِجَمِيعِ الْبِلَادِ وَالْأَقْطَارِ
وَالْأَمْصَارِ، فَإِنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ بَنِي الْعَبَّاسِ بِلَادُ
الْمَغْرِبِ، مَلَكَهَا فِي أَوَائِلِ الْأَمْرِ بَعْضُ بَنِي أُمِّيَّةَ مِمَّنْ
بَقِيَ مِنْهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ
هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ الْمُلُوكُ بَعْدَ
دُهُورٍ مُتَطَاوِلَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَارَنَ بَنِي الْعَبَّاسِ دَوْلَةُ
الْمُدَّعِينَ أَنَّهُمْ مِنَ الْفَاطِمِيِّينَ بِبِلَادِ مِصْرَ وَبَعْضِ بِلَادِ
الْمَغْرِبِ وَمَا هُنَالِكَ، وَبِلَادِ الشَّامِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَالْحَرَمَيْنِ
فِي أَزْمَانَ طَوِيلَةٍ.
وَاسْتَمَرَّتْ دَوْلَةُ الْفَاطِمِيِّينَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ
حَتَّى كَانَ آخِرُهُمُ الْعَاضِدُ الَّذِي مَاتَ بَعْدَ السِّتِّينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ فِي الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ النَّاصِرِيَّةِ
الْمَقْدِسِيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَتْ عِدَّةُ مُلُوكِ الْفَاطِمِيِّينَ
أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَلِكًا مُتَخَلِّفًا، وَمُدَّةُ مُلْكِهِمْ تَحْرِيرًا مِنْ
سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ الْعَاضِدُ سَنَةَ
بِضْعٍ وسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَالْعَجَبُ أَنَّ خِلَافَةَ النُّبُوَّةِ
التَّالِيَةِ لِزَمَانِ رَسُولِ اللِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَتْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، كَمَا نَطَقَ بِهَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، فَكَانَ
فِيهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ، ثُمَّ ابْنُهُ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ حَتَّى كَمَلَتْ بِهَا الثَّلَاثُونَ،
كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، ثُمَّ كَانَتْ مُلْكًا،
فَكَانَ أَوَّلَ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ مِنْ بَنِي أَبِي سُفْيَانَ مُعَاوِيَةُ
بْنُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمِّيَّةَ، ثُمَّ ابْنُهُ يَزِيدُ،
ثُمَّ
ابْنُ
ابْنِهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَانْقَرَضَ هَذَا الْبَطْنُ
الْمُفْتَتَحُ بِمُعَاوِيَةَ، الْمُخْتَتَمُ بِمُعَاوِيَةَ، ثُمَّ مَلَكَ
مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ
بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، ثُمَّ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، ثُمَّ
الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ أَخُوهُ سُلَيْمَانُ، ثُمَّ ابْنُ
عَمِّهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
ثُمَّ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ، ثُمَّ
يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ، ثُمَّ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ النَّاقِصُ، وَهُوَ ابْنُ
الْوَلِيدِ أَيْضًا، ثُمَّ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُلَقَّبُ بِالْحِمَارِ،
وَكَانَ آخِرَهُمْ فَكَانَ أَوَّلُهُمُ اسْمُهُ مَرْوَانُ وَآخِرُهُمُ اسْمُهُ
مَرْوَانُ، وَكَانَ أَوَّلَ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ، وَاسْمُهُ
عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ آخِرَهُمُ الْمُسْتَعْصِمُ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ،
كَذَلِكَ أَوَّلُ خُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ
الْمَهْدِيُّ، وَآخِرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ الْعَاضِدُ، وَهَذَا اتِّفَاقٌ غَرِيبٌ
جِدًّا، قَلَّ مَنْ يَتَنَبَّهُ لَهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَهَذِهِ أُرْجُوزَةٌ لِبَعْضِ الْفُضَلَاءِ انْتَظَمَ فِيهَا ذِكْرَ جَمِيعِ
الْخُلَفَاءِ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَظِيمِ عُرْشُهُ الْقَاهِرِ الْفَرْدِ الْقَوِيِّ بَطْشُهُ
مُقَلِّبِ الْأَيَّامِ وَالدُّهُورِ
وَجَامِعِ الْأَنَامِ لِلنُّشُورِ ثُمَّ الصَّلَاةُ بِدَوَامِ الْأَبَدِ
عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدِ وَآَلِهِ وَصَحْبِهِ الْكِرَامِ
السَّادَةِ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ وَبَعْدَ هَذَا هَذِهِ أُرْجُوزَهْ
نَظَمْتُهَا لَطِيفَةٌ وَجِيزَهْ نَظَمْتُ فِيهَا الرَّاشِدِينَ الْخُلَفَا
مَنْ قَامَ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى
وَمَنْ
تَلَاهُمْ وَهَلُمَّ جَرَّا
جَعَلْتُهَا تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِيَعْلَمَ الْعَاقِلُ ذُو التَّصْوِيرِ
كَيْفَ جَرَتْ حَوَادِثُ الْأُمُورِ وَكُلُّ ذِي مَقْدِرَةٍ وَمُلْكِ
مُعَرَّضُونَ لِلْفَنَا وَالْهُلْكِ وَفِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
تَبْصِرَةٌ لِكُلِّ ذِي اعْتِبَارِ وَالْمُلْكُ لِلْجَبَّارِ فِي بِلَادِهِ
يُورِثُهُ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَلِلْفَنَاءِ
وَكُلُّ مُلْكٍ فَإِلَى انْتِهَاءِ وَلَا يَدُومُ غَيْرُ مُلْكِ الْبَارِي
سُبْحَانَهُ مِنْ مَلِكٍ قَهَّارِ مُنْفَرِدٍ بِالْعِزِّ وَالْبَقَاءِ
وَمَا سِوَاهُ فَإِلَى انْقِضَاءِ أَوَّلُ مَنْ بُويِعَ بِالْخِلَافَهْ
بَعْدَ النَّبِيِّ ابْنُ أَبِي قُحَافَهْ أَعْنِي الْإِمَامَ الْعَادِلَ
الصِّدِّيقَا
ثُمَّ ارْتَضَى مِنْ بَعْدِهِ الْفَارُوقَا فَفَتَحَ الْبِلَادَ
وَاسْتَأْصَلَتْ سُيُوفُهُ الْكُفَّارَا وَقَامَ بِالْعَدْلِ قِيَامًا يُرْضِي
بِذَاكَ جَبَّارَ السَّمَا وَالْأَرْضِ وَرَضِيَ النَّاسُ بِذِي النُّورَيْنِ
ثُمَّ عَلِيٍّ وَالِدِ السِّبْطَيْنِ ثُمَّ أَتَتْ كَتَائِبٌ مَعَ الْحَسَنْ
كَادُوا بِأَنْ يُجَدِّدُوا بِهَا الْفِتَنْ فَأَصْلَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ
كَمَا عَزَا نَبِيُّنَا إِلَيْهِ وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى مُعَاوِيَهْ
وَنَقَلَ الْقِصَّةَ كُلُّ رَاوِيَهْ. فَمَهَّدَ الْمُلْكَ كَمَا يُرِيدُ
وَقَامَ فِيهِ بَعْدَهُ يَزِيدُ ثُمَّ ابْنُهُ وَكَانَ بَرًّا رَاشِدَا
أَعْنِي أَبَا لَيْلَى وَكَانَ زَاهِدَا
فَتَرَكَ
الْإِمْرَةَ لَا عَنْ غلَبَهْ
وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِلَيْهَا طَلِبَهْ وَابْنُ الزُّبَيْرِ بِالْحِجَازِ
يَدْأَبُ
فِي طَلَبِ الْمُلْكِ وَفِيهِ يَنْصَبُ وَبِالشَّآمِ بَايَعُوا مَرْوَانَا
بِحُكْمِ مَنْ يَقُولُ كُنْ فَكَانَا وَلَمْ يَدُمْ فِي الْمُلْكِ غَيْرَ عَامِ
وَعَافَصَتْهُ أَسْهُمُ الْحِمَامِ وَاسْتَوسَقَ الْمُلْكُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ
وَنَارَ نَجْمُ سَعْدِهِ فِي الْفَلَكِ وَكُلُّ مَنْ نَازَعَهُ فِي الْمُلْكِ
خَرَّ صَرِيعًا بِسُيُوفِ الْهُلْكِ فَقَتَلَ الْمُصَعَبَ بِالْعِرَاقِ
وَسَيَّرَ الْحَجَّاجَ ذَا الشِّقَاقِ إِلَى الْحِجَازِ بِسُيُوفِ النِّقَمِ
وَابْنُ الزُّبَيْرِ لَائِذٌ بِالْحَرَمِ فَجَاءَ بَعْدَ قَتْلِهِ بِصَلْبِهِ
وَلَمْ يَخَفْ فِي أَمْرِهِ مِنْ رَبِّهِ وَعِنْدَمَا صَفَتْ لَهُ الْأُمُورُ
تَقَلَّبَتْ لِحِينِهِ الدُّهُورُ ثُمَّ أَتَى مِنْ بَعْدِهِ الْوَلِيدُ
ثُمَّ سُلَيْمَانُ الْفَتَى الرَّشِيدُ ثُمَّ اسْتَفَاضَ فِي الْوَرَى عَدَلُ
عُمَرَ
تَابَعَ أَمْرَ رَبِّهِ كَمَا أَمَرْ وَكَانَ يُدْعَى بِأَشَجِّ الْقَوْمِ
وَذِي الصَّلَاةِ وَالتُّقَى وَالصَّوْمِ فَجَاءَ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَكَفَّ أَهْلَ الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ مُقْتَدِيًا بِسُنَّةِ الرَّسُولِ
وَالرَّاشِدِينَ مِنْ ذَوِي الْعُقُولِ فَجُرِّعَ الْإِسْلَامُ كَأْسَ فَقْدِهِ
وَلَمْ يَرَوْا مِثْلًا لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ثُمَّ يَزِيدُ بَعْدَهُ هِشَامُ
ثُمَّ الْوَلِيدُ فُتَّ مِنْهُ الْهَامُ
ثُمَّ
يَزِيدُ وَهْوَ يُدْعَى النَّاقِصَا
فَجَاءَهُ حِمَامُهُ مُعَافِصَا وَلَمْ تَطُلْ مُدَّةُ. إِبْرَاهِيمَا
وَكَانَ كُلُّ أَمْرِهِ سَقِيمَا وَأَسنَدَ الْمُلْكَ إِلَى مَرْوَانَا
فَكَانَ مِنْ أُمُورِهِ مَا كَانَا وَانْقَرَضَ الْمُلْكُ عَلَى يَدَيْهِ
وَحَادِثُ الدَّهْرِ سَطَا عَلَيْهِ وَقَتْلُهُ قَدْ كَانَ بِالصَّعِيدِ
وَلَمْ تُفِدْهُ كَثْرَةُ الْعَدِيدِ وَكَانَ فِيهِ حَتْفُ آلِ الْحَكَمِ
وَاسْتُنْزِعَتْ عَنْهُمْ ضُرُوبُ النِّعَمِ ثُمَّ أَتَى مُلْكُ بَنِي الْعَبَّاسِ
لَا زَالَ فِينَا ثَابِتَ الْأَسَاسِ وَجَاءَتِ الْبَيْعَةُ مِنْ أَرْضِ الْعَجَمْ
وَقَلَّدَتْ بَيْعَتَهُمْ كُلُّ الْأُمَمْ وَكُلُّ مَنْ نَازَعَهُمْ مِنْ أُمَمِ
خَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَالْفَمِ وَقَدْ ذَكَرْتُ مَنْ تَوَلَّى مِنْهُمُ
حِينَ تَوَلَّى الْقَائِمُ الْمُسْتَعْصِمُ أَوَّلُهُمْ يُنْعَتُ بِالسَّفَّاحِ
وَبَعْدَهُ الْمَنْصُورُ ذُو النَّجَاحِ ثُمَّ أَتَى مِنْ بَعْدِهِ الْمَهْدِيُّ
يَتْلُوهُ مُوسَى الْهَادِيَ الصَّفِيُّ وَجَاءَ هَارُونُ الرَّشِيدُ بَعْدَهُ
ثُمَّ الْأَمِينُ حِينَ ذَاقَ فَقْدَهُ وَقَامَ بَعْدَ قَتْلِهِ الْمَأْمُونُ
وَبَعْدَهُ الْمُعْتَصِمُ الْمَكِينُ وَاسْتُخْلِفَ الْوَاثِقُ بَعْدَ
الْمُعْتَصِمْ
ثُمَّ أَخُوهُ جَعْفَرٌ مُوفِي الذِّمَمْ وَأَخْلَصَ النِّيَّةَ فِي التَّوَكُّلِ
لِلَّهِ ذِي الْعَرْشِ الْقَدِيمِ الْأَوَّلِ فَأَدْحَضَ الْبِدْعَةَ فِي
زَمَانِهِ
وَقَامَتِ السُّنَّةُ فِي أَوَانِهِ
وَلَمْ
يُبَقِّ بِدْعَةً مُضِلَّهْ
وَأَلْبَسَ الْمُعْتَزِلِيَّ ذِلَّهْ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَبَدَا
مَا غَارَ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ أَوْ بَدَا وَعِنْدَمَا اسْتُشْهِدَ قَامَ
الْمُنْتَصِرْ
وَالْمُسْتَعِينُ بَعْدَهُ كَمَا ذُكِرْ وَجَاءَ بَعْدَ مَوْتِهِ الْمُعْتَزُّ
وَالْمُهْتَدِي الْمُكَرَّمُ الْأَعَزُّ وَبَعْدَهُ اسْتَوْلَى وَقَامَ
الْمُعْتَمِدْ
وَمَهَّدَ الْمُلْكَ وَسَاسَ الْمُعْتَضِدْ. وَالْمُكْتَفِي فِي الصُّحُفِ
الْعُلْيَا سُطِرْ
وَبَعْدَهُ سَاسَ الْأُمُورَ الْمُقْتَدِرْ وَاسْتَوْسَقُ الْمُلْكُ بِعِزِّ
الْقَاهِرِ
وَبَعْدَهُ الرَّاضِي أَخُو الْمُفَاخِرِ وَالْمُتَّقِي مِنْ بَعْدُ
وَالْمُسْتَكْفِي
ثُمَّ الْمُطِيعُ مَا بِهِ مِنْ خُلْفِ وَالطَّائِعُ الطَّائِعُ ثُمَّ الْقَادِرُ
وَالْقَائِمُ الزَّاهِدُ وَهْوَ الشَّاكِرُ وَالْمُقْتَدِي مِنْ بَعْدِهِ
الْمُسْتَظْهِرُ
ثُمَّ أَتَى الْمُسْتَرْشِدُ الْمُوَقَّرُ وَبَعْدَهُ الرَّاشِدُ ثُمَّ
الْمُقْتَفِي
وَحِينَ مَاتَ اسْتَنْجَدُوا بِيُوسُفِ وَالْمُسْتَضِي الْعَادِلُ فِي أَفْعَالِهِ
الصَّادِقُ الصَّدُوقُ فِي أَقْوَالِهِ وَالنَّاصِرُ الشَّهْمُ الشَّدِيدُ
الْبَاسِ
وَدَامَ طُولُ مُكْثِهِ فِي النَّاسِ ثُمَّ تَلَاهُ الظَّاهِرُ الْكَرِيمُ
وَعَدْلُهُ كُلٌّ بِهِ عَلِيمُ وَلَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ فِي الْمَمْلَكَهْ
غَيْرَ شُهُورٍ وَاعْتَرَتْهُ الْهَلَكَهْ وَعَهْدُهُ كَانَ إِلَى الْمُسْتَنْصِرِ
الْعَادِلِ الْبَرِّ الْكَرِيمِ الْعُنْصُرِ دَامَ يَسُوسُ النَّاسَ سَبْعَ
عَشَرَهْ
وَأَشْهُرًا بِعَزَمَاتٍ بَرَّهْ ثُمَّ تُوُفِّي عَامَ أَرْبَعِينَا
وَفِي جُمَادَى صَادَفَ الْمَنُونَا
وَبَايَعَ
الْخَلَائِقُ الْمُسْتَعْصِمَا
صَلَّى عَلَيْهِ رَبُّنَا وَسَلَّمَا يَبْعَثُ نُجْبَ الرُّسْلِ فِي الْآفَاقِ
يَقْضُونَ بِالْبَيْعَةِ وَالْوِفَاقِ وَشَرَّفُوا بِذِكْرِهِ الْمَنَابِرَا
وَنَشَرُوا مِنْ جُودِهِ الْمَفَاخِرَا وَسَارَ فِي الْآفَاقِ حُسْنُ سِيرَتِهْ
وَعَدْلُهُ الزَّائِدُ فِي رَعِيَّتِهْ
قَالَ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ ابْنُ كَثِيرٍ: ثُمَّ قُلْتُ أَنَا بَعْدَ
ذَلِكَ أَبْيَاتًا:
ثُمَّ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بَعْدُ بِالتَّتَارِ أَتْبَاعِ جِنْكِزْخَانٍ
الْجَبَّارِ
صُحْبَةَ إِبْنِ ابْنِ لَهُ هُولَاكُو فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِهِ فِكَاكُ
فَمَزَّقُوا جُنُودَهُ وَشَمْلَهُ وَقَتَلُوهُ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ
وَدَمَّرُوا بَغْدَادَ وَالْبِلَادَا وَقَتَّلُوا الْأَحْفَادَ وَالْأَجْدَادَا
وَانْتَهَبُوا الْمَالَ مَعَ الْحَرِيمِ وَلَمْ يَخَافُوا سَطْوَةَ الْعَظِيمِ
وَغَرَّهُمْ إِنْظَارُهُ وَحِلْمُهُ وَمَا اقْتَضَاهُ عَدْلُهُ وَحُكْمُهُ
وَشَغَرَتْ مِنْ بَعْدِهِ الْخِلَافَهْ وَلَمْ يُؤَرَّخْ مِثْلُهَا مِنْ آفَهْ
ثُمَّ أَقَامَ الْمَلْكُ أَعْنِي الظَّاهِرَا خَلِيفَةً أَعْنِي بِهِ
الْمُسْتَنْصِرَا
ثُمَّ وَلِي مِنْ بَعْدِ ذَاكَ الْحَاكِمُ قَسِيمُ بِيبَرْسَ الْإِمَامُ
الْعَالِمُ
ثُمَّ ابْنُهُ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَكْفِي وَبَعْضُ هَذَا لِلَّبِيبِ يَكْفِي
ثُمَّ وَلِي مِنْ بَعْدِهِ جَمَاعَهْ مَا عِنْدَهُمْ عِلْمٌ وَلَا بِضَاعَهْ
ثُمَّ
خَلِيفَةُ الْوَقْتِ الْمُعْتَضِدْ وَلَا يَكَادُ الدَّهْرُ مِثْلَهُ يَجِدْ
فِي حُسْنِ خُلْقٍ وَاعْتِقَادٍ وَحِلَى وَكَيْفَ لَا وَهْوَ مِنَ الشُّمِّ
الْأُلَى
سَادُوا الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ فَضْلَا وَمَلَأُوا الْأَقْطَارَ حِكَمًا
وَعَدْلًا
أَوْلَادِ عَمِّ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدِ وَأَفْضَلِ الْخَلْقِ بِلَا تَرَدُّدِ
صَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ ذُو الْجَلَالِ مَا دَامَتِ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي
فَصْلٌ
وَالْفَاطِمِيُّونَ قَلِيلُو الْعُدَّهْ لَكِنَّهُمْ مُدَّ لَهُمْ فِي الْمُدَّهْ
فَمَلَكُوا بِضْعًا وَسِتِّينَ سَنَهْ
مِنْ بَعْدِ مِائَتَيْنِ وَكَانَتْ كَالسِّنَهْ وَالْعِدَّةُ ارْبَعَ عَشْرَةَ
الْمَهْدِيُّ
وَالْقَائِمُ الْمَنْصُورُ وَالْمَعْدِيُّ أَعْنِي بِهِ الْمُعِزَّ بَانِي
الْقَاهِرَهْ
ثُمَّ الْعَزِيزُ الْحَاكِمُ الْكَوَافِرَهْ وَالظَّاهِرُ الْمُسْتَنْصِرُ
الْمُسْتَعْلِي
وَالْآمِرُ الْحَافِظُ سُوءَ الْفِعْلِ وَالظَّافِرُ الْفَائِزُ ثُمَّ الْعَاضِدُ
آخِرُهُمْ وَمَا لِهَذَا جَاحِدُ أُهْلِكَ بَعْدَ الْبِضْعِ وَالسِّتِّينَا
مِنْ قَبْلِهَا خَمْسُمِائَةٍ سِنِينَا وَقَدْ رَقَمْتُ الْعُمُرَ فَوْقَ الْاسْمِ
وَمُدَّةَ الدَّوْلَةِ تَحْتَ الرَّسْمِ وَقَدْ بَسَطْنَا ذَاكَ فِيمَا سَلَفَا
وَأَصْلُهُمْ يَهُودُ مَا هُمْ شُرَفَا
بِذَاكَ
أَفْتَى السَّادَةُ الْأَئِمَّهْ
أَنْصَارُ دِينِ اللَّهِ مِنْ ذِي الْأُمَّهْ
فَصْلٌ
وَهَكَذَا خُلْفَا بَنِي أُمَيَّهْ عِدَّتُهُمْ كَعِدَّةِ الرَّفْضِيَّهْ وَلَكِنِ
الْمُدَّةُ كَانَتْ نَاقِصَهْ
عَنْ مِائَةٍ مِنَ السِّنِينَ خَالِصَهْ وَكُلُّهُمْ قَدْ كَانَ نَاصِبِيَّا
إِلَّا الْإِمَامَ عُمَرَ التَّقِيَّا مُعَاوِيَهْ ثُمَّ ابْنُهُ يَزِيدُ
وَابْنُ ابْنِهِ مُعَاوِيَ السَّدِيدُ مَرْوَانُ ثُمَّ ابْنٌ لَهُ عَبْدُ
الْمَلِكْ
مُنَابِذٌ لِابْنِ الزُّبَيْرِ حَتَّى هَلَكْ ثُمَّ اسْتَقَلَّ بَعْدَهُ
بِالْمُلْكِ
فِي سَائِرِ الْأَرْضِ بِغَيْرِ شَكِّ ثُمَّ الْوَلِيدُ النَّجْلُ بَانِي
الْجَامِعِ
وَلَيْسَ مِثْلُ شَكْلِهِ مِنْ جَامِعِ ثُمَّ سُلَيْمَانُ الْجَوَادُ وَعُمَرْ
ثُمَّ يَزِيدُ وَهِشَامٌ وَغُدَرْ أَعْنِي الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ الْفَاسِقَا
ثُمَّ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَائِقَا يُلَقَّبُ النَّاقِصَ وَهْوُ كَامِلُ
ثُمَّتُ إِبْرَاهِيمُ وَهْوَ عَاقِلُ ثُمَّ مَرْوَانُ الْحِمَارُ الْجَعْدِي
آخِرُهُمْ فَاظْفَرْ بِذَا مِنْ بَعْدِي
وَمِمَّنْ قُتِلَ مَعَ الْخَلِيفَةِ وَاقِفُ الْجَوْزِيَّةِ بِدِمَشْقَ أُسْتَاذُ دَارِ الْخِلَافَةِ الصَّاحِبُ مُحْيِي الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الْقُرَشِيُّ التَّيْمِيُّ الْبَكْرِيُّ الْبَغْدَادِيُّ الْحَنْبَلِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجَوْزِيِّ، وُلِدَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةِ، وَنَشَأَ شَابًّا حَسَنًا، وَحِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهُ وَعَظَ فِي مَوْضِعِهِ، فَأَحْسَنَ وَأَجَادَ وَأَفَادَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ وَوَلِيَ حِسْبَةَ بَغْدَادَ مَعَ الْوَعْظِ الرَّائِقِ وَالْأَشْعَارِ الْحَسَنَةِ الْفَائِقَةِ، وَوَلِيَ تَدْرِيسِ الْحَنَابِلَةِ بِالْمُسْتَنْصِرِيَّةِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ تَدَارِيسُ أُخَرُ، ثُمَّ لَمَّا وَلِيَ مُؤَيِّدُ الدِّينِ بْنُ الْعَلْقَمِيِّ الْوِزَارَةَ وَشَغْرَ عَنْهُ الْأُسْتَاذْدَارِيَّةَ وَلَيَهَا مُحْيِي الدِّينِ هَذَا، وَانْتَصَبَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِلْحِسْبَةِ وَالْوَعْظِ، فَأَجَادَ فِيهَا، وَشَعَرَ أَيْضًا حَسَنًا، ثُمَّ كَانَتِ الْحِسْبَةُ تَتَنَقَّلُ فِي بَنِيهِ الثَّلَاثَةِ; جَمَالِ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَشَرَفِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ، وَتَاجِ الدِّينِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، وَقَدْ قُتِلُوا مَعَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَلِمُحْيِي الدِّينِ هَذَا مُصَنَّفٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ ابْنُ السَّاعِي أَشْعَارًا حَسَنَةً يُهَنِّئُ بِهَا الْخَلِيفَةَ فِي الْمَوَاسِمِ وَالْأَعْيَادِ تَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةٍ تَامَّةٍ وَفَصَاحَةٍ بَالِغَةٍ، وَقَدْ وَقَفَ الْمَدْرَسَةَ الْجَوْزِيَّةَ بِدِمَشْقَ، وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ الْمَدَارِسِ وَأَوْجَهِهَا، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ وَأَثَابَهُ بِرَحْمَتِهِ.
الصَّرْصَرِيُّ
الْمَادِحُ: يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَحْيَى بْنِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعَمِّرِ
بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْبَارِعُ، جَمَالُ الدِّينِ أَبُو
زَكَرِيَّا الصَّرْصَرِيُّ، الشَّاعِرُ الْمَادِحُ الْحَنْبَلِيُّ الضَّرِيرُ
الْبَغْدَادِيُّ، وَشِعْرُهُ فِي مَدَائِحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْهُورٌ، وَدِيوَانُهُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ غَيْرُ
مَنْكُورٍ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ وَالْفِقْهَ وَاللُّغَةَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ صِحَاحَ
الْجَوْهَرِيِّ بِكَمَالِهَا. وَصَحِبَ الشَّيْخَ عَلِيَّ بْنَ إِدْرِيسَ
تِلْمِيذَ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ، وَكَانَ ذَكِيًّا يَتَوَقَّدُ، يَنْظِمُ
عَلَى الْبَدِيهَةِ سَرِيعًا أَشْيَاءَ حَسَنَةً فَصِيحَةً بَلِيغَةً، وَقَدْ
نَظَمَ الْكَافِيَ لِلشَّيْخِ مُوَفَّقِ الدِّينِ بْنِ قَدَامَةَ، وَمُخْتَصَرَ
الْخِرَقِيِّ، وَأَمَّا مَدَائِحُهُ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَيُقَالُ: إِنَّهَا تَبْلُغُ عِشْرِينَ مُجَلَّدًا. وَلَمَّا دَخَلَ
التَّتَارُ إِلَى بَغْدَادَ دُعِيَ إِلَى دَارٍ بِهَا فَرَمَانٌ مِنْ هُولَاكُو
فَأَبَى أَنْ يُجِيبَ إِلَيْهِ، وَأَعَدَّ فِي دَارِهِ حِجَارَةً، فَحِينَ دَخَلَ
عَلَيْهِ التَّتَارُ رَمَاهُمْ بِتِلْكَ الْأَحْجَارِ، فَهَشَّمَ مِنْهُمْ
جَمَاعَةً، فَلَمَّا خَلَصُوا إِلَيْهِ قَتَلَ بِعُكَّازِهِ أَحَدَهُمْ، ثُمَّ
قَتَلُوهُ شَهِيدًا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَلَهُ مِنَ
الْعُمُرِ ثَمَانٍ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ الشَّيْخُ قُطْبُ
الدِّينِ
الْيُونِينِيُّ مِنْ دِيوَانِهِ قِطْعَةً صَالِحَةً فِي تَرْجَمَتِهِ فِي
الذَّيْلِ، اسْتَوْعَبَ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ كُلَّهَا، وَذَكَرَ قَصَائِدَ
طِوَالًا كَثِيرَةً حَسَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْبَهَاءُ زُهَيْرٌ صَاحِبُ الدِّيوَانِ
وَهُوَ زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
جَعْفَرِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عَاصِمِ الْمُهَلَّبِيُّ الْعَتَكِيُّ الْمِصْرِيُّ،
وُلِدَ بِمَكَّةَ، وَنَشَأَ بِقُوصَ، وَأَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ، الشَّاعِرُ
الْمُطَبِّقُ، الْكَاتِبُ الْجَوَّادُ فِي حُسْنِ الْخَطِّ، لَهُ دِيوَانٌ
مَشْهُورٌ، وَقَدِمَ عَلَى السُّلْطَانِ الصَّالِحِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ،
وَكَانَ غَزِيرَ الْمُرُوءَةِ، حَسَنَ التَّوَسُّطِ فِي إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَى النَّاسِ،
وَدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُمْ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ
بْنُ خَلِّكَانَ، وَقَالَ: أَجَازَ لِي رِوَايَةَ دِيوَانِهِ، وَقَدْ بَسَطَ
تَرْجَمَتَهُ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ.
الْحَافِظُ زَكِّيُ الدِّينِ الْمُنْذِرِيُّ عَبْدُ الْعَظِيمِ بْنُ عَبْدِ
الْقَوِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ
الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ زَكِيُّ الدِّينِ
الْمُنْذِرِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمِصْرِيُّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الشَّامِ،
وَلَكِنَّهُ وُلِدَ بِمِصْرَ، وَكَانَ شَيْخَ الْحَدِيثِ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً،
إِلَيْهِ الْوِفَادَةُ وَالرِّحْلَةُ مِنْ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةٍ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ
وُلِدَ
بِالشَّامِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَرَحَلَ وَطَلَبَ وَعُنِيَ بِهَذَا الشَّأْنِ، حَتَّى فَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ
فِيهِ، وَصَنَّفَ وَخَرَّجَ، وَاخْتَصَرَ صَحِيحَ مُسْلِمٍ، وَسُنَنَ أَبِي
دَاوُدَ، وَهُوَ أَحْسَنُ اخْتِصَارًا مِنَ الْأَوَّلِ، وَلَهُ يَدٌ طُولَى فِي
اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ وَالتَّارِيخِ، وَكَانَ ثِقَةً حُجَّةً مُتَحَرِّيًا
زَاهِدًا، وَتُوفِّيَ يَوْمَ السَّبْتِ رَابِعَ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ بِدَارِ الْحَدِيثِ الْكَامِلِيَّةِ بِمِصْرَ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
النُّورُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ رُسْتُمَ الْإِسْعَرْدِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ الْخَلِيعُ، كَانَ الْقَاضِي صَدْرُ الدِّينِ بْنُ
سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، قَدْ أَجْلَسَهُ مَعَ الشُّهُودِ تَحْتَ السَّاعَاتِ، ثُمَّ
اسْتَدْعَاهُ النَّاصِرُ صَاحِبُ الْبَلَدِ، وَجَعَلَهُ مِنْ جُلَسَائِهِ
وَنُدَمَائِهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلَعَ الْأَجْنَادِ، فَانْسَلَخَ مِنْ هَذَا
الْفَنِّ إِلَى غَيْرِهِ، وَجَمَعَ كِتَابًا سَمَّاهُ " الزَّرْجُونْ فِي
الْخَلَاعَةِ وَالْمُجُونْ " وَذَكَرَ فِيهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنَ النَّظْمِ
وَالنَّثْرِ فِي الْخَلَاعَةِ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
لَذَّةُ الْعُمُرِ خَمْسَةٌ فَاقْتَنِيهَا مِنْ خَلِيعٍ غَدَا أَدِيبًا فَقِيهَا
فِي نَدِيمٍ وَقَيْنَةٍ وَحَبِيبٍ وَمُدَامٍ وَسَبِّ مَنْ لَامَ فِيهَا
الْوَزِيرُ ابْنُ الْعَلْقَمِيِّ الرَّافِضِيُّ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الْوَزِيرُ
مُؤَيِّدُ الدِّينِ أَبُو طَالِبِ بْنُ الْعَلْقَمِيِّ الْبَغْدَادِيُّ
خَدَمَ
فِي أَيَّامِ الْمُسْتَنْصِرِ أُسْتَاذَ دَارِ الْخِلَافَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً،
ثُمَّ اسْتَوْزَرَهُ الْمُسْتَعْصِمُ، وَلَمْ يَكُنْ وَزِيرَ صِدْقٍ، فَإِنَّهُ
كَانَ مِنَ الْفُضَلَاءِ الْأُدَبَاءُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ رَافِضِيًّا خَبِيثًا،
رَدِيءَ الطَّوِيَّةِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ مِنَ
التَّعْظِيمِ وَالْوَجَاهَةِ فِي أَيَّامِ الْمُسْتَعْصِمِ مَا لَمْ يَحْصُلْ
لِكَثِيرٍ مِمَّنْ قَبْلَهُ مِنَ الْوُزَرَاءِ، ثُمَّ مَالَأَ عَلَى الْإِسْلَامِ
وَأَهْلِهِ لِلتَّتَارِ أَصْحَابِ هُولَاكُوقَانَ، حَتَّى جَاءُوا فَجَاسُوا
خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ أَمْرًا مَفْعُولًا، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ مِنَ
الْإِهَانَةِ فِي أَيَّامِهِمْ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ وَزَوَالِ سِتْرِ
اللَّهِ، مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، رَأَتْهُ امْرَأَةٌ وَهُوَ رَاكِبٌ فِي
أَيَّامِ التَّتَارِ بِرْذَوْنًا، وَسَائِقٌ يَضْرِبُ فَرَسَهُ، فَوَقَفَتْ إِلَى
جَانِبِهِ وَقَالَتْ: يَا ابْنَ الْعَلْقَمِيِّ، هَكَذَا كَانَ بَنُو الْعَبَّاسِ
يُعَامِلُونَكَ؟ فَوَقَعَتْ كَلِمَتُهَا فِي قَلْبِهِ، وَانْقَطَعَ فِي دَارِهِ
إِلَى أَنْ مَاتَ كَمَدًا فِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَدُفِنَ فِي
قُبُورِ الرَّوَافِضِ، وَقَدْ سَمِعَ بِأُذُنَيْهِ وَرَأَى بِعَيْنَيْهِ مِنَ
الْإِهَانَةِ مِنَ التَّتَارِ وَالْمُسْلِمِينَ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ،
وَتَوَلَّى بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْوِزَارَةَ، ثُمَّ أَخَذَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ سَرِيعًا،
وَقَدْ هَجَاهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ:
يَا فِرْقَةَ الْإِسْلَامِ نُوحُوا وَانْدُبُوا أَسَفًا عَلَى مَا حَلَّ
بِالْمُسْتَعْصِمِ
دَسْتُ الْوَزَارَةِ كَانَ قَبْلَ زَمَانِهِ لِابْنِ الْفُرَاتِ فَصَارَ لِابْنِ
الْعَلْقَمِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَيْدَرَةَ، فَتْحُ
الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْعَدْلِ
مُحْتَسِبُ دِمَشْقَ، كَانَ مِنَ الصُّدُورِ الْمَشْكُورِينَ، حَسَنَ
الطَّرِيقَةِ،
وَجَدُّهُ
الْعَدْلُ نَجِيبُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَيْدَرَةَ،
وَهُوَ وَاقِفُ الْمَدْرَسَةِ الَّتِي بِالزَّبَدَانِيِّ فِي سَنَةِ تِسْعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ.
الْقُرْطُبِيُّ صَاحِبُ " الْمُفْهِمِ فِي شَرْحِ مُسْلِمِ ": أَحْمَدُ
بْنُ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَنْصَارِيُّ
الْقُرْطُبِيُّ الْمَالِكِيُّ
الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ الْمُدَرِّسُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وُلِدَ
بِقُرْطُبَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ
هُنَاكَ، وَاخْتَصَرَ الصَّحِيحَيْنِ، وَشَرَحَ صَحِيحَ مُسْلِمٍ بِكِتَابِهِ
الْمُسَمَّى بِالْمُفْهِمِ، وَفِيهِ أَشْيَاءُ حَسَنَةٌ مُفِيدَةٌ مُحَرَّرَةٌ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْكَمَالُ إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ
أَحَدُ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ، أَخَذَ عَنْهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ
النَّوَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ مُدَرِّسًا بِالرَّوَاحِيَّةِ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْعِمَادُ دَاوُدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ بْنِ
كَامِلٍ أَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو سُلَيْمَانَ الزُّبَيْدِيُّ الْمَقْدِسِيُّ
ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ
خَطِيبُ بَيْتِ الْآبَارِ، وَقَدْ خَطَبَ بِدِمَشْقَ سِتَّ سِنِينَ بَعْدَ
انْفِصَالِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْهَا، وَدَرَّسَ
بِالْغَزَالِيَّةِ، ثُمَّ عُزِلَ وَعَادَ إِلَى بَيْتِ الْآبَارِ، فَمَاتَ بِهَا.
عَلِيُّ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، صَدَرُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ
النَّيَّارِ، شَيْخُ الشُّيُوخِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ أَوَّلًا مُؤَدِّبًا
لِلْإِمَامِ الْمُسْتَعْصِمِ بِاللَّهِ، فَلَمَّا صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ
نَالَ الشَّيْخُ رِفْعَةً عَظِيمَةً وَوَجَاهَةً هَائِلَةً، وَوَلَّاهُ مَشْيَخَةَ
الشُّيُوخِ بِبَغْدَادَ، وَانْتَظَمَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الْأُمُورِ، ثُمَّ
إِنَّهُ ذُبِحَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الْعَابِدُ عَلِيٌّ الْخَبَّازُ
كَانَ لَهُ أَصْحَابٌ وَأَتْبَاعٌ بِبَغْدَادَ، وَلَهُ زَاوِيَةٌ يُزَارُ فِيهَا،
قَتَلَتْهُ التَّتَارُ، وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ بِبَابِ زَاوِيَتِهِ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، حَتَّى أَكَلَتِ الْكِلَابُ مِنْ لَحْمِهِ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ، أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْمَقْدِسِيُّ خَطِيبُ مَرْدَا
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَعَاشَ تِسْعِينَ سَنَةً، وُلِدَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ،
فَسَمِعَ النَّاسُ عَلَيْهِ الْكَثِيرَ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ عَادَ فَمَاتَ
بِبَلَدِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْبَدْرُ لُؤْلُؤٌ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ الْمُلَقَّبُ بِالْمَلِكِ الرَّحِيمِ
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
شَعْبَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَقَدْ مَلَكَ الْمَوْصِلَ نَحْوًا
مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ ذَا عَقْلٍ وَدَهَاءٍ وَمَكْرٍ، لَمْ يَزَلْ
يَعْمَلُ عَلَى أَوْلَادِ أُسْتَاذِهِ حَتَّى أَبَادَهُمْ، وَزَالَتِ الدَّوْلَةُ
الْأَتَابِكِيَّةُ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَلَمَّا انْفَصَلَ هُولَاكُوقَانَ عَنْ
بَغْدَادَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ الْفَظِيعَةِ الْعَظِيمَةِ، سَارَ إِلَى خِدْمَتِهِ
مُتَاقِيًا لَهُ، وَمَعَهُ الْهَدَايَا وَالتُّحَفُ، فَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ،
وَرَجَعَ مِنْ عِنْدِهِ، فَمَكَثَ بِالْمَوْصِلِ أَيَّامًا يَسِيرَةً، ثُمَّ
مَاتَ، وَدُفِنَ بِمَدْرَسَتِهِ الْبَدْرِيَّةِ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ
لِحُسْنِ سِيرَتِهِ وَجَوْدَةِ مَعْدِلَتِهِ، وَقَدْ جَمَعَ لَهُ الشَّيْخُ عِزُّ
الدِّينِ بْنُ الْأَثِيرِ كِتَابَهُ الْمُسَمَّى بِالْكَامِلِ فِي التَّارِيخِ
فَأَجَازَهُ عَلَيْهِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ يُعْطِي لِبَعْضِ
الشُّعَرَاءِ أَلْفَ دِينَارٍ وَنَحْوَهَا، وَقَدْ قَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ
وَلَدُهُ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ.
وَقَدْ كَانَ بَدْرُ الدِّينِ لُؤْلُؤٌ هَذَا أَرْمَنِيًّا اشْتَرَاهُ رَجُلٌ
خَيَّاطٌ، ثُمَّ صَارَ إِلَى الْمَلِكِ نُورِ الدِّينِ أَرَسْلَانَ شَاهِ بْنِ
عِزِّ الدِّينِ مَسْعُودِ بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيِّ آقْسُنْقُرَ
الْأَتَابِكِيِّ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ مَلِيحَ الصُّورَةِ فَحَظِيَ
عِنْدَهُ، وَتَقَدَّمَ فِي دَوْلَتِهِ إِلَى أَنْ صَارَتِ الْكَلِمَةُ دَائِرَةً
عَلَيْهِ، وَالْوُفُودُ مِنْ سَائِرِ جِهَاتِ مُلْكِهِمْ إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّهُ
أَخْنَى عَلَى أَوْلَادِ أُسْتَاذِهِ فَقَتَلَهُمْ غِيلَةً وَاحِدًا بَعْدَ
وَاحِدٍ، إِلَى أَنْ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَاسْتَقَلَّ
بِالْمُلْكِ حِينَئِذٍ، وَصَفَتْ لَهُ الْأُمُورُ وَرَاقَتْ، وَكَانَ يَبْعَثُ فِي
كُلِّ سَنَةٍ إِلَى مَشْهَدِ عَلَيٍّ قِنْدِيلًا زِنَتُهُ أَلْفُ دِينَارٍ، وَقَدْ
بَلَغَ مِنَ الْعُمُرِ قَرِيبًا مِنْ تِسْعِينَ
سَنَةً،
وَكَانَ شَابًّا حَسَنَ الشَّبَابِ، مِنْ نَضَارَةِ وَجْهِهِ، وَحُسْنِ شَكْلِهِ،
وَكَانَتِ الْعَامَّةُ تُلَقِّبُهُ بِقَضِيبِ الذَّهَبِ، وَكَانَ ذَا هِمَّةٍ
عَالِيَةٍ، وَدَاهِيَةً شَدِيدَ الْمَكْرِ، بَعِيدَ الْغَوْرِ.
الْمَلِكُ النَّاصِرُ دَاوُدُ الْمُعَظَّمُ
تَرْجَمَهُ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ فِي تَذْيِيلِهِ عَلَى
الْمِرْآةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَبَسَطَ تَرْجَمَتَهُ جِدًّا، وَمَا جَرَى لَهُ
مِنْ مُبْتَدَأِ أَمْرِهِ إِلَى آخِرِ زَمَانِهِ، وَأَوْرَدَ مِنْ أَشْعَارِهِ
وَأَقْوَالِهِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَفَادَ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي الْحَوَادِثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ،
وَقَدْ مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ مَدِينَةَ دِمَشْقَ وَأَعْمَالَهَا مُدَّةً، ثُمَّ
تَمَالَأَ عَلَيْهِ عَمَّاهُ الْكَامِلُ وَالْأَشْرَفُ وَانْتَزَعَاهَا مِنْ
يَدِهِ، وَعَوَّضَاهُ مِنْهَا الْكَرَكَ وَالصَّلْتَ وَعَجْلُونَ وَنَابُلُسَ،
ثُمَّ ذَهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ يَدِهِ وَصَارَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَاسْتَوْدَعَ
الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَعْصِمَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَدِيعَةً
قِيمَتُهَا مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، فَغَلَّهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ،
وَتَكَرَّرَ وُفُودُهُ إِلَيْهِ وَتَوَسُّلُهُ بِالنَّاسِ فِي رَدِّهَا إِلَيْهِ،
فَلَمْ يُفِدْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَمِنْ أَحْسَنِ مَقَامَاتِ النَّاصِرِ
دُوَادَ; لَمَّا حَضَرَ الدَّرْسَ بِالْمُسْتَنْصِرِيَّةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ
وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَالْخَلِيفَةُ حَاضِرٌ، فَقَامَ الْفَقِيهُ وَجِيهُ
الدِّينِ الْقَيْرَاوَنِيُّ فَامْتَدَحَ الْخَلِيفَةَ بِقَصِيدَةٍ قَالَ فِي
بَعْضِهَا:
لَوْ
كُنْتَ فِي يَوْمِ السَّقِيفَةِ حَاضِرًا كُنْتَ الْمُقَدَّمَ وَالْإِمَامَ
الْأَرْوَعَا
فَقَالَ لَهُ النَّاصِرُ دَاوُدُ: أَخْطَأْتَ; فَقَدْ كَانَ جَدُّ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ الْعَبَّاسُ حَاضِرًا يَوْمَ السَّقِيفَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ
الْمُقَدَّمَ وَالْإِمَامَ الْأَرْوَعَا أَبُو بَكْرِ الصِّدِّيقُ فَقَالَ
الْخَلِيفَةُ: صَدَقَ. وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَنَفَى الْوَجِيهَ الْقَيْرَوَانِيَّ
إِلَى مِصْرَ، فَدَرَّسَ فِي مَدْرَسَةِ الْوَزِيرِ صَفِيِّ الدِّينِ بْنِ شُكْرٍ،
وَكَانَتْ وَفَاةُ النَّاصِرِ دَاوُدَ بِقَرْيَةِ الْبُوَيْضَا مُرَسَّمًا
عَلَيْهِ، وَشَهِدَ جِنَازَتَهُ صَاحِبُ دِمَشْقَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ خَلِيفَةٌ، وَسُلْطَانُ
دِمَشْقَ وَحَلَبَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ الْعَزِيزِ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الظَّاهِرِ غَازِيِّ بْنِ النَّاصِرِ فَاتِحِ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ وَهُوَ وَاقِعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِصْرِيِّينَ، وَقَدْ مَلَّكُوا
نُورَ الدِّينِ عَلِيَّ بْنَ الْمُعِزِّ أَيْبَكَ التُّرْكُمَانِيَّ، وَلَقَّبُوهُ
بِالْمَنْصُورِ، وَقَدْ أَرْسَلَ الْمَلِكُ الْغَاشِمُ هُولَاكُوقَانَ إِلَى
الْمَلِكِ النَّاصِرِ بِدِمَشْقَ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
وَلَدَهُ الْعَزِيزَ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَمَعَهُ هَدَايَا كَثِيرَةٌ وَتُحَفٌ،
فَلَمْ يَحْتَفِلْ بِهِ هُولَاكُو، وَغَضِبَ عَلَى أَبِيهِ إِذْ لَمْ يُقْبِلْ
إِلَيْهِ، وَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَسِيرُ إِلَى بِلَادِهِ بِنَفْسِي. فَانْزَعَجَ
النَّاصِرُ لِذَلِكَ، وَبَعَثَ بِحَرِيمِهِ وَأَهْلِهِ إِلَى الْكَرَكِ
لِيُحَصِّنَهُمْ بِهَا، وَخَافَ أَهْلُ دِمَشْقَ خَوْفًا شَدِيدًا حِينَ
بَلَغَهُمْ أَنَّ التَّتَارَ قَدْ قَطَعُوا الْفُرَاتَ، فَصَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ، وَمَاتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ
وَنُهِبَ آخَرُونَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَأَقْبَلَ هُولَاكُو، فَقَصَدَ الشَّامَ بِجُنُودِهِ وَعَسَاكِرِهِ، وَقَدْ
كَانَتْ مَيَّافَارِقِينَ قَدِ امْتَنَعَتْ عَلَى التَّتَارِ مُدَّةَ سَنَةٍ
وَنِصْفٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَلَدَهُ أَشْمُوطَ، فَافْتَتَحَهَا قَسْرًا،
وَاسْتَنْزَلَ مَلِكَهَا الْكَامِلَ بْنَ الشِّهَابِ غَازِي بْنِ الْعَادِلِ،
فَأَرْسَلَهُ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ مُحَاصَرٌ حَلَبَ، فَقَتَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا بَعْضَ مَمَالِيكِ الْأَشْرَفِ، وَطِيفَ
بِرَأْسِ
الْكَامِلِ فِي الْبِلَادِ، وَدَخَلُوا بِرَأْسِهِ إِلَى دِمَشْقَ، فَنُصِبَ عَلَى
بَابِ الْفَرَادِيسِ الْبَرَّانِيِّ، ثُمَّ دُفِنَ بِمَسْجِدِ الرَّأْسِ دَاخِلَ
بَابِ الْفَرَادِيسِ الْجَوَّانِيِّ، فَنَظَمَ أَبُو شَامَةَ فِي ذَلِكَ قَصِيدَةً
يَذْكُرُ فِيهَا فَضْلَهُ وَجِهَادَهُ، وَشَبَّهَهُ بِالْحُسَيْنِ فِي قَتْلِهِ
مَظْلُومًا، وَدُفِنَ رَأْسُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ.
وَفِيهَا عَمِلَ الْخَوَاجَا نَصِيرُ الدِّينِ الطُّوسِيُّ الرَّصْدَ بِمَدِينَةِ
مَرَاغَةَ وَنَقَلَ إِلَيْهِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ كُتُبِ الْأَوْقَافِ الَّتِي
كَانَتْ بِبَغْدَادَ، وَعَمِلَ دَارَ حِكْمَةٍ فِيهَا فَلَاسِفَةٌ، لِكُلِّ
وَاحِدٍ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَدَارَ طِبٍّ، فِيهَا لِلْحَكِيمِ
فِي الْيَوْمِ دِرْهَمَانِ، وَمَدْرَسَةً، لِكُلِّ فَقِيهٍ فِي الْيَوْمِ
دِرْهَمٌ، وَدَارَ حَدِيثٍ لِكُلِّ مُحَدِّثٍ نِصْفُ دِرْهَمٍ فِي الْيَوْمِ.
وَفِيهَا قَدِمَ الْقَاضِي الْوَزِيرُ كَمَالُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ أَبِي
جَرَادَةَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْعَدِيمِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
رَسُولًا مِنْ صَاحِبِ دِمَشْقَ النَّاصِرِ بْنِ الْعَزِيزِ يَسْتَنْجِدُ
الْمِصْرِيِّينَ عَلَى قِتَالِ التَّتَارِ، بِأَنَّهُمْ قَدِ اقْتَرَبَ
قُدُومُهُمْ إِلَى الشَّامِ وَقَدِ اسْتَوْلَوْا عَلَى بِلَادِ الْجَزِيرَةِ
وَحَرَّانَ وَغَيْرِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَازَ أَشْمُوطُ بْنُ
هُولَاكُو الْفُرَاتَ، وَاقْتَرَبَ مِنْ مَدِينَةِ حَلَبَ، فَعُقِدَ عِنْدَ ذَلِكَ
مَجْلِسٌ بَيْنَ يَدَيِ الْمَنْصُورِ بْنِ الْمُعِزِّ التُّرْكُمَانِيِّ، وَحَضَرَ
قَاضِي مِصْرَ بَدْرُ الدِّينِ السِّنْجَارِيُّ، وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ
عَبْدِ السَّلَامِ، وَأَفَاضُوا الْكَلَامَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَخْذِ شَيْءٍ
مِنْ أَمْوَالِ الْعَامَّةِ لِمُسَاعَدَةِ الْجُنْدِ، وَكَانَتِ الْعُمْدَةَ عَلَى
مَا يَقُولُهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، فَكَانَ
حَاصِلُهُ:
إِذَا لَمْ يَبْقَ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ، وَأَنْفَقْتُمُ الْحَوَائِصَ
الذَّهَبَ وَغَيْرَهَا مِنَ الزِّينَةِ، وَتَسَاوَيْتُمْ أَنْتُمْ وَالْعَامَّةُ
فِي الْمَلَابِسِ سِوَى آلَاتِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْجُنْدِيِّ شَيْءٌ
سِوَى فَرَسِهِ الَّتِي يَرْكَبُهَا، سَاغَ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ
فِي دَفْعِ الْأَعْدَاءِ ; لِأَنَّهُ إِذَا دَهَمَ الْعَدُوُّ وَجَبَ عَلَى
النَّاسِ كَافَّةً أَنْ يَدْفَعُوهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.
وِلَايَةُ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ قُطُزَ
وَفِيهَا قَبَضَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطُزُ عَلَى ابْنِ أُسْتَاذِهِ نُورِ
الدِّينِ عَلِيٍّ الْمُلَقَّبِ بِالْمَنْصُورِ، وَذَلِكَ فِي غَيْبَةِ أَكْثَرِ
الْأُمَرَاءِ مِنْ مَمَالِيكِ أَبِيهِ وَغَيْرِهِمْ فِي الصَّيْدِ، فَأَمْسَكَهُ
وَسَيَّرَهُ مَعَ أُمِّهِ وَابْنَيْهِ وَإِخْوَتِهِ إِلَى بِلَادِ الْأَشْكُرِيِّ،
وَتَسَلْطَنَ هُوَ، وَسَمَّى نَفْسَهُ بِالْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ، وَكَانَ هَذَا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ الَّذِي
يَسَّرَاللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ كَسْرَةَ التَّتَارِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا الَّذِي اعْتَذَرَ بِهِ إِلَى ابْنِ
الْعَدِيمِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَابُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ يُقَاتِلُ
التَّتَارَ، وَهَذَا صَبِيٌّ صَغِيرٌ لَا يَعْرِفُ تَدْبِيرَ الْمَمْلَكَةِ.
وَفِيهَا بَرَزَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَاحِبُ دِمَشْقَ إِلَى وَطْأَةِ بَرْزَةَ
فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ مِنَ
الْجَيْشِ
وَالْمُطَّوِّعَةِ وَالْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَمَّا عَلِمَ ضَعْفَهُمْ عَنْ
مُقَاوَمَةِ الْمَغُولِ، ارْفَضَّ ذَلِكَ الْجَمْعُ، وَلَمْ يَصْبِرْ لَا هُوَ
وَلَا هُمْ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
وَاقِفُ الصَّدْرِيَّةِ الرَّئِيسُ صَدْرُ الدِّينِ أَسْعَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ
أَسْعَدَ بْنِ الْمُنَجَّا بْنِ بَرَكَاتِ بْنِ مُؤَمَّلٍ التَّنُوخِيُّ
الْمَعَرِّيُّ
ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، أَحَدُ الْمُعَدِّلِينَ ذَوِي الْأَمْوَالِ
وَالْمُرُوءَاتِ وَالصَّدَقَاتِ الدَّارَّةِ الْبَارَّةِ، وَقَفَ مَدْرَسَةً
لِلْحَنَابِلَةِ، وَقَبْرُهُ بِهَا إِلَى جَانِبِ تُرْبَةِ الْقَاضِي الْمِصْرِيِّ
فِي رَأْسِ دَرْبِ الرَّيْحَانِ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَقَدْ
وَلِيَ نَظَرَ الْجَامِعِ مُدَّةً، وَقَدِ اسْتَجَدَّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً،
مِنْهَا سُوقُ النَّحَّاسِينَ قِبْلِيَّ الْجَامِعِ، وَنَقَلَ الصَّاغَةَ إِلَى
مَكَانِهَا الْآنَ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ حَيْثُ يُقَالُ لَهَا: الصَّاغَةُ
الْعَتِيقَةُ. وَجَدَّدَ الدَّكَاكِينَ الَّتِي بَيْنَ أَعْمِدَةِ الزِّيَادَةِ،
وَثَمَّرَ لِلْجَامِعِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَكَانَتْ لَهُ صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ،
وَذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ
يَعْمَلُ
صَنْعَةَ الْكِيمْيا، وَأَنَّهُ صَحَّ مَعَهُ عَمَلُ الْفِضَّةِ، وَعِنْدِي أَنَّ
هَذَا لَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّيْخُ يُوسُفُ الْقَمِينِيُّ كَانَ يُعْرَفُ بِالْأَقْمِينِيِّ; لِأَنَّهُ
كَانَ يَسْكُنُ قَمِينَ حَمَّامِ نُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ وَكَانَ يَلْبَسُ
ثِيَابًا طِوَالًا تَحُفُّ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَبُولُ فِي ثِيَابِهِ، وَرَأْسُهُ
مَكْشُوفٌ، وَلَهُ أَحْوَالٌ وَكُشُوفٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ
الْعَوَامِّ وَغَيْرُهُمْ يَعْتَقِدُونَ صَلَاحَهُ وَوِلَايَتَهُ، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكُشُوفَ قَدْ تَصْدُرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ
وَالْكَافِرِ كَمَا كَانَ ابْنُ صَيَّادٍ، وَمِنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، فَلَا
بُدَّ مِنَ اخْتِبَارِ صَاحِبِ الْحَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ
وَافَقَ حَالُهُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، فَهُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ سَوَاءٌ كَاشَفَ
أَمْ لَا، وَمَنْ لَمْ يُوَافِقْ فَلَيْسَ بِرَجُلٍ صَالِحٍ سَوَاءٌ كَاشَفَ أَمْ
لَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ
يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى
تَعْرِضُوا أَمْرَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَلَمَّا مَاتَ دُفِنَ بِتُرْبَةٍ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ بِهِ
شَرْقِيَّ تُرْبَةِ أَبِي عُمَرَ الْمَقْدِسِيِّ
الرَّوَاحِيَّةِ،
وَهِيَ مُزَخْرَفَةٌ، قَدِ اعْتَنَى بِهَا بَعْضُ مَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ فِيهِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَادِسِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَ
الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْجَيْعَانَةُ لَا يَتَجَاسَرُ، أَنْ يَدْخُلَ الْبَلَدَ
وَالْقَمِينِيُّ حَيٌّ، فَيَوْمَ مَاتَ الْأَقْمِينِيُّ دَخَلَهَا وَكَانَ
بِالشَّاغُورِ، وَدَخَلَ الْعَوَامُّ مَعَهُ يَصِيحُونَ وَيَصْرُخُونَ. وَهُمْ
أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ.
الشَّمْسُ عَلِيُّ بْنُ النُّشَبِيِّ الْمُحَدِّثُ
نَابَ فِي الْحِسْبَةِ عَنِ الصَّدْرِ الْبِكْرِيِّ فِي أَيَّامِهِ، وَقَرَأَ
الْكَثِيرَ بِنَفْسِهِ، وَسَمِعَ وَأَسْمَعَ، وَكَتَبَ بِخَطِّهِ كَثِيرًا،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَاسِيُّ شَارِحُ الشَّاطِبِيَّةِ
اشْتُهِرَ بِالْكُنْيَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ الْقَاسِمُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
بِحَلَبَ، وَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْقِرَاءَاتِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَقَدْ أَجَادَ فِي شَرْحِهِ لِلشَّاطِبِيَّةِ وَأَفَادَ، وَاسْتَحْسَنَهُ
الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ
أَبُو
شَامَةَ شَارِحُهَا أَيْضًا.
النَّجْمُ أَخُو الْبَدْرِ مُفَضَّلٌ
وَكَانَ شَيْخَ الْفَاضِلِيَّةِ بِالْكَلَّاسَةِ، وَكَانَ لَهُ إِجَازَةٌ مِنَ
السَّلَفِيِّ.
خَطِيبُ الْعُقَيْبَةِ بَدْرُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ
بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ عَلَى جَدِّهِ، وَكَانَتْ
جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
سَعْدُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ
ذَكَرَهُ أَبُو شَامَةَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي فَضِيلَتِهِ وَأَدَبِهِ
وَشِعْرِهِ، وَذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَتِهِ وَأَدَبٍ وَشِعْرٍ فِيهِ
قُوَّةٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو شَامَةَ وَفَاةَ النَّاصِرِ دَاوُدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقَدْ قَدَّمْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي الَّتِي قَبْلُ.
سَيْفُ الدِّينِ بْنُ صَبِرَةَ
مُتَوَلِّي شُرْطَةِ دِمَشْقَ، ذَكَرَ أَبُو شَامَةَ أَنَّهُ حِينَ مَاتَ جَاءَتْ
حَيَّةٌ فَنَهَشَتْ أَفْخَاذَهُ، وَقِيلَ: إِنَّهَا الْتَفَّتْ فِي أَكْفَانِهِ،
وَأَعْيَى النَّاسَ دَفْعُهَا. قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ نُصَيْرِيًّا
رَافِضِيًّا خَبِيثًا مُدْمِنَ خَمْرٍ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
النَّجِيبُ بْنُ شُقَيْشِقَةَ الدِّمَشْقِيُّ
أَحَدُ الشُّهُودِ بِهَا، لَهُ سَمَاعُ حَدِيثٍ،
وَوَقَفَ
دَارَهُ بِدَرْبِ الْبَانِيَاسِيِّ دَارَ حَدِيثٍ، وَهِيَ الَّتِي كَانَ
يَسْكُنُهَا شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ قَبْلَ انْتِقَالِهِ إِلَى دَارِ
الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَكَانَ ابْنُ شُقَيْشِقَةَ،
وَهُوَ النَّجِيبُ أَبُو الْفَتْحِ نَصَرُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْعِزِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ الشَّيْبَانِيُّ، مَشْهُورًا بِالْكَذِبِ وَرِقَّةِ الدِّينِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَهُوَ أَحَدُ الشُّهُودِ الْمَقْدُوحِ فِيهِمْ وَلَمْ يَكُنْ بِحَالٍ
أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُ. قَالَ: وَقَدْ أَجْلَسَهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ
هِبَةِ اللَّهِ الْمُلَقَّبُ بِالصَّدْرِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ فِي حَالِ
وِلَايَتِهِ الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ، فَأَنْشَدَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
جَلَسَ الشُّقَيْشِقَةُ الشَّقِيُّ لِيَشْهَدَا بِأَبِيكُمَا مَاذَا عَدَا فِيمَا
بَدَا هَلْ زُلْزِلَ الزِّلْزَالُ أَمْ قَدْ أُخْرِجَ الدَّ
جَّالُ أَمْ عُدِمَ الرِّجَالُ ذَوُو الْهُدَى عَجَبًا لِمَحْلُولِ الْعَقِيدَةِ
جَاهِلٍ
بِالشَّرْعِ قَدْ أَذِنُوا لَهُ أَنْ يَقْعُدَا
قَالَ أَبُو شَامَةَ: فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ مَاتَ شَخْصٌ
زِنْدِيقٌ يَتَعَاطَى الْفَلْسَفَةَ وَالنَّظَرَ فِي عِلْمِ الْأَوَائِلِ، وَكَانَ
يَسْكُنُ مَدَارِسَ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَفْسَدَ عَقَائِدَ
جَمَاعَةٍ مِنَ الشَّبَابِ الْمُشْتَغِلِينَ فِيمَا بَلَغَنِي، وَكَانَ
أَبُوهُ يَتَجَاهَرُ بِاسْتِنْقَاصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهُوَ يُعْرَفُ بِابْنِ الْفَخْرِ بْنِ الْبَدِيعِ الْبَنْدَهِيِّ، كَانَ أَبُوهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ تَلَامِذَةِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ ابْنِ خَطِيبِ الرَّيِّ صَاحِبِ الْمُصَنَّفَاتِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ بِيَوْمِ الْخَمِيسِ وَلَيْسَ لِلنَّاسِ خَلِيفَةٌ،
وَمَلِكُ الْعِرَاقَيْنِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ
السُّلْطَانُ هُولَاكُوقَانَ مَلِكُ التَّتَارِ ابْنُ تُولِي بْنِ جِنْكِزْخَانَ،
وَسُلْطَانُ دِيَارِ مِصْرَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطُزُ
مَمْلُوكُ الْمُعِزِّ أَيْبَكَ التُّرْكُمَانِيِّ، وَسُلْطَانُ دِمَشْقَ وَحَلَبَ
الْمَلِكُ النَّاصِرُ بْنُ الْعَزِيزِ بْنِ الظَّاهِرِ غَازِيِّ بْنِ النَّاصِرِ
فَاتِحِ الْقُدْسِ، وَبِلَادِ الْكَرَكِ وًالشُّوبَكِ لِلْمَلِكِ الْمُغِيثِ بْنِ
الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْكَامِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ
بْنِ أَيُّوبَ، وَهُوَ حِزْبٌ مَعَ النَّاصِرِ صَاحِبِ دِمَشْقَ عَلَى
الْمِصْرِيِّينَ، وَمَعَهُمَا الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ
الْبُنْدُقْدَارِيُّ، وَقَدْ عَزَمُوا عَلَى قِتَالِ الْمِصْرِيِّينَ وَأَخْذِ
الْبَلَدِ مِنْهُمْ.
أَخْذُ التَّتَارِ حَلَبَ وَدِمَشْقَ
وَبَيْنَمَا النَّاسُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ
بِقَصْدِ التَّتَارِ بِلَادَ الشَّامِ، إِذْ دَخَلَ جَيْشُ الْمَغُولِ صُحْبَةَ
مَلِكِهِمْ هُولَاكُو، وَجَازُوا الْفُرَاتَ عَلَى جُسُورٍ عَمِلُوهَا، وَوَصَلُوا
إِلَى حَلَبَ فِي ثَانِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَحَاصَرُوهَا سَبْعَةَ
أَيَّامٍ،
ثُمَّ افْتَتَحُوهَا بِالْأَمَانِ، وَغَدَرُوا بِهِمْ، فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا
خَلْقًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ
وَسَبَوُا النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، وَجَرَى عَلَيْهِمْ قَرِيبٌ مِمَّا جَرَى
عَلَى أَهْلِ بَغْدَادَ، فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ
أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِمْ قَلْعَتُهَا شَهْرًا، ثُمَّ تَسَلَّمُوهَا بِالْأَمَانِ،
وَخُرِّبَتْ أَسْوَارُ الْبَلَدِ وَأَسْوَارُ الْقَلْعَةِ، وَبَقِيَتْ حَلَبُ
كَأَنَّهَا حِمَارٌ أَجْرَبُ، وَكَانَ نَائِبُهَا الْمَلِكُ الْمُعَظَّمُ
تَوْرَانْشَاهُ بْنُ صَلَاحِ الدِّينِ، وَكَانَ عَاقِلًا حَازِمًا لَكِنَّهُ لَمْ
يُوَافِقْهُ الْجَيْشُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ وَلَكِنْ سَرِعُوا وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ هُولَاكُو أَرْسَلَ إِلَى
أَهْلِ الْبَلَدِ يَقُولُ لَهُمْ حِينَ قَدِمَ بِجَحَافِلِهِ: نَحْنُ إِنَّمَا
جِئْنَا لِقِتَالِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ بِدِمَشْقَ، وَنَحْنُ نُرِيدُ مِنْكُمْ
أَنْ تَجْعَلُوا بِالْقَلْعَةِ شِحْنَةً، فَإِنْ كَانَتِ النُّصْرَةُ لَنَا
فَالْبِلَادُ كُلُّهَا فِي حُكْمِنَا، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْنَا فَإِنْ شِئْتُمْ
قَبِلْتُمُ الشِّحْنَةَ وَإِنْ شِئْتُمْ أَطْلَقْتُمُوهُ. فَأَجَابُوهُ: مَالَكَ
عِنْدَنَا إِلَّا السَّيْفُ. فَتَعَجَّبَ مِنْ ضَعْفِهِمْ وَجَوَابِهِمْ بِهَذَا،
فَزَحَفَ حِينَئِذٍ إِلَيْهِمْ، وَأَحَاطَ بِالْبَلَدِ، وَكَانَ مَا كَانَ
بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَلَمَّا فُتِحَتْ حَلَبُ أَرْسَلَ صَاحِبُ حَمَاةَ
بِمَفَاتِيحِهَا إِلَيْهِ، فَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا رَجُلًا مِنَ الْعَجَمِ
يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ يُقَالُ لَهُ: خُسْرُوشَاهْ.
فَخَرَّبَ أَسْوَارَهَا كَمَا فُعِلَ بِمَدِينَةِ حَلَبَ.
صِفَةُ
أَخْذِهِمْ لِدِمَشْقَ
وَزَوَالِ مُلْكِهِمْ عَنْهَا سَرِيعًا
أَرْسَلَ هُولَاكُو وَهُوَ نَازِلٌ عَلَى حَلَبَ جَيْشًا مَعَ أَمِيرٍ مِنْ
كِبَارِ دَوْلَتِهِ يُقَالُ لَهُ: كَتْبُغَانُوِينَ. فَوَرَدُوا دِمَشْقَ فِي
آخِرِ صَفَرٍ، فَأَخَذُوهَا سَرِيعًا مِنْ غَيْرِ مُمَانِعَةٍ وَلَا مُدَافِعَةٍ،
بَلْ تَلَقَّاهُمْ كِبَارُهَا بِالرُّحْبِ وَالسَّعَةِ، وَقَدْ كَتَبَ مَعَهُمُ
السُّلْطَانُ هُولَاكُو فَرَمَانَ أَمَانٍ لِأَهْلِ الْبَلَدِ، فَقُرِئَ بِالْمَيْدَانِ
الْأَخْضَرِ، وَنُودِيَ بِهِ فِي الْبَلَدِ، فَأَمِنَ النَّاسُ عَلَى وَجِلٍ أَنْ
يَغْدِرُوا كَمَا فُعِلَ بِأَهْلِ حَلَبَ، هَذَا وَالْقَلْعَةُ مُمْتَنِعَةٌ
مَسْتُورَةٌ، وَفِي أَعَالِيهَا الْمَجَانِيقُ مَنْصُوبَةٌ، وَالْحَالُ شَدِيدَةٌ،
فَأَحْضَرَتِ التَّتَارُ مَجَانِيقَ تُحْمَلُ عَلَى عَجَلٍ وَالْخُيُولُ
تَجُرُّهَا، وَهُمْ رَاكِبُونَ عَلَى الْخَيْلِ، وَأَسْلِحَتُهُمْ تُحْمَلُ عَلَى
أَبْقَارٍ كَثِيرَةٍ، فَنُصِبَ الْمَجَانِيقُ عَلَى الْقَلْعَةِ مِنْ غَرْبِيِّهَا
وَهَدَمُوا حِيطَانًا كَثِيرَةً وَأَخَذُوا حِجَارَتَهَا وَرَمَوْا بِهَا
الْقَلْعَةَ رَمْيًا مُتَوَاتِرًا كَالْمَطَرِ الْمُتَدَارِكِ، فَهَدَمُوا
كَثِيرًا مِنْ أَعَالِيهَا وَشُرُفَاتِهَا، وَتَدَاعَتْ لِلسُّقُوطِ،
فَأَجَابَهُمْ مُتَوَلِّيهَا فِي آخِرِ ذَلِكَ النَّهَارِ لِلْمُصَالَحَةِ،
فَفَتَحُوهَا وَخَرَّبُوا كُلَّ بَدَنَةٍ فِيهَا، وَأَعَالِي بُرُوجِهَا، وَذَلِكَ
فِي الْمُنْتَصَفِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَتَلُوا
الْمُتَوَلِّيَ بِهَا بَدْرَ الدِّينِ بْنَ قَرَاجَا، وَنَقِيبَهَا جَمَالَ
الدِّينِ بْنَ الصَّيْرَفِيِّ الْحَلَبِيَّ، وَسَلَّمُوهَا إِلَى أَمِيرٍ مِنْهُمْ
يُقَالُ لَهُ: إِيلَ سَبَانَ.
وَكَانَ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُعَظِّمًا لِدِينِ النَّصَارَى، فَاجْتَمَعَ
بِهِ أَسَاقِفَتُهُمْ وَقُسُوسُهُمْ، فَعَظَّمَهُمْ جِدًّا وَزَارَ كَنَائِسَهُمْ،
فَصَارَتْ لَهُمْ دَوْلَةٌ وَحَوْلَةٌ وَصَوْلَةٌ
بِسَبَبِهِ،
لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّصَارَى إِلَى
هُولَاكُو بِهَدَايَا وَتُحَفٍ، وَقَدِمُوا مِنْ عِنْدِهِ وَمَعَهُمْ أَمَانٌ;
فَرَمَانٌ مِنْ جِهَتِهِ، وَدَخَلُوا الْبَلَدَ مِنْ بَابِ تَوْمَاءَ وَمَعَهُمْ
صَلِيبٌ مَنْصُوبٌ يَحْمِلُونَهُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، وَهُمْ يُنَادُونَ
بِشِعَارِهِمْ، وَيَقُولُونَ ظَهَرَ الدِّينُ الصَّحِيحُ، دِينُ الْمَسِيحِ.
وَيَذُمُّونَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلَهُ وَمَعَهُمْ أَوَانٍ فِيهَا خَمْرٌ لَا
يَمُرُّونَ عَلَى بَابِ مَسْجِدٍ إِلَّا رَشُّوا عِنْدَهُ خَمْرًا، وَقَمَاقِمَ
مَلْآنَةً خَمْرًا يَرُشُّونَ مِنْهَا عَلَى وُجُوهِ النَّاسِ، وَيَأْمُرُونَ
كُلَّ مَنْ يَجْتَازُونَ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقَاتِ أَنْ يَقُومَ
لِصَلِيبِهِمْ، وَدَخَلُوا مَنْ دَرْبِ الْحَجَرِ، فَوَقَفُوا عِنْدَ رِبَاطِ
الشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ، وَرَشُّوا هُنَالِكَ خَمْرَا، وَكَذَلِكَ عَلَى بَابِ
مَسْجِدِ دَرْبِ الْحَجَرِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَاجْتَازُوا فِي السُّوقِ
حَتَّى وَصَلُوا إِلَى دَرْبِ الرَّيْحَانِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ، فَتَكَاثَرَ عَلَيْهِمُ
الْمُسْلِمُونَ، فَرَدُّوهُمْ إِلَى سُوقِ كَنِيسَةِ مَرْيَمَ، فَوَقَفَ
خَطِيبُهُمْ إِلَى دَكَّةِ دُكَّانٍ فِي عَطْفَةِ السُّوقِ هُنَالِكَ، فَذَكَرَ
فِي خُطْبَتِهِ مَدْحَ دِينِ النَّصَارَى، وَذَمَّ دِينَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلَهُ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثُمَّ وَلَجُوا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى كَنِيسَةِ مَرْيَمَ، وَكَانَتْ بَعْدُ
عَامِرَةً، وَلَكِنْ كَانَ هَذَا سَبَبَ خَرَابِهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَحَكَى الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ فِي " الذَّيْلِ عَلَى الْمِرْآةِ "
أَنَّهُمْ ضَرَبُوا بِالنَّاقُوسِ بِكَنِيسَةِ مَرْيَمَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَذَكَرَ أَنَّهُمْ دَخَلُوا إِلَى الْجَامِعِ بِخَمْرٍ، وَكَانَ مِنْ
نِيَّتِهِمْ إِنْ طَالَتْ مُدَّةُ التَّتَارِ أَنْ يُخَرِّبُوا كَثِيرًا مِنَ
الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا، فَكَفَى اللَّهُ شَرَّهُمْ. وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا فِي
الْبَلَدِ
اجْتَمَعَ قُضَاةُ الْمُسْلِمِينَ وَالشُّهُودُ وَالْفُقَهَاءُ، فَدَخَلُوا
الْقَلْعَةَ يَشْكُونَ هَذَا الْحَالَ إِلَى مُتَسَلِّمِهَا إِيلَ سَبَانَ،
فَأُهِينُوا وَطُرِدُوا، وَقَدَّمَ كَلَامَ رُؤَسَاءِ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ سُلْطَانُ الشَّامِ النَّاصِرُ بْنُ
الْعَزِيزِ، قَدْ أَقَامَ فِي وَطْأَةِ بَرْزَةَ، وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْجُيُوشِ وَالْأُمَرَاءِ وَأَبْنَاءِ الْمُلُوكِ لِيُنَاجِزُوا التَّتَارَ إِنْ
قَدِمُوا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ مِمَّنْ مَعَهُ الْأَمِيرُ بِيبَرْسُ
الْبُنْدُقْدَارِيُّ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْبَحْرِيَّةِ، وَالْكَلِمَةُ بَيْنَ
الْجُيُوشِ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ مُؤْتَلِفَةٍ، لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ.
وَقَدْ عَزَمَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى خَلْعِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ
وَسَجْنِهِ وَمُبَايَعَةِ أَخِيهِ شَقِيقِهِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ عَلِيٍّ،
فَلَمَّا تَنَسَّمَ النَّاصِرُ ذَلِكَ هَرَبَ إِلَى الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ
وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ شَذَرَ مَذَرَ، وَسَاقَ الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ
بِيبَرْسُ الْبُنْدُقْدَارِيُّ فِي أَصْحَابِهِ إِلَى نَاحِيَةِ غَزَّةَ،
فَاسْتَدْعَاهُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ إِلَيْهِ، وَاسْتَقْدَمَهُ
عَلَيْهِ، وَأَقْطَعَهُ قَلْيُوبَ، وَأَنْزَلَهُ بِدَارِ الْوِزَارَةِ، وَعَظُمَ
شَأْنُهُ لَدَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ حَتْفُهُ عَلَى يَدَيْهِ.
وَقْعَةُ عَيْنِ جَالُوتَ
وَاتَّفَقَ وُقُوعُ هَذَا كُلِّهِ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، فَمَا مَضَتْ سِوَى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ حَتَّى جَاءَتِ
الْبِشَارَةُ بِنُصْرَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّتَارِ بِعَيْنِ جَالُوتَ
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ قُطُزَ صَاحِبَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ التَّتَارَ قَدْ فَعَلُوا
بِالشَّامِ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ نَهَبُوا الْبِلَادَ كُلَّهَا حَتَّى وَصَلُوا
إِلَى
غَزَّةَ،
وَقَدْ عَزَمُوا عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدْ عَزَمَ
الْمَلِكُ النَّاصِرُ صَاحِبُ دِمَشْقَ عَلَى الرَّحِيلِ إِلَى مِصْرَ، وَلَيْتَهُ
فَعَلَ. وَكَانَ فِي صُحْبَتِهِ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ صَاحِبُ حَمَاةَ، وَخَلْقٌ
مِنَ الْأُمَرَاءِ وَأَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَى قَطْيَةَ،
وَتَهَيَّأَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ لِلِقَائِهِ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَإِلَى
الْمَنْصُورِ مُسْتَحَثِّينَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ: تَقَدِّمْ حَتَّى نَكُونَ
كَتِفًا وَاحِدًا عَلَى التَّتَارِ.
فَتَخَيَّلَ مِنْ ذَلِكَ وَخَافَ أَنْ يَنْتَصِرَ عَلَيْهِ، فَكَرَّ رَاجِعًا
إِلَى نَاحِيَةِ تِيهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَدَخَلَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ مَعَهُ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَكْرَمَ الْمُظَفَّرُ الْمَلِكَ صَاحِبَ
حَمَاةَ، وَوَعَدَهُ بِبَلَدِهِ، وَوَفَّى لَهُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَدْخُلِ
النَّاصِرُ وَلَيْتَهُ فَعَلَ، فَإِنَّهُ كَانَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِمَّا صَارَ
إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ خَافَ مِنْهُمْ لِعَدَاوَةٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ،
فَعَدَلَ إِلَى نَاحِيَةِ الْكَرَكِ فَتَحَصَّنَ بِهَا، وَلَيْتَهُ اسْتَمَرَّ
فِيهَا، وَلَكِنَّهُ قَلِقَ، فَرَكِبَ نَحْوَ الْبَرِّيَّةِ - وَلَيْتَهُ ذَهَبَ
فِيهَا - وَاسْتَجَارَ بِبَعْضِ أُمَرَاءِ الْأَعْرَابِ، فَقَصَدَتْهُ التَّتَارُ،
وَأَتْلَفُوا تِلْكَ الدِّيَارَ وَنَهَبُوا مَا هُنَالِكَ مِنَ الْأَمْوَالِ،
وَقَتَلُوا الْكِبَارَ وَالصِّغَارَ، وَهَجَمُوا عَلَى الْأَعْرَابِ الَّتِي
بِتِلْكَ النَّوَاحِي، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَبَوْا مِنْ
نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ، وَقَدِ اقْتَصَّ مِنْهُمُ الْعَرَبُ بَعْدَ ذَلِكَ،
فَأَغَارُوا عَلَى خَيْلِ جِشَارِهِمْ فِي نِصْفِ شَعْبَانَ، فَسَاقُوهَا
بِأَسْرِهَا، فَسَاقَتْ وَرَاءَهُمُ التَّتَارُ، فَلَمْ يُدْرِكُوا مِنْهُمُ
الْغُبَارَ، وَلَا اسْتَرَدُّوا مِنْهُمْ فَرَسًا وَلَا حِمَارًا، وَمَا زَالَ
التَّتَارُ وَرَاءَ النَّاصِرِ حَتَّى أَخَذُوهُ وَأَسَرُوهُ عِنْدَ بِرْكَةِ
زَيْزَاءَ، وَأَرْسَلُوهُ مَعَ وَلَدِهِ الْعَزِيزِ وَهُوَ صَغِيٌرٌ، وَأَخِيهِ
إِلَى مَلِكِهِمْ هُولَاكُو وَهُوَ نَازِلٌ عَلَى حَلَبَ، فَكَانُوا فِي
أَسْرِهِ
حَتَّى قَتَلَهُمْ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُظَفَّرَ لَمَّا بَلَغَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ
التَّتَارِ بِالشَّامِ الْمَحْرُوسَةِ وَأَنَّهُمْ عَازِمُونَ عَلَى الدُّخُولِ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ تَمْهِيدِ مَمْلَكَتِهِمْ بِالشَّامِ
بَادَرَهُمْ هُوَ قَبْلَ أَنْ يُبَادِرُوهُ، وَبَرَزَ إِلَيْهِمْ، أَيَّدَهُ
اللَّهُ تَعَالَى، وَأَقْدَمَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَيْهِ،
فَخَرَجَ بِالْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدِ اجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ
عَلَيْهِ، حَتَّى انْتَهَى بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى
الشَّامِ وَاسْتَيْقَظَ لَهُ عَسْكَرُ الْمَغُولِ، وَعَلَيْهِمْ كَتُبْغَا
نُوِينَ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ فِي الْبِقَاعِ، فَاسْتَشَارَ الْأَشْرَفُ صَاحِبُ
حِمْصَ وَالْقَاضِي مُجِيرُ الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ فِي لِقَاءِ الْمُظَفَّرِ،
فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَا قِبَلَ لَهُ بِالْمُظَفَّرِ حَتَّى
يَسْتَمِدَّ هُولَاكُو، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُنَاجِزَهُ سَرِيعًا، فَصَمَدُوا
إِلَيْهِ، فَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى عَيْنِ جَالُوتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
الْخَامِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا
شَدِيدًا، فَكَانَتِ النُّصْرَةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ،
فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ هَزِيمَةً هَائِلَةً، وَقُتِلَ كَتْبُغَا نُوِينَ
وَجَمَاعَةٌ مِنْ بَنِيهِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَتَلَ كَتْبُغَا نُوِينَ
الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الشَّمْسِيُّ، وَاتَّبَعَهُمُ الْجَيْشُ
الْإِسْلَامِيُّ يَقْتُلُونَهُمْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَفِي كُلِّ مَأْزِقٍ، وَقَدْ
قَاتَلَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ صَاحِبُ حَمَاةَ مَعَ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ فِي
هَذِهِ الْوَقْعَةِ قِتَالًا عَظِيمًا، وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ فَارِسُ الدِّينِ
أَقَطَايَ الْمُسْتَعْرِبُ، وَكَانَ أَتَابِكَ الْعَسْكَرِ، وَقَدْ أُسِرَ مِنْ
جَمَاعَةِ كَتْبُغَا نُوِينَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ بْنُ الْعَزِيزِ بْنِ
الْعَادِلِ، فَأَمَرَ الْمُظَفَّرُ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، وَاسْتَأْمَنَ الْأَشْرَفُ
صَاحِبُ حِمْصَ وَكَانَ مَعَ التَّتَارِ، وَقَدْ جَعَلَهُ هُولَاكُو نَائِبًا
عَلَى الشَّامِ كُلِّهِ، فَأَمَّنَهُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ، وَرَدَّ إِلَيْهِ
حِمْصَ، وَكَذَلِكَ رَدَّ حَمَاةَ إِلَى الْمَنْصُورِ، وَزَادَهُ الْمَعَرَّةَ
وَغَيْرَهَا،
وَأَطْلَقَ سَلَمْيَةَ لِلْأَمِيرِ شَرَفِ الدِّينِ عِيسَى بْنِ مُهَنَّا بْنِ
مَانِعٍ أَمِيرِ الْعَرَبِ، وَاتَّبَعَ الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ
الْبُنْدُقْدَارِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشُّجْعَانِ التَّتَارَ يَقْتُلُونَهُمْ
فِي كُلِّ مَكَانٍ، إِلَى أَنْ وَصَلُوا خَلْفَهُمْ إِلَى حَلْبَ، وَهَرَبَ مَنْ
بِدِمَشْقَ مِنْهُمْ، وَكَانَ هَرَبُهُمْ مِنْهَا يَوْمَ الْأَحَدِ السَّابِعَ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ صَبِيحَةَ النَّصْرِ الَّذِي جَاءَتْ فِيهِ
الْبِشَارَةُ بِالنُّصْرَةِ عَلَى عَيْنِ جَالُوتَ، فَتَبِعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ
مِنْ دِمَشْقَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ وَيَنْهَبُونَ الْأَمْوَالَ فِيهِمْ،
وَيَسْتَفِكُّونَ الْأُسَارَى مِنْ أَيْدِيهِمْ قَهْرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَنُ عَلَى جَبْرِهِ الْإِسْلَامَ، وَمُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمْ بِلُطْفِهِ
الْحَسَنِ.
وَجَاءَتْ بِذَلِكَ الْبِشَارَةُ السَّارَّةُ، فَجَاوَبَتْهَا الْبَشَائِرُ مِنَ
الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ وَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمئِذٍ بِنَصْرِ اللَّهِ
فَرَحًا شَدِيدًا، وَأَيْدَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ تَأْيِيدًا، وَكُبِتَ
أَعْدَاءُ اللَّهِ النَّصَارَى وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ، وَظَهَرَ دِينُ
اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ، وَنَصَرَ اللَّهُ دِينَهُ وَنَبِيَّهُ وَلَوْ كَرِهَ
الْكَافِرُونَ.
فَتَبَادَرَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى كَنِيسَةِ النَّصَارَى الَّتِي
خَرَجَ مِنْهَا الصَّلِيبُ، فَانْتَهَبُوا مَا فِيهَا وَأَحْرَقُوهَا وَأَلْقَوُا
النَّارَ فِيمَا حَوْلَهَا، فَاحْتَرَقَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ لِلنَّصَارَى، وَمَلَأَ
اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، وَأَحْرَقَ بَعْضَ كَنِيسَةِ
الْيَعَاقِبَةِ، وَهَمَّتْ طَائِفَةٌ بِنَهْبِ الْيَهُودِ، فَقِيلَ لَهُمْ:
إِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فِيمَا ظَهَرَ مِنَ الطُّغْيَانِ كَمَا كَانَ
عَلَى عَبَدَةِ الصُّلْبَانِ. وَقَتَلَتِ الْعَامَّةُ فِي وَسَطِ الْجَامِعِ
شَيْخًا رَافِضِيًّا كَانَ مُصَانِعًا لِلتَّتَارِ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ
يُقَالُ لَهُ: الْفَخْرُ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْكَنْجِيُّ. كَانَ خَبِيثَ
الطَّوِيَّةِ مَشْرِقِيًّا مُمَالِئًا لَهُمْ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ،
قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِثْلَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ
الْمُمَالِئَيْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الْأَنْعَامِ: 45 ].
وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ هُولَاكُو أَرْسَلَ تَقْلِيدًا بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ
عَلَى جَمِيعِ الْمَدَائِنِ;
الشَّامِ
وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ وَمَارِدِينَ وَمَيَّافَارِقِينَ وَالْأَكْرَادِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِلْقَاضِي كَمَالِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ بُنْدَارٍ
التَّفْلِيسِيِّ. وَقَدْ كَانَ نَائِبَ الْحُكْمِ بِدِمَشْقَ عَنِ الْقَاضِي
صَدَرِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ سَنِيِّ
الدَّوْلَةِ مِنْ مُدَّةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَحِينَ وَصَلَ التَّقْلِيدُ
فِي سَادِسٍ وَ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُرِئَ بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ،
فَاسْتَقَلَّ بِالْحُكْمِ فِي دِمَشْقَ، وَكَانَ مِنَ الْفُضَلَاءِ، فَسَارَ
الْقَاضِيَانِ الْمَعْزُولَانِ صَدْرُ الدِّينِ بْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ
وَمُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ هُولَاكُو إِلَى
الْبِلَادِ الْحَلَبِيَّةِ، فَخَدَعَ ابْنُ الزَّكِيِّ لِابْنِ سَنِيِّ
الدَّوْلَةِ وَبَذَلَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ
وَرَجَعَا، فَمَاتَ ابْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ بِبَعْلَبَكَّ، وَقَدِمَ ابْنُ
الزَّكِيِّ عَلَى الْقَضَاءِ، وَمَعَهُ تَقْلِيدُهُ وَخِلْعَةٌ مُذَهَّبَةٌ،
فَلَبِسَهَا وَجَلَسَ فِي خِدْمَةِ إِيلَ سَبَانَ تَحْتَ قُبَّةِ النَّسْرِ عِنْدَ
الْبَابِ الْكَبِيرِ، وَبَيْنَهُمَا الْخَاتُونُ زَوْجَةُ إِيلْ سَبَانَ حَاسِرَةً
عَنْ وَجْهِهَا، وَقُرِئَ التَّقْلِيدُ هُنَالِكَ وَالْحَالُ كَذَلِكَ، وَحِينَ
ذُكِرَ اسْمُ هُولَاكُو لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، نُثِرَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ
فَوْقَ رُؤْسِ النَّاسِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، قَبَّحَ
اللَّهُ ذَلِكَ الْقَاضِيَ وَالْأَمِيرَ وَالزَّوْجَةَ وَالسُّلْطَانَ.
وَذَكَرَ أَبُو شَامَةَ أَيْضًا أَنَّهُ اسْتَحْوَذَ عَلَى مَدَارِسَ كَثِيرَةٍ
فِي مُدَّتِهِ هَذِهِ الْقَصِيرَةِ، فَإِنَّهُ عُزِلَ قَبْلَ رَأْسِ الْحَوْلِ
فَأَخَذَ الْعَذْرَاوِيَّةَ وَالسُّلْطَانِيَّةَ وَالْفَلَكِيَّةَ
وَالرُّكْنِيَّةَ وَالْقَيْمُرِيَّةَ وَالْعَزِيزِيَّةَ مَعَ الْمَدْرَسَتَيْنِ
اللَّتَيْنِ كَانَتَا بِيَدِهِ; التَّقَوِيَّةِ وَالْعَزِيزِيَّةِ،
وَأَخَذَ
لِوَلَدِهِ عِيسَى تَدْرِيسَ الْأَمِينِيَّةِ وَمَشْيَخَةِ الشُّيُوخِ، وَأَخَذَ
أَمَّ الصَّالِحِ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ الْعِمَادُ الْمِصْرِيُّ، وَكَذَا
أَخَذَ الشَّامِيَّةَ الْبَرَّانِيَّةَ لِصَاحِبٍ لَهُ، وَاسْتَنَابَ أَخَاهُ
لِأُمِّهِ شِهَابَ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَسْعَدَ بْنِ حُبَيْشٍ فِي
الْقَضَاءِ، وَوَلَّاهُ الرَّوَاحِيَّةَ وَالشَّامِيَّةَ الْبَرَّانِيَّةَ. قَالَ
أَبُو شَامَةَ: مَعَ أَنَّ شَرْطَ وَاقِفِهَا أَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ غَيْرِهَا.
وَلَمَّا رَجَعَتِ الْمَمْلَكَةُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ سَعَى الْقَاضِي مُحْيِي
الدِّينِ وَبَذَلَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً لِيَسْتَمِرَّ فِي الْقَضَاءِ
وَالْمَدَارِسِ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا فِي مُدَّةِ هَذِهِ الشُّهُورِ،
فَلَمْ يَسْتَمِرَّ بَلْ عُزِلَ بِالْقَاضِي نَجْمِ الدِّينِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
صَدْرِ الدِّينِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، فَقُرِئَ تَوْقِيعُهُ بِالْقَضَاءِ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ بِالشُّبَّاكِ الْكَمَالِيِّ مِنْ مَشْهَدِ عُثْمَانَ مِنْ جَامِعِ
دِمَشْقَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا كَسَرَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ عَسَاكِرَ التَّتَارِ بِعَيْنِ
جَالُوتَ سَاقَ وَرَاءَهُمْ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَفَرِحَ
النَّاسُ بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا وَدَعَوْا لَهُ دُعَاءً كَثِيرًا، وَأَقَرَّ
صَاحِبَ حِمْصَ الْمَلِكَ الْأَشْرَفَ عَلَى بَلَدِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَنْصُورَ
صَاحِبَ حَمَاةَ، وَاسْتَرَدَّ حَلَبَ أَيْضًا مِنْ أَيْدِي التَّتَارِ وَعَادَ
الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ، وَمَهَّدَ الْقَوَاعِدَ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ بَيْنَ
يَدَيْهِ الْأَمِيرَ رُكْنَ الدِّينِ بِيبَرْسَ الْبُنْدُقْدَارِيَّ لِيَطْرُدَ
التَّتَارَ وَيَتَسَلَّمَ مَدِينَةَ حَلْبَ، وَوَعَدَهُ بِنِيَابَتِهَا، فَلَمَّا
طَرَدَهُمْ عَنْهَا، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، وَتَسَلَّمَهَا الْمُسْلِمُونَ
اسْتَنَابَ عَلَيْهَا غَيْرَهُ، وَهُوَ عَلَاءُ الدِّينِ ابْنُ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ
وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ الْوَحْشَةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا، وَاقْتَضَتْ
قَتْلَ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ قُطُزَ سَرِيعًا، وَلِلَّهِ الْأَمْرُ.
وَعَزَمَ
الْمُظَفَّرُ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَاسْتَنَابَ
عَلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرَ عَلَمَ الدِّينِ سَنْجَرَ الْحَلَبِيَّ الْكَبِيرَ
وَالْأَمِيرَ مُجِيرَ الدِّينِ بْنَ الْحُسَيْنِ، وَعَزَلَ ابْنَ الزَّكِيِّ عَنْ
قَضَاءِ دِمَشْقَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا نَجْمَ الدِّينِ ابْنَ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ،
ثُمَّ عَادَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالْعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِيَّةُ
فِي خِدْمَتِهِ، وَعُيُونُ الْأَعْيَانِ تَنْظُرُ إِلَيْهِ شَزْرًا مِنْ شِدَّةِ
هَيْبَتِهِ.
ذَكْرُ سَلْطَنَةِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْأَسَدُ الضَّارِي بِيبَرْسُ
الْبِنْدِقْدَارِيُّ
وَذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ قُطُزَ لَمَّا عَادَ
بِالْعَسَاكِرِ قَاصِدًا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَوَصَلَ إِلَى مَا بَيْنَ
الْغُرَابِيِّ وَالصَّالِحِيَّةِ، عَدَا عَلَيْهِ الْأُمَرَاءُ، فَقَتَلُوهُ
هُنَالِكَ وَقَدْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، كَثِيرَ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ،
وَلَا يَتَعَاطَى الشَّرَابَ وَلَا شَيْئًا مِمَّا يَتَعَاطَاهُ الْمُلُوكُ،
وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ مِنْ حِينَ عَزَلَ ابْنَ أُسْتَاذِهِ الْمَنْصُورَ
عَلِيَّ بْنَ الْمُعِزِّ التُّرْكُمَانِيَّ إِلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهِيَ
أَوَاخِرُ ذِي الْقَعْدَةِ نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَجَزَاهُ عَنِ
الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ خَيْرًا.
وَكَانَ الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ الْبُنْدُقْدَارِيُّ قَدِ اتَّفَقَ
مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى قَتْلِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ
الْمَنْزِلَةِ ضَرَبَ دِهْلِيزَهُ، وَسَاقَ خَلْفَ أَرْنَبٍ، وَسَاقَ مَعَهُ
أُولَئِكَ الْأُمَرَاءُ، فَشَفَعَ عِنْدَهُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ فِي شَيْءٍ
فَشَفَّعَهُ، فَأَخَذَ يَدَهُ لِيُقَبِّلَهَا فَأَمْسَكَهَا، وَحَمَلَ عَلَيْهِ
أُولَئِكَ الْأُمَرَاءُ بِالسُّيُوفِ، وَأَلْقَوْهُ عَنْ فَرَسِهِ، وَرَشَقُوهُ
بِالنِّشَابِ حَتَّى أَجْهَزُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ كَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى
الْمُخَيَّمِ، وَبِأَيْدِيهِمُ السُّيُوفُ مُصْلَتَةٌ، فَأَخْبَرُوا مَنْ هُنَاكَ
بِالْخَبَرِ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ:
مَنْ قَتَلَهُ؟ فَقَالَ رُكْنُ الدِّينِ: أَنَا. فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ الْمَلِكُ.
وَقِيلَ: لَمَّا قُتِلَ حَارَ الْأُمَرَاءُ بَيْنَهُمْ فِيمَنْ يُوَلُّونَ
الْمُلْكَ، وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخْشَى غَائِلَةَ ذَلِكَ، وَأَنْ
يُصِيبَهُ مَا أَصَابَ غَيْرَهُ سَرِيعًا، فَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَى أَنْ
بَايَعُوا الْأَمِيرَ رُكْنَ الدِّينِ بِيبَرْسَ الْبُنْدُقْدَارِيَّ، وَلَمْ
يَكُنْ مِنْ أَكَابِرِ الْمُقَدَّمِينَ فِيهِمْ، وَلَكِنْ أَرَادُوا أَنْ
يُجَرِّبُوا فِيهِ، وَلَقَّبُوهُ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ، فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ
الْمَمْلَكَةِ وَحَكَمَهُ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَضُرِبَتِ الطُّبُولُ
وَالْبُوقَاتُ، وَصَفَّرَتِ الشَّبَّابَةُ، وَزَعَقَتِ الشَّاوُوشِيَّةُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَاسْتَعَانَ
بِهِ، ثُمَّ دَخَلَ مِصْرَ وَالْعَسَاكِرُ فِي خِدْمَتِهِ، فَدَخَلَ قَلْعَةَ
الْجَبَلِ، وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهَا، وَحَكَمَ فَعَدَلَ، وَقَطَعَ وَوَصَلَ،
وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، أَقَامَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ لِشِدَّةِ احْتِيَاجِهِمْ
إِلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الشَّدِيدِ وَالْأَمْرِ الْعَسِيرِ، وَكَانَ أَوَّلًا
قَدْ لَقَّبَ نَفْسَهُ بِالْمَلِكِ الْقَاهِرِ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: إِنَّ
هَذَا اللَّقَبَ لَا يُفْلِحُ مَنْ تَلَقَّبَ بِهِ; تَلَقَّبَ بِهِ الْقَاهِرُ
بْنُ الْمُعْتَضِدِ فَلَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ حَتَّى خُلِعَ وَسُمِلَ، وَلُقِّبَ
بِهِ الْقَاهِرُ صَاحِبُ الْمَوْصِلِ، فَسُمَّ فَمَاتَ.
