من أسباب محبة الله تعالى عبده (نفع الناس -
إدخال السرور على المسلم - تفريج كربه - إطعامه - تأمينه)
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أي الناس أحبّ إلى الله؟ وأيّ الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كُرْبَةً، أو تقضي عنه دَيْنًا، أو تطرد عنه جوعًا - وفي رواية جزَعًا - ولئن أمشي مع أخٍ لي في حاجةٍ أحبُّ إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا، في مسجدِ المدينة... ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى يُثبتها له ثبَّت الله قدمه يوم تزول الأقدام"[1].
وقد ورد الشطر الأول من هذا الحديث مجزَّأ على حديثين في الجامع الصغير..
أولهما: "المؤمن يألَف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعُهم للناس" قال المناوي: قال الماوردي: بَيَّن به أن الإنسان لا يُصلِح حالَه إلا الألفة الجامعة؛ فإنه مقصودٌ بالأذية محسودٌ بالنعمة، فإذا لم يكن ألِفًا مألوفا تختطفه أيدي حاسديه، وتحكم فيه أهواء أعاديه؛ فلم تسلم له نعمةٌ ولم تصْفُ له مدة، وإذا كان ألِفًا مألوفا انتصر بالألف على أعاديه، وامتنع بهم من حسَّاده فسلمت نعمتُه منهم وصَفَت مودته بينهم، وإن كان صفو الزمان كدرًا ويسره عسرًا وسِلمه خطرا والعرب تقول: من قَلَّ ذلَّ[2].
وثاني الحديثين: "أحبُّ العباد إلى الله تعالى أنفعُهم لعياله"؛ أي لعيال اللهِ[3]
.. أما خبر "الخلق كلهم عيال الله وأحبُّهم إليه أنفعهم لعياله"[4] فضعيفٌ،
وأما خبر "أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس"[5]، والمراد من يُستطاع نفعه من الخلق الأهم فالأهم، أو المراد عيال الإنسان أنفسهم الذين يعولهم وتلزمه نفقتهم، والأوّل أقرب.. قال الماوردي ونظمه بعضُهم فقال:
الناس كلُّهم عيال الله تحت ظلاله
فأحبهم طرًّا إليـه أبرُّهم بعياله[6]
وإذًا فإن الله - بمقتضى هذا الحديث - يحب: من ينفع الناس، وكلما كان الإنسان أنفع للناس كان أحبَّ إلى الله سبحانه. وإدخالُ السرور على المسلم، وتفريج كربهم، وقضاء ديونهم عنهم، ودفع الجوع عنهم، والجزع؛ وهو الخوف والحزن.
خلاصة هذا السبب:
أن مما يحبُّه الله ويحبُّ فاعليه السعيُ في حاجة الناس؛ فإن نصوص الشريعة متظاهرةٌ على ذلك، حتى غدا بابَ خيرٍ عظيمًا تحتاجُه الأمة ويحتاجه الفرد؛ لكن - ياللحسرة - يكاد المسلمون يُقلِعون عنه بالكلية اليوم؛ فحسبنا الله ونعم الوكيل. وكذلك نفع الناس؛ خاصة المسلمين منهم. وإدخال السرور على قلب المسلم؛ سواء بسد دَينه أو دفع جوعه أو تفريج كربته.
[1] [حسن] أخرجه الطبراني في "الكبير" (12/453 ح1346)، و"الأوسط" (6/139 ح6126)، و"الصغير" (2/106 ح861) من طريق: عبدالرحمن بن قيس الضبي عن سكين بن سراج، عن عمرو بن دينار، عن عمر مرفوعًا، قال الطبراني في "الصغير": "لم يروه عن عمرو بن دينار إلا مسكين بن سراج، ويقال: ابن أبي سراج البصري، تفرد به عبدالرحمن بن قيس الضبي". قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (8/191): "رواه الطبراني في الثلاثة، وفيه مسكين بن سراج وهو ضعيف". ضعفه الألباني من هذا الوجه كما في "السلسلة الصحيحة" (906)؛ لكنه قال: "لكن قد جاء بإسناد خير من هذا، فرواه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" وأبو إسحاق المزكي في "الفوائد المنتخبة" ببعضه - وابن عساكر من طرق عن بكر بن خنيس عن عبدالله بن دينار عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- (كذا قال ابن أبي الدنيا، وقال الآخران: عن عبدالله بن عمر - قال: قيل يا رسول الله من أحب الناس إلى الله ..." وفيه الزيادة. قلت: وهذا إسناد حسن، فإن بكر بن خنيس صدوق له أغلاط كما قال الحافظ. وعبدالله بن دينار ثقة من رجال الشيخين. فثبت الحديث. والحمد لله تعالى".
[2] انظر: "فيض القدير" (ج6 ص253).
[3] عيال الله؛ أي المساكين الذين يَعُولهم الربُّ تبارك وتعالى؛ بمعنى أنه تعالى رازقُهم وكاسيهم وآويهم، لا أنهم أبناء الله -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرا- هذا إذا كان الضمير في "عياله" عائدا على الله جل وعلا، وهو أضعف الوجهين لضعف حديث أبي يعلى "الناس كلّهم عيال الله"، والوجه الثاني أن يعود الضمير على الإنسان؛ أي أنفعهم لعيال نفسه، وهو أقوى الوجهين لصحة خبر "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
[4] [ضعيف] أخرجه أبو يعلى (6/65)، وضعفه الألباني في "الضعيفة" (1900). وحسن الألباني حديث "أحب العباد إلى الله تعالى أنفعُهم لعياله" المرسل عن الحسن عند عبدالله بن أحمد بن حنبل في "زوائد الزهد". انظر: "صحيح الجامع" (ح172) و"الجامع الصغير وزيادته" (ح172).
[5] سبق تخريجه قريبا.
[6] انظر: "فيض القدير" (ج1 ص174) بتصرف كبير.
============
من أسباب محبة الله تعالى عبدًا
المتصدقون سرًّا
فعن أبي ذر - رضى الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثَلاَثَةٌ يُحِبُّهُمُ الله وَثَلاَثَةٌ يَبْغَضُهُمُ الله؛ فَأَمَّا الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ الله فَرَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِالله وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ بِقَرَابَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ فَأَعْطَاهُ سِرًّا لاَ يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلاَّ الله وَالَّذِي أَعْطَاهُ..." الحديث[1].
قال المناوي - رحمه الله تعالى -:
"بأعقابهم" بقاف وباء موحدة بعد الألف؛ كما في "صحيح ابن حبان" وغيره، وما وقع في الترمذي وتبعه البغوي بأنه بعين مهملة فياء آخر الحروف فألف فنون تصحيف.. "فأعطاه سرا لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه".
وفي رواية: "ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يشنؤهم الله"؛ أي يبغضها.. "ورجل تصدق صدقة بيمينه يخفيها"؛ أي يكاد يخفيها "عن شماله"[2].
خلاصة هذا السبب:
أن المتصدِّق سرًّا، حتى لا تعلم شمالُه ما أنفقت يمينُه، من الذين يحبُّهم اللهُ تعالى؛ وذلك لأنه لم يتصدَّق رياءً ومنًّا، وإنما ابتغاء مرضاة الله تعالى وطلب الجزاء منه وحده.
[1] [حسن] سبق تخريجه، وقد جاء من طريق على شرط الشيخين ما عدا علي بن ظبيان، وقد وثقه ابن حبان، وقد توبع. وسئل الدارقطني عن حديث زيد بن ظبيان عن أبي ذر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يبغضهم الله" الحديث؛ فقال: "يرويه منصور، واختلف عنه؛ فرواه شعبة وشيبان وغيرهما عن منصور عن ربعي عن زيد بن ظبيان عن أبي ذر، وكذلك قال الأشجعي وأبو عامر عن الثوري، غير أن في حديث شيبان عن زيد بن ظبيان أو غيره عن أبي ذر، وقال مؤمل عن الثوري عن منصور عن ربعي عن رجل لم يسمه عن أبي ذر، ورواه الأعمش عن منصور عن ربعي عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ذلك أبو بكر بن عياش عن الأعمش ووهم، والصواب حديث زيد بن ظبيان".