فَعَدَلَ عَنْ هَذَا اللَّقَبِ إِلَى الْمَلِكِ الظَّاهِرِ ثُمَّ شَرَعَ فِي
مَسْكِ مَنْ يَرَى فِي نَفْسِهِ رِئَاسَةً مَنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ حَتَّى
مَهَّدَ الْمُلْكُ كَمَا يُرِيدُ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ هُولَاكُوقَانَ لَمَّا بَلَغَهُ مَا جَرَى عَلَى
جَيْشِهِ بِعَيْنِ جَالُوتَ أَرْسَلَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ جَيْشِهِ إِلَى
بِلَادِ الشَّامِ لِيَسْتَعِيدُوهُ مِنْ أَيْدِي جَيْشِ الْإِسْلَامِ، فَحِيلَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ، وَرَجَعُوا إِلَيْهِ وَهُمْ خَائِبُونَ
خَاسِرُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نَهَضَ إِلَيْهِمُ الْهِزَبْرُ الْكَاسِرُ
وَالسَّيْفُ الْبَاتِرُ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمُؤَيَّدُ الظَّاهِرُ، فَقَدِمَ
إِلَى
دِمَشْقَ
وَأَرْسَلَ الْجُيُوشَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، لِحِفْظِ الثُّغُورِ وَالْمَعَاقِلِ
بِالْأَسْلِحَةِ التَّامَّةِ وَالْجَحَافِلِ، فَلَمْ يَقْدِرِ التَّتَارُ عَلَى
الدُّنُوِّ إِلَيْهِ، وَلَا الْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَوَجَدُوا الدَّوْلَةَ قَدْ
تَغَيَّرَتْ، وَالسَّوَاعِدَ قَدْ شُمِّرَتْ، وَالسُّيُوفَ الْبَوَاتِرَ قَدْ
سُلَّتْ، وَالرِّمَاحَ الْخَطِّيَّةَ قَدِ اعْتُقِلَتْ، وَالْقِسِيَّ قَدْ
وُتِّرَتْ، وَالنِّبَالَ قَدْ حُصِّلَتْ، وَالْخُيُولَ قَدْ ضُمِرَتْ،
وَالطُّبُولَ قَدْ حُصِّلَتْ، وَعِنَايَةَ اللَّهِ بِأَهْلِ بِالشَّامِ قَدْ
تَنَزَّلَتْ، وَرَحْمَتَهُ بِهِمْ قَدْ تَدَارَكَتْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَكَصَتْ
شَيَاطِينُهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَكَرَّتْ رَاجِعَةً الْقَهْقَرَى عَلَى
أَذْنَابِهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ،
وَتَكْمُلُ الْمَسَرَّاتُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَبَعْدَ الْمَمَاتِ.
وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَنَابَ عَلَى
دِمَشْقَ الْأَمِيرَ عَلَمَ الدِّينِ سَنْجَرَ الْحَلَبِيَّ أَحَدَ الْأَتْرَاكِ،
فَلَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ الْمُظَفَّرِ دَخَلَ الْقَلْعَةَ، وَدَعَا لِنَفْسِهِ
وَتَسَمَّى بِالْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ، فَلَمَّا جَاءَتِ الْبَيْعَةُ لِلْمَلِكِ
الظَّاهِرِ خُطَبَ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّادِسَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ،
فَدَعَا الْخَطِيبُ أَوَّلًا لِلْمُجَاهِدِ، ثُمَّ لِلظَّاهِرِ ثَانِيًا،
وَضُرِبَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِمَا مَعًا، ثُمَّ ارْتَفَعَ الْمُجَاهِدُ هَذَا
مِنَ الْبَيْنِ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَدِ اتَّفَقَ فِي هَذَا الْعَامِ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ، وَهِيَ أَنَّ أَوَّلَ
هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتِ الشَّامُ لِلسُّلْطَانِ النَّاصِرِ بْنِ الْعَزِيزِ،
ثُمَّ فِي النِّصْفِ مِنْ صِفْرٍ صَارَتْ لِهُولَاكُوقَانَ مَلِكِ التَّتَارِ،
ثُمَّ فِي آخِرِ رَمَضَانَ صَارَتْ لِلْمُظَفَّرِ قُطُزَ، ثُمَّ فِي أَوَاخِرَ ذِي
الْقَعْدَةِ انْتَقَلَتْ إِلَى مَمْلَكَةِ السُّلْطَانِ الظَّاهِرُ بِيبَرْسُ،
وَقَدْ شَرَكَهُ فِي دِمَشْقَ الْمَلِكُ الْمُجَاهِدُ عَلَمُ الدِّينِ
سَنْجَرُ،
كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ كَانَ الْقَضَاءُ فِي أَوَّلِهَا بِالشَّامِ لِصَدْرِ
الدِّينِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ لِلْكَمَالِ عُمَرَ التَّفْلِيسِيِّ،
ثُمَّ لِمُحْيِي الدِّينِ بْنِ الزَّكِيِّ، ثُمَّ لِنَجْمِ الدِّينِ بْنِ سَنِيِّ
الدَّوْلَةِ. وَكَذَلِكَ كَانَ خَطِيبُ جَامِعِ دِمَشْقَ عِمَادُ الدِّينِ بْنِ
الْحَرَسْتَانِيِّ مِنْ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةٍ، فَعُزِلَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ بِالْعِمَادِ الِإِسْعَرْدِيِّ، وَكَانَ صَيِّتًا قَارِئًا مُجِيدًا،
ثُمَّ أُعِيدَ الْعِمَادُ الْحَرَسْتَانِيُّ فِي أَوَّلِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
فَسُبْحَانَ مَنْ بِيَدِهِ الْأُمُورُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا
يُرِيدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
قَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرُ الدِّينِ بْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ صَدَقَةَ بْنِ الْخَيَّاطِ، قَاضِي
الْقُضَاةِ صَدَرُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ
التَّغْلِبِيُّ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَسَنِيُّ الدَّوْلَةِ هُوَ
الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْمَذْكُورُ كَانَ كَاتِبًا لِبَعْضِ مُلُوكِ دِمَشْقَ
فِي حُدُودِ الْخَمْسِمِائَةِ، وَلَهُ أَوْقَافٌ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ. وَابْنُ
الْخَيَّاطِ الشَّاعِرُ صَاحِبُ الدِّيوَانِ، هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ صَدَقَةَ التَّغْلِبِيُّ، عَمُّ
سَنِيِّ الدَّوْلَةِ.
وُلِدَ الْقَاضِي صَدْرُ الدِّينِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ،
وَسَمِعَ الْخُشُوعِيَّ وَابْنَ طَبَرْزَدَ وَالْكِنْدِيَّ وَغَيْرَهُمْ،
وَحَدَّثَ وَدَرَّسَ فِي عِدَّةِ مَدَارِسَ وَأَفْتَى، وَكَانَ
فَاضِلًا
عَارِفًا بِالْمَذْهَبِ، مَشْكُورَ السِّيرَةِ، وَلَكِنِ الشَّيْخُ شِهَابُ
الدِّينِ أَبُو شَامَةَ يَنَالُ مِنْهُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ بِدِمَشْقَ اسْتِقْلَالًا سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ،
وَاسْتَمَرَّ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، فَسَارَ حِينَ عُزِلَ بِالْكَمَالِ
التَّفْلِيسِيِّ هُوَ وَالْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ إِلَى
هُولَاكُو، ثُمَّ عَادَ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ تَوَلَّى ابْنُ الزَّكِيِّ
الْقَضَاءَ، فَاجْتَازَ ابْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ بِبَعْلَبَكَّ وَهُوَ
مُتَمَرِّضٌ، فَمَاتَ بِهَا وَدُفِنَ عِنْدَ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ
الْيُونِينِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ
يُثْنِي عَلَيْهِ كَمَا كَانَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ يُثْنِي عَلَى وَالِدِهِ
قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ.
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ بِيبَرْسَ وَلَّى
وَلَدَهُ الْقَاضِيَ نَجْمَ الدِّينِ أَبَا بَكْرِ بْنَ قَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرِ
الدِّينِ الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ، وَعَزَلَ ابْنَ الزَّكِيِّ، ثُمَّ عَزَلَهُ
بَعْدَ سَنَةٍ، وَثَنَّى بِابْنِ خَلِّكَانَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ،
وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانِ.
وَالْقَاضِي صَدْرُ الدِّينِ بْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ هَذَا هُوَ الَّذِي
أَحْدَثَ فِي زَمَنِ الْمِشْمِشِ بَطَالَةَ الدُّرُوسِ; لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ
بُسْتَانٌ بِأَرْضِ السَّهْمِ، فَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ النُّزُولُ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ إِلَى الدَّرْسِ، فَبَطَّلَ لِلنَّاسِ هَذِهِ الْأَيَّامَ،
فَاتَّبَعُوهُ فِي ذَلِكَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
صَاحِبُ مَارِدِينَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ
نَجْمُ الدِّينِ بْنُ إِيلْ غَازِي بْنُ
الْمَنْصُورِ
أَرْتُقَ أَرْسَلَانَ بْنِ إِيلْ غَازِي بْنِ أَلْبِيِّ بْنِ تِمِرْتَاشَ بْنِ
إِيلْ غَازِي بْنِ أَرْتُقَ، وَكَانَ شُجَاعًا مُعَظَّمًا، مَلَكَ يَوْمًا فِي
قَلْعَتِهِ.
تَوْرَانْ شَاهِ بْنُ الْمَلِكِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ، كَانَ
نَائِبًا لِلْمَلِكِ النَّاصِرِ بْنِ الْعَزِيزِ بْنِ الظَّاهِرِ بْنِ النَّاصِرِ
عَلَى حَلَبَ حَتَّى تَمَلَّكَ دِمَشْقَ، وَقَدْ حَصَّنَ حَلَبَ مِنْ أَيْدِي
الْمَغُولِ مُدَّةَ شَهْرٍ، ثُمَّ سَلَّمَهَا بَعْدَ مُحَاصَرَةٍ شَدِيدَةٍ
صُلْحًا. ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ بِدِهْلِيزِ
دَارِهِ.
وَفِيهَا قُتِلَ:
الْمَلِكُ السَّعِيدُ حَسَنُ بْنُ الْعَزِيزِ
عُثْمَانَ بْنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ كَانَ صَاحِبَ
الصُّبَيْبَةِ وَبَانِيَاسَ بَعْدَ أَبِيهِ، ثُمَّ أُخِذَتَا مِنْهُ، وَحُبِسَ
بِقَلْعَةِ الْبِيرَةِ، فَلَمَّا جَاءَتِ التَّتَارُ كَانَ مَعَهُمْ، وَرَدُّوا
عَلَيْهِ بِلَادَهُ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ عَيْنِ جَالُوتَ أُتِيَ بِهِ
أَسِيرًا إِلَى بَيْنِ يَدِيِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ قُطُزَ فَضُرِبَ عُنُقُهُ;
لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ لَبِسَ سَرَاقُوجَ التَّتَارِ، وَنَاصَحَهُمْ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ
عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ طَاهِرِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، أَبُو طَالِبٍ شَرَفُ الدِّينِ
بْنُ الْعَجَمِيِّ الْحَلَبِيُّ الشَّافِعِي، مِنْ بَيْتِ الْعِلْمِ
وَالرِّئَاسَةِ بِحَلَبَ، دَرَّسَ بِالظَّاهِرِيَّةِ، وَوَقَفَ مَدْرَسَةً بِهَا،
وَدُفِنَ بِهَا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ حِينَ دَخَلَتِ التَّتَارُ حَلَبَ فِي صَفَرٍ،
فَعَذَّبُوهُ بِأَنْ صَبُّوا عَلَيْهِ مَاءً بَارِدًا فِي الشِّتَاءِ، فَتَشَنَّجَ
حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
سَيْفُ الدِّينِ التُّرْكِيُّ، أَخَصُّ مَمَالِيكِ الْمَلِكِ الْمُعِزِّ
التُّرْكُمَانِيِّ، أَحَدُ مَمَالِيكِ الصَّالِحِ أَيُّوبَ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا
قُتِلَ أُسْتَاذُهُ الْمُعِزُّ قَامَ فِي تَوْلِيَةِ ابْنِ أُسْتَاذِهِ
الْمَنْصُورِ نُورِ الدِّينِ عَلِيٍّ، فَلَمَّا سَمِعَ بِأَمْرِ التَّتَارِ خَافَ
أَنْ تَخْتَلِفَ الْكَلِمَةُ بِسَبَبِ صِغَرِ ابْنِ أُسْتَاذِهِ، فَعَزَلَهُ
وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَبُويِعَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى التَّتَارِ كَمَا تَقَدَّمَ،
فَجَعَلَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ نُصْرَةَ الْإِسْلَامِ كَمَا ذَكَرْنَا بِعَيْنِ
جَالُوتَ، وَقَدْ كَانَ شُجَاعًا بَطَلًا، كَثِيرَ الْخَيْرِ، مُمَالِئًا
لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَهُمْ يُحِبُّونَهُ.
ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بِالْمَعْرَكَةِ يَوْمَ عَيْنِ جَالُوتَ
قُتِلَ جَوَادُهُ، وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ مِنَ
الْوَشَاقِيَّةِ الَّذِينَ مَعَهُمُ الْجَنَائِبُ، فَتَرَجَّلَ وَبَقِيَ وَاقِفًا
كَذَلِكَ عَلَى الْأَرْضِ ثَابِتًا فِي مَحَلِّ الْمَعْرَكَةِ وَمَوْضِعِ
السَّلْطَنَةِ مِنَ الْقَلْبِ، فَلَمَّا رَآهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ تَرَجَّلَ عَنْ
فَرَسِهِ، وَحَلَفَ عَلَى السُّلْطَانِ لِيَرْكَبَ، فَامْتَنَعَ السُّلْطَانُ
وَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَحْرِمَ الْمُسْلِمِينَ نَفْعَكَ.
وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى جَاءَتِ الْوَشَاقِيَّةُ فَرَكِبَ،
فَلَامَهُ
بَعْضُ الْأُمَرَاءِ وَقَالَ: يَا خُونْدُ، لِمَ لَا رَكِبْتَ فَرَسَ فُلَانٍ؟
فَلَوْ كَانَ رَآكَ بَعْضُ الْأَعْدَاءِ لَقَتَلَكَ وَهَلَكَ الْإِسْلَامُ
بِسَبَبِكَ. فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَرُوحُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَمَّا
الْإِسْلَامُ فَلَهُ رَبٌّ لَا يُضَيِّعُهُ، قَدْ قُتِلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ
وَفُلَانٌ - وَعَدَّدَ خَلْقًا مِنَ الْمُلُوكِ - فَلَمْ يُضَيِّعِ اللَّهُ
الْإِسْلَامَ.
وَكَانَ حِينَ سَاقَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي خِدْمَتِهِ خَلْقٌ مِنْ
كِبَارِ الْأُمَرَاءِ الْبَحْرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَعَهُ الْمَنْصُورُ صَاحِبُ
حَمَاةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ حَمَاةَ
يَقُولُ لَهُ: لَا تَتَعَنَّ بِمَدِّ سِمَاطٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلْيَكُنْ
مَعَ الْجُنْدِيِّ لَحْمَةٌ فِي سَوْلَقِهِ يَأْكُلُهَا، وَالْعَجَلَ الْعَجَلَ.
وَكَانَ اجْتِمَاعُهُ مَعَ عَدُوِّهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ
مِنْ رَمَضَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهَذِهِ بِشَارَةٌ
عَظِيمَةٌ، فَإِنَّ وَقْعَةَ بَدْرٍ كَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي رَمَضَانَ،
وَلِهَذَا نُصِرَ الْإِسْلَامُ نَصْرًا عَزِيزًا، وَلَمَّا قَدِمَ دِمَشْقَ فِي
شَوَّالٍ أَقَامَ بِهَا الْعَدْلَ، وَرَتَّبَ الْأُمُورَ كَمَا ذَكَرْنَا،
وَأَرْسَلَ الْأَمِيرَ رُكْنَ الدِّينِ بِيبَرْسَ الْبُنْدُقْدَارِيَّ خَلْفَ
التَّتَارِ لِيُخْرِجَهُمْ وَيَطْرُدَهُمْ عَنْ حَلْبَ وَوَعْدَهُ بِنِيَابَتِهَا،
فَلَمْ يَفِ لَهُ، فَوَقَعَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَلَمَّا
عَادَ الْمُظَفَّرُ قُطُزُ إِلَى مِصْرَ تَمَالَأَ عَلَيْهِ الْبُنْدُقْدَارِيُّ
وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ فَقَتَلُوهُ بَيْنَ الْغُرَابِيِّ
وَالصَّالِحِيَّةِ، وَدُفِنَ بِالْقَصْرِ، وَكَانَ قَبْرُهُ يُزَارُ، فَلَمَّا
تَمَكَّنَ الظَّاهِرُ مِنِ الْمُلْكِ بَعَثَ إِلَى قَبْرِهِ فَغَيَّبَهُ عَنِ
النَّاسِ، فَكَانَ لَا يُعْرَفُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ مَقْتَلُهُ يَوْمَ
السَّبْتِ
سَادِسَ
عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَحَكَى الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ فِي " الذَّيْلِ عَلَى
الْمِرْآةِ " عَنِ الشَّيْخِ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ غَانِمٍ، عَنِ الْمَوْلَى
تَاجِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَثِيرِ كَاتِبِ السِّرِّ فِي أَيَّامِ
النَّاصِرِ صَاحِبِ دِمَشْقَ، قَالَ: لَمَّا كُنَّا مَعَ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ
بِوَطْأَةِ بَرْزَةَ جَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ يُخْبِرُونَ بِأَنَّ الْمُظَفَّرَ
قُطُزَ قَدْ تَوَلَّى السَّلْطَنَةَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَقَرَأْتُ
ذَلِكَ عَلَى السُّلْطَانِ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ فَأَخْبِرْهُمْ
بِهَذَا. قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ لَقِيَنِي بَعْضُ الْأَجْنَادِ
فَقَالَ لِي: جَاءَكُمُ الْخَبَرُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِأَنَّ قُطُزَ
قَدْ تَمَلَّكَ؟ فَقُلْتُ: مَا عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمٌ، وَمَا يُدْرِيكَ أَنْتَ
بِهَذَا؟ فَقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ إِنَّهُ سَيَلِي الْمَمْلَكَةَ، وَيَكْسِرُ
التَّتَارَ. فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْلَمُ هَذَا؟ فَقَالَ: كُنْتُ أَخْدِمُهُ
وَهُوَ صَغِيرٌ، وَكَانَ عَلَيْهِ قَمْلٌ كَثِيرٌ، فَكُنْتُ أَفْلِيهِ
وَأُهِينُهُ، فَقَالَ لِي يَوْمًا: وَيْلَكَ، أَيْشُ تُرِيدُ أَنْ أُعْطِيَكَ
إِذَا مَلَكْتُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ مَجْنُونٌ؟!
فَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمَنَامِ، وَقَالَ لِي: أَنْتَ تَمْلِكُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَتَكَسِرُ
التَّتَارَ. وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ. فَقُلْتُ لَهُ
حِينَئِذٍ - وَكَانَ صَادِقًا -: أُرِيدُ مِنْكَ إِمْرَةَ خَمْسِينَ فَارِسًا.
فَقَالَ: نَعَمٌ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: فَلَمَّا قَالَ لِي هَذَا قُلْتُ: هَذِهِ كُتُبُ
الْمِصْرِيِّينَ بِأَنَّهُ قَدْ تَوَلَّى السَّلْطَنَةَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ
لِيَكْسِرَنَّ التَّتَارَ. فَكَانَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ.
وَلَمَّا رَجَعَ النَّاصِرُ إِلَى نَاحِيَةِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَرَادَ
دُخُولَهَا، وَرَجَعَ عَنْهَا وَدَخَلَهَا أَكْثَرُ الْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ
كَانَ هَذَا الْأَمِيرُ الْحَاكِي فِي جُمْلَةِ مَنْ دَخَلَهَا، فَأَعْطَاهُ
الْمُظَفَّرُ إِمْرَةَ خَمْسِينَ فَارِسًا وَوَفَى لَهُ بِالْوَعْدِ، وَهُوَ
الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ الْبَرَكَةُ خَانِيُّ. قَالَ ابْنُ
الْأَثِيرِ:
فَلَقِيَنِي بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ أَنْ تَأَمَّرَ، فَذَكَّرَنِي
بِمَا كَانَ أَخْبَرَنِي عَنِ الْمُظَفَّرِ فَذَكَرْتُهُ، ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ
التَّتَارِ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا هَلَكَ كَتْبُغَا نُوِينَ نَائِبُ هُولَاكُو عَلَى بِلَادِ الشَّامِ،
لَعَنَهُمَا اللَّهُ، وَمَعْنَى نُوِينَ يَعْنِي أَمِيرَ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَكَانَ
هَذَا الْخَبِيثُ قَدْ فَتَحَ لِأُسْتَاذِهِ هُولَاوُو مِنْ أَقْصَى بِلَادِ
الْعَجَمِ إِلَى الشَّامِ، وَقَدْ أَدْرَكَ جِنْكِزْخَانُ جَدُّ هُولَاوُو، وَقَدْ
كَانَ كَتْبُغَا هَذَا يَعْتَمِدُ فِي حُرُوبِهِ لِلْمُسْلِمِينَ بِبِلَادِ
خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ أَشْيَاءَ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهَا أَحَدٌ، كَانَ إِذَا
فَتَحَ بَلَدًا سَاقَ الْمُقَاتِلَةَ مِنْهُ إِلَى الْبَلَدِ الَّذِي يَلِيهِ،
وَيَطْلُبُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يُئْوُوا هَؤُلَاءِ إِلَيْهِمْ، فَإِنْ
فَعَلُوا حَصَلَ مَقْصُودُهُ فِي تَضْيِيقِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ
عَلَيْهِمْ، فَتَقْصُرُ مُدَّةُ الْحِصَارِ عَلَيْهِ، وَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْ
إِيوَائِهِمْ عِنْدَهُمْ قَاتَلَهُمْ بِهَؤُلَاءِ حَتَّى يَفْنَى هَؤُلَاءِ،
فَإِذَا حَصَلَ الْفَتْحُ وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَضْعَفَ أُولَئِكَ بِهَؤُلَاءِ
ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قِتَالَهُمْ بِمَنْ عِنْدَهُ حَتَّى يَفْتَحَهُ.
وَكَانَ يَبْعَثُ إِلَى الْحِصْنِ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ مَاءَكُمْ قَدْ قَلَّ،
فَافْتَحُوا صُلْحًا قَبْلَ أَنْ نَأْخُذَكُمْ قَسْرًا. فَيَقُولُونَ: إِنَّ
الْمَاءَ عِنْدَنَا كَثِيرٌ فَلَا نَحْتَاجُ إِلَى مَاءٍ. فَيَقُولُ: لَا
أُصَدِّقُ حَتَّى أَبْعَثَ مِنْ عِنْدِي مَنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ
كَثِيرًا انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ. فَيَقُولُونَ ابْعَثْ مَنْ يُشْرِفُ
عَلَى
ذَلِكَ. فَيُرْسِلُ رِجَالًا مِنْ جَيْشِهِ، مَعَهُمْ رِمَاحٌ مُجَوَّفَةٌ
مَحْشُوَّةٌ سَمًّا، فَإِذَا دَخَلُوا سَاطُوا ذَلِكَ الْمَاءَ بِتِلْكَ
الرِّمَاحِ، فَيَنْفَتِحُ ذَلِكَ السُّمُّ وَيَسْتَقِرُّ فِي الْمَاءِ، فَيَكُونُ
سَبَبَ هَلَاكِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، لَعَنَهُ اللَّهُ لَعْنَةً تَدْخُلُ
مَعَهُ فِي قَبْرِهِ. وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أَسَنَّ، وَكَانَ يَمِيلُ
إِلَى دِينِ النَّصَارَى، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْ حُكْمِ
جِنْكِزْخَانَ فِي الْيَاسَاقِ.
قَالَ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ: وَقَدْ رَأَيْتُهُ بِبَعْلَبَكَّ
حِينَ حَاصَرَ قَلْعَتَهَا، وَكَانَ شَيْخًا حَسَنًا، لَهُ لِحَيَّةٌ طَوِيلَةٌ
مُسْتَرْسِلَةٌ رَقِيقَةٌ قَدْ ضَفَّرَهَا مِثْلَ الدَّبُّوقَةِ، وَتَارَةً
يُعَلِّقُهَا فِي حَلَقَةٍ بِأُذُنِهِ، وَكَانَ مَهِيبًا شَدِيدَ السَّطْوَةِ.
قَالَ: وَقَدْ دَخَلَ الْجَامِعَ فَصَعِدَ الْمَنَارَةَ لِيَتَأَمَّلَ الْقَلْعَةَ
مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ الْغَرْبِيِّ، فَدَخَلَ دُكَّانًا خَرَابًا،
فَقَضَى حَاجَتَهُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ،
فَلَمَّا فَرَغَ مَسَحَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِقُطْنٍ مُلَبَّدٍ مَسْحَةً
وَاحِدَةً.
قَالَ: وَلَمَّا بَلَغَهُ خُرُوجُ الْمُظَفَّرِ إِلَيْهِ بِالْعَسَاكِرِ
الْمِصْرِيَّةِ تَلَوَّمَ فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ حَمَلَتْهُ نَفْسُهُ الْأَبِيَّةُ
عَلَى لِقَائِهِمْ، وَظَنَّ أَنَّهُ يَنْتَصِرُ كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُ، فَحَمَلَ
يَوْمئِذٍ عَلَى الْمَيْسَرَةِ فَكَسَرَهَا، ثُمَّ أَيَّدَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ
وَثَبَّتَهُمْ، فَحَمَلُوا حَمْلَةً صَادِقَةً عَلَى التَّتَارِ، فَهَزَمُوهُمْ
هَزِيمَةً لَا تُجْبَرُ أَبَدًا. وَقُتِلَ كَتْبُغَا نُوينَ فِي الْمَعْرَكَةِ،
وَأُسِرَ ابْنُهُ، وَكَانَ شَابًّا حَسَنًا، فَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدِيِ
الْمُظَفَّرِ قُطُزَ، فَقَالَ لَهُ: أَهَرَبَ أَبُوكَ؟ قَالَ إِنَّهُ لَا
يَهْرُبُ، فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ بَيْنَ الْقَتْلَى، فَلَمَّا رَآهُ ابْنُهُ
صَرَخَ وَبَكَى، فَلَمَّا تَحَقَّقَهُ
الْمُظَفَّرُ
قَالَ: نَامَ طَيِّبًا، كَانَ هَذَا سَعَادَةُ التَّتَارِ وَبِقَتْلِهِ ذَهَبَ
سَعْدُهُمْ. وَهَكَذَا كَانَ كَمَا قَالَ، وَلَمْ يُفْلِحُوا بَعْدَهُ أَبَدًا،
وَكَانَ قَتْلُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْخَامِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ،
لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَ كَتْبُغَا نُوينَ الْأَمِيرُ
جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الشَّمْسِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْفَقِيهُ الْيُونِينِيُّ
الْحَنْبَلِيُّ الْبَعْلَبَكّيُّ الْحَافِظُ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى بْنِ أَبِي الرِّجَالِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
جَعْفَرٍ الصَّادِقُ - كَذَا نَقَلَ هَذَا الِانْتِسَابَ الشَّيْخُ قُطْبُ
الدِّينِ الْيُونِينِيُّ مِنْ خَطِّ أَخِيهِ الْأَكْبَرِ أَبِي الْحُسَيْنِ
عَلِيٍّ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّ وَالِدَهُ قَالَ لَهُ: نَحْنُ مِنْ سُلَالَةِ
جَعْفَرٍ الصَّادِقِ. قَالَ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ لَهُ هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ
لِيَتَحَرَّجَ مِنْ قَبُولِ الصَّدَقَةِ - أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي
الْحُسَيْنِ الْيُونِينِيُّ الْحَنْبَلِيُّ تَقِيُّ الدِّينِ الْفَقِيهُ
الْحَنْبَلِيُّ الْحَافِظُ الْمُفِيدُ الْبَارِعُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ، وُلِدَ
سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْخُشُوعِيَّ
وَحَنْبَلًا وَالْكِنْدِيَّ وَالْحَافِظَ عَبْدَ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيَّ،
وَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ الْمُوَفَّقِ، وَلَزِمَ
صُحْبَةَ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الْيُونِينِيِّ، وَانْتَفَعَ بِهِ، وَكَانَ
الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُقَدِّمُهُ وَيَقْتَدِي بِهِ فِي
الْفَتَاوَى الشَّرْعِيَّةِ، وَقَدْ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنَ الشَّيْخِ عَبْدِ
اللَّهِ الْبَطَائِحِيِّ، وَبَرَعَ فِي عِلْمِ
الْحَدِيثِ
وَحِفِظَ " الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ " بِالْفَاءِ وَالْوَاوِ، وَحِفِظَ
قِطْعَةً صَالِحَةً مِنْ " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " وَكَانَ
يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، أَخَذَ ذَلِكَ عَنِ التَّاجِ الْكِنْدِيِّ، وَكَتَبَ
مَلِيحًا حَسَنًا، وَكَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِفُنُونِهِ الْكَثِيرَةِ،
وَيَأْخُذُونَ عَنْهُ الطَّرِيقَةَ الْحَسَنَةَ، وَحَصَلَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ
عَظِيمَةٌ عِنْدَ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ، تَوَضَّأَ مَرَّةً عِنْدَ الْمَلِكِ
الْأَشْرَفِ وَهُوَ عِنْدَهُ بِالْقَلْعَةِ حَالَ سَمَاعِ " الْبُخَارِيِّ
" عَلَى الزَّبِيدِيِّ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْوُضُوءِ نَقَضَ السُّلْطَانُ
تَخْفِيفَةً، وَبَسَطَهَا عَلَى الْأَرْضِ لِيَطَأَ عَلَيْهَا، وَحَلَفَ
السُّلْطَانُ لَهُ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ وَلَابُدَّ أَنْ يَطَأَهَا بِرِجْلِهِ،
فَفَعَلَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا قَدِمَ الْكَامِلُ عَلَى أَخِيهِ الْأَشْرَفِ دِمَشْقَ، أَنْزَلَهُ
الْقَلْعَةَ وَتَحَوَّلَ الْأَشْرَفُ لِدَارِ السَّعَادَةِ، وَجَعَلَ يَذْكُرُ
لِلْكَامِلِ مَحَاسِنَ الشَّيْخِ الْفَقِيهِ، فَقَالَ: أَشْتَهِي أَنْ أَرَاهُ.
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ إِلَى بَعْلَبَكَّ بِطَاقَةً، فَاسْتَحْضَرَهُ فَوَصَلَ إِلَى
دَارِ السَّعَادَةِ، فَنَزَلَ الْكَامِلُ إِلَيْهِ وَتَحَادَثَا وَتَذَاكَرَا
شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، فَذُكِرَتْ مَسْأَلَةُ الْقَتْلِ بِالْمُثَقِّلِ، وَجَرَى
ذِكْرُ حَدِيثِ الْجَارِيَةِ الَّتِي قَتَلَهَا الْيَهُودِيُّ، فَرَضَّ رَأْسَهَا
بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَتْلِهِ، فَقَالَ الْكَامِلُ: إِنَّهُ لَمْ يَعْتَرِفْ. فَقَالَ الشَّيْخُ
الْفَقِيهُ: فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ ": فَاعْتَرَفَ. فَقَالَ
الْكَامِلُ: أَنَا اخْتَصَرْتُ " صَحِيحَ مُسْلِمٍ " وَلَمْ أَجِدْ
هَذَا فِيهِ. فَقَالَ الْكَامِلُ: بَلَى. فَأَرْسَلَ الْكَامِلُ، فَأَحْضَرَ
خَمْسَ مُجَلَّدَاتِ اخْتِصَارِهِ " لِمُسْلِمٍ "، فَأَخَذَ الْكَامِلُ
مُجَلَّدًا، وَالْأَشْرَفُ مُجَلَّدًا، وَعِمَادُ الدِّينِ بْنُ مُوسَكَ آخَرَ،
وَالْمَلِكُ الصَّالِحُ مُجَلَّدًا، وَأَخَذَ الشَّيْخُ الْفَقِيهُ مُجَلَّدًا،
فَأَوَّلَ مَا فَتَحَهُ وَجَدَ الْحَدِيثَ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْفَقِيهُ،
فَتَعَجَّبَ الْكَامِلُ مِنَ اسْتِحْضَارِهِ وَسُرْعَةِ كَشْفِهِ،
وَأَرَادَ
أَنْ يَأْخُذَهُ مَعَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأَرْسَلَهُ
الْأَشْرَفُ سَرِيعًا إِلَى بَعْلَبَكَّ، وَقَالَ لِلْكَامِلِ: إِنَّهُ لَا
يُؤْثِرُ بِبَعْلَبَكَّ شَيْئًا. فَأَرْسَلَ لَهُ الْكَامِلُ ذَهَبًا كَثِيرًا.
قَالَ وَلَدُهُ قُطْبُ الدِّينِ: كَانَ وَالِدِي يَقْبَلُ بِرَّ الْمُلُوكِ،
وَيَقُولُ: أَنَا لِي فِي بَيْتِ الْمَالِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا. وَلَا يَقْبَلُ
مِنَ الْأُمَرَاءِ وَلَا مِنَ الْوُزَرَاءِ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ هَدِيَّةَ
مَأْكُولٍ وَنَحْوِهِ، وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقْبَلُونَهُ عَلَى
سَبِيلِ التَّبَرُّكِ وَالِاسْتِشْفَاءِ.
وَذُكِرَ أَنَّهُ كَثُرَ مَالُهُ وَأَثْرَى، وَصَارَ لَهُ سَعَةٌ مِنَ الْمَالِ
كَثِيرَةٌ، وَذُكِرَ لَهُ أَنَّ الْأَشْرَفَ كَتَبَ لَهُ كِتَابًا بِقَرْيَةِ
يُونِيَنَ، وَأَعْطَاهُ لِمُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْجَوْزِيِّ لِيَأْخُذَ عَلَيْهِ
خَطَّ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا شَعَرَ وَالِدِي بِذَلِكَ أَخَذَ الْكِتَابَ
وَمَزَّقَهُ، وَقَالَ: أَنَا فِي غُنْيَةٍ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَكَانَ وَالِدِي
لَا يَقْبَلُ شَيْئًا مِنَ الصَّدَقَةِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ
جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ
قَبْلَ ذَلِكَ فَقِيرًا لَا شَيْءَ لَهُ. وَكَانَ لِلشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ
زَوْجَةٌ، وَلَهَا ابْنَةٌ جَمِيلَةٌ، وَكَانَ الشَّيْخُ يَقُولُ لَهَا:
زَوِّجِيهَا مِنَ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ. فَتَقُولُ: إِنَّهُ فَقِيرٌ، وَأَنَا
أُحِبُّ أَنْ تَكُونَ ابْنَتِي سَعِيدَةً. فَيَقُولُ لَهَا: كَأَنِّي أَنْظُرُ
إِلَيْهِمَا إِيَّاهُ وَإِيَّاهَا فِي دَارٍ فِيهَا بَرَكَةٌ، وَلَهُ رِزْقٌ
كَثِيرٌ، وَالْمُلُوكُ يَتَرَدَّدُونَ إِلَى زِيَارَتِهِ. فَزَوَّجَتْهَا مِنْهُ،
فَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَكَانَتْ أُولَى زَوْجَاتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَكَانَتِ الْمُلُوكُ كُلُّهَا تَجِيءُ مَدِينَتَهُ، وَيُعَظِّمُونَهُ جِدًّا;
بَنُو الْعَادِلِ وَغَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ كَانَ مَشَايِخُ الْفُقَهَاءِ كَابْنِ
الصَّلَاحِ وَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَابْنِ الْحَاجِبِ، وَالْحُصَيْرِيِّ،
وَشَمْسِ الدِّينِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، وَابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَغَيْرِهِمْ
يُعَظِّمُونَهُ وَيَرْجِعُونَ إِلَى قَوْلِهِ; لِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ
وَدِيَانَتِهِ وَأَمَانَتِهِ.
وَقَدْ
ذُكِرَتْ لَهُ أَحْوَالٌ وَمُكَاشَفَاتٌ وَكَرَامَاتٌ كَثِيرَةٌ، قَدَّسَ اللَّهُ
رَوْحَهُ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قُطْبٌ مُنْذُ ثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْفَقِيهُ قَالَ: كُنْتُ عَزَمْتُ
مَرَّةً عَلَى الرِّحْلَةِ إِلَى حَرَّانَ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا
بِهَا يَعْلَمُ عِلْمَ الْفَرَائِضِ جَيِّدًا، فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ
الَّتِي أُرِيدُ مِنْ صَبِيحَتِهَا أُسَافِرُ جَاءَتْنِي رِسَالَةُ الشَّيْخِ
عَبْدِ اللَّهِ الْيُونِينِيِّ يَعْزِمُ عَلَيَّ إِلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَكَأَنِّي
كَرِهْتُ ذَلِكَ، وَفَتَحْتُ الْمُصْحَفَ، فَطَلَعَ قَوْلُهُ: اتَّبِعُوا مَنْ لَا
يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ [ يس: 21 ] فَخَرَجْتُ مَعَهُ إِلَى
الْقُدْسِ، فَوَجَدْتُ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْحَرَّانِيَّ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ،
فَأَخَذْتُ عَنْهُ عِلْمَ الْفَرَائِضِ حَتَّى خُيِّلَ لِي أَنِّي قَدْ صِرْتُ
أَبْرَعَ فِيهِ مِنْهُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ: كَانَ رَجُلًا ضَخْمًا، وَحَصَلَ لَهُ قَبُولُ
كَثِيرٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ يَلْبَسُ قُبَّعًا، صُوفُهُ
إِلَى خَارِجٍ، كَمَا كَانَ شَيْخُهُ عَبْدُ اللَّهِ الْيُونِينِيُّ. قَالَ:
وَقَدْ صَنَّفَ شَيْئًا فِي الْمِعْرَاجِ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ فِي كِتَابٍ
سَمَّيْتُهُ " الْوَاضِحَ الْجَلِيَّ فِي الرَّدِّ عَلَى الْحَنْبَلِيِّ
". وَذَكَرَ وَلَدُهُ قُطْبُ الدِّينِ أَنَّهُ مَاتَ فِي التَّاسِعَ عَشَرَ
مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ خَلِيلِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بَدْرٍ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَيْطَارُ الْأَكَّالُ، أَصْلُهُ مِنْ جَبَلِ بَنِي
هِلَالٍ، وَوُلِدَ بِقَصْرِ حَجَّاجٍ، وَكَانَ مُقِيمًا بِالشَّاغُورِ، وَكَانَ
فِيهِ صَلَاحٌ وَدِينٌ وَإِيثَارٌ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ وَالْمَحَابِيسِ، وَكَانَتْ لَهُ حَالٌ غَرِيبَةٌ; لَا يَأْكُلُ لِأَحَدٍ شَيْئًا إِلَّا بِأُجْرَةٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْبَلَدِ يَتَرَامَوْنَ عَلَيْهِ لِيَأْكُلَ لَهُمُ الْأَشْيَاءَ الْمُفْتَخَرَةَ الطَّيِّبَةَ، فَيَمْتَنِعُ إِلَّا بِأُجْرَةٍ جَيِّدَةٍ، وَكُلَّمَا تَمَنَّعَ مِنْ ذَلِكَ حَلَا عِنْدَ النَّاسِ، وَأَحَبُّوهُ وَمَالُوا إِلَيْهِ، فَيَأْتُونَهُ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْحَلَاوَاتِ وَالشِّوَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأُجْرَةٍ جَيِّدَةٍ مَعَ ذَلِكَ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَرَضِيَ عَنْهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِيَوْمِ الِاثْنَيْنِ لِأَيَّامٍ خَلَوْنَ مِنْ كَانُونَ
الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ خَلِيفَةٌ، وَصَاحِبُ مَكَّةَ أَبُو نُمَيِّ
بْنُ أَبِي سَعْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ قَتَادَةَ الْحَسَنِيُّ، وَعَمُّهُ إِدْرِيسُ
بْنُ عَلِيٍّ شَرِيكُهُ، وَصَاحِبُ الْمَدِينَةِ الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ
جَمَّازُ بْنُ شِيحةَ الْحُسَيْنِيُّ، وَصَاحِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَالشَّامِيَّةِ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ
الْبُنْدُقْدَارِيُّ، وَشَرِيكُهُ فِي دِمَشْقَ وَبَعْلَبَكَّ وَالصُّبَيْبَةِ
وَبَانْيَاسَ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ الْحَلَبِيُّ الْمُلَقَّبُ
بِالْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ، وَشَرِيكُهُ فِي حَلَبَ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ
لَاجِينُ الْجُوكَنْدَارُ الْعَزِيزِيُّ، وَالْكَرَكُ وَالشَّوْبَكُ لِلْمَلِكِ
الْمُغِيثِ فَتَحِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ الْعَادِلِ سَيْفِ الدِّينِ أَبِي بَكْرِ
بْنِ الْكَامِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَادِلِ الْكَبِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَبِي
بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ. وَحِصْنُ صِهْيَونَ وَبَرْزَيَةَ فِي يَدِ الْأَمِيرِ
مُظَفَّرِ الدِّينِ عُثْمَانَ
بْنِ
نَاصِرِ الدِّينِ مَنْكُورَسَ، وَصَاحِبُ حَمَاةَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ بْنُ
تَقِيِّ الدِّينِ مَحْمُودٍ، وَصَاحِبُ حِمْصَ الْأَشْرَفُ بْنُ الْمَنْصُورِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَسَدِ الدِّينِ النَّاصِرِ، وَصَاحِبُ الْمَوْصِلِ الْمَلِكُ
الصَّالِحُ بْنُ الْبَدْرِ لُؤْلُؤً، وَأَخُوهُ الْمَلِكُ الْمُجَاهِدُ صَاحِبُ
جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَصَاحِبُ مَارِدِينَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ نَجْمُ
الدِّينِ إِيلُ غَازِي بْنُ أُرْتُقَ، وَصَاحِبُ بِلَادِ الرُّومِ رُكْنُ الدِّينِ
قَلِيجُ أَرْسَلَانَ بْنُ كَيْخُسْرُو السَّلْجُوقِيُّ، وَشَرِيكُهُ فِي الْمُلْكِ
أَخُوهُ كَيْكَاوُسُ وَالْبِلَادُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَسَائِرُ بِلَادِ
الْمَشْرِقِ مِنْ خُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ بِأَيْدِي التَّتَارِ أَصْحَابِ
هُولَاكُوقَانَ، وَبِلَادُ الْيَمَنِ يَمْلِكُهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُلُوكِ،
وَكَذَلِكَ بِلَادُ الْمَغْرِبِ فِي كُلِّ قُطْرٍ مِنْهَا مَلِكٌ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَغَارَتِ التَّتَارُ عَلَى بِلَادِ حَلَبَ، وَانْجَفَلَ
النَّاسُ وَحَصَلَ لَهُمْ رُعْبٌ شَدِيدٌ وَالْتَقَى التَّتَرُ مَعَ نَائِبِ
حَلَبَ الْأَمِيرِ حُسَامِ الدِّينِ الْجُوكَنْدَارِ الْعَزِيزِيِّ،
وَالْمَنْصُورِ صَاحِبِ حَمَاةَ وَالْأَشْرَفِ صَاحِبِ حِمْصَ، وَكَانَتِ
الْوَقْعَةُ عِنْدَ حِمْصَ قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ،
وَالتَّتَارُ فِي سِتَّةِ آلَافٍ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ،
فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَتَلُوا أَكْثَرَ التَّتَارِ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ،
فَرَجَعَ التَّتَارُ إِلَى حَلَبَ، فَحَصَرُوهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَضَيَّقُوا
عَلَيْهَا الْأَقْوَاتَ، وَقَتَلُوا مِنَ الْغُرَبَاءِ خَلْقًا كَثِيرًا صَبْرًا،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَالْجُيُوشُ الَّذِينَ
كَسَرُوهُمْ عَلَى حِمْصَ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَى حَلَبَ، بَلْ سَاقُوا إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَتَلَقَّاهُمُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ فِي أُبَّهَةِ
السَّلْطَنَةِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَبَقِيَتْ حَلَبُ مُحَاصَرَةً لَا نَاصِرَ
لَهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَكِنْ سَلَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ صَفَرٍ رَكِبَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ فِي
أُبَّهَةِ الْمُلْكِ، وَمَشَى الْأُمَرَاءُ وَالْأَجْنَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ رُكُوبِهِ، وَاسْتَمَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُتَابِعُ
الرُّكُوبَ وَاللَّعِبَ بِالْكُرَةِ.
وَفِي الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ خَرَجَ الْأُمَرَاءُ بِدِمَشْقَ عَلَى
الْأَمِيرِ عَلَمِ الدِّينِ سَنْجَرَ الْحَلَبِيِّ، فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمُوهُ،
وَأَلْجَئُوهُ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَحَصَرُوهُ فِيهَا، فَهَرَبَ مِنْهَا إِلَى
قَلْعَةِ بَعْلَبَكَّ، وَتَسَلَّمَ قَلْعَةَ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ
أَيْدِيكِينَ الْبُنْدُقْدَارِيُّ وَكَانَ مَمْلُوكًا لِجَمَالِ الدِّينِ بْنِ
يَغْمُورٍ، ثُمَّ لِلصَّالِحِ أَيُّوبَ بْنِ الْكَامِلِ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ، فَأَرْسَلَهُ السُّلْطَانُ لِيَتَسَلَّمَ دِمَشْقَ مِنَ
الْحَلَبِيِّ عَلَمِ الدِّينِ سَنْجَرَ، فَأَخْذَهَا وَسَكَنَ الْقَلْعَةَ بِهَا
نِيَابَةً عَنِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، ثُمَّ حَاصَرُوا الْحَلَبِيَّ
بِبَعْلَبَكَّ، حَتَّى أَخْرَجُوهُ مِنْهَا عَلَى بَغْلٍ، وَأَرْسَلُوهُ إِلَى
خِدْمَةِ السُّلْطَانِ الظَّاهِرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ لَيْلًا، فَعَاتَبَهُ ثُمَّ
أَطْلَقَ لَهُ أَشْيَاءَ وَأَكْرَمَهُ.
وَفِي
يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ اسْتَوْزَرَ الظَّاهِرُ بَهَاءَ
الدِّينِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ، الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْحِنَّا.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ قَبَضَ الظَّاهِرُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ
بَلَغَهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْوُثُوبَ عَلَيْهِ. وَفِيهِ أَرْسَلَ
إِلَى الشُّوْبَكِ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ أَيْدِي نُوَّابِ الْمُغِيثِ صَاحِبِ
الْكَرَكِ.
وَفِيهَا جَهَّزَ الظَّاهِرُ جَيْشًا إِلَى حَلَبَ لِيَطْرُدُوا التَّتَارَ
عَنْهَا، فَلَمَّا وَصَلَ الْجَيْشُ إِلَى غَزَّةَ كَتَبَ الْفِرِنْجُ إِلَى
التَّتَارِ يُنْذِرُونَهُمْ، فَرَحَلُوا عَنْهَا مُسْرِعِينَ، وَاسْتَوْلَى عَلَى
حَلَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهَا، فَصَادَرُوا وَنَهَبُوا وَبَلَغُوا
أَغْرَاضَهُمْ، وَقَدِمَ إِلَيْهِمُ الْجَيْشُ الظَّاهِرِيُّ، فَأَزَالُوا ذَلِكَ
كُلَّهُ، وَصَادَرُوا بَعْضَ أَهْلِهَا بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ،
ثُمَّ قَدِمَ الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ آقُوشُ الْبَرْلِيُّ مِنْ جِهَةِ
الظَّاهِرِ، فَاسْتَوْلَى عَلَى الْبَلَدِ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، فَقَطَعَ
وَوَصَلَ وَحَكَمَ وَلَكِنْ مَا عَدَلَ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرَ جُمَادَى الْأُولَى بَاشَرَ الْقَضَاءَ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ تَاجُ الدِّينِ عَبْدُ الْوَهَّابِ ابْنُ بِنْتِ
الْقَاضِي الْأَعَزِّ أَبِي الْقَاسِمِ خَلَفِ بْنِ
الْقَاضِي
رَشِيدِ الدِّينِ أَبِي الثَّنَاءِ مَحْمُودِ بْنِ بَدْرٍ الْعَلَامِيُّ، وَذَلِكَ
بَعْدَ شُرُوطٍ ذَكَرَهَا لِلظَّاهِرِ شَدِيدَةٍ، فَدَخَلَ تَحْتَهَا الْمَلِكُ
الظَّاهِرُ، وَعُزِلَ عَنِ الْقَضَاءِ بَدْرُ الدِّينِ أَبُو الْمَحَاسِنِ يُوسُفُ
بْنُ عَلِيٍّ السِّنْجَارِيُّ، وَرُسِمَ عَلَيْهِ أَيَّامًا ثُمَّ أُفْرِجَ
عَنْهُ.
ذِكْرُ الْبَيْعَةِ بِالْخِلَافَةِ لِلْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ
أَحْمَدَ بْنِ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الظَّاهِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ النَّاصِرِ
لِدِينِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ الْعَبَّاسِيِّ وَهُوَ عَمُّ
الْمُسْتَعْصِمِ
وَكَانَ مُعْتَقَلًا بِبَغْدَادَ ثُمَّ أُطْلِقَ، فَكَانَ مَعَ جَمَاعَةِ
الْأَعْرَابِ بِالْعِرَاقِ، ثُمَّ قَصَدَ الظَّاهِرَ حِينَ بَلَغَهُ مُلْكُهُ،
فَقَدِمَ مِصْرَ صُحْبَةَ جَمَاعَةٍ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَعْرَابِ عَشْرَةٍ،
مِنْهُمُ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ مُهَنَّا، وَكَانَ دُخُولُهُ إِلَى
الْقَاهِرَةِ فِي ثَامِنِ رَجَبٍ، فَخَرَجَ السُّلْطَانُ وَمَعَهُ الْوَزِيرُ
وَالْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ وَالشُّهُودُ وَالْمُؤَذِّنُونَ فَتَلَقَّوْهُ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَخَرَجَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ،
وَالنَّصَارَى بِإِنْجِيلِهِمْ، وَدَخْلَ مِنْ بَابِ النَّصْرِ فِي أُبَّهَةٍ
عَظِيمَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ
ثَالِثَ عَشَرَ رَجَبٍ جَلَسَ السُّلْطَانُ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْإِيوَانِ
بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ، وَالْوَزِيرُ وَالْقَاضِي وَالْأُمَرَاءُ عَلَى طَبَقَاتِهِمْ،
وَأُثْبِتَ نَسَبُ الْخَلِيفَةِ الْمَذْكُورِ عَلَى
الْحَاكِمِ
تَاجِ الدِّينِ عَبْدِ الْوَهَّابِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ.
وَهَذَا الْخَلِيفَةُ هُوَ أَخُو الْمُسْتَنْصِرِ بَانِي الْمُسْتَنْصِرِيَّةِ،
وَعَمُّ الْمُسْتَعْصِمِ، بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ بِمِصْرَ، بَايَعَهُ الْمَلِكُ
الظَّاهِرُ وَالْقَاضِي وَالْوَزِيرُ وَالْأُمَرَاءُ، وَرَكِبَ فِي دَسْتِ
الْخِلَافَةِ بِدِيَارِ مِصْرَ وَالْأُمَرَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالنَّاسُ
حَوْلَهُ، وَشَقَّ الْقَاهِرَةَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَذَلِكَ فِي
الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهَذَا الْخَلِيفَةُ هُوَ
الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ مِنْ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْعَبَّاسِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَبًا، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ
يَوْمئِذٍ الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ عِنْدَمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ نَسَبُهُ، ثُمَّ
السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ، ثُمَّ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ
السَّلَامِ وَالْأُمَرَاءُ وَالدَّوْلَةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ،
وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ وَضُرِبَ اسْمُهُ عَلَى السِّكَّةِ، وَكَانَ
مَنْصِبُ الْخِلَافَةِ شَاغِرًا مُنْذُ ثَلَاثِ سِنِينَ وَنِصْفٍ; لِأَنَّ
الْمُسْتَعْصِمَ قُتِلَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَبُويِعَ هَذَا فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فِي الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ - وَكَانَ
أَسْمَرَ وَسِيمًا، شَدِيدَ الْقُوَى، عَالِيَ الْهِمَّةِ، لَهُ شَجَاعَةٌ
وَإِقْدَامٌ، وَقَدْ لَقَّبُوهُ بِالْمُسْتَنْصِرِ كَمَا كَانَ أَخُوهُ بَانِي
الْمَدْرَسَةِ بِبَغْدَادَ تَلَقَّبَ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ;
أَنَّ خَلِيفَتَيْنِ أَخَوَيْنِ يُلَقَّبُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَقَدْ
وَلِيَ الْخِلَافَةَ أَخَوَيْنِ كَهَذَيْنِ; السَّفَّاحُ وَأَخُوهُ الْمَنْصُورُ
وَلَدَا مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَالْهَادِي
وَالرَّشِيدُ ابْنَا الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ، وَالْوَاثِقُ
وَالْمُتَوَكِّلُ ابْنَا الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ، وَالْمُسْتَرْشِدُ
وَالْمُقْتَفِي وَلَدَا الْمُسْتَظْهِرِ،
وَأَمَّا
ثَلَاثَةٌ; فَالْأُمَّيْنُ وَالْمَأْمُونُ وَالْمُعْتَصِمُ أَوْلَادُ الرَّشِيدِ،
وَالْمُنْتَصِرُ وَالْمُعْتَزُّ وَالْمُعْتَمَدُ أَوْلَادُ الْمُتَوَكِّلِ،
وَأَمَّا أَرْبَعَةٌ فَأَوْلَادُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ; الْوَلِيدُ
وَسُلَيْمَانُ وَيَزِيدُ وَهِشَامُ.
وَقَدْ وَلِيَ هَذَا الْخِلَافَةَ بَعْدَ ابْنِ أَخِيهِ الْمُسْتَعْصِمِ بْنِ
الْمُسْتَنْصِرِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا قَبْلَهُ إِلَّا فِي خِلَافَةِ الْمُقْتَفِي
بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ; فَإِنَّهُ وَلِيَهَا بَعْدَ ابْنِ أَخِيهِ الرَّاشِدِ بْنِ
الْمُسْتَرْشِدِ بْنِ الْمُسْتَظْهِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ
إِلَى أَنْ فُقِدَ - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ - خَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ
يَوْمًا، وَكَانَ أَقْصَرَ مُدَّةً مِنْ جَمِيعِ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ.
وَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْوَلِيدِ سَبْعِينَ
يَوْمًا، وَأَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ. وَكَانَتْ مُدَّةُ
خِلَافَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَ أَبِيهِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَحَدَ
عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَتْ مُدَّةُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ فِي خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ مَنْ لَمْ
يَسْتَكْمِلْ سَنَةً; مِنْهُمُ الْمُنْتَصِرُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ سِتَّةَ
أَشْهُرٍ، وَالْمُهْتَدِي بْنُ الْوَاثِقِ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا وَأَيَّامًا.
وَقَدْ
أُنْزِلَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَنْصِرُ هَذَا بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ فِي بُرْجٍ
هُوَ وَحَشَمُهُ وَخَدَمُهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ سَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ رَكِبَ
فِي أُبَّهَةِ السَّوَادِ، وَجَاءَ إِلَى الْجَامِعِ بِالْقَلْعَةِ، فَصَعِدَ
الْمِنْبَرَ، وَخَطَبَ النَّاسَ خُطْبَةً ذَكَرَ فِيهَا شَرَفَ بَنِي الْعَبَّاسِ،
ثُمَّ اسْتَفْتَحَ، فَقَرَأَ صَدْرًا مِنْ " سُورَةِ الْأَنْعَامِ "،
ثُمَّ صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرَضَّى
عَنِ الصَّحَابَةِ، وَدَعَا لِلسُّلْطَانِ الظَّاهِرِ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى
بِالنَّاسِ، فَاسْتَحْسَنُوا ذَلِكَ مِنْهُ، وَكَانَ وَقْتًا حَسَنًا وَيَوْمًا
مَشْهُودًا.
تَوْلِيَةُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْصِرِ بِاللَّهِ
الْمَلِكَ الظَّاهِرَ السَّلْطَنَةَ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ مِنْ شَعْبَانَ رَكِبَ الْخَلِيفَةُ
وَالسُّلْطَانُ وَالْوَزِيرُ وَالْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ وَأَهْلُ الْحَلِّ
وَالْعَقْدِ إِلَى خَيْمَةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ ضُرِبَتْ ظَاهِرَ الْقَاهِرَةِ،
فَأَلْبَسَ الْخَلِيفَةُ السُّلْطَانَ بِيَدِهِ خِلْعَةً سَوْدَاءَ، وَطَوْقًا فِي
عُنُقِهِ، وَقَيْدًا فِي رِجْلَيْهِ، وَهُمَا مِنْ ذَهَبٍ، وَصَعِدَ فَخْرُ
الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ لُقْمَانَ رَئِيسُ الْكُتَّابِ مِنْبَرًا، فَقَرَأَ
عَلَيْهِ تَقْلِيدَ السُّلْطَانِ، وَهُوَ مِنْ إِنْشَائِهِ وَبِخَطِّهِ نَفْسِهِ،
ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ بِهَذِهِ الْأُبَّهَةِ، وَالْقَيْدُ فِي رِجْلَيْهِ،
وَالطَّوْقُ فِي عُنُقِهِ، وَالْوَزِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَلَى رَأْسِهِ
التَّقْلِيدُ، وَالْأُمَرَاءُ وَالدَّوْلَةُ فِي خِدْمَتِهِ مُشَاةٌ سِوَى
الْوَزِيرِ، فَشَقَّ الْقَاهِرَةَ، وَقَدْ زُيِّنَتْ لَهُ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا يَقْصُرُ اللِّسَانُ عَنْ وَصْفِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ قُطْبُ
الدِّينِ هَذَا التَّقْلِيدَ بِتَمَامِهِ، وَهُوَ مُطَوَّلٌ.
ذِكْرُ
تَجْهِيزِ الْخَلِيفَةِ قَاصِدًا إِلَى بَغْدَادَ
ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ طَلَبَ مِنَ السُّلْطَانِ أَنْ يُجَهِّزَهُ إِلَى
بَغْدَادَ، فَرَتَّبَ لَهُ جُنْدًا هَائِلَةً، وَأَقَامَ لَهُ مِنْ كُلِّ مَا
يَنْبَغِي لِلْمُلُوكِ وَالْخُلَفَاءِ مِنَ الْحَشَمِ وَالْخَدَمِ
وَالطَّبْلِخَانَاهَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ صُحْبَتَهُ
قَاصِدِينَ دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةَ، وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِ السُّلْطَانِ إِلَى
الشَّامِ أَنَّ الْبُرْلِيَّ، كَمَا تَقَدَّمَ، كَانَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى
حَلَبَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الظَّاهِرُ الْأَمِيرَ عَلَمَ الدِّينِ سَنْجَرَ
الْحَلَبِيَّ الَّذِي كَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى دِمَشْقَ، فَطَرَدَهُ عَنْ
حَلَبَ، وَتَسَلَّمَهَا مِنْهُ، وَأَقَامَ بِهَا نَائِبًا عَنِ السُّلْطَانِ،
ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْبُرْلِيُّ حَتَّى اسْتَعَادَهَا مِنْهُ، وَأَخْرَجَهُ
مِنْهَا هَارِبًا وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا كَمَا كَانَ، فَاسْتَنَابَ الظَّاهِرُ
عَلَى مِصْرَ عِزَّ الدِّينِ أَيْدَمُرَ الْحِلِّيَّ وَجَعَلَ تَدْبِيرَ
الْمَمْلَكَةِ إِلَى الْوَزِيرِ بَهَاءِ الدِّينِ بْنِ الْحِنَّا، وَاسْتَصْحَبَ
وَلَدَهُ فَخْرَ الدِّينِ بْنَ الْحِنَّا وَزِيرَ الصُّحْبَةِ.
وَجَعَلَ تَدْبِيرَ الْعَسَاكِرِ وَالْجُيُوشِ إِلَى الْأَمِيرِ بَدْرِ الدِّينِ
بِيلِيكَ الْخَازِنْدَارِ، ثُمَّ كَانَ دُخُولُ السُّلْطَانِ صُحْبَةَ
الْخَلِيفَةِ إِلَى دِمَشْقَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعِ ذِي الْقَعْدَةِ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَصَلَّيَا الْجُمُعَةَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَكَانَ
دُخُولُ الْخَلِيفَةِ مِنْ بَابِ الْبَرِيدِ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ مِنْ بَابِ
الزِّيَادَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا
أَيْضًا
ثُمَّ جَهَّزَ السُّلْطَانُ الْخَلِيفَةَ وَأَصْحَبَهُ أَوْلَادَ صَاحِبِ
الْمَوْصِلِ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، وَعَلَى مَنِ اسْتَقَلَّ مَعَهُ
مِنَ الْجَيْشِ - الَّذِينَ يَرُدُّونَ عَنْهُ مَا لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ - مِنَ
الذَّهَبِ الْعَيْنِ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَطْلَقَ لَهُ وَزَادَهُ،
فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَقَدِمَ إِلَيْهِ صَاحِبُ حِمْصَ الْمَلِكُ
الْأَشْرَفُ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَطْلَقَ لَهُ، وَزَادَهُ تَلَّ بَاشِرٍ،
وَقَدِمَ صَاحِبُ حَمَاةَ الْمَنْصُورُ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَطْلَقَ لَهُ
وَكَتَبَ لَهُ تَقْلِيدًا بِبِلَادِهِ، ثُمَّ جَهَّزَ جَيْشًا صُحْبَةَ الْأَمِيرِ
عَلَاءِ الدِّينِ الْبُنْدُقْدَارِيِّ إِلَى حَلَبَ لِمُحَارَبَةِ الْبُرْلِيِّ
الْمُتَغَلِّبِ عَلَيْهَا الْمُفْسِدِ فِيهَا، وَقَدْ أَقَامَ الْبُرْلِيُّ
بِحَلَبَ خَلِيفَةً آخَرَ لَقَّبَهُ بِالْحَاكِمِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِ
الْمُسْتَنْصِرُ سَارَ مَعَهُ إِلَى الْعِرَاقِ، وَاتَّفَقَا عَلَى الْمَصْلَحَةِ
وَإِنْفَاذِ الْحَاكِمِ لِلْمُسْتَنْصِرِ; لِكَوْنِهِ أَكْبَرَ مِنْهُ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
لَكِنْ خَرَجَ عَلَيْهِمَا فِي آخِرِ السَّنَةِ طَائِفَةٌ مِنَ التَّتَارِ،
فَفَرَّقُوا شَمْلَهُمَا، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُمَا، وَعُدِمَ
الْمُسْتَنْصِرُ، وَهَرَبَ الْحَاكِمُ مَعَ الْأَعْرَابِ. فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَقَدْ كَانَ الْمُسْتَنْصِرُ هَذَا فَتَحَ
بُلْدَانًا كَثِيرَةً فِي مَسِيرِهِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَلَمَّا قَاتَلَهُ
بَهَادُرُ عَلَى شِحْنَةِ بَغْدَادَ كَسَرَهُ الْمُسْتَنْصِرُ، وَقَتَلَ أَكْثَرَ
أَصْحَابِهِ، وَلَكِنْ خَرَجَ كَمِينٌ مِنَ التَّتَارِ، فَهَرَبَ الْعُرْبَانُ
وَالْأَكْرَادُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الْمُسْتَنْصِرِ، وَثَبَتَ هُوَ فِي
طَائِفَةٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ التُّرْكِ، فَقُتِلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ
أَكْثَرُهُمْ، وَفُقِدَ هُوَ مِنَ الْبَيْنِ، وَنَجَا الْحَاكِمُ فِي طَائِفَةٍ،
وَكَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ سِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَشْبَهَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ فِي تَوَغُّلِهِ فِي
أَرْضِ الْعِرَاقِ مَعَ كَثْرَةِ جُنُودِهَا، وَكَانَ الْأَوْلَى لِهَذَا أَنْ
يَسْتَقِرَّ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ حَتَّى تَتَمَهَّدَ الْأُمُورُ وَتَصْفُوَ
الْأَحْوَالُ، وَلَكِنْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ.
وَجَهَّزَ
السُّلْطَانُ جَيْشًا آخَرَ مَنْ دِمَشْقَ إِلَى بِلَادِ الْفِرِنْجِ، فَأَغَارُوا
وَقَتَلُوا، وَسَبَوْا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ، وَطَلَبَتِ الْفِرِنْجُ مِنَ
السُّلْطَانِ الصُّلْحَ، فَصَالَحَهُمْ مُدَّةً لِاشْتِغَالِهِ بِحَلَبَ
وَأَعْمَالِهَا، وَكَانَ قَدْ عَزَلَ فِي شَوَّالٍ عَنْ قَضَاءِ مِصْرَ وَحْدَهَا
تَاجَ الدِّينِ عَبْدَ الْوَهَّابِ ابْنَ بِنْتِ الْأَعَزِّ، وَوَلَّى عَلَيْهَا
بُرْهَانَ الدِّينِ الْخِضْرَ بْنَ الْحَسَنِ السِّنْجَارِيَّ، وَعَزَلَ قَاضِي
دِمَشْقَ نَجْمَ الدِّينِ أَبَا بَكْرِ بْنَ صَدْرِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ شَمْسِ
الدِّينِ يَحْيَى بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، وَوَلَّى قَاضِي
الْقُضَاةِ شَمْسَ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي
بَكْرِ بْنِ خَلِّكَانَ، وَقَدْ نَابَ فِي الْحُكْمِ بِالْقَاهِرَةِ مُدَّةً
طَوِيلَةً عَنْ بَدْرِ الدِّينِ السِّنْجَارِيِّ، فَأَضَافَ إِلَيْهِ مَعَ
الْقَضَاءِ نَظَرَ الْأَوْقَافِ وَالْجَامِعِ وَالْمَارَسْتَانَ وَتَدْرِيسِ
سَبْعِ مَدَارِسَ; الْعَادِلِيَّةِ وَالنَّاصِرِيَّةِ وَالْعَذْرَاوِيَّةِ
وَالْفَلَكِيَّةِ وَالرُّكْنِيَّةِ وَالْإِقْبَالِيَّةِ وَالْبَهْنَسِيَّةِ، وَقُرِئَ
تَقْلِيدُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِالشُّبَّاكِ
الْكَمَالِيِّ مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ، وَسَافَرَ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ
مُرَسَّمًا عَلَيْهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ، وَذَكَرَ
أَنَّهُ خَانَ فِي وَدِيعَةِ ذَهَبٍ جَعَلَهَا فُلُوسًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَفِي يَوْمِ الْعِيدِ يَوْمَ
السَّبْتِ سَافَرَ السُّلْطَانُ بِالْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ رَاجِعًا إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ قَدِمَ
عَلَى السُّلْطَانِ بِدِمَشْقَ يَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ وَيَطْلُبُونَ
مِنْهُ إِقْطَاعَاتٍ كَثِيرَةً، فَلَمْ يَزَلْ يُوقِعُ بَيْنَهُمْ حَتَّى
اسْتَأْصَلَ شَأْفَتَهُمْ وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِهِمْ، نَصَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
وَمَكَّنَ بِهِ الْبِلَادَ وَنَصَرَ بِهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، آمِينَ.
وَفِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عُمِلَ عَزَاءُ
السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ
صَلَاحِ
الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ الْعَزِيزِ مُحَمَّدِ بْنِ الظَّاهِرِ غَازِي بْنِ
النَّاصِرِ صَلَاحِ الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ شَادِي فَاتِحِ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ، وَكَانَ عَمِلُ هَذَا الْعَزَاءِ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ الظَّاهِرِ رُكْنِ الدِّينِ
بِيبَرْسَ، وَذَلِكَ لَمَّا بَلَغَهُمْ أَنَّ هُولَاكُو مَلِكَ التَّتَارِ
قَتَلَهُ، وَقَدْ كَانَ فِي قَبْضَتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَلَمَّا
بَلَغَهُ كَسْرُهُ أَصْحَابَهُ بِعَيْنِ جَالُوتَ طَلَبَهُ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ،
وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أَرْسَلْتَ الْجُيُوشَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
حَتَّى اقْتَتَلُوا مَعَ الْمَغُولِ، فَكَسَرُوهُمْ. ثُمَّ أَمَرَ بِقَتْلِهِ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ
كَانُوا أَعْدَاءَهُ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ شَنَآنٌ وَقِتَالٌ، فَأَقَالَهُ
وَلَكِنَّهُ انْحَطَّتْ رُتْبَتُهُ عِنْدَهُ، وَقَدْ كَانَ مُكَرَّمًا فِي
خِدْمَتِهِ، وَقَدْ وَعَدَهُ أَنَّهُ إِذَا مَلَكَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ
اسْتَنَابَهُ فِي الشَّامِ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ حِمْصَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقُتِلَ فِيهَا أَصْحَابُ هُولَاكُو مَعَ مُقَدَّمِهِمْ بَيْدَرَةَ
غَضِبَ وَقَالَ لَهُ: أَصْحَابُكَ مِنَ الْعَزِيزِيَّةِ أُمَرَاءِ أَبْيَكَ
وَالنَّاصِرِيَّةِ مِنْ أَصْحَابِكَ قَتَلُوا أَصْحَابَنَا. ثُمَّ أَمَرَ
بِقَتْلِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ رَمَاهُ بِالنُّشَّابِ وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَهُوَ يَسْأَلُ الْعَفْوَ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قَتَلَهُ وَقَتَلَ
أَخَاهُ شَقِيقَهُ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ عَلِيًّا، وَأَطْلَقَ وَلَدَيْهِمَا
الْعَزِيزَ مُحَمَّدَ بْنَ النَّاصِرِ وَزِبَالَةَ بْنَ الظَّاهِرِ، وَكَانَا
صَغِيرَيْنِ مِنْ أَحْسَنِ أَشْكَالِ بَنِي آدَمَ، فَأَمَّا الْعَزِيزُ فَإِنَّهُ
مَاتَ هُنَالِكَ فِي أَسْرِ التَّتَارِ، وَأَمَّا زِبَالَةُ فَإِنَّهُ صَارَ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَكَانَ أَحْسَنَ مَنْ بِهَا، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَمَّ
وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا: وَجْهُ الْقَمَرِ. فَتَزَوَّجَهَا بَعْضُ الْأُمَرَاءِ
بَعْدَ أُسْتَاذِهَا الْمَذْكُورِ.
وَيُقَالُ: إِنَّ هُولَاكُو لَمَّا أَرَادَ قَتْلَ النَّاصِرِ أَمَرَ بِأَرْبَعٍ
مِنَ الشَّجَرِ مُتَبَاعِدَاتٍ فَجُمِعَتْ رُءُوسُهَا بِحِبَالٍ، ثُمَّ رُبِطَ
النَّاصِرُ فِي الْأَرْبَعِ بِأَرْبَعَتِهِ ثُمَّ أُطْلِقَتِ الْحِبَالُ،
فَرَجَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى مَرْكَزِهَا بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ بِحَلَبَ وَلَمَّا تُوَفِّي أَبُوهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ بُويِعَ بِالسَّلْطَنَةِ بِحَلَبَ، وَعُمْرُهُ سَبْعُ سِنِينَ، وَقَامَ بِتَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ مَمَالِيكِ أَبِيهِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ عَنْ رَأْيِ جَدَّتِهِ أَمِّ أَبِيهِ صِبْغَةَ خَاتُونَ بِنْتِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ اسْتَقَلَّ النَّاصِرُ بِالْمُلْكِ، وَكَانَ جَيِّدَ السِّيرَةِ فِي الرَّعَايَا مُحَبَّبًا إِلَيْهِمْ، كَثِيرَ النَّفَقَاتِ وَلَا سِيَّمَا لَمَّا مَلَكَ دِمَشْقَ مَعَ حَلَبَ وَأَعْمَالِهَا وَبَعْلَبَكَّ وَحَرَّانَ وَطَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ فَيُقَالُ: إِنَّ سِمَاطَهُ كَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ رَأْسِ غَنَمٍ سِوَى الدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ وَأَنْوَاعِ الطَّيْرِ مَطْبُوخًا بِأَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ وَالْقَلَوِيَّاتِ، وَكَانَ مَجْمُوعُ مَا يَغْرَمُ عَلَى السِّمَاطِ فِي كُلِّ يَوْمٍ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَعَامَّتُهُ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ كَمَا هُوَ، كَأَنَّهُ لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَيُبَاعُ عَلَى بَابِ الْقَلْعَةِ بِأَرْخَصِ الْأَثْمَانِ حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ لَا يَطْبُخُونَ فِي بُيُوتِهِمْ شَيْئًا مِنَ الطُّرَفِ وَالْأَطْعِمَةِ بَلْ يَشْتَرُونَ ذَلِكَ بِرُخْصٍ، وَكَانَتِ الْأَرْزَاقُ كَثِيرَةً دَائِرَّةً فِي زَمَانِهِ وَأَيَّامِهِ، وَقَدْ كَانَ خَلِيعًا ظَرِيفًا، حَسَنَ الشَّكْلِ، أَدِيبًا يَقُولُ الشِّعْرَ الْمُتَوَسِّطَ، الْقَوِيَّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ فِي " الذَّيْلِ " قِطْعَةً صَالِحَةً مِنْ شِعْرِهِ، وَهِيَ رَائِقَةٌ لَائِقَةٌ، قُتِلَ بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ وَقَدْ كَانَ أَعَدَّ لَهُ تُرْبَةً بِرِبَاطِهِ الَّذِي بَنَاهُ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، فَلَمْ يُقَدَّرْ دَفْنُهُ بِهَا، وَالنَّاصِرِيَّةُ الْبَرَّانِيَّةُ بِالسَّفْحِ مِنْ أَغْرَبِ الْأَبْنِيَةِ وَأَحْسَنِهَا بُنْيَانًا مِنَ الْمُوكَدِ الْمُحْكَمِ قِبَلِيَّ جَامِعِ الْأَفْرَمِ، وَقَدْ بُنِي بَعْدَهَا بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَكَذَلِكَ النَّاصِرِيَّةُ الْجَوَّانِيَّةُ الَّتِي بَنَاهَا دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ هِيَ مِنْ أَحْسَنِ الْمَدَارِسِ، وَبَنَى الْخَانَ الْكَبِيرَ تُجَاهَ الزِّنْجَارِيِّ وَحُوِّلَتْ إِلَيْهِ دَارُ الطَّعْمِ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ غَرْبِيَّ
الْقَلْعَةِ
فِي إِصْطَبْلِ السُّلْطَانِ الْيَوْمَ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَهَذَا كُلُّ مَا بَلَغَنَا مِنْ وَقَائِعِ هَذِهِ السَّنَةِ مُلَخَّصًا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السَّنَةِ فِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ قُتِلَ الْخَلِيفَةُ
الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ الَّذِي بُويِعَ لَهُ فِي رَجَبٍ فِي السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ بِمِصْرَ، وَكَانَ قَتْلُهُ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، كَمَا ذَكَرْنَا
بَعْدَ مَا هُزِمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ وَالْجَيْشِ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاسْتَقَلَّ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ
بِجَمِيعِ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَصَفَتْ لَهُ الْأُمُورُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ
مُنَازِعٌ سِوَى الْبُرْلِيِّ، فَإِنَّهُ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى الْبِيرَةِ
وَعَصَى عَلَيْهِ هُنَالِكَ.
وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ
السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ بِبِلَادِ مِصْرَ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَرَاءِ
وَالْحَاشِيَةِ وَعَلَى الْوَزِيرِ وَالْقَاضِي تَاجِ الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ
الْأَعَزِّ، وَعَزَلَ عَنْهَا بُرْهَانَ الدِّينِ السِّنْجَارِيَّ.
وَفِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ أَعْرَسَ الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بِيلِيكَ
الْخَزَنْدَارُ عَلَى بِنْتِ الْأَمِيرِ لُؤْلُؤٍ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ،
وَاحْتَفَلَ الظَّاهِرُ بِهَذَا الْعُرْسِ احْتِفَالًا بَالِغًا.
قَالَ
ابْنُ خَلِّكَانَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اصْطَادَ بَعْضُ أُمَرَاءِ الظَّاهِرِ
بِجَرُودِ حِمَارَ وَحْشٍ، فَطَبَخُوهُ فَلَمْ يَنْضَجْ وَلَا أَثَّرَ فِيهِ
كَثْرَةُ الْوَقُودِ، ثُمَّ افْتَقَدُوا أَمْرَهُ، فَإِذَا هُوَ مَوْسُومٌ عَلَى
أُذُنِهِ: بَهْرَامُ جَوْرَ. قَالَ: وَقَدْ أَحْضَرُوهُ إِلَيَّ، فَقَرَأْتُهُ
كَذَلِكَ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ لِهَذَا الْحِمَارِ قَرِيبًا مِنْ
ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، فَإِنَّ بَهْرَامَ جُورَ كَانَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ
بِمُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَحُمُرُ الْوَحْشِ تَعِيشُ دَهْرًا طَوِيلًا.
قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بَهْرَامَ شَاهِ الْمَلِكَ الْأَمْجَدَ،
إِذْ يَبْعُدُ بَقَاءُ مِثْلِ هَذَا بِلَا اصْطِيَادٍ هَذِهِ الْمُدَّةَ
الطَّوِيلَةَ، وَيَكُونُ الْكَاتِبُ قَدْ أَخْطَأَ، فَأَرَادَ كِتَابَةَ:
بَهْرَامَ شَاهْ. فَكَتَبَ بَهْرَامَ جُورَ، فَحَصَلَ اللَّبْسُ مِنْ هَذَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ بَيْعَةِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ
فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ دَخَلَ الْخَلِيفَةُ أَبُو
الْعَبَّاسِ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ الْأَمِيرِ أَبِي عَلِيِّ
بْنِ الْأَمِيرِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْإِمَامِ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ بْنِ
الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ مِنْ بِلَادِ الشَّرْقِ،
وَصُحْبَتُهُ
جَمَاعَةٌ
مِنْ رُءُوسِ تِلْكَ الْبِلَادِ وَقَدْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ صُحْبَةَ
الْمُسْتَنْصِرِ، وَهَرَبَ هُوَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَعْرَكَةِ فَسَلِمَ
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ دُخُولِهِ تَلَقَّاهُ السُّلْطَانُ الظَّاهِرُ، وَأَظْهَرَ
السُّرُورَ لَهُ وَالِاحْتِفَالَ، وَأَنْزَلَهُ فِي الْبُرْجِ الْكَبِيرِ،
وَأَجْرَى عَلَيْهِ الْأَرْزَاقَ الدَّارَّةَ وَالْإِحْسَانَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ عَزَلَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ الْأَمِيرَ جَمَالَ الدِّينِ
آقُوشَ النَّجِيبِيَّ عَنْ أُسْتَاذِدَارِيَّتِهِ، وَاسْتَبْدَلَ بِهِ غَيْرَهُ،
وَبَعْدَ ذَلِكَ أَرْسَلَهُ نَائِبًا عَلَى الشَّامِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعِ رَجَبٍ حَضَرَ السُّلْطَانُ الظَّاهِرُ إِلَى
دَارِ الْعَدْلِ فِي مُحَاكَمَةٍ فِي بِئْرٍ إِلَى بَيْنِ يَدَيِ الْقَاضِي تَاجِ
الدِّينِ عَبْدِ الْوَهَّابِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ، فَقَامَ النَّاسُ إِلَّا
الْقَاضِي، فَإِنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَقُومَ، وَتَدَاعَيَا، وَكَانَ
الْحَقُّ مَعَ السُّلْطَانِ، وَلَهُ بَيِّنَهٌ عَادِلَةٌ، فَانْتُزِعَتِ الْبِئْرُ
مِنْ يَدِ الْغَرِيمِ، وَكَانَ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ.
وَفِي شَوَّالٍ اسْتَنَابَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ عَلَى حَلَبَ
الْأَمِيرَ عَلَاءَ الدِّينِ أَيْدِكِينَ الشِّهَابِيَّ، وَحِينَئِذٍ انْحَازَ
عَسْكَرُ سِيسَ عَلَى الْفُوعَةِ مِنْ أَرْضِ حَلَبَ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمُ
الشِّهَابِيُّ، فَكَسَرَهُمْ وَأَسَرَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، فَسَيَّرَهُمْ إِلَى
مِصْرَ فَوُسِّطُوا.
وَفِيهَا
اسْتَنَابَ السُّلْطَانُ عَلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرَ جَمَالَ الدِّينِ آقُوشَ
النَّجِيبِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَعَزَلَ عَنْهَا عَلَاءَ
الدِّينِ طَيْبَرْسَ الْوَزِيرِيَّ، وَحُمِلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ خَرَجَ مَرْسُومُ السُّلْطَانِ إِلَى الْقَاضِي تَاجِ
الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ أَنْ يَسْتَنِيبَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنَ
الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ نَائِبًا، فَاسْتَنَابَ صَدْرَ الدِّينِ سُلَيْمَانَ
الْحَنَفِيَّ، وَالشَّيْخَ شَمْسَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ الشَّيْخِ الْعِمَادِ
الْحَنْبَلِيَّ، وَ شَرَفَ الدِّينِ عُمَرَ السُّبْكِيَّ الْمَالِكِيَّ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ قَدِمَتْ وُفُودٌ كَثِيرَةٌ مِنَ التَّتَارِ عَلَى الْمَلِكِ
الظَّاهِرِ مُسْتَأْمِنِينَ، فَأَكْرَمَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ،
وَأَقْطَعَهُمْ إِقْطَاعَاتٍ حَسَنَةً، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِأَوْلَادِ صَاحِبِ
الْمَوْصِلِ، وَرَتَّبَ لِإِخْوَانِهِمْ رَوَاتِبَ كَافِيَةً.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَرْسَلَ هُولَاكُو طَائِفَةً مِنْ جُنْدِهِ نَحْوَ
عَشَرَةِ آلَافٍ، فَحَاصَرُوا الْمَوْصِلَ، وَنَصَبُوا عَلَيْهَا أَرْبَعَةً
وَعِشْرِينَ مَنْجَنِيقًا، وَضَاقَتْ بِهَا الْأَقْوَاتُ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ لُؤْلُؤٍ إِلَى الْبُرْلِيِّ
يَسْتَنْجِدُهُ، فَقَدِمَ إِلَيْهِ فَهُزِمَتِ التَّتَارُ، ثُمَّ ثَبَتُوا
فَالْتَقَوْا مَعَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ مَعَهُ تِسْعُمِائَةِ مُقَاتِلٍ،
فَهَزَمُوهُ وَجَرَحُوهُ، وَعَادَ إِلَى الْبِيرَةِ، وَفَارَقَهُ أَكْثَرُ
أَصْحَابِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، ثُمَّ
دَخَلَ
هُوَ إِلَى بَيْنِ يَدَيِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، فَأَنْعَمَ
عَلَيْهِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَقْطَعُهُ تِسْعِينَ فَارِسًا، وَأَمَّا
التَّتَارُ فَإِنَّهُمْ عَادُوا إِلَى الْمَوْصِلِ، وَلَمْ يَزَالُوا حَتَّى
اسْتَنْزَلُوا صَاحِبَهَا الْمَلِكَ الصَّالِحَ إِلَيْهِمْ، وَنَادَوْا فِي
الْبَلَدِ بِالْأَمَانِ حَتَّى اطْمَأَنَّ النَّاسُ، ثُمَّ مَالُوا عَلَيْهِمْ،
فَقَتَلُوهُمْ تِسْعَةَ أَيَّامٍ، وَقَتَلُوا الْمَلِكَ الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ
وَوَلَدَهُ عَلَاءَ الدِّينِ، وَخَرَّبُوا أَسْوَارَ الْبَلَدِ، وَتَرَكُوهَا
بِلَاقِعَ، ثُمَّ كَرُّوا رَاجِعِينَ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ.
وَفِيهَا وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ هُولَاكُو وَبَينَ السُّلْطَانِ بَرَكَةَ ابْنِ
عَمِّهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بَرَكَةُ يَطْلُبُ مِنْهُ نَصِيبًا مِمَّا فَتَحَهُ
مِنَ الْبِلَادِ، عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ، فَقَتَلَ رُسُلَهُ،
فَاشْتَدَّ غَضَبُ بَرَكَةَ، وَكَاتَبَ الظَّاهِرَ لِيَتَّفِقَا عَلَى هُولَاكُو.
وَفِيهَا وَقَعَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِالشَّامِ، فَبِيعَ الْقَمْحُ الْغِرَارَةُ
بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَالشَّعِيرُ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ،
وَاللَّحْمُ الرِّطْلُ بِسِتَّةٍ وَبِسَبْعَةٍ، فَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ
وَحَصَلَ فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ خَوْفٌ شَدِيدٌ مِنَ التَّتَارِ،
فَتَجَهَّزَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأُبِيعَتِ
الْغَلَّاتُ حَتَّى حَوَاصِلُ الْقَلْعَةِ وَالْأُمَرَاءِ،
وَرَسَمَ
وُلَاةُ الْأُمُورِ عَلَى مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ أَنْ يُسَافِرَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى
مِصْرَ، وَوَقَعَتِ الرَّجْفَةُ فِي الشَّامِ وَفِي بِلَادِ الرُّومِ أَيْضًا،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ حَصَلَ لِبِلَادِ التَّتَرِ خَوْفٌ شَدِيدٌ أَيْضًا،
فَسُبْحَانَ الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ، الَّذِي بِيَدِهِ الْأَمْرُ. وَكَانَ
الْآمِرَ لِأَهْلِ دِمَشْقَ بِالتَّحَوُّلِ مِنْهَا إِلَى مِصْرَ نَائِبُهَا
الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ طَيْبَرْسُ الْوَزِيرِيُّ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ
إِلَيْهِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَمْسَكَهُ وَعَزَلَهُ وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا
جَمَالَ الدِّينِ آقُوشَ النَّجِيبِيَّ، وَاسْتَوْزَرَ بِدِمَشْقَ عِزَّ الدِّينِ
بْنَ وَدَاعَةَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ نَزَلَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ خَلِّكَانَ عَنْ
تَدْرِيسِ الرُّكْنِيَّةِ لِلشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ أَبِي شَامَةَ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ حِينَ دَرَّسَ، وَأَخَذَ فِي أَوَّلِ " مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ
"، أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ بْنُ الظَّاهِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ
الْعَبَّاسِيُّ
الَّذِي بَايَعَهُ الظَّاهِرُ بِمِصْرَ فِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ،
كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ قَتْلُهُ فِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، بَطَلًا فَاتِكًا، وَقَدْ كَانَ
السُّلْطَانُ الظَّاهِرُ أَنْفَقَ عَلَيْهِ حَتَّى أَقَامَ لَهُ جَيْشًا بِأَلْفِ
أَلْفِ دِينَارٍ وَأَزْيَدَ، وَسَارَ فِي خِدْمَتِهِ وَمَعَهُ خَلْقٌ مِنْ
أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَأَوْلَادِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ، وَكَانَ الْمَلِكُ
الصَّالِحُ إِسْمَاعِيلُ مِنَ الْوَفْدِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى الظَّاهِرِ،
فَأَرْسَلَهُ صُحْبَةَ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا كَانَتِ
الْوَقْعَةُ
فُقِدَ الْمُسْتَنْصِرُ، وَرَجَعَ الصَّالِحُ إِلَى بِلَادِهِ، فَجَاءَتْهُ
التَّتَارُ، فَحَاصَرُوهُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَتَلُوهُ وَخَرَّبُوا بِلَادَهُ،
وَقَتَلُوا أَهْلَهَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
الْعِزُّ الضَّرِيرُ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ
وَاسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ نَجَا، مِنْ أَهْلِ
نَصِيبِينَ، وَنَشَأَ بِإِرْبِلَ، فَاشْتَغَلَ بِعُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنْ عُلُومِ
الْأَوَائِلِ، وَكَانَ يَشْتَغِلُ عَلَيْهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَغَيْرُهُمْ،
وَنُسِبَ إِلَى الِانْحِلَالِ وَقِلَّةِ الدِّينِ، وَتَرْكِ الصَّلَوَاتِ، وَكَانَ
ذَكِيًّا، وَلَيْسَ بِذَكِيٍّ; عَالِمَ اللِّسَانِ، جَاهِلَ الْقَلْبِ، ذَكِيَّ
الْقَوْلِ، خَبِيثَ الْفِعْلِ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ رَائِقٌ أَوْرَدَ مِنْهُ
الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ قِطْعَةً فِي تَرْجَمَتِهِ، وَهُوَ الضَّرِيرُ شَبِيهٌ
بِأَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ، قَبَّحَهُمَا اللَّهُ.
ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْحَسَنِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُهَذِّبِ، الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ
السُّلَمِيُّ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ، شَيْخُ الْمَذْهَبِ وَمُفِيدُ
أَهْلِهِ، وَصَاحِبُ مُصَنَّفَاتٍ حِسَانٍ; مِنْهَا التَّفْسِيرُ، وَاخْتِصَارُ
النِّهَايَةِ، وَالْقَوَاعِدُ الْكُبْرَى، وَالصُّغْرَى، وَكِتَابُ الصَّلَاةِ،
وَالْفَتَاوَى الْمَوْصِلِيَّةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ
كَثِيرًا، وَاشْتَغَلَ عَلَى فَخْرِ الدِّينِ بْنِ عَسَاكِرَ وَغَيْرِهِ، وَبَرَعَ
فِي الْمَذْهَبِ، وَعُلُومٍ كَثِيرَةٍ، وَأَفَادَ الطَّلَبَةَ، وَدَرَّسَ
بِعِدَّةِ مَدَارِسَ بِدِمَشْقَ، وَوَلِيَ خَطَابَتَهَا، ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهَا
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَدَرَّسَ بِهَا، وَخَطَبَ وَحَكَمَ،
وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِئَاسَةُ الْمَذْهَبِ،
وَقُصِدَ
بِالْفَتَاوَى مِنَ الْآفَاقِ، وَكَانَ لَطِيفًا ظَرِيفًا يَسْتَشْهِدُ
بِالْأَشْعَارِ، وَقَدْ كَانَ خُرُوجُهُ مِنَ الشَّامِ بِسَبَبِ مَا كَانَ
أَنْكَرَهُ عَلَى الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ مِنْ تَسْلِيمِهِ صَفَدَ وَالشَّقِيفَ
إِلَى الْفِرِنْجِ، وَوَافَقَهُ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْحَاجِبِ
الْمَالِكِيُّ، فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ بَلَدِهِ، فَسَارَ أَبُو عَمْرٍو إِلَى
النَّاصِرِ دَاوُدَ صَاحِبِ الْكَرَكِ فَأَكْرَمهُ، وَسَارَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ
إِلَى الْمَلِكِ الصَّالِحِ أَيُّوبَ بْنِ الْكَامِلِ صَاحِبِ مِصْرَ،
فَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَوَلَّاهُ قَضَاءَ مِصْرَ وَخَطَابَةَ الْجَامِعِ
الْعَتِيقِ، ثُمَّ انْتَزَعَهُمَا مِنْهُ، وَأَقَرَّهُ عَلَى تَدْرِيسِ
الصَّالِحِيَّةِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بِهَا لِلْقَاضِي تَاجِ
الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ، وَتُوُفِّيَ فِي عَاشِرِ جُمَادَى الْأُولَى،
وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِسَفْحِ
الْمُقَطَّمِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ السُّلْطَانُ الظَّاهِرُ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْعَدِيمِ الْحَنَفِيُّ
عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى بْنِ زُهَيْرِ بْنِ هَارُونَ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي جَرَادَةَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ
بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عُقَيْلٍ الْحَلَبِيُّ
الْحَنَفِيُّ، كَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْعَدِيمِ، الْأَمِيرُ
الْوَزِيرُ الرَّئِيسُ الْكَبِيرُ، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَحَدَّثَ وَتَفَقَّهَ وَأَفْتَى وَدَرَّسَ
وَصَنَّفَ، وَكَانَ إِمَامًا فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ تَرَسَّلَ إِلَى
الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ مِرَارًا عَدِيدَةً، وَكَانَ يَكْتُبُ حَسَنًا
طَرِيقَةً مَشْهُورَةً، وَصَنَّفَ لِحَلَبَ تَارِيخًا مُفِيدًا يَقْرُبُ
مِنْ
أَرْبَعِينَ مُجَلَّدًا، وَكَانَ جَيِّدَ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ، حَسَنَ
الظَّنِّ بِالْفُقَرَاءِ وَالصَّالِحِينَ، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ،
وَقَدْ أَقَامَ بِدِمَشْقَ فِي الدَّوْلَةِ النَّاصِرِيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ الْمُقَطَّمِ بَعْدَ الشَّيْخِ
عِزِّ الدِّينِ بِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ قُطْبُ الدِّينِ
أَشْعَارًا حَسَنَةً.
يُوسُفُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ سَلَامَةَ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ
بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاقَانِيِّ الزَّيْنَبِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبَدِ
الْمُطَّلِبِ، مُحْيِي الدِّينِ أَبُو الْمُعِزِّ، وَيُقَالُ: أَبُو الْمَحَاسِنِ
الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ الْمُوَصِّلِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ زَبْلَاقٍ
الشَّاعِرُ، قَتَلَتْهُ التَّتَارُ لَمَّا أَخَذُوا الْمَوْصِلَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
بَعَثْتَ لَنَا مِنْ سِحْرِ مُقْلَتِكَ الْوَسْنَى سُهَادًا يَذُودُ الْجَفْنَ
أَنْ يَأْلَفَ الْجَفْنَا وَأَبْصَرَ جِسْمَيْ حَسَنَ خَصْرِكَ نَاحِلًا
فَحَاكَاهُ لَكِنْ زَادَ فِي دِقَّةِ الْمَعْنَى وَأَبْرَزْتَ وَجْهًا أَخْجَلَ
الصُّبْحَ طَالِعًا
وَمِلْتَ بِقَدٍّ عَلَّمَ الْهَيِّفَ الْغُصْنَا حَكَيْتَ أَخَاكَ الْبَدْرَ
لَيْلَةَ تِمِّهِ
سَنًا وَسَنَاءً إِذْ تَشَابَهْتُمَا سَنَا
وَقَالَ أَيْضًا، وَقَدْ دُعِيَ إِلَى مَوْضِعٍ، فَبَعَثَ يَعْتَذِرُ بِهَذَيْنَ
الْبَيْتَيْنِ:
أَنَا
فِي مَنْزِلِي وَقَدْ وَهَبَ الْ لَّهُ نَدِيمًا وَقَيْنَةً وَعُقَارَا
فابْسُطُوا الْعُذْرَ فِي التَّأَخُّرِ عَنْكُمْ شَغَلَ الْحَلْيَ أَهْلُهُ أَنْ
يُعَارَا
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَفِيهَا فِي ثَانِي عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ تُوُفِّيَ:
الْبَدْرُ الْمَرَاغِيُّ الْخِلَافِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالطَّوِيلِ، وَكَانَ قَلِيلَ الدِّينِ تَارِكًا لِلصَّلَاةِ،
مُغْتَبِطًا بِمَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْجَدَلِ وَالْخِلَافِ عَلَى
اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ، رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَجَمِيعَ
الْمُسْلِمِينَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ يَاقُوتَ الصَّارِمِيُّ
الْمُحَدِّثُ، كَتَبَ كَثِيرًا; الطَّبَقَاتِ وَغَيْرَهَا، وَكَانَ دَيِّنًا
خَيِّرًا، يُعِيرُ كُتُبَهُ، وَيُدَاوِمُ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِسَمَاعِ
الْحَدِيثِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَسُلْطَانُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ بِيبَرْسُ الْبُنْدُقْدَارِيُّ، وَنَائِبُهُ عَلَى الشَّامِ
جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ النَّجِيبِيُّ، وَقَاضِيهِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ
خَلِّكَانَ، وَالْوَزِيرُ بِهَا عِزُّ الدِّينِ بْنُ وَدَاعَةَ، وَلَيْسَ
لِلنَّاسِ خَلِيفَةٌ، وَإِنَّمَا تَضْرِبُ السِّكَّةُ بِاسْمِ الْمُسْتَنْصِرِ
الَّذِي قُتِلَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ.
ذِكْرُ خِلَافَةِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ
الْأَمِيرِ
أَبِي عَلَىٍّ الْقُبِّيِّ بْنِ الْأَمِيرِ عَلِيِّ بْنِ الْأَمِيرِ أَبِي بَكْرِ
بْنِ الْإِمَامِ
الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي مَنْصُورٍ الْفَضْلِ بْنِ
الْإِمَامِ
الْمُسْتَظْهِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ الْعَبَّاسِيِّ
الْهَاشِمِيِّ
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ ثَانِي الْمُحَرَّمِ، جَلَسَ السُّلْطَانُ
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ وَأُمَرَاؤُهُ وَأَهْلُ الْحَلِّ
وَالْعَقْدِ فِي الْإِيوَانِ الْكَبِيرِ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ، وَجَاءَ
الْخَلِيفَةُ
الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ رَاكِبًا حَتَّى نَزَلَ عِنْدَ الْإِيوَانِ، وَقَدْ
بُسِطَ لَهُ إِلَى جَانِبِ السُّلْطَانِ، وَذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ نَسَبِهِ،
فَقُرِئَ نَسَبُهُ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ
بِيبَرْسُ فَبَايَعَهُ وَبَايَعَهُ النَّاسُ بَعْدَهُ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثَانِيهِ خَطَبَ الْخَلِيفَةُ بِالنَّاسِ،
فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَقَامَ لِآلِ الْعَبَّاسِ
رُكْنًا ظَهِيرًا، وَجَعَلَ لَهُمْ مِنْ لَدُنْهُ سُلْطَانًا نَصِيرًا، أَحْمَدُهُ
عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى شُكْرِ مَا أَسْبَغَ مِنَ
النَّعْمَاءِ، وَأَسْتَنْصِرُهُ عَلَى دَفْعِ الْأَعْدَاءِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ نُجُومِ
الِاهْتِدَاءِ، وَأَئِمَّةِ الِاقْتِدَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَعَلَى الْعَبَّاسِ
عَمِّهِ وَكَاشِفِ غَمِّهِ أَبِي السَّادَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
وَأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَلَى بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ
وَالتَّابِعَيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَيُّهَا النَّاسُ
اعْلَمُوا أَنَّ الْإِمَامَةَ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ، وَالْجِهَادُ
مَحْتُومٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ، وَلَا يَقُومُ عَلَمُ الْجِهَادِ إِلَّا
بِاجْتِمَاعِ كَلِمَةِ الْعِبَادِ، وَلَا سُبِيَتِ الْحُرَمُ إِلَّا بِانْتِهَاكِ
الْمَحَارِمِ، وَلَا سُفِكَتِ الدِّمَاءُ إِلَّا بِارْتِكَابِ الْجَرَائِمِ،
فَلَوْ شَاهَدْتُمْ أَعْدَاءَ الْإِسْلَامِ لَمَّا دَخَلُوا دَارَ السَّلَامِ، وَاسْتَبَاحُوا
الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ، وَقَتَلُوا الرِّجَالَ وَالْأَطْفَالَ، وَهَتَكُوا
حُرَمَ الْخِلَافَةِ وَالْحَرِيمِ، وَأَذَاقُوا مَنِ اسْتَبَقُوا الْعَذَابَ
الْأَلِيمَ، فَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ بِالْبُكَاءِ وَالْعَوِيلِ، وَعَلَتِ
الضَّجَّاتُ مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الطَّوِيلِ، فَكَمْ مِنْ شَيْخٍ
خُضِّبَتْ شَيْبَتُهُ
بِدِمَائِهِ،
وَكَمْ مِنْ طِفْلٍ بَكَى فَلَمْ يُرْحَمْ لِبُكَائِهِ، فَشَمِّرُوا عَنْ سَاقِ
الِاجْتِهَادِ فِي إِحْيَاءِ فَرْضِ الْجِهَادِ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ
وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ التَّغَابُنِ: 16
] فَلَمْ يَبْقَ مَعْذِرَةٌ فِي الْقُعُودِ عَنْ أَعْدَاءِ الدِّينِ،
وَالْمُحَامَاةِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ
السَّيِّدُ الْأَجَلُّ الْعَالِمُ الْعَادِلُ الْمُجَاهِدُ الْمُؤَيَّدُ رُكْنُ
الدُّنْيَا وَالدِّينِ، قَدْ قَامَ بِنَصْرِ الْإِمَامَةِ عِنْدَ قِلَّةِ
الْأَنْصَارِ، وَشَرَّدَ جُيُوشَ الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ جَاسُوا خِلَالَ
الدِّيَارِ، فَأَصْبَحَتِ الْبَيْعَةُ بِاهْتِمَامِهِ مُنْتَظِمَةَ الْعُقُودِ،
وَالدَّوْلَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ بِهِ مُتَكَاثِرَةَ الْجُنُودِ، فَبَادِرُوا
عِبَادَ اللَّهِ إِلَى شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَأَخْلِصُوا نِيَّاتِكُمْ
تُنْصَرُوا، وَقَاتَلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ تَظْفَرُوا، وَلَا
يُرَوِّعُكُمْ مَا جَرَى، فَالْحَرْبُ سِجَالٌ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ،
وَالدَّهْرُ يَوْمَانِ، وَالْأَجْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، جَمَعَ اللَّهُ عَلَى
الْهُدَى أَمْرَكُمْ، وَأَعَزَّ بِالْإِيمَانِ نَصْرَكُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ
لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. ثُمَّ خَطَبَ الثَّانِيَةَ، وَنَزَلَ فَصَلَّى.