[2] انظر: "فيض القدير" (ج3 ص440-141).
======
من أسباب محبة الله تعالى عبدًا
(الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين)
قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54].
وفي هذا السبب مناسبةٌ للذي قبلَه أي التوكل، وللذي بعدي أي الجهاد؛ إذ ينبغي على المؤمنين بذلُ النُّصرة للخائف، والدواء للمريض، والعلم للجاهل، والمال للفقير.. خاصةً إذا كان هذا الفقير أو الجاهل أو المريض أو الخائف أخًا لهم مؤمنًا. وكما أن على المؤمن أن يفعل ذلك بالمؤمن فإنَّه محظورٌ على هذا المؤمن الخائف أو الجاهل أو المريض أو الفقير أن يطلبَ شيئًا يحتاجه من كافر؛ إلا إذا كان بأجْر أو علم أن هذا الكافر لا يُذِلُّه ولا يتعزّز عليه وفي ظروف الاستضعاف؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة بعد عودته من الطائف في جوار المطعم بن عدِيّ وهو كافر.. هذا مقتضى الآية ومقتضى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فارجع فلن أستعين بمشرك"[1]. وقبل أن نسرد تفسير الآية في هذا السبب لتحصيل محبَّة الله تعالى عبدَه يجدُر بنا أن نفهم معنى الذلة والعزة..
أ- معنى الذلّة:
قال الإمام القرطبي - في تفسيره ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ﴾ [البقرة: 61] -: الذلة الذل والصغار، وقيل: الذلة فرضُ الجزية عن الحسن وقتادة، وقال أبو عبيدة: الذلة الصّغار[2]. وقال -في تفسيره ﴿ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 26] -: ذَلّ يذِلّ ذُلا إذا غَلب وعلا وقَهر، قال طرفة:
بطيءٍ عن الجُلَّى سريعٍ إلى الخنا
ذليلٍ بإجماع الرجال ملهدِ[3]
وقال في تفسيره ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾ [آل عمران: 123]: معناها - أي معنى أذلة - قليلون؛ وذلك أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثةَ عشرَ أو أربعةَ عشر رجلاً، وكان عدوُّهم ما بين التسعمائة إلى الألف. وأذلة جمع ذليل واسم الذل هنا مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزّة[4]. وقال -في تفسير الذلة في قوله تعالى ﴿ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ [يونس: 27] -: أي يغشاهم هوانٌ وخزي[5]. وقال -في قوله تعالى ﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ ﴾ [الإسراء: 24] -: هذا استعارةٌ في الشفقة والرحمة بهما، والتذلل لهما تذلُّلَ الرعيةِ للأمير والعبيد للسادة؛ كما أشار إليه سعيدُ بن المسيّب، فينبغي، بحكم هذه الآية، أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله وسكناته ونظَرِه، ولا يحدّ إليهما بصرَه؛ فإن تلك هي نظرة الغاضب[6]. وقال -في تفسيره ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ ﴾ [الإسراء: 111] -: قال مجاهِد المعنى لم يحالف أحدًا ولا ابتغى نصرَ أحد؛ أيْ لم يكن له ناصرٌ يجيره من الذل فيكون مدافعًا، وقال الكلبي: لم يكن له وليٌّ من اليهود والنصارى؛ لأنهم أذلة الناس لقولهم: نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ، وقال الحسن بن الفضل: يعني لم يذل فيحتاج إلى وليٍّ ولا ناصر لعزته وكبريائه[7].
وإذًا، بجَمْع ما ورد في تفسيرات الذُّلِّ والذِّلَّة ومشتقاتهما، فمعانيها هي: الصغار، وفرض الجزية، والغلب، والقهر، والقلة، والهوان، والخزي، والشفقة، والرحمة، واللين، والانقياد، والسهولة، والاستكانة، والاحتياج. وإذًا فالذلة جاءت في القرآن الكريم بمعنيين:
الأول: طيب؛ وهو ذلة المؤمن لأبويه وللمؤمنين، وقبل ذلك للهِ - عز وجل -، وتعني هذه الذلةُ المعانِيَ الطيِّبة للكلمة مثل: الشفقة والرحمة واللين والانقياد والسهولة والاستكانة والاحتياج؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: "لينوا في أيدي إخوانكم"[8]، وقال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2]، وقال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]؛ فذلك فيه معنى الحاجة، ويستلزم الطاعة للأمراء، وكلُّ إنسانٍ لابد مأمورٌ فعليه الطاعة والتزام الجماعة.
النوع الثاني للذلّة: خُلُقٌ رَذْل قبيح لا يسوغ من المؤمن، وإنما هو صِفة في الكافرين، وخاصةً اليهود والمنافقين منهم، الذين نحن مأمورون بمخالفتهم؛ فلو لم يكن في الذلة شيءٌ من الشر إلا أنها خلق اليهود والمنافقين وصفتُهم وحالهم لكانت جريرةً يجب الإقلاعُ عنها؛ فكيف وهي تعني الصَّغَار والخزيَ والهوان والغلب مما لا يرضاه أحد لنفسه، خاصة ذو المروءة والنخوة؟
ب- معنى العِزّة في الآية:
قال القرطبي رحمه الله -في تفسيره ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ ﴾ [البقرة: 206]:... والعزة القوة والغلبة، من عزَّه يعِزِّه إذا غلبه، ومنه ﴿ وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴾ [ص: 23]، وقيل: العزة هنا الحميّة، ومنه قول الشاعر:
أخذتْه عزَّةٌ من جهلِه
فتولَّى مُغضَبًا فِعْل الضَّجِر
وقيل: العزةُ هنا المنَعة وشدة النفس؛ أي اعتزّ في نفسه وانتحى فأوقعته العزة في الإثم حين أخذته وألزمته إيَّاه، وقال قتادة: المعنى إذا قيل له مهلاً ازداد إقدامًا على المعصية، والمعنى حملته العزة على الإثم، وقيل: أخذَتْه العزَّة بما يؤثمه؛ أي ارتكب الكفر للعزة وحميّة الجاهلية، ونظيره ﴿ بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ [ص: 2][9].. قال القرطبي -في تفسيرها-: فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ عن قبول الحق وعداوَة لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، بل هم في تكبُّر عن قبول الحق[10]. وقال -في تفسير قوله تعالى ﴿ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [آل عمران: 4] -: عَزِيزٌ؛ أي منيعٌ في مُلْكِه ولا يمتنع عليه ما يريده.
وإذًا فالعزة هي: الغلبة والقوة والمنعة والقدرة.. إلى آخر هذه المعاني، وكما أن الذِّلة منها ما هو محمودٌ ومنها ما هو مذموم؛ فكذلك العزَّةُ منها ما هو محمودٌ ومنها ما هو مذموم...
فالعزَّة المحمودة هي: العزة بالحق وفي الحقّ، والعزة بالله وبالإيمان والإسلام، والعزَّة بالنفس التي بمعنى الاعتزاز والاعتداد في مواجهة الكفار في الحرب والقتال، وإذا كانا في مقارنةٍ بين الإيمان والكفر، وغير هذا من أشكال ومظاهر العزة المحمودة.
أما العزة المذمومة فهي: العزة على المؤمنين؛ أي الاستعلاء والتمنُّع عليهم والاحتجاب عنهم والشموخ في وجوههم.. إلى غير ذلك من ألوان العزَّة الكريهة التي يُنظر لصاحبها بامتعاض، ويتساءل الناس فيما بينهم عن صاحبِها متعجبين: ما باله ولم يفعلُ ذلك؟!