وَكَتَبَ بَيْعَتَهُ إِلَى الْآفَاقِ لِيُخْطَبَ لَهُ، وَضُرِبَتِ السِّكَّةُ
بِاسْمِهِ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: فَخُطِبَ لَهُ بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَسَائِرِ
الْجَوَامِعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ. وَهَذَا الْخَلِيفَةُ هُوَ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ مِنْ خُلَفَاءِ
بَنِي الْعَبَّاسِ، وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ مَنْ لَيْسَ
وَالِدُهُ وَجَدُّهُ خَلِيفَةً بَعْدَ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ سِوَى هَذَا،
فَأَمَّا مَنْ لَيْسَ وَالِدُهُ خَلِيفَةً فَكَثِيرٌ، مِنْهُمُ الْمُسْتَعِينُ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ، وَالْمُعْتَضِدُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ
الْمُتَوَكِّلِ، وَالْقَادِرُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْمُقْتَدِرِ، وَالْمُقْتَدِي
بْنُ الذَّخِيرَةِ بْنُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ.
ذِكْرُ
أَخْذِ الظَّاهِرِ الْكَرَكَ وَإِعْدَامِ صَاحِبِهَا
وَفِيهَا رَكِبَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي
الْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ قَاصِدًا نَاحِيَةَ بِلَادِ الْكَرَكِ، وَاسْتَدْعَى
صَاحِبَهَا الْمَلِكَ الْمُغِيثَ عُمَرَ بْنَ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
الْكَامِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَادِلِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ بَعْدَ جُهْدٍ
أَرْسَلَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُعْتَقَلًا، فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ
بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَاتَبَ هُولَاكُو وَحَثَّهُ عَلَى الْقُدُومِ إِلَى
الشَّامِ مَرَّةً أُخْرَى، وَجَاءَتْهُ كُتُبُ التَّتَارِ بِالثَّبَاتِ
وَنِيَابَةِ الْبِلَادِ، وَأَنَّهُ سَيَقْدُمُ عَلَيْهِ عِشْرُونَ أَلْفًا لِفَتْحِ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَخْرَجَ السُّلْطَانُ فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ
بِقَتْلِهِ، وَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ خَلِّكَانَ - وَكَانَ قَدِ اسْتَدْعَاهُ
مِنْ دِمَشْقَ - وَعَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ سَارَ فَتَسَلَّمَ
الْكَرَكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى، وَدَخَلَهَا
يَوْمئِذٍ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
وَفِيهَا قَدِمَتْ رُسُلُ بَرَكَةَ خَانَ إِلَى الظَّاهِرِ يَقُولُ لَهُ: قَدْ
عَلِمْتَ مَحَبَّتِي لِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَعَلِمْتَ مَا فَعَلَ هُولَاكُو
بِالْمُسْلِمِينَ، فَارْكَبْ أَنْتَ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَآتِيهِ أَنَا مِنْ
نَاحِيَةٍ حَتَّى نَصْطَلِمَهُ أَوْ نُخْرِجَهُ مِنَ الْبِلَادِ، وَأَيًّا مَا
كَانَ أَعْطَيْتُكَ جَمِيعَ مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنَ الْبِلَادِ. فَاسْتَصْوَبَ
الظَّاهِرُ هَذَا الرَّأْيَ، وَشَكَرَهُ وَخَلَعَ عَلَى رُسُلِهِ وَأَكْرَمَهُمْ.
وَفِيهَا زُلْزِلَتِ الْمَوْصِلُ زَلْزَلَةً عَظِيمَةً، وَتَهَدَّمَتْ أَكْثَرُ
دُورِهَا.
وَفِي
رَمَضَانَ جَهَّزَ الظَّاهِرُ صُنَّاعًا وَأَخْشَابًا وَآلَاتٍ كَثِيرَةً
لِعِمَارَةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
حَرِيقِهِ، فَطِيفَ بِتِلْكَ الْأَخْشَابِ وَالْآلَاتِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فَرْحَةً بِهَا وَتَعْظِيمًا لَهَا، ثُمَّ سَارُوا بِهَا إِلَى
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ.
وَفِي شَوَّالٍ سَارَ الظَّاهِرُ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَنَظَرَ فِي
أَحْوَالِهَا وَأُمُورِهَا، وَعَزَلَ قَاضِيَهَا وَخَطِيبَهَا نَاصِرَ الدِّينِ
أَحْمَدَ بْنَ الْمُنِيرِ، وَوَلَّى غَيْرَهُ.
وَفِيهَا الْتَقَى بَرَكَةُ قَانَ وَهُولَاوُو وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ جُيُوشٌ
كَثِيرَةٌ، فَاقْتَتَلُوا فَهُزِمَ هُولَاكُو هَزِيمَةً فَظِيعَةً، وَقُتِلَ
أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَغَرِقَ أَكْثَرُ مَنْ بَقِيَ، وَهَرَبَ هُوَ فِي
شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا نَظَرَ بَرَكَةُ خَانَ إِلَى كَثْرَةِ الْقَتْلَى قَالَ: يَعِزُّ عَلَيَّ
أَنْ يَقْتُلَ الْمَغُولُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَكِنْ كَيْفَ الْحِيلَةُ فِيمَنْ
غَيَّرَ سُنَّةَ جِنْكِزْخَانَ؟ ! ثُمَّ أَغَارَ بَرَكَةُ خَانَ عَلَى بِلَادِ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، فَصَانَعَهُ صَاحِبُهَا، وَأَرْسَلَ الظَّاهِرُ هَدَايَا
عَظِيمَةً إِلَى بَرَكَةَ وَتُحَفًا كَثِيرَةً هَائِلَةً.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ
سَيِّدِ النَّاسِ، أَبُو بَكْرٍ الْيَعْمُرِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْحَافِظُ
وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَحَصَّلَ كُتُبًا عَظِيمَةً، وَصَنَّفَ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، وَخُتِمَ بِهِ
الْحُفَّاظُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، تُوفِّيَ بِمَدِينَةِ تُونُسَ فِي الرَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
عَبْدُ
الرَّزَّاقِ بْنُ رِزْقِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلَفٍ عِزُّ الدِّينِ،
أَبُو مُحَمَّدٍ الرَّسْعَنِيُّ
الْمُحَدِّثُ الْمُفَسِّرُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ وَحَدَّثَ، وَكَانَ مِنَ
الْفُضَلَاءِ الْأُدَبَاءِ، لَهُ مَكَانَةٌ عِنْدَ الْبَدْرِ لُؤْلُؤٍ صَاحِبِ
الْمَوْصِلِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ صَاحِبِ سِنْجَارَ، وَبِهَا تُوُفِّيَ فِي
لَيْلَةِ الْجُمُعَةَ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَقَدْ جَاوَزَ
السَّبْعِينَ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
نَعَبَ الْغُرَابُ فَدَلَّنَا بِنَعِيبِهِ أَنَّ الْحَبِيبَ دَنَا أَوَانُ
مَغِيبِهِ يَا سَائِلِي عَنْ طِيبِ عَيْشِيَ بَعْدَهُمْ
جُدْ لِي بِعَيْشٍ ثُمَّ سَلْ عَنْ طِيبِهِ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَنْتَرٍ السُّلَمِيُّ الدِّمَشْقِيُّ
مُحْتَسِبُهَا، وَكَانَ مِنْ عُدُولِهَا وَأَعْيَانِهَا، وَلَهُ بِهَا أَمْلَاكٌ
وَثَرْوَةٌ وَأَوْقَافٌ، تُوفِّيَ بِالْقَاهِرَةِ، وَدُفِنَ بِالْمُقَطَّمِ.
عَلَمُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُوَفَّقِ بْنِ
جَعْفَرٍ الْمُرْسِيُّ اللَّوْرَقِيُّ
اللُّغَوِيُّ النَّحْوِيُّ الْمُقْرِئُ، شَرَحَ " الشَّاطِبِيَّةَ "
شَرْحًا مُخْتَصَرًا، وَشَرَحَ " الْمُفَصَّلَ " فِي عِدَّةِ
مُجَلَّدَاتٍ، وَشَرَحَ " الْجُزُولِيَّةَ " وَقَدِ اجْتَمَعَ
بِمُصَنِّفِهَا، وَسَأَلَهُ عَنْ بَعْضِ مَسَائِلِهَا، وَكَانَ ذَا فُنُونٍ
مُتَعَدِّدَةٍ، حَسَنَ الشَّكْلِ،
مَلِيحَ
الْوَجْهِ، لَهُ هَيْئَةٌ حَسَنَةٌ وَبِزَّةٌ وَجِمَالٌ، وَقَدْ سَمِعَ
الْكِنْدِيَّ وَغَيْرَهُ.
الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الدِّينَوَرِيُّ
وَهُوَ بَانِي الزَّاوِيَةِ بِالصَّالِحِيَّةِ، وَكَانَ لَهُ فِيهَا جَمَاعَةٌ
مُرِيدُونَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ بِأَصْوَاتٍ حَسَنَةٍ طَيِّبَةٍ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
مَوَلِدُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ شَيْخِ الْإِسْلَامِ
قَالَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ
شَيْخُنَا تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ
عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيُّ
بَحَرَّانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَاشِرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى
وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ مُجِيرُ الدِّينِ أَبُو الْهَيْجَاءِ عِيسَى بْنُ خُشْتَرِينَ
الِأَزْكُشِيُّ الْكُرْدِيُّ الْأُمَوِيُّ
كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ وَشُجْعَانِهِمْ، وَلَهُ يَوْمَ عَيْنِ
جَالُوتَ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ فِي كَسْرِ التَّتَارِ، وَلَمَّا دَخَلَ الْمَلِكُ
الْمُظَفَّرُ إِلَى دِمَشْقَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ جَعَلَهُ - مَعَ الْأَمِيرِ
عَلَمِ الدِّينِ سَنْجَرَ الْحَلَبِيِّ نَائِبِ الْبَلَدِ - مُسْتَشَارًا
وَمُشَارِكًا فِي الرَّأْيِ وَالْمَرَاسِيمِ وَالتَّدْبِيرِ، وَكَانَ يَجْلِسُ
مَعَهُ فِي دَارِ الْعَدْلِ، وَلَهُ الْإِقْطَاعُ الْكَامِلُ وَالرِّزْقُ
الْوَاسِعُ، إِلَى أَنَّ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ أَبُو شَامَةَ:
وَوَالِدُهُ الْأَمِيرُ
حُسَامُ
الدِّينِ تُوُفِّيَ فِي حَبْسِ الْمَلَكِ الْأَشْرَفِ بِبِلَادِ الشَّرْقِ هُوَ
وَالْأَمِيرُ عِمَادُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الْمَشْطُوبِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى.
قُلْتُ: وَوَلَدُهُ الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ تَوَلَّى وِلَايَةَ هَذِهِ
الْمَدِينَةِ - أَعْنِي دِمَشْقَ - مُدَّةً، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ،
وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ دَرْبُ سَقَونَ بِالصَّاغَةِ الْعَتِيقَةِ، فَيُقَالُ: دَرْبُ
ابْنِ أَبِي الْهَيْجَاءِ. لِأَنَّهُ كَانَ بِهِ سَكَنُهُ، وَكَانَ يَعْمَلُ
الْوِلَايَةَ فِيهِ، فَعُرِفَ بِهِ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ كَانَ فِيهِ
نُزُولُنَا حِينَ قَدِمْنَا مِنْ حُورَانَ وَأَنَا صَغِيرٌ، فَخَتَمْتُ فِيهِ
الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَسِتّمِائَة
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيُّ،
وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ الذَّابُّ عَنْ حَوْزَتِهِ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ رُكْنُ
الدِّينِ بِيبَرْسُ الْبُنْدُقْدَارِيُّ - أَيَّدَهُ اللَّهُ وَشَدَّ عَضُدَهُ -
وَنَائِبُ الشَّامِ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ النَّجِيبِيُّ، وَقَاضِيهِ
شَمْسُ الدِّينِ بْنُ خَلِّكَانَ.
وَفِيهَا فِي أَوَّلِهَا كَمَلَتِ الْمَدْرَسَةُ الظَّاهِرِيَّةُ الَّتِي بَيْنَ
الْقَصْرَيْنِ، وَرُتِّبَ لِتَدْرِيسِ الشَّافِعِيَّةِ بِهَا الْقَاضِي تَقِيُّ
الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ رَزِينٍ، وَلِتَدْرِيسِ الْحَنَفِيَّةِ
مَجْدُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَمَالِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ
الْعَدِيمِ، وَلِمَشْيَخَةِ الْحَدِيثِ بِهَا الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ عَبْدُ
الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ الْحَافِظُ الدِّمْيَاطِيُّ.
وَفِيهَا عَمَّرُ الظَّاهِرُ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ خَانًا، وَوَقَفَ عَلَيْهِ
أَوْقَافًا لِلنَّازِلِينَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ نِعَالِهِمْ وَأَكْلِهِمْ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَبَنَى بِهِ طَاحُونًا وَفُرْنًا.
وَفِيهَا قَدِمَتْ رُسُلُ الْمَلِكِ بَرَكَةَ قَانَ إِلَى الْمَلِكِ الظَّاهِرِ،
وَمَعَهُمُ الْأَشْرَفُ بْنُ شِهَابِ الدِّينِ غَازِي بْنِ الْعَادِلِ، وَمَعَهُمْ
مِنَ الْكُتُبِ وَالْمُشَافِهَاتِ مَا فِيهِ سُرُورٌ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ
مِمَّا حَلَّ بِهِولَاكُوَ وَأَهْلِهِ.
وَفِي
جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا دَرَّسَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيُّ بِدَارِ
الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ، بَعْدَ وَفَاةِ الْقَاضِي عِمَادِ الدِّينِ بْنِ
الْحَرَسْتَانِيِّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ خَلِّكَانَ
وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ وَالْأَعْيَانِ، وَذَكَرَ خُطْبَةَ كِتَابِهِ
" الْمَبْعَثِ " وَأَوْرَدَ الْحَدِيثَ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ، وَذَكَرَ
فَوَائِدَ كَثِيرَةً مُسْتَحْسَنَةً، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يُرَاجِعْ شَيْئًا
حَتَّى أَوْرَدَ دَرْسَهُ، وَمِثْلُهُ لَا يُسْتَكْثَرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا قَدِمَ نَصِيرُ الدِّينِ الطُّوسِيُّ إِلَى بَغْدَادَ مِنْ جِهَةِ
السُّلْطَانِ هُولَاكُو قَانَ، فَنَظَرَ فِي الْأَوْقَافِ وَأَحْوَالِ الْبَلَدِ،
وَأَخَذَ كُتُبًا كَثِيرَةً مِنْ سَائِرِ الْمَدَارِسِ، وَحَوَّلَهَا إِلَى
الرَّصْدِ الَّذِي بَنَاهُ بِمَرَاغَةَ، ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى وَاسِطٍ
وَالْبَصْرَةِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى بْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرْكُوهِ بْنِ
نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرْكُوهُ الْكَبِيرِ
كَانُوا مُلُوكَ حِمْصَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ إِلَى هَذَا الْحِينِ، وَقَدْ كَانَ
مِنَ الْكُرَمَاءِ الْمَوْصُوفِينَ، وَالْكُبَرَاءِ الدَّمَاشِقَةِ
الْمُتْرَفِينَ، وَيَعْتَنِي بِالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، وَالْمَلَابِسِ
وَالْمَرَاكِبِ، وَقَضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَالْمَآرِبِ، وَكَثْرَةِ التَّنَعُّمِ
بِالْمَغَانِي وَالْحَبَائِبِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ وُجِدَتْ لَهُ
حَوَاصِلُ
مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ وَالْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ، وَعَادَ مُلْكُهُ
إِلَى الدَّوْلَةِ الظَّاهِرِيَّةِ.
وَتُوُفِّيَ مَعَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ
الْجُوكَنْدَارُ نَائِبُ حَلَبَ.
وَفِيهَا كَانَتْ كَسْرَةُ التَّتَارِ عَلَى حِمْصَ، وَقُتِلَ مُقَدَّمُهُمْ
بَيْدَرَةُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ الْحَسَنِ الْجَمِيلِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الرَّشِيدِ الْعَطَّارِ الْمُحَدِّثِ بِمِصْرَ،
وَالَّذِي حَضَرَ مَسْخَرَةَ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى بْنِ الْعَادِلِ.
وَالتَّاجِرِ الْمَشْهُورِ الْحَاجِّ نَصْرِ بْنِ تُرُوسَ، وَكَانَ مُلَازِمًا
لِلصَّلَوَاتِ بِالْجَامِعِ، وَكَانَ مِنْ ذَوِي الْيَسَارِ وَالْخَيْرِ.
الْخَطِيبُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ الْحَرَسْتَانِيِّ: عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ
قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحَرَسْتَانِيِّ
كَانَ خَطِيبًا بِدِمَشْقَ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عَنْ أَبِيهِ فِي الدَّوْلَةِ
الْأَشْرَفِيَّةِ بَعْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي دَارِ
الْخَطَابَةِ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ
بِقَاسِيُونَ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَقَدْ تَوَلَّى بَعْدَهُ
الْخَطَابَةَ وَالْغَزَّالِيَّةَ وَلَدُهُ مُجِيرُ
الدِّينِ،
وَبَاشَرَ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ.
مُحْيِي الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ سُرَاقَةَ الْحَافِظُ الْمُحَدِّثُ الْأَنْصَارِيُّ
الشَّاطِبِيُّ، أَبُو بَكْرٍ الْمَغْرِبِيُّ
عَالِمٌ فَاضِلٌ دَيِّنٌ، وَأَقَامَ بِحَلَبَ مُدَّةً، ثُمَّ اجْتَازَ بِدِمَشْقَ
قَاصِدًا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ. وَقَدْ وَلِيَ دَارَ الْحَدِيثِ
الْكَامِلِيَّةَ بَعْدَ زَكِيِّ الدِّينِ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْمُنْذِرِيِّ،
وَقَدْ كَانَ لَهُ سَمَاعٌ جَيِّدٌ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ،
وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الشَّيْخِ أَبِي
الْقَاسِمِ الْقَبَّارِيُّ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ
، كَانَ مُقِيمًا بِغَيْطٍ لَهُ يَقْتَاتُ مِنْهُ وَيَعْمَلُ فِيهِ وَيَبْدُرُهُ،
وَيَتَوَرَّعُ جِدًّا، وَيُطْعِمُ النَّاسَ مِنْ ثِمَارِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي سَادِسِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَلَهُ
خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ
الْمُنْكَرِ، وَيَرْدَعُ الْوُلَاةَ عَنِ الظُّلْمِ فَيَسْمَعُونَ مِنْهُ
وَيُطِيعُونَهُ، وَإِذَا جَاءَ النَّاسُ إِلَى زِيَارَتِهِ إِنَّمَا يُكَلِّمُهُمْ
مِنْ طَاقَةِ الْمَنْزِلِ، وَهُمْ رَاضُونَ مِنْهُ بِذَلِكَ.
وَمِنْ غَرِيبِ مَا حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ بَاعَ دَابَّةً لَهُ مِنْ رَجُلٍ،
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ جَاءَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي إِنَّ
الدَّابَّةَ لَا تَأْكُلُ عِنْدِي شَيْئًا. فَنَظَرَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ فَقَالَ
لَهُ: مَا تُعَانِي مِنَ الصَّنَائِعِ؟ فَقَالَ: إِنَّ
دَابَّتَنَا
لَا تَأْكُلُ الْحَرَامَ. وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَأَعْطَاهُ دَرَاهِمَهُ وَمَعَهَا
دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ قَدِ اخْتَلَطَتْ بِهَا فَلَا تُمَيَّزُ، فَاشْتَرَى النَّاسُ
مِنَ الرَّقَّاصِ كُلَّ دِرْهَمٍ بِثَلَاثَةٍ لِأَجْلِ الْبَرَكَةِ، وَأَخَذَ
دَابَّتَهُ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ تَرَكَ مِنَ الْأَثَاثِ مَا يُسَاوِي خَمْسِينَ
دِرْهَمًا، فَأُبِيعُ بِمَبْلَغِ عِشْرِينَ أَلْفًا.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَفِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ
تُوُفِّيَ مُحْيِي الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفِيِّ الدِّينِ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ مَرْزُوقٍ بِدَارِهِ بِدِمَشْقَ الْمُجَاوِرَةِ لِلْمَدْرَسَةِ
النُّورِيَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قُلْتُ: دَارُهُ هَذِهِ هِيَ الَّتِي جُعِلَتْ مَدْرَسَةً لِلشَّافِعِيَّةِ،
وَقَفَهَا الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ النَّجِيبِيُّ، الَّتِي يُقَالُ
لَهَا: النَّجِيبِيَّةُ. تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ، وَبِهَا إِقَامَتُنَا،
جَعَلَهَا اللَّهُ دَارًا تَعْقُبُهَا دَارُ الْقَرَارِ فِي الْفَوْزِ الْعَظِيمِ.
وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ صَفِيُّ الدِّينِ وَزِيرًا مُدَّةً لِلْمَلِكِ الْأَشْرَفِ،
وَمَلَكَ مِنَ الذَّهَبِ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ خَارِجًا عَنِ الْأَمْلَاكِ
وَالْأَثَاثِ وَالْبَضَائِعِ، وَكَانَتْ وَفَاةُ أَبِيهِ بِمِصْرَ سَنَةَ تِسْعٍ
وَخَمْسِينَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ عِنْدَ جَبَلِ الْمُقَطَّمِ. رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَجَاءَ الْخَبَرُ مِنْ مِصْرَ بِوَفَاةِ الْفَخْرِ
عُثْمَانَ الْمِصْرِيِّ الْمَعْرُوفِ بِعَيْنِ عَيْنٍ.
قَالَ:
وَفِي ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ تُوُفِّيَ الشَّمْسُ الْوَتَّارُ
الْمُوصِلِيُّ، وَكَانَ قَدْ حَصَّلَ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْأَدَبِ، وَخَطَبَ
بِجَامِعِ الْمِزَّةِ مُدَّةً. فَأَنْشَدَنِي لِنَفْسِهِ فِي الشَّيْبِ
وَخِضَابِهِ:
وَكُنْتُ وَإِيَّاهَا مُذِ اخْتَطَّ عَارِضِي كَرُوحَيْنِ فِي جِسْمٍ وَمَا
نَقَضَتْ عَهْدَا فَلَمَّا أَتَانِي الشَّيْبُ يَقْطَعُ بَيْنَنَا
تَوَهَّمْتُهُ سَيْفًا فَأَلْبَسْتُهُ غِمْدَا
وَفِيهَا اسْتَحْضَرَ الْمَلِكُ هُولَاكُوقَانَ مَلِكُ التَّتَارِ الزَّيْنَ
الْحَافِظِيَّ، وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُؤَيَّدِ بْنِ عَامِرٍ
الْعَقْرَبَانِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالزَّيْنِ الْحَافِظِيِّ، وَقَالَ لَهُ: قَدْ
ثَبَتَ عِنْدِي خِيَانَتُكَ. وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمُغْتَرُّ لَمَّا قَدِمَ
التَّتَارُ مَعَ هُولَاكُو دِمَشْقَ وَغَيْرَهَا مَالَأَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
وَآذَاهُمْ، وَدَلَّ عَلَى عَوَرَاتِهِمْ، حَتَّى سَلَّطَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ
بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ وَالْمَثُلَاتِ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ
الظَّالِمِينَ بَعْضًا [ الْأَنْعَامِ: 129 ].
وَفِي الْجُمْلَةِ مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سُلِّطَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ
يَنْتَقِمُ مِنَ الظَّالِمِ بِالظَّالِمِ، ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنَ الظَّالِمِينَ
جَمِيعًا، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنَ انْتِقَامِهِ وَغَضَبِهِ
وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَسِتّمِائَةٍ
فِيهَا جَهَّزَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ عَسْكَرًا جَمًّا كَثِيفًا
إِلَى نَاحِيَةِ الْفُرَاتِ لِطَرْدِ التَّتَارِ النَّازِلِينَ بِالْبِيرَةِ،
فَلَمَّا سَمِعُوا بِالْعَسَاكِرِ الظَّاهِرِيَّةَ قَدْ أَقْبَلَتْ تَوَلَّوْا
عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْهَزِمِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،
فَطَابَتْ تِلْكَ النَّاحِيَةُ وَأَمِنَتْ تِلْكَ الْمُعَامَلَةُ، وَقَدْ كَانَتْ
قَبْلَ ذَلِكَ لَا تَسْكُنُ مِنْ كَثْرَةِ الْفَسَادِ بِهَا وَالْخَوْفِ،
فَعَمَرَتْ وَأَمِنَتْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا خَرَجَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ فِي عَسَاكِرَ أُخَرَ عَظِيمَةٍ، فَقَصَدَ
بِلَادَ السَّاحِلِ لِحِصَارِ الْفِرِنْجِ، فَفَتَحَ قَيْسَارِيَّةَ فِي ثَلَاثِ
سَاعَاتٍ مِنْ يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَامِنِ جُمَادَى الْأُولَى وَهُوَ يَوْمُ
نُزُولِهِ عَلَيْهَا، وَتَسَلَّمَ قَلْعَتَهَا فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْآخَرِ
خَامِسَ عَشَرَةَ فَهَدَمَهَا، وَانْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ، ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ فَتَحَ مَدِينَةَ أَرْسُوفَ،
وَقَتَلَ مَنْ بِهَا مِنَ الْفِرِنْجِ، وَجَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ بِذَلِكَ،
فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا
شَدِيدًا.
وَفِيهَا وَرَدَ خَبَرٌ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ بِأَنَّهُمُ انْتَصَرُوا عَلَى
الْفِرِنْجِ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ
وَأَسَرُوا عَشْرَةَ آلَافٍ، وَاسْتَرْجَعُوا مِنْهُمُ ثْنَتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ
بَلْدَةً مِنْهَا شَرِيشُ وَإِشْبِيلِيَّةُ وَقُرْطُبَةُ وَمُرْسِيَةُ، وَكَانَتِ
النُّصْرَةُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ
ثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ شُرِعَ فِي تَبْلِيطِ بَابِ الْبَرِيدِ
مِنْ بَابِ الْجَامِعِ إِلَى الْقَنَاةِ الَّتِي عِنْدَ الدَّرَجِ، وَعَمِلَ فِي
الصَّفِّ الْقِبْلِيِّ مِنْهَا بَرَكَةُ وَشَاذِرْوَانُ. وَكَانَ فِي مَوْضِعِهَا
قَنَاةٌ مِنَ الْقَنَوَاتِ يَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهَا عِنْدَ انْقِطَاعِ نَهْرِ
بَانِيَاسَ، فَغُيِّرَتْ وَعُمِلَ هَذَا الشَّاذِرْوَانُ. قُلْتُ: ثُمَّ غُيِّرَ
ذَلِكَ وَعُمِلَ مَكَانَهُ دَكَاكِينُ.
وَفِيهَا اسْتَدْعَى السُّلْطَانُ نَائِبَهُ عَلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرَ جَمَالَ
الدِّينِ آقُوشَ النَّجِيبِيَّ، فَسَارَ إِلَيْهِ سَمْعًا وَطَاعَةً، وَقَدْ نَابَ
عَنْهُ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ الْحِصْنِيُّ حَتَّى عَادَ مُكَرَّمًا مُعَزَّزًا.
وَفِيهَا وَلَّى السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ مِنْ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ
قُضَاةً فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُسْتَقِلِّينَ، يُوَلُّونَ مِنْ
جِهَتِهِمْ فِي الْبُلْدَانِ أَيْضًا كَمَا يُوَلِّي الشَّافِعِيُّ، فَكَانَ
لِلشَّافِعِيَّةِ تَاجُ الدِّينِ عَبْدُ الْوَهَّابِ ابْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ،
وَتَوَلَّى قَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ شَمْسُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ، وَقَضَاءَ
الْمَالِكِيَّةِ شَمْسُ الدِّينِ السُّبْكِيُّ، وَالْحَنَابِلَةَ شَمْسُ الدِّينِ
مُحَمَّدٌ الْمَقْدِسِيُّ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّانِيَ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بِدَارِ الْعَدْلِ،
وَكَانَ
سَبَبَ ذَلِكَ كَثْرَةُ تَوَقُّفِ الْقَاضِيَ تَاجِ الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ
الْأَعَزِّ فِي أُمُورٍ تُخَالِفُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، وَتُوَافِقُ غَيْرَهُ
مِنَ الْمَذَاهِبِ، فَأَشَارَ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ أَيْدُغْدِي
الْعَزِيزِيُّ عَلَى السُّلْطَانِ بِأَنْ يُوَلِّيَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ قَاضِيَ
قُضَاةٍ، وَكَانَ يُحِبُّ رَأْيَهُ وَمَشُورَتَهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ
فَفَعَلَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبَعَثَ بِأَخْشَابٍ وَرَصَاصٍ وَآلَاتٍ كَثِيرَةٍ
لِعِمَارَةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَأَرْسَلَ مِنْبَرًا فَنُصِبَ هُنَالِكَ.
وَفِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِبِلَادِ مِصْرَ، وَاتُّهِمَ النَّصَارَى،
فَعَاقَبَهُمُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ عُقُوبَةً عَظِيمَةً.
وَفِيهَا جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ سُلْطَانَ التَّتَارِ هُولَاكُو هَلَكَ
إِلَى لَعْنَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ فِي سَابِعِ رَبِيعٍ الْآخِرِ بِمَرَضِ
الصَّرَعِ بِمَدِينَةِ مَرَاغَةَ، وَدُفِنَ بِقَلْعَةِ تَلَا، وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ
قُبَّةٌ وَاجْتَمَعْتِ التَّتَارُ عَلَى وَلَدِهِ أَبْغَا، فَقَصَدَهُ الْمَلِكُ
بَرَكَةُ خَانَ، فَكَسَرَهُ وَفَرَّقَ جُمُوعَهُ، فَفَرِحَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ
بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَعَزَمَ عَلَى جَمْعِ الْعَسَاكِرِ لِيَأْخُذَ
بِلَادَ الْعِرَاقِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ لِتَفَرُّقِ الْعَسَاكِرِ فِي
الْإِقْطَاعَاتِ.
وَفِيهَا فِي ثَانِي عَشَرَ شَوَّالٍ سَلْطَنَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ وَلَدَهُ
الْمَلِكَ السَّعِيدَ مُحَمَّدَ بَرَكَةَ قَانَ، وَأَخَذَ لَهُ الْبَيْعَةَ مِنَ
الْأُمَرَاءِ، وَأَرْكَبَهُ وَمَشَى الْأُمَرَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَحَمَلَ
وَالِدُهُ الْغَاشِيَةَ بِنَفْسِهِ، وَالْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بِيَسْرِي
الشَّمْسِيُّ حَامِلٌ الْجِتَرَ،
وَالْقَاضِي
تَاجُ الدِّينِ ابْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ وَالْوَزِيرُ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ
حِنَّا رَاكِبَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَعْيَانُ الْأُمَرَاءِ رُكْبَانٌ
وَبَقِيَّتُهُمْ مُشَاةٌ حَتَّى شَقُّوا الْقَاهِرَةَ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَكَانَ
يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ خَتَنَ السُّلْطَانُ وَلَدَهُ الْمَلِكَ السَّعِيدَ
الْمَذْكُورَ، وَخَتَنَ مَعَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَوْلَادِ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ
يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
الزَّيْنُ خَالِدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ النَّابُلُسِيُّ
الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْحَافِظُ، شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ
بِدِمَشْقَ، كَانَ عَالِمًا بِصِنَاعَةِ الْحَدِيثِ، حَافِظًا لِأَسْمَاءِ
الرِّجَالِ، اشْتَغَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ
النَّوَاوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ مَشْيَخَةَ النُّورِيَّةِ
الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ، وَكَانَ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ
حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، فَكِهَ النَّفْسِ، كَثِيرَ الْمِزَاحِ عَلَى طَرِيقَةِ
الْمُحَدِّثِينَ، وَكَانَ قَدْ رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ، فَاشْتَغَلَ بِهَا،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ فِيهِ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ وَعِبَادَةٌ، وَكَانَتْ
جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ الْحُوَّارِيُّ
هُوَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ
الْأُمَوِيُّ الشَّيْخُ الْمَشْهُورُ صَاحِبُ الزَّاوِيَةِ بِحُوَّارَى، تُوفِّيَ
بِبَلَدِهِ،
وَكَانَ
خَيِّرًا صَالِحًا، لَهُ أَتْبَاعٌ وَأَصْحَابٌ يُحِبُّونَهُ، وَلَهُ مُرِيدُونَ
كَثِيرٌ مِنْ قَرَايَا حَوْرَانَ فِي الْجُبَيْلِ وَالْبَثَنِيَّةِ، وَهُمْ
حَنَابِلَةٌ لَا يَرَوْنَ الضَّرْبَ بِالدُّفِّ بَلْ بِالْكَفِّ، وَهُمْ أَمْثَلُ
مِنْ غَيْرِهِمْ.
الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ الْكُرْدِيُّ السِّنْجَارِيُّ
الَّذِي بَاشَرَ الْقَضَاءَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِرَارًا وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ بِالْقَاهِرَةِ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَكَانَتْ سِيرَتُهُ مَعْرُوفَةً
فِي أَخْذِ الرِّشَا مِنْ قُضَاةِ الْأَطْرَافِ وَالشُّهُودِ وَالْمُتَحَاكِمِينَ،
إِلَّا أَنَّهُ كَانَ جَوَادًا كَرِيمًا صُودِرَ هُوَ وَأَهْلُهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَة أَرْبَع وَسِتِّينَ وَسِتّمِائَة
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ
الْمُسْلِمِينَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ، وَقُضَاةُ مِصْرَ أَرْبَعَةٌ.
وَفِيهَا اسْتُجِدَّ بِدِمَشْقَ أَرْبَعَةُ قُضَاةٍ، كَمَا فُعِلَ فِي الْعَامِ
الْمَاضِي فِي دِيَارِ مِصْرَ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ، وَنَائِبُ الشَّامِ آقُوشُ
النَّجِيبِيُّ، وَفِيهَا وَرَدَتِ الْوِلَايَاتُ لِقَضَاءِ الْقُضَاةِ مِنَ
الْمَذَاهِبِ; فَصَارَ كُلُّ مَذْهَبٍ فِيهِ قَاضِي قُضَاةٍ، فَكَانَ فِي مَنْصِبِ
الشَّافِعِيَّةِ شَمْسُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَلِّكَانَ
الْبَرْمَكِيُّ، وَصَارَ عَلَى قَضَاءِ الْحَنَفِيَّةِ شَمْسُ الدِّينِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَا، وَالْحَنَابِلَةِ شَمْسُ الدِّينِ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ قُدَامَةَ،
وَلِلْمَالِكِيَّةِ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ الزَّوَاوِيِّ، وَقَدِ امْتَنَعَ مِنَ
الْوِلَايَةِ، فَأُلْزِمَ بِهَا حَتَّى قَبِلَ، ثُمَّ عَزَلَ نَفْسَهُ، ثُمَّ
أُلْزِمَ بِهَا فَقَبِلَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُبَاشِرَ أَوْقَافًا، وَلَا يَأْخُذَ
جَامَكِيَّةً عَلَى أَحْكَامِهِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَاضِي
الْحَنَابِلَةِ لَمْ يَأْخُذْ عَلَى أَحْكَامِهِ أَجْرًا وَقَالَ: نَحْنُ فِي
كِفَايَةٍ. فَأُعْفِيَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا، رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَقَدْ كَانَ
هَذَا الصَّنِيعُ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ قَدْ فُعِلَ فِي الْعَامِ
الْمَاضِي بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَيْضًا، وَاسْتَقَرَّتِ الْأَحْوَالُ
عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا
كَمَلَ عِمَارَةُ الْحَوْضِ الَّذِي شَرْقِيَّ قَنَاةِ بَابِ الْبَرِيدِ، وَعُمِلَ
لَهُ شَاذِرْوَانُ، وَفِيهِ أَنَابِيبُ يُجْرَى فِيهَا الْمَاءُ مِنَ الْقَنَاةِ
الَّتِي هِيَ غَرْبِيُّهُ إِلَى جَانِبِ الدَّرَجِ الشَّمَالِيَّةِ.
وَفِيهَا قَدِمَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ بِعَسَاكِرِهِ وَنَازَلَ
مَدِينَةَ صَفَدَ، وَاسْتَدْعَى بِالْمَجَانِيقِ مِنْ دِمَشْقَ وَأَحَاطَ بِهَا
وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى افْتَتَحَهَا، وَنَزَلَ أَهْلُهَا عَلَى حُكْمِهِ،
فَتَسَلَّمَ الْبَلَدَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَامِنَ عَشَرَ شَوَّالٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ، وَقَدْ كَانَ
الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ افْتَتَحَهَا فِي شَوَّالٍ أَيْضًا فِي سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، ثُمَّ اسْتَعَادُوهَا أَيْضًا
فَانْتَزَعَهَا مِنْهُمْ قَسْرًا وَقَهْرًا الْمَلِكُ الظَّاهِرُ رَحِمَهُ اللَّهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَكَانَ السُّلْطَانُ فِي نَفْسِهِ
مِنْهُمْ شَيْءُ كَثِيرٌ، فَلَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى فَتْحِهَا طَلَبُوا
الْأَمَانَ، فَأَجْلَسَ عَلَى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهِ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ
كَرْمُونَ التَّتَرِيَّ، وَجَاءَتْ رُسُلُهُمْ، فَحَلَّفُوهُ وَانْصَرَفُوا، وَلَا
يَشْعُرُونَ أَنَّ الَّذِي أَعْطَاهُمُ الْعُهُودَ بِالْأَمَانِ إِنَّمَا هُوَ
الْأَمِيرُ الَّذِي أَجْلَسَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَالْحَرْبُ خُدْعَةٌ، فَلَمَّا
خَرَجَتِ الْإِسْبِتَارِيَّةُ وَالدَّاوِيَّةُ مِنَ الْقَلْعَةِ وَقَدْ فَعَلُوا
بِالْمُسْلِمِينَ الْأَفَاعِيلَ، فَأَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَأَمَرَ
السُّلْطَانُ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَجَاءَتِ الْبَشَائِرُ
إِلَى الْقِلَاعِ بِذَلِكَ، فَدُقَّتِ الْبَشَائِرُ وَزُيِّنَتِ الْبِلَادُ
وَفَرِحَ الْعِبَادُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، ثُمَّ بُثَّتِ السَّرَايَا يَمِينًا
وَشِمَالًا فِي بِلَادِ الْفِرِنْجِ، فَاسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى حُصُونٍ
كَثِيرَةٍ تُقَارِبُ عِشْرِينَ حِصْنًا،
وَأَسَرُوا
قَرِيبًا مِنْ أَلْفِ أَسِيرٍ مَا بَيْنَ امْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ، وَغَنِمُوا شَيْئًا
كَثِيرًا، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ فِي الْبُلْدَانِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ
بِنَصْرِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ.
وَفِيهَا قَدِمَ وَلَدُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَعْصِمِ بْنِ الْمُسْتَنْصِرِ بْنِ
الظَّاهِرِ بْنِ النَّاصِرِ الْعَبَّاسِيُّ - وَاسْمُهُ عَلِيٌّ - إِلَى دِمَشْقَ،
فَأُكْرِمَ وَأُنْزِلَ بِالدَّارِ الْأَسَدِيَّةِ تُجَاهَ الْمَدْرَسَةِ
الْعَزِيزِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ أَسِيرًا فِي أَيْدِي التَّتَارِ، فَلَمَّا
كَسَرَهُمْ بَرَكَةُ خَانَ تَخَلَّصَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَصَارَ إِلَى دِمَشْقَ،
وَلَمَّا فَتَحَ السُّلْطَانُ صَفَدَ أَخْبَرَهُ بَعْضُ مَنْ كَانَ بِهَا مَنْ
أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ أَنَّ سَبَبَ أَسْرِهِمْ أَنَّ أَهْلَ قَرْيَةِ قَارَا
كَانُوا يَأْخُذُونَهُمْ فَيَحْمِلُونَهُمْ إِلَى الْفِرِنْجِ، فَيَبِيعُونَهُمْ
مِنْهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَكِبَ السُّلْطَانُ قَاصِدًا قَارَا، فَأَوْقَعَ
بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ مِنْ
أَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ أَخْذًا بِثَأْرِ الْمُسْلِمِينَ، جَزَاهُ اللَّهُ
خَيْرًا. ثُمَّ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ جَيْشًا هَائِلًا
إِلَى بِلَادِ سِيسَ، فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَفَتَحُوا سِيسَ عَنْوَةً،
وَأَسَرُوا ابْنَ مَلِكِهَا وَقَتَلُوا أَخَاهُ، وَنَهَبُوهَا وَقَتَلُوا
أَهْلَهَا، وَأَخَذُوا بِثَأْرِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ مِنْهُمْ; وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ كَانُوا أَضَرَّ شَيْءٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ زَمَنَ التَّتَارِ، لَمَّا
أَخَذُوا مَدِينَةَ حَلَبَ وَغَيْرَهَا أَسَرُوا مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ
وَأَطْفَالِهِمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا، ثُمَّ كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ
يُغِيرُونَ عَلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَنِ هُولَاكُو، فَكَبَتَهُ
اللَّهُ وَأَهَانَهُ عَلَى يَدَيْ أَنْصَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ كَثِيرًا دَائِمًا، وَكَانَتِ النُّصْرَةُ عَلَيْهِمْ فِي يَوْمِ
الثُّلَاثَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ إِلَى الْبِلَادِ وَضُرَبَتِ الْبَشَائِرُ.
وَفِي
الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ دَخَلَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
الظَّاهِرُ دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ ابْنُ صَاحِبِ سِيسَ
وَجَمَاعَةٌ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْمَنِ أُسَارَى أَذِلَّاءَ صَغَرَةً
وَالْعَسَاكِرُ صُحْبَتُهُ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. ثُمَّ سَارَ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مَسْرُورًا مَحْبُورًا وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ، وَطَلَبَ صَاحِبُ سِيسَ أَنْ يُفَادِيَ وَلَدَهُ مِنَ السُّلْطَانِ
فَقَالَ: لَا نُفَادِيهِ إِلَّا بِأَسِيرٍ لَنَا عِنْدَ التَّتَارِ يُقَالُ لَهُ:
سُنْقُرَ الْأَشْقَرَ. فَذَهَبً صَاحِبُ سِيسَ إِلَى مَلِكِ التَّتَرِ،
فَتَذَلَّلَ وَتَخَضَّعَ لَهُ، حَتَّى أَطْلَقَ لَهُ سُنْقُرَ الْأَشْقَرَ
فَأَطْلَقَ السُّلْطَانُ ابْنَ صَاحِبِ سِيسَ.
وَفِيهَا عَمَّرَ الظَّاهِرُ الْجِسْرَ الْمَشْهُورَ بَيْنَ قَرَاوَا وَدَامِيَةَ،
تَوَلَّى عِمَارَتَهُ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ نَهَارٍ
وَبَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ رِحَالٍ وَالِي نَابُلُسَ وَالْأَغْوَارِ،
وَلَمَّا تَمَّ بِنَاؤُهُ اضْطَرَبَ بَعْضُ أَرْكَانِهِ، فَقَلِقَ السُّلْطَانُ
لِذَلِكَ، وَأَمَرَ بِتَأْكِيدِهِ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا مِنْ قُوَّةِ جَرْىِ
الْمَاءِ حِينَئِذٍ، فَاتَّفَقَ بِإِذْنِ اللَّهِ أَنِ انْسَالَتْ عَلَى النَّهْرِ
أَكَمَةٌ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَسَكَنَ الْمَاءُ بِمِقْدَارِ مَا أَصْلَحُوا
مَا يُرِيدُونَ، ثُمَّ عَادَ الْمَاءُ كَمَا كَانَ، وَذَلِكَ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ
وَعَوْنِهِ وَعِنَايَتِهِ الْعَظِيمَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
أَيْدُغْدِي بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ الْعَزِيزِيُّ
كَانَ مِنْ
أَكَابِرِ
الْأُمَرَاءِ وَأَحْظَاهُمْ عِنْدَ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، لَا يَكَادُ يَخْرُجُ
عَنْ رَأْيِهِ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ بِوِلَايَةِ الْقُضَاةِ مِنْ
كُلِّ مَذْهَبٍ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - مُتَوَاضِعًا لَا يَلْبَسُ مُحَرَّمًا كَرِيمًا وَقُورًا رَئِيسًا
مُعَظَّمًا فِي الدَّوْلَةِ، أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ فِي حِصَارِ صَفَدَ فَلَمْ
يَزَلْ مَرِيضًا مِنْهَا حَتَّى مَاتَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ، وَدُفِنَ بِالرِّبَاطِ
النَّاصِرِيِّ بِسَفْحِ قَاسِيُونُ.
هُولَاكُوقَانَ بْنُ تُولِي قَانَ بْنِ جِنْكِزْ خَانَ
مَلِكُ التَّتَارِ بْنِ مَلَكِ التَّتَارِ بْنِ مَلَكِ التَّتَارِ، وَهُوَ وَالِدُ
مُلُوكِهِمْ، وَالْعَامَّةُ يَقُولُونَ هُولَاوُونَ مِثْلَ قَلَاوُونَ، وَقَدْ
كَانَ مَلِكًا جَبَّارًا عَنِيدًا، قَتَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا
مَالَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى
ذَلِكَ شَرَّ الْجَزَاءِ، كَانَ لَعَنَهُ اللَّهُ، لَا يَتَقَيَّدُ بِدِينٍ مِنَ
الْأَدْيَانِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ ظُفْرُ خَاتُونَ قَدْ تَنَصَّرَتْ،
وَكَانَتْ تُفَضِّلُ النَّصَارَى، وَكَانَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - يَتَرَامَى عَلَى
مَحَبَّةِ الْمَعْقُولَاتِ، وَلَا يَتَصَوَّرُ مِنْهَا شَيْئًا، وَكَانَ أَهْلُهَا
مِنْ أَفْرَاخِ الْفَلَاسِفَةِ عِنْدَهُ لَهُمْ وَجَاهَةٌ وَمَكَانَةٌ، وَإِنَّمَا
كَانَتْ هِمَّتُهُ فِي تَدْبِيرِ مَمْلَكَتِهِ وَتَمَلُّكِ الْبِلَادِ شَيْئًا
فَشَيْئًا، حَتَّى أَبَادَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ
ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَدُفِنَ فِي مَدِينَةِ تَلَا، لَا رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَامَ
فِي الْمُلِكِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ أَبْغَا فِي الْمَمْلَكَةِ، وَكَانَ أَبْغَا
أَحَدَ إِخْوَةٍ عَشَرَةٍ ذُكُورٍ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ، وَهُوَ
حَسَبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَسِتّمِائَة
فِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَانِي الْمُحَرَّمِ تَوَجَّهَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
الظَّاهِرُ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَصَحِبَتْهُ
الْعَسَاكِرُ الْمَنْصُورَةُ وَقَدِ اسْتَوْلَتِ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ
عَلَى بِلَادِ سِيسَ بِكَمَالِهَا، وَعَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَعَاقِلَ الْفِرِنْجِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ أَرْسَلَ الْعَسَاكِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى
غَزَّةَ، وَعَدَلَ هُوَ إِلَى نَاحِيَةِ الْكَرَكِ لِيَنْظُرَ فِي أَحْوَالِهَا،
فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ بِرْكَةِ زَيْزَى تَصَيَّدَ هُنَالِكَ، فَسَقَطَ عَنْ
فَرَسِهِ، فَانْكَسَرَتْ فَخْذُهُ فَأَقَامَ هُنَاكَ أَيَّامًا يَتَدَاوَى حَتَّى
أَمْكَنَهُ أَنْ يَرْكَبَ فِي الْمِحَفَّةِ، وَسَارَ إِلَى مِصْرَ، فَبَرَأَتْ
رِجْلُهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَأَمْكَنَهُ الرُّكُوبُ وَحْدَهُ عَلَى
الْفَرَسِ. وَدَخَلَ الْقَاهِرَةَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ وَتَجَمُّلٍ هَائِلٍ،
وَقَدْ زُيِّنَتِ الْبَلَدُ وَاحْتَفَلَ النَّاسُ لَهُ احْتِفَالًا عَظِيمًا،
وَفَرِحُوا بِقَدُومِهِ وَعَافِيَتِهِ فَرَحًا كَثِيرًا. ثُمَّ فِي رَجَبٍ مِنْهَا
رَجَعَ مِنَ الْقَاهِرَةِ إِلَى صَفَدَ، وَحَفَرَ خَنْدَقًا حَوْلَ قَلْعَتِهَا
وَعَمِلَ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَأُمَرَائِهِ وَجَيْشِهِ، وَأَغَارَ عَلَى نَاحِيَةِ
عَكًّا، فَقَتَلَ وَأَسَرَ وَغَنِمَ وَسَلِمَ، وَضُرِبَتْ لِذَلِكَ الْبَشَائِرُ
بِدِمَشْقَ. وَفِي ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ صَلَّى الظَّاهِرُ
بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرُ الْجُمُعَةَ، وَلَمْ تَكُنْ تُقَامُ بِهِ الْجُمُعَةُ
مِنْ زَمَنِ الْعُبَيْدِيِّينَ إِلَى هَذَا الْحِينِ، مَعَ أَنَّهُ أَوَّلُ
مَسْجِدٍ وُضِعَ بِالْقَاهِرَةِ، بِنَاهُ جَوْهَرٌ الْقَائِدُ وَأَقَامَ فِيهِ
الْجُمُعَةَ، فَلَمَّا بَنَى الْحَاكِمُ جَامِعَهُ حَوَّلَ الْجُمُعَةَ مِنْهُ
إِلَيْهِ، وَتَرَكَ الْأَزْهَرَ لَا جُمُعَةَ فِيهِ، فَصَارَ فِي حُكْمِ بَقِيَّةِ
الْمَسَاجِدِ، وَشَعِثَ حَالُهُ، وَتَغَيَّرَتْ
أَحْوَالُهُ،
فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِعِمَارَتِهِ وَبَيَاضِهِ وَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ،
وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ جَامِعِ الْحُسَيْنِيَّةِ، فَكَمَلَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ
وَسِتِّينَ، كَمَا سَيَأْتِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا أَمَرَ الظَّاهِرُ أَنْ لَا يَبِيتَ أَحَدٌ مِنَ الْمُجَاوِرِينَ
بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْخَزَائِنِ مِنْهُ، وَالْمَقَاصِيرِ
الَّتِي كَانَتْ فِيهِ، فَكَانَتْ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ خِزَانَةٍ
وَمَقْصُورَةٍ، وَوَجَدُوا فِيهَا قَوَارِيرَ الْبَوْلِ وَالْفُرُشِ
وَالسَّجَاجِيدِ الْكَثِيرَةِ، فَاسْتَرَاحَ النَّاسُ وَالْجَامِعُ مِنْ ذَلِكَ،
وَاتَّسَعَ عَلَى الْمُصَلِّينَ.
وَفِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعِمَارَةِ أَسْوَارِ صَفَدَ وَقَلْعَتِهَا، وَأَنْ
يُكْتَبَ عَلَيْهَا وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ
أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 105 ]
أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [
الْمُجَادَلَةِ: 22 ].
وَفِيهَا الْتَقَى أَبْغَا وَمَنْكُوتَمُرُ الَّذِي قَامَ مَقَامَ بَرَكَةَ خَانَ،
فَكَسَرَهُ أَبْغَا وَغَنِمَ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا.
وَحَكَى ابْنُ خَلِّكَانَ فِيمَا نَقَلَ مِنْ خَطِّ الشَّيْخِ قُطْبِ الدِّينِ
الْيُونِينِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ رَجُلًا بِدَيْرِ أَبِي سَلَامَةَ مِنْ
نَاحِيَةِ بُصْرَى كَانَ فِيهِ مُجُونٌ وَاسْتِهْتَارٌ، فَذُكِرَ عِنْدَهُ
السِّوَاكُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْفَضِيلَةِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَسْتَاكُ
إِلَّا فِي الْمَخْرَجِ. يَعْنِي دُبُرَهُ، فَأَخَذَ سِوَاكًا فَوَضَعَهُ فِي
مَخْرَجِهِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ، فَمَكَثَ بَعْدَهُ تِسْعَةَ
أَشْهُرٍ،
فَوَضَعَ وَلَدًا عَلَى صِفَةِ الْجُرْذَانِ، لَهُ أَرْبَعَةُ قَوَائِمَ
وَرَأْسُهُ كَرَأْسِ السَّمَكَةِ، وَلَهُ دُبُرٌ كَدُبُرِ الْأَرْنَبِ. وَلَمَّا
وَضَعَهُ صَاحَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ ثَلَاثَ صَيْحَاتٍ، فَقَامَتِ ابْنَةُ ذَلِكَ
الرَّجُلِ فَرَضَخَتْ رَأْسَهُ فَمَاتَ، وَعَاشَ ذَلِكَ الرَّجُلُ بَعْدَ وَضْعِهِ
لَهُ يَوْمَيْنِ، وَمَاتَ فِي الثَّالِثِ، وَكَانَ يَقُولُ: هَذَا الْحَيَوَانُ
قَتَلَنِي وَقَطَّعَ أَمْعَائِي. وَقَدْ شَاهَدَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ
تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَخُطَبَاءُ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى ذَلِكَ
الْحَيَوَانَ حَيًّا قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ بَرَكَةُ خَانَ بْنُ تُولِي بْنِ جِنْكِزْ خَانَ بْنِ خَاقَانَ
وَهُوَ ابْنُ عَمِّ هُولَاكُو،، وَقَدْ أَسْلَمَ بَرَكَةُ خَانَ هَذَا، وَكَانَ
يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَالصَّالِحِينَ، وَمِنْ أَكْبَرِ حَسَنَاتِهِ كَسْرُهُ
لِهُولَاكُو وَتَفْرِيقُهُ جُنُودَهُ، وَكَانَ يُنَاصِحُ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ
وَيُعَظِّمُهُ وَيُكْرِمُ رُسُلَهُ إِلَيْهِ، وَيُطْلِقُ لَهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَقَدْ قَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ بَعْضُ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ
مَنْكُوتَمُرُ بْنُ طُغَانَ بْنِ بَاتُو بْنِ تُولِي بْنِ جِنْكِزْ خَانَ، وَكَانَ
عَلَى طَرِيقَتِهِ وَمِنْوَالِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ تَاجُ الدِّينِ عَبْدُ الْوَهَّابِ
بْنُ خَلَفِ بْنِ بَدْرِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ الشَّافِعِيُّ
كَانَ دَيِّنًا عَفِيفًا نَزِهًا، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ،
وَلَا يَقْبَلُ شَفَاعَةَ أَحَدٍ وَجُمِعَ لَهُ قَضَاءُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
بِكَمَالِهَا، وَالْخَطَابَةُ وَالْحِسْبَةُ،
وَمَشْيَخَةُ
الشُّيُوخِ وَنَظَرُ الْأَحْبَاسِ، وَتَدْرِيسُ قُبَّةِ الشَّافِعِيِّ
وَالصَّالِحِيَّةِ وَإِمَامَةُ الْجَامِعِ، وَكَانَ بِيَدِهِ خَمْسَ عَشْرَةَ
وَظِيفَةً، وَبَاشَرَ الْوِزَارَةَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَكَانَ السُّلْطَانُ
يُعَظِّمُهُ، وَالْوَزِيرُ ابْنُ الْحَنَّا يَخَافُ مِنْهُ كَثِيرًا، وَكَانَ
يُحِبُّ أَنْ يَنْكُبَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَيَضَعَهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ
ذَلِكَ، وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَأْتِيَ دَارَهُ وَلَوْ عَائِدًا، فَمَرِضَ فِي
بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَجَاءَهُ الْقَاضِي عَائِدًا، فَقَامَ لِتَلَقِّيهِ إِلَى
وَسَطِ الدَّارِ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: إِنَّمَا جِئْنَا لِعِيَادَتِكَ، فَإِذَا
أَنْتَ سَوِيٌّ صَحِيحٌ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. فَرَجَعَ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدَهُ.
وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ
الْقَضَاءَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ رَزِينٍ.
وَاقِفُ الْقَيْمُرِيَّةِ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ أَبُو
الْمَعَالِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَزِيزِ بْنِ أَبِي الْفَوَارِسِ الْقُيَمْرِيُّ
الْكُرْدِيُّ
كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمَرَاءِ مَكَانَةً عِنْدَ الْمُلُوكِ، وَهُوَ الَّذِي
سَلَّمَ الشَّامَ إِلَى الْمَلِكِ النَّاصِرِ صَاحِبِ حَلَبَ حِينَ قُتِلَ
تُورَانْ شَاهِ بْنُ الصَّالِحِ أَيُّوبَ بِمِصْرَ، وَهُوَ وَاقِفُ الْمَدْرَسَةِ
الْقَيْمُرِيَّةِ عِنْدَ مِئْذَنَةِ فَيْرُوزَ، وَعَمِلَ عَلَى بَابِهَا
السَّاعَاتِ الَّتِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهَا، وَلَا عُمِلَ عَلَى
شَكْلِهَا، يُقَالُ: إِنَّهُ غَرِمَ عَلَيْهَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
عُثْمَانَ
بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ وَأَبُو الْقَاسِمِ
الْمَقْدِسِيُّ، الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْحَافِظُ الْمُحَدِّثُ
الْفَقِيهُ الْمُؤَرِّخُ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي شَامَةَ
شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ وَمُدَرِّسُ الرُّكْنِيَّةِ، وَصَاحِبُ
الْمُصَنَّفَاتِ الْعَدِيدَةِ الْمُفِيدَةِ، لَهُ " اخْتِصَارُ تَارِيخِ
دِمَشْقَ " فِي مُجَلَّدَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَهُ " شَرْحُ
الشَّاطِبِيَّةِ "، وَلَهُ " الرَّدُّ إِلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ
"، وَلَهُ فِي الْبَعْثِ وَفِي الْإِسْرَاءِ، وَكِتَابُ "
الرَّوْضَتَيْنِ فِي الدَّوْلَتَيْنِ النُّورِيَّةِ وَالصَّلَاحِيَّةِ "،
وَلَهُ " الذَّيْلُ " عَلَى ذَلِكَ، وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ
الْفَوَائِدِ الْحِسَانِ وَالْفَرَائِدِ الَّتِي كَالْعِقْيَانِ. وُلِدَ لَيْلَةَ
الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، وَذَكَرَ لِنَفْسِهِ تَرْجَمَةً فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي "
الذَّيْلِ "، وَذَكَرَ مُرَبَّاهُ وَمَنْشَأَهُ وَطَلَبَهُ الْعِلْمَ
وَسَمَاعَهُ الْحَدِيثَ، وَتَفَقُّهَهُ عَلَى الْفَخْرِ بْنِ عَسَاكِرَ، وَابْنِ
عَبْدِ السَّلَامِ، وَالسَّيْفِ الْآمِدِيِّ، وَالشَّيْخِ مُوَفَّقِ الدِّينِ بْنِ
قُدَامَةَ، وَمَا رُئِيَ لَهُ مِنَ الْمَنَامَاتِ الْحَسَنَةِ. وَكَانَ ذَا
فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، أَخْبَرَنِي عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ الْحَافِظُ عَنِ
الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بَلَغَ الشَّيْخُ
شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ كَانَ يَنْظِمُ
أَشْعَارًا فِي أَوْقَاتٍ، مِنْهَا مَا هُوَ مُسْتَحْلَى، وَمِنْهَا مَا لَا
يُسْتَحْلَى. فَاللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي وَقْتِهِ مِثْلُهُ فِي نَفْسِهِ وَدِيَانَتِهِ،
وَعِفَّتِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِسَبَبِ جَمَاعَةٍ أَلَّبُوا
عَلَيْهِ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ مَنِ اغْتَالَهُ، وَهُوَ بِمَنْزِلٍ لَهُ
بِطَوَاحِينِ الْأُشْنَانِ، وَقَدْ كَانَ اتُّهِمَ بِأَمْرٍ الظَّاهِرُ
بَرَاءَتُهُ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْحَدِيثِ
وَغَيْرِهِمْ: إِنَّهُ كَانَ مَظْلُومًا. وَلَمْ يَزَلْ يَكْتُبُ فِي "
التَّارِيخِ " حَتَّى وَصَلَ إِلَى رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَذُكِرَ
أَنَّهُ أُصِيبَ بِمِحْنَةٍ فِي مَنْزِلِهِ بِطَوَاحِينِ الْأُشْنَانِ، وَكَانَ
الَّذِينَ قَتَلُوهُ جَاءُوهُ قَبْلُ، فَضَرَبُوهُ لِيَمُوتَ، فَلَمْ يَمُتْ
فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَشْتَكِي عَلَيْهِمْ. فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
قُلْتُ لِمَنْ قَالَ أَلَا تَشْتَكِي مَا قَدْ جَرَى فَهْوَ عَظِيمٌ جَلِيلْ
يُقَيِّضُ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا
مَنْ يَأْخُذُ الْحَقَّ وَيَشْفِي الْغَلِيلْ إِذَا تَوَكَّلْنَا عَلَيْهِ كَفَى
فَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلْ
وَكَأَنَّهُمْ عَادُوا إِلَيْهِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَهُوَ فِي الْمَنْزِلِ
الْمَذْكُورِ، فَقَتَلُوهُ بِالْكُلِّيَّةِ فِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعَ
عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَدُفِنَ مِنْ يَوْمِهِ بِمَقَابِرِ
دَارِ الْفَرَادِيسِ، وَبَاشَرَ بَعْدَهُ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ
الْأَشْرَفِيَّةِ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ مَوْلِدُ الْحَافِظِ عَلَمِ الدِّينِ الْقَاسِمِ
بْنِ مُحَمَّدٍ الْبِرْزَالِيِّ، وَقَدْ ذَيَّلَ عَلَى تَارِيخِ الشَّيْخِ أَبِي
شَامَةَ; لِأَنَّ مَوْلِدَهُ فِي سَنَةِ وَفَاتِهِ، فَحَذَا حَذْوَهُ وَسَلَكَ
نَحْوَهُ، وَرَتَّبَ تَرْتِيبَهُ وَهَذَّبَ تَهْذِيبَهُ، وَهَذَا مِمَّنْ يُقَالُ
فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ فِي تَرَاجِمِهِمْ:
مَا زِلْتَ تَكْتُبُ فِي التَّارِيخِ مُجْتَهِدًا حَتَّى رَأَيْتُكَ فِي
التَّارِيخِ مَكْتُوبًا
وَيُنَاسِبُ أَنْ يُنْشَدَ هُنَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا سَيِّدٌ مِنَّا خَلَا قَامَ سَيِّدٌ قَئُولٌ لِمَا قَالَ الْكِرَامُ فَعُولُ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السُّنَةُ وَالْحَاكِمُ الْعَبَّاسِيُّ خَلِيفَةٌ،
وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ، وَفِي أَوَّلِ جُمَادَى الْآخِرَةِ
خَرَجَ السُّلْطَانُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِالْعَسَاكِرِ
الْمَنْصُورَةِ، فَنَزَلَ عَلَى مَدِينَةِ يَافَا بَغْتَةً، فَأَخَذَهَا عَنْوَةً،
وَسَلَّمَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا قَلْعَتَهَا صُلْحًا، فَأَجْلَاهُمْ مِنْهَا إِلَى
عَكَّا، وَخَرَّبَ الْقَلْعَةَ وَالْمَدِينَةَ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ الْفِرِنْجُ
اعْتَنَوْا بِعِمَارَتِهَا وَتَحْصِينِهَا، فَجَعَلَهَا بَلْقَعًا لِئَلَّا
يَكُونَ لَهُمْ إِلَيْهَا عَوْدَةٌ، وَسَارَ مِنْهَا فِي رَجَبٍ قَاصِدًا حِصْنَ
الشَّقِيفِ، وَفِي بَعْضِ الطَّرِيقِ أَخَذَ مِنْ بَعْضِ بَرِيدِيَّةِ الْفِرِنْجِ
كِتَابًا مِنْ أَهْلِ عَكَّا إِلَى أَهْلِ الشَّقِيفِ يُعْلِمُونَهُمْ بِقُدُومِ
السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِتَحْصِينِ الْبَلَدِ
وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى إِصْلَاحِ أَمَاكِنٍ يُخْشَى عَلَى الْبَلَدِ مِنْهَا. فَفَهِمَ
السُّلْطَانُ كَيْفَ يَأْخُذُ الْبَلَدَ، وَعَرَفَ مِنْ أَيْنَ تُؤْكَلُ
الْكَتِفُ، وَاسْتَدْعَى مِنْ فَوْرِهِ رَجُلًا مِنَ الْفِرِنْجِ، فَأَمَرَهُ أَنْ
يَكْتُبَ بَدَلَهُ كِتَابًا عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ إِلَى أَهْلِ الشَّقِيفِ،
يُحَذِّرُ الْمَلِكَ مِنَ الْوَزِيرِ، وَالْوَزِيرَ مِنَ الْمَلِكِ، وَيَرْمِي
الْخُلْفَ بَيْنَ الدَّوْلَةِ. فَوَصَلَ إِلَيْهِمْ، فَأَوْقَعَ اللَّهُ الْخُلْفَ
بَيْنَهُمْ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَجَاءَ السُّلْطَانُ فَحَاصَرَهُمْ
وَرَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ، فَسَلَّمُوهُ الْحِصْنَ فِي التَّاسِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَأَجْلَاهُمْ إِلَى صُورَ، وَبَعَثَ بِالْأَثْقَالِ
إِلَى دِمَشْقَ ثُمَّ رَكِبَ جَرِيدَةً فِيمَنْ نَشِطَ مِنَ
الْجَيْشِ،
فَشَنَّ الْغَارَةَ عَلَى طَرَابُلُسِ وَأَعْمَالِهَا، فَنَهَبَ وَقَتَلَ
وَأَرْعَبَ، وَكَرَّ رَاجِعًا مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، فَنَزَلَ عَلَى حِصْنِ
الْأَكْرَادِ تَحْتَهُ فِي الْمَرْجِ، فَحَمَلَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ مِنَ
الْفِرِنْجِ الْإِقَامَاتِ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَقَالَ: أَنْتُمْ
قَتَلْتُمْ جُنْدِيًّا مِنْ جَيْشِي، وَأُرِيدُ دِيَتَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ.
ثُمَّ سَارَ، فَنَزَلَ عَلَى حِمْصَ، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى حَمَاةَ، ثُمَّ إِلَى
أَفَامِيَةَ، ثُمَّ سَارَ مَنْزِلَةً أُخْرَى، ثُمَّ سَارَ لَيْلًا، وَتَقَدَّمَ
الْعَسْكَرُ فَلَبِسُوا الْعُدَّةَ، وَسَاقَ حَتَّى أَحَاطَ بِمَدِينَةِ
أَنْطَاكِيَةَ.
فَتْحُ أَنْطَاكِيَةَ عَلَى يَدِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ
وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ كَثِيرَةُ الْخَيْرِ، يُقَالُ: إِنَّ دَوْرَ سُورِهَا
اثْنَا عَشَرَ مِيلًا، وَعَدَدُ بُرُوجِهَا مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ
بُرْجًا، وَعَدَدُ شُرُفَاتِهَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ شُرْفَةٍ، كَانَ
نُزُولُهُ عَلَيْهَا فِي مُسْتَهَلِّ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ
أَهْلُهَا يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْأَمَانَ، وَشَرَطُوا شُرُوطًا عَلَيْهِمْ لَهُ،
فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهُمْ وَرَدَّهُمْ خَائِبِينَ، وَصَمَّمَ عَلَى حِصَارِهَا،
فَفَتَحَهَا يَوْمَ السَّبْتِ رَابِعَ شَهْرِ رَمَضَانَ بِحَوْلِ اللَّهِ
وَقُوَّتِهِ وَتَأْيِيدِهِ وَنَصْرِهِ، وَغَنِمَ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا
وَأَطْلَقَ لِلْأُمَرَاءِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَوَجَدَ مِنْ أُسَارَى
الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْحَلَبِيِّينَ فِيهَا خَلْقًا كَثِيرًا، كُلُّ هَذَا فِي مِقْدَارِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ. وَقَدْ كَانَ الْأَفْرِيسُ صَاحِبُهَا وَصَاحِبُ طَرَابُلُسَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ أَذِيَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، حِينَ مَلَكَ التَّتَارُ حَلَبَ وَفَرَّ النَّاسُ مِنْهَا، فَانْتَقَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُ بِمَنْ أَقَامَهُ لِلْإِسْلَامِ نَاصِرًا وَلِلصَّلِيبِ دَامِغًا وَكَاسِرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ بِذَلِكَ مَعَ الْبَرِيدِيَّةِ، فَجَاوَبَتْهَا الْبَشَائِرُ مِنَ الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَأَرْسَلَ أَهْلُ بَغْرَاسَ حِينَ سَمِعُوا بِقَصْدِ السُّلْطَانِ إِلَيْهِمْ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَتَسَلَّمَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أُسْتَاذَ دَارِهِ الْأَمِيرَ آقْسُنْقُرَ الْفَارِقَانِيَّ فِي ثَالِثَ عَشَرَ رَمَضَانَ فَتَسَلَّمَهَا، وَتَسَلَّمُوا حُصُونًا كَبِيرَةً وَقِلَاعًا كَثِيرَةً، وَعَادَ السُّلْطَانُ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ وَهَيْبَةٍ هَائِلَةٍ، وَقَدْ زُيِّنَتْ لَهُ الْبَلَدُ، وَدُقَّتْ لَهُ الْبَشَائِرُ فَرَحًا بِنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْكَفَرَةِ الطَّغَامِ، لَكِنَّهُ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى أَخْذِ أَرَاضٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرَى وَالْبَسَاتِينِ الَّتِي بِأَيْدِي مُلَّاكِهَا بِزَعْمِ أَنَّهُ قَدْ كَانَتِ التَّتَارُ اسْتَحْوَذُوا عَلَيْهَا ثُمَّ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُمْ، وَقَدْ أَفْتَاهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِذَلِكَ، تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا أَخَذُوا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوهَا، فَإِذَا اسْتُرْجِعَتْ لَمْ تُرَدَّ إِلَى أَصْحَابِهَا ; لِحَدِيثِ الْعَضْبَاءِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَرْجَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ أَخَذَهَا الْمُشْرِكُونَ، اسْتَدَلُّوا بِهَذَا وَأَمْثَالِهِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِذَا أَخَذَ الْكُفَّارُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ وَأَسْلَمُوا وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمْ
اسْتَقَرَّتْ
عَلَى أَمْلَاكِهِمْ. وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ:وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ وَقَدْ كَانَ اسْتَحْوَذَ
عَلَى أَمْلَاكِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا، وَأَسْلَمَ عَقِيلٌ وَهِيَ
فِي يَدِهِ، فَلَمْ تُنْتَزَعْ مِنْ يَدِهِ، وَأَمَّا إِذَا انْتُزِعَتْ مِنْ
أَيْدِيهِمْ قَبْلُ، فَإِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى أَرْبَابِهَا لِحَدِيثِ
الْعَضْبَاءِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الظَّاهِرَ عَقَدَ مَجْلِسًا اجْتَمَعَ فِيهِ الْقُضَاةُ
وَالْفُقَهَاءُ مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ، وَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ، وَصَمَّمَ
السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الْفَتَاوَى،
وَخَافَ النَّاسُ مِنْ غَائِلَةِ ذَلِكَ، فَتَوَسَّطَ الصَّاحِبُ فَخْرُ الدِّينِ
بْنُ الْوَزِيرِ بَهَاءِ الدِّينِ بْنِ الْحِنَّا، وَكَانَ قَدْ دَرَّسَ
بِالشَّافِعِيِّ بَعْدَ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ، فَقَالَ: يَا خُونْدُ، أَهْلُ
الْبَلَدِ يُصَالِحُونَكَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ
تُقَسَّطُ; كُلَّ سَنَةٍ مِائَتَا أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَأَبَى إِلَّا أَنْ تَكُونَ
مُعَجَّلَةً بَعْدَ أَيَّامٍ، وَخَرَجَ مُتَوَجِّهًا إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدْ أَجَابَ إِلَى تَقْسِيطِهَا، وَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ
بِذَلِكَ وَقُرِئَتْ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَرَسَمَ
أَنْ يُعَجِّلُوا مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنْ تُعَادَ
إِلَيْهِمُ الْغَلَّاتُ الَّتِي كَانُوا قَدِ احْتَاطُوا عَلَيْهَا فِي زَمَنِ الْقَسْمِ
وَالثِّمَارِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْفَعْلَةُ مِمَّا شَعَّثَتْ خَوَاطِرَ النَّاسِ
عَلَى السُّلْطَانِ.
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَبْغَا عَلَى التَّتَارِ أَمَرَ بِاسْتِمْرَارِ
وَزِيرِهِ نَصِيرِ الدِّينِ الطُّوسِيِّ، وَاسْتَنَابَ عَلَى بِلَادِ الرُّومِ
الْبَرْوَانَاهْ، وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ عِنْدَهُ جِدًّا، وَاسْتَقَلَّ بِتَدْبِيرِ
تِلْكَ الْبِلَادِ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ فِيهَا.
وَفِيهَا
كَتَبَ صَاحِبُ الْيَمَنِ إِلَى الظَّاهِرِ بِالْخُضُوعِ وَالِانْتِمَاءِ إِلَى
جَانِبِهِ، وَأَنَّهُ يَخْطُبُ لَهُ بِبِلَادِ الْيَمَنِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
هَدَايَا وَتُحَفًا كَثِيرَةً، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ هَدَايَا
وَخِلَعَا وَسَنْجَقًا وَتَقْلِيدًا.
وَفِيهَا رَافَعَ ضِيَاءُ الدِّينِ بْنُ الْفَقَّاعِيِّ لِلصَّاحِبِ بَهَاءِ
الدِّينِ بْنِ الْحِنَّا عِنْدَ الظَّاهِرِ، وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ ابْنُ
الْحِنَّا، فَسَلَّمَهُ الظَّاهِرُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُهُ
بِالْمَقَارِعِ وَيَسْتَخْلِصُ أَمْوَالَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ
ضَرَبَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ مِقْرَعَةٍ وَسَبْعَمِائَةٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا عَمِلَ الْبَرْوَانَاهْ عَلَى قَتْلِ الْمَلِكِ عَلَاءِ الدِّينِ صَاحِبِ
قُونِيَةَ، وَأَقَامَ وَلَدَهُ غِيَاثَ الدِّينِ مَكَانَهُ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ
سِنِينَ، وَتَمَكَّنَ الْبَرْوَانَاهْ فِي الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَأَطَاعَهُ
جَيْشُ الرُّومِ.
وَفِيهَا قَتَلَ الصَّاحِبُ عَلَاءُ الدِّينِ صَاحِبُ الدِّيوَانِ بِبَغْدَادَ
ابْنَ الْخُشْكَرِيِّ النُّعْمَانِيَّ الشَّاعِرَ; وَذَلِكَ أَنَّهُ اشْتَهَرَ
عَنْهُ أَشْيَاءُ عَظِيمَةٌ، مِنْهَا أَنَّهُ يَعْتَقِدُ فَضْلَ شِعْرِهِ عَلَى
الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَاتَّفَقَ أَنَّ الصَّاحِبَ انْحَدَرَ إِلَى وَاسِطٍ
فَلَمَّا كَانَ بِالنُّعْمَانِيَّةِ حَضَرَ ابْنُ الْخُشْكَرِيِّ عِنْدَهُ،
وَأَنْشَدَهُ قَصِيدَةً قَدْ قَالَهَا فِيهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُنْشِدُهَا بَيْنَ
يَدَيْهِ إِذْ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ، فَاسْتَنْصَتَهُ الصَّاحِبُ، فَقَالَ ابْنُ
الْخُشْكَرِيِّ: يَا مَوْلَانَا، اسْمَعْ شَيْئًا جَدِيدًا، وَأَعْرِضْ عَنْ
شَيْءٍ لَهُ سُنُونَ. فَثَبَتَ عِنْدَ الصَّاحِبِ مَا كَانَ يُقَالُ عِنْدَهُ
عَنْهُ، ثُمَّ بَاسَطَهُ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِمَّا
قَالَ حَتَّى اسْتَعْلَمَ مَا عِنْدَهُ، فَإِذَا هُوَ زِنْدِيقٌ، فَلَمَّا رَكِبَ
قَالَ لِإِنْسَانٍ مَعَهُ: اسْتَفْرِدْهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ وَاقْتُلْهُ.
فَسَايَرَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا انْقَطَعَ عَنِ النَّاسِ قَالَ
لِجَمَاعَةٍ مَعَهُ: أَنْزِلُوهُ عَنْ فَرَسِهِ. كَالْمُدَاعِبِ لَهُ،
فَأَنْزَلُوهُ وَهُوَ يَشْتُمُهُمْ وَيَلْعَنُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: انْزِعُوا عَنْهُ
ثِيَابَهُ. فَسَلَبُوهَا
وَهُوَ
يُخَاصِمُهُمْ وَيَقُولُ: إِنَّكُمْ أَجْلَافٌ، وَإِنَّ هَذَا لَعِبٌ بَارِدٌ.
ثُمَّ قَالَ: اضْرِبُوا عُنُقَهُ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَحَدُهُمْ، فَضَرَبَهُ
بِسَيْفِهِ، فَأَبَانَ رَأْسَهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
الشَّيْخُ عَفِيفُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ الْبَقَّالِ
شَيْخُ رِبَاطِ الْمَرْزُبَانِيَّةِ، كَانَ صَالِحًا وَرِعًا زَاهِدًا، حَكَى عَنْ
نَفْسِهِ قَالَ: كُنْتُ بِمِصْرَ فَبَلَغَنِي مَا وَقَعَ مِنَ الْقَتْلِ
الذَّرِيعِ بِبَغْدَادَ فِي فِتْنَةِ التَّتَارِ، فَأَنْكَرْتُ فِي قَلْبِي
وَقُلْتُ: يَا رَبِّ، كَيْفَ هَذَا وَفِيهِمُ الْأَطْفَالُ وَمَنْ لَا ذَنْبَ
لَهُ؟ فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ رَجُلًا وَفِي يَدِهِ كِتَابٌ، فَأَخَذْتُهُ
فَقَرَأْتُهُ، فَإِذَا فِيهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ، فِيهَا الْإِنْكَارُ عَلَيَّ:
دَعِ الِاعْتِرَاضَ فَمَا الْأَمْرُ لَكْ وَلَا الْحُكْمُ فِي حَرَكَاتِ الْفَلَكْ
وَلَا تَسْأَلِ اللَّهَ عَنْ فِعْلِهِ
فَمَنْ خَاضَ لُجَّةَ بَحْرٍ هَلَكْ إِلَيْهِ تَصِيرُ أُمُورُ الْعِبَادِ
دَعِ الِاعْتِرَاضَ فَمَا أَجْهَلَكْ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَافِظُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ قَاضِي الْيَمَنِ، عَنْ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَدُفِنَ
بِالشَّرَفِ الْأَعْلَى، وَكَانَ قَدْ تَفَرَّدَ بِرِوَايَاتٍ جَيِّدَةٍ،
وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ.
وَفِيهَا وُلِدَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ،
أَخُو الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَالْخَطِيبُ
الْقَزْوِينِيُّ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا جَدَّدَ السُّلْطَانُ الظَّاهِرُ الْبَيْعَةَ لِوَلَدِهِ مِنْ
بَعْدِهِ الْمَلِكِ السَّعِيدِ مُحَمَّدِ بَرَكَةَ خَانَ، وَأَحْضَرَ الْأُمَرَاءَ
كُلَّهُمْ وَالْقُضَاةَ وَالْأَعْيَانَ، وَأَرْكَبَهُ وَمَشَى بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَكَتَبَ لَهُ ابْنُ لُقْمَانَ تَقْلِيدًا هَائِلًا بِالْمُلْكِ مِنْ بَعْدِ
أَبِيهِ، وَأَنْ يَحْكُمَ عَنْهُ أَيْضًا فِي حَالِ حَيَاتِهِ، ثُمَّ رَكِبَ
السُّلْطَانُ فِي عَسَاكِرِهِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ قَاصِدًا الشَّامَ فَلَمَّا
دَخَلَ دِمَشْقَ جَاءَتْهُ رُسُلٌ مِنْ أَبْغَا مَلِكِ التَّتَارِ، مَعَهُمْ
مُكَاتَبَاتٌ وَمُشَافَهَاتٌ، فَمِنْ جُمْلَةِ الْمُشَافَهَاتِ: أَنْتَ مَمْلُوكٌ
أُبِعْتَ بِسِيوَاسَ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ لَكَ أَنْ تُخَالِفَ مُلُوكَ الْأَرْضِ؟!
وَاعْلَمْ أَنَّكَ لَوْ صَعِدْتَ إِلَى السَّمَاءِ أَوْ هَبَطْتَ إِلَى الْأَرْضِ
مَا تَخَلَّصْتَ مِنِّي فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ عَلَى مُصَالَحَةِ السُّلْطَانِ
أَبْغَا. فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا عَدَّهُ شَيْئًا، بَلْ أَجَابَ
عَنْهُ أَتَمَّ جَوَابٍ، وَقَالَ لِرُسُلِهِ: أَعْلِمُوهُ أَنِّي مِنْ وَرَائِهِ
بِالْمُطَالَبَةِ، وَلَا أَزَالُ حَتَّى أَنْتَزِعَ مِنْهُ جَمِيعَ الْبِلَادِ
الَّتِي اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا مِنْ بِلَادِ الْخَلِيفَةِ، وَسَائِرِ أَقْطَارِ
الْأَرْضِ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ رَسَمَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ بِإِرَاقَةِ
الْخُمُورِ وَتَبْطِيلِ الْمُفْسِدَاتِ وَالْخَوَاطِئِ بِالْبِلَادِ كُلِّهَا،
فَنُهِبَتِ الْخَوَاطِئُ وَسُلِبْنَ جَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهُنَّ وَحُبِسْنَ
حَتَّى يَتَزَوَّجْنَ، وَكُتِبَ إِلَى جَمِيعِ الْبِلَادِ بِذَلِكَ، وَأُسْقِطَتِ
الْمُكُوسُ
الَّتِي كَانَتْ مُرَتَّبَةً عَلَى ذَلِكَ، وَعَوَّضَ مَنْ كَانَ مُحَالًا عَلَى
ذَلِكَ بِغَيْرِهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ بِعَسَاكِرِهِ إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا كَانَ فِي
أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ عِنْدَ خَرِبَةِ اللُّصُوصِ تَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ،
فَذَكَرَتْ لَهُ أَنَّ وَلَدَهَا دَخَلَ مَدِينَةَ صُورَ وَأَنَّ صَاحِبَهَا
الْفِرِنْجِيَّ غَدَرَ بِهِ وَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ مَالَهُ، فَرَكِبَ السُّلْطَانُ
وَشَنَّ الْغَارَةَ عَلَى صُورَ فَأَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا وَقَتَلَ
خَلْقًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَلِكُهَا: مَا سَبَبُ هَذَا؟ فَذَكَرَ لَهُ
غَدْرَهُ وَمَكْرَهُ بِالتُّجَّارِ، ثُمَّ قَالَ السُّلْطَانُ لِمُقَدَّمِ
الْجُيُوشِ: أَوْهِمِ النَّاسَ أَنِّي مَرِيضٌ وَأَنِّي بِالْمَحَفَّةِ،
وَأَحْضِرِ الْأَطِبَّاءَ، وَاسْتَوْصِفْ لِي مِنْهُمْ مَا يَصْلُحُ لِمَرِيضٍ
بِهِ كَذَا وَكَذَا، وَإِذَا وَصَفُوا لَكَ فَأَحْضِرِ الْأَشْرِبَةَ إِلَى
الْمَحَفَّةِ، وَأَنْتُمْ سَائِرُونَ. ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ عَلَى
الْبَرِيدِ، وَسَاقَ مُسْرِعًا حَتَّى دَخَلَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ فَكَشَفَ
أَحْوَالَ وَلَدِهِ، وَكَيْفَ الْأَمْرُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَهُ،
ثُمَّ عَادَ مُسْرِعًا إِلَى الْجَيْشِ، فَجَلَسَ فِي الْمَحَفَّةِ وَأَظْهَرُوا
عَافِيَتَهُ وَتَبَاشَرُوا بِذَلِكَ. وَهَذِهِ جُرْأَةٌ عَظِيمَةٌ، وَإِقْدَامٌ هَائِلٌ.
وَفِيهَا حَجَّ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ، وَفِي صُحْبَتِهِ الْأَمِيرُ
بَدْرُ الدِّينِ الْخَزَنْدَارُ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ
الْحَنَفِيُّ، وَفَخْرُ الدِّينِ بْنُ لُقْمَانَ وَتَاجُ الدِّينِ بْنُ
الْأَثِيرِ، وَنَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ مَمْلُوكٍ، وَأَجْنَادٍ مِنَ
الْحَلْقَةِ الْمَنْصُورَةِ فَسَارَ عَلَى طَرِيقِ الْكَرَكِ وَنَظَرَ فِي
أَحْوَالِهَا، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فَأَحْسَنَ إِلَى
أَهْلِهَا، وَنَظَرَ فِي أَحْوَالِهَا، ثُمَّ مِنْهَا إِلَى مَكَّةَ، فَتَصَدَّقَ
عَلَى الْمُجَاوِرِينَ، ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَةَ، وَطَافَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ،
وَفُتِحَتْ لَهُ الْكَعْبَةُ فَغَسَلَهَا بِمَاءِ الْوَرْدِ، وَطَيَّبَهَا
بِيَدِهِ، ثُمَّ
وَقَفَ
بِبَابِ الْكَعْبَةِ، فَتَنَاوَلَ أَيْدِي النَّاسِ لِيَدْخُلُوا الْكَعْبَةَ،
وَهُوَ بَيْنَهُمْ كَأَحَدِهِمْ، ثُمَّ رَجَعَ فَرَمَى الْجَمَرَاتِ ثُمَّ
تَعَجَّلَ النَّفْرَ، فَعَادَ عَلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَزَارَ
الْقَبْرَ الشَّرِيفَ مَرَّةً ثَانِيَةً، عَلَى سَاكِنِهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ
وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّيِّبِينَ
الطَّاهِرِينَ وَصَحَابَتِهِ الْكِرَامِ أَجْمَعِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. ثُمَّ
سَارَ إِلَى الْكَرَكِ فَدَخَلَهَا فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ، وَأَرْسَلَ الْبَشِيرَ إِلَى دِمَشْقَ بِقُدُومِهِ سَالِمًا، فَخَرَجَ
الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ النَّجِيبِيُّ نَائِبُهَا لِيَتَلَقَّى
الْبَشِيرَ فِي ثَانِي الْمُحَرَّمِ، فَإِذَا هُوَ السُّلْطَانُ نَفْسُهُ يَسِيرُ
فِي الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ، وَقَدْ سَبَقَ الْجَمِيعَ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ
سُرْعَةِ سَيْرِهِ وَصَبْرِهِ وَجَلَدِهِ، ثُمَّ سَاقَ مِنْ فَوْرِهِ حَتَّى
دَخَلَ حَلَبَ فِي سَادِسِ الْمُحَرَّمِ لِيَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهَا، ثُمَّ عَادَ
إِلَى حَمَاةَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ،
فَدَخَلَهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثَ صَفَرٍ مِنَ السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ أَغْرَقَتْ مِائَتَيْ
مَرْكَبٍ فِي النِّيلِ، وَهَلَكَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ وَوَقَعَ هُنَاكَ مَطَرٌ
شَدِيدٌ جِدًّا، وَأَصَابَ الشَّامَ مِنْ ذَلِكَ صَقْعَةٌ أَهْلَكَتِ الثِّمَارَ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا أَوْقَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْخُلْفَ بَيْنَ التَّتَارِ مِنْ أَصْحَابِ
أَبْغَا وَأَصْحَابِ ابْنِ مَنْكُوتَمُرَ ابْنِ عَمِّهِ، وَتَفَرَّقُوا
وَاشْتَغَلُوا بِبَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا خَرَجَ أَهْلُ حَرَّانَ مِنْهَا، وَقَدِمُوا الشَّامَ وَكَانَ فِيهِمْ
شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ صُحْبَةَ
أَبِيهِ، وَعُمْرُهُ سِتُّ سِنِينَ، وَأَخُوهُ زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
وَشَرَفُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ، وَهُمَا أَصْغَرُ مِنْهُ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ أَيْدَمُرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِلِّيُّ
الصَّالِحِيُّ
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَأَحْظَاهُمْ عِنْدَ الْمُلُوكِ، ثُمَّ عِنْدَ
الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، كَانَ يَسْتَنِيبُهُ إِذَا غَابَ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ
السِّنَةُ أَخَذَهُ مَعَهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْيَغْمُورِيَّةِ، وَخَلَّفَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً،
وَأَوْصَى إِلَى السُّلْطَانِ فِي أَوْلَادِهِ، وَحَضَرَ السُّلْطَانُ عَزَاءَهُ
بِجَامِعِ دِمَشْقَ.
شَرَفُ الدِّينِ أَبُو الطَّاهِرِ
مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَافِظِ أَبِي الْخَطَّابِ عُمَرَ بْنِ دِحْيَةَ الْمِصْرِيُّ،
وُلِدَ سَنَةَ عَشْرٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ أَبَاهُ وَجَمَاعَةً، وَتَوَلَّى
مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الْكَامِلِيَّةِ مُدَّةً، وَحَدَّثَ، وَكَانَ
فَاضِلًا.
الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ وَثَّابِ بْنِ
رَافِعٍ الْبَجِيلِيُّ الْحَنَفِيُّ
دَرَّسَ وَأَفْتَى عَنِ ابْنِ عَطَاءٍ بِدِمَشْقَ، وَمَاتَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ
الْحَمَّامِ عَلَى مَسَاطِبِ الْحَمَّامِ فَجْأَةً، وَدُفِنَ بقَاسِيُونَ.
الطَّبِيبُ الْمَاهِرُ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ بْنِ
حَيْدَرَةَ الرَّحَبِيُّ
شَيْخُ الْأَطِبَّاءِ بِدِمَشْقَ، وَمُدَرِّسُ الدَّخْوَارِيَّةِ عَنْ وَصِيَّةِ
وَاقِفِهَا بِذَلِكَ، وَلَهُ التَّقْدِمَةُ فِي هَذِهِ الصِّنَاعَةِ عَلَى
أَقْرَانِهِ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
يُسَاقُ
بَنُو الدُّنْيَا إِلَى الْحَتْفِ عَنْوَةً وَلَا يَشْعُرُ الْبَاقِي بِحَالَةِ
مَنْ يَمْضِي كَأَنَّهُمُ الْأَنْعَامُ فِي جَهْلِ بَعْضِهَا
بِمَا تَمَّ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ عَلَى بَعْضِ
الشَّيْخُ نَصِيرُ الدِّينِ الْمُبَارَكُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَبُو
الْبَرَكَاتِ بْنُ الطَّبَّاخِ الشَّافِعِيُّ
الْعَلَّامَةُ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، دَرَّسَ وَأَفْتَى وَصَنَّفَ
وَانْتُفِعَ بِهِ، وَعُمِّرَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي حَادِي
عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الْكُوفِيُّ الْمَغْرِبِيُّ النَّحْوِيُّ
الْمُلَقَّبُ بِسِيبَوَيْهِ، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا فِي صِنَاعَةِ النَّحْوِ،
تُوُفِّيَ بِمَارَسْتَانِ الْقَاهِرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ سَبْعٍ
وَسِتِّينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمِنْ شِعْرِهِ:
عَذَّبْتَ قَلْبِي بِهَجْرٍ مِنْكَ مُتَّصِلٍ يَا مَنْ هَوَاهُ ضَمِيرٌ غَيْرُ
مُنْفَصِلِ
مَا زَادَنِي غَيْرَ تَأْكِيدٍ صَدُّكَ لِي فَمَا عَدُولُكَ مِنْ عَطْفٍ إِلَى
بَدَلِ
وَفِيهَا وُلِدَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ كَمَالُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
الْأَنْصَارِيُّ بْنُ الزَّمَلْكَانِيِّ، شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِي ثَانِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ مِنَ الْحِجَازِ عَلَى
الْهُجُنِ، فَلَمْ يَرُعِ النَّاسَ إِلَّا وَهُوَ فِي الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ
يَسِيرُ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ تَلَقِّيهِ
بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ، وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتُهُ، وَقَدْ عَجِبَ النَّاسُ
مِنْ سُرْعَةِ مَسِيرِهِ وَعُلُوِّ هِمَّتِهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حَلَبَ، ثُمَّ سَارَ
إِلَى مِصْرَ، فَدَخَلَهَا فِي ثَالِثِ الشَّهْرِ مَعَ الرَّكْبِ الْمِصْرِيِّ،
وَكَانَتْ زَوْجَتُهُ أُمُّ الْمَلِكِ السَّعِيدِ فِي الْحِجَازِ هَذِهِ
السَّنَةَ، ثُمَّ خَرَجَ فِي ثَالِثَ عَشَرَ صَفَرٍ هُوَ وَوَلَدُهُ
وَالْأُمَرَاءُ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَتَصَيَّدَ هُنَالِكَ، وَأَطْلَقَ
لِلْأُمَرَاءِ الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ وَالْخُلَعَ، وَرَجَعَ مُؤَيَّدًا
مَنْصُورًا.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا قُتِلَ صَاحِبُ مَرَّاكُشَ أَبُو الْعَلَاءِ إِدْرِيسُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْمُلَقَّبُ بِالْوَاثِقِ،
قَتَلَهُ بَنُو مَرِينٍ فِي حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِالْقُرْبِ
مِنْ مَرَّاكُشَ.
وَفِي ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى
دِمَشْقَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ جَيْشِهِ، وَقَدْ لَقُوا فِي الطَّرِيقِ مَشَقَّةً
كَثِيرَةً مِنَ الْبَرْدِ وَالْوَحْلِ، فَخَيَّمَ عَلَى
الزَّنْبَقِيَّةِ،
وَبَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ أُخْتِ زَيْتُونٍ خَرَجَ مِنْ عَكَّا يَقْصِدُ جَيْشَ
الْمُسْلِمِينَ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ سَرِيعًا، فَوَجَدَهُ قَرِيبًا مِنْ عَكَّا
فَدَخَلَهَا خَوْفًا مِنْهُ.
وَفِي رَجَبٍ تَسَلَّمَ نُوَّابُ السُّلْطَانِ مِصْيَافَ مِنَ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، وَهَرَبَ مِنْهَا أَمِيرُهُمُ الصَّارِمُ مُبَارَكُ بْنُ
الرَّضِيِّ، فَتَحَيَّلَ عَلَيْهِ صَاحِبُ حَمَاةَ حَتَّى أَسَرَهُ، وَأَرْسَلَهُ
إِلَى السُّلْطَانِ، فَحَبَسَهُ فِي بَعْضِ الْأَبْرِجَةِ بِالْقَاهِرَةِ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ السُّلْطَانُ الدَّرَابِزِينَاتِ إِلَى الْحُجْرَةِ
النَّبَوِيَّةِ، وَأَمَرَ أَنْ تُقَامَ حَوْلَ الْقَبْرِ صِيَانَةً لَهُ، وَعَمِلَ
لَهَا أَبْوَابًا تُفْتَحُ وَتُغْلَقُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَرَكَّبَ
ذَلِكَ عَلَيْهَا.
وَفِيهَا اسْتَفَاضَتِ الْأَخْبَارُ بِقَصْدِ الْفِرِنْجِ بِلَادَ الشَّامِ،
فَجَهَّزَ السُّلْطَانُ الْعَسَاكِرَ لِقِتَالِهِمْ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُهْتَمٌّ
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ خَوْفًا عَلَيْهَا، وَقَدْ حَصَّنَهَا وَعَمِلَ جَسُورَةً
إِلَيْهَا إِنْ دَهَمَهَا الْعَدُوُّ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ مِنْهَا.
وَفِيهَا انْقَرَضَتْ دَوْلَةُ بَنِي عَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ بِلَادِ
الْمَغْرِبِ، وَكَانَ آخِرُهُمْ إِدْرِيسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ يُوسُفَ صَاحِبُ مَرَّاكُشَ قَتَلَهُ بَنُو مَرِينٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الصَّاحِبُ زَيْنُ الدِّينِ يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّفِيعِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
مَالِكٍ الْمِصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الزُّبَيْرِيِّ
كَانَ فَاضِلًا رَئِيسًا، وَزَرَ لِلْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ قُطُزٍ ثُمَّ
لِلظَّاهِرِ بَيْبَرْسَ فِي أَوَّلِ دَوْلَتِهِ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى بَهَاءَ
الدِّينِ بْنَ الْحِنَّا، فَلَزِمَ مَنْزِلَهُ حَتَّى أَدْرَكَتْهُ مَنِيَّتُهُ
فِي الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ
نَظْمٌ جَيِّدٌ.
الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنُ خَلِيفَةَ
الْخَزْرَجِيُّ الطَّبِيبُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي أُصَيْبِعَةَ
لَهُ " تَارِيخُ الْأَطِبَّاءِ " فِي عَشْرِ مُجَلَّدَاتٍ لِطَافٍ
وَهُوَ وَقْفٌ بِمَشْهَدِ ابْنِ عُرْوَةَ بِالْأُمَوِيِّ، تُوُفِّيَ بِصَرْخَدَ،
وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ.
الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ بْنِ نِعْمَةَ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بُكَيْرٍ، أَبُو
الْعَبَّاسِ الْمَقْدِسِيُّ النَّابُلُسِيُّ
تَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ
وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَقَدْ سَمِعَ وَرَحَلَ إِلَى بُلْدَانٍ شَتَّى،
وَكَانَ فَاضِلًا يَكْتُبُ سَرِيعًا، حَكَى الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ أَنَّهُ
كَتَبَ " مُخْتَصَرَ الْخِرَقِيِّ " فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَخَطُّهُ
حَسَنٌ قَوِيٌّ حُلْوٌ، وَقَدْ كَتَبَ " تَارِيخَ ابْنِ عَسَاكِرَ "
مَرَّتَيْنِ، وَاخْتَصَرَهُ لِنَفْسِهِ أَيْضًا، وَأُضِرَّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ
أَرْبَعَ سِنِينَ،
وَلَهُ
شِعْرٌ أَوْرَدَ مِنْهُ قُطْبُ الدِّينِ فِي " تَذْيِيلِهِ "، تُوُفِّيَ
بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَبِهِ دُفِنَ فِي بُكْرَةِ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرِ رَجَبٍ،
وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ
أَبُو الْفَضْلِ يَحْيَى بْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ مُحْيِي الدِّينِ أَبِي
الْمَعَالِي مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ ابْنُ الزَّكِيِّ
تَوَلَّى قَضَاءَ دِمَشْقَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَكَذَلِكَ آبَاؤُهُ مِنْ قَبْلِهِ،
كُلٌّ قَدْ وَلِيَهَا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ حَنْبَلٍ وَابْنِ طَبَرْزَدَ
وَالْكِنْدِيِّ وَابْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَحَدَّثَ وَدَرَّسَ فِي
مَدَارِسَ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ وَلِيَ قَضَاءَ الشَّامِ فِي الدَّوْلَةِ
الْهَلَاوُونِيَّةِ، فَلَمْ يُحْمَدْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو شَامَةَ، تُوُفِّيَ
بِمِصْرَ فِي الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ، وَدُفِنَ بِالْمُقَطَّمِ، وَقَدْ
جَاوَزَ السَّبْعِينَ. وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَحَكَى الشَّيْخُ قُطْبُ
الدِّينِ فِي ذَيْلِهِ - بَعْدَمَا نَسَبَهُ كَمَا ذَكَرْنَا - عَنْ وَلَدِهِ
الْقَاضِي بَهَاءِ الدِّينِ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى تَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى
عُثْمَانَ مُوَافَقَةً لِشَيْخِهِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ عَرَبِيٍّ
وَلِمَنَامٍ
رَآهُ بِجَامِعِ دِمَشْقَ مُعْرِضًا عَنْهُ بِسَبَبِ مَا كَانَ مِنْ بَنِي
أُمَيَّةَ إِلَيْهِ فِي أَيَّامِ صِفِّينَ، فَأَصْبَحَ فَنَظَمَ فِي ذَلِكَ
قَصِيدَةً يَذْكُرُ فِيهَا مَيْلَهُ إِلَى عَلِيٍّ، وَإِنْ كَانَ هُوَ أُمَوِيًّا:
أَدِينُ بِمَا دَانَ الْوَصِيُّ وَلَا أَرَى سِوَاهُ وَإِنْ كَانَتْ أُمَيَّةُ
مَحْتِدِي وَلَوْ شَهِدَتْ صِفِّينَ خَيْلِي لَأَعْذَرَتْ
وَسَاءَ بَنِي حَرْبٍ هُنَالِكَ مَشْهَدِي لَكُنْتُ أَسُنُّ الْبِيضَ عَنْهُمْ
مَوَاضِيَا
وَأَرْوِي أَرْمَاحِي وَلَمَّا تَقَصَّدِ وَأَجْلِبُهَا خَيْلًا وَرَجْلًا
عَلَيْهِمُ
وَأَمْنَعُهُمْ نَيْلَ الْخِلَافَةِ بِالْيَدِ
وَمِنْ شِعْرِهِ:
قَالُوا مَا فِي جِلَّقٍ نُزْهَةٌ تُسْلِيكَ عَمَّنْ أَنْتَ بِهِ مُغْرَى
يَا عَاذِلِي دُونَكَ فِي لَحْظِهِ سَهْمًا وَقَدْ عَارَضَهُ سَطْرَا
الصَّاحِبُ فَخْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّاحِبِ بَهَاءِ الدِّينِ عَلِيِّ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ الْحِنَّا الْمِصْرِيُّ
كَانَ وَزِيرَ الصُّحْبَةِ، وَقَدْ كَانَ فَاضِلًا، بَنَى رِبَاطًا بِالْقَرَافَةِ
الْكُبْرَى، وَدَرَّسَ بِمَدْرَسَةِ وَالِدِهِ بِمِصْرَ، وَبِالشَّافِعِيِّ بَعْدَ
ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ،
تُوُفِّيَ
فِي شَعْبَانَ وَدُفِنَ بِسَفْحِ الْمُقَطَّمِ، وَفَوَّضَ السُّلْطَانُ وِزَارَةَ
الصُّحْبَةِ إِلَى وَلَدِهِ تَاجِ الدِّينِ.
الشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْخَرَّازِ الصُّوفِيُّ
الْبَغْدَادِيُّ الشَّاعِرُ
لَهُ دِيوَانٌ حَسَنٌ، وَكَانَ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ، حَسَنَ الْمُذَاكَرَةِ،
دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَقُمْ لَهُ، وَأَنْشَدَهُ قَوْلَهُ:
نَهَضَ الْقَلْبُ حِينَ أَقْبَلْتَ إِجْلَالًا لِمَا فِيهِ مِنْ صَحِيحِ
الْوِدَادِ
وَنُهُوضُ الْقُلُوبِ بِالْوُدِّ أَوْلَى مِنْ نُهُوضِ الْأَجْسَادِ لِلْأَجْسَادِ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ مِنْهَا رَكِبَ السُّلْطَانُ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْعَسْكَرِ إِلَى عَسْقَلَانَ، فَهَدَمَ مَا
بَقِيَ مِنْ سُورِهَا مِمَّا كَانَ أُهْمِلَ فِي الدَّوْلَةِ الصَّلَاحِيَّةِ،
وَوَجَدَ فِيمَا هَدَمَ كُوزَيْنِ، فِيهِمَا أَلْفَا دِينَارٍ فَفَرَّقَهُمَا
عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَجَاءَتْهُ الْبِشَارَةُ وَهُوَ هُنَالِكَ بِأَنَّ
مَنْكُوتَمُرَ كَسَرَ جَيْشَ أَبْغَا، فَفَرِحَ بِذَلِكَ ثُمَّ عَادَ إِلَى
الْقَاهِرَةِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَلَغَ السُّلْطَانَ أَنَّ أَهْلَ عَكَّا ضَرَبُوا
رِقَابَ مَنْ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ صَبْرًا بِظَاهِرِ
عَكَّا فَأَمَرَ بِمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ أَسْرَى أَهْلِ عَكَّا فَضُرِبَتْ
رِقَابُهُمْ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ أَسِيرٍ.
وَفِيهَا كَمَلَ جَامِعُ الْمَنْشِيَّةِ، وَأُقِيمَتْ فِيهِ الْجُمُعَةُ فِي
الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ.
وَفِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا بَيْنَ أَهْلِ تُونِسَ وَالْفِرِنْجِ،
ثُمَّ تَصَالَحُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْهُدْنَةِ وَوَضْعِ الْحَرْبِ، بَعْدَمَا
قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَامِنِ رَجَبٍ دَخَلَ الظَّاهِرُ إِلَى دِمَشْقَ وَفِي
صُحْبَتِهِ وَلَدُهُ
الْمَلِكُ السَّعِيدُ وَابْنُ الْحِنَّا الْوَزِيرُ وَجُمْهُورُ الْجَيْشِ، ثُمَّ خَرَجُوا مُتَفَرِّقِينَ وَتَوَاعَدُوا أَنْ يَلْتَقُوا بِالسَّاحِلِ; لِيَشُنُّوا الْغَارَةَ عَلَى جَبَلَةَ وَاللَّاذِقِيَّةِ وَمَرْقَبَ وَعِرْقَةَ وَمَا هُنَالِكَ مِنَ الْبِلَادِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فَتَحُوا صَافِيتَا وَالْمِجْدَلَ، ثُمَّ سَارُوا فَنَزَلُوا عَلَى حِصْنِ الْأَكْرَادِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَلَهُ ثَلَاثُ أَسْوَارٍ، فَنَصَبُوا عَلَيْهَا الْمَنْجَنِيقَاتِ، فَفَتَحَهَا قَهْرًا يَوْمَ نِصْفِ شَعْبَانَ، فَدَخَلَ الْجَيْشُ، وَكَانَ الَّذِي يُحَاصِرُهُ وَلَدُ السُّلْطَانِ الْمَلِكُ السَّعِيدُ، فَأَطْلَقَ السُّلْطَانُ أَهْلَهُ، وَمَنَّ عَلَيْهِمْ وَأَجْلَاهُمْ إِلَى طَرَابُلُسَ، وَتَسَلَّمَ الْقَلْعَةَ بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ مِنَ الْفَتْحِ فَأَجْلَى أَهْلَهَا أَيْضًا، وَجَعَلَ كَنِيسَةَ الْبَلَدِ جَامِعًا، وَأَقَامَ فِيهِ الْجُمُعَةَ، وَوَلَّى فِيهَا نَائِبًا وَقَاضِيًا، وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ الْبَلَدِ، وَبَعَثَ صَاحِبُ أَنْطَرْطُوسَ بِمَفَاتِيحِ بَلَدِهِ يَطْلُبُ مِنْهُ الصُّلْحَ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ مُغَلِّ بِلَادِهِ لِلسُّلْطَانِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ بِهَا نَائِبًا، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ صَاحِبُ الْمَرْقَبِ، فَصَالَحَهُ أَيْضًا عَلَى الْمُنَاصَفَةِ وَوَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ، وَبَلَغَ السُّلْطَانَ وَهُوَ مُخَيِّمٌ عَلَى حِصْنِ الْأَكْرَادِ أَنَّ صَاحِبَ جَزِيرَةِ قُبْرُسَ قَدْ رَكِبَ بِجَيْشِهِ إِلَى عَكَّا لِيَنْصُرَ أَهْلَهَا خَوْفًا مِنَ السُّلْطَانِ، فَأَرَادَ
السُّلْطَانُ
أَنْ يَغْتَنِمَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ، فَبَعَثَ جَيْشًا كَثِيفًا فِي سَبْعَةَ
عَشَرَ شِينِيًّا لِيَأْخُذُوا جَزِيرَةَ قُبْرُسَ فِي غَيْبَةِ صَاحِبِهَا
عَنْهَا، فَسَارَتِ الْمَرَاكِبُ مُسْرِعَةً، فَلَمَّا قَارَبَتِ الْمَدِينَةَ
جَاءَتْهَا رِيحٌ قَاصِفٌ، فَصَدَمَ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَانْكَسَرَ مِنْهَا
أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَرْكَبًا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَغَرِقَ خَلْقٌ،
وَأَسَرَ الْفِرِنْجُ مِنَ الصُّنَّاعِ وَالرِّجَالِ قَرِيبًا مِنْ أَلْفٍ
وَثَمَانِمِائَةِ إِنْسَانٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ، فَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ عَلَى حِصْنِ عَكَّا،
فَسَأَلَهُ أَهْلُهَا الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يُجْلِيَهُمْ فَأَجَابَهُمْ إِلَى
ذَلِكَ، وَدَخَلَ الْبَلَدَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ فَتَسَلَّمَهُ، وَكَانَ
الْحِصْنُ شَدِيدَ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ وَادٍ بَيْنَ
جَبَلَيْنِ، ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ نَحْوَ طَرَابُلُسَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
صَاحِبُهَا يَقُولُ: مَا مُرَادُ السُّلْطَانِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ؟ فَقَالَ:
جِئْتُ لِأَرْعَى زُرُوعَكُمْ، وَأُخَرِّبَ بِلَادَكُمْ، ثُمَّ أَعُودَ إِلَى
حِصَارِكُمْ فِي الْعَامِ الْآتِي. فَأَرْسَلَ يَسْتَعْطِفُهُ وَيَطْلُبُ مِنْهُ
الْمُصَالَحَةَ وَوَضْعَ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ، فَأَجَابَهُ إِلَى
ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ يَسْتَعْطِفُونَهُ عَلَى
وَالِدِهِمْ وَكَانَ مَسْجُونًا بِالْقَاهِرَةِ، فَقَالَ: سَلِّمُوا إِلَيَّ
الْعُلَّيْقَةَ، وَانْزِلُوا فَخُذُوا إِقْطَاعَاتٍ بِالْقَاهِرَةِ، وَتَسَلَّمُوا
أَبَاكُمْ. فَلَمَّا نَزَلُوا أَمَرَ بِحَبْسِهِمْ بِالْقَاهِرَةِ، وَاسْتَنَابَ
بِحِصْنِ الْعُلَّيْقَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ
إِلَى دِمَشْقَ، فَأَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَغَرِقَ بِسَبَبِهِ نَاسٌ كَثِيرٌ،
لَا سِيَّمَا الْحُجَّاجُ مِنَ الرُّومِ الَّذِينَ كَانُوا نُزُولًا بَيْنَ
النَّهْرَيْنِ، أَخَذَهُمُ السَّيْلُ وَجِمَالَهُمْ وَأَحْمَالَهُمْ، فَهَلَكُوا
وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ الْبَلَدِ، وَدَخَلَ الْمَاءُ إِلَى الْبَلَدِ مِنْ
مَرَامِي السُّورِ، وَمِنْ بَابِ الْفَرَادِيسِ، فَغَرَّقَ خَانَ ابْنِ
الْمُقَدَّمِ
وَأَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ أَيَّامَ
الْمِشْمِشِ.
وَدَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسَ عَشَرَ
شَوَّالٍ، فَعَزَلَ الْقَاضِي ابْنَ خَلِّكَانَ، وَكَانَ لَهُ فِي الْقَضَاءِ
عَشْرُ سِنِينَ، وَوَلَّى الْقَاضِي عِزَّ الدِّينِ بْنَ الصَّائِغِ وَخَلَعَ
عَلَيْهِ، وَكَانَ تَقْلِيدُهُ قَدْ كُتِبَ بِظَاهِرِ طَرَابُلُسَ بِسِفَارَةِ
الْوَزِيرِ ابْنِ الْحِنَّا، فَسَارَ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلَى
مِصْرَ. وَفِي حَادِي عَشَرَ شَوَّالٍ دَخَلَ خَضِرٌ الْكُرْدِيُّ شَيْخُ
السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ وَأَصْحَابُهُ إِلَى كَنِيسَةِ الْيَهُودِ،
فَصَلَّوْا فِيهَا، وَأَزَالُوا مَا فِيهَا مِنْ شَعَائِرِ الْيَهُودِ، وَمَدُّوا
فِيهَا سِمَاطًا، وَعَمِلُوا سَمَاعًا وَبَقَوْا عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ
أُعِيدَتْ إِلَى الْيَهُودِ.
ثُمَّ خَرَجَ السُّلْطَانُ إِلَى السَّوَاحِلِ، فَافْتَتَحَ بَعْضَهَا، وَأَشْرَفَ
عَلَى عَكَّا وَتَأَمَّلَهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَكَانَ مِقْدَارُ مَا غَرِمَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ وَفِي الْغَزَوَاتِ
قَرِيبًا مِنْ ثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَخْلَفَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ،
فَكَانَ وُصُولُهُ إِلَى الْقَاهِرَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَالِثَ عَشَرَ ذِي
الْحِجَّةِ. وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ وُصُولِهِ أَمْسَكَ عَلَى
جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْهُمُ، الْحَلَبِيُّ وَغَيْرُهُ، بَلَغَهُ أَنَّهُمْ
أَرَادُوا مَسْكَهُ عَلَى الشَّقِيفِ.
وَفِي الْيَوْمِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَمَرَ بِإِرَاقَةِ
الْخُمُورِ مِنْ سَائِرِ بِلَادِهِ، وَتَهَدَّدَ مَنْ يَعْصِرُهَا أَوْ
يَعْتَصِرُهَا بِالْقَتْلِ، وَأَسْقَطَ ضَمَانَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ بِالْقَاهِرَةِ
وَحْدَهَا، كُلُّ يَوْمٍ ضَمَانُهُ أَلْفُ دِينَارٍ، ثُمَّ سَارَتِ الْبُرُدُ
بِذَلِكَ إِلَى الْآفَاقِ.
وَفِيهَا
قَبَضَ السُّلْطَانُ عَلَى الْعَزِيزِ بْنِ الْمُغِيثِ صَاحِبِ الْكَرَكِ، وَعَلَى
جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ كَانُوا عَزَمُوا عَلَى سَلْطَنَتِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْمَلِكُ تَقِيُّ الدِّينِ عَبَّاسُ بْنُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
أَيُّوبَ بْنِ شَادِي
وَهُوَ آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَوْلَادِ الْعَادِلِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ
مِنَ الْكِنْدِيِّ وَابْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ، وَكَانَ مُحْتَرَمًا عِنْدَ
الْمُلُوكِ، لَا يُرْفَعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي الْمَجَالِسِ وَالْمَوَاكِبِ،
وَكَانَ لَيِّنَ الْأَخْلَاقِ، حَسَنَ الْعِشْرَةِ، لَا تَمَلُّ مُجَالَسَتَهُ.
تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
بِدَرْبِ الرَّيْحَانِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
صَالِحِ بْنِ عِيسَى السُّبْكِيُّ الْمَالِكِيُّ
وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
وَتَفَقَّهَ وَأَفْتَى بِالصَّالِحِيَّةِ، وَوَلِيَ حِسْبَةَ الْقَاهِرَةِ، ثُمَّ
وَلِيَ الْقَضَاءَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ، لَمَّا وَلَّوْا مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ
قَاضِيًا، وَقَدِ امْتَنَعَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، ثُمَّ أَجَابَ بَعْدَ
إِكْرَاهٍ، وَشَرَطَ أَنْ لَا يَأْخُذَ عَلَى الْقَضَاءِ جَامَكِيَّةَ، وَكَانَ
مَشْهُورًا بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ، رَوَى عَنْهُ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ
جَمَاعَةَ وَغَيْرُهُ. تُوُفِّيَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ.
الطَّوَاشِيُّ
شُجَاعُ الدِّينِ مُرْشِدٌ الْمُظَفَّرِيُّ الْحَمَوِيُّ
كَانَ شُجَاعًا بَطَلًا مِنَ الْأَبْطَالِ الشُّجْعَانِ، وَكَانَ لَهُ رَأْيٌ
سَدِيدٌ، وَكَانَ أُسْتَاذُهُ لَا يُخَالِفُهُ، وَكَذَلِكَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ،
تُوُفِّيَ بِحَمَاةَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِالْقُرْبِ مِنْ مَدْرَسَتِهِ
بِحَمَاةَ.
ابْنُ سَبْعِينَ: عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَبْعِينَ، قُطْبُ الدِّينِ أَبُو
مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ الرُّقُوطِيُّ
نِسْبَةً إِلَى رُقُوطَةَ بَلْدَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ مُرْسِيَةَ، وُلِدَ سَنَةَ
أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ بِعِلْمِ الْأَوَائِلِ
وَالْفَلْسَفَةِ، فَتَوَلَّدَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الْإِلْحَادِ،
وَصَنَّفَ فِيهِ وَكَانَ يَعْرِفُ السِّيمِيَا، فَكَانَ يُلَبِّسُ بِذَلِكَ عَلَى
الْأَغْبِيَاءِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ حَالٌ
مِنْ أَحْوَالِ الْقَوْمِ وَلَهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ كِتَابُ " الْبُدِّ
"، وَكِتَابُ " الْهُوَ " وَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ، وَاسْتَحْوَذَ
عَلَى عَقْلِ صَاحِبِهَا أَبُو نُمَيٍّ، وَجَاوَرَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ
بِغَارِ حِرَاءَ يَرْتَجِي - فِيمَا يُنْقَلُ عَنْهُ - أَنْ يَأْتِيَهُ فِيهِ
وَحْيٌ كَمَا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِنَاءً عَلَى
مَا يَعْتَقِدُهُ مِنَ الْعَقِيدَةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ أَنَّ النُّبُوَّةَ
مُكْتَسَبَةٌ، وَأَنَّهَا فَيْضٌ يَفِيضُ عَلَى الْعَقْلِ إِذَا صَفَا، فَمَا
حَصَلَ لَهُ إِلَّا الْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِنْ كَانَ مَاتَ
عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ إِذَا رَأَى الطَّائِفِينَ حَوْلَ الْبَيْتِ يَقُولُ
عَنْهُمْ: كَأَنَّهُمُ الْحَمِيرُ حَوْلَ
الْمَدَارِ، وَإِنَّهُمْ لَوْ طَافُوا بِهِ كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ طَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ. فَاللَّهُ يَحْكُمُ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ، وَقَدْ نُقِلَتْ عَنْهُ عَظَائِمُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، تُوُفِّيَ فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ بِمَكَّةَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
اسْتَهَلَّتْ وَخَلِيفَةُ الْوَقْتِ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو
الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ الْمَلِكُ
الظَّاهِرُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ رَكِبَ السُّلْطَانُ
إِلَى الْبَحْرِ لِإِلْقَاءِ الشَّوَانِي الَّتِي عُمِلَتْ عِوَضًا عَمَّا غَرِقَ
بِجَزِيرَةِ قُبْرُسَ، فَرَكِبَ فِي شِينِيٍّ مِنْهَا، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ بَدْرُ
الدِّينِ الْخَزَنْدَارُ، فَمَالَتْ بِهِمْ فَسَقَطَ الْخَزَنْدَارُ فِي
الْبَحْرِ، فَغَاصَ فِي الْمَاءِ، فَأَلْقَى إِنْسَانٌ نَفْسَهُ وَرَاءَهُ،
فَأَخَذَ بِشَعْرِهِ وَأَنْقَذَهُ مِنَ الْغَرَقِ، فَخَلَعَ السُّلْطَانُ عَلَى
ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
وَفِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ رَكِبَ السُّلْطَانُ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنَ
الْخَاصِّكِيَّةِ، وَالْأُمَرَاءِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ حَتَّى قَدِمَ
الْكَرَكَ، وَاسْتَصْحَبَ نَائِبَهَا مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ، فَدَخَلَهَا فِي
ثَانِي عَشَرَ صَفَرٍ، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ أَيْدَمُرُ نَائِبُ
الْكَرَكِ، فَوَلَّاهُ نِيَابَةَ دِمَشْقَ، وَعَزَلَ عَنْهَا جَمَالَ الدِّينِ
آقُوشَ النَّجِيبِيَّ فِي رَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى حَمَاةَ،
وَعَادَ
بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَصَلَتِ الْجُفَالَةُ مِنْ حَلَبَ وَحَمَاةَ وَحِمْصَ
إِلَى دِمَشْقَ بِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ التَّتَارِ، وَجَفَلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ دِمَشْقَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ وَصَلَتِ الْعَسَاكِرُ الْمِصْرِيَّةُ إِلَى حَضْرَةِ
السُّلْطَانِ إِلَى دِمَشْقَ، فَسَارَ بِهِمْ مِنْهَا فِي سَابِعِ الشَّهْرِ
فَاجْتَازَ بِحَمَاةَ، وَاسْتَصْحَبَ مَلِكَهَا الْمَنْصُورَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى
حَلَبَ، فَخَيَّمَ بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ بِهَا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ
عَسَاكِرَ الرُّومِ جَمَعُوا نَحْوًا مِنْ عَشْرَةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَبَعَثُوا
طَائِفَةً مِنْهُمْ، فَأَغَارُوا عَلَى عَيْنِ تَابٍ، وَوَصَلُوا إِلَى قَسْطُونَ،
وَوَقَعُوا عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ التُّرْكُمَانِ بَيْنَ حَارِمٍ وَأَنْطَاكِيَّةَ،
فَاسْتَأْصَلُوهُمْ، فَلَمَّا سَمِعَ التَّتَارُ بِوُصُولِ السُّلْطَانِ، رَجَعُوا
عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَكَانَ بَلَغَهُ أَنَّ الْفِرِنْجَ أَغَارُوا عَلَى بِلَادِ
قَاقُونَ، وَنَهَبُوا طَائِفَةً مِنَ التُّرْكُمَانِ، فَقَبَضَ عَلَى الْأُمَرَاءِ
الَّذِينَ هُنَاكَ; حَيْثُ لَمْ يَهْتَمُّوا بِحِفْظِ الْبِلَادِ، وَعَادَ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِي ثَالِثِ شَعْبَانَ أَمْسَكَ السُّلْطَانُ قَاضِي الْحَنَابِلَةِ بِمِصْرَ
شَمْسَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ الْعِمَادِ الْمَقْدِسِيَّ، وَأَخَذَ مَا عِنْدَهُ
مِنَ الْوَدَائِعِ، فَأَخَذَ زَكَاتَهَا، وَرَدَّ
بَعْضَهَا
إِلَى أَرْبَابِهَا، وَاعْتَقَلَهُ إِلَى شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ
وَسَبْعِينَ، وَكَانَ الَّذِي وَشَى بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ يُقَالُ
لَهُ: شَبِيبٌ. ثُمَّ تَبَيَّنَ لِلسُّلْطَانِ نَزَاهَةُ الْقَاضِي وَبَرَاءَتُهُ،
فَأَعَادَهُ إِلَى مَنْصِبِهِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَجَاءَ السُّلْطَانُ
فِي شَعْبَانَ إِلَى أَرَاضِي عَكَّا، فَأَغَارَ عَلَيْهَا، فَسَأَلَهُ صَاحِبُهَا
الْمُهَادَنَةَ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَهَادَنَهُ عَشْرَ سِنِينَ وَعَشْرَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْرَةَ أَيَّامٍ وَعَشْرَةَ سَاعَاتٍ، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ،
فَقُرِئَ بِدَارِ السَّعَادَةِ كِتَابُ الصُّلْحِ، وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَى
ذَلِكَ، ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ إِلَى بِلَادِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، فَأَخَذَ
عَامَّتَهَا. قَالَ قُطْبُ الدِّينِ: وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ وُلِدَتْ
زَرَافَةٌ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ، وَأُرْضِعَتْ مِنْ بَقَرَةٍ. قَالَ: وَهَذَا
شَيْءٌ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ سَلَّارُ بْنُ حَسَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ
الْإِرْبِلِيُّ الشَّافِعِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الْمَذْهَبِ، وَقَدِ اشْتَغَلَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ مُحْيِي
الدِّينِ النَّوَوِيُّ، وَقَدِ اخْتَصَرَ " الْبَحْرَ " لِلرُّويَانِيِّ
فِي مُجَلَّدَاتٍ عَدِيدَةٍ هِيَ عِنْدِي بِخَطِّ يَدِهِ، وَكَانَتِ الْفُتْيَا
تَدُورُ عَلَيْهِ بِدِمَشْقَ، تُوُفِّيَ فِي عَشْرِ السَّبْعِينَ وَدُفِنَ بِبَابِ
الصَّغِيرِ، وَكَانَ مُعِيدًا بِالْبَاذَرَائِيَّةِ مِنْ أَيَّامِ الْوَاقِفِ،
لَمْ يَطْلُبْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَجِيهُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ بْنِ سُوَيْدٍ
التِّكْرِيتِيُّ
التَّاجِرُ
الْكَبِيرُ
ذُو الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ، وَكَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَ الدَّوْلَةِ، وَلَا
سِيَّمَا عِنْدَ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، كَانَ يُجِلُّهُ وَيُكْرِمُهُ; لِأَنَّهُ
كَانَ قَدْ أَسْدَى إِلَيْهِ جَمِيلًا فِي حَالِ إِمْرَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ
السَّلْطَنَةَ، وَدُفِنَ بِرِبَاطِهِ وَتُرْبَتِهِ بِالْقُرْبِ مِنَ الرِّبَاطِ
النَّاصِرِيِّ بِقَاسِيُونَ، وَكَانَتْ كُتُبُ الْخَلِيفَةِ تَرِدُ إِلَيْهِ فِي
كُلِّ وَقْتٍ، وَكَانَتْ مُكَاتَبَاتُهُ مَقْبُولَةً عِنْدَ جَمِيعِ الْمُلُوكِ،
حَتَّى مُلُوكِ الْفِرِنْجِ فِي السَّوَاحِلِ وَفِي أَيَّامِ التَّتَارِ فِي
أَيَّامِ هُولَاوُونَ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ وَالْبِرِّ.
نَجْمُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ
اللُّبُودِيِّ
وَاقِفُ اللُّبُودِيَّةِ الَّتِي عِنْدَ حَمَّامِ الْفَلَكِ الْمُسِيرِيِّ عَلَى
الْأَطِبَّاءِ، وَلَدَيْهِ فَضِيلَةٌ بِمَعْرِفَةِ الطِّبِّ، وَقَدْ وَلِيَ نَظَرَ
الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ عِنْدَ اللُّبُودِيَّةِ.
الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْبَكَّاءُ
صَاحِبُ الزَّاوِيَةِ بِالْقُرْبِ مِنْ بَلَدِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
كَانَ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ وَالْعِبَادَةِ وَالْإِطْعَامِ لِمَنِ اجْتَازَ
بِهِ مِنَ الْمَارَّةِ وَالزُّوَّارِ، وَكَانَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ
يُثْنِي عَلَيْهِ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِهِ وَهُوَ أَمِيرٌ، وَأَنَّهُ
كَاشَفَهُ فِي أَشْيَاءَ وَقَعَتْ جَمِيعُهَا، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ
سَيَمْلِكُ. نَقَلَ ذَلِكَ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَ
بُكَائِهِ الْكَثِيرِ أَنَّهُ صَحِبَ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ
وَكَرَامَاتٌ، وَأَنَّهُ خَرَجَ مَعَهُ مِنْ بَغْدَادَ، فَانْتَهَوْا فِي سَاعَةٍ
وَاحِدَةٍ إِلَى بَلْدَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَغْدَادَ مَسِيرَةُ سَنَةٍ، وَأَنَّ
ذَلِكَ الرَّجُلَ قَالَ لَهُ: إِنِّي سَأَمُوتُ فِي الْوَقْتِ
الْفُلَانِيِّ، فَاشْهَدْنِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْوَقْتُ حَضَرْتُ عِنْدَهُ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ، وَقَدِ اسْتَدَارَ إِلَى جِهَةِ الشَّرْقِ، فَحَوَّلْتُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، فَاسْتَدَارَ إِلَى الشَّرْقِ فَحَوَّلْتُهُ أَيْضًا، فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: لَا تَتْعَبْ فَإِنِّي لَا أَمُوتُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ. وَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ الرُّهْبَانِ حَتَّى مَاتَ، فَحَمَلْنَاهُ فَجِئْنَا بِهِ إِلَى دَيْرٍ هُنَاكَ فَوَجَدْنَاهُمْ فِي حُزْنٍ عَظِيمٍ، فَقُلْنَا لَهُمْ: مَا شَأْنُكُمْ؟ فَقَالُوا: كَانَ عِنْدَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمَ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ. فَقُلْنَا لَهُمْ: خُذُوا هَذَا بَدَلَهُ وَسَلِّمُوا إِلَيْنَا صَاحِبَنَا. قَالَ: فَوَلَّيْنَاهُ فَغَسَّلْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ وَصَلَّيْنَا عَلَيْهِ وَدَفَنَّاهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَوَلُوا هُمْ ذَلِكَ الرَّجُلَ، فَدَفَنُوهُ فِي مَقْبَرَةِ النَّصَارَى، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى حُسْنَ الْخَاتِمَةِ. مَاتَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِي خَامِسِ الْمُحَرَّمِ وَصَلَ الظَّاهِرُ دِمَشْقَ مِنْ بِلَادِ السَّوَاحِلِ
الَّتِي فَتَحَهَا وَقَدْ مَهَّدَهَا، وَرَكِبَ فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ إِلَى
الْقَاهِرَةِ، فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً، ثُمَّ عَادَ فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي رَابِعِ
صَفَرٍ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا وَصَلَ صَاحِبُ النُّوبَةِ إِلَى عَيْذَابَ، فَنَهَبَ
تُجَّارَهَا، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا، مِنْهُمُ الْوَالِي وَالْقَاضِي،
فَسَارَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أَيْدُغْدِي الْخَزَنْدَارُ،
فَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ بِلَادِهِ، وَنَهَبَ وَحَرَّقَ وَهَدَمَ وَدَوَّخَ
الْبِلَادَ، وَأَخَذَ بِالثَّأْرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ
مُظَفَّرِ الدِّينِ عُثْمَانَ بْنِ نَاصِرِ الدِّينِ مَنْكُورَسُ صَاحِبُ
صِهْيَوْنَ، وَدُفِنَ فِي تُرْبَةِ وَالِدِهِ فِي عَشْرِ السَّبْعِينَ، وَكَانَ
لَهُ فِي مُلْكِ صِهْيَوْنَ وَبَرْزَيَهْ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَتَسَلَّمَهَا
بَعْدَهُ وَلَدُهُ سَابِقُ الدِّينِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ الظَّاهِرِ
يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْحُضُورِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا
حَضَرَ
أَقْطَعُهُ خُبْزًا، وَبَعَثَ إِلَى الْبَلَدَيْنِ نُوَّابًا مِنْ جِهَتِهِ.
وَفِي خَامِسِ جُمَادَى الْأُولَى وَصَلَ السُّلْطَانُ بِعَسْكَرِهِ إِلَى
الْفُرَاتِ; لِأَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ التَّتَارِ هُنَالِكَ،
فَخَاضَ إِلَيْهِمُ الْفُرَاتَ بِنَفْسِهِ وَجُنْدِهِ، وَقَتَلَ مِنْ أُولَئِكَ
مَقْتَلَةً كَبِيرَةً وَخَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ أَوَّلُ مَنِ اقْتَحَمَ
الْفُرَاتَ يَوْمَئِذٍ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قَلَاوُونُ وَبَدْرُ الدِّينِ
بَيْسَرِيُّ، وَتَبِعَهُمَا السُّلْطَانُ، ثُمَّ فَعَلَ بِالتَّتَارِ مَا فَعَلَ،
ثُمَّ سَاقَ إِلَى نَاحِيَةِ الْبِيرَةِ، وَقَدْ كَانَتْ مُحَاصَرَةً بِطَائِفَةٍ
مِنَ التَّتَارِ أُخْرَى، فَلَمَّا سَمِعُوا بِقُدُومِهِ هَرَبُوا وَتَرَكُوا
أَمْوَالَهُمْ وَأَثْقَالَهُمْ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى الْبِيرَةِ فِي
أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَفَرَّقَ فِي أَهْلِهَا أَمْوَالًا كَثِيرَةً، ثُمَّ عَادَ
إِلَى دِمَشْقَ فِي ثَالِثِ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَمَعَهُ الْأَسْرَى. وَخَرَجَ
مِنْهَا فِي سَابِعِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَخَرَجَ وَلَدُهُ
الْمَلِكُ السَّعِيدُ لِتَلَقِّيهِ، وَدَخَلَا إِلَى الْقَاهِرَةِ وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا. وَمِمَّا قَالَهُ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودٌ الْكَاتِبُ -
وَأَوْلَادُهُ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو الشِّهَابِ مَحْمُودٍ - فِي خَوْضِ
السُّلْطَانِ الْفُرَاتَ بِالْجَيْشِ:
سِرْ حَيْثُ شِئْتَ لَكَ الْمُهَيْمِنُ جَارُ وَاحْكُمْ فَطَوْعُ مُرَادِكَ الْأَقْدَارُ
لَمْ يَبْقَ لِلدِّينِ الَّذِي أَظْهَرْتَهُ
يَا رُكْنَهُ عِنْدَ الْأَعَادِي ثَارُ لَمَّا تَرَاقَصَتِ الرُّءُوسُ تَحَرَّكَتْ
مِنْ مُطْرِبَاتِ قِسِيِّكَ الْأَوْتَارُ خُضْتَ الْفُرَاتَ بِسَابِحٍ أَفْضَى
بِهِ
مَوْجُ الصِّبَا مِنْ فِعْلِهِ الْآثَارُ
حَمَلَتْكَ
أَمْوَاجُ الْفُرَاتِ وَمَنْ رَأَى
بَحْرًا سِوَاكَ تُقِلُّهُ الْأَنْهَارُ وَتَقَطَّعَتْ فَرَقًا وَلَمْ يَكُ
طَوْدَهَا
إِذْ ذَاكَ إِلَّا جَيْشُكَ الْجَرَّارُ
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ:
وَلَمَّا تَرَاءَيْنَا الْفُرَاتَ بِخَيْلِنَا سَكَرْنَاهُ مِنَّا بِالْقَنَا
وَالصَّوَارِمِ
فَأَوْقَفَتِ التَّيَّارَ عَنْ جَرَيَانِهِ إِلَى حِيِنِ عُدْنَا بِالْغِنَى
وَالْغَنَائِمِ
وَقَالَ آخَرٌ وَلَا بَأْسَ بِهِ:
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ سُلْطَانُنَا نَفْدِيهِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَهْلِ
اقْتَحَمَ الْمَاءَ لِيُطْفِي بِهِ حَرَارَةَ الْقَلْبِ مِنَ الْمُغْلِ
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثِ رَجَبٍ خَلَعَ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَرَاءِ
مِنْ حَاشِيَتِهِ وَمُقَدَّمِي الْحَلْقَةِ وَأَرْبَابِ الدَّوْلَةِ، وَأَعْطَى
كُلَّ إِنْسَانٍ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْخَيْلِ وَالذَّهَبِ وَالْحَوَائِصِ،
وَكَانَ مَبْلَغُ مَا أَنْفَقَ بِذَلِكَ نَحْوَ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِي شَعْبَانَ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى مَنْكُوتَمُرَ هَدَايَا عَظِيمَةً.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِي عَشَرَ شَوَّالٍ اسْتَدْعَى السُّلْطَانُ
شَيْخَهُ الشَّيْخَ خَضِرًا الْكُرْدِيَّ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ إِلَى
الْقَلْعَةِ، وَحُوقِقَ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ رُمِيَ بِهَا، وَعَلَى
مُنْكَرَاتٍ كَثِيرَةٍ ارْتَكَبَهَا، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ عِنْدَ ذَلِكَ
بِاعْتِقَالِهِ وَحَبْسِهِ ثُمَّ بِاغْتِيَالِهِ، وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ.
وَفِي
ذِي الْقَعْدَةِ سَلَّمَتِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ مَا كَانَ بَقِيَ بِأَيْدِيهِمْ
مِنَ الْحُصُونِ، وَهِيَ الْكَهْفُ وَالْقَدَمُوسُ وَالْمَيْنَقَةُ، وَعُوِّضُوا
عَنْ ذَلِكَ بِإِقْطَاعَاتٍ، وَلَمْ يَبْقَ بِالشَّامِ شَيْءٌ لَهُمْ مِنَ الْقِلَاعِ،
وَاسْتَنَابَ السُّلْطَانُ فِيهَا.
وَفِيهَا أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعِمَارَةِ جُسُورَةٍ فِي السَّوَاحِلِ، وَغَرِمَ
عَلَيْهَا مَالًا كَثِيرًا، وَحَصَلَ لِلنَّاسِ بِذَلِكَ رِفْقٌ كَبِيرٌ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْحُبُوبِيِّ
الثَّعْلَبِيُّ الدِّمَشْقِيُّ
كَانَ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِ دِمَشْقَ وَلِيَ نَظَرَ الْأَيْتَامِ وَالْحِسْبَةَ،
ثُمَّ وِكَالَةَ بَيْتِ الْمَالِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَخَرَّجَ لَهُ ابْنُ
بَلَبَانَ مَشْيَخَةً قَرَأَهَا عَلَيْهِ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ
بِالْجَامِعِ، فَسَمِعَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْفُضَلَاءِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
الْخَطِيبُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ
بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيُّ، الْخَطِيبُ بِهَا، وَبَيْتُهُ
مَعْرُوفٌ بِالْعِلْمِ وَالْخَطَابَةِ وَالرِّيَاسَةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ
الصُّوفِيَّةِ، وَقَدْ قَارَبَ السِّتِّينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
وَقَدْ
سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ جَدِّهِ فَخْرِ الدِّينِ صَاحِبِ دِيوَانِ الْخُطَبِ
الْمَشْهُورَةِ، تُوُفِّيَ بِخَانْقَاهِ الْقَصْرِ ظَاهِرِ دِمَشْقَ.
الشَّيْخُ خَضِرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمِهْرَانِيُّ الْعَدَوِيُّ
شَيْخُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ بَيْبَرْسَ كَانَ حَظِيًّا عِنْدَهُ مُكْرَمًا
لَدَيْهِ، لَهُ عِنْدَهُ الْمَكَانَةُ الرَّفِيعَةُ، كَانَ السُّلْطَانُ يَنْزِلُ
بِنَفْسِهِ إِلَى زَاوِيَتِهِ الَّتِي بَنَاهَا لَهُ فِي الْحُسَيْنِيَّةِ فِي
كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَبَنَى لَهُ عِنْدَهَا جَامِعًا
يَخْطُبُ فِيهِ لِلْجُمُعَةِ، وَكَانَ يُعْطِيهِ مَالًا كَثِيرًا وَيُطْلِقُ لَهُ
مَا أَرَادَ، وَوَقَفَ عَلَى زَاوِيَتِهِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَكَانَ
مُعَظَّمًا عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ بِسَبَبِ حُبِّ السُّلْطَانِ
وَتَعْظِيمِهِ لَهُ، وَكَانَ يُمَازِحُهُ إِذَا جَلَسَ عِنْدَهُ، وَكَانَ فِيهِ
خَيْرٌ وَدِينٌ وَصَلَاحٌ، وَقَدْ كَاشَفَ السُّلْطَانَ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ،
وَقَدْ دَخَلَ مَرَّةً كَنِيسَةَ الْقُمَامَةِ بِالْمَقْدِسِ، فَذَبَحَ قِسِّيسَهَا
بِيَدِهِ، وَوَهَبَ مَا فِيهَا لِأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِالْكَنِيسَةِ
الَّتِي بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَهِيَ مَنْ أَعْظَمِ كَنَائِسِهِمْ، نَهَبَهَا
وَحَوَّلَهَا مَسْجِدًا وَمَدْرَسَةً أَنْفَقَ عَلَيْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَةً
مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَسَمَّاهَا الْمَدْرَسَةَ الْخَضْرَاءَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ
بِكَنِيسَةِ الْيَهُودِ بِدِمَشْقَ، دَخَلَهَا وَنَهَبَ مَا فِيهَا مِنَ الْآلَاتِ
وَالْأَمْتِعَةِ وَمَدَّ فِيهَا سِمَاطًا، وَاتَّخَذَهَا مَسْجِدًا مُدَّةً، ثُمَّ
سَعَوْا إِلَيْهِ فِي رَدِّهَا إِلَيْهِمْ وَإِبْقَائِهَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ
اتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنَّهُ وَقَعَتْ مِنْهُ أَشْيَاءُ أُنْكِرَتْ
عَلَيْهِ، وَحُوقِقَ عَلَيْهَا عِنْدَ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ،
فَظَهَرَ لَهُ مِنْهُ مَا أَوْجَبَ سِجْنَهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِإِعْدَامِهِ وَهَلَاكِهِ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِزَاوِيَتِهِ، سَامَحَهُ
اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ يُحِبُّهُ مَحَبَّةً عَظِيمَةً حَتَّى إِنَّهُ
سَمَّى بَعْضَ أَوْلَادِهِ خَضِرًا مُوَافَقَةً لِاسْمِهِ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ
الْقُبَّةُ الَّتِي عَلَى الْجَبَلِ غَرْبِيَّ الرَّبْوَةِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا:
قُبَّةُ الشَّيْخِ خَضِرٍ.
مُصَنِّفُ
" التَّعْجِيزِ "
الْعَلَّامَةُ تَاجُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، أَبُو الْقَاسِمِ
الْمَوْصِلِيُّ، مِنْ بَيْتِ الْفِقْهِ وَالرِّيَاسَةِ وَالتَّدْرِيسِ، وُلِدَ
سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ وَاشْتَغَلَ وَحَصَّلَ
وَصَنَّفَ، وَاخْتَصَرَ " الْوَجِيزَ " فِي كِتَابِهِ "
التَّعْجِيزِ "، وَاخْتَصَرَ " الْمَحْصُولَ "، وَلَهُ طَرِيقَةٌ
فِي الْخِلَافِ أَخَذَهَا عَنْ رُكْنِ الدِّينِ الطَّاوُسِيِّ، وَكَانَ جَدُّهُ
عِمَادُ الدِّينِ بْنُ يُونُسَ شَيْخَ الْمَذْهَبِ فِي وَقْتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا قَدِمَ الظَّاهِرُ إِلَى دِمَشْقَ، وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّ
أَبْغَا وَصَلَ إِلَى بَغْدَادَ، فَتَصَيَّدَ بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَأَرْسَلَ
إِلَى الْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ أَنْ يَتَأَهَّبُوا لِلْحُضُورِ، وَاسْتَعَدَّ
السُّلْطَانُ لِذَلِكَ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ أَحْضَرَ مَلِكَ الْكُرْجِ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ
بِدِمَشْقَ، وَكَانَ قَدْ جَاءَ مُتَنَكِّرًا لِزِيَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
فَظَهَرَ عَلَيْهِ، فَحُمِلَ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ، فَسَجَنَهُ بِالْقَلْعَةِ.
وَفِيهَا كَمَلَ بِنَاءُ جَامِعِ دَيْرِ الطِّينِ ظَاهِرَ الْقَاهِرَةِ وَصُلِّيَ
فِيهِ الْجُمُعَةُ.
وَفِيهَا سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى الْقَاهِرَةِ، فَدَخَلَهَا فِي سَابِعِ رَجَبٍ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ دَخَلَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ بْنُ الظَّاهِرِ إِلَى
دِمَشْقَ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، فَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا ثُمَّ عَادَ.
وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ خَتَنَ السُّلْطَانُ وَلَدَهُ خَضِرًا الَّذِي
سَمَّاهُ بِاسْمِ شَيْخِهِ، وَخُتِنَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَوْلَادِ
الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ وَقْتًا هَائِلًا.
وَفِيهَا فَوَّضَ مَلِكُ التَّتَارِ إِلَى عَلَاءِ الدِّينِ صَاحِبِ الدِّيوَانِ
بِبَغْدَادَ النَّظَرَ فِي أَمْرِ تُسْتَرَ وَأَعْمَالِهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا
لِيَتَصَفَّحَ أَحْوَالَهَا، فَوَجَدَ بِهَا شَابًّا مِنْ أَوْلَادِ التُّجَّارِ
يُقَالُ لَهُ: لِي. قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَشَيْئًا مِنَ الْفِقْهِ وَ "
الْإِشَارَاتِ " لِابْنِ سِينَا، وَنَظَرَ فِي
النُّجُومِ،
ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ
مِنْ جَهَلَةِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَقَدْ أَسْقَطَ لَهُمْ مِنَ الْفَرَائِضِ
صَلَاةَ الْعَصْرِ وَعِشَاءَ الْآخِرَةِ، فَاسْتَحْضَرَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ
فَرَآهُ ذَكِيًّا، إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ عَنْ قَصْدٍ، فَأَمَرَ بِهِ، فَقُتِلَ
بَيْنَ يَدَيْهِ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَمَرَ الْعَوَامَّ فَنَهَبُوا
أَتْبَاعَهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُؤَيِّدُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي الصَّدْرُ الرَّئِيسُ أَسْعَدُ بْنُ أَبِي
غَالِبٍ الْمُظَفَّرِ الْوَزِيرِ مُؤَيِّدِ الدِّينِ أَسْعَدَ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ
أَسْعَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ
جَاوَزَ التِّسْعِينَ، وَكَانَ رَئِيسًا كَبِيرًا وَاسِعَ النِّعْمَةِ، لَا
يُبَاشِرُ شَيْئًا مِنَ الْوَظَائِفِ، وَقَدْ أَلْزَمُوهُ بَعْدَ ابْنِ سُوَيْدٍ
بِمُبَاشَرَةِ مَصَالِحِ السُّلْطَانِ، فَبَاشَرَهَا بِلَا جَامَكِيَّةٍ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبُسْتَانِهِ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ ثَالِثَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ. وَالِدُ الصَّدْرِ عِزِّ الدِّينِ
حَمْزَةَ رَئِيسُ الْبَلَدَيْنِ دِمَشْقَ وَالْقَاهِرَةِ، وَجَدُّهُمْ مُؤَيِّدُ
الدِّينِ أَسْعَدُ بْنُ حَمْزَةَ الْكَبِيرُ، كَانَ وَزِيرًا لِلْمَلِكِ
الْأَفْضَلِ عَلِيِّ بْنِ النَّاصِرِ فَاتِحِ الْقُدْسِ كَانَ رَئِيسًا فَاضِلًا،
لَهُ كِتَابُ " الْوَصِيَّةِ فِي الْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ "
وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ جَيِّدَةٌ فِي النَّظْمِ، فَمِنْ ذَلِكَ
قَوْلُهُ:
يَا رَبِّ جُدْ لِي إِذَا مَا ضَمَّنِي جَدَثِي بِرَحْمَةٍ مِنْكَ تُنْجِينِي مِنَ
النَّارِ أَحْسِنْ جِوَارِي إِذَا أَمْسَيْتُ جَارَكَ فِي
لَحْدِي فَإِنَّكَ قَدْ أَوْصَيْتَ بِالْجَارِ
وَأَمَّا
وَالِدُهُ حَمْزَةُ بْنُ أَسْعَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ
فَهُوَ الْعَمِيدُ، وَكَانَ يَكْتُبُ جَيِّدًا، وَصَنَّفَ تَارِيخًا فِيمَا بَعْدَ
سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى سَنَةِ وَفَاتِهِ فِي خَمْسٍ
وَخَمْسِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ فَارِسُ الدِّينِ أَقَطَايُ الْمُسْتَعْرِبُ
أَتَابِكُ الْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ، كَانَ أَوَّلًا مَمْلُوكًا لِابْنِ
يُمْنٍ، ثُمَّ صَارَ مَمْلُوكًا لِلصَّالِحِ أَيُّوبَ فَأَمَّرَهُ، ثُمَّ عَظُمَ
شَأْنُهُ فِي دَوْلَةِ الْمُظَفَّرِ، وَصَارَ أَتَابِكَ الْعَسَاكِرِ، فَلَمَّا
قُتِلَ امْتَدَّتْ أَطْمَاعُ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْمَمْلَكَةِ،
فَبَايَعَ أَقَطَايُ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ، فَتَبِعَهُ الْجَيْشُ عَلَى ذَلِكَ،
وَكَانَ الظَّاهِرُ يَعْرِفُهَا لَهُ وَلَا يَنْسَاهَا، ثُمَّ قَبْلَ وَفَاتِهِ
بِقَلِيلٍ انْهَضَمَ عِنْدَ الظَّاهِرِ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بِالْقَاهِرَةِ.
الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ غَانِمِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
عَسَاكِرَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْمَقْدِسِيُّ
لَهُ زَاوِيَةٌ بِنَابُلُسَ، وَلَهُ أَشْعَارٌ رَائِقَةٌ، وَكَلَامٌ قَوِيٌّ فِي
عِلْمِ التَّصَوُّفِ، وَقَدْ طَوَّلَ الْيُونِينِيُّ تَرْجَمَتَهُ، وَأَوْرَدَ
مِنْ أَشْعَارِهِ شَيْئًا كَثِيرًا.
قَاضِي الْقُضَاةِ كَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ عُمَرُ بْنُ بُنْدَارِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ التَّفْلِيسِيُّ الشَّافِعِيُّ
وُلِدَ بِتَفْلِيسَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَ فَاضِلًا أُصُولِيًّا
مُنَاظِرًا، وَلِيَ نِيَابَةَ الْحُكْمِ مُدَّةً ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِالْقَضَاءِ
فِي دَوْلَةِ هَلَاوُونَ، وَكَانَ عَفِيفًا نَزِهًا، لَمْ يَزْدَدْ مَنْصِبًا
وَلَا تَدْرِيسًا مَعَ كَثْرَةِ عِيَالِهِ وَقِلَّةِ مَالِهِ، وَلَمَّا انْقَضَتْ
أَيَّامُهُمْ
تَغَضَّبَ
عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ، ثُمَّ أُلْزِمَ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْقَاهِرَةِ
فَأَقَامَ بِهَا يُفِيدُ النَّاسَ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ الصُّغْرَى.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَاكِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّنُوخِيُّ
وَتَنُوخُ مِنْ قُضَاعَةَ، كَانَ صَدْرًا كَبِيرًا، وَكَتَبَ الْإِنْشَاءَ
لِلنَّاصِرِ دَاوُدَ بْنِ الْمُعَظَّمِ، وَتَوَلَّى نَظَرَ الْمَارَسْتَانِ
النُّورِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ
غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
خَابَ رَجَاءُ امْرِئٍ لَهُ أَمَلٌ بِغَيْرِ رَبِّ السَّمَاءِ قَدْ وَصَلَهْ
أَيَبْتَغِي غَيْرَهُ أَخُو ثِقَةٍ وَهْوَ بِبَطْنِ الْأَحْشَاءِ قَدْ كَفَلَهْ
وَلَهُ أَيْضًا:
خَرِسَ اللِّسَانُ وَكَلَّ عَنْ أَوْصَافِكُمْ مَاذَا يَقُولُ وَأَنْتُمُ مَا
أَنْتُمُ
الْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ مَقَالَةِ قَائِلٍ قَدْ تَاهَ عَقْلًا أَنْ يُعَبِّرَ
عَنْكُمُ
الْعَجْزُ وَالتَّقْصِيرُ وَصْفِي دَائِمًا وَالْبِرُّ وَالْإِحْسَانُ يُعْرَفُ
مِنْكُمُ
الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ
أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الطَّائِيُّ الْجَيَّانِيُّ النَّحْوِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ
الْمَشْهُورَةِ الْمُفِيدَةِ; مِنْهَا " الْكَافِيَةُ الشَّافِيَةُ " وَ
" شَرْحُهَا "، وَ " التَّسْهِيلُ " وَ " شَرْحُهُ
"، وَ " الْأَلْفِيَّةُ " الَّتِي شَرَحَهَا وَلَدُهُ بَدْرُ
الدِّينِ شَرْحًا مُفِيدًا. وُلِدَ بِجَيَّانَ سَنَةَ سِتِّمِائَةٍ، وَأَقَامَ
بِحَلَبَ مُدَّةً، ثُمَّ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ كَثِيرَ الِاجْتِمَاعِ بِابْنِ
خَلِّكَانَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَرَوَى عَنْهُ الْقَاضِي بَدْرُ
الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ، وَأَجَازَ لِشَيْخِنَا عَلَمِ الدِّينِ الْبِرْزَالِيِّ،
تُوُفِّيَ ابْنُ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي عَشَرَ
رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ الْقَاضِي عِزِّ الدِّينِ بْنِ الصَّائِغِ
بِقَاسِيُونَ.
النَّصِيرُ الطُّوسِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطُّوسِيُّ
كَانَ يُقَالُ لَهُ: الْمَوْلَى نَصِيرُ الدِّينِ. وَيُقَالُ: الْخَوَاجَا نَصِيرُ
الدِّينِ. اشْتَغَلَ فِي شَبِيبَتِهِ، وَحَصَّلَ عِلْمَ الْأَوَائِلِ جَيِّدًا،
وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَشَرَحَ " الْإِشَارَاتِ
" لِابْنِ سِينَا، وَوَزَرَ لِأَصْحَابِ قِلَاعِ الْأَلَمُوتِ مِنَ
الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ، ثُمَّ وَزَرَ لِهُولَاكُو، وَكَانَ مَعَهُ فِي وَاقِعَةِ
بَغْدَادَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَشَارَ عَلَى هُولَاكُو بِأَنْ
يَقْتُلَ الْخَلِيفَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَا يَصْدُرُ
مِنْ فَاضِلٍ وَلَا عَاقِلٍ. وَقَدْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْبَغَادِدَةِ، فَأَثْنَى
عَلَيْهِ وَقَالَ: كَانَ عَاقِلًا فَاضِلًا، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ. وَدُفِنَ فِي
مَشْهَدِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، فِي سِرْدَابٍ كَانَ قَدْ أُعِدَّ لِلْخَلِيفَةِ
النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ بَنَى الرَّصَدَ
بِمَرَاغَةَ، وَرَتَّبَ فِيهِ الْحُكَمَاءَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ
وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْأَطِبَّاءِ
وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُضَلَاءِ، وَبَنَى لَهُ فِيهِ قُبَّةً عَظِيمَةً،
وَجَعَلَ فِيهِ كُتُبًا كَثِيرَةً جِدًّا، تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي ثَانِي
عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ
مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ
قَوِيٌّ، وَأَصْلُ اشْتِغَالِهِ عَلَى الْمُعِينِ سَالِمِ بْنِ بَدْرَانَ بْنِ
عَلِيٍّ الْمِصْرِيِّ الْمُعْتَزِلِيِّ الْمُتَشَيِّعِ، فَنَزَعَ فِيهِ عُرُوقٌ
كَثِيرَةٌ مِنْهُ، حَتَّى فَسَدَ اعْتِقَادُهُ.
الشَّيْخُ مُسَلَّمٌ الْبَرْقِيُّ الْبَدَوِيُّ
صَاحِبُ الرِّبَاطِ بِالْقَرَافَةِ الصُّغْرَى، كَانَ صَالِحًا مُتَعَبِّدًا
يُقْصَدُ لِلزِّيَارَةِ وَالتَّبَرُّكِ بِدُعَائِهِ، وَلَهُ الْيَوْمَ أَصْحَابٌ
مَعْرُوفُونَ عَلَى طَرِيقِهِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا اطَّلَعَ السُّلْطَانُ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَمِيرًا مِنَ
الْمِصْرِيِّينَ، مِنْهُمْ قَجْقَارُ الْحَمَوِيُّ، وَقَدْ كَانُوا كَاتَبُوا
التَّتَرَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ مَعَهُمْ
عَلَى السُّلْطَانِ، فَأُخِذُوا فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، وَجَاءَتْ كُتُبُهُمْ مَعَ
الْبَرِيدِيَّةِ فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِمْ.
وَفِيهَا أَقْبَلَ السُّلْطَانُ بِالْعَسَاكِرِ، فَدَخَلَ بِلَادَ سِيسَ مِنْ
نَاحِيَةِ الدَّرْبَنْدَاتِ، فَمَلَكَهَا وَمَلَكَ إِيَاسَ وَالْمِصِّيصَةَ وَأَذَنَةَ،
وَكَانَ دُخُولُهُ إِلَى سِيسَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ
مِنْ رَمَضَانَ، فَقَتَلُوا خَلْقًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَغَنِمُوا
شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَبْقَارِ وَالْأَغْنَامِ وَالْأَثْقَالِ وَالدَّوَابِّ
وَالْأَنْعَامِ، فَأُبِيعَ بِأَرْخَصِ ثَمَنٍ، ثُمَّ عَادَ فَدَخَلَ دِمَشْقَ
مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى
انْقَضَتِ السَّنَةُ.
وَفِيهَا ثَارَ عَلَى أَهْلِ الْمَوْصِلِ رَمْلٌ حَتَّى عَمَّ الْأُفُقَ،
وَخَرَجُوا مِنْ دُورِهِمْ يَبْتَهِلُونَ إِلَى اللَّهِ حَتَّى كَشَفَ ذَلِكَ
عَنْهُمْ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
ابْنُ عَطَاءٍ الْحَنَفِيُّ
قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الشَّيْخِ
شَرَفِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَطَاءِ بْنِ جُبَيْرِ
بْنِ جَابِرِ بْنِ وُهَيْبٍ الْأَذْرُعِيُّ الْحَنَفِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ
وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ مُدَّةً، ثُمَّ اسْتَقَلَّ
بِقَضَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَوَّلَ مَا وَلِيَتِ الْقُضَاةُ مِنَ الْمَذَاهِبِ
الْأَرْبَعَةِ، وَلَمَّا وَقَعَتِ الْحَوْطَةُ عَلَى أَمْلَاكِ النَّاسِ أَرَادَ
السُّلْطَانُ مِنْهُ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا بِمُقْتَضَى مَذْهَبِهِ، فَغَضِبَ مِنْ
ذَلِكَ وَقَالَ: هَذِهِ أَمْلَاكٌ بِأَيْدِي أَرْبَابِهَا، وَمَا يَحِلُّ
لِمُسْلِمٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهَا. ثُمَّ نَهَضَ مِنَ الْمَجْلِسِ فَذَهَبَ،
فَغَضِبَ السُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، ثُمَّ سَكَنَ غَضَبُهُ،
فَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَمْدَحُهُ وَيَقُولُ: لَا تُثْبِتُوا
كِتَابًا إِلَّا عِنْدَهُ. كَانَ ابْنُ عَطَاءٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْأَخْيَارِ،
كَثِيرَ التَّوَاضُعِ قَلِيلَ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا، رَوَى عَنْهُ ابْنُ
جَمَاعَةَ وَأَجَازَ لِلْبِرْزَالِيِّ. تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَاسِعَ
جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمُعَظَّمِيَّةِ بِسَفْحِ
قَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
بِيمُنْدُ بْنُ بِيمُنْدَ بْنِ بِيمُنْدَ
إِرِّيسُ طَرَابُلُسَ الْفِرِنْجِيُّ، كَانَ جَدُّهُ نَائِبًا لِبِنْتِ صَنْجَلَ
الَّذِي تَمَلَّكَ طَرَابُلُسَ مِنَ ابْنِ عَمَّارٍ فِي حُدُودِ الْخَمْسِمِائَةِ،
وَكَانَتْ
يَتِيمَةً تَسْكُنُ بَعْضَ جَزَائِرِ الْبَحْرِ، فَتَغَلَّبَ هَذَا عَلَى الْبَلَدِ لِبُعْدِهَا عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِهَا وَلَدُهُ، ثُمَّ حَفِيدُهُ هَذَا، وَكَانَ شَكِلًا مَلِيحًا. قَالَ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ: رَأَيْتُهُ بِبَعْلَبَكَّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ حِينَ جَاءَ مُسَلِّمًا عَلَى كَتْبُغَا نُوِينَ وَرَامَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ بَعْلَبَكَّ; فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ دُفِنَ فِي كَنِيسَةِ طَرَابُلُسَ وَلَمَّا فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ نَبَشَ النَّاسُ قَبْرَهُ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْهُ، وَأَلْقَوْا عِظَامَهُ عَلَى الْمَزَابِلِ لِلْكِلَابِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ ثَامِنَ جُمَادَى الْآخِرَةِ نَزَلَ التَّتَارُ
عَلَى الْبِيرَةِ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ; خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ
الْمَغُولِ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الرُّومِ، وَالْمُقَدَّمُ عَلَى
الْجَمِيعِ الْبَرْوَانَاهْ، بِأَمْرِ أَبْغَا مَلِكِ التَّتَرِ، وَمَعَهُمْ
جَيْشُ الْمَوْصِلِ وَجَيْشُ مَارِدِينَ وَالْأَكْرَادُ، وَنَصَبُوا عَلَيْهَا
ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ مَنْجَنِيقًا، فَخَرَجَ أَهْلُ الْبِيرَةِ فِي اللَّيْلِ،
فَكَبَسُوا عَسْكَرَ التَّتَارِ وَأَحْرَقُوا الْمَنْجَنِيقَاتِ وَنَهَبُوا
شَيْئًا كَثِيرًا، وَرَجَعُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ سَالِمِينَ، فَأَقَامَ عَلَيْهَا
الْجَيْشُ مُدَّةً إِلَى تَاسِعَ عَشَرَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ رَجَعُوا
عَنْهَا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
الْقِتَالَ، وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا.
وَلَمَّا بَلَغَ السُّلْطَانَ نُزُولُ التَّتَرِ عَلَى الْبِيرَةِ أَنْفَقَ فِي
الْجَيْشِ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ رَكِبَ سَرِيعًا وَفِي صُحْبَتِهِ
وَلَدُهُ السَّعِيدُ، فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بَلَغَهُ رَحِيلُ
التَّتَرِ عَنْهَا، فَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ رَكِبَ فِي رَجَبٍ إِلَى
الْقَاهِرَةِ، فَدَخَلَهَا فِي ثَامِنَ عَشَرَ، فَوَجَدَ بِهَا خَمْسَةً
وَعِشْرِينَ رَسُولًا مِنْ جِهَةِ مُلُوكِ الْأَرْضِ يَنْتَظِرُونَهُ،
فَتَلَقَّوْهُ وَحَدَّثُوهُ وَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَدَخَلَ
الْقَلْعَةَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ.
وَلَمَّا عَادَ الْبَرْوَانَاهْ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ حَلَّفَ الْأُمَرَاءَ
الْكِبَارَ; مِنْهُمْ: شَرَفُ الدِّينِ
مَسْعُودٌ
وَضِيَاءُ الدِّينِ مَحْمُودٌ ابْنَا الْخَطِيرِ، وَأَمِينُ الدِّينِ مِيكَائِيلُ،
وَحُسَامُ الدِّينِ بَيْجَارُ، وَوَلَدُهُ بَهَاءُ الدِّينِ، عَلَى أَنْ يَكُونُوا
مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، وَيُنَابِذُوا أَبْغَا،
فَحَلَفُوا لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى الظَّاهِرِ بِذَلِكَ، وَأَنْ
يُرْسِلَ إِلَيْهِ جَيْشًا، وَيَحْمِلَ لَهُ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ إِلَى
التَّتَارِ، وَيَكُونَ غِيَاثُ الدِّينِ كَيْخُسْرُو عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ،
يَجْلِسُ عَلَى تَخْتِ مَمْلَكَةِ الرُّومِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَسْقَى أَهْلُ بَغْدَادَ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ وِلَاءً
فَلَمْ يُسْقَوْا.
وَفِيهَا فِي رَمَضَانَ مِنْهَا وُجِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ
عَلَى فَاحِشَةِ الزِّنَا، فَأَمَرَ عَلَاءُ الدِّينِ صَاحِبُ الدِّيوَانِ
بِرَجْمِهِمَا فَرُجِمَا، وَلَمْ يُرْجَمْ بِبَغْدَادَ قَبْلَهُمَا قَطُّ أَحَدٌ
مُنْذُ بُنِيَتْ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا.
وَفِيهَا اسْتَسْقَى أَهْلُ دِمَشْقَ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ; فِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ
وَأَوَائِلِ شَعْبَانَ - وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ كَانُونَ الثَّانِي -
فَلَمْ يُسْقَوْا أَيْضًا.
وَفِيهَا أَرْسَلَ السُّلْطَانُ جَيْشًا إِلَى دُنْقُلَةَ، فَكَسَرَ جَيْشَ
السُّودَانِ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا، وَأَسَرُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ
السُّودَانِ، بِحَيْثُ أُبِيعَ الرَّقِيقُ الرَّأْسُ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ،
وَهَرَبَ مَلِكُهُمْ دَاوُدُ إِلَى صَاحِبِ النُّوبَةِ فَأَرْسَلَهُ إِلَى
الْمَلِكِ الظَّاهِرِ مُحْتَاطًا عَلَيْهِ، وَقَرَّرَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ عَلَى
أَهْلِ دُنْقُلَةَ جِزْيَةً تُحْمَلُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ. كُلُّ ذَلِكَ
كَانَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا عُقِدَ عَقْدُ الْمَلِكِ السَّعِيدِ بْنِ الظَّاهِرِ، عَلَى بِنْتِ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
قَلَاوُونَ
الْأَلْفِيِّ، فِي الْإِيوَانِ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ وَالدَّوْلَةِ عَلَى
صَدَاقٍ خَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ، يُعَجَّلُ مِنْهَا أَلْفَا دِينَارٍ، وَكَانَ
الَّذِي كَتَبَهُ وَقَرَأَهُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الظَّاهِرِ، فَأُعْطِيَ
مِائَةَ دِينَارٍ وَخُلِعَ عَلَيْهِ. ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ مُسْرِعًا،
فَوَصَلَ إِلَى حِصْنِ الْكَرَكِ، فَجَمَعَ الْقَيْمُرِيَّةَ الَّذِينَ بِهِ
فَإِذَا هُمْ سِتُّمِائَةِ نَفَرٍ، فَأَمَرَ بِشَنْقِهِمْ، فَشُفِعَ فِيهِمْ
عِنْدَهُ، فَأَطْلَقَهُمْ وَأَجْلَاهُمْ مِنْهُ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ قَدْ
بَلَغَهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَ مِنْ فِيهِ، وَيُقِيمُوا مَلِكًا
عَلَيْهِمْ، وَسَلَّمَ الْحِصْنِ إِلَى الطَّوَاشِيِّ شَمْسِ الدِّينِ رِضْوَانَ
السُّهَيْلِيِّ، ثُمَّ عَادَ فِي بَقِيَّةِ الشَّهْرِ إِلَى دِمَشْقَ، فَدَخَلَهَا
يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَامِنَ عَشَرَ الشَّهْرِ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ بِأَخْلَاطَ، وَاتَّصَلَتْ بِبِلَادِ بَكْرٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَدِيبُ الْعَلَّامَةُ تَاجُ الدِّينِ أَبُو الثَّنَاءِ
مَحْمُودُ بْنُ عَابِدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
التَّمِيمِيُّ الصَّرْخَدِيُّ الْحَنَفِيُّ
كَانَ مَشْهُورًا بِالْفِقْهِ وَالْأَدَبِ، وَالْعِفَّةِ وَالصَّلَاحِ، وَنَزَاهَةِ
النَّفْسِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَى، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ
الصُّوفِيَّةِ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا، وَلَهُ سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ عِمَادُ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ
ابْنِ
عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ خَلِيلِ بْنِ مَقْلَدٍ الْأَنْصَارِيُّ الدِّمَشْقِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصَّائِغِ، كَانَ مُدَرِّسًا بِالْعَذْرَاوِيَّةِ
وَشَاهِدًا بِالْخِزَانَةِ بِالْقَلْعَةِ، يَعْرِفُ الْحِسَابَ جَيِّدًا، وَلَهُ
سَمَاعٌ وَرِوَايَةٌ، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ.
ابْنُ السَّاعِي الْمُؤَرِّخُ: تَاجُ الدِّينِ بْنُ الْمُحْتَسِبِ الْمَعْرُوفُ
بِابْنِ السَّاعِي الْبَغْدَادِيُّ
وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاعْتَنَى
بِالتَّارِيخِ وَجَمَعَ وَصَنَّفَ وَلَمْ يَكُنْ بِالْحَافِظِ وَلَا الضَّابِطِ
الْمُتْقِنِ. وَقَدْ أَوْصَى إِلَيْهِ ابْنُ النَّجَّارِ حِينَ تُوُفِّيَ، وَلَهُ
تَارِيخٌ كَبِيرٌ عِنْدِي أَكْثَرُهُ، وَمُصَنَّفَاتٌ أُخَرُ مُفِيدَةٌ، وَآخِرُ
مَا صَنَّفَ كِتَابٌ فِي الزُّهَّادِ، كَتَبَ فِي حَاشِيَتِهِ زَكِيُّ الدِّينِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبٍ الْكَاتِبُ:
مَا زَالَ تَاجُ الدِّينِ طُولَ الْمَدَى مِنْ عُمْرِهِ يُعْنِقُ فِي السَّيْرِ
فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَتَدْوِينِهِ
وَفِعْلُهُ نَفْعُ بِلَا ضَيْرِ عَلَا عَلِيٌّ بِتَصَانِيفِهِ
وَهَذِهِ خَاتِمَةُ الْخَيْرِ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِي ثَالِثَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ
وَسَبَقَ الْعَسَاكِرَ إِلَى بِلَادِ حَلَبَ، فَلَمَّا تَوَافَتْ إِلَيْهِ
أَرْسَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَمِيرَ بَدْرَ الدِّينِ الْأَتَابِكِيَّ بِأَلْفِ
فَارِسٍ إِلَى الْبُلُسْتَيْنِ، فَصَادَفَ بِهَا جَمَاعَةً مِنْ عَسْكَرِ
الرُّومِ، فَرَكِبُوا إِلَيْهِ وَحَمَلُوا إِلَيْهِ الْإِقَامَاتِ، وَطَلَبَ
جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ، فَأَذِنَ لَهُمْ،
فَدَخَلَ طَائِفَةٌ; مِنْهُمْ بَيْجَارُ وَابْنُ الْخَطِيرِ، فَرَسَمَ لَهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوا الْقَاهِرَةَ، فَتَلَقَّاهُمُ الْمَلِكُ السَّعِيدُ، ثُمَّ عَادَ
السُّلْطَانُ مِنْ حَلَبَ إِلَى الْقَاهِرَةِ فَدَخَلَهَا فِي ثَانِي عَشَرَ
رَبِيعٍ الْآخِرِ.
وَفِي خَامِسِ جُمَادَى الْأُولَى عَمِلَ السُّلْطَانُ عُرْسَ وَلَدِهِ الْمَلِكِ
السَّعِيدِ عَلَى بِنْتِ قَلَاوُونَ، وَاحْتَفَلَ السُّلْطَانُ بِهِ احْتِفَالًا
عَظِيمًا، وَرَكِبَ الْجَيْشُ فِي الْمَيْدَانِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَلْعَبُونَ
وَيَتَطَارَدُونَ، وَيَحْمِلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ خَلَعَ عَلَى
الْأُمَرَاءِ
وَأَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ، وَكَانَ مَبْلَغُ مَا خُلِعَ أَلْفًا وَثَلَاثِمِائَةِ
خِلْعَةٍ بِمِصْرَ، وَجَاءَتْ مَرَاسِيمُهُ إِلَى الشَّامِ بِالْخِلَعِ عَلَى
أَهْلِهَا، وَمَدَّ السُّلْطَانُ سِمَاطًا عَظِيمًا حَضَرَهُ الْخَاصُّ
وَالْعَامُّ، وَالشَّارِدُ وَالْوَارِدُ، وَجَلَسَ فِيهِ رُسُلُ التَّتَارِ
وَرُسُلُ الْفِرِنْجِ، وَعَلَيْهِمْ كُلِّهِمُ الْخِلَعُ الْهَائِلَةُ، وَكَانَ
وَقْتًا مَشْهُودًا، وَحَمَلَ صَاحِبُ حَمَاةَ هَدَايَا عَظِيمَةً، وَرَكِبَ إِلَى
مِصْرَ لِلتَّهْنِئَةِ.
وَفِي حَادِي عَشَرَ شَوَّالٍ طِيفَ بِالْمَحْمَلِ وَبِكُسْوَةِ الْكَعْبَةِ
الْمُشَرَّفَةِ بِالْقَاهِرَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَقْعَةُ الْبُلُسْتَيْنِ وَفَتْحُ قَيْسَارِيَّةَ
رَكِبَ السُّلْطَانُ مِنْ مِصْرَ فِي الْعَسَاكِرِ، فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي سَابِعَ
عَشَرَ شَوَّالٍ، فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى دَخَلَ
حَلَبَ فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ، فَأَقَامَ بِهَا يَوْمًا، وَرَسَمَ
لِنَائِبِ حَلَبَ أَنْ يُقِيمَ بِعَسْكَرِ حَلَبَ عَلَى الْفُرَاتِ لِحِفْظِ
الْمَعَابِرِ، وَسَارَ السُّلْطَانُ فَقَطَعَ الدَّرْبَنْدَ فِي نِصْفِ يَوْمٍ،
وَوَقَعَ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ
الْمَغُولِ، فَهَزَمَهُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ تَاسِعَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَصَعِدَ
الْعَسْكَرُ عَلَى الْجِبَالِ، فَأَشْرَفُوا عَلَى وَطْأَةِ الْبُلُسْتَيْنِ،
فَرَأَوُا التَّتَارَ قَدْ رَتَّبُوا عَسْكَرَهُمْ وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ
مُقَاتِلٍ، وَعَزَلُوا عَنْهُمْ عَسْكَرَ الرُّومِ خَوْفًا مِنْ مُخَامَرَتِهِمْ،
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ حَمَلَتْ مَيْسَرَةُ التَّتَارِ، فَصَدَمَتْ
سَنَاجِقَ السُّلْطَانِ، وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَهُمْ فَشَقُّوهَا،
وَسَاقَتْ إِلَى الْمَيْمَنَةِ، فَلَمَّا رَأَى السُّلْطَانُ ذَلِكَ أَرْدَفَ
الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ لَاحَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ،
فَرَأَى الْمَيْسَرَةَ قَدْ كَادَتْ أَنْ تَتَحَطَّمَ، فَأَمَرَ
جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ بِإِرْدَافِهَا، ثُمَّ حَمَلَ الْعَسْكَرُ جَمِيعُهُ حَمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى التَّتَارِ، فَتَرَجَّلُوا إِلَى الْأَرْضِ عَنْ آخِرِهِمْ، وَقَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَصَبَرَ الْمُسْلِمُونَ صَبْرًا عَظِيمًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَأَحَاطَتْ بِالتَّتَارِ الْعَسَاكِرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا جَمَاعَةٌ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ ضِيَاءُ الدِّينِ ابْنُ الْخَطِيرِ، وَسَيْفُ الدِّينِ قَيْمَازٌ، وَسَيْفُ الدِّينِ قَفْجَقُ الْجَاشْنَكِيرُ، وَعِزُّ الدِّينِ أَيْبَكُ الشَّقِيفِيُّ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْمَغُولِ وَمِنْ أُمَرَاءِ الرُّومِ، وَهَرَبَ الْبَرْوَانَاهْ، فَنَجَا بِنَفْسِهِ، وَدَخَلَ قَيْسَارِيَّةَ فِي بُكْرَةِ الْأَحَدِ ثَانِي عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَأَعْلَمَ أُمَرَاءُ الرُّومِ مَلِكَهُمْ بِكَسْرَةِ التَّتَارِ عَلَى الْبُلُسْتَيْنِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِمْ بِالْهَزِيمَةِ، فَانْهَزَمُوا مِنْهَا وَأَخْلَوْهَا، فَدَخَلَهَا الْمَلِكُ الظَّاهِرُ وَصَلَّى بِهَا الْجُمُعَةَ سَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَخُطِبَ لَهُ بِهَا، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا. وَسَارَتْ بِذَلِكَ الْبَشَائِرُ إِلَى الْبُلْدَانِ، فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ بِنَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ هَذِهِ الْوَقْعَةِ أَبْغَا جَاءَ حَتَّى وَقَفَ بِنَفْسِهِ وَجَيْشِهِ، وَشَاهَدَ مَكَانَ الْمَعْرَكَةِ وَمَنْ فِيهَا مِنْ قَتْلَى الْمَغُولِ، فَغَاظَهُ ذَلِكَ وَأَعْظَمَهُ، وَحَنَقَ عَلَى الْبَرْوَانَاهْ إِذْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِجَلِيَّةِ الْحَالِ، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّ أَمْرَ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ دُونَ هَذَا كُلِّهِ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَى أَهْلِ قَيْسَارِيَّةَ وَأَهْلِ تِلْكَ
النَّاحِيَةِ،
فَقَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَقِيلَ: قَتَلَ مِنْهُمْ
خَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ قَيْسَارِيَّةَ وَأَرْزَنِ الرُّومِ، وَكَانَ فِي
جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ حَبِيبٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ عِيسَى بْنُ الشَّيْخِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ
الدِّمَشْقِيُّ
وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنَ الشَّيْخِ رَسْلَانَ قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ:
وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ.
الطَّوَاشِيُّ يُمْنٌ الْحَبَشِيُّ
شَيْخُ الْخُدَّامِ بِالْحَرَمِ الشَّرِيفِ النَّبَوِيِّ، كَانَ دَيِّنًا عَاقِلًا
عَدْلًا، صَادِقَ اللَّهْجَةِ، مَاتَ فِي عَشْرِ السَّبْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْمُحَدِّثُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْمَوْصِلِيُّ، ثُمَّ
الدِّمَشْقِيُّ الصُّوفِيُّ
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَتَبَ الْكُتُبَ الْكِبَارَ بِخَطٍّ رَفِيعٍ جَيِّدٍ
وَاضِحٍ، جَاوَزَ السَّبْعِينَ، وَدُفِنَ بِبَابِ الْفَرَادِيسِ.
الشَّاعِرُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْمَكَارِمِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ
مَسْعُودِ بْنِ بَرَكَةَ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ
التَّلَّعْفَرِيُّ
صَاحِبُ دِيوَانِ الشِّعْرِ، جَاوَزَ الثَّمَانِينَ،
تُوُفِّيَ
بِحَمَاةَ، وَكَانَ الشُّعَرَاءُ مُقِرِّينَ لَهُ مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِهِ وَتَقَدُّمِهِ
فِي هَذَا الْفَنِّ. وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
لِسَانِي طَرِيٌّ مِنْكَ يَا غَايَةَ الْمُنَى وَمِنْ وَلَهِي أَنِّي خَطِيبٌ
وَشَاعِرٌ فَهَذَا لِمَعْنَى حُسْنِ وَجْهِكَ نَاظِمُ
وَهَذَا لِدَمْعِي فِي تَجَنِّيكَ نَاثِرُ
الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ
الشَّهْرُزُورِيُّ الدِّمَشْقِيُّ
مُدَرِّسُ الْقَيْمُرِيَّةِ بِشَرْطِ وَاقِفِهَا لَهُ وَلِذُرِّيَّتِهِ مِنْ
بَعْدِهِ التَّدْرِيسَ مَنْ تَأَهَّلَ مِنْهُمْ، فَدَرَّسَ بِهَا إِلَى أَنْ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ صَلَاحُ الدِّينِ،
ثُمَّ ابْنُ ابْنِهِ بَعْدَ ابْنِ جَمَاعَةَ، وَطَالَتْ مُدَّةُ حَفِيدِهِ. وَقَدْ
وَلِيَ شَمْسُ الدِّينِ عَلَى نِيَابَةِ ابْنِ خَلِّكَانَ فِي الْوِلَايَةِ
الْأُولَى، وَكَانَ فَقِيهًا جَيِّدًا نَقَّالًا لِلْمَذْهَبِ رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَقَدْ سَافَرَ مَعَ ابْنِ الْعَدِيمِ إِلَى بَغْدَادَ فَسَمِعَ بِهَا، وَدُفِنَ
بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ بِالْقُرْبِ مِنَ ابْنِ الصَّلَاحِ
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
سَعْدِ اللَّهِ بْنِ جَمَاعَةَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَمَاعَةَ بْنِ حَازِمِ بْنِ
صَخْرٍ الْكِنَانِيُّ الْحَمَوِيُّ
لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ
بِحَمَاةَ، وَتُوُفِّيَ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَدُفِنَ
بِمَامُلَّا،
وَسَمِعَ مِنَ الْفَخْرِ بْنِ عَسَاكِرَ، وَرَوَى عَنْهُ وَلَدُهُ قَاضِي
الْقُضَاةِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ جَنْدَلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنِينِيُّ
كَانَتْ لَهُ عِبَادَةٌ وَزَهَادَةٌ وَأَعْمَالٌ صَالِحَةٌ، وَكَانَ النَّاسُ
يَتَرَدَّدُونَ إِلَى زِيَارَتِهِ، زَارَهُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ مَرَّاتٍ
وَكَذَلِكَ الْأُمَرَاءُ بِمَنِينَ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ لَا
يَفْهَمُهُ أَحَدُ مِنَ الْحَاضِرِينَ، بِأَلْفَاظٍ غَرِيبَةٍ، وَحَكَى عَنْهُ
الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: مَا تَقَرَّبَ أَحَدٌ إِلَى
اللَّهِ بِمِثْلِ الذُّلِّ لَهُ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ. وَسَمِعَهُ يَقُولُ:
الْمُوَلَّهُ مَنْفِيٌّ مِنْ طَرِيقِ اللَّهِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ وَاصِلٌ، وَلَوْ
عَلِمَ أَنَّهُ مَنْفِيٌّ رَجَعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ; لِأَنَّ طَرِيقَ الْقَوْمِ
مَنْ أَهْلِ السُّلُوكِ لَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا إِلَّا ذَوُو الْعُقُولِ
الثَّابِتَةِ. وَكَانَ يَقُولُ: السَّمَاعُ وَظِيفَةُ أَهْلِ الْبَطَالَةِ. قَالَ
الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ: وَكَانَ الشَّيْخُ جُنْدُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ
وَعُلَمَاءِ التَّحْقِيقِ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ
وَسِتِّمِائَةٍ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً.
قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ; لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي
رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي زَاوِيَتِهِ الْمَشْهُورَةِ
بِقَرْيَةِ مَنِينَ، وَوَرَدَ النَّاسُ إِلَى قَبْرِهِ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ مِنْ
دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ بَدْرُ الدِّينِ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ
الْفُوَيْرَهِ
السُّلَمِيُّ الْحَنَفِيُّ
اشْتَغَلَ عَلَى الصَّدْرِ سُلَيْمَانَ وَابْنِ عَطَاءٍ، وَفِي النَّحْوِ عَلَى
ابْنِ مَالِكٍ، وَحَصَّلَ وَبَرَعَ وَنَظَمَ وَنَثَرَ، وَدَرَّسَ فِي
الشِّبْلِيَّةِ وَالْقَصَّاعِينَ، وَطُلِبَ لِنِيَابَةِ الْقَضَاءِ فَامْتَنَعَ،
وَكَتَبَ الْكِتَابَةَ الْمَنْسُوبَةَ. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي
الْمَنَامِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَأَنْشَأَ
يَقُولُ:
مَا كَانَ لِي مِنْ شَافِعٍ عِنْدَهُ غَيْرُ اعْتِقَادِي أَنَّهُ وَاحِدُ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مَنْصُورٍ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْحَرَّانِيُّ الْحَنْبَلِيُّ
تِلْمِيذُ الشَّيْخِ مَجْدِ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ نِيَابَةً عَنِ الْقَاضِي تَاجِ
الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ، ثُمَّ وَلِيَ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الشَّيْخِ
الْعِمَادِ الْقَضَاءَ مُسْتَقِلًّا، فَاسْتَنَابَ بِهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ،
وَرَجَعَ إِلَى الشَّامِ يَشْتَغِلُ وَيُفْتِي إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَقَدْ
نَيَّفَ عَلَى السِّتِّينِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلَكِ الظَّاهِرِ رُكْنِ الدِّينِ بَيْبَرْسَ، صَاحِبِ
الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ وَالْحَلَبِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَأَقَامَ وَلَدَهُ نَاصِرَ الدِّينِ أَبَا الْمَعَالِي مُحَمَّدَ بَرَكَةَ خَانَ
الْمُلَقَّبَ بِالْمَلَكِ السَّعِيدِ، مِنْ بَعْدِهِ، وَوَفَاةُ الشَّيْخِ مُحْيِي
الدِّينِ النَّوَوِيِّ إِمَامِ الشَّافِعِيَّةِ فِيهَا فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ
مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا.
وَدَخَلَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَقَدْ كَسَرَ
التَّتَارَ عَلَى الْبُلُسْتَيْنِ، وَرَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، فَدَخَلَ
دِمَشْقَ وَكَانَ يَوْمُ دُخُولِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، فَنَزَلَ بِالْقَصْرِ
الْأَبْلَقِ الَّذِي بَنَاهُ غَرْبِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ الْمَيْدَانَيْنِ
الْأَخْضَرَيْنِ، وَتَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ إِلَيْهِ بِأَنَّ أَبْغَا جَاءَ
إِلَى الْمَعْرَكَةِ، وَنَظَرَ إِلَيْهَا، وَتَأَسَّفَ عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنَ
الْمَغُولِ، وَأَمَرَ بِقَتْلِ الْبَرْوَانَاهْ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ قَدْ عَزَمَ
عَلَى قَصْدِ الشَّامِ، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِجَمْعِ الْأُمَرَاءِ، وَضَرَبَ
مَشُورَةً، فَاتَّفَقَ مَعَ الْأُمَرَاءِ عَلَى مُلَاقَاتِهِ حَيْثُ كَانَ،
وَتَقَدَّمَ بِضَرْبِ الدِّهْلِيزِ عَلَى الْقَصْرِ، ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ
بِأَنَّ أَبْغَا قَدْ رَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ، فَأَمَرَ بَرَدِّ الدِّهْلِيزِ،
وَأَقَامَ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ يَجْتَمِعُ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ
وَالْأُمَرَاءُ وَالدَّوْلَةُ فِي أَسَرِّ حَالٍ، وَأَنْعَمِ بَالٍ. وَأَمَّا
أَبْغَا فَإِنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْبَرْوَانَاهْ - وَكَانَ نَائِبَهُ عَلَى
بِلَادِ الرُّومِ - وَكَانَ اسْمُهُ مُعِينَ الدِّينِ سُلَيْمَانَ بْنَ عَلِيِّ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَنٍ، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ
بِمُمَالَأَتِهِ لِلْمَلِكِ الظَّاهِرِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَسَّنَ
لَهُ دُخُولَ
بِلَادِ
الرُّومِ، وَكَانَ الْبَرْوَانَاهْ شُجَاعًا حَازِمًا كَرِيمًا جَوَادًا، وَلَهُ
مَيْلٌ إِلَى الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، وَكَانَ قَدْ جَاوَزَ الْخَمْسِينَ لَمَّا
قُتِلَ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ خَامِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ تُوُفِّيَ
الْمَلِكُ الْقَاهِرُ بَهَاءُ الدِّينِ عَبْدُ الْمَلِكِ ابْنُ السُّلْطَانِ
الْمُعَظَّمِ عِيسَى بْنِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ رَجُلًا جَيِّدًا سَلِيمَ الصَّدْرِ، كَرِيمَ
الْأَخْلَاقِ، لَيِّنَ الْكَلِمَةِ، كَثِيرَ التَّوَاضُعِ، يُعَانِي مَلَابِسَ
الْعَرَبِ وَمَرَاكِبَهُمْ، وَكَانَ مُعَظَّمًا فِي الدَّوْلَةِ شُجَاعًا
مِقْدَامًا، وَقَدْ رَوَى عَنِ ابْنِ اللَّتِّيِّ، وَأَجَازَ لِلْبِرْزَالِيِّ.
قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَيُقَالُ: إِنَّهُ سُمَّ. وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ
السُّلْطَانَ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ سَمَّهُ فِي كَأْسٍ ثُمَّ نَاوَلَهُ إِيَّاهُ،
فَشَرِبَهُ وَقَامَ السُّلْطَانُ إِلَى الْمُرْتَفَقِ، ثُمَّ عَادَ وَأَخَذَ
السَّاقِي الْكَأْسَ مِنْ يَدِ الْقَاهِرِ، فَمَلَأَهُ وَنَاوَلَهُ السُّلْطَانَ
الظَّاهِرَ وَالسَّاقِي لَا يَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِمَّا جَرَى، وَأَنْسَى اللَّهُ
السُّلْطَانَ ذَلِكَ الْكَأْسَ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ غَيْرُهُ لِأَمْرٍ يُرِيدُهُ
اللَّهُ وَيَقْضِيهِ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ فِي الْكَأْسِ بَقِيَّةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ
ذَلِكَ السُّمِّ، فَشَرِبَ الظَّاهِرُ مَا فِي الْكَأْسِ، وَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى
شَرِبَهُ، فَاشْتَكَى بَطْنَهُ مِنْ سَاعَتِهِ، وَوَجَدَ الْوَهَجَ وَالْحَرَّ
وَالْكَرْبَ الشَّدِيدَ مِنْ فَوْرِهِ، وَأَمَّا الْقَاهِرُ فَإِنَّهُ حُمِلَ
إِلَى مَنْزِلِهِ وَهُوَ مَغْلُوبٌ، فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَتَمَرَّضَ
الظَّاهِرُ مِنْ ذَلِكَ أَيَّامًا حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ
بَعْدَ الظُّهْرِ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ بِالْقَصْرِ
الْأَبْلَقِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا عَظِيمًا عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَحَضَرَ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ عِزُّ الدِّينِ أَيْدَمُرُ وَكِبَارُ الْأُمَرَاءِ
وَالدَّوْلَةُ، فَصَلَّوْا عَلَيْهِ سِرًّا، وَجَعَلُوهُ فِي تَابُوتٍ،
وَرَفَعُوهُ إِلَى الْقَلْعَةِ مِنَ السُّورِ، وَجَعَلُوهُ فِي بَيْتٍ مِنْ
بُيُوتِ الْبَحْرِيَّةِ إِلَى أَنْ نُقِلَ إِلَى تُرْبَتِهِ الَّتِي بَنَاهَا
وَلَدُهُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهِيَ دَارُ الْعَقِيقِيِّ تُجَاهَ
الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ خَامِسَ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَكُتِمَ مَوْتُهُ، فَلَمْ يَعْلَمْ جُمْهُورُ
النَّاسِ
بِهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ،
وَجَاءَتِ الْبَيْعَةُ لِوَلَدِهِ السَّعِيدِ مِنْ مِصْرَ، حَزِنَ النَّاسُ
عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا، وَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ تَرَحُّمًا كَثِيرًا،
وَجُدِّدَتِ الْبَيْعَةُ أَيْضًا بِدِمَشْقَ، وَجَاءَ تَقْلِيدُ النِّيَابَةِ
بِالشَّامِ مُجَدَّدًا إِلَى عِزِّ الدِّينِ أَيْدَمُرَ نَائِبِهَا.
وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ شَهْمًا شُجَاعًا، عَالِيَ الْهِمَّةِ، بَعِيدَ
الْغَوْرِ، مِقْدَامًا جَسُورًا، مُعْتَنِيًا بِأَمْرِ السَّلْطَنَةِ، يُشْفِقُ
عَلَى الْإِسْلَامِ، مُتَحَلِّيًا بِالْمُلْكِ، لَهُ قَصْدٌ صَالِحٌ فِي نُصْرَةِ
الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَإِقَامَةِ شِعَارِ الْمُلْكِ، وَاسْتَمَرَّتْ
أَيَّامُهُ مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ سَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ إِلَى هَذَا الْحِينِ، فَفَتَحَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فُتُوحَاتٍ
كَثِيرَةً: قَيْسَارِيَّةَ وَأَرْسُوفَ وَيَافَا وَالشَّقِيفَ وَأَنْطَاكِيَةَ
وَبَغْرَاسَ وَطَبَرِيَّةَ وَالْقُصَيْرَ وَحِصْنَ الْأَكْرَادِ وَحِصْنَ عَكَّارٍ
وَالْقُرَيْنَ وَصَافِيتَا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ الَّتِي
كَانَتْ بِأَيْدِي الْفِرِنْجِ، وَلَمْ يَدَعْ مَعَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ شَيْئًا
مِنَ الْحُصُونِ، وَنَاصَفَ الْفِرِنْجَ عَلَى الْمَرْقَبِ وَبَانِيَاسَ وَبِلَادِ
أَنْطَرْطُوسَ، وَسَائِرِ مَا بَقِيَ
بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِلَادِ وَالْحُصُونِ، وَوَلَّى فِي نَصِيبِهِ مِمَّا نَاصَفَهُمْ عَلَيْهِ النُّوَّابَ وَالْعُمَّالَ، وَفَتَحَ قَيْسَارِيَّةَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَأَوْقَعَ بِالرُّومِ وَالْمَغُولِ عَلَى الْبُلُسْتَيْنِ بَأْسًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ مِنْ دُهُورٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَاسْتَعَادَ مِنْ صَاحِبِ سِيسَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَجَاسَ خِلَالَ دِيَارِهِمْ وَحُصُونِهِمْ، وَاسْتَرَدَّ مِنْ أَيْدِي الْمُتَغَلِّبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْلَبَكَّ وَبُصْرَى وَصَرْخَدَ وَحِمْصَ وَعَجْلُونَ وَالصَّلْتَ وَتَدْمُرَ وَالرَّحْبَةَ وَتَلَّ بَاشِرٍ وَغَيْرَهَا، وَالْكَرَكَ وَالشَّوْبَكَ، وَفَتَحَ بِلَادَ النُّوبَةِ بِكَمَالِهَا مِنْ بِلَادِ السُّودَانِ، وَانْتَزَعَ بِلَادًا مِنَ التَّتَارِ كَثِيرَةً مِنْهَا شِيزَرُ وَالْبِيرَةُ، وَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَتُهُ مِنَ الْفُرَاتِ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ النَّوْبَةِ، وَعَمَّرَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْحُصُونِ وَالْمَعَاقِلِ وَالْجُسُورِ عَلَى الْأَنْهَارِ الْكِبَارِ، وَبَنَى دَارَ الذَّهَبِ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ وَبَنَى قُبَّةً عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ عَمُودًا مُلَوَّنَةً مُذَهَّبَةً، وَصَوَّرَ فِيهَا صُوَرَ خَاصَّكِيَّتِهِ وَأَشْكَالَهُمْ، وَحَفَرَ أَنْهَارًا كَثِيرَةً وَخُلْجَانَاتٍ بِبِلَادِ مِصْرَ، مِنْهَا نَهْرُ السَّرْدُوسِ، وَبَنَى جَوَامِعَ كَثِيرَةً وَمَسَاجِدَ عَدِيدَةً، وَجَدَّدَ بِنَاءَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ احْتَرَقَ، وَوَضَعَ الدَّرَابِزِينَاتِ حَوْلَ الْحُجْرَةِ الشَّرِيفَةِ، وَعَمِلَ فِيهِ مِنْبَرًا وَسَقَفَهُ بِالذَّهَبِ، وَجَدَّدَ الْمَارَسْتَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَجَدَّدَ قَبْرَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَزَادَ فِي زَاوِيَتِهِ وَمَا يُصْرَفُ إِلَى الْمُقِيمِينَ، وَبَنَى عَلَى الْمَكَانِ الْمَنْسُوبِ إِلَى قَبْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قُبَّةً قِبْلَيَّ أَرِيحَا، وَجَدَّدَ بِالْقُدْسِ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، مِنْ ذَلِكَ قُبَّةُ السِّلْسِلَةِ، وَرَمَّمَ سَقْفَ الصَّخْرَةِ، وَغَيْرَهَا وَبَنَى بِالْقُدْسِ خَانًا هَائِلًا بِمَامَلَا، وَنَقَلَ إِلَيْهِ بَابَ قَصْرِ الْخُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ مِنْ مِصْرَ، وَعَمِلَ فِيهِ طَاحُونًا
وَفُرْنًا
وَبُسْتَانًا، وَجَعَلَ لِلْوَارِدِينَ إِلَيْهِ أَشْيَاءَ تُصْرَفُ إِلَيْهِمْ
فِي نَفَقَةِ وَإِصْلَاحِ أَمْتِعَتِهِمْ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَبَنَى
عَلَى قَبْرِ أَبِي عُبَيْدَةَ بِالْقُرْبِ مِنْ عَمْتَا مَشْهَدًا، وَوَقَفَ
عَلَيْهِ أَشْيَاءَ لِلْوَارِدِينَ إِلَيْهِ، وَعَمَّرَ جِسْرَ دَامِيَةٍ،
وَجَدَّدَ قَبْرَ جَعْفَرٍ الطَّيَّارِ بِنَاحِيَةِ الْكَرَكِ، وَوَقَفَ عَلَى
الزَّائِرِينَ لَهُ شَيْئًا كَثِيرًا، وَجَدَّدَ قَلْعَةَ صَفَدَ وَجَامِعَهَا،
وَجَدَّدَ جَامِعَ الرَّمْلَةِ، وَغَيْرَهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي
كَانَتِ الْفِرِنْجُ قَدْ أَخَذَتْهَا وَخَرَّبَتْ جَوَامِعَهَا وَمَسَاجِدَهَا،
وَبَنَى بِحَلَبَ دَارًا هَائِلَةً، وَبِدِمَشْقَ الْقَصْرَ الْأَبْلَقَ
وَالْمَدْرَسَةَ الظَّاهِرِيَّةَ وَغَيْرَهَا، وَضَرَبَ الدَّرَاهِمَ
وَالدَّنَانِيرَ الْجَيِّدَةَ الْخَالِصَةَ عَلَى النُّصْحِ وَالْمُعَامَلَةِ
الْجَيِّدَةِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلَهُ مِنَ الْآثَارِ الْحَسَنَةِ وَالْأَمَاكِنِ مَا لَمْ يُبْنَ فِي زَمَنِ
الْخُلَفَاءِ وَمُلُوكِ بَنِي أَيُّوبَ، مَعَ اشْتِغَالِهِ بِالْجِهَادِ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، وَاسْتَخْدَمَ مِنَ الْجُيُوشِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَرَدَ
إِلَيْهِ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَغُولِ فَأَقْطَعَهُمْ وَأَمَّرَ
كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَكَانَ مُقْتَصِدًا فِي مَلْبَسِهِ وَمَطْعَمِهِ، وَكَذَلِكَ
جَيْشُهُ، وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ الدَّوْلَةَ الْعَبَّاسِيَّةَ بَعْدَ
دُثُورِهَا، وَبَقِيَ النَّاسُ بِلَا خَلِيفَةٍ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ،
وَهُوَ الَّذِي أَقَامَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ قَاضِيًا مُسْتَقِلًّا قَاضِيَ
قُضَاةٍ.
وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُتَيَقِّظًا شَهْمًا شُجَاعًا، لَا يَفْتُرُ عَنِ
الْأَعْدَاءِ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، بَلْ هُوَ مُنَاجِزٌ لِأَعْدَاءِ
الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلَمِّ شَعَثِهِ وَاجْتِمَاعِ شَمْلِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ أَقَامَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُتَأَخِّرِ عَوْنًا
وَنَصْرًا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَشَجًا فِي حُلُوقِ الْمَارِقِينَ مِنَ
الْفِرِنْجِ وَالتَّتَارِ وَالْمُشْرِكِينَ. وَأَبْطَلَ الْخُمُورَ، وَنَفَى
الْفُسَّاقَ
مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَ لَا يَرَى شَيْئًا مِنَ الْفَسَادِ وَالْمَفَاسِدِ
إِلَّا سَعَى فِي إِزَالَتِهِ بِجُهْدِهِ وَطَاقَتِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي
سِيرَتِهِ مَا أَرْشَدَ إِلَى حُسْنِ طَوِيَّتِهِ وَسَرِيرَتِهِ، وَقَدْ جَمَعَ
لَهُ كَاتِبُهُ ابْنُ عَبْدِ الظَّاهِرِ سِيرَةً مُطَوَّلَةً، وَكَذَلِكَ ابْنُ
شَدَّادٍ أَيْضًا.
وَقَدْ تَرَكَ مِنَ الْأَوْلَادِ عَشَرَةً; ثَلَاثَةَ ذُكُورٍ وَسَبْعَةَ إِنَاثٍ،
وَمَاتَ وَعُمْرُهُ مَا بَيْنَ الْخَمْسِينَ إِلَى السِّتِّينِ، وَلَهُ أَوْقَافٌ
وَصِلَاتٌ وَصَدَقَاتٌ، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ الْحَسَنَاتِ، وَتَجَاوَزَ لَهُ
عَنِ السَّيِّئَاتِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَقَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ السَّعِيدُ بِمُبَايَعَةِ أَبِيهِ لَهُ
فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَكَانَ عُمُرُ السَّعِيدِ يَوْمَئِذٍ دُونَ الْعِشْرِينَ
سَنَةً، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ وَأَتَمِّ الرِّجَالِ.
وَفِي صَفَرٍ وَصَلَتِ الْهَدَايَا مِنَ الْفُنْشِ مَعَ رُسُلِهِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَوَجَدُوا السُّلْطَانَ قَدْ مَاتَ، وَقَدْ أُقِيمَ الْمَلِكُ
السَّعِيدُ وَلَدُهُ مَكَانَهُ، وَالدَّوْلَةُ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَالْمَعْرِفَةُ
بَعْدَهُ مَا تَنَكَّرَتْ، وَلَكِنِ الْبِلَادُ قَدْ فَقَدَتْ أَسَدَهَا بَلْ
أَسَدَّهَا وَأَشَدَّهَا، بَلِ الَّذِي بَلَغَ أَشُدَّهَا، وَإِذَا انْفَتَحَتْ
ثَغْرَةٌ مِنْ سُورِ الْإِسْلَامِ سَدَّهَا، وَكُلَّمَا انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ مِنْ
عُرَى الْعَزَائِمِ شَدَّهَا، وَكُلَّمَا رَامَتْ فِرْقَةٌ مَارِقَةٌ مِنْ
طَوَائِفِ الطَّغَامِ أَنْ تَلِجَ إِلَى حَوْمَةِ الْإِسْلَامِ صَدَّهَا
وَرَدَّهَا، فَسَامَحَهُ اللَّهُ، وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ، وَجَعَلَ
الْجَنَّةَ مُتَقَلَّبَهُ وَمَثْوَاهُ.
وَكَانَتِ الْعَسَاكِرُ الشَّامِيَّةُ قَدْ سَارَتْ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَمَعَهُمْ مِحَفَّةٌ يُظْهِرُونَ أَنَّ السُّلْطَانَ فِيهَا
مَرِيضٌ، حَتَّى وَصَلُوا إِلَى الْقَاهِرَةِ فَجَدَّدُوا الْبَيْعَةَ لِلسَّعِيدِ
بَعْدَمَا أَظْهَرُوا مَوْتَ الْمَلِكِ السَّدِيدِ الَّذِي هُوَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ شَهِيدٌ.
وَفِي
يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ خُطِبَ فِي جَمِيعِ
الْجَوَامِعِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِلْمَلِكِ السَّعِيدِ، وَصَلَّى عَلَى
وَالِدِهِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، وَاسْتَهَلَّتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ.
وَفِي مُنْتَصَفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ رَكِبَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ بِالْعَصَائِبِ
عَلَى عَادَةِ وَالِدِهِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ الْمِصْرِيُّ
وَالشَّامِيُّ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى الْجَبَلِ الْأَحْمَرِ، وَفَرِحَ النَّاسُ
بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا، وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَعَلَيْهِ
أُبَّهَةُ الْمَلِكِ وَرِيَاسَةُ السَّلْطَنَةِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ رَابِعِ جُمَادَى الْأُولَى فُتِحَتْ مَدْرَسَةُ
الْأَمِيرِ شَمْسِ الدِّينِ آقْسُنْقُرَ الْفَارِقَانِيِّ بِالْقَاهِرَةِ،
بَحَارَةِ الْوَزِيرِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَمِلَ فِيهَا
مَشْيَخَةَ حَدِيثٍ وَقَارِئٍ. وَبَعْدَهُ بِيَوْمٍ عُقِدَ عَقْدُ ابْنِ
الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَمْسِكِ بِاللَّهِ ابْنِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى
ابْنَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَنْصِرِ بْنِ الظَّاهِرِ، وَحَضَرَ وَالِدُهُ
وَالسُّلْطَانُ وَوُجُوهُ النَّاسِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ تَاسِعِ جُمَادَى الْأُولَى شُرِعَ فِي بِنَاءِ الدَّارِ
الَّتِي تُعْرَفُ بِدَارِ الْعَقِيقِيِّ تُجَاهَ الْعَادِلِيَّةِ، لِتُجْعَلَ
مَدْرَسَةً وَتُرْبَةً لِلْمَلِكِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا
دَارًا لِلْعَقِيقِيِّ، وَهِيَ الْمُجَاوِرَةُ لِحَمَّامِ الْعَقِيقِيِّ،
وَأُسِّسَ أَسَاسُ التُّرْبَةِ فِي خَامِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَأُسِّسَتِ
الْمَدْرَسَةُ أَيْضًا.
وَفِي رَمَضَانَ طَلْعَتْ سَحَابَةٌ عَظِيمَةٌ بِمَدِينَةِ صَفَدَ لَمَعَ مِنْهَا
بَرْقٌ شَدِيدٌ،
وَسَطَعَ
مِنْهَا لِسَانُ نَارٍ، وَسُمِعَ مِنْهَا صَوْتٌ شَدِيدٌ هَائِلٌ، وَوَقَعَ
مِنْهَا عَلَى مَنَارَةِ صَفَدَ صَاعِقَةٌ شَقَّتْهَا مِنْ أَعْلَاهَا إِلَى
أَسْفَلِهَا شَقًّا يَدْخُلُ الْكَفُّ فِيهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْبَرْوَانَاهْ
فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُحَرَّمِ.
وَالْمَلِكُ الظَّاهِرُ
فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِمَا.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بِيلِيكَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْخَزِنْدَارُ
نَائِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِلْمَلِكِ الظَّاهِرِ، كَانَ جَوَادًا
مُمَدَّحًا، لَهُ إِلْمَامٌ وَمَعْرِفَةٌ بِأَيَّامِ النَّاسِ وَالتَّوَارِيخِ،
وَقَدْ وَقَفَ دَرْسًا بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ عَلَى الشَّافِعِيَّةِ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ سُمَّ فَمَاتَ. فَلَمَّا مَاتَ انْتَقَضَ بَعْدَهُ حَبْلُ
الْمَلِكِ السَّعِيدِ، وَاضْطَرَبَتْ أُمُورُهُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ الْحَنْبَلِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ
الْعِمَادِ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ سُرُورٍ الْمَقْدِسِيُّ
أَوَّلُ مَنْ وَلِيَ قَضَاءَ قُضَاةِ الْحَنَابِلَةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
سَمِعَ الْحَدِيثَ حُضُورًا عَلَى ابْنِ طَبَرْزَدَ وَغَيْرِهِ، وَرَحَلَ
إِلَى
بَغْدَادَ وَاشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ، وَتَفَنَّنَ فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، وَوَلِيَ
مَشْيَخَةَ سَعِيدِ السُّعَدَاءِ، وَكَانَ شَيْخًا مَهِيبًا حَسَنَ الشَّيْبَةِ،
كَثِيرَ التَّوَاضُعِ وَالْبِرِّ وَالصَّدَقَةِ، وَقَدِ اشْتَرَطَ فِي قَبُولِ
الْوِلَايَةِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهَا جَامَكِيَّةٌ، لِيَقُومَ فِي
النَّاسِ بِالْحَقِّ فِي حُكْمِهِ، وَقَدْ عَزَلَهُ الظَّاهِرُ عَنِ الْقَضَاءِ
سَنَةَ سَبْعِينَ، وَاعْتَقَلَهُ بِسَبَبِ الْوَدَائِعِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ،
ثُمَّ أَطْلَقَهُ بَعْدَ سَنَتَيْنِ، فَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَاسْتَقَرَّ
بِتَدْرِيسِ الصَّالِحِيَّةِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ،
وَدُفِنَ عِنْدَ عَمِّهِ الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ بِسَفْحِ جَبَلِ
الْمُقَطَّمِ، وَقَدْ أَجَازَ لِلْبِرْزَالِيِّ.
قَالَ الْحَافِظُ الْبِرْزَالِيُّ: وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ وَرَدَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ سِتَّةِ أُمَرَاءَ مَنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ; سُنْقُرُ الْبَغْدَادِيُّ، وَبَسْطَا الْبَلَدِيُّ التَّتَرِيُّ،
وَبَدْرُ الدِّينِ الْوَزِيرِيُّ، وَسُنْقُرُ الرُّومِيُّ، وَآقْسُنْقُرُ
الْفَارِقَانِيُّ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ خَضِرٌ الْكُرْدِيُّ شَيْخُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ: خَضِرُ بْنُ أَبِي
بَكْرِ بْنِ مُوسَى الْكُرْدِيُّ الْمِهْرَانِيُّ الْعَدَوِيُّ
وَيُقَالُ: إِنَّ أَصْلَهُ مِنْ قَرْيَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنْ جَزِيرَةِ ابْنِ
عُمَرَ. كَانَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ أَحْوَالٌ وَمُكَاشَفَاتٌ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا
خَالَطَ النَّاسَ افْتَتَنَ بِبَعْضِ بَنَاتِ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ يَقُولُ عَنِ
الْمَلِكِ الظَّاهِرِ وَهُوَ أَمِيرٌ: إِنَّهُ سَيَلِي الْمُلْكَ. فَلِهَذَا كَانَ
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ يَعْتَقِدُهُ وَيُبَالِغُ فِي إِكْرَامِهِ بَعْدَ أَنْ
وَلِيَ الْمَمْلَكَةَ، وَيُعَظِّمُهُ
تَعْظِيمًا
زَائِدًا، وَيَنْزِلُ إِلَى عِنْدِهِ إِلَى زَاوِيَتِهِ فِي الْأُسْبُوعِ مَرَّةً
أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَيَسْتَصْحِبُهُ مَعَهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَسْفَارِهِ،
وَيُكْرِمُهُ وَيَحْتَرِمُهُ وَيَسْتَشِيرُهُ، فَيُشِيرُ عَلَيْهِ بِرَأْيِهِ
وَمُكَاشَفَاتٍ صَحِيحَةٍ مُطَابِقَةٍ; إِمَّا رَحْمَانِيَّةٍ أَوْ
شَيْطَانِيَّةٍ، أَوْ حَالٍ أَوِ اسْتِفَادَةٍ، لَكِنَّهُ افْتَتَنَ لَمَّا خَالَطَ
النَّاسَ بِبَعْضِ بَنَاتِ الْأُمَرَاءِ، وَكُنَّ لَا يَحْتَجِبْنَ مِنْهُ،
فَوَقَعَ فِي الْفِتْنَةِ. وَهَذَا فِي الْغَالِبِ وَاقِعٌ فِي مُخَالَطَةِ
النَّاسِ، فَلَا يَسْلَمُ الْمَخَالِطُ لَهُمْ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَلَا سِيَّمَا
مُخَالَطَةُ النِّسَاءِ مَعَ تَرْكِ الِاحْتِجَابِ، فَلَا يَسْلَمُ الْعَبْدُ
الْبَتَّةَ مِنْهُنَّ. فَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ فِيهِ حُوقِقَ عِنْدَ
السُّلْطَانِ وَبَيْسَرِي وَقَلَاوُونَ وَالْفَارِسِ أَقْطَايَ الْأَتَابِكِ،
فَاعْتَرَفَ، فَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ
أَيَّامٌ قَلَائِلُ. فَأَمَرَ بِسَجْنِهِ، فَسُجِنَ سِنِينَ عَدِيدَةً مِنْ سَنَةِ
إِحْدَى وَسَبْعِينَ إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَسَبْعِينَ، وَقَدْ هَدَمَ بِالْقُدْسِ
كَنِيسَةً، وَذَبَحَ قِسِّيسَهَا، وَعَمِلَهَا زَاوِيَةً، وَقَدْ قَدَّمْنَا
تَرْجَمَتَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ مَسْجُونًا
حَتَّى مَاتَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَادِسِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
فَأُخْرِجَ مِنَ الْقَلْعَةِ، وَسُلِّمَ إِلَى قَرَابَتِهِ، فَدُفِنَ فِي تُرْبَةٍ
أَنْشَأَهَا فِي زَاوِيَتِهِ. مَاتَ وَهُوَ فِي عَشْرِ السِّتِّينَ، وَقَدْ كَانَ
يُكَاشِفُ السُّلْطَانَ فِي أَشْيَاءَ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ قُبَّةُ الشَّيْخِ
خَضِرٍ الَّتِي عَلَى الْجَبَلِ غَرْبِيَّ الرَّبْوَةِ، وَلَهُ زَاوِيَةٌ
بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ.
الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ، يَحْيَى بْنُ شَرَفِ بْنِ مِرَى بْنِ
حَسَنِ بْنِ
حُسَيْنِ
بْنِ جُمُعَةَ بْنِ حِزَامٍ الْحِزَامِيِّ الْعَالِمِ، مُحْيِي الدِّينِ أَبُو
زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ
الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْمَذْهَبِ، وَكَبِيرُ الْفُقَهَاءِ فِي زَمَانِهِ، وُلِدَ
بِنَوَى سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَنَوَى قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى
حَوْرَانَ، وَقَدْ قَدِمَ دِمَشْقَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَقَدْ حَفِظَ
الْقُرْآنَ فَشَرَعَ فِي قِرَاءَةِ " التَّنْبِيهِ " فَيُقَالُ: إِنَّهُ
قَرَأَهُ فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ، وَقَرَأَ رُبْعَ الْعِبَادَاتِ مِنَ
" الْمُهَذَّبِ " فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ، ثُمَّ لَزِمَ الْمَشَايِخَ
تَصْحِيحًا وَشَرْحًا، فَكَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَ دَرْسًا
عَلَى الْمَشَايِخِ، ثُمَّ اعْتَنَى بِالتَّصْنِيفِ فَجَمَعَ شَيْئًا كَثِيرًا،
مِنْهَا مَا أَكْمَلَهُ، وَمِنْهَا مَا لَمْ يُكْمِلْهُ، فَمِمَّا كَمَّلَ "
شَرْحُ مُسْلِمٍ " وَ " الرَّوْضَةُ " وَ " الْمِنْهَاجُ
" وَ " الرِّيَاضُ " وَ " الْأَذْكَارُ " وَ "
التِّبْيَانُ " وَ " تَحْرِيرُ التَّنْبِيهِ وَتَصْحِيحُهُ " وَ
" تَهْذِيبُ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ " وَ " طَبَقَاتُ
الْفُقَهَاءِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَمِمَّا لَمْ يُتَمِّمْهُ - وَلَوْ كَمَلَ
لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ فِي بَابِهِ - " شَرْحُ الْمُهَذَّبِ "
الَّذِي سَمَّاهُ " الْمَجْمُوعَ " وَصَلَ فِيهِ إِلَى كِتَابِ
الرِّبَا، فَأَبْدَعَ فِيهِ وَأَجَادَ وَأَفَادَ وَأَحْسَنَ الِانْتِقَادَ،
وَحَرَّرَ الْفِقْهَ فِيهِ فِي الْمَذْهَبِ وَغَيْرِهِ، وَحَرَّرَ فِيهِ
الْحَدِيثَ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَالْغَرِيبَ وَاللُّغَةَ وَأَشْيَاءَ مُهِمَّةً
لَا تُوجَدُ إِلَّا فِيهِ، وَقَدْ جَعَلَهُ نُخْبَةً عَلَى مَا عَنَّ لَهُ، وَلَا
أَعْرِفُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ أَحْسَنَ مِنْهُ، عَلَى أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى
أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ تُزَادُ فِيهِ وَتُضَافُ إِلَيْهِ.
وَقَدْ كَانَ مِنَ الزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالتَّحَرِّي
وَالِانْجِمَاعِ عَنِ النَّاسِ عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ، لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ
أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ غَيْرُهُ، وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ،
وَلَا
يَجْمَعُ بَيْنَ إِدَامَيْنِ، وَكَانَ غَالِبُ قُوتِهِ مِمَّا يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ
أَبُوهُ مِنْ نَوَى، وَقَدْ بَاشَرَ تَدْرِيسَ الْإِقْبَالِيَّةِ نِيَابَةً عَنِ
ابْنِ خَلِّكَانَ وَكَذَلِكَ نَابَ فِي الْفَلَكِيَّةِ وَالرُّكْنِيَّةِ، وَوَلِيَ
مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ، وَكَانَ لَا يُضَيِّعُ شَيْئًا
مِنْ أَوْقَاتِهِ، وَحَجَّ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ يَأْمُرُ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ لِلْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ، تُوُفِّيَ
فِي لَيْلَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِنَوَى،
وَدُفِنَ هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَفَا عَنَّا وَعَنْهُ.
عَلِيُّ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَسْفَنْدِيَارَ نَجْمُ الدِّينِ
الْوَاعِظُ بِجَامِعِ دِمَشْقَ أَيَّامَ السُّبُوتِ فِي الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ،
وَكَانَ شَيْخَ الْخَانْقَاهِ الْمُجَاهِدِيَّةِ، وَبِهَا تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا، وَكَانَ جَدُّهُ يَكْتُبُ الْإِنْشَاءَ
لِلْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ، وَأَصْلُهُمْ مِنْ بُوشَنْجَ. وَمِنْ شِعْرِ نَجْمِ
الدِّينِ هَذَا قَوْلُهُ:
إِذَا زَارَ بِالْجُثْمَانِ غَيْرِي فَإِنَّنِي أَزُورُ مَعَ السَّاعَاتِ رَبْعَكَ
بِالْقَلْبِ وَمَا كُلُّ نَاءٍ عَنْ دِيَارٍ بِنَازِحٍ
وَلَا كُلُّ دَانٍ فِي الْحَقِيقَةِ ذُو قُرْبِ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
كَانَ أَوَّلُهَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ
بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ شَامًا وَمِصْرًا
وَحَلَبًا الْمَلِكَ السَّعِيدَ.
وَفِي أَوَائِلِ الْمُحَرَّمِ اشْتَهَرَ بِدِمَشْقَ وِلَايَةُ الْقَاضِي ابْنُ
خَلِّكَانَ قَضَاءَ دِمَشْقَ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ،
بَعْدَ عَزْلٍ سَبْعَ سِنِينَ، فَامْتَنَعَ الْقَاضِي عِزُّ الدِّينِ ابْنُ
الصَّائِغِ مِنَ الْحُكْمِ فِي سَادِسِ الْمُحَرَّمِ، وَخَرَجَ النَّاسُ
لِتَلَقِّي ابْنِ خَلِّكَانَ، فَمِنْهُمْ مَنْ وَصَلَ إِلَى الرَّمْلَةِ، وَكَانَ
دُخُولُهُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ،
فَخَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ عِزُّ الدِّينِ أَيْدَمُرُ بِجَمِيعِ الْأُمَرَاءِ
وَالْمَوَاكِبِ لِتَلَقِّيِهِ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَمَدَحَهُ
الشُّعَرَاءُ، وَأَنْشَدَ الْفَقِيهُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْوَانَ:
لَمَّا تَوَلَّى قَضَاءَ الشَّامِ حَاكِمُهُ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْعَبَّاسِ
ذُو الْكَرَمِ مِنْ بَعْدِ سَبْعٍ شِدَادٍ قَالَ خَادِمُهُ
ذَا الْعَامُ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ بِالنِّعَمِ
وَقَالَ سَعْدُ اللَّهِ بْنُ مَرْوَانَ الْفَارِقِيُّ:
أَذَقْتَ الشَّامَ سَبْعَ سِنِينَ جَدْبًا غَدَاةَ هَجَرْتَهُ هَجْرًا جَمِيلًا
فَلَمَّا
زُرْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مَدَدْتَ عَلَيْهِ مِنْ كَفَّيْكَ نِيلَا
وَقَالَ آخَرُ:
رَأَيْتُ أَهْلَ الشَّامِ طُرًّا مَا فِيهِمُ قَطُّ غَيْرُ رَاضِ
نَالَهُمُ الْخَيْرُ بَعْدَ شَرٍّ فَالْوَقْتُ بَسْطٌ بِلَا انْقِبَاضِ
وَعُوِّضُوا فَرْحَةً بِحُزْنٍ قَدْ أَنْصَفَ الدَّهْرُ فِي التَّقَاضِي
وَسَّرَّهُمْ بَعْدَ طُولِ غَمٍّ بُدُورُ قَاضٍ وَعَزْلُ قَاضِي
وَكُلُّهُمْ شَاكِرٌ وَشَاكٍ بِحَالِ مُسْتَقْبَلٍ وَمَاضِي
قَالَ الْيُونِينِيُّ: وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثَ عَشَرَ صَفَرٍ ذَكَرَ
الدَّرْسَ بِالظَّاهِرِيَّةِ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ أَيْدَمُرُ
الظَّاهِرِيُّ، وَكَانَ دَرْسًا حَافِلًا حَضَرَهُ الْقُضَاةُ، وَكَانَ مُدَرِّسَ
الشَّافِعِيَّةِ الشَّيْخُ رَشِيدُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْفَارِقِيُّ، وَمُدَرِّسَ الْحَنَفِيَّةِ الشَّيْخُ صَدَرُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ
الْحَنَفِيُّ، وَلَمْ يَكُنْ بِنَاءُ الْمَدْرَسَةِ كَمَلَ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى بَاشَرَ قَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ صَدْرُ الدِّينِ
سُلَيْمَانُ الْمَذْكُورُ عِوَضًا عَنْ مَجْدِ الدِّينِ بْنِ الْعَدِيمِ، بِحُكْمِ
وَفَاتِهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ صَدْرُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ الْمَذْكُورُ فِي
رَمَضَانَ، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ الْقَضَاءَ حُسَامُ الدِّينِ أَبُو الْفَضَائِلِ
الْحَسَنُ بْنُ أَنُوشِرْوَانَ الرَّازِيُّ الْحَنَفِيُّ، الَّذِي كَانَ قَاضِيًا
بِمَلَطْيَةَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَفِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ
فُتِحَتِ الْمَدْرَسَةُ النَّجِيبِيَّةُ، وَحَضَرَ تَدْرِيسَهَا ابْنُ خَلِّكَانَ
بِنَفْسِهِ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْهَا لِوَلَدِهِ كَمَالِ الدِّينِ مُوسَى، وَفُتِحَتِ
الْخَانْقَاهُ النَّجِيبِيَّةُ، وَقَدْ كَانَتَا
وَأَوْقَافُهُمَا
تَحْتَ الْحَوْطَةِ إِلَى الْآنِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ خَامِسِ ذِي الْحِجَّةِ دَخَلَ السُّلْطَانُ
السَّعِيدُ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ زُيِّنَتْ لَهُ، وَعُمِلَتْ لَهُ قِبَابٌ
ظَاهِرَةٌ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ لِتَلَقِّيهِ وَفَرِحُوا بِهِ فَرَحًا
عَظِيمًا لِمَحَبَّتِهِمْ وَالِدَهُ، وَصَلَّى عِيدَ النَّحْرِ بِالْمَيْدَانِ،
وَعَمِلَ الْعِيدَ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَاسْتَوْزَرَ بِدِمَشْقَ
الصَّاحِبَ فَتْحَ الدِّينِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْقَيْسَرَانِيِّ،
وَبِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ بَهَاءِ الدِّينِ بْنِ الْحِنَّا
الصَّاحِبَ بُرْهَانَ الدِّينِ بْنَ الْخَضِرِ بْنِ الْحَسَنِ السِّنْجَارِيَّ،
وَفِي الْعَشْرِ الْآخِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ جَهَّزَ السُّلْطَانُ الْعَسَاكِرَ
إِلَى بِلَادِ سِيسَ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ قَلَاوُونَ
الصَّالِحِيِّ، وَأَقَامَ السُّلْطَانُ بِدِمَشْقَ فِي طَائِفَةٍ يَسِيرَةٍ مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَالْخَاصِّكِيَّةِ وَالْخَوَاصِّ، وَجَعَلَ يُكْثِرُ التَّرَدُّدَ
إِلَى الزَّنْبَقِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ جَلَسَ
السُّلْطَانُ بِدَارِ الْعَدْلِ دَاخِلَ بَابِ النَّصْرِ، وَأَسْقَطَ مَا كَانَ
حَدَّدَهُ وَالِدُهُ عَلَى بَسَاتِينِ أَهْلِ دِمَشْقَ فَتَضَاعَفَتْ لَهُ
مِنْهُمُ الْأَدْعِيَةُ، وَأَحَبُّوهُ لِذَلِكَ حُبًّا شَدِيدًا، فَإِنَّهُ كَانَ
قَدْ أَجْحَفَ بِكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْأَمْلَاكِ، وَوَدَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ
لَوْ تَخَلَّصَ مِنْ مُلْكِهِ جُمْلَةً بِسَبَبِ مَا عَلَيْهِ.
وَفِيهَا طَلَبَ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، ضُرِبَتْ
أُجْرَةً عَلَى أَمْلَاكِهِمْ مُدَّةَ شَهْرَيْنِ، وَجُبِيَتْ مِنْهُمْ عَلَى
الْقَهْرِ وَالْعَسْفِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
آقُوشُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ جَمَالُ الدِّينِ النَّجِيبِيُّ أَبُو
سَعِيدٍ الصَّالِحِيُّ
أَعْتَقَهُ الْمَلِكُ الصَّالِحُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ بْنُ الْكَامِلِ،
وَجَعَلَهُ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَوَلَّاهُ أُسْتَاذَدَارِيَّتِهِ،
وَكَانَ يَثِقُ إِلَيْهِ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ
تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَوَلَّاهُ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ أَيْضًا
أُسْتَاذَدَارِيَّتِهِ، ثُمَّ اسْتَنَابَهُ بِالشَّامِ تِسْعَ سِنِينَ، فَاتَّخَذَ
فِيهَا الْمَدْرَسَةَ النَّجِيبِيَّةَ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا أَوْقَافًا دَارَّةً
وَاسِعَةً، لَكِنْ لَمْ يُقَرِّرْ لِلْمُسْتَحِقِّينَ قَدْرًا يُنَاسِبُ مَا
وَقَفَهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ عَزَلَهُ السُّلْطَانُ وَاسْتَدْعَاهُ لِمِصْرَ،
فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً بَطَّالًا، ثُمَّ مَرِضَ بِالْفَالِجِ أَرْبَعَ سِنِينَ،
وَقَدْ عَادَهُ فِي بَعْضِهَا الْمَلِكُ الظَّاهِرُ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى
كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ خَامِسَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ
بِالْقَاهِرَةِ بِدَارِهِ بِدَرْبِ مُلُوخِيَّا، وَدُفِنَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
قَبْلَ الصَّلَاةِ بِتُرْبَتِهِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بِالْقَرَافَةِ الصُّغْرَى،
وَقَدْ كَانَ بَنَى لِنَفْسِهِ تُرْبَةً بِالنَّجِيبِيَّةِ وَفَتَحَ لَهَا
شُبَّاكَيْنِ إِلَى الطَّرِيقِ، فَلَمْ يُقَدَّرْ دَفْنُهُ بِهَا. وَكَانَ كَثِيرَ
الصَّدَقَةِ، مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ، مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ، حَسَنَ
الِاعْتِقَادِ، شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ، مُتَغَالِيًا فِي السُّنَّةِ، وَمَحَبَّةِ
الصَّحَابَةِ، وَبُغْضِ الرَّوَافِضِ، وَمِنْ جُمْلَةِ أَوْقَافِهِ الْحِسَانِ
الْبُسْتَانُ وَالْأَرَاضِي الَّتِي أَوْقَفَهَا عَلَى الْجُسُورَةِ الَّتِي
قِبْلِيَّ جَامِعِ كَرِيمِ الدِّينِ الْيَوْمَ، وَعَلَى ذَلِكَ أَوْقَافٌ
كَثِيرَةٌ، وَجَعَلَ النَّظَرَ فِي أَوْقَافِهِ لِابْنِ خَلِّكَانَ.
أَيْدِكِينُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ
الشِّهَابِيُّ
وَاقِفُ الْخَانْقَاهِ الشِّهَابِيَّةِ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَجِ، كَانَ مِنْ
كِبَارِ الْأُمَرَاءِ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ وَلَّاهُ الظَّاهِرُ بِحَلَبَ مُدَّةً،
وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ وَشُجْعَانِهِمْ، وَلَهُ حُسْنُ ظَنٍّ بِالْفُقَرَاءِ
وَالْإِحْسَانِ
إِلَيْهِمْ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ الشَّيْخِ عُثْمَانَ الرُّومِيِّ بِسَفْحِ
قَاسِيُونَ، فِي خَامِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَهُوَ فِي عَشْرِ
الْخَمْسِينَ، وَخَانَقَاتُهُ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَجِ، وَكَانَ لَهَا شُبَّاكٌ
إِلَى الطَّرِيقِ. وَالشِّهَابِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى الطَّوَاشِيِّ شِهَابِ الدِّينِ
رَشِيدٍ الْكَبِيرِ الصَّالِحِيِّ.
قَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي الْعِزِّ وُهَيْبٍ
أَبُو الرَّبِيعِ الْحَنَفِيُّ
شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَعَالِمُهُمْ شَرْقًا وَغَرْبًا، أَقَامَ
بِدِمَشْقَ مُدَّةً يُفْتِي وَيُدَرِّسُ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ يُدَرِّسُ بِالصَّالِحِيَّةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ،
فَدَرَّسَ بِالظَّاهِرِيَّةِ وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بَعْدَ مَجْدِ الدِّينِ بْنِ الْعَدِيمِ
ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ
شَعْبَانَ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِدَارِهِ بِسَفْحِ
قَاسِيُونَ، وَلَهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِهِ فِي
مَمْلُوكٍ تَزَوَّجَ جَارِيَةً لِلْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ:
يَا صَاحِبَيَّ قِفَا لِي وَانْظُرَا عَجَبًا أَتَى بِهِ الدَّهْرُ فِينَا مِنْ
عَجَائِبِهِ الْبَدْرُ أَصْبَحَ فَوْقَ الشَّمْسِ مَنْزِلَةً
وَمَا الْعُلُوُّ عَلَيْهَا مِنْ مَرَاتِبِهِ أَضْحَى يُمَاثِلُهَا حُسْنًا
وَصَارَ لَهَا
كُفُوًا وَسَارَ إِلَيْهَا فِي مَوَاكِبِهِ فَأَشْكَلَ الْفَرْقُ لَوْلَا وَشْيُ
نَمْنَمَةٍ
بِصُدْغِهِ وَاخْضِرَارٌ فَوْقَ شَارِبِهِ
طَهَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ كَمَالُ الدِّينِ الْهَذْبَانِيُّ
الْإِرْبِلِيُّ
كَانَ أَدِيبًا
فَاضِلًا
شَاعِرًا، لَهُ قُدْرَةٌ فِي تَصْنِيفِ دُوبَيْتٍ، وَقَدْ أَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ
حَتَّى تُوُفِّيَ بِهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدِ
اجْتَمَعَ مَرَّةً بِالْمَلِكِ الصَّالِحِ أَيُّوبَ، فَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ فِي
عِلْمِ النُّجُومِ، فَأَنْشَدَهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ:
دَعِ النُّجُومَ لِطُرْقِيٍّ يَعِيشُ بِهَا وَبِالْعَزِيمَةِ فَانْهَضْ أَيُّهَا
الْمَلِكُ
إِنَّ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ نَهَوْا عَنِ النُّجُومِ وَقَدْ
أَبْصَرْتَ مَا مَلَكُوا
وَكَتَبَ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ اسْمُهُ شَمْسُ الدِّينِ يَسْتَزِيرُهُ بَعْدَ رَمَدٍ
أَصَابَهُ فَبَرَأَ مِنْهُ:
يَقُولُ لِيَ الْكَحَّالُ عَيْنُكَ قَدْ هُدَتْ فَلَا تَشْغَلَنْ قَلْبًا
عَلَيْهَا وَطِبْ نَفْسَا
وِلِي مُدَّةٌ يَا شَمْسُ لَمْ أَرَكُمْ بِهَا وَآيَةُ بُرْءِ الْعَيْنِ أَنْ
تُبْصِرَ الشَّمْسَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عُثْمَانَ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّيْخِ
نَجْمِ الدِّينِ الْبَاذَرَائِيُّ الْبَغْدَادِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ
دَرَّسَ بِمَدْرَسَةِ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ حَتَّى حِينَ وَفَاتِهِ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ سَادِسَ رَجَبٍ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَكَانَ رَئِيسًا
حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، جَاوَزَ خَمْسِينَ سَنَةً.
قَاضِي الْقُضَاةِ مَجْدُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَمَالِ الدِّينِ
عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ
الْعَدِيمِ الْحَلَبِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ الْحَنَفِيُّ
وَلِيَ قَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ بَعْدَ ابْنِ عَطَاءٍ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ رَئِيسًا
ابْنَ رَئِيسٍ، لَهُ إِحْسَانٌ وَكَرَمُ أَخْلَاقٍ، وَقَدْ وَلِيَ الْخَطَابَةَ
بِجَامِعِ الْقَاهِرَةِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ أَوَّلُ حَنَفِيٍّ وَلِيَهُ، تُوُفِّيَ
بِجَوْسَقِهِ بِدِمَشْقَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ
بِالتُّرْبَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا عِنْدَ زَاوِيَةِ الْحَرِيرِيِّ عَلَى
الشَّرَفِ الْقِبْلِيِّ غَرْبِيَّ الزَّيْتُونِ.
الْوَزِيرُ ابْنُ الْحِنَّا: عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الصَّاحِبُ بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْحِنَّا الْوَزِيرُ
الْمِصْرِيُّ
وَزِيرُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ وَوَلَدِهِ السَّعِيدِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي
سَلْخِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَهُوَ جَدُّ جَدٍّ، وَكَانَ ذَا رَأْيٍ وَعَزْمٍ
وَتَدْبِيرٍ، ذَا تَمَكُّنٍ فِي الدَّوْلَةِ الظَّاهِرِيَّةِ لَا تَمْضِي
الْأُمُورُ إِلَّا عَنْ رَأْيِهِ وَأَمْرِهِ، وَلَهُ مَكَارِمُ عَلَى الْأُمَرَاءِ
وَغَيْرِهِمْ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ، وَكَانَ ابْنُهُ تَاجُ الدِّينِ
وَزِيرَ الصُّحْبَةِ، وَقَدْ صُودِرَ فِي الدَّوْلَةِ السَّعِيدِيَّةِ.
الشَّيْخُ مُحَمَّدُ ابْنُ الظَّهِيرِ اللُّغَوِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شَاكِرٍ مَجْدُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْإِرْبِلِيُّ الْحَنَفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الظَّهِيرِ
وُلِدَ بِإِرْبِلَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ، ثُمَّ أَقَامَ بِدِمَشْقَ
وَدَرَّسَ بِالْقَيْمَازِيَّةِ، وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى تُوُفِّيَ بِهَا لَيْلَةَ
الْجُمُعَةِ ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ،
وَكَانَ بَارِعًا فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي
النَّظْمِ، وَلَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ وَشِعْرٌ
رَائِقٌ،
فَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
كُلُّ حَيٍّ إِلَى الْمَمَاتِ مَآبُهُ وَمَدَى عُمْرِهِ سَرِيعٌ ذَهَابُهْ
ثُمَّ مِنْ قَبْرِهِ سَيُحْشَرُ فَرْدًا وَاقِفًا وَحْدَهُ يُوَفَّى حِسَابَهْ
مَعَهُ سَائِقٌ لَهُ وَشَهِيدٌ وَعَلَى الْحِرْصِ وَيْحَهُ إِكْبَابُهْ
يُخْرِبُ الدَّارَ وَهْيَ دَارُ بَقَاءٍ ثُمَّ يَبْنِي مَا عَمَّا قَرِيبٍ
خَرَابُهْ
عَجَبًا وَهْوَ فِي التُّرَابِ غَرِيقٌ كَيْفَ يُلْهِيهِ طِيبُهُ وَعِلَابُهْ
كُلُّ يَوْمٍ يَزِيدُ نَقْصًا وَإِنْ عُمِّ رَ حَلَّتْ أَوْصَالَهُ أَوْصَابُهْ
وَالْوَرَى فِي مَرَاحِلِ الدَّهْرِ رَكْبٌ دَائِمُ السَّيْرِ لَا يُرْجَى
إِيَابُهْ
فَتَزَوَّدْ إِنَّ التُّقَى خَيْرُ زَادٍ وَنَصِيبُ اللَّبِيبِ مِنْهُ لُبَابُهْ
وَأَخُو الْعَقْلِ مَنْ يَقْضِي بِصِدْقٍ شَيْبَهُ فِي صَلَاحِهِ وَشَبَابَهْ
وَأَخُو الْجَهْلِ يَسْتَلِذُّ هَوَى النَّفْ سِ فَيَغْدُو شَهْدًا لَدَيْهِ
مُصَابُهْ
وَهِيَ طَوِيلَةٌ جِدًّا قَرِيبَةٌ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ بَيْتًا، وَقَدْ
أَوْرَدَ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ شِعْرِهِ الْحَسَنِ
الْفَائِقِ الرَّائِقِ.
ابْنُ إِسْرَائِيلَ الْحَرِيرِيُّ، مُحَمَّدُ بْنُ سَوَّارِ بْنِ إِسْرَائِيلَ
بْنِ الْخَضِرِ بْنِ إِسْرَائِيلَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحُسَيْنِ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي الشَّيْبَانِيُّ الدِّمَشْقِيُّ
وُلِدَ فِي يَوْمِ ضُحَى يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَسِتِّمِائَةٍ،
وَصَحِبَ الشَّيْخَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ الْبُسْرِيَّ
الْحَرِيرِيَّ، فِي سَنَةِ ثَمَانَ عَشْرَةَ، وَكَانَ قَدْ لَبِسَ الْخِرْقَةَ
قَبْلَهُ مِنَ الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِيِّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ
أَجْلَسَهُ فِي ثَلَاثِ خَلَوَاتٍ، وَكَانَ ابْنُ إِسْرَائِيلَ يَزْعُمُ أَنَّ
أَهْلَهُ قَدِمُوا الشَّامَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، فَاسْتَوْطَنُوا
دِمَشْقَ، وَكَانَ أَدِيبًا فَاضِلًا فِي صِنَاعَةِ الشِّعْرِ بَارِعًا فِي
النَّظْمِ، وَلَكِنْ فِي كَلَامِهِ وَنَظْمِهِ مَا يُشِيرُ بِهِ إِلَى نَوْعٍ مِنَ
الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ الْفَارِضِ
وَشَيْخِهِ الْحَرِيرِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ وَحَقِيقَةِ أَمْرِهِ.
تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ
الشَّيْخِ رِسْلَانَ مَعَهُ دَاخِلَ الْقُبَّةِ، وَكَانَ الشَّيْخُ رِسْلَانُ
شَيْخَ الشَّيْخِ عَلِيٍّ الْمُغَرْبِلِ الَّذِي تَخَرَّجَ عَلَى يَدَيْهِ
الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْحَرِيرِيُّ شَيْخُ ابْنِ إِسْرَائِيلَ، فَمِنْ شِعْرِهِ
قَوْلُهُ:
لَقَدْ عَادَنِي مِنْ لَاعِجِ الشَّوْقِ عَائِدُ فَهَلْ عَهْدُ ذَاتِ الْخَالِ
بِالسَّفْحِ عَائِدُ
وَهَلْ نَارُهَا بِالْأَجْرَعِ الْفَرْدِ تَعْتَلِي لِمُنْفَرِدٍ شَابَ الدُّجَى
وَهْوَ شَاهِدُ
نَدِيمَيَّ مِنْ سُعْدَى أَدِيرَا حَدِيثَهَا فَذِكْرَى هَوَاهَا وَالْمُدَامَةُ
وَاحِدُ
مُنَعَّمَةُ الْأَطْرَافِ رَقَّتْ مَحَاسِنًا كَمَا جَلَّ فِي حُبِّي لَهَا مَا
أُكَابِدُ
فَلِلْبَدْرِ مَا لَاثَتْ عَلَيْهِ خِمَارُهَا وَلِلشَّمْسِ مَا جَالَتْ عَلَيْهِ
الْقَلَائِدُ
وَلَهُ:
أَيُّهَا الْمُعْتَاضُ بِالنَّوْمِ السَّهَرْ ذَاهِلًا يَسْبَحُ فِي بَحْرِ
الْفِكَرْ
سَلِّمِ الْأَمْرَ إِلَى مَالِكِهِ وَاصْطَبِرْ فَالصَّبْرُ عُقْبَاهُ الظَّفَرْ
لَا تَكُونَنْ آيِسًا مِنْ فَرَجْ إِنَّمَا الْأَيَّامُ تَأْتِي بِالْغِيَرْ
كَدَرٌ يَحْدُثُ فِي وَقْتِ الصَّفَا وَصَفًا يَحْدُثُ فِي وَقْتِ الْكَدَرْ
وَإِذَا مَا سَاءَ دَهْرٌ مَرَّةً سَرَّ أَهْلِيهِ وَمَهْمَا سَاءَ سَرْ
فَارْضَ عَنْ رَبِّكَ فِي أَقْدَارِهِ إِنَّمَا أَنْتَ أَسِيرٌ لِلْقَدَرْ
وَلَهُ قَصِيدَةٌ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
طَوِيلَةٌ حَسَنَةٌ سَمِعَهَا الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ الزَّمْلَكَانِيُّ
وَأَصْحَابُهُ عَلَى الشَّيْخِ أَحْمَدَ الْأَعْفَفِ عَنْهُ، وَأَوْرَدَ لَهُ
الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ أَشْعَارًا كَثِيرَةً، فَمِنْهَا
قَصِيدَتُهُ الدَّالِيَّةُ الْمُطَوَّلَةُ الَّتِي أَوَّلُهَا:
وَفَى لِيَ مَنْ أَهْوَاهُ جَهْرًا لِمَوْعِدِي وَأَرْغَمَ عُذَّالِي عَلَيْهِ
وَحُسَّدِي
وَزَارَ عَلَى شَحْطِ الْمَزَارِ مُطَوَّلًا عَلَى مُغْرَمٍ بِالْوَصْلِ لَمْ
يَتَعَوَّدِ
فَيَا حُسْنَ مَا أَبْدَى لِعَيْنِي جَمَالُهُ وَيَا بَرْدَ مَا أَهْدَى إِلَى
قَلْبِيَ الصَّدِي
وَيَا صِدْقَ أَحْلَامِي بِبُشْرَى وِصَالِهِ وَيَا نَيْلَ آمَالِي وَيَا نُجْحَ
مَقْصِدِي
تَجَلَّى
وُجُودِي إِذْ تَجَلَّى لِبَاطِنِي بِجَدٍ سَعِيدٍ أَوْ بِسَعْدٍ مُجَدَّدِ
لَقَدْ حُقَّ لِي عِشْقُ الْوُجُودِ وَأَهْلِهِ وَقَدْ عَلِقَتْ كَفَّايَ جَمْعًا
بِمُوجِدِي
ثُمَّ تَغَزَّلَ فَأَطَالَ إِلَى أَنْ قَالَ:
فَلَمَّا تَجَلَّى لِي عَلَى كُلِّ شَاهِدٍ وَسَامَرَنِي بِالرَّمْزِ فِي كُلِّ
مَشْهَدِ
تَجَنَّبْتُ تَقْيِيدَ الْجَمَالِ تَرَفُّعًا وَطَالَعْتُ أَسْرَارَ الْجَمَالِ
الْمُبَدَّدِ
وَصَارَ سَمَاعِي مُطْلَقًا مِنْهُ بَدْؤُهُ وَحَاشَى لِمِثْلِي مِنْ سَمَاعٍ
مُقَيَّدِ
فِفِي كُلِّ مَشْهُودٍ لِقَلْبِيَ شَاهِدٌ وَفِي كُلِّ مَسْمُوعٍ لَهُ لَحْنُ
مَعْبَدِ
أَرَاهُ بِأَوْصَافِ الْجَمَالِ جَمِيعِهَا بِغَيْرِ اعْتِقَادٍ لِلْحُلُولِ
الْمُبَعَّدِ
فَفِي كُلِّ هَيْفَاءِ الْمَعَاطِفِ غَادَةٍ وَفِي كُلِّ مَصْقُولِ السَّوَالِفِ
أَغْيَدِ
وَفِي كُلِّ بَدْرٍ لَاحَ فِي لَيْلِ شِعْرِهِ عَلَى كُلِّ غُصْنٍ مَائِسِ
الْعِطْفِ أَمْلَدِ
وَعِنْدَ اعْتِنَاقِي كُلَّ قَدٍّ مُهَفْهَفٍ وَرَشْفِي رِضَابًا كَالرَّحِيقِ
الْمُبَرَّدِ
وَفِي الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ وَالطِّيبِ وَالْحُلَى عَلَى كُلِّ سَاجِي الطَّرْفِ
لَدْنِ الْمُقَلَّدِ
وَفِي حُلَلِ الْأَثْوَابِ رَاقَتْ لِنَاظِرِي بِزَبْرَجِهَا مِنْ مُذْهَبٍ
وَمُوَرَّدِ
وَفِي الرَّاحِ وَالرَّيْحَانِ وَالسَّمْعِ وَالْغِنَا وَفِي سَجْعِ تَرْجِيعِ
الْحَمَامِ الْمُغَرِّدِ
وَفِي الدَّوْحِ وَالْأَنْهَارِ وَالزَّهْرِ وَالنَّدَى وِفِي كُلِّ بُسْتَانٍ
وَقَصْرٍ مُشَيَّدِ
وَفِي
الرَّوْضَةِ الْفَيْحَاءِ تَحْتَ سَمَائِهَا يُضَاحِكُ نُورَ الشَّمْسِ
نُوَّارُهَا النَّدِي
وَفِي صَفْوِ رَقْرَاقِ الْغَدِيرِ إِذَا حَكَى وَقَدْ جَعَلَتْهُ الرِّيحُ
صَفْحَةَ مَبْرَدِ
وَفِي اللَّهْوِ وَالْأَفْرَاحِ وَالْغَفْلَةِ الَّتِي تُمَكِّنُ أَهْلَ الْفَرْقِ
مِنْ كُلِّ مَقْصِدِ
وَعِنْدَ انْتِشَاءِ الشُّرْبِ فِي كُلِّ مَجْلِسٍ بَهِيجٍ بِأَنْوَاعِ الثِّمَارِ
الْمُنَضَّدِ
وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ وَعِيدٍ وَإِظْهَارِ الرِّيَاشِ
الْمُجَدَّدِ
وَفِي لَمَعَانِ الْمَشْرَفِيَّاتِ بِالْوَغَى وَفِي مَيْلِ أَعْطَافِ الْقَنَا
الْمُتَأَوِّدِ
وِفِي الْأَعْوَجِيَّاتِ الْعِتَاقِ إِذَا انْبَرَتْ تُسَابِقُ وَفْدَ الرِّيحِ
فِي كُلِّ مَطْرَدِ
وَفِي الشَّمْسِ تُجْلَى وَهْيَ فِي بُرْجِ نُورِهَا لَدَى الْأُفُقِ الشَّرْقِيِّ
مِرْآةَ عَسْجَدِ
وَفِي الْبَدْرِ بَدْرِ الْأُفْقِ لَيْلَةَ تِمِّهِ جَلَتْهُ سَمَاءٌ مِثْلُ
صَرْحٍ مُمَرَّدِ
وَفِي أَنْجُمٍ زَانَتْ دُجَاهَا كَأَنَّهَا نِثَارُ لَآلٍ فِي بِسَاطِ زَبَرْجَدِ
وَفِي الْغَيْثِ رَوَّى الْأَرْضَ بَعْدَ هُمُودِهَا قُبَالَ نَدَاهُ مُتْهِمٌ
بَعْدَ مُنْجِدِ
وَفِي الْبَرْقِ يَغْدُو مُوهِنًا فِي سَحَابِهِ كَبَاسِمِ ثَغْرٍ أَوْ حُسَامٍ
مُجَرَّدِ
وَفِي حُسْنِ تَنْمِيقِ الْخِطَابِ وَسُرْعَةِ الْجَ وَابِ وَفِي الْخَطِّ
الْأَنِيقِ الْمُجَوَّدِ
وَفِي رِقَّةِ الْأَشْعَارِ رَاقَتْ لِسَامِعٍ بَدَائِعُهَا مِنْ مُقْصَرٍ
وَمُقَصَّدِ
وَفِي عَوْدِ عِيدِ الْوَصْلِ مِنْ بَعْدِ جَفْوَةٍ وَفِي أَمْنِ أَحْشَاءِ
الطَّرِيدِ الْمُشَرَّدِ
وَفِي رَحْمَةِ الْمَعْشُوقِ شَكْوَى مُحِبِّهِ وَفِي رِقَّةِ الْأَلْفَاظِ عِنْدَ
التَّوَدُّدِ
وَفِي أَرْيَحِيَّاتِ الْكَرِيمِ إِلَى النَّدَى وَفِي عَاطِفَاتِ الْعَفْوِ مِنْ
كُلِّ سَيِّدِ
وَحَالَةِ
بَسْطِ الْعَارِفِينَ وَأُنْسِهِمْ وَتَحْرِيكِهِمْ عِنْدَ السَّمَاعِ
الْمُقَيَّدِ
وَفِي لُطْفِ آيَاتِ الْكِتَابِ الَّتِي بِهَا تَنَسَّمُ رُوحُ الْوَعْدِ بَعْدَ
التَّوَعُّدِ
كَذَلِكَ أَوْصَافُ الْجَلَالِ مَظَاهِرٌ أُشَاهِدُهُ فِيهَا بِغَيْرِ تَرَدُّدِ
فَفِي صَوْلَةِ الْقَاضِي الْجَلِيلِ وَسَمْتِهِ وَفِي سَطْوَةِ الْمَلِكِ
الشَّدِيدِ التَّمَرُّدِ
وَفِي حِدَّةِ الْغَضْبَانِ حَالَةَ طَيْشِهِ وَفِي نَخْوَةِ الْقَرْمِ الْمَهِيبِ
الْمُسَوَّدِ
وَفِي صَوْلَةِ الصَّهْبَاءِ حَارَ مُدِيرُهَا وَفِي بُؤْسِ أَخْلَاقِ النَّدِيمِ
الْمُعَرْبِدِ
وَفِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ اللَّذَيْنِ تَقَسَّمَا الزَّمَانَ وَفِي إِيلَامِ
كُلِّ مُجَسِّدِ
وَفِي سِرِّ تَسْلِيطِ النُّفُوسِ بِشَرِّهَا عَلَيَّ وَتَحْسِينِ التَّعَدِّي
لِمُعْتَدِي
وَفِي عَسَرِ الْعَادَاتِ يَسْتَعْرِفُ الْقَضَا وَتَكْحُلُ عَيْنُ الشَّمْسِ
مِنْهُ بِإِثْمِدِ
وَعِنْدَ اصْطِدَامِ الْخَيْلِ فِي كُلِّ مَوْقِفٍ يُعَثَّرُ فِيهِ بِالْوَشِيجِ
الْمُنَضَّدِ
وَفِي شَدَّةِ اللَّيْثِ الصَّئُولِ وَبَأْسِهِ وَشِدَّةِ عَيْشٍ بِالسِّقَامِ
مُنَكَّدِ
وَفِي جَفْوَةِ الْمَحْبُوبِ بَعْدَ وِصَالِهِ وَفِي غَدْرِهِ مِنْ بَعْدِ عَهْدٍ
مُؤَكَّدِ
وَفِي رَوْعَةِ الْبَيْنِ الْمُسِيءِ وَمَوْقِفِ الْ وَدَاعِ لِحَرَّانِ الْجَوَانِحِ
مُكْمَدِ
وَفِي فُرْقَةِ الْأُلَّافِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمْ وَفِي كُلِّ تَشْتِيتٍ وَشَمْلٍ
مُبَدَّدِ
وَفِي كُلِّ دَارٍ أَقْفَرَتْ بَعْدَ أُنْسِهَا وَفِي طَلَلٍ بَالٍ دَرَاسٍ
مُعَهَّدِ
وَفِي هَوْلِ أَمْوَاجِ الْبِحَارِ وَوَحْشَةِ الْ قِفَارِ وَسَيْلٍ بِالْمَزَايِيبِ
مُزْبَدِ
وَعِنْدَ
قِيَامِي بِالْفَرَائِضِ كُلِّهَا وَحَالَةِ تَسْلِيمٍ لِسِرِّ التَّعَبُّدِ
وَعِنْدَ خُشُوعِي فِي الصَّلَاةِ لِعِزَّةِ الْ مُنَاجَى وَفِي الْإِطْرَاقِ
عِنْدَ التَّهَجُّدِ
وَحَالَةِ إِهْلَالِ الْحَجِيجِ بِحَجِّهِمِ وَإِعْمَالِهِمْ لِلْعِيسِ فِي كُلِّ
فَدْفَدِ
وَفِي عُسْرِ تَخْلِيصِ الْحَلَالِ وَفَتْرَةِ الْ مَلَالِ لِقَلْبِ النَّاسِكِ
الْمُتَعَبِّدِ
وَفِي ذِكْرِ آيَاتِ الْعَذَابِ وَظُلْمَةِ الْ حِجَابِ وَقَبْضِ النَّاسِكِ
الْمُتَزَهِّدِ
وَيَبْدُو بِأَوْصَافِ الْكَمَالِ فَلَا أَرَى بِرُؤْيَتِهِ شَيْئًا قَبِيحًا
وَلَا رَدِي
فَكُلُّ مُسِيءٍ لِي إِلَيَّ كَمُحْسِنٍ وَكُلُّ مُضِلٍّ لِي إِلَيَّ كَمُرْشِدِ
فَلَا فَرْقَ عِنْدِي بَيْنَ أُنْسٍ وَوَحْشَةٍ وَنُورٍ وَإِظْلَامٍ وَمُدْنٍ
وَمُبْعِدِ
وَسِيَّانَ إِفْطَارِي وَصَوْمِي وَفَتْرَتِي وَجُهْدِي وَنَوْمِي وَادِّعَاءُ
تَهَجُّدِي
أُرَى تَارَةً فِي حَانَةِ الْخَمْرِ خَالِعًا عِذَارِي وَطَوْرًا فِي حَنِيَّةِ
مَعْبَدِ
تَجَلَّى لِسِرِّي بِالْحَقِيقَةِ مَشْرَبٌ فَوَقْتِيَ مَمْزُوجٌ بِكَشْفٍ
مُسَرْمَدِ
تَعَمَّرِتِ الْأَوْطَانُ بِي وَتَحَقَّقَتْ مَظَاهِرُهَا عِنْدِي بِعَيْنِي
وَمَشْهَدِي
وَقَلْبِي عَلَى الْأَشْيَاءِ أَجَمَعَ قُلَّبٌ وَسِرِّيَ مَقْسُومٌ عَلَى كُلِّ
مَوْرِدِ
فَهَيْكَلُ أَوْثَانٍ وَدَيْرٌ لِرَاهِبٍ وَبَيْتٌ لِنِيرَانٍ وَقِبْلَةُ مَسْجِدِ
وَمَرْجٌ لِغَزْلَانٍ وَحَانَةُ قَهْوَةٍ وَرَوْضَةُ أَزْهَارٍ وَمَطْلَعُ
أَسْعَدِ
وَأَسْرَارُ
عِرْفَانٍ وَمِفْتَاحُ حِكْمَةٍ وَأَنْفَاسُ وِجْدَانٍ وَفَيْضِ تَبَلُّدِ
وَجَيْشٌ لِضِرْغَامٍ وَخِدْرٌ لِكَاعِبٍ وَظُلْمَةُ حَيْرَانٍ وَنُورٌ
لِمُهْتَدِي
تَقَابَلَتِ الْأَضْدَادُ عِنْدِي جَمِيعُهَا كَمِحْنَةِ مَجْهُودٍ وَمِنْحَةِ
مُجْتَدِي
وَأَحْكَمْتُ تَقْرِيرَ الْمَرَاتِبِ صُورَةً وَمَعْنًى وَمِنْ عَيْنِ
التَّفَرُّدِ مَوْرِدِي
فَمَا مَوْطِنٌ إِلَّا وَلِي فِيهِ مَوْقِفٌ عَلَى قَدَمٍ قَامَتْ بِحَقِّ
التَّفَرُّدِ
فَلَا غَرْوَ إِنْ فُتُّ الْأَنَامَ بِهَا وَقَدْ عَلِقَتْ بِحَبْلٍ مِنْ حِبَالِ
مُحَمَّدِ
عَلَيْهِ صَلَاةُ اللَّهِ تَشْفَعُ دَائِمًا بِرُوحِ تَحِيَّاتِ السَّلَامِ
الْمُرَدَّدِ
ابْنُ الْعُودِ الرَّافِضِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْعُودِ
نَجِيبُ الدِّينِ الْأَسَدِيُّ الْحِلِّيُّ
شَيْخُ الشِّيعَةِ وَإِمَامُهُمْ وَعَالِمُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، كَانَتْ لَهُ
فَضِيلَةٌ وَمُشَارَكَةٌ فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ حَسَنَ الْمُحَاضَرَةِ
وَالْمُعَاشَرَةِ لَطِيفَ النَّادِرَةِ، وَكَانَ كَثِيرَ التَّعَبُّدِ
بِاللَّيْلِ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ. وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ
وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ وَسَرَائِرِهِمْ
وَنِيَّاتِهِمْ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
كَانَ أَوَّلُهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، وَالْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ هُمَا
الْمَذْكُورَانِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَدِ اتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
أُمُورٌ عَجِيبَةٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ الْمَمَالِكِ
كُلِّهَا، اخْتَلَفَتِ التَّتَارُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ
مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَاخْتَلَفَتِ الْفِرِنْجُ فِي السَّوَاحِلِ، وَصَالَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَذَلِكَ الْفِرِنْجُ
الَّذِينَ فِي دَاخِلِ الْبُحُورِ وَجَزَائِرِهَا اخْتَلَفُوا وَاقْتَتَلُوا،
وَاقْتَتَلَتْ قَبَائِلُ الْأَعْرَابِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ قِتَالًا شَدِيدًا،
وَكَذَلِكَ وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ الْعَشِيرِ مِنَ الْحَوَارِنَةِ، وَقَامَتِ
الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى سَاقٍ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ
الْأُمَرَاءِ الظَّاهِرِيَّةِ بِسَبَبِ أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ السَّعِيدَ
بْنَ الظَّاهِرِ لَمَّا بَعَثَ الْجَيْشَ إِلَى سِيسَ أَقَامَ بَعْدَهُ
بِدِمَشْقَ، وَأَخَذَ فِي اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالِانْبِسَاطِ مَعَ
الْخَاصِّكِيَّةِ، وَتَمَكَّنُوا مِنَ الْأُمُورِ، وَبَعُدَ عَنْهُ الْأُمَرَاءُ
الْكِبَارُ، فَعَصَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَنَابَذُوهُ وَفَارَقُوهُ، وَأَقَامُوا
بِطَرِيقِ الْعَسَاكِرِ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا إِلَى سِيسَ وَغَيْرِهِمْ،
فَرَجَعَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا شَعَّثُوا قُلُوبَهُمْ
عَلَى الْمَلِكِ السَّعِيدِ، وَوَحَّشُوا خَوَاطِرَ الْجَيْشِ عَلَيْهِ،
وَقَالُوا: الْمِلْكُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْعَبَ وَلَا يَلْهُوَ،
وَإِنَّمَا هِمَّةُ الْمُلُوكِ فِي الْعَدْلِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ،
وَالذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِمْ كَمَا كَانَ أَبُوهُ. ثُمَّ رَاسَلَهُ الْجَيْشُ فِي
إِبْعَادِ
الْخَاصِّكِيَّةِ عَنْهُ وَدُنُوِّ ذَوِي الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى إِلَيْهِ كَمَا كَانَ أَبُوهُ يَفْعَلُ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَذَلِكَ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ; لِقُوَّةِ شَوْكَةِالْخَاصِّكِيَّةِ وَكَثْرَتِهِمْ، فَرِكَبَ الْجَيْشُ وَسَارُوا قَاصِدِينَ مَرَجَ الصُّفَّرِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْعُبُورُ عَلَى دِمَشْقَ بَلْ أَخَذُوا مِنْ شَرْقِهَا، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ بِمَرَجِ الصُّفَّرِ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ أُمَّهُ إِلَيْهِمْ، فَتَلَقَّوْهَا وَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَأَخَذَتْ تَتَأَلَفُهُمْ وَتُصْلِحُ الْأُمُورَ، فَأَجَابُوهَا وَاشْتَرَطُوا شُرُوطًا عَلَى وَلَدِهَا السُّلْطَانِ، فَلَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهِ لَمْ يَلْتَزِمْ بِهَا، وَلَمْ تُمَكِّنْهُ الْخَاصِّكِيَّةُ مِنْ ذَلِكَ، فَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَسَاقَ السُّلْطَانُ خَلْفَهُمْ لِيَتَلَافَى الْأُمُورَ قَبْلَ تَفَاقُمِهَا، فَلَمْ يَلْحَقْهُمْ وَسَبَقُوهُ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَقَدْ كَانَ أَرْسَلَ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ وَثَقَلَهُ إِلَى الْكَرَكِ، فَحَصَّنَهُمْ فِيهَا، وَرَكِبَ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ الَّذِينَ بَقَوْا مَعَهُ وَالْخَاصِّكِيَّةِ قَاصِدًا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا صَدُّوهُ عَنْهَا، وَقَاتَلُوهُ فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ نَفَرٌ يَسِيرٌ، فَأَخَذَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ، فَشَقَّ بِهِ الصُّفُوفَ، وَأَدْخَلَهُ قَلْعَةَ الْجَبَلِ لِيَسْكُنَ الْأَمْرُ، فَمَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا نُفُورًا، فَحَاصَرُوا حِينَئِذٍ الْقَلْعَةَ، وَقَطَعُوا عَنْهَا الْمَاءَ وَجَرَتْ خُطُوبٌ طَوِيلَةٌ وَأَحْوَالٌ صَعْبَةٌ. ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ قَلَاوُونَ الْأَلْفِيِّ الصَّالِحِيِّ - وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ حِينَئِذٍ - عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ الْمُلْكَ، وَيَتَعَوَّضَ بِالْكَرَكِ وَالشُّوبَكِ، وَيَكُونَ فِي صُحْبَتِهِ أَخُوهُ نَجْمُ الدِّينِ خَضِرٌ، وَتَكُونَ الْمَمْلَكَةُ إِلَى أَخِيهِمَا الصَّغِيرِ بَدْرِ الدِّينِ سَلَامُشَ، وَيَكُونَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قَلَاوُونَ أَتَابِكَهُ.
ذِكْرُ
خَلْعِ الْمَلِكِ السَّعِيدِ
وَتَوْلِيَةِ أَخِيهِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ سَلَامُشَ
لَمَّا اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا نَزَلَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
السَّعِيدُ مِنَ الْقَلْعَةِ إِلَى دَارِ الْعَدْلِ فِي سَابِعَ عَشَرَ الشَّهْرِ،
وَهُوَ رَبِيعٌ الْآخِرُ، وَحَضَرَ الْقُضَاةُ وَالدَّوْلَةُ مِنْ أُولِي الْحَلِّ
وَالْعَقْدِ، فَخَلَعَ السَّعِيدُ نَفْسَهُ مِنَ السَّلْطَنَةِ، وَأَشْهَدَهُمْ
عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، وَبَايَعُوا أَخَاهُ بَدْرَ الدِّينِ سَلَامُشَ،
وَلُقِّبَ بِالْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ سَبْعُ سِنِينَ،
وَجَعَلُوا أَتَابِكَهُ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ قَلَاوُونَ الْأَلْفِيَّ
الصَّالِحِيَّ، وَخَطَبَ الْخُطَبَاءُ، وَرَسُمَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِمَا،
وَجُعِلَ لِلسَّعِيدِ الْكَرَكَ، وَلِأَخِيهِ خَضِرٍ الشُّوبَكَ، وَكُتِبَتْ
بِذَلِكَ مَكَاتِيبُ، وَوَضَعَ الْقُضَاةُ وَالْمُفْتُونَ خُطُوطَهُمْ بِذَلِكَ،
وَجَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ إِلَى الشَّامِ بِالتَّحْلِيفِ لَهُمْ عَلَى مَا حَلَفَ
عَلَيْهِ الْمِصْرِيُّونَ. وَمُسِكَ الْأَمِيرُ أَيْدَمُرُ نَائِبُ الشَّامِ
الظَّاهِرِيُّ، وَاعْتُقِلَ بِالْقَلْعَةِ عِنْدَ نَائِبِهَا، وَكَانَ نَائِبَهَا
إِذْ ذَاكَ عَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ الدَّوَادَارِيُّ، وَأُحِيطَ عَلَى أَمْوَالِ
نَائِبِ الشَّامِ وَحَوَاصِلِهِ، وَجَاءَ عَلَى نِيَابَةِ الشَّامِ الْأَمِيرُ
شَمْسُ الدِّينِ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَحَكُّمٍ
مَكِينٍ، فَنَزَلَ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَعَظَّمَهُ النَّاسُ وَعَامَلُوهُ
مُعَامَلَةَ الْمُلُوكِ، وَعَزَلَ السُّلْطَانُ قُضَاةَ مِصْرَ الثَّلَاثَةَ;
الشَّافِعِيَّ وَالْحَنَفِيَّ وَالْمَالِكِيَّ، وَوَلَّوُا الْقَضَاءَ صَدْرَ
الدِّينِ عُمَرَ بْنَ الْقَاضِيِ تَاجِ الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ عِوَضًا
عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ رَزِينٍ، وَكَأَنَّهُمْ
إِنَّمَا عَزَلُوهُ لِأَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي خَلْعِ الْمَلِكِ السَّعِيدِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ
بَيْعَةِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ الصَّالِحِيِّ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ
اجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ مِنْ مِصْرَ، وَخَلَعُوا الْمَلِكَ
الْعَادِلَ سُلَامِشَ بْنَ الظَّاهِرِ، وَأَخْرَجُوهُ مِنَ الْبَيْنِ، وَإِنَّمَا
كَانُوا قَدْ بَايَعُوهُ صُورَةً لِيَسْكُنَ الشَّرُّ عِنْدَ خَلْعِ الْمَلِكِ
السَّعِيدِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى بَيْعَةِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ
الصَّالِحِيِّ، وَلَقَّبُوهُ بِالْمَلِكِ الْمَنْصُورِ، وَجَاءَتِ الْبَيْعَةُ
إِلَى دِمَشْقَ، فَوَافَقَ الْأُمَرَاءُ وَحَلَفُوا، وَذُكِرَ أَنَّ الْأَمِيرَ
شَمْسَ الدِّينِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرَ لَمْ يَحْلِفْ مَعَ النَّاسِ وَلَمْ يَرْضَ
بِمَا وَقَعَ، وَكَأَنَّهُ دَاخَلَهُ حَسَدٌ مِنَ الْمَنْصُورِ; لِأَنَّهُ كَانَ
يَرَى أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْهُ عِنْدَ الظَّاهِرِ. وَخُطِبَ لِلْمَنْصُورِ عَلَى
الْمَنَابِرِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ، وَضُرِبَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِ،
وَجَرَتِ الْأُمُورُ بِمُقْتَضَى رَأْيِهِ، فَعَزَلَ وَوَلَّى وَنُفِّذَتْ
مَرَاسِيمُهُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ بِذَلِكَ، فَعَزَلَ عَنِ الْوِزَارَةِ
بُرْهَانَ الدِّينِ السِّنْجَارِيَّ، وَوَلَّى مَكَانَهُ فَخْرَ الدِّينِ بْنَ
لُقْمَانَ كَاتِبَ السِّرِّ وَصَاحِبَ دِيوَانِ الْإِنْشَاءِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ حَادِي عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
تُوُفِّيَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ بْنُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ بِالْكَرَكِ،
وَسَيَأْتِي ذِكْرُ تَرْجَمَتِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا حُمِلَ الْأَمِيرُ أَيْدَمُرُ الَّذِي كَانَ نَائِبَ الشَّامِ فِي
مِحَفَّةٍ - لِمَرَضٍ لَحِقَهُ - إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَدَخَلَهَا
فِي أَوَاخِرِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَاعْتُقِلَ بِقَلْعَةِ مِصْرَ.
ذِكْرُ سَلْطَنَةِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ بِدِمَشْقَ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ
رَكِبَ الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ
سُنْقُرُ
الْأَشْقَرُ مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْجُنْدِ مُشَاةً، وَقَصَدَ بَابَ الْقَلْعَةِ
الَّذِي يَلِي الْمَدِينَةَ، فَهَجَمَ مِنْهُ، وَدَخَلَ الْقَلْعَةَ، وَاسْتَدْعَى
الْأُمَرَاءَ، فَبَايَعُوهُ عَلَى السَّلْطَنَةِ، وَلُقِّبَ بِالْمَلِكِ
الْكَامِلِ، وَأَقَامَ بِالْقَلْعَةِ وَنَادَتِ الْمُنَادِيَةُ بِدِمَشْقَ
بِذَلِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ يَوْمُ السَّبْتِ اسْتَدْعَى بِالْقُضَاةِ
وَالْعُلَمَاءِ وَالْأَعْيَانِ وَرُؤَسَاءِ الْبَلَدِ إِلَى مَسْجِدِ أَبِي
الدَّرْدَاءِ بِالْقَلْعَةِ وَحَلَّفَهُمْ، وَحَلَفَ لَهُ بَقِيَّةُ الْأُمَرَاءِ
وَالْعَسْكَرِ، وَأَرْسَلَ الْعَسَاكِرَ إِلَى غَزَّةَ لِحِفْظِ الْأَطْرَافِ
وَأَخْذِ الْغَلَّاتِ، وَأَرْسَلَ الْمَلِكَ الْمَنْصُورَ إِلَى الشُّوبَكِ
فَتَسَلَّمَهَا نُوَّابُهُ، وَلَمْ يُمَانِعْهُمْ نَجْمُ الدِّينِ خَضِرٌ.
وَفِيهَا جُدِّدَتْ خَمْسَةُ أَضْلَاعٍ فِي قُبَّةِ النَّسْرِ مِنَ النَّاحِيَةِ
الْغَرْبِيَّةِ.
وَفِيهَا عُزِلَ فَتْحُ الدِّينِ بْنُ الْقَيْسَرَانِيِّ مِنَ الْوِزَارَةِ
بِدِمَشْقَ، وَوَلِيَهَا تَقِيُّ الدِّينِ تَوْبَةُ التَّكْرِيتِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عِزُّ الدِّينِ بْنُ غَانِمٍ الْوَاعِظُ: عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
غَانِمِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَسَاكِرَ بْنِ حُسَيْنٍ عِزُّ
الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْمَقْدِسِيُّ
الْوَاعِظُ الْمُطَبِّقُ الْمُفْلِقُ الشَّاعِرُ الْفَصِيحُ، الَّذِي نَسَجَ عَلَى
مِنْوَالِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ وَأَمْثَالِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ قُطْبُ
الدِّينِ أَشْيَاءَ حَسَنَةً كَثِيرَةً مَلِيحَةً، وَكَانَ لَهُ قَبُولٌ عِنْدَ
النَّاسِ، تَكَلَّمَ مَرَّةً تُجَاهَ الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ، وَكَانَ فِي
الْحَضْرَةِ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَابْنُ الْعُجَيْلِ مِنَ الْيَمَنِ وَغَيْرُهُمْ
مِنَ
الْعُلَمَاءِ
وَالْعُبَّادِ فَأَجَادَ وَأَفَادَ، وَخَطَبَ فَأَبْلَغَ وَأَحْسَنَ. نَقَلَ هَذَا
الْمَجْلِسَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ
خَمْسٍ وَسَبْعِينَ.
الْمَلِكُ السَّعِيدُ بْنُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ بَرَكَةَ خَانَ: نَاصِرُ الدِّينِ
مُحَمَّدٌ بَرَكَةُ خَانَ أَبُو الْمَعَالِي ابْنُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ
الظَّاهِرِ رُكْنِ الدِّينِ بَيْبَرْسَ الْبُنْدُقْدَارِيُّ
بَايَعَ لَهُ أَبُوهُ الْأُمَرَاءَ فِي حَيَاتِهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ
بُويِعَ لَهُ بِالْمُلْكِ، وَلَهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَشَتْ لَهُ
الْأُمُورُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى السَّعَادَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ غَلَبَتْ
عَلَيْهِ الْخَاصِّكِيَّةُ، فَجَعَلَ يَلْعَبُ مَعَهُمْ فِي الْمَيْدَانِ
الْأَخْضَرِ فِيمَا قِيلَ أَوَّلَ هُوِيٍّ، فَرُبَّمَا جَاءَتِ النَّوْبَةُ
عَلَيْهِ فَيَنْزِلُ لَهُمْ، فَأَنْكَرَتِ الْأُمَرَاءُ الْكِبَارُ ذَلِكَ،
وَأَنِفُوا أَنْ يَكُونَ مَلِكُهُمْ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ وَيَجْعَلُ
نَفْسَهُ كَأَحَدِهِمْ،، فَرَاسَلُوهُ فِي ذَلِكَ لِيَرْجِعَ عَمَّا هُوَ
عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ فَخَلَعُوهُ كَمَا ذَكَرْنَا وَوَلَّوُا السُّلْطَانَ
الْمَلِكَ الْمَنْصُورَ قَلَاوُونَ فِي أَوَاخِرَ رَجَبٍ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْكَرَكِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
الْحَادِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، يُقَالُ: إِنَّهُ سُمَّ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقَدْ دُفِنَ أَوَّلًا عِنْدَ قَبْرِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ
قُتِلُوا بِمُؤْتَةَ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى دِمَشْقَ، فَدُفِنَ فِي تُرْبَةِ أَبِيهِ
سَنَةَ ثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتَمَلَّكَ الْكَرَكَ بَعْدَهُ أَخُوهُ نَجْمُ
الدِّينِ خَضِرٌ، وَلُقِّبَ بِالْمَلِكِ الْمَسْعُودِ، فَانْتَزَعَهَا
الْمَنْصُورُ مِنْ يَدِهِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
كَانَ أَوَّلَهَا يَوْمُ الْخَمِيسِ ثَالِثَ أَيَّارَ، وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ
بِأَمْرِ اللَّهِ أَحْمَدُ الْعَبَّاسِيُّ، وَمَلِكُ مِصْرَ الْمَلِكُ
الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ الصَّالِحِيُّ وَبَعْضِ بِلَادِ الشَّامِ أَيْضًا،
وَأَمَّا دِمَشْقُ وَأَعْمَالُهَا فَقَدْ مَلَكَهَا سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ،
وَصَاحِبُ الْكَرَكِ الْمَلِكُ الْمَسْعُودُ بْنُ الظَّاهِرِ، وَصَاحِبُ حَمَاةَ
الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ
تَقِيِّ الدِّينِ مَحْمُودٍ، وَالْعِرَاقُ وَبِلَادُ الْجَزِيرَةِ وَخُرَاسَانَ
وَالْمَوْصِلُ وَإِرْبِلُ وَأَذْرَبِيجَانُ وَبِلَادُ بَكْرٍ وَخِلَاطُ وَمَا
وَالَاهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ بِأَيْدِي التَّتَارِ، وَكَذَلِكَ
بِلَادُ الرُّومِ فِي أَيْدِيهِمْ أَيْضًا، وَلَكِنْ فِيهَا غِيَاثُ الدِّينِ بْنُ
رُكْنِ الدِّينِ، وَلَا حُكْمَ لَهُ سِوَى الِاسْمِ، وَصَاحِبُ الْيَمَنِ
الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ شَمْسُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، وَصَاحِبُ الْحَرَمِ
الشَّرِيفِ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ أَبِي نُمَيٍّ الْحَسَنِيُّ، وَصَاحِبُ
الْمَدِينَةِ عِزُّ الدِّينِ جَمَّازُ بْنُ شِيحَةَ الْحُسَيْنِيُّ.
فَفِي مُسْتَهَلِّ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ رَكِبَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
الْكَامِلُ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ مِنَ الْقَلْعَةِ إِلَى الْمَيْدَانِ، وَبَيْنَ
يَدَيْهِ الْأُمَرَاءُ وَمُقَدَّمُوا الْحَلْقَةِ يَحْمِلُونَ الْغَاشِيَةَ،
وَعَلَيْهِمُ الْخِلَعُ، وَالْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ رُكَّابٌ مَعَهُ، فَسِيرَ
فِي الْمَيْدَانِ سَاعَةً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
الْقَلْعَةِ،
وَجَاءَ إِلَى خِدْمَتِهِ الْأَمِيرُ شَرَفُ الدِّينِ عِيسَى بْنُ مُهَنَّا مِلْكُ
الْعَرَبِ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَجَلَسَ إِلَى جَانِبِهِ وَهُوَ
عَلَى السِّمَاطِ، وَقَامَ لَهُ الْمَلِكُ الْكَامِلُ، وَكَذَلِكَ جَاءَ إِلَى
خِدْمَتِهِ مَلِكُ الْأَعْرَابِ بِالْحِجَازِ، وَأَمَرَ الْكَامِلُ سُنْقُرُ أَنْ
تُضَافَ الْبِلَادُ الْحَلَبِيَّةُ إِلَى وِلَايَةِ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ
بْنِ خَلِّكَانَ، وَوَلَّاهُ تَدْرِيسَ الْأَمِينِيَّةِ، وَانْتَزَعَهَا مِنِ
ابْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ.
وَلَمَّا بَلَغَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَا كَانَ
مِنْ أَمْرِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ بِالشَّامِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا،
فَهَزَمُوا عَسْكَرَ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ الَّذِي كَانَ قَدْ أَرْسَلَهُ إِلَى
غَزَّةَ، وَسَاقُوهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى وَصَلَ جَيْشُ الْمِصْرِيِّينَ
إِلَى قَرِيبِ دِمَشْقَ، فَأَمَرَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ أَنْ يُضْرَبَ دِهْلِيزُهُ
بِالْجُسُورَةِ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي عَشَرَ صَفَرٍ،
وَنَهَضَ بِنَفْسِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ فَنَزَلَ هُنَالِكَ، وَاسْتَخْدَمَ خَلْقًا
كَثِيرًا وَأَنْفَقَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَانْضَافَ إِلَيْهِ عَرَبُ الْأَمِيرِ
شَرَفِ الدِّينِ عِيسَى بْنِ مُهَنَّا وَشِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ حَجِّي،
وَنَجْدَةُ حَلَبَ وَنَجْدَةُ حَمَاةَ وَرِجَالٌ كَثِيرَةٌ مِنْ جِبَالِ
بَعْلَبَكَّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ
أَقْبَلَ الْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ عَلَمِ الدِّينِ سَنَجَرَ
الْحَلَبِيِّ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَتَقَابَلَ الْفَرِيقَانِ
تَقَاتَلُوا إِلَى الرَّابِعَةِ فِي النَّهَارِ، فَقُتِلَ نَفَرٌ كَثِيرٌ،
وَثَبَتَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ ثَبَاتًا جَيِّدًا، وَلَكِنْ
خَامَرَ عَلَيْهِ الْجَيْشُ، فَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ إِلَى الْمِصْرِيِّ،
وَمِنْهُمْ مَنِ انْهَزَمَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ،
فَلَمْ يَسَعْهُ إِلَّا الِانْهِزَامُ عَلَى طَرِيقِ الْمَرْجِ فِي طَائِفَةٍ
يَسِيرَةٍ فِي صُحْبَةِ عِيسَى بْنِ مُهَنَّا، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى بَرِّيَّةِ
الرَّحْبَةِ، فَأَنْزَلَهُمْ فِي بُيُوتٍ مِنْ شَعْرٍ، وَأَقَامَ بِهِمْ
وَبِدَوَابِّهِمْ مُدَّةَ مُقَامِهِمْ عِنْدَهُ، ثُمَّ بَعَثَ الْأُمَرَاءُ
الَّذِينَ انْهَزَمُوا
عَنْهُ،
فَأَخَذُوا لَهُمْ أَمَانًا مِنَ الْأَمِيرِ سَنْجَرَ، وَقَدْ نَزَلَ فِي ظَاهِرِ
دِمَشْقَ وَهِيَ مَغْلُوقَةٌ، فَرَاسَلَ نَائِبَ الْقَلْعَةِ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ
حَتَّى فَتَحَ بَابَ الْفَرَجِ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ، وَفُتِحَتِ الْقَلْعَةُ
مِنْ دَاخِلِ الْبَلَدِ، فَتَسَلَّمَهَا لِلْمَنْصُورِ، وَأُفْرِجَ عَنِ
الْأَمِيرِ رُكْنِ الدِّينِ بَيْبَرْسَ الْعَجَمِيِّ الْمَعْرُوفِ بِالْجَالِقِ،
وَالْأَمِيرِ حُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ الْمَنْصُورِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ
الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ كَانَ قَدِ اعْتَقَلَهُمْ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ، وَأَرْسَلَ
سَنْجَرُ الْبَرِيدِيَّةَ إِلَى الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ يُعْلِمُونَهُ بِصُورَةِ
الْحَالِ، وَأَرْسَلَ سَنْجَرُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ فِي طَلَبِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ جَاءَ ابْنُ خَلِّكَانَ لِيُسَلِّمَ عَلَى الْأَمِيرِ
سَنْجَرَ الْحَلَبِيِّ، فَاعْتَقَلَهُ فِي عُلْوِ الْخَانْقَاهِ النَّجِيبِيَّةِ،
وَعَزَلَهُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ، وَرَسَمَ لِلْقَاضِي
نَجْمِ الدِّينِ بْنِ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ بِالْقَضَاءِ فَبَاشَرَهُ، ثُمَّ
جَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ مَعَهُمْ كِتَابٌ مِنَ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
بِالْعَتْبِ عَلَى طَوَائِفِ النَّاسِ، وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ،
فَتَضَاعَفَتْ لَهُ الْأَدْعِيَةُ، وَجَاءَ تَقْلِيدُ النِّيَابَةِ بِالشَّامِ
لِلْأَمِيرِ حُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ السِّلَحْدَارِ الْمَنْصُورِيِّ، فَدَخَلَ
مَعَهُ عَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ الْحَلَبِيُّ فَرَتَّبَهُ بِدَارِ السَّعَادَةِ،
وَأَمَرَ سَنْجَرُ الْقَاضِيَ ابْنَ خَلِّكَانَ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنَ
الْمَدْرَسَةِ الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ; لِيَسْكُنَهَا نَجْمُ الدِّينِ بْنُ
سَنِيِّ الدَّوْلَةِ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَاسْتَدْعَى جِمَالًا
لِيَنْقُلَ أَهْلَهُ وَثَقَلَهُ عَلَيْهَا إِلَى الصَّالِحِيَّةِ، فَجَاءَ
الْبَرِيدُ بِكِتَابٍ مِنَ السُّلْطَانِ، فِيهِ تَقْرِيرُ ابْنِ خَلِّكَانَ عَلَى
الْقَضَاءِ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ وَشُكْرُهُ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ، وَذِكْرُ
خِدْمَتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمَعَهُ خِلْعَةٌ سِنِيَّةٌ لَهُ، فَلَبِسَهَا
وَصَلَّى بِهَا الْجُمُعَةَ، وَسَلَّمَ عَلَى الْأُمَرَاءِ، فَأَكْرَمُوهُ
وَعَظَّمُوهُ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ وَبِمَا وَقَعَ مِنَ الصَّفْحِ عَنْهُ.
وَأَمَّا سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ فَإِنَّهُ لَمَّا خَرَجَتِ الْعَسَاكِرُ فِي طَلَبِهِ فَارِقَ الْأَمِيرَ عِيسَى بْنَ مُهَنَّا، وَسَارَ إِلَى السَّوَاحِلِ، فَاسْتَحْوَذَ مِنْهَا عَلَى حُصُونٍ كَثِيرَةٍ; مِنْهَا صِهْيَوْنُ، وَقَدْ كَانَ بِهَا أَوْلَادُهُ وَحَوَاصِلُهُ، وَحِصْنُ بَلَاطُنُسَ وَبَرْزَيَةَ وَعَكَّارٍ وَجَبَلَةَ وَاللَّاذِقِيَّةِ وَالشُّغْرِ وَبَكَاسَ وَشَيْزَرَ، وَاسْتَنَابَ فِيهَا الْأَمِيرَ عِزَّ الدِّينِ أَزْدَمُرَ الْحَاجَّ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ الْمَنْصُورُ لِحِصَارِ شَيْزَرَ طَائِفَةً مِنَ الْجَيْشِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَتِ التَّتَارُ مِنْ كُلِّ فَجِّ لَمَّا سَمِعُوا بِتَفْرِيقِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَانْجَفَلَ النَّاسُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ إِلَى الشَّامِ، وَمِنَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ، فَوَصَلَتِ التَّتَارُ إِلَى حَلَبَ، فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَنَهَبُوا شَيْئًا كَثِيرًا، وَظَنُّوا أَنَّ جَيْشَ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ يَكُونُ مَعَهُمْ عَلَى الْمَنْصُورِ، فَوَجَدُوا الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْصُورَ كَتَبَ إِلَى سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ: إِنَّ التَّتَارَ قَدْ أَقْبَلُوا إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ نَتَّفِقَ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَهْلِكَ الْمُسْلِمُونَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَإِذَا مَلَكُوا الْبِلَادَ لَمْ يَدَعُوا مِنَّا أَحَدًا. فَكَتَبَ إِلَيْهِ سُنْقُرُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَبَرَزَ مِنْ حِصْنِهِ، فَخَيَّمَ بِجَيْشِهِ لِيَكُونَ عَلَى أُهْبَةٍ مَتَى طُلِبَ أَجَابَ، وَنَزَلَتْ نُوَّابُهُ مِنْ حُصُونِهِمْ، وَبَقَوْا مُسْتَعِدِّينَ لِقِتَالِ التَّتَارِ، وَخَرَجَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ مِنْ مِصْرَ فِي أَوَاخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَمَعَهُ الْعَسَاكِرُ.
وَفِي
يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ قُرِئَ
عَلَى مِنْبَرِ جَامِعِ دِمَشْقَ كِتَابٌ مِنَ السُّلْطَانِ أَنَّهُ قَدْ عَهِدَ
بِالْمُلْكِ إِلَى ابْنِهِ عَلِيٍّ، وَلُقِّبَ بِالْمَلِكِ الصَّالِحِ، فَلَمَّا
فُرِغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ جَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ، فَأَخْبَرُوا
بِرُجُوعِ التَّتَارِ مِنْ حَلَبَ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَذَلِكَ لِمَا بَلَغَهُمْ
مِنِ اتِّفَاقِ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَعَادَ الْمَنْصُورُ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ قَدْ وَصَلَ
إِلَى غَزَّةَ أَرَادَ بِذَلِكَ تَخْفِيفَ الْوَطْأَةِ عَنِ الشَّامِ، فَوَصَلَ
إِلَى مِصْرَ فِي نِصْفِ شَعْبَانَ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ أُعِيدَ بُرْهَانُ الدِّينِ السِّنْجَارِيُّ إِلَى
وِزَارَةِ مِصْرَ، وَرَجَعَ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ لُقْمَانَ إِلَى كِتَابَةِ
الْإِنْشَاءِ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ أُعِيدَ إِلَى الْقَضَاءِ ابْنُ رَزِينٍ، وَعُزِلَ
ابْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ، وَأُعِيدَ الْقَاضِي نَفِيسُ الدِّينِ بْنُ شُكْرٍ
الْمَالِكِيُّ، وَمُعِينُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ، وَتَوَلَّى قَضَاءَ
الْحَنَابِلَةِ عِزُّ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ جَاءَ تَقْلِيدُ ابْنِ خَلِّكَانَ بِإِضَافَةِ
الْمُعَامَلَةِ الْحَلَبِيَّةِ إِلَيْهِ يَسْتَنِيبُ فِيهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ
نُوَّابِهِ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ خَرَجَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ مِنْ بِلَادِ
مِصْرَ بِالْعَسَاكِرِ قَاصِدًا الشَّامَ، وَاسْتَنَابَ عَلَى مِصْرَ وَلَدَهُ
الْمَلِكَ الصَّالِحَ عَلِيَّ بْنَ الْمَنْصُورِ إِلَى حِينِ رُجُوعِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ: وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَقَعَ بِمِصْرَ بَرَدٌ
كِبَارٌ أَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْمُغَلَّاتِ، وَوَقَعَتْ صَاعِقَةٌ
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَأُخْرَى فِي يَوْمِهَا تَحْتَ
الْجَبَلِ
الْأَحْمَرِ عَلَى صَخْرَةٍ فَأَحْرَقَتْهَا، فَأُخِذَ ذَلِكَ الْحَدِيدُ
فَسُبِكَ، فَخَرَجَ مِنْهُ أَوَاقٍ بِالرِّطْلِ الْمِصْرِيِّ.
وَجَاءَ السُّلْطَانُ فَنَزَلَ بِعَسَاكِرِهِ تُجَاهَ عَكَّا، فَخَافَتِ
الْفِرِنْجُ مِنْهُ خَوْفًا شَدِيدًا، وَرَاسَلُوهُ فِي طَلَبِ تَجْدِيدِ
الْهُدْنَةِ فَإِنَّهُ كَانَ قَدِ انْتَهَى أَمَدُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، فَأَقَامَ
بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ إِلَى أَوَّلِ سَنَةِ ثَمَانِينَ، فَكَانَتْ فِيهَا
الْهُدْنَةُ، وَجَاءَ الْأَمِيرُ عِيسَى بْنُ مُهَنَّا مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ
إِلَى خِدْمَةِ الْمَنْصُورِ وَهُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَتَلَقَّاهُ
السُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ وَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ، وَعَامَلَهُ بِالصَّفْحِ
وَالْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الشَّمْسِيُّ
أَحَدُ أُمَرَاءِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الَّذِي بَاشَرَ قَتْلَ كَتْبُغَانُوِينَ
أَحَدُ مُقَدَّمِي التَّتَارِ، وَهُوَ الْمُطَاعُ فِيهِمْ يَوْمَ عَيْنِ جَالُوتَ،
وَهُوَ الَّذِي مَسَكَ عِزَّ الدِّينِ أَيْدَمُرَ الظَّاهِرِيَّ فِي حَلَبَ مِنَ
السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَا.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ دَاوُدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ عُمَرَ الْحَبَّالُ
كَانَ حَنْبَلِيَّ الْمَذْهَبِ، لَهُ كَرَامَاتٌ وَأَحْوَالٌ صَالِحَةٌ
وَمُكَاشَفَاتٌ صَادِقَةٌ، وَأَصْلُ آبَائِهِ مِنْ حَرَّانَ، وَكَانَتْ
إِقَامَتُهُ بِبَعْلَبَكَّ وَتُوُفِّيَ فِيهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، عَنْ
سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ
بْنُ الشَّيْخِ الْفَقِيهِ الْيُونِينِيُّ.
الْأَمِيرُ
الْكَبِيرُ نُورُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ، أَبُو الْحَسَنِ الطُّورِيُّ
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَلَهُ السَّعْيُ الْمَشْكُورُ فِي قِتَالِ
الْفِرِنْجِ، وَلَهُ عِنْدَهُمْ ذِكْرٌ عَظِيمٌ وَمَوْقِعٌ كَبِيرٌ، مَاتَ وَقَدْ
نَيَّفَ عَلَى تِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ وَقَعَ
يَوْمَ مَصَافِّ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ تَحْتَ سَنَابِكِ الْخَيْلِ، فَمَكَثَ
بَعْدَ ذَلِكَ مُتَمَرِّضًا إِلَى أَنْ مَاتَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ، وَدُفِنَ
بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
الْجَزَّارُ الشَّاعِرُ، يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ بْنِ يَحْيَى بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمِصْرِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ، الْمَعْرُوفُ بِالْجَزَّارِ، مَدَحَ الْمُلُوكَ
وَالْوُزَرَاءَ وَالْأُمَرَاءَ، وَكَانَ مَاجِنًا ظَرِيفًا حُلْوَ الْمُحَاضَرَةِ،
وُلِدَ فِي حُدُودِ سِتِّمِائَةٍ بَعْدَهَا بِسَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ثَانِي عَشَرَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَمِنْ شِعْرِهِ:
أَدْرِكُونِي فَبِي مِنَ الْبَرْدِ هَمٌّ لَيْسَ يُنْسَى وَفِي حَشَايَ الْتِهَابُ
أَلْبَسَتْنِي الْأَطْمَاعُ وَهْمًا فَهَا جِسْ
مِيَ عَارٍ وَلِي قِرًى وَثِيَابُ كُلَّمَا ازْرَقَّ لَوْنُ جِسْمِي مِنَ الْبَرْ
دِ تَخَيَّلْتُ أَنَّهُ سِنْجَابُ
وَقَالَ وَقَدْ تَزَوَّجَ أَبُوهُ بِعَجُوزَةٍ:
تَزَوَّجَ
الشَّيْخُ أَبِي شَيْخَةً لَيْسَ لَهَا عَقْلٌ وَلَا ذِهْنُ
كَأَنَّهَا فِي فَرْشِهَا رِمَّةٌ وَشَعْرُهَا مِنْ حَوْلِهَا قُطْنُ
وَقَائِلٌ قَالَ لِي كَمْ سِنُّهَا فَقُلْتُ مَا فِي فَمِهَا سِنُّ
لَوْ سَفَرَتْ غُرَّتُهَا فِي الدُّجَى مَا جَسَرَتْ تُبْصِرُهَا الْجِنُّ
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمَلِكُ
الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ.
وَفِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ انْعَقَدَتِ الْهُدْنَةُ بَيْنَ أَهْلِ عَكَّا
وَالْمَرْقَبِ وَالسُّلْطَانِ وَكَانَ نَازِلًا عَلَى الرَّوْحَاءِ، وَقَدْ قَبَضَ
عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، وَهَرَبَ آخَرُونَ إِلَى
قَلْعَةِ صِهْيَوْنَ إِلَى خِدْمَةِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ، وَدَخَلَ الْمَنْصُورُ
إِلَى دِمَشْقَ فِي التَّاسِعِ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَنَزَلَ الْقَلْعَةَ
وَقَدْ زُيِّنَتْ لَهُ الْبَلَدُ، وَفِي يَوْمِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ
الْمُحَرَّمِ أَعَادَ الْقَضَاءَ إِلَى عِزِّ الدِّينِ بْنِ الصَّائِغِ، وَعَزَلَ
ابْنَ خَلِّكَانَ
وَفِي أَوَّلِ صَفَرٍ بَاشَرَ قَضَاءَ الْحَنَابِلَةِ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ
الشَّيْخِ شَمْسِ بْنِ أَبِي عُمَرَ، وَقَدْ كَانَ الْمَنْصِبُ شَاغِرًا مُنْذُ
عَزَلَ وَالِدُهُ نَفْسَهُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَتَوَلَّى قَضَاءَ حَلَبَ فِي هَذَا
الشَّهْرِ تَاجُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْكُرْدِيُّ.
وَجَلَسَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ بِدَارِ الْعَدْلِ فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَحَكَمَ
وَأَنْصَفَ الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ صَاحِبُ حَمَاةَ،
فَتَلَقَّاهُ الْمَنْصُورُ بِنَفْسِهِ فِي مَوْكِبِهِ، وَنَزَلَ بِدَارِهِ بِبَابِ
الْفَرَادِيسِ.
وَفِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ
وَبَيْنَ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ الْمَلِكِ الْكَامِلِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ
لِلسُّلْطَانِ شَيْزَرَ وَيُعَوِّضَهُ عَنْهَا بِأَنْطَاكِيَةَ وَكَفْرَ طَابَ
وَشُغْرٍ وَبَكَاسَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَعَلَى أَنْ يُقِيمَ عَلَى مَا بِيَدِهِ
سِتَّمِائَةِ فَارِسٍ، وَتَحَالَفَا عَلَى ذَلِكَ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ
لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ صَالَحَ صَاحِبَ الْكَرَكِ الْمَلِكَ خَضِرَ بْنَ الظَّاهِرِ
عَلَى تَقْرِيرِ مَا بِيَدِهِ، وَنُودِيَ بِذَلِكَ فِي الْبِلَادِ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ ضُمِنَ الْخَمْرُ وَالزِّنَى
بِدِمَشْقَ، وَجُعِلَ عَلَيْهِ دِيوَانٌ وَمُشِدٌّ، فَقَامَ فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَالْعُبَّادِ، فَأُبْطِلَ بَعْدَ
عِشْرِينَ يَوْمًا، وَأُرِيقَتِ الْخُمُورُ وَأُقِيمَتِ الْحُدُودُ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي تَاسِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَصَلَتِ الْخَاتُونُ ابْنَةُ بَرَكَةَ
خَانَ زَوْجَةُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، وَمَعَهَا وَلَدُهَا الْمَلِكُ السَّعِيدُ
قَدْ نَقَلَتْهُ مِنْ قَرْيَةِ الْمَسَاجِدِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْكَرَكِ
لِتَدْفِنَهُ عِنْدَ أَبِيهِ بِالتُّرْبَةِ الظَّاهِرِيَّةِ، فَرُفِعَ بِحِبَالٍ
مِنَ السُّورِ، وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ الظَّاهِرِ، وَنَزَلَتْ أُمُّهُ بِدَارِ
صَاحِبِ حِمْصَ، وَهُيِّئَتْ لَهَا الْإِقَامَاتُ وَعُمِلَ عَزَاءُ وَلَدِهَا
يَوْمَ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ بِالتُّرْبَةِ
الْمَذْكُورَةِ، وَحَضَرَ السُّلْطَانُ الْمَنْصُورُ وَأَرْبَابُ الدَّوْلَةِ
وَالْقُرَّاءُ وَالْوُعَّاظُ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ عُزِلَ التَّقِيُّ تَوْبَةُ التَّكْرِيتِيُّ
مِنَ الْوِزَارَةِ بِدِمَشْقَ،
وَبَاشَرَهَا
بَعْدَهُ تَاجُ الدِّينِ السَّنْهُورِيُّ.
وَكَتَبَ السُّلْطَانُ الْمَنْصُورُ إِلَى مِصْرَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ
يَسْتَدْعِي الْجُيُوشَ لِأَجْلِ اقْتِرَابِ مَجِيءِ التَّتَارِ; فَدَخَلَ
أَحْمَدُ بْنُ حَجِّي وَمَعَهُ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَجَاءَ صَاحِبُ
الْكَرَكِ الْمَلِكُ الْمَسْعُودُ نَجْدَةً لِلسُّلْطَانِ يَوْمَ السَّبْتِ
الثَّانِي عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَقِدِمَ النَّاسُ عَلَيْهِ،
وَوَفَدُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَجَاءَتْهُ التُّرْكُمَانُ
وَالْأَعْرَابُ وَغَيْرُهُمْ، وَكَثُرَتِ الْأَرَاجِيفُ بِدِمَشْقَ، وَكَثُرَتِ
الْعَسَاكِرُ بِهَا، وَانْجَفَلَ النَّاسُ مِنْ بِلَادِ حَلَبَ وَتِلْكَ
النَّوَاحِي، وَتَرَكُوا الْغَلَّاتِ وَالْأَمْوَالَ خَوْفًا مِنْ أَنْ
يَدْهَمَهُمُ الْعَدُوُّ مِنَ التَّتَارِ، وَوَصَلَتِ التَّتَرُ صُحْبَةَ
مَنْكُوتَمُرَ بْنِ هُولَاكُو إِلَى عَيْنِ تَابَ، وَسَارَتِ الْعَسَاكِرُ
الْمَنْصُورَةُ إِلَى نَوَاحِي حَلَبَ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَنَازَلَتِ التَّتَرَ
بِالرَّحْبَةِ فِي أَوَاخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ طَائِفَةً مِنَ الْأَعْرَابِ،
وَكَانَ فِيهِمْ مَلِكُ التَّتَارِ أَبْغَا مُخْتَفِيًا يَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُ
أَصْحَابُهُ، وَكَيْفَ يُقَاتِلُونَ أَعْدَاءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ الْمَلِكُ
الْمَنْصُورُ مِنْ دِمَشْقَ وَكَانَ خُرُوجُهُ مِنْهَا فِي أَوَاخِرِ جُمَادَى،
وَقَنَتَ الْخُطَبَاءُ وَالْأَئِمَّةُ بِالْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا
فِي الصَّلَوَاتِ، وَجَاءَ مَرْسُومُ السُّلْطَانِ بِاسْتِسْلَامِ أَهْلِ
الذِّمَّةِ مِنَ الدَّوَاوِينِ وَالْكَتَبَةِ، وَمَنْ لَا يُسْلِمُ يُصْلَبُ،
فَأَسْلَمُوا كُرْهًا، فَكَانُوا يَقُولُونَ: آمَنَّا وَحَكَمَ الْحَاكِمُ
بِإِسْلَامِنَا. بَعْدَ أَنْ عَرَضَ مَنِ امْتَنَعَ مِنْهُمْ عَلَى الصَّلْبِ
بِسُوقِ الْخَيْلِ، وَجُعِلَتِ الْحِبَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ، فَأَجَابُوا
وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَلَمَّا انْتَهَى السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ
إِلَى حِمْصَ كَتَبَ إِلَى الْمَلِكِ الْكَامِلِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ يَطْلُبُهُ
إِلَيْهِ نَجْدَةً، فَجَاءَ إِلَى خِدْمَتِهِ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ
وَاحْتَرَمَهُ وَرَتَّبَ لَهُ
الْإِقَامَاتِ،
وَتَكَامَلَتِ الْجُيُوشُ كُلُّهَا فِي صُحْبَةِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
عَازِمِينَ عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ لَا مَحَالَةَ مُخْلِصِينَ فِي ذَلِكَ،
وَاجْتَمَعَ النَّاسُ بَعْدَ خُرُوجِ الْمَلِكِ فِي جَامِعِ دِمَشْقَ، وَوَضَعُوا
الْمُصْحَفَ الْعُثْمَانِيَّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَجَعَلُوا يَبْتَهِلُونَ إِلَى
اللَّهِ تَعَالَى فِي نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ،
وَخَرَجُوا كَذَلِكَ وَالْمُصْحَفُ عَلَى رُءُوسِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى يَدْعُونَ
وَيَبْتَهِلُونَ وَيَبْكُونَ، وَأَقْبَلَتِ التَّتَارُ قَلِيلًا قَلِيلًا،
فَلَمَّا وَصَلُوا حَمَاةَ أَحْرَقُوا بُسْتَانَ الْمَلِكِ وَقَصْرَهُ وَمَا
هُنَالِكَ مِنَ الْمَسَاكِنِ، وَالسُّلْطَانُ الْمَنْصُورُ مُخَيِّمٌ بِحِمْصَ فِي
عَسَاكِرَ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَالتُّرْكُمَانِ وَغَيْرِهِمْ فِي جَحْفَلٍ كَثِيرٍ
جِدًّا، فَأَقْبَلَتِ التَّتَارُ فِي مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ أَوْ يَزِيدُونَ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إِلَّا بِاللَّهِ.
وَقْعَةُ حِمْصَ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ رَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَتَوَاجَهَ
الْخَصْمَانِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَعَسْكَرُ التَّتَرِ فِي مِائَةِ أَلْفِ
فَارِسٍ، وَعَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَزِيدُ
قَلِيلًا، وَالْجَمِيعُ فِيمَا بَيْنَ مَشْهَدِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى
الرَّسْتَنِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ مِنْ أَعْصَارٍ
مُتَطَاوِلَةٍ، فَاسْتَظْهَرَ التَّتَرُ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَكَسَرُوا
الْمَيْسَرَةَ، وَاضْطَرَبَتِ الْمَيْمَنَةُ أَيْضًا، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَانْكَسَرَ جَنَاحُ الْقَلْبِ الْأَيْسَرُ، وَثَبَتَ السُّلْطَانُ ثَبَاتًا
عَظِيمًا جِدًّا فِي جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ، وَقَدِ انْهَزَمَ كَثِيرٌ مِنْ عَسْكَرِ
الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّتَارُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى وَصَلُوا وَرَاءَهُمْ إِلَى
بُحَيْرَةِ
حِمْصَ وَوَصَلُوا إِلَى حِمْصَ وَهِيَ مُغَلَّقَةُ الْأَبْوَابِ، فَقَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَشْرَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خُطَّةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْهَلَاكِ، ثُمَّ إِنَّ أَعْيَانَ الْأُمَرَاءِ مِنَ الشُّجْعَانِ وَالْفُرْسَانِ تَذَامَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ; مِثْلَ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ وَبَيْسَرِي وَطَيْبَرْسَ الْوَزِيرِيِّ وَبَدْرِ الدِّينِ أَمِيرِ سِلَاحٍ وَأَيْتَمُشَ السَّعْدِيِّ وَحُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ وَحُسَامِ الدِّينِ طُرُنْطَايَ وَالدَّوَادَارِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ، لَمَّا رَأَوْا ثَبَاتَ السُّلْطَانِ رَدُّوا إِلَى السُّلْطَانِ، وَحَمَلُوا حَمَلَاتٍ مُتَعَدِّدَةً صَادِقَةً، وَلَمْ يَزَالُوا يُتَابِعُونَ الْحَمْلَةَ بَعْدَ الْحَمْلَةِ حَتَّى كَسَرَ اللَّهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ التَّتَرَ، وَجُرِحَ مَنْكُوتَمُرُ، وَجَاءَهُمُ الْأَمِيرُ عِيسَى بْنُ مُهَنَّا مِنْ نَاحِيَةِ الْعَرْضِ فَصَدَمَ التَّتَرَ، فَاضْطَرَبَتِ الْجُيُوشُ لِصَدْمَتِهِ، وَتَمَّتِ الْهَزِيمَةُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَقَتَلُوا مِنَ التَّتَارِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَرَجَعَتِ الطَّائِفَةُ مِنَ التَّتَرِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْمُنْهَزِمِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَوَجَدُوا أَصْحَابَهُمْ قَدْ كُسِرُوا، وَالْعَسَاكِرُ فِي آثَارِهِمْ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَالسُّلْطَانُ ثَابِتٌ فِي مَكَانِهِ تَحْتَ السَّنَاجِقِ، وَالْكُوسَاتُ تُضْرَبُ خَلْفَهُ، وَمَا مَعَهُ إِلَّا نَحْوُ أَلْفِ فَارِسٍ، فَطَمِعُوا فِيهِ فَقَاتَلُوهُ، فَثَبَتَ لَهُمْ ثَبَاتًا عَظِيمًا، فَانْهَزَمُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَلِحَقَهُمْ فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ تَمَامَ النَّصْرِ، وَكَانَ انْهِزَامُ التَّتَرِ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَافْتَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ; أَخَذَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ إِلَى نَاحِيَةِ سَلَمْيَةَ وَالْبَرِّيَّةِ، وَالْأُخْرَى إِلَى نَاحِيَةِ حَلَبَ وَالْفُرَاتِ، فَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ فِي آثَارِهِمْ مَنْ يَتْبَعُهُمْ، وَجَاءَتِ الْبِطَاقَةُ بِالْبِشَارَةِ بِمَا وَقَعَ مِنَ النَّصْرِ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَامِسَ عَشَرَ رَجَبٍ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ، وَأُوقِدَتِ الشُّمُوعُ، وَفَرِحَ النَّاسُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ يَوْمَ السَّبْتِ
أَقْبَلَتْ
طَائِفَةٌ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ; مِنْهُمْ بِيلِيكُ النَّاصِرِيُّ وَالْجَالِقُ
وَغَيْرُهُمْ، فَأَخْبَرُوا النَّاسَ بِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْهَزِيمَةِ فِي
أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَلَمْ يَكُونُوا شَاهَدُوا بَعْدَ ذَلِكَ، فَبَقِيَ النَّاسُ
فِي قَلَقٍ عَظِيمٍ، وَخَوْفٍ شَدِيدٍ، وَتَهَيَّأَ نَاسٌ كَثِيرٌ لِلْهَرَبِ،
فَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي ذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَتِ الْبَرِيدِيَّةُ وَأَخْبَرُوا
النَّاسَ بِصُورَةِ مَا وَقَعَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَآخِرِهِ، فَتَرَاجَعَ
النَّاسُ وَفَرِحُوا فَرَحًا شَدِيدًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
ثُمَّ دَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ
مِنْ رَجَبٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْأُسَارَى بِأَيْدِيهِمُ الرِّمَاحُ عَلَيْهَا
شَعَفُ رُءُوسِ الْقَتْلَى، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَمَعَ السُّلْطَانِ
طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ; مِنْهُمْ عَلَمُ الدِّينِ
الدَّوَادَارِيُّ فَنَزَلَ السُّلْطَانُ بِالْقَلْعَةِ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا،
وَقَدْ كَثُرَتْ لَهُ الْمَحَبَّةُ وَالْأَدْعِيَةُ، وَكَانَ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ
قَدْ وَدَّعَ السُّلْطَانَ مِنْ حِمْصَ، وَرَجَعَ إِلَى صِهْيَوْنَ، وَأَمَّا
التَّتَرُ فَإِنَّهُمُ انْهَزَمُوا فِي أَسْوَأِ حَالٍ وَأَتْعَسِهِ،
يُتَخَطَّفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَيُقْتَلُونَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ، حَتَّى
وَصَلُوا إِلَى الْفُرَاتِ، فَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ، وَنَزَلَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ
الْبِيرَةِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرُوا آخَرِينَ،
وَالْجُيُوشُ فِي آثَارِهِمْ يَطْرُدُونَهُمْ عَنِ الْبِلَادِ، حَتَّى أَرَاحَ
اللَّهُ مِنْهُمُ النَّاسَ.
وَقَدِ اسْتُشْهَدَ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ جَمَاعَةٌ مِنْ سَادَاتِ الْأُمَرَاءِ;
مِنْهُمُ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ الْحَاجُّ عِزُّ الدِّينِ أَزْدَمُرُ
الْجَمَدَارُ، وَهُوَ الَّذِي جَرَحَ مَلِكَ التَّتَارِ يَوْمَئِذٍ مَنْكُوتَمُرَ،
فَإِنَّهُ
خَاطَرَ بِنَفْسِهِ، وَأَوْهَمَ أَنَّهُ مُقْفِرٌ إِلَيْهِ، وَقَلَبَ رُمْحَهُ
حَتَّى وَصَلَ إِلَيْهِ، فَطَعَنَهُ فَجَرَحَهُ، فَقَتَلُوهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَشْهَدِ خَالِدٍ.
وَخَرَجَ السُّلْطَانُ مِنْ دِمَشْقَ قَاصِدًا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ يَوْمَ
الْأَحَدِ ثَانِي شَعْبَانَ، وَالنَّاسُ يَدْعُونَ لَهُ، وَخَرَجَ مَعَهُ عَلَمُ
الدِّينِ الدَّوَادَارِيُّ، ثُمَّ عَادَ مِنْ غَزَّةَ، وَقَدْ وَلَّاهُ الشَّدَّ
فِي الشَّامِ وَالنَّظَرَ فِي الْمَصَالِحِ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى مِصْرَ
فِي ثَانِي عَشَرَ شَعْبَانَ.
وَفِي سَلْخِ شَعْبَانَ وَلَّى قَضَاءَ مِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ لِلْقَاضِي وَجِيهِ
الدِّينِ الْبَهْنَسِيِّ الشَّافِعِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَابِعِ رَمَضَانَ فُتِحَتِ الْمَدْرَسَةُ
الْجَوْهَرِيَّةُ بِدِمَشْقَ فِي حَيَاةِ مُنْشِئِهَا وَوَاقِفِهَا الشَّيْخِ
نَجْمِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ أَبِي الْمَكَارِمِ التَّمِيمِيِّ
الْجَوْهَرِيِّ، وَدَرَّسَ بِهَا قَاضِي الْحَنَفِيَّةِ حُسَامُ الدِّينِ الرَّازِيُّ.
وَفِي بُكْرَةِ يَوْمِ السَّبْتِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ
وَقَعَتْ مِئْذَنَةُ مَدْرَسَةِ أَبِي عُمَرَ بِقَاسِيُونَ عَلَى الْمَسْجِدِ
الْعَتِيقِ، فَمَاتَ شَخْصٌ وَاحِدٌ، وَسَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى بَقِيَّةَ
الْجَمَاعَةِ.
وَفِي عَاشِرِ رَمَضَانَ وَقَعَ بِدِمَشْقَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ وَبَرَدٌ كَثِيرٌ مَعَ
هَوَاءٍ شَدِيدٍ، بِحَيْثُ إِنَّهُ ارْتَفَعَ عَنِ الْأَرْضِ نَحْوًا مِنْ
ذِرَاعٍ، وَفَسَدَتِ الْخَضْرَاوَاتُ، وَتَعَطَّلَ عَلَى النَّاسِ مَعَايِشُ
كَثِيرَةٌ.
وَفِي
شَوَّالٍ وَصَلَ صَاحِبُ سِنْجَارَ إِلَى دِمَشْقَ مُقْفِرًا مِنَ التَّتَارِ
دَاخِلًا فِي طَاعَةِ السُّلْطَانِ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ، فَتَلَقَّاهُ نَائِبُ
الْبَلَدِ، وَأَكْرَمَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى مِصْرَ مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا.
وَفِي شَوَّالٍ عُقِدَ مَجْلِسٌ بِسَبَبِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنَ الْكُتَّابِ
الَّذِينَ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا كُرْهًا، وَقَدْ كَتَبَ لَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْمُفْتِينَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُكْرَهِينَ، فَلَهُمُ الرُّجُوعُ إِلَى
دِينِهِمْ، وَأُثْبِتَ الْإِكْرَاهُ بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ
بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ الْمَالِكِيِّ، فَعَادَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى دِينِهِمْ،
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ كَمَا كَانُوا، سَوَّدَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ غَرِمُوا
مَالًا جَزِيلًا، جُمْلَةً مُسْتَكْثَرَةً عَلَى ذَلِكَ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبَضَ السُّلْطَانُ عَلَى أَيْتَمُشَ السَّعْدِيِّ
وَسَجَنَهُ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ، وَقَبَضَ نَائِبُهُ بِدِمَشْقَ عَلَى سَيْفِ
الدِّينِ بَلَبَانَ الْهَارُونِيِّ وَسَجَنَهُ بِقَلْعَتِهَا.
وَفِي بُكْرَةِ الْخَمِيسِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ،
وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ آذَارَ اسْتَسْقَى النَّاسُ بِالْمُصَلَّى بِدِمَشْقَ،
فَسُقُوا بَعْدَ عَشْرَةِ أَيَّامٍ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخْرَجَ الْمَلِكُ
الْمَنْصُورُ جَمِيعَ آلِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ
وَالْخُدَّامِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى الْكَرَكِ لِيَكُونُوا فِي
كَنَفِ الْمَلِكِ الْمَسْعُودِ خَضِرِ بْنِ الظَّاهِرِ.
مِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبْغَا مَلِكُ التَّتَارِ بْنُ هُولَاكُوقَانَ بْنِ تُولِي بْنِ جِنْكِزْخَانَ
كَانَ عَالِيَ الْهِمَّةِ،
بَعِيدَ
الْغَوْرِ لَهُ رَأْيٌ وَتَدْبِيرٌ، وَبَلَغَ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسِينَ سَنَةً،
وَمُدَّةُ مِلْكِهِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ وَالِدِهِ
فِي التَّدْبِيرِ وَالْحَزْمِ مِثْلُهُ، وَلَمْ تَكُنْ وَقْعَةُ حِمْصَ هَذِهِ
بِرَأْيِهِ وَلَا عَنْ مَشُورَتِهِ، وَلَكِنْ أَخُوهُ مَنْكُوتَمُرُ أَحَبَّ
ذَلِكَ، فَلَمْ يُخَالِفْهُ.
وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ تَوَارِيخِ الْبَغَادِدَةِ أَنَّ قُدُومَ مَنْكُوتَمُرَ
إِلَى الشَّامِ إِنَّمَا كَانَ عَنْ مُكَاتَبَةِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ إِلَيْهِ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَاءَ أَبْغَا هَذَا بِنَفْسِهِ فَنَزَلَ قَرِيبًا
مِنَ الْفُرَاتِ لِيَنْظُرَ مَاذَا يَكُونُ مِنَ الْأَمْرِ، فَلَمَّا جَرَى
عَلَيْهِمْ مَا جَرَى سَاءَهُ ذَلِكَ، وَمَاتَ غَمًّا وَحُزْنًا. تُوُفِّيَ بَيْنَ
الْعِيدَيْنِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ
السُّلْطَانُ أَحْمَدُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرِ
الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسِ الدِّينِ يَحْيَى بْنِ هِبَةِ
اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّافِعِيُّ،
ابْنُ سَنِيِّ الدَّوْلَةِ
وُلِدَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَبَرَعَ فِي
الْمَذْهَبِ، وَنَابَ عَنْ أَبِيهِ وَشُكِرَتْ سِيرَتُهُ، وَاسْتَقَلَّ
بِالْقَضَاءِ فِي الدَّوْلَةِ الْمُظَفَّرِيَّةِ، فَحُمِدَ أَيْضًا، وَكَانَ
الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ يَنَالُ مِنْهُ وَمِنْ أَبِيهِ. وَقَالَ
الْبِرْزَالِيُّ: كَانَ شَدِيدًا فِي الْأَحْكَامِ مُتَحَرِّيًا، وَقَدْ أُلْزِمَ
بِالْمُقَامِ بِمِصْرَ، فَدَرَّسَ بِجَامِعِ مِصْرَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ،
فَدَرَّسَ بِالْأَمِينِيَّةِ وَالرُّكْنِيَّةِ، وَبَاشَرَ قَضَاءَ حَلَبَ، وَعَادَ
إِلَى دِمَشْقَ، وَوَلَّاهُ سَنْجَرُ قَضَاءَ دِمَشْقَ، ثُمَّ عُزِلَ بِابْنِ
خَلِّكَانَ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
ثَامِنَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ مِنَ
الْغَدِ
يَوْمَ تَاسُوعَاءَ بِتُرْبَةِ جَدِّهِ بِقَاسِيُونَ.
وَفِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ تُوُفِّيَ:
قَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ الْقَاضِي تَاجِ الدِّينِ عَبْدِ
الْوَهَّابِ بْنِ خَلَفِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْعَلَامِيُّ ابْنُ بِنْتِ
الْأَعَزِّ الْمِصْرِيُّ
كَانَ فَاضِلًا بَارِعًا عَارِفًا بِالْمَذْهَبِ، مُتَحَرِّيًا فِي الْأَحْكَامِ
كَأَبِيهِ،، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ.
الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّاغُورِيُّ الْمُوَلَّهُ الْمَعْرُوفُ
بِالْجَيْعَانَةِ
كَانَ مَشْهُورًا بِدِمَشْقَ، وَيُذْكَرُ لَهُ أَحْوَالٌ وَمُكَاشَفَاتٌ عَلَى
أَلْسِنَةِ الْعَوَامِّ وَمَنْ لَا يَعْقِلُ، وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُحَافِظْ
عَلَى الصَّلَوَاتِ، وَلَا يَصُومُ مَعَ النَّاسِ، وَمَعَ هَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ
الْعَوَامِّ وَغَيْرِهِمْ يَعْتَقِدُونَهُ! تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَحَدِ سَابِعَ
جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ الْمُوَلَّهِينَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ
عِنْدَ الشَّيْخِ يُوسُفَ الْقَمِينِيِّ، وَقَدْ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ يُوسُفُ
قَبْلَهُ بِمُدَّةٍ، وَكَانَ الشَّيْخُ يُوسُفُ يَسْكُنُ قَمِينَ حَمَّامِ نُورِ
الدِّينِ الشَّهِيدِ بِالْبُزُورِيِّينَ، وَكَانَ يَجْلِسُ عَلَى النَّجَاسَاتِ
وَالْقَذَرِ، وَكَانَ يَلْبَسُ ثِيَابًا بَدَاوِيَةً تَجْحَفُ عَلَى النَّجَاسَاتِ
فِي الْأَزِقَّةِ، وَكَانَ لَهُ قَبُولٌ مِنَ النَّاسِ وَمَحَبَّةٌ وَطَاعَةٌ،
وَكَانَ الْعَوَّامُّ يُغَالُونَ فِي مَحَبَّتِهِ وَاعْتِقَادِهِ، وَكَانَ لَا
يُصَلِّي وَلَا يَتَّقِي نَجَاسَةً وَمَنْ جَاءَهُ زَائِرًا جَلَسَ عِنْدَهُ
بِالْقَمِينِ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَكَانَ الْعَوَامُّ يَذْكُرُونَ لَهُ مُكَاشَفَاتٍ
وَكَرَامَاتٍ وَكُلُّ ذَلِكَ خُرَافَاتٌ مِنْ خُرَافَاتِ الْعَوَّامِّ وَأَهْلِ الْهَذَيَانِ كَمَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَجَانِينِ وَالْمُوَلَّهِينَ. وَلَمَّا مَاتَ الشَّيْخُ يُوسُفُ الْقَمِينِيُّ خَرَجَ فِي جِنَازَتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَوَامِّ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً بِهِمْ، وَحُمِلَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ إِلَى سَفْحِ قَاسِيُونَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ غَوْغَاءٌ وَغَوَشٌ كَثِيرٌ وَتَهْلِيلٌ وَأُمُورٌ لَا تَجُوزُ مِنْ فِعْلِ الْعَوَامِّ، حَتَّى جَاءُوا بِهِ إِلَى تُرْبَةِ الْمُوَلَّهِينَ بِقَاسِيُونَ فَدَفَنُوهُ بِهَا، وَقَدِ اعْتَنَى بَعْضُ الْعَوَامِّ بِقَبْرِهِ، فَعَمِلَ عَلَيْهِ حِجَارَةً مَنْقُوشَةً، وَعَمِلَ عَلَى قَبْرِهِ سَقْفًا مُقَرْنَصًا بِالدِّهَانِ وَأَنْوَاعِهِ، وَعَمِلَ عَلَيْهِ مَقْصُورَةً وَأَبْوَابًا، وَغَالَى فِيهِ مُغَالَاةً زَائِدَةً، وَمَكَثَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مُجَاوِرُونَ عِنْدَ قَبْرِهِ مُدَّةً فِي قِرَاءَةٍ وَتَهْلِيلٍ، وَيُطْبَخُ لَهُمُ الطَّبِيخُ فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ هُنَاكَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشَّيْخَ إِبْرَاهِيمَ الْجَيْعَانَةَ لَمَّا مَاتَ الشَّيْخُ يُوسُفُ الْقَمِينِيُّ جَاءَ مِنَ الشَّاغُورِ إِلَى بَابِ الصَّغِيرِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَهُمْ فِي صُرَاخٍ وَضَجَّةٍ وَغَوَشٍ كَثِيرٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ: أُذِنَ لَنَا فِي دُخُولِ الْبَلَدِ، أُذِنَ لَنَا فِي دُخُولِ الْبَلَدِ. يُكَرِّرُونَ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: لِي عِشْرُونَ سَنَةً مَا دَخَلْتُ دَاخِلَ سُورِ دِمَشْقَ; لِأَنِّي كُنْتُ كُلَّمَا أَتَيْتُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا أَجِدُ هَذَا السَّبُعَ رَابِضًا بِالْبَابِ، فَلَا أَسْتَطِيعُ الدُّخُولَ خَوْفًا مِنْهُ، فَلَمَّا مَاتَ أُذِنَ لَنَا فِي الدُّخُولِ. وَهَذَا كُلُّهُ تَرْوِيجٌ عَلَى الطَّغَامِ وَالْعَوَامِّ مِنَ الْهَمَجِ الرَّعَاعِ، الَّذِينَ هُمْ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الشَّيْخَ يُوسُفَ كَانَ يُرْسِلُ إِلَى الْجَيْعَانَةِ مِمَّا يَأْتِيهِ مِنَ الْفُتُوحِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ، وَإِلَيْهِ الْمُنْقَلَبُ وَالْمَآبُ، وَعَلَيْهِ الْحِسَابُ.
وَقَدْ
ذَكَرْنَا أَنَّهُ اسْتُشْهِدَ فِي وَقْعَةِ حِمْصَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ
مِنْهُمُ:
الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ أَزْدَمُرُ السِّلَحْدَارُ
عَنْ نَحْوٍ مَنْ سِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ، وَلَهُ
هِمَّةٌ عَالِيَةٌ يَنْبَغِي أَنْ يَنَالَ بِهَا مَكَانًا عَالِيًا فِي
الْجَنَّةِ.
قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحُسَيْنِ بْنِ رَزِينِ بْنِ مُوسَى الْعَامِرِيُّ الْحَمَوِيُّ الشَّافِعِيُّ
وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَانْتَفَعَ
بِالشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ الصَّلَاحِ، وَأَمَّ بِدَارِ الْحَدِيثِ
مُدَّةً، وَدَرَّسَ بِالشَّامِيَّةِ، وَوَلِي وِكَالَةَ بَيْتِ الْمَالِ
بِدِمَشْقَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ فَدَرَّسَ بِهَا بِعِدَّةِ مَدَارِسَ،
وَوَلِي الْحُكْمَ بِهَا، وَكَانَ مَشْكُورًا، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ
ثَالِثَ رَجَبٍ مِنْهَا، وَدُفِنَ بِالْمُقَطَّمِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ
تُوُفِّيَ:
الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ مُظَفَّرُ الدِّينِ مُوسَى بْنُ الْمَلِكِ الزَّاهِرِ
مُحْيِي الدِّينِ دَاوُدَ بْنِ الْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرْكُوهِ
بْنِ النَّاصِرِ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرْكُوهِ بْنِ
شَاذِيِّ بْنِ صَاحِبِ حِمْصَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِقَاسِيُونَ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ:
الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْكَنْدَرِيُّ
الْحَاسِبُ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ لَهُ مَكْتَبٌ تَحْتَ مَنَارَةِ فَيْرُوزَ، وَقَدِ
انْتَفَعَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ شَيْخَ
الْحِسَابِ
فِي وَقْتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْإِمَامِ أَبِي
عَلِيٍّ الْحُسَيْنِ بْنِ عَتِيقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَشِيقٍ الرَّبَعِيُّ
الْمَالِكِيُّ الْمِصْرِيُّ
وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَكَانَتْ لَهُ جِنَازَةٌ حَافِلَةٌ، وَقَدْ كَانَ
فَقِيهًا مُفْتِيًا، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَبَلَغَ خَمْسًا وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
تُوُفِّيَ:
الصَّدْرُ الْكَبِيرُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو الْغَنَائِمِ الْمُسْلِمُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْلِمِ بْنِ مَكِّيِّ بْنِ خَلَفِ بْنِ عَلَّانَ الْقَيْسِيُّ
الدِّمَشْقِيُّ
مَوْلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، وَكَانَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ الْكِبَارِ
وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ، وَقَدْ وَلِيَ نَظَرَ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ وَغَيْرَ
ذَلِكَ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَكِتَابَةِ
الْحَدِيثِ، وَكَانَ يَكْتُبُ سَرِيعًا; يَكْتُبُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ
ثَلَاثَ كَرَارِيسَ، وَقَدْ أَسْمَعَ " مُسْنَدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ "
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَحَدَّثَ " بِصَحِيحِ مُسْلِمٍ " " وَجَامِعِ
التِّرْمِذِيِّ " وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَسَمِعَ مِنْهُ الْبِرْزَالِيُّ
وَالْمِزِّيُّ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ وَدُفِنَ مِنْ يَوْمِهِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ عَنْ
سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا.
الشَّيْخُ صَفِيُّ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ
مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ الْحَنَفِيُّ
شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ بِبُصْرَى، وَمُدَرِّسُ الْأَمِينِيَّةِ بِهَا مُدَّةَ
سِنِينَ كَثِيرَةٍ، كَانَ
بَارِعًا فَاضِلًا عَالِمًا عَابِدًا مُنْقَطِعًا عَنِ النَّاسِ، وَهُوَ وَالِدُ قَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرِ الدِّينِ عَلَيٍّ، وَقَدْ عُمِّرَ دَهْرًا طَوِيلًا، فَإِنَّهُ وُلِدَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ نِصْفِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَالسُّلْطَانُ
الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ مَلِكُ التَّتَرِ أَحْمَدُ إِلَى الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُصَالَحَةَ وَحَقْنَ الدِّمَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَجَاءَ
فِي الرَّسْلِيَّةِ الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ أَحَدُ تَلَامِيذِ
النَّصِيرِ الطُّوسِيِّ، فَأَجَابَ الْمَنْصُورُ إِلَى ذَلِكَ، وَكُتِبَتِ
الْمُكَاتَبَاتُ إِلَى مَلِكِ التَّتَرِ بِذَلِكَ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ قَبَضَ السُّلْطَانُ عَلَى الْأَمِيرِ الْكَبِيرِ بَدْرِ
الدِّينِ بَيْسَرِي السَّعْدِيِّ، وَعَلَى الْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ السَّعْدِيِّ
الشَّمْسِيِّ أَيْضًا.
وَفِيهَا دَرَّسَ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ بِالْقَيْمُرِيَّةِ،
وَالشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الصَّفِيِّ الْحَرِيرِيُّ
بِالْفَرُّخْشَاهِيَّةِ، وَعَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ
بِالْأَمِينِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ وَقَعَ حَرِيقٌ
بِاللَّبَّادِينَ عَظِيمٌ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِذْ ذَاكَ الْأَمِيرُ
حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ السِّلَحْدَارُ وَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ
مِنَ
الْأُمَرَاءِ، وَكَانَتْ لَيْلَةً هَائِلَةً جِدًّا وَقَى اللَّهُ تَعَالَى
شَرَّهَا، وَاسْتَدْرَكَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرَهَا الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ
النَّحَّاسِ، نَاظِرُ الْجَامِعِ، فَأَصْلَحَ الْأَمْرَ، وَسَدَّ وَأَعَادَ
الْبِنَاءَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الصَّالِحُ بَقِيَّةُ السَّلَفِ بُرْهَانُ الدِّينِ أَبُو إِسْحَاقَ
بْنُ الشَّيْخِ صِفِيِّ الدِّينِ أَبِي الْفِدَا إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ يَحْيَى بْنِ عَلَوِيِّ بْنِ الرَّضِيِّ الْحَنَفِيُّ
إِمَامُ الْعِزِّيَّةِ بِالْكُشْكِ. وَسَمِعَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمُ
الْكِنْدِيُّ وَابْنُ الْحَرَسْتَانِيِّ، وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ سَمَاعُهُ
مِنْهُمَا إِلَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَقَدْ أَجَازَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ
الصَّيْدَلَانِيُّ وَعَفِيفَةُ الْفَارِقَانِيَّةِ وَابْنُ الْمُنَادِي، وَكَانَ
رَجُلًا صَالِحًا مُحِبًّا لِإِسْمَاعِ الْحَدِيثِ كَثِيرَ الْبِرِّ بِالطَّلَبَةِ
لَهُ، وَقَدْ قَرَأَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ جَمَالُ الدِّينِ الْمِزِّيُّ "
مُعْجَمَ الطَّبَرَانِيِّ الْكَبِيرِ "، وَسَمِعَهُ مِنْهُ بِقِرَاءَةِ
الْحَافِظِ الْبِرْزَالِيِّ وَجَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي
سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَحَدِ سَابِعَ
صَفَرٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ الْحُجَّاجُ إِلَى دِمَشْقَ مِنَ
الْحِجَازِ، وَكَانَ هُوَ مَعَهُمْ، فَمَاتَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ بِدِمَشْقَ.
الْقَاضِي أَمِينُ الدِّينِ الْأَشْتَرِيُّ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ
شَمْسِ الدِّينِ أَبِي
بَكْرٍ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ طَلْحَةَ
الْحَلَبِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالْأَشْتَرِيِّ، الشَّافِعِيُّ الْمُحَدِّثُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ
وَحَصَّلَ، وَوَقَفَ أَجْزَاءً بِدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ. تُوُفِّيَ
بِالْخَانْقَاهِ الْأَنْدَلُسِيَّةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ الشَّيْخُ مُحْيِي
الدِّينِ النَّوَوِيُّ يُثَنَّى عَلَيْهِ وَيُرْسِلُ إِلَيْهِ الصِّبْيَانَ
لِيَقْرَءُوا عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ; لِأَمَانَتِهِ عِنْدَهُ وَصِيَانَتِهِ
وَدِيَانَتِهِ.
الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ أَبُو الثَّنَاءِ مَحْمُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَرَاغِيُّ الشَّافِعِيُّ
مُدَرِّسُ الْفَلَكِيَّةِ، كَانَ فَاضِلًا بَارِعًا، عُرِضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ
فَلَمْ يَقْبَلْ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخِرِ عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
وَأَسْمَعَهُ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ بِالْفَلَكِيَّةِ الْقَاضِي بَهَاءُ الدِّينِ
بْنُ الزَّكِيِّ.
الْقَاضِي الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْقُرَّاءِ زَيْنُ الدِّينِ أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ الزَّوَاوِيُّ
الْمَالِكِيُّ
قَاضِي قُضَاةِ الْمَالِكِيَّةِ بِدِمَشْقَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَاشَرَ
الْقَضَاءَ بِهَا، وَعَزَلَ نَفْسَهُ عَنْهُ تَوَرُّعًا وَزَهَادَةً، وَاسْتَمَرَّ
بِلَا وِلَايَةٍ ثَمَانِ سِنِينَ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ
ثَامِنَ رَجَبٍ مِنْهَا عَنْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَقَدْ سَمِعَ
الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ عَلَى السَّخَاوِيِّ وَابْنِ الْحَاجِبِ.
الشَّيْخُ صَلَاحُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ عَلِيِّ
بْنِ مَحْمُودِ بْنِ
عَلِيٍّ
الشَّهْرُزُورِيُّ
مُدَرِّسُ الْقَيْمُرِيَّةِ وَابْنُ مُدَرِّسِهَا، تُوُفِّيَ فِي أَوَاخِرِ
رَجَبٍ، وَتُوُفِّيَ أَخُوهُ شَرَفُ الدِّينِ بَعْدَهُ بِشَهْرٍ، وَدَرَّسَ
بِالْقَيْمُرِيَّةِ بَعْدَ الصَّلَاحِ الْمَذْكُورِ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ
بْنُ جَمَاعَةَ.
ابْنُ خَلِّكَانَ قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلِّكَانَ
الْإِرْبِلِيُّ الشَّافِعِيُّ
أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْفُضَلَاءِ، وَالسَّادَةِ الْعُلَمَاءِ، وَالصُّدُورِ
الرُّؤَسَاءِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جُدِّدَ فِي أَيَّامِهِ قَضَاءُ الْقُضَاةِ
مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ، فَاسْتَقَلُّوا بِالْأَحْكَامِ بَعْدَمَا كَانُوا
نُوَّابًا لَهُ، وَقَدْ كَانَ الْمَنْصِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الصَّائِغِ
دُوَلًا; يُعْزَلُ هَذَا تَارَةً وَيُوَلَّى هَذَا، وَيُعْزَلُ هَذَا وَيُوَلَّى
هَذَا، وَقَدْ دَرَّسَ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي عِدَّةِ مَدَارِسَ لَمْ تُجْمَعْ
لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ فِي آخِرِ وَقْتِهِ سِوَى الْأَمِينِيَّةِ،
وَبِيَدِ ابْنِهِ كَمَالِ الدِّينِ مُوسَى النَّجِيبِيَّةُ. تُوُفِّيَ ابْنُ
خَلِّكَانَ بِالْمَدْرَسَةِ النَّجِيبِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِإِيوَانِهَا يَوْمَ
السَّبْتِ آخِرَ النَّهَارِ، فِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَدُفِنَ
مِنَ الْغَدِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ كَانَ
يَنْظِمُ نَظْمًا حَسَنًا رَائِقًا، وَقَدْ كَانَتْ مُحَاضَرَتُهُ فِي غَايَةِ
الْحُسْنِ، وَلَهُ التَّارِيخُ الْمُفِيدُ الَّذِي رَسَمَهُ " بِوَفَيَاتِ
الْأَعْيَانِ " مِنْ أَبْدَعِ الْمُصَنَّفَاتِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ إِلَى دِمَشْقَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
سَابِعَ رَجَبٍ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا وَلِيَ الْخَطَابَةَ بِدِمَشْقَ الشَّيْخُ عَبَدُ الْكَافِي بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْكَافِي، عِوَضًا عَنْ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ
الْحَرَسْتَانِيِّ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهَا كَمَا سَيَأْتِي، وَخَطَبَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَفِي
هَذَا الْيَوْمِ قَبْلَ الصَّلَاةِ احْتِيطَ عَلَى الْقَاضِي عِزِّ الدِّينِ بْنِ
الصَّائِغِ بِالْقَلْعَةِ، وَأَثْبَتَ ابْنُ الْحُصْرِيِّ نَائِبُ الْحَنَفِيِّ
مَحْضَرًا يَتَضَمَّنُ أَنَّ عِنْدَهُ وَدِيعَةً بِمِقْدَارِ ثَمَانِيَةِ آلَافِ
دِينَارٍ مِنْ جِهَةِ ابْنِ الْإِسْكَافِ، وَكَانَ الَّذِي أَثَارَ ذَلِكَ شَخْصٌ
قَدِمَ مِنْ حَلَبَ يُقَالُ لَهُ: تَاجُ الدِّينِ بْنُ السِّنْجَارِيِّ. وَوَلِيَ
الْقَضَاءَ بَعْدَهُ بَهَاءُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ
الزَّكِيِّ، وَحَكَمَ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَالِثَ وَعِشْرِينَ رَجَبٍ، وَمَنَعَ
النَّاسَ مِنْ زِيَارَةِ ابْنِ الصَّائِغِ، وَسَعَى فِي إِثْبَاتِ مَحْضَرٍ آخَرَ
أَنَّ عِنْدَهُ وَدِيعَةً بِقِيمَةِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ
لِلصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَسَدِ الدِّينِ، وَقَامَ فِي ذَلِكَ ابْنُ
الشَّاكِرِيِّ وَالْجَمَالُ بْنُ الْحَمَوِيِّ وَآخَرُونَ، وَتَكَلَّمُوا فِي
قَضِيَّةٍ ثَالِثَةٍ، ثُمَّ عُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ نَالَهُ فِيهِ شِدَّةٌ
شَدِيدَةٌ، وَتَعَصَّبُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَى اعْتِقَالِهِ، وَقَامَ
فِي صَفِّهِ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ حُسَامُ
الدِّينِ
لَاجِينَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَكَلَّمُوا فِيهِ السُّلْطَانَ،
فَأَطْلَقَهُ وَخَرَجَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَجَاءَ النَّاسُ إِلَى تَهْنِئَتِهِ
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَانْتَقَلَ مِنَ
الْعَادِلِيَّةِ إِلَى دَارِهِ بِدَرْبِ النَّقَّاشَةِ، وَكَانَ عَامَّةُ
جُلُوسِهِ فِي الْمَسْجِدِ تُجَاهَ دَارِهِ.
وَفِي رَجَبٍ بَاشَرَ حِسْبَةَ دِمَشْقَ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ صَصْرَى.
وَفِي شَعْبَانَ دَرَّسَ الْخَطِيبُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْكَافِي
بِالْغَزَّالِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الْخَطِيبِ ابْنِ الْحَرَسْتَانِيِّ، وَأُخِذَ
مِنْهُ الدَّوْلَعِيَّةُ لِكَمَالِ الدِّينِ بْنِ النَّجَّارِ، الَّذِي كَانَ
وَكِيلَ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ أَخَذَ شَمْسُ الدِّينِ الْإِرْبِلِيُّ تَدْرِيسَ
الْغَزَّالِيَّةِ مِنِ ابْنِ عَبْدِ الْكَافِي الْمَذْكُورِ.
وَفِي آخِرِ شَعْبَانَ بَاشَرَ نِيَابَةَ الْحُكْمِ عَنِ ابْنِ الزَّكِيِّ شَرَفُ
الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ نِعْمَةَ الْمَقْدِسِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْفُضَلَاءِ
وَسَادَاتِ الْعُلَمَاءِ الْمُصَنِّفِينَ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَخُوهُ شَمْسُ
الدِّينِ مُحَمَّدٌ فِي شَوَّالٍ وَلِيَ مَكَانَهُ تَدْرِيسَ الشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْعَادِلِيَّةُ الصَّغِيرَةُ، فَدَرَّسَ
فِيهَا الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ صَصْرَى التَّغْلِبِيُّ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ، وَأُخِذَتْ مِنْ شَرَفِ الدِّينِ أَيْضًا الرَّوَاحِيَّةُ، فَدَرَّسَ
فِيهَا نَجْمُ الدِّينِ الْبَيَانِيُّ نَائِبُ الْحُكْمِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ
أَجْمَعِينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الصَّدْرُ الْكَبِيرُ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاضِيِ
شَمْسِ الدِّينِ
أَبِي
نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الشِّيرَازِيِّ
صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ الْمَنْسُوبَةِ فِي الْكِتَابَةِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ دِمَشْقَ وَأَعْيَانِهَا، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
شَيْخُ الْجَبَلِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ شَمْسُ
الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ
مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ الْحَنْبَلِيُّ
أَوَّلُ مَنْ وَلِيَ قَضَاءَ الْحَنَابِلَةِ بِدِمَشْقَ - ثُمَّ تَرَكَهُ
وَتَوَلَّاهُ ابْنُهُ نَجْمُ الدِّينِ - وَتَدْرِيسَ الْأَشْرَفِيَّةِ
بِالْجَبَلِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ
النَّاسِ وَأَكْثَرِهِمْ دِيَانَةً فِي عَصْرِهِ وَأَمَانَةً، مَعَ هَدْيٍ صَالِحٍ
وَسَمْتٍ حَسَنٍ وَخُشُوعٍ وَوَقَارٍ. تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ سَلْخَ
رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً،
وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ وَالِدِهِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
ابْنُ جَعْوَانَ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ جَعْوَانَ الْأَنْصَارِيُّ الدِّمَشْقِيُّ
الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْبَارِعُ فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ،
سَمِعْتُ شَيْخَنَا تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ وَشَيْخَنَا الْحَافِظَ
أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ: إِنَّ هَذَا
الرَّجُلَ قَرَأَ " مُسْنَدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " - وَهُمَا
يَسْمَعَانِ - فَلَمْ نَضْبِطْ عَلَيْهِ لَحْنَةً مُتَّفَقًا عَلَيْهَا.
وَنَاهِيكَ بِهَذَيْنِ ثَنَاءً عَلَى هَذَا، وَهُمَا هُمَا.
الْخَطِيبُ
مُحْيِي الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْخَطِيبِ قَاضِي الْقُضَاةِ عِمَادِ الدِّينِ
عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ
الْحَرَسْتَانِيِّ الشَّافِعِيُّ
خَطِيبُ دِمَشْقَ وَمُدَرِّسُ الْغَزَّالِيَّةِ، كَانَ فَاضِلًا بَارِعًا، أَفْتَى
وَدَرَّسَ وَوَلِيَ الْخَطَابَةَ وَالْغَزَّالِيَّةَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَحَضَرَ
جِنَازَتَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَخَلْقٌ كَثِيرٌ، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ.
وَفِي خَامِسِ رَجَبٍ تُوُفِّيَ:
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ مَلِكُ عَرَبِ آلِ مِرَى أَحْمَدُ بْنُ حَجِّي
بِمَدِينَةِ بُصْرَى، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِدِمَشْقَ صَلَاةُ الْغَائِبِ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ شِهَابُ الدِّينِ عَبْدُ الْحَلِيمِ بْنُ
الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ مَجْدِ الدِّينِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانَيُّ
وَالِدُ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ الْعَلَمِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ:
مُفْتِي الْفِرَقِ، الْفَارِقُ بَيْنَ الْفِرَقِ، كَانَتْ لَهُ فَضِيلَةُ
حَسَنَةٌ: وَلَدَيْهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ: وَكَانَ لَهُ كُرْسِيٌّ بِجَامِعِ دِمَشْقَ
يَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ، وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ
السُّكَّرِيَّةِ بِالْقَصَّاعِينَ، وَبِهَا كَانَ مَسْكَنُهُ، ثُمَّ دَرَّسَ
وَلَدُهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بِهَا بَعْدَهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ،
كَمَا سَيَأْتِي، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَرَّسَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ
بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيُّ
بِدَارِ الْحَدِيثِ السُّكَّرِيَّةِ الَّتِي بِالْقَصَّاعِينَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ
قَاضِي الْقُضَاةِ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ الشَّافِعِيُّ، وَالشَّيْخُ
تَاجُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالشَّيْخُ زَيْنُ
الدِّينِ ابْنُ الْمُرَحِّلِ، وَزَيْنُ الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّا الْحَنْبَلِيُّ،
وَكَانَ دَرْسًا هَائِلًا حَافِلًا، وَقَدْ كَتَبَهُ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ
الْفَزَارِيُّ بِخَطِّهِ لِكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ، وَكَثْرَةِ مَا اسْتَحْسَنَهُ
الْحَاضِرُونَ، وَقَدْ أَطْنَبَ الْحَاضِرُونَ فِي شُكْرِهِ عَلَى حَدَاثَةِ
سِنِّهِ وَصِغَرِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ عِشْرِينَ سَنَةً
وَسَنَتَيْنِ. ثُمَّ جَلَسَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْمَذْكُورُ أَيْضًا
يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَاشِرَ صَفَرٍ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ بَعْدَ صَلَاةِ
الْجُمُعَةِ عَلَى مِنْبَرٍ قَدْ هُيِّئَ لَهُ لِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ،
فَابْتَدَأَ مِنْ أَوَّلِهِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَكَانَ يَجْتَمِعُ عِنْدَهُ
الْخَلْقُ الْكَثِيرُ وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ، مِنْ كَثْرَةِ مَا كَانَ يُورِدُ
مِنَ الْعُلُومِ الْمُتَنَوِّعَةِ الْمُحَرَّرَةِ مَعَ الدِّيَانَةِ
وَالزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ، سَارَتْ بِذِكْرِهِ الرُّكْبَانُ فِي سَائِرِ
الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةَ سِنِينَ
مُتَطَاوِلَةٍ.
وَفِيهَا قَدِمَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ مِنْ مِصْرَ يَوْمَ السَّبْتِ ثَانِي
عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَجَاءَ صَاحِبُ حَمَاةَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ
إِلَى خِدْمَتِهِ، فَتَلَقَّاهُ السُّلْطَانُ فِي مَوْكِبِهِ وَأَكْرَمَهُ.
فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ
وَقَعَ مَطَرٌ عَظِيمٌ
بِدِمَشْقَ
وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، وَجَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ جِدًّا حَتَّى كَسَرَ أَقْفَالَ بَابِ
الْفَرَادِيسِ، وَارْتَفَعَ الْمَاءُ ارْتِفَاعًا كَثِيرًا، بِحَيْثُ أَغْرَقَ
خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَخَذَ جِمَالَ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ وَأَثْقَالَهُمْ،
فَخَرَجَ السُّلْطَانُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ، وَتَوَلَّى شَدَّ الدَّوَاوِينِ الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ سُنْقُرُ
عِوَضًا عَنِ الدَّوَادَارِيِّ عَلَمِ الدِّينِ سَنْجَرَ.
وَفِيهَا اخْتَلَفَ التَّتَرُ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى مَلِكِهِمُ السُّلْطَانِ
أَحْمَدَ، فَعَزَلُوهُ عَنْهُمْ وَقَتَلُوهُ، وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمُ السُّلْطَانَ
أَرْغُونَ بْنَ أَبْغَا، وَنَادَوْا بِذَلِكَ فِي جَيْشِهِمْ، وَتَأَطَّدَتْ
أَحْوَالُهُمْ، وَمَشَتْ أُمُورُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَبَادَتْ دَوْلَةُ
السُّلْطَانِ أَحْمَدَ، وَقَامَتْ دَوْلَةُ أَرْغُونَ بْنِ أَبْغَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ طَالِبٌ الرِّفَاعِيُّ
بِقَصْرِ حَجَّاجٍ، وَلَهُ زَاوِيَةٌ مَشْهُورَةٌ بِهِ، وَكَانَ يَزُورُ بَعْضَ
الْمُرِيدِينَ فَمَاتَ.
الْقَاضِي الْإِمَامُ عِزُّ الدِّينِ أَبُو الْمَفَاخِرِ مُحَمَّدُ بْنُ شَرَفِ
الدِّينِ عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ عَفِيفِ الدِّينِ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ خَلِيلٍ
الْأَنْصَارِيُّ الدِّمَشْقِيُّ
وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ مَرَّتَيْنِ، عُزِلَ بِهِ ابْنُ خَلِّكَانَ
ثُمَّ عُزِلَ بِابْنِ خَلِّكَانَ، ثُمَّ عُزِلَ ابْنُ خَلِّكَانَ بِهِ ثَانِيَةً،
ثُمَّ عُزِلَ وَسُجِنَ وَوُلِّيَ بَعْدَهُ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ،
وَبَقِيَ مَعْزُولًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بِبُسْتَانِهِ فِي تَاسِعِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَصُلَّيَ عَلَيْهِ بِسُوقِ الْخَيْلِ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ،
وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَ مَشْكُورَ
السِّيرَةِ،
لَهُ عَقْلٌ وَتَدْبِيرٌ وَاعْتِقَادٌ كَثِيرٌ فِي الصَّالِحِينَ، وَقَدْ سَمِعَ
الْحَدِيثَ، وَخَرَّجَ لَهُ ابْنُ بَلَبَانَ مَشْيَخَةً قَرَأَهَا ابْنُ جَعْوَانَ
عَلَيْهِ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ
عُمَرُ بْنُ مَكِّيِّ بْنِ الْمُرَحِّلِ وَكَيْلُ بَيْتِ الْمَالِ، وَدَرَّسَ
ابْنُهُ مُحْيِي الدِّينِ أَحْمَدُ بِالْعِمَادِيَّةِ وَزَاوِيَةِ الْكَلَّاسَةِ
مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ ثُمَّ تُوُفِّيَ ابْنُهُ أَحْمَدُ هَذَا بَعْدَهُ فِي
يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَامِنَ رَجَبٍ، فَدَرَّسَ بِالدِّمَاغِيَّةِ
وَالْعِمَادِيَّةِ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ ابْنُ الْفَارِقِيِّ شَيْخُ دَارِ
الْحَدِيثِ، نِيَابَةً عَنْ أَوْلَادِ الْقَاضِي عِزِّ الدِّينِ بْنِ الصَّائِغِ
بَدْرِ الدِّينِ وَعَلَاءِ الدِّينِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
الْمَلِكُ السَّعِيدُ فَتْحُ الدِّينِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَلِكِ الصَّالِحِ
أَبِي الْحَسَنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ
وَهُوَ وَالِدُ الْمَلِكِ الْكَامِلِ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ، فِي لَيْلَةِ
الِاثْنَيْنِ ثَالِثَ رَمَضَانَ وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِتُرْبَةِ أَمِّ
الصَّالِحِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ مُحْتَرَمًا كَبِيرًا رَئِيسًا،
رَوَى " الْمُوَطَّأَ " عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ مُكْرَمِ بْنِ
أَبِي الصَّقْرِ، وَسَمِعَ ابْنَ اللَّتِّيِّ وَغَيْرَهُ.
الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ الْبَيْسَانِيُّ
الشَّافِعِيُّ
تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، وَكَانَ فَاضِلًا، وَلِيَ قَضَاءَ زُرْعَ، ثُمَّ
قَضَاءَ حَلَبَ، ثُمَّ نَابَ فِي دِمَشْقَ، وَدَرَّسَ بِالرَّوَاحِيَّةِ،
وَبَاشَرَهَا بَعْدَهُ شَمْسُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ نُوحٍ
الْمَقْدِسِيُّ
يَوْمَ عَاشِرِ شَوَّالٍ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تُوُفِّيَ بِحَمَاةَ مَلِكُهَا
الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ عُمَرَ
بْنِ شَاهِنْشَاهِ بْنِ أَيُّوبَ
وُلِدَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتَمَلَّكَ حَمَاةَ
سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ، فَمَكَثَ فِي الْمُلْكِ
أَزْيَدَ مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ لَهُ بِرٌّ وَصَدَقَاتٌ، وَقَدْ
أَعْتَقَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ خَلْقًا مِنَ الْأَرِقَّاءِ، وَقَامَ فِي الْمُلْكِ
بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ بِتَقْلِيدِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
لَهُ بِذَلِكَ.
الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ الزَّوَاوِيُّ
قَاضِي قُضَاةِ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُدَرِّسُهُمْ بَعْدَ الْقَاضِي زَيْنِ
الدِّينِ الزَّوَاوِيِّ الَّذِي عَزَلَ نَفْسَهُ، وَقَدْ كَانَ يَنُوبُ عَنْهُ،
فَاسْتَقَلَّ بَعْدَهُ بِالْحُكْمِ، تُوُفِّيَ فِي الْخَامِسِ مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ وَهُوَ فِي طَرِيقِ الْحِجَازِ، وَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا، قَلِيلَ
التَّكْلِيفِ وَالتَّكَلُّفِ، وَقَدْ شَغَرَ الْمَنْصِبُ بَعْدَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ،
وَدَرَّسَ بَعْدَهُ لِلْمَالِكِيَّةِ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الشَّرِيشِيُّ،
وَبَعْدَهُ أَبُو إِسْحَاقَ اللَّوْرِيُّ، وَبَعْدَهُ بَدْرُ الدِّينِ أَبُو
بَكْرٍ التُّونُسِيُّ، ثُمَّ لَمَّا وَصَلَ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ بْنُ
سُلَيْمَانَ حَاكِمًا دَرَّسَ بِالْمَدَارِسِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ قَدِمَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ إِلَى دِمَشْقَ
وَمَعَهُ الْجُيُوشُ، وَجَاءَ إِلَى خِدْمَتِهِ صَاحِبُ حَمَاةَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ
بْنُ الْمَنْصُورِ، فَتَلَقَّاهُ بِجَمِيعِ الْجُيُوشِ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةَ
الْمُلُوكِ، ثُمَّ سَافَرَ السُّلْطَانُ بِالْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ
وَالشَّامِيَّةِ، فَنَزَلَ الْمَرْقَبَ، فَفَتْحَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي يَوْمِ
الْجُمُعَةِ ثَامِنَ عَشَرَ صَفَرٍ، وَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى
دِمَشْقَ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ
بِذَلِكَ; لِأَنَّ هَذَا الْحِصْنَ كَانَ مَضَرَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ
يَتَّفِقْ فَتْحُهُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُلُوكِ لَا لِصَلَاحِ الدِّينَ وَلَا
لِلظَّاهِرِ، وَفَتَحَ حَوْلَهُ بُلُنْيَاسَ وَمَرَقِيَّةَ، وَهِيَ بَلْدَةٌ
صَغِيرَةٌ إِلَى جَانِبِ الْبَحْرِ عِنْدَ حِصْنٍ مَنِيعٍ جِدًّا، لَا يَصِلُ
إِلَيْهِ سَهْمٌ وَلَا حَجَرُ مَنْجَنِيقٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ طَرَابُلُسَ،
فَهَدَمَهُ تَقَرُّبَا إِلَى السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ، وَاسْتَنْقَذَ
الْمَنْصُورُ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا
عِنْدَ الْفِرِنْجِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، ثُمَّ عَادَ الْمَنْصُورُ إِلَى
دِمَشْقَ، ثُمَّ سَافَرَ بِالْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى الْقَاهِرَةِ.
وَفِي أَوَاخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ وُلِدَ لِلْمَنْصُورِ وَلَدُهُ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ مُحَمَّدُ بْنُ قَلَاوُونَ.
وَفِيهَا
عُزِلَ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ النَّحَّاسِ عَنْ نَظَرِ الْجَامِعِ، وَوَلِيَهُ
عِزُّ الدِّينِ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ، وَبَاشَرَ ابْنُ
النَّحَّاسِ الْوِزَارَةَ عِوَضًا عَنِ التَّقِيِّ تَوْبَةَ التَّكْرِيتِيِّ،
وَطُلِبَ التَّقِيُّ تَوْبَةُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأُحِيطَ عَلَى
أَمْوَالِهِ وَأَمْلَاكِهِ.
وَعُزِلَ سَيْفُ الدِّينِ طَوْغَانُ عَنْ وِلَايَةِ الْمَدِينَةِ، وَبَاشَرَهَا
عِزُّ الدِّينِ بْنُ أَبِي الْهَيْجَاءِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَدَّادٍ
تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ، وَكَانَ فَاضِلًا مَشْهُورًا، لَهُ كِتَابُ " سِيرَةِ
الْمَلِكِ الظَّاهِرِ "، وَكَانَ مُعْتَنِيًا بِالتَّارِيخِ.
الْبُنْدُقْدَارُ
أُسْتَاذُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ بَيْبَرْسَ وَهُوَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ أَيْدِيكِينُ الْبُنْدُقْدَارُ الصَّالِحِيُّ، كَانَ مِنْ خِيَارِ
الْأُمَرَاءِ، سَامَحَهُ اللَّهُ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا، وَقَدْ
كَانَ الصَّالِحُ نَجْمُ الدِّينِ صَادَرَ الْبُنْدُقْدَارَ هَذَا، وَأَخَذَ
مِنْهُ مَمْلُوكَهُ بَيْبَرْسَ، فَأَضَافَهُ إِلَيْهِ لِشَهَامَتِهِ وَنَهْضَتِهِ،
فَتَقَدَّمَ عِنْدَهُ عَلَى أُسْتَاذِهِ وَغَيْرِهِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْإِخْمِيمِيُّ
كَانَتْ لَهُ جِنَازَةٌ هَائِلَةٌ، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
ابْنُ
عَامِرٍ الْمُقْرِئُ
الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمِيعَادُ الْكَبِيرُ، الشَّيْخُ الصَّالِحُ
الْمُقْرِئُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ
أَبِي بَكْرٍ الْغَسُولِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الشَّيْخِ
مُوَفَّقِ الدِّينِ بْنِ قُدَامَةَ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ يَعْمَلُ الْمِيعَادَ
لَيْلَةَ الْأَحَدِ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ دَعَا بِهِمْ ثُمَّ وَعَظَهُمْ.
تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ حَادِي عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ
بِالْقُرْبِ مِنْ تُرْبَةِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَرْمَنِيِّ.
الْقَاضِي عِمَادُ الدِّينِ دَاوُدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ كَامِلٍ الْقُرَشِيُّ
الْبَصْرَوِيُّ الْحَنَفِيُّ
مُدَرِّسُ الْعِزِّيَّةِ بِالْكُشْكِ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عَنْ مَجْدِ الدِّينِ
بْنِ الْعَدِيمِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ
شَعْبَانَ، وَهُوَ وَالِدُ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ الْقَحْفَازِيِّ شَيْخِ
الْحَنَفِيَّةِ، وَخَطِيبِ جَامِعِ تَنْكِزَ.
الشَّيْخُ حَسَنٌ الرُّومِيُّ
شَيْخُ سَعِيدِ السُّعَدَاءِ بِالْقَاهِرَةِ، وَقَدْ وَلِيَهَا بَعْدَهُ شَمْسُ
الدِّينِ الْأَيْكِيُّ.
الرَّشِيدُ سَعِيدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الشَّيْخُ رَشِيدُ الدِّينِ
الْحَنَفِيُّ
مُدَرِّسُ
الشِّبْلِيَّةِ،
وَلَهُ تَصَانِيفُ مُفِيدَةٌ كَثِيرَةٌ، وَنَظْمٌ حَسَنٌ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
قُلْ لِمَنَ يَحْذَرُ أَنْ تُدْرِكَهُ نَكَبَاتُ الدَّهْرِ لَا يُغْنِي الْحَذَرْ
أَذْهَبَ الْحُزْنَ اعْتِقَادِي أَنَّهُ
كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرْ
وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
إِلَهِي لَكَ الْحَمْدُ الَّذِي أَنْتَ أَهْلُهُ عَلَى نِعَمٍ مِنْهَا
الْهِدَايَةُ لِلْحَمْدِ
صَحِيحًا خَلَقْتَ الْجِسْمَ مِنِّي مُسَلَّمًا وَلُطْفُكَ بِي مَا زَالَ مُذْ
كُنْتُ فِي الْمَهْدِ
وَكُنْتُ يَتِيمًا قَدْ أَحَاطَ بِيَ الرَّدَى فَآوَيْتَ وَاسْتَنْقَذْتَ مِنْ
كُلِّ مَا يُرْدِي
وَهَبْتَ لِيَ الْعَقْلَ الَّذِي بِضِيَائِهِ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ يَهْتَدِي
طَالِبُ الرُّشْدِ
وَوَفَّقْتَ لِلْإِسْلَامِ قَلْبِي وَمَنْطِقِي فَيَا نِعْمَةً قَدْ جَلَّ
مَوْقِعُهَا عِنْدِي
وَلَوْ رُمْتُ جَهْدِي أَنْ أُجَازِيَ فَضِيلَةً فَضَلْتَ بِهَا لَمْ يَجْزِ
أَطْرَافَهَا جِدِّي
أَلَسْتَ الَّذِي أَرْجُو جَنَابَكَ عِنْدَمَا يُخَلِّفُنِي الْأَهْلُونَ وَحْدِيَ
فِي لَحْدِي
فَجُدْ لِي بِلُطْفٍ مِنْكَ يَهْدِي سَرِيرَتِي وَقَلْبِي وَيُدْنِينِي إِلَيْكَ
مِنَ الْبُعْدِ
تُوُفِّيَ يَوْمَ السَّبْتِ ثَالِثَ رَمَضَانَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ
الْعَصْرِ بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَدُفِنَ بِالسَّفْحِ.
أَبُو
الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ بَلَبَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ النَّاصِرِيُّ
الْمُحَدِّثُ الْمُفِيدُ الْمَاهِرُ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلَّ
رَمَضَانَ.
الْأَمِيرُ مُجِيرُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عَلِيٍّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ تَمِيمٍ
الْحَمَوِيُّ الشَّاعِرُ، صَاحِبُ الدِّيوَانِ فِي الشِّعْرِ، فَمِنْ شِعْرِهِ
قَوْلُهُ:
عَايَنْتُ وَرْدَ الرَّوْضِ يَلْطِمُ خَدَّهُ وَيَقُولُ قَوْلًا فِي الْبَنَفْسِجِ
يُحْنَقُ
لَا تَقْرَبُوهُ وَإِنْ تَضَوَّعَ نَشْرُهُ مَا بَيْنَكُمْ فَهُوَ الْعَدُوُّ الْأَزْرَقُ
الشَّيْخُ الْعَارِفُ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
الشَّيْخِ عُثْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ الرُّومِيُّ
وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَمِنْ عِنْدِهِمْ خَرَجَ الشَّيْخُ
جَمَالُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ السَّاوَجِيُّ، وَحَلَقَ وَدَخَلَ فِي ذِي
الْجَوَالِيقِيَّةِ، وَصَارَ شَيْخَهُمْ وَمُقَدَّمَهُمْ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ،
وَالسُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ وَنَائِبُهُ بِالشَّامِ
الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ السِّلَحْدَارِيُّ الْمَنْصُورِيُّ،
وَالْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ الصَّوَابِيُّ مُحَاصِرٌ مَدِينَةَ الْكَرَكِ فِي
أَوَاخِرِ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ مِصْرَ عَسْكَرٌ
صُحْبَةَ الْأَمِيرِ حُسَامِ الدِّينِ طُرُنْطَايَ فَاجْتَمَعُوا عَلَى حِصَارِ
الْكَرَكِ حَتَّى أَنْزَلُوا مِنْهَا صَاحِبَهَا الْمَلِكَ الْمَسْعُودَ خَضِرَ
بْنَ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ، وَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ
بِذَلِكَ إِلَى دِمَشْقَ فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَعَادَ
طُرُنْطَايُ بِالْمَلِكِ خَضِرٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، كَمَا فَعَلَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ أَبُوهُ بِالْمَلِكِ
الْمُغِيثِ عُمَرَ بْنِ الْعَادِلِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ. وَاسْتَنَابَ فِي
الْكَرَكِ نَائِبًا عَنْ أَمْرِ الْمَنْصُورِ، وَرَتَّبَ أُمُورَهَا، وَأَجْلَوْا
مِنْهَا خَلْقًا مِنَ الْكَرَكِيِّينَ، وَاسْتَخْدَمُوا بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ.
وَلَمَّا اقْتَرَبَ دُخُولُ آلِ الظَّاهِرِ إِلَى الْقَاهِرَةِ تَلَقَّاهُمُ
الْمَنْصُورُ فَأَكْرَمَ لُقْيَاهُمْ، وَأَحْسَنَ إِلَى الْأَخَوَيْنِ نَجْمِ
الدِّينِ خَضِرٍ وَبَدْرِ الدِّينِ سَلَامُشَ، وَجَعَلَهُمَا يَرْكَبَانِ مَعَ
ابْنَيْهِ عَلِيٍّ وَالْأَشْرَفِ خَلِيلٍ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمَا عُيُونًا
يَرْصُدُونَ مَا يَفْعَلَانِ، وَأُنْزِلَا الدُّورَ بِالْقَلْعَةِ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِمْ
مِنَ الرَّوَاتِبِ وَالنَّفَقَاتِ مَا يَكْفِيهِمْ وَزِيَادَةٌ كَثِيرَةٌ.
وَكَتَبَ الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بَكْتُوتُ الْعَلَائِيُّ، وَهُوَ مُجَرَّدٌ
بِحِمْصَ إِلَى نَائِبِ دِمَشْقَ لَاجِينَ، أَنَّهُ قَدِ انْعَقَدَتْ زَوْبَعَةٌ
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَابِعِ صَفَرٍ بِأَرْضِ حِمْصَ،
ثُمَّ
ارْتَفَعَتْ فِي السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الْعَمُودِ وَالْحَيَّةِ الْعَظِيمَةِ،
وَجَعَلَتْ تَخْتَطِفُ الْحِجَارَةَ الْكِبَارَ، فَتَصْعَدُ بِهَا فِي الْجَوِّ
كَأَنَّهَا سِهَامُ النُّشَّابِ، وَحَمَلَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْجِمَالِ
بِأَحْمَالِهَا، وَالْأَثَاثِ وَالْخِيَامِ وَالدَّوَابِّ، فَفَقَدَ النَّاسُ مِنْ
ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الرِّحَالِ وَالْأَمْتِعَةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ وَقَعَ مَطَرٌ عَظِيمٌ بِدِمَشْقَ وَجَاءَ سَيْلٌ كَثِيرٌ
وَلَا سِيَّمَا بِالصَّالِحِيَّةِ.
وَفِيهَا أُعِيدَ عَلَمُ الدِّينِ الدَّوَادَارِيُّ إِلَى شَدِّ الدَّوَاوِينِ
بِدِمَشْقَ، وَالصَّاحِبُ تَقِيُّ الدِّينِ تَوْبَةُ إِلَى الْوِزَارَةِ
بِدِمَشْقَ.
وَفِيهَا تَوَلَّى قَضَاءَ الْمَالِكِيَّةِ بِمِصْرَ زَيْنُ الدِّينِ بْنُ أَبِي
مَخْلُوفٍ النُّوَيْرِيُّ عِوَضًا عَنِ الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ شَاسٍ
الَّذِي تُوُفِّيَ بِهَا.
وَفِيهَا دَرَّسَ بِالْغَزَّالِيَّةِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ،
انْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ شَمْسِ الدِّينِ إِمَامِ الْكَلَّاسَةِ الَّذِي كَانَ
يَنُوبُ عَنْ شَمْسِ الدِّينِ الْأَيْكِيِّ، وَالْأَيْكِيُّ شَيْخُ سَعِيدِ
السُّعَدَاءِ، بَاشَرَهَا شَهْرًا، ثُمَّ جَاءَ مَرْسُومٌ بِإِعَادَتِهَا إِلَى
الْأَيْكِيِّ، وَقَدِ اسْتَنَابَ عَنْهُ جَمَالَ الدِّينِ الْبَاجُرْبَقِيُّ
فَبَاشَرَهَا الْبَاجُرْبَقِيُّ فِي ثَالِثِ رَجَبٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ شَيْبَانَ بْنِ تَغْلِبَ الشَّيْبَانِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ الْمُسْنِدِينَ
الْمُعَمَّرِينَ
بِدِمَشْقَ، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ
بِقَاسِيُونَ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْبَارِعُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُحْمَانَ
الْبَكْرِيُّ الشَّرِيشِيُّ الْمَالِكِيُّ
وُلِدَ بِشَرِيشَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ، وَرَحَلَ إِلَى الْعِرَاقِ،
فَسَمِعَ بِهَا الْحَدِيثَ مِنَ الْمَشَايِخِ; الْقَطِيعِيِّ وَابْنِ زَوْرَبَةَ
وَابْنِ اللَّتِّيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَاشْتَغَلَ وَحَصَّلَ وَسَادَ أَهْلَ
زَمَانِهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ، فَدَرَّسَ بِالْفَاضِلِيَّةِ، ثُمَّ أَقَامَ
بِالْقُدْسِ شَيْخَ الْحَرَمِ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى دِمَشْقَ، فَوَلِيَ مَشْيَخَةَ
الْحَدِيثِ بِتُرْبَةِ أَمِّ الصَّالِحِ، وَمَشْيَخَةَ الرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ
بِالسَّفْحِ، وَمَشْيَخَةَ الْمَالِكِيَّةِ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَلَمْ
يَقْبَلْ. تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ
بِالرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ بِقَاسِيُونَ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ تُجَاهَ
النَّاصِرِيَّةِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً جِدًّا.
قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْفَضْلِ يُوسُفُ بْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ مُحْيِي
الدِّينِ أَبِي الْفَضْلِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ يَحْيَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْوَلِيدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْقُرَشِيُّ
الدِّمَشْقِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الزَّكِيِّ الشَّافِعِيُّ
كَانَ فَاضِلًا مُبَرَّزًا، وَهُوَ آخِرُ مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ مِنْ بَنِي
الزَّكِيِّ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وُلِدَ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ حَادِي عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ،
وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ ابْنُ الْخُوَيِّيِّ شِهَابُ
الدِّينِ.
الشَّيْخُ
مَجْدُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْمِصْرِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ الْكَاتِبُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
الْمِهْتَارِ
كَانَ فَاضِلًا فِي الْحَدِيثِ وَالْأَدَبِ، يَكْتُبُ كِتَابَةً حَسَنَةً جِدًّا،
وَتَوَلَّى مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ وَبِكِتَابَتِهِ، تُوُفِّيَ عَاشِرَ ذِي الْحِجَّةِ،
وَدُفِنَ بِبَابِ الْفَرَادِيسِ.
الشَّاعِرُ الْأَدِيبُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخِيَمِيِّ
كَانَتْ لَهُ مُشَارَكَةٌ فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، وَيَدٌ طُولَى فِي النَّظْمِ
الرَّائِقِ الْفَائِقِ، جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَقَدْ تَنَازَعَ هُوَ وَنَجْمُ
الدِّينِ بْنُ إِسْرَائِيلَ فِي قَصِيدَةٍ بَائِيَّةٍ، فَتَحَاكَمَا إِلَى ابْنِ
الْفَارِضِ، فَأَمَرَهُمَا بِنَظْمِ أَبْيَاتٍ عَلَى وَزْنِهَا، فَنَظَمَ كُلٌّ
مِنْهُمَا فَأَحَسَنَ، وَلَكِنْ لِابْنِ الْخِيَمِيِّ يَدٌ طُولَى عَلَيْهِ،
وَكَذَلِكَ فَعَلَ ابْنُ خَلِّكَانَ، وَامْتَدَحَهُ عَلَى وَزْنِهَا بِأَبِيَّاتٍ
حِسَانٍ، وَقَدْ أَطَالَ تَرْجَمَتَهُ الْجَزَرِيُّ فِي كِتَابِهِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ:
الْحَاجِّ شَرَفِ بْنِ مِرَى
وَالِدِ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
يَعْقُوبُ
بْنُ عَبْدِ الْحَقِّ أَبُو يُوسُفَ الْمَرِينِيُّ
سُلْطَانُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، خَرَجَ عَلَى الْوَاثِقِ بِاللَّهِ أَبِي
دَبُّوسٍ، فَسَلَبَهُ الْمُلْكَ بِظَاهِرِ مُرَّاكِشَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى
بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ وَالْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَاسْتَمَرَّتْ أَيَّامُهُ إِلَى مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَزَالَتْ عَلَى يَدَيْهِ دَوْلَةُ الْمُوَحِّدِينَ بِهَا.
الْبَيْضَاوِيُّ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ
هُوَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ نَاصِرُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ الشِّيرَازِيُّ
قَاضِيهَا وَعَالِمُهَا وَعَالِمُ أَذْرَبِيجَانَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي، مَاتَ
بِتَبْرِيزَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَمِنْ مُصَنَّفَاتِهِ
" الْمِنْهَاجُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ "، وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَقَدْ
شَرَحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَهُ " شَرْحُ التَّنْبِيهِ " فِي أَرْبَعِ
مُجَلَّدَاتٍ، وَلَهُ " الْغَايَةُ الْقُصْوَى فِي دِرَايَةِ الْفَتْوَى
"، وَ " شَرْحُ الْمُنْتَخَبِ "، وَ " الْكَافِيَةُ فِي
الْمَنْطِقِ "، وَلَهُ " الطَّوَالِعُ "، وَ " شَرْحُ
الْمَحْصُولِ " أَيْضًا، وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَانِيفِ
الْمُفِيدَةِ، وَقَدْ أَوْصَى إِلَى الْقُطْبِ الشِّيرَازِيِّ أَنْ يُدْفَنَ
بِجَانِبِهِ بِتَبْرِيزَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ رَكِبَتِ الْعَسَاكِرُ صُحْبَةَ نَائِبِ الشَّامِ
حُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ إِلَى مُحَاصَرَةِ صِهْيَوْنَ وَحِصْنِ بَرْزَيَهْ،
فَمَانَعَهُمُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ، فَلَمْ يَزَالُوا
بِهِ حَتَّى اسْتَنْزَلُوهُ، وَسَلَّمَهُمُ الْبِلَادَ، وَسَارَ إِلَى خِدْمَةِ
السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ، فَتَلَقَّاهُ بِالْإِكْرَامِ
وَالِاحْتِرَامِ، وَأَعْطَاهُ تَقْدُمَةً أَلْفَ فَارِسٍ، وَلَمْ يَزَلْ
مُعَظَّمًا فِي الدَّوْلَةِ الْمَنْصُورِيَّةِ إِلَى آخِرِهَا، وَانْقَضَتْ تِلْكَ
الْأَحْوَالُ.
وَفِي النِّصْفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ حَكَمَ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ
الْحَنَفِيُّ نِيَابَةً عَنْ أَبِيهِ حُسَامِ الدِّينِ الرَّازِيِّ.
وَفِي الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَدِمَ الْقَاضِي شِهَابُ
الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الْخَلِيلِ الْخُوَيِّيُّ
مِنَ الْقَاهِرَةِ عَلَى قَضَاءِ قُضَاةِ دِمَشْقَ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ مُسْتَهَلَّ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَاسْتَمَرَّ بِنِيَابَةِ شَرَفِ
الدِّينِ الْمَقْدِسِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَالِثِ شَوَّالٍ دَرَّسَ بِالرَّوَاحِيَّةِ الشَّيْخُ
صَفِيُّ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالشَّيْخُ تَاجُ
الدِّينِ الْفَزَارِيُّ وَعَلَمُ الدِّينِ الدَّوَادَارِيُّ، وَتَوَلَّى قَضَاءَ
قُضَاةِ الْقَاهِرَةِ تَقِيُّ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ بِنْتِ
الْأَعَزِّ، عِوَضًا عَنْ بُرْهَانِ
الدِّينِ
الْخَضِرِ بْنِ الْحَسَنِ السِّنْجَارِيِّ، وَقَدْ كَانَ وَلِيَهَا شَهْرًا بَعْدَ
ابْنِ الْخُوَيِّيِّ، فَاجْتَمَعَ حِينَئِذٍ لِابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ بَيْنَ
الْقَضَاءِ كُلِّهِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَذَلِكَ فِي أَوَائِلِ صَفَرٍ
مِنْهَا.
وَفِيهَا اسْتُدْعِيَ سَيْفُ الدِّينِ السَّامَرِّيُّ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِيُشْتَرَى مِنْهُ رِيعُ حَرْزَمَا الَّذِي اشْتَرَاهُ
مِنْ بِنْتِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى، فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّهُ وَقَفَهُ،
وَكَانَ الْمُتَكَلِّمَ فِي ذَلِكَ عَلَمُ الدِّينِ الشُّجَاعِيُّ، وَكَانَ قَدِ
اسْتَنَابَهُ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَجَعَلَ يَتَقَرَّبُ
إِلَيْهِ بِتَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ، فَفَتَقَ لَهُمْ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَقْدِسِيُّ أَنَّ السَّامَرِّيَّ اشْتَرَى هَذَا مِنْ
بِنْتِ الْأَشْرَفِ وَهِيَ غَيْرُ رَشِيدَةٍ، وَأَثْبَتَ سَفَهَهَا عَلَىٌّ زَيْنُ
الدِّينِ بْنُ مَخْلُوفٍ، وَأَبْطَلَ الْبَيْعَ مِنْ أَصْلِهِ، وَاسْتَرْجَعَ
عَلَى السَّامَرِّيِّ بِمَغَلِّ مُدَّةِ عِشْرِينَ سَنَةً مِائَتَيْ أَلْفِ
دِرْهَمٍ، وَأَخَذُوا مِنْهُ حِصَّةً مِنَ الزَّنْبَقِيَّةِ قِيمَتُهَا سَبْعُونَ
أَلْفًا، وَعَشَرَةُ آلَافٍ مُكَمِّلَةً، وَتَرَكُوهُ فَقِيرًا عَلَى بَرْدِ
الدِّيَارِ، ثُمَّ أَثْبَتُوا رُشْدَهَا، وَاشْتَرَوْا مِنْهَا تِلْكَ الْحِصَصَ
بِمَا أَرَادُوهُ، ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَسْتَدْعُوا بِالدَّمَاشِقَةِ وَاحِدًا
بَعْدَ وَاحِدٍ وَيُصَادِرُونَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُمْ أَنَّ مَنْ
ظَلَمَ بِالشَّامِ لَا يُفْلِحُ، وَمَنْ ظَلَمَ بِمِصْرَ أَفْلَحَ وَطَالَتْ
مُدَّتُهُ، فَكَانُوا يَطْلُبُونَهُمْ إِلَى مِصْرَ أَرْضِ الْفَرَاعِنَةِ
وَالظُّلْمِ، فَيَفْعَلُونَ مَعَهُمْ مَا أَرَادُوا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ قُطْبُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي
الْعَبَّاسِ
أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَحْمَدَ الْمَيْمُونُ الْقَيْسِيُّ التَّوْزَرِيُّ الْمِصْرِيُّ ثُمَّ
الْمَكِّيُّ، الشَّافِعِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْقَسْطَلَانِيِّ
شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ الْكَامِلِيَّةِ بِالْقَاهِرَةِ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَرَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَسَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَحَصَّلَ عُلُومًا، وَكَانَ يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَقَامَ
بِمَكَّةَ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ صَارَ إِلَى مِصْرَ، فَوَلِيَ مَشْيَخَةَ
الْحَدِيثِ، وَكَانَ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ مُحَبَّبًا إِلَى النَّاسِ، تُوُفِّيَ
فِي آخِرِ الْمُحَرَّمِ وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ الْكُبْرَى، وَلَهُ شِعْرٌ
حَسَنٌ، أَوْرَدَ مِنْهُ ابْنُ الْجَزَرِيِّ قِطْعَةً صَالِحَةً.
عِمَادُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّاسٍ الدُّنَيْسَرِيُّ
الطَّبِيبُ الْمَاهِرُ، وَالْحَاذِقُ الشَّاعِرُ، خَدَمَ الْأَكَابِرَ وَالْوُزَرَاءَ،
وَعُمِّرَ ثَمَانِينَ سَنَةً، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِبِدِمَشْقَ.
قَاضِي الْقُضَاةِ بُرْهَانُ الدِّينِ الْخَضِرُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ
السِّنْجَارِيُّ
تَوَلَّى الْحُكْمَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَوَلِيَ
الْوِزَارَةَ أَيْضًا، وَكَانَ رَئِيسًا وَقُورًا مَهِيبًا، وَقَدْ بَاشَرَ
الْقَضَاءَ بَعْدَهُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ.
شَرَفُ
الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ بُنَيْمَانَ
الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، لَهُ دِيوَانٌ، مَاتَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ عِزُّ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الْمُنْعِمِ
بْنِ الصَّيْقَلِ الْحَرَّانَيُّ
وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، ثُمَّ
اسْتَوْطَنَ مِصْرَ حَتَّى تُوُفِّيَ بِهَا فِي رَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ وَقَدْ
جَاوَزَ التِّسْعِينَ، وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ الْحَافِظُ عَلَمُ الدِّينِ
الْبِرْزَالِيُّ لَمَّا رَحَلَ إِلَى مِصْرَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ،
وَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ شَهِدَ جِنَازَةً فِي بَغْدَادَ فَتَبِعَهُمْ نَبَّاشٌ،
فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَ إِلَى ذَلِكَ الْقَبْرِ فَفَتَحَ عَنِ الْمَيِّتِ،
وَكَانَ الْمَيِّتُ شَابًّا قَدْ أَصَابَتْهُ سَكْتَةٌ، فَلَمَّا فَتَحَ الْقَبْرَ
نَهَضَ ذَلِكَ الشَّابُّ الْمَيِّتُ جَالِسًا، فَسَقَطَ النَّبَّاشُ مَيِّتًا فِي
الْقَبْرِ، وَخَرَجَ الشَّابُّ مِنْ قَبْرِهِ إِلَى أَهْلِهِ.
وَحَكَى لَهُ قَالَ: كُنْتُ مَرَّةً بِقَلْيُوبَ وَبَيْنَ يَدَيَّ صُبْرَةُ
قَمْحٍ، فَجَاءَ زُنْبُورٌ فَأَخَذَ وَاحِدَةً ثُمَّ ذَهَبَ بِهَا، ثُمَّ جَاءَ
فَأَخَذَ أُخْرَى ثُمَّ ذَهَبَ بِهَا، ثُمَّ جَاءَ فَأَخَذَ وَاحِدَةً أُخْرَى
أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. قَالَ: فَاتَّبَعْتُهُ، فَإِذَا هُوَ يَضَعُ الْحَبَّةَ فِي
فَمِ عُصْفُورٍ أَعْمَى بَيْنَ تِلْكَ الْأَشْجَارِ الَّتِي هُنَاكَ.
قَالَ: وَحَكَى لِي الشَّيْخُ عَبْدُ الْكَافِي أَنَّهُ شَهِدَ مَرَّةً جِنَازَةً،
فَإِذَا عَبَدٌ أَسْوَدُ مَعَنَا، فَلَمَّا صَلَّى النَّاسُ عَلَيْهَا لَمْ
يُصَلِّ، فَلَمَّا حَضَرْنَا الدَّفْنَ نَظَرَ إِلَيَّ وَقَالَ: أَنَا
عَمَلُهُ.
ثُمَّ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي قَبْرِ ذَلِكَ الْمَيْتِ. قَالَ: فَنَظَرْتُ فَلَمْ
أَرَ شَيْئًا.
الْحَافِظُ أَبُو الْيُمْنِ أَمِينُ الدِّينِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ
الْوَهَّابِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَسَاكِرَ
الدِّمَشْقِيُّ
تَرَكَ الرِّيَاسَةَ وَالْأَمْلَاكَ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً،
مُقْبِلًا عَلَى الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ قَبُولٌ مِنَ
النَّاسِ شَامِيِّهِمْ وَمِصْرِيِّهِمْ وَغَيْرِهِمْ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ فِي ثَانِي رَجَبٍ مِنْهَا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ الشُّجَاعِيُّ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ بِنِيَّةِ الْمُصَادَرَةِ
لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَ الشَّيْخُ نَاصِرُ الدِّينِ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ الْمَقْدِسِيُّ مِنَ الْقَاهِرَةِ عَلَى وِكَالَةِ بَيْتِ الْمَالِ
وَنَظَرِ الْأَوْقَافِ وَنَظَرِ الْخَاصِّ، وَمَعَهُ تَقَالِيدُ وَخِلَعٌ،
فَتَرَدَّدَ النَّاسُ إِلَى بَابِهِ، وَتَكَلَّمَ فِي الْأُمُورِ، وَآذَى كَثِيرًا
مِنَ النَّاسِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ بِسِفَارَةِ الْأَمِيرِ عَلَمِ الدِّينِ
الشُّجَاعِيِّ الْمُتَكَلِّمِ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، تَوَسَّلَ إِلَيْهِ
بِالشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ الْأَيْكِيِّ وَبِابْنِ الْوَجِيهِ الْكَاتِبِ،
وَكَانَا عِنْدَهُ لَهُمَا صُورَةٌ، وَقَدْ طَلَبَ جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ
الدَّمَاشِقَةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَطُولِبُوا بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ، فَدَافَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهَذَا مِمَّا
يُخَفِّفُ عُقُوبَتَهُ مِنْ ظُلْمِهِمْ، وَإِلَّا فَلَوْ صَبَرُوا لَعُوجِلَ
الظَّالِمُ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَزَالَ عَنْهُمْ مَا يَكْرَهُونَ سَرِيعًا.
وَلَمَّا قَدِمَ ابْنُ الْمَقْدِسِيِّ إِلَى دِمَشْقَ كَانَ يَحْكُمُ بِتُرْبَةِ
أَمِّ الصَّالِحِ وَالنَّاسُ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ وَيَخَافُونَ شَرَّهُ،
وَقَدِ اسْتَجَدَّ بَاشُورَةً بِبَابِ الْفَرَادِيسِ وَمَسَاطِبِ بَابِ
السَّاعَاتِ لِلشُّهُودِ، وَجَدَّدَ بَابَ الْجَابِيَةِ الشَّمَالِيَّ وَرَفَعَهُ
وَكَانَ مُتَوَاطِئًا، وَأَصْلَحَ الْجِسْرَ الَّذِي تَحْتَهُ،
وَكَذَلِكَ
أَصْلَحَ جِسْرَ بَابِ الْفَرَادِيسِ تَحْتَ السُّوَيْقَةِ الَّتِي جَدَّدَهَا
عَلَيْهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا عَمِلَهُ ابْنُ
الْمَقْدِسِيِّ، وَقَدْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ كَثِيرَ الْأَذِيَّةِ لِلنَّاسِ
ظَلُومًا غَشُومًا، وَيَفْتَحُ عَلَى النَّاسِ أَبْوَابًا مِنَ الظُّلْمِ لَا
حَاجَةَ إِلَيْهَا.
وَفِي عَاشِرِ جُمَادَى الْأُولَى قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَيْضًا
قَاضِي الْقُضَاةِ حُسَامُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ وَالصَّاحِبُ تَقِيُّ الدِّينِ تَوْبَةُ
التَّكْرِيتِيُّ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ
سُلَيْمَانَ الزَّوَاوِيُّ الْمَالِكِيُّ عَلَى قَضَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بَعْدَ
شُغُورِهِ عَنْ حَاكِمٍ بِدِمَشْقَ ثَلَاثَ سِنِينَ وَنِصْفٍ، فَأَقَامَ شِعَارَ
الْمَنْصِبِ، وَدَرَّسَ وَنَشَرَ الْمَذْهَبَ، وَكَانَ لَهُ سُؤْدُدٌ وَرِيَاسَةٌ.
وَفِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ رَابِعَ شَعْبَانَ تُوُفِّيَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ
عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ بِالدُّوسَنْطَارِيَّةِ،
فَوَجْدَ عَلَيْهِ أَبُوهُ وَجْدًا شَدِيدًا، وَقَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، وَخَطَبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ مِنْ مُدَّةِ
سِنِينَ، فَدَفَنَهُ فِي تُرْبَتِهِ، وَجَعَلَ وِلَايَةَ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ
إِلَى ابْنِهِ الْأَشْرَفِ خَلِيلٍ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْآفَاقِ، وَلَمَّا
جَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ فِي شَوَّالٍ بِوِلَايَةِ الْأَشْرَفِ خَلِيلٍ مِنْ
بَعْدِ أَبِيهِ، خُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ مِنْ بَعْدِ ذِكْرِ أَبِيهِ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ سَبْعَةَ
أَيَّامٍ، وَلَبِسَ الْجَيْشُ الْخِلَعَ وَرَكِبُوا، وَأَظْهَرَ النَّاسُ سُرُورًا
لِشَهَامَتِهِ.
وَفِي رَمَضَانَ بَاشَرَ حِسْبَةَ دِمَشْقَ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ السَّلْعُوسِ
عِوَضًا عَنْ شَرَفِ الدِّينِ بْنِ الشِّيرَجِيِّ.
وَفِيهِ
تَوَجَّهَ الشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ إِلَى خَطَابَةِ الْقُدْسِ
بَعْدَ مَوْتِ خَطِيبِهِ قُطْبِ الدِّينِ، فَبَاشَرَ بَعْدَهُ تَدْرِيسَ
الْقَيْمُرِيَّةِ عَلَاءُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الْقَاضِي تَاجِ الدِّينِ ابْنِ
بِنْتِ الْأَعَزِّ أَخُو قَاضِي مِصْرَ، ثُمَّ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ أَخَذَ
ابْنُ جَمَاعَةَ قَضَاءَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ بِنْتِ
الْأَعَزِّ.
وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُبِسَ نَصْرَانِيٌّ وَعِنْدَهُ مُسْلِمَةٌ، وَهُمَا
يَشْرَبَانِ الْخَمْرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَأَمَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ
حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ بِتَحْرِيقِ النَّصْرَانِيِّ، فَبَذَلَ فِي نَفْسِهِ
أَمْوَالًا جَزِيلَةً، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، وَأُحْرِقَ بِسُوقِ الْخَيْلِ،
وَعَمِلَ الشِّهَابُ مَحْمُودٌ فِي ذَلِكَ أَبْيَاتًا فِي قَصِيدَةٍ مَلِيحَةٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخَطِيبُ الْإِمَامُ قُطْبُ الدِّينِ أَبُو الزَّكَاءِ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ
يَحْيَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
الْقُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ
خَطِيبُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنَ الصُّلَحَاءِ
الْكِبَارِ، مَجْمُوعًا عَنِ النَّاسِ، حَسَنَ الْهَيْئَةِ مَهِيبًا، عَزِيزَ
النَّفْسِ يُفْتِي النَّاسَ، وَيَذْكُرُ التَّفْسِيرَ مِنْ حِفْظِهِ فِي
الْمِحْرَابِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَكَانَ مِنَ
الْأَخْيَارِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ
الثُّلَاثَاءِ سَابِعِ رَمَضَانَ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مِعْضَادِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ
مَاجِدٍ الْجَعْبَرِيُّ،
تَقِيُّ
الدِّينِ أَبُو إِسْحَاقَ
أَصْلُهُ مِنْ قَلْعَةِ جَعْبَرَ، ثُمَّ أَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ، فَكَانَ يَعِظُ
النَّاسَ، وَكَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِكَلَامِهِ كَثِيرًا، تُوُفِّيَ
بِالْقَاهِرَةِ يَوْمَ السَّبْتِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ،
وَدُفِنَ فِي تُرْبَتِهِ بِالْحُسَيْنِيَّةِ، وَلَهُ نَظْمٌ حَسَنٌ، وَكَانَ مِنَ
الصُّلَحَاءِ الْمَشْهُورِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ يَاسِينُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِئُ الْحَجَّامُ
شَيْخُ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَاوِيِّ، وَقَدْ حَجَّ عِشْرِينَ
حَجَّةً، وَكَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ.
الْخُونْدَهُ غَازِيَةُ خَاتُونَ بِنْتُ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ
زَوْجَةُ الْمَلِكِ السَّعِيدِ
الْحَكِيمُ الرَّئِيسُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْحَزْمِ بْنِ
نَفِيسٍ
شَرَحَ " الْقَانُونَ " لِابْنِ سِينَا، وَصَنَّفَ " الْمُوجَزَ
" وَغَيْرَهُ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَكَانَ يَكْتُبُ مِنْ حِفْظِهِ، وَكَانَ
اشْتِغَالُهُ عَلَى ابْنِ الدَّخْوَارِيِّ، وَتُوُفِّيَ بِمِصْرَ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ.
الشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ جَمَالِ
الدِّينِ بْنِ مَالِكٍ النَّحْوِيُّ
شَارِحُ " الْأَلْفِيَّةِ " الَّتِي عَمِلَهَا أَبُوهُ، وَهُوَ مِنْ
أَحْسَنِ الشُّرُوحِ وَأَكْثَرِهَا فَوَائِدَ، وَكَانَ لَطِيفًا ظَرِيفًا
فَاضِلًا، تُوُفِّيَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ الثَّامِنِ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ
مِنَ الْغَدِ بِبَابِ الصَّغِيرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ فَتْحُ مَدِينَةِ طَرَابُلُسَ، وَذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ
قَلَاوُونَ قَدِمَ بِالْجُيُوشِ الْمَنْصُورَةِ الْمِصْرِيَّةِ فِي صُحْبَتِهِ
إِلَى دِمَشْقَ فَدَخَلَهَا فِي الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ، ثُمَّ صَارَ
بِهِمْ وَبِجَيْشِ دِمَشْقَ وَصُحْبَتُهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُطَّوِّعَةِ;
مِنْهُمُ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ الْحَنْبَلِيُّ قَاضِي الْحَنَابِلَةِ،
وَخَلْقٌ مِنَ الْمَقَادِسَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَنَازَلَ طَرَابُلُسَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ مُسْتَهَلَّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَحَاصَرَهَا بِالْمَجَانِيقِ
حِصَارًا شَدِيدًا، وَضَيَّقُوا عَلَى أَهْلِهَا تَضْيِيقًا عَظِيمًا، وَنَصَبَ
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ مَنْجَنِيقًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ
رَابِعِ رَبِيعٍ الْآخِرِ فُتِحَتْ طَرَابُلُسُ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ
النَّهَارِ عَنْوَةً، وَشَمَلَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ جَمِيعَ مَنْ فِيهَا،
وَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْمِينَاءِ وَنُهِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَسُبِيَتِ
النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ، وَأُخِذَتِ الذَّخَائِرُ وَالْحَوَاصِلُ، وَقَدْ كَانَ
لَهَا فِي أَيْدِي الْفِرِنْجِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إِلَى هَذَا
التَّارِيخِ، كَانَ الْمَلِكُ صَنْجِيلُ الْفِرِنْجِ حَاصَرَهَا سَبْعَ سِنِينَ
حَتَّى ظَفِرَ بِهَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فِي أَيْدِي
الْمُسْلِمِينَ
مِنْ زَمَانِ مُعَاوِيَةَ، فَقَدْ فَتَحَهَا سُفْيَانُ بْنُ مُجِيبٍ
لِمُعَاوِيَةَ، فَأَسْكَنَهَا مُعَاوِيَةُ الْيَهُودَ، ثُمَّ كَانَ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ جَدَّدَ عِمَارَتَهَا، وَحَصَّنَهَا وَأَسْكَنَهَا
الْمُسْلِمِينَ، وَصَارَتْ آمِنَةً عَامِرَةً مُطَمْئِنَةً، وَبِهَا ثِمَارُ
الشَّامِ وَمِصْرَ، فَإِنَّ بِهَا الْجَوْزَ وَالْمَوْزَ وَالثَّلْجَ وَالْقَصَبَ،
وَالْمِيَاهُ جَارِيَةٌ فِيهَا تَصْعَدُ إِلَى أَمْكِنَةٍ عَالِيَةٍ، وَقَدْ
كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مُدُنٍ مُتَقَارِبَةٍ، ثُمَّ صَارَتْ بَلَدًا
وَاحِدًا، ثُمَّ حُوِّلَتْ مِنْ مَوْضِعِهَا كَمَا سَيَأْتِي الْآنَ. وَلَمَّا
وَصَلَتِ الْبِشَارَةُ إِلَى دِمَشْقَ دَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَزُيِّنَتِ
الْبِلَادُ، وَفَرِحَ النَّاسُ فَرَحًا شَدِيدًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
ثُمَّ أَمَرَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ أَنْ تُهْدَمَ
الْبَلَدُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَمَائِرِ وَالدُّورِ وَالْأَسْوَارِ الْحَصِينَةِ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُبْنَى عَلَى مَيْلٍ مِنْهَا بَلْدَةٌ
غَيْرُهَا أَمْكَنَ مِنْهَا وَأَحْسَنَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَهِيَ هَذِهِ
الْبَلْدَةُ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: طَرَابُلُسُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ
تَعَالَى دَارَ أَمَانٍ وَإِيمَانٍ.
وَلَمَّا فَرَغَ السُّلْطَانُ مِنْ فَتْحِ طَرَابُلُسَ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ
مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مَسْرُورًا مَحْبُورًا، فَدَخَلَهَا يَوْمَ النِّصْفِ مِنْ
جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ فَوَّضَ الْأُمُورَ وَالْكَلَامَ فِي
الْأَمْوَالِ إِلَى عَلَمِ الدِّينِ الشُّجَاعِيِّ، فَصَادَرَ جَمَاعَةً وَجَمَعَ
أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَحَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَذَى الْخَلْقِ، وَبِئْسَ هَذَا
الصَّنِيعُ; لِأَنَّ ذَلِكَ تَعْجِيلٌ لِدَمَارِ الظَّالِمِ وَهَلَاكِهِ، فَلَمْ
يُغْنِ عَنِ الْمَنْصُورِ مَا جَمَعَ لَهُ الشُّجَاعِيُّ مِنَ الْأَمْوَالِ
شَيْئًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَعِشْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا الْيَسِيرَ حَتَّى أَخَذَهُ
اللَّهُ، كَمَا سَيَأْتِي. ثُمَّ سَافَرَ السُّلْطَانُ فِي ثَانِي شَعْبَانَ
بِجَيْشِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَدَخَلَهَا فِي أَوَاخِرِ
شَعْبَانَ.
وَفِيهَا
فُتِحَتْ قِلَاعٌ كَثِيرَةٌ بِنَاحِيَةِ حَلَبَ; كَرْكَرُ وَتِلْكَ النَّوَاحِي،
وَكُسِرَتْ طَائِفَةٌ مِنَ التَّتَرِ هُنَاكَ، وَقُتِلَ مَلِكُهُمْ خَرْبَنْدَا
نَائِبُ التَّتَرِ عَلَى مَلَطْيَةَ.
وَفِيهَا تَوَلَّى الْحِسْبَةَ بِدِمَشْقَ جَمَالُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ
التَّقِيِّ تَوْبَةُ التَّكْرِيتِيُّ، ثُمَّ أَخَذَهَا بَعْدَ شُهُورٍ تَاجُ
الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ.
وَفِيهَا وُضِعَ مِنْبَرٌ عِنْدَ مِحْرَابِ الصَّحَابَةِ بِسَبَبِ عِمَارَةٍ
كَانَتْ فِي الْمَقْصُورَةِ، فَصَلَّى بُرْهَانُ الدِّينِ الْإِسْكَنْدَرِيُّ
نَائِبُ الْخَطِيبِ بِالنَّاسِ هُنَاكَ مُدَّةَ شَهْرٍ الْجَمَاعَاتِ
وَالْجُمُعَاتِ، ابْتَدَءُوا ذَلِكَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّانِي
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخَةُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ الرُّعَيْنِيِّ
زَوْجَةُ النَّجْمِ بْنِ إِسْرَائِيلَ، كَانَتْ مِنْ بَيْتِ الْفَقْرِ، لَهَا
سَلْطَنَةٌ وَإِقْدَامٌ وَتَرْجَمَةٌ وَكَلَامٌ فِي طَرِيقَةِ الْحَرِيرِيَّةِ
وَغَيْرِهِمْ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَدُفِنَتْ عِنْدَ الشَّيْخِ
رَسْلَانَ
الْعَلَمُ بْنُ الصَّاحِبِ الْمَاجِنِ، هُوَ الشَّيْخُ الْفَاضِلُ عَلَمُ الدِّينِ
أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شُكْرٍ
كَانَ مِنْ بَيْتِ عِلْمٍ وَرِيَاسَةٍ، وَقَدْ دَرَّسَ فِي بَعْضِ الْمَدَارِسِ،
وَكَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَرِيَاسَةٌ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَأَقْبَلَ
عَلَى الْحَرْفَشَةِ وَصُحْبَةِ الْحَرَافِيشِ وَالتَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي
اللِّبَاسِ وَالطَّرِيقَةِ، وَأَكْلِ الْحَشِيشِ
وَاسْتَعْمَلَ
مَا كَانَ مِنْ إِلْفِهِمْ فِي الْخَلَاعَةِ وَالْمُجُونِ وَالزَّوَائِدِ
الرَّائِقَةِ الْفَائِقَةِ الَّتِي لَا يُلْحَقُ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا، وَقَدْ
كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ فُضَلَاءُ يَنْهَوْنَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ
إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
وَلَمَّا وَلِيَ الْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ كَانَ ابْنُ خَالَتِهِ تَاجُ الدِّينِ
ابْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ مُسْتَقِلًّا فِي الْقَضَاءِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ
ابْنُ الصَّاحِبِ الْمَذْكُورُ: مَا مِتُّ حَتَّى رَأَيْتُكَ صَاحِبَ رَبْعٍ.
فَقَالَ لَهُ: تَسْكُتُ وَإِلَّا خَلَّيْتُهُمْ يَسْقُونَكَ السُّمَّ. فَقَالَ
لَهُ: فِي قِلَّةِ دِينِكَ تَفْعَلُ، وَفِي قِلَّةِ عُقُولِهِمْ يَسْمَعُوا
مِنْكَ.
وَقَالَ يَمْدَحُ الْحَشِيشَةَ الْخَسِيسَةَ:
فِي خُمَارِ الْحَشِيشِ مَعْنَى مَرَامِي يَا أُهَيْلَ الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ
حَرَّمُوهَا مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ وَنَقْلٍ
وَحَرَامٌ تَحْرِيمُ غَيْرِ الْحَرَامِ
وَلَهُ أَيْضًا:
يا نَفْسُ مِيلِي إِلَى التَّصَابِي فَاللَّهْوُ مِنْهُ الْفَتَى يَعِيشُ
وَلَا تَمَلِّي مِنْ سُكْرِ يَوْمٍ إِنْ أَعْوَزَ الْخَمْرُ فَالْحَشِيشُ
وَلَهُ أَيْضًا:
جَمَعْتُ بَيْنَ الْحَشِيشِ وَالْخَمْرِ فَرُحْتُ لَا أَهْتَدِي مِنَ السُّكْرِ
يَا مَنْ يُرِينِي لُبَابَ مَدْرَسَتِي يَرْبَحُ وَاللَّهُ غَايَةُ الْأَجْرِ
وَقَالَ
يَهْجُو الصَّاحِبَ بَهَاءَ الدِّينِ بْنَ الْحِنَّا:
اقْعُدْ بِهَا وَتَهَنَّا لَا بُدَّ أَنْ تَتَعَنَّى
تَكْتُبْ عَلَى ابْنِ مُحَمَّدْ مِنْ أَيْنَ لَكَ يَا بْنَ حِنَّا
فَاسْتَدْعَاهُ فَضَرَبَهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ إِلَى الْمَارَسْتَانِ، فَمَكَثَ
فِيهِ سَنَةً، ثُمَّ أُطْلِقَ.
شَمْسُ الدِّينِ الْأَصْبَهَانِيُّ شَارِحُ " الْمَحْصُولِ " مُحَمَّدُ
بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ السَّلْمَانِيُّ الْعَلَّامَةُ
قَدِمَ دِمَشْقَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَنَاظَرَ الْفُقَهَاءَ،
وَاشْتُهِرَتْ فَضَائِلُهُ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَشَرَحَ " الْمَحْصُولَ
" لِلرَّازِيِّ، وَصَنَّفَ الْقَوَاعِدَ فِي أَرْبَعَةِ فُنُونٍ ; أُصُولِ
الْفِقْهِ، وَأُصُولِ الدِّينِ، وَالْمَنْطِقِ، وَالْخِلَافِ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ
جَيِّدَةٌ بِالْمَنْطِقِ وَالنَّحْوِ وَالْأَدَبِ، وَقَدْ رَحَلَ إِلَى مِصْرَ،
فَدَرَّسَ بِمَشْهَدِ الْحُسَيْنِ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَرَحَلَ
إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ، تُوُفِّيَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ فِي الْقَاهِرَةِ
عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
الشَّمْسُ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَفِيفِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ التِّلْمِسَانِيُّ
الشَّاعِرُ الْمُطَبِّقُ، كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، فَتَأَلَّمَ
لَهُ وَوَجَدَ عَلَيْهِ وَجْدًا شَدِيدًا، وَرَثَاهُ بِأَشْعَارٍ كَثِيرَةٍ،
تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ
رَجَبٍ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ. فَمِنْ رَائِقِ
شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
وَإِنَّ ثَنَايَاهُ نُجُومٌ لِبدْرِهِ وَهُنَّ لِعِقْدِ الْحُسْنِ فِيهِ فَرَائِدُ
وَكَمْ يَتَجَافَى خَصْرُهُ وَهْوَ نَاحِلٌ وَكَمْ يَتَحَلَّى ثَغْرُهُ وَهُو
بَارِدُ
وَلَهُ يَذُمُّ الْحَشِيشَةَ:
مَا لِلْحَشِيشَةِ فَضْلٌ عِنْدَ آكِلِهَا لَكِنَّهَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ إِلَى
رَشَدِهْ
صَفْرَاءُ فِي وَجْهِهِ خَضْرَاءُ فِي فَمِهِ حَمْرَاءُ فِي عَيْنَهِ سَوْدَاءُ
فِي كَبِدِهِ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
بَدَا وَجْهُهُ مِنْ فَوْقِ ذَابِلِ قَدِّهِ وَقَدْ لَاحَ مِنْ سُودِ الذَّوَائِبِ
فِي جُنْحِ
فَقُلْتُ عَجِيبٌ كَيْفَ لَمْ يَذْهَبِ الدُّجَى وَقَدْ طَلَعَتْ شَمْسُ
النَّهَارِ عَلَى رُمْحِ
وَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ أَبْيَاتٍ:
مَا أَنْتَ عِنْدِي وَالْقَضِي بُ اللَّدْنُ فِي حَدٍّ سَوَا
هَذَاكَ حَرَّكَهُ الْهَوَا ءُ وَأَنْتَ حَرَّكْتَ الْهَوَى
الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ الْمَلِكِ الصَّالِحِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَادِلِ
تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ثَامِنَ عَشَرَ شَعْبَانَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ مِنْ يَوْمِهِ بِتُرْبَةِ جَدِّهِ، وَكَانَ نَاظِرَهَا،
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَهْلَهُ، وَكَانَ فِيهِ
لُطْفٌ وَتَوَاضُعٌ.
الشَّيْخُ
فَخْرُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُوسُفَ
الْبَعْلَبَكِّيُّ الْحَنْبَلِيُّ
شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ وَمَشْهَدِ ابْنِ عُرْوَةَ، وَشَيْخُ
الصَّدْرِيَّةِ، كَانَ يُفْتِي وَيُفِيدُ النَّاسَ مَعَ دِيَانَةٍ وَصَلَاحٍ
وَزَهَادَةٍ وَعِبَادَةٍ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَتُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ وَكَانَ الْخَلِيفَةُ
الْحَاكِمَ الْعَبَّاسِيَّ، وَنَائِبُ مِصْرَ حُسَامَ الدِّينِ طُرُنْطَايَ،
وَنَائِبُ الشَّامِ حُسَامَ الدِّينِ لَاجِينَ، وَقُضَاةُ الشَّامِ شِهَابَ
الدِّينِ بْنَ الْخَوِّييِّ الشَّافِعِيَّ، وَحُسَامَ الدِّينِ الْحَنَفِيَّ،
وَنَجْمَ الدِّينِ بْنَ شَيْخِ الْجَبَلِ الْحَنْبَلِيَّ، وَجَمَالَ الدِّينِ
الزَّوَاوِيَّ الْمَالِكِيَّ.
وَجَاءَ الْبَرِيدُ بِطَلَبِ شَمْسِ الدِّينِ سُنْقُرَ الْأَعْسَرِ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ وَقَوَّاهُ، وَشَدَّ
يَدَهُ، وَأَمَرَهُ بِاسْتِخْلَاصِ الْأَمْوَالِ، وَزَادَهُ شَدَّ الْجُيُوشِ،
وَالْكَلَامَ عَلَى الْحُصُونِ إِلَى الْبِيرَةِ وَكَخْتَا وَغَيْرِ ذَلِكَ،
فَقَوِيَتْ نَفْسُهُ وَزَادَ تَجَبُّرُهُ، وَلَكِنْ كَانَ يَرْجِعُ إِلَى مُرُوءَةٍ
وَسَتْرٍ، وَيَنْفَعُ مَنْ يَنْتَمِي إِلَيْهِ، وَذَلِكَ مَوَدَّةٌ فِي الدُّنْيَا
فِي أَيَّامٍ قَلَائِلَ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ جَاءَ الْبَرِيدُ بِالْكَشْفِ عَلَى نَاصِرِ الدِّينِ
بْنِ الْمَقْدِسِيِّ وَكَيْلِ بَيْتِ الْمَالِ وَنَاظِرِ الْخَاصِّ وَالْأَوْقَافِ،
فَظَهَرَتْ عَلَيْهِ مَخَازٍ مِنْ أَكَلِ الْأَوْقَافِ وَغَيْرِهَا، فَرُسِمَ
عَلَيْهِ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ، وَطُولِبَ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ، وَضُيِّقَ
عَلَيْهِ،
وَعَمِلَ
فِيهِ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّامَرِّيُّ قَصِيدَةً يَتَشَفَّى
فِيهَا لِمَا كَانَ أَسَدَى إِلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْإِيذَاءِ، مَعَ أَنَّهُ
رَاحَ إِلَيْهِ، وَتَغَمَّمَ لَهُ وَتَمَازَحَا هُنَالِكَ، ثُمَّ جَاءَ الْبَرِيدُ
بِطَلَبِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَخَافَ النُّوَّابُ مِنْ ذَهَابِهِ
إِلَيْهَا وَفُضُولِهِ وَشَرِّهِ، فَأَصْبَحَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَالِثَ
شَعْبَانَ وَهُوَ مَشْنُوقٌ بِالْمَدْرَسَةِ الْعَذْرَاوِيَّةِ، فَطُلِبَتِ
الْقُضَاةُ وَالشُّهُودُ، فَشَاهَدُوهُ كَذَلِكَ، ثُمَّ جُهِّزَ وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ عِنْدَ أَبِيهِ،
وَكَانَ مُدَرِّسًا بالرَّوَاحِيَّةِ وَتُرْبَةِ أُمِّ الصَّالِحِ مَعَ
الْوِكَالَتَيْنِ وَالنَّظَرِ.
وَجَاءَ الْبَرِيدُ بِعَمَلِ مَجَانِيقَ لِحِصَارِ عَكَّا، فَرَكِبَ الْأَعْسَرُ
إِلَى أَرَاضِي بَعْلَبَكَّ لِمَا هُنَالِكَ مِنَ الْأَخْشَابِ الْعَظِيمَةِ
الَّتِي لَا يُوجَدُ مِثْلُهَا بِدِمَشْقَ، وَهِيَ تَصْلُحُ لِذَلِكَ، فَكَثُرَتِ
الْجِنَايَاتُ وَالْجِبَايَاتُ وَالسُّخْرُ، وَكَلَّفُوا النَّاسَ تَكْلِيفًا
كَثِيرًا، وَأَخَذُوا أَخْشَابَ النَّاسِ، وَحُمِلَتْ إِلَى دِمَشْقَ بِكُلْفَةٍ
عَظِيمَةٍ وَشِدَّةٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفَاةُ الْمَلَكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ
بَيْنَمَا النَّاسُ فِي هَذَا الْهَمِّ وَالْمُصَادَرَاتِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ إِذْ
وَرَدَتْ بَرِيدِيَّةٌ، فَأُخْبِرُوا بِوَفَاةِ الْمَلَكِ الْمَنْصُورِ يَوْمَ
السَّبْتِ سَادِسِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، بِالْمُخَيَّمِ ظَاهِرَ
الْقَاهِرَةِ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى قَلْعَةِ الْجَبَلِ لَيْلًا، وَجَلَسَ بَعْدَهُ
وَلَدُهُ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ خَلِيلٌ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ لَهُ، وَحَلَفَ
لَهُ جَمِيعُ الْأُمَرَاءِ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَرَكِبَ فِي
أُبَّهَةِ الْمَلِكِ، وَالْعَسْكَرُ كُلُّهُمْ فِي خِدْمَتِهِ مُشَاةً مِنْ
قَلْعَةِ الْجَبَلِ إِلَى الْمَيْدَانِ الْأَسْوَدِ الَّذِي هُوَ سُوقُ الْخَيْلِ،
وَعَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْمُقْدِمِينَ الْخِلَعُ وَعَلَى الْقُضَاةِ
وَالْأَعْيَانِ، وَلَمَّا جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ حَلَفَ
لَهُ
الْأُمَرَاءُ بِالشَّامِ، وَقَبَضَ عَلَى حُسَامِ الدِّينِ طُرُنْطَايِ نَائِبِ
أَبِيهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا، فَأَنْفَقَ مِنْهَا عَلَى
الْعَسْكَرِ.
وَفِيهَا وَلِيَ خَطَابَةَ دِمَشْقَ زَيْنُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ مَكِّيِّ بْنِ
الْمُرَحِّلِ عِوَضًا عَنْ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ الْكَافِي، وَكَانَ
ذَلِكَ بِمُسَاعَدَةِ الْأَعْسَرِ، وَتَوَلَّى نَظَرَ الْجَامِعِ الرَّئِيسُ
وَجِيهُ الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّا الْحَنْبَلِيُّ، عِوَضًا عَنْ نَاصِرِ الدِّينِ
بْنِ الْمَقْدِسِيِّ، وَثَمَّرَ وَقَفَهُ وَعَمَّرَهُ، وَزَادَ مِائَةً
وَخَمْسِينَ أَلْفًا.
وَفِيهَا احْتَرَقَتْ دَارُ صَاحِبِ حَمَاةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَقَعَ فِيهَا
نَارٌ فِي غَيْبَتِهِ، فَلَمْ يَتَجَاسَرْ أَحَدٌ يَدْخُلُهَا، فَعَمِلَتِ
النَّارُ فِيهَا يَوْمَيْنِ، فَاحْتَرَقَتْ وَاحْتَرَقَ كُلُّ مَا فِيهَا.
وَفِي شَوَّالٍ دَرَّسَ بِتُرْبَةِ أُمِّ الصَّالِحِ بَعْدَ ابْنِ الْمَقْدِسِيِّ
الْقَاضِي إِمَامُ الدِّينِ الْقُونَوِيُّ.
وَفِيهَا بَاشَرَ الشَّرَفُ حَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ
قَضَاءَ الْحَنَابِلَةِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ عَمِّهِ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ شَيْخِ
الْجَبَلِ، عَنْ مَرْسُومِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَبْلَ وَفَاتِهِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الشَّامِ الْأَمِيرُ بَدْرُ
الدِّينِ بَكْتُوتُ الزُّوبَاسِيُّ، وَحَجَّ قَاضِي الْقُضَاةِ شِهَابُ الدِّينِ
بْنُ الْخُوَيِّيِّ، وَشَمْسُ الدِّينِ بْنُ السَّلْعُوسِ، وَمُقَدَّمُ الرَّكْبِ
الْأَمِيرُ عُتْبَةُ، فَتَوَهَّمَ مِنْهُ أَبُو نُمَيٍّ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا
عَدَاوَةٌ، فَأَغْلَقَ أَبْوَابَ مَكَّةَ، وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْ دُخُولِهَا،
فَأُحْرِقَ الْبَابُ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ، وَنُهِبَتْ بَعْضُ الْأَمَاكِنِ،
وَجَرَتْ خُطُوبٌ فَظِيعَةٌ، ثُمَّ أَرْسَلُوا الْقَاضِيَ ابْنَ
الْخُوَيِّيِّ
لِيُصْلِحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَ أَبِي نُمَيٍّ
رَحِيلُ الرُّكُوبِ وَبَقِيَ هُوَ فِي الْحَرَمِ وَحْدَهُ، أَرْسَلَ مَعَهُ أَبُو
نُمَيٍّ مَنْ أَلْحَقَهُ بِهِمْ سَالِمًا مُعَظَّمًا. وَجَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ
الْمَنْصُورِ إِلَى النَّاسِ وَهُمْ بِعَرَفَاتٍ، وَهَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ، وَجَاءَ
كِتَابٌ يَسْتَحِثُّ الْوَزِيرَ ابْنَ السَّلْعُوسِ فِي الْمَسِيرِ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَبَيْنَ الْأَسْطُرِ بِخَطِّ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ:
يَا شُقَيْرُ، يَا وَجْهَ الْخَيْرِ، احْضُرْ لِتَتَسَلَّمَ الْوِزَارَةَ. فَسَاقَ
إِلَى الْقَاهِرَةِ، فَوَصَلَهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ،
فَتَسَلَّمَ الْوِزَارَةَ كَمَا قَالَ السُّلْطَانُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّرْكِيُّ
الصَّالِحِيُّ الْأَلْفِيُّ
اشْتَرَاهُ الْمَلِكُ الصَّالِحُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ بْنُ الْمَلِكِ
الْكَامِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ بِأَلْفِ
دِينَارٍ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ عِنْدَهُ وَبَعْدَهُ، وَلَمَّا
تَزَوَّجَ الْمَلِكُ السَّعِيدُ بْنُ الظَّاهِرِ بِابْنَتِهِ غَازِيَةَ خَاتُونَ،
عَظُمَ شَأْنُهُ جِدًّا عِنْدَ الظَّاهِرِ، وَمَا زَالَ يَرْتَفِعُ فِي
الدَّوْلَةِ حَتَّى صَارَ أَتَابِكَ سَلَامُشَ بْنِ الظَّاهِرِ، ثُمَّ رَفَعَهُ
مِنَ الْبَيْنِ وَاسْتَقَلَّ بِالْمُلْكِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ،
وَكَسَرَ التَّتَارَ عَلَى حِمْصَ فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ، فَأَحَبَّهُ النَّاسُ،
وَفَتَحَ الْمَرْقَبَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، وَفَتَحَ طَرَابُلُسَ
سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، وَعَزَمَ عَلَى فَتْحِ عَكَّا وَبَرَزَ لَهَا،
فَعَالَجَتْهُ الْمَنِيَّةُ فِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ،
وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِمَدْرَسَتِهِ الْهَائِلَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بَيْنَ
الْقَصْرَيْنِ
الَّتِي لَيْسَ بِدِيَارِ مِصْرَ وَلَا بِالشَّامِ مِثْلُهَا، وَفِيهَا دَارُ
حَدِيثٍ وَمَارَسْتَانُ، وَعَلَيْهَا أَوْقَافٌ دَارَّةٌ كَثِيرَةٌ عَظِيمَةٌ،
مَاتَ عَنْ قَرِيبٍ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ مَهِيبًا، عَلَيْهِ أُبَّهَةُ
السَّلْطَنَةِ وَمَهَابَةُ الْمُلْكِ، تَامَّ الْقَامَةِ، حَسَنَ اللِّحْيَةِ،
عَالِيَ الْهِمَّةِ، شُجَاعًا وَقُورًا، سَامَحَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ طُرُنْطَايُ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْمَنْصُورِيَّةِ بِمِصْرَ، أَخْذَهُ الْأَشْرَفُ
فَسَجَنَهُ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ ثُمَّ قَتَلَهُ، وَبَقِيَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ
لَا يُدْرَى بِهِ، ثُمَّ لُفَّ فِي حَصِيرٍ وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ، وَحَنَّ
عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ، فَكُفِّنَ كَآحَادِ الْفُقَرَاءِ بَعْدَ النَّعِيمِ
الْكَثِيرِ، وَالدُّنْيَا الْمُتَّسِعَةِ، وَالْكَلِمَةِ النَّافِذَةِ، وَقَدْ
أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ حَوَاصِلِهِ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَسَبْعِينَ
قِنْطَارًا بِالْمِصْرِيِّ فِضَّةً، وَمِنَ الْجَوَاهِرِ شَيْئًا كَثِيرًا، سِوَى
الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْجِمَالِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْبُسُطِ الْجِيَادِ،
وَالْأَسْلِحَةِ الْمُثَمَّنَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحَوَاصِلِ
وَالْأَمْلَاكِ بِمِصْرَ وَالشَّامِ، وَتَركَ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا أَعْمَى،
وَقَدْ دَخَلَ هَذَا الْأَعْمَى عَلَى الْأَشْرَفِ، فَوَضَعَ الْمِنْدِيلَ عَلَى
وَجْهِهِ وَقَالَ: شَيْءٌ لِلَّهِ. وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ لَهُمْ أَيَّامًا لَا
يَجِدُونَ شَيْئًا يَأْكُلُونَهُ، فَرَقَّ لَهُ وَأَطْلَقَ لَهُمُ الْأَمْلَاكَ
يَأْكُلُونَ مِنْ رِيعِهَا، فَسُبْحَانَ اللَّهِ الْمُتَصَرِّفِ فِي خَلْقِهِ
بِمَا يَشَاءُ، يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ رَشِيدُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ مَسْعُودٍ الْفَارِقِيُّ الشَّافِعِيُّ
مُدَرِّسُ الظَّاهِرِيَّةِ، تُوُفِّيَ بِهَا وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ، وُجِدَ
مَخْنُوقًا فِي
الْمُحَرَّمِ،
وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ مُنْفَرِدًا فِي
فُنُونٍ مِنَ الْعُلُومِ كَثِيرَةٍ ; مِنْهَا النَّحْوُ وَالْأَدَبُ وَحَلُّ
الْمُتَرْجَمِ وَالْكِتَابَةُ وَالْإِنْشَاءُ وَعِلْمُ الْفَلَكِ وَالنُّجُومِ
وَضَرْبُ الرَّمْلِ وَالْحِسَابُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَهُ نَظْمٌ حَسَنٌ.
الْخَطِيبُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْكَافِي بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ الْكَافِي الرَّبَعِيُّ
تُوُفِّيَ بِدَارِ الْخَطَابَةِ، وَحَضَرَ النَّاسُ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ يَوْمَ
السَّبْتِ سَلْخَ جُمَادَى الْأُولَى، وَحُمِلَ إِلَى السَّفْحِ، فَدُفِنَ إِلَى
جَانِبِ الشَّيْخِ يُوسُفَ الْفُقَاعِيِّ.
فَخْرُ الدِّينِ أَبُو الطَّاهِرِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِزِّ الْقُضَاةِ أَبِي
الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي الْيُمْنِ
الشَّيْخُ الزَّاهِدُ الْمُتَقَلِّلُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، تُوُفِّيَ فِي
الْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ، وَدُفِنَ
بِتُرْبَةِ بَنِي الزَّكِيِّ بِقَاسِيُونَ، مَحَبَّةً فِي مُحْيِي الدِّينِ بْنِ
عَرَبِيٍّ ; فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ مِنْ كَلَامِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَرَقَتَيْنِ،
وَمِنَ الْحَدِيثِ وَرَقَتَيْنِ، وَكَانَ مَعَ هَذَا يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِ،
وَكَانَ يُصَلِّي مَعَ الْأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ بِالْجَامِعِ، وَقَدْ أَخْبَرَ
عَنْهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ رَأَى بِخَطِّهِ:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَيْنُهُ
وَقَدْ صَحَّحَ عَلَى " عَيْنُهُ "، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ الْمَرْوِيُّ
عَمَّنْ أَنْشَدَ هَذَا الشِّعْرَ أَوَّلًا:
تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
وَلَهُ
شِعْرٌ فَمِنْهُ:
وَالنَّهْرُ قَدْ جُنَّ بِالْغُصُونِ هَوًى فَرَاحَ فِي قَلْبِهِ يُمَثِّلُهَا
فَغَارَ مِنْهُ النَّسِيمُ عَاشِقُهَا فَجَاءَ عَنْ وَصْلِهِ يُمَيِّلُهَا
وَلَهُ أَيْضًا:
لَمَّا تَحَقَّقَ بِالْإِمْكَانِ فَوْقَكُمُ وَقَدْ بَدَا حُكْمُهُ فِي عَالَمِ
الصُّوَرِ
تَمَيَّزَ الْجَمْعُ عَنْهُ وَهُوَ مُتَّحِدٌ
فَلَاحَ فَوْقَكُمُ فِي عَالَمِ الصُّوَرِ
وَلَهُ:
لِي سَادَةٌ لَا أَرَى سِوَاهُمُ هُمْ عَيْنُ مَعْنَايَ عَيْنُ جَوْفِي
لَقَدْ أَحَاطُوا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنِّي وَعَزَّوا عَنْ دَرْكِ طَرْفِي
هُمْ نَظَرُوا فِي عُمُومِ فَقْرِي وَطُولِ ذُلِّي وَفَرْطِ ضَعْفِي
فَعَامَلُونِي بِبَحْتِ جُودٍ وَصَرْفِ بِرٍّ وَمَحْضِ لُطْفِ
فَلَا تَلُمْ إِنْ جَرَرْتُ ذَيْلِي فَخْرًا بِهِمْ أَوْ ثَنَيْتُ عِطْفِي
وَلَهُ:
مَوَاهِبُ ذِي الْجَلَالِ لَدَيَّ تَتْرَى فَقَدْ أَخْرَسْنَنِي وَنَطَقْنَ
شُكْرَا
فَنُعْمَى
إِثْرَ نُعْمَى إِثْرَ نُعْمَى وَبُشْرَى بَعْدَ بُشْرَى بَعْدَ بُشْرَى
لَهَا بَدْءٌ وَلَيْسَ لَهَا انْتِهَاءٌ يَعُمُّ مَزِيدُهَا دُنْيَا وَأُخْرَى
الْحَاجُّ طَيْبَرْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَلَاءُ الدِّينِ الْوَزِيرِيُّ
صِهْرُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ ذَوِي الْحَلِّ
وَالْعَقْدِ، وَكَانَ دَيِّنًا كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ، لَهُ خَانٌ بِدِمَشْقَ
أَوْقَفَهُ، وَلَهُ فِي فِكَاكِ الْأَسْرَى وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَوْصَى عِنْدَ
مَوْتِهِ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ تُصْرَفُ عَلَى الْجُنْدِ بِالشَّامِ وَمِصْرَ،
فَحَصَلَ لِكُلِّ جُنْدِيٍّ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ،
وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِسَفْحِ الْمُقَطَّمِ.
قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الشَّيْخِ
شَمْسِ الدِّينِ بْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَقْدِسِيُّ
تُوُفِّيَ ثَانِي عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ
كَثِيرٌ وَنَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ، وَلَهُ أَرْبَعُونَ
سَنَةً سَوَاءً، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا خَطِيبًا مُدَرِّسًا، دَرَّسَ
بِأَكْثَرِ الْمَدَارِسِ، وَهُوَ شَيْخُ الْحَنَابِلَةِ وَابْنُ شَيْخِهِمْ،
وَتَوَلَّى بَعْدَهُ الْقَضَاءَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ حَسَنُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي عُمَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا فُتِحَتْ عَكَّا وَبَقِيَّةُ السَّوَاحِلِ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِي
الْفِرِنْجِ مِنْ مُدَدٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِيهَا حَجَرٌ
وَاحِدٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو
الْعَبَّاسِ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ
خَلِيلُ بْنُ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَنَائِبُهُ بِمِصْرَ وَأَعْمَالِهَا
بَدْرُ الدِّينِ بَيْدَرَا، وَوَزِيرُهُ ابْنُ السَّلْعُوسِ الصَّاحِبُ شَمْسُ
الدِّينِ، وَنَائِبُهُ بِالشَّامِ حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ السِّلَحْدَارُ
الْمَنْصُورِيُّ، وَقُضَاةُ الشَّامِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
وَصَاحِبُ الْيَمَنِ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ شَمْسُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ
الْمَنْصُورِ نُورِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَسُولٍ، وَصَاحِبُ مَكَّةَ
نَجْمُ الدِّينِ أَبُو نُمَيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
قَتَادَةَ الْحَسَنِيُّ، وَصَاحِبُ الْمَدِينَةِ عِزُّ الدِّينِ جَمَّازُ بْنُ
شِيحَةَ الْحُسَيْنِيُّ، وَصَاحِبُ الرُّومِ غِيَاثُ الدِّينِ كَيْخُسرُو بْنُ
رُكْنِ الدِّينِ قِلِيجَ أَرْسِلَانَ السَّلْجُوقِيُّ، وَصَاحِبُ حَمَاةَ
الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ تَقِيُّ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ تَقِيِّ الدِّينِ
مُحَمَّدٍ، وَسُلْطَانُ بِلَادِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَتِلْكَ
النَّوَاحِي
أَرْغُوَنَ بْنُ أَبْغَا بْنِ هُولَاكُوَ بْنِ تُولَى بْنِ جِنْكِزْخَانَ.
وَكَانَ أَوَّلَ هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَفِيهِ تُصُدِّقَ عَنِ
الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ، وَأُنْزِلَ السُّلْطَانُ إِلَى تُرْبَتِهِ فِي لَيْلَةِ
الْجُمُعَةِ، فَدُفِنَ بِهَا تَحْتَ الْقُبَّةِ، وَنَزَلَ فِي قَبْرِهِ بَدْرُ
الدِّينِ بَيْدَرَا وَعَلَمُ الدِّينِ الشُّجَاعِيُّ، وَفُرِّقَتْ صَدَقَاتٌ
كَثِيرَةٌ حِينَئِذٍ، وَلَمَّا قَدِمَ الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ
السَّلْعُوسِ مِنَ الْحِجَازِ خُلِعَ عَلَيْهِ لِلْوِزَارَةِ، وَكَتَبَ تَقْلِيدَهُ
بِهَا الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الظَّاهِرِ كَاتِبُ الْإِنْشَا
بِيَدِهِ، وَرَكِبَ الْوَزِيرُ فِي أُبَّهَةِ الْوِزَارَةِ إِلَى دَارِهِ
وَحَكَمَ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ قُبِضَ عَلَى شَمْسِ الدِّينِ سُنْقُرَ
الْأَشْقَرِ وَسَيْفِ الدِّينِ جُرْمَكَ النَّاصِرِيُّ، وَأُفْرِجَ عَنِ
الْأَمِيرِ زَيْنِ الدِّينِ كَتُبْغَا، وَكَانَ قَدْ قُبِضَ عَلَيْهِ مَعَ
طُرُنْطَايَ، وَرُدَّ عَلَيْهِ إِقْطَاعُهُ، وَأُعِيدَ التَّقِيُّ تَوْبَةُ إِلَى
وِزَارَةِ دِمَشْقَ مَرَّةً أُخْرَى.
وَفِيهَا أَثْبَتَ ابْنُ الْخُوَيِّيِّ مَحْضَرًا يَتَضَمَّنُ أَنْ يَكُونَ
تَدْرِيسُ النَّاصِرِيَّةِ لِلْقَاضِي الشَّافِعِيِّ، وَانْتَزَعَهَا مِنْ زَيْنِ
الدِّينِ الْفَارِقِيِّ.
ذِكْرُ فَتْحِ عَكَّا وَبَقِيَّةِ السَّوَاحِلِ
وَفِيهَا جَاءَ الْبَرِيدُ إِلَى دِمَشْقَ فِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
لِتَجْهِيزِ آلَاتِ الْحِصَارِ
لَعَكَّا، وَنُودِيَ فِي دِمَشْقَ: الْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى عَكَّا. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ عَكَّا فِي هَذَا الْحِينِ عَدَوْا عَلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأُبْرِزَتِ الْمَجَانِيقُ إِلَى نَاحِيَةِ الْجَسُورَةِ، وَخَرَجَتِ الْعَامَّةُ وَالْمُطَّوِّعَةُ يَجُرُّونَ فِي الْعَجَلِ، حَتَّى الْفُقَهَاءُ وَالْمُدَرِّسُونَ وَالصُّلَحَاءُ، وَتَوَلَّى سِيَاقَتَهَا الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ الدَّوَادَارِيُّ، وَخَرَجَتِ الْعَسَاكِرُ بَيْنَ يَدَيْ نَائِبِ الشَّامِ، وَخَرَجَ هُوَ فِي آخِرِهِمْ، وَلَحِقَهُ صَاحِبُ حَمَاةَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ، وَخَرَجَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ، وَاتَّصَلَ بِهِمْ عَسْكَرُ طَرَابُلُسَ، وَرَكِبَ الْأَشْرَفُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِعَسَاكِرِهِ قَاصِدًا عَكَّا، فَتَوَافَتِ الْجُيُوشُ هُنَالِكَ، فَنَازَلَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ رَابِعِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَنُصِبَتْ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ يُمْكِنُ نَصْبُهَا عَلَيْهَا، وَاجْتَهَدُوا غَايَةَ الِاجْتِهَادِ فِي مُحَارَبَتِهَا وَالتَّضْيِيقِ عَلَى أَهْلِهَا، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ بِالْجَامِعِ لِقِرَاءَةِ " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، فَقَرَأَهُ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ، وَحَضَرَ الْقُضَاةُ وَالْفُضَلَاءُ وَالْأَعْيَانُ، وَفِي أَثْنَاءِ مُحَاصَرَةِ عَكَّا وَقْعَ تَخْبِيطٌ مِنْ نَائِبِ الشَّامِ حُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ، فَتَوَهَّمَ أَنَّ السُّلْطَانَ يُرِيدُ مَسَكَهُ، وَكَانَ قَدْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ الْأَمِيرُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أَبُو خُرْصٍ. فَرَكِبَ هَارِبًا فَرَدَّهُ عَلَمُ الدِّينِ الدَّوَادَارِيُّ بِالْمَسَابَهِ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ، فَطَيَّبَ قَلْبَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَبَعَثَهُ إِلَى قَلْعَةِ صَفَدَ، وَاحْتَاطَ عَلَى حَوَاصِلِهِ، وَرَسَمَ عَلَى أُسْتَدَارِهِ بَدْرِ الدِّينِ بَكَدَاشَ، وَجَرَى مَا لَا يَلِيقُ وُقُوعُهُ هُنَالِكَ، إِذِ الْوَقْتُ وَقْتُ عُسْرٍ وَضِيقٍ وَحِصَارٍ، وَصَمَّمَ السُّلْطَانُ عَلَى الْحِصَارِ، فَرَتَّبَ الْكُوسَاتِ ثَلَاثَمِائَةِ حِمْلٍ، ثُمَّ زَحَفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَابِعَ عَشَرَ
جُمَادَى
الْأُولَى، وَدُقَّتِ الْكُوسَاتُ جُمْلَةً وَاحِدَةً عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ،
وَطَلَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْأَسْوَارِ مَعَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَنُصِبَتِ
السَّنَاجِقُ الْإِسْلَامِيَّةُ فَوْقَ أَسْوَارِ الْبَلَدِ، فَوَلَّتِ
الْفِرِنْجُ عِنْدَ ذَلِكَ الْأَدْبَارَ، وَرَكِبُوا هَارِبِينَ فِي مَرَاكِبِ
التُّجَّارِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ عَدَدٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى،
وَغَنِمُوا مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالرَّقِيقِ وَالْبَضَائِعِ شَيْئًا كَثِيرًا
جِدًّا، وَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِهَدْمِهَا وَتَخْرِيبِهَا، بِحَيْثُ لَا
يُنْتَفَعُ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَيَسَّرَ اللَّهُ فَتَحَهَا نَهَارَ جُمُعَةٍ،
كَمَا أَخَذَتْهَا الْفِرِنْجُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ،
وَسَلَّمَتْ صُورُ وَصِيدَا قِيَادَهُمَا إِلَى الْأَشْرَفِ، فَاسْتَوْثَقَ
السَّاحِلُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَتَنَظَّفَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقُطِعَ دَابِرُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَجَاءَتِ الْبِطَاقَةُ إِلَى دِمَشْقَ بِذَلِكَ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ،
وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ فِي جَمِيعِ الْحُصُونِ، وَزُيَّنَتِ الْبِلَادُ
لِيَتَنَزَّهَ فِيهَا النَّاظِرُونَ وَالْمُتَفَرِّجُونَ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ
إِلَى صُورَ أَمِيرًا، فَهَدَمَ أَسْوَارَهَا، وَعَفَا آثَارَهَا، وَقَدْ كَانَ
لَهَا فِي أَيْدِي الْفِرِنْجِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَأَمَّا عَكَّا فَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ يُوسُفُ بْنُ أَيُّوبَ
أَخَذَهَا مِنْ أَيْدِي الْفِرِنْجِ، ثُمَّ إِنَّ الْفِرِنْجَ جَاءُوا فَأَحَاطُوا
بِهَا بِجُيُوشٍ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ جَاءَ صَلَاحُ الدِّينِ لِيُمَانِعَهُمْ عَنْهَا
مُدَّةَ سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، ثُمَّ فِي آخِرِ ذَلِكَ اسْتَمْلَكُوهَا،
وَقَتَلُوا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ الْأَشْرَفَ خَلِيلَ بْنَ الْمَنْصُورِ
قَلَاوُونَ سَارَ مِنْ عَكَّا قَاصِدًا دِمَشْقَ فِي أُبَّهَةِ الْمُلْكِ
وَحُرْمَةٍ وَافِرَةٍ، وَفِي صُحْبَتِهِ وَزِيرِهِ ابْنُ السَّلْعُوسِ
وَالْجُيُوشُ الْمَنْصُورَةُ، وَفِي هَذَا الْيَوْمِ اسْتَنَابَ بِالشَّامِ
الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ الشُّجَاعِيُّ، وَسَكَنَ بِدَارِ
السَّعَادَةِ، وَزِيدَ فِي إِقْطَاعِهِ حَرَسْتَا، وَلَمْ تُقْطَعْ لِغَيْرِهِ،
وَإِنَّمَا كَانَتْ
لِمَصَالِحِ
حَوَاصِلِ الْقَلْعَةِ، وَجُعِلَ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثُمِائَةٍ عَلَى
دَارِ الطُّعْمِ، وَفُوِّضَ إِلَيْهِ أَنْ يُطْلِقَ مِنَ الْخِزَانَةِ مَا يُرِيدُ
مِنْ غَيْرِ مُشَاوِرَةٍ وَلَا مُرَاجَعَةٍ، وَأَرْسَلَهُ السُّلْطَانُ إِلَى
صَيْدَا; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ بَقِيَ بِهَا بُرْجٌ عَاصٍ، فَفَتَحَهُ وَدَقَّتِ
الْبَشَائِرُ بِسَبَبِهِ، ثُمَّ عَادَ سَرِيعًا إِلَى السُّلْطَانِ فَوَدَّعَهُ،
وَسَارَ السُّلْطَانُ نَحْوَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ،
وَبَعَثَهُ إِلَى بَيْرُوتَ لِيَفْتَحَهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا فَفَتَحَهَا فِي
أَقْرَبِ وَقْتٍ، وَسُلِّمَتْ عَثْلِيتُ وَأَنْطَرْطُوسُ وَجُبَيْلٌ. وَلَمْ
يَبْقَ بِالسَّوَاحِلِ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - مَعْقِلٌ لِلْفِرِنْجِ إِلَّا
بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَرَاحَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ،
وَدَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى الْقَاهِرَةِ فِي تَاسِعِ شَعْبَانَ فِي أُبَّهَةٍ
عَظِيمَةٍ جِدًّا، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَأَفْرَجَ عَنْ بَدْرِ الدِّينِ
بَيْسَرِي بَعْدَ سِجْنٍ تِسْعَ سِنِينَ، وَرَدَّ عَلَيْهِ إِقْطَاعَهُ، وَرَجَعَ
عَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ الشُّجَاعِيُّ نَائِبُ دِمَشْقَ إِلَى دِمَشْقَ فِي
سَابِعِ وَعِشْرِينَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ نَظَّفَ السَّوَاحِلَ مِنَ
الْفِرِنْجِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ بِهَا حَجَرٌ.
وَفِي رَابِعِ رَمَضَانَ أُفْرِجَ عَنْ حُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ مِنْ قَلْعَةِ
صَفَدَ، وَمَعَهُ جَمَاعَةُ أُمَرَاءَ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ إِقْطَاعَاتِهِمْ
إِلَيْهِمْ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَكْرَمَهُمْ.
وَفِي أَوَائِلِ رَمَضَانَ طُلِبَ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ مِنَ
الْقُدْسِ الشَّرِيفِ - وَهُوَ حَاكِمٌ بِهِ وَخَطِيبٌ فِيهِ - عَلَى الْبَرِيدِ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَدَخَلَهَا فِي رَابِعَ عَشْرَةَ، وَأَفْطَرَ
لَيْلَتَئِذٍ عِنْدَ الْوَزِيرِ ابْنِ السَّلْعُوسِ، وَأَكْرَمَهُ جِدًّا وَاحْتَرَمَهُ،
وَكَانَتْ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَصَرَّحَ الْوَزِيرُ بِعَزْلِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ
بِنْتِ الْأَعَزِّ وَتَوْلِيَةِ ابْنِ جَمَاعَةَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَجَاءَ الْقُضَاةُ إِلَى تَهْنِئَتِهِ، وَأَصْبَحَ
الشُّهُودُ فِي خِدْمَتِهِ، وَمَعَ الْقَضَاءِ خَطَابَةُ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ،
وَتَدْرِيسُ الصَّالِحِيَّةِ، وَرَكِبَ فِي الْخِلْعَةِ وَالطَّرْحَةِ، وَرَسَمَ
لِبَقِيَّةِ الْقُضَاةِ أَنْ يَسْتَمِرُّوا بِلُبْسِ الطَّرَحَاتِ، وَذَهَبَ
فَخَطَبَ بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ، وَانْتَقَلَ إِلَى الْمَدْرَسَةِ
الصَّالِحِيَّةِ، وَدَرَّسَ بِهَا فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَكَانَ دَرْسًا
حَافِلًا، وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ رَسَمَ السُّلْطَانُ لِلْحَاكِمِ
بِأَمْرِ اللَّهِ أَنْ يَخْطُبَ هُوَ بِنَفْسِهِ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ، وَأَنْ يَذْكُرَ
فِي خُطْبَتِهِ أَنَّهُ قَدْ وَلَّى السَّلْطَنَةَ لِلْأَشْرَفِ خَلِيلِ بْنِ
الْمَنْصُورِ، فَلَبِسَ خِلْعَةً سَوْدَاءَ، وَخَطَبَ النَّاسَ بِالْخُطْبَةِ
الَّتِي كَانَ خَطَبَ بِهَا فِي الدَّوْلَةِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَكَانَتْ مِنْ
إِنْشَاءِ الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ الْمَقْدِسِيِّ فِي سَنَةِ سِتِّينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، فَيَكُونُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ أَزْيَدُ مِنْ ثَلَاثِينَ
سَنَةً، وَذَلِكَ بِجَامِعِ قَلْعَةِ الْجَبَلِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّابْنُ جَمَاعَةَ
يَخْطُبُ بِالْقَلْعَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَكَانَ يَسْتَنِيبُ فِي الْجَامِعِ
الْأَزْهَرِ.
وَأَمَّا ابْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ فَنَالَهُ مِنَ الْوَزِيرِ إِخْرَاقٌ
وَمُصَادَرَةٌ وَإِهَانَةٌ بَالِغَةٌ، وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ مِنْ مَنَاصِبِهِ
شَيْئًا، وَكَانَ بِيَدِهِ سَبْعَةَ عَشَرَ مَنْصِبًا; مِنْهَا الْقَضَاءُ، وَالْخَطَابَةُ،
وَنَظَرُ الْأَحْبَاسِ، وَمَشْيَخَةُ الشُّيُوخِ، وَنَظَرُ الْخِزَانَةِ،
وَتَدَارِيسُ كِبَارٌ، وَصَادَرَهَ بِنَحْوٍ مَنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، غَيْرَ
مَرَاكِبِهِ وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ اسْتِكَانَةٌ لَهُ
وَلَا خُضُوعٌ، ثُمَّ عَادَ فَرْضِيَ عَنْهُ، وَوَلَّاهُ تَدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ.
وَعُمِلَتْ خَتْمَةٌ عِنْدَ قَبْرِ الْمَنْصُورِ فِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ
رَابِعِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَحَضَرَهَا الْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ، وَنَزَلَ
السُّلْطَانُ وَمَعَهُ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ وَقْتَ السَّحَرِ، وَخَطَبَ
الْخَلِيفَةُ بَعْدَ الْخَتْمَةِ خُطْبَةً بَلِيغَةً، حَرَّضَ النَّاسَ فِيهَا
عَلَى غَزْوِ بِلَادِ الْعِرَاقِ، وَاسْتِنْقَاذِهَا مِنْ أَيْدِي التَّتَرِ،
وَقَدْ كَانَ الْخَلِيفَةُ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْتَجِبًا، فَرَآهُ
النَّاسُ
جَهْرَةً، وَرَكِبَ فِي الْأَسْوَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَعَمِلَ أَهْلُ دِمَشْقَ خَتْمَةً عَظِيمَةً بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ إِلَى
جَانِبِ الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، فَقُرِئَتْ خَتَمَاتٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ خَطَبَ
النَّاسَ بَعْدَهَا الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ الْفَارُوثِيُّ، ثُمَّ ابْنُ
الْبُزُورِيِّ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مَنْ لَهُ عَادَةٌ بِالْكَلَامِ، وَجَاءَتِ
الْبَرِيدِيَّةُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الْعِرَاقِ، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ
بِذَلِكَ، وَعُمِلَتْ سَلَاسِلُ عِظَامٌ بِسَبَبِ الْجَسُورَةِ عَلَى دِجْلَةَ
بَغْدَادَ، وَحُصِّلَتِ الْأُجُورُ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَإِنْ لَمْ يَقَعِ
الْمَقْصُودُ، وَحَصَلَ لِبَعْضِ النَّاسِ أَذَىً بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا نَادَى نَائِبُ الشَّامِ الشُّجَاعِيُّ أَنْ لَا تَلْبَسَ امْرَأَةٌ
عِمَامَةً كَبِيرَةً، وَخَرَّبَ الْأَبْنِيَةَ الَّتِي عَلَى نَهْرِي بَانِيَاسَ
وَالْجَدَاوِلَ كُلَّهَا وَالْمَسَالِحَ وَالسِّقَايَاتِ الَّتِي عَلَى
الْأَنْهَارِ كُلِّهَا، وَأَخْرَبَ جِسْرَ الزَّلَابِيَّةِ وَمَا عَلَيْهِ مِنَ
الدَّكَاكِينِ، وَنَادَى أَنْ لَا يَمْشِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ،
ثُمَّ أَطْلَقَ لَهُمْ هَذِهِ فَقَطْ، وَأَخْرَبَ الْحَمَّامَ الَّذِي كَانَ
بَنَاهُ الْمَلِكُ السَّعِيدُ ظَاهِرَ بَابِ النَّصْرِ، وَلَمْ يَكُنْ بِدِمَشْقَ
أَحْسَنُ مِنْهُ، وَوَسَّعَ الْمَيْدَانَ الْأَخْضَرَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّمَالِ
مِقْدَارَ سُدُسِهِ، وَلَمْ يَتْرُكْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّهْرِ إِلَّا
مِقْدَارًا يَسِيرًا، وَعَمِلَ هُوَ بِنَفْسِهِ وَالْأُمَرَاءُ فِي حِيطَانِهِ.
وَفِيهَا حُبِسَ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الْأَفْرَمُ الْمَنْصُورِيُّ
وَأَمِيرٌ آخَرُ مَعَهُ فِي الْقَلْعَةِ.
وَفِيهَا حُمِلَ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ الدَّوَادَارِيُّ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ مُقَيَّدًا.
وَقَدْ نَظَمَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ مَحْمُودٌ قَصِيدَةً فِي فَتْحِ عَكَّا:
الْحَمْدُ
لِلَّهِ زَالَتْ دَوْلَةُ الصُّلْبِ وَعَزَّ بِالتُّرْكِ دِينُ الْمُصْطَفَى
الْعَرَبِيِّ هذا الذي كَانَتِ الْآمَالُ لَوْ طَلَبَتْ
رُؤْيَاهُ فِي النَّوْمِ لَاسْتَحْيَتْ مِنَ الطَّلَبِ مَا بَعْدَ عَكَّا وَقَدْ
هُدَّتْ قَوَاعِدُهَا
فِي الْبَحْرِ لِلشِّرْكِ عِنْدَ الْبَرِّ مِنْ أَرَبِ لَمْ يَبْقَ مِنْ بَعْدِهَا
لِلْكُفْرِ إِذْ خَرِبَتْ
فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ مَا يُنْجِي سِوَى الْهَرَبِ أُمُّ الْحُرُوبِ فَكَمْ
قَدْ أَنْشَأَتْ فِتَنًا
شَابَ الْوَلِيدُ بِهَا هَوْلًا وَلَمْ تَشُبِ يَا يَوْمَ عَكَّا لَقَدْ
أَنْسَيْتَ مَا سَبَقَتْ
بِهِ الْفُتُوحُ وَمَا قَدْ خُطَّ فِي الْكُتُبِ لَمْ يَبْلُغِ النُّطْقُ حَدَّ
الشُّكْرِ فِيكَ فَمَا
عَسَى يَقُومُ بِهِ ذُو الشِّعْرِ وَالْأَدَبِ أَغْضَبْتَ عُبَّادَ عِيسَى إِذْ
أَبَدْتَهُمُ
لِلَّهِ أَيُّ رِضًى فِي ذَلِكِ الْغَضَبِ وَأَشْرَفَ الْمُصْطَفَى الْهَادِي
الْبَشِيرُ عَلَى
ما أَسْلَفَ الْأَشْرَفُ السُّلْطَانُ مِنْ قُرَبِ فَقَرَّ عَيْنًا لِهَذَا
الْفَتْحِ وَابْتَهَجَتْ
بِبُشْرِهِ الْكَعْبَةُ الْغَرَّاءُ فِي الْحُجُبِ وَسَارَ فِي الْأَرْضِ سَيْرًا
قَدْ سَمِعْتُ بِهِ
فَالْبَرُّ فِي طَرَبٍ وَالْبَحْرُ فِي حَرَبِ
وَهِيَ طَوِيلَةٌ جِدًّا، وَلَهُ وَلِغَيْرِهِ فِي فَتْحِ عَكَّا أَشْعَارٌ
كَثِيرَةٌ.
وَلَمَّا رَجَعَ الْبَرِيدُ أَخْبَرَ بِأَنَّ السُّلْطَانَ لَمَّا عَادَ إِلَى
مِصْرَ خَلْعَ عَلَى وَزِيرِهِ ابْنِ السَّلْعُوسِ جَمِيعَ مَلَابِسِهِ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِ، وَمَرْكُوبَهُ الَّذِي كَانَ تَحْتَهُ، فَرَكِبَهُ وَرَسَمَ
لَهُ بِثَمَانِيَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ خِزَانَةِدِمَشْقَ، لِيَشْتَرِيَ
لَهُ بِهَا قَرْيَةَ قَرَحْتَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ انْتَهَتْ عِمَارَةُ قَلْعَةِ حَلَبَ بَعْدَ الْخَرَابِ
الَّذِي أَصَابَهَا مِنْ هُولَاكُو وَأَصْحَابِهِ عَامَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ.
وَفِي
شَوَّالٍ مِنْهَا شُرِعَ فِي عِمَارَةِ قَلْعَةِ دِمَشْقَ وَبِنَاءِ الدُّورِ
السُّلْطَانِيَّةِ وَالطَّارِمَةِ وَالْقُبَّةِ الزَّرْقَاءِ، حَسَبَ مَا رَسَمَ
بِهِ السُّلْطَانُ الْأَشْرَفُ خَلِيلُ بْنُ قَلَاوُونَ لِنَائِبِهِ عَلَمِ
الدِّينِ سَنْجَرَ الشُّجَاعِيِّ.
وَفِيهَا فِي رَمَضَانَ أُعِيدَ إِلَى نِيَابَةِ الْقَلْعَةِ الْأَمِيرُ
أَرْجُوَاشُ، وَأُعْطِيَ إِقْطَاعَاتٍ سَنِيَّةً.
وَفِيهَا أُرْسِلَ الشَّيْخُ الرَّجِيحِيُّ مِنْ ذُرِّيَّةِ الشَّيْخِ يُونُسَ
مُضَيَّقًا عَلَيْهِ مَحْصُورًا إِلَى الْقَاهِرَةِ.
وَفِيهَا دَرَّسَ عِزُّ الدِّينِ الْفَارُوثِيُّ بِالْمَدْرَسَةِ النَّجِيبِيَّةِ
عِوَضًا عَنْ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ خَلِّكَانَ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ دَرَّسَ
نَجْمُ الدِّينِ مَكِّيٌّ بِالرَّوَاحِيَّةِ عِوَضًا عَنْ نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ
الْمَقْدِسِيِّ، وَفِيهِ دَرَّسَ كَمَالُ الدِّينِ الطَّبِيبُ بِالْمَدْرَسَةِ
الدَّخْوَارِيَّةِ الطِّبِّيَّةِ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ دَرَّسَ الشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ الْخَبَّازِيُّ
بِالْخَاتُونِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَجَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْبَاجُرْبَقِيِّ
بِالْقِلَيْجَةِ، وَبُرْهَانُ الدِّينِ الْإِسْكَنْدَرِيُّ بِالْقُوصِيَّةِ
الَّتِي بِالْجَامِعِ، وَالشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الدِّمَشْقِيُّ
بِالشَّرِيفِيَّةِ عِنْدَ حَارَةِ الْغُرَبَاءِ.
وَفِيهَا أُعِيدَتِ النَّاصِرِيَّةُ إِلَى الْفَارِقِيِّ، وَفِيهِ دَرَّسَ
بِالْأَمِينِيَّةِ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ بْنُ صَصْرَى بَعْدَ ابْنِ
الزَّمَلْكَانِيِّ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْعَادِلِيَّةُ الصَّغِيرَةُ لِكَمَالِ
الدِّينِ بْنِ الزَّمَلْكَانِيِّ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَرْغُوَنُ بْنُ أَبْغَا مَلِكُ التَّتَرِ
كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ، قَتَلَ عَمَّهُ السُّلْطَانَ
أَحْمَدَ بْنَ هُولَاكُو، فَعَظُمَ فِي أَعْيُنِ الْمَغُولِ، فَلَمَّا كَانَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ مِنْ شَرَابٍ شَرِبَهُ فِيهِ سُمٌّ، فَاتَّهَمَتِ
الْمَغُولُ الْيَهُودَ بِهِ - وَكَانَ وَزِيرُهُ سَعْدُ الدَّوْلَةِ بْنُ
الصَّيْفِيِّ يَهُودِيًّا - فَقَتَلُوا مِنَ الْيَهُودِ خَلْقًا كَثِيرًا،
وَنَهَبُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا عَظِيمَةً جِدًّا فِي جَمِيعِ مَدَائِنِ
الْعِرَاقِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يُقِيمُونَهُ بَعْدَهُ، فَمَالَتْ طَائِفَةٌ
إِلَى كَيْخَتُو، فَأَجْلَسُوهُ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ، فَبَقِيَ مُدَّةً،
قِيلَ: سَنَةً. وَقِيلَ: أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ قَتَلُوهُ وَمَلَّكُوا
بَعْدَهُ بَيْدَرَا، وَجَاءَ الْخَبَرُ بِوَفَاةِ أَرْغُوَنَ إِلَى الْمَلِكِ
الْأَشْرَفِ وَهُوَ مُحَاصِرٌ عَكَّا، فَفَرِحَ بِذَلِكَ كَثِيرًا، وَكَانَتْ
مُدَّةُ مُلْكِ أَرْغُوَنَ ثَمَانِ سِنِينَ، وَقَدْ وَصَفَهُ بَعْضُ مُؤَرِّخِي
الْعِرَاقِ بِالْعَدْلِ وَالسِّيَاسَةِ الْجَيِّدَةِ.
الْمُسْنِدُ الْمُعَمَّرُ الرُّحَلَةُ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ الْبُخَارِيِّ
وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ
الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبُخَارِيِّ، وُلِدَ فِي
سَلْخِ سَنَةِ خَمْسٍ أَوْ مُسْتَهَلِّ سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ،
وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ مَعَ أَهْلِهِ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا عَابِدًا
زَاهِدًا وَرِعًا نَاسِكًا، تَفَرَّدَ
بِرِوَايَاتٍ
كَثِيرَةٍ لِطُولِ عُمْرِهِ، وَخَرَجَتْ لَهُ مَشْيَخَاتٌ وَسَمِعَ مِنْهُ
الْخَلْقُ الْكَثِيرُ وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ، وَكَانَ مَنْصُوبًا لِذَلِكَ حَتَّى
كَبُرَ وَأَسَنَّ وَضَعُفَ عَنِ الْحَرَكَةِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ مِنْهُ
قَوْلُهُ:
تَكَرَّرَتِ السِّنُونُ عَلَيَّ حَتَّى بَلِيتُ وَصِرْتُ مِنْ سَقَطِ الْمَتَاعِ
وَقَلَّ النَّفْعُ عِنْدِي غَيْرَ أَنِّي
أَعلِّلُ بِالرِّوَايَةِ وَالسَّمَاعِ فَإِنْ يَكُ خَالِصًا فَلَهُ جَزَاءٌ
وَإِنْ يَكُ مَالِقًا فَإِلَى ضَيَاعِ
وَلَهُ أَيْضًا:
إِلَيْكَ اعْتِذَارِي مِنْ صَلَاتِي قَاعِدًا وَعَجْزِي عَنْ سَعْيِي إِلَى
الْجُمُعَاتِ
وَتَرْكِي صَلَاةَ الْفَرْضِ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ تَجَمَّعَ فِيهِ النَّاسُ
لِلصَّلَوَاتِ
فَيَا رَبُّ لَا تَمْقُتْ صَلَاتِي وَنَجِّنِي مِنَ النَّارِ وَاصْفَحْ لِي عَنِ
الْهَفَوَاتِ
تُوُفِّيَ ضُحَى نَهَارِ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ
الْوَاحِدِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ سِبَاعِ بْنِ ضِيَاءٍ تَاجُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيُّ
الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْعَلَمُ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، حَازَ
قَصَبَ السَّبْقِ دُونَ أَقْرَانِهِ، وَهُوَ وَالِدُ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ
بُرْهَانِ الدِّينِ. كَانَ مَوْلِدُ
الشَّيْخِ
تَاجِ الدِّينِ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ ضُحَى يَوْمِ
الِاثْنَيْنِ خَامِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ بِالْمَدْرَسَةِ الْبَاذَرَائِيَّةِ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ بِالْأُمَوِيِّ، تَقَدَّمَ لِلصَّلَاةِ
عَلَيْهِ قَاضِي الْقُضَاةِ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ الْخُوَيِّيِّ، ثُمَّ صَلَّى
عَلَيْهِ عِنْدَ جَامِعِ جِرَاحٍ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْفَارِقِيُّ،
وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَ يَوْمًا شَدِيدَ
الزِّحَامِ، وَقَدْ كَانَ مِمَّنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ فُنُونٌ كَثِيرَةٌ مِنَ
الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَالْأَخْلَاقِ اللَّطِيفَةِ، وَفَصَاحَةِ الْمَنْطِقِ،
وَحُسْنِ التَّصْنِيفِ، وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ، وَفِقْهِ النَّفْسِ، وَكِتَابُهُ
" الْإِقْلِيدُ " الَّذِي جَمَعَهُ عَلَى أَبْوَابِ " التَّنْبِيهِ
" وَصَلَ فِيهِ إِلَى بَابِ الْغَصْبِ، دَلِيلٌ عَلَى فِقْهِ نَفْسِهِ، وَعُلُوِّ
قَدْرِهِ، وَقُوَّةِ هِمَّتِهِ، وَنُفُوذِ نَظَرِهِ، وَاتِّصَافِهِ
بِالِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ فِي غَالِبِ مَا سَطَرَهُ، وَقَدِ انْتَفَعَ بِهِ
النَّاسُ، وَهُوَ شَيْخُ أَكَابِرِ مَشَايِخِنَا هُوَ وَالشَّيْخُ مُحْيِي
الدِّينِ النَّوَوِيُّ، وَلَهُ " اخْتِصَارُ الْمَوْضُوعَاتِ " لِابْنِ
الْجَوْزِيِّ، وَهُوَ عِنْدِي بِخَطِّهِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ،
وَحَضَرَ عِنْدَ ابْنِ الزَّبِيدِيِّ " صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ "،
وَسَمِعَ مِنَ ابْنِ اللَّتِّيِّ وَابْنِ الصَّلَاحِ، وَاشْتَغَلَ عَلَيْهِ
وَعَلَى ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَانْتَفَعَ بِهِمَا، وَخَرَّجَ لَهُ الْحَافِظُ
عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ أَحَدُ تَلَامِيذهِ مَشْيَخَةً فِي عَشَرَةِ
أَجْزَاءٍ عَنْ مِائَةِ شَيْخٍ، فَسَمَّعَهَا عَلَيْهِ الْأَعْيَانُ، وَلَهُ
شِعْرٌ جَيِّدٌ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
لِلَّهِ أَيَّامُ جَمْعِ الشَّمْلِ مَا بَرِحَتْ بِهَا الْحَوَادِثُ حَتَّى
أَصْبَحَتْ سَمَرَا
وَمُبْتَدَا الْحُزْنِ مِنْ تَارِيخِ مَسْأَلَتِي عَنْكُمْ فَلَمْ أَلْقَ لَا
عَيْنًا وَلَا أَثَرَا
يَا رَاحِلِينَ قَدَرْتُمْ فَالنَّجَاةُ لَكُمْ وَنَحْنُ لِلْعَجْزِ لَا
نَسْتَعْجِزُ الْقَدَرَا
وَقَدْ
وَلِيَ الدَّرْسَ بَعْدَهُ بِالْبَاذَرَائِيَّةِ وَالْحَلْقَةِ وَالْفَتَيَا
بِالْجَامِعِ وَلَدُهُ شَيْخُنَا بُرْهَانُ الدِّينِ، فَمَشَى عَلَى طَرِيقَةِ
وَالِدِهِ وَهَدْيِهِ وَدَلِّهِ وَسَمْتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي ثَالِثِ شَعْبَانَ تُوُفِّيَ:
الطَّبِيبُ الْمَاهِرُ عِزُّ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طُرَخَانَ
السُّوَيْدِيُّ الْأَنْصَارِيُّ
وَدُفِنَ بِالسَّفْحِ عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً، وَرَوَى شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ،
وَفَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ فِي صِنَاعَةِ الطِّبِّ، وَصَنَّفَ كُتُبًا فِي ذَلِكَ،
وَكَانَ يُرْمَى بِقِلَّةِ الدِّينِ، وَتَرْكِ الصَّلَوَاتِ، وَانْحِلَالٍ فِي
الْعَقِيدَةِ، وَإِنْكَارِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ، وَاللَّهُ يَحْكُمُ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ بِأَمْرِهِ الْعَدْلِ
الَّذِي لَا يَجُورُ وَلَا يَظْلِمُ. وَفِي شِعْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ
عَقْلِهِ وَدِينِهِ وَعَدَمِ إِيمَانِهِ، وَاعْتِرَاضِهِ عَلَى تَحْرِيمِ
الْخَمْرِ، وَأَنَّهُ قَدْ طَالَ رَمَضَانُ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهَا، وَغَيْرِ
ذَلِكَ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ عَلَاءُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ
بْنُ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ كَمَالِ الدِّينِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَبْدِ
الْكَرِيمِ بْنِ خَلَفٍ الْأَنْصَارِيُّ الزَّمَلْكَانِيُّ
مُدَرِّسُ الْأَمِينِيَّةِ، وَهُوَ وَالِدُ شَيْخِنَا الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ
كَمَالِ الدِّينِ بْنِ أَبِي الْمَعَالِي مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
الزَّمَلْكَانِيِّ، وَقَدْ دَرَّسَ بَعْدَ أَبِيهِ الْمَذْكُورِ
بِالْأَمِينِيَّةِ، وَكَانَتْ وَفَاةُ وَالِدِهِ هَذَا لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ
التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ بِالْأَمِينِيَّةِ، وَدُفِنَ
بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ عِنْدَ وَالِدِهِ.
الْأَمِيرُ
الْكَبِيرُ بَدْرُ الدِّينِ يَمَكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّاصِرِيُّ
نَاظِرُ الرِّبَاطِ بِالصَّالِحِيَّةِ عَنْ وَصِيَّةِ أُسْتَاذِهِ، وَهُوَ الَّذِي
وَلَّى الشَّيْخَ شَرَفَ الدِّينِ الْفَزَارِيَّ مَشْيَخَةَ الرِّبَاطِ بَعْدَ
ابْنِ الشَّرِيشِيِّ جَمَالِ الدِّينِ، وَقَدْ دُفِنَ بِالتُّرْبَةِ الْكَبِيرَةِ
دَاخِلَ الرِّبَاطِ الْمَذْكُورِ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ الْكَرَجِيُّ
صِهْرُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ الصَّلَاحِ وَأَحَدُ تَلَامِيذِهِ، وُلِدَ
سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَمَاتَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي
رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ ابْنِ الصَّلَاحِ
الْمَلِكُ الْعَادِلُ بَدْرُ الدِّينِ سَلَامُشُ بْنُ الظَّاهِرِ
الَّذِي كَانَ قَدْ بُويِعَ بِالْمُلْكِ بَعْدَ أَخِيهِ الْمَلِكِ السَّعِيدِ،
وَجُعِلَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ قَلَاوُونُ أَتَابِكَهُ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ
قَلَاوُونُ بِالْمُلْكِ وَأَرْسَلَهُمْ إِلَى الْكَرَكِ، ثُمَّ أَعَادَهُمْ إِلَى
الْقَاهِرَةِ، ثُمَّ سَفَّرَهُمُ الْأَشْرَفُ خَلِيلٌ فِي أَوَّلِ دَوْلَتِهِ
إِلَى بِلَادِ الْأَشْكُرِيِّ مِنْ نَاحِيَةِ إِصْطَنْبُولَ، فَمَاتَ سَلَامُشُ
هُنَاكَ، وَبَقِيَ أَخُوهُ نَجْمُ الدِّينِ خَضِرٌ وَأَهْلُوهُمْ بِتِلْكَ
النَّاحِيَةِ، وَقَدْ كَانَ سَلَامُشُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ شَكْلًا
وَأَبْهَاهُمْ مَنْظَرًا، وَقَدِ افْتُتِنَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ،
وَشَبَّبَ بِهِ الشُّعَرَاءُ، وَكَانَ عَاقِلًا رَئِيسًا مَهِيبًا وَقُورًا.
الْعَفِيفُ
التِّلْمِسَانِيُّ، أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَاسِينَ الْعَابِدِيُّ الْكُوفِيُّ
ثُمَّ التِّلْمِسَانِيُّ، الشَّاعِرُ الْمُتْقِنُ فِي عُلُومٍ ; مِنْهَا النَّحْوُ
وَالْأَدَبُ وَالْفِقْهُ وَالْأُصُولُ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ، وَلَهُ
شَرْحُ " مَوَاقِفِ النِّفَّرِيِّ "، وَشَرَحَ أَسْمَاءَ اللَّهِ
الْحُسْنَى "، وَلَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ، وَلِوَلَدِهِ مُحَمَّدٌ دِيوَانٌ
آخَرُ، وَقَدْ نُسِبَ هَذَا الرَّجُلُ إِلَى عَظَائِمَ فِي الْأَقْوَالِ
وَالِاعْتِقَادِ فِي الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ وَالْكُفْرِ
الْمَحْضِ، وَشُهْرَتُهُ تُغْنِي عَنِ الْإِطْنَابِ فِي تَرْجَمَتِهِ، تُوُفِّيَ
يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسِ رَجَبٍ، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ، وَيُذْكَرُ
عَنْهُ أَنَّهُ عَمِلَ أَرْبَعِينَ خَلْوَةً، كُلُّ خَلْوَةٍ أَرْبَعُونَ يَوْمًا
مُتَتَابِعَةٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِيهَا فُتِحَتْ قَلْعَةُ الرُّومِ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ مِنْ دُنْقُلَةَ إِلَى
مِصْرَ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ الشَّامِ بِكَمَالِهِ وَسَوَاحِلِهِ وَبِلَادِ
حَلَبَ وَغَيْرِ ذَلِكَ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ خَلِيلٌ، وَوَزِيرُهُ شَمْسُ
الدِّينِ بْنُ السَّلْعُوسِ، وَقُضَاتُهُ بِالشَّامِ وَمِصْرَ هُمُ
الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَنَائِبُ مِصْرَ بَدْرُ الدِّينِ
بَيْدَارُ، وَنَائِبُ الشَّامِ عَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ الشُّجَاعِيُّ،
وَسُلْطَانُ التَّتَرِ بَيْدُو بْنُ أَرْغُونَ بْنِ أَبغَا، وَالْعِمَارَةُ فِي
الطَّارِمَةِ وَفِي الدُّورِ السُّلْطَانِيَّةِ بِالْقَلْعَةِ.
وَفِي رَابِعِ وَعِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِقَلْعَةِ
الْجَبَلِ بِبَعْضِ الْخَزَائِنِ، أَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الذَّخَائِرِ
وَالنَّفَائِسِ وَالْكُتُبِ.
وَفِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ خَطَبَ الْخَلِيفَةُ
الْحَاكِمُ، وَحَثَّ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى الْجِهَادِ وَالنَّفِيرِ، وَصَلَّى
بِهِمُ الْجُمُعَةَ، وَجَهَرَ بِالْبَسْمَلَةِ.
وَفِي لَيْلَةِ السَّبْتِ ثَالِثَ عَشَرَ صَفَرٍ جِيءَ بِهَذَا الْجُرْزِ
الْأَحْمَرِ الَّذِي بِبَابِ الْبِرَادَةِ مِنْ عَكَّا، فَوُضِعَ فِي مَكَانِهِ.
وَفِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ كَمَلَ بِنَاءُ الطَّارِمَةِ وَمَا عِنْدَهَا مِنَ الْآدُرِ
وَالْقُبَّةِ الزَّرْقَاءِ، وَجَاءَتْ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْكَمَالِ
وَالِارْتِفَاعِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِي جُمَادَى الْأُولَى ذَكَرَ الدَّرْسَ
بِالظَّاهِرِيَّةِ الشَّيْخُ صَفِيُّ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ
الْأُرْمَوِيُّ، عِوَضًا عَنْ عَلَاءِ الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ، وَفِي
هَذَا الْيَوْمِ دَرَّسَ بِالدَّوْلَعِيَّةِ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ دَرَّسَ بِالنَّجِيبِيَّةِ
الشَّيْخُ ضِيَاءُ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ الطُّوسِيُّ، بِمُقْتَضَى نُزُولِ
الْفَارُوثِيُّ لَهُ عَنْهَا.
فَتْحُ قَلْعَةِ الرُّومِ
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ تَوَجَّهَ السُّلْطَانُ الْأَشْرَفُ بِالْعَسَاكِرِ نَحْوَ
الشَّامِ، فَقَدِمَ دِمَشْقَ، وَمَعَهُ وَزِيرُهُ ابْنُ السَّلْعُوسِ،
فَاسْتَعْرَضَ الْجُيُوشَ، وَأَنْفَقَ فِيهِمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، ثُمَّ سَارَ
بِهِمْ نَحْوَ بِلَادِ حَلَبَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى قَلْعَةِ الرُّومِ،
فَافْتَتَحَهَا بِالسَّيْفِ قَهْرًا فِي يَوْمِ السَّبْتِ حَادِي عَشَرَ رَجَبٍ،
وَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى دِمَشْقَ وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ سَبْعَةَ
أَيَّامٍ، وَبَارَكَ اللَّهُ لِخَمِيسِ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبْتِهِمْ، وَكَانَ
يَوْمُ السَّبْتِ أَلْبًا عَلَى أَهْلِ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَكَانَ الْفَتْحُ
بَعْدَ حِصَارٍ عَظِيمٍ جِدًّا، مُدَّةَ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا،
وَكَانَتِ الْمَنْجَنِيقَاتُ تَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِينَ مَنْجَنِيقًا،
وَاسْتُشْهِدَ
مِنَ الْأُمَرَاءِ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ الْخَطِيرِ، وَقَدْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ
الْبَلَدِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا،
ثُمَّ عَادَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ، وَتَرَكَ الشُّجَاعِيَّ بِقَلْعَةِ
الرُّومِ يُعَمِّرُونَ مَا وَهَى مِنْ قَلْعَتِهَا; بِسَبَبِ رَمْيِ
الْمَنْجَنِيقَاتِ عَلَيْهَا وَقْتَ الْحِصَارِ، وَكَانَ دُخُولُهُ إِلَى دِمَشْقَ
بِكُرَةَ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعَ عَشَرَ شَعْبَانَ، فَاحْتَفَلَ النَّاسُ
لِدُخُولِهِ وَدَعَوْا لَهُ وَأَحَبُّوهُ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا بُسِطَ لَهُ
كَمَا يُبْسَطُ لَهُ إِذَا قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَإِنَّمَا
كَانَ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ ابْنِ السَّلْعُوسِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَسَطَ لَهُ،
وَقَدْ كَسَرَ أَبُوهُ التَّتَرَ عَلَى حِمْصَ وَلَمْ يُبْسَطْ لَهُ، وَكَذَلِكَ
الْمَلِكُ الظَّاهِرُ كَسَرَ التَّتَرَ وَالرُّومَ عَلَى الْبُلُسْتَيْنِ وَفِي
غَيْرِ مَوْطِنٍ وَلَمْ يُبْسَطْ لَهُ، وَهَذِهِ بِدْعَةٌ شَنْعَاءُ قَدْ
أَحْدَثَهَا هَذَا الْوَزِيرُ لِلْمُلُوكِ، وَفِيهَا إِسْرَافٌ وَضَيَاعُ مَالٍ
وَأَشَرٌ وَبَطَرٌ وَرِيَاءٌ وَتَكْلِيفٌ لِلنَّاسِ، وَأَخْذُ أَمْوَالٍ
وَوَضْعُهَا فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ سَائِلُهُ عَنْهَا،
وَقَدْ ذَهَبَ وَتَرَكَهَا يَتَوَارَثُهَا الْمُلُوكُ وَالنَّاسُ عَنْهُ، وَقَدْ
حَصَلَ لِلنَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ ظُلْمٌ عَظِيمٌ، فَلْيَتَّقِ الْعَبْدُ رَبَّهُ،
وَلَا يُحْدِثْ فِي الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ هَوَاهُ وَمُرَادِ نَفْسِهِ مَا يَكُونُ
سَبَبَ مَقْتِ اللَّهِ لَهُ، وَإِعْرَاضِهِ عَنْهُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَا
تَدُومُ لِأَحَدٍ، وَلَا يَدُومُ أَحَدٌ فِيهَا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ مَلِكُ قَلْعَةِ الرُّومِ مَعَ السُّلْطَانِ أَسِيرًا، وَكَذَلِكَ رُءُوسُ
أَصْحَابِهِ، فَدَخَلَ بِهِمْ دِمَشْقَ وَهُمْ يَحْمِلُونَ رُءُوسَ أَصْحَابِهِمْ
عَلَى رُءُوسِ الرِّمَاحِ، وَجَهَّزَ السُّلْطَانُ طَائِفَةً مِنَ الْجَيْشِ نَحْوَ
جَبَلِ كَسْرَوَانَ وَالْجُرْدِ بِسَبَبِ مُمَالَأَتِهِمْ لِلْفِرِنْجِ قَدِيمًا
عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مُقَدَّمُ الْعَسَاكِرِ بَيْدَرَا، وَفِي
صُحْبَتِهِ سُنْقُرُ الْأَشْقَرُ وَقَرَاسُنْقُرُ
الْمَنْصُورِيُّ
الَّذِي كَانَ نَائِبَ حَلَبَ، فَعَزَلَهُ عَنْهَا السُّلْطَانُ وَوَلَّى
مَكَانَهُ سَيْفَ الدِّينِ بَلَبَانَ الطَّبَّاخِيَّ الْمَنْصُورِيَّ -
وَجَمَاعَةٌ آخَرُونَ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ، فَلَمَّا أَحَاطُوا
بِالْجَبَلِ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا دَمَارُ أَهْلِهِ حَمَلُوا فِي اللَّيْلِ إِلَى
بَيْدَرَا حَمْلًا كَثِيرًا، فَفَتَرَ فِي قَضِيَّتِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ
بِالْجُيُوشِ عَنْهُمْ، وَعَادُوا إِلَى السُّلْطَانِ، فَتَلَقَّاهُمُ
السُّلْطَانُ، وَتَرَجَّلَ السُّلْطَانُ لِلْأَمِيرِ بَيْدَرَا، وَهُوَ نَائِبُهُ
عَلَى مِصْرَ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ السَّلْعُوسِ نَبَّهَ السُّلْطَانَ عَلَى فِعْلِ
بَيْدَرَا، فَلَامَهُ وَعَنَّفَهُ، فَمَرِضَ مِنْ خَوْفِهِ مِنْ ذَلِكَ مَرَضًا
شَدِيدًا أَشَفَى بِهِ عَلَى الْمَوْتِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ. ثُمَّ
عُوفِيَ فَعَمِلَ خَتْمَةً عَظِيمَةً بِجَامِعِ دِمَشْقَ حَضَرهَا الْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ، وَأَشْعَلَ الْجَامِعَ نَظِيرَ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ
وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَطْلَقَ
السُّلْطَانُ أَهْلَ الْحُبُوسِ، وَتَرَكَ بَقِيَّةَ الضَّمَانِ عَنْ أَرْبَابِ
الْجِهَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَتَصَدَّقَ عَنْهُ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، وَنَزَلَ
هُوَ عَنْ ضَمَانَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ قَدْ حَافَ فِيهَا عَلَى أَرْبَابِهَا.
وَقَدِ امْتَدَحَ الشِّهَابُ مَحْمُودٌ الْمَلِكَ الْأَشْرَفَ خَلِيلًا عَلَى
فَتْحِهِ قَلْعَةَ الرُّومِ بِقَصِيدَةٍ هَائِلَةٍ فَاضِلَةٍ، أَوَّلُهَا:
لَكَ الرَّايَةُ الصَّفْرَاءُ يَقْدُمُهَا النَّصْرُ فَمَنْ كَيْقُباذُ إِنْ
رَآهَا وَكَيْخُسْرُو إِذَا خَفَقَتْ فِي الْأَرْضِ هَدَّتْ بُنُودُهَا
هَوَى الشِّرْكِ وَاسْتَعْلَى الْهُدَى وَانْجَلَى الثَّغْرُ وَإِنْ نُشِرَتْ
مِثْلَ الْأَصَائِلِ فِي وَغًى
جَلَا النَّقْعَ مِنْ لَألَاءِ طَلْعَتِهَا الْبَدْرُ وَإِنَّ يَمَّمَتْ زُرْقَ
الْعِدَى سَارَ تَحْتَهَا
كَتَائِبُ خُضْرٌ دَوْحُهَا الْبِيضُ وَالسُّمْرُ
كَأَنَّ
مَثَارَ النَّقْعِ لَيْلٌ وَخَفْقَهَا
بُرُوقٌ وَأَنْتَ الْبَدْرُ وَالْفَلَكُ الْجَثْرُ وَفَتْحٌ أَتَى فِي إِثْرِ
فَتْحٍ كَأَنَّمَا
سَمَاءٌ بَدَتْ تَتْرَى كَوَاكِبُهَا الزُّهْرُ فَكَمْ قَطَمَتْ طَوْعًا وَكَرْهًا
مَعَاقِلًا
مَضَى الدَّهْرُ عَنْهَا وَهْيَ عَانِسَةٌ بِكْرُ بَذَلْتَ لَهَا عَزْمًا
فَلَوْلَا مَهَابَةٌ
كَسَاهَا الْحَيَا جَاءَتْكَ تَسْعَى وَلَا مَهْرُ قَصَدْتَ حِمًى مِنْ قَلْعَةِ
الرُّومِ لَمْ يُبَحْ
لِغَيْرِكَ إِذْ غَرَّتْهُمُ الْمُغْلُ فَاغْتَرُّوا وَوَالُوهُمْ سِرًّا
لِيُخْفُوا أَذَاهُمُ
وَفِي آخِرِ الْأَمْرِ اسْتَوَى السِّرُّ وَالْجَهْرُ صَرَفْتَ إِلَيهِمْ هِمَّةً
لَوْ صَرَفَتْهَا
إِلَى الْبَحْرَ لَاسْتَوْلَى عَلَى مَدِّهِ الْجَزْرُ وَمَا قَلْعَةُ الرُّومِ
الَّتِي حُزْتَ فَتْحَهَا
وَإِنْ عَظُمَتْ إِلَّا إِلَى غَيْرِهَا جِسْرُ طَلِيعَةُ مَا يَأْتِي مِنَ
الْفَتْحِ بَعْدَهَا
كَمَا لَاحَ قَبْلَ الشَّمْسِ فِي الْأُفُقِ الْفَجْرُ فَصَبَّحْتَهَا بِالْجَيْشِ
كَالرَّوْضِ بَهْجَةً
صَوَارِمُهُ أَنْهَارُهُ وَالْقنَا الزُّهْرُ وَأَبْعَدْتَ بَلْ كَالْبَحْرِ
وَالْبَيْضُ مَوْجُهُ
وَجُرْدُ الْمَذَاكِي السُّفْنُ وَالْخُوَذُ الدُّرُ وَأَغْرَبْتَ بَلْ
كَاللَّيْلِ عُوجُ سُيُوفِهِ
أَهِلَّتُهُ وَالنَّبْلُ أَنْجُمُهُ الزَّهْرُ وَأَخْطَأْتَ لَا بَلْ كَالنَّهَارِ
شُمُوسُهُ
مُحَيَّاكَ وَالْآصَالُ رَايَاتُكَ الصُّفْرُ لُيُوثٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ آجَامُهَا
الْقَنَا
لَهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي ذَوِي ظُفُرٍ ظُفْرُ فَلَا الرِّيحُ تَجْرِي بَيْنَهُمْ
لِاشْتِبَاكِهَا
عَلَيْهِمْ وَلَا يَنْهَلُّ مِنْ فَوْقِهِمْ قَطْرُ عُيُونٌ إِذَا الْحَرْبُ
الْعَوَانُ تَعَرَّضَتْ
لِخُطَّابِهَا بِالنَّفْسِ لَمْ يَغْلُهَا مَهْرُ
تَرَى
الْمَوْتَ مَعْقُودًا بِهُدْبِ نِبَالِهِمْ
إِذَا مَا رَمَاهَا الْقَوْسُ وَالنَّظَرُ الشَّزْرُ فَفِي كُلِّ سَرْجٍ غُصْنُ
بَانٍ مُهَفْهَفٌ
وَفِي كُلِّ قَوْسٍ مَدَّهُ سَاعِدٌ بَدْرُ إِذَا صَدَمُوا شُمَّ الْجِبَالِ
تَزَلْزَلَتْ
وَأَصْبَحَ سَهْلًا تَحْتَ خَيْلِهِمُ الْوَعِرُ وَلَوْ وَرَدَتْ مَاءَ الْفُرَاتِ
خُيُولُهُمْ
لَقِيلَ هُنَا قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى نَهْرُ أَدَارُوا بِهَا سُورًا فَأَضْحَتْ
كَخِنْصَرٍ
لَدَى خَاتَمٍ أَوْ تَحْتَ مِنْطَقَةٍ خَصْرُ وَأَرْخُوا إِلَيْهَا مِنْ بِحَارٍ
أَكُفِّهِمْ
سَحَابَ رَدًى لَمْ يَخْلُ مِنْ قَطْرِهِ قُطْرُ كَأَنَّ الْمَجَانِيقَ الَّتِي
قُمْنَ حَوْلَهَا
رَوَاعِدُ سُخْطٍ وَبْلُهَا النَّارُ وَالصَّخْرُ أَقَامَتْ صَلَاةَ الْحَرْبِ
لَيْلًا صُخُورُهَا
فَأَكْثَرُهَا شَفْعٌ وَأَكْثَرُهَا وِتْرُ وَدَارَتْ بِهَا تِلْكَ النُّقُوبُ
فَأَشْرَفَتْ
وَلَيْسَ عَلَيْهَا فِي الَّذيِ فَعَلَتْ حَجْرُ فَأَضْحَتْ بِهَا كَالصَّبِّ
يُخْفِي غَرَامَهُ
حَذَارِ أَعَادِيهِ وَفِي قَلْبِهِ جَمْرُ وَشَبَّتْ بِهَا النِّيرَانُ حَتَّى
تَمَزَّقَتْ
وَبَاحَتْ بِمَا أَخْفَتْهُ وَانْهَتَكَ السِّتْرُ فَلَاذُوا بِذَيْلِ الْعَفْوِ
مِنْكَ فَلَمْ يَخِبْ
رَجَاهُمْ وَلَوْ لَمْ يَشُبْ قَصْدَهُمْ مَكْرُ وَمَا كَرِهَ الْمُغْلُ
اشْتِغَالَكَ عَنْهُمُ
بِهَا عِنْدَمَا فَرُّوا وَلَكِنَّهُمُ سُرُّوا فَأَحْرَزْتَهَا بِالسَّيْفِ
قَسْرًا وَهَكَذَا
فُتُوحُكُ فِيمَا قَدْ مَضَى كُلُّهُ قَسْرُ وَأَضْحَتْ بِحَمْدِ اللَّهِ ثَغْرًا
مُمَنَّعًا
تَبِيدُ اللَّيَالِي وَالْعِدَى وَهو مُفْتَرُّ فَيَا أَشْرَفَ الْأَمْلَاكِ
فُزْتَ بِغَزْوَةٍ
تَحَصَّلَ مِنْهَا الْفَتْحُ وَالذِّكْرُ وَالْأَجْرُ
لِيَهْنِكَ
عِنْدَ الْمُصْطَفَى أَنَّ دِينَهُ
تَوَالَى لَهُ فِي يُمْنِ دَوْلَتِكَ النَّصْرُ وَبُشْرَاكَ أَرْضَيْتَ الْمَسِيحَ
وَأَحْمَدًا
وَإِنَّ غَضِبَ النِّقْفُورُ مِنْ ذَاكَ وَالْكَفْرُ فَسِرْ حَيْثُ مَا تَخْتَارُ
فَالْأَرْضُ كُلُّهَا
بِحُكْمِكَ وَالْأَمْصَارُ أَجْمَعُهَا مِصْرُ وَدُمْ وَابْقَ لِلدُّنْيَا
لِيَحْيَى بِكَ الْهُدَى
وَيُزْهَى عَلَى مَاضِي الْعُصُورِ بِكَ الْعَصْرُ
حَذَفَتُ مِنْهَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً.
وَفِيهَا تَوَلَّى خَطَابَةَ دِمَشْقَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ أَحْمَدُ
الْفَارُوثِيُّ الْوَاسِطِيُّ بَعْدَ وَفَاةِ زَيْنِ الدِّينِ بْنِ الْمُرَحِّلِ،
وَخَطْبَ وَاسْتَسْقَى بِالنَّاسِ فَلَمْ يُسْقَوْا، ثُمَّ خَطَبَ مَرَّةً
ثَانِيَةً بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ عِنْدَ مَسْجِدِ الْقَدَمِ فَلَمْ يُسْقَوا،
ثُمَّ ابْتَهَلَ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ دُعَائِهِ وَاسْتِسْقَائِهِ فَسُقُوا، ثُمَّ
عُزِلَ الْفَارُوثِيُّ بَعْدَ أَيَّامٍ بِالْخَطِيبِ مُوَفَّقِ الدِّينِ أَبِي
الْمَعَالِي مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ
الْمِهْرَانِيِّ الْحَمَوِيِّ، كَانَ خَطِيبُ حَمَاةَ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى
دِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَقَامَ وَخَطَبَ، وَتَأَلَّمَ الْفَارُوثِيُّ
لِذَلِكَ، وَدَخَلَ عَلَى السُّلْطَانِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ الْوَزِيرَ عَزَلَهُ
مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ شَعَرَ بِذَلِكَ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ
إِنَّمَا عَزَلَهُ لِضَعْفِهِ، فَذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ يُصَلِّي لَيْلَةَ النِّصْفِ
مِائَةَ رَكْعَةٍ بِمِائَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَلَمْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ
مِنْهُ، وَاسْتَمَرُّوا بِالْحَمَوِيِّ. وَهَذِهِ دَنَاءَةٌ بَشِعَةٌ وَقِلَّةُ
عَقْلٍ وَعَدَمُ إِخْلَاصٍ مِنَ الْفَارُوثِيِّ، وَأَصَابَ السُّلْطَانُ فِي
عَزْلِهِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ قَبَضَ السُّلْطَانُ عَلَى الْأَمِيرِ سُنْقُرَ الْأَشْقَرِ
وَغَيْرِهِ، فَهَرَبَ هُوَ
وَالْأَمِيرُ
حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ السِّلَحْدَارُ، فَنَادَتْ عَلَيْهِ الْمُنَادِيَةُ
بِدِمَشْقَ: مَنْ أَحْضَرَهُ فَلَهُ أَلْفُ دِينَارٍ، وَمَنْ أَخْفَاهُ شُنِقَ.
وَرَكِبَ السُّلْطَانُ وَمَمَالِيكُهُ فِي طَلَبِهِ، وَصَلَّى الْخَطِيبُ
بِالنَّاسِ فِي الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ، وَعَلَى النَّاسِ كَآبَةٌ بِسَبَبِ
تَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ وَاضْطِرَابِ الْجَيْشِ، وَاخْتَبَطَ النَّاسُ، فَلَمَّا
كَانَ سَادِسُ شَوَّالٍ أَمْسَكَتِ الْعَرَبُ سُنْقُرَ الْأَشْقَرَ، فَرَدُّوهُ
عَلَى السُّلْطَانِ، فَأَرْسَلَهُ مُقَيَّدًا إِلَى مِصْرَ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ وَلَّى السُّلْطَانُ نِيَابَةَ دِمَشْقَ لِعِزِّ الدِّينِ
أَيْبَكَ الْحَمَوِيِّ، عِوَضًا عَنِ الشُّجَاعِيِّ، وَقَدِمَ الشُّجَاعِيُّ مِنَ
الرُّومِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ عَزْلِهِ فَتَلَقَّاهُ
الْفَارُوثِيُّ وَقَالَ: قَدْ عُزِلْنَا مِنَ الْخَطَابَةِ. فَقَالَ: وَنَحْنُ
مِنَ النِّيَابَةِ. فَقَالَ الْفَارُوثِيُّ: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ
عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [
الْأَعْرَافِ: 129 ] فَلَمَّا بَلَغَ ابْنُ السَّلْعُوسِ تَغَضَّبَ عَلَيْهِ، وَكَانَ
قَدْ عَيَّنَ لَهُ الْقَيْمُرِيَّةَ فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَسَافَرَ السُّلْطَانُ
عَاشِرَ شَوَّالٍ إِلَى مِصْرَ، فَدَخَلَهَا فِي أُبَّهَةِ الْمَلِكِ، وَفِي
يَوْمِ دُخُولِهِ أَقْطَعَ قَرَاسُنْقُرَ مِائَةَ فَارِسٍ بِمِصْرَ عِوَضًا عَنْ
نِيَابَةِ حَلَبَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَرَى الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طَغَايُ
الْأَشْرَفِيُّ قَيْسَارِيَّةَ الْقُطْنِ الْمَعْرُوفَةَ بِإِنْشَاءِ الْمَلِكِ
الْمُعَظَّمِ بْنِ الْعَادِلِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، بِمَرْسُومٍ مِنَ
السُّلْطَانِ، وَكَانَ حَظِيًا عِنْدَهُ، وَنَقَلَ سُوقَ الْحَرِيرِيِّينَ تِلْكَ
الْمُدَّةَ، وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ أَفْرَجَ عَنْ عَلَمِ الدِّينِ
الدَّوَادَارِيِّ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ قَلْعَةِ الرُّومِ، وَاسْتَحْضَرَهُ إِلَى
دِمَشْقَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ إِلَى الْقَاهِرَةِ،
وَأَقْطَعُهُ مِائَةَ فَارِسٍ، وَوَلَّاهُ مُشِدَّ الدَّوَاوِينِ مُكْرَهًا.
وَفِي
ذِي الْقِعْدَةِ اسْتَحْضَرَ السُّلْطَانُ سُنْقُرَ الْأَشْقَرَ وَطُقُصُوا،
فَعَاقَبَهُمَا فَاعْتَرَفَا بِأَنَّهُمَا أَرَادَا قَتْلَهُ، فَسَأَلَهُمَا عَنْ
لَاجِينَ فَقَالَا: لَمْ يَكُنْ مَعَنَا وَلَا عِلْمَ لَهُ بِهَذَا.
فَخَنَقَهُمَا، وَأَطْلَقَهُ بَعْدَمَا جَعَلَ الْوَتَرَ فِي حَلْقِهِ، وَكَانَ
قَدْ بَقِيَ لَهُ مُدَّةً لَا بُدَّ أَنْ يَبْلُغَهَا، وَقَدْ مَلَكَ بَعْدَ
ذَلِكَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ عَقَدَ الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ بْنُ الشَّيْخِ تَاجِ
الدِّينِ عَقْدَهُ عَلَى بِنْتِ قَاضِي الْقُضَاةِ شِهَابِ الدِّينِ بْنِ
الْخُوَيِّيِّ بِالْبَاذَرَائِيَّةِ، وَكَانَ حَافِلًا.
وَفِيهَا دَخَلَ الْأَمِيرُ سُنْقُرُ الْأَعْسَرُ عَلَى بِنْتِ الْوَزِيرِ شَمْسِ
الدِّينِ بْنِ السَّلْعُوسِ عَلَى صَدَاقٍ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعَجَّلَ لَهَا
خَمْسَمِائَةٍ.
وَفِيهَا قَفَزَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّتَرِ نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأُكْرِمُوا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخَطِيبُ زَيْنُ الدِّينِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مَكِّيِّ بْنِ عَبْدِ
الصَّمَدِ الشَّافِعِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُرَحِّلِ
وَهُوَ وَالِدُ الشَّيْخِ صَدْرِ الدِّينِ بْنِ الْوَكِيلِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَبَرَعَ فِي الْفِقْهِ، وَفِي عُلُومٍ شَتَّى; مِنْهَا عِلْمُ الْهَيْئَةِ،
وَلَهُ فِيهِ مُصَنَّفٌ، تَوَلَّى خَطَابَةَ دِمَشْقَ وَدَرَّسَ وَأَفْتَى،
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ بِبَابِ الْخَطَابَةِ.
الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ الْفَارُوثِيُّ وَلِيَ الْخَطَابَةَ قَلِيلًا، ثُمَّ
عُزِلَ، ثُمَّ مَاتَ، وَدُفِنَ
بِبَابِ
الصَّغِيرِ، عَفَا اللَّهُ عَنَّا وَعَنْهُ.
الصَّاحِبُ فَتْحُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الظَّاهِرِ
كَاتِبُ الْأَسْرَارِ فِي الدَّوْلَةِ الْمَنْصُورِيَّةِ بَعْدَ ابْنِ لُقْمَانَ،
وَكَانَ مَاهِرًا فِي هَذِهِ الصِّنَاعَةِ وَحَظِيَ عِنْدَ الْمَنْصُورِ، وَكَذَا
عِنْدَ ابْنِهِ الْأَشْرَفِ، وَقَدْ طَلَبَ مِنْهُ ابْنُ السَّلْعُوسِ أَنْ
يَقْرَأَ عَلَيْهِ كُلَّ مَا يَكْتُبُهُ، فَقَالَ: هَذَا لَا يُمْكِنُ، فَإِنَّ
أَسْرَارَ الْمُلُوكِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهُمْ، وَأَبْصِرُوا لَكُمْ
غَيْرِي يَكُونُ مَعَكُمْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
الْأَشْرَفَ أَعْجَبَهُ مِنْهُ، وَازْدَادَتْ عِنْدَهُ مَنْزِلَتُهُ. تُوُفِّيَ
يَوْمَ السَّبْتِ نِصْفَ رَمَضَانَ، وَأُخْرِجَتْ فِي تَرِكَتِهِ قَصِيدَةٌ قَدْ
رَثَى بِهَا تَاجَ الدِّينِ بْنَ الْأَثِيرِ، وَكَانَ قَدْ تَشَوَّشَ فَاعْتَقَدَ
أَنَّهُ يَمُوتُ، فَعُوفِيَ فَبَقِيَتْ عِنْدَهُ، وَتَوَلَّى ابْنُ الْأَثِيرِ
بَعْدَهُ، وَرَثَاهُ تَاجُ الدِّينِ كَمَا رَثَاهُ، وَتُوُفِّيَ ابْنُ الْأَثِيرِ
بَعْدَهُ بِشَهْرٍ وَأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.
يُونُسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ رِضْوَانَ بْنِ بِرْقِشٍ الْأَمِيرُ عِمَادُ الدِّينِ
كَانَ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَةِ فِي الدَّوْلَةِ النَّاصِرِيَّةِ،
ثُمَّ خَمَلَ وَبَطَّلَ الْجُنْدِيَّةَ بِالْكُلِّيَّةِ فِي الدَّوْلَةِ
الْمُظَفَّرِيَّةِ، وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ الظَّاهِرُ
يُكْرِمُهُ، تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ، وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ بِتُرْبَةِ
الْخُزَيْمِيِّينَ.
جَلَالُ الدِّينِ الْخَبَّازِيُّ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، أَبُو
مُحَمَّدٍ الْخُجَنْدِيُّ
أَحَدُ
مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ الْكِبَارِ، أَصْلُهُ مِنْ بِلَادِ مَا وَرَاءَ
النَّهْرِ، مِنْ بَلَدٍ يُقَالُ لَهَا: خُجَنْدَةُ. وَاشْتَغَلَ هُنَاكَ وَدَرَّسَ
بِخُوَارِزْمَ، وَأَعَادَ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ فَدَرَّسَ
بِالْعِزِّيَّةِ وَالْخَاتُونِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا
مُنْصِفًا، مُصَنِّفًا فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، تُوُفِّيَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ
ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَلَهُ ثِنْتَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَدُفِنَ
بِالصُّوفِيَّةِ.
الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ قَرَا أَرْسَلَانَ الْأَرْتَقِيُّ
صَاحِبُ مَارِدِينَ، تُوُفِّيَ وَلَهُ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ
وَلَدُهُ شَمْسُ الدِّينِ دَاوُدُ، وَلُقِّبَ بِالْمَلِكِ السَّعِيدِ. وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِي تَارِيخِ ظَهِيرِ الدِّينِ الْكَازَرُونِيِّ: ظَهَرَتْ نَارٌ بِأَرْضِ
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، نَظِيرَ مَا كَانَ فِي سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ عَلَى صِفَتِهَا، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ النَّارَ كَانَ
يَعْلُو لَهِيبُهَا كَثِيرًا، وَكَانَتْ تُحْرِقُ الصَّخْرَ، وَلَا تُحْرِقُ
السَّعَفَ، وَاسْتَمَرَّتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالدَّوْلَةُ الْمَذْكُورُونَ هُمُ الَّذِينَ
كَانُوا فِي الَّتِي قَبِلَهَا.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ قَدِمَ الْأَشْرَفُ دِمَشْقَ، فَنَزَلَ فِي الْقَصْرِ
الْأَبْلَقِ وَالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ، وَجَهَّزَ الْجُيُوشَ، وَتَهَيَّأَ
لِغَزْوِ بِلَادِ سِيسَ، وَقَدِمَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ رُسُلُ صَاحِبِ بِلَادِ
سِيسَ يَطْلُبُونَ الصُّلْحَ، فَشَفَعَ الْأُمَرَاءُ فِيهِمْ، فَسَلَّمُوا
بَهْسَنَا وَتَلَّ حَمْدُونَ وَمَرْعَشَ، وَهِيَ أَكْبَرُ بِلَادِهِمْ
وَأَحْسَنُهَا وَأَحْصَنُهَا، وَهِيَ فِي فَمِ الدَّرْبَنْدِ.
ثُمَّ رَكِبَ السُّلْطَانُ فِي ثَانِي رَجَبٍ نَحْوَ سَلَمْيَةَ بِأَكْثَرِ
الْجَيْشِ، صُورَةَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُصِيبَ الْأَمِيرَ حُسَامَ الدِّينِ
لَاجِينَ، فَأَضَافَهُ الْأَمِيرُ مُهَنَّا بْنُ عِيسَى، فَلَمَّا
انْقَضَتِ
الضِّيَافَةُ أُمْسِكَ لَهُ حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ، وَكَانَ عِنْدَهُ، فَجَاءَهُ
بِهِ، فَسَجَنَهُ فِي قَلْعَةِ دِمَشْقَ وَأَمْسَكَ مُهَنَّا بْنَ عِيسَى،
وَوَلَّى مَكَانَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ حُذَيْفَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَ
السُّلْطَانُ جُمْهُورَ الْجَيْشِ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ صُحْبَةَ نَائِبِهِ بَيْدَرَا، وَوَزِيرِهِ ابْنِ السَّلْعُوسِ،
وَتَأَخَّرَ هُوَ فِي خَاصِّكِيَّتِهِ، ثُمَّ لَحِقَهُمْ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا حَكَمَ الْقَاضِي حُسَامُ الدِّينِ الرَّازِيُّ
الْحَنَفِيُّ بِالتَّشْرِيكِ بَيْنَ الْعَلَوِيِّينَ وَالْجَعْفَرِيِّنَ فِي
الدِّبَاغَةِ الَّتِي كَانُوا يَتَنَازَعُونَهَا مِنْ مُدَّةِ مِائَتَيْ سَنَةٍ،
وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ سَادِسَ عِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ بِدَارِ
الْعَدْلِ، وَلَمْ يُوَافِقْهُ ابْنُ الْخُوِّييِّ وَلَا غَيْرُهُ، وَحَكَمَ
لِلْأَعْنَاكِيِّينَ بِصِحَّةِ نَسَبِهِمْ إِلَى جَعْفَرٍ الطَّيَّارِ.
وَفِيهَا رَسَمَ الْأَشْرَفُ بِتَخْرِيبِ قَلْعَةِ الشَّوْبَكِ فَهُدِمَتْ،
وَكَانَتْ مِنْ أَحْصَنِ الْقِلَاعِ وَأَمْنَعِهَا وَأَنْفَعِهَا، وَإِنَّمَا
خَرَّبَهَا عَنْ رَأْيِ عُتْبَةَ الْعَقَبِيِّ، وَلَمْ يَنْصَحْ لِلسُّلْطَانِ
فِيهَا وَلَا لِلْمُسْلِمِينَ; لِأَنَّهَا كَانَتْ شَجًا فِي حُلُوقِ الْأَعْرَابِ
الَّذِينَ هُنَاكَ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ السُّلْطَانُ الْأَمِيرَ عَلَمَ الدِّينِ الدَّوَادَارِيَّ
إِلَى صَاحِبِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَإِلَى أَوْلَادِ بَرَكَةَ، وَمَعَ
الرَّسُولِ تُحَفٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَلَمْ يَتَّفِقْ خُرُوجُهُ حَتَّى قُتِلَ
السُّلْطَانُ، فَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ.
وَفِي عَاشرِ جُمَادَى الْأُولَى دَرَّسَ الْقَاضِي إِمَامُ الدِّينِ
الْقَزْوِينِيُّ بِالظَّاهِرِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ
الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ.
وَفِي
الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ طَهَّرَ
الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ أَخَاهُ الْمَلِكَ النَّاصِرَ مُحَمَّدًا وَابْنَ أَخِيهِ
الْمَلِكَ الْمُعَظَّمَ مُظَفَّرَ الدِّينِ مُوسَى بْنَ الصَّالِحِ عَلِيِّ بْنِ
الْمَنْصُورِ، وَعُمِلَ مُهِمٌّ عَظِيمٌ، وَلَعِبَ الْأَشْرَفُ بِالْقَبَقِ،
وَتَمَّتْ لَهُمْ فَرْحَةٌ هَائِلَةٌ، كَانَتْ كَالْوَدَاعِ لِسَلْطَنَتِهِ مِنَ
الدُّنْيَا.
وَفِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ دَرَّسَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ غَانِمٍ
بِالْعَصْرُونِيَّةِ، وَفِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ دَرَّسَ الشَّيْخُ كَمَالُ
الدِّينِ بْنُ الزَّمَلْكَانِيِّ بِالرَّوَاحِيَّةِ عِوَضًا عَنْ نَجْمِ الدِّينِ
بْنِ مَكِّيٍّ; بِحُكْمِ انْتِقَالِهِ إِلَى حَلَبَ وَإِعْرَاضِهِ عَنِ
الْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَدَخَلَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ فِي خَامِسِ صَفَرٍ، وَكَانَ مِمَّنْ حَجَّ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَكَانَ أَمِيرَهُمُ الْبَاسِطِيُّ، وَنَالَهُمْ فِي مَعَانَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ
جِدًّا مَاتَ بِسَبَبِهَا جَمَاعَةٌ، وَحَمَلَتِ الرِّيحُ جِمَالًا عَنْ
أَمَاكِنِهَا، وَطَارَتِ الْعَمَائِمُ عَنِ الرُّءُوسِ، وَاشْتَغَلَ كُلُّ أَحَدٍ
بِنَفْسِهِ.
وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا وَقَعَ بِدِمَشْقَ بَرْدٌ عَظِيمٌ أَفْسَدَ شَيْئًا كَثِيرًا
مِنَ الْمُغَلَّاتِ، بِحَيْثُ أُبِيعَ الْقَمْحُ كُلُّ عَشْرِ أَوَاقٍ بِدِرْهَمٍ،
وَمَاتَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الدَّوَابِّ، وَفِيهِ زُلْزِلَتْ نَاحِيَةُ
الْكَرَكِ، وَسَقَطَ مِنْ قَلْعَتِهَا أَمَاكِنُ كَثِيرَةٌ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الْأُرْمَوِيُّ، الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْقُدْوَةُ الْعَارِفُ، أَبُو
إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الشَّيْخِ الصَّالِحِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ يُوسُفَ بْنِ يُونُسَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَلْمَانَ بْنِ الْبَنْكُو
الْأُرْمَوِيُّ
الْمُقِيمُ بِزَاوِيَتِهِ بِسَفْحِ قَاسِيونَ، كَانَ فِيهِ عِبَادَةٌ
وَانْقِطَاعٌ، وَلَهُ أَوْرَادٌ وَأَذْكَارٌ، وَكَانَ مُحَبَّبًا إِلَى النَّاسِ،
تُوُفِّيَ بِالْمُحَرَّمِ وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ بِالسَّفْحِ.
ابْنُ الْأَعْمَى صَاحِبُ " الْمَقَامَةِ " كَمَالُ الدِّينِ عَلِيُّ
بْنُ الشَّيْخِ ظَهِيرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُبَارَكِ بْنِ سَالِمِ بْنِ
أَبِي الْغَنَائِمِ الدِّمَشْقِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَعْمَى، وُلِدَ سَنَةَ عَشْرٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا، لَهُ قَصَائِدُ يَمْتَدِحُ بِهَا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهَا الشَّفْعِيَّةَ، عَدَدُ
كُلِّ قَصِيدَةٍ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ بَيْتًا. قَالَ الْبَرَزَالِيُّ:
سَمِعْتُهُ، وَلَهُ " الْمَقَامَةُ الْبَحْرِيَّةُ " الْمَشْهُورَةُ.
تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ.
الْمَلِكُ الزَّاهِرُ مُجِيرُ الدِّينِ أَبُو سُلَيْمَانَ دَاوُدُ بْنُ الْمَلِكِ
الْمُجَاهِدِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرَكُوهْ صَاحِبِ حِمْصَ ابْنِ نَاصِرِ الدِّينِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ
تُوُفِّيَ بِبُسْتَانِهِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ
الْمُظَفَّرِيِّ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِالسَّفْحِ، وَكَانَ دَيِّنًا، كَثِيرَ
الصَّلَاةِ فِي الْجَامِعِ، وَلَهُ إِجَازَةٌ مِنَ الْمُؤَيَّدِ
الطُّوسِيِّ
وَزَيْنَبَ الشِّعْرِيَّةِ وَأَبِي رَوْحٍ وَغَيْرِهِمْ، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ.
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْوَاسِطِيُّ، أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فَضْلٍ الْوَاسِطِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ
الْحَنْبَلِيُّ، تَقِيُّ الدِّينِ
شَيْخُ الْحَدِيثِ بِالظَّاهِرِيَّةِ بِدِمَشْقَ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
آخِرِ النَّهَارِ رَابِعِ عِشْرِينَ جُمَادَى الْآخِرَةِ عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً،
وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا عَابِدًا، تَفَرَّدَ بِعُلُوِّ الرِّوَايَةِ، وَلَمْ
يَخْلُفْ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَقَدْ تَفَقَّهَ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى
الشَّامِ، وَدَرَّسَ بِالصَّاحِبَةِ مُدَّةَ عِشْرِينَ سَنَةً وَبِمَدْرَسَةِ
أَبِي عُمَرَ، وَوَلِيَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ مَشْيَخَةَ الْحَدِيثِ
بِالظَّاهِرِيَّةِ بَعْدَ سَفَرِ الْفَارُوثِيِّ، وَكَانَ دَاعِيَةً إِلَى
مَذْهَبٍ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَقَدْ دَرَّسَ بَعْدَهُ بِالصَّاحِبَةِ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبَدِ الْقَوِيِّ الْمَرْدَاوِيَّ، وَبِدَارِ الْحَدِيثِ
الظَّاهِرِيَّةِ شَرَفُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ خَوَاجَا إِمَامُ الْجَامِعِ
الْمَعْرُوفُ بِالنَّاصِحِ.
ابْنُ صَاحِبِ حَمَاةَ، الْمَلِكُ الْأَفْضَلُ نُورُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ
الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ
تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِهَا، وَخُرِجَ بِهِ مِنْ بَابِ
الْفَرَادِيسِ مَحْمُولًا إِلَى مَدِينَةِ أَبِيهِ وَتُرْبَتُهُمْ بِهَا، وَهُوَ
وَالِدُ الْأَمِيرَيْنِ الْكَبِيرَيْنِ بَدْرِ الدِّينِ حَسَنٍ وَعِمَادِ الدِّينِ
إِسْمَاعِيلَ الَّذِي تَمَلَّكَ حَمَاةَ بَعْدَ جَدِّهِ.
ابْنُ
عَبْدِ الظَّاهِرِ مُحْيِي الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَشِيدِ الدِّينِ عَبْدِ
الظَّاهِرِ بْنِ نَشْوَانَ بْنِ عَبْدِ الظَّاهِرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ نَجْدَةَ
السَّعْدِيُّ
كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَآخِرُ مَنْ بَرَزَ فِي هَذَا
الْفَنِّ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ، وَسَبَقَ سَائِرَ أَقْرَانِهِ، وَهُوَ وَالِدُ
الصَّاحِبِ فَتْحِ الدِّينِ النَّدِيمِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وَفَاتِهِ قَبْلَ
وَالِدِهِ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ مُصَنَّفَاتٌ مِنْهَا " سِيرَةُ الْمَلِكِ
الظَّاهِرِ "، وَكَانَ ذَا مُرُوءَةٍ، وَلَهُ النَّظْمُ الْفَائِقُ
وَالنَّثْرُ الرَّائِقُ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ رَابِعَ رَجَبٍ وَقَدْ
جَاوَزَ السَّبْعِينَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ الَّتِي أَنْشَاهَا بِالْقَرَافَةِ.
الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ الْحَلَبِيُّ
الَّذِي كَانَ نَائِبَ قُطُزَ عَلَى دِمَشْقَ، فَلَمَّا جَاءَتْهُ بَيْعَةُ
الظَّاهِرِ دَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَبُويِعَ وَتَسَمَّى بِالْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ،
ثُمَّ حُوصِرَ وَهَرَبَ إِلَى بَعْلَبَكَّ، فَحُوصِرَ فَأَجَابَ إِلَى خِدْمَةِ
الظَّاهِرِ، فَسَجَنَهُ مُدَّةً وَأَطْلَقَهُ، وَسَجَنَهُ الْمَنْصُورُ مُدَّةً،
وَأَطْلَقَهُ الْأَشْرَفُ وَاحْتَرَمَهُ وَأَكْرَمَهُ، بَلَغَ الثَّمَانِينَ سَنَةً
وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
فِي أَوَّلِهَا كَانَ مَقْتَلُ الْأَشْرَفِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى
الصَّيْدِ فِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ فَلَمَّا كَانَ بِأَرْضٍ تَرُوجَةَ
بِالْقُرْبِ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ثَانِي عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، حَمَلَ
عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِهِ حِينَ
انْفَرَدَ عَنْ جُمْهُورِ الْجَيْشِ، فَأَوَّلُ مَنْ ضَرَبَهُ نَائِبُهُ
بَيْدَرَا، وَتَمَّمَ عَلَيْهِ لَاجِينُ الْمَنْصُورِيُّ، ثُمَّ اخْتَفَى إِلَى
رَمَضَانَ، وَظَهَرَ يَوْمَ الْعِيدِ، وَكَانَ مِمَّنْ شَارَكَ فِي قَتْلِ
الْأَشْرَفِ بَدْرُ الدِّينِ بَيْسَرِيُّ وَشَمْسُ الدِّينِ قَرَاسُنْقُرُ
الْمَنْصُورِيُّ، فَلَمَّا قُتِلَ الْأَشْرَفُ اتَّفَقَ الْأُمَرَاءُ عَلَى
تَمْلِيكِ بَيْدَرَا، وَسَمَّوْهُ الْمَلِكَ الْقَاهِرَ أَوِ الْأَوْحَدَ، فَلَمْ
يَتَمَّ لَهُ ذَلِكَ، فَقُتِلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِأَمْرِ كَتْبُغَا، ثُمَّ
اتَّفَقَ زَيْنُ الدِّينِ كَتْبُغَا، وَعَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ الشُّجَاعِيُّ
عَلَى أَنْ يُمَلِّكُوا أَخَاهُ مُحَمَّدًا الْمَلِكَ النَّاصِرَ بْنَ قَلَاوُونَ،
وَكَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَمَانِ سِنِينَ وَشُهُورًا، فَأَجْلَسُوهُ عَلَى
سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ يَوْمَ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَكَانَ
الْوَزِيرُ ابْنُ السَّلْعُوسِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ فِي
صُحْبَةِ السُّلْطَانِ، وَتَقَدَّمَ هُوَ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَلَمْ
يَشْعُرْ إِلَّا وَقَدْ أَحَاطَ بِهِ الْبَلَاءُ، وَجَاءَهُ الْعَذَابُ مِنْ كُلِّ
نَاحِيَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُعَامِلُ الْأُمَرَاءَ الْكِبَارَ مُعَامَلَةَ
الصِّغَارِ، فَأَخَذُوهُ، وَتَوَلَّى عُقُوبَتَهُ مِنْ
بَيْنِهِمُ
الشُّجَاعِيُّ، فَضُرِبَ ضَرَبًا عَظِيمًا، وَقُرِّرَ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَلَمْ
يَزَالُوا يُعَاقِبُونَهُ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي عَاشِرِ صَفَرٍ بَعْدَ
أَنِ احْتِيطَ عَلَى حَوَاصِلِهِ كُلِّهَا. وَأُحْضِرَ جَسَدُ الْأَشْرَفِ
فَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ وَتَأَلُّمَ النَّاسُ لِفَقْدِهِ، وَأَعْظَمُوا قَتْلَهُ،
وَقَدْ كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا عَالِيَ الْهِمَّةِ، حَسَنَ النَّظَرِ، كَانَ قَدْ
عَزَمَ عَلَى غَزْوِ الْعِرَاقِ وَاسْتِرْجَاعِ تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ أَيْدِي
التَّتَارِ، وَاسْتَعَدَّ لِذَلِكَ، وَنَادَى بِهِ فِي بِلَادِهِ، وَقَدْ فَتَحَ
فِي مُدَّةِ مُلْكِهِ - وَكَانَتْ ثَلَاثَ سِنِينَ - عَكَّا وَسَائِرَ
السَّوَاحِلِ، وَلَمْ يَتْرُكْ لِلْفِرِنْجِ فِيهَا مَعْلَمًا وَلَا حَجَرًا،
وَفَتَحَ قَلْعَةَ الرُّومِ وَبَهَسْنَا وَغَيْرَهَا.
فَلَمَّا جَاءَتْ بَيْعَةُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ إِلَى دِمَشْقَ خُطِبَ لَهُ بِهَا
عَلَى الْمَنَابِرِ، وَاسْتَقَرَّ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ، وَجُعِلَ الْأَمِيرُ
كَتْبُغَا أَتَابِكَهُ، وَالشُّجَاعِيُّ مُشَاوِرًا كَبِيرًا، ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ
أَيَّامٍ بِقَلْعَةِ الْجَبَلِ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى كَتْبُغَا، فَأَمَرَ أَنْ
يُطَافَ بِهِ فِي الْبَلَدِ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا،
وَأَعْطَوُا الَّذِينَ حَمَلُوا رَأْسَهُ مَالًا، وَلَمْ يَبْقَ لِكَتْبُغَا
مُنَازِعٌ، وَمَعَ هَذَا كَانَ يُشَاوِرُ كِبَارَ الْأُمَرَاءِ تَطْيِيبًا
لِقُلُوبِهِمْ.
وَفِي صَفْرٍ بَعْدَ مَوْتِ ابْنِ السَّلْعُوسِ عُزِلَ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ
جَمَاعَةَ عَنِ الْقَضَاءِ، وَأُعِيدَ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ،
وَاسْتَمَرَّ ابْنُ جَمَاعَةَ مُدَرِّسًا بِمِصْرَ فِي كِفَايَةٍ وَرِيَاسَةٍ،
وَتَوَلَّى الْوِزَارَةَ بِمِصْرَ الصَّاحِبُ تَاجُ الدِّينِ بْنُ الْحِنَّا،
وَفِي ظُهْرِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ رُتِّبَ
إِمَامٌ بِمِحْرَابِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ كَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الزَّكِيِّ، وَصَلَّى يَوْمئِذٍ بَعْدَ
الْخَطِيبِ، وَرُتِّبَ بِالْمَكْتَبِ الَّذِي بِبَابِ النَّاطِفَانِيِّينَ إِمَامٌ
أَيْضًا، وَهُوَ ضِيَاءُ الدِّينِ بْنُ
بُرْهَانِ
الدِّينِ الْإِسْكَنْدَرِيُّ، وَبَاشَرَ نَظَرَ الْجَامِعِ الشَّرِيفِ زَيْنُ
الدِّينِ حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَدْنَانَ، وَعَادَ سُوقُ الْحَرِيرِيِّينَ
إِلَى سُوقِهِ، وَأَخْلَوْا قَيْسَارِيَّةَ الْقُطْنِ الَّذِي كَانَ نُوَّابُ
طُقْجِيِّ أَلْزَمُوهُمْ بِسُكْنَاهَا، وَوَلِيَ خَطَابَةَ دِمَشْقَ الشَّيْخُ
الْعَلَّامَةُ شَرَفُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ جَمَالِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ
نِعْمَةَ بْنِ أَحْمَدَ الْمَقْدِسِيُّ، بَعْدَ عَزْلِ مُوَفَّقِ الدِّينِ
الْحَمَوِيِّ، دَعَوْهُ إِلَى حَمَاةَ فَخَطْبَ الْمَقْدِسِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
نِصْفَ رَجَبٍ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ بِإِشَارَةِ تَاجِ
الدِّينِ بْنِ الْحِنَّا الْوَزِيرِ بِمِصْرَ، وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا عَالِمًا
بَارِعًا.
وَفِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ حَلَفَ الْأُمَرَاءُ لِلْأَمِيرِ زَيْنِ الدِّينِ
كَتْبُغَا مَعَ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدُ بْنُ قَلَاوُونَ، وَسَارَتِ
الْبَيْعَةُ بِذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمُدُنِ وَالْمَعَاقِلِ.
وَاقِعَةُ عَسَّافٍ النَّصْرَانِيِّ
كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ السُّوَيْدَاءِ قَدْ شَهِدَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ
أَنَّهُ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِ اسْتَجَارَ
عَسَّافٌ هَذَا بِابْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَجِّيٍّ أَمِيرِ آلِ عَلِيٍّ، فَاجْتَمَعَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَالشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ
الْفَارِقِيُّ شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ، فَدَخَلَا عَلَى الْأَمِيرِ عِزِّ الدِّينِ
أَيْبَكَ الْحَمَوِيِّ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، فَكَلَّمَاهُ فِي أَمْرِهِ،
فَأَجَابَهُمَا إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ لِيُحْضِرَهُ، فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ
وَمَعَهُمَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَرَأَى النَّاسُ عَسَّافًا حِينَ
قَدِمَ وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَسَبُّوهُ وَشَتَمُوهُ، فَقَالَ ذَلِكَ
الرَّجُلُ الْبَدَوِيُّ: هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ. يَعْنِي النَّصْرَانِيَّ،
فَرَجَمَهُمَا النَّاسُ بِالْحِجَارَةِ، وَأَصَابَتْ عَسَّافًا، وَوَقَعَتْ
خَبْطَةٌ قَوِيَّةٌ، فَأَرْسَلَ النَّائِبُ، فَطَلَبَ
الشَّيْخَيْنِ
ابْنَ تَيْمِيَةَ وَالْفَارِقِيَّ، فَضَرَبَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَسَمَ
عَلَيْهِمَا فِي الْعَذْرَاوِيَّةِ، وَقَدِمَ النَّصْرَانِيُّ، فَأَسْلَمَ
وَعُقِدَ مَجْلِسٌ بِسَبَبِهِ، وَأَثْبَتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّهُودِ
عَدَاوَةً، فَحَقَنَ دَمَهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِالشَّيْخَيْنِ فَأَرْضَاهُمَا
وَأَطْلَقَهُمَا، وَلِحَقِّ النَّصْرَانِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِبِلَادِ الْحِجَازِ،
فَاتَّفَقَ قَتْلُهُ قَرِيبًا مِنْ مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَتَلَهُ ابْنُ أَخِيهِ هُنَالِكَ، وَصَنَّفَ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ كِتَابَهُ "
الصَّارِمَ الْمَسْلُولَ عَلَى سَابِّ الرَّسُولِ ".
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا رَكِبَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ فِي أُبَّهَةِ الْمَلِكِ،
وَشَقَّ الْقَاهِرَةَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ
رُكُوبِهِ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِالشَّامِ، وَجَاءَ الْمَرْسُومُ مِنْ
جِهَتِهِ، فَقُرِئَ عَلَى الْمِنْبَرِ بِالْجَامِعِ فِيهِ الْأَمْرُ بِنَشْرِ
الْعَدْلِ وَطَيِّ الظُّلْمِ، وَإِبْطَالِ ضَمَانِ الْأَوْقَافِ وَالْأَمْلَاكِ إِلَّا
بِرِضَا أَصْحَابِهَا.
وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ دَرَّسَ
بِالْمَسْرُورِيَّةِ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ، أَخُو إِمَامِ
الدِّينِ، وَحَضَرَ أَخُوهُ وَقَاضِي الْقُضَاةُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ
الْخُوَيِّيِّ، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَكَانَ دَرْسًا
حَافِلًا.
قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَفِي شَعْبَانَ اشْتُهِرَ أَنَّ فِي الْغَيْطَةِ
بِجِسْرِينَ تِنِّينًا عَظِيمًا ابْتَلَعَ رَأْسًا مِنَ الْمَعْزِ كَبِيرًا
صَحِيحًا.
وَفِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ ظَهْرَ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ، وَكَانَ
مُخْتَفِيًا مُنْذُ قَتَلَ الْأَشْرَفَ فَاعْتَذَرَ لَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ،
فَقَبِلَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَكْرَمَهُ، وَلَمْ يَكُنْ قَتَلَهُ
بِاخْتِيَارِهِ.
وَفِي
شَوَّالٍ مِنْهَا اشْتُهِرَ أَنَّ مُهَنَّا بْنَ عِيسَى خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ
السُّلْطَانِ النَّاصِرِ، وَانْحَازَ إِلَى التَّتَرِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَامِنِ ذِي الْقِعْدَةِ دَرَّسَ بِالْغَزَّالِيَّةِ
الْخَطِيبُ شَرَفُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ عِوَضًا عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ
شِهَابِ الدِّينِ بْنِ الْخُوَيِّيِّ - لَمَّا تُوُفِّيَ - وَتَرَكَ الشَّامِيَّةَ
الْبَرَّانِيَّةَ، وَقَدِمَ عَلَى قَضَاءِ الشَّامِ الْقَاضِي بِدْرُ الدِّينِ
بْنُ جَمَاعَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ،
وَنَزَلَ الْعَادِلِيَّةَ، وَخَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْجَيْشُ
بِكَمَالِهِ لِتَلَقِّيهِ، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ، وَاسْتَنَابَ تَاجَ
الدِّينِ الْجَعْبَرِيَّ نَائِبَ الْخَطَابَةِ، وَبَاشَرَ تَدْرِيسَ الشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ - عِوَضًا عَنْ شَرَفِ الدِّينِ الْمَقْدِسِيِّ - الشَّيْخُ
زَيْنُ الدِّينِ الْفَارِقِيُّ وَانْتُزِعَتْ مِنْ يَدِهِ النَّاصِرِيَّةِ،
فَدَرَّسَ بِهَا ابْنُ جَمَاعَةَ، وَبِالْعَادِلِيَّةِ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أَخْرَجُوا الْكِلَابَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى ظَاهِرِ
الْفَلَاةِ بِأَمْرِ وَالِيهَا جَمَالِ الدِّينِ أَقْبَاي، وَشَدَّدَ عَلَى
النَّاسِ وَالْبَوَّابِينَ فِي ذَلِكَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ خَلِيلُ بْنُ قَلَاوُونَ الْمَنْصُورُ، وَبَيْدَرَا،
وَالشُّجَاعِيُّ،
وَشَمْسُ الدِّينِ بْنُ السَّلْعُوسِ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ تَاجُ الدِّينِ مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
مَسْعُودٍ الْمَرَاغِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِأَبِي الْجَوَّابِ الشَّافِعِيُّ
دَرَّسَ بِالْإِقْبَالِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ
الشَّافِعِيَّةِ، لَهُ يَدٌ فِي الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ وَالنَّحْوِ، وَفَهْمٌ
جَيِّدٌ، تُوُفِّيَ فَجْأَةً يَوْمَ السَّبْتِ وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ
الصَّغِيرِ، وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ.
الْخَاتُونُ مُؤْنِسَةُ بِنْتُ السُّلْطَانِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
أَيُّوبَ
وَتُعْرَفُ بِالدَّارِ الْقُطْبِيَّةِ، وَبِدَارِ إِقْبَالٍ، وُلِدَتْ سَنَةَ
ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ، وَرَوَتْ بِالْإِجَازَةِ عَنْ عَفِيفَةَ
الْفَارِفَانِيَّةِ، وَعَنْ عَيْنِ الشَّمْسِ بِنْتِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي
الْفَرَجِ الثَّقَفِيَّةِ، تُوُفِّيَتْ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ بِالْقَاهِرَةِ، وَدُفِنَتْ
بِبَابِ زُوَيْلَةَ.
الصَّاحِبُ الْوَزِيرُ فَخْرُ الدِّينِ، أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
لُقْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّيْبَانِيُّ الْمِصْرِيُّ
رَأْسُ الْمُوَقِّعِينَ، وَأُسْتَاذُ الْوُزَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ، وُلِدَ
سَنَةَ
ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَرَوَى الْحَدِيثَ، تُوُفِّيَ فِي آخِرِ
جُمَادَى الْآخِرَةِ فِي الْقَاهِرَةِ.
الْمَلِكُ الْحَافِظُ غِيَاثُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَلِكِ السَّعِيدِ
مُعِينِ الدِّينِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ الْمَلِكِ الْأَمْجَدِ بَهْرَامِ شَاهْ بْنِ
الْمُعِزِّ عِزِّ الدِّينِ فَرُّخْشَاهْ بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ
وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَرَوَى " الْبُخَارِيَّ
" وَكَانَ يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَالْفُقَرَاءَ، تُوُفِّيَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ سَادِسَ شَعْبَانَ، وَدُفِنَ عِنْدَ جَدِّهِ لِأُمِّهِ ابْنِ
الْمُقَدَّمِ، ظَاهَرَ بَابِ الْفَرَادِيسِ.
قَاضِي الْقُضَاةِ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ الْخُوَيِّيِّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسِ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ
بْنِ خَلِيلِ بْنِ سَعَادَةَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدٍ
الشَّافِعِيُّ
أَصْلُهُمْ مِنْ خُوَيٍّ، اشْتَغَلَ وَحَصَّلَ عُلُومًا كَثِيرَةً، وَصَنَّفَ
كُتُبًا كَثِيرَةً، مِنْهَا كِتَابٌ فِيهِ عِشْرُونَ فَنًّا، وَلَهُ " نَظْمُ
عُلُومِ الْحَدِيثِ " وَ " كِفَايَةُ الْمُتَحَفِّظِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ،
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مُحِبًّا لَهُ وَلِأَهْلِهِ، وَقَدْ
دَرَّسَ وَهُوَ صَغِيرٌ بِالدَّمَاغيَّةِ، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُدْسِ ثُمَّ
الْمَحَلَّةِ، ثُمَّ بَهْسَنَا، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ حَلَبَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى
الْمَحَلَّةِ، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ الْقَاهِرَةِ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى قَضَاءِ
الشَّامِ
مَعَ
تَدْرِيسٍ الْعَادِلِيَّةِ وَالْغَزَّالِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ مِنْ
حَسَنَاتِ الزَّمَانِ وَأَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ، عَفِيفًا نَزِهًا
بَارِعًا مُحِبًّا لِلْحَدِيثِ وَعَلْمِهِ وَعُلَمَائِهِ، وَقَدْ خَرَّجَ لَهُ
شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ أَرْبَعِينَ حَدِيثًا مُتَبَايِنَةَ
الْإِسْنَادِ، وَخَرَّجَ لَهُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ عُتْبَةَ الْإِسْعِرْدِيُّ
مَشْيَخَةً عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، اشْتَمَلَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ وَسِتَّةٍ
وَثَلَاثِينَ شَيْخًا. قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَلَهُ نَحْوُ ثَلَاثِمِائَةِ
شَيْخٍ لَمْ يُذْكَرُوا فِي هَذَا الْمُعْجَمِ. تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ
الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، عَنْ سَبْعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ مِنْ يَوْمِهِ بِتُرْبَةِ وَالِدِهِ بِسَفْحِ
قَاسِيونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ الْأَعْمَى
نَاظِرُ الْقُدْسِ وَبَانِي كَثِيرًا مِنْ مَعَالِمِهِ الْيَوْمَ، وَهُوَ
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أَيْدِكِينُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الصَّالِحِيُّ النَّجْمِيُّ، كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، فَلَمَّا أَضَرَّ
أَقَامَ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ وَوَلِيَ نَظَرَهُ، فَعَمَّرَهُ وَثَمَّرَهُ،
وَكَانَ مَهِيبًا لَا تُخَالَفُ مَرَاسِيمُهُ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى الْمَطْهَرَةَ
قَرِيبًا مِنْ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهَا فِي الْوُضُوءِ وَغَيْرِهِ، وَوَجَدَ بِهَا النَّاسُ
تَيْسِيرًا، وَأَنْشَأَ بِالْقُدْسِ رُبُطًا كَثِيرَةً، وَآثَارًا حَسَنَةً،
وَكَانَ يُبَاشِرُ الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ، وَلَهُ حُرْمَةٌ وَافِرَةٌ، تُوُفِّيَ
فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
الْوَزِيرُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ
التَّنُوخِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّلْعُوسِ، وَزِيرُ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ، مَاتَ تَحْتَ
الضَّرْبِ الَّذِي جَاوَزَ أَلْفَ
مِقْرَعَةٍ، فِي عَاشِرِ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ نُقِلَ إِلَى الشَّامِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَكَانَ ابْتِدَاءَ أَمْرِهِ تَاجِرًا، ثُمَّ وَلِيَ الْحِسْبَةَ بِدِمَشْقَ بِسِفَارَةِ تَقِيِّ الدِّينِ تَوْبَةَ، ثُمَّ كَانَ يُعَامِلُ الْمَلِكَ الْأَشْرَفَ قَبْلَ السَّلْطَنَةِ، فَظَهَرَ مِنْهُ عَلَى عَدْلٍ وَصِدْقٍ، فَلَمَّا مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ الْمَنْصُورِ اسْتَدْعَاهُ مِنَ الْحَجِّ فَوَلَّاهُ الْوِزَارَةَ، وَكَانَ يَتَعَاظَمُ عَلَى أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَيُسَمِّيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ، وَلَا يَقُومُ لَهُمْ، فَلَمَّا قُتِلَ أُسْتَاذُهُ الْأَشْرَفُ تَسَلَّمُوهُ بِالضَّرْبِ وَالْإِهَانَةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، حَتَّى أَعْدَمُوهُ حَيَاتَهُ وَصَبَرُوهُ، وَأَسْكَنُوهُ الثَّرَى بَعْدَ أَنْ كَانَ عِنْدَ نَفْسِهِ قَدْ بَلَغَ الثُّرَيَّا، وَلَكِنْ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ مَا رَفَعَ شَيْئًا إِلَّا وَضَعَهُ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ
الْمَلِكُ النَّاصِرُ مُحَمَّدُ بْنُ قَلَاوُونَ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ اثْنَتَا
عَشْرَةَ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَمُدَبِّرُ الْمَمَالِكِ وَأَتَابِكُ الْعَسَاكِرِ
الْأَمِيرُ زَيْنُ الدِّينِ كَتْبُغَا، وَنَائِبُ الشَّامِ الْأَمِيرُ عِزُّ
الدِّينِ أَيْبَكَ الْحَمَوِيُّ، وَالْوَزِيرُ بِدِمَشْقَ تَقِيُّ الدِّينِ
تَوْبَةُ التَّكْرِيتِيُّ، وَشَادُّ الدَّوَاوِينِ شَمْسُ الدِّينِ الْأَعْسَرُ،
وَقَاضِي الشَّافِعِيَّةِ ابْنُ جَمَاعَةَ، وَالْحَنَفِيَّةِ حُسَامُ الدِّينِ
الرَّازِيُّ، وَالْمَالِكِيَّةِ جَمَالُ الدِّينِ الزَّوَاوِيُّ، وَالْحَنَابِلَةِ
شَرَفُ الدِّينِ حَسَنٌ، وَالْمُحْتَسِبُ شِهَابُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ،
وَنَقِيبُ الْأَشْرَافِ زَيْنُ الدِّينِ بْنُ عَدْنَانَ، وَوَكِيلُ بَيْتِ
الْمَالِ وَنَاظِرُ الْجَامِعِ تَاجُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ، وَخَطِيبُ
الْبَلَدِ شَرَفُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ نَهَضَ جَمَاعَةٌ مِنْ مَمَالِيكِ الْأَشْرَفِ،
وَخَرَقُوا حُرْمَةَ السُّلْطَانِ، وَأَرَادُوا الْخُرُوجَ عَلَيْهِ، وَجَاءُوا
إِلَى سُوقِ السِّلَاحِ، فَأَخَذُوا مَا فِيهِ، ثُمَّ احْتِيطَ عَلَيْهِمْ،
فَمِنْهُمْ مَنْ صُلِبَ، وَمِنْهُمْ مَنْ شُنِقَ، وَقُطِعَ أَيْدِي آخَرِينَ
مِنْهُمْ وَأَلْسِنَتُهُمْ، وَجَرَتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَكَانُوا
قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثمِائَةٍ أَوْ يَزِيدُونَ.
سَلْطَنَةُ
الْمَلِكِ الْعَادِلِ كَتْبُغَا
وَأَصْبَحَ الْأَمِيرُ كَتْبُغَا فِي الْحَادِيِ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ،
فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ، وَخَلَعَ الْمَلِكَ النَّاصِرَ مُحَمَّدَ
بْنَ الْمَنْصُورِ، وَأَلْزَمَهُ بَيْتَ أَهْلِهِ، وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهُ،
وَبَايَعَهُ الْأُمَرَاءُ عَلَى ذَلِكَ وَهَنَّأُوهُ، وَمَدَّ سِمَاطًا حَافِلًا، وَسَارَتِ
الْبَرِيدِيَّةُ بِذَلِكَ إِلَى الْأَقَالِيمِ، فَبُويِعَ وَخُطِبَ لَهُ
مُسْتَقِلًّا، وَضُرِبَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِ، وَتَمَّ الْأَمْرُ، وَزُيِّنَتِ
الْبِلَادُ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَلُقِّبَ بِالْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَكَانَ
عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً، فَإِنَّهُ مِنْ سَبْيِ
وَقْعَةِ حِمْصَ الْأُولَى الَّتِي كَانَتْ فِي أَيَّامِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ
بَعْدَ وَقْعَةِ عَيْنِ جَالُوتَ، وَكَانَ مِنَ الْعُوَيْرَاتِيَّةِ، وَهُمْ
طَائِفَةٌ مِنَ التَّتَرِ، وَاسْتَنَابَ فِي مِصْرِ الْأَمِيرَ حُسَامَ الدِّينَ
لَاجِينَ السِّلَحْدَارِيَّ الْمَنْصُورِيَّ، وَكَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُدَبِّرَ
الْمَمَالِكِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ فِي " تَارِيخِهِ "
عَنْ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ أَنَّهُ شَهِدَ هُولَاكُوقَانْ قَدْ سَأَلَ مُنَجِّمَهُ
أَنْ يَسْتَخْرِجَ لَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُقْدِمِينَ فِي عَسْكَرِهِ الَّذِي
يَمْلِكُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَضَرَبَ وَحَسَبَ، وَقَالَ لَهُ: أَجِدُهُ
رَجُلًا يَمْلِكُهَا اسْمُهُ كَتْبُغَا. فَظَنَّهُ كَتْبُغَانُوِينَ وَكَانَ
صِهْرَ هُولَاكُو فَقَدَّمَهُ عَلَى الْعَسَاكِرِ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ، فَقُتِلَ
فِي عَيْنِ جَالُوتَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا الَّذِي مَلَكَ مِصْرَ هَذَا
الرَّجُلُ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ وَأَجْوَدِهِمْ سِيرَةً
وَمَعْدَلَةً وَقَصْدًا فِي نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ رَكِبَ كَتْبُغَا فِي
أُبَّهَةِ الْمُلْكِ، وَشَقَّ الْقَاهِرَةَ، وَدَعَا لَهُ النَّاسُ، وَعَزَلَ
الصَّاحِبَ تَاجَ الدِّينِ بْنَ الْحِنَّا عَنِ الْوِزَارَةِ، وَوَلَّى
فَخْرَ
الدِّينِ بْنَ الْخَلِيلِيِّ، وَاسْتَسْقَى النَّاسُ بِدِمَشْقَ عِنْدَ مَسْجِدِ
الْقَدَمِ، وَخَطَبَ بِهِمْ تَاجُ الدِّينِ صَالِحٌ الْجَعْبَرِيُّ نِيَابَةً عَنْ
مُسْتَخْلِفِهِ الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ الْمَقْدِسِيِّ، وَكَانَ مَرِيضًا،
فَعَزَلَ نَفْسَهُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَخَطَبَ النَّاسَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ
يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسِ جُمَادَى الْأُولَى، فَلَمْ يُسْقَوْا، ثُمَّ
اسْتَسْقَوْا مَرَّةً أُخْرَى يَوْمَ السَّبْتِ سَابِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ
بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، وَخَطَبَ بِهِمْ شَرَفُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ،
وَكَانَ الْجَمْعُ أَكْثَرَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يُسْقَوْا.
وَفِي رَجَبٍ حَكَمَ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ نِيَابَةً عَنِ
الْقَاضِي بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ.
وَفِيهِ دَرَّسَ بِالْمُعَظِّمِيَّةِ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْعِزِّ،
انْتَزَعَهَا مِنْ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ الدَّقَّاقِ.
وَفِيهِ وَلِيَ الْقُدْسَ وَالْخَلِيلَ الْمَلِكُ الْأَوْحَدُ ابْنُ الْمَلِكِ
النَّاصِرِ دَاوُدُ بْنُ الْمُعَظَّمِ.
وَفِي رَمَضَانَ رَسَمَ لِلْحَنَابِلَةِ أَنْ يُصَلُّوا قَبْلَ الْإِمَامِ
الْكَبِيرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ بَعْدَهُ، فَلَمَّا أُحْدِثَ
مِحْرَابُ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُصَلُّونَ جَمِيعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَكَانَ
يَحْصُلُ تَشْوِيشٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَاسْتَقَرَّتِ الْقَاعِدَةُ عَلَى أَنْ
يُصَلُّوا قَبْلَ الْإِمَامِ الْكَبِيرِ، فِي وَقْتِ صَلَاةِ مُشْهِدِ عَلَيٍّ
بِالصَّحْنِ عِنْدَ مِحْرَابِهِمْ فِي الرُّوَاقِ الثَّالِثِ الْغَرْبِيِّ.
قُلْتُ: وَقَدْ تَغَيَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بَعْدَ الْعِشْرِينَ
وَسَبْعِمِائَةٍ كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ قَدِمَ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ بْنُ صَصْرَى مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ
عَلَى
قَضَاءِ الْعَسَاكِرِ بِالشَّامِ.
وَفِي ظُهْرِ يَوْمِ الْخَمِيسِ خَامِسِ شَوَّالٍ صَلَّى الْقَاضِي بَدْرُ
الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ بِمِحْرَابِ الْجَامِعِ إِمَامًا وَخَطِيبًا عِوَضًا عَنِ
الْخَطِيبِ الْمُدَرِّسِ شَرَفِ الدِّينِ الْمَقْدِسِيِّ، ثُمَّ خَطَبَ مِنَ
الْغَدِ، وَشُكِرَتْ خُطْبَتُهُ وَقِرَاءَتُهُ، وَذَلِكَ مُضَافٌ إِلَيْهِ مَا
بِيَدِهِ مِنَ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ.
وَفِي أَوَاخِرِ شَوَّالٍ قَدِمَتْ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ تَوَاقِيعُ
شَتَّى; مِنْهَا تَدْرِيسُ الْغَزَّالِيَّةِ لِابْنِ صَصْرَى عِوَضًا عَنِ
الْخَطِيبِ الْمَقْدِسِيِّ، وَتَوْقِيعٌ بِتَدْرِيسِ الْأَمِينِيَّةِ لِإِمَامِ
الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ عِوَضًا عَنْ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ صَصْرَى، وَرُسِمَ
لِأَخِيهِ جَلَالِ الدِّينِ بِتَدْرِيسِ الظَّاهِرِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ عِوَضًا
عَنْهُ.
وَفِي شَوَّالٍ كَمَلَتْ عِمَارَةُ الْحَمَّامِ الَّذِي أَنْشَاهُ عِزُّ الدِّينِ
الْحَمَوِيُّ بِمَسْجِدِ الْقَصَبِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الْحَمَّامَاتِ،
وَبَاشَرَ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ
بْنُ الْعَطَّارِ عِوَضًا عَنْ شَرَفِ الدِّينِ الْمَقْدِسِيِّ.
وَحَجَّ فِيهَا الْمَلِكُ الْمُجَاهِدُ أَنَسُ بْنُ الْمَلِكِ الْعَادِلِ
كَتْبُغَا، وَتَصَدَّقُوا بِصَدَقَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
وَنُودِيَ بِدِمَشْقَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَنْ لَا يَرْكَبَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
الذِّمَّةِ خَيْلًا وَلَا بِغَالًا، وَمَنْ رَأَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدًا
مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَدْ خَالَفَ ذَلِكَ فَلَهُ سَلْبُهُ.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا حَصَلَ بِدِيَارِ مِصْرَ
غَلَاءٌ شَدِيدٌ، هَلَكَ
بِسَبَبِهِ
خَلْقٌ كَثِيرٌ، هَلَكَ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا.
وَفِيهَا مَلَكَ التَّتَرَ قَازَانُ بْنُ أَرْغُونَ بْنِ أَبْغَا بْنِ تُولَى بْنِ
جَنْكِزْخَانَ، فَأَسْلَمَ وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ عَلَى يَدِ الْأَمِيرِ نَوْرُوزَ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَدَخَلَتِ التَّتَرُ أَوْ أَكْثَرُهُمْ فِي
الْإِسْلَامِ، وَنَثَرَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَاللُّؤْلُؤَ عَلَى رُءُوسِ
النَّاسِ يَوْمَ إِسْلَامِهِ، وَتَسَمَّى بِمَحْمُودٍ، وَشَهِدَ الْجُمُعَةَ
وَالْخُطْبَةَ، وَخَرَّبَ كَنَائِسَ كَثِيرَةً، وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ،
وَرَدَّ مَظَالِمَ كَثِيرَةً بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَظَهَرَتِ
السُّبَحُ وَالْهَيَاكِلُ مَعَ التَّتَرِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ أَبُو الرِّجَالِ الْمَنِينِيُّ: الشَّيْخُ الصَّالِحُ الزَّاهِدُ
الْعَابِدُ أَبُو الرِّجَالِ بْنُ مِرِّي بْنِ بُحْتُرٍ الْمَنِينِيُّ
كَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ وَمُكَاشَفَاتٌ، وَكَانَ أَهْلُ دِمَشْقَ وَالْبِلَادِ
يَزُورُونَهُ فِي قَرْيَةِ مَنِينَ، وَرُبَّمَا قَدِمَ هُوَ بِنَفْسِهِ إِلَى
دِمَشْقَ فَيُكْرَمُ وَيُضَافُ، وَكَانَتْ لَهُ زَاوِيَةٌ بِبَلَدِهِ، وَكَانَ
بَرِيئًا مِنْ هَذِهِ السَّمَاعَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ، وَكَانَ تِلْمِيذَ
الشَّيْخِ جَنْدَلٍ، وَكَانَ شَيْخُهُ الشَّيْخُ جَنْدَلٌ مِنْ كِبَارِ
الصَّالِحِينَ سَالِكًا طَرِيقَ السَّلَفِ أَيْضًا، وَقَدْ بَلَغَ الشَّيْخُ أَبُو
الرِّجَالِ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ بِمَنِينَ فِي مَنْزِلِهِ فِي عَاشِرِ
الْمُحَرَّمِ وَخَرَجَ النَّاسُ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى جِنَازَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ
أَدْرَكَهَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ، فَصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ،
وَدُفِنَ بِزَاوِيَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا
فِي أَوَاخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ:
عَسَّافَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ حَجِّيٍّ
الَّذِي كَانَ قَدْ أَجَارَ ذَلِكَ النَّصْرَانِيَّ الَّذِي سَبَّ الرَّسُولَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ قُتِلَ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ الْوَرِعُ بَقِيَّةُ السَّلَفِ،
جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ الْحَرَسْتَانِيِّ بْنِ
قَاضِي الْقُضَاةِ وَخَطِيبِ الْخُطَبَاءِ عِمَادِ الدِّينِ عَبْدِ الْكَرِيمِ
بْنِ جَمَالِ الدِّينِ عَبْدِ الصَّمَدِ
سَمِعَ الْحَدِيثَ وَنَابَ عَنْ أَبِيهِ فِي الْإِمَامَةِ وَتَدْرِيسِ
الْغَزَّالِيَّةِ، ثُمَّ تَرَكَ الْمَنَاصِبَ وَالدُّنْيَا، وَأَقْبَلَ عَلَى
الْعِبَادَةِ، وَكَانَ لِلنَّاسِ فِيهِ اعْتِقَادٌ حَسَنٌ صَالِحٌ، يُقَبِّلُونَ
يَدَهُ وَيَسْأَلُونَهُ الدُّعَاءَ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ
بِالسَّفْحِ عِنْدَ أَهْلِهِ فِي أَوَاخِرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ.
الشَّيْخُ مُحِبُّ الدِّينِ الطَّبَرَيُّ الْمَكِّيُّ الشَّافِعِيُّ
سَمِعَ الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ ذَلِكَ كِتَابُ "
الْأَحْكَامِ " فِي مُجَلَّدَاتٍ كَثِيرَةٍ مُفِيدَةٍ، وَلَهُ كِتَابٌ عَلَى
تَرْتِيبٍ " جَامِعِ الْمَسَانِيدِ " أَسْمَعَهُ لِصَاحِبِ الْيَمَنِ،
وَكَانَ مَوْلِدُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ وَدُفِنَ بِمَكَّةَ،
وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، فَمِنْهُ قَصِيدَتُهُ فِي الْمَنَازِلِ الَّتِي بَيْنَ
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ تَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ بَيْتٍ، كَتَبَهَا عَنْهُ الْحَافِظُ
شَرَفُ الدِّينِ الدِّمْيَاطِيُّ فِي " مُعْجَمِهِ ".
الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ صَاحِبُ الْيَمَنِ، يُوسُفُ بْنُ الْمَنْصُورِ نُورِ
الدِّينِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ
بْنِ
رَسُولٍ
أَقَامَ فِي مَمْلَكَةِ الْيَمَنِ بَعْدَ أَبِيهِ سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً،
وَعَمَّرَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ وَلِيَ أَزْيَدَ مِنْ مُدَّةِ
عِشْرِينَ سَنَةً بَعْدَ الْمَلِكِ أَقْسِيسَ بْنِ الْكَامِلِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ
عُمَرُ بْنُ رَسُولٍ مُقَدَّمَ عَسَاكِرِ أَقْسِيسَ، فَلَمَّا مَاتَ أَقِسِيسُ
وَثَبَ عَلَى الْمَلِكِ، فَتَمَّ لَهُ الْأَمْرُ، وَتَسَمَّى بِالْمَلِكِ
الْمَنْصُورِ، وَاسْتَمَرَّ أَزْيَدَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ ابْنُهُ
الْمُظَفَّرُ سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ قَامَ مِنْ بَعْدِهِ فِي
الْمُلْكِ وَلَدُهُ الْمَلِكُ الْأَشْرَفُ مُمَهِّدُ الدِّينِ، فَلَمْ يَمْكُثْ
سَنَةً حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ قَامَ أَخُوهُ الْمُؤَيَّدُ هِزَبْرُ الدِّينِ دَاوُدُ
بْنُ الْمُظَفَّرِ، فَاسْتَمَرَّ فِي الْمُلْكِ مُدَّةً، وَكَانَتْ وَفَاةُ
الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ الْمَذْكُورِ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ
جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَكَانَ يُحِبُّ الْحَدِيثَ وَيَسْمَعُهُ، وَجَمَعَ
لِنَفْسِهِ أَرْبَعِينَ حَدِيثًا.
شَرَفُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ، الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْخَطِيبُ الْمُدَرِّسُ
الْمُفْتِي: شَرَفُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الشَّيْخِ كَمَالِ
الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ نِعْمَةَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ
حَمَّادٍ الْمَقْدِسِيُّ الشَّافِعِيُّ
وُلِدَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَكَتَبَ حَسَنًا، وَصَنَّفَ فَأَجَادَ وَأَفَادَ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ نِيَابَةً
بِدِمَشْقَ وَالتَّدْرِيسَ وَالْخَطَابَةَ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ مُدَرِّسَ
الْغَزَّالِيَّةِ وَدَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ مَعَ الْخَطَابَةِ، وَدَرَّسَ
فِي وَقْتٍ بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَأَذِنَ فِي الْإِفْتَاءِ
لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُضَلَاءِ; مِنْهُمُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ
شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، وَكَانَ يَفْتَخِرُ
بِذَلِكَ وَيَفْرَحُ بِهِ وَيَقُولُ: أَنَا أَذِنْتُ لِابْنِ تَيْمِيَةَ
بِالْإِفْتَاءِ. وَكَانَ يُتْقِنُ فُنُونًا
كَثِيرَةً
مِنَ الْعُلُومِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ
جَمَعَ فِيهِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَهُوَ عِنْدِي بِخَطِّهِ الْحَسَنِ، تُوُفِّيَ
يَوْمَ الْأَحَدِ سَابِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ، وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ،
وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ كَيْسَانَ عِنْدَ وَالِدِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى، وَرَحِمَ أَبَاهُ. وَقَدْ خَطَبَ بَعْدَهُ يَوْمَ الْعِيدِ الشَّيْخُ
شَرَفُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ خَطِيبُ جَامِعِ جِرَاحٍ، ثُمَّ جَاءَ الْمَرْسُومُ
لِابْنِ جَمَاعَةَ بِالْخَطَابَةِ. وَمِنْ شَعْرِ الْخَطِيبِ شَرَفِ الدِّينِ بْنِ
نِعْمَةَ الْمَقْدِسِيِّ:
احْجُجْ إِلَى الزَّهْرِ لِتَسْعَى بِهِ وَارْمِ جِمَارَ الْهَمِّ مُسْتَنْفِرًا
مَنْ لَمْ يَطُفْ بِالزَّهْرِ فِي وَقْتِهِ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَحْلِقَ قَدْ قَصَّرَا
وَاقِفُ الْجَوْهَرِيَّةُ الصَّدْرُ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
عَيَّاشِ بْنِ أَبِي الْمَكَارِمِ التَّمِيمِيُّ الْجَوْهَرِيُّ
وَاقِفُ الْجَوْهَرِيَّةِ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ بِدِمَشْقَ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ
الثُّلَاثَاءِ تَاسِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ، وَدُفِنَ بِمَدْرَسَتِهِ، وَقَدْ جَاوَزَ
الثَّمَانِينَ، وَكَانَتْ لَهُ خَدَمٌ عَلَى الْمُلُوكِ فَمَنْ دُونَهُمْ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْمُفْتِي الْخَطِيبُ الطَّبِيبُ، مَجْدُ
الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ
بْنِ سُحْنُونَ التَّنُوخِيُّ الْحَنَفِيُّ
خَطِيبُ النَّيْرَبِ وَمُدَرِّسُ الدَّمَاغِيَّةِ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَكَانَ
طَبِيبًا مَاهِرًا حَاذِقًا، تُوُفِّيَ بِالنَّيْرَبِ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
بِجَامِعِ الصَّالِحِيَّةِ، وَكَانَ فَاضِلًا، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَرَوَى
شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ، تُوُفِّيَ
لَيْلَةَ
السَّبْتِ خَامِسَ ذِي الْقِعْدَةِ عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
الْفَارُوثِيُّ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ الْخَطِيبُ عِزُّ
الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْفَرَجِ بْنِ سَابُورَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
غَنِيمَةَ الْفَارُوثِيُّ الْوَاسِطِيُّ
وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَحَلَ
فِيهِ، وَكَانَتْ لَهُ فِيهِ يَدٌ جَيِّدَةٌ، وَفِي التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهَ
وَالْوَعْظِ وَالْبَلَاغَةِ، وَكَانَ دَيِّنًا وَرِعًا زَاهِدًا، قَدِمَ إِلَى
دِمَشْقَ فِي دَوْلَةِ الظَّاهِرِ، فَأُعْطِيَ تَدْرِيسَ الْجَارُوخِيَّةِ
وَإِمَامَةَ مَسْجِدِ ابْنِ هِشَامٍ، وَرُتِّبَ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ عَلَى
الْمَصَالِحِ، وَكَانَ فِيهِ إِيثَارٌ، وَلَهُ أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ، وَمُكَاشَفَاتٌ
كَثِيرَةٌ; تَقَدَّمَ يَوْمًا فِي مِحْرَابِ مَسْجِدِ ابْنِ هِشَامٍ لِيُصَلِّيَ
بِالنَّاسِ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ لِلْإِحْرَامَ - وَالْتَفَتَ عَنْ
يَمِينِهِ - فَقَالَ: اخْرُجْ فَاغْتَسِلْ. فَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ، ثُمَّ كَرَّرَ
ذَلِكَ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً، فَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ، فَقَالَ: يَا عُثْمَانُ،
اخْرُجْ فَاغْتَسِلْ. فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الصَّفِّ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ عَادَ،
وَجَاءَ إِلَى الشَّيْخِ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا فِي
نَفْسِهِ، ذَكَرَ أَنَّهُ أَصَابَهُ فَيْضٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَى شَخْصًا،
فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ غُسْلٌ، فَلَمَّا قَالَ الشَّيْخُ مَا قَالَ
اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُخَاطِبُ غَيْرَهُ، فَلَمَّا عَيَّنَهُ بِاسْمِهِ عَلِمَ
أَنَّهُ الْمُرَادُ.
ثُمَّ قَدِمَ الْفَارُوثِيُّ مَرَّةً أُخْرَى فِي أَوَاخِرِ أَيَّامِ الْمَنْصُورِ
قَلَاوُونَ، فَخَطَبَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ مُدَّةَ شُهُورٍ ثُمَّ عُزِلَ
بِمُوَفَّقِ الدِّينِ بْنِ الْحَمَوِيِّ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ
ذَلِكَ،
وَكَانَ قَدْ دَرَسَ بِالنَّجِيبِيَّةِ وَبِدَارِ الْحَدِيثِ الظَّاهِرِيَّةِ،
فَتَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَسَافَرَ إِلَى وَطَنِهِ، فَمَاتَ بُكْرَةَ يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ يَوْمُ مَوْتِهِ يَوْمًا
مَشْهُودًا بِوَاسِطٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ قَدْ لَبِسَ خِرْقَةَ التَّصَوُّفِ مِنَ
السُّهْرَوَرْدِيِّ، وَقَرَأَ الْقِرَاءَاتِ الْعَشَرَةَ، وَخَلَّفَ أَلْفَيْ
مُجَلَّدٍ وَمِائَتَيْ مُجَلَّدٍ، وَحَدَّثَ بِالْكَثِيرِ وَسَمِعَ مِنْهُ
الْبِرْزَالِيُّ كَثِيرًا " صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ "، وَ " جَامِعَ
التِّرْمِذِيِّ "، وَ " سُنَنَ ابْنِ مَاجَهْ "، وَ "
مُسْنَدَ الشَّافِعِيِّ "، وَ " مُسْنَدَ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ "،
وَ " مُعْجَمَ الطَّبَرَانِيِّ الصَّغِيرَ "، وَ " مُسْنَدَ
الدَّارِمَيِّ "، وَ " فَضَائِلَ الْقُرْآنِ " لِأَبِي عُبَيْدٍ،
وَثَمَانِينَ جُزْءًا وَغَيْرَ ذَلِكَ.
الْجَمَّالُ الْمُحَقِّقُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ
الدِّمَشْقِيُّ
اشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَبَرَعَ فِيهِ، وَأَفْتَى
وَأَعَادَ، وَكَانَ فَاضِلًا فِي الطِّبِّ، وَقَدْ وَلِيَ مَشْيَخَةَ
الدَّخْوَارِيَّةِ لِتَقَدُّمِهِ فِي صِنَاعَةِ الطِّبِّ عَلَى غَيْرِهِ، وَعَادَ
الْمَرْضَى بِالْمَارَسْتَانِ النُّورِيِّ عَلَى قَاعِدَةِ الْأَطِبَّاءِ، وَكَانَ
مُدَرِّسًا لِلشَّافِعِيَّةِ بِالْفَرُّخْشَاهِيَّةِ، وَمُعِيدًا بِعِدَّةِ
مَدَارِسَ، وَكَانَ جَيِّدَ الذِّهْنِ، مُشَارِكًا فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ،
سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
السِّتُّ خَاتُونُ بِنْتُ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ مُوسَى بْنِ الْعَادِلِ
زَوْجَةُ ابْنِ عَمِّهَا الْمَنْصُورِ بْنِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
الْعَادِلِ، وَهِيَ الَّتِي أُثْبِتَ سَفَهُهَا زَمَنَ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ
حَتَّى اشْتَرَى مِنْهَا حَرْزَمًا، وَأَخَذَتِ الزَّنْبَقِيَّةَ مِنْ زَيْنِ
الدِّينِ السَّامَرِّيِّ.
الصَّدْرُ
جَمَالُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُهَاجِرٍ التَّكْرِيتِيُّ، أَخُو
الصَّاحِبِ تَقِيِّ الدِّينِ تَوْبَةَ
وَلِيَ حِسْبَةَ دِمَشْقَ فِي وَقْتٍ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ أَخِيهِ بِالسَّفْحِ
وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، وَكَانَ لَهُ عَقْلٌ وَافِرٌ وَثَرْوَةٌ
وَمُرُوءَةٌ، وَخَلَّفَ ثَلَاثَ بَنِينَ; شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ، وَعَلَاءُ
الدِّينِ عَلَيٌّ، وَبَدْرُ الدِّينِ حَسَنٌ.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَخَلِيفَةُ الْوَقْتِ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو
الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمَلِكُ
الْعَادِلُ زَيْنُ الدِّينِ كَتْبُغَا، وَنَائِبُهُ بِمِصْرَ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ
لَاجِينُ السَّلَحْدَارُ الْمَنْصُورِيُّ، وَوَزِيرُهُ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ
الْخَلِيلِيِّ، وَقُضَاةُ مِصْرَ وَالشَّامِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا، وَنَائِبُ الشَّامِ عِزُّ الدِّينِ الْحَمَوِيُّ، وَوَزِيرُهُ تَقِيُّ
الدِّينِ تَوْبَةُ، وَشَادُّ الدَّوَاوِينِ الْأَعْسَرُ، وَخَطِيبُ الْبَلَدِ
وَقَاضِيهَا ابْنُ جَمَاعَةَ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ وُلِيَ نَظَرَ الْأَيْتَامِ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ هِلَالٍ
عِوَضًا عَنْ شَرَفِ الدِّينِ بْنِ الشِّيرَجِيِّ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الْغَلَاءُ وَالْفَنَاءُ بِدِيَارِ
مِصْرَ شَدِيدًا جِدًّا، وَقَدْ تَفَانَى النَّاسُ إِلَّا الْقَلِيلَ، وَكَانُوا
يَحْفِرُونَ الْحُفَيْرَةَ، فَيَدْفِنُونَ فِيهَا الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ،
وَالْأَسْعَارُ فِي غَايَةِ الْغَلَاءِ، وَالْأَقْوَاتُ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ
وَالْغَلَاءِ، وَالْمَوْتُ عَمَّالٌ، فَمَاتَ بِهَا فِي شَهْرِ صَفَرٍ مِائَةُ
أَلْفٍ وَنَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَوَقَعَ غَلَاءٌ بِالشَّامِ،
فَبَلَغَتِ الْغِرَارَةُ إِلَى مِائَتَيْنِ، وَقَدِمَتْ طَائِفَةٌ مِنَ التَّتَرِ
الْعُوَيْرَاتِيَّةِ لَمَّا بَلَغَهُمْ سَلْطَنَةُ كَتْبُغَا إِلَى الشَّامِ;
لِأَنَّهُ مِنْهُمْ، فَتَلَقَّاهُمُ الْجَيْشُ بِالرُّحْبِ وَالسِّعَةِ، ثُمَّ
سَافَرُوا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَعَ الْأَمِيرِ قَرَاسُنْقُرَ
الْمَنْصُورِيِّ.
وَجَاءَ
الْخَبَرُ بِاشْتِدَادِ الْغَلَاءِ وَالْفَنَاءِ بِمِصْرَ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ
بِيعَ الْفَرُّوجُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا،
وَبِالْقَاهِرَةِ بِتِسْعَةَ عَشَرَ، وَالْبَيْضُ كُلُّ ثَلَاثَةٍ بِدِرْهَمٍ،
وَأُفْنِيَتِ الْحُمُرُ وَالْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْكِلَابُ مِنْ أَكْلِ
النَّاسِ لَهَا، وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ يَلَوُحُ
إِلَّا أَكَلُوهُ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى وَلِيَ قَضَاءَ
الْقُضَاةِ بِمِصْرَ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ
عِوَضًا عَنْ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ، ثُمَّ وَقَعَ الرُّخْصُ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَزَالَ الضُّرُّ وَالْجُوعُ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي شَهْرِ رَجَبٍ دَرَّسَ الْقَاضِي إِمَامُ
الدِّينِ بِالْقَيْمُرِيَّةِ عِوَضًا عَنْ صَدْرِ الدِّينِ بْنِ رَزِينَ الَّذِي
تُوُفِّيَ.
قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَفِيهَا وَقَعَتْ صَاعِقَةٌ عَلَى قُبَّةِ زَمْزَمٍ،
فَقَتَلَتِ الشَّيْخَ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ مُؤَذِّنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَانَ يُؤَذِّنُ عَلَى سَطْحِ الْقُبَّةِ الْمَذْكُورَةِ،
وَكَانَ قَدْ رَوَى شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ.
وَفِيهَا قَدِمَتِ امْرَأَةُ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ أُمُّ سَلَامُشَ مِنْ بِلَادِ
الْأَشْكَرِيِّ إِلَى دِمَشْقَ فِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا
نَائِبُ الْبَلَدِ بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ، وَرَتَّبَ لَهَا الرَّوَاتِبَ
وَالْإِقَامَاتِ، وَكَانَ قَدْ نَفَاهُمْ خَلِيلُ بْنُ الْمَنْصُورِ لَمَّا وَلِيَ
السَّلْطَنَةَ.
قَالَ ابْنُ الْجَزَرِيِّ: وَفِي رَجَبٍ دَرَّسَ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ
بِالظَّاهِرِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ عِوَضًا عَنْ جَلَالِ الدِّينِ
الْقَزْوِينِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ عَشَرَ شَعْبَانَ دَرَّسَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
تَقِيُّ
الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ الْحَرَّانِيُّ بِالْمَدْرَسَةِ الْحَنْبَلِيَّةِ
عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ بْنِ الْمُنَجَّا، تُوُفِّيَ إِلَى
رَحْمَةِ اللَّهِ، وَنَزَلَ ابْنُ تَيْمِيَةَ عَنْ حَلْقَةِ الْعِمَادِ بْنِ
الْمُنَجَّا لِشَمْسِ الدِّينِ بْنِ الْفَخْرِ الْبَعْلَبَكِّيِّ.
وَفِي أَوَاخِرِ شَوَّالٍ نَابَ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينُ الزُّرَعِيُّ الَّذِي
كَانَ حَاكِمًا بِزُرْعَ - وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سَالِمٍ
الْأَذْرَعِيُّ - عَنِ ابْنِ جَمَاعَةَ بِدِمَشْقَ، فَشُكِرَتْ سِيرَتُهُ.
وَفِيهَا خَرَجَ السُّلْطَانُ كَتْبُغَا مِنْ مِصْرَ قَاصِدًا الشَّامَ فِي
أَوَاخِرِ شَوَّالٍ، وَلَمَّا جَاءَ الْبَرِيدِ بِذَلِكَ ضَرَبَتِ الْبَشَائِرُ
بِالْقَلْعَةِ، وَنَزَلُوا بِالْقَلْعَةِ; السُّلْطَانُ وَنَائِبُهُ لَاجِينُ
وَوَزِيرُهُ ابْنُ الْخَلِيلِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَادِسَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ وَلِيَ قَضَاءَ
الْحَنَابِلَةِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ حَمْزَةَ
الْمَقْدِسِيُّ عِوَضًا عَنْ شَرَفِ الدِّينِ، مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَخُلِعَ
عَلَيْهِ وَعَلَى بَقِيَّةِ الْحُكَّامِ وَأَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ الْكِبَارِ
وَأَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَوَلِيَ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ
وِكَالَةَ بَيْتِ الْمَالِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ الشِّيرَازِيِّ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ
مَعَ الْجَمَاعَةِ. وَرُسِمَ عَلَى الْأَعْسَرِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ
وَخَلْقٍ مِنَ الْكَتَبَةِ وَالْوُلَاةِ، وَصُودِرُوا بِمَالٍ كَثِيرٍ، وَاحْتِيطَ
عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَحَوَاصِلِهِمْ، وَعَلَى بَيْتِ ابْنِ السَّلْعُوسِ وَابْنِ
عَدْنَانَ وَخَلْقٍ، وَجَرَتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ. وَقَدِمَ ابْنَا الشَّيْخِ
عَلِيٍّ الْحَرِيرِيِّ; حَسَنٌ وَشِيثٌ مِنْ بُسْرَ لِزِيَارَةِ السُّلْطَانِ،
فَحَصَلَ لَهُمَا مِنْهُ رِفْدٌ
وَإِسْعَافٌ،
وَعَادَا إِلَى بِلَادِهِمَا. وَضَيَّفَتِ الْقَلَنْدَرِيَّةُ السُّلْطَانَ
بِسَفْحِ جَبَلِ الْمِزَّةِ، فَأَعْطَاهُمْ نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ.
وَقِدِمَ صَاحِبُ حَمَاةَ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ، وَلَعِبَ مَعَهُ الْكُرَةَ
بِالْمَيْدَانِ. وَاشْتَكَتِ الْأَشْرَافُ مِنْ نَقِيبِهِمْ زَيْنِ الدِّينِ بْنِ
عَدْنَانَ، فَرَفَعَ الصَّاحِبُ يَدَهُ عَنْهُمْ، وَجَعَلَ أَمْرَهُمْ إِلَى
الْقَاضِي الشَّافِعِيِّ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ
مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ صَلَّى السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ كَتْبُغَا
بِمَقْصُورَةِ الْخَطَابَةِ، وَعَنْ يَمِينِهِ صَاحِبُ حَمَاةَ، وَتَحْتَهُ بَدْرُ
الدِّينِ أَمِيرُ سِلَاحٍ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَوْلَادُ الْحَرِيرِيِّ حَسَنٌ
وَأَخَوَاهُ، وَتَحْتَهُمْ نَائِبُ الْمَمْلَكَةِ حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ،
وَإِلَى جَانِبِهِ نَائِبُ الشَّامِ عِزُّ الدِّينِ الْحَمَوِيُّ، وَتَحْتَهُ
بَدْرُ الدِّينِ بَيْسَرِيُّ، وَتَحْتَهُ قَرَاسُنْقُرُ، وَإِلَى جَانِبِهِ
الْحَاجُّ بَهَادِرُ، وَخَلْفَهُمْ أُمَرَاءُ كِبَارٌ، وَخَلَعَ عَلَى الْخَطِيبِ
بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ خِلْعَةً سِنِيَّةً، وَلَمَّا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ
سَلَّمَ عَلَى السُّلْطَانِ، وَزَارَ السُّلْطَانُ الْمُصْحَفَ الْعُثْمَانِيَّ،
ثُمَّ أَصْبَحَ يَوْمَ السَّبْتِ، فَلَعِبَ الْكُرَةَ بِالْمَيْدَانِ عَلَى
الْعَادَةِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِي ذِي الْحِجَّةِ عَزَلَ الْأَمِيرَ عِزَّ
الدِّينِ الْحَمَوِيَّ عَنِ النِّيَابَةِ، وَعَاتَبَهُ السُّلْطَانُ عِتَابًا
كَثِيرًا عَلَى أَشْيَاءَ صَدَرَتْ مِنْهُ، ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، وَأَمَرَهُ
بِالْمَسِيرِ مَعَهُ إِلَى مِصْرَ، وَاسْتَنَابَ بِالشَّامِ الْأَمِيرَ سَيْفَ
الدِّينِ غُرْلُو الْعَادِلِيَّ، وَخَلَعَ عَلَى
الْمُولَّى
وَعَلَى الْمَعْزُولِ أَيْضًا، وَحَضَرَ السُّلْطَانُ دَارَ الْعَدْلِ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ الْوَزِيرُ وَالْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ، وَكَانَ عَادِلًا كَمَا
سُمِّيَ.
وَفِيهِ تَوَلَّى الْوِزَارَةَ شِهَابُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ عِوَضًا عَنِ
التَّقِيِّ بْنِ الْبَيِّعِ التَّكْرِيتِيِّ، وَوَلِيَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ
شِهَابِ الدِّينِ الْحِسْبَةَ عِوَضًا عَنْ أَبِيهِ وَخُلِعَ عَلَيْهِمَا.
ثُمَّ سَافَرَ السُّلْطَانُ فِي ثَانِي عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ وَاجْتَازَ عَلَى
جُوسِيَةَ، ثُمَّ أَقَامَ بِالْبَرِّيَّةِ أَيَّامًا، ثُمَّ عَادَ فَنَزَلَ
حِمْصَ، وَجَاءَ إِلَيْهِ نُوَّابُ الْبِلَادِ. وَجَلَسَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ غُرْلُو بِدَارِ الْعَدْلِ، فَحَكَمَ وَعَدَلَ، وَكَانَ مَحْمُودَ
السِّيرَةِ، سَدِيدَ الْحُكْمِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ بْنُ مُنَجَّا
هُوَ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ مُفْتِي الْمُسْلِمِينَ الصَّدْرُ
الْكَامِلُ زَيْنُ الدِّينِ أَبُو الْبَرَكَاتِ الْمُنَجَّا بْنُ الصَّدْرِ عِزِّ
الدِّينِ أَبِي عَمْرٍو عُثْمَانَ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ الْمُنَجَّا بْنِ بَرَكَاتِ
بْنِ الْمُؤَمَّلِ التَّنُوخِيُّ، شَيْخُ الْحَنَابِلَةِ وَعَالِمُهُمْ، وُلِدَ
سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ،
فَبَرَعَ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْعَرَبِيَّةِ
وَالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ
الْمَذْهَبِ،
وَصَنَّفَ فِي الْأُصُولِ، وَشَرَحَ " الْمُقْنِعَ "، وَلَهُ تَعَالِيقُ
فِي التَّفْسِيرِ، وَكَانَ قَدْ جُمِعَ لَهُ بَيْنَ حُسْنِ الشَّكْلِ وَالسَّمْتِ
وَالدِّيَانَةِ وَالْعِلْمِ وَالْوَجَاهَةِ وَصِحَّةِ الذِّهْنِ وَالْعَقِيدَةِ
وَالْمُنَاظَرَةِ وَكَثْرَةِ الصَّدَقَةِ، وَلَمْ يَزَلْ يُوَاظِبُ الْجَامِعَ
لِلِاشْتِغَالِ مُتَبَرِّعًا حَتَّى تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ رَابِعِ
شَعْبَانَ، وَتُوُفِّيَتْ مَعَهُ زَوْجَتُهُ أُمُّ مُحَمَّدٍ سِتُّ الْبَهَاءِ
بِنْتُ صَدْرِ الدِّينِ الْخُجَنْدِيِّ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الْجُمُعَةِ
بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَحُمِلَا جَمِيعًا إِلَى سَفْحِ قَاسِيونَ شَمَالِ
الْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ تَحْتَ الرَّوْضَةِ، فَدُفِنَا فِي تُرْبَةٍ
وَاحِدَةٍ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. وَهُوَ وَالِدُ قَاضِي الْقُضَاةِ
عَلَاءِ الدِّينِ، وَكَانَ شَيْخَ الْمِسْمَارِيَّةِ، ثُمَّ وَلِيَهَا بَعْدَهُ
وَلَدَاهُ شَرَفُ الدِّينِ وَعَلَاءُ الدِّينِ، وَكَانَ شَيْخَ الْحَنْبَلِيَّةِ،
فَدَرَّسَ بِهَا بَعْدَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، كَمَا
ذَكَرْنَا فِي الْحَوَادِثِ.
الْمَسْعُودِيُّ صَاحِبُ الْحَمَّامِ بِالْمِزَّةِ: هُوَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ
بَدْرُ الدِّينِ لُؤْلُؤُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَسْعُودِيُّ
أَحَدُ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِخِدْمَةِ الْمُلُوكِ، تُوُفِّيَ
بِبُسْتَانِهِ بِالْمِزَّةِ يَوْمَ السَّبْتِ سَابِعَ عِشْرِينَ شَعْبَانَ،
وَدُفِنَ صُبْحَ يَوْمِ الْأَحَدِ بِتُرْبَتِهِ بِالْمِزَّةِ، وَحَضَرَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ جِنَازَتَهُ، وَعُمِلَ عَزَاؤُهُ تَحْتَ النَّسْرِ بِجَامِعِ
دِمَشْقَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الْخَالِدِيُّ: الشَّيْخُ الصَّالِحُ إِسْرَائِيلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
حُسَيْنٍ الْخَالِدِيُّ
لَهُ زَاوِيَةٌ خَارِجَ بَابِ السَّلَامَةِ، يُقْصَدُ فِيهَا لِلزِّيَارَةِ،
وَكَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى عِبَادَةٍ وَزَهَادَةٍ، لَا يَقُومُ لِأَحَدٍ مِنَ
النَّاسِ، وَلَوْ كَانَ مَنْ كَانَ، وَعِنْدَهُ سُكُونٌ وَمَعْرِفَةٌ، لَا
يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ إِلَّا لِلْجُمُعَةِ، حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِقَاسِيونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرَفُ
حَسَنٌ الْمَقْدِسِيُّ
هُوَ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ الْحَسَنُ بْنُ الشَّيْخِ
الْإِمَامِ الْخَطِيبِ شَرَفِ الدِّينِ أَبِي بَكْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ الْمَقْدِسِيُّ، سَمْعَ الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهَ، وَبَرَعَ
فِي الْفُرُوعِ وَاللُّغَةِ، وَفِيهِ أَدَبٌ وَحُسْنُ مُحَاضِرَةٍ، مَلِيحُ
الشَّكْلِ، تَوَلَّى الْقَضَاءَ بَعْدَ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ الشَّيْخِ شَمْسِ
الدِّينِ فِي أَوَاخِرِ سَنَةِ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ، وَدَرَّسَ بِدَارِ الْحَدِيثِ
الْأَشْرَفِيَّةِ بِالسَّفْحِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ الثَّانِي
وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، وَقَدْ قَارَبَ السِّتِّينَ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ
بِمَقْبَرَةِ جَدِّهِ بِالسَّفْحِ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ جِنَازَتَهُ، وَعُمِلَ مِنَ الْغَدِ عَزَاؤُهُ بِالْجَامِعِ
الْمُظَفَّرِيِّ، وَبَاشَرَ الْقَضَاءَ بَعْدَهُ تَقِيُّ الدِّينِ سُلَيْمَانُ
بْنُ حَمْزَةَ، وَكَذَا مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ
بِالسَّفْحِ، وَقَدْ وَلِيَهَا شِهَابُ الدِّينِ الْعَابِرُ الْحَنْبَلِيُّ
النَّابُلُسِيُّ مُدَّةَ شُهُورٍ، ثُمَّ صُرِفَ عَنْهَا، وَاسْتَقَرَّتْ بِيَدِ
قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ الْمَقْدِسِيِّ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْبَارِعُ النَّاسِكُ أَبُو
مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ الْمَغْرِبِيُّ الْمَالِكِيُّ
تُوُفِّيَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانَ قَوَّالًا
بِالْحَقِّ، أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ نَهَّاءً عَنِ الْمُنْكَرِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
الصَّاحِبُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ النَّحَّاسِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ
بْنُ بَدْرِ الدِّينِ
يَعْقُوبَ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ طَارِقِ بْنِ سَالِمِ بْنِ
النَّحَّاسِ الْأَسَدِيُّ الْحَلَبِيُّ الْحَنَفِيُّ
وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ بِحَلَبَ، وَاشْتَغَلَ وَبَرَعَ
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً، وَدَرَّسَ بِهَا بِمَدَارِسَ
كِبَارٍ; مِنْهَا الظَّاهِرِيَّةُ وَالزَّنْجَارِيَّةُ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ
بِحَلَبَ وَالْوِزَارَةَ بِدِمَشْقَ، وَنَظَرَ الْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ
الدَّوَاوِينِ وَالْأَوْقَافِ، وَلَمْ يَزَلْ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا مَعْرُوفًا
بِالْفَضِيلَةِ وَالْإِنْصَافِ فِي الْمُنَاظَرَةِ، مُحِبًّا لِلْحَدِيثِ
وَأَهْلِهِ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَكَانَ يُحِبُّ الشَّيْخَ عَبْدَ
الْقَادِرِ وَطَائِفَتَهُ وَطَرِيقَتَهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبُسْتَانِهِ
بِالْمِزَّةِ عَشِيَّةَ الِاثْنَيْنِ سَلْخَ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَدْ جَاوَزَ
الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ مُسْتَهَلَّ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ
سِتٍّ وَتِسْعِينَ بِمَقْبَرَةٍ لَهُ بِالْمِزَّةِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ وَالْقُضَاةُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ، أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ
قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْوَهَّابِ ابْنِ
بِنْتِ الْقَاضِي الْأَعَزِّ أَبِي الْقَاسِمِ خَلَفِ بْنِ بَدْرٍ، الْعَلَائِيُّ
الشَّافِعِيُّ
تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ بِتُرْبَتِهِمْ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ
دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ
الْمَلِكُ الْعَادِلُ زَيْنُ الدِّينِ كَتْبُغَا وَهُوَ فِي نُوَاحِي حِمْصَ
يَتَصَيَّدُ، وَمَعَهُ نَائِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ حُسَامُ الدِّينِ
لَاجِينُ السِّلَحْدَارِيُّ الْمَنْصُورِيُّ وَأَكَابِرُ الْأُمَرَاءِ، وَنَائِبُ
الشَّامِ بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ غُرْلُو الْعَادِلِيُّ، وَقُضَاةُ
الشَّامِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا غَيْرَ الْحَنْبَلِيِّ
فَإِنَّهُ تَقِيُّ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ حَمْزَةَ، وَالْوَزِيرُ شِهَابُ
الدِّينِ الْحَنَفِيُّ وَابْنُهُ الْمُحْتَسِبُ، وَخَطِيبُ الْبَلَدِ قَاضِي
الْقُضَاةِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ الشَّافِعِيُّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي الْمُحَرَّمِ دَخَلَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ
كَتْبُغَا ضُحًى إِلَى دِمَشْقَ مِنْ نَوَاحِي حِمْصَ، وَصَلَّى الْجُمُعَةَ
بِالْمَقْصُورَةِ، وَزَارَ قَبْرَ هُودٍ، وَصَلَّى عِنْدَهُ، وَأَخَذَ مِنَ
النَّاسِ قِصَصَهُمْ بِيَدِهِ، وَجَلَسَ بِدَارِ الْعَدْلِ يَوْمَ السَّبْتَ،
وَوَقَّعَ عَلَى الْقَصَصِ هُوَ وَوَزِيرُهُ فَخْرُ الدِّينِ الْخَلِيلِيُّ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ حَضَرَ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ
النَّحَّاسِ فِي مَدْرَسَتَيْ أَبِيهِ; الرَّيْحَانِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ،
وَحَضَرَ النَّاسُ عِنْدَهُ، ثُمَّ حَضَرَ السُّلْطَانُ دَارَ الْعَدْلِ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ، وَجَاءَ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَصَلَّى بِالْمَقْصُورَةِ
ثُمَّ صَعِدَ فِي
هَذَا
الْيَوْمَ إِلَى مَغَارَةِ الدَّمِ وَزَارَهَا، وَدَعَا هُنَالِكَ، وَتَصَدَّقَ
بِجُمْلَةٍ مِنَ الْمَالِ، وَحَضَرَ الْوَزِيرُ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ
الْخَلِيلِيِّ لَيْلَةَ الْأَحَدِ ثَالِثَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ إِلَى الْجَامِعِ
بَعْدَ الْعِشَاءِ فَجَلَسَ عِنْدَ شُبَّاكِ الْكَامِلِيَّةِ، وَقَرَأَ
الْقُرَّاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَسَمَ بِأَنْ يُكَمَّلَ دَاخِلُ الْجَامِعِ
بِالْفُرُشِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ نَحَوًا مِنْ شَهْرَيْنِ،
ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَفِي صَبِيحَةِ هَذَا الْيَوْمِ دَرَّسَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ
الْحَرِيرِيِّ بِالْقَيْمَازِيَّةِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ النَّحَّاسِ بِاتِّفَاقٍ
مِنْهُمْ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ، ثُمَّ صَلَّى السُّلْطَانُ الْجُمُعَةَ
بِالْمَقْصُورَةِ، وَمَعَهُ وَزِيرُهُ ابْنُ الْخَلِيلِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مِنْ
مَرَضٍ أَصَابَهُ، وَفِي سَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ أُمِرَ لِلْمَلِكِ
الْكَامِلِ بْنِ الْمَلِكِ السَّعِيدِ بْنِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
الْعَادِلِ بِطَبْلَخَانَةٍ وَلُبْسِ الشَّرَبُوشِ، وَدَخَلَ الْقَلْعَةَ،
وَضُرِبَتْ لَهُ الْكُوسَاتُ عَلَى بَابِهِ، وَخَرَجَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
الْعَادِلُ كَتْبُغَا بِالْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ مِنْ دِمَشْقَ بُكْرَةَ
يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَانِي عِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ، وَخَرَجَ بَعْدَهُ
الْوَزِيرُ، فَاجْتَازَ بِدَارِ الْحَدِيثِ، وَزَارَ الْأَثَرَ النَّبَوِيَّ،
وَخَرَجَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْفَارِقِيُّ، وَشَافَهَهُ
بِتَدْرِيسِ النَّاصِرِيَّةِ، وَتَرَكَ زَيْنُ الدِّينِ تَدْرِيسَ الشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ، فَوَلِيَهَا الْقَاضِي كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ،
وَذُكِرَ أَنَّ الْوَزِيرَ أَعْطَى الشَّيْخَ زَيْنَ الدِّينِ شَيْئًا مِنْ
حُطَامِ الدُّنْيَا فَقَبِلَهُ، وَكَذَلِكَ أَعْطَى خَادِمَ الْأَثَرِ وَهُوَ
الْمَعِينُ خَطَّابٌ. وَخَرَجَ الْأَعْيَانُ وَالْقُضَاةُ مَعَ الْوَزِيرِ
لِتَوْدِيعِهِ. وَوَقَعَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَطَرٌ جَيِّدٌ اسْتَشْفَى النَّاسُ
بِهِ،
وَغَسَلَ
آثَارَ الْعَسَاكِرِ مِنَ الْأَوْسَاخِ وَغَيْرِهَا، وَعَادَ التَّقِيُّ تَوْبَةُ
مِنْ تَوْدِيعِ الْوَزِيرِ، وَقَدْ فَوَّضَ إِلَيْهِ نَظَرَ الْخِزَانَةِ،
وَعَزَلَ عَنْهَا شِهَابَ الدِّينِ بْنَ النَّحَّاسِ، وَدَرَّسَ الشَّيْخُ زَيْنُ
الدِّينِ بِالنَّاصِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الْقَاضِي بَدْرِ
الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ آخَرِ يَوْمٍ مِنَ
الْمُحَرَّمِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تَحَدَّثَ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِوُقُوعِ تَخْبِيطٍ
بَيْنَ الْعَسْكَرِ وَخُلْفٍ وَتَشْوِيشٍ، فَغُلِّقَ بَابُ الْقَلْعَةِ الَّذِي
يَلِي الْمَدِينَةَ، وَدَخَلَ الصَّاحِبُ شِهَابُ الدِّينِ إِلَيْهَا مِنْ بَابِ
الْخَوْخَةِ، وَتَهَيَّأَ النَّائِبُ وَالْأُمَرَاءُ، وَرَكِبَ طَائِفَةٌ مِنَ
الْجَيْشِ عَلَى بَابِ النَّصْرِ وُقُوفًا هُنَالِكَ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ
الْعَصْرِ وَصْلَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْعَادِلُ كَتْبُغَا إِلَى الْقَلْعَةِ
فِي خَمْسَةِ أَنْفُسٍ أَوْ سِتَّةٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ، فَدَخَلَ الْقَلْعَةَ،
فَجَاءَ إِلَيْهِ الْأُمَرَاءُ، وَأَحْضَرَ ابْنَ جَمَاعَةَ وَحُسَامَ الدِّينِ
الْحَنَفِيَّ، وَتَجَدَّدَ تَحْلِيفُ الْأُمَرَاءِ ثَانِيَةً فَحَلَفُوا لَهُ،
وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى نُوَّابِ الْأَمِيرِ حُسَامِ
الدِّينِ لَاجِينَ وَحَوَاصِلِهِ، وَأَقَامَ الْعَادِلُ بِالْقَلْعَةِ هَذِهِ
الْأَيَّامَ، وَكَانَ الْخُلْفُ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَهُمْ بِوَادِي فَحْمَةَ
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْأَمِيرَ حُسَامَ الدِّينِ لَاجِينَ كَانَ قَدْ وَاطَأَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ
فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْعَادِلِ، وَتَوَثَّقَ مِنْهُمْ، وَأَشَارَ عَلَى
الْعَادِلِ حِينَ خَرَجُوا مِنْ دِمَشْقَ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ الْخِزَانَةَ;
وَذَلِكَ لِئَلَّا يَبْقَى بِدِمَشْقَ شَيْءٌ مِنَ الْمَالِ يَتَقَوَّى بِهِ
الْعَادِلُ إِنْ فَاتَهُمَ وَرَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ، وَيَكُونُ قُوَّةً لَهُ هُوَ
فِي الطَّرِيقِ عَلَى مَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدْرِ، فَلَمَّا كَانُوا
بِالْمَكَانِ
الْمَذْكُورِ قَتَلَ لَاجِينُ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ بَتْخَاصَ وَبَكْتُوتَ
الْأَزْرَقَ الْعَادِلِيَّيْنِ، وَأَخَذَ الْخِزَانَةَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَالْعَسْكَرَ، وَقَصَدَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَلَمَّا سَمِعَ الْعَادِلُ
بِذَلِكَ خَرَجَ مِنَ الدِّهْلِيزِ، وَسَاقَ جَرِيدَةً إِلَى دِمَشْقَ،
فَدَخَلَهَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَتَرَاجَعَ بَعْضُ مَمَالِيكِهِ كَزَيْنِ الدِّينِ
غَلْبَكَ وَغَيْرِهِ، وَلَزِمَ شِهَابُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ الْقَلْعَةَ
لِتَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ، وَدَرَّسَ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ
بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ بُكْرَةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلِّ صَفْرٍ،
وَتَقَلَّبَتْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلَزِمَ السُّلْطَانُ
الْقَلْعَةَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَأَطْلَقَ كَثِيرًا مِنَ الْمُكُوسِ، وَكَتَبَ
بِذَلِكَ تَوَاقِيعَ، وَقُرِئَتْ عَلَى النَّاسِ، وَغَلَا السِّعْرُ جِدًّا،
فَبَلَغَتِ الْغِرَارَةُ مِائَتَيْنِ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
سَلْطَنَةُ الْمَلِكِ مَنْصُورِ لَاجِينَ السِّلَحْدَارِ
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَاقَ الْخِزَانَةَ، وَذَهَبَ بِالْجُيُوشِ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ دَخَلَهَا فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَقَدِ اتَّفَقَ
مَعَ جُمْهُورِ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ، وَبَايَعُوهُ وَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ،
وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَاشِرِ صَفَرٍ، وَدَقَّتْ
بِمِصْرَ الْبَشَائِرُ، وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ
وَبِالْقُدْسِ وَالْخَلِيلِ، وَلُقِّبَ بِالْمَلِكِ الْمَنْصُورِ، وَكَذَلِكَ
بِالْكَرَكِ وَنَابُلُسَ وَصَفَدَ، وَذَهَبَتْ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ
دِمَشْقَ، وَقَدَّمَتِ الْجَرِيدَةُ مِنْ جِهَةِ الرَّحْبَةِ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ
سَيْفِ الدِّينِ كُجْكُنَ، فَلَمْ يَدْخُلُوا الْبَلَدَ بَلْ نَزَلُوا
بِمَيْدَانَ
الْحَصَى، وَأَظْهَرُوا مُخَالَفَةَ الْعَادِلِ وَطَاعَةَ الْمَنْصُورِ لَاجِينَ
بِمِصْرَ، وَرَكِبَ إِلَيْهِ الْأُمَرَاءُ طَائِفَةً بَعْدَ طَائِفَةٍ، وَفَوْجًا
بَعْدَ فَوْجٍ، فَضَعُفَ أَمْرُ الْعَادِلِ جِدًّا. فَلَمَّا رَأَى انْحِلَالَ
أَمْرِهِ قَالَ لِلْأُمَرَاءِ: هُوَ خُشْدَاشِيٌّ، وَأَنَا وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ،
وَأَنَا لَهُ سَامِعٌ مُطِيعٌ، وَأَنَا أَجْلِسُ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنَ
الْقَلْعَةِ أَرَادَ، حَتَّى تُكَاتِبُوهُ وَتَنْظُرُوا مَا يَقُولُ. وَجَاءَتِ
الْبَرِيدِيَّةُ بِالْمُكَاتَبَاتِ بِأَمْرِ الِاحْتِيَاطِ عَلَى الْقَلْعَةِ
وَعَلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ، وَبَقِيَ النَّاسُ فِي هَرْجٍ وَأَقْوَالٍ
مُخْتَلِفَةٍ، وَأَبْوَابُ الْقَلْعَةِ مُغْلَقَةٌ، وَأَبْوَابُ الْمَدِينَةِ
سِوَى بَابِ النَّصْرِ إِلَّا الْخَوْخَةَ، وَالْعَامَّةُ حَوْلَ الْقَلْعَةِ قَدِ
ازْدَحَمُوا حَتَّى سَقَطَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فِي الْخَنْدَقِ، فَمَاتَ
بَعْضُهُمْ، وَأَمْسَى النَّاسُ عَشِيَّةَ السَّبْتِ، وَقَدْ أُعْلِنَ بِاسْمِ
الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ لَاجِينَ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِذَلِكَ بَعْدَ
الْعَصْرِ، وَدَعَا لَهُ الْمُؤَذِّنُونَ فِي سَحَرِ لَيْلَةِ الْأَحَدِ بِجَامِعِ
دِمَشْقَ، وَتَلَوْا قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ
مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ [ آلِ عِمْرَانَ: 26 ].
وَأَصْبَحَ النَّاسُ يَوْمَ الْأَحَدِ، فَاجْتَمَعَ الْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ،
وَفِيهِمْ غُرْلُو الْعَادِلِيُّ بِدَارِ السَّعَادَةِ، فَحَلَفُوا لِلْمَنْصُورِ
لَاجِينَ، وَنُودِيَ بِذَلِكَ فِي الْبَلَدِ، وَأَنْ يَفْتَحَ النَّاسُ
دَكَاكِينَهُمْ، وَاخْتَفَى الصَّاحِبُ شِهَابُ الدِّينِ وَأَخُوهُ زَيْنُ
الدِّينِ الْمُحْتَسِبُ، فَعَمِلَ الْوَالِي ابْنُ النَّشَّابِيِّ حِسْبَةَ
الْبَلَدِ، ثُمَّ ظَهَرَ زَيْنُ الدِّينِ، فَبَاشَرَهَا عَلَى عَادَتِهِ. وَكَذَلِكَ
ظَهَرَ أَخُوهُ شِهَابُ الدِّينِ، وَسَافَرَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ غُرْلُو
وَسَيْفُ الدِّينِ جَاغَانُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يُعْلِمَانِ
السُّلْطَانَ بِوُقُوعِ التَّحْلِيفِ عَلَى مَا رَسَمَ بِهِ،
وَجَاءَ كِتَابُ السُّلْطَانِ أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَاشِرَ صَفَرٍ، وَشَقَّ الْقَاهِرَةَ فِي سَادِسَ عَشَرَةَ فِي أُبَّهَةِ الْمَمْلَكَةِ وَعَلَيْهِ الْخِلْعَةُ الْخَلِيفِيَّةُ، وَالْأُمَرَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ مُشَاةً، وَأَنَّهُ قَدِ اسْتَنَابَ بِمِصْرَ الْأَمِيرَ شَمْسَ الدِّينِ قَرَاسُنْقُرَ الْمَنْصُورِيَّ، وَخُطِبَ لِلْمَنْصُورِ لَاجِينَ بِدِمَشْقَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَحَضَرَ الْمَقْصُورَةَ الْقُضَاةُ وَشَمْسُ الدِّينِ الْأَعْسَرُ وَكُجْكُنُ وَأَسَنْدَمُرُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ دِمَشْقَ، وَتَوَجَّهَ الْقَاضِي إِمَامُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ وَحُسَامُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ وَجَمَالُ الدِّينِ الْمَالِكِيُّ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَطْلُوبِينَ، وَقَدِمَ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ أُسْتَاذَدَارُ السُّلْطَانَ، وَسَيْفُ الدِّينِ جَاغَانُ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ، فَحَلَفَ الْأُمَرَاءُ ثَانِيَةً، وَدَخَلُوا عَلَى الْعَادِلِ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَمَعَهُمُ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ وَكُجْكُنُ، فَحَلَّفُوهُ أَيْمَانًا مُؤَكَّدَةً بَعْدَ مَا طَالَ بَيْنَهُمُ الْكَلَامُ بِالتُّرْكِيِّ، وَذَكَرَ فِي حَلِفِهِ أَنَّهُ رَاضٍ بِمَا يُعَيِّنُهُ لَهُ مِنَ الْبُلْدَانِ أَيَّ بَلَدٍ كَانَ، فَوَقَعَ التَّعْيِينُ بَعْدَ الْيَمِينِ عَلَى قَلْعَةِ صَرْخَدَ، وَجَاءَتِ الْمَرَاسِيمُ بِالْوِزَارَةِ لِتَقِيِّ الدِّينِ تَوْبَةَ، وَعُزِلَ شِهَابُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ، وَبِالْحِسْبَةِ لِأَمِينِ الدِّينِ يُوسُفَ الْأَرْمِنِيِّ الرُّومِيِّ صَاحِبِ شَمْسِ الدِّينِ الْأَيْكِيِّ، عِوَضًا عَنْ زَيْنِ الدِّينِ الْحَنَفِيِّ، أَخِي شِهَابِ الدِّينِ الَّذِي كَانَ وَزِيرًا، وَدَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قَبْجَقُ الْمَنْصُورِيُّ عَلَى نِيَابَةِ الشَّامِ إِلَى دِمَشْقَ بُكْرَةَ السَّبْتِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَنَزَلَ دَارَ السَّعَادَةِ عِوَضًا عَنْ غُرْلُو الْعَادِلِيِّ، وَقَدْ خَرَجَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ لِتَلَقِّيهِ، وَحَضَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْمَقْصُورَةِ، فَصَلَّى بِهَا وَقُرِئَ بَعْدَ الْجُمُعَةِ