الذلة على المؤمنين والعزَّة على الكافرين:
يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54].
قال القرطبي -في تفسيرها-: ﴿ أَذِلَّةٍ ﴾ نعتٌ لقوم، وكذلك ﴿ أَعِزَّةٍ ﴾؛ أي يرأُفًون بالمؤمنين ويرحمونهم ويلِينون لهم؛ من قولهم: دابّة ذَلُول أي تنقاد سهلة وليس من الذل في شيء، ويغلظون على الكافرين ويعادونهم، قال ابن عباس: هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيّد للعبد، وهم في الغلظة على الكفار كالسَّبُع على فريسته؛ قال تعالى: ﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]، ويجوزُ "أذلةً" بالنصب على الحال؛ أي يحبُّهم ويحبونه في هذا الحال[11].
وقال السعدي - في تفسيرها -: ومن صفاتهم أنهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ؛ فهم للمؤمنين أذلَّة من محبَّتِهم لهم ونصحهم لهم، ولِينهم ورفقهم، ورأفتهم ورحمتهم بهم، وسهولة جانبهم، وقرب الشيء الذي يُطلَب منهم. وعلى الكافرين بالله المعاندين لآياتِه المكذِّبين لرسله - أعزَّة، قد اجتمعت هِمَمُهم وعزائمهم على معاداتهم، وبذلوا جهدهم في كل سببٍ يحصل به الانتصار عليهم.. قال تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60]، وقال تعالى: ﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]. فالغلظة الشديدة على أعداء الله مما يقرِّب العبدَ إلى الله، ويوافق العبدُ ربَّه في سخطِه عليهم، ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة دعوتَهم إلى الدين الإسلامي بالتي هي أحسن واللِّين في دعوتهم، وكِلا الأمرين من مصلحتهم ونفعُه عائدٌ إليهم[12].
وإذًا فالرفق في معاملة المؤمنين والشدة في معاملة الكفار من أسباب محبة الله تعالى عبدَه، وهو من الإيمان؛ لأنَّ هذه الشدة في معاملة الكفار من باب البغض لهم في الله تعالى الذي هو أوثق عرى الإيمان، والرفق في معاملة المؤمنين هو لله أيضًا منبثق عن الحب فيه تعالى، وفي الحديث "أوثقُ عرى الإيمان الحبُّ في الله والبغضُ في الله"[13].
خلاصة هذا السبب:
أن الدين الإسلامي قد فصَل بين الناس فقسمهم قسمين؛ مؤمنًا على المحجّة وكافرا أقيمت عليه الحُجَّة، وأن على المسلم الحقِّ أن يفرَّق بينهما كما فرَّق اللهُ بينهما، فيذِلَّ للمؤمن، بمعنى يلين ويخفض جناحَه لا أن يعطي الدنيّة في نفسه، ويعزّ على الكافر ليعرِّفه حقيقة نفسه من دون أن يظلمَه أو يأخذ حقَّه.
كما أن هذه الآية تضمَّنت السبب التالي لتحصيل محبَّة الله تعالى عبدَه؛ ألا وهو الجهاد في سبيله سبحانه لا يخشى المجاهدُ لوْمةَ لائم.
[1] أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب/ كراهة الاستعانة في الغزو بكافر (ح1817) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[2] انظر: "تفسير القرطبي" (ج2 ص154).
[3] انظر: المصدر السابق (ج5 ص85).
[4] انظر: المصدر السابق (ج5 ص293).
[5] انظر: السابق (ج10 ص486).
[6] انظر: السابق (ج13 ص59-60).
[7] انظر: نفس المصدر (ج13 ص194).
[8] [رجاله موثقون] أخرجه أبو داود (ح666)، والنسائي (ح819)، وأحمد في "المسند" (2/97) من طريق أبي شجرة كثير بن مرة عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله".
- وذكر أبو داود الخلاف في وصله وإرساله، ثم قال: "ومعنى ولينوا بأيدي إخوانكم إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه فينبغي أن يلين له كل رجل منكبيه حتى يدخل في الصف".
- وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني في "الكبير" ورجال أحمد موثقون.
[9] انظر: "تفسير القرطبي" (ج3 ص387 وما بعدها) باختصار.
[10] انظر: السابق (ج18 ص125) بتصرف.
[11] انظر: نفس المصدر (ج8 ص53).
[12] راجع: "تيسير الكريم الرحمن" (ص214-215).
[13] أخرجه أبو داود (ح4599) حدثنا مسدد حدثنا خالد بن عبد الله حدثنا يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن رجل عن أبي ذر مرفوعا. وفيه راو مجهول، وقال الحافظ في "الفتح" (1/47): "أخرجه أبو داود من حديث أبي أمامة ومن حديث أبي ذرّ ولفظه "أَفْضَل الأَعْمَال الحُبّ في الله والبغض في الله". ولفظ أبي أمامة "من أحبّ للهِ وأبغض للهِ وأعطى للهِ ومنع للهِ فقد استَكمل الإيمان". وللتِّرْمذيّ من حديث معاذ بن أنس نحو حديث أبي أمامة، وزاد أحمد فيه "وَنَصَحَ للهِ"، وزاد في أخرى "ويُعْمِل لسانه في ذكر الله"، وله عن عمرو بن الجموح بلفظ "لا يجِد العبد صريح الإيمان حتى يحبَّ لله ويبغض للهِ"، ولفظ البزَّار رفعه "أوْثق عُرَى الإيمان الحب في الله والبغض في الله". ا ه. فمعناه صحيح، وقد استدل بمعناه ولم يسنده الإمام البخاري في كتاب الإيمان، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "بني الإسلام على خمس".
====
شرح حديث: كل امرئ في ظل صدقته
عن حرملة بن عمران، أنه سمع يزيد بن أبي حبيب، يحدث، أن أبا الخير، حدثه، أنه سمع عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل امرئ في ظل صدقته، حتى يفصل بين الناس - أو قال: يحكم بين الناس". قال يزيد: فكان أبو الخير مرثد لا يُخْطِئُه يومٌ إلاَّ تَصَدَّق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة أو كذا[1].
من فوائد الحديث:
1- المتصدِّق المخلص أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظلِّه، يوم القيامة.
2- الصحيح في مسألة الصدقة - سواء كانت زكاة مفروضة أو صدقة تطوع - أن الإسرار والإظهار لها يختلف بحسب الأحوال، فقد يوجد ما يدعو إلى إظهار الصدقة، مثل: أن يكون في ذلك حث للناس على الاقتداء به وعلى التبرع، أو يظهرها حتى لا يتمكن أحد من سرقتها أو التلاعب أو العبث بها، أو لغير ذلك من الاعتبارات والمقاصد الشرعية، فإذا وجدت هذه الاعتبارات كان إظهارها أفضل من إخفائها. الحالة الثانية: أن يكون هناك ما يدعو إلى إخفائها، مثل: أن يخاف على نفسه الرياء، فإن العبد إذا خاف على نفسه الرياء بالعمل استحب له إخفاؤه أياً كان هذا العمل، سواء كان صدقة أو صلاة أو قرآناً أو غير ذلك، فإذا خاف العبد على نفسه من الرياء كان الأفضل في حقه أن يخفيها، وكذلك إذا كان إظهارها يترتب عليه مفاسد، مثل: أن يتهمه الناس بأن قصده السمعة والقيل والقال، أو أن يكون في إظهارها خدشاً لنفسية المساكين والفقراء، أو أن يكون في إظهارها حصول مشكلة عائلية عند أولاده أو إخوانه أو قرابته أو غيرهم، أنه لماذا يكون التفريط بهذا المال؟ ولماذا تخرج هذا المال؟ فحينئذ يكون إخفاؤها أولى. الحالة الثالثة: أن يكون الأمر مستوياً ليس هناك مضرة من الإظهار وليس هناك مضرة من الإسرار، كما أنه ليس هناك منفعة ظاهرة في الإعلان أو الإخفاء، فحينئذ نقول: إن إخفاءها أولى؛ لأن الأصل إخفاء الأعمال. إذاً: فيما يتعلق بالصدقة الأصل هو إخفاؤها، وهذا هو الذي جاء في القرآن الكريم بقوله: ﴿ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾[2] و كذلك في الحديث: (تصدق بصدقة فأخفاها)، سواء كانت فريضة أو نافلة، زكاة فريضة أو صدقة تطوع، لكن إذا وجد ما يدعو إلى إظهارها كان الإظهار أفضل. [3]
3- إنّ الإنسان بالصدقة يخرج بها عن دائرة البخلاء إلى دائرة الكرماء؛ لأنها بذل مال والبخل إمساك المال فإذا بذلها الإنسان خرج من كونه بخيلاً إلى كونه كريماً.
4- مضاعفة الحسنات.
5- أنّها تجبر قلوب الفقراء، وتدفع حاجتهم.
6- أن من يدفعها يجد في صدره انشراحا، وفي قلبه محبة للخير.
7- تدلّ على تكاتف، وتلاحم المجتمع.
8- أنها تطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء، وهذه فائدة عظيمة، يعني أنّ الإنسان يموت على أحسن حال، وحسن الخاتمة.
9- أنّها تُليّن القلب، وتبعث على الرحمة[4].
10- أحد رواة الحديث، وهو أبو الخير مرثد، أخذ بتطبيق الحديث عمليا، فجعل على نفسه التصدق كل يوم بشيء.
11- فعل المعروف لا يضيع عند الله.
12- في يوم القيامة يكون الفصل بين الناس، الكلّ يأخذ حقّه من الآخر.
13- شك أحد الرواة، في الحديث، هل قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يفصل بين الناس - أو قال: يحكم بين الناس. والمعنى واحد، لكنه من باب التثبّت، والدقّة في النقل.
14- هناك أعمال غير الصدقة تُظلّ صاحبها يوم القيامة، فمن ذلك:
أ- إنظار المعسر حتى يسدد دينه أو التخفيف من الدين عنه فعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من أَنْظَرَ مُعْسِرًا أو وَضَعَ عنه أَظَلَّهُ الله في ظِلِّهِ "[5].
ب- حفظ سورتي البقرة، وآل عمران فعن النَّوَّاسَ بن سَمْعَانَ الْكِلَابِيَّ - رضي الله عنه - يقول سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول " يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يوم الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ وَضَرَبَ لَهُمَا رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاثَةَ أَمْثَالٍ ما نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ قال كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أو ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ أو كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ من طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عن صَاحِبِهِمَا "[6].
15- الحثّ على فعل الخير.
16- الأعمال الصالحة تنفع صاحبها، في الدنيا والآخرة.
17- قدّم ما تستطيع أن تُقدّمه، ولا تحتقر شيئا، ولو كان يسيراً.
[1] مسند الإمام أحمد 28/ 568 رقم 17332. وقال محققوه: إسناده صحيح.المستدرك على الصحيحين للحاكم 1/ 576. وقال صحيح على شرط مسلم. صحيح ابن حبان 8/ 104 رقم 3310. قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
[2] سورة البقرة آية 271.
[3] من 1-2 مستفاد من شرح بلوغ المرام - كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع - حديث 651-657 للشيخ: ( سلمان العودة ) موقع إسلام ويب.
[4] من 2-9 مستفاد من شرح رياض الصالحين للشيخ ابن عثيمين 1/ 1381.
[5] صحيح مسلم 4/ 2301 رقم 3006.
[6] صحيح مسلم 1/ 541 رقم 805. وللاستزادة يُنظر إلى خطبة جمعة للشيخ/ منديل بن محمد الفقيه.
موقع الألوكة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق